كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي

أَحْمَدَ أَنَّ القَابِضَ لا يَضْمَنُ إلا مَا حَصَل لهُ بِهِ نَفْعٌ فَيَضْمَنُهُ وَهَل يَرْجِعُ بِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ كَرُجُوعِ المَغْرُورِ فِي بَابِ النِّكَاحِ بِالمَهْرِ.
تَنْبِيهٌ: لوْ أَقَرَّ المُشْتَرِي للبَائِعِ بِالمِلكِ فَلا رُجُوعَ لهُ عَليْهِ وَلوْ أَقَرَّ بِصِحَّةِ البَيْعِ فَفِي الرُّجُوعِ احْتِمَالانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي , وَقَدْ يُخَرَّجُ كَذَلكَ فِي الإِقْرَارِ بِالمِلكِ حَيْثُ عَلمَ أَنَّ مُسْتَنَدَهُ اليَدُ , وَقَدْ بَانَ عُدْوَانُهَا.
اليَدُ السَّادِسَةُ: القَابِضَةُ عِوَضًا مُسْتَحَقًّا بِغَيْرِ عَقْدِ البَيْعِ كَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الخُلعِ وَالعِتْقِ وَالصُّلحِ عَنْ دَمٍ عَمْدٍ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا مِنْهُ أَوْ كَانَ القَبْضُ وَفَاءً كَدَيْنٍ مُسْتَقِرٍّ فِي الذِّمَّةِ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ أجرة وَصَدَاقٍ أَوْ قِيمَةِ مُتْلفٍ وَنَحْوِهِ فَإِذَا تَلفَتْ هَذِهِ الأَعْيَانُ فِي يَدِ مَنْ قَبَضَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَللمُسْتَحِقِّ الرُّجُوعُ عَلى القَابِضِ بِبَدَل العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ عَلى مَا تَقَرَّرَ , وَيَتَخَرَّجُ وَجْهًا آخَرَ: أَنْ لا مُطَالبَةَ لهُ عَليْهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ أَبِي مُوسَى فِي الصَّدَاقِ وَالبَاقِي مِثْلهُ عَلى القَوْل بِالتَّضْمِينِ فَيَرْجِعُ عَلى الغَاصِبِ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ المَنَافِعِ لتَغْرِيرِهِ إلا بِمَا انْتَفَعَ بِهِ فَإِنَّهُ مُخَرَّجٌ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَمُ الأَعْيَانِ فَمُقْتَضَى مَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَمَنْ اتَّبَعَهُ أَنَّهُ لا يَرْجِعُ بِهَا ; لأَنَّهُ دَخَل عَلى أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ عَليْهِ بِحَقِّهِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ القِيمَةُ المَضْمُونَةُ وَفْقَ حَقِّهِ أَوْ دُونَهُ أَوْ أَزْيَدَ مِنْهُ إلا عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ فِي البَيْعِ بِالرُّجُوعِ بِفَضْل القِيمَةِ.
ثُمَّ إنْ كَانَ القَبْضُ وَفَاءً عَنْ دَيْنٍ ثَابِتٍ فِي الذِّمَّةِ فَهُوَ بَاقٍ بِحَالهِ وَإِنْ كَانَ عِوَضًا مُتَعَيِّنًا فِي العَقْدِ لمْ يَنْفَسِخْ العَقْدُ هَهُنَا بِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ.
وَلوْ قُلنَا: إنَّ النِّكَاحَ عَلى المَغْصُوبِ لا يَصِحُّ ; لأَنَّ القَوْل بِانْتِفَاءِ الصِّحَّةِ مُخْتَصٌّ بِحَالةِ العِلمِ كَذَلكَ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَيَرْجِعُ عَلى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ المُسْتَحَقِّ فِي المَنْصُوصِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَقَال فِي المُجَرَّدِ: وَيَجِبُ مَهْرُ المِثْل وَأَمَّا عِوَضُ الخُلعِ وَالعِتْقِ وَالصُّلحِ عَنْ دَمِ العَمْدِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ الرُّجُوعُ فِيهَا بِقِيمَةِ العِوَضِ المُسْتَحَقِّ وَهُوَ المَنْصُوصُ ; لأَنَّ هَذِهِ العُقُودَ لا تَنْفَسِخُ بِاسْتِحْقَاقِ أَعْوَاضِهَا فَيَجِبُ قِيمَةُ العِوَضِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي أَكْثَرِ كُتُبِهِ وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ المُحَرَّرِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ قِيمَةُ المُسْتَحَقِّ فِي الخُلعِ وَالصُّلحِ عَنْ الدَّمِ بِخِلافِ العِتْقِ فَإِنَّ الوَاجِبَ فِيهِ قِيمَةُ العَبْدِ ; لأَنَّ العَبْدَ لهُ قِيمَةٌ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ بِخِلافِ البُضْعِ وَالدَّمِ فَإِنَّ القِيمَةَ لعِوَضِهِمَا لا لهُمَا وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي البُيُوعِ مِنْ خِلافِهِ وَيُشْبِهُ قَوْل أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا جَعَل عِتْقَ أَمَتِهِ صَدَاقَهَا وَقُلنَا لا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ عَلى ذَلكَ فَإِنَّ عَليْهَا قِيمَةُ نَفْسِهَا لا قِيمَةَ مَهْرِ مِثْلهَا وَعَلى الوَجْهِ المُخَرَّجِ فِي البَيْعِ أَنَّ المَغْرُورَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ العَيْنِ عَلى الغَاصِبِ فَهَهُنَا كَذَلكَ.
اليَدُ السَّابِعَةُ: القَابِضَةُ بِمُعَاوَضَةٍ عَنْ المَنْفَعَةِ وَهِيَ يَدُ المُسْتَأْجِرِ فَقَال القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ إذَا ضَمِنَتْ المَنْفَعَةَ لمْ يَرْجِعْ بِهَا وَلوْ زَادَتْ أُجْرَةُ المِثْل عَلى الأُجْرَةِ المُسَمَّاةِ فَفِيهِ مَا مَرَّ مِنْ زِيَادَةِ قِيمَةِ العَيْنِ

عَلى الثَّمَنِ وَإِذَا ضُمِنَتْ قِيمَةُ العَيْنِ رَجَعَتْ بِهَا عَلى الغَاصِبِ لتَغْرِيرِهِ وَفِي تَعْليقَةِ أَبِي البَرَكَاتِ عَلى الهِدَايَةِ وَيَتَخَرَّجُ لأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ المُسْتَأْجِرَ لا ضَمَانَ عَليْهِ بِحَالٍ لقَوْل الجمهور يَضْمَنُ العَيْنَ وَهَل القَرَارُ عَليْهِ؟ لنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: عَليْهِ.
وَالثَّانِي: عَلى الغَاصِبِ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ انْتَهَى وَالوَجْهُ الأَوَّل مُنَزَّلٌ عَلى القَوْل بِأَنَّ المَغْرُورَ لا يَضْمَنُ شَيْئًا ابْتِدَاءً وَلا اسْتِقْرَارًا.
وَالوَجْهُ الآخَرُ فِي قَرَارِ ضَمَانِ العَيْنِ عَليْهِ يَتَنَزَّل عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ فِي اسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلى المُرْتَهِنِ وَنَحْوِهِ بِتَلفِ العَيْنِ تَحْتَ يَدِهِ.
اليَدُ الثَّامِنَةُ: القَابِضَةُ للشَّرِكَةِ وَهِيَ المُتَصَرِّفَةُ فِي المَال بِمَا يُنَمِّيهِ بِجُزْءٍ مِنْ النَّمَاءِ كَالشَّرِيكِ وَالمُضَارِبِ وَالمُزَارِعِ وَالمُسَاقِي وَلهُمْ أجَرَّةٌ عَلى الغَاصِبِ لعَمَلهِمْ لهُ بِعِوَضٍ لمْ يَسْلمْ , فَأَمَّا المُضَارِبُ وَالمُزَارِعُ بِالعَيْنِ المَغْصُوبَةِ وَشَرِيكُ العَنَانِ فَقَدْ دَخَلوا عَلى أَنْ لا ضَمَانَ عَليْهِمْ بِحَالٍ فَإِذَا ضَمِنُوا عَلى المَشْهُورِ رَجَعُوا بِمَا ضَمِنُوا إلا حِصَّتَهُمْ مِنْ الرِّبْحِ فَلا يَرْجِعُونَ بِضَمَانِهَا لدُخُولهِمْ عَلى ضَمَانِهَا عَليْهِمْ بِالعَمَل لذَلكَ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي المُسَاقِي وَالمَزَارِعِ نَظِيرَهُ.
أَمَّا المُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقِرَّ عَليْهِمْ ضَمَانُ شَيْءٍ بِدُونِ القِسْمَةِ سَوَاءٌ قُلنَا مَلكُوا الرِّبْحَ بِالظُّهُورِ أَوْ لا ; لأَنَّ حِصَّتَهُمْ وِقَايَةٌ لرَأْسِ المَال وَليْسَ لهُمْ الانْفِرَادُ بِالقِسْمَةِ فَلمْ يَتَعَيَّنْ لهُمْ شَيْءٌ مَضْمُونٌ.
وَحَكَى الأَصْحَابُ فِي المُضَارِبِ بِغَيْرِ إذْنٍ وَجْهًا آخَرَ أَنْ لا يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَهُ بِنَاءً عَلى الوَجْهِ المَذْكُورِ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلى مَنْ تَلفَ المَال بِيَدِهِ , وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ: أَنْ لا يَمْلكَ المَالكُ تَضْمِينَهُمْ بِحَالٍ لدُخُولهِمْ عَلى الأَمَانَةِ , وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ حُكْمَ ضَمَانِ الشَّرِيكِ وَالمُضَارِبِ للمَال وَإِنَّمَا أَعَدْنَاهُ هَهُنَا لذِكْرِ النَّمَاءِ.
وَأَمَّا المُسَاقِي إذَا ظَهَرَ الشَّجَرُ مُسْتَحِقًّا بَعْدَ تَكْمِلةِ العَمَل فَللعَامِل أُجْرَةُ المِثْل لعَمَلهِ عَلى الغَاصِبِ وَأَمَّا الثَّمَرُ إذَا تَلفَ فَلهُ حَالتَانِ: إحْدَاهُمَا: أَنْ يَتْلفَ بَعْدَ القِسْمَةِ فَللمَالكِ تَضْمِينُ كُلٍّ مِنْ الغَاصِبِ وَالعَامِل مَا قَبَضَهُ وَلهُ أَنْ يُضَمِّنَ الكُل للغَاصِبِ فَإِذَا ضَمَّنَهُ الكُل رَجَعَ عَلى العَامِل بِمَا قَبَضَهُ لنَفْسِهِ ; لأَنَّهُ أَخَذَ العِوَضَ فَهُوَ كَالمُشْتَرِي مِنْ الغَاصِبِ.
وَفِي المُغْنِي احْتِمَالٌ لا يَرْجِعُ عَليْهِ لتَغْرِيرِهِ فَأَشْبَهَ مَنْ قَال لغَيْرِهِ: كُل هَذَا فَإِنَّهُ طَعَامِي.
ثُمَّ بَانَ مُسْتَحِقًّا وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الوَجْهِ السَّابِقِ بِاسْتِقْرَارِ ضَمَانِ المَبِيعِ عَلى الغَاصِبِ بِكُل حَالٍ.
وَهَل للمَالكِ أَنْ يُضَمِّنَ العَامِل جَمِيعَ الثَّمَرَةِ؟ ذَكَرَ القَاضِي فِيهِ احْتِمَاليْنِ: أَحَدُهُمَا: نَعَمْ ; لأَنَّ يَدَهُ تَثْبُتُ عَلى الكُل مُشَاهَدَةً بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ يَرْجِعُ العَامِل عَلى الغَاصِبِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَرِ عَلى المَشْهُورِ وَبِالكُل عَلى الاحْتِمَال

المَذْكُورِ.
وَالثَّانِي: لا; لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ قَابِضًا عَلى الحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا كَانَ مُرَاعِيًا حَافِظًا وَيَشْهَدُ لهَذَا مَا قَالهُ ابْنُ حَامِدٍ فِيمَا إذَا اخْتَلفَ المُسَاقِي وَالمَالكُ فِي قَدْرِ المَشْرُوطِ للعَامِل مِنْ الثَّمَرِ وَأَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ أَنَّهُ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ العَامِل;لأَنَّهُ خَارِجٌ وَالمَالكُ هُوَ الدَّاخِل لاتِّصَال الثَّمَرِ بِمِلكِهِ.
وَلوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرٍ شِرَاءً فَاسِدًا وَخَلى البَائِعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلى شَجَرِة لمْ يَضْمَنْهُ بِذَلكَ لعَدَمِ ثُبُوتِ يَدِهِ عَليْهِ وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَحِل وِفَاقٍ.
الحَالةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتْلفَ الثَّمَرُ قَبْل القِسْمَةِ إمَّا عَلى الشَّجَرِ أَوْ بَعْدَ جَدِّهِ فَفِي التَّلخِيصِ فِي مُطَالبَةِ العَامِل بِالجَمِيعِ احْتِمَالانِ وَكَذَا لوْ تَلفَ بَعْضُ الشَّجَرِ وَهُوَ مُلتَفِتٌ إلى أَنَّ يَدَ العَامِل هَل تَثْبُتُ عَلى الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ الذِي عَليْهِ أَمْ لا؟ وَالأَظْهَرُ أَنْ لا ; لأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَنَا لا يَنْتَقِل فِي الثَّمَرِ المُعَلقِ عَلى شَجَرَه بِالتَّخْليَةِ إلا أَنْ يُقَال يَدُهُ هَاهُنَا عَلى الثَّمَرِ حَصَلتْ تَبَعًا لثُبُوتِ يَدِهِ عَلى الشَّجَرِ فَيُقَال فِي ثُبُوتِ يَدِهِ عَلى الشَّجَرِ هُنَا تَرَدُّدٌ ذَكَرْنَاهُ آنِفًا حَتَّى لوْ تَلفَ بَعْضُ الشَّجَرِ فَفِي تَضْمِينِهِ للعَامِل الاحْتِمَالانِ صَرَّحَ بِهِ فِي التَّلخِيصِ أَيْضًا.
وَلوْ اشْتَرَى شَجَرَةً بِثَمَرِهَا فَهَل يَدْخُل الثَّمَرُ فِي ضَمَانِهَا تَبَعًا لشَجَرِهِ؟ قَال ابْن عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ: لا يَدْخُل وَالمَذْهَبُ دُخُولهُ تَبَعًا لانْقِطَاعٍ عَلقَ البَائِعُ عَنْهُ مِنْ السَّقْيِ وَغَيْرِهِ وَبِكُل حَالٍ فَيَتَوَجَّهُ أَنْ يَضْمَنَ العَامِل الثَّمَرَ التَّالفَ بَعْدَ جِدَادِهِ وَاسْتِحْفَاظِهِ بِخِلافِ مَا عَلى الشَّجَرِ.
اليَدُ التَّاسِعَةُ: القَابِضَةُ تَمَلكًا لا بِعِوَضٍ إمَّا للعَيْنِ بِمَنَافِعِهَا بِالهِبَةِ وَالوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالوَصِيَّةِ أَوْ للمَنْفَعَةِ كَالمُوصَى لهُ بِالمَنَافِعِ فَالمَشْهُورُ أَنَّهَا تَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْهُ بِكُل حَالٍ ; لأَنَّهَا دَخَلتْ عَلى أَنَّهَا غَيْرُ ضَامِنَةٍ لشَيْءٍ فَهِيَ مَغْرُورَةٌ إلا مَا حَصَل لهَا بِهِ نَفْعٌ فَفِي رُجُوعِهَا بِضَمَانِهِ الرِّوَايَتَانِ.
وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهَا لا تَضْمَنُ ابْتِدَاءً مَا لمْ يَسْتَقِرَّ ضَمَانُهَا عَليْهِ.
وَذَكَرَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ رِوَايَةً أَنَّهُا لا تَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَتْهُ بِحَالٍ وَهُوَ مُنَزَّلٌ عَلى القَوْل بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَلى مَنْ تَلفَ تَحْتَ يَدِهِ وَإِنْ كَانَ أَمِينًا كَمَا سَبَقَ ثُمَّ اخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي مَحِل الرِّوَايَتَيْنِ فِي الرُّجُوعِ بِمَا انْتَفَعَتْ بِهِ عَلى طُرُقٍ ثَلاثَةٍ:
إحْدَاهُنَّ: أَنَّ مَحِلهُمَا إذَا لمْ يَقُل الغَاصِبُ: هَذَا مِلكِي أَوْ مَا يَدُل عَليْهِ , فَإِنْ قَال ذَلكَ فَالمَدَارُ عَليْهِ بِغَيْرِ خِلافٍ لاعْتِرَافِهِ بِاسْتِقْرَارِ الضَّمَانِ عَليْهِ وَنَفْيِهِ عَنْ القَابِضِ وَهِيَ طَرِيقَةُ المُغْنِي.
وَالثَّانِيَةُ: إنْ ضَمِنَ المَالكُ القَابِضَ ابْتِدَاءً فَفِي رُجُوعِهِ عَلى الغَاصِبِ الرِّوَايَتَانِ مُطْلقًا وَإِنْ ضَمِنَ الغَاصِبُ ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ القَابِضُ قَدْ أَقَرَّ لهُ بِالمِلكِيَّةِ لمْ يَرْجِعْ عَلى القَابِضِ رِوَايَةً وَاحِدَةً , وَلوْ قُلنَا: إنَّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهُ عَليْهِ ; لأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ بِالمِلكِ مُعْتَرَفٌ بِأَنَّ المُسْتَحِقَّ ظَالمٌ لهُ بِالتَّغْرِيمِ فَلا يَرْجِعُ عَلى غَيْرِ ظَالمِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي.

وَالثَّالثُ: الخِلافِ مِنْ الكُل مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ وَغَيْرِهِ.
اليَدُ العَاشِرَةُ: المُتْلفَةُ للمَال نِيَابَةً عَنْ الغَاصِبِ كَالذَّبْحِ للحَيَوَانِ وَالطَّابِخِ لهُ فَلا قَرَارَ عَليْهَا بِحَالٍ وَإِنَّمَا القَرَارُ عَلى الغَاصِبِ لوُقُوعِ الفِعْل لهُ فَهُوَ كَالمُبَاشِرِ كَذَا قَاله القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَصْحَابُ وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالقَرَارِ عَليْهَا فِيمَا تَلفَتْهُ كَالمُودِعِ إذَا تَلفَتْ تَحْتَ يَدِهِ وَأَوْلى لمُبَاشَرَتِهَا للإِتْلافِ , وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بأنه لا ضَمَانَ عَليْهَا بِحَالٍ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِيمَنْ حَفَرَ لرَجُلٍ فِي غَيْرِ مِلكِهِ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ , فَقَال الحَافِرُ: ظَنَنْتُ أَنَّهَا فِي مِلكِهِ.
فَلا شَيْءَ عَليْهِ وَبِذَلكَ جَزَمَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ الجِنَايَاتِ مَعَ اشْتَرَاكِ الحَافِرِ وَالآمِرِ فِي التَّسَبُّبِ وَانْفِرَادِ الحَافِرِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الضَّمَانُ لعَدَمِ عِلمِهِ بِالحَال وَهَهُنَا أَوْلى ; لاشْتِرَاكِهَا فِي ثُبُوتِ اليَدِ وَلوْ أَتْلفَتْهُ عَلى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ شَرْعًا عَالمَةً بِتَحْرِيمِهِ كَالقَاتِلةِ للعَبْدِ المَغْصُوبِ وَالمُحْرِقَةِ للمَال بِإِذْنِ الغَاصِبِ فَفِي التَّلخِيصِ يَسْتَقِرُّ عَليْهَا الضَّمَانُ ; لأَنَّهَا عَالمَةٌ بِتَحْرِيمَةِ فَهِيَ كَالعَالمَةِ بِأَنَّهُ مَال الغَيْرِ وَرَجَّحَ الحَارِثِيُّ دُخُولهَا فِي قِسْمِ المَغْرُورِ ; لأَنَّهَا غَيْرُ عَالمَةٍ بِالضَّمَانِ فَتَغْرِيرُ الغَاصِبِ لهَا حَاصِلٌ وَاَللهُ أَعْلمُ.

القاعدة الرابعة والتسعون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالتِّسْعُونَ:
قَبْضُ مَال الغَيْرِ مِنْ يَدِ قَابِضِهِ بِحَقٍّ بِغَيْرِ إذْنِ مَالكِهِ إنْ كَانَ يَجُوزُ لهُ إقْبَاضُهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَ الثَّانِي إنْ كَانَ الأَوَّل أَمِينًا وَإِلا فَلا , وَإِنْ لمْ يَكُ إقْبَاضُهُ جَائِزًا فَالضَّمَانُ عَليْهِا , يَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَلا يَضْمَنَ غَيْرُ الأَوَّل وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: مُودِعُ المُودَعِ فَإِنْ كَانَ حَيْثُ يَجُوزُ الإِيدَاعُ فَلا ضَمَانَ عَلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا , وَإِنْ كَانَ حَيْثُ لا يَجُوزُ فَالضَّمَانُ عَلى الأَوَّل وَفِي الثَّانِي وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا.
ومنها: المُسْتَأْجِرُ مِنْ المُسْتَأْجِرِ فَإِنْ كَانَ حَيْثُ يَجُوزُ الإِيجَارُ بِأَنْ كَانَ لمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الانْتِفَاعِ فَلا ضَمَانَ وَإِلا فَلا يَثْبُتُ الضَّمَانُ عَليْهَا وَقَرَارُهُ فِي العَيْنِ عَلى الأَوَّل وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا ضَمَانَ عَلى الثَّانِي بِحَالٍ مِنْ المُودِعِ.
ومنها: مُضَارِبُ المُضَارِبِ حَيْثُ يَجُوزُ لهُ فَهُوَ أَمِينٌ وَهَل الثَّانِي مُضَارِبٌ للمَالكِ وَالأَوَّل وَكِيلٌ فِي العَقْدِ لا شَيْءَ لهُ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ هُوَ مُضَارِبٌ للأَوَّل فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ جَزَمَ بِهِ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ بِالأَوَّل ثُمَّ اخْتَارَ الثَّانِي فِيمَا إذَا دَفَعَهُ مُضَارَبَةً وَقُلنَا لا يَجُوزُ لهُ ذَلكَ وَحَيْثُ مُنِعَ مِنْ دَفْعِهِ مُضَارَبَةً فَللمَالكِ تَضْمِينُ أَيِّهِمَا شَاءَ , وَيَرْجِعُ الثَّانِي عَلى الأَوَّل إنْ لمْ يَعْلمْ بِالحَال لدُخُولهِ عَلى الأَمَانَةِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: لا يَرْجِعُ لحُصُول التَّلفِ تَحْتَ يَدِهِ وَقَدْ سَبَقَ أَصْلهُ وَيَتَخَرَّجُ أَنْ لا يَضْمَنَ الثَّانِي بِحَالٍ

وَإِنْ عَلمَ بِالحَال فَهَل هُوَ كَالغَاصِبِ لا أُجْرَةَ لهُ أَوْ كَالمُضَارِبِ المُتَعَدِّي لهُ أُجْرَةُ المِثْل؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ قَالهُ صَاحِبُ التَّلخِيصِ وَحَكَاهُمَا صَاحِبُ الكَافِي رِوَايَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِحَالةِ العِلمِ.
ومنها: وَكِيل الوَكِيل حَيْثُ لا يَجُوزُ له التَّوْكِيل فَهُوَ كَالمُضَارِبِ فِي الضَّمَانِ.
ومنها: المُسْتَعِيرُ مِنْ المُسْتَعِيرِ فَإِنْ قُلنَا بِجَوَازِهِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنٌ للعَيْنِ دُونَ المَنْفَعَةِ لدُخُولهِ عَلى ذَلكَ عَلى بَصِيرَةٍ فَإِذَا تَلفَتْ عِنْدَ الثَّانِي ضَمِنَهُ المَالكُ كَمَا لوْ كَانَ هُوَ المُعِيرُ لهُ وَلمْ يَرْجِعْ عَلى الأَوَّل لانْتِفَاءِ التَّغْرِيرِ , وَإِنْ قُلنَا بِالمَنْعِ وَهُوَ المَشْهُورُ فَللمَالكِ مُطَالبَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا بِضَمَانِ العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ , وَالمَدَارُ عَلى الثَّانِي لحُصُول التَّلفِ فِي يَدِهِ إنْ كَانَ عَالمًا بِالحَال وَمَعَ عَدَمِ العِلمِ يَسْتَقِرُّ عَليْهِ ضَمَانُ العَيْنِ دُونَ المَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَقِرُّ ضَمَانُهَا عَلى الأَوَّل لتَغْرِيرِهِ , كَذَا قَال الأَصْحَابُ.
وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَضْمَنُ الثَّانِي إذَا لمْ يَعْلمْ بِالحَال.
ومنها: المُسْتَعِيرُ مِنْ المُسْتَأْجِرِ قَال فِي التَّلخِيصِ هُوَ أَمِينٌ عَلى الصَّحِيحِ لقَبْضِهِ مِنْ يَدِ أَمِينٍ فَلا يَكُونُ ضَامِنًا.
ومنها: المُشْتَرِي مِنْ الوَكِيل المُخَالف مُخَالفَةً يَفْسُدُ بِهَا البَيْعُ إذَا تَلفَ المَبِيعُ فِي يَدِهِ فَللمُوَكِّل تَضْمِينُ القِيمَةِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا مِنْ الوَكِيل وَالمُشْتَرِي عَلى المَشْهُورِ , ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الوَكِيل رَجَعَ عَلى المُشْتَرِي لتَلفِهِ فِي يَدِهِ.

القاعدة الخامسة والتسعون
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَنْ أَتْلفَ مَال غَيْرِهِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ لهُ أَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ يَظُنُّ لنَفْسِهِ وِلايَةً عَليْهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ خَطَأَ ظَنِّهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلى سَبَبٍ ظَاهِرٍ مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ خَطَأُ المُتَسَبِّبِ أَوْ أَقَرَّ بِتَعَمُّدِهِ للجِنَايَةِ ضَمِنَ المُتَسَبِّبُ وَإِنْ كَانَ مُسْتَنِدًا إلى اجْتِهَادٍ مُجَرَّدٍ كَمَنْ دَفَعَ مَالاً تَحْتَ يَدِهِ إلى مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ مَالكُهُ أَوْ أَنَّهُ يَجِبُ الدَّفْعُ إليْهِ أَوْ أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلكَ , أَوْ دَفَعَ مَالهُ الذِي يَجِبُ عَليْهِ إخْرَاجُهُ لحَقِّ اللهِ إلى مَنْ يَظُنُّهُ مُسْتَحِقًّا ثُمَّ تَبَيَّنَ الخَطَأَ , فَفِي ضَمَانِهِ قَوْلانِ , وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ المُسْتَنِدَ لا يَجُوزُ الاعْتِمَادُ عَليْهِ وَلمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ الأَمْرَ بِخِلافِهِ فَإِنْ تَعَلقَ بِهِ حُكْمٌ فَنَقَصَ فَالضَّمَانُ عَلى المُتْلفِ وَإِلا فَلا ضَمَانَ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ الجُمْلةِ مَسَائِل:
منها: أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ بِمَوْتِ زَيْدٍ فَيُقَسَّمُ مَالهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بُطْلانَ الشَّهَادَةِ بِقُدُومِهِ حَيًّا فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ المَال وَلمْ يَتَعَرَّضْ للوَرَثَةِ وَظَاهِرُ كَلامِهِ اسْتِقْرَارُ

الضَّمَانِ عَلى المَشْهُورِ أَوْ اخْتِصَاصُهُمْ بِهِ وَهُوَ فِي الجُمْلةِ مُوَافِقٌ لقَوْلهِ المَشْهُورِ عَنْهُ فِي تَقْرِيرِ الضَّمَانِ عَلى الغَارِّ كَمَا سَبَقَ وَقَال القَاضِي يُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ أَغْرَمَ الوَرَثَةَ وَرَجَعُوا بِذَلكَ عَلى الشُّهُودِ لتَغْرِيرِهِمْ وَلا ضَمَانَ هُنَا عَلى الحَاكِمِ ; لأَنَّهُ مُلجَأٌ إلى الحُكْمِ مِنْ جِهَةِ الشُّهُودِ وَنَقَل أَبُو النَّضْرِ العِجْليّ عَنْ أَحْمَدَ فِي حَاكِمٍ رَجَمَ رَجُلاً بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ بِالزِّنَا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَجْبُوبٌ أَنَّ الضَّمَانَ عَلى الحَاكِمِ وَلعَل تَضْمِينَهُ هَهُنَا لتَفْرِيطِهِ إذْ المَجْبُوبُ لا يَخْفَى أَمْرُهُ غَالبًا فَتَرْكُهُ الفَحْصَ عَنْ حَالهِ تَفْرِيطٌ.
ومنها: لوْ حَكَمَ الحَاكِمُ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ وَصَرَّحُوا بِالخَطَأِ أَوْ التَّعَمُّدِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَخْتَصُّ بِهِمْ لاعْتِرَافِهِمْ وَلا يُنْتَقَضُ حُكْمُ الحَاكِمِ بِمُجَرَّدِ ذَلكَ وَلا يَرْجِعُ عَلى المَحْكُومِ لهُ بِشَيْءٍ كَمَا لوْ بَاعَ عَيْنًا أَوْ وَهَبَهَا أَوْ أَقَرَّ بِهَا لرَجُلٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهَا بَعْدَ ذَلكَ لآخَرَ فَإِنَّهُ لا يُقْبَل إقْرَارُهُ عَلى الأَوَّل وَيَضْمَنُ الثَّانِي.
ومنها: أَنْ يَحْكُمَ الحَاكِمُ بِمَالٍ وَيَسْتَوْفِيَ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ فُسَّاقٌ أَوْ كُفَّارٌ فَإِنَّ حُكْمَهُ فِي البَاطِنِ غَيْرُ نَافِذٍ بِالاتِّفَاقِ نَقَلهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ.
وَأَمَّا فِي الظَّاهِرِ فَهُوَ نَافِذٌ وَهَل يَجِبُ نَقْضُهُ؟ المَذْهَبُ وُجُوبُهُ وَهُوَ قَوْل الخِرَقِيِّ وَالقَاضِي كَتَبَيُّنِ انْتِفَاءِ شَرْطِ الحُكْمِ فَلمْ يُصَادِفْ مَحِلاً ثُمَّ يَجِبُ ضَمَانُ المَال عَلى المَحْكُومِ لهُ لإِتْلافِهِ لهُ مُبَاشَرَةً.
قَال القَاضِي: وَلوْ كَانَ المَحْكُومُ لهُ مُعْسِرًا فَللمُسْتَحِقِّ مُطَالبَةُ الإِمَامِ بقَرَار الضَّمَانِ عَلى المَحْكُومِ لهُ وَلا شَيْءَ عَلى المُزَكِّينَ بِحَالٍ , وَلوْ حُكِمَ لآدَمِيٍّ بِإِتْلافِ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ كَالمَال ; لأَنَّ المُسْتَوْفِيَ هُوَ المَحْكُومُ لهُ وَالإِمَامُ مُمَكَّنٌ لا غَيْرُ وَهِيَ طَرِيقَةُ المُحَرَّرِ.
وَالثَّانِي: يَضْمَنُهُ الحَاكِمُ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَهُوَ وَفْقُ إطْلاقِ الأَكْثَرِينَ ; لأَنَّ المَحْكُومَ لهُ لمْ يَقْبِضْ شَيْئًا فَنَسَبَ الفِعْل إلى خَطَأِ الإِمَامِ كَمَا لوْ كَانَ المُسْتَوْفِى حَقًّا للهِ تَعَالى عَزَّ وَجَل فَإِنَّ ضَمَانَهُ عَلى الإِمَامِ.
وَحَكَى القَاضِي وَغَيْرُهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لا يُنْقَضُ الحُكْمُ إذَا بَانَ الشُّهُودُ فُسَّاقًا وَيَضْمَنُ الشُّهُودُ كَمَا لوْ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا , وَلا أَصْل لذَلكَ فِي كَلامِ أَحْمَدَ وَإِنَّمَا أَخَذُوهُ مِنْ رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ فِي المَسْأَلةِ الأُولى , وَتِلكَ لا فِسْقَ فِيهَا لجَوَازِ عقله الشُّهُودِ وَإِنَّمَا ضَمِنُوا لتَبَيُّنِ بُطْلانِ شَهَادَتِهِمْ بِالعِيَانِ فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الرُّجُوعِ وَلا يُمْكِنُ بَقَاءُ الحُكْمِ بَعْدَ تَبَيُّنِ فَسَادِ المَحْكُومِ بِهِ عِيَانًا وَلا يَصِحُّ إلحَاقُ الفِسْقِ فِي الضَّمَانِ بِالرُّجُوعِ ; لأَنَّ الرَّاجِعِينَ اعْتَرَفُوا بِبُطْلانِ شَهَادَتِهِمْ وَتَسَبُّبِهِمْ إلى انْتِزَاعِ مَال المَعْصُومِ وَقَوْلهُمْ غَيْرُ مَقْبُولٍ عَلى نَقْضِ الحُكْمِ فَتَعَيَّنَ تَغْرِيمُهُمْ , وَليْسَ هَهُنَا اعْتِرَافٌ يُبْنَى عَليْهِ التَّغْرِيمُ فَلا وَجْهَ لهُ فَالصَّوَابُ الجَزْمُ بِأَنَّهُ لا ضَمَانَ عَلى أَحَدٍ عَلى القَوْل بِأَنَّ الحُكْمَ لا يُنْقَضُ كَمَا جَزَمَ بِهِ فِي المُحَرَّرِ.

ومنها: إذَا وَصَّى إلى رَجُلٍ بِتَفْرِيقِ ثُلثِهِ فَفَعَل ثُمَّ يَتَبَيَّنُ أَنَّ عَليْهِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا للتَّرِكَةِ فَفِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَانِ وَلكِنْ هُنَا لمْ يَتَصَرَّفْ فِي مِلكِ الغُرَمَاءِ بَل فِيمَا تَعَلقَ بِهِ حَقُّهُمْ وَلكِنَّهُ تَعَلقٌ قَوِيٌّ لا سِيَّمَا إنْ قُلنَا لمْ يَنْتَقِل إلى الوَرَثَةِ وَلهَذَا قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي التَّرِكَةِ هِيَ للغُرَمَاءِ لا للوَرَثَةِ وَلهَذَا لا يَمْلكُ الوَرَثَةُ التَّصَرُّفَ فِيهَا إلا بِشَرْطِ الضَّمَانِ , وَخَرَّجَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلى هَذَا الخِلافِ كُل مَنْ تَصَرَّفَ بِوِلايَةٍ فِي مَالٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ.
ومنها: لوْ وَصَّى لشَخْصٍ بِشَيْءٍ فَلمْ يُعْرَفْ المُوصَى لهُ صَرَفَهُ الوَصِيُّ أَوْ الحَاكِمُ فِيمَا يَرَاهُ مِنْ أَبْوَابِ البِرِّ فَإِنْ جَاءَ المُوصَى لهُ وَأَثْبَتَ ذَلكَ فَهَل يَضْمَنُ المُفَرِّقُ مَا فَرَّقَهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ: قَال ابْنُ أَبِي مُوسَى أَظْهَرُهُمَا لا ضَمَانَ عَليْهِ، وَقَال أَبُو بَكْرٍ فِي الشافي: إنْ فَعَلهُ الوَصِيُّ بِإِذْنِ الحَاكِمِ لمْ يَضْمَنْ وَإِنْ فَعَلهُ بِدُونِ إذْنِهِ ضَمِنَ.
ومنها: لوْ اشْتَرَى الوَرَثَةُ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ وَأَعْتَقُوهُ تَنْفِيذًا لوَصِيَّةِ مُورِثِهِمْ بِذَلكَ ثُمَّ ظَهَرَ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَإِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ للغُرَمَاءِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِانْتِفَاءِ الضَّمَانِ مِنْ مَسْأَلةِ الوَصِيِّ.
ومنها: لوْ اشْتَرَى المُضَارِبُ مَنْ يَعْتِقُ عَلى رَبِّ المَال بِغَيْرِ إذْنِهِ صَحَّ وَعَتَقَ عَليْهِ , وَهَل يَضْمَنُهُ العَامِل؟ فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: يَضْمَنُ بِكُل حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ عَالمًا بِالحَال أَوْ جَاهِلاً قَالهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَأَبُو الخَطَّابِ، وَالثَّانِي: إنْ كَانَ جَاهِلاً لمْ يَضْمَنْ وَإِنْ كَانَ عَالمًا ضَمِنَ كَمَا لوْ عَامَل فَاسِقًا أَوْ مُمَاطِلاً أَوْ سَافَرَ سَفَرًا مَخُوفًا أَوْ دَفَعَ الوَصِيُّ أَوْ أَمِينُ الحَاكِمِ مَال اليَتِيمِ مُضَارَبَةً إلى مَنْ ظَاهِرُهُ العَدَالةُ فَبَانَ بِخِلافِهِ فَإِنَّهُ لا ضَمَانَ فِي ذَلكَ كُلهِ إلا مَعَ العِلمِ وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَالثَّالثُ: لا ضَمَانَ بِكُل حَالٍ حَكَاهُ أَبُو بَكْرٍ عَلى الضَّمَانِ هَل يَضْمَنُهُ بِالثَّمَنِ المُشْتَرَى أَوْ بِقِيمَةِ المِثْل وَيَكُونُ شريكاً فِي الرِّبْحِ الزَّائِدِ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا أَبُو بَكْرٍ.
ومنها: إذَا دَفَعَ القَصَّارُ ثَوْبَ رَجُلٍ إلى غَيْرِهِ خَطَأً فَتَصَرَّفَ فِيهِ المَدْفُوعُ إليْهِ بِقَطْعٍ أَوْ لبْسٍ يَظُنُّهُ ثَوْبَهُ فَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي قَصَّارٍ أَبْدَل الثَّوْبَ فَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ فَقَطَعَهُ وَهُوَ لا يَعْلمُ أَنَّهُ ثَوْبُهُ , قَال: عَلى القَصَّارِ إذَا أَبْدَل , قِيل لهُ: فَإِنْ كَانَ مَالاً فَأَنْفَقَهُ؟ قَال: ليس هَذَا مِثْل المَال عَلى الذِي أَنْفَقَهُ ; لأَنَّهُ مَالٌ تَلفَ , فَفَرَّقَ بَيْنَ المَال إذَا أُنْفِقَ وَتَلفَ وَبَيْنَ الثَّوْبِ إذَا قُطِعَ ; لأَنَّ العَيْنَ هُنَا مَوْجُودَةٌ فَيُمْكِنُ الرُّجُوعُ فِيهَا وَيَضْمَنُ نَقْصَهَا القَصَّارُ لجِنَايَتِهِ خَطَأً.
وَظَاهِرُ كَلامِهِ أَنْ لا شَيْءَ عَلى القَاطِعِ ; لأَنَّهُ مَغْرُورٌ وَلمْ يَدْخُل عَلى الضَّمَانِ. أَمَّا إنْ دَفَعَ إليْهِ دَرَاهِمَ غَيْرِهِ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا فَأَنْفَقَهَا فَالضَّمَانُ عَلى المُنْفِقِ وَإِنْ كَانَ مَغْرُورًا لتَلفِ المَال تَحْتَ يَدِهِ بِانْتِفَاعِهِ بِهِ وَذَلكَ مُقَرَّرٌ للضَّمَانِ مَعَ اليَدِ عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَنَقَل مُحَمَّدُ بْنُ الحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ أَنَّهُ ذَكَرَ لهُ قَوْل مَالكٍ لا يَغْرَمُ الذِي لبِسَهُ وَيَغْرَمُ

الغَسَّال لصَاحِبِ الثَّوْبِ. فَقَال: لا يُعْجِبُنِي مَا قَال: وَلكِنْ إذَا هُوَ لمْ يَعْلمْ فَلبِسَهُ فَإِنَّ عَليْهِ مَا نَقَصَ ليْسَ عَلى القَصَّارِ شَيْءٌ فَأَوْجَبَ هُنَا الضَّمَانَ عَلى اللابِسِ لاسْتِيفَائِهِ المَنْفَعَةَ دُونَ الدَّافِعِ بِأَنَّهُ لمْ يَتَعَمَّدْ الجِنَايَةَ فَكَأَنَّ إحَالةَ الضَّمَانِ عَلى المُسْتَوْفِي للنَّفْعِ أَوَّلاً وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُوَافِقُ مَا قَبْلهَا فِي تَقْرِيرِ الضَّمَانِ عَلى المُنْتَفِعِ لا سِيَّمَا وَالدَّافِعُ هُنَا مَعْذُورٌ وَإِنَّمَا ضَمِنَ القَصَّارُ القَطْعَ ; لأَنَّهُ تَلفٌ لمْ يَحْدُثْ مِنْ انْتِفَاعِ القَابِضِ , فَكَانَ ضَمَانُهُ عَلى الدَّافِعِ لنِسْبَتِهِ إليْهِ , فَالرِّوَايَتَانِ إذًا مُتَّفِقَتَانِ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَعَلهُمَا مُخْتَلفَتَيْنِ فِي أَنَّ الضَّمَانَ هَل هُوَ عَلى القَصَّارِ أَوْ المَدْفُوعِ إليْهِ , ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ حَمَل رِوَايَةَ ضَمَانِ القَصَّارِ عَلى أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَيَضْمَنُ جِنَايَةَ يَدِهِ , وَرِوَايَةُ عَدَمِ ضَمَانِهِ عَلى أَنَّهُ كَانَ أَجِيرًا خَاصًّا فَلا يَضْمَنُ جِنَايَتَهُ مَا لمْ يَتَعَمَّدْهَا , وَأَشَارَ القَاضِي إلى ذَلكَ فِي المُجَرَّدِ
ومنها: لوْ دَفَعَ المُلتَقِطُ اللقَطَةَ إلى وَاصِفِهَا ثُمَّ أَقَامَ غَيْرُهُ البَيِّنَةَ أَنَّهَا لهُ فَإِنْ كَانَ الدَّفْعُ بِحُكْمِ حَاكِمٍ فَلا ضَمَانَ عَلى الدَّافِعِ وَإِنْ كَانَ بِدُونِهِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا ضَمَانَ لوُجُوبِ الدَّافِعِ عَليْهِ فَلا يُنْسَبُ إلى تَفْرِيطٍ.
وَالثَّانِي: عَليْهِ الضَّمَانُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي , ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ عَلى الوَاصِفِ إلا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَقَرَّ له بِالمِلكِ , أَمَّا لوْ دَفَعَ الوَدِيعَةَ إلى مَنْ يَظُنُّهُ صَاحِبُهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ الخَطَأُ فَقَال الأَصْحَابُ: يَضْمَنُ لتَفْرِيطِهِ.
وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلى المُتْلفِ وَحْدَهُ , وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نَقَلهُ حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلةِ القَصَّارِ, وَلوْ قَتَل مَنْ يَظُنُّهُ قَاتِل أَبِيهِ لاشْتِبَاهِهِ بِهِ فِي الصُّورَةِ قُتِل بِهِ لتَفْرِيطِهِ فِي اجْتِهَادِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ.
وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنْ لا قَوَدَ وَأَنَّهُ يَضْمَنُ بِالدِّيَةِ كَمَا لوْ قَطَعَ يَسَارَ قَاطِعِ يَمِينِهِ ظَانًّا أَنَّهَا اليَمِينُ فَإِنَّهُ لا قَوَدَ وَسَوَاءٌ كَانَ الجَانِي عَاقِلاً أَوْ مَجْنُونًا وَفِي وُجُوبِ الدِّيَةِ وَجْهَانِ.
ومنها: لوْ مَضَى عَلى المَفْقُودِ زَمَنٌ تَجُوزُ فِيهِ قِسْمَةُ مَالهِ فَقَسَمَ ثُمَّ قَدِمَ فَذَكَرَ القَاضِي: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَكَى فِي ضَمَانِ مَا تَلفَ فِي أَيْدِي الوَرَثَةِ مِنْهُ رِوَايَتَيْنِ , وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ وَابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي دَاوُد عَدَمُ الضَّمَانِ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ , وَوَجْهُهُ أَنَّهُ جَازَ اقْتِسَامُ المَال فِي الظَّاهِرِ وَالتَّصَرُّفُ فِيهِ , وَلهَذَا يُبَاحُ لزَوْجَتِهِ أَنْ تَتَزَوَّجَ وَإِذَا قَدِمَ خُيِّرَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ المَهْرِ فَجَعَل التَّصَرُّفَ فِيمَا يَمْلكُهُ مِنْ مَالٍ وَبُضْعٍ مَوْقُوفًا عَلى تَنْفِيذِهِ وَإِجَازَتِهِ مَا دَامَ مَوْجُودًا فَإِذَا تَلفَ فَقَدْ مَضَى الحُكْمُ فِيهِ وَنَفَذَ فَإِنَّ إجَازَتَهُ وَرَدَّهُ إنَّمَا يَتَعَلقُ بِالمَوْجُودِ لا بِالمَفْقُودِ , وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ عَلى أَنَّهُ إذَا قَدِمَ بَعْدَ أَنْ تَزَوَّجَتْ زَوْجَتُهُ وَمَاتَتْ فَلا خِيَارَ لهُ وَلا يَرِثُهَا , وَيُشْبِهُ ذَلكَ اللقَطَةُ إذَا قَدِمَ المَالكُ بَعْدَ الحَوْل وَالتَّمَلكِ وَقَدْ تَلفَتْ فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا للمَالكِ.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لا يَجِبُ الضَّمَانُ مَعَ التَّلفِ وَإِنَّمَا يَجِبُ الرَّدُّ مَعَ بَقَاءِ العَيْنِ.

ومنها: لوْ قَبَضْت المُطَلقَةُ البَائِنُ النَّفَقَةَ يُظَنُّ أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ بَانَتْ حَامِلاً فَفِي الرُّجُوعِ عَليْهَا رِوَايَتَانِ.
ومنها: لوْ غَابَ الزَّوْجُ فَأَنْفَقَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ مَالهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَهَل يَرْجِعُ عَليْهَا بِمَا أَنْفَقَتْهُ بَعْدَ المَوْتِ عَلى رِوَايَتَيْنِ
ومنها: لوْ دَفَعَ زَكَاتَهُ أَوْ كَفَّارَتَهُ إلى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَليْهِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا أَنْ لا ضَمَانَ وَكَذَلكَ لوْ كَانَ العَامِل هُوَ الدَّافِعُ قَالهُ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ.
وَقَال فِي المُجَرَّدِ: لا يَضْمَنُ الإِمَامُ بِغَيْرِ خِلافٍ ; لأَنَّهُ أَمِينٌ وَلمْ يُفَرِّطْ ; لأَنَّ هَذَا لا يُمْكِنُ الاحْتِرَازُ مِنْهُ , وَإِنْ بَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا فَقِيل هُوَ عَلى الخِلافِ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ , وَكَذَلكَ ذَكَرَ القَاضِي فِي آخِرِ الجَامِعِ الصَّغِيرِ إلا أَنَّهُ خَرَّجَ الخِلافَ فِي الضَّمَانِ هُنَا عَلى القَوْل بِعَدَمِهِ فِي المُغْنِي وَقِيل لا يُجْزِئُهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً لظُهُورِ التَّفْرِيطِ فِي الاجْتِهَادِ فَإِنَّ هَذِهِ الأَوْصَافَ لا تَخْفَى بِخِلافِ الغَنِيِّ وَإِنْ بَانَ أَنَّهُ بِسَبَبِ نَفْسِهِ فَطَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: لا يُجْزِئُهُ قَوْلاً وَاحِدًا كَمَا لوْ بَانَ أَنَّهُ عِنْدَ نَفْسِهِ.
وَالثَّانِي هُوَ: لوْ بَانَ غَنِيًّا وَالمَنْصُوصُ هَهُنَا الإِجْزَاءُ ; لأَنَّ المَانِعَ خَشْيَةُ المُحَابَاةِ وَهُوَ مُنْتَفٍ مَعَ عَدَمِ العِلمِ.
قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَعَلى قِيَاسِ ذَلكَ مَال الفَيْءِ وَالخُمْسِ , وَالأَمْوَال المُوصَى بِهَا , وَالمَوْقُوفَةُ إذَا ظَنَّ المُتَصَرِّفُ فِيهَا أَنَّ الأَخْذَ مُسْتَحَقٌّ فَأَخْطَأَ.

