كتاب : القواعد في الفقه الإسلامي
المؤلف : أبو الفرج عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
مقدمة
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِرَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ
قَال الشَّيْخُ الإِمَامُ العَالمُ العَلامَةُ أَبُو الفَرَجِ زَيْنُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ رَجَبٍ الحَنْبَليّ تَغَمَّدَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ وَأَسْكَنَهُ فَسِيحَ جَنَّتِهِ:
الحَمْدُ للهِ الذِي مَهَّدَ قَوَاعِدَ الدِّين بِكِتَابِهِ المُحْكَمِ، وَشَيَّدَ مَعَاقِل العِلمِ بِخِطَابِهِ وَأَحْكَمَ، وَفَقَّهَ فِي دِينِهِ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا مِنْ عِبَادِهِ وَفَهَّمَ، وَأَوْقَفَ مَنْ شَاءَ عَلى مَا شَاءَ مِنْ أَسْرَارِ مُرَادِهِ وَأَلهَمَ، فَسُبْحَانَ مَنْ حَكَمَ فَأَحْكَمَ، وَحَلل وَحَرَّمَ، وَعَرَّفَ وَعَلمَ، عَلمَ بِالقَلمِ عَلمَ الإِنْسَانَ مَا لمْ يَعْلمْ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ شَهَادَةً تَهْدِي إلى الطَّرِيقِ الأَقْوَمِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولهُ المَخْصُوصُ بِجَوَامِعِ الكَلمِ وَبَدَائِعِ الحِكَمِ، وَوَدَائِعِ العِلمِ وَالحِلمِ وَالكَرْمِ صَلى اللهُ عَليْهِ وَعلى آلهِ وَصَحْبِهِ وَسَلمَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ قَوَاعِدُ مُهِمَّةٌ، وَفَوَائِدُ جَمَّةٌ، تَضْبِطُ للفَقِيهِ أُصُول المَذْهَبِ، وَتُطْلعُهُ مِنْ مَآخِذِ الفِقْهِ عَلى مَا كَانَ عَنْهُ قَدْ تَغَيَّبَ.
وَتُنَظِّمُ لهُ مَنْثُورَ المَسَائِل فِي سِلك وَاحِدٍ، وَتُقَيِّدُ لهُ الشَّوَارِدَ وَتُقَرِّبُ عَليْهِ كُل مُتَبَاعِدٍ، فَليُمْعِنْ النَّاظِرُ فِيهِ النَّظَرَ، وَليُوَسِّعْ العُذْرَ إنَّ اللبِيبَ مَنْ عَذَرَ.
فَلقَدْ سَنَحَ بِالبَال عَلى غَايَةٍ مِنْ الإِعْجَال، كَالارْتِجَال أَوْ قَرِيبًا مِنْ الارْتِجَال، فِي أَيَّامٍ يَسِيرَةٍ وَليَالٍ.
وَيَأْبَى اللهُ العِصْمَةَ لكِتَابٍ غَيْرِ كِتَابِهِ، وَالمُنْصِفُ مَنْ اغْتَفَرَ قَليل خَطَأِ المَرْءِ فِي كَثِيرِ صَوَابِهِ، وَاَللهُ المَسْئُول أَنْ يُوَفِّقَنَا لصَوَابِ القَوْل وَالعَمَل، وَأَنْ يَرْزُقَنَا اجْتِنَابَ أَسْبَابِ الزَّيْغِ وَالزَّلل، إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ لمَنْ سَأَل، لا يُخَيِّبُ مَنْ إيَّاهُ رَجَا وَعَليْهِ تَوَكَّل.
القاعدة الأولى
القَاعِدَةُ الأُولى:المَاءُ الجَارِي هَل هُوَ كَالرَّاكِدِ أَوْ كُل جرية مِنْهُ لهَا حُكْمُ المَاءِ المُنْفَرِدِ؟
فِيهِ خِلافٌ فِي المَذْهَبِ يَنْبَنِي عَليْهِ مَسَائِل:
منها: لوْ وَقَعَتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَهَل يُعْتَبَرُ مَجْمُوعُهُ، فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا لمْ يَنْجُسْ بِدُونِ تَغَيُّرٍ وَإِلا نَجُسَ أَوْ تُعْتَبَرُ كُل جَرْيَةٍ بِانْفِرَادِهَا فَإِنْ بَلغَتْ قُلتَيْنِ لمْ يَنْجُسْ وَإِلا نَجُسَتْ.
فِيهِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَالثَّانِيَةُ: المَذْهَبُ عِنْدَ القَاضِي.
ومنها: لوْ غُمِسَ الإِنَاءُ النَّجِسُ فِي مَاءٍ جَارٍ وَمَرَّتْ عَليْهِ سَبْعُ جَرْيَاتٍ فَهَل ذَلكَ غَسْلةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ سَبْعُ غَسَلاتٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ: حَكَاهُمَا أَبُو الحَسَنِ بْنُ الغَازِي تِلمِيذُ الآمِدِيِّ، وَذَكَرَ أَنَّ ظَاهِرَ كَلامِ الأَصْحَابِ أَنَّ ذَلكَ غَسْلةٌ وَاحِدَةٌ، وَفِي شَرْحِ المَذْهَبِ للقَاضِي: أَنَّ كَلامَ أَحْمَدَ يَدُل عَليْهِ، وَكَذَلكَ لوْ كَانَ ثَوْبًا وَنَحْوِهِ وَعَصَرَهُ عَقِيبَ كُل جَرْيَةٍ.
ومنها: لوْ انْغَمَسَ المُحْدِثُ حَدَثًا أَصْغَرَ فِي مَاءٍ جَارٍ للوُضُوءِ وَمَرَّتْ عَليْهِ أَرْبَعُ جَرْيَاتٍ مُتَوَاليَةٍ فَهَل يَرْتَفِعُ بِذَلكَ حَدَثُهُ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ الأَصْحَابِ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ.
وَقَال أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ: ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ لأَنَّهُ لمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الجَارِي وَالرَّاكِدِ.
قُلتُ: بَل نَصَّ أَحْمَدُ عَلى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَكَمِ، وَأَنَّهُ إذَا انْغَمَسَ فِي دِجْلةَ فَإِنَّهُ لا يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ حَتَّى يُخْرِجَ حَدَثَهُ مُرَتَّبًا.
ومنها: لوْ حَلفَ لا يَقِفُ فِي هَذَا المَاءِ وَكَانَ جَارِيًا لمْ يَحْنَثْ عِنْدَ أَبِي الخَطَّابِ وَغَيْرِهِ؛ لأَنَّ الجَارِيَ يَتَبَدَّل وَيَسْتَخْلفُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلا يُتَصَوَّرُ الوُقُوفُ فِيهِ.
وَقِيَاسُ المَنْصُوصِ أَنَّهُ يَحْنَثُ، لا سِيَّمَا وَالعُرْفُ يَشْهَدُ لهُ وَالأَيْمَانُ مَرْجِعُهَا إلى العُرْفِ، ثُمَّ وَجَدْت القَاضِيَ فِي الجَامِعِ الكَبِيرِ ذَكَرَ نَحْوَ هَذَا [وَاَللهُ أَعْلمُ].
القاعدة الثانية
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ:شَعَرُ الحَيَوَانِ فِي حُكْمِ المُنْفَصِل عَنْهُ لا فِي حُكْمِ المُتَّصِل، وَكَذَلكَ الظُّفُرُ.
هَذَا هُوَ جَادَّةُ المَذْهَبِ وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: إذَا مَسَّ شَعَرَ امْرَأَةٍ بِشَهْوَةٍ لمْ يَنْتَقِضْ وُضُوءُهُ، وَكَذَلكَ ظُفْرَهَا أَوْ مَسَّهَا بِظُفْرِهِ أَوْ شَعَرِهِ وَلهَذِهِ المَسْأَلةِ مَأْخَذٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الأَجْزَاءَ ليْسَتْ بِمَحَلٍّ للشَّهْوَةِ الأَصْليَّةِ، وَهِيَ شَرْطٌ لنَقْضِ الوُضُوءِ عِنْدَنَا.
وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّعَرَ لا يَنْجُسُ بِالمَوْتِ وَلا بِالانْفِصَال عَلى المَذْهَبِ، وَكَذَا مَا طَال مِنْ الظُّفْرِ عَلى احْتِمَالٍ فِيهِ، أَمَّا عَلى المَشْهُورِ فَإِنْ انْفَصَل مِنْ آدَمِيٍّ لمْ يَنْجُسْ عَلى الصَّحِيحِ وَمِنْ غَيْرِهِ يَنْجُسُ، لأَنَّهُ كَانَتْ فِيهِ حَيَاةٌ ثُمَّ فَارَقَتْهُ حَال انْفِصَالهِ فَمَنَعَهُ الاتِّصَال مِنْ التَّنْجِيسِ فَإِذَا انْفَصَل زَال المَانِعُ فَنَجُسَ.
القاعدة الثالثة
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ:مَنْ وَجَبَتْ عَليْهِ عِبَادَةٌ فَأَتَى بِمَا لوْ اقْتَصَرَ عَلى مَا دُونَهُ لأَجْزَأَهُ هَل يُوصَفُ الكُل بِالوُجُوبِ أَوْ قَدْرُ الإِجْزَاءِ مِنْهُ.
إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَمَيِّزَةً مُنْفَصِلةً فَلا إشْكَال فِي أَنَّهَا نَفْلٌ بِانْفِرَادِهَا كَإِخْرَاجِ صَاعَيْنِ مُنْفَرِدَيْنِ فِي الفِطْرَةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَّا إنْ لمْ تَكُنْ مُتَمَيِّزَةً فَفِيهِ وَجْهَانِ مَذْكُورَانِ فِي أُصُول الفِقْهِ وَيَنْبَنِي عَليْهِ مَسَائِل:
مِنْهَا: إذَا أَدْرَكَ الإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ بَعْدَ فَوَاتِ قَدْرِ الإِجْزَاءِ مِنْهُ هَل يَكُونُ مُدْرِكًا لهُ فِي الفَرِيضَةِ؟
ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ تَخْرِيجُهَا عَلى الوَجْهَيْنِ إذَا قُلنَا لا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ المُفْتَرِضِ بِالمُتَنَفِّل.
قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَيُحْتَمَل أَنْ تَجْرِيَ الزِّيَادَةُ مَجْرَى الوَاجِبِ فِي بَابِ الاتِّبَاعِ خَاصَّةً إذْ الاتِّبَاعُ قَدْ يُسْقِطُ الوَاجِبَ كَمَا فِي المَسْبُوقِ وَمُصَلي الجُمُعَةِ مِنْ امْرَأَةٍ وَعَبْدٍ ومُسَافِرٍ.
وَمِنْهَا: إذَا وَجَبَ عَليْهِ شَاةٌ فَذَبَحَ بَدَنَةً فَهَل كُلهَا وَاجِبَةٌ أَوْ سُبُعُهَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَدَّى عَنْ خَمْسٍ مِنْ الإِبِل بَعِيرًا وَقُلنَا يَجْزِيهِ فَهَل الوَاجِبُ كُلهُ أَوْ خُمُسُهُ الوَاجِبُ؟.
وَحَكَى القَاضِي أَبُو يَعْلى الصَّغِيرُ فِيهِ وَجْهَيْنِ: فَعَلى القَوْل بِأَنَّ خُمُسَهُ الوَاجِبَ يُجْزِئُ عَنْ عِشْرِينَ بَعِيرًا أَيْضًا، وَعَلى الآخَرِ لا يُجْزِئُ عَنْ عِشْرِينَ إلا أَرْبَعَةُ أَبْعِرَةٍ.
وَمِنْهَا: إذَا مَسَحَ رَأْسَهُ كُلهُ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَقُلنَا الفَرْضُ مِنْهُ قَدْرُ النَّاصِيَةِ فَهَل الكُل فَرْضٌ أَوْ قَدْرُ النَّاصِيَةِ مِنْهُ.
وَمِنْهَا: إذَا أَخْرَجَ فِي الزَّكَاةِ سِنًّا أَعْلى مِنْ الوَاجِبِ فَهَل كُلهُ فَرْضٌ أَوْ بَعْضُهُ تَطَوُّعٌ.
وَقَال أَبُو الخَطَّابِ: كُلهُ فَرْضٌ وَقَال القَاضِي: بَعْضُهُ تَطَوُّعٌ؟ وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ أَعْطَاهُ جُبْرَانًا عَنْ الزِّيَادَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ الأَصْل فَرْضِيَّتَهُ وَوُجُوبَهُ ثُمَّ سَقَطَ بَعْضُهُ تَخْفِيفًا فَإِذَا فَعَل الأَصْل وُصِفَ الكُل بِالوُجُوبِ عَلى الصَّحِيحِ، فَمِنْ ذَلكَ إذَا صَلى المُسَافِرُ أَرْبَعًا فَإِنَّ الكُل فَرْضٌ فِي حَقِّهِ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ الرَّكْعَتَيْنِ الأَخِيرَتَيْنِ تَنَفُّلٌ لا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ المُفْتَرِضِ بِهِ فِيهِمَا وَهُوَ مُتَمَشٍّ عَلى أَصْلهِ وَهُوَ عَدَمُ اعْتِبَارِ نِيَّةِ القَصْرِ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل وَمِنْهُ إذَا كَفَّرَ الوَاطِئُ فِي الحَيْضِ بِدِينَارٍ فَإِنَّ الكُل وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَ لهُ الاقْتِصَارُ عَلى نِصْفِهِ ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي، وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ مِنْ قَوْل أَبِي بَكْرٍ, فَأَمَّا إنْ غَسَل رَأْسَهُ بَدَلاً عَنْ مَسْحِهِ وَقُلنَا بِالإِجْزَاءِ فَفِي السَّائِل مِنْهُ وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي رَفْعِ حَدَثٍ لأَنَّ الأَصْل هُوَ الغَسْل وَإِنَّمَا سَقَطَ تَخْفِيفًا.
وَالثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ أَنَّهُ طَهُورٌ؛ لأَنَّ الغَسْل مَكْرُوهٌ فَلا يَكُونُ وَاجِبًا, وَقَدْ يُقَال: وَالإِتْمَامُ فِي السَّفَرِ مَكْرُوهٌ أَيْضًا.
القاعدة الرابعة
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ:العِبَادَاتُ كُلهَا سَوَاءٌ كَانَتْ بَدَنِيَّةً أَوْ مَاليَّةً أَوْ مُرَكَّبَةً مِنْهُمَا لا يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلى سَبَبِ وُجُوبِهَا وَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ سَبَبِ الوُجُوبِ وَقَبْل الوُجُوبِ أَوْ قَبْل شَرْطِ الوُجُوبِ وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: الطَّهَارَةُ سَبَبُ وُجُوبِهَا الحَدَثُ وَشَرْطُ الوُجُوبِ فِعْل العِبَادَةِ المُشْتَرَطِ لهَا الطَّهَارَةُ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلى العِبَادَةِ وَلوْ بِالزَّمَنِ الطَّوِيل بَعْدَ الحَدَثِ.
وَمِنْهَا: الصَّلاةُ فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ صَلاةِ العَصْرِ إلى وَقْتِ الظُّهْرِ، وَالعِشَاءِ إلى وَقْتِ المَغْرِبِ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ جَعَل الزَّوَال سَبَبًا لوُجُوبِ الصَّلاتَيْنِ عِنْدَ العُذْرِ دُونَ عَدَمِهِ، وَلهَذَا لوْ أَدْرَكَ جُزْءًا مِنْ وَقْتِ الزَّوَال ثُمَّ طَرَأَ عَليْهِ عُذْرٌ لزِمَهُ قَضَاءُ الصَّلاتَيْنِ عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَلوْ زَال العُذْرُ فِي آخِرِ وَقْتِ العَصْرِ
لزِمَهُ الصَّلاتَانِ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، فَعُلمَ أَنَّ الوَقْتَيْنِ قَدْ صَارَا فِي حَال العُذْرِ كَالوَقْتِ الوَاحِدِ، لكِنَّهُ وَقْتُ جَوَازٍ بِالنِّسْبَةِ إلى إحْدَاهُمَا، وَوُجُوبٍ بِالنِّسْبَةِ إلى الأُخْرَى.
وَمِنْهَا: صَلاةُ الجُمُعَةِ فَإِنْ سَبَبهَا اليَوْمُ لأَنَّهَا تُضَافُ إليْهِ فَيَجُوزُ فِعْلهَا بَعْدَ زَوَال وَقْتِ النَّهْيِ مِنْ أَوَّل اليَوْمِ وَإِنْ كَانَ الزَّوَال هُوَ وَقْتَ الوُجُوبِ.
وَمِنْهَا: زَكَاةُ المَال يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا مِنْ أَوَّل الحَوْل بَعْدَ كَمَال النِّصَابِ.
وَمِنْهَا: كَفَّارَاتُ الإِحْرَامِ إذَا اُحْتِيجَ إليْهَا للعُذْرِ فَإِنَّ العُذْرَ سَبَبُهَا فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهَا بَعْدَ العُذْرِ وَقَبْل فِعْل المَحْظُورِ.
وَمِنْهَا: صِيَامُ التَّمَتُّعِ وَالقِرَانِ فَإِنَّ سَبَبَهُ العُمْرَةُ السَّابِقَةُ للحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ، فَبِالشُّرُوعِ فِي إحْرَامِ العُمْرَةِ قَدْ وُجِدَ السَّبَبُ فَيَجُوزُ الصِّيَامُ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذَلكَ.
وَأَمَّا الهَدْيُ فَقَدْ التَزَمَهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ، وَلنَا رِوَايَةٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُهُ لمَنْ دَخَل قَبْل العَشْرِ لمَشَقَّةِ حِفْظِهِ عَليْهِ إلى يَوْمِ النَّحْرِ وَعَلى المَشْهُورِ لا يَجُوزُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ لأَنَّ الشَّرْعَ خَصَّهَا بِالذَّبْحِ.
وَمِنْهَا: كَفَّارَةُ اليَمِينِ يَجُوزُ تَقْدِيمُهَا عَلى الحِنْثِ بَعْدَ عَقْدِ اليَمِينِ مَاليَّةً كَانَتْ أَوْ بَدَنِيَّةً.
وَمِنْهَا: إخْرَاجُ كَفَّارَةِ القَتْل أَوْ الصَّيْدِ بَعْدَ الجُرْحِ وَقَبْل الزُّهُوقِ.
وَمِنْهَا: النَّذْرُ المُطْلقُ نَحْوُ: إنْ شَفَى اللهُ مَرِيضِي فَللهِ عَليَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِكَذَا فَلهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ فِي الحَال ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ.
وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ مَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلى شَرْطِ وُجُوبِهِ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ من غَيْرِ العِبَادَاتِ، كَالإِبْرَاءِ مِنْ الدِّيَةِ بَيْنَ الجِنَايَةِ وَالمَوْتِ، وَأَمَّا مِنْ القِصَاصِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ؛ وَكَتَوْفِيَةِ المَضْمُونِ عَنْهُ للضَّامِنِ الدَّيْنَ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالأَدَاءِ وَفِيهِ وَجْهَانِ وَكَعَفْوِ الشَّفِيعِ عَنْ الشُّفْعَةِ قَبْل البَيْعِ وَفِيهِ رِوَايَتَانِ، فَإِنَّ سَبَبَ الشُّفْعَةِ المِلكُ وَشَرْطَهَا البَيْعُ، وَأَمَّا إسْقَاطُ الوَرَثَةِ حَقَّهُمْ مِنْ وَصِيَّةِ المَوْرُوثِ فِي مَرَضِهِ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَصِحُّ وَشَبَّهَهُ فِي مَوْضِعٍ بِالعَفْوِ عَنْ الشُّفْعَةِ، فَخَرَّجَهُ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَكَإِيتَاءِ المُكَاتَبِ رُبْعَ الكِتَابَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا وَقَبْل كَمَال الأَدَاءِ وَهُوَ جَائِزٌ.
القاعدة الخامسة
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ:مَنْ عَجَّل عِبَادَةً قَبْل وَقْتِ الوُجُوبِ ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ الوُجُوبِ وَقَدْ تَغَيَّرَ الحَال بِحَيْثُ لوْ فَعَل المُعَجَّل فِي وَقْتِ الوُجُوبِ لمْ يُجْزِئْهُ فَهَل تُجْزِئُهُ أَمْ لا؟ هَذَا عَلى قِسْمَيْنِ:
أَحَدِهِمَا: أَنْ يَتَبَيَّنَ الخَلل فِي نَفْسِ العِبَادَةِ بِأَنْ يَظْهَرَ وَقْتَ الوُجُوبِ أَنَّ الوَاجِبَ غَيْرُ المُعَجَّل وَلذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْل الحِنْثِ ثُمَّ حَنِثَ وَهُوَ مُوسِرٌ قَال صَاحِبُ المُغْنِي: لا يُجْزِئُهُ لأَنَّا تَبَيَّنَّا أَنَّ الوَاجِبَ غَيْرُ مَا أَتَى بِهِ وَإِطْلاقُ الأَكْثَرِ مُخَالفٌ لذَلكَ لأَنَّهُ كَانَ فَرْضَهُ فِي الظَّاهِرِ فَبَرِئَ بِهِ وَانْحَلتْ يَمِينُهُ بِمَعْنَى أَنَّهَا لمْ تَبْقَ مُنْعَقِدَةً بِالتَّكْفِيرِ فَصَادَفَ فِعْل المَحْلوفِ عَليْهِ ذِمَّةً بَرِيئَةً مِنْ الوَاجِبِ فَلمْ يَحْصُل بِهِ الحِنْثُ؛ لأَنَّ الكَفَّارَةَ حَلتْهُ.
وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ العَزِيزِ بِأَنَّ الكَفَّارَةَ قَبْل الفِعْل تَحُل اليَمِينَ المُنْعَقِدَةَ وَبَعْدَهُ تُكَفِّرُ أَثَرَ المُخَالفَةِ.
وَمِنْهَا: إذَا كَفَّرَ المُتَمَتِّعُ بِالصَّوْمِ ثُمَّ قَدَرَ عَلى الهَدْيِ وَقْتَ وُجُوبِهِ فَصَرَّحَ ابْنُ الزَّاغُونِيِّ فِي الإِقْنَاعِ بِأَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ وَإِطْلاقُ الأَكْثَرِينَ يُخَالفُهُ، بَل وَفِي كَلامِ بَعْضِهِمْ تَصْرِيحٌ بِهِ وَرُبَّمَا أَشْعَرَ كَلامُ أَحْمَدَ بِذَلكَ لأَنَّ صَوْمَهُ صَحَّ فَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ بِهِ فَصَادَفَ وَقْتُ وُجُوبِ الهَدْيِ ذِمَّةً بَرِيئَةً مِنْ عُهْدَةِ الوَاجِبِ.
وَمِنْهَا: إذَا عَجَّل عَنْ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الإِبِل أَرْبَعَ شِيَاهٍ ثُمَّ نُتِجَتْ وَاحِدَةٌ قَبْل الحَوْل فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لا يُجْزِئُهُ وَيَجِبُ عَليْهِ إخْرَاجُ بِنْتِ مَخَاضٍ.
وَالثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنْ العِشْرِينَ وَيُخْرِجُ عَنْ البَاقِي خُمْسَ بِنْتِ مَخَاضٍ وَلا يُقَال إنَّهُ يَجِبُ عَليْهِ شَاةٌ عَنْ الخَمْسِ الزَّائِدَةِ التِي لمْ يُؤَدِّ عَنْهَا لئَلا يُفْضِيَ إلى إيجَابِ خَمْسِ شِيَاهٍ عَنْ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ.
وَمِنْهَا: إذَا صَلى الصَّبِيُّ فِي أَوَّل الوَقْتِ ثُمَّ بَلغَ فَفِي وُجُوبِ الإِعَادَةِ وَجْهَانِ. المَنْصُوصِ أَنَّهُ يَجِبُ وَاخْتَارَ القَاضِي فِي شَرْحِ المُهَذَّبِ خِلافَهُ لأَنَّهُ فَعَل المَأْمُورَ بِهِ فِي أَوَّل الوَقْتِ فَصَادَفَهُ وَقْتُ الوُجُوبِ وَقَدْ فَعَل المَأْمُورَ فَامْتَنَعَ تَعَلقُ الوُجُوبِ بِهِ لذَلكَ، وَهَذَا بِخِلافِ مَا إذَا حَجَّ ثُمَّ بَلغَ فَإِنَّ حَجَّهُ ليْسَ بِمَأْمُورٍ بِهِ وَلا مُعَاقَبٍ عَلى تَرْكِهِ بِخِلافِ الصَّلاةِ.
وَالقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَبَيَّنَ الخَلل فِي شَرْطِ العِبَادَةِ المُعَجَّلةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيَتَفَرَّعُ عَليْهِ مَسَائِل مِنْهَا: إذَا عَجَّل الزَّكَاةَ إلى فَقِيرٍ مُسْلمٍ فَحَال الحَوْل وَقَدْ مَاتَ أَوْ ارْتَدَّ أَوْ اسْتَغْنَى مِنْ غَيْرِهَا.
وَمِنْهَا: إذَا جَمَعَ بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ فِي وَقْتِ أُولاهُمَا بِتَيَمُّمٍ ثُمَّ دَخَل وَقْتُ الثَّانِيَة وَهُوَ وَاجِدٌ للمَاءِ وَمِنْهَا: إذَا قَصَرَ الصَّلاتَيْنِ فِي السَّفَرِ فِي وَقْتِ أُولاهُمَا ثُمَّ قَدِمَ قَبْل دُخُول وَقْتِ الثَّانِيَة.
القاعدة السادسة
القَاعِدَةُ السَّادِسَةُ:إذَا فَعَل عِبَادَةً فِي وَقْتِ وُجُوبِهَا يَظُنُّ أَنَّهَا الوَاجِبَةُ عَليْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِأخرَةٍ أَنَّ الوَاجِبَ كَانَ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَلذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا أَحَجَّ المَعْضُوبُ عَنْ نَفْسِهِ ثُمَّ بَرِئَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ عَلى المَذْهَبِ لأَنَّهُ فَعَل الوَاجِبَ عَليْهِ فِي وَقْتِهِ لا سِيَّمَا إنْ قِيل إنَّ ذَلكَ عَليْهِ عَلى الفَوْرِ.
وَمِنْهَا: إذَا كَفَّرَ العَاجِزُ عَنْ الصِّيَامِ بِالإِطْعَامِ للإِيَاسِ مِنْ بُرْئِهِ ثُمَّ عُوفِيَ فَإِنَّهُ لا يَلزَمُهُ قَضَاءُ الصَّوْمِ.
وَمِنْهَا: إذَا ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ عِنْدَنَا سَنَةً فَإِذَا اعْتَدَّتْ سَنَةً ثُمَّ رَأَتْ الحَيْضَ لمْ يَلزَمْهَا الاعْتِدَادُ بِهِ.