القاعدة السادسة والتسعون
القَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَنْ وَجَبَ عَليْهِ أَدَاءُ عَيْنِ مَالٍ فَأَدَّاهُ عَنْهُ غيره بِغَيْرِ إذْنِهِ هَل تَقَعُ مَوْقِعَهُ وَيَنْتَفِي الضَّمَانُ عَنْ المُؤَدِّي؟ هَذَا عَلى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ العَيْنُ مِلكًا لمَنْ وَجَبَ عَليْهِ الأَدَاءُ وَقَدْ تَعَلقَ بِهَا حَقٌّ للغَيْرِ فَإِنْ كَانَ المُتَصَرِّفُ لهُ وِلايَةُ التَّصَرُّفِ وَقَعَ المَوْقِعَ وَلا ضَمَانَ , وَلوْ كَانَ الوَاجِبُ دَيْنًا وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهُ وِلايَةٌ فَإِنْ كَانَتْ العَيْنُ مُتَمَيِّزَةً بِنَفْسِهَا فَلا ضَمَانَ وَيُجْزِئُ , وَإِنْ لمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً مِنْ بَقِيَّةِ مَالهِ ضَمِنَ وَلمْ يُجْزِئْ إلا أَنْ يُجِيزَ المَالكُ التَّصَرُّفَ فَنَقُول بِوَقْفِ عُقُودِ الفُضُوليِّ عَلى الإِجَازَةِ وَيَتَفَرَّعُ عَلى هَذَا مَسَائِل:
منها: لوْ امْتَنَعَ مِنْ وَفَاءِ دَيْنِهِ وَلهُ مَالٌ فَبَاعَ الحَاكِمُ مَالهُ وَوَفَّاهُ عَنْهُ صَحَّ وَبَرِئَ مِنْهُ وَلا ضَمَانَ.
ومنها: لوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ فَأَخَذَهَا الإِمَامُ مِنْهُ قَهْرًا فَإِنَّهُ تُجْزِئُ عَنْهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَالخِرَقِيِّ ; لأَنَّ للإِمَامِ وِلايَةً عَلى المُمْتَنِعِ وَهَذَا حَقٌّ تَدْخُلهُ النِّيَابَةُ فَوَقَعَ مَوْقِعَهُ.

ومنها: لوْ تَعَذَّرَ اسْتِئْذَانُ مَنْ وَجَبَتْ عَليْهِ الزَّكَاةُ لغَيْبَةٍ أَوْ حَبْسٍ فَأَخَذَ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِنْ مَالهِ سَقَطَتْ عَنْهُ.
ومنها: وَليُّ الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ يُخْرِجُ عَنْهُمَا الزَّكَاةَ وَيُجْزِئُ كَمَا يُؤَدِّي عَنْهُمَا سَائِرَ الوَاجِبَاتِ المَاليَّةِ مِنْ النَّفَقَاتِ وَالغَرَامَاتِ.
ومنها: إذَا عَيَّنَ أُضْحِيَّةً فَذَبَحَهَا غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَجْزَأَتْ عَنْ صَاحِبِهَا وَلمْ يَضْمَنْ الذَّابِحُ شَيْئًا نَصَّ عَليْهِ ; لأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ للذَّبْحِ مَا لمْ يُبَدِّلهَا وَإِرَاقَةُ دَمِهَا وَاجِبٌ.
فَالذَّابِحُ قَدْ عَجَّل الوَاجِبَ فَوَقَعَ مَوْقِعَهُ وَلا فَرْقَ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً أَوْ عَنْ الوَاجِبِ فِي الذِّمَّةِ , وَفَرَّقَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ بَيْنَ مَا وَجَبَ فِي الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِ.
وَقَال: المُعَيَّنَةُ عَنْهَا فِي الذِّمَّةِ يُشْتَرَطُ لهَا نِيَّةُ المَالكِ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَقَال عِنْدَ الذَّبْحِ: فَلا يُجْزِئُ ذَبْحُ غَيْرِهِ لهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَنُ.
ومنها: لوْ أَحْرَمَ وَفِي يَدِهِ المُشَاهَدَةِ صَيْدٌ فَأَطْلقَهُ القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ: لا يَضْمَنُ ; لأَنَّهُ فَعَل الوَاجِبَ عَليْهِ كَمَا لوْ أَدَّى عَنْهُ دَيْنَهُ فِي هَذَا الحَال وَفِي المُبْهِجِ للشِّيرَازِيِّ أَنَّهُ لا يَضْمَنُ ; لأَنَّ مِلكَهُ لمْ يَزُل عَنْهُ وَإِرْسَال الغَيْرِ إتْلافٌ يُوجِبُ الضَّمَانَ فَهُوَ كَقَتْلهِ اللهُمَّ إلا أَنْ يَكُونَ المُرْسِل حَاكِمًا أَوْ وَليَّ صَبِيٍّ فَلا ضَمَانَ للوِلايَةِ وَهَذَا كُلهُ بِنَاءً عَلى قَوْلنَا يَجِبُ إرْسَالهُ وَإِلحَاقُهُ بِالوَحْشِ وَهُوَ المَنْصُوصُ , أَمَّا إنْ قُلنَا يَجُوزُ لهُ نَقْل يَدِهِ إلى غَيْرِهِ بِإِعَارَةٍ أَوْ إيدَاعٍ كَمَا قَالهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي بَابِ العَارِيَّةِ فَالضَّمَانُ وَاجِبٌ بِغَيْرِ إشْكَالٍ.
ومنها: لوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ مُعَيَّنٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ غَيْرُهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا ضَمَانَ عَليْهِ كَالأُضْحِيَّةِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ سَوَاءٌ قِيل بِزَوَال مِلكِهِ أَوْ امْتِنَاعِ الإِبْدَال كَمَا لوْ اخْتَارَهُ أَوْ بِبَقَاءِ المِلكِ وَجَوَازِ الإِبْدَال إذْ لا فَرْقَ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ المَنْذُورَةِ وَبَيْنَ الأُضْحِيَّةِ فِي ذَلكَ. الثَّانِي: الضَّمَانُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَيُشْكِل الفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأُضْحِيَّةِ لا سِيَّمَا وَالمَنْقُول لا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي العُقُودِ عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِخِلافِ الحَيَوَانِ , وَقَدْ يُقَال فِي الفَرْقِ: إنَّ الأُضْحِيَّةَ إنَّمَا يَجُوزُ إبْدَالهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا وَالنُّقُودُ مُتَسَاوِيَةٌ غَالبًا فَلا مَعْنَى لإِبْدَالهَا , وَقَدْ أَشَارَ القَاضِي إلى الفَرْقِ بِأَنَّ النَّذْرَ يَحْتَاجُ إخْرَاجُهُ إلى نِيَّةٍ كَالزَّكَاةِ وَهَذَا مَمْنُوعٌ بَل نَقُول فِي نَذْرِ الصَّدَقَةِ بِالمُعَيَّنِ مَا نَقُول فِي الأُضْحِيَّةِ المُعَيَّنَةِ.
وَأَمَّا إذَا أَدَّى غَيْرُهُ زَكَاتَهُ الوَاجِبَةَ مِنْ مَالهِ أَوْ نَذْرَهُ الوَاجِبَ فِي الذِّمَّةِ أَوْ كَفَّارَتَهُ مِنْ مَالهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَيْثُ لا وِلايَةَ لهُ عَليْهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي المَشْهُورِ ; لأَنَّهُ لا يَسْقُطُ بِهِ فَرْضُ المَالكِ لفَوَاتِ النِّيَّةِ المُعْتَبَرَةِ مِنْهُ وَمِمَّنْ يَقُومُ مَقَامَهُ , وَخَرَّجَ الأَصْحَابُ نُفُوذَهُ بِالإِجَازَةِ مِنْ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الفُضُوليِّ بِهَا.

وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ فِي العِبَادَاتِ كَالزَّكَاةِ وَالأُضْحِيَّةِ وَالنَّذْرِ إنَّمَا هُوَ إذَا نَوَاهُ المُخْرِجُ عَنْ المَالكِ فَأَمَّا إنْ نَوَى عَنْ نَفْسِهِ وَكَانَ عَالمًا بِالحَال فَهُوَ غَاصِبٌ مَحْضٌ فَلا يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لنَفْسِهِ بِأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَلا بِذَبْحِ الأُضْحِيَّةِ وَالهَدْيِ وَلا غَيْرِهِمَا ; لأَنَّهُ وَقَعَ مِنْ أَصْلهِ تَعَدِّيًا وَذَلكَ يُنَافِي التَّقَرُّبَ.
وَخَرَّجَ بَعْضُ الأَصْحَابِ وَجْهًا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ رِوَايَةً فِي الزَّكَاةِ وَخَرَّجَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَجْهًا فِي العِتْقِ لكِنْ إذَا التَزَمَ ضَمَانَهُ فِي مَالهِ وَهَذَا شَبِيهٌ بِتَصَرُّفِ الفُضُوليِّ , وَهَل يُجْزِئُ عَنْ المَالكِ فِي هَذِهِ الحَال أَمْ لا؟ حَكَى القَاضِي بوقفه على الإجازة من القول بوقف تصرف الغاصب وربما فِي الأُضْحِيَّةِ رِوَايتَانِ وَالصَّوَابُ أَنَّ الرِّوَايَتَيْنِ تَتَنَزَّل عَلى اخْتِلافِ حَالتَيْنِ لا عَلى اخْتِلافِ قَوْليْنِ فَإِنْ نَوَى الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ عِلمِهِ بِأَنَّهَا أُضْحِيَّةُ الغَيْرِ لمْ يُجْزِئْ لغَصْبِهِ وَاسْتِيلائِهِ عَلى مَال الغَيْرِ وَإِتْلافِهِ لهُ عُدْوَانًا , وَإِنْ كَانَ يَظُنُّ الذَّابِحُ أَنَّهَا أُضْحِيَّةٌ لاشْتِبَاهِهَا عَليْهِ أَجْزَأَتْ عَنْ المَالكِ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى الصُّورَتَيْنِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ وَسِنْدِيٌّ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا مُصَرِّحًا بِالتَّعْليل المَذْكُورِ وَكَذَلكَ الخَلال فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَقَدَ لهُمَا بَابَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ فَلا يَصِحُّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلكَ , وَمَتَى قِيل بِعَدَمِ الإِجْزَاءِ فَعَلى الذَّابِحِ الضَّمَانُ لكِنْ هَل يَضْمَنُ أَرْشَ الذَّبْحِ أَوْ كَمَال القِيمَةِ؟ أَمَّا عَلى رِوَايَةِ تَحْرِيمِ ذَبِيحَةِ الغَاصِبِ فَضَمَانُ القِيمَةِ مُتَعَيِّنٌ , وَعَلى القَوْل بِالحِل وَهُوَ المَشْهُورُ فَقَدْ يُقَال إنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ فَحُكْمُ هَذَا الذَّبْحِ حُكْمُ عَطَبِهَا وَإِذَا عَطِبَتْ فَهَل تَرْجِعُ إلى مِلكِهِ عَلى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ قِيل بِرُجُوعِهَا إلى مِلكِهِ فَعَلى الذَّابِحِ أَرْشُ نَقْصِ الذَّبْحِ خَاصَّةً وَإِنْ قِيل لا يَرْجِعُ إلى مِلكِهِ فَالذَّبْحُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلةِ إتْلافِهَا بِالكُليَّةِ فَيَضْمَنُ الجَمِيعَ وَيَشْتَرِي المَالكُ بِالقِيمَةِ مَا يَذْبَحُهُ عَنْ الوَاجِبِ عَليْهِ وَيَصْرِفُ الكُل مَصْرِفَ الأُضْحِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً ابْتِدَاءً أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدْ فَوَّتَ عَلى المَالكِ التَّقَرُّبَ بِهَا.
وَكَوْنُهَا أُضْحِيَّةً أَوْ هَدْيًا لكِنْ عَلى وَجْهٍ لا يَلزَمُهُ بَدَلهَا فَيَحْتَمِل أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلحْمِهَا كَالعَاطِبِ دُونَ مَحِلهِ , وَيَأْخُذَ أَرْشَ الذَّبْحِ مِنْ الذَّابِحِ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ , وَيُحْتَمَل أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا وَهُوَ أَظْهَرُ ; لأَنَّهُ فَوَّتَ عَليْهَا التَّقَرُّبَ بِهَا عَلى وَجْهٍ لا يَعُودُ إليْهِ مِنْهَا شَيْءٌ فَهُوَ كَإِتْلافِهَا. وَأَمَّا إذَا فَرَّقَ الأَجْنَبِيُّ اللحْمَ فَقَال الأَصْحَابُ: لا يُجْزِئُ ; لأَنَّ أَحْمَدَ قَال فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَا إذَا ذَبَحَ كُل وَاحِدٍ أُضْحِيَّةَ الآخَرِ يَعْتَقِدُ أنها أضحيته أَنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ اللحْمَ قَالوا وَإِنْ تَلفَ فَعَليْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَأَبْدَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ احْتِمَالاً بِالإِجْزَاءِ ; لأَنَّ التَّفْرِقَةَ ليْسَتْ وَاجِبَةً عَلى المَالكِ بِدَليل مَا لوْ ذَبَحَهَا فَسُرِقَتْ.
وَيَشْهَدُ لهُ قَوْل أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ وَغَيْرِهِ فِي رَجُلٍ اشْتَرَى لقَوْمٍ نُسُكًا فَاشْتَرَى لكُل وَاحِدٍ شَاةً ثُمَّ لمْ يَعْرِفْ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ , قَال: يَتَرَاضَيَانِ وَيَتَحَالانِ وَلا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ كُل وَاحِدٍ شَاةً بَعْدَ

التَّحْليل فَدَل عَلى أَنَّ التَّفْرِيقَ إذَا وَقَعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَلا تَعَمُّدٍ أَنَّهُ يُجْزِئُ وَلوْلا ذَلكَ لمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بِهَذِهِ الأُضْحِيَّةِ المُشْتَبِهَةِ , وَقَدْ يَكُونُ عَنْ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ وَيُحْمَل قَوْلهُ يَتَرَادَّانِ اللحْمَ مَعَ بَقَائِهِ.
القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الوَاجِبُ أَدَاؤُهُ غَيْرَ مَمْلوكٍ لهُ فَأَدَّاهُ الغَيْرُ إلى مُسْتَحِقِّهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحِقُّهُ مُعَيَّنًا فَإِنَّهُ يُجْزِئُ وَلا ضَمَانَ وَإِنْ لمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَفِي الإِجْزَاءِ خِلافٌ , وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ مَسَائِل:
منها: المَغْصُوبُ وَالوَدَائِعُ إذَا أَدَّاهَا أَجْنَبِيٌّ إلى المَالكِ أَجْزَأَتْ وَلا ضَمَانَ.
ومنها: إذَا اصْطَادَ المُحْرِمُ صَيْدًا فِي إحْرَامِهِ فَأَرْسَلهُ غَيْرُهُ مِنْ يَدِهِ فَلا ضَمَانَ.
ومنها: إذَا دَفَعَ أَجْنَبِيٌّ عَيْنًا مُوصًى بِهَا إلى مُسْتَحِقٍّ مُعَيَّنٍ لمْ يَضْمَنْ وَوَقَعَتْ مَوْقِعَهَا , وَكَذَا لوْ كَانَتْ الوَصِيَّةُ بِمَالٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ بَل مُقَدَّرٍ وَإِنْ كَانَتْ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِي الضَّمَانِ وَجْهَانِ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ بِيَدِهِ وَدِيعَةٌ وَصَّى بِهَا لمُعَيَّنُ أَنَّ المُودِعَ يَدْفَعُهَا إلى المُوصَى لهُ وَالوَرَثَةُ قِيل لهُ: فَإِنْ دَفَعَهَا إلى المُوصَى لهُ يَضْمَنُ؟ قَال: أَخَافُ , قِيل لهُ: فَيُعْطِيهِ القَاضِي؟ قَال: لا وَلكِنْ يَدْفَعُهُ إليْهِمْ.
وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا على ضَمَانَهُ بِالدَّفْعِ إلى المُوصِي وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلى أَنَّهُ لمْ تَثْبُتْ الوَصِيَّةُ ظَاهِرًا , وَصَرَّحَ الأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لوْ كَانَ عَليْهِ دَيْنٌ فَوَصَّى بِهِ صَاحِبُهُ لمُعَيَّنٍ كَانَ مُخَيَّرًا فِي دَفْعِهِ إلى الوَرَثَةِ وَالمُوصَى لهُ ; لأَنَّهُ صَارَ حَقًّا لهُ فَهُوَ كَالوَارِثِ المُعَيَّنِ وَعَلى هَذَا يَتَخَرَّجُ دَفْعُ مَال الوَقْفِ إلى مُسْتَحِقِّهِ المُعَيَّنِ مَعَ وُجُودِ النَّاظِرِ فِيهِ.

القاعدة السابعة والتسعون
القَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَنْ بِيَدِهِ مَالٌ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ دَيْنٌ يَعْرِفُ مَالكَهُ وَلكِنَّهُ غَائِبٌ يُرْجَى قُدُومُهُ , فَليْسَ لهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِدُونِ إذْنِ الحَاكِمِ إلا أَنْ يَكُونَ تَافِهًا فَلهُ الصَّدَقَةُ بِهِ عَنْهُ , نَصَّ عَليْهِ فِي مَوَاضِعَ , وَإِنْ كَانَ قَدْ آيِسَ مِنْ قُدُومِهِ بِأَنْ مَضَتْ مُدَّةٌ يَجُوزُ فِيهَا أَنْ تُزَوَّجَ امْرَأَتُهُ وَيُقَسَّمَ مَالهُ وَليْسَ لهُ وَارِثٌ فَهَل يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي مَالهِ بِدُونِ إذْنِ الحَاكِمِ؟ قَدْ يَتَخَرَّجُ عَلى وَجْهَيْنِ أَصْلهُمَا الرِّوَايَتَانِ فِي امْرَأَةِ المَفْقُودِ هَل تَتَزَوَّجُ بِدُونِ الحَاكِمِ أَمْ لا؟ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ جَوَازُ التَّصَدُّقِ بِهِ وَلمْ يُعَيِّنْ حَاكِمًا.
وَإِنْ لمْ يَعْرِفْ مَالكَهُ بَل جَهِل جَازَ التَّصَدُّقُ بِهِ عَنْهُ لشَرْطِ الضَّمَانِ بِدُونِ إذْنِ الحَاكِمِ قَوْلاً وَاحِدًا عَلى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ وَعَلى الثَّانِيَةِ فِيهِ رِوَايَتَانِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي مَوْضِعٍ مِنْ المُجَرَّدِ وَجَزَمَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ بِتَوَقُّفِ التَّصَرُّفِ عَلى إذْنِ الحَاكِمِ وَالأُولى أَصَحُّ وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذِهِ القَاعِدَةِ مَسَائِل.

منها: اللقَطَةُ التِي لا تُمْلكُ إذَا أَخَّرْنَا الصَّدَقَةَ بِهَا أَوْ التِي يُخْشَى فَسَادُهَا إذَا أَرَادَ التَّصَدُّقَ بِهَا فَالمَنْصُوصُ جَوَازُ الصَّدَقَةِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ وَذَكَرَ أَبُو الخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا بَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا رَفَعَهُ إلى السُّلطَانِ وَقَال: نَقَلهَا مُهَنَّا , وَرِوَايَةُ مُهَنَّا إنَّمَا هِيَ فِيمَنْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا ثُمَّ مَاتَ المُشْتَرِي قَبْل قَبْضِهِ وَخَشِيَ البَائِعُ فَسَادَهُ وَهَذَا مِمَّا لهُ مَالكٌ مَعْرُوفٌ وَيُمْكِنُ الاطِّلاعُ عَلى مَعْرِفَةِ وَرَثَتِهِ فَليْسَتْ المَسْأَلةَ , نَبَّهَ عَلى ذَلكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ.
ومنها: اللقِيطُ إذَا وُجِدَ مَعَهُ مَالٌ فَإِنَّهُ يُنْفَقُ عَليْهِ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ حَاكِمٍ ذَكَرَهُ ابْنُ حَامِدٍ قَال أَبُو الخَطَّابِ: وَرَوَى عَنْهُ أَبُو الحَارِثِ مَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا يُنْفَقُ عَليْهِ إلا بِإِذْنِ حَاكِمٍ , قَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ إنَّمَا هِيَ فِي المُودَعِ أَنَّهُ لا يُنْفِقُ عَلى زَوْجِهِ المُسْتَوْدِعَ وَأَهْلهِ فِي غَيْبَتِهِ إلا بِإِذْنِ الحَاكِمِ وَليْسَ هَذَا نَظِيرُ مَسْأَلتِنَا ; لأَنَّ الوِلايَةَ هُنَا عَلى مَعْرُوفٍ فَنَظِيرُهُ مَنْ وَجَدَ طِفْلاً مَعْرُوفَ النَّسَبِ أَبُوهُ غَائِبٌ.
ومنها: الرُّهُونُ التِي لا تُعْرَفُ أَهْلهَا نَصَّ أَحْمَدُ عَلى جَوَازِ الصَّدَقَةِ بِهَا فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَأَبِي الحَارِثِ وَغَيْرِهِمَا وَتَأَوَّلهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ عَلى أَنَّهُ تَعَذَّرَ إذْنُ الحَاكِمِ لمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو طَالبٍ أَيْضًا إذَا كَانَ عِنْدَهُ رَهْنٌ وَصَاحِبُهُ غَائِبٌ وَخَافَ فَسَادَهُ يَأْتِي السُّلطَانَ ليَأْمُرَ بِبَيْعِهِ وَلا يَبِيعُهُ بِغَيْرِ إذْنِ السُّلطَانِ وَأَنْكَرَ ذَلكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَغَيْرُهُ وَأَقَرُّوا النُّصُوصَ عَلى وُجُوهِهَا فَإِنْ كَانَ المَالكُ مَعْرُوفًا لكِنَّهُ غَائِبٌ رَفَعَ أَمْرَهُ إلى السُّلطَانِ وَإِنْ جَهِل جَازَ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِدُونِ حَاكِمٍ وَإِنْ عَلمَ صَاحِبُهُ لكِنَّهُ آيِسٌ مِنْهُ تَصَدَّقَ بِهِ عَنْهُ.
نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ أَبِي الحَارِثِ.
ومنها: الوَدَائِعُ التِي جُهِل مَالكُهَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهَا بِدُونِ حَاكِمٍ نَصَّ عَليْهِ وَكَذَلكَ إنْ فُقِدَ وَلمْ يُطَّلعْ عَلى خَبَرِهِ وَليْسَ لهُ وَرَثَةٌ يَتَصَدَّقُ بِهِ نَصَّ عَليْهِ وَلمْ يَعْتَبِرْ حَاكِمًا قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ: فَيَحْتَمِل أَنْ يَحْمِل عَلى إطْلاقِهِ ; لأَنَّهُ مِنْ فِعْل المَعْرُوفِ وَيُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل عِنْدَ تَعَذُّرِ إذْنِ الحَاكِمِ ; لأَنَّ هَذَا المَال مَصْرِفُهُ إلى بَيْتِ المَال وَتَفْرِقَةُ مَال بَيْتِ المَال مَوْكُولةٌ إلى اجْتِهَادِ الإِمَامِ.
انْتَهَى وَالصَّحِيحُ الإِطْلاقُ وَبَيْتُ المَال ليْسَ بِوَارِثٍ عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ وَإِنَّمَا يُحْفَظُ فِيهِ المَال الضَّائِعُ فَإِذَا أَيِسَ مِنْ وُجُودِ صَاحِبِهِ فَلا مَعْنَى للحِفْظِ.
وَمَقْصُودُ الصَّرْفِ فِي مَصْلحَةِ المَالكِ تَحْصُل بِالصَّدَقَةِ بِهِ عَنْهُ وَهُوَ أَوْلى مِنْ الصَّرْفِ إلى بَيْتِ المَال ; لأَنَّهُ رُبَّمَا صَرَفَ عَنْ فَسَادِ بَيْتِ المَال إلى غَيْرِ مَصْرِفِهِ وَأَيْضًا فَالفُقَرَاءُ مُسْتَحِقُّونَ مِنْ مَال بَيْتِ المَال فَإِذَا وَصَل لهُمْ هَذَا المَال عَلى غَيْرِ يَدِ الإِمَامِ فَقَدْ حَصَل المَقْصُودُ , وَلهَذَا قُلنَا عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ: إذَا فَرَّقَ الأَجْنَبِيُّ الوَصِيَّةَ وَكَانَتْ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالفُقَرَاءِ فَإِنَّهَا تَقَعُ المَوْقِعَ , وَلا يَضْمَنُ كَمَا لوْ كَانَتْ الوَصِيَّةُ

لمُعَيَّنٍ , وَعَلى هَذَا الأَصْل يَتَخَرَّجُ جَوَازُ أَخْذِ الفُقَرَاءِ الصَّدَقَةَ مِنْ يَدِ مَنْ مَالهُ حَرَامٌ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَأَفْتَى القَاضِي بِجَوَازِهِ.
وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ وَدَائِعُ فَوَكَّل فِي دَفْعِهَا ثُمَّ مَاتَ وَجُهِل رَبُّهَا وَأَيِسَ مِنْ الاطِّلاعِ عَليْهِ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَنْهُ الوَكِيل وَوَرَثَةُ المُوَكِّل فِي البَلدِ الذِي كَانَ صَاحِبُهَا فِيهِ حَيْثُ يَرَوْنَ أَنَّهُ كَانَ , وَهُمْ ضَامِنُونَ إذَا ظَهَرَ لهُ وَارِثٌ , وَاعْتِبَارُ الصَّدَقَةِ فِي مَوْضِعِ المَالكِ مَعَ الجَهْل بِهِ , وَقَدْ نَصَّ عَلى مِثْلهِ فِي الغَصْبِ وَفِي مَال الشُّبْهَةِ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ عُمَرَ جَعَل الدِّيَةَ عَلى أَهْل القَرْيَةِ يَعْنِي إذَا جُهِل القَاتِل وَوَجْهُ الحُجَّةِ مِنْهُ أَنَّ الغُرْمَ لمَّا اخْتَصَّ بِأَهْل المَكَانِ الذِي فِيهِ الجَانِي ; لأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الجَانِيَ أَوْ عَاقِلتَهُ المُخْتَصَّيْنِ بِالغُرْمِ لا يَخْلو المَكَانُ مِنْهُمْ فَكَذَلكَ الصَّدَقَةُ بِالمَال المَجْهُول مَالكُهُ يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ بِأَهْل مَكَانِهِ ; لأَنَّهُ أَقْرَبُ إلى وُصُول المَال إليْهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ إلى وَرَثَتِهِ وَيُرَاعَى فِي ذَلكَ الفُقَرَاءُ ; لأَنَّهَا صَدَقَةٌ كَمَا يُرَاعَى فِي مَوْضِعِ الدِّيَةِ الغَنِيُّ
ومنها: الغُصُوبَ التِي جُهِل رَبُّهَا فَيَتَصَدَّقُ بِهَا أَيْضًا وَقَدْ نَصَّ عَلى ذَلكَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ وَلمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ فِيهِ خِلافًا وَطَرَدَ القَاضِي فِي كِتَابِ الرِّوَايَتَيْنِ فِيهِ الخِلافَ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لبَيْتِ المَال وَكَذَلكَ حُكْمُ المَسْرُوقِ وَنَحْوِهِ نَصَّ عَليْهِ.
وَلوْ مَاتَ المَالكُ وَلا وَارِثَ لهُ يُعْلمُ فَكَذَلكَ يُتَصَدَّقُ بِهِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ أَيْضًا.
تَنْبِيهَانِ: أَحَدُهُمَا: الدُّيُونُ المُسْتَحَقَّةُ كَالأَعْيَانِ يُتَصَدَّقُ بِهَا عَنْ مُسْتَحَقِّهَا نَصَّ عَليْهِ وَمَعَ أَنَّهُ نَصَّ عَلى أَنَّ مَنْ قَال لغَرِيمِهِ: تَصَدَّقْ عَنِّي بِالدَّيْنِ الذِي لي عَليْكَ لمْ يَبْرَأْ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ , وَلوْ وَكَّلهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ لمْ يَتَعَيَّنْ المَدْفُوعُ مِلكًا لهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ لا يَتَعَيَّنُ مِلكُهُ فِيهِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَوْ قَبْضِ وَكِيلهِ وَفَرَّقَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ المَأْمُورُ بِالدَّفْعِ إليْهِ مُعَيَّنًا أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بَرِئَ بِالدَّفْعِ إليْهِ كَالوَكِيل وَخَرَّجَ فِي المُجَرَّدِ المَسْأَلةَ عَلى بَيْعِ الوَكِيل مِنْ نَفْسِهِ نَظَرًا إلى أَنَّ العِلةَ هِيَ القَبْضُ مِنْ نَفْسِهِ حَيْثُ وَكَّلهُ المَالكُ فِي التَّعْيِينِ وَالقَبْضِ , وَقَدْ أَطْلقَ هَاهُنَا جَوَازَ الصَّدَقَةِ بِهِ , فَأمَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا رِوَايَةً ثَانِيَةً بِالجَوَازِ مُطْلقًا أَوْ مَحْمُولاً عَلى حَالةِ تَعَذُّرِ وُجُودِ المَالكِ أَوْ وَكِيلهِ وَهُوَ الأَقْرَبُ , وَكَذَلكَ نَصَّ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ فِيمَنْ عَليْهِ دَيْنٌ لرَجُلٍ قَدْ مَاتَ وَعَليْهِ دُيُونٌ للنَّاسِ فَقَضَى عَنْهُ دِينَهُ بِالدَّيْنِ الذِي عَليْهِ أَنَّهُ يَبْرَأُ بِهِ فِي البَاطِنِ.
وَالثَّانِي: إذَا أَرَادَ مَنْ بِيَدِهِ عَيْنٌ جُهِل رَبُّهَا أَنْ يَتَمَلكَهَا وَيَتَصَدَّقَ , بِقِيمَتِهَا عَنْ مَالكِهَا فَنَقَل صَالحٌ

عَنْ أَبِيهِ الجَوَازَ فِيمَنْ اشْتَرَى آجُرًّا وَعَلمَ أَنَّ البَائِعَ بَاعَ مَا لا يَمْلكُ وَلا يَعْرِفُ لهُ أَرْبَابًا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ قِيمَةَ الآجُرِّ فَيَتَصَدَّقَ بِهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ إثْمِهِ , وَقَدْ يَتَخَرَّجُ فِيهِ الخِلافُ مِنْ جَوَازِ شِرَاءِ الوكِيل مِنْ نَفْسِهِ وَيَشْهَدُ لهُ اخْتِلافُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ فِيمَنْ لهُ دَيْنٌ وَعِنْدَهُ رَهْنٌ وَانْقَطَعَ خَبَرُ صَاحِبِهِ وَبَاعَهُ هَل لهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْهُ وَيَتَصَدَّقَ بِالفَاضِل أَمْ يَتَصَدَّقَ بِهِ كُلهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ ; لأَنَّ فِيهِ اسْتِيفَاءً للحَقِّ بِنَفْسِهِ مِنْ تَحْتَ يَدِهِ وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ جَوَازَهُ مُطْلقًا وَخَرَّجَهُ مِنْ بَيْعِ الوَكِيل مِنْ نَفْسِهِ وَمِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ.

القاعدة الثامنة والتسعون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَنْ ادَّعَى شَيْئًا وَوَصَفَهُ دُفِعَ إليْهِ بِالصِّفَةِ إذَا جُهِل رَبُّهُ وَلمْ يَثْبُتْ عَليْهِ يَدٌ مِنْ جِهَةِ مَالكِهِ وَإِلا فَلا.
وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: اللقَطَةُ يَجِبُ دَفْعُهَا إلى وَاصِفِهَا نَصَّ عَليْهِ وَإِنْ وَصَفَهَا اثْنَانِ فَهِيَ لهُمَا , وَقِيل: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا , وَإِنْ اسْتَقْصَى أَحَدُهُمَا الصِّفَاتِ وَاقْتَصَرَ الآخَرُ عَلى القَدْرِ الذِي يُجْزِئُ الدَّفْعَ فَوَجْهَانِ يُخَرَّجَانِ مِنْ التَّرْجِيحِ بِالفِسَاخِ وَالنِّتَاجِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ.
ومنها: الأَمْوَال المَغْصُوبَةُ وَالمَنْهُوبَةُ وَالمَسْرُوقَةُ كَالمَوْجُودَةِ مَعَ اللصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِمْ يُكْتَفَى فِيهَا بِالصِّفَةِ.
ومنها: تَدَاعِي المُؤَجِّرِ وَالمُسْتَأْجِرِ دَفْنًا فِي الدَّارِ فَهُوَ لوَاصِفِهِ مِنْهُمَا نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ الفَضْل بْنِ زِيَادٍ
ومنها: اللقِيطُ إذَا تَنَازَعَ اثْنَانِ أَيُّهُمَا التَقَطَهُ وَليْسَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَمَنْ وَصَفَهُ مِنْهُمَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ.
ومنها: لوْ وَجَدَ مَالهُ فِي الغَنِيمَةِ قَبْل القِسْمَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ بِالوَصْفِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يَدُل عَلى أَنَّهُ لهُ ,هَذَا ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ وَسُئِل أَتَزِيدُ عَلى ذَلكَ بَيِّنَةً؟ قَال: لا بُدَّ مِنْ بَيَانٍ يَدُل عَلى أَنَّهُ لهُ وَإِنْ عَلمَ ذَلكَ دَفَعَهُ إليْهِ الأَمِيرُ انْتَهَى , وَقَدْ قَضَى سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِيهَا بِالعَلامَةِ المَحْضَةِ.

القاعدة التاسعة والتسعون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالتِّسْعُونَ:
مَا تَدْعُوَا الحَاجَةُ إلى الانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ الأَعْيَانِ وَلا ضَرَرَ فِي بَذْلهِ لتَيْسِيرِهِ وَكَثْرَةِ وُجُودِهِ أَوْ المَنَافِعِ المُحْتَاجِ إليْهَا يَجِبُ بَذْلهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي الأَظْهَرِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ مَسَائِل:
منها: الهِرُّ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ عَلى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ وَثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلمٍ النَّهْيُ عَنْهُ.
وَمَأْخَذُ المَنْعِ مَا ذَكَرْنَا.
ومنها: المَاءُ الجَارِي وَالكَلأُ يَجِبُ بَذْل الفَاضِل مِنْهُ للمُحْتَاجِ إلى الشُّرْبِ وَاسِقَاءِ بَهَائِمِهِ وَكَذَلكَ زُرُوعُهُ عَلى الصَّحِيحِ أَيْضًا , وَسَوَاءٌ قُلنَا يَمْلكُهُ مَنْ هُوَ فِي أَرْضِهِ أَمْ لا وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَأْخَذَ المَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ مَا ذَكَرْنَا لا أَنَّهُ غَيْرُ مَمْلوكٍ بِمِلكِ الأَرْضِ فَإِنَّ النُّصُوصَ مُتَكَاثِرَةٌ عَنْ أَحْمَدَ بتملكه المُبَاحَاتِ النَّابِتَةِ فِي الأَرْضِ , وَيَشْهَدُ لهُ أَيْضًا مَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي اللقَّاطِ لا أَرَى لصَاحِبِ الأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ النَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّهُ مَمْلوكٌ لهُ بِلا إشْكَالٍ وَلا يُقَال زَال مِلكُهُ عَنْهُ بِمَصِيرِهِ مَنْبُوذًا مَرْغُوبًا عَنْهُ ; لأَنَّ المَنْعَ وَالبَيْعَ يُنَافِي ذَلكَ.
ومنها: وَضْعُ الخَشَبِ عَلى جِدَارِ الجَارِ إذَا لمْ يَضُرَّ وَكَذَلكَ إجْرَاءُ المَاء عَلى أَرْضِهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
ومنها: إعَارَةُ الحُليِّ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الأَصْحَابِ وُجُوبُهُ وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ بَذْل المَاعُونِ وَهُوَ مَا خَفَّ قَدْرُهُ وَسَهُل كَالدَّلوِ وَالفَأْسِ وَالقِدْرِ وَالمُنْخُل وَإِعَارَةِ الفَحْل للضِّرَابِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الحَارِثِيِّ وَإِليْهِ مَيْل الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ.
ومنها: المُصْحَفُ تَجِبُ عَليْهِ إعَارَتُهُ لمَنْ احْتَاجَ إلى القِرَاءَةِ فِيهِ وَلمْ يَجِدْ مُصْحَفًا غَيْرَهُ نَقَلهُ القَاضِي فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي كَلامٍ مُفْرَدٍ لهُ أَنَّ الأَصْحَابَ عَللوا قَوْلهُمْ: لا يُقْطَعُ لسَرِقَةِ المُصْحَفِ فَإِنَّ لهُ فِيهِ حَقَّ النَّظَرِ لاسْتِخْرَاجِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ إذَا خَفِيَتْ عَليْهِ وَعَلى صَاحِبِهِ بَذْلهُ كَذَلكَ قَال ابْنُ عَقِيلٍ وَهَذَا تَعْليلٌ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ سَرِقَتِهِ وَسَرِقَةِ كُتُبِ السُّنَنِ فَإِنَّهَا مُضَمَّنَةٌ مِنْ الأَحْكَامِ أَمْثَال ذَلكَ.
وَالحَاجَةُ دَاعِيَةٌ إليْهَا وَبَذْلهَا مِنْ المَحَاوِيجِ إليْهَا مِنْ القُضَاةِ وَالحُكَّامِ وَأَهْل الفَتَاوَى وَاجِبٌ عَلى مَالكِهَا انْتَهَى.
ومنها: ضِيَافَةُ المُجْتَازِينَ.
المَذْهَبُ وُجُوبُهَا وَأَمَّا إطْعَامُ المُضْطَرِّينَ فَوَاجِبٌ لكِنْ لا يَجِبُ بَذْلهُ مَجَّانًا بَل بِالعِوَضِ , وَأَمَّا المَنَافِعُ المُضْطَرُّ إليْهَا كَمَنْفَعَةِ الظَّهْرِ للمُنْقَطِعِينَ فِي الأَسْفَارِ وَإِعَارَةِ مَا يُضْطَرُّ إليْهِ فَفِي وُجُوبِ بَذْلهَا مَجَّانًا وَجْهَانِ وَاخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّ المُضْطَرَّ إلى الطَّعَامِ إنْ كَانَ فَقِيرًا وَجَبَ

بَذْلهُ لهُ مَجَّانًا ; لأَنَّ إطْعَامَهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ لا يَجُوزُ أَخْذُ العِوَضِ عَنْهُ بِخِلافِ الغَنِيِّ فَإِنَّ الوَاجِبَ مُعَاوَضَتُهُ فَقَطْ وَهَذَا حَسَنٌ , وَحَكَى الآمِدِيُّ رِوَايَةً أَنَّهُ لا يَضْمَنُ المُضْطَرُّ الطَّعَامَ الذِي أَخَذَهُ مِنْ صَاحِبِهِ قَهْرًا لمَنْعِهِ إيَّاهُ.
ومنها: رِبَاعُ مَكَّةَ لا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلا إجَارَتُهَا عَلى المَذْهَبِ المَنْصُوصِ وَاخْتُلفَ فِي مَأْخَذِهِ فَقِيل ; لأَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً فَصَارَتْ وَقْفًا أَوْ فَيْئًا فَلا مِلكَ فِيهَا لأَحَدٍ وَعَلى هَذَا فَيَنْبَنِي الخِلافُ فِي البَيْعِ وَالإِجَارَةِ عَلى الخِلافِ فِي فَتْحِهَا عَنْوَةً أَوْ صُلحًا , وَقِيل بَل ; لأَنَّ الحَرَمَ حَرِيمُ البَيْتِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَقَدْ جَعَلهُ اللهُ للنَّاسِ سَوَاءٌ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ , فَلا يَجُوزُ لأَحَدٍ التَّخْصِيصَ بِمِلكهِ وَتَحْجِيرَهُ بَل الوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ فِيهِ شَرْعًا وَاحِدًا لعُمُومِ الحَاجَةِ إليْهِ فَمَنْ احْتَاجَ إلى مَا بِيَدِهِ مِنْهُ سَكَنَهُ وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهُ وَجَبَ بَذْل فَاضِلهِ للمُحْتَاجِ إليْهِ وَهُوَ مَسْلكُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ وَسَلكَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَيْضًا وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَتَرَدَّدَ كَلامُهُ فِي جَوَازِ البَيْعِ فَأَجَازَهُ مَرَّةً كَبَيْعِ أَرْضِ العَنْوَةِ عِنْدَهُ وَيَكُونُ نَقْلاً لليَدِ بِعِوَضٍ وَمَنَعَهُ فِي أُخْرَى إذْ الأَرْضُ وَأَبْعَاضُ البِنَاءِ مِنْ الحَرَمِ غَيْرُ مَمْلوكٍ للبَانِي وَإِنَّمَا لهُ التَّأْليفُ وَقَدْ رَجَّحَ بِهِ بِتَقْدِيمِهِ فِي الانْتِفَاعِ كَمَنْ بَنَى فِي أَرْضٍ مُسَبَّلةٍ للسُّكْنَى بِنَاءً مِنْ تُرَابِهَا وَأَحْجَارِهَا وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى جَوَازِ البَيْعِ دُونَ الإِجَارَةِ وَتَأَوَّلهُ القَاضِي وَعَلى هَذَا المَأْخَذِ فَقَدْ يَخْتَصُّ البَيْعُ بِالقَوْل بِفَتْحِهَا عَنْوَةً لمَصِيرِ الأَرْضِ فَيْئًا.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ عَلى أَنَّ عِلةَ الكَرَاهَةِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً فَصَارَ المُسْلمُونَ فِيهَا شِرْكًا وَاحِدًا قَال: وَعُمَرُ إنَّمَا تَرَكَ السَّوَادَ لذَلكَ قَال: وَلا يُعْجِبُنِي مَنَازِل السَّوَادِ وَلا أَرْضَهُمْ وَهَذَا نَصٌّ بِكَرَاهَةِ المَنْعِ فِي سَائِرِ أَرَاضِي العَنْوَةِ وَبِكُل حَالٍ فَلا يَجِبُ الإِسْكَانُ فِي دُورِ مَكَّةَ إلا فِي الفَاضِل عَنْ حَاجَةِ السَّاكِنِ نَصَّ عَليْهِ

القاعدة المائة
القَاعِدَةُ المِائَةُ:
الوَاجِبُ بِالنَّذْرِ.
هَل يَلحَقُ الوَاجِبُ بِالشَّرعِ أَوْ بِالمَنْدُوبِ؟ فِيهِ خِلافٌ يَتَنَزَّل عَليْهِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
منها: الأَكْل مِنْ أُضْحِيَّةِ النَّذْرِ وَفِيهِ وَجْهَانِ اخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ الجَوَازَ.
ومنها: فِعْل الصَّلاةِ المَنْذُورَةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا الجَوَازُ.

ومنها: نَذْرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالصَّلاةِ فِي وَقْتِ النَّهْيِ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهُ كَنَذْرِ المَعْصِيَةِ ; لأَنَّ المُلزِمَ بِالنَّذْرِ هُوَ التَّطَوُّعُ المُطْلقُ.
ومنها: لوْ نَذَرَ صَلاةً فَهَل يُجْزِئُهُ رَكْعَةٌ؟ أَمْ لا بُدَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
ومنها: لوْ نَذَرَ عِتْقَ رَقَبَةٍ لمْ يُجْزِئْهُ إلا سَليمَةً ذَكَرَهُ القَاضِي حَمْلاً لهُ عَلى وَاجِبِ الشَّرْعِ وَيُحْتَمَل أَنْ يُجْزِئَهُ مَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ كَالوَصِيَّةِ فَإِنَّ القَاضِيَ سَلمَهَا مَعَ أَنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ وَصَّى بِعِتْقِ رَقَبَةٍ لا يَعْتِقُ عَليْهِ إلا سَليمَةً.

القاعدة الحادية بعد المائة
القَاعِدَةُ الحَادِيَة بَعْدَ المِائَة :
مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ وَأَمْكَنَهُ الإِتْيَانُ بِنِصْفَيْهِمَا مَعًا فَهَل يُجْزِئُهُ أَمْ لا؟ فِيهِ خِلافٌ يَتَنَزَّل عَليْهِ مَسَائِل.
منها: لوْ أَعْتَقَ فِي الكَفَّارَةِ نِصْفَيْ رَقَبَتَيْنِ وَفِيهَا وَجْهَانِ وَقِيل إنْ كَانَ بَاقِيهِمَا حُرًّا أَجْزَأَ وَجْهًا وَاحِدًا لتَكْمِيل الحُرِّيَّةِ , وَخَرَّجُوا عَلى الوَجْهَيْنِ لوْ أَخْرَجَ فِي الزَّكَاةِ نِصْفَيْ شَاتَيْنِ وَزَادَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ لوْ أَهْدَى نِصْفَيْ شَاتَيْنِ وَفِيهِ نَظَرٌ إذْ المَقْصُودُ مِنْ الهَدْيِ اللحْمُ وَلهَذَا أَجْزَأَ فِيهِ شِقْصٌ مِنْ بَدَنَةٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى الإِجْزَاءِ هَاهُنَا.
ومنها: لوْ أَخْرَجَ الجُبْرَانَ فِي زَكَاةِ الإِبِل شَاةً وَعَشْرَةَ دَرَاهِمَ فَهَل يُجْزِئُهُ عَلى وَجْهَيْنِ.
ومنها: لوْ كَفَّرَ يَمِينَهُ بِإِطْعَامِ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةِ خَمْسَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَلى المَشْهُورِ وَفِيهِ وَجْهٌ مَذْكُورٌ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ فِي زَكَاةِ الفِطْرِ.
ومنها: لوْ أَخْرَجَ فِي الفِطْرَةِ صَاعًا مِنْ جِنْسَيْنِ وَالمَذْهَبُ الإِجْزَاءُ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ.
ومنها: لوْ كَفَّرَ فِي مَحْظُورَاتِ الحَجِّ بِصِيَامِ يَوْمٍ وَإِطْعَامِ أَرْبَعَةِ مَسَاكِينَ فَالأَظْهَرُ مَنْعُهُ , وَفِي أَحْكَامِ القُرْآنِ للقَاضِي يُحْتَمَل الجَوَازُ ; لأَنَّهَا عَلى التَّخْيِيرِ بِخِلافِ كَفَّارَةِ اليَمِينِ.
وَعَلى قِيَاسِ هَذَا لوْ أَعْتَقَ فِي كَفَّارَةِ اليَمِينِ ثُلثَ رَقَبَةٍ وَأَطْعَمَ أَرْبَعَةَ مَسَاكِينَ وَكَسَا أَرْبَعَةً أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَفِيهِ بُعْدٌ.
ومنها: لوْ أَخْرَجَ عَنْ أَرْبَعِمِائَةٍ مِنْ الإِبِل أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَخَمْسُ بَنَاتِ لبُونٍ أَجْزَأَ بِغَيْرِ خِلافٍ عِنْدَنَا ; لأَنَّهُ عَمَلٌ بِمُقْتَضَى قَوْلهِ فِي كُل أَرْبَعِينَ بِنْتُ لبُونٍ وَفِي كُل خَمْسِينَ حِقَّةٍ وَلأَنَّ هَذِهِ وَاجِبَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَهِيَ كَكَفَّارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَإِنْ أَخْرَجَ بِتَشْقِيصٍ كَمَا لوْ أَخْرَجَ عَنْ مِائَتَيْنِ حِقَّتَيْنِ وَبِنْتَيْ لبُونٍ وَنِصْفًا فَهُوَ كَإِخْرَاجِ نِصْفَيْ شَاتَيْنِ عَلى مَا سَبَقَ.