وَمِنْهَا: إذَا صَلى الظُّهْرَ مَنْ لا جُمُعَةَ عَليْهِ لأَجْل العُذْرِ ثُمَّ زَال العُذْرُ قَبْل تَجْمِيعِ الإِمَامِ فَإِنَّهُ لا يَلزَمُهُ إعَادَةُ الجُمُعَةِ مَعَ الإِمَامِ، وَأَمَّا مَا حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ فِعْل الظُّهْرِ قَبْل تَجْمِيعِ الإِمَامِ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ بَنَاهُ عَلى هَذَا الأَصْل وَأَنَّهُ تَجِبُ الإِعَادَةُ لتَبَيُّنِنَا أَنَّ الوَاجِبَ عَليْهِ الجُمُعَةُ، وَليْسَ هَذَا مَأْخَذَ أَبِي بَكْرٍ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِمَأْخَذِهِ وَهُوَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ فِي حَقِّ مَنْ لا جُمُعَةَ عَليْهِ إنَّمَا يَدْخُل بِفِعْل الجُمُعَةِ مِنْ الإِمَامِ كَمَا لا يَدْخُل وَقْتُ الذَّبْحِ فِي الأَضَاحِيِّ إلا بَعْدَ صَلاةِ الإِمَامِ.
وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ القَاعِدَةِ مَا إذَا خَفِيَ الاطِّلاعُ عَلى خَلل الشَّرْطِ ثُمَّ تَبَيَّنَ، فَإِنَّهُ يُغْتَفَرُ فِي الأَصَحِّ.
فَمِنْ ذَلكَ إذَا أَدَّى الزَّكَاةَ إلى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا فَبَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَلى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: إذَا صَلى المُسَافِرُ بِالاجْتِهَادِ إلى القِبْلةِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ الخَطَأَ فَإِنَّهُ لا إعَادَةَ عَلى الصَّحِيحِ.
وَمِنْهَا: إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ بِشَهَادَةِ عَدْليْنِ فِي الظَّاهِرِ ثُمَّ تَبَيَّنَ فِسْقُهُمَا فَفِي النَّقْضِ رِوَايَتَانِ، رَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِه عَدَمَهُ، وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي كِتَابِ الصَّيْدِ مِنْ خِلافِهِ، وَالآمِدِيُّ لئَلا يَنْقُضَ الاجْتِهَادَ بِالاجْتِهَادِ وَالمَشْهُورُ النَّقْضُ لتَعَلقِ حَقِّ الغَيْرِ بِهِ، وَأَمَّا إذَا اصْطَادَ بِكَلبٍ معَلمٍ عَلمَهُ ثُمَّ أَكَل مِنْ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لا تُحَرَّمُ صُيُودِهِ المُتَقَدِّمَةُ عَلى الصَّحِيحِ، لكِنَّ مَأْخَذَهُ أَنَّا لمْ نَتَبَيَّنَ فَسَادَ تَعْليمِهِ لجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَسِيَهُ بَعْدَ تَعَلمِهِ أَوْ نَسِيَ إرْسَالهُ، فَأَمَّا الإِعَادَةُ عَلى مَنْ نَسِيَ المَاءَ فِي رَحْلهِ وَتَيَمَّمَ ثُمَّ صَلى أَوْ عَلى مَنْ صَلى صَلاةَ شِدَّةِ الخَوْفِ لسَوَادٍ ظَنَّهُ عَدُوًّا فَلمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَا يَمْنَعُ العُبُورَ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّهُ فَرَّطَ بِتَرْكِ البَحْثِ وَالتَّحْقِيقِ.
القاعدة السابعة
القَاعِدَةُ السَّابِعَة:مَنْ تَلبَّسَ بِعِبَادَةٍ ثُمَّ وَجَدَ قَبْل فَرَاغِهَا مَا لوْ كَانَ وَاجِدًا لهُ قَبْل الشُّرُوعِ لكَانَ هُوَ الوَاجِبَ دُونَ مَا تَلبَّسَ بِهِ، هَل يَلزَمُهُ الانْتِقَال إليْهِ أَمْ يَمْضِي وَيُجْزِئُهُ.
هَذَا عَلى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المُتَلبِّسُ بِهِ رُخْصَةٌ عَامَّةٌ شُرِعَتْ تَيْسِيرًا عَلى المُكَلفِ وَتَسْهِيلاً عَليْهِ مَعَ إمْكَانِ إتْيَانِهِ بِالأَصْل عَلى ضَرْبٍ مِنْ المَشَقَّةِ وَالتَّكَلفِ، فَهَذَا لا يَجِبُ عَليْهِ الانْتِقَال مِنْهُ بِوُجُودِ الأَصْل كَالمُتَمَتِّعِ إذَا عَدِمَ الهَدْيَ فَإِنَّهُ رُخَّصَ لهُ فِي الصِّيَامِ رُخْصَةً عَامَّةً، حَتَّى لوْ قَدَرَ عَلى الشِّرَاءِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُوسِرٌ فِي بَلدِهِ لمْ يَلزَمْهُ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المُتَلبِّسُ بِهِ إنَّمَا شُرِعَ ضَرُورَةً للعَجْزِ عَنْ الأَصْل وَتَعَذُّرِهِ بِالكُليَّةِ فَهَذَا يَلزَمُهُ الانْتِقَال إلى الأَصْل عِنْدَ القُدْرَةِ عَليْهِ وَلوْ فِي أَثْنَاءِ التَّلبُّسِ بِالبَدَل كَالعِدَّةِ بِالأَشْهُرِ فَإِنَّهَا لا تُعْتَبَرُ بِحَالٍ مَعَ القُدْرَةِ عَلى الاعْتِدَادِ بِالحَيْضِ، وَلهَذَا تُؤْمَرُ مَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لعَارِضٍ مَعْلومٍ أَنْ تَنْتَظِرَ زَوَالهُ وَلوْ طَالتْ المُدَّةُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ لمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ أَنْ تَعْتَدَّ بِالأَشْهُرِ لأَنَّ حَيْضَهَا غَيْرُ مَعْلومٍ وَلا مَظْنُونٍ عَوْدُهُ.
وَسَوَاءٌ كَانَتْ هَذِهِ المُعْتَدَّةُ مُكَلفَةً قَبْل هَذَا بِالاعْتِدَادِ بِالحَيْضِ كَمَنْ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لا تَدْرِي مَا رَفَعَهُ فَاعْتَدَّتْ بِالأَشْهُرِ ثُمَّ حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهَا، أَوْ لمْ تَكُنْ مُكَلفَةً بِهِ كَالصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ فِي أَثْنَاء العِدَّةِ بِالأَشْهُرِ.
وَهَا هُنَا مَسَائِل كَثِيرَةٌ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الضَّرْبَيْنِ:
مِنْهَا: مَنْ شَرَعَ فِي صِيَامِ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ غَيْرِهِمَا ثُمَّ وَجَدَ الرَّقَبَةَ، فَالمَذْهَبُ لا يَلزَمُهُ الانْتِقَال لأَنَّ ذَلكَ رُخْصَةٌ، فَهُوَ كَصِيَامِ المُتَمَتِّعِ.
وَفِيهِ وَجْهٌ يُلزِمُهُ الانْتِقَال لأَنَّ الكَفَّارَاتِ مَشْرُوعَةٌ للردعِ وَالزَّجْرِ وَفِيهَا مِنْ التَّغْليظِ مَا يُنَافِي الرُّخْصَةَ المُطْلقَةَ، وَلهَذَا يَلزَمُ شِرَاءُ الرَّقَبَةِ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ إذَا كَانَ مَالهُ غَائِبًا، وَلوْ لمْ يَجِدْ مَنْ يَبِيعُهُ رَقَبَةً بِالدَّيْنِ وَمَالهُ غَائِبٌ فَهَل يَلزَمُهُ انْتِظَارُهُ أَوْ يَجُوزُ لهُ العُدُول إلى الصِّيَامِ للمَشَقَّةِ أَوْ يُفَرِّقُ بَيْنَ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ عَلى أَوْجُهٍ مَعْرُوفَةٍ.
وَمِنْهَا: المُتَيَمِّمُ إذَا شَرَعَ فِي الصَّلاةِ ثُمَّ وَجَدَ المَاءَ فَفِي بُطْلانِهَا رِوَايَتَانِ؛ لأَنَّ التَّيَمُّمَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ رُخْصَةً عَامَّةً فَهُوَ كَصِيَامِ المُتَمَتِّعِ، وَمِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ ضَرُورَةً يُشْبِهُ العِدَّةَ بِالأَشْهُرِ.
وَبَيَانُ الضَّرُورَةِ أَنَّهُ تُسْتَبَاحُ مَعَهُ الصَّلاةُ بِالحَدَثِ فَإِنَّهُ غَيْرُ رَافِعٍ لهُ عَلى المَذْهَبِ فَلا يَجُوزُ إتْمَامُ الصَّلاةِ مُحْدِثًا مَعَ وُجُودِ المَاءِ الرَّافِعِ لهُ.
وَمِنْهَا: إذَا نَكَحَ المُعْسِرُ الخَائِفُ للعَنَتِ أَمَةً ثُمَّ زَال أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ، فَهَل يَنْفَسِخُ نِكَاحُهُ. عَلى رِوَايَتَيْنِ وَالنِّكَاحُ فِيهِ شَوْبُ عِبَادَةٍ.
القاعدة الثامنة
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ:مَنْ قَدَرَ عَلى بَعْضِ العِبَادَةِ وَعَجَزَ عَنْ بَاقِيهَا هَل يَلزَمُهُ الإِتْيَانُ بِمَا قَدَرَ عَليْهِ مِنْهَا أَمْ لا؟ هَذَا أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ المَقْدُورُ عَليْهِ ليْسَ مَقْصُودً فِي العِبَادَةِ بَل هُوَ وَسِيلةٌ مَحْضَةٌ إليْهَا كَتَحْرِيكِ اللسَانِ فِي القِرَاءَةِ وَإِمْرَارِ المُوسَى عَلى الرَّأْسِ فِي الحَلقِ وَالخِتَانِ، فَهَذَا ليْسَ بِوَاجِبٍ لأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ ضَرُورَةُ القِرَاءَةِ وَالحَلقِ وَالقَطْعِ، وَقَدْ سَقَطَ الأَصْل فَسَقَطَ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَتِهِ.
وَأَوْجَبَهُ القَاضِي فِي تَحْرِيكِ اللسَانِ خَاصَّةً وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا.
القِسْمُ الثَّانِي: مَا وَجَبَ تَبَعًا لغَيْرِهِ وَهُوَ نَوْعَانِ:.
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ وُجُوبُهُ احْتِيَاطًا للعِبَادَةِ ليَتَحَقَّقَ حُصُولهَا كَغَسْل المِرْفَقَيْنِ فِي الوُضُوءِ فَإِذَا قُطِعَتْ اليَدُ مِنْ المِرْفَقِ هَل يَجِبُ غَسْل رَأْسِ المِرْفَقِ الآخَرِ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ: أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ الأَصْحَابِ الوُجُوبُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ.
وَاخْتَارُ القَاضِي فِي كِتَابِ الحَجِّ مِنْ خِلافِهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ وَحُمِل كَلامُ أَحْمَدَ عَلى الاسْتِحْبَابِ.
هَذَا إذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ العِبَادَةِ كَمَا فِي وُضُوءِ الأَقْطَعِ، أَمَّا إذَا لمْ يَبْقَ شَيْءٌ بِالكُليَّةِ سَقَطَ التَّبَعُ كَإِمْسَاكِ جُزْءٍ مِنْ الليْل فِي الصَّوْمِ فَلا يَلزَمُ مَنْ أُبِيحَ لهُ الفِطْرُ بِالاتِّفَاقِ.
وَالثَّانِي: مَا وَجَبَ تَبَعًا لغَيْرِهِ عَلى وَجْهِ التَّكْمِيل وَاللوَاحِقَ مِثْل رَمْيِ الجِمَارِ وَالمَبِيتِ بِمِنًى لمَنْ لمْ يُدْرِكْ الحَجَّ، فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ لأَنَّ ذَلكَ كُلهُ مِنْ تَوَابِعِ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَلا يَلزَمُ مَنْ لمْ يَقِفْ بِهَا.
وَحَكَى ابْنُ أَبِي مُوسَى رِوَايَةً أُخْرَى بِلزُومِهَا؛ لأَنَّهَا عِبَادَاتٌ فِي نَفْسِهَا مُسْتَقِلةٌ، وَمِنْ أَمْثِلةِ ذَلكَ: المَرِيضُ إذَا عَجَزَ فِي الصَّلاةِ عَنْ وَضْعِ وَجْهِهِ عَلى الأَرْضِ وَقَدَرَ عَلى وَضْعِ بَقِيَّةِ أَعْضَاءِ السُّجُودِ، فَإِنَّهُ لا يَلزَمُهُ ذَلكَ عَلى الصَّحِيحِ، لأَنَّ السُّجُودَ عَلى بَقِيَّةِ الأَعْضَاءِ إنَّمَا وَجَبَ تَبَعًا للسُّجُودِ عَلى الوَجْهِ وَتَكْمِيلاً لهُ.
وَالقِسْمُ الثَّالثُ: مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ العِبَادَةِ وَليْسَ بِعِبَادَةٍ فِي نَفْسِهِ بِانْفِرَادِهِ، أَوْ هُوَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لضَرُورَةٍ
فَالأَوَّل: كَصَوْمِ بَعْضِ اليَوْمِ لمَنْ قَدَرَ عَليْهِ وَعَجَزَ عَنْ إتْمَامِهِ فَلا يَلزَمُهُ بِغَيْرِ خِلافٍ.
وَالثَّانِي: كَعِتْقِ بَعْضِ الرَّقَبَةِ فِي الكَفَّارَةِ فَلا يَلزَمُ القَادِرَ عَليْهِ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّكْمِيل لأَنَّ الشَّارِعَ قَصْدُهُ تَكْمِيل العِتْقِ مَهْمَا أَمْكَنَ، وَلهَذَا شَرَعَ السِّرَايَةَ وَالسِّعَايَةَ وَقَال: {ليْسَ للهِ شَرِيكٌ} فَلا يَشْرَع عِتْقُ بَعْضِ الرَّقَبَةِ.
القِسْمُ الرَّابِعُ: مَا هُوَ جُزْءٌ مِنْ العِبَادَةِ وَهُوَ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ فِي نَفْسِهِ فَيَجِبُ فِعْلهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ فِعْل الجَمِيعِ بِغَيْرِ خِلافٍ، ويتفرع عَليْهِ مَسَائِل كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: العَاجِزُ عَنْ القِرَاءَةِ يَلزَمُهُ القِيَامُ لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَقْصُودُهُ الأَعْظَمُ القِرَاءَةَ لكِنَّهُ أَيْضًا مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ وَهُوَ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ.
وَمِنْهَا: مَنْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ الفَاتِحَةِ لزِمَهُ الإِتْيَانُ بِالبَاقِي.
وَمِنْهَا: مَنْ عَجَزَ عَنْ بَعْضِ غُسْل الجَنَابَةِ لزِمَهُ الإِتْيَانُ بِمَا قَدَرَ مِنْهُ لأَنَّ تَخْفِيفَ الجَنَابَةِ مَشْرُوعٌ
وَلوْ بِغَسْل أَعْضَاءِ الوُضُوءِ كَمَا يُشْرَعُ للجُنُبِ إذَا أَرَادَ النَّوْمَ أَوْ الوَطْءَ أَوْ الأَكْل وَيَسْتَبِيحُ بِهِ اللبْثَ فِي المَسْجِدِ عِنْدَنَا وَوَقَعَ التَّرَدُّدَ فِي مَسَائِل أُخَرَ.
مِنْهَا: المُحْدِثُ إذَا وَجَدَ مَا يَكْفِي بَعْضَ أَعْضَائِهِ فَفِي وُجُوبِ اسْتِعْمَالهِ وَجْهَانِ، وَمَأْخَذُ مَنْ لا يَرَاهُ وَاجِبًا إمَّا أَنَّ الحَدَثَ الأَصْغَرَ لا يَتَبَعَّضُ رَفْعُهُ فَلا يَحْصُل بِهِ مَقْصُودٌ، أَوْ أَنَّهُ يَتَبَعَّضُ لكِنَّهُ يَبْطُل بِالإِخْلال بِالمُوَالاةِ فَلا يَبْقَى لهُ فَائِدَةٌ، أَوْ أَنَّ غُسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ المُحْدِثِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِخِلافِ غَسْل بَعْضِ أَعْضَاءِ الجُنُبِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا: إذَا قَدَرَ عَلى بَعْضِ صَاعٍ فِي صَدَقَةِ الفِطْرِ فَهَل يَلزَمُهُ إخْرَاجُهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ، وَمَأْخَذُ عَدَمِ الوُجُوبِ أَنَّهُ كَفَّارَةٌ بِالمَال فَلا يَتَبَعَّضُ كَمَا لوْ قَدَرَ عَلى التَّكْفِيرِ بِإِطْعَامِ بَعْضِ المَسَاكِينِ وَالصَّحِيحُ الوُجُوبُ، وَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الكَفَّارَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الكَفَّارَةَ بِالمَال تَسْقُطُ إلى بَدَلٍ هُوَ الصَّوْمُ بِخِلافِ الفِطْرَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الكَفَّارَةَ لا بُدَّ مِنْ تَكْمِيلهَا، وَالمَقْصُودُ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالمَال تَحْصِيل إحْدَى المَصَالحِ الثَّلاثِ عَلى وَجْهِهَا وَهِيَ العِتْقُ وَالإِطْعَامُ وَالكِسْوَةُ، وَبِالتَّلفِيقِ يُفَوِّتُ ذَلكَ فَلا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْ الوُجُوبِ إلا بِالإِتْيَانِ بِإِحْدَى الخِصَال بِكَمَالهَا أَوْ بِالصِّيَامِ وَفِي الفِطْرَةِ لا تَبْرَأُ الذِّمَّةُ مِنْهَا بِدُونِ إخْرَاجِ المَوْجُودِ.
القاعدة التاسعة
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ:فِي العِبَادَاتِ الوَاقِعَةِ عَلى وَجْهٍ مُحَرَّمٍ، إنْ كَانَ التَّحْرِيمُ عَائِدًا إلى ذَاتِ العِبَادَةِ عَلى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهَا لمْ يَصِحَّ، وَإِنْ كَانَ عَائِدًا إلى شَرْطِهَا فَإِنْ كَانَ عَلى وَجْهٍ يَخْتَصُّ بِهَا فَكَذَلكَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَ لا يَخْتَصُّ بِهَا فَفِي الصِّحَّةِ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا عَدَمُهَا، وَإِنْ عَادَ إلى مَا ليْسَ بِشَرْطٍ فِيهَا فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ عَدَمَ الصِّحَّةِ وَخَالفَهُ الأَكْثَرُونَ فَللأَوَّل أَمْثِلةٌ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: صَوْمُ يَوْمِ العِيدِ فَلا يَصِحُّ بِحَالٍ عَلى المَذْهَبِ.
وَمِنْهَا: الصَّلاةُ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ.
وَمِنْهَا: الصَّلاةُ فِي مَوَاضِعِ النَّهْيِ فَلا يَصِحُّ عَلى القَوْل بِأَنَّ النَّهْيَ للتَّحْرِيمِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ عَلى القَوْل بِأَنَّ النَّهْيَ للتَّنْزِيهِ.
هَذِهِ طَرِيقَةُ المُحَقِّقِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يَحْكِي الخِلافَ فِي الصِّحَّةِ مَعَ القَوْل بِالتَّحْرِيمِ.
وَمِنْهَا: صِيَامُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلا يَصِحُّ تَطَوُّعًا بِحَالٍ، وَالخِلافُ فِي صِحَّةِ صَوْمِهَا فَرْضًا مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ النَّهْيَ هَل يَشْمَل الفَرْضَ أَمْ يَخْتَصُّ بالتَّطَوُّعَ؟
وَللثَّانِي أَمْثِلةٌ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: الصَّلاةُ بِالنَّجَاسَةِ وَبِغَيْرِ سُتْرَةٍ وَأَشْبَاهِ ذَلكَ وَللثَّالثِ أَمْثِلةٌ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: الوُضُوءُ بِالمَاءِ المَغْصُوبِ
وَمِنْهَا: الصَّلاةُ فِي الثَّوْبِ المَغْصُوبِ وَالحَرِيرِ وَفِي الصِّحَّةِ رِوَايَتَانِ، وَعَلى رِوَايَةِ عَدَمِ الصِّحَّةِ فَهَل المُبْطِل ارْتِكَابُ النَّهْيِ فِي شَرْطِ العِبَادَةِ، أَمْ تَرْكُ الإِتْيَانِ بِالشَّرْطِ المَأْمُورِ بِهِ.
للأَصْحَابِ فِيهِ مَأْخَذَانِ يَنْبَنِي عَليْهِمَا لوْ لمْ يَجِدْ إلا ثَوْبًا مَغْصُوبًا فَصَلى فِيهِ فَإِنْ عَللنَا بِارْتِكَابِ النَّهْيِ لمْ تَصِحَّ صَلاتُهُ، وَإِنْ عَللنَا بِتَرْكِ المَأْمُورِ صَحَّتْ لأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لسُتْرَةٍ يُؤْمَرُ بِهَا، وَأَمَّا مَنْ لمْ يَجِدْ إلا ثَوْبَ حَرِيرٍ فَتَصِحُّ صَلاتُهُ فِيهِ بِغَيْرِ خِلافٍ عَلى أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ لإِبَاحَةِ لبْسِهِ فِي هَذِهِ الحَال.
وَمِنْهَا: الصَّلاةُ فِي البُقْعَةِ المَغْصُوبَةِ وَفِيهَا الخِلافُ وَللبُطْلانِ مَأْخَذَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ البُقْعَةَ شَرْطٌ للصَّلاةِ وَلهَذَا لا تَصِحُّ الصَّلاةُ فِي الأُرْجُوحَةِ وَلا عَلى بِسَاطٍ فِي الهَوَاءِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَرَكَاتِ المُصَلي وَسَكَنَاتِهِ فِي الدَّارِ المَغْصُوبَةِ هُوَ نَفْسُ المُحَرَّمِ فَالتَّحْرِيمُ عَائِدٌ إلى نَفْسِ الصَّلاةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخْتَصٍّ بِهَا فَهُوَ كَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ وَالهَدْيِ مِنْ المَال المَغْصُوبِ وَللرَّابِعِ أَمْثِلةٌ:
مِنْهَا: الوُضُوءُ مِنْ الإِنَاءِ المُحَرَّمِ.
وَمِنْهَا: صَلاةُ مَنْ عَليْهِ عِمَامَةُ غَصْبٍ أَوْ حَرِيرٍ أَوْ فِي يَدِهِ خَاتَمُ ذَهَبٍ وَفِي ذَلكَ كُلهِ وَجْهَانِ وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ عَدَمُ الصِّحَّةِ، وَأَمَّا مَنْ عَليْهِ ثَوْبَانِ أَحَدُهُمَا غَصْبٌ فَقِيل: هُوَ مُخَرَّجٌ عَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، وَقِيل بَل هُوَ كَمَنْ ليْسَ عَليْهِ سِوَى الثَّوْبِ المَغْصُوبِ لأَنَّ المُبَاحَ لمْ يَتَعَيَّنْ للسِّتْرِ بَل السِّتْرُ حَصَل بِوَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ.
وَأَمَّا الحَجُّ بِالمَال المَغْصُوبِ فَفِي صِحَّتِهِ رِوَايَتَانِ فَقِيل: لأَنَّ المَال شَرْطٌ لوُجُوبِهِ وَشَرْطُ الوُجُوبِ كَشَرْطِ الصِّحَّةِ وَرَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ الصِّحَّةَ وَجَعَلهُ مِنْ القِسْمِ الرَّابِعِ وَمَنَعَ كَوْنَ المَال شَرْطًا لوُجُوبِهِ لأَنَّهُ يَجِبُ عَلى القَرِيبِ بِغَيْرِ مَالٍ وَليْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي حَقِّ البَعِيدِ خَاصَّةً، كَمَا أَنَّ المَحْرَمَ شَرْطٌ فِي حَقِّ المَرْأَةِ دُونَ الرَّجُل وَاَللهُ أَعْلمُ.
القاعدة العاشرة
القَاعِدَةُ العَاشِرَةُ:الأَلفَاظُ المُعْتَبَرَةُ فِي العِبَادَاتِ وَالمُعَامَلاتِ
مِنْهَا: مَا يُعْتَبَرُ لفْظُهُ وَمَعْنَاهُ وَهُوَ القُرْآنُ لإِعْجَازِهِ بِلفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، فَلا تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ بِلغَةٍ أُخْرَى.
وَمِنْهَا: مَا يُعْتَبَرُ مَعْنَاهُ دُونَ لفْظِهِ كَأَلفَاظِ عَقْدِ البَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنْ العُقُودِ وَأَلفَاظِ الطَّلاقِ.
وَمِنْهَا: مَا يُعْتَبَرُ لفْظُهُ مَعَ القُدْرَةِ عَليْهِ دُونَ العَجْزِ عَنْهُ وَيَدْخُل تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: التَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ وَالدُّعَاءُ فِي الصَّلاةِ لا تَجُوزُ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ مَعَ القُدْرَةِ عَليْهِ، وَمَعَ العَجْزِ عَنْهُ هَل يَلحَقُ بِالقِسْمِ الأَوَّل فَيَسْقُطُ أَوْ بِالثَّانِي فَيَأْتِي بِهِ بِلغَتِهِ، ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: خُطْبَةُ الجُمُعَةِ لا تَصِحُّ مَعَ القُدْرَةِ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ عَلى الصَّحِيحِ وَتَصِحُّ مَعَ العَجْزِ.
وَمِنْهَا: لفْظُ النِّكَاحِ يَنْعَقِدُ مَعَ العَجْزِ بِغَيْرِ العَرَبِيَّةِ وَمَعَ القُدْرَةِ عَلى التَّعَلمِ فِيهِ وَجْهَانِ.
وَمِنْهَا: لفْظُ اللعَانِ وَحُكْمُهُ حُكْمُ لفْظِ النِّكَاحِ.
القاعدة الحادية عشر
القَاعِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ:مَنْ عَليْهِ فَرْضٌ هَل لهُ أَنْ يَتَنَفَّل قَبْل أَدَائِهِ بِجِنْسِهِ أَمْ لا؟.
هَذَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: العِبَادَاتُ المَحْضَةُ فَإِنْ كَانَتْ مُوَسَّعَةً جَازَ التَّنَفُّل قَبْل أَدَائِهَا كَالصَّلاةِ بِالاتِّفَاقِ وَقَبْل قَضَائِهَا أَيْضًا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ عَلى الأَصَحِّ وَإِنْ كَانَتْ مُضَيَّقَةً لمْ تَصِحَّ عَلى الصَّحِيحِ وَلذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: إذَا تَضَايَقَ وَقْتُ المَكْتُوبَةِ هَل يَنْعَقِدُ التَّنَفُّل [المُطْلقُ] حِينَئِذٍ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: مَنْ عَليْهِ صَلاةٌ فَائِتَةٌ هَل يَصِحُّ التَّنَفُّل المُطْلقُ قَبْل قَضَائِهَا؟.
عَلى وَجْهَيْنِ لأَنَّ قَضَاءَ الفَوَائِتِ عَلى الفَوْرِ.
ومنها: إذَا شَرَعَ فِي التَّنَفُّل بَعْدَ إقَامَةِ الصَّلاةِ المَكْتُوبَةِ فَهَل تَصِحُّ؟ عَلى وَجْهَيْنِ لأَنَّ الجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ.
ومنها: صَوْمُ رَمَضَانَ لا يَصِحُّ أَنْ يَصُومَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنْ فَعَل لمْ يَصِحَّ عَنْ نَفْلهِ، وَهَل يَنْقَلبُ عَنْ فَرْضِهِ يَنْبَنِي عَلى وُجُوبِ نِيَّةِ التَّعْيِينِ.
ومنها: إذَا حَجَّ تَطَوُّعًا قَبْل حَجَّةِ الإِسْلامِ لمْ يَقَعْ عَنْ التَّطَوُّعِ وَانْقَلبَتْ عَنْ حَجَّةِ الإِسْلامِ عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
ومنها: لوْ حَجَّ عَنْ نَذْرِهِ أَوْ عَنْ نَفْلٍ وَعَليْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ فَاسِدَةٍ وَقَعَتْ عَنْ القَضَاءِ دُونَ مَا نَوَاهُ عَلى المَذْهَبِ أَيْضًا، فَأَمَّا إنْ تَنَفَّل بِالحَجِّ بَعْدَ قَضَاءِ حَجَّةِ الإِسْلامِ وَقَبْل الاعْتِمَارِ أَوْ بِالعَكْسِ
فَهَل يَجُوزُ أَمْ لا؟. قَال فِي التَّلخِيصِ: يَنْبَنِي عَلى أَنَّ النُّسُكَ هَل هُوَ عَلى الفَوْرِ أَمْ لا؟ فَإِنْ قُلنَا عَلى الفَوْرِ لمْ يَجُزْ وَإِلا جَازَ وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَقَال الأَصْحَابُ يَصِحُّ أَنْ يَتَنَفَّل بِالصَّدَقَةِ قَبْل أَدَائِهَا وَإِنْ كَانَتْ عَلى الفَوْرِ, وَكَذَلكَ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا فِيمَنْ عَليْهِ زَكَاةٌ وَنَذْرٌ لا يُبَالي بِأَيِّهِمَا يَبْدَأُ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَالهُ يَتَّسِعُ لهُمَا فَأَمَّا إنْ لمْ يَتَّسِعْ فَسَنَذْكُرُهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: التَّصَرُّفَاتُ المَاليَّةُ كَالعِتْقِ وَالوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ وَالهِبَةِ إذَا تَصَرَّفَ بِهَا وَعَليْهِ دَيْنٌ وَلمْ يَكُنْ حُجِرَ عَليْهِ فَالمَذْهَبُ صِحَّةُ تَصَرُّفِهِ وَإِنْ اُسْتُغْرِقَ مَالهُ فِي ذَلكَ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ لا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ ذَلكَ مَعَ مُطَالبَةِ الغُرَمَاءِ، وحكاه قَوْلاً فِي المَذْهَبِ وَيُمْكِنُ تَخْرِيجُهُ فِي المَذْهَبِ مِنْ أَصْليْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِوَايَةِ حَنْبَلٍ فِيمَنْ تَبَرَّعَ بِمَالهِ بِوَقْفٍ أَوْ صَدَقَةٍ وَأَبَوَاهُ مُحْتَاجَانِ أَنَّ لهُمَا رَدَّهُ وَاحْتَجَّ بِالحَدِيثِ المَرْوِيِّ فِي ذَلكَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَصَّ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَلى مَنْ أَوْصَى لأَجَانِبَ وَلهُ أَقَارِبُ مُحْتَاجُونَ أَنَّ الوَصِيَّةَ تُرَدُّ عَليْهِمْ فَتَخَرَّجَ مِنْ ذَلكَ أَنَّ مَنْ تَبَرَّعَ وَعَليْهِ نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ لوَارِثٍ أَوْ دَيْنٌ ليْسَ لهُ وَفَاءٌ أَنَّهُ يُرَدُّ وَلهَذَا نبيعُ المُدَبَّر فِي الدَّيْنِ خَاصَّةً عَلى رِوَايَةٍ، وَنَقَل ابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ تَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَالهِ كُلهِ قَال: هَذَا مَرْدُودٌ لوْ كَانَ فِي حَيَاتِهِ لمْ أُجَوِّزْ لهُ إذَا كَانَ لهُ وَلدٌ.
القاعدة الثانية عشر
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَالمَذْهَبُ أَنَّ العِبَادَاتِ الوَارِدَةَ عَلى وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ يَجُوزُ فِعْلهَا عَلى جَمِيعِ تِلكَ الوُجُوهِ الوَارِدَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ لبَعْضِهَا وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ، لكِنْ هَل الأَفْضَل المُدَاوَمَةُ عَلى نَوْعٍ مِنْهَا أَوْ فِعْل جَمِيعِ الأَنْوَاعِ فِي أَوْقَاتٍ شَتَّى؟ ظَاهِرُ كَلامِ الأَصْحَابِ الأَوَّل، وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ الثَّانِي؛ لأَنَّ فِيهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فِي تَنَوُّعِهِ وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي صَلاةِ الخَوْفِ: إنَّهَا تَنَوَّعَتْ بِحَسَبِ المَصَالحِ فَتُصَلى فِي كُل وَقْتٍ عَلى صِفَةٍ تَكُونُ مُنَاسِبَةً لهُ, وَهَل الأَفْضَل الجَمْعُ بَيْنَ مَا أَمْكَنَ جَمْعُهُ مِنْ تِلكَ الأَنْوَاعِ أَوْ الاقْتِصَارُ عَلى وَاحِدٍ مِنْهَا؟ هَذَا فِيهِ نِزَاعٌ فِي المَذْهَبِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: مَسْحُ الأُذُنَيْنِ المَذْهَبُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ مَسْحُهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً إمَّا مَعَ الرَّأْسِ أَوْ بِمَاءٍ جَدِيدٍ, وَلا يُسَنُّ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَحُكِيَ عَنْ القَاضِي عَبْدِ الوَهَّابِ بْنِ جَلبَةَ قَاضِي حَرَّانَ أَنَّ الأَفْضَل الجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَمَلاً بِالحَدِيثَيْنِ
ومنها: الاسْتِفْتَاحُ فَالمَذْهَبُ أَنَّ الأَفْضَل الاسْتِفْتَاحُ بِسُبْحَانَكَ اللهُمَّ مُقْتَصِرًا عَليْهِ وَاخْتَارَ ابْنُ هُبَيْرَةَ أَنَّ الجَمْعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الاسْتِفْتَاحِ بوجهت وَجْهِي أَفْضَل، وَذَكَرَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ
أَنَّهُ يَسْتَفْتِحُ كَذَلكَ، وَلكِنْ وَرَدَ فِي الجَمْعِ أَحَادِيث مُتَعَدِّدَةٌ وَفِيهَا ضَعْفٌ وَبِتَقْدِيرِ ثُبُوتِهَا فَلا تَكُونُ المَسْأَلةُ مِنْ هَذَا القَبِيل.
ومنها: إجَابَةُ المُؤَذِّنِ هَل يُشْرَعُ فِيهَا الجَمْعُ بَيْنَ الحَيْعَلةِ وَالحَوْقَلةِ أَمْ لا؟ وَكَذَا فِي التَّثْوِيبِ فِي الفَجْر؟ِ فِيهِ وَجْهَانِ.
ومنها: سُنَّةُ الجُمُعَةِ بَعْدَهَا نَقَل إبْرَاهِيمُ الحَرْبِيُّ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ قَال: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ وَصَلى هُوَ رَكْعَتَيْنِ فَأَيَّهُمَا فَعَلتَ فَحَسَنٌ وَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَحْتَاطَ صَليْتَ رَكْعَتَيْنِ وَأَرْبَعًا فجَمَعْت فِعْلهُ وَأَمْرَهُ وَهَذَا مَأْخَذٌ غَرِيبٌ لاسْتِحْبَابِ السِّتِّ، وَأَمَّا الأَصْحَابُ فَلمْ يَسْتَنِدُوا إلا إلى مَا نُقِل عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ مِنْ صَلاتِهِ سِتَّ رَكَعَاتٍ
ومنها: أَلفَاظُ الصَّلاةِ عَلى النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ فِي التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِيهَا "كَمَا صَليْتَ عَلى آل إبْرَاهِيمَ " وَوَرَدَ "كَمَا صَليْتَ عَلى إبْرَاهِيمَ " فَهَل يُقَال الأَفْضَل الجَمْعُ بَيْنَهُمَا؟ فَإِنَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ اخْتَارَ الجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَنَدُهُ جَمْعَ الرِّوَايَتَيْنِ وَأَنْكَرَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ ذَلكَ وَقَال: لمْ يَبْلغْنِي فِيهِ حَدِيثٌ مُسْنَدٌ ثَابِتٌ بِالجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَلا يَصِحُّ أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ لأَنَّهُ كَانَ يَقُول هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً فَأَحَدُ اللفْظَيْنِ بَدَلٌ عَنْ الآخَرِ وَلا يَصِحُّ الجَمْعُ بَيْنَ البَدَل وَالمُبْدَل كَذَا قَال، وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ البُخَارِيّ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيّ مِنْ حَدِيث كَعْبٍ أَيْضًا وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي طَلحَةَ.
القاعدة الثالثة عشر
القَاعِدَةُ الثَّالثَةَ عَشْرَةَ:إذَا وَجَدْنَا أَثَرًا مَعْلولاً لعِلةٍ وَوَجَدْنَا فِي مَحَلّهِ عِلةً صَالحَةً لهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الأَثَرُ مَعْلولاً لغَيْرِهَا لكِنْ لا يَتَحَقَّقُ وُجُودُ غَيْرِهَا، فَهَل يُحَال ذَلكَ الأَثَرُ عَلى تِلكَ العِلةِ المَعْلومَةِ أَمْ لا؟ فِي المَسْأَلةِ خِلافٌ وَلهَا صُوَرٌ كَثِيرَةٌ قَدْ يَقْوَى فِي بَعْضِهَا الإِحَالةُ وَفِي بَعْضِهَا العَدَمُ؛ لأَنَّ الأَصْل أَنْ لا عِلةَ سِوَى هَذِهِ المُتَحَقِّقَةِ وَقَدْ يَظْهَرُ فِي بَعْضِ المَسَائِل الإِحَالةُ عَليْهَا فَيَتَوَافَقُ الأَصْل الظَّاهِرُ، وَقَدْ يَظْهَرُ الإِحَالةُ عَلى غَيْرِهَا فَيَخْتَلفَانِ.
فَمِنْ صُوَرِ المَسْأَلةِ: مَا إذَا وَقَعَ فِي المَاءِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مُتَغَيِّرًا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِنَجَاسَتِهِ عِنْدَ الأَصْحَابِ إحَالةً للتَّغْيِيرِ عَلى النَّجَاسَةِ المَعْلومِ وقوعها فِيهِ، وَالأَصْل عَدَمُ وُجُودِ مُغَيِّرٍ غَيْرِهَا وَخَرَّجَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ فِيهِ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ طَاهِرٌ مِنْ مَسْأَلةِ الصَّيْدِ الآتِيَةِ وَالأُول أَوْلى لأَنَّ الأَصْل طَهَارَةُ المَاءِ فَلا يُزَال عَنْهَا بِالشَّكِّ.
ومنها: مَا إذَا وُجِدَ مِنْ النَّائِمِ قَبْل نَوْمِهِ سَبَبٌ يَقْتَضِي خُرُوجَ المَذْيِ مِنْهُ مِنْ تَفَكيرٍ أَوْ مُلاعَبَةٍ
وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ نَامَ وَاسْتَيْقَظَ وَوَجَدَ بَللاً لمْ يَتَيَقَّنْهُ مَنِيًّا وَلمْ يَذْكُرْ حُلمًا فَإِنَّ المَنْصُوصَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ لا غُسْل عَليْهِ إحَالةً للخَارِجِ عَلى السَّبَبِ المُتَيَقَّنِ وَهُوَ المُقْتَضِي لخُرُوجِ المَذْيِ لأَنَّ الأَصْل عَدَمُ وُجُودِ غَيْرِهِ وَقَدْ تَيَقَّنَ وُجُودَهُ وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ رِوَايَةً أُخْرَى بِوُجُوبِ الغُسْل.
ومنها: لوْ جَرَحَ صَيْدًا جُرْحًا غَيْرَ مُوَحٍّ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ وَوَجَدَهُ مَيْتًا وَلا أَثَرَ فِيهِ غَيْرُ سَهْمِهِ فَهَل يَحِل أَكْلهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّهُ يَحِل لحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
وَالثَّانِيَة: لا يَحِل لقَوْل ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كُل مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ وَلذَلكَ تُسَمَّى مَسْأَلةَ الإِصْمَاءِ وَالإِنْمَاءِ، وَفِيهِ رِوَايَةٌ ثَالثَةٌ: إنْ غَابَ عَنْهُ ليْلةً لمْ يَحِل وَإِلا حَل وَفِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ وَفِيهِ ضَعْفٌ، وَعُلل بِأَنَّ هَوَامَّ الليْل كَثِيرَةٌ فَكَأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا وَهُوَ وُجُودُ سَبَبٍ آخَرَ حَصَل مِنْهُ الزُّهُوقُ قَوِيٌّ عَلى الأَصْل وَهُوَ عَدَمُ إصَابَةِ غَيْرِ السَّهْمِ لهُ.
ومنها: لوْ جَرَحَ المُحْرِمُ صَيْدًا جُرْحًا غَيْرَ مُوَحٍّ ثُمَّ غَابَ عَنْهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَيْتًا فَهَل يَضْمَنُهُ كُلهُ أَوْ أَرْشَ الجُرْحِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ وَجَزَمَ بَعْضُ الأَصْحَابِ بِضَمَانِ أَرْشِ الجُرْحِ فَقَطْ لأَنَّهُ المُتَيَقَّنُ وَالأَصْل بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ.
ومنها: لوْ جَرَحَ آدَمِيًّا مَعْصُومًا جُرْحًا غَيْرَ مُوحٍّ ثُمَّ مَاتَ وَادَّعَى أَنَّهُ مَاتَ بِسَبَبٍ غَيْرِ سِرَايَةِ جُرْحِهِ وَأَنْكَرَ الوَليُّ فَالقَوْل قَوْل الوَليِّ مَعَ يَمِينِهِ وَلمْ يَحْكِ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ فِي ذَلكَ خِلافًا إحَالةً للزُّهُوقِ عَلى الجُرْحِ المَعْلومِ، وَفِي المُجَرَّدِ أَنَّهُ إنْ مَاتَ عَقِيبَ الجُرْحِ فَالقَوْل قَوْل الوَليِّ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مُدَّةٍ يَنْدَمِل الجُرْحُ فِي مِثْلهَا.
فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ بِأَنَّهُ لمْ يَزَل ضِمْنًا مِنْ الجُرْحِ حَتَّى مَاتَ فَكَذَلكَ, وَإِلا فَالقَوْل قَوْل الجَانِي وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرَ أَنَّ القَوْل قَوْل الوَليِّ.
ومنها: لوْ قَال لأَمَتِهِ وَلهَا وَلدٌ هَذَا الوَلدُ مِنِّي، فَهَل يَثْبُتُ بِذَلكَ اسْتِيلادُ الأَمَةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: نَعَمْ لأَنَّا لا نَعْلمُ سَبَبًا يَتَحَقَّقُ بِهِ لحُوقُ النَّسَبِ [هُنَا] غَيْرَ مِلكِ اليَمِينِ فَيُحَال اللحُوقُ عَليْهِ فَيَسْتَلزِمُ ذَلكَ ثُبُوتَ الاسْتِيلادِ فِي الأَمَةِ.
وَالثَّانِي: لا لاحْتِمَال اسْتِيلادِهِ قَبْل ذَلكَ فِي نِكَاحٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ.
ومنها: لوْ ادَّعَى رِقَّ مَجْهُول النَّسَبَ فَشَهِدَتْ لهُ بَيِّنَةٌ أَنَّ أَمَتَهُ وَلدَتْهُ وَلمْ تَقُل فِي مِلكِهِ فَهَل يُحْكَمُ لهُ بِهِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ: رَجَّحَ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ أَنَّهَا إنْ شَهِدَتْ أَنَّ أَمَتَهُ وَلدَتْهُ وَنَحْوَ ذَلكَ مِمَّا فِيهِ إضَافَةُ الوَلدِ إلى الأَمَة المُضَافَةِ إليْهِ حُكِمَ لهُ بِالوَلدِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ كَذَلكَ بِأَنْ شَهِدَتْ أَنَّ هَذَا وَلدُ هَذِهِ
الأَمَةِ وَأَنَّ أُمَّهُ مِلكٌ لهُ لمْ يُحْكَمْ لهُ بِالوَلدِ
ومنها: لوْ قَال رَجُلٌ: هَذَا ابْنِي مِنْ زَوْجَتِي وَادَّعَتْ زَوْجَتُهُ ذَلكَ وَادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أُخْرَى فَهُوَ ابْنُ الرَّجُل وَهَل تُرَجَّحُ زَوْجَتُهُ عَلى الأُخْرَى؟ عَلى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تُرَجَّحُ لأَنَّ زَوْجَهَا أَبُوهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا أُمُّهُ.
وَالثَّانِي: يَتَسَاوَيَانِ لأَنَّ كُل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا لوْ انْفَرَدَتْ لأُلحِقَ بِهَا فَإِذَا اجْتَمَعَتَا تَسَاوَتَا [ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي].
ومنها: لوْ بَاعَ أَمَةً لهُ مِنْ رَجُلٍ فَوَلدَتْ عِنْدَ المُشْتَرِي فَادَّعَى البَائِعُ أَنَّهُ وَلدُهُ فَصَدَّقَهُ المُشْتَرِي أَنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلدٍ للبَائِعِ وَيَنْفَسِخُ البَيْعُ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا وَذَكَره أَبُو بَكْرٍ وَذَكَرَ ذَلكَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَتَأَوَّلهُ عَلى أَنَّهُ ادَّعَى أَنَّهَا وَلدَتْ فِي مِلكِهِ وَصَدَّقَهُ المُشْتَرِي عَلى ذَلكَ.
ومنها: لوْ وَلدَتْ المُطَلقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَلدًا لا يُمْكِنُ إلحَاقُهُ بِالمُطَلقِ إلا بِتَقْدِيرِ وَطْءٍ حَاصِلٍ مِنْهُ فِي زَمَنِ العِدَّةِ، فَهَل يَلحَقُ بِهِ الوَلدُ فِي هَذِهِ الحَال أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ أَصَحُّهُمَا لحُوقُهُ لأَنَّ الفِرَاشَ لمْ يَزُل بِالكُليَّةِ فَإِحَالةُ الحَمْل عَليْهِ أَوْلى كَحَالةِ صُلبِ النِّكَاحِ وَعَلى هَذَا فَهَل يُحْكَمُ بِارْتِجَاعِهَا بِلحُوقِ النَّسَبِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ: أَصَحُّهُمَا وَهُوَ المَنْصُوصُ أَنَّهَا [تَصِيرُ] مُرْتَجَعَةً بِذَلكَ وَيَنْبَنِي عَلى ذَلكَ مَسْأَلةٌ مُشْكِلةٌ فِي تَعْليقِ الطَّلاقِ بِالوِلادَةِ ذَكَرَهَا صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِيهِ, وَأَمَّا شَكْل تَوْجِيهِهَا عَلى الأَصْحَابِ فَقَدْ أَفْرَدْنَا لهَا جُزْءًا.
ومنها: أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الحَقِّ مِنْ مَال الغَرِيمِ إذَا كَانَ ثمَّ سَبَبٌ ظَاهِرٌ يُحَال الأَخْذُ عَليْهِ وَلا يَجُوزُ إذَا كَانَ السَّبَبُ خَفِيًّا، هَذَا هُوَ ظَاهِرُ المَذْهَبِ فَيُبَاحُ للمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَال زَوْجِهَا نَفَقَتَهَا وَنَفَقَةَ وَلدِهَا بِالمَعْرُوفِ وَللضَّيْفِ إذَا نَزَل بِالقَوْمِ فَلمْ يُقْرُوهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَمْوَالهِمْ بِقَدْرِ قِرَاهُ بِالمَعْرُوفِ لأَنَّ السَّبَبَ إذَا ظَهَرَ لمْ يُنْسَبْ أَخْذُهُ إلى خِيَانَةٍ بَل يُحَال أَخْذُهُ عَلى السَّبَبِ الظَّاهِرِ بِخِلافِ مَا إذَا خَفِيَ فَإِنَّهُ يُنْسَبُ بِالأَخْذِ إلى الخِيَانَةِ.
ومنها: لوْ قَال فِي مَرَضِهِ أَنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا فَسَالمٌ حُرّ وَإِنْ بَرِئْت مِنْهُ فَغَانِمٌ حُرٌّ ثُمَّ مَاتَ وَلمْ يُعْلمْ هَل مَاتَ مِنْ المَرَضِ أَوْ بَرِئَ مِنْهُ فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُعْتَقُ سَالمٌ لأَنَّ الأَصْل دَوَامُ المَرَضِ وَعَدَمُ البُرْءِ وَلأَنَّنَا قَدْ تَحَقَّقْنَا انْعِقَادَ سَبَبِ المَوْتِ بِمَرَضِهِ وَشَكَكْنَا فِي حُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ فَيُحَال المَوْتُ عَلى سَبَبِهِ المَعْلومِ.
وَالثَّانِي: يُعْتَقُ أَحَدُهُمَا بِالقُرْعَةِ لأَنَّ أَحَدَ الشَّرْطَيْنِ وُجِدَ ظَاهِرًا وَجُهِل عَيْنُهُ.
وَالثَّالثُ: لا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لاحْتِمَال أَنْ يَكُونَ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلكَ بِسَبَبِ حَادِثٍ فِيهِ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلمْ يَمُتْ مِنْ مَرَضِهِ وَلمْ يَبْرَأْ مِنْهُ فَلمْ يَتَحَقَّقْ وُجُودُ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرْطَيْنِ.
ومنها: لوْ أَصْدَقَهَا تَعْليمَ سُورَةٍ مِنْ القُرْآنِ ثُمَّ طَلقَهَا وَوُجِدَتْ حَافِظَةً لهَا وَتَنَازَعَا هَل عَلمَهَا الزَّوْجُ فَبَرِئَ مِنْ الصَّدَاقِ أَمْ لا؟ فَأَيُّهُمَا يُقْبَل قَوْلهُ.
فِيهِ وَجْهَانِ, وَخَرَّجَ عَليْهِمَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ مَسْأَلةَ اخْتِلافِهِمَا فِي النَّفَقَةِ وَالكِسْوَةِ مُدَّةَ مُقَامِهَا عِنْدَ الزَّوْجِ هَل كَانَتْ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْهَا؟
ومنها: لوْ ادَّعَى صَاحِبُ الزَّرْعِ أَنَّ غَنَمَ فُلانٍ نَفَشَتْ فِيهِ ليْلاً وَوُجِدَ فِي الزَّرْعِ أَثَرُ غَنَمِهِ.
قَضَى بِالضَّمَانِ عَلى صَاحِبِ الغَنَمِ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَجَعَل الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ مِنْ القِيَافَةِ فِي الأَمْوَال وَجَعَلهَا مُعْتَبَرَةً كَالقِيَافَةِ فِي الأَنْسَابِ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْه آخَرُ أَنَّهُ لا يُكْتَفَى بِذَلكَ.
ومنها: لوْ تَزَوَّجَ بِكْرًا فَادَّعَتْ أَنَّهُ عِنِّينٌ فَكَذَّبَهَا وَادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهَا وَظَهَرَتْ ثَيِّبًا فَادَّعَتْ أَنَّ ثُيُوبَتَهَا بِسَبَبٍ آخَرَ فَالقَوْل قَوْل الزَّوْجِ، ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ مِنْ المَسَائِل المُتَقَدِّمَةِ.
ومنها: اللوَثُ فِي القَسَامَةِ وَمَسَائِلهُ مَعْرُوفَةٌ.
القاعدة الرابعة عشر
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشَرَ:إذَا وُجِدَ سَبَبُ إيجَابٍ أَوْ تَحْرِيمٍ مِنْ أَحَدِ رَجُليْنِ لا يُعْلمُ عَيْنُهُ مِنْهُمَا، فَهَل يَلحَقُ الحُكْمُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ لا يَلحَقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ, فِي المَسْأَلةِ خِلافٌ وَلهَا صُوَرٌ:
إحْدَاهَا: إذَا وَجَدَ اثْنَانِ مَنِيًّا فِي ثَوْبٍ يَنَامَانِ فِيهِ أَوْ سَمِعَا صَوْتًا خَارِجًا وَلمْ يُعْلمْ مِنْ أَيِّهِمَا هُوَ فَفِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: لا يَلزَمُ وَاحِدًا مِنْهُمَا غُسْلٌ وَلا وُضُوءٌ نَظَرًا إلى أَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَيَقِّنٌ للطَّهَارَةِ شَاكّ فِي الحَدَثِ.
وَالثَّانِيَةُ: يَلزَمُهُمَا الغُسْل وَالوُضُوءُ لأَنَّ الأَصْل زَال يَقِينًا فِي أَحَدِهِمَا فَتَعَذَّرَ البَقَاءُ عَليْهِ وَتَعَيَّنَ الاحْتِيَاطُ وَلمْ يُلتَفَتْ إلى النَّظَرِ فِي كُل وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ كَثَوْبَيْنِ أَوْ إنَاءَيْنِ نَجِسَ أَحَدُهُمَا.
الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: قَال أَحَدُ الرَّجُليْنِ: إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالقٌ، وَقَال الآخَرُ إنْ لمْ يَكُنْ غُرَابًا فَامْرَأَتِي طَالقٌ وَغَابَ وَلمْ يُعْلمْ مَا هُوَ.
فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَأَبُو الخَطَّابِ وَغَيْرُهُمَا: يَبْقى كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلى يَقِينٍ نِكَاحَهُ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الشِّيرَازِيِّ فِي الإِيضَاحِ وَابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ تَخْرُجُ المُطَلقَةُ مِنْهُمَا بِالقُرْعَةِ.