القاعدة الثانية بعد المائة
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
مَنْ أَتَى بِسَبَبٍ يُفِيدُ المِلكَ أَوْ الحِل أَوْ يُسْقِطُ الوَاجِبَاتِ عَلى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ وَكَانَ مِمَّا تَدْعُو النُّفُوسُ إليْهِ أَلغَى ذَلكَ السَّبَبَ وَصَارَ وُجُودُهُ كَالعَدَمِ وَلمْ يَتَرَتَّبْ عَليْهِ أَحْكَامُهُ وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
منها: الفَارُّ مِنْ الزَّكَاةِ قَبْل تَمَامِ الحَوْل بِتَنْقِيصِ النِّصَابِ أَوْ إخْرَاجِهِ عَنْ مِلكِهِ تَجِبُ عَليْهِ الزَّكَاةُ وَلوْ صَرَفَ أَكْثَرَ أَمْوَالهِ فِي مِلكِ مَا لا زَكَاةَ فِيهِ كَالعَقَارِ وَالحُليِّ فَهَل يَنْزِل مَنْزِلةَ الفَارِّ عَلى وَجْهَيْنِ؟.
ومنها: المُطلقُ فِي مَرَضِهِ لا يَقْطَعُ طَلاقُهُ حَقَّ الزَّوْجَةِ مِنْ إرْثِهَا مِنْهُ إلا أَنْ تَنْتَفِيَ التُّهَمُ بِسُؤَال الزَّوْجَةِ وَنَحْوِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
ومنها: القَاتِل لمَوْرُوثِهِ لا يَرِثُهُ , وَسَوَاءٌ كَانَ مُتَّهَمًا أَوْ غَيْرَ مُتَّهَمٍ عِنْدَ أَكْثَرِ الأَصْحَابِ وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَعُمَدُ الأَدِلةِ وَجْهًا أَنَّهُ مَتَى انْتَفَتْ التُّهْمَةُ كَقَتْل الصَّبِيِّ وَالمَجْنُونِ لمْ يَمْتَنِعْ الإِرْثُ قَال وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي.
ومنها: قَتْل المُوصَى لهُ المُوصِي بَعْدَ الوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ تَبْطُل الوَصِيَّةُ رِوَايَةً وَاحِدَةً عَلى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ.
ومنها: السَّكْرَانُ بِشُرْبِ الخَمْرِ عَمْدًا يُجْعَل كَالصَّاحِي فِي أَقْوَالهِ وَأَفْعَالهِ فِيمَا عَليْهِ فِي المَشْهُورِ مِنْ المَذْهَبِ بِخِلافِ مَنْ سَكِرَ بِبَنْجٍ أَوْ نَحْوِهِ.
ومنها: لوْ أَزَال عَقْلهُ بِأَنْ ضَرَبَ رَأْسَهُ فَجُنَّ فَإِنَّهُ لا يَقَعُ طَلاقُهُ عَلى المَنْصُوصِ ; لأَنَّ ذَلكَ مِمَّا لا تَدْعُو النُّفُوسُ إليْهِ بَل فِي الطَّبْعِ وَازِعٌ عَنْهُ , وَكَذَلكَ لا يَجِبُ عَليْهِ قَضَاءُ الصَّلاةِ إذَا جُنَّ فِي هَذِهِ الحَالةِ عَلى الصَّحِيحِ.
ومنها: تَخْليل الخَمْرِ لا يُفِيدُ حِلهُ وَلا طَهَارَتَهُ عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
ومنها: ذَبْحُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ المُحْرِمِ لا يُبِيحُهُ بِالكُليَّةِ وَذَبْحُ المُحِل للمُحْرِمِ لا يُبِيحُهُ للمُحْرِمِ المَذْبُوحِ لهُ وَفِي حِلهِ لغَيْرِهِ مِنْ المُحْرِمِينَ وَجْهَانِ , وَلا يُرَدُّ عَلى هَذَا ذَبْحُ الغَاصِبِ وَالسَّارِقِ ; لأَنَّ ذَبْحَهُمَا لا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ الإِبَاحَةُ لهُمَا فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلى مِلكِ المَالكِ وَلا إبَاحَةَ بِدُونِ إذْنِهِ مَعَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ التَزَمَ تَحْرِيمَهُ مُطْلقًا وَحَكَاهُ رِوَايَةً. وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ

قَاعِدَةٌ:
مَنْ تَعَجَّل حَقَّهُ أَوْ مَا أُبِيحَ لهُ قَبْل وَقْتِهِ عَلى وَجْهِ مُحْرِمٍ عُوقِبَ بِحِرْمَانِهِ وَيَدْخُل فِيهَا مِنْ مَسَائِل:
الأُولى: مَسْأَلةُ قَتْل المَوْرُوثِ وَالمُوصَى لهُ.
ومنها: الغَال مِنْ الغَنِيمَةِ يَحْرُمُ أَسْهُمُهُ مِنْهَا عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
ومنها: مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا حُرِّمَتْ عَليْهِ عَلى التَّأْبِيدِ عَلى رِوَايَةٍ.
ومنها: مَنْ تَزَوَّجَتْ بِعَبْدِهَا فَإِنَّهُ يَحْرُمُ عَليْهَا عَلى التَّأْبِيدِ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ ذَكَرَهُ الخَلال فِي أَحْكَامِ العَبِيدِ عَنْ الخَضِرِ بْنِ المُثَنَّى الكِنْدِيِّ عَنْهُ.
وَالخَضِر ُهذا مَجْهُولٌ تَفَرَّدَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بِرِوَايَةِ المَنَاكِيرِ التِي لا يُتَابَعُ عَليْهَا.
ومنها: مَنْ اصْطَادَ صَيْدًا قَبْل أَنْ يَحِل مِنْ إحْرَامِهِ لمْ يَحِل لهُ وَإِنْ تَحَلل حَتَّى يُرْسِلهُ وَيُطْلقَهُ وَأَمَّا إذَا قَتَل الغَرِيمُ غَرِيمَهُ فَإِنَّهُ يَحِل دَيْنُهُ عَليْهِ كَمَا لوْ مَاتَ صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ.
وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَحِل طَرْدًا للقَاعِدَةِ.

القاعدة الثالثة بعد المائة
القَاعِدَة الثَّالثَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
الفِعْل الوَاحِدُ يُبْنَى بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ مَعَ الاتِّصَال المُعْتَادِ وَلا يَنْقَطِعُ بِالتَّفَرُّقِ اليَسِيرِ وَلذَلكَ صُوَرٌ:
منها: مُكَاثَرَةُ المَاءِ النَّجَسِ القَليل بِالمَاءِ الكَثِيرِ يُعْتَبَرُ لهُ الاتِّصَال المُعْتَادُ دُونَ صَبِّ القُلتَيْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
ومنها: الوُضُوءُ إذَا اُعْتُبِرَ حَالةُ المُوَالاةِ لمْ يَقْطَعْهُ التَّفَرُّقُ اليَسِيرُ , وَهَل الاعْتِبَارُ بِالعُرْفِ أَوْ بِجَفَافِ الأَعْضَاءِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
ومنها: الصَّلاةُ يَجُوزُ البِنَاءُ عَليْهَا إذَا سَلمَ سَاهِيًا مَعَ قُرْبِ الفَصْل وَلا تَبْطُل بِذَلكَ.
ومنها: المُسَافِرُ إذَا أَقَامَ مُدَّةَ يَوْمَيْنِ فَهُوَ سَفَرٌ وَاحِدٌ يَنْبَنِي بَعْضُهُ عَلى بَعْضٍ وَإِنْ زَادَ لمْ يَبْنِ.

ومنها: إذَا تَرَكَ العَمَل فِي المَعْدِنِ التَّرْكَ المُعْتَادَ أَوْ لعُذْرٍ وَلمْ يَقْصِدْ الإِهْمَال ثُمَّ عَادَ إلى الاسْتِخْرَاجِ ضُمَّ الأَوَّل إلى الثَّانِي فِي النِّصَابِ.
ومنها: الطَّوَافُ إذَا تَخَللهُ صَلاةٌ مَكْتُوبَةٌ أَوْ جِنَازَةٌ يُبْنَى عَليْهِ سَوَاءٌ قُلنَا المُوَالاةُ سُنَّةٌ أَوْ شَرْطٌ عَلى أَشْهَرِ الطَّرِيقَيْنِ للأَصْحَابِ.
ومنها: لوْ حَلفَ لا أَكَلت إلا أَكْلةً وَاحِدَةً فِي يَوْمِي هَذَا فَأَكَل مُتَوَاصِلاً لمْ يَحْنَثْ وَإِنْ تَفَرَّقَ التَّفَرُّقَ المُعْتَادَ عَلى الأَكْلةِ الوَاحِدَةِ وَلوْ طَال زَمَنُ الأَكْل وَإِنْ قَطَعَ ثُمَّ عَادَ بَعْدَ طُول الفَصْل حَنِثَ.
ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي القَطْعِ فِي السَّرِقَةِ وَالآمِدِيُّ.
وَقِيَاسُهُ لوْ حَلفَ لا وَطِئَهَا إلا مَرَّةً وَاحِدَةً فَإِنَّ الوَطْءَ فِي العُرْفِ عِبَارَةٌ عَنْ الوَطْءِ التَّامِّ المُسْتَدَامِ إلى الإِنْزَال وَلا يَبْعُدُ أَنْ يُقَال مِثْلهُ فِيمَنْ رَتَّبَ عَلى مُطْلقِ الوَطْءِ.
وَفِي التَّرْغِيبِ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَصْحَابِنَا فِيمَا إذَا قَال إنْ وَطِئْتُكِ فَوَاَللهِ لا وَطِئْتُكِ وَلكِنَّ مَنْصُوصَ الحِنْثِ بِالتِقَاءِ الخِتَانَيْنِ , وَقَدْ ذَكَرَ القَاضِي وَجْهًا أَنَّهُ لا حَقَّ عَلى مَنْ أَكْمَل الوَطْءَ المُعَلقَ عَليْهِ الطَّلاقُ الثَّلاثُ بِإِتْمَامِهِ إلى الإِنْزَال
ومنها: لوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ مِنْ الحِرْزِ بَعْضَ النِّصَابِ ثُمَّ دَخَل وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لا يَبْلغُ نِصَابًا فَإِنْ لمْ يَطُل الفَصْل بَيْنَهُمَا قُطِعَ وَإِنْ طَال فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي فِي خِلافِهِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ عَنْهُ فِي التَّرْغِيبِ وَقَال: اخْتَارَ بَعْضُ شُيُوخِي أَنَّهُ لا قَطْعَ مَعَ طُول الفَصْل.
ومنها: إذَا تَرَكَ المُرْتَضِعُ الثَّدْيَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَادَ إليْهِ قَبْل طُول الفَصْل فَهِيَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ عِنْدَ ابْنِ حَامِدٍ وَكَذَا ذَكَرَ الآمِدِيُّ أَنَّهُ لوْ قَطَعَ بِاخْتِيَارِهِ لتَنَفُّسٍ أَوْ إعْيَاه يَلحَقُهُ ثُمَّ عَادَ وَلمْ يَطُل الفَصْل فَهِيَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ قَال: وَلوْ انْتَقَل مِنْ ثَدْيٍ إلى آخَرَ وَلمْ يَطُل الفَصْل فَإِنْ كَانَ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَهِيَ رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ امْرَأَتَيْنِ فَوَجْهَانِ , وَحَكَى أَبُو الخَطَّابِ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ نَحْوَ ذَلكَ فِي جَمِيعِ الصُّوَرِ إلا فِي صُورَةِ المَرْأَتَيْنِ وَذَكَرَ أَنَّهَا ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ وَحَكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا تَكُونُ رَضْعَتَيْنِ فِي جَمِيعِ ذَلكَ وَأَنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَاَللهُ أَعْلمُ.

القاعدة الرابعة بعد المائة
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ بَعْدَالمائة:
الرِّضَا بِالمَجْهُول قَدْرًا أَوْ وَصْفًا هَل هُوَ رِضًا مُعْتَبَرٌ لازِمٌ؟ إنْ كَانَ المُلتَزَمُ عَقْدًا أَوْ فَسْخًا يَصِحُّ إبْهَامُهُ بِالنِّسْبَةِ إلى أَنْوَاعِهِ أَوْ إلى أَعْيَانِ مَنْ يَرِدُ عَليْهِ صَحَّ الرِّضَا بِهِ وَأُلزِمَ بِغَيْرِ خِلافٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذَلكَ فَفِيهِ خِلافٌ.
فَالأَوَّل لهُ صُوَرٌ:

منها: أَنْ يُحْرِمَ مِنْهَا بِمِثْل مَا أَحْرَمَ بِهِ فُلانٌ أَوْ بِأَحَدِ الأَنْسَاكِ فَيَصِحُّ.
ومنها: إذَا طَلقَ إحْدَى زَوْجَاتِهِ فَيَصِحُّ وَتَعَيَّنَ بِالقُرْعَةِ عَلى المَذْهَبِ.
ومنها: لوْ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبِيدِهِ فَيَصِحُّ وَيُعَيِّنُ بِالقُرْعَةِ أَيْضًا عَلى الصَّحِيحِ ,.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلهُ صُوَرٌ:
منها: إذَا طَلقَ بِلفْظٍ أَعْجَمِيٍّ مَنْ لا يَفْهَمُ مَعْنَاهُ وَالتَزَمَ مُوجَبَهُ عِنْدَ أَهْلهِ فَفِي لزُومِ الطَّلاقِ لهُ وَجْهَانِ , وَالمَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ أَبِي الحَارِثِ أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ الطَّلاقُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرِينَ.
ومنها: إذَا طَلقَ العَجَمِيُّ بِلفْظِ الطَّلاقِ وَلمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ وَلكِنَّهُ التَزَمَ مُوجَبَهُ عِنْدَ العَرَبِ فِيهِ الخِلافُ.
ومنها: إذَا عَتَقَ العَجَمِيُّ أَوْ العَرَبِيُّ بِغَيْرِ لغَتِهِ وَلمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ فَفِيهِ خِلافٌ وَنَصَّ أَحْمَدُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ أَنَّهُ لا يَلزَمُ العِتْقُ.
ومنها: إذَا قَال لامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالقٌ مِثْل مَا طَلقَ فُلانٌ زَوْجَتَهُ.
وَلمْ يَعْلمْ فَهَل يَلزَمُهُ مِثْل طَلاقِ فُلانٍ بِكُل حَالٍ أَوْ لا يَلزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
ومنها: إذَا قَال: أَيْمَانُ البَيْعَةِ تَلزَمُنِي لأَفْعَلنَّ كَذَا وَلمْ يَعْلمْ مَا هِيَ فِيهِ.
وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: لا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ بِالكُليَّةِ.
وَالثَّانِي: تَنْعَقِدُ إذَا لزِمَهَا وَنَوَاهَا وَبِهِ أَفْتَى أَبُو القَاسِمِ الخِرَقِيِّ فِيمَا حَكَى عَنْهُ ابْنُ بَطَّةَ , قَال أَبُو القَاسِمِ: وَكَانَ أَبِي يَتَوَقَّفُ فِيهَا وَلا يُجِيبُ فِيهَا بِشَيْءٍ: وَالثَّالثُ يَنْعَقِدُ فِيمَا عَدَا اليَمِينِ بِاَللهِ بِشَرْطِ النِّيَّةِ بِنَاءً عَلى أَنَّ اليَمِينَ بِاَللهِ لا تَصِحُّ بِالكِتَابَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ أَنَّهُ يَلزَمُهُ مُوجَبُهَا نَوَاهَا أَوْ لمْ يَنْوِهَا وَصَرَّحَ بِهِ أَيْضًا فِي بَعْضِ تَعَاليقِهِ وَقَال: لأَنَّ مِنْ أَصْلنَا وُقُوعَ الطَّلاقِ وَالعَتَاقِ بِالكِتَابَةِ بِالخَطِّ وَإِنْ لمْ يَنْوِهِ.
ومنها: لوْ قَال: أَيْمَانُ المُسْلمِينَ تَلزَمُنِي فَفِي الخِلافِ للقَاضِي يَلزَمُهُ اليَمِينُ بِاَللهِ تَعَالى وَالطَّلاقُ وَالعَتَاقُ وَالظِّهَارُ وَالنَّذْرُ نَوَى ذَلكَ أَوْ لمْ يَنْوِهِ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلى قَوْلهِ فِي أَيْمَانِ البَيْعَةِ قَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: وَذَكَرَهُ اليَمِينُ بِاَللهِ تَعَالى وَالنَّذْرُ مَبْنِيٌّ عَلى قَوْلنَا بِعَدَمِ تَدَاخُل كَفَّارَاتِهِمَا.
فَأَمَّا عَلى قَوْلنَا بِالتَّدَاخُل فَيُجْزِئُهُ لهُمَا كَفَّارَةُ اليَمِينِ وَقِيَاسُ المَشْهُورِ عَنْ أَصْحَابِنَا فِي يَمِينِ البَيْعَةِ أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَنْوِيَهُ وَيَلزَمُهُ أَوْ لا يَلزَمُهُ شَيْءٌ بِالكُليَّةِ حَتَّى يَعْلمَهُ أَوْ يُفَرَّقَ بَيْنَ اليَمِينِ بِاَللهِ تَعَالى وَغَيْرِهَا , مَعَ أَنَّ صَاحِبَ المُحَرَّرِ لمْ يَحْكِ خِلافًا عَلى اللزُومِ هَاهُنَا وَإِنْ لمْ يَنْوِهَا ; لأَنَّ أَيْمَانَ المُسْلمِينَ مَعْرُوفَةٌ بَيْنَهُمْ وَلا سِيَّمَا اليَمِينُ بِاَللهِ وَبِالطَّلاقِ وَالعَتَاقِ بِخِلافِ أَيْمَانِ البَيْعَةِ.

ومنها: البَرَاءَةُ مِنْ المَجْهُول وَأَشْهَرُ الرِّوَايَاتِ: صِحَّتُهَا مُطْلقًا سَوَاءٌ جَهِل المُبَرِّئُ قَدْرَهُ وَوَصْفَهُ أَوْ جَهِلهُمَا مَعًا وَسَوَاءٌ عَرَفَهُ المُبَرِّئُ أَوْ لمْ يَعْرِفْهُ.
وَالثَّانِيَة: لا يَصِحُّ إذَا عَرَفَهُ المُبَرِّئُ سَوَاءٌ عَلمَ المُبَرِّئُ بِمَعْرِفَتِهِ أَوْ لمْ يَعْلمْ وَفِيهِ تَخْرِيجٌ أَنَّهُ إنْ عَلمَ مَعْرِفَتَهُ صَحَّ وَإِنْ ظَنَّ جَهْلهُ لمْ يَصِحَّ ; لأَنَّهُ غَارٌّ لهُ.
وَالثَّالثَةُ: لا يَصِحُّ البَرَاءَةُ مِنْ المَجْهُول وَإِنْ جَهِلاهُ إلا فِيمَا تَعَذَّرَ عِلمُهُ للضَّرُورَةِ وَكَذَلكَ البَرَاءَةُ مِنْ الحُقُوقِ فِي الأَعْرَاضِ وَالمَظَالمِ.
ومنها: البَرَاءَةُ مِنْ عُيُوبِ المَبِيعِ إذَا لمْ يُعَيَّنْ مِنْهَا شَيْءٌ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ لا يَبْرَأُ: وَالثَّانِيَةُ يَبْرَأُ إلا مِنْ عَيْبٍ عَلمَهُ فَكَتَمَهُ لتَغْرِيرِهِ وَغِشِّهِ , وَخَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ وَجْهًا آخَرَ بِالصِّحَّةِ مُطْلقًا مِنْ البَرَاءَةِ مِنْ المَجْهُول.
ومنها: إجَازَةُ الوَصِيَّةِ المَجْهُولةِ وَفِي صِحَّتِهَا وَجْهَانِ.

القاعدة الخامسة بعد المائة
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
فِي إضَافَةِ الإِنْشَاءَاتِ والإخبارات إلى المُبْهَمَاتِ. أَمَّا الإِنْشَاءَاتُ فَمِنْهَا العُقُودُ وَهِيَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: عُقُودُ التَّمْليكَاتِ المَحْضَةِ كَالبَيْعِ وَالصُّلحِ بِمَعْنَاهُ وَعُقُودُ التوثقات كَالرَّهْنِ وَالكَفَالةِ وَالتَّبَرُّعَاتِ اللازِمَةِ بِالعَقْدِ أَوْ بِالقَبْضِ بَعْدَهُ كَالهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ.
فَلا يَصِحُّ فِي مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُتَفَاوِتَةٍ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدٍ وَشَاةٍ مِنْ قَطِيعٍ وَكَفَالةِ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُليْنِ وَضَمَانِ أَحَدِ هَذَيْنِ الدَّيْنَيْنِ , وَفِي الكَفَالةِ احْتِمَالٌ ; لأَنَّهُ تَبَرُّعٌ فَهُوَ كَالإِعَارَةِ وَالإِبَاحَةِ وَيَصِحُّ فِي مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُتَسَاوِيَةٍ مُخْتَلطَةٍ كَقَفِيزِ صُبْرَةٍ فَإِنْ كَانَتْ مُتَمَيِّزَةً مُتَفَرِّقَةً فَفِيهِ احْتِمَالانِ ذَكَرَهُمَا فِي التَّلخِيصِ , وَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي الصِّحَّةُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الخِلافِ أَنَّهُ يَصِحُّ إجَارَةُ عَيْنٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُتَقَارِبَةٍ النَّفْعِ ; لأَنَّ المَنَافِعَ لا تَتَفَاوَتُ كَالأَعْيَانِ وَإِنْ كَانَتْ مُخْتَلفَةً مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَصُبْرَةٍ مُخْتَلفَةِ الأَجْزَاءِ فَوَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: البُطْلانُ كَالأَعْيَانِ المُتَمَيِّزَةِ.
وَالثَّانِي: الصِّحَّةُ وَلهُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ.
وَالثَّانِي: عُقُودُ مُعَاوَضَاتٍ غَيْرُ مُتَمَحِّضَةٍ كَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الخُلعِ وَالصُّلحِ عَنْ دَمِ العَمْدِ فَفِي صِحَّتِهَا عَلى مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ مُخْتَلفَةٍ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا الصِّحَّةُ وَفِي الكِنَايَةِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَذَلكَ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي.
وَالثَّانِي: لا تَصِحُّ وَجْهًا وَاحِدًا ; لأَنَّ عِوَضَهَا مَالٌ مَحْضٌ

وَالثَّالثُ: عَقْدُ تَبَرُّعٍ مُعَلقٌ بِالمَوْتِ فَيَصِحُّ فِي المُبْهَمِ بِغَيْرِ خِلافٍ لمَا دَخَلهُ مِنْ التَّوَسُّعِ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ وَشَاةٍ مِنْ قَطِيعِهِ وَهَل يُعَيِّنُ بِتَعْيِينِ الوَرَثَةِ أَوْ بِالقُرْعَةِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
وَمِثْلهُ عُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ كَإِعَارَةِ أَحَدٍ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ وَإِبَاحَةُ أَحَدٍ هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ , وَكَذَلكَ عُقُودُ المُشَارَكَاتِ وَالأَمَانَاتِ المَحْضَةِ مِثْل أَنْ يَقُول: ضَارِب بِإِحْدَى هَاتَيْنِ المِائَتَيْنِ وَهُمَا فِي كِيسَيْنِ وَدَعْ عِنْدَكَ الأُخْرَى وَدِيعَةً , أَوْ ضَارِب مِنْ هَذِهِ المِائَةِ بِخَمْسِينَ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّمَاثُل ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّلخِيصِ.
فَأَمَّا إنْ كَانَ الإِبْهَامُ فِي التَّمَلكِ فَإِنْ كَانَ عَلى وَجْهٍ يَئُول إلى العِلمِ كَقَوْلهِ: أَعْطُوا أَحَدَ هَذَيْنِ كَذَا صَحَّتْ الوَصِيَّةُ كَمَا لوْ قَال فِي الجَعَالةِ: مَنْ رَدَّ عَبْدِي فَلهُ كَذَا , وَإِنْ كَانَ عَلى وَجْهٍ لا يَؤُول إلى العِلمِ كَالوَصِيَّةِ لأَحَدِ هَذَيْنِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَعَلى الصِّحَّةِ يُمَيِّزُ بِالقُرْعَةِ؟ وَأَمَّا الفُسُوخُ فَمَا وُضِعَ مِنْهَا عَلى التَّغْليبِ وَالسِّرَايَةِ صَحَّ فِي المُبْهَمِ كَالطَّلاقِ وَالعَتَاقِ , وَخَرَّجَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ وَجْهًا فِي الوَقْفِ أَنَّهُ كَالعِتْقِ لمَا فِيهِ مِنْ التَّحْرِيرِ وَالمَذْهَبُ خِلافُهُ ; لأَنَّ الوَقْفَ عَقْدُ تَمْليكٍ فَهُوَ بِالهِبَةِ أَشْبَهُ.
وَأَمَّا الإِخْبَارَاتُ فَمَا كَانَ مِنْهَا خَبَرًا دِينِيًّا أَوْ كَانَ يَجِبُ بِهِ حَقٌّ عَلى المَخْبَرِ قُبْل فِي المُبْهَمِ , فَإِنْ تَعَلقَ بِهِ وُجُوبُ حَقٍّ عَلى غَيْرِهِ لمْ يُقْبَل إلا فِيمَا يَظْهَرُ لهُ فِيهِ عُذْرُ الاشْتِبَاهِ فَفِيهِ خِلافٌ.
وَإِنْ تَعَلقَ بِهِ وُجُوبُ الحَقِّ عَلى غَيْرِهِ لغَيْرِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ إخْبَارِ مَنْ وَجَبَ عَليْهِ الحَقُّ وَيُخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: لوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ كَلبًا وَلغَ فِي أَحَدِ هَذَيْنِ الإِنَائيْنِ لا بِعَيْنِهِ قَبْل وَصَارَ كَمَنْ اشْتَبَهَ عَليْهِ طَاهِرٌ بِنَجَسٍ , وَكَذَلكَ لوْ أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ أَحَدِ الثَّوْبَيْنِ , أَوْ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ اللحْمَيْنِ مَيْتَةٌ وَالآخَرُ مُذَكَّاةٌ وَنَحْوُ ذَلكَ.
ومنها: الإِقْرَارُ فَيَصِحُّ المُبْهَمُ وَيُلزَمُ بِتَعْيِينِهِ مِثْل أَنْ يَقُول: أَحَدُ هَذَيْنِ مِلكٌ لفُلانٍ , أَوْ لهُ عِنْدِي دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ.
وَيَصِحُّ للمُبْهَمِ كَمَا لوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ هَذَيْنِ العَبْدَيْنِ , أَوْ أَعْتَقَهُ مَوْرُوثُهُ , وَكَذَلكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَوَّجَ إحْدَى بَنَاتِهِ مِنْ رَجُلٍ وَلمْ يُسَمِّهَا ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهَا تُمَيَّزُ بِالقُرْعَةِ عَلى المَنْصُوصِ , وَكَذَلكَ لوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذِهِ العَيْنَ التِي فِي يَدِهِ لأَحَدِ هَذَيْنِ وَدِيعَةٌ وَلا أَعْلمُهُ عَيْنًا فَإِنَّهُمَا يَقْتَرِعَانِ عَليْهَا نَصَّ عَليْهِ , وَكَذَا لوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ هَذِهِ العَيْنَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ وَهُمَا يَدَّعِيَانِهَا فَإِنَّهُمَا يَقْتَرِعَانِ وَلوْ كَانَتْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا.
نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُليْنِ ادَّعَى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا وَقَال أَحَدُهُمَا: اشْتَرَيْتُهُ بِمِائَةٍ , وَقَال: الآخَرُ بِمِائَتَيْنِ وَأَقَرَّ البَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِمِائَتَيْنِ وَلمْ يُعَيِّنْ , فَإِنَّهُ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ وَكَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا , وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَلا اعْتِبَارَ

بِهَذِهِ اليَدِ للعِلمِ بِمُسْتَنِدِهَا.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَتَكُونُ العَيْنُ لصَاحِبِهَا وَمَعَ تَعَارُضِ البَيِّنَتَيْنِ يُخَرَّجُ عَلى الخِلافِ فِي بَيِّنَةِ الدَّاخِل وَالخَارِجِ.
ومنها: الدَّعْوَى بِالمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَتْ بِمَا يَصِحُّ وُقُوعُ العَقْدِ عَليْهِ مُبْهَمًا كَالوَصِيَّةِ وَالعَبْدِ المُطْلقِ فِي المُبْهَمِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ قَال فِي التَّرْغِيبِ: وَأَلحَقَ أَصْحَابُنَا الإِقْرَارَ بِذَلكَ قَال: وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ دَعْوَى الإِقْرَارِ بِالمَعْلومِ لا يَصِحُّ ; لأَنَّهُ ليْسَ بِالحَقِّ وَلا مُوجَبِهِ فَكَيْفَ بِالمَجْهُول؟ وَأَمَّا الدَّعْوَى عَلى المُبْهَمِ فَلا تَصِحُّ وَلا تُسْمَعُ وَلا يَثْبُتُ بِهَا قَسَامَةٌ وَلا غَيْرُهَا.
فَلوْ قَال: قَتَل أَبِي أَحَدُ هَؤُلاءِ الخَمْسَةِ لمْ يُسْمَعْ.
قَال فِي التَّرْغِيبِ: وَيُحْتَمَل أَنْ يُسْمَعَ للحَاجَةِ فَإِنْ مِثْلهُ يَقَعُ كَثِيرًا وَيَحْلفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَال: وَكَذَلكَ وَالقَبَاءِ فِي دَعْوَى الغَصْبِ وَالإِتْلافِ وَالسَّرِقَةِ وَلا يَجْرِي فِي الإِقْرَارِ وَالبَيْعِ إذَا قَال: نَسِيت ; لأَنَّهُ مُقَصِّرٌ.
ومنها: الشَّهَادَةُ بِالمُبْهَمِ فَإِنْ كَانَ المَشْهُودُ بِهِ يَصِحُّ مُبْهَمًا صَحَّتْ الشَّهَادَةُ بِهِ كَالعِتْقِ وَالطَّلاقِ وَالإِقْرَارِ وَالوَصِيَّةِ وَإِلا لمْ يَصِحَّ لا سِيَّمَا الشَّهَادَةُ التِي لا تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى فَإِنَّهَا تَابِعَةٌ للدَّعْوَى فِي الحُكْمِ , أَمَّا إنْ شَهِدَتْ البَيِّنَةُ أَنَّهُ طَلقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ أَبْطَل وَصِيَّةً مُعَيَّنَةً وَادَّعَى نِسْيَانَ عَيْنِهَا فَفِي القَبُول وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي المُحَرَّرِ وَجَزَمَ ابْنُ أَبِي مُوسَى بِقَبُول الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ عَنْ أَحَدِ الوَصِيَّتَيْنِ مُطْلقًا وَكَذَلكَ حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلى رَجُلٍ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ يَتِيمٍ أَلفًا وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلى آخَرَ أَنَّهُ هُوَ الذِي أَخَذَهَا يَأْخُذُ الوَليُّ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلعَل المُرَادَ أَنَّهُ إذَا صُدِّقَ إحْدَى البَيِّنَتَيْنِ حُكِمَ لهُ بِهَا.
" فَصْلٌ " وَلوْ تَعَلقَ الإِنْشَاءُ بِاسْمٍ لا يَتَمَيَّزُ بِهِ مُسَمَّاهُ لوُقُوعِ الشَّرِكَةِ فِيهِ فَإِنْ لمْ يَنْوِهِ فِي البَاطِنِ مُعَيَّنًا فَهُوَ كَالتَّصْرِيحِ بِالإِبْهَامِ وَإِنْ نَوَى بِهِ مُعَيَّنًا فَإِنْ كَانَ العَقْدُ مِمَّا لا يُشْتَرَطُ لهُ الشَّهَادَةُ صَحَّ وَإِلا فَفِيهِ خِلافٌ وَالإِخْبَارُ تَابِعٌ للإِنْشَاءِ فِي ذَلكَ وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: وُرُودُ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلى اسْمٍ لا يَتَمَيَّزُ مُسَمَّاهُ وَلا يَصِحُّ.
فَلوْ قَال: زَوَّجْتُكِ بِنْتِي وَلهُ بَنَاتٌ لمْ يَصِحَّ , وَأَمَّا إنْ عَيَّنَا فِي البَاطِنِ وَاحِدَةً وَعَقَدَا العَقْدَ عَليْهَا بِاسْمٍ غَيْرِ مُمَيَّزٍ نَحْوَ أَنْ يَقُول: بِنْتِي وَلهُ بَنَاتٌ أَوْ يُسَمِّيَهَا بِاسْمٍ وَيَنْوِيَا فِي البَاطِنِ غَيْرَ مُسَمَّاهُ فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ اخْتَارَ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ الصِّحَّةِ وَأَبُو الخَطَّابِ وَالقَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ البُطْلانَ , وَمَأْخَذُهُ أَنَّ النِّكَاحَ يُشْتَرَطُ لهُ الشَّهَادَةُ وَيَتَعَذَّرُ الإِشْهَادُ عَلى النِّيَّةِ.
وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ العُكْبَرِيِّ إنْ كَانَتْ المُسَمَّاةُ غَلطًا لا يَحِل نِكَاحُهَا لكَوْنِهَا مُزَوَّجَةً أَوْ غَيْرَ ذَلكَ صَحَّ النِّكَاحُ وَإِلا فَلا , فَلوْ وَقَعَ مِثْل هَذَا فِي غَيْرِ النِّكَاحِ مِمَّا لا يُشْتَرَطُ لهُ الشَّهَادَةُ فَإِنْ قُلنَا فِي النِّكَاحِ يَصِحُّ فَفِي غَيْرِهِ أَوْلى , وَإِنْ قُلنَا فِي النِّكَاحِ لا يَصِحُّ فَمُقْتَضَى تَعْليل مَنْ عَلل بِاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَصِحَّ فِي غَيْرِهِ مِمَّا لا يُعْتَبَرُ الإِشْهَادُ عَليْهِ لصِحَّتِهَا.

ومنها: الوَصِيَّةُ لجَارِهِ مُحَمَّدٍ وَلهُ جَارَانِ بِهَذَا الاسْمِ فَلهُ حَالتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يُعْلمَ بِقَرِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَنَّهُ أَرَادَ وَاحِدًا مِنْهُمَا مُعَيَّنًا وَأَشْكَل عَليْنَا مَعْرِفَتُهُ فَهَهُنَا يَصِحُّ الوَصِيَّةُ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ وَيَخْرُجُ المُسْتَحِقُّ مِنْهُمَا بِالقُرْعَةِ عَلى قِيَاسِ المَذْهَبِ فِي اشْتِبَاهِ المُسْتَحِقِّ للمَال بِغَيْرِهِ مِنْ الزَّوْجَةِ المُطَلقَةِ , وَالسِّلعَةِ المَبِيعَةِ وَغَيْرِهِمَا.
وَالحَالةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطَلقَ وَقَدْ يَذْهَل عَنْ تَعْيِينِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالوَصِيَّةِ لأَحَدِهِمَا مُبْهَمًا , وَكَذَلكَ حَكَى الأَصْحَابُ فِي الصِّحَّةِ رِوَايَتَيْنِ وَلكِنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ الصِّحَّةُ.
قَال صَالحٌ: سَأَلتُ أَبِي عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَلهُ ثَلاثَةُ غِلمَانٍ ثَلاثَتُهُمْ اسْمُهُمْ فَرَجٌ فَوَصَّى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَال فَرَجٌ حُرٌّ وَفَرَجٌ لهُ مِائَةٌ وَفَرَجٌ ليْسَ لهُ شَيْءٌ.
قَال أَبِي: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ أَصَابَتْهُ القُرْعَةُ فَهُوَ حُرٌّ وَأَمَّا صَاحِبُ المِائَةِ فَلا شَيْءَ لهُ وَذَلكَ أَنَّهُ عَبْدٌ وَالعَبْدُ هُوَ وَمَالهُ لسَيِّدِهِ.
وَهَذَا يَدُل عَلى الصِّحَّةِ مَعَ اشْتَرَاكِ الاسْمِ ; لأَنَّهُ إنَّمَا عَلل البُطْلانَ هَهُنَا لكَوْنِهِ عَبْدًا فَدَل عَلى أَنَّهُ لوْ كَانَ حُرًّا لاسْتَحَقَّ , وَزَعَمَ صَاحِبُ المُغْنِي أَنَّ رِوَايَةَ صَالحٍ تَدُل عَلى بُطْلانِ الوَصِيَّةِ وَخَالفَهُ صَاحِبُ المُحَرَّرِ.
وَنَقَل حَنْبَلٌ قَال أَبُو عَبْدِ اللهِ: فِي رَجُلٍ لهُ غُلامَانِ اسْمُهُمَا وَاحِدٌ فَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ فَقَال: فُلانٌ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي لأَحَدِ الغُلامَيْنِ وَلهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ , وَفُلانٌ ليْسَ هُوَ حُرٌّ وَاسْمُهُمَا وَاحِدٌ , فَقَال: يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ أَصَابَتْهُ القُرْعَةُ فَهُوَ حُرٌّ وَأَمَّا صَاحِبُ المِائَتَيْنِ فَليْسَ لهُ شَيْءٌ وَذَلكَ أَنَّهُ عَبْدٌ وَالعَبْدُ وَمَالهُ لسَيِّدِهِ وَهَذِهِ لا تَدُل عَلى مِثْل مَا دَلتْ عَليْهِ رِوَايَةُ صَالحٍ لكِنَّ السُّؤَال يَقْتَضِي أَنَّ المُوصَى لهُ بِالمِائَتَيْنِ هُوَ العَتِيقُ وَالجَوَابُ يَدُل عَلى خِلافِهِ , وَمِنْ ثَمَّ زَعَمَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ أَنَّهَا تَدُل عَلى بُطْلانِ الوَصِيَّةِ للإِبْهَامِ وَليْسَ كَذَلكَ ; لأَنَّهُ إنَّمَا عَلل بِكَوْنِهِ عَبْدًا لمْ يُعْتَقْ وَتَأَوَّلهَا القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ عَلى أَنَّ الوَصِيَّةَ لمْ تَصِحَّ لكَوْنِهِ عَبْدًا حَال الإِيصَاءِ وَلا يَكْفِي حُرِّيَّتُهُ حَال الاسْتِحْقَاقِ , وَعَلى هَذَا فَلا تَصِحُّ الوَصِيَّةُ لأُمِّ الوَلدِ وَالمُدَبَّرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
وَجَوَابُ أَحْمَدَ إنَّمَا يَتَنَزَّل عَلى أَنَّ المُوصَى لهُ بِالدَّرَاهِمِ غَيْرُ المُعْتِقِ.
وَنَقَل يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ سَأَل عَنْ رَجُلٍ لهُ ثَلاثَةُ غِلمَانٍ اسْمُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَرَجٌ , فَقَال: فَرَجٌ حُرٌّ وَلفَرَجٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ.
قَال: يُقْرَعُ بَيْنَهُمْ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ فَهُوَ حُرٌّ وَاَلذِي أَوْصَى لهُ بِالمِائَةِ لا شَيْءَ لهُ ; لأَنَّ هَذَا مِيرَاثٌ , وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلهَا حَيْثُ عَلل فِيهَا بِبُطْلانِ الوَصِيَّةِ بِكَوْنِ العَبْدِ المُوصَى لهُ مِيرَاث للوَرَثَةِ فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ التِي سَاقَهَا الخَلال فِي الجَامِعِ وَكُلهَا دَالةٌ عَلى الصِّحَّةِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَسَاقَهَا أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي عَلى أَنَّ المُوصَى لهُ بِالدَّرَاهِمِ هُوَ المُعْتَقُ وَأَنَّ أَحْمَدَ صَحَّحَ الوَصِيَّةَ لهُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ وَأَبْطَلهَا فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ قَال أَبُو بَكْرٍ: وَبِالصِّحَّةِ أَقُول.
وَفِي الخَلال أَيْضًا عَنْ مُهَنَّا أَنَّ أَحْمَدَ قَال فِي رَجُليْنِ شَهِدَا عَلى رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لفُلانِ

ابْنِ فُلانٍ مِنْ أَصْحَابِ فُلانٍ أَلفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَحَالهُ بِهَا وَالشُّهُودُ لا يَعْرِفُونَ فُلانَ بْنَ فُلانٍ كَيْفَ يَصْنَعُونَ وَقَدْ مَاتَ الرَّجُل؟ قَال: يَنْظُرُونَ فِي أَصْحَابِ فُلانٍ فِيهِمْ فُلانُ بْنُ فُلانٍ مِنْ أَصْحَابِ فُلانٍ؟ قُلت: فَإِنْ جَاءَ رَجُلانِ فَقَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ مِنْ أَصْحَابِ فُلانٍ قَال: فَلا يَدْفَعُ إليْهِمَا شَيْئًا حَتَّى يَكُونَ رَجُلٌ وَاحِدٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ أَحْمَدَ لمْ يَتَوَقَّفْ فِي الدَّفْعِ إلا ليَتَيَقَّنَ المُسْتَحِقَّ مِنْ غَيْرِهِ لا لصِحَّةِ الوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا هَهُنَا لمُعَيَّنٍ فِي نَفْسٍ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَليْنَا لاشْتِرَاكِ الاسْمَيْنِ فَلذَلكَ وُقِفَ الدَّفْعُ عَلى مَعْرِفَةِ عَيْنِ المُسْتَحِقِّ إذَا رُجِيَ انْكِشَافُ الحَال وَأَمَّا مَعَ الإِيَاسِ مِنْ ذَلكَ فَيَتَعَيَّنُ تَعْيِينَ المُسْتَحِقِّ بِالقُرْعَةِ قَالهُ بَعْضُ الأَصْحَابِ المُتَقَدِّمِينَ وَهُوَ الحَقُّ.
ومنها: اشْتِبَاهُ المُدَّعَى عَليْهِ إذَا كَتَبَ القَاضِي إلى قَاضِي بَلدٍ آخَرَ أَنَّ لفُلانٍ عَلى فُلانِ بْنِ فُلانٍ المُسَمَّى المَوْصُوفِ كَذَا.
فَأَحْضَرَهُ المَكْتُوبُ إليْهِ بِالصِّفَةِ وَالنَّسَبِ فَادَّعَى أَنَّ لهُ مُشَارِكًا فِي ذَلكَ وَلمْ يَثْبُتْ حُكْمٌ عَليْهِ وَإِنْ أَثْبَتَ أَنَّ لهُ مُشَارِكًا فِي الاسْمِ وَالصِّفَةِ وَالنَّسَبِ وُقِفَ حَتَّى يُعْلمَ الخَصْمُ مِنْهُمَا وَلمْ يَجُزْ القَضَاءُ مَعَ عَدَمِ العِلمِ.
أَمَّا لوْ كَانَ المُدَّعِي المَكْتُوبُ فِيهِ حَيَوَانًا أَوْ عَبْدًا مَوْصُوفًا وَلمْ يَثْبُتْ لهُ مُشَارِكٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُسَلمُ إلى المُدَّعِي مَخْتُومُ العنقِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ حَتَّى يَأْتِيَ القَاضِي الكَاتِبُ فَيَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلى عَيْنِهِ وَيُقْضَى لهُ بِهِ , وَإِنْ لم يَشْهَدُوا عَلى عَيْنِهِ وَجَبَ رَدُّهُ إلى الحَاكِمِ الذِي سَلمَهُ وَيَكُونُ فِي ضَمَانِ الذِي أَخَذَهُ ; لأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا يُسَلمُ إلا بِالشَّهَادَةِ عَلى عَيْنِهِ.
وَالفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التِي قَبْلهَا أَنَّ الحُرَّ قَدْ طَابَقَ قَوْل المُدَّعِي اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَصِفَتَهُ فَيَبْعُدُ الاشْتِرَاكُ في ذلك , وَالعَبْدُ وَالحَيَوَانُ إنَّمَا حَصَل الاتِّفَاقُ فِي وَصْفِهِ أَوْ فِي وَصْفِهِ وَاسْمِهِ وَالوَصْفُ كَثِيرُ الاشْتِبَاهِ وَكَذَلكَ الاسْمُ وَنَظِيرُ هَذَا مَا ذَكَرُوهُ فِي شَهَادَةِ الأَعْمَى أَنَّهُ إنْ عَرَفَ المَشْهُودَ عَليْهِ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ قُبِلتْ شَهَادَتُهُ وَإِنْ عَرَفَهُ بِرُؤْيَتِهِ قَبْل عَمَاهُ فَوَصَفَهُ فَفِي قَبُولهَا وَجْهَانِ ; لأَنَّ الوَصْفَ المُجَرَّدَ يَحْصُل فِيهِ الاشْتِرَاكُ.
ومنها: لوْ كَانَ لهُ ابْنَتَانِ اسْمُهُمَا وَاحِدٌ فَوَهَبَ لإِحْدَاهُمَا شَيْئًا أَوْ أَقَرَّ لهَا ثُمَّ مَاتَ وَلمْ يُبَيِّنْ فَقَال القَاضِي فِي بَعْضِ تَعَاليقِهِ قِيَاسُ المَذْهَبِ إخْرَاجُ المُسْتَحَقَّةِ مِنْهُمَا بِالقُرْعَةِ كَمَا لوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَوَّجَ إحْدَى بَنَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ وَلمْ يُبَيِّنْ , وَهَذَا صَحِيحٌ ; لأَنَّ الهِبَةَ وَالإِقْرَارَ هُنَا وَقَعَ لمَعْنًى فِي البَاطِنِ وَإِنَّمَا أَشْكَل عَليْنَا الوُقُوفُ عَليْهِ فَيُمَيَّزُ بِالقُرْعَةِ.
ومنها: لوْ وُجِدَ فِي كِتَابِ وَقْفٍ أَنَّ رَجُلاً وَقَفَ عَلى فُلانٍ وَبَنِي بَنِيهِ وَاشْتَبَهَ هَل المُرَادُ بَنِي بَنِيهِ قَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ: يَكُونُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لتُسَاوِيهِمَا كَمَا فِي تَعَارُضِ البَيِّنَاتِ.
قَال

الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: ليْسَ هَذَا تَعَارُضَ البَيِّنَتَيْنِ بَل هُوَ بِمَنْزِلةِ تَرَدُّدِ البَيِّنَةِ الوَاحِدَةِ وَلوْ كَانَ مِنْ تَعَارُضِ البَيِّنَتَيْنِ فَالقِسْمَةُ عِنْدَ التَّعَارُضِ رِوَايَةٌ مَرْجُوحَةٌ وَإِلا فَالصَّحِيحُ إمَّا التَّسَاقُطُ وَإِمَّا القُرْعَةُ فَيُحْتَمَل أَنْ يُقْرَعَ هَهُنَا ; لأَنَّ الحَقَّ ثَبَتَ لإِحْدَى الجِهَتَيْنِ وَلمْ يُعْلمْ عَيْنُهَا , وَيُحْتَمَل أَنْ يُرَجَّحَ بَنُو البَنِينَ;لأَنَّ العَادَةَ أَنَّ الإِنْسَانَ إذَا وَقَفَ عَلى وَلدِ بَنِيهِ لا يَخُصُّ مِنْهُمَا الذُّكُورَ بَل يَعُمُّ أَوْلادَهُمَا بِخِلافِ الوَقْفِ عَلى وَلدِ الذُّكُورِ فَإِنَّهُ يَخُصُّ ذُكُورَهُمْ كَثِيرًا كَآبَائِهِمْ وَلأَنَّهُ لوْ أَرَادَ وَلدَ البِنْتِ لسَمَّاهَا بِاسْمِهَا أَوْ لشَرَكَ بَيْنَ وَلدِهَا وَوَلدِ سَائِرِ بَنَاتِهِ , قَال: وَهَذَا أَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ.
وَأَفْتَى رَحِمَهُ اللهُ فِيمَنْ وَقَفَ عَلى أَحَدِ أَوْلادِهِ وَلهُ عِدَّةُ أَوْلادٍ وَجَهِل اسْمَهُ أَنَّهُ يُمَيَّزُ بِالقُرْعَةِ.

القاعدة السادسة بعد المائة
القَاعِدَةُ السَّادِسَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
يَنْزِل المَجْهُول مَنْزِلةَ المَعْدُومِ وَإِنْ كَانَ الأَصْل بَقَاءَهُ إذَا يَئِسَ مِنْ الوُقُوفِ عَليْهِ أَوْ شَقَّ اعْتِبَارُهُ وَذَلكَ فِي مَسَائِل:
منها: الزَّائِدُ عَلى مَا تَجْلسُهُ المُسْتَحَاضَةُ مِنْ أَقَل الحَيْضِ أَوْ غَالبِهِ إلى مُنْتَهَى أَكْثَرِهِ , حُكْمُهُ حُكْمُ المَعْدُومِ حَيْثُ حَكَمْنَا فِيهَا للمَرْأَةِ بِأَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ كُلهَا فَإِنَّ مُدَّةَ الاسْتِحَاضَةِ تَطُول وَلا غَايَةَ لهَا تُنْتَظَرُ بِخِلافِ الزَّائِدِ عَلى الأَقَل فِي حَقِّ المُبْتَدَأَةِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ حَيْثُ تَقْضِي الصَّوْمَ الوَاقِعَ فِيهِ قَبْل ثُبُوتِ العَادَةِ بِالتَّكْرَارِ ; لأَنَّ أَمْرَهُ يَنْكَشِفُ بِالتَّكْرَارِ عَنْ قُرْبٍ.
وَكَذَلكَ النِّفَاسُ المَشْكُوكُ فِيهِ تَقْضِي فِيهِ الصَّوْمَ ; لأَنَّهُ لا يَتَكَرَّرُ.
ومنها: اللقَطَةُ بَعْدَ الحَوْل فَإِنَّهَا تَتَمَلكُ لجَهَالةِ رَبِّهَا وَمَا لا يُتَمَلكُ مِنْهَا يُتَصَدَّقُ بِهِ عَنْهُ عَلى الصَّحِيحِ وَكَذَلكَ الوَدَائِعُ وَالغُصُوبُ وَنَحْوُهَا.
ومنها: مَال مَنْ لا يُعْلمُ لهُ وَارِثٌ فَإِنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ المَال كَالضَّائِعِ مَعَ أَنَّهُ لا يَخْلو مِنْ بَنِي عَمٍّ أَعْلى إذْ النَّاسُ كُلهُمْ بَنُو آدَمَ فَمَنْ كَانَ أَسْبِقَ إلى الاجْتِمَاعِ مَعَ المَيِّتِ فِي أَبٍ مِنْ آبَائِهِ فَهُوَ عَصَبَتُهُ وَلكِنَّهُ مَجْهُولٌ فَلمْ يَثْبُتْ لهُ حُكْمٌ.
وَجَازَ صَرْفُ مَالهِ فِي المَصَالحِ , وَكَذَلكَ لوْ كَانَ لهُ مَوْلًى مُعْتَقٌ لوَرِثَهُ فِي هَذِهِ الحَالةِ وَلمْ يُلتَفَتْ إلى هَذَا المَجْهُول.
وَلنَا رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ يَنْتَقِل إلى بَيْتِ المَال إرْثًا لهَذَا المَعْنَى فَإِنْ أُرِيدَ أَنَّ اشْتِبَاهَ الوَارِثِ بِغَيْرِهِ يُوجِبُ الحُكْمَ بِالإِرْثِ للكُل فَهُوَ مُخَالفٌ لقَوَاعِدِ المَذْهَبِ وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ إرْثٌ فِي البَاطِنِ لمُعَيَّنٍ فَيُحْفَظُ مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ المَال ثُمَّ يُصْرَفُ فِي المَصَالحِ للجَهْل بِمُسْتَحَقِّهِ عَيْنًا فَهُوَ وَالأَوَّل بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ مَسْأَلةُ اقْتِصَاصِ الإِمَامِ مِمَّنْ قَتَل مَنْ لا وَارِثَ لهُ وَفِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ: مِنْهُمْ مَنْ بَنَاهُمَا عَلى أَنَّ بَيْتَ المَال هَل هُوَ وَارِثٌ أَمْ لا؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَال: لا يَنْبَنِي عَلى ذَلكَ , ثُمَّ لهُمْ طَرِيقَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يُقْتَصُّ وَلوْ قُلنَا بِأَنَّهُ وَارِثٌ ; لأَنَّ فِي المُسْلمِينَ الصَّبِيُّ وَالمَجْنُونُ وَالغَائِبُ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ الاقْتِصَاصُ.
وَإِنْ قُلنَا ليْسَ بِوَارِثٍ ; لأَنَّ وِلايَةَ الإِمَامِ وَنَظَرَهُ فِي المَصَالحِ قَائِمٌ مَقَامَ الوَارِثِ وَهُوَ مَأْخَذُ ابْنِ الزاغوني.
ومنها: إذَا اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِنِسَاءِ أَهْل مِصْرَ جَازَ لهُ الإِقْدَامُ عَلى النِّكَاحِ مِنْ نِسَائِهِ وَلا يَحْتَاجُ إلى التَّحَرِّي فِي ذَلكَ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ , وَكَذَلكَ لوْ اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِلحْمِ أَهْل مِصْرَ أَوْ قَرْيَةٍ , أَوْ اشْتَبَهَ حَرَامٌ قَليلٌ بِمُبَاحٍ كَثِيرٍ وَنَحْوِ ذَلكَ إلا أَنْ يَكْثُرَ الحَرَامُ وَيَغْلبَ فَيُخَرِّجُ المَسْأَلةَ عَلى تَعَارُضِ الأَصْل وَالظَّاهِرِ كَثِيَابِ الكُفَّارِ وَأَوَانَيْهِمْ.
ومنها: طِينُ الشَّوَارِعِ مَحْكُومٌ بِطَهَارَتِهِ عَلى الصَّحِيحِ المَنْصُوصِ.
ومنها: إذَا طَلقَ وَاحِدَةً مِنْ نِسَائِهِ وَأُنْسِيهَا فَإِنَّهَا تُمَيَّزُ بِالقُرْعَةِ وَيَحِل لهُ وَطْءُ البَوَاقِي عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ المَشْهُورِ وَكَذَلكَ لوْ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْ إمَائِهِ.
ومنها: إذَا أَحْرَمَ بِنُسُكٍ وَأُنْسِيهِ ثُمَّ عَيَّنَهُ بِقِرَانٍ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الحَجِّ , وَهَل يُجْزِئُهُ عَنْ العُمْرَةِ؟ وَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ المُتَأَخِّرِينَ لا يُجْزِئُهُ لجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ لا , ثُمَّ أَدْخَل عَليْهِ العُمْرَةَ بِنِيَّةِ القِرَانِ فَلا تَصِحُّ عُمْرَتُهُ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ ; لأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ إدْخَال العُمْرَةِ عَلى الحَجِّ مَعَ العِلمِ فَأَمَّا مَعَ عَدَمِهِ فَلا تَنْزِيلاً للمَجْهُول كَالمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ ابْتَدَأَ الإِحْرَامَ بِهِمَا مِنْ حِينِ التَّعْيِينِ.

القاعدة السابعة بعد المائة
القَاعِدَةُ السَّابِعَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
تَمْليكُ المَعْدُومِ , وَالإِبَاحَةُ لهُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الأَصَالةِ فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ فَيَصِحُّ فِي الوَقْفِ وَالإِجَازَةِ وَهَذَا إذَا صَرَّحَ بِدُخُول المَعْدُومِ فَأَمَّا إنْ لمْ يُصَرِّحْ وَكَانَ المَحِل لا يَسْتَلزِمُ المَعْدُومَ فَفِي دُخُولهِ خِلافٌ , وَكَذَا لوْ انْتَقَل الوَقْفُ إلى قَوْمٍ فَحَدَثَ مَنْ يُشَارِكُهُمْ وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذِهِ القَاعِدَةِ مَسَائِل:
منها: الإِجَازَةُ لفُلانٍ وَلمَنْ يُولدُ لهُ فَإِنَّهَا تَصِحُّ وَفَعَل ذَلكَ أَبُو بَكْر بْنُ أَبِي دَاوُد وَهُوَ مِنْ أَعْيَانِ أَصْحَابِنَا فَإِنَّهُ أَجَازَ لشَخْصٍ وَوَلدِهِ وَلحَبَل الحَبَلةِ
ومنها: الإِجَازَةُ لمَنْ يُولدُ لفُلانٍ ابْتِدَاءً فَأَفْتَى القَاضِي فِيهَا بِالصِّحَّةِ مُطْلقًا نَقَلهُ عَنْهُ أَبُو بَكْرٍ الخَطِيبُ.
وَقِيَاسُ قَوْلهِ فِي الوَقْفِ عَدَمُ الصِّحَّةِ.

ومنها: الوَقْفُ عَلى مَنْ سَيُولدُ لهُ فَصَرَّحَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِأَنَّهُ لا يَصِحُّ ; لأَنَّهُ وَقَفَ عَلى مَنْ لا يَمْلكُ فِي الحَال وَاقْتَصَرَ عَليْهِ فَلمْ يَصِحَّ كَمَا لوْ وَقَفَ عَلى العَبْدِ.
قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ: الوَقْفُ إنَّمَا يَكُونُ أَنْ يُوقِفَهُ عَلى وَلدِهِ أَوْ مَنْ يَكُونُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَإِذَا انْقَرَضُوا فَهُوَ صَدَقَةٌ عَلى المَسَاكِينِ أَوْ مَنْ رَأَى قَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: ظَاهِرُهُ يُعْطَى صِحَّةُ الوَقْفِ ابْتِدَاءً عَلى مَنْ يُولدُ لهُ أَوْ مَنْ يُوجَدُ مِنْ أَقَارِبِهِ وَهَذَا عِنْدِي وَقْفٌ مُعَلقٌ بِشَرْطٍ.
انْتَهَى.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُحْمَل عَلى أَنَّ مُرَادَهُ مَنْ يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ أَقَارِبِهِ فَيَكُونُ كَانَ نَاقِصَةً وَخَبَرُهَا مَحْذُوفًا.
ومنها: الوَقْفُ عَلى وَلدِهِ وَوَلدِ وَلدِهِ أَبَدًا أَوْ مَنْ يُولدُ لهُ فَيَصِحُّ بِغَيْرِ إشْكَالٍ نَصَّ عَليْهِ.
ومنها: لوْ وَقَفَ عَلى وَلدِهِ وَلهُ أَوْلادٌ مَوْجُودُونَ ثُمَّ حَدَثَ لهُ وَلدٌ آخَرُ فَفِي دُخُولهِ رِوَايَتَانِ , وَظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ دُخُولهُ فِي المَوْلودِ قَبْل تَأْبِيرِ النَّخْل وَقَدْ سَبَقَ وَهُوَ قَوْل ابْنِ أَبِي مُوسَى وَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَأَفْتَى بِهِ ابْنُ الزاغوني.
ومنها: لوْ وَقَفَ عَلى وَلدِهِ ثُمَّ عَلى وَلدِهِمْ أَبَدًا عَلى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلدٍ فَنَصِيبُهُ لوَلدِهِ وَمَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلدٍ فَنَصِيبُهُ لمَنْ فِي دَرَجَتِهِ فَكَانَ فِي دَرَجَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ اثْنَانِ مَثَلاً فَتَنَاوَلا نَصِيبَهُ ثُمَّ حَدَثَ ثَالثٌ فَهَل يُشَارِكُهُمْ؟ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهَانِ مِنْ التِي قَبْلهَا, وَالدُّخُول هُنَا أَوْلى وَبِهِ أَفْتَى الشَّيْخُ شَمْسُ الدِّينِ بْنُ أَبِي عُمَرَ المَقْدِسِيَّ ; لأَنَّ الوَقْفَ عَلى الأَوْلادِ قَدْ يُلحَظُ فِيهِمْ أَعْيَانُ المَوْجُودِينَ عِنْدَ الوَقْفِ بِخِلافِ الدَّرَجَةِ وَالطَّبَقَةِ فَإِنَّهُ لا يُلحَظُ فِيهِ إلا مُطْلقُ الجِهَةِ وَعَلى هَذَا فَلوْ حَدَثَ مَنْ هُوَ أَعْلى مِنْ المَوْجُودِينَ وَكَانَ فِي الوَقْفِ اسْتِحْقَاقُ الأَعْلى فَالأَعْلى , فَإِنَّهُ يَفْتَرِغُهُ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا حُكْمُ الوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا لا تَصِحُّ لمَعْدُومٍ بِالأَصَالةِ كَمَنْ أَوْصَى بِحَمْل هَذِهِ الجَارِيَةِ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَفِي دُخُول المُتَجَدِّدِ بَعْدَ الوَصِيَّةِ وَقَبْل مَوْتِ المُوصِي رِوَايَتَانِ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِيمَنْ وَصَّى لمَوَاليهِ وَلهُ مُدَبَّرُونَ وَأُمَّهَاتُ أَوْلادٍ أَنَّهُمْ يَدْخُلونَ وَعَلل بِأَنَّهُمْ مَوَالٍ حَال المَوْتِ وَالوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ بِحَال المَوْتِ وَخَرَّجَه الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلى الخِلافِ فِي المُتَجَدِّدِ بَيْنَ الوَصِيَّةِ وَالمَوْتِ.
قَال: بَل هَذَا مُتَجَدِّدٌ بَعْدَ المَوْتِ فَمَنْعُهُ أَوْلى وَهَذَا الذِي قَالهُ يَتَوَجَّهُ إنْ عَلقْنَا الوَصِيَّةَ بِصِدْقِ الاسْمِ فَأَمَّا إنْ كَانَ قَصْدُ المُوصِي الوَصِيَّةَ لأَعْيَانِ رَقِيقِهِ وَسَمَّاهُمْ بِاسْمٍ يَحْدُثُ لهُمْ فإنهم يَسْتَحِقُّونَ الوَصِيَّةَ بِغَيْرِ تَوَقُّفٍ.
وَأَفْتَى الشَّيْخُ أَيْضًا بِدُخُول المَعْدُومِ فِي الوَصِيَّةِ تَبَعًا كَمَنْ وَصَّى بِغَلةِ ثَمَرِهِ للفُقَرَاءِ إلى أَنْ يَحْدُثَ لوَلدِهِ وَلدٌ فَيَكُونَ , وَهُوَ لهُ قَرِيبٌ مِنْ تَعْليقِ الوَصِيَّةِ بِشَرْطٍ آخَرَ بَعْدَ المَوْتِ.
وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي

رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ حَسَّانَ فِيمَنْ أَوْصَى أَنْ يُتَصَدَّقَ فِي سِكَّةِ فُلانٍ بِكَذَا وَكَذَا فَسَكَنَهَا قَوْمٌ بَعْدَ مَوْتِ المُوصِي قَال: إنَّمَا كَانَتْ الوَصِيَّةُ للذِينَ كَانُوا , ثُمَّ قَال: مَا أَدْرِي كَيْفَ هَذَا؟ قِيل لهُ: فَيُشْبِهُ هَذَا الكُورَةَ قَال: لا الكُورَةُ وَكَثْرَةُ أَهْلهَا خِلافُ هَذَا المَعْنَى يَنْزِل قَوْمٌ وَيَخْرُجُ قَوْمٌ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ.
فَفَرَّقَ بَيْنَ الكُورَةِ وَالسِّكَّةِ ; لأَنَّ الكُورَةَ لا يَلحَظُ المُوصِي فِيهَا قَوْمًا مُعَيَّنِينَ لعَدَمِ انْحِصَارِ أَهْلهَا وَإِنَّمَا المُرَادُ تَفْرِيقُ الوَصِيَّةِ المُوصَى بِهَا فَيُسْتَحَقُّ المُتَجَدِّدُ فِيهَا بِخِلافِ السِّكَّةِ فَإِنَّهُ قَدْ يَلحَظُ أَعْيَانَ سُكَّانِهَا المَوْجُودِينَ لحَصْرِهِمْ.
ويُفَارِقُ الوَقْفَ فِي ذَلكَ الوَصِيَّةُ ; لأَنَّ الوَقْفَ تَحْبِيسٌ وَتَسْبِيلٌ يتناول المُتَجَدِّدَ مِنْ الطِّبَاقِ فَكَذَا الطَّبَقَةُ الوَاحِدَةُ بِخِلافِ الوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا تَمْليكٌ فَيَسْتَدْعِي مَوْجُودًا فِي الحَال.

القاعدة الثامنة بعد المائة
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
مَا جُهِل وُقُوعُهُ مُتَرَتِّبًا أَوْ مُتَقَارِنًا هَل يُحْكَمُ عَليْهِ بِالتَّقَارُنِ أَوْ بِالتَّعَاقُبِ؟ فِيهِ خِلافٌ , وَالمَذْهَبُ الحُكْمُ بِالتَّعَاقُبِ لبُعْدِ التَّقَارُنِ.
وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: المُتَوَارِثَانِ إذَا مَاتَا جُمْلةً بِهَدْمٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ طَاعُونٍ وَجُهِل تَقَارُنُ مَوْتِهِمَا وَتَعَاقُبُهُ حَكَمْنَا بِتَعَاقُبِهِ عَلى المَذْهَبِ المَشْهُورِ , وَوَرَّثْنَا كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الآخَرِ مِنْ تِلادِ مَالهِ دُونَ مَا وَرِثَهُ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَخَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ رِوَايَةً أُخْرَى بِعَدَمِ التَّوَارُثِ للشَّكِّ فِي شَرْطِهِ وَكَذَلكَ لوْ عَلمَ سَبْقَ أَحَدِهِمَا بِالمَوْتِ وَجَهِل عَيْنَهُ أَوْ عَلمَ عَيْنَهُ ثُمَّ نَسِيَ عَلى المَذْهَبِ لكِنَّ هَذَا يَسْتَنِدُ إلى أَنَّ تَيَقُّنَ الحَيَاةِ لا يُشْتَرَطُ للتَّوْرِيثِ.
ومنها: إذَا أُقِيمَ فِي المِصْرِ جُمُعَتَانِ لغَيْرِ حَاجَةٍ وَشَكَّ هَل أَحْرَمَ بِهِمَا مَعًا فَيُبْطَلانِ وَتُعَادُ الجُمُعَةُ , أَوْ أَحْرَمَ بِهِمَا مُتَرَتِّبَتَيْنِ فَتُصَلى الظُّهْرُ عَلى الوَجْهَيْنِ؟ أَصَحُّهُمَا تُعَادُ الظُّهْرُ ; لأَنَّ التَّقَارُنَ مُسْتَبْعَدٌ, وَعَلى الثَّانِي تُعَادُ الجُمُعَةُ إمَّا لاحْتِمَال المُقَارَنَةِ أَوْ تَنْزِيلاً للمَجْهُول كَالمَعْدُومِ.
ومنها: إذَا زَوَّجَ وَليَّانِ وَجُهِل هَل وَقَعَ العَقْدَانِ مَعًا فَيَبْطُلانِ أَوْ مُتَرَتِّبَيْنِ فَيُصَحَّحُ أَحَدُهُمَا بِالقُرْعَةِ؟ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا: يَبْطُلانِ لاحْتِمَال التَّقَارُنِ وَالثَّانِي لاسْتِبْعَادِهِ.
ومنها: إذَا أَسْلمَ الزَّوْجَانِ الكَافِرَانِ قَبْل الدُّخُول وَاخْتَلفَا هَل أَسْلمَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ فَهَل القَوْل قَوْل مُدَّعِي التَّقَارُنِ فَلا يَنْفَسِخُ النِّكَاحُ أَوْ مُدَّعِي التَّعَاقُبِ ; لأَنَّ الظَّاهِرَ مَعَهُ عَلى وَجْهَيْنِ يَرْجِعَانِ إلى تَعَارُضِ الأَصْل وَالظَّاهِرِ.
ومنها: إذَا كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَبْدٌ فَادَّعَى رَجُلانِ كُلاً مِنْهُمَا أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا العَبْدَ بِأَلفٍ وَأَقَامَا بِذَلكَ بَيِّنَتَيْنِ وَلمْ يُؤَرِّخَا فَهَل يَصِحُّ العَقْدَانِ وَيَلزَمُهُ الثُّمُنَانِ لجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي عَقْدَيْنِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلفَيْنِ

وَحَدُّ اسْتِرْجَاعِ العَقْدِ بَيْنَهُمَا أَوْ يَتَعَارَضُ البَيِّنَتَانِ , لجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا وَاحِدًا فَيَسْقُطَانِ وَالأَصْل بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ عَلى وَجْهَيْنِ.

القاعدة التاسعة بعد المائة
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
المَنْعُ مِنْ وَاحِدٍ مُبْهَمٍ مِنْ أَعْيَانٍ أَوْ مُعَيَّنٍ مُشْتَبِهَةٍ بِأَعْيَانٍ يُؤَثِّرُ الاشْتِبَاهُ فِيهَا المَنْعَ بِمَنْعِ التَّصَرُّفِ فِي تِلكَ الأَعْيَانِ قَبْل تَمْيِيزِهِ , وَالمَنْعُ مِنْ الجَمْعِ يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي القَدْرِ الذِي يَحْصُل بِهِ الجَمْعُ خَاصَّةً , فَإِنْ حَصَل الجَمْعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً مُنِعَ مِنْ الجَمِيعِ مَعَ التَّسَاوِي , فَإِنْ كَانَ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا مَزِيَّةٌ عَلى غَيْرِهِ بِأَنْ يَصِحَّ وُرُودُهُ عَلى غَيْرِهِ وَلا عَكْسَ اخْتَصَّ الفَسَادُ بِهِ عَلى الصَّحِيحِ وَالمَنْعُ مِنْ القَدْرِ المُشْتَرَكِ كَالمَنْعِ مِنْ الجَمِيعِ يَقْتَضِي العُمُومَ , فَللأَوَّل أَمْثِلةٌ:
منها: إذَا طَلقَ وَاحِدَةً مُبْهَمَةً مُنِعَ مِنْ وَطْءِ زَوْجَاتِهِ حَتَّى يُمَيِّزَ بِالقُرْعَةِ عَلى الصَّحِيحِ , وَحَكَى رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ يُمَيِّزُهَا بِتَعْيِينِهِ.
ومنها: إذَا أَعْتَقَ أَمَةً مِنْ إمَائِهِ مُبْهَمَةً مُنِعَ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى تُمَيَّزَ المُعْتَقَةُ بِالقُرْعَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ بِالتَّعْيِينِ.
ومنها: إذَا اشْتَبَهَتْ المُطَلقَةُ ثَلاثًا بِزَوْجَاتِهِ مُنِعَ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يُمَيِّزَ المُطَلقَةَ وَيُمَيِّزَهَا بِالقُرْعَةِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ.
ومنها: لوْ اشْتَبَهَتْ أُخْتُهُ بِعَدَدٍ مَحْصُورٍ مِنْ الأَجْنَبِيَّاتِ مُنِعَ مِنْ التَّزَوُّجِ بِكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْلمَ أُخْتَهُ مِنْ غَيْرِهَا.
ومنها: إذَا اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بِمُذَكَّاةٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الأَكْل مِنْهُمَا حَتَّى يَعْلمَ المُذَكَّاةَ.
ومنها: اشْتِبَاهُ الآنِيَةِ النَّجِسَةِ بِالطَّاهِرَةِ يُمْنَعُ مِنْ الطَّهَارَةِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ عَلى الظَّاهِرِ.
ومنها: لوْ حَلفَ بِالطَّلاقِ لا يَأْكُل تَمْرَةً فَاخْتَلطَتْ فِي تَمْرٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ أَكْل تَمْرَةٍ مِنْهُ حَتَّى يَعْلمَ عَيْنَ التَّمْرَةِ , وَإِنْ كُنَّا لا نَحْكُمُ عَليْهِ بِالحِنْثِ بِأَكْل وَاحِدَةٍ.
ومنها: لوْ حَلفَ بِطَلاقِ زَوْجَاتِهِ أَنْ لا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَنَوَى وَاحِدَةً مُبْهَمَةً فَإِنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الوَطْءِ حَتَّى يُمَيِّزَهَا بِالقُرْعَةِ وَقِيل بِتَعْيِينِهِ.

ومنها: لوْ أَعْطَيْنَا الأَمَانَ لوَاحِدٍ مِنْ أَهْل حِصْنٍ أَوْ أَسْلمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ثُمَّ تَدَاعَوْهُ حَرُمَ قَتْلهُمْ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَفِي اسْتِرْقَاقِهِمْ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ المَنْصُوصُ أَنَّهُ يَحْرُمُ مَعَ التَّدَاعِي.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالقُرْعَةِ وَيُرَقُّ البَاقُونَ , وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَالخِرَقِيِّ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي رِوَايَتِهِ إلحَاقًا لهُ بِاشْتِبَاهِ المُعْتَقِ بِغَيْرِهِ , كَمَا لوْ أَقَرَّ أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الوَلدَيْنِ مِنْ هَذِهِ الأَمَةِ وَلدُهُ ثُمَّ مَاتَ وَلمْ يُوجِدْهُ قَافَةٌ فَإِنَّا نُقْرِعُ لإِخْرَاجِ الحُرِّيَّةِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرَّ الأَصْل وَالصَّحِيحُ الأَوَّل ; لأَنَّ أَهْل الحِصْنِ لمْ يَسْبِقْ لهُمْ رِقٌّ فَإِرْقَاقُهُمْ إلا وَاحِدٌ يُؤَدِّي إلى ابْتِدَاءِ الإِرْقَاقِ مَعَ الشَّكِّ فِي إبَاحَتِهِ بِخِلافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ المُشْتَبَهِينَ رَقِيقًا فَأُخْرِجَ غَيْرُهُ بِالقُرْعَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُسْتَدَامُ الرِّقُّ مَعَ الشَّكِّ فِي زَوَالهِ
وَللثَّانِي أَمْثِلةٌ:
منها: إذَا مَلكَ أُخْتَيْنِ أَوْ أُمًّا وَبِنْتًا فَالمَشْهُورُ أَنَّ لهُ الإِقْدَامَ عَلى وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فَإِذَا فَعَل حَرُمَتْ الأُخْرَى , وَعَنْ أَبِي الخَطَّابِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى تَحْرُمَ الأُخْرَى , وَنَقَل ابْنُ هَانِئٍ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَليْهِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلى تَحْرِيمِ إحْدَاهُمَا مُبْهَمَةً وَالأَوَّل أَصَحُّ ; لأَنَّ المُحَرَّمَ هُوَ مَا يَحْصُل بِهِ الجَمْعُ.
ومنها: إذَا وَطِئَ الأُخْتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْئِهِمَا جَمِيعًا حَتَّى يُحَرِّمَ إحْدَاهُمَا لثُبُوتِ استفراشهما جَمِيعًا.
أَمْ تُبَاحُ لهُ الأُولى إذَا اسْتَبْرَأَ الثَّانِيَةَ؟ لأَنَّهُمَا أَخَصُّ بِالتَّحْرِيمِ حَيْثُ كَانَ الجَمْعُ حَاصِلاً بِوَطْئِهَا عَلى وَجْهَيْنِ , وَالأَظْهَرُ هَاهُنَا الأَوَّل لثُبُوتِ الفِرَاشِ لهُمَا جَمِيعًا فَيَكُونُ المَمْنُوعُ مِنْهُمَا وَاحِدَةً مُبْهَمَةً.
ومنها: إذَا أَسْلمَ الكَافِرُ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ فَأَسْلمْنَ أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ فَالأَظْهَرُ أَنَّ لهُ وَطْءَ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ وَيَكُونُ اخْتِيَارًا مِنْهُ ; لأَنَّ التَّحْرِيمَ إنَّمَا يَتَعَلقُ بِالزِّيَادَةِ عَلى الأَرْبَعِ وَكَلامُ القَاضِي قَدْ يَدُل عَلى هَذَا وَقَدْ يَدُل عَلى تَحْرِيمِ الجَمِيعِ قَبْل الاخْتِيَارِ.
ومنها: لوْ قَال لزَوْجَاتِهِ الأَرْبَعِ: وَاَللهِ لا وَطِئْتُكُنَّ , وَقُلنَا لا تَحْنَثُ بِفِعْل البَعْضِ فَأَشْهَرُ الوَجْهَيْنِ أَنَّهُ لا يَكُونُ مُوَاليًا حَتَّى يَطَأَ ثَلاثًا فَيَصِيرَ حِينَئِذٍ مُوليًا مِنْ الرَّابِعَةِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَأَبِي الخَطَّابِ ; لأَنَّهُ يُمْكِنُهُ وَطْءُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ فَلا تَكُونُ يَمِينُهُ مَانِعَةً بِخِلافِ مَا إذَا وَطِئَ ثَلاثًا فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُهُ وَطْءُ الرَّابِعَةِ بِدُونِ حِنْثٍ.
وَالثَّانِي: هُوَ مُوَلٍّ فِي الحَال مِنْ الجَمِيعِ وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ , وَقَال هُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَمَأْخَذُ الخِلافِ أَنَّ الحُكْمَ المُعَلقَ بِالهَيْئَةِ الاجْتِمَاعِيَّةِ هَل هُوَ حُكْمٌ عَلى مَا يَتِمُّ بِهِ مُسَمَّاهَا حِنْثٌ أَوْ عَلى مَجْمُوعِ الأَجْزَاءِ فِي حَالةِ الاجْتِمَاعِ دُونَ الانْفِرَادِ فَعَلى الثَّانِي يَكُونُ مُوليًا مِنْ الجَمِيعِ وَيَتَوَقَّفُ حِنْثُهُ بِوَطْءِ كُل وَاحِدَةٍ عَلى وَطْءِ البَوَاقِي مَعَهَا.

ومنها: إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ وَلهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَفِي التَّعْليقِ للقَاضِي يُمْنَعُ مِنْ وَطْءِ الأَرْبَعِ حَتَّى يُسْتَظْهَرَ بِالزَّانِيَةِ حَمْلٌ , وَاسْتَبْعَدَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَهُوَ كَمَا قَال ; لأَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لأَجْل الجَمْعِ بَيْنَ خَمْسٍ فَيَكْفِي فِيهِ أَنْ يُمْسِكَ عَنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ.
وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ , وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ المُغْنِي مِثْلهُ فِيمَنْ أَسْلمَ عَلى خَمْسِ نِسْوَةٍ فَفَارَقَ وَاحِدَةً فَإِنَّهُ يُمْسِكُ عَنْ وَطْءِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى تَسْتَبْرِئَ المُفَارَقَةُ.
ومنها: إذَا تَزَوَّجَ خَمْسًا أَوْ أُخْتَيْنِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ ; لأَنَّ الجَمِيعَ حَصَل بِهِ وَلا مَزِيَّةَ للبَعْضِ عَلى البَعْضِ فَيَبْطُل بِخِلافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ احْتِمَالاً بِالقُرْعَةِ فِيمَا إذَا زَوَّجَ الوَليَّانِ مِنْ رَجُليْنِ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَهَذَا مِثْلهُ وَلكِنَّ هَذَا لعِلةٍ تُخَالفُ الإِجْمَاعَ قَالهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَلكِنَّهُ يُعْتَضَدُ بِالرِّوَايَةِ التِي نَقَلهَا ابْنُ أَبِي مُوسَى فِيمَنْ قَال لعَبِيدِهِ أَيُّكُمْ جَاءَنِي بِخَبَرِ كَذَا وكذا فَهُوَ حُرٌّ فَأَتَاهُ بِهِ اثْنَانِ مَعًا عَتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِالقُرْعَةِ , وكَذَلكَ لوْ قَال: أَوَّل غُلامٍ يَطْلعُ عَليَّ فَهُوَ حُرٌّ أَوْ أَوَّل امْرَأَةٍ تَطْلعُ عَليَّ فَهِيَ طَالقٌ.
فَطَلعَ عَليْهِ عَبِيدُهُ كُلهُمْ وَنِسَاؤُهُ كُلهُنَّ أَنَّهُ يُطَلقُ وَيُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالقُرْعَةِ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَأَقَرَّهُ القَاضِي وَصَاحِبُ المُغْنِي فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ عَلى ظَاهِرِهِ وَتَأَوَّلا مَرَّةً عَلى أَنَّهُمْ طَلعُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَأَشْكَل السَّابِقُ وَهَذَا هُوَ الأَظْهَرُ ; لأَنَّهُ اجْتِهَادٌ وَغَيْرُهُ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ لبَعْضِهِمْ مَزِيَّةٌ فَلهُ صُوَرٌ:
منها: إذَا تَزَوَّجَ أُمًّا وَبِنْتًا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَبْطُل النِّكَاحَانِ مَعًا وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَالثَّانِي: يَبْطُل نِكَاحُ الأُمِّ وَحْدَهَا حَكَاهُ صَاحِبُ الكَافِي وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ المُحَرَّرِ ; لأَنَّ نِكَاحَ البِنْتِ لا يَمْنَعُ نِكَاحَ الأُمِّ إذَا عَرِيَ عَنْ الدُّخُول بِخِلافِ العَكْسِ فَكَانَ نِكَاحُ الأُمِّ أَوْلى بِالإِبْطَال.
ومنها: لوْ أَسْلمَ الكَافِرُ عَلى أُمٍّ وَبِنْتٍ لمْ يَدْخُل بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يَنْفَسِخُ نِكَاحُ الأُمِّ وَحْدَهَا وَتَحْرُمُ عَليْهِ عَلى التَّأْبِيدِ وَيَثْبُتُ نِكَاحُ البِنْتِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِيمَا ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ وَبَنَاهُ القَاضِي عَلى أَنَّ أَنْكِحَةَ الكُفَّارِ صَحِيحَةٌ فَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فِي البِنْتِ صَارَتْ أُمُّهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ فَحَرُمَتْ عَليْهِ , قَال: وَلوْ لمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِيهَا كَانَ لهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَهَذَا يُخَالفُ مَا قَرَّرَهُ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ أَنَّ العَقْدَ الفَاسِدَ فِي النِّكَاحِ يُحَرِّمُ مَاحَرّمهُ الصَّحِيحُ وَهَذَا النِّكَاحُ غَايَتُهُ أَنَّهُ فَاسِدٌ ; لأَنَّهُ مُخْتَلفٌ فِي صِحَّتِهِ وَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأُمِّ وَالبِنْتِ وَقَدْ حُرِّمَتَا عَليْهِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلى مَا إذَا وَجَدَ الدُّخُول بِهِمَا ; لأَنَّهُ قَال فِي تَمَامِ هَذِهِ

الرِّوَايَةِ: إذَا كَانَ تَحْتَهُ أُخْتَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا, وَإِذَا كَانَ تَحْتَهُ فَوْقَ أَرْبَعٍ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فَدَل عَلى أَنَّهُ لمْ يَجْعَلهُ كَابْتِدَاءِ العَقْدِ.
ومنها: لوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَةً وَلمْ يَدْخُل بِهَا حَتَّى أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَسَدَ نِكَاحُ الكَبِيرَةِ لمَصِيرِهَا مِنْ أُمَّهَاتِ نِسَائِهِ وَفِي الصَّغِيرَةِ. رِوَايَتَانِ: أَحَدُهُمَا: يَفْسُدُ نِكَاحُهَا أَيْضًا كمَنْ عَقَدَ عَلى أُمٍّ وَبِنْتٍ ابْتِدَاءً.
وَالثَّانِيَةُ: لا يَبْطُل وَهِيَ أَصَحُّ وَمَسْأَلةُ الجَمْعِ فِي العَقْدِ قَدْ سَبَقَ الخِلافُ فِيهَا وَعَلى التَّسْليمِ فِيهَا فَالفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَسْأَلتِنَا أَنَّ الجَمْعَ هَاهُنَا حَصَل فِي الاسْتِدَامَةِ دُونَ الابْتِدَاءِ وَالدَّوَامُ أَقْوَى مِنْ الابْتِدَاءِ فَهُوَ كَمَنْ أَسْلمَ عَنْ أُمٍّ وَبِنْتٍ.
ومنها: لوْ كَانَ تَحْتَ ذِمِّيٍّ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ ثُمَّ اُسْتُرِقَّ للحُوقِهِ بِدَارِ الحَرْبِ أَوْ غَيْرِهِ قَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: يُحْتَمَل أَنْ يَتَخَيَّرَ مِنْهُنَّ اثْنَتينِ كَمَا لوْ أَسْلمَ عَبْدٌ وَتَحْتَهُ أَرْبَعٌ , وَيُحْتَمَل أَنْ يَبْطُل نِكَاحُ الجَمِيعِ كَالرَّضَاعِ إلى الحَادِثِ المُحَرِّمِ للجَمْعِ.
ومنها: لوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عَقْدٍ وَهُوَ فَاقِدٌ لشَرْطِ نِكَاحِ الإِمَاءِ فَإِنَّهُ يَبْطُل نِكَاحُ الأَمَةِ وَحْدَهَا عَلى الأَصَحِّ ; لأَنَّ الحُرَّةَ تَمْتَازُ عَليْهِا بِصِفَةِ وُرُودِ نِكَاحِهَا عَليْهَا في مِثْل هَذِهِ الحَال وَلا عَكْسَ.
وَللثَّالثِ وَهُوَ المَنْعُ مِنْ القَدْرِ المُشْتَرَكِ أَمْثِلةٌ:
منها: لوْ قَال لزَوْجَاتِهِ: وَاَللهِ لا وَطِئْتُ إحْدَاكُنَّ نَاوِيًا بِذَلكَ الامْتِنَاعَ مِنْ وَطْءِ مُسَمَّى إحْدَاهُنَّ وَهُوَ القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الجَمِيعِ فَيَكُونُ مُوليًا مِنْ الجَمِيعِ مَعَ أَنَّ العُمُومَ يُسْتَفَادُ أَيْضًا مِنْ كَوْنِهِ مُفْرَدًا مُضَافًا.
أَمَّا لوْ قَال: لا وَطِئْتُ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَالمَذْهَبُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعُمُّ الجَمِيعَ وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَالأَصْحَابِ بِنَاءً عَلى أَنَّ النَّكِرَةَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يُفِيدُ العُمُومَ , وَحَكَى القَاضِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُوليًا مِنْ وَاحِدَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَأَخَذَهُ مِنْ قَوْلهِ: إذَا آلى مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَأَشْكَلتْ عَليْهِ أُخْرِجَتْ بِالقُرْعَةِ وَلا يَصِحُّ هَذَا الأَخْذُ كَمَا لايخفى, وَحَكَى صَاحِبُ المُغْنِي عَنْ القَاضِي كَذَلكَ وَالقَاضِي مُصَرِّحٌ بِخِلافِهِ فَإِنَّهُ قَال هُوَ إيلاءٌ مِنْ الجَمِيعِ رِوَايَةً وَاحِدَةً لكِنَّهُ قَال: مَتَى وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ انْحَلتْ يَمِينُهُ مِنْ الكُل بِخِلافِ مَا إذَا قَال لا وَطِئْتُ كُل وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ أَوْ لا وَطِئْتُكُنَّ فَإِنَّهُ إذَا وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَنِثَ وَبَقِيَ الإِيلاءُ مِنْ البَوَاقِي , وَإِنْ لمْ يَحْنَثْ بِوَطْئِهِنَّ ; لأَنَّ حَقَّهُنَّ مِنْ الوَطْءِ لمْ يُسْتَوْفَ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ الصُّوَرِ الثَّلاثِ أَنَّ قَوْلهُ لا أَطَأُ كُل وَاحِدَةٍ منكن وَلا أطأكن فِي قُوَّةِ أَيْمَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ لإِضَافَتِهِ إلى مُتَعَدِّدٍ بِخِلافِ قَوْلهِ لا أطأِ وَاحِدَةً مِنْكُنَّ فَإِنَّهُ مُضَافٌ إلى مُفْرَدٍ مِنْكُنَّ مَوْضُوعٌ بِالأَصَالةِ لنَفْيِ الوَحْدَةِ.
وَعُمُومُهُ عُمُومُ بَدَلٍ لا شُمُولٍ فَاليَمِينُ فِيهِ وَاحِدَةٌ فَتَنْحَل بِالحِنْثِ بِوَطْءِ وَاحِدَةٍ وَلكِنَّ

مُقْتَضَى هَذَا التَّفْرِيقِ أَنْ تَتَعَدَّدَ الكَفَّارَةُ فِي الصُّورَتَيْنِ الأُولتَيْنِ بِوَطْءِ كُل وَاحِدَةٍ.
وَهُوَ قِيَاسُ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي الظِّهَارِ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلمَةٍ وَاحِدَةٍ أَنَّ الكَفَّارَةَ تَتَعَدَّدُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَال النَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ إنْ قِيل أَنَّهَا تَعُمُّ بِوَضْعِهَا كَمَا تَعُمُّ صِيَغَ الجُمُوعِ فَالصُّوَرُ الثَّلاثُ مُتَسَاوِيَةٌ , وَإِنْ قِيل: إنَّ عُمُومَهَا جَاءَ ضَرُورَةَ نَفْيِ المَاهِيَّةِ فَالمَنْفِيُّ بِهَا وَاحِدٌ لا تَعَدُّدَ فِيهِ وَهُوَ المَاهِيَّةُ المُطْلقَةُ فَيُتَّجَهُ تَفْرِيقُ القَاضِي المَذْكُورِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
ومنها: إذَا قَال: إنْ خُرْجَتِي مِنْ الدَّارِ مَرَّةً بِغَيْرِ إذْنِي فَأَنْتِ طَالقٌ وَنَوَى بِذَلكَ بَيْنَ المَرَّاتِ اقْتَضَى العُمُومَ بِغَيْرِ إشْكَالٍ وَإِنْ أَطْلقَ فَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ تَتَقَيَّدُ يَمِينُهُ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ , وَسَلمَ أَنَّهُ لوْ أَذِنَ لهَا مَرَّةً فَخَرَجَتْ بِإِذْنِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ ذَلكَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لمْ تَطْلقْ , وَخَالفَهُ أَبُو الخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي خِلافِهِمَا وَهُوَ الحَقُّ , ثُمَّ اخْتَلفَ المَأْخَذُ فَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: ذِكْرُ المَرَّةَ تَنْبِيهٌ عَلى المَنْعِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَليْهَا وَظَاهِرُ كَلامِ أَبِي الخَطَّابِ أَنَّ العُمُومَ أَتَى مِنْ دُخُول النَّكِرَةِ فِي الشَّرْطِ وَلا حَاجَةَ إلى ذَلكَ كُلهِ فَإِنَّ اليَمِينَ عِنْدَنَا إنَّمَا تَنْحَل بِالحِنْثِ وَلوْ خَرَجَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ بِإِذْنِهِ لمْ تَنْحَل اليَمِينُ بِذَلكَ عِنْدَنَا وَالمَحْلوفُ عَليْهِ قَائِمٌ وَهُوَ خُرُوجُهَا مَرَّةً بِغَيْرِ إذْنِهِ فَمَتَى وُجِدَ تَرَتَّبَ عَليْهِ الحِنْثُ.

القاعدة العاشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ العَاشِرَةُ بَعْدَ المِائَةِ:
مَنْ ثَبَتَ لهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ الآخَرُ, وَإِنْ أَسْقَطَ أَحَدَهُمَا أُثْبِتَ الآخَرُ , وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ امْتِنَاعُهُ ضَرَرًا عَلى غَيْرِهِ اسْتَوْفَى لهُ الحَقَّ الأَصْليَّ الثَّابِتَ لهُ إذَا كَانَ مَاليًّا , وَإِنْ لمْ يَكُنْ حَقًّا ثَابِتًا سَقَطَ وَإِنْ كَانَ الحَقُّ غَيْرَ مَاليٍّ أُلزِمَ بِالاخْتِيَارِ وَإِنْ كَانَ حَقًّا وَاجِبًا لهُ وَعَليْهِ فَإِنْ كَانَ مُسْتَحَقُّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ حُبِسَ حَتَّى يُعَيِّنَهُ وَيُوَفِّيَهُ , وَإِنْ كَانَ مُسْتَحقّه مُعَيَّنًا فَهَل يُحْبَسُ وَيُسْتَوْفَى مِنْهُ الحَقُّ الذِي عَليْهِ؟ فِيهِ خلافٌ, وَإِنْ كَانَ حَقًّا عَليْهِ وَأَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْهُ اُسْتُوْفِيَ , وَإِنْ كَانَ عَليْهِ حَقَّانِ أَصْليٌّ وَبَدَلٌ فَامْتَنَعَ مِنْ البَدَل حُكِمَ عَليْهِ بِالأَصْل وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ هَذِهِ القَاعِدَةِ صُوَرٌ:
منها: لوْ عَفَى مُسْتَحِقُّ القِصَاصِ عَنْهُ وَقُلنَا الوَاجِبُ لهُ أَحَدُ أَمْرَيْنِ تَعَيَّنَ لهُ المَال وَلوْ عَفَى عَنْ المَال ثَبَتَ لهُ القَوَدُ.
ومنها: لوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَظَهَرَ عَلى عَيْبٍ فِيهِ ثُمَّ اسْتَعْمَلهُ اسْتِعْمَالاً لا يَدُل عَلى الرِّضَا بِإِمْسَاكِهِ لمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ مِنْ المُطَالبَةِ بِالأَرْشِ عِنْدَ ابْنِ عَقِيلٍ ; لأَنَّ العَيْبَ مُوجِبٌ لأَحَدِ شَيْئَيْنِ إمَّا الرَّدُّ وَإِمَّا الأَرْشُ فَإِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا لا يَسْقُطُ بِهِ الآخَرُ.
وَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي: يَسْقُطُ الأَرْشُ أَيْضًا وَفِيهِ بُعْدٌ.

ومنها: لوْ أَتَاهُ الغَرِيمُ بِدَيْنِهِ فِي مَحِلهِ وَلا ضَرَرَ عَليْهِ فِي قَبْضِهِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِقَبْضِهِ أَوْ إبْرَائِهِ فَإِنْ امْتَنَعَ قَبَضَهُ لهُ الحَاكِمُ وَبَرِئَ غَرِيمُهُ.
ومنها: لوْ امْتَنَعَ المُوصَى لهُ مِنْ القَبُول وَالرَّدِّ حُكِمَ عَليْهِ بِالرَّدِّ وَسَقَطَ حَقُّهُ مِنْ الوَصِيَّةِ.
ومنها: لوْ تَحَجَّرَ مَوَاتًا وَطَالتْ مُدَّتُهُ وَلمْ يُحْيِهِ وَلمْ يَرْفَعْ يَدَهُ عَنْهُ فَإِنَّ حَقَّهُ يَسْقُطُ مِنْهُ.
ومنها: لوْ أَسْلمَ عَلى أُخْتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَامْتَنَعَ مِنْ الاخْتِيَارِ حُبِسَ وَعُزِّرَ حَتَّى يَخْتَارَ.
ومنها: لوْ أُخِّرَتْ المُعْتَقَةُ تَحْتَ عَبْدِ الاخْتِيَارِ حَتَّى طَالتْ المُدَّةُ أَجْبَرَهَا الحَاكِمُ عَلى اخْتِيَارِ الفَسْخِ أَوْ الإِقَامَةِ بِالتَّمْكِينِ مِنْ الاسْتِمْتَاعِ.
ومنها: لوْ أَبَى المَوْلى بَعْدَ المُدَّةِ أَنْ يَفِيءَ أَوْ يُطَلقَ فَرِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا يُحْبَسُ حَتَّى يَفِيءَ أَوْ يُطَلقَ.
وَالثَّانِيَة: يُفَرِّقُ الحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.
منها: لوْ حَل دَيْنُ الرَّهْنِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَوْفِيَتِهِ وَليْسَ ثَمَّ وَكِيلٌ فِي البَيْعِ بَاعَهُ الحَاكِمُ وَوَفَّى الدَّيْنَ مِنْهُ.
ومنها: لوْ اُدُّعِيَ عَليْهِ فَأَنْكَرَ وَطُلبَ مِنْهُ اليَمِينُ فَنَكَل عَنْهَا وَقَضَى بِالنُّكُول وَجُعِل مُقِرًّا ; لأَنَّ اليَمِينَ بَدَلٌ عَنْ الإِقْرَارِ وَعَنْ النُّكُول فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ البَدَل حُكِمَ عَليْهِ بِالأَصْل.
ومنها: لوْ نَكَل المُدَّعَى عَليْهِ عَنْ الجَوَابِ بِالكُليَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِمَّا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول فَهَل يَقْضِي عَليْهِ بِهِ هَاهُنَا أَمْ يُحْبَسُ حَتَّى يُجِيبَ؟ عَلى وَجْهَيْنِ , وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُول كَالقَتْل وَالحَدِّ فَهَل يُحْبَسُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُخْلى سَبِيلهُ؟عَلى وَجْهَيْنِ.

القاعدة الحادية عشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ الحَادِيَةَ عَشَرَةَ بَعْدَ المِائَةِ:
إذَا كَانَ الوَاجِبُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ أَحَدَ شَيْئَيْنِ فَقَامَتْ حُجَّةٌ يثبت بِهَا أَحَدُهُمَا دُونَ الآخَرِ فَهَل يَثْبُتُ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَيُخَرَّجُ عَليْهِمَا مَسَائِل:
منها: إذَا قُلنَا مُوجَبُ قَتْل العَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ فَإِذَا ادَّعَى أَوْليَاءُ المَقْتُول عَلى وَليِّ القَاتِل فِي القَسَامَةِ فَنَكَل فَهَل يَلزَمُهُ الدِّيَةُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
ومنها: لوْ ادَّعَى جِرَاحَةً عَمْدًا عَلى شَخْصٍ وَأَتَى بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَهَل تَلزَمُهُ دِيَتُهَا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ

وَالصَّحِيحُ فِيهَا عَدَمُ وُجُوبِ الدِّيَةِ لئَلا يَلزَمَ أَنْ يَجِبَ بِالقَتْل الدِّيَةُ عَيْنًا وَأَمَّا إنْ قُلنَا أَنَّ مُوجِبَ القَتْل القِصَاصُ عَيْنًا فَالدِّيَةُ بَدَلٌ فَلا يَجِبُ بِمَا لا يَجِبُ بِهِ المَبْدُول.
ومنها: شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِقَتْل عَبْدٍ عَبْدًا عَمْدًا فَهَل يَثْبُتُ بِذَلكَ غُرْمُ قِيمَةَ العَبْدِ دُونَ القَوَدِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ المُحَرَّرِ , وَذَكَرَ أَنَّ رِوَايَةَ وُجُوبِ القِيمَةِ رَوَاهَا ابْنُ مَنْصُورٍ.
وَتَأَمَّلتُ رِوَايَةَ ابْنِ مَنْصُورٍ فَإِذَا ظَاهِرُهَا أَنَّ القَاتِل كَانَ حُرًّا فَلا يَكُونُ جِنَايَتُهُ مُوجِبَةً للقَوَدِ , فَلا تَكُونُ المَسْأَلةُ مِنْ هَذَا القَبِيل بَل مِنْ نَوْعٍ آخَرَ وَهُوَ إذَا كَانَتْ الجِنَايَةُ مُوجِبَةً للمَال عَيْنًا وَقَامَتْ بِهَا بَيِّنَةٌ يَثْبُتُ بِهَا المَال دُونَ أَصْل الجِنَايَةِ فَهَل يَجِبُ بِهَا المَال عَلى رِوَايَتَيْنِ , كَمَا لوْ كَانَتْ الجِنَايَةُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا يُوجِبُ المَال دُونَ القَوَدِ وَأَتَى عَليْهَا بِشَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ ادَّعَى قَتْل كَافِرٍ فِي الصَّفِّ وَأَتَى بِشَاهِدٍ وَحَلفَ مَعَهُ فَهَل يَسْتَحِقُّ بِذَلكَ سَلبَهُ؟ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ.