وَقَال القَاضِي فِي الجَامِعِ: هُوَ قِيَاسُ المَذْهَبِ لأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُمَا طَلقَتْ يَقِينًا فَأُخْرِجَتْ بِالقُرْعَةِ كَمَا لوْ كَانَتْ الزَّوْجَتَانِ لرَجُلٍ وَاحِدٍ وَذَكَرَ بَعْضُ الأَصْحَابِ احْتِمَالاً يَقْتَضِي وُقُوعَ الطَّلاقِ بِهِمَا حُكْمًا كَمَا تَجِبُ الطَّهَارَةُ عَليْهِمَا فِي المَسْأَلةِ الأُولى وَقَدْ أَوْمَأَ إليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ، وَحَكَى لهُ قَوْل الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ قَال لآخَرَ: إنَّك لحَسُودٌ فَقَال لهُ الآخَرُ: أَحَسَدنَا امْرَأَتُهُ طَالقٌ ثَلاثًا فَقَال الآخَرُ: نَعَمْ، قَال الشَّعْبِيُّ: حَنِثْتُمَا وَخَسِرْتُمَا وَبَانَتْ مِنْكُمَا امْرَأَتَاكُمَا جَمِيعًا وَحَكَى لهُ قَوْل الحَارِثِ أَدَينُهُمَا وَآمُرُهُمَا بِتَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَل وَأَقُول: أَنْتُم أَعْلمُ بِمَا حَلفْتُمَا عَليْهِ. فَقَال أَحْمَدُ: هَذَا شَيْءٌ لا يُدْرَكُ أَلقَاهُمَا فِي التَّهْلكَةِ فَإِنْكَارُهُ لقَوْل الحَارِثِ يَدُل عَلى مُوَافَقَتِهِ لقَوْل الشَّعْبِيِّ بِوُقُوعِ الطَّلاقِ فِيهِمَا.
هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ وَقَال: هُوَ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ حَلفَ عَلى مَا لمْ يَعْلمْ صِحَّتَهُ أَوْ مَا لا تُدْرَكُ صِحَّتُهُ فَيَحْنَثُ كَقَوْل مَالكٍ.
وَيَدُل عَليْهِ تَعْليل أَحْمَدَ وُقُوعُ الطَّلاقِ عَلى مَنْ قَال أَنْتِ طَالقٌ إنْ شَاءَ اللهُ, بِأَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ لا تُدْرَكُ وَهَذَا القَوْل فِيهِ بُعْدٌ لأَنَّ إيقَاعَ طَلاقِهِمَا يُفْضِي إلى أَنْ يُبَاحَ للأَزْوَاجِ مَنْ هِيَ فِي زَوْجِيَّةِ الغَيْرِ بَاطِنًا، وَفِي إجْبَارِهِمَا عَلى تَجْدِيدِ الطَّلاقِ إجْبَارُ الإِنْسَانِ عَلى قَطْعِ مِلكِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ ضَرَرٌ بِخِلافِ إيجَابِ الطَّهَارَةِ عَليْهِمَا فَإِنَّهُ لا ضَرَرَ فِيهِ, وَلنَا وَجْهٌ آخَرُ بِوُجُوبِ اعْتِزَال كُلٍّ مِنْهُمَا زَوْجَتَهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ الأَمْرَ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ, وَنَقَل حَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ ذَكَرَ هَذِهِ المَسْأَلةَ فَتَوَقَّفَ فِيهَا وَقَال أَحَبُّ إليَّ أَنْ لا أَقُول فِيهَا شَيْئًا وَتَوَقَّفَ عَنْهَا.
الصُّورَةُ الثَّالثَةُ: قَال أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ غُرَابًا فَأَمَتِي حُرَّةٌ وَقَال الآخَرُ إنْ لمْ يَكُنْ غُرَابًا فَأَمَتِي حُرَّةٌ وَفِيهَا الوَجْهَانِ المَذْكُورَانِ فِي الطَّلاقِ، وَقِيَاسُ المَنْصُوصِ هَهُنَا أَنْ يَكُفَّ كُل وَاحِدٍ عَنْ وَطْءِ أَمَتِهِ حَتَّى يَتَيَقَّنَ فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا أَمَةَ الآخَرِ عيَّنَ المُعْتَقَةَ مِنْهُمَا بِالقُرْعَةِ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ لاجْتِمَاعِهِمَا فِي مِلكِهِ وَإِحْدَاهُمَا عَتِيقَةٌ كَمَا قُلنَا لا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ أَحَدَهُمَا بِالآخَرِ فِي الصُّورَةِ الأُولى لأَنَّ أَحَدَهُمَا مُحْدِثٌ يَقِينًا فَيُنْظَرُ إليْهِمَا مُجْتَمِعَيْنِ فِي حُكْمٍ يَتَعَلقُ بِاجْتِمَاعِهِمَا.
وَليْسَ مِنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ إذَا وَطِئَ اثْنَانِ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ فِي طُهْرٍ وَأَتَتْ بِوَلدٍ وَضَاعَ نَسَبُهُ لفَقْدِ القَافَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلكَ وَأَرْضَعَتْ أُمُّهُ بِلبَنِهِ وَلدًا آخَرَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ حُكْمُ كُلٍّ مِنْ الصَّغِيرَيْنِ حُكْمَ وَلدٍ لكُل وَاحِدٍ مِنْ الرَّجُليْنِ عَلى الصَّحِيحِ لأَنَّهُ لمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكُونَ الوَلدُ لوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَل يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ لهُمَا فَليْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ.
القاعدة الخامسة عشر
القَاعِدَةُ الخَامِسَةَ عَشَر:إذَا اسْتَصْحَبْنَا أَصْلاً وَأَعْمَلنَا ظَاهِرًا فِي طَهَارَةِ شَيْءٍ أَوْ حِلهِ أَوْ حُرْمَتِهِ وَكَانَ لازِمُ ذَلكَ تَغَيُّرَ أَصْلٍ آخَرَ يَجِبُ اسْتِصْحَابُهُ أَوْ تَرْكُ العَمَل بِظَاهِرٍ آخَرَ يَجِب إعْمَالهِ لمْ يُلتَفَتْ إلى ذَلكَ اللازِمِ عَلى الصَّحِيحِ، وَلذَلكَ صُوَرٌ:
منها: إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ فَوَجَدَ فِي ثَوْبِهِ بَللاً وَقُلنَا لا يَلزَمُهُ الغُسْل عَلى مَا سَبَقَ فِيمَا إذَا تَقَدَّمَ مِنْهُ سَبَبُ المَذْي فَلا يَلزَمُهُ أَيْضًا غَسْل ثَوْبِهِ بِحَيْثُ نَقُول إنَّمَا سَقَطَ عَنْهُ الغُسْل لحُكْمِنَا بِأَنَّ البَلل مَذْيٌ بَل نَقُول فِي ثَوْبِهِ الأَصْل طَهَارَتُهُ فَلا يَنْجُسُ بِالشَّكِّ، وَالأَصْل طَهَارَةُ بَدَنِهِ فَلا يَلزَمُهُ الغُسْل بِالشَّكِّ فَيَبْقَى فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلى أَصْلهِ، ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ عَنْ الشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَيَنْبَغِي عَلى هَذَا التَّقْدِيرِ أَنْ لا تَجُوزَ لهُ الصَّلاةُ قَبْل الاغْتِسَال فِي ذَلكَ الثَّوْبِ قَبْل غَسْلهِ لأَنَّا نَتَيَقَّنُ وُجُودَ المُفْسِدِ للصَّلاةِ لا مَحَالةَ.
ومنها: إذَا لبِسَ خُفًّا ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ صَلى وَشَكَّ هَل مَسَحَ عَلى الخُفِّ قَبْل الصَّلاةِ أَوْ بَعْدَهَا؟ وَقُلنَا ابْتِدَاءُ المُدَّةِ مِنْ المَسْحِ جَعَلنَا ابْتِدَاءَهَا قَبْل الصَّلاةِ وَأَوْجَبْنَا إعَادَةَ الصَّلاةِ لأَنَّ الأَصْل وُجُوبُ غَسْل الرِّجْليْنِ وَالأَصْل بَقَاءُ الصَّلاةِ فِي الذِّمَّةِ.
ومنها: إذَا رَمَى حَيَوَانًا مَأْكُولاً بِسَهْمٍ وَلمْ يُوَحِّهِ فَوَقَعَ فِي مَاءٍ يَسِيرٍ فَوَجَدَهُ مَيْتًا فِيهِ فَإِنَّ الحَيَوَانَ لا يُبَاحُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ المَاءُ أَعَانَ عَلى قَتْلهِ وَالأَصْل تَحْرِيمُهُ حَتَّى يَتَيَقَّنَ وُجُودَ السَّبَبِ المُبِيحِ لهُ وَلا يَلزَمُ مِنْ ذَلكَ نَجَاسَةُ المَاءِ أَيْضًا لحُكْمِنَا عَلى الصَّيْدِ بِأَنَّهُ مَيْتَةِ، بَل يُسْتَصْحَبُ فِي المَاءِ أَصْل الطَّهَارَةِ فَلا يُنَجِّسُهُ بِالشَّكِّ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُصُولهِ
ومنها: لوْ قَال لامْرَأَتِهِ فِي غَضَبٍ اعْتَدِّي وَظَهَرَتْ مِنْهُ قَرَائِنُ تَدُل عَلى إرَادَتِهِ التَّعْرِيضَ بِالقَذْفِ أَوْ فَسَّرَهُ بِالقَذْفِ فَإِنَّهُ يَقَعُ بِهِ الطَّلاقُ لأَنَّهُ كِنَايَةٌ اقْتَرَنَ بِهَا غَضَبٌ وَهَل يُحَدُّ مَعَهَا؟ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي المُفْرَدَاتِ احْتِمَاليْنِ.
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ جَزَمَ فِي عُمَدِ الأَدِلةِ أَنَّهُ يُحَدُّ؛ لأَنَّهُمَا حَقَّانِ عَليْهِ فَلا يُصَدَّقُ فِيمَا يسقط وحداً مِنْهُمَا.
وَالثَّانِي: لا يُحَدُّ لأَنَّهُ لوْ كَانَ قَذْفًا لمْ يَكُنْ طَلاقًا لتَنَافِيهِمَا وَمِنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ الأَحْكَامُ التِي يَثْبُتُ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ كَإِرْثِ الذِي أَقَرَّ بِنَسَبِهِ مَنْ لا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِقَوْلهِ وَالحُكْمُ بِلحُوقِ النَّسَبِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ لا يَثْبُتُ فِيهَا لوَازِمُهُ المَشْكُوكُ فِيهَا مِنْ بُلوغِ أَحَدِ أَبَوَيْهِ وَاسْتِقْرَارِ المَهْرِ أَوْ ثُبُوتِ العِدَّةِ وَالرَّجْعَةِ أَوْ الحَدِّ أَوْ ثُبُوتِ الوَصِيَّةِ لهُ أَوْ المِيرَاثِ وَهِيَ مَسَائِل كَثِيرَةٌ.
القاعدة السادسة عشر
القَاعِدَةُ السَّادِسَةَ عَشَرَ:إذَا كَانَ للوَاجِبِ بَدَلٌ فَتَعَذَّرَ الوُصُول إلى الأَصْل حَالةَ الوُجُوبِ، فَهَل يَتَعَلقُ الوُجُوبُ بِالبَدَل تَعَلقًا مُسْتَقِرًّا بِحَيْثُ لا يَعُودُ إلى الأَصْل عِنْدَ وُجُودِهِ؟ للمَسْأَلةِ صُوَرٌ عَدِيدَةٌ:
منها: هَدْيُ المُتْعَةِ إذَا عَدِمَهُ وَوَجَبَ الصِّيَامُ عَليْهِ ثُمَّ وَجَدَ الهَدْيَ قَبْل الشُّرُوعِ فِيهِ، فَهَل يَجِبُ
عَليْهِ الانْتِقَال أَمْ لا؟ يَنْبَنِي عَلى أن الاعْتِبَارِ فِي الكَفَّارَاتِ بِحَال الوُجُوبِ أَوْ بِحَال الفِعْل, وفِيهِ رِوَايَتَانِ. فَإِنْ قُلنَا بِحَال الوُجُوبِ صَارَ الصَّوْمُ أَصْلاً لا بَدَلاً وَعَلى هَذَا فَهَل يُجْزِئُهُ فِعْل الأَصْل وَهُوَ الهَدْيُ؟ المَشْهُورُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ لأَنَّهُ الأَصْل فِي الجُمْلةِ وَإِنَّمَا سَقَطَ رُخْصَةً، وَحَكَى القَاضِي فِي شَرْحِ المَذْهَبِ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّهُ لا يُجْزِئُهُ.
ومنها: كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَاليَمِينِ وَنَحْوِهِمَا وَالحُكْمُ فِيهِمَا كَهَدْيِ المُتْعَةِ.
ومنها: إذَا أَتْلفَ شَيْئًا لهُ مِثْلٌ وَتَعَذَّرَ وُجُودُ المِثْل وَحَكَمَ الحَاكِمُ بِأَدَاءِ القِيمَةِ ثُمَّ وَجَدَ المِثْل قَبْل الأَدَاءِ وَجَبَ أَدَاءُ المِثْل ذَكَرَهُ الأَصْحَابُ لأَنَّهُ قَدَرَ عَلى الأَصْل قَبْل أَدَاءِ البَدَل فَيَلزَمُهُ كَمَا إذَا وَجَدَ المَاءَ قَبْل الصَّلاةِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل كَلامُهُمْ عَلى مَا إذَا قَدَرَ عَلى المِثْل عِنْدَ الإِتْلافِ ثُمَّ عَدِمَهُ إمَّا إنْ عَدِمَهُ ابْتِدَاءً فَلا يَبْعُد أَنْ يَخْرُجَ فِي وُجُوبِ أَدَاءِ المِثْل خِلافٌ، وَأَمَّا التَّيَمُّمُ فَلا يُشْبِهُ مَا نَحْنُ فِيهِ لأَنَّهُ لوْ وَجَدَ المَاءَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْهُ لبَطَل وَوَجَبَ اسْتِعْمَال المَاءِ بِنَصِّ الشَّارِعِ وَهَاهُنَا لوْ أَدَّى القِيمَةَ لبَرِئَ وَلمْ يَلزَمْهُ أَدَاءُ المِثْل بَعْدَ وُجُودِهِ.
وَقَال فِي التَّلخِيصِ: عَلى الأَظْهَرِ وَهُوَ يَشْعُرُ بِخِلافٍ فِيهِ.
ومنها: لوْ جَعَل الإِمَامُ لمَنْ دَلهُ عَلى حِصْنِ جَارِيَةٍ مِنْ أَهْلهِ فَأَسْلمَتْ بَعْدَ الفَتْحِ أَوْ قَبْلهُ وَكَانَتْ أَمَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ لهُ قِيمَتُهَا إذَا كَانَ كَافِرًا لأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْليمُ عَيْنِهَا إليْهِ فَوَجَبَ لهُ البَدَل فَإِنْ أَسْلمَ بَعْدَ إسْلامِهَا، فَهَل يَعُودُ حَقُّهُ إلى عَيْنِهَا فِيهِ؟ لأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ.
أَحَدُهُمَا: لا يَعُودُ لأَنَّ حَقَّهُ اسْتَقَرَّ فِي القِيمَةِ فَلا يَنْتَقِل إلى غَيْرِهَا.
وَالثَّانِي: بَلى لأَنَّهُ إنَّمَا اُنْتُقِل إلى القِيمَةِ لمَانِعٍ وَقَدْ زَال فَيَعُودُ حَقُّهُ إليْهَا.
ومنها: لوْ أَصْدَقَهَا شَجَرًا فَأَثْمَرَتْ ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول وَامْتَنَعَتْ مِنْ دَفْعِ نِصْفِ الثَّمَرَةِ مَعَ الأَصْل تَعَيَّنَتْ لهُ القِيمَةُ. فَإِنْ قَال أَنَا أَرْجِعُ فِي نِصْفِ الشَّجَرَةِ وَأَتْرُكُ الثَّمَرَةَ عَليْهَا أَوْ أَتْرُكُ الرُّجُوعَ حَتَّى تَجُدِّي ثَمَرَتَك ثُمَّ أَرْجِعُ فِيهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي وَغَيْرُهُ.
أَحَدُهُمَا: لا يُجْبَرُ عَلى قَبُول ذَلكَ وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ لأَنَّ الحَقَّ قَدْ انْتَقَل مِنْ العَيْنِ فَلمْ يَعُدْ إليْهَا إلا بِتَرَاضِيهِمَا.
وَالثَّانِي: يُجْبَرُ عَليْهِ لأَنَّهُ لا ضَرَرَ عَليْهَا فَلزِمَهَا كَمَا لوْ وَجَدَهَا نَاقِصَةً فَرَضِيَ بِهَا فَعَلى هَذَا الحَقُّ بَاقٍ فِي العَيْنِ لبقائها فِي مِلكِهَا, وَكَذَلكَ ذَكَرَ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ المُجَرَّدِ أَنَّهُ إذَا لمْ يَأْخُذْ القِيمَةَ حَتَّى قُطِعَ الطَّلعُ وَعَادَ النَّخْل كَمَا كَانَ أَنَّ للزَّوْجِ الرُّجُوعَ فِي نِصْفِهِ.
ومنها: لوْ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول وَقَدْ بَاعَتْ الصَّدَاقَ فَلمْ يَأْخُذْ نِصْفَ قِيمَتِهِ حَتَّى فُسِخَ البَيْعُ لعَيْبٍ.
قَال الأَصْحَابُ: ليْسَ لهُ أَخْذُ نِصْفِهِ لأَنَّ حَقَّهُ وَجَبَ فِي القِيمَةِ وَلمْ تَكُنْ العَيْنُ وقتئذٍ فِي مِلكِهِمَا وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَخْرُجَ فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ بِالرُّجُوعِ كَالتِي قَبْلهَا وَهَذَا إذَا لمْ نَقُل إنَّهُ يَدْخُل فِي مِلكِهِ قَهْرًا كَالمِيرَاثِ فَإِنْ قُلنَا يَدْخُل قَهْرًا عَادَ حَقُّهُ إلى العَيْنِ بِعَوْدِهَا إليْهَا وَلا يُقَال هَذَا عَادَ إليْهَا مِلكًا
جَدِيدًا فَلا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ فِيهِ كَمَا لا يَسْتَحِقُّ الأَبُ الرُّجُوعَ فِيمَا خَرَجَ عَنْ مِلكِ الابْنِ ثُمَّ عَادَ، لأَنَّهُمْ قَالوا: لوْ عَادَ إليْهَا قَبْل الطَّلاقِ لرَجَعَ فِيهِ بِغَيْرِ خِلافٍ لأَنَّ حَقَّهُ فِيهِ ثَابِتٌ بِالقُرْآنِ.
وَفِي شَرْحِ الهِدَايَةِ لأَبِي البَرَكَاتِ مَا يَدُل عَلى عَكْسِ مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ إنَّا إنْ قُلنَا: يَدْخُل نِصْفُ المَهْرِ فِي مِلكِ الزَّوْجِ قَهْرًا فَليْسَ لهُ العَوْدُ إلى عَيْنِهِ بِحَالٍ نَظَرًا إلى أَنَّ القِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ العَيْنِ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرُّجُوعِ فِي العَيْنِ فَيَمْلكُ نِصْفَ القِيمَةِ قَهْرًا حِينَئِذٍ، وَلا يَنْتَقِل حَقُّهُ عَنْهَا بَعْدَ ذَلكَ
ومنها: لوْ اشْتَرَى عَيْنًا وَرَهَنَهَا أَوْ تَعَلقَ بِهَا حَقُّ شُفْعَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ ثُمَّ أَفْلسَ ثُمَّ أَسْقَطَ المُرْتَهِنُ أَوْ الشَّفِيعُ أَوْ المَجْنِيُّ عَليْهِ حَقَّهُ فَالبَائِعُ أَحَقُّ بِهَا مِنْ الغُرَمَاءِ لزَوَال المُزَاحَمَةِ عَلى ظَاهِرِ كَلامِ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ، ذَكَرَهُ أَبُو البَرَكَاتِ فِي شَرْحِهِ، وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ آخر أَنَّهُ أُسْوَةُ الغُرَمَاءِ.
القاعدة السابعة عشر
القَاعِدَةُ السَّابِعَةَ عَشَرَ:إذَا تَقَابَل عَمَلانِ أَحَدُهُمَا ذُو شَرَفٍ فِي نَفْسِهِ وَرِفْعَةٍ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالآخَرُ ذُو تَعَدُّدٍ فِي نَفْسِهِ وَكَثْرَةٍ، فَأَيُّهُمَا يُرَجَّحُ؟ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ تَرْجِيحُ الكَثْرَةِ وَلذَلكَ صُوَرٌ:
أَحَدُهَا: إذَا تَعَارَضَ صَلاةُ رَكْعَتَيْنِ طَوِيلتَيْنِ وَصَلاةُ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ فَالمَشْهُورُ أَنَّ الكَثْرَةَ أَفْضَل، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِالعَكْسِ وَحُكِيَ عَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالثَةٌ بِالتَّسْوِيَةِ.
وَالثَّانِيَة: إهْدَاء بَدَنَةٍ سَمِينَةٍ بِعَشَرَةٍ وَبَدَنَتَيْنِ بِعَشَرَةٍ أَوْ بِأَقَل قَال ابْنُ مَنْصُورٍ قُلت لأَحْمَدَ: بَدَنَتَانِ سَمِينَتَانِ بِتِسْعَةٍ وَبَدَنَةٌ بِعَشَرَةٍ قَال: ثِنْتَانِ أَعْجَبُ إليَّ.
وَرَجَّحَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ تَفْضِيل البَدَنَةِ السَّمِينَةِ، وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد حَدِيثٌ يَدُل عَليْهِ.
وَالثَّالثَةُ: رَجُلٌ قَرَأَ بِتَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ سُورَةً وَآخَرُ قَرَأَ فِي تِلكَ المُدَّةِ سُوَرًا عَدِيدَةً سَرْدًا.
قَال أَحْمَدُ بْنِ أَبِي قيماز وَسُئِل: أَيُّمَا أَحَبُّ إليْكَ التَّرَسُّل أَوْ الإِسْرَاعُ، قَال: أَليْسَ قَدْ جَاءَ بِكُل حَرْفٍ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً؟ قَالوا لهُ: فِي السُّرْعَةِ؟ قَال: إذَا صَوَّرَ الحَرْفَ بِلسَانِهِ وَلمْ يُسْقِطْ مِنْ الهِجَاءِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ الكَثْرَةِ عَلى التَّدَبُّرِ، وَنَقَل عَنْهُ حَرْبٌ أَنَّهُ كَرِهَ السُّرْعَةَ إلا أَنْ يَكُونَ لسَانُهُ كَذَلكَ لا يَقْدِرُ أَنْ يَتَرَسَّل، وَحَمَل القَاضِي الكَرَاهَةَ عَلى مَا إذَا لمْ يُبَيِّنْ الحُرُوفَ، نَقَل عَنْهُ مُثَنَّى بْنُ جَامِعٍ فِي رَجُلٍ أَكَل فَشَبِعَ وَأَكْثَرَ الصَّلاةَ وَالصِّيَامَ وَرَجُلٍ أَقَل الأَكْل فَقَلتْ نَوَافِلهُ وَكَانَ أَكَثَرَ فِكْرَةً أَيُّهُمَا أَفْضَل؟ فَذَكَرَ مَا جَاءَ فِي الفِكْرِ: "تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ ليْلةٍ" قَال فَرَأَيْت هَذَا عِنْدَهُ أَكْثَرَ يَعْنِي الفِكْرَ. وَهَذَا يَدُل عَلى تَفْضِيل قِرَاءَةِ التَّفَكُّر عَلى السُّرْعَةِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَهُوَ المَنْصُوصُ صَرِيحًا عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ.
وَالرَّابِعَةُ: رَجُلانِ أَحَدُهُمَا ارْتَاضَتْ نَفْسُهُ عَلى الطَّاعَةِ وَانْشَرَحَتْ بِهَا وَتَنَعَّمَتْ وَبَادَرْت إليْهَا طَوَاعِيَةً وَمَحَبَّةً، وَالآخَرُ يُجَاهِدُ نَفْسَهُ عَلى تِلكَ الطَّاعَاتِ وَيُكْرِهُهَا عَليْهَا أَيُّهُمَا أَفْضَل؟ قَال الخَلال:
كَتَبَ إليَّ يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الإِسْكَافِيُّ حَدَّثَنَا الحَسَنُ بْنُ عَليِّ بْنِ الحَسَنِ أَنَّهُ سَأَل أَبَا عَبْدِ اللهِ عَنْ الرَّجُل يُشْرَعُ لهُ وَجْهُ بِرٍّ فَيَحْمِل نَفْسَهُ عَلى الكَرَاهَةِ وَآخَرَ يُشْرَعُ لهُ فَيُسَرُّ بِذَلكَ، فَأَيُّهُمَا أَفْضَل؟ قَال: أَلمْ تَسْمَعْ النَّبِيَّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ يَقُول: "مَنْ تَعَلمَ القُرْآنَ وَهُوَ كَبِيرٌ يَشُقُّ عَليْهِ فَلهُ أَجْرَانِ" ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَرْجِيحِ المُكْرِهِ نَفْسَهُ لأَنَّ لهُ عَمَليْنِ جِهَادًا وَطَاعَةً أُخْرَى، وَلذَلكَ كَانَ لهُ أَجْرَانِ، وَهَذَا قَوْل ابْنِ عَطَاءٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي سُليْمَانَ الدراني، وَعِنْدَ الجُنَيْدِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ عُبَّادِ البَصْرَةِ أَنَّ البَاذِل لذَلكَ طَوْعًا وَمَحَبَّةً أَفْضَل وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ لأَنَّ مُقَامَهُ فِي طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ أَفْضَل مِنْ أَعْمَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَلأَنَّهُ مِنْ أَرْبَابِ المَنَازِل وَالمَقَامَاتِ وَالآخَرُ مِنْ أَرْبَابِ السلوكِ وَالبِدَايَاتِ، فَمَثَلهُمَا كَمَثَل رَجُلٍين أحدهما مُقِيمٍ بِمَكَّةَ يَشْتَغِل بِالطَّوَافِ وَالآخَرُ يَقْطَعُ المَفَاوِزَ وَالقِفَارَ فِي السَّيْرِ إلى مَكَّةَ فَعَمَلهُ أَشُقُّ وَالأَوَّل أَفْضَل وَاَللهُ أَعْلمُ
وَالخَامِسَةُ: تَعَارُضُ عِتْقِ رَقَبَةٍ نَفِيسَةٍ بِمَالٍ وَعِتْقِ رِقَابٍ مُتَعَدِّدَةٍ بِذَلكَ المَال، قَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: الرِّقَابُ أَفْضَل وَفِيهِ أَيْضًا نَظَرٌ وَقَدْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلفِ كَابْنِ عُمَرَ وَالرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمِ يَسْتَحِبُّونَ الصَّدَقَةَ بِمَا يَشْتَهُونَ مِنْ الأَطْعِمَةِ.