القاعدة الثانية عشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشَرَ بَعْدَ المِائَةِ:
إذَا اجْتَمَعَ للمُضْطَرِّ مُحَرَّمَانِ كُلٌّ مِنْهُمَا لا يُبَاحُ بِدُونِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ تَقْدِيمُ أَخَفِّهِمَا مَفْسَدَةً وَأَقَلهِمَا ضَرَرًا;لأَنَّ الزِّيَادَةَ لا ضَرُورَةَ إليْهَا فَلا يُبَاحُ , وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: إذَا وَجَدَ المُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً فَإِنَّهُ يَأْكُل المَيْتَةَ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ ; لأَنَّ فِي أَكْل الصَّيْدِ ثَلاثُ جِنَايَاتٍ صَيْدُهُ وَذَبْحُهُ وَأَكْلهُ , وَأَكْل المَيْتَةِ فِيهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ , وَعَلى هَذَا فَلوْ وُجِدَ لحْمُ صَيْدٍ ذَبَحَهُ مُحْرِمٌ وَمَيْتَةٌ فَإِنَّهُ يَأْكُل لحْمَ الصَّيْدِ قَالهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ ; لأَنَّ كُلاً مِنْهُمَا فِيهِ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَمَيَّزُ الصَّيْدُ بِالاخْتِلافِ فِي كَوْنِهِ مُذَكًّى وَفِي هَذَا نَظَرٌ فَإِنَّ أَكْل الصَّيْدِ جِنَايَةٌ عَلى الإِحْرَامِ وَلهَذَا يَلزَمُهُ بِهَا الجَزَاءُ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ وَهُوَ مُسْتَغْنَى عَنْ ذَلكَ بِالأَكْل مِنْ المَيْتَةِ , ثُمَّ وَجَدْتُ أَبَا الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ اخْتَارَ أَكْل المَيْتَةِ وَعَللهُ بِمَا ذَكَرْنَا , وَلوْ وَجَدَ بَيْضَ صَيْدٍ فَظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي أَنَّهُ يَأْكُل المَيْتَةَ وَلا يَكْسِرُهُ وَيَأْكُلهُ ; لأَنَّ كَسْرَهُ جِنَايَةٌ كَذَبْحِ الصَّيْدِ.
ومنها: نِكَاحُ الإِمَاءِ وَالاسْتِمْنَاءِ كِلاهُمَا إنَّمَا يُبَاحُ للضَّرُورَةِ وَيُقَدَّمُ نِكَاحُ الإِمَاءِ كَمَا نَصَّ عَليْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ; لأَنَّهُ مُبَاحٌ بِنَصٍّ وَالآخَرُ مُتَرَدَّدٌ فِيهِ.
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ الاسْتِمْنَاءُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ نِكَاحِ الأَمَةِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ وَأَمَّا نِكَاحُ الإِمَاءِ وَوَطْءُ المُسْتَحَاضَةِ فَقَال ابْنُ عَقِيلٍ إنَّمَا يُبَاحُ وَطْءُ المُسْتَحَاضَةِ عِنْدَ خَوْفِ العَنَتِ وَعَدَمِ الطَّوْل لنِكَاحِ غَيْرِهَا , وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ نِكَاحَ الإِمَاءِ مُقَدَّمٌ عَليْهِ , وَيَتَوَجَّهُ

بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ النَّصِّ عَلى إبَاحَةِ نِكَاحِ الإِمَاءِ دُونَ وَطْءِ المُسْتَحَاضَةِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى وَطْءِ الحَائِضِ لكَوْنِهِ دَمُ أَذًى.
ومنها: مَنْ أُبِيحَ لهُ الفِطْرُ لشَبَقِهِ فَلمْ يُمْكِنْهُ الاسْتِمْنَاءُ وَاضْطُرَّ إلى الجِمَاعِ فِي الفَرْجِ فَلهُ فِعْلهُ فَإِنْ وَجَدَ زَوْجَةً مُكَلفَةً صَائِمَةً وَأُخْرَى حَائِضَةً فَفِيهِ احْتِمَالانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ المُغْنِي. أَحَدُهُمَا: وَطْءُ الصَّائِمَةِ أَوْلى ; لأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهَا تُفْطِرُ لضَرَرِ غَيْرِهَا وَذَلكَ جَائِزٌ لفِطْرِهَا لأَجْل الوَلدِ , وَأَمَّا وَطْءُ الحَائِضِ فَلمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ جَوَازُهُ فَإِنَّهُ حُرِّمَ للأَذَى وَلا يَزُول الأَذَى بِالحَاجَةِ إليْهِ.
وَالثَّانِي: مُخَيَّرٌ لتَعَارُضِ مَفْسَدَةِ وَطْءِ الحَائِضِ مِنْ غَيْرِ إفْسَادِ عِبَادَةٍ عَليْهَا وَإِفْسَادِ صَوْمِ الطَّاهِرَةِ وَالأَوَّل هُوَ الصَّحِيحُ لمَا ذَكَرْنَا مِنْ إبَاحَةِ الفِطْرِ لأَسْبَابٍ دُونَ وَطْءِ الحَائِضِ.
ومنها: إذَا أُلقِيَ فِي السَّفِينَةِ نَارٌ وَاسْتَوَى الأَمْرَانِ فِي الهَلاكِ أَعْنِي المُقَامَ فِي النَّارِ وَإِلقَاءَ النُّفُوسِ فِي المَاءِ فَهَل يَجُوزُ إلقَاءُ النُّفُوسِ فِي المَاءِ أَوْ يَلزَمُ المُقَامُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ , وَالمَنْقُول عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ قَال: أَكْرَهُ طَرْحَ نُفُوسِهِمْ فِي البَحْرِ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: يَصْنَعُ كَيْفَ شَاءَ , قِيل لهُ: هُوَ فِي اللجِّ لا يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ؟! قَال: لا أَدْرِي فَتَوَقَّفَ وَرَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وُجُوبَ المُقَامِ مَعَ تَيَقُّنِ الهَلاكِ فِيهَا لئَلا يَكُونَ قَاتِلاً لنَفْسِهِ بِخِلافِ مَا إذَا لمْ يَتَيَقَّنُوا ذَلكَ لاحْتِمَال النَّجَاةِ بِالإِلقَاءِ.

القاعدة الثالثة عشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ الثَّالثَةَ عَشَرَة بَعْدَ المِائَةِ:
إذَا وَجَدْنَا جُمْلةً ذَاتَ أَعْدَادٍ مُوَزَّعَةٍ عَلى جُمْلةٍ أُخْرَى , فَهَل يَتَوَزَّعُ أَفْرَادُ الجُمَل المُوَزَّعَةِ عَلى أَفْرَادِ الأُخْرَى أَوْ كُل فَرْدٍ منها عَلى مَجْمُوعِ الجُمْلةِ الأُخْرَى؟ هَذِهِ عَلى قِسْمَيْنِ:
الأَوَّل: أَنْ تُوجَدَ قَرِينَةٌ تَدُل عَلى تَعْيِينِ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ فَلا خِلافَ فِي ذَلكَ.
فَمِثَال مَا دَلتْ القَرِينَةُ فِيهِ عَلى تَوْزِيعِ الجُمْلةِ عَلى الجُمْلةِ الأُخْرَى - فَيُقَابَل كُل فَرْدٍ كَامِلٍ بِفَرْدٍ يُقَابِلهُ إمَّا لجَرَيَانِ العُرْفِ أَوْ دَلالةِ الشَّرْعِ عَلى ذَلكَ , وَإِمَّا لاسْتِحَالةِ مَا سِوَاهُ - أَنْ يَقُول لزَوْجَتَيْهِ: إنْ أَكَلتُمَا هَذَيْنِ الرَّغِيفَيْنِ فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ, فَإِذَا أَكَلتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَغِيفًا طَلقَتْ لاسْتِحَالةِ أَكْل كُل وَاحِدَةٍ للرَّغِيفَيْنِ أَوْ يَقُول لعَبْدَيْهِ: إنْ رَكِبْتُمَا دَابَّتَيْكُمَا أَوْ لبِسْتُمَا ثَوْبَيْكُمَا أَوْ تَقَلدْتُمَا سَيْفَيْكُمَا أَوْ اعْتَقَلتُمَا رُمْحَيكُمَا أَوْ دَخَلتُمَا بِزَوْجَتَيْكُمَا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ , فَمَتَى وُجِدَ مِنْ كُل وَاحِدٍ رُكُوبُ دَابَّتِهِ أَوْ لبْسُ ثَوْبه أَوْ تَقَلدُ سَيْفِهِ أَوْ رمْحِهِ أَوْ الدُّخُول بِزَوْجَتِهِ تَرَتَّبَ عَليْهِمَا العِتْقُ ; لأَنَّ الانْفِرَادَ بِهَذَا عُرْفِيٌّ وَفِي بَعْضِهِ شَرْعِيٌّ فَيَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إلى تَوْزِيعِ الجُمْلةِ عَلى الجُمْلةِ ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي.

وَمِثَال مَا دَلتْ القَرِينَةُ فِيهِ عَلى تَوْزِيعِ كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الجُمْلةِ عَلى جَمِيعِ أَفْرَادِ الجُمْلةِ الأُخْرَى أَنْ يَقُول رَجُلٌ لزَوْجَتَيْهِ: إنْ كَلمْتُمَا زَيْدًا أَوْ كَلمْتُمَا عَمْرًا فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ فَلا يُطَلقَانِ حَتَّى تُكَلمَ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا زَيْدًا وَعَمْرًا.
القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ لا يَدُل دليل عَلى إرَادَةِ أَحَدِ التَّوْزِيعَيْنِ فَهَل يُحْمَل التَّوْزِيعُ عِنْدَ هَذَا الإِطْلاقِ عَلى الأَوَّل أَوْ الثَّانِي؟ فِي المَسْأَلةِ خِلافٌ وَالأَشْهَرُ أَنَّهُ يُوَزِّعُ كُلٌّ مِنْ أَفْرَادِ الجُمْلةِ عَلى جَمِيعِ أَفْرَادِ الجُمْلةِ الأُخْرَى إذَا أَمْكَنَ وَصَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الخَطَّابِ فِي مَسْأَلةِ الظِّهَارِ مِنْ نِسَائِهِ بِكَلمَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَكَذَلكَ لا يُذْكَرُ الخِلافُ إلا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَجِبُ طَرْدُهُ فِي سَائِرِهَا مَا لمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ وَلذَلكَ أَمْثِلةٌ كَثِيرَةٌ
فَمنها: قَوْلهُ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فِي تَعْليل مَسْحِهِ الخُفَّيْنِ" إنِّي أَدْخَلتُهُمَا وَهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" هَل المُرَادُ أَنَّهُ أَدْخَل كُل وَاحِدَةٍ مِنْ قَدَمَيْهِ الخُفَّيْنِ وَكُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَاهِرَةٌ أَوْ المُرَادُ أَنَّهُ أَدْخَل كُل القَدَمَيْنِ الخُفَّيْنِ وَكُل قَدَمٍ فِي حَال إدْخَالهَا طَاهِرَةٌ.
وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ مَسْأَلةُ مَا إذَا غَسَل إحْدَى رِجْليْهِ ثُمَّ أَدْخَلهَا الخُفَّ ثُمَّ غَسَل الأُخْرَى وَأَدْخَلهَا الخُفَّ فَعَلى التَّوْزِيعِ الأَوَّل وَهُوَ تَوْزِيعُ المُفْرَدِ عَلى الجُمْلةِ لا يَجُوزُ المَسْحُ ; لأَنَّهُ فِي حَال إدْخَال الرِّجْل الأُولى الخُفَّ لمْ يَكُنْ الرِّجْلانِ طَاهِرَتَيْنِ وَعَلى الثَّانِي وَهُوَ تَوْزِيعُ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ يَصِحُّ , وَفِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَلكِنَّ القَائِل بِأَنَّ الحَدَثَ الأَصْغَرَ لا يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ لا يَرْتَفِعُ إلا بَعْدَ اسْتِكْمَال الطَّهَارَةِ بِمَنْعِ طَهَارَةِ الرِّجْل الأُولى عِنْدَ دُخُولها الخُفِّ نَعَمْ وُجِدَتْ طَهَارَتُهُمَا عِنْدَ اسْتِكْمَال لبْسِ الخُفَّيْنِ وَذَلكَ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ الجُمْلةِ عَلى الجُمْلةِ.
ومنها: مَسْأَلةُ: مُدِّ عَجْوَةٍ وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مستقلة بِنَفْسِهَا فَلنَذْكُرْ هَاهُنَا مَضْمُونَهَا مُلخَّصًا فنقول: إذَا بَاعَ رِبَوِيًّا بِجِنْسِهِ وَمَعَهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ أَوْ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ بِدِرْهَمَيْنِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا بُطْلانُ العَقْدِ وَلهُ مَأْخَذَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَسْلكُ القَاضِي وَأَصْحَابِهِ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلتْ عَلى شَيْئَيْنِ مُخْتَلفَيْ القِيمَةِ يُقَسَّطُ الثَّمَنُ عَلى قِيمَتِهِمَا وَهَذَا يُؤَدِّي هَاهُنَا إمَّا إلى يَقِينِ التَّفَاضُل وَإِمَّا إلى الجَهْل بِالتَّسَاوِي وَكِلاهُمَا مُبْطِلٌ للعَقْدِ فِي أَمْوَال الرِّبَا.
وَبَيَانُ ذَلكَ: أَنَّهُ إذَا بَاعَ مُدًّا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ يُسَاوِيَانِ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الدِّرْهَمُ فِي مُقَابَلةِ ثُلثَيْ مُدٍّ وَيَبْقَى مُدٌّ فِي مُقَابَلةِ مُدٍّ وَثُلثُ وذَلكَ رِبًا. وَكَذَلكَ إذَا بَاعَ مُدًّا يُسَاوِي دِرْهَمًا وَدِرْهَمَيْنِ بِمُدَّيْنِ يُسَاوِينَ ثَلاثَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَتَقَابَل الدِّرْهَمَانِ بِمُدٍّ وَثُلثِ مُدٍّ وَيَبْقَى ثُلثَا مُدٍّ فِي مُقَابَلةِ مُدٍّ , وَأَمَّا إنْ فُرِضَ التَّسَاوِي كَمُدٍّ يُسَاوِي دِرْهَمًا , وَدِرْهَمٍ بِمُدٍّ يُسَاوِي دِرْهَمًا وَدِرْهَم فَإِنَّ التَّقْوِيمَ ظَنٌّ وَتَخْمِينٌ فَلا يَتَعَيَّنُ مَعَهُ المُسَاوَاةُ وَالجَهْل بِالتَّسَاوِي هَاهُنَا كَالعِلمِ بِالتَّفَاضُل فَلوْ فُرِضَ أَنَّ المُدَّيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ

أَوْ مِنْ زَرْعٍ وَاحِدٍ وَإِنَّ الدِّرْهَمَيْنِ مِنْ نَقْدٍ وَاحِدٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي فِي خِلافِهِ احْتِمَاليْنِ. أَحَدُهُمَا: الجَوَازُ لتَحَقُّقِ المُسَاوَاةِ.
وَالثَّانِي: المَنْعُ لجَوَازِ أَنْ يَتَغَيَّرَ أَحَدُهُمَا قَبْل العَقْدِ فَتَنْقُصُ قِيمَتُهُ وَحْدَهُ وَصَحَّحَ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ المَنْعَ. قَال: لأَنَّا لا نُقَابِل مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ بَل نُقَابِل مُدًّا بِنِصْفِ مُدٍّ وَنِصْفِ دِرْهَمٍ , وَكَذَلكَ لوْ خَرَجَ مُسْتَحَقًّا لاسْتُرِدَّ ذَلكَ وَحِينَئِذٍ فَالجَهْل بِالتَّسَاوِي قَائِمٌ , هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي تَقْرِيرِهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ.
وَهُوَ عِنْدِي ضَعِيفٌ ; لأَنَّ المُنْقَسِمَ هُوَ قِيمَةُ الثَّمَنِ عَلى قِيمَةِ المُثْمَنِ لا إجْرَاءِ أَحَدِهِمَا عَلى قِيمَةِ الآخَرِ فَفِيمَا إذَا بَاعَ مُدًّا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ يُسَاوَيَانِ ثَلاثَةً لا نَقُول دِرْهَمٌ مُقَابَلٌ بِثُلثَيْ مُدٍّ بَل نَقُول ثُلثُ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِثُلثِ المُثَمَّنِ فَنُقَابِل ثُلثَ المُدَّيْنِ بِثُلثِ مُدٍّ وَثُلثِ دِرْهَمٍ وَنُقَابِل ثُلثَا المُدَّيْنِ بِثُلثَيْ مُدٍّ وَثُلثَيْ دِرْهَمٍ فَلا تَنْفَكُّ مُقَابَلةُ كُل جُزْءٍ مِنْ المُدَّيْنِ بِجُزْءٍ مِنْ المُدِّ وَالدِّرْهَمِ مُقَابِلٌ لثُلثِ المُثَمَّنِ فَيُقَابِل ثُلثُ المُدَّيْنِ ثُلثَ مُدٍّ وَثُلثَ دِرْهَمٍ وَيُقَابِل ثُلثَا المُدَّيْنِ بِثُلثَيْ مُدٍّ وَثُلثَيْ دِرْهَمٍ فَلا يَنْفَكُّ مُقَابَلةُ كُل جُزْءٍ مِنْ المُدَّيْنِ بِجُزْءٍ مِنْ المُدِّ وَالدِّرْهَمِ.
وَلهَذَا لوْ بَاعَ شِقْصًا وَسَيْفًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ لأَخَذَ الشَّفِيعُ الشِّقْصَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ , نَعَمْ! نَحْتَاجُ إلى مَعْرِفَةِ مَا يُقَابِل الدِّرهَمَ أَوْ المُدَّ مِنْ الجُمْلةِ الأُخْرَى إذَا ظَهَرَ أَحَدُهُمَا مُسْتَحَقًّا أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِهِ ليَرُدَّ مَا قَابَلهُ مِنْ عِوَضِهِ, حَيْثُ كَانَ المَرْدُودُ هَاهُنَا مُعَيَّنًا مُفْرَدًا , أَمَّا مَعَ صِحَّةِ العَقْدِ فِي الكُل وَاسْتِدَامَتِهِ فَإِنَّا نُوَزِّعُ أَجْزَاءَ الثَّمَنِ عَلى أَجْزَاءِ المُثَمَّنِ بِحَسَبِ القِيمَةِ وَحِينَئِذٍ فَالمُفَاضَلةُ المُتَيَقَّنَةُ كَمَا ذَكَرُوهُ مُنْتَفِيَةٌ , وَأَمَّا إنَّ المُسَاوَاةَ غَيْرُ مَعْلومَةٍ فُقِدَتْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ كَمَا سَبَقَ.
وَالمَأْخَذُ الثَّانِي: أَنَّ ذَلكَ مَمْنُوعٌ سَدًّا لذَرِيعَةِ الرِّبَا.
فَإِنَّ اتِّخَاذَ ذَلكَ حِيلةً عَلى الرِّبَا الصَّرِيحِ وَاقِعٌ كَبَيْعِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فِي كِيسٍ بِمِائَتَيْنِ جَعْلاً للمِائَةِ فِي مُقَابَلةِ الكِيسِ وَقَدْ لا يُسَاوِي دِرْهَمًا فَمُنِعَ ذَلكَ وَإِنْ كَانَا مَقْصُودَيْنِ حَسْمًا لهَذِهِ المَادَّةِ, وَفِي كَلامِ أَحْمَدَ إيمَاءٌ إلى هَذَا المَأْخَذِ.
وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ ذَلكَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَعَ الرِّبَوِيِّ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ أَوْ يَكُونَ مَعَ أَحَدِهِمَا وَلكِنَّ المُفْرَدَ أَكْثَرُ مِنْ الذِي مَعَهُ غَيْرُهُ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ جَعْلاً لغَيْرِ الجِنْسِ فِي مُقَابَلةِ الجِنْسِ وَفِي مُقَابَلةِ الزِّيَادَةِ , وَمِنْ المُتَأَخِّرِينَ كَالسَّامِرِيِّ مَنْ يَشْتَرِطُ فِيمَا إذَا كَانَ مع كُل وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ مِنْ الجَانِبَيْنِ التَّسَاوِي جَعْلاً لكُل جِنْسٍ فِي مُقَابَلةِ جِنْسِهِ وَهُوَ أَوْلى مِنْ جَعْل الجِنْسِ فِي مُقَابَلةِ غَيْرِهِ لا سِيَّمَا مَعَ اخْتِلافِهِمَا فِي القِيمَةِ وَعَلى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلكَ مَا لمْ يَكُنْ حِيلةً عَلى الرِّبَا وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى هَذَا الشَّرْطِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ وَلا بُدَّ مِنْهُ.
وَعَلى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يَكُونُ التَّوْزِيعُ هَاهُنَا للأَفْرَادِ عَلى الأَفْرَادِ وَعَلى الرِّوَايَةِ الأُولى هُوَ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ الأَفْرَادِ عَلى الجُمَل أَوْ تَوْزِيعِ الجُمَل عَلى الجُمَل.
وَللأَصْحَابِ فِي المَسْأَلةِ طَرِيقَةٌ ثَانِيَةٌ: وَهُوَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ المُحَلى بِجِنْسِ حِليَتِهِ قَوْلاً وَاحِدًا , وَفِي

بَيْعِهِ بِنَقْدٍ آخَرَ رِوَايَتَانِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِعَرْضٍ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَالشِّيرَازِيِّ وَأَبِي مُحَمَّدٍ التَّمِيمِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللهِ الحُسَيْنِ الهَمْدَانِيِّ فِي كِتَابِه المُقْتَدَى , وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ جَزَمَ بِالمَنْعِ مِنْ بَيْعِهِ بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ كَأَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ.
وَقَال الشِّيرَازِيُّ: الأَظْهَرُ المَنْعُ وَمِنْهُمْ مَنْ جَزَمَ بِالجَوَازِ فِي بَيْعِهِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ كَالتَّمِيمِيِّ وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الخِلافَ كَابْنِ أَبِي مُوسَى وَنَقَل البرزاطي عَنْ أَحْمَدَ مَا يَشْهَدُ لهَذِهِ الطَّرِيقَةِ فِي حُليٍّ صُنِعَ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمِ فِضَّةٍ وَمِائَةٍ نُحَاسٍ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُهُ كُلهُ بِالفِضَّةِ وَلا بِالذَّهَبِ وَلا بِوَزْنِهِ مِنْ الفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ.
وَلا يَجُوزُ بَيْعُهُ حَتَّى يُخَلصَ الفِضَّةَ مِنْ النُّحَاسِ وَبَيْعُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ.
وَفِي تَوْجِيهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ غُمُوضٌ وَحَاصِلهُ أَنَّ بَيْعَ المُحَلى بِنَقْدٍ مِنْ جِنْسِهِ قَبْل التَّمْيِيزِ وَالتَّفْصِيل بَيْنَهُ وَبَيْنَ حِليَتِهِ يُؤَدِّي إلى الرِّبَا ; لأَنَّهُ بَيْعٌ رِبَوِيٌّ بِجِنْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقِ مُسَاوَاةٍ ; لأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ يُقَابِل العَرْضَ فَيَبْقَى البَاقِي مُقَابِلاً للرِّبَوِيِّ وَلا تَتَحَقَّقُ مُسَاوَاتُهُ وَأَمَّا مَعَ تَمْيِيزِ الرِّبَوِيِّ وَمَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ فَإِنَّمَا مَنَعُوه إذَا ظَهَرَ فِيهِ وَجْهُ الحِليَةِ أَوْ كَانَ التَّفَاضُل فِيهِ مُتَيَقَّنًا كَبَيْعِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مَكْسُورَةٍ بِثَمَانِيَةٍ صِحَاحٍ وَفَلسَيْنِ أَوْ أَلفٍ صِحَاحٍ بِأَلفٍ مَكْسُورَةٍ وَثَوْبٍ أَوْ أَلفٍ صِحَاحٍ وَدِينَارٍ بِأَلفٍ وَمِائَة مَكْسُورَةٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى وَأَمَّا بَيْعُهُ بِنَقْدٍ آخَرَ أَوْ بِرِبَوِيٍّ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ وَلكِنَّ عِلةَ الرِّبَا فِيهَا وَاحِدَةٌ فَالخِلافُ فِيهِ مَبْنِيٌّ عَلى الخِلافِ فِي بَيْعِ المَوْزُونَاتِ وَالمَكِيلاتِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ جُزَافًا وَفِي جَوَازِهِ رِوَايَتَانِ.
وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ المَنْعَ وعللوه بِأَنَّهُ لوْ اسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا لمْ يَدْرِ بِمَا يَرْجِعُ عَلى صَاحِبِهِ فَيُؤَدِّي إلى الرِّبَا مِنْ جِهَةِ العَقْدِ وَهَكَذَا عَلل أَهْل هَذِهِ الطَّرِيقَةِ المَنْعَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ وَفِيهِ ضَعْفٌ فَإِنَّ المُسْتَحَقَّ لمْ يَصِحَّ العَقْدُ فِيهَ وَعِوَضُهُ ثَابِتٌ فِي الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ المُصَالحَةُ عَنْهُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ المَجْهُولةِ.
وَهَذَا الخِلافُ يُشْبِهُ الخِلافَ فِي اشْتِرَاطِ العِلمِ بِرَأْسِ مَالٍ السلم وَضَبْطِ صِفَاتِهِ وَأَنَّهُ إذَا أَسْلمَ فِي جِنْسَيْنِ لمْ يَجُزْ حَتَّى يُبَيِّنَ قَسْطَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ السَّلمَ وَالصَّرْفَ مُتَقَارِبَانِ وَهَذَا كُلهُ فِي الجِنْسَيْنِ.
فَأَمَّا بَيْعُ نَوْعَيْ جِنْسٍ بِنَوْعٍ مِنْهُ فَفِيهِ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُكْمَ نَوْعَيْ الجِنْسِ حُكْمُ الجِنْسَيْنِ وَهُوَ طَرِيقُ القَاضِي وَأَصْحَابِهِ نَظَرًا ; لأَنَّ تَوْزِيعَ العِوَضِ بِالقِيمَةِ فَيُؤَدِّي ذَلكَ هَاهُنَا إلى تَعَيُّنِ المُفَاضَلةِ وَليْسَ هَاهُنَا شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ يُجْعَل فِي مُقَابَلةِ الفَاضِل.
وَالثَّانِي: الجَوَازُ هَاهُنَا وَهُوَ طَرِيقُ أَبِي بَكْرٍ وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ نَظَرًا إلى أَنَّ الجَوْدَةَ وَالرَّدَاءَةَ لا تُعْتَبَرُ فِي الرِّبَوِيَّاتِ مَعَ اتِّحَادِ النَّوْعِ فَكَذَا فِي الجِنْسِ الوَاحِدِ , وَالتَّقْسِيطُ إنَّمَا يَكُونُ فِي غَيْرِ أَمْوَال الرِّبَا أَوْ فِي الجِنْسِ بِدَليل مَا لوْ بَاعَ نَوْعًا بِنَوْعٍ يَشْتَمِل عَلى جَيِّدٍ وَرَدِيءٍ فَإِنَّ المَذْهَبَ جَوَازُهُ وَلكِنْ ذَكَرَ أَبُو الخَطَّابِ فِي

انْتِصَارِهِ فِيهِ احْتِمَالاً بِالمَنْعِ , وَنَقَل ابْنُ القَاسِمِ عَنْ أَحْمَدَ إنْ كَانَ نَقْدًا لمْ يَجُزْ فَإِنْ كَانَ ثَمَرًا جَازَ , وَالفَرْقُ أَنَّ أَنْوَاعَ الثِّمَارِ يَكْثُرُ اخْتِلاطُهَا وَيَشُقُّ تَمْيِيزُهَا بِخِلافِ أَنْوَاعِ النُّقُودِ.
وَهَذَا كُلهُ فِيمَا إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ مَقْصُودًا بِالعَقْدِ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالأَصَالةِ وَإِنَّمَا هُوَ تَابِعٌ لغَيْرِهِ فَهَذَا ثَلاثَةُ أَنْوَاعٍ.
أَحَدُهَا: مَا لا يُقْصَدُ عَادَةً وَلا يُبَاعُ مُفْرَدًا كَتَزْوِيقِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ فَلا يُمْنَعُ مِنْ البَيْعِ بِجِنْسِهِ بِالاتِّفَاقِ.
وَالثَّانِي: مَا يُقْصَدُ تَبَعًا لغَيْرِهِ وَليْسَ أَصْلاً لمَال الرِّبَا كَبَيْعِ العَبْدِ ذِي المَال بِمَالٍ مِنْ جِنْسِهِ إذَا كَانَ المَقْصُودُ الأَصْليُّ هُوَ العَبْدُ وَفِيهِ ثَلاثُ طُرُقٍ
أَحَدُهمَا: أَنَّهُ يَصِحُّ رِوَايَةً وَاحِدَةً سَوَاءٌ قُلنَا أَنَّ العَبْدَ يَمْلكُ أَوْ لا يَمْلكُ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَالخِرَقِيِّ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي مَوَاضِعَ مِنْ فُصُولهِ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَهُي المَنْصُوصُة عَنْ أَحْمَدَ.
وَالثَّانِيَة: البِنَاءُ عَلى مِلكِ العَبْدِ فَإِنْ قُلنَا يَمْلكُ يَصِحُّ ; لأَنَّ المَال مِلكُ العَبْدِ فَليْسَ بِدَاخِلٍ فِي عَقْدِ البَيْعِ كَمَال المُكَاتَبِ لا يَدْخُل مَعَهُ فِي بَيْعِهِ وَإِنْ قُلنَا لا يَمْلكُ اُعْتُبِرَ لهُ شُرُوطُ البَيْعِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَأَبِي الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ.
وَالثَّالثَةُ: طَرِيقَةُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ إنْ قُلنَا لا يَمْلكُ اُعْتُبِرَ لهُ شُرُوطُ البَيْعِ وَإِنْ قُلنَا يَمْلكُ فَإِنْ كَانَ مَقْصُودًا اُعْتُبِرَ لهُ ذَلكَ وَإِلا فَلا. وَأَنْكَرَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ أَنْ يَكُونَ القَصْدُ وَعَدَمُهُ مُعْتَبَرًا فِي صِحَّةِ العَقْدِ وَفِي الظَّاهِرِ وَهُوَ عُدُولٌ عَنْ قَوَاعِدِ المَذْهَبِ وَأُصُولهِ.
النَّوْعُ الثَّالثُ: مَا لا يُقْصَدُ وَهُوَ تَابِعٌ لغَيْرِهِ وَهُوَ أَصْلٌ لمَال الرِّبَا إذَا أبِيعَ بِمَا فِيهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُمْكِنَ إفْرَادُ التَّابِعِ بِالبَيْعِ كَبَيْعِ نَخْلةٍ عَليْهَا رُطَبٌ بِرُطَبٍ.
وَفِيهِ طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ طَرِيقُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ المَنْعُ ; لأَنَّهُ مَالٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ أَحْكَامِهِ بِنَفْسِهِ مُنْفَرِدًا عَنْ حُكْمِ الأَصْل.
وَالثَّانِي: الجَوَازُ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي بَكْرٍ وَالخِرَقِيِّ وَابْنِ بَطَّةَ وَالقَاضِي فِي الخِلافِ كَمَا سَبَقَ فِي بَيْعِ العَبْدِ ذِي المَال , وَاشْتَرَطَ ابْنُ بَطَّةَ وَغَيْرُهُ أَنْ يَكُونَ الرُّطَبُ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَلذَلكَ شَرَطَ فِي بَيْعِ النَّخْلةِ التِي عَليْهَا ثَمَرٌ لمْ يَبْدُ صَلاحُهُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَرُ غَيْرَ مَقْصُودٍ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ وَالأَثْرَمِ , وَتَأَوَّلهُ القَاضِي لغَيْرِ مُعَيَّنٍ وَمَعْنَى قَوْلنَا غَيْرُ مَقْصُودٍ أَيْ بِالأَصَالةِ وَإِنَّمَا المَقْصُودُ فِي الأَصْليِّ الشَّجَرُ وَالثَّمَرُ مَقْصُودٌ تَبَعًا.

َالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ لا يَكُونَ التَّابِعُ مِمَّا لا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالبَيْعِ كَبَيْعِ شَاةٍ لبُونٍ بِلبَنٍ أَوْ ذَاتِ صُوفٍ بِصُوفٍ وَبَيْعِ الثَّمَرِ بِالنَّوَى فَيَجُوزُ هَاهُنَا عِنْدَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَمَنَعَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ , وَقَدْ حُكِيَ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ وَلعَل المَنْعَ يتَنزل عَلى مَا إذَا كَانَ الرِّبَوِيُّ مَقْصُودًا وَالجَوَازُ عَلى عَدَمِ القَصْدِ وَقَدْ صَرَّحَ بِاعْتِبَارِ عَدَمِ القَصْدِ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَيَشْهَدُ لهُ تَعْليل الأَصْحَابِ كُلهِمْ الجَوَازَ بِأَنَّهُ تَابِعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
وَاعْلمْ أَنَّ هَذِهِ المَسْأَلةَ مُنْقَطِعَةٌ عَنْ مَسَائِل: مُدِّ عَجْوَةٍ وَأَنَّ القَوْل بِالجَوَازِ لا يَتَقَيَّدُ بِزِيَادَةِ المُفْرَدِ عَلى مَا مَعَهُ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي بَيْعِ العَبْدِ الذِي لهُ مَالٌ بِمَالٍ دُون الذِي مَعَهُ وَقَالهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي مَسْأَلةِ العَبْدِ وَالنَّوَى بِالثَّمَرِ وَكَذَلكَ المَنْعُ فِيهَا مُطْلقٌ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ , وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَهَا أَوْ بَعْضَهَا عَلى مَسَائِل مُدِّ عَجْوَةٍ فَفَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ المُفْرَدُ أَكْثَرَ مِنْ الذِي مَعَهُ غَيْرُهُ أَوْ لا وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ كَأَبِي الخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي مَسْأَلةِ العَبْدِ ذِي المَال وَكَذَلكَ حَكَى أَبُو الفَتْحِ الحَلوَانِيُّ رِوَايَةً فِي بَيْعِ الشَّاةِ ذَاتِ الصُّوفِ وَاللبَنِ بِالصُّوفِ وَاللبَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ المُفْرَدُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الشَّاةِ مِنْ جِنْسِهِ وَلعَل هَذَا مَعَ قَصْدِ اللبَنِ وَالصُّوفِ بِالأَصَالةِ وَالجَوَازِ مَعَ عَدَمِ القَصْدِ فَيَرْتَفِعُ الخِلافُ حِينَئِذٍ وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَإِنْ حُمِل عَلى إطْلاقِهِ فَهُوَ مُتَنَزِّلٌ عَلى أَنَّ التَّبَعِيَّةَ هَاهُنَا لا عِبْرَةَ فِيهَا وَأَنَّ الرِّبَوِيَّ التَّابِعُ لغَيْرِهِ فَهُوَ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ.
ومنها: إذَا بَاعَ رَجُلٌ عَبْدَيْنِ لهُ مِنْ رَجُليْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَإِنَّ المَبِيعَ يَقَعُ شَائِعًا بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ لكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ كُل عَبْدٍ , وَلا يَتَخَرَّجُ هُنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنْ يَكُونَ لكُل وَاحِدٍ عَبْدٌ ; لأَنَّهُ يَلزَمُ مِنْ ذَلكَ عَدَمُ تَعْيِينِ المَبِيعِ فَيَفْسُدُ البَيْعُ , نَعَمْ لوْ كَانَ العَقْدُ مِمَّا يَصِحُّ بِهِ مُبْهَمًا كَالوَصِيَّةِ وَالمَهْرِ وَالخُلعِ تَوَجَّهَ هَذَا التَّخْرِيجُ فِيهِ.
وَلوْ أَقَرَّ لرَجُلٍ بِنِصْفِ عَبْدَيْنِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِعَبْدٍ مُعَيَّنٍ قُبِل بِخِلافِ مَا إذَا أَقَرَّ لهُ بِنِصْفِ هَذَيْنِ العَبْدَيْنِ ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَحَدِهِمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ ; لأَنَّ الأَوَّل مُطْلقٌ فَيَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمُعَيَّنٍ كَمَا لوْ قَال لزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالقٌ نِصْفَ تَطْليقَتَيْنِ فَإِنَّهَا تَطْلقُ وَاحِدَةً , وَأَمَّا إذَا أَوْصَى لهُ بِثُلثِ ثَلاثَةِ أَعْبُدٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْهُمْ اثْنَانِ فَهَل يُسْتَحَقُّ ثُلثُ البَاقِي أَوْ كُلهُ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَهَذَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ قَبُول التَّفْسِيرِ بِعَبْدٍ مُفْرَدٍ مَعَ التَّعْيِينِ وَليْسَ كَذَلكَ بَل حِرَّك هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ أَنَّهُ هَل يَدْخُل العَبِيدُ وَنَحْوُهُمْ قِسْمَةَ الإِجْبَارِ أَمْ لا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ وَالمَنْصُوصُ دُخُولهَا.
ومنها: إذَا رَهَنَهُ اثْنَانِ عَيْنَيْنِ أَوْ عَيْنًا لهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلى دَيْنٍ لهُ عَليْهِمَا مِثْل أَنْ يَرْهَنَاهُ دَارًا لهُمَا عَلى أَلفِ دِرْهَمٍ لهُ عَليْهِمَا نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا عَلى أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا قَضَى مَا عَليْهِ وَلمْ يَقْضِ الآخَرُ أَنَّ الدَّارَ رَهْنٌ عَلى مَا بَقِيَ.
فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ جَعَل نَصِيبَ كُل وَاحِدٍ رَهْنًا بِجَمِيعِ الحَقِّ تَوْزِيعًا

للمُفْرَدِ عَلى الجُمْلةِ لا عَلى المُفْرَدِ وَبِذَلكَ جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَأَبُو الخَطَّابِ وَهُوَ المَذْهَبُ عِنْدَ صَاحِبِ التَّلخِيصِ.
قَال القَاضِي: هَذَا بِنَاءً عَلى الرِّوَايَةِ التِي تَقُول: إنَّ عَقْدَ الاثْنَيْنِ مَعَ الوَاحِدِ فِي حُكْمِ الصَّفْقَةِ الوَاحِدَةِ. أَمَّا إذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ الصَّحِيحِ فِي حُكْمِ عَقْدَيْنِ كَانَ نَصِيبُ كُل وَاحِدٍ مَرْهُونًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ قَال: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لمَّا رَهَنَ صَارَ كَفِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فَلا يَنْفَكُّ الرَّهْنُ فِي نَصِيبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ بِجَمِيعِ مَا عَليْهِ , وَتَأَوَّلهُ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كان كَفِيلاً عَنْ صَاحِبِهِ فَإِذَا قَضَى أَحَدُهُمَا لمْ يَنْفَكَّ حَقُّهُ مِنْ الرَّهْنِ ; لأَنَّهُ مُطَالبٌ بِمَا ضَمِنَهُ.
قَال: وَأَمَّا إنْ لمْ يَضْمَنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا عَلى صَاحِبِهِ فَلهُ الرُّجُوعُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ.
وَليْسَ فِي كَلامِ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى الضَّمَانِ وَقَدْ نَبَّهَ عَلى ذَلكَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَقَال: عَلى هَذَا يَصِحُّ الرَّهْنُ مِمَّنْ ليْسَ الدَّيْنُ عَليْهِ وَعَلى الأَوَّل لا يَصِحُّ.
وَتَأَوَّل القَاضِي أَيْضًا فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُغْنِي كَلامَ أَحْمَدَ عَلى أَنَّ الرَّهْنَ انْفَكَّ فِي نَصِيبِ المُوفِي للدَّيْنِ لكِنْ ليْسَ للرَّاهِنِ مُقَاسَمَةُ المُرْتَهِنِ لمَا عَليْهِ مِنْ الضَّرَرِ لا لمَعْنَى أَنَّ المُعَيَّنَ يَكُونُ كُلهَا رَهْنًا وَبِمِثْل ذَلكَ تَأَوَّل صَاحِبُ المُغْنِي مَا قَالهُ أَبُو الخَطَّابِ وَالحَلوَانِيُّ وَغَيْرُهُمَا فِيمَنْ رَهَنَ عِنْدَ رَجُليْنِ فَوَفَّى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَبْقَى جَمِيعُهُ رَهْنًا عِنْدَ الآخَرِ وَتَأَوَّلهُ عَلى المَنْعِ مِنْ المُقَاسَمَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ لوَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَحْمَدَ نَصَّ عَلى أَنَّ الدَّارَ رَهْنٌ عَلى مَا بَقِيَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ انْفِكَاكَ أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ وَقَبْضَ صَاحِبِهِ لهُ لا يَتَوَقَّفُ عَلى المُقَاسَمَةِ فَإِنَّ الشَّرِيكَ يَقْبِضُ نَصِيبَهُ المُشْتَرَكَ مِنْ غَيْرِ اقْتِسَامٍ وَيَكُونُ قَبْضًا صَحِيحًا إذْ القَبْضُ يَتَأَتَّى فِي المُشَاعِ.
وَيُشْبِهُ هَذِهِ المَسْأَلةَ مَا إذَا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً بِعِوَضٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الكِتَابَةِ هَل يُعْتَقُ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُعْتَقُ وَهُوَ اخْتِيَارُ القَاضِي وَأَصْحَابِهِ ; لأَنَّهُ أَدَّى مَا يَخُصُّهُ فَهُوَ كَمَا لوْ أَدَّى أَحَدُ المُشْتَرِيَيْنِ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ يَتَسَلمُ نَصِيبَهُ تَسْليمًا مُشَاعًا عِنْدَ الأَصْحَابِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي مِنْ مَنْعِ التَّسْليمِ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ فَهُوَ يَرْجِعُ إلى أَنَّهُ لا يَتَسَلمُ العَيْنَ كُلهَا وَهَذَا صَحِيحٌ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي الخِلافِ وَالجَامِعِ الصَّغِيرِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّيَا جَمِيعَ مَال الكِتَابَةِ وَهُوَ قَوْل أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَنَقَل مُهَنَّا عَنْ أَحْمَدَ مَا يَشْهَدُ لهُ فِي مَأْخَذِهِ فَقِيل ; لأَنَّ الكِتَابَةَ عِتْقٌ مُعَلقٌ بِشَرْطٍ فَلا يَقَعُ إلا بَعْدَ كَمَال شَرْطِهِ وَهُوَ هَاهُنَا أَدَاءُ جَمِيعِ المَال وَهَذَا يبعد عَلى أَصْل أَبِي بَكْرٍ ; لأَنَّهُ يَرَى أَنَّ الكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ لا تَعْليقَ فِيهَا بِحَالٍ , وَقِيل: لأَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَلا يُعْتَقُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ مَا عَليْهِ , وَقِيل ; لأَنَّهَا صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَلا تَتَبَعَّضُ وَهَذَا قَدْ يَرْجِعُ إلى الضَّمَانِ

أَيْضًا كَأَنَّهُ التَزَمَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الأَلفَ عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ تَوْزِيعًا للمُفْرَدِ عَلى الجُمْلةِ إذْ لوْ لمْ يَلزَمْ أَحَدَهُمَا أَدَاءُ جَمِيعِ المَال لمَا وَقَفَ عِتْقُهُ عَلى أَدَائِهِ.
وَقَدْ اخْتَلفَ كَلامُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي ضَمَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا عَنْ الآخَرِ فَنَفَيَاهُ تَارَةً وَأَثْبَتَاهُ أُخْرَى , وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِي رَجُلٍ لهُ عَلى قَوْمٍ حَقٌّ أَنَّهُ كَتَبَ فِي كِتَابِهِمْ أَيُّهُمْ شِئْتَ أَخَذْتُ بِحَقِّي مِنْهُ يَأْخُذُ أَيَّهُمْ شَاءَ وَمَفْهُومُهُ أَنَّ الغُرَمَاءَ لا ضَمَانَ بَيْنَهُمْ بِدُونِ الشَّرْطِ بِكُل حَالٍ.
ومنها: لوْ وَضَعَ المُتَرَاهِنَانِ الرَّهْنَ عَلى يَدَيْ عَدْليْنِ وَكَانَا عَيْنَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ أَوْ كَانَ مِمَّا يُقَسَّمُ كَالمَكِيل وَالمَوْزُونِ فَهَل لهُمَا انْقِسَامُهُ وَانْفِرَادُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِفْظِ نَصِيبِهِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ ذَلكَ قَالهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ تَوْزِيعًا للمُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ فَيَكُونُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينًا عَلى نِصْفِهِ وَصَرَّحَ القَاضِي بِذَلكَ , وَعَلى هَذَا فَلوْ دَفَعَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ المَقْسُومَ الذِي بِيَدِهِ إلى الآخَرِ فَتَلفَ فِي يَدِهِ فَهَل يَضْمَنُهُ؟ عَلى احْتِمَاليْنِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي ; لأَنَّهُ انْفَرَدَ بِهِ بَعْدَ القِسْمَةِ بِخِلافِ مَا إذَا سَلمَ الكُل قَبْل القِسْمَةِ فَإِنَّهُ لا يَضْمَنُ كَذَا قَال القَاضِي.
وَقَال مَرَّةً أُخْرَى: يَضْمَنُ نِصْفَهُ أَيْضًا.
وَالثَّانِي: لا يَجُوزُ اقْتِسَامُهُ بَل يَتَعَيَّنُ حِفْظُهُ كُلهُ عَلى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ. وَهُوَ قَوْل القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ ; لأَنَّ المُتَرَاهِنَيْنِ إنَّمَا رَضِيَا بِحِفْظِهِمَا جَمِيعًا فَلا يَجُوزُ لهُمَا الانْفِرَادُ كَالوَصِيَّيْنِ وَالوَكِيل فِي البَيْعِ وَعَلى هَذَا يُخْرِجُ الوَدِيعَةَ لاثْنَيْنِ وَالوَصِيَّةُ بِالنِّسْبَةِ إلى الحِفْظِ خَاصَّةً دُونَ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهُ لا يَسْتَقِل أَحَدُهُمَا بِشَيْءٍ مِنْهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى جَوَازِ انْفِرَادِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ التَّصَرُّفِ فَنَقَل عَنْهُ حَرْبٌ فِيمَنْ قَال لرَجُليْنِ: تَصَدَّقَا عَنِّي بِأَلفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ ثُلثِي فَأَخَذَ كُل وَاحِدٍ أَلفًا فَتَصَدَّقَ بِهَا عَلى حِدَةٍ ليَكُونَ أَسْهَل عَليْهِمَا فَلمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا.
وَهَذَا قَدْ يَخْتَصُّ بِالصَّدَقَةِ لحُصُول المَقْصُودِ مِنْهَا بِالانْفِرَادِ بِخِلافِ غَيْرِهِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ التِي يُقْصَدُ بِهَا الحَظُّ وَالغِبْطَةُ وَالكَسْبُ.
قَال فِي التَّلخِيصِ: وَلوْ وَكَّل اثْنَيْنِ فِي المُخَاصَمَةِ لمْ يَكُنْ لوَاحِدٍ الاسْتِبْدَادُ بِهَا كَالوَصِيَّيْنِ وَوَكِيليْ التَّصَرُّفِ وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ لهُ ; لأَنَّ العُرْفَ فِي الخُصُومَةِ يَقْتَضِيهِ بِخِلافِ غَيْرِهَا انْتَهَى.
وَقَال القَاضِي أَيْضًا: وَلوْ تَعَدَّدَ المُعَيَّنُ فَاحْتِمَالانِ يَعْنِي فِي تَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ وَاتِّحَادِهَا.
ومنها: الضَّمَانُ فَإِذَا ضَمِنَ اثْنَانِ دِيَةَ رَجُلٍ لغَرِيمِهِ فَهَل كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لجَمِيعِ الدَّيْنِ أَوْ بِالحِصَّةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: كُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنٌ للجَمِيعِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي رَجُلٍ لهُ عَلى رَجُلٍ أَلفُ دِرْهَمٍ