وَإِنْ كَانَ المِسْكِينُ يَنْتَفِعُ بِقِيمَتِهِ أَكْثَرَ، عَمَلاً بِقَوْلهِ: {لنْ تَنَالوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَهَذَا فِي العِتْقِ أَوْلى مَعَ قَوْل النَّبِيِّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: " خَيْرُ الرِّقَابِ أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلهَا وَأَغْلاهَا ثَمَنًا" وَاَللهُ أَعْلمُ.
القاعدة الثامنة عشر
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةَ عَشَرَ:إذَا اجْتَمَعَتْ عِبَادَتَانِ مِنْ جِنْسٍ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ليْسَتْ إحْدَاهُمَا مَفْعُولةً عَلى جِهَةِ القَضَاءِ وَلا عَلى طَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ للأُخْرَى فِي الوَقْتِ تَدَاخَلتْ أَفْعَالهُمَا، وَاكْتَفَى فِيهِمَا بِفِعْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ عَلى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْصُل لهُ بِالفِعْل الوَاحِدِ العِبَادَتَانِ بشَرطِ أَنْ يَنْوِيَهُمَا جَمِيعًا عَلى المَشْهُورِ وَمِنْ أَمْثِلةِ ذَلكَ مَنْ عَليْهِ حَدَثَانِ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يَكْفِيه أَفْعَال الطَّهَارَةِ الكُبْرَى إذَا نَوَى الطَّهَارَتَيْنِ بِهَا وَعَنْهُ لا يُجْزِئُهُ عَنْ الأَصْغَرِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالوُضُوءِ وَاخْتَارَ أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا إذَا أَتَى بِخَصَائِصِ الوُضُوءِ مِنْ التَّرْتِيبِ وَالمُوَالاةِ وَإِلا فَلا، وَجَزَمَ بِهِ صَاحِبُ المُبْهِجِ وَلوْ كَانَ عَادِمًا للمَاءِ فَتَيَمَّمَ تَيَمُّمًا وَاحِدًا يَنْوِي بِهِ الحَدَثَيْنِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا بِغَيْرِ خِلافٍ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا.
ومنها: القَارِنُ إذَا نَوَى الحَجَّ وَالعُمْرَةَ كَفَّاهُ لهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ وَعَنْهُ لا بُدَّ مِنْ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ كَالمُفْرِدِ، وَالقَاضِي وَأَبُو الخَطَّابِ فِي خِلافَيْهِمَا حَكَيَا هَذِهِ الرِّوَايَةَ عَلى وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّهُ لا تُجْزِئُهُ العُمْرَةُ الدَّاخِلةُ فِي ضِمْنِ الحَجِّ عَنْ عُمْرَةِ الإِسْلامِ بَل عَليْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعُمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ بِإِحْرَامٍ مُفْرَدٍ لهَا.
ومنها: إذَا نَذَرَ الحَجَّ مَنْ عَليْهِ حَجُّ الفَرْضِ ثُمَّ حَجَّ حَجَّةَ الإِسْلامِ فَهَل يُجْزِئُهُ عَنْ فَرْضِهِ وَنَذْرِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
إحْدَاهُمَا: يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ وَنَقَلهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهِيَ اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ.
وَالثَّانِيَة: لا يُجْزِئُهُ، نَقَلهَا ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللهِ وَهِيَ المَشْهُورَةُ.
وَقَدْ حَمَل بَعْضُ الأَصْحَابِ كَأَبِي الحُسَيْنِ فِي التَّمَامِ الرِّوَايَةَ الأُولى عَلى صِحَّةِ وُقُوعِ النَّذْرِ قَبْل الفَرْضِ وَفَرْضُهُمَا فِيمَا إذَا نَوَى النَّذْرَ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْهُ وَتَبْقَى عَليْهِ حَجَّةُ الإِسْلامِ وَلا يَصِحُّ ذَلكَ.
ومنها: إذَا نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ يَقْدَمُ فِيهِ فُلانٌ فَقَدِمَ فِي أَوَّل رَمَضَانَ، هَل يُجْزِئُهُ رَمَضَانُ عَنْ فَرْضِهِ وَنَذْرِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ. أَشْهَرُهُمَا عِنْدَ الأَصْحَابِ لا يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا وَالثَّانِيَة يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا نَقَلهَا المَرُّوذِيّ وَصَرَّحَ بِهَا الخِرَقِيِّ فِي كِتَابِهِ وَحَمَلهَا المُتَأَخِّرُونَ عَلى أَنَّ نَذْرَهُ لمْ يَنْعَقِدْ لمُصَادَفَتِهِ رَمَضَانَ وَلا يَخْفَى فَسَادُ هَذَا التَّأْوِيل وَعَلى رِوَايَةِ الإِجْزَاءِ فَقَال صَاحِبُ المُغْنِي لا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَهُ عَنْ فَرْضِهِ وَنَذْرِهِ وَقَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّينِ: لا يَحْتَاجُ إلى نِيَّةِ النَّذْرِ، قَال وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ وَأَحْمَدَ لأَنَّا نُقَدِّرهُ كَأَنَّهُ نَذَرَ هَذَا القَدْرَ مُنْجِزًا عِنْدَ القُدُومِ فَجَعَلهُ كَالنَّاذِرِ لصَوْمِ رَمَضَانَ لجِهَةِ الفَرْضِيَّةِ وَفِيهِ بُعْدٌ، وَلوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ مُطْلقٍ فَصَامَ رَمَضَانَ يَنْوِيَهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ يُخَرَّجُ عَلى مَسْأَلةِ الحَجِّ، ذَكَرَهُ ابْنُ الزغواني وَغَيْرُهُ.
ومنها: لوْ نَذَرَ الصَّدَقَةَ بِنِصَابٍ مِنْ المَال وَقْتَ حُلول الحَوْل، فَهَل تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ, وَعَلى القَوْل بِالوُجُوبِ فَهَل تُجْزِيه الصَّدَقَةُ عَنْ النَّذْرِ وَالزَّكَاةِ إذَا نَوَاهُمَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ, وَاخْتِيَارُ صَاحِبُ المُغْنِي الإِجْزَاءَ وَخَالفَهُ صَاحِبُ شَرْحِ الهِدَايَةِ.
ومنها: لوْ طَافَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ الزِّيَارَةَ وَالوَدَاعَ، فَقَال الخِرَقِيِّ فِي شَرْحِ المُخْتَصَرِ وَصَاحِبُ المُغْنِي فِي كِتَابِ الصَّلاةِ يُجْزِئُهُ عَنْهُمَا. وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ خِلافٌ مِنْ المَسْأَلةِ التِي بَعْدَهَا.
ومنها: لوْ أَدْرَكَ الإِمَامَ رَاكِعًا فَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً يَنْوِي بِهَا تَكْبِيرَتي الإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ فَهَل يُجْزِئُهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا أَبُو الخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَاخْتَارَ القَاضِي عَدَمَ الإِجْزَاءِ للتَّشْرِيكِ بَيْنَ الرُّكْنِ وَغَيْرِهِ وَأَخَذَهُ مِنْ نَصِّ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ فِيمَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ الرُّكُوعِ وَعَطَسَ فَقَال رَبَّنَا وَلك الحَمْدُ يَنْوِي بِهِ الوَاجِبَ وَسُنَّةَ الحَمْدِ للعَاطِسِ أَنْ لا يُجْزِئَهُ، وَاخْتَارَ ابْنُ شَاقِلا الإِجْزَاءَ وَشَبَّهَهُ بِمَنْ أَخْرَجَ فِي الفُطْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ وَلا يَصِحُّ هَذَا التَّشْبِيهُ. وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال: إنْ قُلنَا تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ سُنَّةٌ أَجْزَأَتْهُ وَحَصَلتْ السُّنَّةُ بِالنِّيَّةِ تَبَعًا للوَاجِبِ، وَإِنْ قُلنَا وَاجِبَةٌ لمْ يَصِحَّ التَّشْرِيكُ وَفِيهِ ضَعْفٌ.
وَهَذِهِ المَسْأَلةُ تَدُل عَلى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الرُّكُوعِ تُجْزِئُ فِي حَال القِيَامِ خِلافَ مَا يَقُولهُ المُتَأَخِّرُونَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَحْصُل لهُ أَحَدُ العِبَادَتَيْنِ بِنِيَّتِهَا، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الأُخْرَى وَلذَلكَ أَمْثِلةٌ: منها: إذَا دَخَل المَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاةُ فَصَلى مَعَهُمْ، سَقَطَتْ عَنْهُ التَّحِيَّةُ.
ومنها: لوْ سَمِعَ سَجْدَتَيْنِ مَعًا، فَهَل يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ أَمْ يَكْتَفِي بِوَاحِدَةٍ؟ المَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ البرزاطي أَنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ، وَيَتَخَرَّجُ أَنَّهُ يَكْتَفِي بِوَاحِدَةٍ، وَقَدْ خَرَّجَ الأَصْحَابُ بِالاكْتِفَاءِ بِسَجْدَةِ الصَّلاةِ عَنْ سَجْدَةِ التِّلاوَةِ وَجْهًا فَهُنَا أَوْلى.
ومنها: إذَا قَدِمَ المُعْتَمِرُ مَكَّةَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِطَوَافِ العُمْرَةِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ القُدُومِ، وَقِيَاسُهُ إذَا أَحْرَمَ بِالحَجِّ مِنْ مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمَ يَوْمَ النَّحْرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ طَوَافُ الزِّيَارَةِ عَنْهُ وَالمَنْصُوصُ هَاهُنَا أَنَّهُ يَطُوفُ قَبْلهُ للقُدُومِ، وَخَالفَ فِيهِ صَاحِبُ المُغْنِي وَهُوَ الأَصَحُّ.
ومنها: إذَا صَلى عَقِيبَ الطَّوَافِ مَكْتُوبَةً فَهَل يَسْقُطُ عَنْهُ رَكْعَتَا الطَّوَافِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ، قَال أَبُو بَكْرٍ: الأَقْيَسُ أَنَّهَا لا تَسْقُطُ، وَنَقَل أَبُو طَالبٍ عَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ يُجْزِئُهُ ليْسَ هُمَا وَاجِبَتَيْنِ.
وَنَقَل الأَثْرَمُ عَنْهُ أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ وَهَذَا قَدْ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يَحْصُل لهُ بِذَلكَ الفَرْضِ رَكْعَتَا الطَّوَافِ فَيَكُونُ مِنْ الضَّرْبِ الأَوَّل، لكِنْ لا يُعْتَبَرُ هُنَا نِيَّةُ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ.
وَيُشْبِهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ التِي حَكَاهَا أَبُو حَفْصٍ البَرْمَكِيُّ عَنْ أَحْمَدَ فِي الجُنُبِ إذَا اغْتَسَل يَنْوِي الجَنَابَةَ وَحْدَهَا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ حَدَثُهُ الأَصْغَرُ تَبَعًا وَهِيَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ.
وَقَدْ يُقَال: المَقْصُودُ أَنْ يَقَعَ عَقبَ الطَّوَافِ صَلاةٌ كَمَا أَنَّ المَقْصُودَ أَنْ يَقَعَ قَبْل الإِحْرَامِ صَلاةٌ فَأَيُّ صَلاةٍ وُجِدَتْ حَصَّلتْ المَقْصُودَ.
ومنها: لوْ أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ إلى وَقْتِ خُرُوجِهِ فَطَافَ فَهَل يَسْقُطُ عَنْهُ طَوَافُ الوَدَاعِ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَنَصَّ فِي رِوَايَةِ ابْنِ القَاسِمِ عَلى سُقُوطِهِ.
ومنها: إذَا أَدْرَكَ الإِمَامَ رَاكِعًا فَكَبَّرَ للإِحْرَامِ فَهَل تَسْقُطُ عَنْهُ تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ أَيْضًا وَالمَنْصُوصُ عَنْهُ الإِجْزَاءُ.
وَهَل يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا تَكْبِيرَةَ الافْتِتَاحِ أَمْ لا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ نَقَلهُمَا عَنْهُ ابْنُ مَنْصُورٍ إحْدَاهُمَا: لا يُشْتَرَطُ بَل يَكْفِيه أَنْ يُكَبِّرَ بِنِيَّةِ الصَّلاةِ وَإِنْ لمْ يَسْتَحْضِرْ بِقَلبِهِ أَنَّهَا تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ كَمَا لوْ أَدْرَكَ الإِمَامَ فِي القِيَامِ.
وَالثَّانِيَةُ: لا بُدَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الافْتِتَاحَ لأَنَّهُ قَدْ اجْتَمَعَ هَهُنَا تَكْبِيرَتَانِ فَوَقَعَ الاشْتِرَاكُ فَاحْتَاجَتْ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ إلى نِيَّةٍ تُمَيِّزُهَا بِخِلافِ حَال القِيَامِ فَإِنَّهُ لمْ يَقَعْ فِيهِ اشْتِرَاكٌ.
ومنها: إذَا اجْتَمَعَ فِي يَوْمِ عِيدٍ وَجُمُعَةٍ فَأَيُّهُمَا قُدِّمَ أَوَّلاً فِي الفِعْل سَقَطَ بِهِ الثَّانِي وَلمْ يَجِبْ حُضُورُهُ مَعَ الإِمَامِ.
وَفِي سُقُوطِهِ عَنْ الإِمَامِ رِوَايَتَانِ.
وَعَلى رِوَايَةِ عَدَمِ السُّقُوطِ فَيَجِبُ أَنْ يَحْضُرَ مَعَهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ تِلكَ الصَّلاةُ ذَكَرَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ وَغَيْرُهُ فَتَصِيرُ الجُمُعَةُ هَهُنَا فَرْضَ كِفَايَةٍ تَسْقُطُ بِحُضُورِ أَرْبَعِينَ.
ومنها: إذَا اجْتَمَعَ عَقِيقَةٌ وَأُضْحِيَّةٌ فَهَل تُجْزِئُ الأُضْحِيَّةُ عَنْ العَقِيقَةِ أَمْ لا؟.
عَلى رِوَايَتَيْنِ مَنْصُوصَتَيْنِ.
وَفِي مَعْنَاهُ لوْ اجْتَمَعَ هَدْيٌ وَأُضْحِيَّةٌ وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ أَنَّهُ لا تَضْحِيَةَ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا هُوَ الهَدْيُ.
ومنها: اجْتِمَاعُ الأَسْبَابِ التِي يَجِبُ بِهَا الكَفَّارَاتُ وَتَتَدَاخَل فِي الأَيمَانِ وَالحَجِّ وَالصِّيَامِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِهَا.
فَإِذَا أَخْرَجَ كَفَّارَةً وَاحِدَةً عَنْ وَاحِدٍ مِنْهَا مُعَيَّنٍ أَجْزَأَهُ وَسَقَطَتْ سَائِرُ الكَفَّارَاتِ وَإِنْ كَانَ مُبْهَمًا.
فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ أَيْضًا وَجْهًا وَاحِدًا عِنْدَ صَاحِبِ المُحَرَّرِ.
وَعِنْدَ صَاحِبِ التَّرْغِيبِ أَنَّ فِيهِ وَجْهَيْنِ:
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِنْسَيْنِ فَوَجْهَانِ فِي اعْتِبَارِ نِيَّةِ التَّعْيِينِ وَأَمَّا الأَحْدَاثُ المُوجِبَةُ للطَّهَارَةِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ جِنْسَيْنِ مُوجِبُهُمَا وَاحِدٌ فَيَتَدَاخَل مُوجِبُهُمَا بِالنِّيَّةِ أَيْضًا بِغَيْرِ إشْكَالٍ وَإِنْ نَوَى أَحَدَهُمَا فَالمَشْهُورُ أَنَّهُ يَرْتَفِعُ الجَمِيعُ وَيَتَنَزَّل ذَلكَ عَلى التَّدَاخُل كَمَا قُلنَا فِي الكَفَّارَاتِ أَوْ عَلى أَنَّ الحُكْمَ الوَاحِدَ يُعَلل بِعِللٍ مُسْتَقِلةٍ، وَإِذَا نَوَى رَفْعَ حَدَثِ البَعْضِ فَقَدْ نَوَى وَاجِبَهُ وَهُوَ وَاحِدٌ لا تَعَدُّدَ فِيهِ.
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ لا يَرْتَفِعُ إلا مَا نَوَاهُ قَال فِي كِتَابِ المُقْنِعِ: إذَا أَجْنَبَتْ المَرْأَةُ ثُمَّ حَاضَتْ يَكُونُ الغُسْل الوَاحِدُ لهُمَا جَمِيعًا إذَا نَوَتْهُمَا بِهِ.
وَيَتَنَزَّل هَذَا عَلى أَنَّهُ لا يُعَلل الحُكْمُ الوَاحِدُ بِعِلتَيْنِ مُسْتَقِلتَيْنِ بَل إذَا اجْتَمَعَتْ أَسْبَابٌ مُوجِبَةٌ تَعَدَّدَتْ الأَحْكَامُ الوَاجِبَةُ بِتَعَدُّدِ أَسْبَابِهَا وَلمْ تَتَدَاخَل وَإِنْ كَانَتْ جِنْسًا وَاحِدًا وَرَجَّحَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ قَوْل أَبِي بَكْرٍ فِي غُسْل الجَنَابَةِ وَالحَيْضِ لأَنَّهُمَا مُخْتَلفَا الأَحْكَامِ إذْ المَنْعُ المُرَتَّبُ عَلى الحَيْضِ يَزِيدُ عَلى المَنْعِ المُرَتَّبِ عَلى الجَنَابَةِ لأَنَّهُمَا مُخْتَلفَا الأَجْنَاسِ بِخِلافِ غَيْرِهِمَا فَهُمَا كَالجِنْسَيْنِ وَغَيْرُهُمَا كَالجِنْسِ الوَاحِدِ.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال: إنْ نَوَتْ رَفْعَ حَدَثِ الحَيْضِ ارْتَفَعَتْ الجَنَابَةُ لدُخُول مَوَانِعِهَا فِيهِ وَلا عَكْسَ.
القاعدة التاسعة عشر
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةَ عَشَرَ:إمْكَانُ الأَدَاءِ ليْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتِقْرَارِ الوَاجِبَاتِ بِالشَّرْعِ فِي الذِّمَّةِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: الطَّهَارَةُ فَإِذَا وَصَل عَادِمُ المَاءِ إلى المَاءِ وَقَدْ ضَاقَ الوَقْتُ فَعَليْهِ أَنْ يَتَطَهَّرَ وَيُصَليَ بَعْدَ الوَقْتِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي.
وَخَالفَهُ صَاحِبُ المُحَرَّرِ وَقَال يُصَلي بِالتَّيَمُّمِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ.
ومنها: الصَّلاةُ فَإِذَا طَرَأَ عَلى المُكَلفِ مَا يُسْقِطُ تَكْليفَهُ بَعْدَ الوَقْتِ وَقَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ الفِعْل فَعَليْهِ القَضَاءُ فِي المَشْهُورِ.
وَقَال ابْنُ بَطَّةَ وَابْنُ أَبِي مُوسَى لا قَضَاءَ.
ومنها: الزَّكَاةُ فَإِذَا تَلفَ النِّصَابُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ الأَدَاء فَعَليْهِ أَدَاءُ زَكَاتِهِ عَلى المَشْهُورِ إلا المُعَشَّرَاتِ إذَا تَلفَتْ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لكَوْنِهَا لمْ تَدْخُل تَحْتَ يَدِهِ فَهِيَ كَالدَّيْنِ التَّاوِي قَبْل قَبْضِهِ وَخَرَّجَ الشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا بِالسُّقُوطِ مُطْلقًا.
ومنها: الصِّيَامُ فَإِذَا بَلغَ الصَّبِيُّ مُفْطِرًا فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ أَسْلمَ فِيهِ كَافِرٌ أَوْ طَهُرَتْ حَائِضٌ لزِمَهُمْ القَضَاءُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ.
ومنها: الحَجُّ فَلا يُشْتَرَطُ لثُبُوتِهِ فِي الذِّمَّةِ التَّمَكُّنُ مِنْ الأَدَاءِ عَلى أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ للزُومِ أَدَائِهِ بِنَفْسِهِ.
وَأَمَّا قَضَاءُ العِبَادَاتِ فَاعْتَبَرَ الأَصْحَابُ لهُ إمْكَانَ الأَدَاءِ فَقَالوا فِيمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ لعُذْرٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْل زَوَالهِ: إنَّهُ لا يُطْعَم عَنْهُ وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ زَوَالهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ القَضَاءِ أُطْعِمْ عَنْهُ.
وَأَمَّا قَضَاءُ المَنْذُورَاتِ فَفِي اشْتِرَاطِ الأَدَاءِ وَجْهَانِ, فَلوْ نَذَرَ صِيَامًا أَوْ حَجًّا ثُمَّ مَاتَ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَهَل يُقْضَى عَنْهُ؟ عَلى الوَجْهَيْنِ. وَعَلى القَوْل بِالقَضَاءِ فَهَل يُقْضَى الصِّيَامُ الفَائِتُ بِالمَرَضِ خَاصَّةً أَوْ الفَائِتُ بِالمَرَضِ وَالمَوْتِ أَيْضًا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
القاعدة العشرون
القَاعِدَةُ العِشْرُونَ:النَّمَاءُ المُتَوَلدُ مِنْ العَيْنِ حُكْمُهُ حُكْمُ الجُزْءِ، وَالمُتَوَلدُ مِنْ الكَسْبِ بِخِلافِهِ عَلى الصَّحِيحِ.
وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلكَ فِي مَسَائِل:
منها: لوْ كَانَ عِنْدَهُ دُونَ نِصَاب فَكَمُل نِصَابًا بِنِتَاجِهِ فَهَل يَحْسُبُ حَوْلهُ مِنْ حِينِ كَمُل كَمَا لوْ كَانَ النِّتَاجُ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مِنْ حِينِ مَلكَ الأُمَّهَاتِ لأَنَّ النِّتَاجَ جُزْءٌ مِنْ الأُمَّهَاتِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِيهَا بِالقُوَّةِ مِنْ أَوَّل الحَوْل؟ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ وَلوْ كَانَ لهُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا فَاتَّجَرَ بِهَا حَتَّى صَارَتْ مِائَتَيْنِ فَحَوْلهَا مِنْ حِينِ كَمُل بِغَيْرِ خِلافٍ لأَنَّ الكَسْبَ يَتَوَلدُ مِنْ خَارِجٍ وَهُوَ رَغَبَاتُ النَّاسِ لا مِنْ نَفْسِ العَيْنِ
ومنها: لوْ عَجَّل الزَّكَاةَ عَنْ نَمَاءِ النِّصَابِ قَبْل وُجُودِهِ فَهَل يُجْزِئُهُ؟ فِي ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ ثَالثُهَا يُفَرِّقُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ نِصَابًا فَلا يُجزئه لاسْتِقْلالهِ بِنَفْسِهِ فِي الوُجُوبِ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ دُونَ نِصَابٍ فَيُجْزِئُهُ لتَبَعِيَّتِهِ للنِّصَابِ فِي الوُجُوبِ، وَيَتَخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ رَابِعٌ بِالفَرْقِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ نِتَاجَ مَاشِيَةٍ أَوْ رِبْحَ تِجَارَةٍ فَيَجُوزُ فِي الأَوَّل دُونَ الثَّانِي مِنْ المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا.
ومنها: لوْ اشْتَرَى شَيْئًا فَاسْتَغَلهُ وَنَمَا عِنْدَهُ ثُمَّ رَدَّهُ بِعَيْبٍ فَإِنْ كَانَ نَمَاؤُهُ كَسْبًا لمْ يَرُدَّهُ مَعَهُ قَال كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ: بِغَيْرِ خِلافٍ, وَإِنْ كَانَ مُتَوَلدًا مِنْ عَيْنِهِ كَالوَلدِ وَاللبَنِ وَالصُّوفِ الحَادِثِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرِ فَهَل يَرُدُّهُ مَعَهُ؟ فِيهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ:
ومنها: لوْ قَارَضَ المَرِيضُ فِي مَرَضِ المَوْتِ وَسَمَّى للعَامِل أَكْثَرَ مِنْ تَسْمِيَةِ مِثْلهِ صَحَّ وَلمْ يُحْتَسَبْ مِنْ الثُّلثِ وَلوْ سَاقَى وَسَمَّى للعَامِل أَكْثَرَ مِنْ تَسْمِيَةِ المِثْل فَوَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلثِ لحُدُوثِ الثَّمَرِ مِنْ عَيْنِ مِلكِهِ.
ومنها: لوْ فَسَخَ العَامِل المُضَارَبَةَ قَبْل ظُهُورِ الرِّبْحِ لمْ يَسْتَحِقَّ المُضَارِبُ شَيْئًا، وَلوْ فَسَخَ المُسَاقَاةَ قَبْل ظُهُورِ الثَّمَرَةِ اسْتَحَقَّ العَامِل أُجْرَةَ المِثْل لأَنَّ الرِّبْحَ لا يَتَوَلدُ مِنْ المَال بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَوَلدُ مِنْ العَمَل وَلمْ يَحْصُل بِعَمَلهِ رِبْحٌ وَالثَّمَرُ مُتَوَلدٌ مِنْ عَيْنِ الشَّجَرِ وَقَدْ عَمِل عَلى الشَّجَرِ عَمَلاً مُؤَثِّرًا فِي الثَّمَرِ فَكَانَ لعَمَلهِ تَأْثِيرٌ فِي حُصُول الثَّمَرِ وَظُهُورِهِ بَعْدَ الفَسْخِ.
ومنها: أَنَّ المُشَارَكَةَ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِمَال أَحَدِهِمَا وَعَمَل الآخَرِ إنْ كَانَ المُشَارَكَةُ فِيمَا يَنْمُو مِنْ العَمَل كَالرِّبْحِ جَازَ كَالمُضَارَبَةِ، وَكَمَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ أَوْ عَبْدَهُ إلى مَنْ يَعْمَل عَليْهِ بِشَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلى الأَصَحِّ وَإِنْ كَانَتْ المُشَارَكَةُ فِيمَا يحْدثُ عَنُ المَال كَدَرِّ الحَيَوَانِ وَنَسْلهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ يَخْتَارُ فِيهِ المَنْعَ لأَنَّ العَامِل لا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي أَصْل عَيْنِ المَال وَالمُتَوَلدُ مِنْ العَيْنِ حُكْمُهُ حُكْمُهَا وَلكِنَّ هَذَا مَمْنُوعٌ عِنْدَ مَنْ أَجَازَ الاسْتِئْجَارَ عَلى حَصَادِ الزَّرْعِ بِجُزْءٍ مِنْهُ أَوْ عَلى نَسْجِ الثَّوْبِ بِبَعْضِهِ.
وَذَلكَ مَنْصُوصٌ عِنْدَ أَحْمَدَ أَيْضًا. وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ أَبُو الخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ ثَمَرَ الشَّجَرِ فَإِذَا عَمِل الشَّرِيكَانِ فِي شَجَرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَشَرَطَا التَّفَاضُل فِي ثَمَرِهِ جَازَ عِنْدَهُ. وَفَرَّقَ بَيْنَ الثَّمَرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَلدُ مِنْ عَيْنِ المَال بِأَنَّ للعَمَل تَأْثِيرًا فِي حُصُول الثَّمَرِ بِخِلافِ غَيْرِهِ.
وَلهَذَا المَعْنَى جَازَتْ المُسَاقَاةُ فَأَمَّا الإِجَارَةُ المَحْضَةُ فَيَجُوزُ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِاسْتِغْلالهِ وَإِجَارَتِهِ مِنْ العَقَارِ وَغَيْرِهِ.
وَلا يَجُوزُ فِيمَا يُنْتَفَعُ بِأَعْيَانِهِ إلا فِيمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلكَ للحَاجَةِ كَالظِّئْرِ وَنَحْوِهَا.
وَعِنْدَ تَقِيِّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ أَنَّ الأَعْيَانَ التِي تَسْتَخْلفُ شَيْئًا فَشَيْئًا حُكْمُهُ حُكْمُ المَنَافِعِ فَيَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الإِجَارَةِ كَمَا يُسْتَوْفَى بِالوَقْفِ وَالوَصِيَّةِ.
القاعدة الواحد والعشرون
القَاعِدَةُ الحَادِيَةُ وَالعِشْرُونَ:وَقَدْ يَخْتَصُّ الوَلدُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّمَاءِ المُتَوَلدِ مِنْ العَيْنِ بِأَحْكَامٍ. وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلكَ بِأَنَّ الوَلدَ هَل هُوَ كَالجُزْءِ أَوْ كَالكَسْبِ؟ وَالأَظْهَرُ أَنَّهُ جُزْءٌ فَمِنْ ذَلكَ لوْ وَلدَتْ الأَمَةُ المَوْقُوفَةُ وَلدًا فَهَل يَكُونُ مِلكًا للمَوْقُوفِ عَليْهِ كَثَمَرِ الشَّجَرَةِ أَوْ يَكُونُ وَقْفًا مَعَهَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ. أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ وَقْفٌ مَعَهَا لأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَلهَذَا يَصِحُّ وَقْفُهُ ابْتِدَاءَ بِخِلافِ الثَّمَرَةِ.
ومنها: لوْ وَلدَتْ المُوصَى بِمَنَافِعِهَا فَإِنْ قُلنَا: الوَلدُ كَسْبٌ فَكُلهُ لصَاحِبِ المَنْفَعَةِ وَإِنْ قُلنَا: هُوَ جُزْءٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بِمَنْزِلتِهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ للوَرَثَةِ لأَنَّ الأَجْزَاءَ لهُمْ دُونَ المَنَافِعِ.
ومنها: هَل يَتْبَعُ الوَلدُ أُمَّهُ فِي الكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ كَالصَّحِيحَةِ؟ فَإِنْ قُلنَا هُوَ جُزْءٌ مِنْهَا تَبِعَهَا.
وَإِنْ قُلنَا هُوَ كَسْبٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى سَلامَةِ الاكْتِسَابِ فِي الكِتَابَةِ الفَاسِدَةِ
القاعدة الثانية والعشرون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ وَالعِشْرُونَ:العَيْنُ المُنْغَمِرَةُ فِي غَيْرِهَا إذَا لمْ يَظْهَرْ أَثَرُهَا فَهَل هِيَ كَالمَعْدُومَةِ حُكْمًا أَوْ لا؟.
فِيهِ خِلافٌ وَيَنْبَنِي عَليْهِ مَسَائِل:
منها: المَاءُ الذِي اُسْتُهْلكَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ فَإِنْ كَانَ كَثِيرًا سَقَطَ حُكْمُهَا بِغَيْرِ خِلافٍ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا فَرِوَايَتَانِ ثُمَّ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يَقُول: إنَّمَا سَقَطَ حُكْمُهَا وَإِلا فَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول بَل المَاءُ أَحَالهَا لأَنَّ لهُ قُوَّةَ الإِحَالةِ فَلمْ يَبْقَ لهَا وُجُودٌ بَل المَوْجُودُ غَيْرُهَا فَهُوَ عَيْنٌ طَاهِرَةٌ وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ.
ومنها: اللبَنُ المَشُوبُ بِالمَاءِ المُنْغَمِرِ فِيهِ هَل يَثْبُتُ بِهِ تَحْرِيمُ الرَّضَاعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ المَحْكِيُّ عَنْ القَاضِي أَنَّهُ يَثْبُتُ.
وَالثَّانِي: لا وَاخْتَارَهُ صَاحِبُ المُغْنِي وَعَلى الأَوَّل فَإِنَّمَا يُحَرَّمُ إذَا شَرِبَ المَاءَ كُلهُ وَلوْ فِي دَفْعَاتٍ وَيَكُونُ رَضْعَةً وَاحِدَةً ذَكَرَهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ.
ومنها: لوْ خَلطَ خَمْرًا بِمَاءٍ وَاسْتُهْلكَ فِيهِ ثُمَّ شَرِبَهُ لمْ يُحَدَّ هَذَا هُوَ المَشْهُورُ، وَسَوَاءٌ قِيل بِنَجَاسَةِ المَاءِ أَوْ لا.
وَفِي التَّنْبِيهِ لأَبِي بَكْرٍ عَبْدِ العَزِيزِ مَنْ لتَّ بِالخَمْرِ سَوِيقًا أَوْ صَبَّهَا فِي لبَنٍ أَوْ مَاءٍ جَارٍ ثُمَّ شَرِبَهَا فَعَليْهِ الحَدُّ، وَلمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يُسْتَهْلكَ أَوْ لا يُسْتَهْلكُ.
ومنها: لوْ خَلطَ زَيْتَهُ بِزَيْتِ غَيْرِهِ عَلى وَجْهٍ لا يَتَمَيَّزُ فَهَل هُوَ اسْتِهْلاكٌ بِحَيْثُ يَجِبُ لصَاحِبِهِ عِوَضُهُ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ أَوْ هُوَ اشْتِرَاكٌ؟ فِي المَسْأَلةِ رِوَايَتَانِ المَنْصُوصُ فِي رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ وَأَبِي الحَارِثِ أَنَّهُ اشْتِرَاكٌ وَاخْتَارَهُ ابْنُ حَامِدٍ وَالقَاضِي فِي خِلافِهِ وَاخْتَارَ فِي المُجَرَّدِ أَنَّهُ اسْتِهْلاكٌ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ المُخْتَلطُ غَصْبًا فَقَال فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ: هَذَا قَدْ اخْتَلطَ أَوَّلهُ وَآخِرُهُ أَعْجَبُ إليَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ كُلهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَأَنْكَرَ قَوْل مَنْ قَال يُخْرِجُ مِنْهُ قَدْرَ مَا خَالطَهُ.
وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ التَّحْرِيمَ لامْتِزَاجِ الحَلال بِالحَرَامِ وَاسْتِحَالةِ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا عَنْ الآخَرِ وَعَلى هَذَا فَليْسَ لهُ إخْرَاجُ قَدْرِ الحَرَامِ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ المَغْصُوبِ مِنْهُ لأَنَّهَا قِسْمَةٌ فَلا يَجُوزُ بِدُونِ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ.
لكِنْ لأَصْحَابِنَا وَجْهٌ فِي المَكِيل وَالمَوْزُونِ المُشْتَرَكِ: أَنَّ لأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الانْفِرَادَ بِالقِسْمَةِ دُونَ الآخَرِ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الخَطَّابِ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي الدَّرَاهِمِ، وَمَنَعَهُ القَاضِي لكِنَّهُ قَال فِي خِلافِهِ: إنْ كَانَ الحَقُّ فِي القَدْرِ المُخْتَلطِ لآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ لمْ تَجُزْ القِسْمَةُ بِدُونِ إذْنِهِ وَإِنْ كَانَ لغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَاَلذِي انْقَطَعَ خَبَرُ مَالكِهِ وَوَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ، فَللمَالكِ الاسْتِبْدَادُ بِالقِسْمَةِ لأَنَّ لهُ وِلايَةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالصَّدَقَةِ، وَهَذَا كُلهُ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ اشْتِرَاكٌ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهُ اسْتِهْلاكٌ قَال فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ يُخْرِجُ
العِوَضَ مِنْهُ وَهَذَا يَحْتَمِل أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بَدَلهُ عِوَضًا مِنْهُ وَكَذَا سَاقَهُ المَرُّوذِيّ فِي كِتَابِ الوَرَعِ لهُ أَنَّ أَحْمَدَ قَال: يُعْطَى العِوَضُ وَلمْ يَقُل مِنْهُ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ يُخْرِجُ العِوَضَ مِنْ نَفْسِ المُخْتَلطِ فَهُوَ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ شَرِكَةٌ وَأَنَّ لهُ الاسْتِبْدَادَ بِقِسْمَةِ ذَلكَ.
ومنها: لوْ وَصَّى لهُ بِرِطْلٍ مِنْ زَيْتٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ خَلطَهُ بِزَيْتٍ آخَرَ فَإِنْ قُلنَا: هُوَ اشْتِرَاكٌ لمْ تَبْطُل الوَصِيَّةُ وَإِنْ قُلنَا هُوَ اسْتِهْلاكٌ بَطَلتْ.
ومنها: لوْ حَلفَ لا يَأْكُل شَيْئًا فَاسْتَهْلكَ فِي غَيْرِهِ ثُمَّ أَكَلهُ قَال الأَصْحَابُ: لا يَحْنَثُ وَلمْ يُخَرِّجُوا فِيهِ خِلافًا لأَنَّ مَبْنى الأيمان عَلى العُرْفِ وَلمْ يَقْصِدْ الامْتِنَاعَ مِنْ مِثْل ذَلكَ وَقَدْ يُخَرَّجُ فِيهِ وَجْهٌ بِالحِنْثِ وَقَدْ أَشَارَ إليْهِ أَبُو الخَطَّابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهَذَا كُلهُ فِي المَائِعَاتِ وَالأَدِقَّةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يَخْتَلطُ بَعْضُ أَجْزَائِهِ بِبَعْضٍ، فَأَمَّا الحُبُوبُ وَالدَّرَاهِمُ وَنَحْوُهَا فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال: حُكْمُهَا حُكْمُ المَائِعَاتِ فِيمَا سَبَقَ وَفَرَّعُوا عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: لوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً فَلمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى اخْتَلطَتْ بِغَيْرِهَا وَلمْ تَتَمَيَّزْ فَهَل يَنْفَسِخُ البَيْعُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ اخْتَارَ القَاضِي فِي خِلافِهِ الانْفِسَاخَ وَفِي المُجَرَّدِ عَدَمَهُ.
ومنها: لوْ حَلفَ لا يَأْكُل حِنْطَةً فَأَكَل شَعِيرًا فِيهِ حَبَّاتِ حِنْطَةٍ فَفِي حِنْثِهِ وَجْهَانِ ذَكَرَهُمَا أَبُو الخَطَّابِ وَغَلطَهُ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَقَال: يَحْنَثُ بِلا خِلافٍ لأَنَّ الحَبَّ مُتَمَيِّزٌ لمْ يُسْتَهْلكْ بِخِلافِ مَا لوْ طُحِنَتْ الحِنْطَةُ بِمَا فِيهَا فَاسْتُهْلكَتْ فَإِنَّهُ لا يَحْنَثُ.
ومنها: لوْ اخْتَلطَتْ دَرَاهِمُهُ بِدَرَاهِمَ مَغْصُوبَةٍ فَالمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ: إنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ قَليلةً كَثَلاثَةٍ فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ وَجَبَ التَّوَقُّفُ عَنْهَا حَتَّى يَعْلمَ وَإِنْ كَانَتْ كَثِيرَةً كَثَلاثِينَ فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنْهَا دِرْهَمًا وَيَتَصَرَّفُ فِي البَاقِي وَلهُ نُصُوصٌ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا المَعْنَى وَعَلل بِأَنَّ الكَثِيرَ يُجْحِفُ بِمَالهِ إخْرَاجَهُ وَأَنْكَرَ عَلى مَنْ قَال: يُخْرِجُ هَذَا قَدْرَ الحَرَام مِنْ القَليل كَالثَّلاثَةِ إنْكَارًا شَدِيدًا وَأَمَّا القَاضِي فَتَأَوَّل كَلامَهُ عَلى الاسْتِحْبَابِ لأَنَّهُ كُلمَا كَثُرَ الحَلال بَعْدَ تَنَاوُل الحَرَام وَشَقَّ التَّوَرُّعُ عَنْ الجَمِيعِ بِخِلافِ القَليل.
قَال: وَالوَاجِبُ فِي الجَمِيعِ إخْرَاجُ قَدْرِ الحَرَام، وَكَذَلكَ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُصُولهِ وَخَالفَ فِي الفُنُونِ وَقَال: يُحَرَّمُ الجَمِيعَ.
ومنها: لوْ خَلطَ الوَدِيعَةَ وَهِيَ دَرَاهِمُ بِمَالهِ وَلمْ تَتَمَيَّزْ فَالمَشْهُورُ الضَّمَانُ لعُدْوَانِهِ حَيْثُ فَوَّتَ تَخْليصِهَا. وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى لا ضَمَانَ عَليْهِ لأَنَّ النُّقُودَ لا يَتَعَلقُ الغَرَضُ بِأَعْيَانِهَا بَل بِمِقْدَارِهَا وَرُبَمَا كَانَ خَلطُهَا أَحْفَظَ لهَا وَعَلى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَإِذَا تَلفَ بَعْضُ المُخْتَلطِ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ جَعَل التَّالفَ كُلهُ مِنْ مَالهِ وَجَعَل
البَاقِيَ مِنْ الوَدِيعَةِ نَصَّ عَليْهِ لأَنَّ هَذِهِ الأَصْل أَمَانَةٌ بَقَاؤُهَا وَوُجُوبُ تَسْليمِهَا وَلمْ يَتَيَقَّنْ زَوَال ذَلكَ وَلهَذَا قُلنَا: لوْ مَاتَ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ وَجُهِل بَقَاؤُهَا إنَّهَا تَكُونُ دَيْنًا عَلى التَّرِكَةِ وَتَأَوَّل القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ كَلامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ فِي الضَّمَانِ هُنَا عَلى أَنَّ الخَلطَ كَانَ عُدْوَانًا وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا ضَمَانَ عِنْدَهُمَا إلا مَعَ التَّعَدِّي وَلوْ اخْتَلطَتْ الوَدِيعَةُ بِغَيْرِ فِعْلهِ ثُمَّ ضَاعَ البَعْضُ جُعِل مِنْ مَال المُودَعِ فِي ظَاهِرِ كَلامِ أَحْمَدَ ذَكَرَهُ أَبُو البَرَكَاتِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ القَاضِيَ ذَكَرَ فِي الخِلافِ أَنَّهُمَا يَصِيرَانِ شَرِيكَيْنِ قَال أَبُو البَرَكَاتِ: وَلا يَبْعُدُ عَلى هَذَا أَنْ يَكُونَ الهَالكُ مِنْهُمَا وَذَكَرَ القَاضِي أَيْضًا فِي بَعْضِ تَعَاليقِهِ فِيمَنْ مَعَهُ دِينَارٌ أَمَانَةٌ لغَيْرِهِ فَسَقَطَ مِنْهُ مَعَ دِينَارٍ لهُ فِي رَحَى فَدَارَتْ عَليْهِمَا حَتَّى نَقَصَا وَكَانَ نَقْصُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ نَقْصِ الآخَرِ وَلمْ يَدْرِ أَيُّهُمَا لهُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فَيَدْفَعُ إلى صَاحِبِ الأَمَانَةِ مَا يَغْلبُ عَلى ظَنِّهِ أَنَّهُ قَدْرُ حَقِّهِ فَإِنْ ادَّعَى أَنَّ الثَّقِيل لهُ فَالقَوْل قَوْلهُ فِي الظَّاهِرِ لأَنَّ يَدَهُ عَليْهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
القاعدة الثالثة والعشرون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ حُرِّمَ عَليْهِ الامْتِنَاعُ مِنْ بَدَل شَيْءٍ سُئِلهُ فَامْتَنَعَ فَهَل يَسْقُطُ إذْنُهُ بِالكُليَّةِ أَوْ يُعْتَبَرُ وَيُجْبِرُهُ الحَاكِمُ عَليْهِ؟ هَذَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المَطْلوبُ مِنْهُ إذْنًا مُجَرَّدًا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ:
منها: وَضْعُ الخَشَبِ عَلى جِدَارِ جَاره إذَا لمْ يَضُرَّ بِهِ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى عَدَمِ اعْتِبَارِ إذْنِهِ فِي ذَلكَ وَفِي التَّلخِيصِ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَليْهِ إنْ أَبَاهُ.
ومنها: حَجُّ الزَّوْجَةِ الفَرْضَ وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ صَالحٍ عَلى أَنَّهَا لا تَحُجُّ إلا بِإِذْنِهِ وَأَنَّهُ ليْسَ لهُ مَنْعُهَا فَعَلى هَذَا يُجْبَرُ عَلى الإِذْنِ لهَا وَنَقَل ابْنُ أَبِي مُوسَى عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ اسْتِئْذَانَهَا لهُ مُسْتَحَبٌّ ليْسَ بِوَاجِبٍ.
ومنها: إذَا قُلنَا بِوُجُوبِ الجُمُعَةِ عَلى العَبْدِ فَهَل يَتَوَقَّفُ عَلى إذْنِ السَّيِّدِ؟ حَكَى الأَصْحَابُ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لا تَجِبُ عَلى العَبْدِ حَتَّى يَأْذَنَ لهُ السَّيِّدُ.
وَالثَّانِيَةُ: تَجِبُ بِدُونِ إذْنِهِ وَيُسْتَحَبُّ لهُ اسْتِئْذَانُهُ فَإِنْ أَذِنَ لهُ وَإِلا خَالفَهُ وَذَهَبَ.
ومنها: أَخْذُ فَاضِل الكَلأِ وَالمَاءِ مِنْ أَرْضِهِ هَل يَقِفُ جَوَازُ الدُّخُول إلى الأَرْضِ عَلى إذْنِهِ أَمْ يَجُوزُ بِدُونِ إذْنِهِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى جَوَازِ الرَّعْيِ فِي الأَرْضِ المَغْصُوبَةِ يَدُل عَلى عَدَمِ اعْتِبَارِ الإِذْنِ فِي ذَلكَ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال الخِلافُ فِي غَيْرِ المَحُوطِ أَمَّا المَحُوطُ فَلا يَجُوزُ دُخُولهُ بِغَيْرِ إذْنٍ بِغَيْرِ خِلافٍ.
قَال: وَمَتَى تَعَذَّرَ الاسْتِئْذَانُ لغَيْبَةِ المَالكِ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ اسْتَأْذَنَ فَلمْ يَأْذَنْ سَقَطَ
إذْنُهُ كَمَا فِي الوَليِّ فِي النِّكَاحِ وَنَقَل مُثَنَّى الأَنْبَارِيُّ عَنْ أَحْمَدَ مَا يُشْعِرُ بِالفَرْقِ بَيْنَ الدُّخُول للمَاءِ وَالكَلأِ فَيَتَعَيَّنُ الاسْتِئْذَانُ للدُّخُول للكَلأِ دُونَ المَاءِ.
ومنها: بَذْل الضِّيَافَةِ الوَاجِبَةِ إذَا امْتَنَعَ مِنْهَا جَازَ الأَخْذُ مِنْ مَالهِ وَلا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ نَقَلهَا عَليُّ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَحْمَدَ وَنَقَل عَنْهُ حَنْبَلٌ لا يَأْخُذُ إلا بِعِلمِهِمْ وَيُطَالبُهُمْ بِقَدْرِ حَقِّهِ.
ومنها: نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ الوَاجِبَةُ.
ومنها: الطَّعَامُ الذِي يَضْطَرُّ إليْهِ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَلزَمُهُ بَذْلهُ لهُ بِقِيمَتِهِ فَإِنْ أَبَى فَللمُضْطَرِّ أَخْذُهُ قَهْرًا وَإِنَّمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الإِذْنِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ لأَنَّ اعْتِبَارَهُ يُؤَدِّي إلى مَشَقَّةٍ وَحَرَجٍ وَرُبَمَا أَدَّى إلى فَوَاتِ الحَقِّ بِالكُليَّةِ.
ا لنَّوْعُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المَطْلوبُ مِنْهُ تَصَرُّفًا لعَقْدٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ صُوَرٌ: منها: إذَا طَلبَ مِنْهُ القِسْمَةَ التِي تَلزَمُهُ الإِجَابَةُ إليْهَا، وَالأَصْحَابُ يَقُولونَ: يُجْبَرُ عَلى ذَلكَ فَإِنْ كَانَ المُشْتَرَكُ مِثْليًّا وَهُوَ المَكِيل وَالمَوْزُونُ وَامْتَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الإِذْنِ فِي القِسْمَةِ أَوْ غَابَ فَهَل يَجُوزُ للشَّرِيكِ الآخَرِ أَخْذُ قَدْرِ حَقِّهِ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ الحَاكِمِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: الجَوَازُ وَهُوَ قَوْل أَبِي الخَطَّابِ.
وَالثَّانِي: المَنْعُ وَهُوَ قَوْل القَاضِي؛ لأَنَّ القِسْمَةَ مُخْتَلفٌ فِي كَوْنِهَا بَيْعًا وَإِذْنُ الحَاكِمِ يَرْفَعُ النِّزَاعَ.
ومنها: إذَا امْتَنَعَ مِنْ بَيْعِ الرَّهْنِ فَإِنَّ الحَاكِمَ يُجْبِرُهُ عَليْهِ وَيَحْبِسُهُ فَإِنْ أَصَرَّ بَاعَ عَليْهِ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يَقُول: الحَاكِمُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَجْبَرَهُ عَلى البَيْعِ وَإِنْ شَاءَ بَاعَ عَليْهِ وَهُوَ المَجْزُومُ بِهِ فِي المُغْنِي.
ومنها: إذَا امْتَنَعَ مِنْ الإِنْفَاقِ عَلى بَهَائِمِهِ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلى الإِنْفَاقِ أَوْ البَيْعِ كَذَا أَطْلقَهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ.
وَقَال ابْنُ الزاغوني إنْ أَبَى بَاعَ الحَاكِمُ عَليْهِ.
ومنها: المَوْليّ إذَا وُقِّفَ ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ الفَيْئَةِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالطَّلاقِ فَإِنْ طَلقَ فَذَاكَ وَإِلا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: يُجْبَرُ عَلى الطَّلاقِ بِالحَبْسِ وَالتَّضْيِيقِ.
وَالثَّانِيَةُ: يُطَلقُ الحَاكِمُ عَليْهِ.
ومنها: العِنِّينُ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ وَتُحُقِّقَ عَجْزُهُ وَأَبَى أَنْ يُفَارِقَ زَوْجَتَهُ فَرَّقَ الحَاكِمُ بَيْنَهُمَا.
ومنها: إذَا مَثَّل بِعَبْدِهِ قَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَة المَيْمُونِيِّ: يُعْتِقُهُ السُّلطَانُ عَليْهِ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ لا يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ التَّمْثِيل وَلكِنْ يُعْتِقُهُ السُّلطَانُ عَليْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ لأَنَّ عِتْقَهُ صَارَ مُحَتَّمًا لا مَحَالةَ كَمَا فَعَل عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِخِلافِ طَلاقِ المُولي فَإِنَّهُ لوْ فَاءَ لمْ يُطَالبْ بِالطَّلاقِ، وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ السُّلطَانَ يَحْكُمُ عَليْهِ بِوُقُوعِ العِتْقِ كَمَا هُوَ المَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ وَفِيهِ بُعْدٌ.
ومنها: المُوصَى بِعِتْقِهِ إذَا امْتَنَعَ الوَارِثُ مِنْ إعْتَاقِهِ أَعْتَقَهُ السُّلطَانُ عَليْهِ.
ومنها: إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ العِتْقِ وَقُلنَا يَصِحُّ عَلى الصَّحِيحِ فَأَبَى أَنْ يُعْتِقَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَقِيل رِوَايَتَانِ.
إحْدَاهُمَا: وَنَصَّ عَليْهَا أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ أَنَّ للبَائِعِ الفَسْخَ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ حَقٌّ لهُ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُجْبَرُ المُشْتَرِي عَلى عِتْقِهِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ حَقٌّ للهِ تَعَالى فَعَلى هَذَا إذَا امْتَنَعَ وَأَصَرَّ تَوَجَّهَ أَنْ يُعْتِقَهُ الحَاكِمُ عَليْهِ.
ومنها: الحَوَالةُ عَلى المَليءِ هَل يُعْتَبَرُ لبَرَاءَةِ المُحِيل رِضَا المُحَال فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الحَاكِمُ عَليْهِ لأَنَّ احْتِيَالهُ عَلى المَليءِ وَاجِبٌ عِنْدَنَا أَوْ يَبْرَأُ بِمُجَرَّدِ الحَوَالةِ؟ فِيهِ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي فِي خِلافِهِ وَطَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ وَمَبْنَاهُمَا عَلى أَنَّ الحَوَالةَ هَل هِيَ نَقْلٌ للحَقِّ أَوْ تَقْبِيضٌ؟ فَإِنْ قُلنَا نَقْلاً لمْ يُعْتَبَرْ لهَا قَبُولٌ.
وَإِنْ كَانَتْ تَقْبِيضًا فَلا بُدَّ مِنْ القَبْضِ بِالقَوْل وَهُوَ قَوْلهَا فَيُجْبَرُ المُحْتَال عَليْهِ.
ومنها: الوَليُّ فِي النِّكَاحِ إذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّزْوِيجِ فَهَل يَسْقُطُ حَقُّهُ وَيَنْتَقِل إلى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهُ أَوْ لا فَيَقُومُ الحَاكِمُ مَقَامَهُ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
ومنها: إذَا أَسْلمَ عَلى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَأَبَى أَنْ يَخْتَارَ مِنْهُنَّ أَجْبَرَهُ الحَاكِمُ عَلى الاخْتِيَارِ وَعَزَّرَهُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَخْتَارَ.
وَلمْ يَخْتَرْ لهُ إذْ الاخْتِيَارُ مَوْكُولٌ إلى شَهْوَتِهِ وَغَرَضِهِ لا غَيْرَ.
ومنها: الكِتَابَةُ إذَا أَوْجَبْنَاهَا بِسُؤَال العَبْدِ فَأَبَى السَّيِّدُ أَجْبَرَهُ الحَاكِمُ عَليْهَا.
ومنها: إذَا أَتَاهُ الغَرِيمُ بِدَيْنِهِ الذِي يَجِبُ عَليْهِ قَبْضُهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبِضَهُ.
قَال فِي المُغْنِي: يَقْبِضُهُ الحَاكِمُ وَتَبْرَأُ ذِمَّةُ الغَرِيمِ لقِيَامِ الحَاكِمِ مَقَامَ المُمْتَنِعِ بِوِلايَتِهِ.