فَكَفَل بِهَا كَفِيلانِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ فَأَيُّهُمَا شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ حَقِّهِ مِنْهُ وَكَذَلك قَال أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ فِيمَنْ قَال للرَّجُل أَلقِ مَتَاعَك فِي البَحْرِ عَلى أَنِّي وَرُكْبَانُ السَّفِينَةِ ضُمَنَاءُ فَأَلقَاهُ ضَمِنَهُ دُونَهُمْ إلا أَنْ يَتَطَوَّعُوا بِالضَّمَانِ مَعَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ مَأْخَذُ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّغْرِيرِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَلقَاهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ قِيمَتَهُ تُرَدُّ عَليْهِ اعْتِمَادًا عَلى قَوْل هَذَا القَائِل فَلذَلكَ لزِمَهُ الضَّمَانُ وَعَلى هَذَا فَيُفَرَّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ المَتَاعِ عَالمًا بِالحُكْمِ أَوْ جَاهِلاً بِهِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الضَّمَانَ بِالحِصَّةِ إلا أَنْ يُصَرِّحُوا بِمَا يَقْتَضِي خِلافَهُ مِثْل أَنْ يَقُولوا ضَمِنَّا لكَ , وَكُل وَاحِدٍ مِنَّا الأَلفَ التِي لكَ عَلى فُلانٍ فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ يَلزَمُهُ الأَلفُ حِينَئِذٍ.
وَأَمَّا مَعَ إطْلاقِ ضَمَانِ الأَلفِ مِنْهُمْ بِالحِصَّةِ وَهَذَا قَوْل القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَالخِلافِ وَصَاحِبِ المُغْنِي وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي المَسْأَلةِ احْتِمَاليْنِ وَبَنَاهُ القَاضِي عَلى أَنَّ الصَّفْقَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الضَّامِنَيْنِ فَيَصِيرُ الضَّمَانُ مُوَزَّعًا عَليْهِمَا وَعَلى هَذَا فَلوْ كَانَ المَضْمُونُ دَيْنًا مُتَسَاوِيًا عَلى رَجُليْنِ فَهَل يُقَال كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لنِصْفِ الدَّيْنَيْنِ أَوْ كُلٌّ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لأَحَدِهِمَا بِانْفِرَادٍ؟ إذَا قُلنَا بِصِحَّةِ ضَمَانِ المُبْهَمِ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ وَالأَوَّل أَشْبَهُ بِكَلامِ الأَصْحَابِ , وَشَبِيهٌ بِهَذِهِ المَسْأَلةِ مَا إذَا كَفَل اثْنَيْنِ شَخْصًا لآخَرَ فَسَلمَهُ أَحَدُهُمَا إلى المَكْفُول لهُ فَهَل يَبْرَأُ الكَفِيل الآخَرُ أَمْ لا عَلى وَجْهَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ لا يَبْرَأُ ; لأَنَّهُمَا كَفَالتَانِ وَالوَثِيقَتَانِ إذَا انْحَلتْ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ تَوْفِيَةٍ بَقِيَتْ الأُخْرَى كَالضَّامِنَيْنِ إذَا بَرِئَ أَحَدُهُمَا وَهَذَا قَوْل القَاضِي وَأَصْحَابِهِ.
وَالثَّانِي: يَبْرَأُ ; لأَنَّ التَّوْفِيَةَ قَدْ وُجِدَتْ بِالتَّسْليمِ فَهُوَ كَمَا لوْ سَلمَ المَكْفُول نَفْسَهُ أَوْ وَفَّى أَحَدُ الضَّامِنَيْنِ الدَّيْنَ وَهُوَ احْتِمَالٌ فِي الكَافِي وَقَوْل الأَزَجِيِّ فِي نِهَايَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ السَّامِرِيِّ فِي فُرُوقِهِ وَهُوَ يَعُودُ إلى أَنَّهَما كَفَالةٌ وَاحِدَةٌ وَالأَظْهَرُ أَنَّهُمَا إنْ كَفَلا كَفَالةَ الاشْتِرَاكِ فَإِنْ قَالا: كَفَلنَا لكَ زَيْدًا نُسَلمُهُ إليْكَ فَإِذَا سَلمَهُ أَحَدُهُمَا بَرِئَ الآخَرُ ; لأَنَّ التَّسْليمَ المُلتَزَمَ وَاحِدٌ فَهُوَ كَأَدَاءِ أَحَدِ الضَّامِنَيْنِ للمَال , وَإِنْ كَفَلا كَفَالةَ انْفِرَادٍ وَاشْتِرَاكٍ بِأَنْ قَالا كُل وَاحِدٍ مِنْهَا كَفِيلٌ لكَ بِزَيْدٍ فَكُلٌّ مِنْهُمَا مُلتَزِمٌ لهُ إحْضَارًا فَلا يَبْرَأُ بِدُونِهِ مَا دَامَ الحَقُّ بَاقِيًا عَلى المَكْفُول فَهُوَ كَمَا لوْ كَفَلا في عَقْدَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ وَهَذَا قِيَاسُ قَوْل القَاضِي فِي ضَمَانِ الرَّجُليْنِ للدَّيْنِ.
وَاعْلمْ أَنَّ عُقُودَ التوثقات وَالأَمَانَاتِ إذَا اشْتَمَلتْ عَلى جُمَلٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ فِيهَا تَوْزِيعُ أَفْرَادِ الجُمْلةِ أَوْ أَجْزَائِهَا عَلى أَفْرَادِ الجُمْلةِ المُقَابِلةِ لهَا أَوْ عَلى أَجْزَاءِ العَيْنِ المُقَابِلةِ لهَا فَيُقَابَل كُل مُفْرَدٍ لمُفْرَدٍ أَوْ كُل مُفْرَدٍ لجُزْءٍ أَوْ كُل جُزْءٍ لجُزْءٍ , وَيُمْكِنُ تَوْزِيعُ كُل فَرْدٍ مِنْ الجُمْلةِ عَلى مَجْمُوعِ أَفْرَادِ الجُمْلةِ الأُخْرَى أَوْ أَجْزَائِهَا فَيَثْبُتُ الاشْتِرَاكُ بِالإِشَاعَةِ وَيَكُونُ العَقْدُ عَلى هَذَيْنِ الاحْتِمَاليْنِ وَاحِدًا وَيُمْكِنُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ التَّوْثِقَةِ وَالأَمَانَةِ بِكَمَالهِ لكُل فَرْدٍ فَرْدٌ فَيَكُونُ هَاهُنَا عُقُودٌ مُتَعَدِّدَةٌ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ المَسَائِل التَّفْرِيعَ عَلى هَذِهِ الاحْتِمَالاتِ الثَّلاثَةِ: فَأَمَّا عُقُودُ التَّمْليكَاتِ فَلا يَتَأَتَّى فِيهَا الاحْتِمَال الثَّالثُ وَلوْ قِيل بِتَعَدُّدِ الصَّفْقَةِ

فِيمَا يَتَعَدَّدُ المُتَعَاقِدِينَ لاسْتِحَالةِ أَنْ يَكُونَ المِلكُ ثَابِتًا فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ لمَالكَيْنِ عَلى الكَمَال , وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّرَدُّدُ فِيهَا بَيْنَ الاحْتِمَاليْنِ الأَوَّليْنِ.
وَ يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ صُورَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: أَنْ يُوصِيَ بِعَيْنٍ لزَيْدٍ ثُمَّ يُوصِي بِهَا لعَمْرٍو وَيَقُول: ليْسَ بِرُجُوعٍ كَمَا هُوَ المَشْهُورُ مِنْ المَذْهَبِ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُسْتَحِقًّا للعَيْنِ لكَمَالهَا وَيَقَعُ التَّزَاحُمُ فَيَشْتَرِكَانِ فِي قَسْمِهَا , فَلوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْل المُوصِي أَوْ رَدَّ لاسْتَحَقَّهَا الآخَرُ بِكَمَالهَا.
وَالثَّانِيَة: أَنْ يَقِفَ عَلى قَوْمٍ مُعَيَّنِينَ أَوْ مَوْصُوفِينَ ثُمَّ عَلى آخَرِينَ بَعْدَهُمْ فَإِنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْ الطَّبَقَةِ الأُولى مُسْتَحِقٌّ لجَمِيعِ الوَقْفِ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لوْ لمْ يَبْقَ مِنْ الطَّبَقَةِ سِوَاهُ لاسْتَحَقَّ الوَقْفَ كُلهُ هَكَذَا ذَكَرَهُ القَاضِي وَالأَصْحَابُ. و َقَدْ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ يُوسُفَ بِنَّ أَبِي مُوسَى وَمُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ المُنَادِي فِيمَنْ وَقَفَ ضَيْعَةً عَلى وَلدِهِ وَأَوْلادِهِمْ وَأَوْلادِ أَوْلادِهِمْ أَبَدًا مَا تَنَاسَلوا فَإِنْ حَدَثَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدَثُ المَوْتِ دَفَعَ ذَلكَ إلى وَلدِهِ يَعْنِي الوَاقِفَ وَوَلدِ أَوْلادِهِمْ يَجْرِي ذَلكَ عَليْهِمْ مَا تَنَاسَلوا وَقَدْ وَلدَ هَؤُلاءِ القَوْمُ الذِينَ وَقَفَ عَليْهِمْ أَوْلادًا هَل يَدْخُلونَ مَعَ آبَائِهِمْ فِي القِسْمَةِ أَوْ يَصِيرُ هَذَا الشَّيْءَ إليْهِمْ بَعْدَ المَوْتِ: مَوْتِ آبَائِهِمْ وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ وَلمْ يُخَلفْ وَلدًا يَرْجِعُ نَصِيبُهُ إلى إخْوَتِهِ أَمْ لا؟ قَال: يَجْرِي ذَلكَ عَلى الوَلدِ وَوَلدِ الوَلدِ يَتَوَارَثُونَ ذَلكَ حَتَّى لا يَكُونَ للمَيِّتِ وَلدٌ فَيُرَدُّ عَلى البَاقِينَ مِنْ إخْوَتِهِ وَظَاهِرُ كَلامِهِ أَنَّهُ يَكُونُ تَرْتِيبُ أَفْرَادٍ بَيْنَ كُل وَلدٍ وَوَالدِهِ لقَوْلهِ يَتَوَارَثُونَ ذَلكَ.
وَجُعِل قَوْل الوَاقِفِ: مَنْ مَاتَ عَنْ وَلدٍ فَنَصِيبُهُ لوَلدِهِ مُقْتَضِيًا لهَذَا التَّرْتِيبِ وَمُخَصِّصًا لعُمُومِ أَوَّل الكَلامِ المُقْتَضِي للتَّشْرِيكِ.
وَقَدْ زَعَمَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنَّ كَلامَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ يَدُل عَلى خِلافِ ذَلكَ وَأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الأَوْلادِ وَأَوْلادِهِمْ ثُمَّ يُضَافُ إلى كُل وَلدٍ نَصِيبُ وَالدِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ , وَليْسَ فِي كَلامِ القَاضِي مَا يَدُل عَلى ذَلكَ لمَنْ رَاجَعَهُ وَتَأَمَّلهُ.
وَأَمَّا قَوْلهُ: حَتَّى لا يَكُونَ للمَيِّتِ وَلدٌ فَيُرَدُّ عَلى البَاقِينَ مِنْ إخْوَتِهِ فَيَعْنِي بِهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ غَيْرِ وَلدٍ فَنَصِيبُهُ لإِخْوَتِهِ وَهَذَا قَدْ يَدُل لمَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ طَبَقَةٍ انْتَقَل نَصِيبُهُ إلى البَاقِينَ مِنْهَا بِإِطْلاقِ الوَاقِفِ وَقَدْ يُقَال: لا دَلالةَ فِيهِ عَلى ذَلكَ ; لأَنَّ هَذَا الوَاقِفَ وَقَفَ عَلى وَلدِهِ وَوَلدِ وَلدِهِ أَبَدًا بِالتَّشْرِيكِ فَلوْ تَرَكْنَا هَذَا ضَرَّتَكِ بَيْنَ البُطُونِ كُلهَا لكِنَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ وَلدٍ فَنَصِيبُهُ لوَلدِهِ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الوَلدَ لا يَسْتَحِقُّ مَعَ وَالدِهِ فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ دَاخِلاً فِي عُمُومِ أَوَّل الكَلامِ فَاسْتِحْقَاقُ الإِخْوَةِ هَاهُنَا مُتَلقًّى مِنْ كَلامِ الوَاقِفِ وَمِثْل هَذَا لا نِزَاعَ فِيهِ.
إِنَّمَا النِّزَاعُ فِيمَا إذَا لمْ يَدُل كَلامُ الوَاقِفِ عَليْهِ وَلا يُقَال: قَدْ دَل كَلامُ الوَاقِفِ عَليْهِ حَيْثُ جَعَلهُ بَعْدَ تِلكَ الطَّبَقَةِ لطَبَقَةٍ أُخْرَى فَلمْ يَجْعَل للثَّانِيَةِ فِيهِ حَقًّا فِيهِ مَعَ وُجُودِ الأُولى فَدَل عَلى أَنَّ الأُولى هِيَ المُسْتَحِقَّةُ مَا دَامَتْ مَوْجُودَةً ; لأَنَّهُ قَدْ.
يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ نَفْيَ اسْتِحْقَاقِ الثَّانِيَةِ مَعَ وُجُودِ الأُولى لا يَدُل عَلى أَنَّ الأُولى هِيَ المُسْتَحِقَّةُ لجَمِيعِهِ لجَوَازِ صَرْفِهِ مَصْرِفَ المُنْقَطِعِ إلا أَنَّ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ مَقْصُودِ الوَاقِفِ وَالأَظْهَرُ مِنْ مَقْصُودِهِ مَا ذَكَرْنَا فَعَلى هَذَا يَكُونُ عَوْدُهُ إلى بَقِيَّةِ الطَّبَقَةِ مُسْتَفَادًا مِنْ مَعْنَى كَلامِ الوَاقِفِ.

وَيُشْبِهُ ذَلكَ مَا لوْ وَقَفَ عَلى فُلانٍ فَإِذَا انْقَرَضَ أَوْلادُهُ فَعَلى المَسَاكِينِ فَهَل يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ فُلانٍ لأَوْلادِهِ؟ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلى المَسَاكِينِ أَوْ تُصْرَفُ بَعْدَ مَوْتِ فُلانٍ مَصْرِفَ المُنْقَطِعِ حَتَّى تَنْقَرِضَ أَوْلادُهُ, ثُمَّ يُصْرَفُ عَلى المَسَاكِينِ. عَلى وَجْهَيْنِ مَذْكُورَيْنِ فِي الكَافِي.
وَالأَوَّل قَوْل القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ.
وَلنَا فِي المَسْأَلةِ مَسْلكٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يُقَال: الوَقْفُ تَحْبِيسٌ للمَال فِي وُجُوهِ البِرِّ وَالمَوْقُوفُ عَليْهِمْ هُوَ المَصْرِفُ المُعَيَّنُ لاسْتِحْقَاقِهِ فَلا يُمْنَعُ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ لكُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِانْفِرَادِهِ , وَيَقَعُ التَّزَاحُمُ فِيهِ عِنْدَ الاجْتِمَاعِ بِخِلافِ التَّمْليكَاتِ المَحْضَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل أَنْ يَمْلكَ كُل وَاحِدٍ مِنْ المُمَلكَيْنِ جَمِيعَ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّمْليكُ , وَهَذَا عَلى قَوْلنَا إنَّ المَوْقُوفَ عَليْهِ لا يَمْلكُ عَيْنَ الوَقْفِ أَظْهَرُ.
وَيَتَعَلقُ بِهَذَا مِنْ مَسَائِل التَّوْزِيعِ مَا إذَا وَقَفَ عَلى أَوْلادِهِ ثُمَّ عَلى أَوْلادِ أَوْلادِهِ أَبَدًا فَهَل يُقَال: لا يَنْتَقِل إلى أَحَدٍ مِنْ أَوْلادِ أَوْلادِهِ إلا بَعْدَ انْقِرَاضِ جَمِيعِ أَوْلادِهِ أَوْ يَنْتَقِل بَعْدَ كُل وَلدٍ إلى وَلدِهِ؟ المَعْرُوفُ عِنْدَ الأَصْحَابِ: الأَوَّل وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ القَاضِي وَأَصْحَابُهُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ.
وَحَكَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ وَجْهًا آخَرَ بِالثَّانِي وَرَجَّحَهُ فَعَلى الأَوَّل يَكُونُ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ الجُمْلةِ عَلى الجُمْلةِ , وَعَلى الثَّانِي يَكُونُ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ المُفْرَدِ عَلى المُفْرَدِ , وَيَشْهَدُ لهَذَا مِنْ كَلامِ أَحْمَدَ مَا رَوَاهُ عَنْهُ يُوسُفُ بْنُ أَبِي مُوسَى وَمُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ المُنَادِي فِي رَجُلٍ أَوْقَفَ ضَيْعَةً عَلى أَنَّ لعَليٍّ بْنِ إسْمَاعِيل رُبْعَ غَلتِهَا مَا دَامَ حَيًّا وَرُبْع مِنْهَا لوَلدِ عَبْدِ اللهِ وَوَلدِ مُحَمَّدٍ وَوَلدِ أَحْمَدَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَإِنْ مَاتَ عَليُّ بْنُ إسْمَاعِيل فَوَزِّعُوا هَذَيْنِ الرُّبْعَيْنِ بَيْنَ وَلدِهِ وَوَلدِ الثَّلاثَةِ فَفَعَلوا ذَلكَ.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ وَلدِ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل مَاتَ وَتَرَكَ وَلدًا كَيْفَ نَصْنَعُ بِنَصِيبِهِ يُدْفَعُ إلى وَلدِهِ أَوْ يُرَدُّ عَلى شُرَكَائِهِ وَلمْ يَقُل المَيِّتُ: إنْ مَاتَ عَليُّ بْنُ إسْمَاعِيل دُفِعَ إلى وَلدِ وَلدِهِ إنَّمَا قَال: وَلدُ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل؟
قَال الإِمَامُ أَحْمَدُ: يُدْفَعُ مَا جُعِل لوَلدِ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل إلى وَلدِهِ فَإِنْ مَاتَ بَعْضُ وَلدِ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل دُفِعَ إلى وَلدِهِ أَيْضًا ; لأَنَّهُ قَال: بَيْنَ وَلدِ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل وَهَذَا مِنْ وَلدِ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل فَدَل هَذَا الكَلامُ عَلى أَصْليْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَلدَ الوَلدِ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى الوَلدِ عِنْدَ الإِطْلاقِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ وَلدُ الوَلدِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ وَيَخْتَصُّ بِهِ دُونَ طَبَقَةِ أَبِيهِ المُشَارِكِينَ لهُ حَيْثُ ذَكَرَ أَنَّ علي ابْنَ إسْمَاعِيل تُوُفِّيَ عَنْ وَلدٍ وَأَنَّ بَعْضَ وَلدِهِ تُوُفِّيَ عَنْ وَلدٍ وَنُقِل إلى هَذَا الوَلدِ نَصِيبُ أَبِيهِ مَعَ وُجُودِ المُشَارِكِينَ للأَبِ مِنْ إخْوَتِهِ , وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ لمَّا رَتَّبَ بَيْنَ عَليِّ بْنِ إسْمَاعِيل وَوَلدِهِ وَلمْ يَجْعَل لوَلدِهِ شَيْئًا إلا بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ وَلدِهِ وَوَلدِ وَلدِهِ وَهَذَا خِلافُ مَا ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ مِنْ الوَجْهَيْنِ فِي كَيْفِيَّةِ اسْتِحْقَاقِ وَلدِ الوَلدِ إذَا قِيل بِدُخُولهِ فِي مُطْلقِ الوَلدِ هَل يَسْتَحِقُّ مَعَ الوَلدِ مُشْرَكًا أَوْ بَعْدَ انْقِرَاضِ الوَلدِ كُلهِمْ مُرَتَّبًا تَرْتِيبَ طَبَقَةٍ عَلى طَبَقَةٍ؟ فَإِنَّ أَحْمَدَ جَعَلهُ مُرَتَّبًا تَرْتِيبَ أَفْرَادٍ بَيْنَ كُل وَلدٍ وَوَلدِهِ.

فَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلكَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ عَلى أَوْلادِهِ ثُمَّ عَلى أَوْلادِهِمْ أَبَدًا أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا بَيْنَ كُل وَالدٍ وَوَلدِهِ وَبَيْنَ بَقِيَّةِ طَبَقَتِهِ.
وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الوَقْفَ هَاهُنَا أَوَّلاً كَانَ بَيْنَ شَخْصٍ وَوَلدِهِ فَرُوعِيَ هَذَا التَّرْتِيبُ فِي اسْتِحْقَاقِ وَلدِهِ وَوَلدِ وَلدِهِ وَليْسَ فِي طَبَقَةٍ بَعْدَ طَبَقَةٍ وَلكِنْ سَنَذْكُرُ مِنْ كَلامِ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلةِ التَّدْبِيرِ مَا يَحْسُنُ تَخْرِيجُ هَذَا الوَجْهِ مِنْهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
ومنها: إذَا عَلقَ طَلاقَ نِسَائِهِ أَوْ عِتْقَ رَقِيقِهِ عَلى صِفَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فَوَجَدَ بَعْضَهَا مِنْ بَعْضٍ وَبَاقِيهَا مِنْ بَعْضٍ آخَرَ فَهَل يَكْفِي فِي وُقُوعِ الطَّلاقِ وَالعَتَاقِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الحِنْثِ بِوُجُودِ بَعْضِ الصِّفَةِ؟ فَإِنَّ للأَصْحَابِ فِي الاكْتِفَاءِ بِبَعْضِ الصِّفَةِ فِي الطَّلاقِ وَالعَتَاقِ طُرُقًا ثَلاثَةً.
إحْدَاهُنَّ: أَنَّهُ يَكْتَفِي بِهَا كَمَا يَكْتَفِي بِذَلكَ فِي الحِنْثِ فِي اليَمِينِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي وَاسْتَثْنَى فِي الجَامِعِ مِنْ ذَلكَ أَنْ تَكُونَ الصِّفَةُ مُعَارِضَةً.
وَالثَّانِيَةُ: لا يَكْتَفِي بِهَا وَإِنْ اكْتَفَيَا بِبَعْضِ المَحْلوفِ عَليْهِ فِي الحِنْثِ ; لأَنَّ هَذَا شَرْطٌ وَمَشْرُوطٌ وَعِلةٌ وَمَعْلولٌ فَلا يَتَرَتَّبُ الأَثَرُ إلا عَلى تَمَامِ المُؤَثِّرِ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ المُغْنِي.
وَالثَّالثَةُ: إنْ كَانَتْ الصِّفَةُ تَنْتِفِي قَطْعًا أَوْ تَبَعًا أَوْ تَصْدِيقًا أَوْ تَكْذِيبًا فَهِيَ كَاليَمِينِ وَإِلا فَهِيَ عِلةٌ مَحْضَةٌ فَلا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا بِكَمَالهَا وَهِيَ طَرِيقَةُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ.
وَالقَاضِي يُفَرِّعُ عَلى اخْتِيَارِهِ فِي هَذِهِ المَسَائِل فَقَال فِيمَا إذَا قَال لعَبِيدِهِ: إذَا أَدَّيْتُمْ إليَّ أَلفًا فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ عَتَقَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِأَدَاءِ حِصَّتِهِ , وَكَذَلكَ إذَا قَال لعَبِيدِهِ: إذَا دَخَلتُمْ الدَّارَ فَأَنْتُمْ أَحْرَارٌ عَتَقَ مَنْ دَخَل مِنْهُمْ ; لأَنَّ وُجُودَ الصِّفَةِ تَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِهَا فَمَتَى أَدَّى وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَتَقَ هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الكِتَابَةِ وَرَدَّهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ وَقَال: هُوَ عِنْدِي خَطَأٌ يَقِينًا ; لأَنَّ هَذِهِ لا تَشْتَمِل عَلى مَنْعٍ وَلا حَثٍّ انْتَهَى.
وَعِنْدِي: أَنَّهُ لوْ صَحَّ الاكْتِفَاءُ بِبَعْضِ الصِّفَةِ هَاهُنَا لمْ يَصِحَّ مَا قَالهُ القَاضِي وَلمْ يَتَفَرَّعْ عَلى الاكْتِفَاءِ لبَعْضِ الصِّفَةِ إذْ لوْ كَانَ التَّفْرِيعُ عَلى ذَلكَ لعَتَقُوا كُلهُمْ بِأَدَاءِ بَعْضِهِمْ لبَعْضٍ الأَلفَ وَبِدُخُول بَعْضِهِمْ الدَّارَ وَهَذَا خِلافُ قَوْل القَاضِي وَإِنَّمَا يَتَوَجَّهُ مَا قَالهُ القَاضِي عَلى أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ المُفْرَدَاتِ عَلى المُفْرَدَاتِ فَكَأَنَّهُ قَال: مَنْ دَخَل مِنْكُمْ الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ وَمَنْ أَدَّى إليَّ حِصَّتَهُ مِنْ الأَلفِ فَهُوَ حُرٌّ , وَهَذَا لا تَعَلقَ لهُ بِمَسْأَلةِ الاكْتِفَاءِ بِبَعْضِ الصِّفَةِ.
وَكَلامُ أَحْمَدَ يَدُل عَلى اعْتِبَارِ هَذَا التَّوْزِيعِ فِي مِثْل هَذِهِ التَّعْليقَاتِ , فَإِنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُليْنِ قَالا لهُ: إذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ , ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ حِصَّتُهُ فَقَطْ فَإِذَا مَاتَ الآخَرُ عَتَقَتْ حِصَّتُهُ.
قَال أَبُو بَكْرٍ ; لأَنَّهُمَا كَالمُعْتَقَيْنِ عَلى انْفِرَادِهِمَا وَهَذَا هُوَ المَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى , وَتَعْليل أَبِي بَكْرٍ يَدُل عَلى أَنَّهُ جَعَلهُ مِنْ بَابِ تَوْزِيعِ المُفْرَدِ عَلى المُنْفَرِدِ كَأَنَّهُمَا قَالا: إنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنَّا فَنَصِيبُهُ مِنْكَ حُرٌّ , وَتَأَوَّل القَاضِي ذَلكَ عَلى أَنَّ العِتْقَ حَصَل بِوُجُودِ بَعْضِ الصِّفَةِ وَرَدَّهُ الشَّيْخُ

مَجْدُ الدِّينِ بِأَنَّ الصِّفَةَ إنَّمَا يُكْتفى بِبَعْضِهَا إذَا كَانَتْ فِي مَعْنَى اليَمِينِ يَقْتضِي حَضًّا أَوْ مَنْعًا , وَمَا لمْ يَكُنْ كَذَلكَ كَطُلوعِ الشَّمْسِ وَقُدُومِ زَيْدٍ فَلا يَكْتَفِي فِيهِ بِالبَعْضِ , وَنَقَل الإِجْمَاعَ عَليْهِ وَهُوَ مَرْدُودٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لوْ اكْتَفَى بِبَعْضِ الصِّفَةِ لعِتْقِ العَبْدِ كُلهِ عَليْهَما بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ولمْ يَكُنْ وَجْهٌ لعِتْقِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا.
وَإِنَّمَا لمْ يَسْرِ إلى نَصِيبِ صَاحِبِهِ لأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا ; لأَنَّ السِّرَايَةَ تُمْنَعُ بَعْدَ المَوْتِ كَمَا هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ أَوْ ; لأَنَّ التَّدْبِيرَ يَمْنَعُ السِّرَايَةَ وَهُوَ أَحَدُ الوَجْهَيْنِ.
خَرَّجَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ المَسْأَلةَ عَلى رِوَايَتَيْنِ مِنْ مَسْأَلةِ تَعْليقِ العِتْقِ عَلى صِفَةٍ بَعْدَ المَوْتِ فَإِنَّ فِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَيْنِ.
إحدَاهُمَا: يَصِحُّ هَذَا التَّعْليقُ وَلا يَعْتِقُ مِنْهُ شَيْءٌ هَاهُنَا حَتَّى يَمُوتَ الآخَرُ مِنْهُمَا فَيَعْتِقُ العَبْدُ كُلهُ حِينَئِذٍ.
وَالثَّانِيَةُ: لا يَصِحُّ هَذَا التَّعْليقُ وَلا يُعْتَقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ العَبْدِ هَاهُنَا ; لأَنَّ كُلاً مِنْهُمَا عَلقَ عِتْقَهُ عَلى مَوْتِهِ وَمَوْتِ شَرِيكِهِ وَلا يُوجَدُ إلا بَعْدَ مَوْتِهِ , وَلكِنْ هَاهُنَا قَدْ يُمْكِنُ اجْتِمَاعُ مَوْتِهِمَا فِي آنٍ وَاحِدٍ فَلا يَتَوَجَّهُ إبْطَال التَّعْليقِ مِنْ أَصْلهِ بِخِلافِ قَوْلهِ: إنْ دَخَلت الدَّارَ بَعْدَ مَوْتِي فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَمِنْ هَذِهِ المَسَائِل: لوْ قَال لزَوْجَتَيْهِ: إنْ دَخَلتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ أَوْ كَلمْتُمَا زَيْدًا وَعَمْرًا فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ فَكَلمَتْ إحْدَاهُمَا زَيْدًا وَالأُخْرَى عَمْرًا أَوْ دَخَلتْ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا دَارًا , وَقُلنَا لا يَكْتَفِي بِبَعْضِ الصِّفَةِ فَهَل تَطْلقَانِ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الخَطَّابِ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ الأَصْحَابِ وَجَعَل أَبُو الخَطَّابِ المَذْهَبَ الوُقُوعَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الأُخْرَى تَخْرِيجًا.
وَمَذْهَبُ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالكِيَّةِ الوُقُوعُ وَهُوَ أَحَدُ وَجْهَيْ الشَّافِعِيَّةِ مَعَ قَوْلهِمْ وَقَوْل الحَنَفِيَّةِ أَنَّ بَعْضَ الصِّفَةِ لا يَكْفِي فِي الحِنْثِ فَعُلمَ بِذَلكَ أَنَّ هَذَا ليْسَ مُفَرَّعًا عَلى الاكْتِفَاءِ بِبَعْضِ الصِّفَةِ.
وَيَتَخَرَّجُ فِي مَسَائِل التَّدْبِيرِ السَّابِقَةِ: أَنْ تَطْلقَ هَاهُنَا كُل وَاحِدَةٍ بِدُخُول الدَّارِ عَقِبَ دُخُولهَا وَلا يَتَوَقَّفُ طَلاقُهَا عَلى دُخُول الأُخْرَى ; لأَنَّ مَعْنَى كَلامِهِ مَنْ دَخَلتْ مِنْكُمَا دَارًا مِنْ هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَهِيَ طَالقٌ , وَيَتَخَرَّجُ مِنْ هَذَا القَوْل هَاهُنَا فِيمَا إذَا قَال لهُمَا: إنْ حِضْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالقَانِ.
وَجْهٌ أَنَّ كُل وَاحِدَةٍ تَطْلقُ بِحَيْضِ نَفْسِهَا وَأَنْ لا يُشْتَرَطَ ثُبُوتُ حَيْضِ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالنِّسْبَةِ إليْهِمَا بَل يَكْفِي ثُبُوتُ حَيْضِهَا فِي حَقِّهَا بِإِقْرَارِهَا.
وَكَذَلكَ فِي قَوْلهِ: إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا , أَوْ إنْ حَلفْتُ بِطَلاقِكُمَا فَأَنْتُمَا طَالقَتَانِ ثُمَّ حَلفَ بِطَلاقِ إحْدَاهُمَا أَنَّهَا تَطْلقُ.
وَمِنْ العَجَبِ أَنَّ القَاضِيَ لمْ يُفَرِّعْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ المَسَائِل عَلى اخْتِيَارِهِ فِي الاكْتِفَاءِ بِوُجُودِ بَعْضِ

الصِّفَةِ مُطْلقًا سَوَاءٌ اقْتَضَتْ حَثًّا أَوْ مَنْعًا أَوْ كَانَتْ تَعْليقًا مَحْضًا , وَمُقْتَضَى قَوْلهِ أَنْ يُطَلقَا هَاهُنَا مَعًا بِوُجُودِ حَيْضِ إحْدَاهُمَا , وَمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا , وَالحَلفُ بِطَلاقِ إحْدَاهُمَا فِي هَذِهِ المَسَائِل.
ومنها: إذَا قَال لزَوْجَاتِهِ الأَرْبَعِ: أَوْقَعْتُ بَيْنَكُنَّ أَوْ عَليْكُنَّ ثَلاثَ تَطْليقَاتٍ فَهَل تُقَسَّمُ كُل طَلقَةٍ عَلى الأَرْبَعِ أَرْبَاعًا ثُمَّ يُكَمَّل فَيَقَعُ بِهِنَّ الثَّلاثُ جَمِيعًا أَوْ يُوَزَّعُ الثَّلاثُ عَلى الأَرْبَعِ فَيَلحَقُ كُل وَاحِدَةٍ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ طَلقَةٍ ثُمَّ تُكَمَّل فَتَطْلقُ كُل وَاحِدَة مِنْهُنَّ طَلقَةً؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
والأُولى: اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالقَاضِي.
وَالثَّانِيَةُ: اخْتِيَارُ أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ المُغْنِي قَال: لأَنَّ القِسْمَةَ بِالأَجْزَاءِ إنَّمَا تَكُونُ فِي المُخْتَلفَاتِ كَالدُّورِ وَنَحْوِهَا فَأَمَّا الجُمَل المُتَسَاوِيَةُ مِنْ جِنْسٍ كَالنُّقُودِ فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ بِرُءُوسِهَا وَيُكَمَّل نَصِيبُ كُل وَاحِدَةٍ كَأَرْبَعَةٍ لهُمْ دِرْهَمَا صَحِيحَانِ يُقَسَّمُ لكُل وَاحِدٍ نِصْفٌ مِنْ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ فَكَذَلكَ الطَّلقَاتُ.
وَيُمْكِنُ الأَوَّليْنِ الجَوَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ هَذِهِ القِسْمَةَ لا تَمْنَعُ الاشْتِرَاكَ فِي الاسْتِحْقَاقِ مِنْ كُل جُزْءٍ وَلهَذَا قِيل فِي قِسْمَةِ الأَمْوَال المُشْتَرَكَةِ: إنَّهَا بَيْعٌ وَمَتَى ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ كُل وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ لجُزْءٍ مِنْ كُل عَيْنٍ قَبْل القِسْمَة تَوَجَّهَ وُقُوعُ الطَّلاقِ الثَّلاثِ هَاهُنَا بِكُل وَاحِدَةٍ كَمَا لوْ مَاتَ زَوْجُ المَرْأَةِ وَخَلفَ إخْوَتَهَا أَرِقَّاءَ مَعَ عَبِدِ آخَرَ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَليْهَا مِنْ كُل أَخٍ لهَا بِنِسْبَةِ نَصِيبِهَا مِنْ المِيرَاثِ وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا لا يَسْتَوْعِبُ قِيمَةَ الجَمِيعِ.
وَلوْ قَال: أَنْتُنَّ طَوَالقُ ثَلاثًا طُلقَ كُلهُنَّ ثَلاثًا ثلاثًا نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ , وَلمْ يَذْكُرْ القَاضِي فِيهِ خِلافًا ; لأَنَّهُ أَضَافَ الثَّلاثَةَ إلى الجَمِيعِ وَفِي الصُّورَتَيْنِ الأُولتَيْنِ أَرْسَل الثَّلاثَ بَيْنَهُنَّ أَوْ عَليْهِنَّ.
وَيَتَوَجَّهُ تَخْرِيجُ الخِلافِ فِيهَا أَيْضًا ; لأَنَّ إضَافَةَ الثَّلاثِ إليْهِنَّ لا يُنَافِي أَنْ يُوَزِّعَ الثَّلاثَةَ عَلى مَجْمُوعِهِنَّ لا عَلى كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ.
وَمِمَّا يَدْخُل فِي هَذَا البَابِ قَوْله تَعَالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآيَةَ فَهَل المُرَادُ تَوْزِيعُ مَجْمُوعِ الصَّدَقَاتِ عَلى مَجْمُوعِ الأَصْنَافِ أَوْ كُل فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّدَقَاتِ عَلى مَجْمُوعِ الأَصْنَافِ؟ وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ مَسْأَلةُ وُجُوبِ اسْتِيعَابِ الأَصْنَافِ بِكُل صَدَقَةٍ وَفِي ذَلكَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَهَل يَجِبُ عَلى الإِمَامِ إذَا اجْتَمَعَتْ عِنْدَهُ الصَّدَقَاتُ أَنَّهُ يَعُمُّ الأَصْنَافَ مِنْهَا أَمْ لا؟ قَال ابْنُ عَقِيلٍ: يستحب ذَلكَ ولا يجب لأَنَّ حَقَّ بَقِيَّةِ الأَصْنَافِ يَسْقُطُ بِإِعْطَاءِ المُلاكِ لهُمْ وَأَيْضًا فَليْسَ فِي الآيَةِ إيجَابُ الاسْتِيعَابِ لصَدَقَاتِ كُل عَامٍ فَيَجُوزُ تَعْوِيضُهُمْ فِي عَامٍ آخَرَ.
وَمِمَّا يَدْخُل فِيهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الآيَةَ هَل اقْتَضَتْ مُقَابَلةَ مَجْمُوعِ المُظَاهِرِينَ لمَجْمُوعِ نِسَائِهِمْ وَتَوْزِيعِهِ مَعَ كُل مُظَاهِرٍ عَلى زَوْجَتِهِ أَوْ مُقَابَلةَ كُل فَرْدٍ مِنْ المُظَاهِرِينَ مَجْمُوعَ نِسَائِهِ المُظَاهَرِ مِنْهُنَّ؟ قَرَّرَ أَبُو الخَطَّابِ وَغَيْرُهُ مِنْ

أَصْحَابِنَا: الثَّانِي وَاسْتَدَل عَلى أَنَّ المُظَاهَرَةَ مِنْ جَمِيعِ الزَّوْجَاتِ بِكَلمَةٍ وَاحِدَةٍ لا يُوجِبُ سِوَى كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَكَذَلكَ قَال فِي قَوْله تَعَالى: { حُرِّمَتْ عَليْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} إلى آخِرِ الآيَةِ , أَنَّ المُرَادَ حُرِّمَتْ عَلى كُل وَاحِدٍ بَنَاتُهُ وَأَخَوَاتُهُ وَعَمَّاتُهُ وَخَالاتُهُ.
فَأَمَّا الأُمَّهَاتُ فَجَعَلهَا فِي مُقَابَلةِ الأَفْرَادِ بِالأَفْرَادِ قَال: لأَنَّهُ لمَّا لمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ للوَاحِدِ أُمَّانِ عُلمَ أَنَّهُ أَرَادَ الوَاحِدَ فِي مُقَابَلةِ الوَاحِدِ وَأَمَّا مَا احْتَمَل الجَمْعَ فِي مُقَابَلةِ الوَاحِدِ فَإِنَّهُ عَمَل حِيلةٍ , وَالأَظْهَرُ وَاَللهُ أَعْلمُ أَنَّ الكُل مِمَّا قُوبِل فِيهِ الوَاحِدُ بِالوَاحِدِ وَالجُمْلةُ بِالجُمْلةِ وَأَنَّ المَعْنَى حُرِّمَتْ عَلى كُل وَاحِدٍ أُمُّهُ وَبِنْتُهُ وَأُخْتُهُ إذْ لوْ أُرِيدَ مُقَابَلةُ الوَاحِدِ بِالجَمْعِ لحَرَّمَ عَلى كُل وَاحِدٍ أُمَّهَاتِ الجَمِيعِ وَبَنَاتِهِمْ وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا.

القاعدة الرابعة عشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ بَعْدَ المِائَةِ:
إطْلاقُ الشَّرِكَةِ هَل يَتَنَزَّل عَلى المُنَاصَفَةِ أَوْ هُوَ مُبْهَمٌ يَفْتَقِرُ إلى تَفْسِيرٍ؟ فِيهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا صَاحِبُ التَّلخِيصِ فِي البَيْعِ.
وَاَلذِي ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ فِي الإِقْرَارِ أَنَّهُ مُبْهَمٌ وَكَذَلكَ صَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ مُخْتَارًا لهُ.
وَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ فِي البَيْعِ فِي خِلافِهِ أَيْضًا يَنْزِل عَلى المُنَاصَفَةِ وَهَل يُقَال بِاسْتِحْقَاقِ الشَّرِيكِ مِنْ كُل جُزْءٍ أَوْ بالتشاطر؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ وَكَلامُ الأَصْحَابِ يَدُل عَلى التشاطر , وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: لوْ قَال لمُشْتَرِي سِلعَةٍ أَشْرِكْنِي فِي هَذِهِ السِّلعَةِ فَهَل يَصِحُّ وَيَنْزِل عَلى المُنَاصَفَةِ أَمْ لا للجَهَالةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا فِي التَّلخِيصِ , وَالمَجْزُومُ بِهِ فِي المُحَرَّرِ الصِّحَّةُ تَنْزِيلاً عَلى المُنَاصَفَةِ.
ومنها: لوْ قَال هَذَا العَبْدُ شَرِكَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلانٍ أَوْ هُوَ شَرِيكِي , وَفِيهِ وَجْهَانِ المَجْزُومُ فِي الإِقْرَارِ الإِبْهَامُ وَيَرْجِعُ فِي تَفْسِيرِهِ إليْهِ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ.
ومنها: لوْ أَوْقَعَ طَلاقًا ثَلاثًا بِامْرَأَةٍ لهُ ثُمَّ قَال للأُخْرَى شَرَكْتُكِ مَعَهَا فَإِنْ قُلنَا: بِالمُنَاصَفَةِ اقْتَضَى وُقُوعَ اثْنَتَيْنِ.
وَإِنْ قُلنَا: بالإِبْهَامُ لمْ يَقَعْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ ; لأَنَّهَا اليَقِينُ إلا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلكَ وَيُحْتَمَل أَنْ يَقَعَ ثَلاثًا بِنَاءً عَلى أَنَّ الشَّرِكَةَ تَقْتَضِي الاسْتِحْقَاقَ مِنْ كُل جُزْءٍ.
وَقَدْ يُقَال هَذَا إنَّمَا يُمْكِنُ فِي التَّمْليكَاتِ دُونَ الطَلاقٍ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الاشْتِرَاكِ فِي طَلاقِ الأُولى لا تُمْكِنُ فَحُمِل عَلى اسْتِحْقَاقِ نَظِيرِهِ.
أَمَّا لوْ تَعَدَّدَ الشُّرَكَاءُ فَهَل يُقَال يَسْتَحِقُّ الشَّرِيكُ نِصْفَ مَالهِمْ أَوْ مِثْل وَاحِدٍ مِنْهُمْ؟ عَلى وَجْهَيْنِ. ذَكَرَهُمَا القَاضِي فِي البَيْعِ وَبَنَى عَليْهِمَا لوْ اشْتَرَى اثْنَانِ شَيْئًا ثُمَّ أشْرَكَا ثَلاثًا فِيهِ فَهَل لهُ نِصْفُهُ أَوْ ثُلثُهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَخَرَّجَ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَالشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي المُسَوَّدَةِ الوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا قَال لثَلاثَةِ نِسْوَةٍ: أَوْقَعْت

بَيْنَكُنَّ طَلقَةً ثُمَّ قَال لرَابِعَةٍ أَشْرَكْتُك مَعَهُنَّ هَل يَقَعُ بِهَا طَلقَةً وَاحِدَةً أَوْ طَلقَتَيْنِ؟ عَلى الوَجْهَيْنِ.

القاعدة الخامسة عشرة بعد المائة
القَاعِدَةُ الخَامِسَةَ عَشَرَة بَعْدَ المِائَةِ:
الحُقُوقُ المُشْتَرَكَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَقَعُ اسْتِحْقَاقُ كُل وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ لجَمِيعِ الحَقِّ وَيَتَزَاحَمُونَ فِيهِ عِنْدَ الاجْتِمَاعِ. وَالثَّانِي: مَا يَسْتَحِقُّ كُل وَاحِدٍ مِنْ الحَقِّ بِحِصَّتِهِ بِخَاصَّةٍ وَللأَوَّل أَمْثِلةٌ كَثِيرَةٌ:
منها: الشُّفَعَاءُ المُجْتَمِعُونَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِكَمَالهَا فَإِذَا عَفَى أَحَدُهُمْ عَنْ حَقِّهِ تَوَفَّرَ عَلى البَاقِينَ.
ومنها: غُرَمَاءُ المُفْلسِ الذِي لا يَفِي مَالهُ بِدَيْنِ كُل وَاحِدٍ عَلى انْفِرَادِهِ وَهُمْ كَالشُّفَعَاءِ.
ومنها: الأَوْليَاءُ المُتَسَاوُونَ فِي النِّكَاحِ.
ومنها: العَصَبَاتُ المُجْتَمِعُونَ فِي المِيرَاثِ.
وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ لوْ اجْتَمَعَ اثْنَانِ نِصْفُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُرٌّ فَهَل يَسْتَحِقَّانِ المَال كُلهُ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يَسْتَحِقَّانِ جَمِيعَ المَال رَجَّحَهُ القَاضِي وَالسَّامِرِيُّ وَطَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ , وَلهُ مَأْخَذَانِ أَحَدُهُمَا: جَمَعَ الحُرِّيَّةِ فِيهَا فَيَمْلكُ بِهَا حُرِّيَّةَ ابْنٍ وَهُوَ مَأْخَذُ أَبِي الخَطَّابِ وَغَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّ حَقَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ كَمَال حُرِّيَّتِهِ فِي جَمِيعِ المَال لا فِي نِصْفِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ نِصْفَهُ لمُزَاحِمَةِ أَخِيهِ لهُ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ أَخَذَ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ المَال هُنَا وَهُوَ نِصْفُ حَقِّهِ مَعَ كَمَال حُرِّيَّتِهِ فَلمْ يَأْخُذْ زِيَادَةً عَلى قَدْرِ مَا فِيهِ مِنْ الحُرِّيَّةِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا يَسْتَحِقَّانِ المَال كُلهُ لئَلا تَسْتَوِيَ حَال حُرِّيَّتِهِمَا الكَامِلةِ وَالمُبَعَّضَةِ.
وَهَل يَسْتَحِقَّانِ نِصْفَهُ تَنْزِيلاً لهُمَا حَاليْنِ أَوْ ثَلاثَةَ أَرْبَاعه تَنْزِيلاً لهُمَا على ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَلوْ كَانَ ابْنٌ نِصْفُهُ حُرًّا مَعَ أُمٍّ فَعَلى المَأْخَذِ الثَّانِي فِي الوَجْهِ الأَوَّل يَتَوَجَّهُ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ المَال كُلهِ وَهُوَ أَحَدُ الوُجُوهِ للأَصْحَابِ وَرَجَّحَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَذَكَرَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ أَبِيهِ , وقِيل: يَأْخُذُ نِصْفَ البَاقِي بَعْدَ رُبْعِ الأُمِّ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ.
وَقِيل يَأْخُذُ نِصْفَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ حَال كَمَال الحُرِّيَّةِ وَهُوَ هُنَا رُبْعُ وسُّدُسِ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ فِي كِتَابِ الفَرَائِضِ وَاخْتَارَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ ; لأَنَّ القَدْرَ الذِي حُجِبَتْ عَنْهُ الأُمُّ يَسْتَحِقُّهُ كُلهُ وَإِنَّمَا يَتَنَصَّفُ عَليْهِ مَا عَدَاهُ.
ومنها: ذوو الفُرُوضِ المُجْتَمِعُونَ المُزْدَحِمُونَ فِي فَرْضٍ وَاحِدٍ كَالزَّوْجَاتِ وَالجَدَّاتِ , وَيَتَفَرَّعُ عَلى هَذَا إذَا اجْتَمَعَتْ جَدَّتَانِ أُمُّ أُمٍّ وَأُمُّ أَبٍ مَعَ ابْنِهَا الأَبِ وَقُلنَا إنَّهُ يَحْجُبُهَا فَهَل تَسْتَحِقُّ الأُمُّ السُّدُسَ كُلهُ أَوْ نِصْفَهُ عَلى وَجْهَيْنِ , أَصَحُّهُمَا أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ السُّدُسَ كُلهُ لزَوَال المُزَاحِمَةِ مَعَ قِيَامِ الاسْتِحْقَاقِ لجَمِيعِهِ , وَالثَّانِي يَسْتَحِقُّ نِصْفَهُ وَلهُ مَأْخَذَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أُمَّ الأَبِ تَحْجُبُهَا عَنْ السُّدُسِ إلى نِصْفِهِ فَلا أَثَرَ لكَوْنِهَا مَحْجُوبَةً كَمَا يَحْجُبُ وَلدُ الأُمِّ

الأُمَّ مَعَ انْحِجَابِهِمْ بِالأَبِ وَفِيهِ نَظَرٌ , فَإِنَّ حَجْبَ الأُمِّ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ المُزَاحِمَةِ وَلا مُزَاحَمَةَ هُنَا.
وَحَجْبُ الإِخْوَةِ للأُمِّ ليْسَ بِالمُزَاحَمَةِ فَإِنَّهُمْ لا يُشَارِكُونَهَا فِي فَرْضِهَا وَإِنَّمَا وُجُودُهُمْ هُوَ مُقْتَضٍ لتَنْقِيصِ فَرْضِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ أُمَّ الأَبِ لهَا مَعَ أُمِّ الأُمِّ نِصْفُ السُّدُسِ فَلمَّا حَجَبَ الأَبُ أُمَّهُ تَوَفَّرَ ذَلكَ عَليْهِ لا عَلى الأُخْرَى , وَرُدَّ بِأَنَّ وَلدَ الأُمِّ يَحْجُبُونَ الأُمَّ عَنْ السُّدُسِ ثُمَّ لا يَأْخُذُونَهُ بَل يَتَوَفَّرُ عَلى الأَبِ , وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ وَلدَ الأُمِّ لمَّا كَانُوا مَحْجُوبِينَ بِالأَبِ تَوَفَّرَ مَا حَجَبُوا عَنْهُ الأُمَّ عَلى مَنْ حَجَبَهُمْ وَهُوَ الأَبُ كَذَلكَ هُنَا.
ومنها: الوَصَايَا المُزْدَحِمَةُ فِي عَيْنٍ أَوْ مِقْدَارٍ مِنْ مَالٍ فَإِنَّ حَقَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي مَجْمُوعِ وَصِيَّتِهِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُ دُونَ ذَلكَ للمُزَاحَمَةِ فَإِذَا رُدَّ بَعْضُهُمْ تَوَفَّرَ عَلى البَاقِينَ وَإِنْ أَجَازَ الوَرَثَةُ بَعْضَ الوَصَايَا دُونَ بَعْضٍ فَهَل يُعْطَى المُجَازَ لهُ القَدْرَ الذِي كَانَ يَأْخُذُهُ فِي حَال الإِجَازَةِ للكُل أَوْ يُكْمَل لهُ الجُزْءُ المُسَمَّى فِي الوَصِيَّةِ كُلهُ إنْ أَمْكَنَ لقِيَامِ اسْتِحْقَاقِهِ لهُ وَقَدْ أَمْكَنَ وُصُولهُ إليْهِ بِزَوَال المُزَاحَمَةِ بِالرَّدِّ عَلى غَيْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ , صَحَّحَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ.
الثَّانِي: وَمَنْ رَجَّحَ الأَوَّل قَال القَدْرُ المُزَاحَمُ بِهِ كَانَ حَقًّا للمُزَاحِمِ فَإِذَا رَدَّهُ الوَرَثَةُ عَليْهِ تَوَفَّرَ عَليْهِمْ لا عَلى الوَصِيَّةِ الأُخْرَى.
وَيَشْهَدُ للأَوَّل مَا ذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ وَابْنُ حَامِدٍ وَالقَاضِي وَالأَصْحَابُ فِيمَنْ وَصَّى لرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ ثُلثُ مَالهِ وَلآخَرَ بِثُلثِ مَالهِ.
فَإِنْ أَجَازَهُ الوَرَثَةُ َللمُوصَى لهُ بِالعَبْدِ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِهِ لمُزَاحَمَةِ الآخَرِ لهُ فِيهِ وَلصَاحِبِ الثُّلثِ رُبْعُ العَبْدِ وَثُلثُ بَاقِي المَال وَإِنْ رَدُّوا قُسِّمَ الثُّلثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَأْخُذُ صَاحِبُ وَصِيَّةِ العَبْدِ بِقَدْرِ سُدُسِ المَال كُلهِ مِنْ العَبْدِ وَيَأْخُذُ الآخَرُ سُدُسَ العَبْدِ وَسُدُسَ بَاقِي المَال لزَوَال المُزَاحِمَةِ بِالرَّدِّ فَأَمْكَنَ وُصُول كُلٍّ مِنْهُمَا إلى نِصْفِ مَا سَمَّى لهُ كَامِلاً فَلا يَنْقُصُ مِنْهُ.
وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ وَجْهًا آخَرَ مِنْ الوَجْهِ الثَّانِي فِي المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الثُّلثَ بَيْنَهُمَا عَلى حَسَبِ مَا كَانَ يَقْتَسِمَانِ وَصِيَّتَهُمَا حَال الإِجَازَةِ فَيَفْضُل نَصِيبُ صَاحِبِ الثُّلثِ عَلى نَصِيبِ صَاحِبِ العَبْدِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي تَسْوِيَةً بَيْنَ الاثنين فِي الرَّدِّ وَالإِجَازَةِ.
وَفِي تَخْرِيجِ هَذِا من المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا نَظَرٌ ; لأَنَّ الوَرَثَةَ هُنَاكَ قَدْ يَكُونُ مَقْصُودُهُمْ بِالرَّدِّ عَلى أَحَدِهِمَا تَوْفِيرَ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ بِالمُزَاحَمَةِ عَليْهِمْ كَمَا لوْ أَجَازُوا لصَاحِبِ الوَصِيَّةِ بِالكُل وَرَدُّوا عَلى المُوصَى لهُ بِالثُّلثِ فَلوْ أَعْطَيْنَا صَاحِبَ الكُل مَا رَدُّوهُ عَلى صَاحِبِ الثُّلثِ لمْ يَبْقَ فِي رَدِّهِمْ فَائِدَةٌ لهُمْ.
وَهُنَا لا يَخْرُجُ عَنْهُمْ سِوَى الثُّلثِ فَيَنْبَغِي أَنْ تُقَسَّمَ الوَصِيَّتَانِ عَلى قَدْرِهِمَا عَمَلاً بِمُرَادِ المُوصِي مِنْ التَّسْوِيَةِ حَيْثُ أَمْكَنَ وَلا ضَرَرَ عَلى الوَرَثَةِ فِي ذَلكَ.