وَلوْ أَتَاهُ الكَفِيل بِالغَرِيمِ فَأَبَى أَنْ يَتَسَلمَهُ فَقَال فِي المُغْنِي: يُشْهِدُ عَلى امْتِنَاعِهِ وَيَبْرَأُ لوُجُودِ الإِحْضَارِ.
وَذُكِرَ عَنْ القَاضِي أَنَّهُ يَرْفَعُهُ إلى الحَاكِمِ أَوَّلاً ليُسَلمَهُ إليْهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ أَشْهَدَ عَلى امْتِنَاعِهِ.
القاعدة الرابعة والعشرون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ تَعَلقَ بِمَالهِ حَقٌّ وَاجِبٍ عَليْهِ فَبَادَرَ إلى نَقْل المِلكِ عَنْهُ صَحَّ، ثُمَّ إنْ كَانَ الحَقُّ مُتَعَلقًا بِالمَال نَفْسِهِ لمْ يَسْقُطْ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلقًا بِمَالكِهِ لمَعْنًى زَال بِانْتِقَالهِ عَنْهُ سَقَطَ، وَإِنْ كَانَ لا يَزُول بِانْتِقَالهِ لمْ يَسْقُطْ عَلى الأَصَحِّ، وَيَدْخُل تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
منها: لوْ بَادَرَ الغَال قَبْل إحْرَاقِ رَحْلهِ وَبَاعَهُ فَفِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا فِي المُغْنِي.
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ لأَنَّ مِلكَهُ بَاقٍ لمْ يَزُل وَيَسْقُطُ التَّحْرِيقُ لانْتِقَالهِ عَنْهُ فَهُوَ كَمَا لوْ مَاتَ وَانْتَقَل إلى وَارِثِهِ.
وَالثَّانِي: يَنْفَسِخُ البَيْعُ وَيُحَرَّقُ لأَنَّ حَقَّ التَّحْرِيقِ أَسْبَقُ وَقَدْ تَعَلقَ بِهَذَا المَال عُقُوبَةٌ لمَالكِهِ عَلى جَرِيمَتِهِ السَّابِقَةِ.
ومنها: لوْ بَاعَ المُشْتَرِي الشِّقْصَ المَشْفُوعَ قَبْل المُطَالبَةِ بِالشُّفْعَةِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ البَيْعَ بَاطِلٌ لأَنَّ مِلكَهُ غَيْرُ تَامٍّ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ البَيْعَ صَحِيحٌ وَهُوَ قَوْل الخِرَقِيِّ وَالمَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ لأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ المُشْتَرِي الثَّانِي مُمْكِنٌ فَإِنْ اخْتَارَ ذَلكَ فَعَل وَإِلا فُسِخَ البَيْعُ الثَّانِي وَأُخِذَ مِنْ الأَوَّل لسَبْقِ حَقِّهِ عَليْهِ.
ومنها: لوْ أُمِرَ الذِّمِّيُّ بِهَدْمِ بِنَائِهِ العَالي فَبَادَرَ وَبَاعَ مِنْ مُسْلمٍ صَحَّ وَسَقَطَ الهَدْمُ لزَوَال عِلتِهِ فَإِنَّهُ لمْ يَجِبْ الهَدْمُ إلا لإِزَالةِ ضَرَرِ اسْتِدَامَةِ تَعْليَةِ الذِّمِّيِّ لا عُقُوبَةَ للتَّعْليَةِ المَاضِيَةِ وَقَدْ زَال الضَّرَرُ بِانْتِقَالهِ إلى المُسْلمِ فَهُوَ كَمَا لوْ بَادَرَ المَالكُ وَأَسْلمَ فَإِنَّ الهَدْمَ يَسْقُطُ بِلا تَرَدُّدٍ.
ومنها: لوْ مَال جِدَارُهُ إلى مِلكِ جَارِهِ فَطُولبَ بِهَدْمِهِ فَبَاعَ دَارِهِ صَحَّ وَهَل يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُ بِالسُّقُوطِ بَعْدَ ذَلكَ عَلى رِوَايَةِ التَّضْمِينِ أَمْ لا؟ قَال القَاضِي: يَسْقُطُ لأَنَّ الوُقُوعَ فِي غَيْرِ مِلكِهِ وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: إنْ قَصَدَ بِبَيْعِهِ الفِرَارَ مِنْ المُطَالبَةِ بِهَدْمِهِ لمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ لانْعِقَادِ سَبَبِهِ فِي مِلكِهِ كَمَا لوْ بَاعَ سَهْمًا بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ كَبِدِ القَوْسِ فَإِنَّ عَليْهِ ضَمَانَ مَا يُتْلفُهُ قَال: وَكَذَا لوْ بَاعَ فَخًّا أَوْ شَبَكَةً مَنْصُوبَتَيْنِ فَوَقَعَ فِيهِمَا صَيْدٌ فِي الحَرَمِ أَوْ مَمْلوكٌ للغَيْرِ لمْ يَسْقُطْ عَنْهُ ضَمَانُهُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ القَاضِيَ لا يُخَالفُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ فَإِنَّهُ قَال فِيمَا إذَا أَخْرَجَ جَنَاحًا أَوْ مِيزَابًا إلى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ مِلكَهُ بَعْدَ المُطَالبَةِ بِإِزَالتِهِ ثُمَّ سَقَطَ فَعَليْهِ الضَّمَانُ.
لأَنَّ خُرُوجَهُ إلى غَيْرِ مِلكِهِ حَصَل بِفِعْلهِ بِخِلافِ مَيْل الحَائِطِ فَإِنَّهُ لا فِعْل لهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَلزَمُهُ إزَالتُهُ عَلى وَجْهٍ مُمْكِنٍ وَلا يُمْكِنُهُ نَقْضُهُ بَعْدَ زَوَال مِلكِهِ عَنْهُ.
ومنها: لوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِشَرْطِ العِتْقِ ثُمَّ بَاعَهُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَهَل يَصِحُّ أَمْ لا. عَلى وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ وَصَحَّحَ عَدَمَ الصِّحَّةِ لأَنَّهُ يَتَسَلسَل وَلأَنَّ تَعَلقَ حَقِّ العِتْقِ الوَاجِبِ عَليْهِ يَمْنَعُ الصِّحَّةَ، كَمَا لوْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا الخِلافَ مُتَرَتِّبٍ عَلى أَنَّ الحَقَّ هَل هُوَ للهِ وَيُجْبَرُ عَليْهِ إنْ أَبَاهُ أَوْ للبَائِعِ؟ فَعَلى الأَوَّل هُوَ كَالمَنْذُورِ عِتْقُهُ وَعَلى الثَّانِي يَسْقُطُ الفَسْخُ لزَوَال المِلكِ وَللبَائِعِ الرُّجُوعُ بِالأَرْشِ فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَنْقُصُ بِهِ الثَّمَنُ عَادَةً، وَيُحْتَمَل أَنْ يَثْبُتَ لهُ الفَسْخُ لسَبْقِ حَقِّهِ.
ومنها: لوْ بَاعَ العَبْدَ الجَانِيَ لزِمَهُ افْتِدَاؤُهُ فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فُسِخَ البَيْعُ تَقْدِيمًا لحَقِّ المَجْنِيِّ عَليْهِ لسَبْقِهِ
ومنها: لوْ بَاعَ الوَارِثُ التَّرِكَةَ مَعَ اسْتِغْرَاقِهَا بِالدَّيْنِ مُلتَزِمًا لضَمَانِهِ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ وَفَائِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ البَيْعُ
ومنها: لوْ بَاعَ نِصَابَ الزَّكَاةِ بَعْدَ الوُجُوبِ ثُمَّ أَعْسَرَ فَهَل يُفْسَخُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ أَمْ لا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مُرَتَّبَانِ عَلى أَنَّ الزَّكَاةَ هَل كَانَتْ مُتَعَلقَةً بِعَيْنِ المَال أَوْ بِذِمَّةِ رَبِّهِ؟ فَإِنْ قِيل بِعَيْنِ المَال فُسِخَ البَيْعِ لاسْتِيفَائِهَا مِنْهُ وَإِلا فَلا.
القاعدة الخامسة والعشرون
القَاعِدَةُ الخَامِسَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ ثَبَتَ لهُ مِلكُ عَيْنٍ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ فَهَل يَتْبَعُهَا مَا يَتَّصِل بِهَا أَوْ تَوَلدَ مِنْهَا أَمْ لا؟.
فِي المَسْأَلةِ خِلافٌ وَلهَا صُوَرٌ:
منها: أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لهُ مِلكُ أَمَةٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَمَعَهَا وَلدٌ لها فَهَل يَتْبَعُهَا فِي المِلكِ إذَا ادَّعَاهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا وَهُوَ الذِي ذَكَرَهُ القَاضِي لأَنَّهُ لا يَتْبَعُهَا فِي بَيْعٍ وَلا غَيْرِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلدَتْهُ قَبْل مِلكِهِ لهَا.
وَالثَّانِي: وَإِليْهِ مَيْل ابْنِ عَقِيلٍ أَنَّهُ يَتْبَعُهَا لأَنَّهُ مِنْ أَجْزَائِهَا وَقَدْ ثَبَتَ سَبْقُ اليَدِ الحُكْمِيَّةِ لليَدِ المُشَاهَدَةِ فَتَكُونُ مُرَجَّحَةً عَليْهَا، وَيُشْبِهُ هَذِهِ المَسْأَلةَ مَا إذَا ادَّعَى أَمَةً فِي يَدِ غَيْرِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلدِهِ وَأَنَّ وَلدَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ بِذَلكَ شَاهِدًا وَحَلفَ مَعَهُ أَوْ رَجُلاً وَامْرَأَتَيْنِ ثَبَتَ مِلكُهُ عَليْهَا وَثَبَتَ اسْتِيلادُهَا بِإِقْرَارِهِ وَفِي الوَلدِ رِوَايَتَانِ حَكَاهُمَا أَبُو الخَطَّابِ
إحْدَاهُمَا: يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَحُرِّيَّتُهُ لكَوْنِهِ مِنْ نَمَائِهَا فَيَتْبَعُهَا وَيَكُونُ ثُبُوتُ ذَلكَ بِالإِقْرَارِ لا بِالبَيِّنَةِ.
وَالثَّانِيَة: لا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلا الحُرِّيَّةُ لأَنَّهُمَا لا يَثْبُتَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ يُثْبِتُ النَّسَبَ دُونَ الحُرِّيَّةِ وَتَبْقَى الوَلدِ عَلى مِلكِ مَنْ كَانَتْ بِيَدِهِ بِنَاءً عَلى صِحَّةِ اسْتِلحَاقِ نَسَبِ العَبْدِ كَمَا جَزَمَ بِهِ صَاحِبُ التَّلخِيصِ
ومنها: لوْ ثَبَتَ لهُ مِلكُ أَرْضٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ وَفِيهَا شَجَرٌ قَائِمٌ فَهَل يَتْبَعُهَا أَمْ لا؟.
يَحْتَمِل أَنْ يُخَرَّجَ عَلى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلى أَنَّ الشَّجَرَ هَل يَتْبَعُ فِي البَيْعِ أَمْ لا؟ وَأَفْتَى الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ: أَنَّ مَا كَانَ مُتَّصِلاً بِالأَرْضِ مِنْ الشَّجَرِ فَيَدُ أَهْل الأَرْضِ ثَابِتَةٌ عَليْهِ مَا لمْ تَأْتِ حُجَّةٌ تَدْفَعُ مُوجِبَ اليَدِ، مِثْل أَنْ يَكُونَ الغَارِسُ قَدْ عَرَفَ أَنَّهُ غَرَسَهُ بِمَالهِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الرَّهْنِ فِيمَا إذَا اخْتَلفَ المُتَرَاهِنَانِ فِي رَهِينَةِ الشَّجَرِ فِي الأَرْضِ المَرْهُونَةِ أَنَّ القَوْل قَوْل المَالكِ لأَنَّ الاخْتِلافَ هُنَا فِي عَقْدٍ وَاليَدُ لا تَدُل عَليْهِ بِخِلافِ مَا لوْ كَانَ الاخْتِلافُ فِي مِلكٍ. وَصَرَّحَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ بِأَنَّ مَا فِي دَارِ الإِنْسَانِ يَكُونُ فِي يَدِهِ وَلوْ كَانَ مُنْفَصِلاً مَنْقُولاً وَيُحْتَمَل تَخْرِيجُ ذَلكَ عَلى الرِّوَايَتَيْنِ فِي مِلكِ المُبَاحَاتِ الحَاصِلةِ فِي أَرْضِهِ بِمُجَرَّدِ حُصُولهَا فِي الأَرْضِ هَل هِيَ كَاليَدِ أَمْ لا؟ فَإِنْ قَامَتْ البَيِّنَةُ أَنَّ هَذِهِ الشَّجَرَةَ لهُ وَعَليْهَا ثَمَرٌ فَقَال ابْنُ عَقِيلٍ: يُحْكَمُ لهُ بِهِ حَتَّى لوْ كَانَ الثَّمَرُ بِيَدِ رَجُلٍ
وَتَبَيَّنَ سَبْقُ مِلكِ الشَّجَرَةِ لغَيْرِهِ حُكِمَ لهُ بِالثَّمَرَةِ لثُبُوتِ سَبْقِ مِلكِهِ عَلى أَخْذِ غَيْرِهِ للثَّمَرَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ كَالوَلد. وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ القَضَاءِ.
ومنها: لوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا العَبْدَ مِلكٌ لهُ وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَعَلى العَبْدِ ثِيَابٌ فَادَّعَاهَا مِنْ العَبْدُ فِي يَدِهِ.
فَقَال صَاحِبُ الكَافِي وَالتَّرْغِيبِ: هِيَ لهُ لأَنَّ يَدَهُ عَليْهَا وَهِيَ مُنْفَصِلةٌ عَنْ العَبْدِ وَيَحْتَمِل وَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا يَتْبَعُ العَبْدَ مِنْ الثِّيَابِ فِي البَيْعِ يَتْبَعُهُ هَاهُنَا وَمَا لا فَلا.
وَالثَّانِي: إنْ تَطَاوَلتْ مُدَّةُ هَذِهِ اليَدِ بِحَيْثُ تُبْلى فِيهَا ثِيَابُ العَبْدِ عَادَةً فَالقَوْل قَوْل مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ وَإِلا فَلا إلحَاقًا لهَا بِالعَيْبِ المُتَنَازَعِ فِي حُدُوثِهِ عِنْدَ البَائِعِ أَوْ المُشْتَرِي إذَا لمْ يَحْتَمِل الحَال إلا قَوْل أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ.
ومنها: لوْ تَنَازَعَ المُؤَجِّرُ وَالمُسْتَأْجِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ المُسْتَأْجَرَةِ فَذَكَرَ الأَصْحَابُ أَنَّ مَا يَتْبَعُ فِي البَيْعِ فَهُوَ للمُؤَجِّرِ وَمَا لا يَتْبَعُ إنْ كَانَتْ جَرَتْ بِهِ العَادَةُ فِي المَنَازِل فَفِيهِ خِلافٌ.
وَالمَنْصُوصُ أَنَّهُ للمُؤَجِّرِ أَيْضًا وَكَذَلكَ الوَجْهَانِ لوْ تَنَازَعَ المُؤَجِّرُ وَالمُسْتَأْجِرُ فِي كَنْزٍ مَدْفُونٍ فِي الأَرْضِ وَهَل الحُكْمُ مُخْتَصٌّ بِحَالةِ بَقَاءِ يَدِ المُسْتَأْجِرِ أَمْ لا؟ صَرَّحَ فِي التَّلخِيصِ فِي مَسْأَلةِ الكَنْزِ بِأَنَّ الخِلافَ فِي صُورَةِ بَقَاءِ الإِجَارَةِ وَانْقِضَائِهَا.
وَيَشْهَدُ لهُ مَسْأَلةُ المَال المَدْفُونِ إذَا ادَّعَاهُ مَنْ كَانَتْ الأَرْضُ لهُ وَوَصَفَهُ أَنَّهُ يُقْبَل مِنْهُ وَكَذَلكَ حُكْمُ اخْتِلافِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَتَاعِ البَيْتِ جَارٍ مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَزَوَالهَا فِي أَحَدِ الطَّرِيقِينَ للأَصْحَابِ.
ومنها: لوْ أَقَرَّ لهُ بِمَظْرُوفٍ فِي ظَرْفٍ كَتَمْرٍ فِي جِرَابٍ أَوْ فَصٍّ فِي خَاتَمٍ أَوْ رَأْسٍ وَأَكَارِعَ فِي شَاةٍ أَوْ نَوًى فِي تَمْرٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا: يَكُونُ مُقِرًّا بِالمَظْرُوفِ دُونَ ظَرْفِهِ، وَهُوَ قَوْل ابْنِ حَامِدٍ وَالقَاضِي وَأَصْحَابِهِ لأَنَّ الظَّرْفَ غَيْرُ مُقِرٍّ بِهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَوْصُوفٌ بِهِ فَهُوَ كَقَوْلهِ: دَابَّةٌ فِي إصْطَبْلٍ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: هُوَ مُقَرٌّ بِهِمَا وَإِلا لمْ يَكُنْ ثَمَّ فَائِدَةٌ لذَلكَ الظَّرْفِ.
وَفَرَّقَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَا يَتَّصِل بِظَرْفِهِ عَادَةً أَوْ خِلقَةً فَيَكُونُ إقْرَارًا بِهِ دُونَ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ عَادَةً وَيَحْتَمِل التَّفْرِيقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي تَابِعًا للأَوَّل فَيَكُونُ إقْرَارًا بِهِ كَتَمْرٍ فِي جِرَابٍ أَوْ سَيْفٍ فِي قِرَابٍ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا فَلا يَكُونُ إقْرَارًا بِهِ كَنَوًى فِي تَمْرٍ وَرَأْسٍ فِي شَاةٍ وَأَمَّا إنْ قَال: خَاتَمٌ فِيهِ فَصٍّ وَجِرَابٌ فِيهِ تَمْرٌ وَقِرَابٌ فِيهِ سَيْفٌ فَقِيل هُوَ عَلى الوَجْهَيْنِ مُطْلقًا وَقِيل فِي قَوْلهِ خَاتَمٌ فِيهِ فَصٌّ: إنَّهُ إقْرَارٌ بِهِمَا جَمِيعًا بِغَيْرِ خِلافٍ لأَنَّ إطْلاقَ الخَاتَمِ يَدْخُل فِيهِ الفَصُّ فَإِذَا وَصَفَهُ بِالفَصِّ تُيُقِّنَ دُخُولهُ فِيهِ وَلمْ يَجُزْ إخْرَاجُهُ مِنْهُ كَقَوْلهِ: نَعْلٌ لهَا شِرَاكٌ أَوْ شَاةٌ عَليْهَا صُوفٌ أَوْ فِي ضَرْعِهَا لبَنٌ وَنَحْوَ ذَلكَ. وَفِي التَّلخِيصِ: لوْ أَقَرَّ بِخَاتَمٍ ثُمَّ جَاءَ بِخَاتَمٍ فِيهِ فَصٌّ وَقَال مَا أَرَدْتُ الفَصَّ احْتَمَل وَجْهَيْنِ أَظْهَرُهُمَا دُخُولهُ لشُمُول الاسْمِ قال: وَلوْ قَال لهُ عِنْدِي جَارِيَةٌ فَهَل يَدْخُل الجَنِينُ فِي الإِقْرَارِ إذَا كَانَتْ حَامِلاً؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ.
القاعدة السادسة والعشرون
القَاعِدَةُ السَّادِسَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ أَتْلفَ شَيْئًا لدَفْعِ أَذَاهُ لهُ لمْ يَضْمَنْهُ وَإِنْ أَتْلفَهُ لدَفْعِ أَذَاهُ بِهِ ضَمِنَهُ وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: لوْ صَال عَليْهِ حَيَوَانٌ آدَمِيٌّ أَوْ بَهِيمَةٌ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالقَتْل لمْ يَضْمَنْهُ وَلوْ قَتَل حَيَوَانًا لغَيْرِهِ فِي مَخْمَصَةٍ ليُحْيِيَ بِهِ نَفْسَهُ ضَمِنَهُ.
ومنها: لوْ صَال عَليْهِ صَيْدٌ فِي إحْرَامِهِ فَقَتَلهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهِ لمْ يَضْمَنْهُ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ وَإِنْ اُضْطُرَّ فَقَتَلهُ فِي المَخْمَصَةِ ليُحْيِيَ بِهِ نَفْسَهُ ضَمِنَهُ.
ومنها: لوْ حَلقَ المُحْرِمُ رَأْسَهُ لتَأَذِّيهِ بِالقَمْل وَالوَسَخِ فَدَاهُ لأَنَّ الأَذَى مِنْ غَيْرِ الشَّعْرِ وَلوْ خَرَجَتْ فِي عَيْنِهِ شَعْرَةٌ فَقَلعَهَا أَوْ نَزَل الشَّعْرُ عَلى عَيْنَيْهِ فأزله لمْ يَفْدِهِ.
ومنها: لوْ أَشْرَفَتْ السَّفِينَةُ عَلى الغَرَقِ فَأَلقَى مَتَاعَ غَيْرِهِ ليُخَفِّفَهَا ضَمِنَهُ وَلوْ سَقَطَ عَليْهِ مَتَاعُ غَيْرِهِ فَخَشِيَ أَنْ يُهْلكَهُ فَدَفَعَهُ فَوَقَعَ فِي المَاءِ لمْ يَضْمَنْهُ.
ومنها: لوْ وَقَعَتْ بَيْضَةُ نَعَامَةٍ مِنْ شَجَرَةٍ فِي الحَرَمِ عَلى إنْسَانٍ فَدَفَعَهَا فَانْكَسَرَتْ فَلا ضَمَانَ عَليْهِ بِخِلافِ مَا لوْ احْتَاجَ إلى أَكْلهَا لمَخْمَصَةٍ.
ومنها: لوْ قَلعَ شَوْكَ الحَرَمِ لأَذَاهُ لمْ يَضْمَنْهُ وَلوْ احْتَاجَ إلى إيقَادِ غُصْنِ شَجَرَةٍ ضَمِنَهُ ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ وَغَيْرُهُ وَخَالفَ صَاحِبُ المُغْنِي فِي جَوَازِ قَطْعِ الشَّوْكِ للنَّصِّ الوَارِدِ فِيهِ.
القاعدة السابعة والعشرون
القَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ أَتْلفَ نَفْسًا أَوْ أَفْسَدَ عِبَادَةً لنَفْعٍ يَعُودُ إلى نَفْسِهِ فَلا ضَمَانَ عَليْهِ، وَإِنْ كَانَ النَّفْعُ يَعُودُ إلى غَيْرِهِ فَعَليْهِ الضَّمَانُ.
فَمِنْ ذَلكَ: الحَامِل وَالمُرْضِعُ إذَا أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلى نَفْسِيهِمَا فَلا فِدْيَةَ عَليْهِمَا، وَإِنْ أَفْطَرَتَا خَوْفًا عَلى وَلدَيْهِمَا فَعَليْهِمَا الفِدْيَةُ فِي المَشْهُورِ عِنْدَ الأَصْحَابِ.
ومنها: لوْ نَجَّى غَرِيقًا فِي رَمَضَانَ فَدَخَل المَاءُ فِي حَلقِهِ وَقُلنَا يُفْطِرُ بِهِ فَعَليْهِ الفِدْيَةُ، وَإِنْ حَصَل لهُ بِسَبَبِ إنْقَاذِهِ ضَعْفٌ فِي نَفْسِهِ فَأَفْطَرَ فَلا فِدْيَةَ عَليْهِ كَالمَرِيضِ فِي قِيَاسِ المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا وَفِي التَّلخِيصِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الفِدْيَةَ عَلى الحَامِل وَالمُرْضِعِ للخَوْفِ عَلى جَنِينَيْهِمَا، وَهَل يَلحَقُ بِذَلكَ مَنْ افتقر إلى الإِفْطَارِ لإِنْقَاذِ غَرِيقٍ؟ يَحْتَمِل وَجْهَيْنِ.
ومنها: لوْ دَفَعَ صَائِلاً عَليْهِ بِالقَتْل لمْ يَضْمَنْهُ وَلوْ دَفَعَهُ عَنْ غَيْرِهِ بِالقَتْل ضَمِنَهُ ذَكَرَهُ القَاضِي. وَفِي الفَتَاوَى الرَّجَبِيَّاتِ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الزاغوني لا ضَمَانَ عَليْهِ أَيْضًا.
ومنها: لوْ أُكْرِهَ عَلى الحَلفِ بِيَمِينٍ لحَقِّ نَفْسِهِ فَحَلفَ دَفْعًا للظُّلمِ عَنْهُ لمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ وَلوْ أُكْرِهَ عَلى الحَلفِ لدَفْعِ الظُّلمِ عَنْ غَيْرِهِ فَحَلفَ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي شَرْحِ المَذْهَبِ وَفِي الفَتَاوَى الرَّجَبِيَّاتِ عَنْ أَبِي الخَطَّابِ أَيْضًا لا تَنْعَقِدُ وَهُوَ الأَظْهَرُ.
القاعدة الثامنة والعشرون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالعِشْرُونَ:إذَا حَصَل التَّلفُ مِنْ فِعْليْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ فِيهِ وَالآخَرُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَجَبَ الضَّمَانُ كَامِلاً عَلى الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْليْنِ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ حَتَّى لوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مِنْ فِعْل مَنْ لا يَجِبُ الضَّمَانُ عَليْهِ لمْ يَجِبْ عَلى الآخَرِ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ وَيَتَفَرَّعُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: إذَا زَادَ الإِمَامُ سَوْطًا فِي الحَدِّ فَمَاتَ المَحْدُودُ فَحَكَى أَبُو بَكْرٍ فِي المَسْأَلةِ قَوْليْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجِبُ كَمَال الدِّيَةِ.
وَالثَّانِي: يَجِبُ نِصْفُهَا وَالأَوَّل هُوَ المَشْهُورُ وَعَليْهِ القَاضِي وَأَصْحَابُهُ لأَنَّ المَأْذُونَ فِيهِ لا أَثَرَ لهُ فِي الضَّمَانِ وَإِنَّمَا الجِنَايَةُ مَا زَادَ عَليْهِ فَأُسْنِدَ بِالضَّمَانِ إليْهَا.
ومنها: لوْ اقْتَصَّ مِنْ الجَانِي ثُمَّ جَرَحَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ عُدْوَانًا وَجَبَ كَمَال الدِّيَةِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُهَا.