وَمنها: اسْتِحْقَاقُ الْغَانِمِينَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَتَى رَدَّ بَعْضُهُمْ تَوَفَّرَ عَلَى الْبَاقِينَ وَسَوَاءٌ قُلْنَا مَلَكُوهُ بِالاِسْتِيلاَءِ أَوْ لَمْ يَمْلِكُوهُ.
وَمنها: الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ إذَا رَدَّ بَعْضُهُمْ تَوَفَّرَ عَلَى الْبَاقِينَ كَمَا لَوْ مَاتَ بَعْضُهُمْ وَقَدْ سَبَقَتْ.
وَمنها: حَدُّ الْقَذْفِ الْمَوْرُوثِ لِجَمَاعَةٍ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ فَإِذَا أَسْقَطَهُ بَعْضُهُمْ فَلِلْبَاقِينَ اسْتِيفَاؤُهُ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَلَهُ أَمْثِلَةٌ:
منها: عُقُودُ التَّمْلِيكَاتِ الْمُضَافَةِ إلَى عَدَدٍ فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِحِصَّتِهِ لاِسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَيْنِ. ثُمَّ هَاهُنَا حَالَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ التَّمْلِيكُ بِعِوَضٍ مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ مِنْ رَجُلَيْنِ عَبْدًا أَوْ عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ فَيَقَعُ الشِّرَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ نِصْفُ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ لاِثْنَيْنِ عَبْدَانِ مُفْرَدَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدٌ فَبَاعَاهُمَا مِنْ رَجُلَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدًا مُعَيَّنًا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَفِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ الصِّحَّةُ وَعَلَيْهِ فَيَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قَدْرِ قِيمَتَيْ الْعَبْدَيْنِ.
وَذَكَرَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِ الْمَبِيعِ نِصْفَيْنِ تَخْرِيجًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ فِيمَنْ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي عَقْدٍ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ أَوْ خَالَعَهُنَّ بِعِوَضٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُنَّ أَرْبَاعًا وَهُوَ هَاهُنَا بَعِيدٌ جِدًّا; لاِنَّ الْبُضْعَ لَيْسَ بِمَالٍ مَحْضٍ فَكَيْفَ سَوَّى بِهِ الأَمْوَالَ الْمُبْتَغَى بِهَا الأَرْبَاحُ وَالتَّكَسُّبُ؟ وَخَرَّجَاهُ أَيْضًا فِي الْكِتَابَةِ وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ الْبَيْعِ إذْ الْكِتَابَةُ فِيهَا مَعْنَى الْعِتْقِ.
الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ عِوَضٍ مِثْلُ أَنْ يَهَبَ لِجَمَاعَةٍ شَيْئًا أَوْ يُمَلِّكَهُمْ إيَّاهُ عَنْ زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ مُشَاعًا فِي الْكَفَّارَةِ فَقِيَاسُ كَلاَمِ الأَصْحَابِ فِي التَّمْلِيكِ بِعِوَضٍ أَنَّهُمْ يَتَسَاوُونَ فِي مِلْكِهِ, وَحَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي فِيمَا إذَا وَضَعَ طَعَامًا فِي الْكَفَّارَةِ بَيْنَ يَدَيْ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ فَقَالَ: هُوَ بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَقَبِلُوهُ, ثَلاَثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوَّلاً أَنَّهُ يُجْزِيهِ; لاِنَّهُ مَلَّكَهُمْ التَّصَرُّفَ فِيهِ وَالاِنْتِفَاعَ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا لَوْ دَفَعَ دَيْنَ غُرَمَائِهِ بَيْنَهُمْ.
وَالثَّانِي: وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ يَجْزِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِالتَّسْوِيَةِ; لاِنَّ قَوْلَهُ خُذُوهَا عَنْ كَفَّارَتِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ; لاِنَّ ذَلِكَ حُكْمُهَا.

وَالثَّالِثُ: وَافْتِتَاحُ عَنْ الْقَاضِي أَنَّهُ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ إلى كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حَقِّهِ أَجْزَأَ وَإِلاَ لَمْ يُجْزِهِ هَذَا مَا ذَكَرَهُ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ إذَا أَفْرَدَ سِتِّينَ مُدًّا وَقَالَ لِسِتِّينَ مِسْكِينًا خُذُوهَا فَأَخَذُوهَا أَوْ قَالَ كُلُوهَا وَلَمْ يَقُلْ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ قَالَ قَدْ مَلَكْتُمُوهَا بِالسَّوِيَّةِ فَأَخَذُوهَا. فَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ: يَجْزِيهِ; لاِنَّ قَوْلَهُ خُذهَا عَنْ كَفَّارَتِي يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ; لاِنَّ حُكْمَ الْكَفَّارَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ فَإِنْ عَرَفَ أَنَّهَا وَصَلَتْ إلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ عَلِمَ التَّفَاضُلَ فَمَنْ حَصَلَ مَعَهُ التَّفْضِيلُ فَقَدْ أَخَذَ زِيَادَةً وَمَنْ أَخَذَ أَقَلَّ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكْمِلَهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَيْفَ وَصَلَ إلَيْهِمْ لَمْ يَجْزِيهِ وَعَلَيْهِ اسْتِئْنَافُهَا; لاِنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ قَدْرَ مَا وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ. انْتَهَى.
فَحَكَى الْكُلَّ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي جَعَلَ الإِجْزَاءَ مُطْلَقًا قَوْلُ ابْنِ حَامِدٍ وَاعْتِبَارُ الْوُصُولِ قَوْلُ الْقَاضِي وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ اسْتَشْكَلَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ مَا وَقَعَ فِي الْمُجَرَّدِ وَقَالَ: لَعَلَّهُ وَقَعَ غَلَطٌ فِي النُّسْخَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ أَيْضًا فَإِنِّي نَقَلْتُ مَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَصْلِ الْقَاضِي بِخَطِّهِ. ثُمَّ قَالَ: عِنْدِي أَنَا إنْ قُلْنَا مَلَكُوهَا بِالتَّخْلِيَةِ وَأَنَّهَا قَبْضٌ أَجْزَأَتْهُ بِكُلِّ حَالٍ. قَالَ: وَلَعَلَّ هَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا بَلْ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ عَكْسُهُ وَإِنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ لاَ تُمْلَكُ بِدُونِ قَبْضٍ, وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ عَنْهُ فِي مَسَائِلِ الْقُبُوضِ وَإِنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَنْقُولِ بِالنَّقْلِ فَيَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لاَ بُدّ مِنْ تَحْقِيقِ قَبْضِ كُلِّ وَاحِدٍ لِمِقْدَارِ مَا يُجْزِئُ دَفْعُهُ إلَيْهِ; لاِنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ بِدُونِهِ وَلاَ عِبْرَةَ بِالإِيجَابِ لَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ ابْنِ حَامِدٍ يُشْعِرُ بِأَنَّ إطْلاَقَ قَوْلِهِ خُذُوا هَذَا وَهُوَ لَكُمْ لاَ يُحْمَلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ, فَإِنَّهُ إنَّمَا عَلَّلَ بِأَنَّ التَّسْوِيَةَ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ وَهَذَا مُخَالِفٌ لِمَا قَرَّرُوهُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ. وَأَمَّا مَاحَكَاهُ فِي الْمُغْنِي مِنْ طَرْدِ الْخِلاَفِ فِيمَا لَوْ قَالَ هُوَ بَيْنَكُمْ بِالسَّوِيَّةِ أَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ هُوَ بَيْنَكُمْ أَلْبَتَّةَ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي كَلاَمِ الْقَاضِي وَيَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلَى أَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ إطْلاَقَ الْبَيِّنَةِ هَلْ يَقْتَضِي التَّسَاوِيَ أَمْ لاَ؟ وَفِي الْمَسْأَلَةِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِيهِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ فِي الْمُضَارَبَةِ إذَا قَالَ: خُذْ هَذَا الْمَالَ فَاتَّجِرْ فِيهِ وَالرِّبْحُ بَيْنهما أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِيهِ وَصَرَّحَ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَصْحَابُ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضَارَبَةِ فِي أَنَّ إطْلاَقَ الإقَرَارِ بِشَيْءٍ أَنَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْدٍ يَتَنَزَّلُ عَلَى المنَّاصِفَةِ أَيْضًا, وَكَذَلِكَ صَرَّحُوا بِهِ فِي الْوَصَايَا إذَا قَالَ: وَصَيْت لِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ بِمِائَةٍ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ قَالَ بَيْنَ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ لَيْسَ لِلْحَيِّ إلاَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: لِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَأَحَدُهُمَا مَيِّتٌ وَأَنْكَرَ قَوْلَ سُفْيَانَ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا, وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّ إطْلاَقَ الْوَصِيَّةِ يَتَنَزَّلُ عَلَى التَّسَاوِي كَمَا قَالَ بَيْنَهُمَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إطْلاَقَ الْبَيِّنَةِ لاَ تَقْتَضِي التَّسَاوِيَ وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي

عُمَدِهِ فِي مَسْأَلَةِ الإِقْرَارِ فِي كِتَابِ الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو الْخَطَّابِ فِي الإِقْرَارِ وَصَاحِبَا الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ.
وَمنها: الْقِصَاصُ الْمُسْتَحَقُّ لِجَمَاعَةٍ بِقَتْلِ مَوْرُوثِهِمْ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْحِصَّةِ فَمَنْ عَفَى مِنْهُمْ سَقَطَ حَقُّهُ وَسَقَطَ الْبَاقِي; لاِنَّهُ لاَ يَتَبَعَّضُ. وَهَاهُنَا صُوَرٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا هَلْ يَلْحَقُ بِالنَّوْعِ الأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي كَالْغَرَامَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى جَمَاعَةٍ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ كَالْمُشْتَرِكِينَ فِي قَتْلِ آدَمِيٍّ أَوْ صَيْدٍمُحَرَّمٍأَوْ فِي الوَطْإٍ فِي الْحَجِّ أَوْ فِي الصِّيَامِ هَلْ يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِمْ الدِّيَاتُ وَالْجَزَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؟ وَكَذَلِكَ عُقُودُ التوثقات كَالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهَا.

القاعدة السادسة عشر بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَة بَعْدَ الْمِائَةِ:
مَنْ اسْتَنَدَ تَمَلُّكُهُ إلَى سَبَبٍ مُسْتَقِرٍّ لاَ يُمْكِنُ إبْطَالُهُ وَتَأَخَّرَ حُصُولُ الْمِلْكِ عَنْهُ فَهَلْ يَنْعَطِفُ إحْكَامُ مِلْكِهِ إلَى أَوَّلِ وَقْتِ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَيَثْبُتُ إحْكَامُهُ مِنْ حِينَئِذٍ أَمْ لاَ يَثْبُتُ إلاَ مِنْ حِين ثُبُوتِ الْمِلْكِ؟ فِيهِ خِلاَفٌ وَلِلْمَسْأَلَةِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ.
منها: مِلْكُ الشَّفِيعِ إذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ وَثَمَّ نَخْلٌ مُؤَبَّرٌ كَانَ وَقْتَ الْبَيْعِ غَيْرَ مُؤَبَّرٍ وَفِيهِ وَجْهَانِ سَبَقَ ذِكْرُهُمَا.
وَمنها: مِلْكُ الْمُوصَى لَهُ إذَا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ أَمْ لا؟َ وَفِيهِ خِلاَفٌ مَعْرُوفٌ.
وَمنها: إذَا تَمَلَّكَ الْمَالِكُ لِلْأَرْضِ زَرَعَ الْغَاصِبُ بِنَفَقَتِهِ بَعْدَ بَدْوِ صَلاَحِهِ فَهَلْ يَجِبُ زَكَاتُهُ عَلَيْهِ أَمْ عَلَى الْغَاصِبِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ فِي بَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بَدْوِ صَلاَحِهَا بِشَرْطِ الْقَطْعِ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَمنها: الْفَسْخُ بِالْعَيْبِ وَالْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَسْتَنِدُ إلَى مُقَارَنٍ لِلْعَقْدِ فَهَلْ هُوَ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ أَصْلِهِ أَوْ مِنْ حِينِهِ وَفِيهِ خِلاَفٌ مَعْرُوفٌ.
وَمنها: دِيَةُ الْمَقْتُولِ هَلْ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْوَارِثِ; لاِنَّهَا تَجِبُبَعْدَالْمَوْتِ أَوْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْرُوثِ; لاِنَّ سَبَبَهَا وُجِدَ فِي حَيَاتِهِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ مَعْرُوفَتَيْنِ وَحَكَى ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ الرِّوَايَتَيْنِ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا هَلْ هُوَ وَاجِبٌ لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً أَوْ مَوْرُوثٌ عَنْ الْمَيِّتِ؟
وَمنها: إذَا انْعَقَدَ سَبَبُ الْمِلْكِ أَوْ الضَّمَانِ فِي الْحَيَاةِ وَتَحَقَّقَ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ بَعْدَمَوْتِهِأَوْ عَثُرَ بِهَا إنْسَانٌ فَفِيهِ خِلاَفٌ سَبَقَ ذِكْرُهُ.

وَمنها: إذَا كَاتَبَ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُؤَدِّي إلَيْهِ شَيْئًا فَأَدَّى إلَى وَرَثَتِهِ وَعَتَقَ فَهَلْ الْوَلاَءُ لِلسَّيِّدِ الَّذِي كَاتَبَهُ لاِنْعِقَادِ سَبَبِهِ فِي مِلْكِهِ أَوْ لِلْوَرَثَةِ الْمُؤَدَّى إلَيْهِمْ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ فِي مِلْكِهِمْ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْوَلاَءَ لِلسَّيِّدِ الأَوَّلِ.
وَمنها: إذَا كَاتَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَأَدَّى إلَيْهِ وَعَتَقَ قَبْلَ أَدَائِهِ أَوْ أَعْتَقَهُ بِمَالٍ وَقُلْنَا لَهُ ذَلِكَ فَفِي وِلاَيَتِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لِلسَّيِّدِ الأَوَّلِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ لِثُبُوتِ الْوَلاَءِ عَلَى هَذَا الْعِتْقِ فِي حَالٍ لَيْسَ مَوْلاَهُ مِنْ أَهْلِ الْمِيرَاثِ فَاسْتَقَرَّ لِمَوْلَى الْمَوْلَى.
وَالثَّانِي: هُوَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ الأَوَّلُ وَعَتَقَ فَالْوَلاَءُ لَهُ لاِنْعِقَادِهِ لَهُ قَبْلَ عِتْقِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ وَرَجَّحَ فِي الْخِلاَفِ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ لَوْ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ الأَوَّلَ قَبْلَ الثَّانِي فَالْوَلاَءُ لِلسَّيِّدِ لاِنْعِقَادِ سَبَبِ الْوَلاَءِ لَهُ حَيْثُ كَانَ الْمُكَاتَبُ لَيْسَ أَهْلاً لَهُ وَكَلاَمُ أَبِي بَكْرٍ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْوَلاَءِ لِلسَّيِّدِ إذَا وَقَعَتْ الْكِتَابَةُ أَوْ الْعِتْقُ الْمُنْجَزُ بِإِذْنِهِ وَأَمَّا مَا وَقَعَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَالْعِتْقُ عِنْدَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَاءِ الْمُكَاتَبِ الأَوَّلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُ كَوَلاَءِ ذَوِي رَحِمِهِ وَاَلَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ.
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْقِنُّ إذَا أُعْتِقَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ مِمَّا مَلَكَهُ وَقُلْنَا بِمِلْكِهِ فَحَكَى صَاحِبُ الْمُغْنِي عَنْ طَلْحَةَ الْعَاقُولِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ عَتَقَ فَالْوَلاَءُ لَهُ وَإِنْ مَاتَ قِنًّا فَهُوَ لِلسَّيِّدِ.
وَفِي الْمُجَرَّدِ لِلْقَاضِي أَنَّ الْوَلاَءَ لِلسَّيِّدِ مُطْلَقًا وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي عَبْدٍ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ أَنْ يَبْتَاعَ عَبْدًا أَوْ يُعْتِقَهُ أَنَّ وَلاَءَهُ لِسَيِّدِهِ وَقَالَ إذَا أَذِنُوا لَهُ فَكَأَنَّهُمْ هُمْ الْمُعْتَقُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ عِتْقِ الْمُكَاتَبِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَعِتْقِهِ بِدُونِهِ كَمَا سَبَقَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُخَرَّجًا عَلَى قَوْلِهِ أَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَمْلِكُ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ ثُمَّ لَيْسَ فِي نَصِّهِ أَنَّ الْعَبْدَ عَتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ سَيِّدَهُ بَاعَهُ.
وَيُشْبِهُ هَذِهِ الْمَسَائِلَ إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ وَاخْتَارَ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا انْفَسَخَ نِكَاحُ الْبَوَاقِي وَهَلْ يَبْتَدِئْنَ الْعِدَّةَ مِنْ حِينِ الاِخْتِيَارِ; لاِنَّ نِكَاحَهُنَّ إنَّمَا انْفَسَخَ بِهِ أَوْ مِنْ حِينِ الإِسْلاَمِ; لاِنَّهُ السَّبَبُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
فَأَمَّا تَصَرُّفُ الْفُضُولِيِّ إذَا قُلْنَا يَقِفُ عَلَى الإِجَازَةِ فَأَجَازَهُ مَنْ عُقِدَ لَهُ فَهَلْ يَقَعُ الْمِلْكُ فِيهِ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ حَتَّى يَكُونَ النَّمَاءُ لَهُ أَمْ مِنْ حِينِ الإِجَازَةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي فِي الْجَامِعِ وَصَاحِبُ الْمُغْنِي فِي مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْفُضُولِيِّ. وَالثَّانِي: مِنْ حِينِ الإِجَازَةِ وَبِهِ جَزَمَ

صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَلَكِنَّ السَّبَبَ هُنَا غَيْرُ مُسْتَقَرٍّ لاِمْكَانِ زَوَالِهِ بِالرَّدِّ وَيَشْهَدُ لِلْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّ الْقَاضِي صَرَّحَ بِأَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ إنَّمَا يُفِيدُ صِحَّةَ الْمَحْكُومِ بِهِ وَانْعِقَادُهُ مِنْ حِينِ الْحُكْمِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ كَانَ بَاطِلاً.
وَيَلْتَحِقُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْعِبَادَاتُ الَّتِي يَكْتَفِي بِحُصُولِ بَعْضِ شَرَائِطِهَا فِي أَثْنَاءِ وَقْتِهَا إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ فِي أَثْنَائِهَا فَهَلْ يُحْكَمُ لَهَا بِحُكْمِ مَا اجْتَمَعَتْ شَرَائِطُهَا مِنْ ابْتِدَائِهَا أَمْ لاَ؟ فِيهِ خِلاَفٌ أَيْضًا وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ:
منها: إذَا نَوَى الصَّائِمُ الْمُتَطَوِّعُ الصَّوْمَ مِنْ أَثْنَاءِ النَّهَارِ فَهَلْ يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الصِّيَامِ مِنْ أَوَّلِهِ أَمْ حِينَ نَوَاهُ فَلاَ يُثَابُ عَلَى صَوْمِهِ إلاَ مِنْ حِينِ النِّيَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَالثَّانِي: ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَمنها: إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ قَبْلَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَهَلْ يُجْزِئُهُمَا عَنْ حَجَّةِ الإِسْلاَمِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ أَشْهَرُهُمَا الإِجْزَاءُ فَقِيلَ; لاِنَّ إحْرَامَهُمَا انْعَقَدَ مُرَاعًى; أِنَّهُ قَابِلٌ لِلنَّقْلِ وَالاِنْقِلاَبِ, وَقِيلَ بَلْ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهُ كَالْمَعْدُومِ وَيَكْتَفِي بِالْمَوْجُودِ مِنْهُ, وَقِيلَ إنْ قُلْنَا الإِحْرَامُ شَرْطٌ مَحْضٌ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلاَةِ اكْتَفَى بِالْمَوْجُودِ مِنْهُ وَإِنْ قِيلَ هُوَ رُكْنٌ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ.

القاعدة السابعة عشرة بعد المائة
الْقَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشَرَة بَعْدَ الْمِائَةِ:
كُلُّ عَقْدٍ مُعَلَّقٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ حَالَيْنِ إذَا وُجِدَ تَعْلِيقُهُ فِي أَحَدِهِمَا وَوُقُوعُهُ فِي الآخَرِ فَهَلْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ جَانِبُ التَّعْلِيقِ أَوْ جَانِبُ الْوُقُوعِ؟ فِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلاَنِ إلاَ أَنْ يَقْتَضِيَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا إلَى مَا هُوَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا فَيُلْغِي وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: الْوَصِيَّةُ لِمَنْ هُوَ فِي الظَّاهِرِ وَارِثٌ فَيَصِيرُ عِنْدَ الْمَوْتِ غَيْرَ وَارِثٍ أَوْ بِالْعَكْسِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الاِعْتِبَارَ بِحَالِ الْمَوْتِ وَلَمْ يَحْكِ الأَكْثَرُونَ فِيهِ خِلاَفًا فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَرَثَةِ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَلْزَمَ وَالْوَصِيَّةُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالثُّلُثِ فَمَا دُونَ لاَ يُمْكِنُ أَنْ تَقِفَ عَلَى الإِجَازَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى خِلاَفًا ضَعِيفًا فِي الاِعْتِبَارِ بِحَالِ الْوَصِيَّةِ كَمَا حَكَى أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ رِوَايَةً أَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلاَ يَصِحُّ عَنْ أَحْمَدَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْعَطِيَّةَ الْمُنْجَزَةِ كَذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ.
وَمنها: إذَا عَلَّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ فِي صِحَّتِهِ بِشَرْطٍ فَوَجَدَ فِي مَرَضِهِ فَهَلْ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, وَحَكَى الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ رِوَايَتَيْنِ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُ أَبِي مُوسَى أَنَّهُ يُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الصِّفَةُ وَاقِعَةً بِاخْتِيَارِ الْمُعَلِّقِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ فِعْلِهِ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ أَنَّهُ إذَا قَالَ لاِمْرَأَتِهِ أَنْتِ كَذَا وَكَذَا وَإِنْ لَمْ أَخْرُجْ إلَى

الْبَصْرَةِ وَقَالَ: لَمْ تَكُنْ لِي نِيَّةٌ فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ فَلاَ تَطْلُقُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَقْتٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غُلاَمُهُ حُرٌّ إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلاَ يُعْتَقُ حَتَّى يَكُونَ فِي وَقْتٍ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ الَّذِي قَالَ, فَإِذَا طَلُقَتْ وَرِثَتْهُ وَاعْتَدَّتْ وَإِذَا عَتَقَ كَانَ مِنْ ثُلُثِهِ وَهَكَذَا حُكْمُ مَا إذَا أَعْتَقَ حَمْلَ أَمَتِهِ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ وَضَعَتْهُ فِي مَرَضِهِ وَقُلْنَا لاَ يُعْتَقُ الْحَمْلُ إلاَ بَعْدَ الْوَضْعِ
وَمنها: إذَا عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ فِي صِحَّةٍ عَلَى صِفَةٍ فَوُجِدَتْ فِي مَرَضِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ فِعْلِهِ فَهَلْ تَرِثُهُ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهَا تَرِثُهُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ وَمُهَنَّا وَالْأُخْرَى مُخَرَّجَةٌ مِنْ مَسْأَلَةِ قَذْفِهَا فِي الصِّحَّةِ وَمُلاَعَنَتِهَا فِي الْمَرَضِ.
وَمنها: إذَا أَوْصَى إلَي فَاسِقٍ وَصَارَ عَدْلاً عِنْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ يَصِحُّ الْوَصِيَّةُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا لاَ يَصِحُّ الإِيصَاءُ إلَى الْفَاسِقِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِدَارٍ ثُمَّ انْهَدَمَ بَعْضُ بِنَائِهَا قَبْلَ الْمَوْتِ فَهَلْ يَدْخُلُ مِلْكُ الأَنْقَاضِ فِي الْوَصِيَّةِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَكَذَا الْوَجْهَانِ لَوْ زَادَ فِيهَا بِنَاءً لَمْ يَكُنْ حَالَ الْوَصِيَّةِ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو الْخَطَّابِ.
ومنها: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ مَتَى مَلَكْت عَبْدًا فَهُوَ حُرٌّ. وَقُلْنَا يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ مِنْ الْحُرِّ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ مَلَكَ عَبْدًا فَهَلْ يُعْتَقُ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَلَوْ وَصَّى الْمُكَاتَبُ بِشَيْءٍ ثُمَّ عَتَقَ قَبْلَ مَوْتِهِ فَهَلْ يَصِحُّ وَصِيَّتُهُ؟ خَرَّجَهَا الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ قَالَ الْعَبْدُ لِزَوْجَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلاَثًا ثُمَّ عَتَقَ ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ فَهَلْ تَطْلُقُ ثَلاَثًا أَوْ اثْنَيْنِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا حَالَ التَّعْلِيقِ لاِكْثَرَ منها؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ عَلَّقَ طَلاَقَ امْرَأَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى قُدُومِ زَيْدٍ مَثَلاً ثُمَّ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ قَدِمَ زَيْدٌ وَهِيَ حَائِضٌ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلاَقُ بِدْعِيًّا لاَ بِمَعْنَى الإِثْمِ بِهِ بَلْ بِمَعْنَى أَمْرِهِ بِالْمُرَاجَعَةِ فِيهِ وَلَوْ كَانَ قَدْ عَلَّقَ طَلاَقًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى طَلاَقِ الْبِدْعَةِ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحْكِ الأَصْحَابُ فِيهِ خِلاَفًا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ قُمْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَامَتْ وَهِيَ حَائِضٌ فَهَلْ يَكُونُ بِدْعِيًّا؟ قَالَ فِي رِعَايَةِ الاِنْتِصَارِ مُبَاحٌ وَفِي التَّرْغِيبِ بِدْعِيٌّ.

القاعدة الثامنة عشرة بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَة بَعْدَ الْمِائَةِ:
تَعْلِيقُ فَسْخِ الْعَقْدِ وَإِبْطَالِهِ لِوُجُودِهِ إنْ كَانَ فِيهِ مَقْصُودٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا صَحَّ وَإِلاَ لَمْ يَصِحَّ إذْ لَوْ صَحَّ لَصَارَ الْعَقْدُ غَيْرَ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ هَذَا مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الْمَذْهَبِ, وَيَتَخَرَّجُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:

منها: إذَا عَلَّقَ الطَّلاَقَ بِالنِّكَاحِ فَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَصِحُّ;لاِنَّ النِّكَاحَ لاَ يُقْصَدُ لِلطَّلاَقِ عَقِيبَ الْعَقْدِ. وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْهُ فِيمَنْ حَلَفَ لِزَوْجَتِهِ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا بِتَعْلِيقِ طَلاَقِ مَنْ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهِ بِنِكَاحِهَا هَلْ يَصِحُّ أَمْ لاَ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ; لاِنَّ هَذَا فِيهِ حَقٌّ لِلزَّوْجَةِ فَيَصِيرُ مَقْصُودًا كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ لاَ يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَصَّ الْخِلاَفَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ وَلَمْ يُخَرِّجْ وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ فِي الْكُلِّ رِوَايَتَيْنِ:
هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ حَالَةُ التَّعْلِيقِ فِي نِكَاحِهِ فَإِنْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ حِينَئِذٍ وَعَلَّقَ طَلاَقَهَا عَلَى نِكَاحٍ آخَرَ يُوجَدُ فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَغَيْرِهِ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ هَذَا التَّعْلِيقُ وحكاه الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ; لاِنَّ التَّعْلِيقَ هُنَا فِي نِكَاحٍ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الصِفَةَ الْمُطلقَة تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الأَنْكِحَةِ بِإِطْلاَقِهَا وَتَعُودُ الصِّفَةُ فِيهَا فَكَيْفَ إذَا قُيِّدَتْ بِنِكَاحٍ؟! مُعَيَّنٍ وَلَوْ عَلَّقَهُ فِي مِلْكِ يَمِينِهِ لاِمَتِهِ عَلَى نِكَاحِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ مُعَلِّلاً بِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ كَالنِّكَاحِ فِي اسْتِبَاحَتِهِ الْوَطْءَ فَلاَ يَكُونُ التَّعْلِيقُ كَتَعْلِيقِ نِكَاحِ الأَجْنَبِيَّةِ وَكَذَلِكَ نَصَّ فِيمَنْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا مُتَّصِلاً بِعِتْقِهَا إنْ نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّهُ يَصِحُّ; لاِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَمْلِكُ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا قَهْرًا فَلَمْ يَنْقَطِعْ آثَارُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلِذَلِكَ انْعَقَدَتْ فِيهِ الصِّفَةُ.
وَمنها: تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ وَالْمَذْهَبُ الْمَنْصُوصُ صِحَّتُهُ; لاِنَّ الْمِلْكَ يُرَادُ لِلْعِتْقِ وَيَكُونُ مَقْصُودًا كَمَا فِي شِرَاءِ ذِي الرَّحِمِ وَغَيْرِهِ وَالْخَلاَلُ وَصَاحِبُهُ لاَ يُثْبِتَانِ فِي الْمَذْهَبِ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا وَابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي يَحْكِيَانِ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَيْنِ.
وَمنها: تَعْلِيقُ النَّذْرِ بِالْمِلْكِ مِثْلُ: إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالاً فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ. فَيَصِحُّ وَنَقَلَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَيْهِ بِالاِتِّفَاقِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} الآيَاتِ.
وَمنها: تَعْلِيقُ فَسْخِ الْوَكَالَةِ عَلَى وُجُودِهَا أَوْ تَعْلِيقُ الْوَكَالَةِ عَلَى فَسْخِهَا كَالْوَكَالَةِ الدَّوْرِيَّةِ, وَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ التَّلْخِيصِ أَنَّ قِيَاسَ الْمَذْهَبِ صِحَّةُ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَكَالَةَ قَابِلَةٌ لِلتَّعْلِيقِ عِنْدَنَا وَكَذَلِكَ فَسْخُهَا وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ لاَ يَصِحُّ; لاِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ تَصِيرَ الْعُقُودُ الْجَائِزَةُ لاَزِمَةً وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِقَاعِدَةِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ مَقْصُودُ الْمُعَلِّقِ إيقَاعُ الْفَسْخِ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ الاِمْتِنَاعُ مِنْ التَّوْكِيلِ وَحِلُّهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ وَالْعُقُودُ لاَ تَنْفَسِخُ قَبْلَ انْعِقَادِهَا.
وَمنها: تَعَلُّقُ فَسْخِ الْبَيْعِ بِالإِقَالَةِ عَلَى وُجُودِ الْبَيْعِ أَوْ تَعْلِيقُ فَسْخِ النِّكَاحِ بِالْعَيْبِ عَلَى وُجُودِ النِّكَاحِ وَقَدْ صَرَّحَ الأَصْحَابُ بِبُطْلاَنِ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ مُعَلِّلِينَ بِأَنَّهُ وَقَعَ الْعَقْدُ قَبْلَ عَقْدِهِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ بِأَنَّ الْفُسُوخَ لاَ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ وَقَدْ صَرَّحَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ كَالْقَاضِي

وَأَبِي الْخَطَّابِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَصَاحِبِ الْمُغْنِي بِهَذَا الْمَأْخَذِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي مَسْأَلَةِ: إنْ جِئْتنِي بِالثَّمَنِ إلَى كَذَا وَكَذَا وَإِلاَ فَلاَ بَيْعَ بَيْنَنَا. أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَكُونُ تَعَلُّقًا لِلْفَسْخِ عَلَى شَرْطٍ وَقَدْ صَرَّحَ الْقَاضِي فِي جَوَازِهِ فِي الْبَيْعِ خَاصَّةً فِي خِلاَفِهِ وَمِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مَنْ صَرَّحَ بِهِ فِي فَسْخِ الإِجَارَةِ أَيْضًا.
وَمنها: تَعْلِيقُ فَسْخِ التَّدْبِيرِ بِوُجُودِهِ وَصَرَّحَ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ بِامْتِنَاعِهِ فِيمَا إذَا قَالَ لاِمَتِهِ الْمُدَبِّرَةِ: كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَقَدْ رَجَعْت فِي تَدْبِيرِهِ. فَقَالَ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا; لاِنَّ الرُّجُوعَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي تَدْبِيرٍ مَوْجُودٍ هَذَا بَعْدَ مَا خَلَقَ فَكَيْفَ يَكُونُ رُجُوعًا؟! كَمَا لَوْ قَالَ: لِعَبْدِهِ مَتَى دَبَّرْتُك فَقَدْ رَجَعْت. لَمْ يَصِحَّ. هَذَا لَفْظُهُ.

القعدة التاسعة عشرة بعد المائة
الْقَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَة بَعْدَ الْمِائَة:
إذَا وَجَدْنَا لَفْظًا عَامًّا قَدْ خُصَّ بَعْضُ أَفْرَادِهِ بِحُكْمٍ مُوَافِقٍ لِلْأَوَّلِ أَوْ مُخَالِفٍ لَهُ فَهَلْ يَقْضِي بِخُرُوجِ الْخَاصِّ مِنْ الْعَامِّ وَانْفِرَادُهُ بِحُكْمِهِ الْمُخْتَصِّ بِهِ أَوْ يَقْضِي بِدُخُولِهِ فِيهِ فَيَتَعَارَضَانِ مَعَ اخْتِلاَفِ الْحُكْمِ وَيَتَعَدَّدُ سَبَبُ الاِسْتِحْقَاقِ مَعَ إبْقَائِهِ؟ هَذَا عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يُفْرَدُ الْخَاصُّ بِحُكْمِهِ وَلاَ يَقْضِي بِدُخُولِهِ فِي الْعَامِّ وَسَوَاءٌ إنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ مِمَّا يُمْكِنُ الرُّجُوعُ عَنْهُ كَالْوَصَايَا أَوْ لاَ يُمْكِنُ كَالإِقْرَارِ, وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: لَوْ قَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ وَلِي منها: هَذَا الْبَيْتُ قُبِلَ وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتُ فِي الإِقْرَارِ صَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ, وَيَجِيءُ عَلَى هَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ فِي مَسْأَلَةِ: كَانَ لَهُ عَلَيَّ. وَقَضِيَّتُهُ أَنَّهُ لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْقَضَاءِ أَنْ لاَ يَقْبَلَ هَاهُنَا أَفْرَادَ الْبَيْتِ; لاِنَّ مَأْخَذَهُ أَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُرْتَبِطَةٍ بِمَا قَبْلَهَا فَهِيَ دَعْوَى مُسْتَقِلَّةٍ كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ أَنَّهَا تَطْلُقُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلاَفِ الاِسْتِثْنَاءِ وَالصِّفَاتِ فَإِنَّهَا مَعَ مَا قَبْلَهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ وَأَنَّ الْمَعْطُوفَ بِالْوَاوِ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ وَأَمَّا أَنْتِ طَالِقٌ وَعَلَيْك أَلْفٌ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ وَمَأْخَذُ الْوُقُوعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ مَا ذَكَرُوهُ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِشَيْءٍ وَلِلْمَسَاكِينِ بِشَيْءٍ وَهُوَ مِسْكِينٌ فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ مَعَ الْمَسَاكِينِ مِنْ نَصِيبِهِمْ شَيْئًا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَعَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ وَنَقَلَ الْقَاضِي فِيمَا قَرَأْته بِخَطِّهِ الاِتِّفَاقَ عَلَى أَنَّ زَيْدًا لاَ يَسْتَحِقُّ مِنْ وَصِيَّةِ الْمَسَاكِينِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ وَإِنْ كَانَ مِسْكِينًا مَعَ أَنَّ ابْنَ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ خَرَّجَ وَجْهًا آخَرَ بِمُشَارَكَتِهِمْ إذَا كَانَ مِسْكَيْنَا.

وَمنها: لَوْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِخَاتَمٍ وَبِفَصِّهِ لاِخَرَ أَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَبِمَنَافِعِهِ لاِخَرَ أَوْ لاِحَدِهِمَا بِالدَّارِ وَلاِخَرَ بِسُكْنَاهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ بِلَفْظٍ لاَ يَقْتَضِي انْفِرَادَ كُلِّ وَاحِدٍ بِمَا وَصَّى لَهُ بِهِ صَرِيحًا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي الشَّافِي: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا وَصَّى لَهُ بِهِ لاَ يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَحَمَلَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي كَلاَمٍ وَاحِدٍ مُتَّصِلٍ وَأَخَذَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ الإِقْرَارِ السَّابِقَةِ وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ هَاهُنَا التَّوَقُّفُ.
قَالَ مُهَنَّا: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِعَبْدٍ لِرَجُلٍ ثُمَّ أَوْصَى بِهِ لاِخَرَ قَالَ هَذِهِ مُشْكِلَةٌ فَقُلْت لَهُ: فَإِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ يَكُونُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ قَالَ لاَ فَقُلْت لَهُ: فَإِنْ أَوْصَى بِدَارٍ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِغَلَّتِهَا لاِخَرَ فَقَالَ: هَذِهِ أيضاً مِثْلُ تِلْكَ فَقُلْت لاِبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَوْصَى بِخَاتَمِهِ لِرَجُلٍ وَأَوْصَى بِالْفَصِّ لاِخَرَ فَقَالَ: وَهَذِهِ أَيْضًا مِثْلُ تِلْكَ وَلَمْ يُخْبِرْنِي فِيهِمْ بِشَيْءٍ فَتَوَقَّفَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَأَنْكَرَ قَوْلَ مَنْ قَالَ بِالاِشْتِرَاكِ فِي الْعَبْدِ إذَا أَوْصَى بِهِ لاِثْنَيْنِ وَجَعَلَ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ بِالدَّارِ وَغَلَّتِهَا وَالْخَاتَم وَفَصِّهِ حُكْمَ الْوَصِيَّةِ بِعَبْدٍ لاِثْنَيْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لاَ اشْتِرَاكَ فِي الْفَصِّ وَالْغَلَّةِ. وَظَاهِرُ كَلاَمِهِ أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُوصَى لَهُ بِهِ بِخُصُوصِهِ لَكِنَّ هَذَا قَدْ يَكُونُ مَأْخَذُهُ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ رُجُوعٌ عَنْ الْأُولَى كَمَا أَشْعَرَ بِهِ كَلاَمُهُ فِي الْعَبْدِ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِعَيْنٍ مَرَّةً لِرَجُلٍ وَمَرَّةً لِغَيْرِهِ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا بَلْ يَشْتَرِكَانِ فِيهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالأَجْزَاءِ الْمَنْسُوبَةِ كَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِثُلُثِهِ وَوَصَّى لاِخَرَ بِقَدْرٍ مِنْهُ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ بْنِ ثَوَّابٍ فِي رَجُلٍ قَالَ ثُلُثَيْ هَذَا لِفُلاَنٍ وَيُعْطَى فُلاَنٌ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ قَالَ هُوَ لِلْآخَرِ مِنْهُمَا قِيلَ كَيْفَ؟ قَالَ: لاِنَّ الْوَصِيَّةَ رَجَعَتْ إلَى الَّذِي قَالَ وَيُعْطَى هَذَا مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ وَإِذَا مَاتَ هَذَا أَوْ فَضَلَ شَيْءٌ يُرَدُّ إلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ هَذِهِ الرِّوَايَةُ تَدُلُّ عَلَى تَقَدُّمِ الْوَصِيَّةِ بِالْمُقَدَّرِ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْجُزْءِ الْمَنْسُوبِ; لاِنَّهُمَا كَالْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
وَكَتَبَ الْقَاضِي بِخَطِّهِ عَلَى حَاشِيَةِ الْجَامِعِ لِلْخَلاَلِ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ الثَّانِيَةَ تَقْتَضِي الرُّجُوعَ عَنْ الأُولَى; لاِنَّ الثَّانِيَةَ تَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْمَالِ إذْ الْعُمْرُ لَيْسَ لَهُ حَدٌّ مَعْرُوفٌ. قَالَ وَقَدْ قِيلَ لاَ يَكُونُ رُجُوعًا وَيُقَسَّمُ الثُّلُثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ سَهْمٌ وَثَلاَثَةٌ لِلْآخَرِ كَمَا لَوْ وَصَّى لِرَجُلٍ بِمَالِهِ وَلاِخَرَ بِثُلُثِهِ انْتَهَى.
وَكِلاَ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِيهِمَا ضَعْفٌ; لاِنَّ أَحْمَدَ رَدَّ الْفَضْلَ عَنْ النَّفَقَةِ إلَى الأَوَّلِ وَهَذَا يَبْطُلُ أَنَّهُ رُجُوعٌ وَلاِنَّ الْوَصِيَّةَ لِلثَّانِي إنَّمَا هِيَ مِنْ الثُّلُثِ فَكَيْفَ تَكُونُ وَصِيَّةٌ بِالْمَالِ؟! كُلِّهِ فَتَعَيَّنَ حَمْلُهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ أَوَّلاً.
فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْخِرَقِيِّ فِي كِتَابِهِ وَهِيَ: إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِمُعَيَّنٍ مِنْ مَالِهِ كَعَبْدٍ وَلاِخَرَ بِجُزْءٍ مُشَاعٍ مِنْهُ كَالثُّلُثِ أَنَّ الْوَصِيَّتَيْنِ يَزْدَحِمَانِ فِي الْمُعَيَّنِ مَعَ الإِجَازَةِ كَمَا لَوْ وَصَّى بِهِ لاِثْنَيْنِ وَتَبِعَهُ

عَلَى ذَلِكَ ابْنُ حَامِدٍ وَالْقَاضِي وَالأَصْحَابُ, فَهَذَا قَدْ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْوَصِيَّتَانِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلاَ إشْكَالَ عَلَى هَذَا وَإِنْ حُمِلَ عَلَى إطْلاَقِهِ وَهُوَ الَّذِي اقْتَضَاهُ كَلاَمُ الأَكْثَرِينَ فَهُوَ وَجْهٌ آخَرُ وَنُصُوصُ أَحْمَدَ وَأُصُولُهُ تُخَالِفُهُ كَنَصِّهِ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي الْوَصِيَّةِ بِالْعَبْدِ لاِثْنَيْنِ وَنَصِّهِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَصَّى لِزَيْدٍ بِشَيْءٍ وَلِجِيرَانِهِ بِشَيْءٍ وَزَيْدٌ مِنْ جِيرَانِهِ أَنَّهُ لاَ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْجِيرَانِ شَيْئًا, وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّ الأَصْحَابَ اسْتَشْكَلُوا مَسْأَلَةَ الْخِرَقِيِّ وَأَنْكَرُوهَا عَلَيْهِ وَنَسَبُوهُ إلَى التَّفَرُّدِ بِهَا.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ فِي كَلاَمَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ فَهَاهُنَا حَالَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا لاَ يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَنْ كَلاَمِهِ وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ كَالأَقَارِيرِ وَالشَّهَادَاتِ وَالْعُقُودِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ فِي الشَّهَادَاتِ وَلاَ يَكُونُ الإِقْرَارُ الثَّانِي وَلاَ الْعَقْدُ الثَّانِي رُجُوعًا عَنْ الأَوَّلِ هَكَذَا ذَكَرَهُ غَيْرُ وَاحِدِ من الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ أَنَّ كَلاَمَ أَحْمَدَ وَأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي أَنَّ الْخَاصَّ لاَ يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ لَيْسَ فِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْكَلاَمِ الْوَاحِدِ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الْخَاصَّ لاَ يَدْخُلُ فِي الْعَامِّ مُطْلَقًا وَيَكُونُ تَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ قَرِينَةً مُخَرَّجَةٍ مِنْ الْعُمُومِ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ قَرِينَةٌ تَقْتَضِي دُخُولَهُ فِيهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ دُخُولِهِ فِيهِ بِقَرِينَةٍ أَوْ مُطْلَقًا فَإِذَا تَعَارَضَ دَلاَلَةُ الْعَامِّ وَدَلاَلَةُ الْخَاصِّ فِي شَيْءٍ فَهَلْ تَرجح دَلاَلَةُ الْخَاصِّ أَمْ يَتَسَاوَيَانِ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي الْوَاضِحِ أَنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ وَذَكَرَ أَبُو الْخَطَّابِ فِي التَّمْهِيدِ أَنَّهُ يُقَدَّمُ دَلاَلَةُ الْخَاصِّ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَيْضًا وَالأَصْحَابُ كُلُّهُمْ فِي مَسْأَلَةِ تَخْصِيصِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي مَسْأَلَةِ تَقْدِيمِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ عِنْدَ التَّعَارُضِ وَإِنْ عَلِمَ تَقَدُّمَ الْخَاصِّ حَتَّى قَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ الْعَامُّ الْخَاصَّ;لاِنَّهُ لَيْسَ بِمُسَاوٍ لَهُ.
وَالْحَالَةُ الثَّانِيَة: أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ مُمْكِنًا كَالْوَصِيَّةِ وَعَزْلُ الإِمَامِ لِمَنْ يُمْكِنُهُ عَزْلُهُ وَوِلاَيَتُهُ فَهَذَا يُشْبِهُ تَعَارُضَ الْعَامِّ الْخَاصَّ فِي كَلاَمِ الشَّارِعِ فِي الأَحْكَامِ وَفِي ذَلِكَ ثَلاَثُ رِوَايَاتٍ: أَشْهَرُهُنَّ: تَقْدِيمُ الْخَاصِّ مُطْلَقًا وَتَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِهِ سَوَاءٌ جَهِلَ التَّارِيخَ أَوْ عَلِمَ. وَالثَّانِيَة: إنْ جَهِلَ التَّارِيخَ فَكَذَلِكَ وإلا قدم الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا. وَالثَّالِثَةُ: إنْ عَلِمَ التَّارِيخُ عُمِلَ بِالْمُتَأَخِّرِ وَإِنَّ جَهِلَ تَعَارَضَا وَيَتَّصِلُ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ قَاعِدَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: إذَا اجْتَمَعَ فِي شَخْصٍ اسْتِحْقَاقٌ بِجِهَةٍ خَاصَّةٍ كَوَصِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ وَمِيرَاثٌ وَاسْتِحْقَاقٌ بِجِهَةٍ عَامَّةٍ كَالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ فَإِنَّهُ لاَ يَأْخُذُ إلاَ بِالْجِهَةِ الْخَاصَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ مَسَائِلُ:
منها: إذَا وَصَّى لِزَيْدٍ بِشَيْءٍوَلِجِيرَانِهِ بِشَيْءٍ وَهُوَ مِنْ الْجِيرَانِ فَإِنَّهُ لاَ يُعْطَى مِنْ نَصِيبِ الْجِيرَانِ.
وَمنها: إذَا وَصَّى لِزَيْدٍ بِشَيْءٍوَلِلْفُقَرَاءِ بِشَيْءٍ وَزَيْدٌ فَقِيرٌ. لاَ يُعْطِي مِنْ نَصِيبِ الْفُقَرَاءِ شَيْئًا نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى

الصُّورَتَيْنِ وَخَرَّجَ الْقَاضِي فِيمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ الاِسْتِحْقَاقَ بِجِهَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْجِوَارِ كَمَا يَسْتَحِقُّ عَامِلُ الزَّكَاةِ الأَخْذَ بِجِهَةِ الْفَقْرِ مَعَ الْعِمَالَةِ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لاِقَارِبِهِ بِشَيْءٍ وَوَصَّى أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهُ بِإِيمَانِ فَلاَ يُعْطَى مِنْ الْكَفَّارَةِ مَنْ أَخَذَ مِنْ الْوَصِيَّةِ مِنْ الأَقَارِبِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لِلْفُقَرَاءِ وَوَرَثَتُهُ فُقَرَاءُ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ الأَخْذُ مِنْ الْوَصِيَّةِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ. وَقَالَ الْوَارِثُ لاَ يَصْرِفُ فِي الْمَالِ مَرَّتَيْنِ إذا كان وارث لم يأخذ من الوصية شيئاً, ونقل نحوه أبو الصقر والفضل بن زياد, وكذلك نص عَلَى أَنَّ الْوَارِثَ لاَ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَأْخُذُ الْوَصِيَّةَ وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عَلَى مَنْعِهِ مِنْ أَخْذِ الزَّائِدِ عَنْ نَفَقَةِ الْمِثْلِ فَأَمَّا نَفَقَةُ الْمِثْلِ فَيَجُوزُ; لاِنَّهَا مُعَاوَضَةٌ.
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَة: إذَا اجْتَمَعَتْ صِفَاتٌ فِي عَيْنٍ فَهَلْ يَتَعَدَّدُ الاِسْتِحْقَاقُ بِهَا كَالأَعْيَانِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهَا كَالأَعْيَانِ فِي تَعَدُّدِ الاِسْتِحْقَاقِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلِكَ صُوَرٌ.
منها: الأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ بِالْفَقْرِ وَالْغُرْمِ وَالْغَزْوِ وَنَحْوِهِ.
وَمنها: الأَخْذُ مِنْ الْخُمُسِ بِأَوْصَافٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَمنها: الأَخْذُ مِنْ الصَّدَقَاتِ الْمَنْذُورَةِ وَالْفَيْءِ وَالْوُقُوفِ.
وَمنها: الْمَوَارِيثُ بِأَسْبَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالزَّوْجِ ابْنِ عَمٍّ وَابْنِ الْعَمِّ إذَا كَانَ أَخًا لاِمٍّ بِالاِتِّفَاقِ وَكَذَلِكَ الْجَدَّاتُ الْمُدْلِيَاتُ بِقَرَابَتَيْنِ وَالأَرْحَامُ وَالْمَجُوسُ وَنَحْوُهُمْ مِمَّنْ يُدْلِي بِنَسَبَيْنِ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ بِالْجَمِيعِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ.
وَمنها: فِي تَعْلِيقِ الطَّلاَقِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْت رَجُلاًفَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْت فَقِيهًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ كَلَّمْت أَسْوَدَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَكَلَّمَتْ رَجُلاًفَقِيهًا أَسْوَدَ طَلُقَتْ ثَلاَثًا, وَكَذَا لَوْ قَالَ: إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ وَلَدْت أُنْثَى فَأَنْت طَالِقٌ فَوَلَدَتْ أُنْثَى طَلُقَتْ طَلْقَتَيْنِ. وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: لاَ تَطْلُقُ إلاَ طَلْقَةً وَاحِدَةً فِي الْمَسَائِلِ كُلِّهَا مَعَ الطَّلاَقِ; لاِنَّ الأَظْهَرَ مِنْ مُرَادِ الْحَالِفِ أَنْتِ طَالِقٌ سَوَاءٌ وَلَدَتْ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, وَسَوَاءٌ كَلَّمْت رَجُلاً أَوْ فَقِيهًا أَوْ أَسْوَدَ, فَيَنْزِلُ الإِطْلاَقُ عَلَيْهِ لاِشْتِهَارِهِ فِي الْعُرْفِ, إلاَ أَنْ يَنْوِيَ خِلاَفَهُ.
وَنَصَّ الإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِيمَنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً إنْ وَلَدْت ذَكَرًا وَطَلْقَتَيْنِ إنْ وَلَدْت أُنْثَى فَوَلَدَتْ ذَكَرًا وَأُنْثَى أَنَّهُ عَلَى مَا نَوَى, إنَّمَا أَرَادَ وِلاَدَةً وَاحِدَةً, وَأَنْكَرَ قَوْلَ

سُفْيَانَ أَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهَا, فَالأَوَّلُ مَا عَلَّقَ وَبِهِ وَتَبَيَّنَ بِالثَّانِي وَلاَ تَطْلُقُ بِهِ, وَقَوْلُ سُفْيَانَ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَبُو بَكْرٍ وَأَبُو حَفْصٍ وَالْقَاضِي وَأَصْحَابُهُ, وَكَذَلِكَ ابْنُ حَامِدٍ وَزَادَ أَنَّهَا تَطْلُقُ بِالثَّانِي أَيْضًا. وَالْمَنْصُوصُ أَصَحُّ; لاِنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا حَلَفَ عَلَى حَمْلٍ وَاحِدٍ وَوِلاَدَةٍ وَاحِدَةٍ, وَالْغَالِبُ أَنَّهُ لاَ يَكُونُ إلاَ وَلَدًا وَاحِدًا, لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ ذَكَرًا مَرَّةً وَأُنْثَى أُخْرَى نَوَّعَ التَّعْلِيقَ عَلَيْهِ, فَإِذَا وَلَدَتْ هَذَا الْحَمْلَ ذَكَرًا وَأُنْثَى لَمْ يَقَعْ بِهِ الْمُعَلَّقُ بِالذِّكْرِ وَالْأُنْثَى جَمِيعًا, بَلْ الْمُعَلَّقُ بِأَحَدِهِمَا فَقَطْ; لاِنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ إلاَ إيقَاعَ أَحَدِ الطَّلاَقَيْنِ, وَإِنَّمَا رَدَّدَهُ لِتَرَدُّدِهِ فِي كَوْنِ الْمَوْلُودِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, وَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ أَكْثَرُ الطَّلاَقَيْنِ إذَا كَانَ الْقَصْدُ تَطْلِيقُهَا بِهَذَا الْوَضْعِ, سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى, لَكِنَّهُ أَوْقَعَ بِوِلاَدَةِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ الْآخَرِ, فَيَقَعُ بِهِ أَكْثَرُ الْمُعَلَّقَيْنِ.
تَنْبِيهٌ: إذَا كَانَتْ الْجِهَةُ وَاحِدَةً لَمْ يَتَعَدَّدْ الاِسْتِحْقَاقُ بِتَعَدُّدِ الأَوْصَافِ الْمُدْلِيَةِ إلَيْهَا كَالْوَصِيَّةِ لِقَرَابَتِهِ إذَا أَدْلَى شَخْصٌ بِقَرَابَتَيْنِ وَالْآخَرُ بِقَرَابَةٍ وَاحِدَةٍ. ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْإِخْوَةِ أَنَّهُ يَسْتَوِي الإِخْوَةُ لِلْأَبَوَيْنِ وَالإِخْوَةُ لِلْأَبِ وَالإِخْوَةُ لِلْأُمِّ; لاِنَّ الْكُلَّ مُشْتَرِكُونَ فِي جِهَةِ الأُخُوَّةِ فَلاَ عِبْرَةَ بِتَعَدُّدِ الْجِهَاتِ الْمُوصِلَةِ إلَيْهَا.

القاعدة العشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
يُرَجَّحُ ذُو الْقَرَابَتَيْنِ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ الْوَاحِدَةِ, وَإِنْ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا لَهَا مَدْخَلٌ فِي الاِسْتِحْقَاقِ فِي مَسَائِلَ:
منها: فِي الأَخِ لِلأَبَوَيْنِ عَلَى الأَخِ لِلأَبِ فِي الْمِيرَاثِ بِالْوَلاَءِ رِوَايَةً وَاحِدَةً, وَخَرَّجَ ابْنُ الزاغوني فِي كِتَابِهِ التَّلْخِيصِ فِي الْفَرَائِضِ رِوَايَةً أُخْرَى بِاشْتِرَاكِهِ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ.
وَمنها: تَقْدِيمُ الأَخِ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الأَخِ لِلْأَبِ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ, اخْتَارَهَا أَبُو بَكْرٍ وَرَجَّحَهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي.
وَمنها: تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ فِي حَمْلِ الْعَاقِلَةِ, وَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ.
وَمنها: تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ فِي الصَّلاَةِ عَلَى الْجِنَازَةِ, وَفِيهِ الرِّوَايَتَانِ أَيْضًا.
وَمنها: فِي الْوَقْفِ الْمُقَدَّمِ فِيهِ بِالْقُرْبِ, وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ, فَيَتَرَجَّحُ الأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الأَخِ لِلْأَبِ صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَالأَصْحَابُ فِي الْوَصِيَّةِ, وَعَلَّلُوا بِأَنَّ الاِنْفِرَادَ بِالْقَرَابَةِ كَالتَّقَدُّمِ بِدَرَجَةٍ, وَخَالَفَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْوَقْفِ, وَقَالَ: لاَ يَرجح فِيهِ بِالْقَرَابَةِ الأَجْنَبِيَّةِ عَنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَقْفِ.

القاعدة الحادية والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعُرْفِ وَلَهُ صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الاِسْمِ الْعَامِّ فِي بَعْضِ أَفْرَادِهِ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً, فَهَذَا يَخصُّ بِهِ الْعُمُومُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ. فَلَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ شِوَاءً اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِاللَّحْمِ الْمَشْوِيِّ دُونَ الْبَيْضِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يُشْوَى, وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى لَفْظِ الدَّابَّةِ وَالسَّقْفِ وَالسِّرَاجِ وَالْوَتَدِ لاَ يَتَنَاوَلُ إلاَ مَا يُسَمَّى فِي الْعُرْفِ كَذَلِكَ, دُونَ الْآدَمِيِّ وَالسَّمَاءِ وَالشَّمْسِ وَالْجَبَلِ, فَإِنَّ هَذِهِ التَّسْمِيَةَ فِيهَا هُجِرَتْ حَتَّى عَادَتْ مَجَازًا
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ لاَ يَكُونَ كَذَلِكَ وَهُوَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا لاَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ الْعَامُّ إلاَ مُقَيَّدًا بِهِ وَلاَ يُفْرَدُ بِحَالٍ, فَهَذِاِ لاَ يَدْخُلُ فِي الْعُمُومِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ نَعْلَمُهُ, فَخِيَارُ شنبر وَتَمْرُ هِنْدِيٍّ لاَ يَدْخُلاَنِ فِي مُطْلَقِ الثَّمَرِ وَالْخِيَارِ, ذَكَرَهُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ, وَنَظِيرُهُ مَاءُ الْوَرْدِ لاَ يَدْخُلُ فِي اسْمِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الاِسْمُ الْعَامُّ لَكِنَّ الأَكْثَرَ أَنْ لاَ يُذْكَرَ مَعَهُ إلاَ بِقَيْدٍ أَوْ قَرِينَةٍ, وَلاَ يَكَادُ يُفْهَمُ عِنْدَ الإِطْلاَقِ دُخُولُهُ فِيهِ, فَفِيهِ وَجْهَانِ وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهِمَا مَسَائِلُ:
منها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ الرُّءُوسَ فَقَالَ الْقَاضِي يَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ مَا يُسَمَّى رَأْسًا مِنْ رُءُوسِ الطُّيُورِ وَالسَّمَكِ, وَنَقَلَهُ فِي مَوْضِعٍ عَنْ أَحْمَدَ, وَقَالَ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ يُعْتَبَرُ فِي تَعْمِيمِ الْخَاصِّ لاَ فِي تَخْصِيصِ الْعَامِّ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: لاَ يَحْنَثُ إلاَ بِرَأْسٍ يُؤْكَلُ فِي الْعَادَةِ مُفْرَدًا, وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلاَفِهِ أَنَّ يَمِينَهُ تَخْتَصُّ بِمَا يُسَمَّى رَأْسًا عُرْفًا, وَحَكَى ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ رِوَايَتَيْنِ. إحْدَاهُمَا: يَحْنَثُ بِأَكْلِ كُلِّ رَأْسٍ. وَالثَّانِيَةُ: لاَ يَحْنَثُ إلاَ بِأَكْلِ رَأْسِ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ خَاصَّةً, وَعَزَى الأُولَى إلَى الْخِرَقِيِّ, وَفِي التَّرْغِيبِ ذَكَرَ الْوَجْهَ الثَّانِي; أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ إلاَ بِأَكْلِ رَأْسٍ يُبَاعُ مُفْرَدًا لِلْأَكْلِ عَادَةً, قَالَ فَإِنْ جَرَتْ عَادَةُ قَوْمٍ بِأَكْلِ رُءُوسِ الظِّبَاءِ حَنِثَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ, وَفِي غَيْرِهِ وَجْهَانِ مَأْخَذُهُمَا هَلْ الاِعْتِبَارُ بِأَصْلِ الْعَادَةِ أَوْ عَادَةِ الْحَالِفِ؟ انْتَهَى.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ الْبَيْضَ فَهُوَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا, فَيَحْنَثُ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَكْلِ بَيْضِ السَّمَكِ وَغَيْرِهِ, وَلاَ يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي الْخَطَّابِ إلاَ بِأَكْلِ بَيْضٍ يُزَايِلُ بَايِضَهُ فِي حَيَاتِهِ, وَزَعَمَ صَاحِبُ الْكَافِي أَنَّ التَّخْصِيصَ هُنَا إنَّمَا كَانَ إضَافَةَ الأَكْلِ إلَى الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ, حَيْثُ كَانَتْ الْعَادَةُ تَخْتَصُّ بَعْضَ أَنْوَاعِهَا, وَظَاهِرُ كَلاَمِهِ أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ حُكْمًا سِوَى الأَكْلِ لَعَمَّ بِغَيْرِ خِلاَفٍ وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ اللَّحْمَ فَأَكَلَ لَحْمَ السَّمَكِ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ هُوَ عَلَى نِيَّتِهِ. قَالَ الْقَاضِي: مَعْنَاهُ إنْ نَوَى لَحْمًا بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ غَيْرِهِ مَعَ الإِطْلاَقِ وَهُوَ قَوْلُ الْخِرَقِيِّ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُوسَى لاَ يَحْنَثُ مَعَ الإِطْلاَقِ وَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِإِدْخَالِهِ بِالنِّيَّةِ, وَلَعَلَّهُ ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ بَيْتًا فَدَخَلَ مَسْجِدًا أَوْ حَمَّامًا فَالْمَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ يَحْنَثُ وَأَنَّهُ لاَ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ, وَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْمَسْجِدَ وَالْحَمَّامَ يُسَمَّى بَيْتًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَهَذَا يُخَالِفُ نَصَّهُ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي لَحْمِ السَّمَكِ, فَيُخَرَّجُ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ, وَخَرَّجَ الأَصْحَابُ فِي هَذَا وَجْهًا بِعَدَمِ الْحِنْثِ, وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ مِنْ نَصِّهِ الْآتِي فِيمَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَا يُسَمَّى عِنْدَهُ مَالاً, وَكَذَا الْخِلاَفُ لَوْ حَلَفَ لاَ يَرْكَبُ فَرَكِبَ سَفِينَةً.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَشَمُّ الرَّيْحَانَ, فَقَالَ الْقَاضِي: تَخْتَصُّ يَمِينُهُ بِالْفَارِسِيِّ; لاِنَّهُ الْمُسَمَّى بِالرَّيْحَانِ عُرْفًا. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ وَغَيْرُهُ: يَحْنَثُ بِكُلِّ نَبْتٍ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ; لاِنَّهُ رَيْحَانٌ حَقِيقَةً وَهَذَا يُعَاكِسُ قَوْلَهُمَا فِي مَسْأَلَةِ الرُّءُوسِ وَالْبَيْضِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ لَحْمَ بَقَرٍ, فَهَلْ يَحْنَثُ بِأَكْلِ لَحْمِ بَقَرِ الْوَحْشِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, ذَكَرَهُمَا فِي التَّرْغِيبِ, وَخَرَّجَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ. حَكَاهُمَا فِيمَا إذَا حَلَفَ لاَ يَرْكَبُ حِمَارًا فَرَكِبَ حِمَارًا وَحْشِيًّا هَلْ يَحْنَثُ أَمْ لاَ؟ وَالْخِلاَفُ هَاهُنَا يَقْرُبُ أَخَذَهُ مِنْ مَسْأَلَةِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي بَقَرِ الْوَحْشِ, وَالْحِنْثُ فِي مَسْأَلَةِ الرُّكُوبِ أَضْعَفُ; لاِنَّ الرُّكُوبَ إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الْحِمَارُ الأَهْلِيُّ, وَيُشْبِهُ هَذَا الْخِلاَفَ لاِصْحَابِنَا فِي مُرُورِ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي هَلْ يَقْطَعُ صَلاَتَهُ أَمْ لاَ؟ وَقَدْ حَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَتَكَلَّمُ فَقَرَأَ أَوْ سَبَّحَ, هَلْ يَحْنَثُ أَوْ لاَ؟ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ, وَتَوَقَّفَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبِيدِهِ أَوْ أَعْتَقَهُمْ مُنْجِزًا, فَقَالَ الْخِرَقِيِّ. وَأَبُو بَكْرٍ: يَتَنَاوَلُ الْقِنَّ وَالْمُدَبِّرَ وَالْمُكَاتَبَ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَأَشْقَاصَهُ, وَزَادَ الْقَاضِي عَبِيدُ عَبْدِهِ التَّاجِرِ. وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي الْمُكَاتَبِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ, وَخَرَّجَ الْقَاضِي رِوَايَةً بِعَدَمِ دُخُولِ الْمُكَاتَبِينَ بِدُونِ نِيَّةٍ مِنْ رِوَايَةِ مُهَنَّا فِي الأَشْقَاصِ أَنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ فِي عِتْقِ الْمَمَالِيكِ, إلاَ أَنْ يَنْوِيَهُمْ, وَمَأْخَذُهُ أَنَّهُمْ خَارِجُونَ مِنْ مُسَمَّى الرَّقِيقِ وَالْمَمْلُوكِ عُرْفًا, وَلَوْ قِيلَ إنَّ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَلِكَ لَمْ يَبْعُدْ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ وَأَرَادَ الْبِرَّ أَوْ نَذْرَهُ نَذْرَ تَبَرُّرٍ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِثُلُثِ جَمِيعِ مَالِهِ عِنْدَ الأَصْحَابِ. وَنَقَلَ الأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِلَ هَلْ الثُّلُثُ مِنْ الصَّامِتِ خَاصَّةً أَوْ مِنْ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُ؟ فَقَالَ

ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا نَوَى وَعَلَى قَدْرِ مَخْرَجِ يَمِينِهِ, وَالأَمْوَالُ عِنْدَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ, الأَعْرَابُ يُسَمُّونَ الإِبِلَ وَالْغَنَمَ الأَمْوَالَ, وَغَيْرُهُمْ يُسَمَّى الصَّامِتَ, وَغَيْرُهُمْ الأَرَضِينَ, فَلَوْ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَالَ: مَالِي صَدَقَةٌ أَلَيْسَ كُنَّا نَأْخُذُ بِإِبِلِهِ أَوْ نَحْوِ هَذَا؟! قَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ أَطْلَقَ يَرْجِعُ إلَى عُرْفِ الإِطْلاَقِ عِنْدَ النَّاذِرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ إذَا قَالَ جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَصْنَعْ كَذَا وَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ تُعْتَقُ, وَإِذَا قَالَ مَالِي فِي الْمَسَاكِينِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ جَارِيَتُهُ. قَالَ الْقَاضِي: فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الأَمَةَ لاَ تَدْخُلُ فِي عُمُومِ الْمَالِ, قَالَ وَالْمَذْهَبُ التَّعْمِيمُ, وَالْعَجَبُ أَنَّهُ لَمْ يَحْكِ بِالتَّعْمِيمِ عَنْ أَحْمَدَ نَصًّا صَرِيحًا وَلاَ ظَاهِرًا.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ مَالَ لَهُ وَلَهُ مَالٌ غَيْرُ زَكَوِيٍّ, فَقَالَ الأَصْحَابُ يَحْنَثُ وَأَخَذُوهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا, قَالَ ابْنُ الزاغوني فِي الإِقْنَاعِ: وَظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ; لاِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ الْحَرْبِيِّ نَحْنُ لاَ نَعُدُّ الدَّارَ وَالثِّيَابَ وَالْخَادِمَ مَالاً.

القاعدة الثانية والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
يُخَصُّ الْعُمُومُ بِالْعَادَةِ عَلَى الْمَنْصُوصِ, وَذَلِكَ فِي مَسَائِلَ:
منها: لَوْ وَصَّى لاِقْرِبَائِهِ أَوْ أَهْلِ بَيْتِهِ, قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ: إذَا قَالَ لاِهْلِ بَيْتِي أَوْ قَرَابَتِي فَهُوَ عَلَى مَا يُعْرَفُ مِنْ مَذْهَبِ الرَّجُلِ, إنْ كَانَ يَصِلُ عَمَّتَهُ وَخَالَتَهُ, وَنَقَلَ سِنْدِيٌّ نَحْوَهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ صَالِحٍ فِي الْوَصِيَّةِ لاِهْلِ بَيْتِهِ: يُنْظَرُ مَنْ كَانَ يَصِلُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ, فَإِنْ كَانَ لاَ يَصِلُ قَرَابَتَهُ مِنْ قِبَلِ أُمِّهِ فَأَهْلُ بَيْتِهِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ. وَاخْتَلَفَ الأَصْحَابُ فِي حِكَايَةِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى طَرِيقَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ فِي قَرَابَةِ الْأُمِّ خَاصَّةً أَنَّهُمْ لاَ يَدْخُلُونَ فِي الْوَصِيَّةِ, إلاَ إنْ كَانَ يَصِلُهُمْ فِي حَيَاتِهِ, وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهَا هِيَ الْمَذْهَبُ, وَأَنَّ الاِعْتِبَارَ بِمَنْ كَانَ يَصِلُهُ فِي حَيَاتِهِ بِكُلِّ حَالٍ, فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَادَةٌ بِالصِّلَةِ فَهِيَ لِقَرَابَةِ الأَبِ, وَهِيَ طَرِيقَةُ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ, وَنُقِلَ عَنْ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لاَ اعْتِبَارَ بِالصِّلَةِ, قَالَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي رَجُلٍ وَصَّى فِي فُقَرَاءِ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَهُ قَرَابَةٌ فِي بَغْدَادَ وَقَرَابَةٌ فِي بِلاَدِهِ وَكَانَ يَصِلُ فِي حَيَاتِهِ الَّذِينَ بِبَغْدَادَ. قَالَ: يُعْطِي هَؤُلاَءِ الْحُضُورَ وَاَلَّذِينَ فِي بِلاَدِهِ وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَبْدُ اللَّهِ أَبُو حَفْصٍ الْبَرْمَكِيُّ هَذَا قَوْلٌ آخَرُ لاَ يُعْتَبَرُ بِمَنْ كَانَ يَصِلُ فِي حَيَاتِهِ. قُلْت: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ مَنْعُ الصِّلَةِ هَاهُنَا لِمَنْ لَيْسَ بِبَغْدَادَ قَدْ عُلِمَ سَبَبُهُ, وَهُوَ تَعَذُّرُ الصِّلَةِ لِلْبُعْدِ, وَالْكَلاَمُ إنَّمَا هُوَ فِيمَا تَرَكَهُ مَعَ

الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَاضِي: وَيَشْهَدُ لِرِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ مَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ عَنْهُ فِي رَجُلٍ وَصَّى بِصَدَقَةٍ فِي أَطْرَافِ بَغْدَادَ وَقَدْ كَانَ رُبَّمَا تَصَدَّقَ فِي بَعْضِ الأَرْبَاضِ وَهُوَ حَيٌّ, قَالَ يَتَصَدَّقُ عَنْهُ فِي أَبْوَابِ بَغْدَادَ كُلِّهَا.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لِقَرَابَةِ غَيْرِهِ وَكَانَ يَصِلُ بَعْضَهُمْ, أَوْ وَصَّى لِلْفُقَهَاءِ أَوْ الْفُقَرَاءِ وَكَانَ يَصِلُ بَعْضَهُمْ. قَالَ الْقَاضِي فِي خِلاَفِهِ لاَ رِوَايَةَ فِيهِ, وَلاَ يَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ فِيهِ مَا نَقُولُهُ فِي أَقَارِبِ نَفْسِهِ.
وَمنها: لَوْ وَقَفَ عَلَى بَعْضِ أَوْلاَدِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلاَدِ أَوْلاَدِهِ فَهَلْ يَخْتَصُّ الْبَطْنُ الثَّانِي بِأَوْلاَدِ الْمُسلمينَ أَوْ لاَ؟ أَوْ يَشْمَلُ جَمِيعَ وَلَدِ وَلَدِهِ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ عَلَى أَنَّهُ يَشْمَلُ جَمِيعَ وَلَدِ الْوَلَدِ.
وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالاِخْتِصَاصِ بِوَلَدِ مَنْ وَقَفَ عَلَيْهِمْ اعْتِبَارًا بِآبَائِهِمْ فَإِنَّ هَذِهِ عَطِيَّةٌ وَاحِدَةٌ, فَحَمْلُ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ أَقْرَبُ مِنْ حَمْلِ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْعَطِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ, وَهَذَا النَّصُّ هُوَ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ فِي رَجُلٍ لَهُ وَلَدٌ صِغَارٌ خَافَ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةَ فَأَوْقَفَ مَالَهُ عَلَى وَلَدِهِ, وَكَتَبَ كِتَابًا وَقَالَ هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى وَلَدِهِ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ سَمَّاهُمْ, ثُمَّ قَالَ وَوَلَدِ وَلَدِهِ, وَلَهُ وَلَدٌ غَيْرُ هَؤُلاَءِ قَالَ هُمْ شُرَكَاءُ, فَحَمَلَهُ الشَّيْخَانِ: صَاحِبُ الْمُغْنِي وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ عَلَى مَا قُلْنَا, وَتَبْوِيبُ الْخَلاَلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّمَا عَمَّ الْبَطْنُ الثَّانِي وَلَدَ الْوَلَدِ; لاِنَّ تَخْصِيصَ الْبَطْنِ بِالصِّغَارِ كَانَ لِخَوْفِهِ عَلَيْهِمْ الضَّيْعَةَ, وَهَذَا الْمَعْنَى مَفْقُودٌ فِي الْبَطْنِ الثَّانِي, فَذَلِكَ أَشْرَكَ فِيهِ أَوْلاَدَ الأَوْلاَدِ كُلَّهُمْ, وَحَمَلَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ عَلَى أَنَّ الْبَطْنَ الأَوَّلَ يَشْتَرِكُ فِيهِ وَلَدُ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ أَخْذًا مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: صَدَقَةٌ عَلَى وَلَدِهِ, وَتَخْصِيصُ بَعْضِهِمْ بِالذِّكْرِ لاَ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالْحُكْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ}. وَهَذَا فَاسِدٌ; لاِنَّ الآيَةَ فِيهَا عَطْفُ نَسَقٍ بِالْوَاوِ وَهَاهُنَا إمَّا عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ, وَأَيُّهُمَا كَانَ فَيَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالْحُكْمِ; لاِنَّ عَطْفَ الْبَيَانِ مُوَضِّحٌ لِمَتْبُوعِهِ وَمُطَابِقٌ لَهُ, وَإِلاَ لَمْ يَكُنْ بَيَانًا, وَالْبَدَلُ هُوَ الْوَاسِطَةُ الْمَقْصُودُ بِالْحُكْمِ فَيُعَيِّنُ التَّخْصِيصَ بِهِ, وَلِهَذَا لَوْ قَالَ مَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ: زَوْجَتِي فُلاَنَةُ طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ الثَّلاَثُ الْبَوَاقِي, أَوْ قَالَ مَنْ لَهُ عَبِيدٌ عَبْدِي فُلاَنٌ حُرٌّ لَمْ يُعْتَقْ مَنْ عَدَاهُ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
وَمنها: لَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ لَهُ مُدَّةً مُعَيَّنَةً حُمِلَ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْعَمَلِ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ دُونَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ خِلاَفٍ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ اخْتَصَّتْ يَمِينُهُ بِمَا يُؤْكَلُ منها عَادَةً وَهُوَ الثَّمَرُ دُونَ مَا لاَ يُؤْكَلُ عَادَةً كَالْوَرَقِ وَالْخَشَبِ.

القاعدة الثالثة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
وَيُخَصُّ الْعُمُومُ بِالشَّرْعِ أَيْضًا عَلَى الصَّحِيحِ فِي مَسَائِلَ:
منها: إذَا نَذَرَ صَوْمَ الدَّهْرِ لَمْ يَدْخُلْ فِي ذَلِكَ مَا يُحَرِّمُ صَوْمَهُ مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ وَمَا يَجِبُ صَوْمُهُ شَرْعًا كَرَمَضَانَ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ لَحْمًا لَمْ يَتَنَاوَلْ يَمِينُهُ اللَّحْمَ الْمُحَرَّمَ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.
وَمنها: لَوْ وَصَّى لاِقَارِبِهِ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِمْ الْوَارِثُونَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ. حَكَاهُمَا فِي التَّرْغِيبِ وَظَاهِرُ كَلاَمِهِ الدُّخُولُ, وَظَاهِرُ كَلاَمِ ابْنِ أَبِي مُوسَى وَابْنِ عَقِيلٍ خِلاَفُهُ.
وَمنها: لَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ فَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الطَّلاَقُ الْمُحَرَّمُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ.
وَمنها: لَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ مُتَتَابِعٍ فَلَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ وَيَخْرُجُ إلَى الْجُمُعَةِ لاِسْتِثْنَائِهَا بِالشَّرْعِ, وَفِيهِ وَجْهٌ لاَ يَجُوزُ الاِعْتِكَافُ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ, وَالأَوَّلُ الْمَذْهَبُ, كَمَا أَنَّهُ لاَ يَنْقَطِعُ فِي الصِّيَامِ الْمُتَتَابِعِ بِصَوْمِ رَمَضَانَ وَلاَ فِطْرِ أَيَّامِ النَّهْيِ.

القاعدة الرابعة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
هَلْ نَخُصُّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِسَبَبِهِ الْخَاصِّ إذَا كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْمُقْتَضِي لَهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لاَ يُخَصُّ بِهِ بَلْ يَقْضِي بِعُمُومِ اللَّفْظِ, وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي فِي الْخِلاَفِ وَالآمِدِيِّ وَأَبِي الْفَتْحِ الْحَلْوَانِيِّ وَأَبِي الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ وَأَخَذُوهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ فِيمَنْ حَلَفَ لاَ يَصْطَادُ مِنْ نَهْرٍ لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ ثُمَّ زَالَ الظُّلْمُ قَالَ أَحْمَدُ النَّذْرُ يُوَفَّى بِهِ. وَكَذَلِكَ أَخَذُوهُ مِنْ قَاعِدَةِ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ فَصَارَ شَيْخًا أَنَّهُ يَحْنَثُ بِتَكْلِيمِهِ تَغْلِيبًا لِلتَّعْيِينِ عَلَى الْوَصْفِ قَالُوا: وَالسَّبَبُ وَالْقَرِينَةُ عِنْدَنَا تَعُمُّ الْخَاصَّ وَلاَ تُخَصِّصُ الْعَامَّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لاَ يَحْنَثُ, وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَ صَاحِبَيْ الْمُغْنِي وَالْمُحَرَّرِ, وَلَكِنَّ صَاحِبَ الْمُحَرَّرِ اسْتَثْنَى صُورَةَ النَّهْرِ وَمَا أَشْبَهَهَا كَمَنْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ بَلَدًا لِظُلْمٍ رَآهُ فِيهِ ثُمَّ زَالَ, وَصَاحِبُ الْمُغْنِي عَزَى الْخِلاَفَ إلَيْهَا, وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلَّةِ, وَقَالَ: هُوَ

قِيَاسُ الْمَذْهَبِ; لاِنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّ الصِّفَةَ لاَ تَنْحَلُّ بِالْفِعْلِ حَالَةَ الْبَيْنُونَةِ; لاِنَّ الْيَمِينَ بِمُقْتَضَى دَلاَلَةِ الْحَالِ تَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِحَالَةِ الزَّوْجِيَّةِ دُونَ غَيْرِهَا. وَكَذَلِكَ جَزَمَ بِهِ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمُجَرَّدِ وَاخْتَارَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ, وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ النَّهْرِ الْمَنْصُوصَةِ بِأَنَّ نَصَّ أَحْمَدَ إنَّمَا هُوَ النَّذْرُ, وَالنَّاذِرُ إذَا قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِنَذْرِهِ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ مُطْلَقًا كَمَا مُنِعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ الْعَوْدِ إلَى دِيَارِهِمْ الَّتِي تَرَكُوهَا لِلَّهِ, وَإِنْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي تَرَكُوهَا لاِجْلِهِ فَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ يَمْتَنِعُ فِيهِ الْعَوْدُ مُطْلَقًا, وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ قَدْ يَتَغَيَّرُ, وَلِهَذَا نَهَى الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَشْتَرِيَ صَدَقَتَهُ, وَهَذَا أَحْسَنُ, وَقَدْ يَكُونُ جَدُّهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ لَحَظَ هَذَا حَيْثُ خَصَّ صُورَةَ النَّهْرِ بِالْحِنْثِ مَعَ الإِطْلاَقِ بِخِلاَفِ غَيْرِهَا مِنْ الصُّوَرِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَلِفِ عَلَى الْعَيْنِ الْمَوْصُوفَةِ بِالصِّفَةِ فَإِنْ كَانَ ثُمَّ سَبَبٌ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْيَمِينِ بِحَالِ بَقَاءِ الصِّفَةِ لَمْ يَحْنَثْ بِالْكَلاَمِ بَعْدَ زَوَالِهَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي وَالْمُحَرَّرِ فَهِيَ كَمَسْأَلَتِنَا, وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ مَسَائِلُ:
منها: لَوْ دُعِيَ إلَى غَدَاءٍ فَحَلَفَ لاَ يَتَغَدَّى, فَهَلْ يَحْنَثُ بِغَدَاءٍ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَحْلُوفِ بِسَبَبِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ وَجَزَمَ الْقَاضِي فِي الْكِفَايَةِ وَصَاحِبُ الْمُحَرَّرِ بِعَدَمِ الْحِنْثِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ رَأَيْت مُنْكَرًا إلاَ رَفَعْته إلَى فُلاَنٍ الْقَاضِي, فَعُزِلَ فَهَلْ تَنْحَلُّ يَمِينُهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, وَفِي التَّرْغِيبِ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ أَوْ الْقَرَائِنُ تَقْتَضِي حَالَةَ الْوِلاَيَةِ اخْتَصَّ بِهَا, وَإِنْ كَانَتْ تَقْتَضِي الرَّفْعَ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ, مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبُ الْمُنْكَرِ قَرَابَةَ الْوَالِي مَثَلاً وَقَصَدَ إعْلاَمَهُ بِذَلِكَ لاِجْلِ قَرَابَتِهِ, وَذَكَرَ الْوِلاَيَةَ تَعْرِيفًا, تَتَنَاوَلُ الْيَمِينَ حَالَ الْوِلاَيَةِ وَالْعَزْلِ, وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَلاَلَةٌ بِحَالٍ فَهَلْ يَبَرُّ بِرَفْعِهِ إلَيْهِ بَعْدَ الْعَزْلِ وَيَحْنَثُ بِتَرْكِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ رَفَعَهُ إلَى الْوَلِيِّ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ, فَهَلْ يَتَعَيَّنُ الْمَنْصُوصُ فِي الْحَالِ أَمْ يَبْرَأُ بِالرَّفْعِ إلَى كُلِّ مَنْ يُنَصَّبُ بَعْدَهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ, لِتَرَدُّدِ الأَلِفِ وَاللاَمِ بَيْنَ تَعْرِيفِ الْعَهْدِ وَالْجِنْسِ, وَلَوْ عَلِمَ بِمُنْكَرٍ بَعْدَ عِلْمِ الْوَالِي احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْبِرَّ قَدْ فَاتَ كَمَا لَوْ رَآهُ مَعَهُ.
وَالثَّانِي: لَمْ يَفُتْ; لاِنَّ صُورَةَ الرَّفْعِ مُمْكِنَةٌ, ثُمَّ عَلَى الْوَجْهِ الأَوَّلِ يُخَرَّجُ عَلَى مَا إذَا تَبَدَّدَ الْمَاءُ الَّذِي فِي الْكُوزِ بَعْدَ حَلِفِهِ عَلَى شُرْبِهِ, أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ حَلِفِهِ عَلَى قَضَائِهِ, وَفِيهِ وَجْهَانِ انْتَهَى.
فَجُعِلَ مَحِلُّ الْوَجْهَيْنِ إذَا انْتَفَتْ الْقَرَائِنُ وَالدَّلاَئِلُ بِالْكُلِّيَّةِ, وَمَعَ دَلاَلَةِ الْحَالِ وَالسَّبَبِ يَخْتَصُّ الرَّفْعُ بِحَالَةِ الْوِلاَيَةِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ لِغَرِيمِهِ لاَ يَخْرُجُ إلاَ بِإِذْنِهِ, ثُمَّ بَاعَ الْعَبْدَ وَطَلَّقَ الزَّوْجَةَ وَوَفَّى الْغَرِيمَ, فَهَلْ تَنْحَلُّ يَمِينُهُ؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ.

وَمنها: لَوْ قَالَتْ لَهُ زَوْجَتُهُ: تَزَوَّجْت عَلَيَّ؟ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ, فَإِنَّ الْمُخَاطَبَةُ تَطْلُقُ بِذَلِكَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ الْمَرُّوذِيّ وَابْنِ هَانِئٍ, وَكَذَلِكَ نَقَلَ عَنْهُ أَبُو دَاوُد السِّجِسْتَانِيُّ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَقِيلَ لَهُ: إنَّ لَك غَيْرَهَا فَقَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ فَسَكَتَ, فَقِيلَ إلاَ فُلاَنَةَ فَقَالَ إلاَ فُلاَنَةَ, فَإِنْ لَمْ أَعْنِهَا, فَأَبَى أَنْ يُفْتِيَ فِيهِ, وَهَذَا تَوَقُّفٌ مِنْهُ, وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِ الأَدِلَّةِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى رِوَايَتَيْنِ.

القاعدة الخامسة والعشرون بعد المائة
الْقَاعِدَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ بَعْدَ الْمِائَةِ:
النِّيَّةُ تَعُمُّ الْخَاصَّ وَتُخَصِّصُ الْعَامَّ بِغَيْرِ خِلاَفٍ فِيهَا, وَهَلْ تُقَيِّدُ الْمُطْلَقَ أَوْ تَكُونُ اسْتِثْنَاءً مِنْ النَّصِّ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ فِيهَا, فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
أَمَّا الْقِسْمُ الأَوَّلُ : فَلَهُ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ:
منها: لَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لاَ تَرَكْت هَذَا الصَّبِيَّ يَخْرُجُ فَخَرَجَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهَا, فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ إنْ نَوَى أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ الْبَابِ فَخَرَجَ فَقَدْ حَنِثَ وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لاَ تَدَعَهُ لَمْ يَحْنَثْ; لاِنَّهَا لَمْ تَدَعْهُ.
وَمنها: لَوْ قَالَ: إنْ رَأَيْتُك تَدْخُلِينَ هَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا أَنَّهُ وَإِنْ أَرَادَ أَنْ لاَ تَدْخُلَهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَدَخَلَتْ وَلَمْ يَرَهَا حَنِثَ, وَإِنْ كَانَ نَوَى إذَا رَآهَا فَلاَ يَحْنَثُ حَتَّى يَرَاهَا تَدْخُلُهَا. وَقَرَّرَ الْقَاضِي فِي مَوْضِعٍ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ وَنَحْوَهُ مَوْضُوعٌ فِي الْعُرْفِ لِعُمُومِ الاِمْتِنَاعِ وَكَذَلِكَ ابْنُ عَقِيلٍ, فَعَلَى هَذَا لاَ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْعُمُومِ بَلْ إذَا أَطْلَقَ اقْتَضَى الاِمْتِنَاعَ مِنْ شُرْبِ الْمَاءِ فَمَا فَوْقَهُ خَاصَّةً, وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَقِيلٍ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ هَذَا الْبَيْتَ يُرِيدُ هِجْرَانَ قَوْمٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ بَيْتًا آخَرَ حَنِثَ نَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى الْكَحَّالِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يَشْرَبُ لَهُ الْمَاءَ وَنَوَى الاِمْتِنَاعَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ حَنِثَ بِتَنَاوُلِ كُلِّ مَا يَمْلِكُهُ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ أَنْ لاَ يَضْرِبَهُ وَنَوَى أَنْ لاَ يُؤْلِمَهُ حَنِثَ بِكُلِّ مَا يُؤْلِمُهُ مِنْ خَنْقٍ وَعَضٍّ وَغَيْرِهِمَا نَصَّ عَلَيْهِ.
وَمنها: لَوْ حَلَفَ لاَ يُكَلِّمُ امْرَأَتَهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهَا بِذَلِكَ حَنِثَ بِوَطْئِهَا, أَوْمَأَ إلَيْهِ أَحْمَدُ.
وَمنها: لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً رَجْعِيَّةً وَحَلَفَ لاَ رَاجَعْتهَا وَأَرَادَ الاِمْتِنَاعَ مِنْ عَوْدِهَا إلَيْهِ مُطْلَقًا حَنِثَ بِتَزَوُّجِهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ.

وَمنها: لَوْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لاَ خَرَجْت مِنْ بَيْتِهِ لِتَهْنِئَةٍ وَلاَ تَعْزِيَةٍ, وَنَوَى أَنْ لاَ تَخْرُجَ أَصْلاً, هَلْ يَحْنَثُ بِخُرُوجِهَا لِغَيْرِ تَهْنِئَةٍ وَلاَ تَعْزِيَةٍ؟ فَذَكَرَ الْقَاضِي فِي بَعْضِ تَعَالِيقِهِ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهَا, وَأَنَّ الْقَاضِي أَبَا الطَّيِّبِ الطَّبَرِيَّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ قَالَ لَهُ مُقْتَضَى مَذْهَبِكُمْ أَنَّهُ لاَ يَحْنَثُ; لاِنَّ الْغَرَضَ يَخْتَلِفُ فِي الْخُرُوجِ, وَلاَ يُوجَدُ الْمَقْصُودُ فِي كُلِّ خُرُوجٍ, بِخِلاَفِ مَا إذَا قَصَدَ قَطْعَ الْمِنَّةِ, فَإِنَّ الْمِنَّةَ تُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ.
قُلْت: وَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِالْحِنْثِ هَاهُنَا مُطْلَقًا, وَعَلَيْهِ يَدُلُّ نَصُّ أَحْمَدَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ الأُولَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ هَاهُنَا, وَلاَ يُشْبِهُ هَذَا ما لو حلف لاَ يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِهَا يَقْصِدُ قَطْعَ الْمِنَّةِ فَإِنَّهُ لاَ يَحْنَثُ بِالاِنْتِفَاعِ بِغَيْرِ الْغَزْلِ وَثَمَنُهُ مِنْ أَمْوَالِهَا; لاِنَّ الْعُمُومَ هُنَاكَ يُسْتَفَادُ مِنْ السَّبَبِ, وَهُنَا يُسْتَفَادُ مِنْ النِّيَّةِ فَهُوَ أَبْلَغُ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: فَصُوَرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
منها: أَنْ يَقُولَ نِسَائِي طَوَالِقُ وَيَسْتَثْنِي بِقَلْبِهِ وَاحِدَةً, أَوْ يَحْلِفُ لاَ يُسَلِّمُ عَلَى زَيْدٍ فَسَلَّمَ عَلَى جَمَاعَةٍ هُوَ فِيهِمْ وَيَسْتَثْنِيهِ بِقَلْبِهِ, وَوَقَعَ فِي كَلاَمِ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا يَقْتَضِي حِكَايَةَ رِوَايَتَيْنِ فِي حِنْثِهِ فِي مَسْأَلَةِ السَّلاَمِ, وَتَأَوَّلَهُ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ, عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى إرَادَةِ ذَلِكَ أَمْ لاَ, قَالَ: وَقَدْ صَرَّحَا بِذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابَيْهِمَا.
وَلَوْ حَلَفَ لاَ يَدْخُلُ عَلَى فُلاَنٍ بَيْتًا فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ مَعَ جَمَاعَةٍ وَنَوَى بِدُخُولِهِ غَيْرَهُ, هَلْ يَحْنَثُ؟ خَرَّجَهُ الْقَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَبُو الْخَطَّابِ عَلَى وَجْهَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ السَّلاَمِ, قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَعِنْدِي فِيهِ نَظَرٌ; لاِنَّ الدُّخُولَ فِعْلٌ حِسِّيٌّ لاَ يَتَمَيَّزُ بِخِلاَفِ السَّلاَمِ.
وَمنها: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ لَبِسْت ثَوْبًا فَأَنْتِ طَالِقٌ, وَقَالَ أَرَدْت أَحْمَرَ, وَقَالَ: إنْ لَبِسْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ: أَرَدْت ثَوْبًا أَحْمَرَ وَقَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت فِي هَذِهِ السَّنَةِ, فَالْجُمْهُورُ مِنْ الأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يَدِينُ فِي ذَلِكَ فِي قَبُولِهِ الْحُكْمَ رِوَايَتَانِ. وَشَذَّ طَائِفَةٌ فَحَكَوْا الْخِلاَفَ فِي تَدْيِينِهِ فِي الْبَاطِنِ; مِنْهُمْ الْحَلْوَانِيُّ وَابْنُهُ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي الإِيمَانِ, وَكَذَلِكَ وَقَعَ لِلْقَاضِي فِي الْمُجَرَّدِ, قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ: وَهُوَ سَهْوٌ, وَذَكَرَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ الْحِيَلِ: إنَّهُ إنْ كَانَ الْمُخَصَّصُ بِالنِّيَّةِ مَلْفُوظًا صَحَّ تَخْصِيصُهُ وَإِلاَ فَلاَ. فَلَوْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ شَيْئًا أَبَدًا وَنَوَى بِهِ اللَّحْمَ قُبِلَ, وَإِنْ حَلَفَ لاَ يَأْكُلُ وَنَوَى اللَّحْمَ لَمْ تَنْفَعْهُ نِيَّتُهُ; لاِنَّهُ خَصَّصَ مَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ, وَحَمَلَ حَنْبَلٌ اخْتِلاَفَ كَلاَمِ أَحْمَدَ فِي قَبُولِ دَعْوَى خِلاَفِ الظَّاهِرِ فِي الْيَمِينِ عَلَى اخْتِلاَفِ حَالَيْنِ لاَ عَلَى اخْتِلاَفِ قَوْلَيْنِ, وَذَكَرَ السَّامِرِيُّ فِي فُرُوقِهِ: أَنَّ الْمَنْوِيَّ إنْ كَانَ يَرْفَعُ مُقْتَضَى الْحُكْمِ بِالْكُلِّيَّةِ كَالاِسْتِثْنَاءِ بِالْمَشِيئَةِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ حَيْثُ يَنْفَعُ لَمْ يَصِحَّ بِالنِّيَّةِ إلاَ مَعَ الظُّلْمِ, وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ حَرْبٍ عَلَى صِحَّةِ اسْتِثْنَاءِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7