ومنها: لوْ رَمَى صَيْدًا فَأَثْبَتَهُ وَلمْ يُوحِهِ ثُمَّ رَمَاهُ آخَرُ رَمْيَةً غَيْرَ مُوحِيَةٍ وَمَاتَ مِنْ الجُرْحَيْنِ وَجَبَ ضَمَانُ الصَّيْدِ كُلهِ مَجْرُوحًا بِالجُرْحِ الأَوَّل عَلى الثَّانِي عَلى المَشْهُورِ مِنْ المَذْهَبِ , لكِنْ مِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يُعَللهُ بِأَنَّ رَمْيَ الثَّانِي انْفَرَدَ بِالعُدْوَانِ فَاسْتَقَل بِالضَّمَانِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَللهُ بِأَنَّ رَمْيَهُ كَانَ سَبَبًا للتَّحْرِيمِ فَلذَلكَ وَجَبَ عَليْهِ كَمَال الضَّمَانِ وَيَتَخَرَّجُ عَلى التَّعْليل الأَوَّل وَجْهٌ آخَرُ بِأَنه يَضْمَنَهُ بِنِصْفِ القِيمَةِ مِمَّا قَبْلهَا.
ومنها: لوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لمَسَافَةٍ مَعْلومَةٍ فَزَادَ عَليْهَا أَوْ لحَمْل مِقْدَارٍ مَعْلومٍ فَزَادَ عَليْهِ فَتَلفَتْ الدَّابَّةُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِكَمَال القِيمَةِ نَصَّ عَليْهِ فِي الصُّورَةِ الأُولى وَخَرَّجَ الأَصْحَابُ وَجْهًا آخَرَبِضَمَانِ النِّصْفِ مِنْ مَسْأَلةِ الحَدِّ وَكَذَلكَ حُكْمُ مَا إذَا رَكِبَ الدَّابَّةَ مَعَ المُسْتَأْجِرِ غَيْرُهُ فَتَلفَتْ تَحْتَهُمَا.
ومنها: إذَا اشْتَرَكَ مُحِلٌّ وَمُحْرِمٌ فِي جَرْحِ صَيْدٍ وَمَاتَ مِنْ الجُرْحَيْنِ فَإِنَّهُ يُلزَمُ المُحْرِمُ ضَمَانُهُ كَامِلاً هَذَا ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَمُهَنَّا وَقَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ مُقْتَضَى الفِقْهِ عِنْدِي أَنَّهُ يَلزَمُهُ نِصْفُ الجَزَاءِ وَقَاسَهُ عَلى مُشَارَكَةِ مَنْ لا ضَمَانَ عَليْهِ فِي إتْلافِ النُّفُوسِ وَالأَمْوَال وَالفَرْقُ وَاضِحٌ إذْ الإِذْنُ هُنَاكَ مُنْتَفٍ وَهَهُنَا مَوْجُودٌ نَعَمْ إنْ قَصَدَ المُحِل إعَانَةَ المُحْرِمِ
وَمُسَاعَدَتَهُ عَلى قَتْل الصَّيْدِ تَوَجَّهَ مَا ذَكَرَهُ القَاضِي فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لهُ ذَلكَ أَوْ يُحَرَّمُ عَليْهِ كَمَا إذَا بَاعَ مَنْ لا جُمُعَةَ عَليْهِ لمَنْ عَليْهِ الجُمُعَةُ بَعْدَ النِّدَاءِ.
ومنها: لوْ اشْتَرَكَ فِي جَرْحِ آدَمِيٍّ مُقْتَصٌّ وَغَيْرُهُ فَهَل يَجِبُ عَلى شَرِيكِ المُقْتَصِّ كَمَال الدِّيَةِ وَنِصْفُهَا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
ومنها: لوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ دَفَعَهَا هُوَ وَأَجْنَبِيٌّ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول فَنَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُهَنَّا عَلى أَنَّهُ يَجِبُ عَلى الأَجْنَبِيِّ نِصْفُ الغُرْمِ وَهُوَ أَرْشُ البَكَارَةِ وَعَلى الزَّوْجِ نِصْفُ المَهْرِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ.
وَوَجْهُ ذَلكَ أَنَّ إذْهَابَ البَكَارَةِ عَلى هَذَا الوَجْهِ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ بِهِ وَلزِمَ الأَجْنَبِيَّ نِصْفُ الأَرْشِ , وَأَمَّا الزَّوْجُ فَأَرْشُ البَكَارَةِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَليْهِ وَإِنَّمَا المَضْمُونُ عَليْهِ المَهْرُ وَلمْ يُوجَدْ مَا يُقَرِّرُهُ وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُغْنِي وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يَتَقَرَّرُ المَهْرُ كُلهُ عَلى الزَّوْجِ بِهَذَا الفِعْل مَعَ انْفِرَادِهِ بِهِ ; لأَنَّ الأَجْنَبِيَّ لوْ اسْتَقَل بِهَذَا الفِعْل للزِمَهُ مَهْرُ المِثْل كُلهُ عَلى رِوَايَةٍ مَنْصُوصَةٍ نَقَلهَا مُهَنَّا أَيْضًا فَإِذَا كَانَ مُوجِبًا للمَهْرِ ابْتِدَاءً فَلأَنْ يُقَرِّرَهُ أَوْلى وَلكِنْ فِي صُورَةِ الاشْتِرَاكِ فِي الفِعْل غَيْرِ المَأْذُونِ فِيهِ إنَّمَا يَجِبُ عَلى الزَّوْجِ نِصْفُ الضَّمَانِ. نَعَمْ يَتَخَرَّجُ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الأَجْنَبِيَّ هُنَا عَليْهِ نِصْفُ مَهْرِ المِثْل , وَاخْتَارَ ابْنُ عَقِيلٍ أَنَّ الزَّوْجَ هُنَا يَجِبُ عَليْهِ نِصْفُ أَرْشِ البَكَارَةِ مَعَ نِصْفِ المَهْرِ لأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ إتْلافَ البَكَارَة تَبَعًا لاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ مِنْ الوَطْءِ فَإِذَا أَتْلفَهُ عَلى غَيْرِ هَذَا الوَجْهِ ضَمِنَهُ كَالمُسْتَعِيرِ إذَا أَتْلفَ خَمْل المِنْشَفَةِ مَثَلاً بِغَيْرِ اسْتِعْمَالٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ وَأَيْضًا فَلوْ وَجَبَ لرَجُلٍ قِصَاصٌ عَلى آخَرَ فِي نَفْسِهِ فَقَطَعَ بَعْضَ أَعْضَائِهِ عُدْوَانًا ضَمِنَهُ لأَنَّهُ لمْ يَسْتَحِقَّ إتْلافَ بَعْضِ أَعْضَائِهِ إلا تَبَعًا لإِتْلافِ جُمْلتِهِ لا اسْتِقْلالاً.
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ: أَنَّ الأَرْشَ كُلهُ أَوْ مَهْرَ المِثْل عَلى الأَجْنَبِيِّ لأَنَّ الزَّوْجَ مَأْذُونٌ لهُ فِي إتْلافِ هَذَا الجُزْءِ فِي الجُمْلةِ فَيَكُونُ الأَجْنَبِيُّ مُنْفَرِدًا بِالجِنَايَةِ عَليْهِ فَيُسْتَكْمَل عَليْهِ الضَّمَانُ وَلوْ رَمَى ثَلاثَةٌ بِالمَنْجَنِيقِ فَرَجَعَ الحَجَرُ عَلى أَحَدِهِمْ فَقَتَلهُ فَهَل تَجِبُ عَلى الآخَرَيْنِ ثُلثَا دِيَتِهِ أَوْ كَمَالهَا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
القاعدة التاسعة والعشرون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَةُ وَالعِشْرُونَ:مَنْ سُومِحَ فِي مِقْدَارٍ يَسِيرٍ فَزَادَ عَليْهِ فَهَل تَنْتَفِي المُسَامَحَةُ فِي الزِّيَادَةِ وَحْدَهَا أَوْ فِي الجَمِيعِ فِيهِ وَجْهَانِ وَللمَسْأَلةِ صُوَرٌ: مِنْهَا: الوَكِيل فِي البَيْعِ مَعَ الإِطْلاقِ يَمْلكُ البَيْعَ بِثَمَنِ المِثْل وَبِدُونِهِ بِمَا يَتَغَابَنُ بِمِثْلهِ عَادَةً فَإِذَا بَاعَ بِمَا لا يَتَغَابَنُ بِمِثْلهِ عَادَةً فَهَل يَضْمَنُ بَقِيَّةَ ثَمَنِ المِثْل كُلهِ أَوْ القَدْرَ الزَّائِدَ عَمَّا يَتَغَابَنُ بِهِ عَادَةً؟ عَلى وَجْهَيْنِ. وَرَجَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ ضَمَانَ بَقِيَّةِ ثَمَنِ المِثْل كُلهِ وَاسْتَشْهَدَ لهُ بِالنَّجَاسَةِ الكَثِيرَةِ فِي الثَّوْبِ يَجِبُ غَسْلهَا وَلا يُفْرَدُ هَهُنَا مَا يُعْفَى عَنْهُ بِانْفِرَادِهِ وَكَذَلكَ العَمَل الكَثِيرُ فِي الصَّلاةِ فَإِنَّهُ لوْ أَفْرَدَ مِنْهُ
القَدْرَ المَعْفُوَّ عَنْهُ بِانْفِرَادِهِ فَقَدْ يَصِيرُ البَاقِي يَسِيرًا فَيَلزَمُ العَفْوُ عَنْ الكُل وَكَذَلكَ حُكْمُ ضَرْبِ الصَّبِيِّ مُعَلمُهُ أَوْ المَرْأَةِ زَوْجُهَا ضَرْبًا مُبَرِّحًا وَمَاتَا ضَمِنَ الدِّيَةَ كُلهَا وَلوْ عُفِيَ عَنْ القَدْرِ المُبَاحِ بِانْفِرَادِهِ لمْ يَجِبْ كَمَال الدِّيَةِ وَهَذِهِ الصُّورَةُ الأَخِيرَةُ تُرَدُّ إلى القَاعِدَةِ التِي قَبْل هَذِهِ حَيْثُ كَانَ التَّلفُ تَوَلدَ مِنْ ضَرْبٍ مَأْذُونٍ فِيهِ وَغَيْرِ مَأْذُونٍ فَأَوْجَبَ كَمَال الضَّمَانِ كَمَا لوْ زَادَ عَلى الحَدِّ سَوْطًا فَلا دَلالةَ لهُ فِيهَا.
ومنها: لوْ أَكَل المُضَحِّي جَمِيعَ أُضْحِيَّتِهِ فَهَل يَلزَمُ ضَمَانُ ثُلثِهَا أَوْ مَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ. وَلوْ تَصَدَّقَ أَوَّلاً بِمَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ أَجْزَأَهُ لأَنَّ الصَّدَقَةَ بِالثُّلثِ كُلهِ مُسْتَحَبٌّ ليْسَ بِوَاجِبٍ عَلى المَشْهُورِ فِي المَذْهَبِ
ومنها: لوْ تَعَدَّى الخَارِجُ مِنْ السَّبِيل مَوْضِعَ العَادَةِ فَهَل يَجِبُ غَسْل الجَمِيعِ أَوْ القَدْرِ المُجَاوِزِ لموضع العَادَةِ وَيُجْزِئُ الحَجَرُ فِي مَوْضِعِ العَادَةِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
أَشْهَرُهُمَا: أَنَّ الوَاجِبَ غَسْل المُتَعَدَّى خَاصَّةً وَهُوَ قَوْل القَاضِي وربما نَسَبَهُ إلى نَصِّ أَحْمَدَ لأَنَّ هَذَا لا يُنْسَبُ فِيهِ إلى تَفْرِيطٍ وَتَعَدٍّ بِخِلافِ الوَكِيل وَالمُضَحِّي , وَالثَّانِي: يَلزَمُهُ غَسْل الجَمِيعِ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي أَبُو يَعْلى الصَّغِيرُ وَلمْ يَحْكِ فِيهِ خِلافًا.
ومنها: لوْ أَدَّى زَكَاتَهُ إلى وَاحِدٍ وَقُلنَا يَجِبُ الأَدَاءُ إلى ثَلاثَةٍ فَهَل يَضْمَنُ الثُّلثَيْنِ وَمَا يَقَعُ عَليْهِ الاسْمُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
القاعدة الثلاثون
القَاعِدَةُ الثَّلاثُونَ:إذَا خَرَجَ عَنْ مِلكِهِ مَالٌ عَلى وَجْهِ العِبَادَةِ ثُمَّ طَرَأَ مَا يَمْنَعُ إجْزَاءَهُ وَالوُجُوبَ فَهَل يَعُودُ إلى مِلكِهِ أَمْ لا؟ فِيهِ خِلافٌ.
فَمِنْ ذَلكَ: إذَا أَوْجَبَ هَدْيًا أَوْ أُضْحِيَّةً عَنْ وَاجِبٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ تَعَيَّبَتْ فَإِنَّهَا لا تُجْزِيه وَهَل يَعُودُ المَعِيبُ إلى مِلكِهِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
ومنها: إذَا عَجَّل الزَّكَاةَ فَدَفَعَهَا إلى الفَقِيرِ ثُمَّ هَلكَ المَال فَهَل يَرْجِعُ بِهَا أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ
ومنها: لوْ عَجَّل عَنْ ثَلاثِينَ مِنْ البَقَرِ تَبِيعًا ثُمَّ نَتَجَتْ عَشَرَةٌ قَبْل الحَوْل وَقُلنَا لا يُجْزِئُ التَّبِيعُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا فَهَل يَرْجِعُ بِهِ؟ تُخَرَّجُ عَلى الوَجْهَيْنِ.
القاعدة الواحدة والثلاثون
القَاعِدَةُ الحَادِيَةُ وَالثَّلاثُونَ:مَنْ شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ تَلزَمُ بِالشُّرُوعِ ثُمَّ فَسَدَتْ فَعَليْهِ قَضَاؤُهَا عَلى صِفَةِ التِي أَفْسَدَهَا سَوَاءٌ كَانَتْ وَاجِبَةً فِي الذِّمَّةِ عَلى تِلكَ الصِّفَةِ أَوْ دُونَهَا وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
منها: إذَا صَلى المُسَافِرُ خَلفَ مُقِيمٍ وَفَسَدَتْ صَلاتُهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَليْهِ قَضَاؤُهَا تَامَّةً
القاعدة الثانية والثلاثون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالثَّلاثُونَ:يَصِحُّ عِنْدَنَا اسْتِثْنَاءُ مَنْفَعَةِ العَيْنِ المُنْتَقِل مِلكُهَا مِنْ نَاقِلهَا مُدَّةً مَعْلومَةً , وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: المَبِيعُ إذَا اسْتَثْنَى البَائِعُ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلومَةً صَحَّ , وَحُكِيَ فِيهِ رِوَايَةٌ أُخْرَى بِعَدَمِ الصِّحَّةِ.
وَمِنْهَا: الوَقْفُ , يَصِحُّ أَنْ يَقِفَ وَيَسْتَثْنِيَ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً مَعْلومَةً أَوْ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ; لأَنَّ جَهَالةَ المُدَّةِ هُنَا لا تُؤَثِّرُ فَإِنَّهَا لا تَزِيدُ عَلى جَهَالةِ مُدَّةِ كُل بَطْنٍ بِالنِّسْبَةِ إلى مَنْ بَعْدَهُ.
وَمِنْهَا: العِتْقُ , وَيَصِحُّ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ وَيَسْتَثْنِيَ نَفْعَهُ مُدَّةً مَعْلومَةً , نَصَّ عَليْهِ لحَدِيثِ سَفِينَةَ , وَكَذَا لوْ اسْتَثْنَى خِدْمَتَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ , وَعَلى هَذَا يَتَخَرَّجُ أَنْ يُعْتِقَ أَمَتَهُ وَيَجْعَل عِتْقَهَا صَدَاقَهَا ; لأَنَّهُ اسْتَثْنَى الانْتِفَاعَ بِالبُضْعِ وَيَمْلكُهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَجَعَل العِتْقَ عِوَضًا عَنْهُ فَانْعَقَدَ فِي آنٍ وَاحِدٍ.
وَمِنْهَا: إذَا كَاتَبَ أَمَتَهُ وَاسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ الوَطْءِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ عَلى المَذْهَبِ المَنْصُوصِ , فَإِنَّهُ إنَّمَا نَقَل بِالكِتَابَةِ عَنْ مِلكِهِ مَنَافِعَهَا دُونَ رَقَبَتِهَا.
وَمِنْهَا: الوَصِيَّةُ فَيَصِحُّ أَنْ يُوصِيَ بِرَقَبَةِ عَيْنٍ لشَخْصٍ وَبِنَفْعِهَا لآخَرَ مُطْلقًا أَوْ مُدَّةً مَعْلومَةً أَوْ نَفْعِهَا للوَرَثَةِ.
وَمِنْهَا: الهِبَةُ يَصِحُّ أَنْ يَهَبَهُ شَيْئًا وَيَسْتَثْنِيَ نَفْعَهُ مُدَّةً مَعْلومَةً , وَبِذَلكَ أَجَابَ الشَّيْخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ.
وَمِنْهَا: عِوَضُ الصَّدَاقِ وَالخُلعِ وَالصُّلحِ عَلى مَالٍ , وَقِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّةُ اسْتِثْنَاءِ المَنْفَعَةِ فِيهَا.
القاعدة الثالثة والثلاثون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالثَّلاثُونَ:الاسْتِثْنَاءُ الحُكْمِيُّ هَل هُوَ كَالاسْتِثْنَاءِ اللفْظِيِّ أَمْ تُغْتَفَرُ فِيهِ الجَهَالةُ بِخِلافِ اللفْظِيِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ , وَالصَّحِيحُ عِنْدَ صَاحِبِ المُغْنِي الصِّحَّةُ , وَهُوَ قِيَاسُ المَذْهَبِ , خِلافًا للقَاضِي , وَيُخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: لوْ بَاعَهُ أَمَةً حَامِلاً بِحُرٍّ وَقُلنَا لايَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الحَمْل لفْظًا فَهَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: لوْ بَاعَهُ عَقَارًا تَسْتَحِقُّ فِيهِ السُّكْنَى الزَّوْجَةُ المُعْتَدَّةُ مِنْ الوَفَاةِ بِالحَمْل فَهَل يَصِحُّ؟ قَال فِي المُغْنِي لا , لأَنَّ مُدَّةَ الحَمْل مَجْهُولةٌ بِخِلافِ مُدَّةِ الأَشْهُرِ , وَقَال الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّين فِي مُسَوَّدَتِهِ عَلى الهِدَايَةِ قِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّةُ البَيْعِ , وَأَطْلقَ.
وَمِنْهَا: بَيْعُ الدَّارِ المُؤَجَّرَةِ تَصِحُّ وَسَوَاءٌ عَلمَ المُشْتَرِي بِالإِجَارَةِ أَوْ لمْ يَعْلمْ.
نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ.
وَقَال فِي رِوَايَةِ المَيْمُونِيِّ ليْسَ لهُ أَنْ يَبِيعَهَا حَتَّى يُبَيِّنَ , فَقَدْ يَكُونُ مَأْخَذُهُ اشْتِرَاطَ العِلمِ بِالمُسْتَثْنَى مِنْ المَنَافِعِ فِي العَقْدِ , وَقِيل لأَنَّ البَيْعَ المُطْلقَ يتناول المَنَافِعَ وَهِيَ الآنَ مِلكٌ لغَيْرِهِ فَيُشْبِهُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ , وَلكِنَّ أَحْمَدَ إنَّمَا أَوْجَبَ بَيَانَ ذَلكَ لأَنَّ تَرْكَهُ تَدْليسٌ وَتَغْرِيرٌ , وَلمْ يَتَعَرَّضْ للصِّحَّةِ وَالبُطْلانِ , وَسَوَاءٌ عَلمَ بِمِقْدَارِ مُدَّةِ الإِجَارَةِ أَوْ لمْ يَعْلمْ , هَذَا قِيَاسُ المَذْهَبِ , وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ لوْ اشْتَرَى صُبْرَةً مِنْ طَعَامٍ فَبَانَ تَحْتَهَا دِكَّةٌ فَإِنْ عَلمَ بِذَلكَ فَلا خِيَارَ لهُ وَإِلا فَلهُ الخِيَارُ , وَعِلمُهُ بِهَا يُفْضِي إلى دُخُولهِ عَلى جَهَالةِ مِقْدَارِ الصُّبْرَةِ , وَلوْ اسْتَثْنَى بِلفْظِهِ ذَلكَ لمْ يَصِحَّ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى أَمَةً مُزَوَّجَةً صَحَّ , سَوَاءٌ عَلمَ بِذَلكَ أَوْ لمْ يَعْلمْ وَتَقَعُ مَنَافِعُ البُضْعِ مُسْتَثْنَاةً فِي هَذَا العَقْدِ حُكْمًا , وَلوْ اسْتَثْنَاهَا فِي العَقْدِ لفْظًا لمْ يَصِحَّ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى شَجَرًا وَ عَليْهِ ثَمَرٌ , أَوْ أَرْضًا فِيهَا زَرْعٌ , أَوْ دَارًا فِيهَا طَعَامٌ كَثِيرٌ صَحَّ , وَوَقَعَ بَقَاءُ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ وَالطَّعَامِ مُسْتَثْنًى إلى أَوَانِ تَفْرِيغِهِ عَلى مَا جَرَتْ بِهِ العَادَةُ وَذَلكَ مَجْهُولٌ , وَلوْ اسْتَثْنَى بِلفْظِهِ فِي مِثْل هَذِهِ المُدَّةِ لمْ يَصِحَّ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى أَمَةً أوَعَبْدًا مُحْرِمًا صَحَّ وَوَقَعَ مُدَّةَ إحْرَامِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ البَيْعِ , وَسَوَاءٌ عَلمَ بِذَلكَ أَوْ لمْ يَعْلمْ , نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ , مَعَ أَنَّ مُدَّةَ الإِحْرَامِ لا تَنْضَبِطُ لا سِيَّمَا بِالعُمْرَةِ قَدْ يَقَعُ الإِبْطَاءُ فِي السَّيْرِ لعَائِقٍ أَوْ غَيْرِهِ , لكِنْ قَدْ يُقَال: إنَّ المَسَافَةَ مَعْلومَةٌ وَأَفْعَال النُّسُكِ مَعْلومَةٌ فَصَارَ كَاسْتِثْنَاءِ ظَهْرِ الدَّابَّةِ إلى بَلدٍ مُعَيَّنٍ.
القاعدة الرابعة والثلاثون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالثَّلاثُونَ:اسْتِحْقَاقُ مَنَافِعِ العَبْدِ بِعَقْدٍ لازِمٍ يَمْنَعُ مِنْ سَرَيَانِ العِتْقِ إليْهَا كَالاسْتِثْنَاءِ فِي العَقْدِ وَأَوْلى ; لأَنَّ الاسْتِثْنَاءَ الحُكْمِيَّ أَقْوَى , وَلهَذَا يَصِحُّ بَيْعُ العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ وَالأَمَةِ المُزَوَّجَةِ عِنْدَ مَنْ لا يَرَى اسْتِثْنَاءَ المَنَافِعِ فِي العَقْدِ خِلافًا للشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ فِي قَوْلهِ: يَسْرِي العِتْقُ إليْهَا إنْ لمْ يَسْتَثْنِ , وَيَتَفَرَّعُ عَلى هَذَا مَسَائِل:
مِنْهَا: إذَا عَتَقَتْ الأَمَةُ المُزَوَّجَةُ لمْ تَمْلكْ مَنْفَعَةَ البُضْعِ التِي هِيَ مَوْرِدُ النِّكَاحِ , وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لهَا الخِيَارُ تَحْتَ العَبْدِ لأَنَّهَا كَمُلتْ تَحْتَ نَاقِصٍ فَزَالتْ كَفَاءَتُهُ بِذَلكَ , أَوْ تَعَبُّدًا غَيْرَ مَعْقُول المَعْنَى , وَمَنْ قَال بِسِرَايَةِ العِتْقِ قَال: قَدْ مَلكَتْ بُضْعَهَا فَلمْ يَبْقَ لأَحَدٍ عَليْهَا مِلكٌ فَصَارَ الخِيَارُ لهَا فِي المُقَامِ مَعَ الزَّوْجِ أَوْ مُفَارِقَتِهِ سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا , وَعَلى هَذَا لوْ اسْتَثْنَى مَنْفَعَةَ بُضْعِهَا للزَّوْجِ صَحَّ وَلمْ تَمْلكْ الخِيَارَ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا أَوْ عَبْدًا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ وَقَال: هُوَ مُقْتَضَى المَذْهَبِ , وَيُرَدُّ عَلى هَذَا القَوْل بِمِلكِهَا بُضْعِهَا أَنَّهُ يَلزَمُهُ مِنْهُ انْفِسَاخُ نِكَاحِهَا حَيْثُ لمْ يَبْقَ للزَّوْجِ مِلكٌ عَليْهَا , وَلا قَائِل بِذَلكَ , عَلى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَال عِتْقُ بَعْضِهَا لا يَلزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الخِيَارِ لهَا عَلى الحُرِّ لأَنَّ حُرِّيَّةَ البُضْعِ لا تُنَافِي اسْتِحْقَاقَ مَنْفَعَتِهِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً فَالحُرِّيَّةُ الطَّارِئَةُ بِهِ أَوْلى.
وَمِنْهَا: لوْ أَجَّرَ عَبْدَهُ مُدَّةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ فِي أَثْنَائِهَا لمْ تَنْفَسِخْ الإِجَارَةُ عَلى المَذْهَبِ , وَعِنْدَ الشَّيْخِ تَنْفَسِخُ إلا أَنْ يَسْتَثْنِيَهَا فِي العِتْقِ , وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُقْنِعِ ذَلكَ وَجْهًا لنَا لا بِنَاءَ عَلى السِّرَايَةِ بَل عَلى زَوَال وِلايَةِ السَّيِّدِ عَنْ عَبْدِهِ بِعِتْقِهِ , فَيَكُونُ كَمَا لوْ أَجَّرَ الوَليُّ الصَّبِيَّ مُدَّةً ثُمَّ بَلغَ فِي أَثْنَائِهَا فَإِنَّهُ يَنْفَسِخُ فِي وَجْهٍ , وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الوَليَّ تَنْقَطِعُ وِلايَتُهُ بِالكُليَّةِ عَنْ الصَّبِيِّ بِبُلوغِهِ رَشِيدًا , بِخِلافِ السَّيِّدِ فَإِنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنَافِعِهِ بِالشَّرْطِ , وَالاسْتِثْنَاءُ الحُكْمِيُّ أَقْوَى كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْهَا: لوْ أَعْتَقَ الوَرَثَةُ العَبْدَ المُوصَى بِمَنَافِعِهِ صَحَّ وَلمْ يَسْرِ إلى المَنَافِعِ.
القاعدة الخامسة والثلاثون
القَاعِدَةُ الخَامِسَة وَالثَّلاثُونَ:مَنْ مَلكَ مَنْفَعَةَ عَيْنٍ بِعَقْدٍ ثُمَّ مَلكَ العَيْنَ بِسَبَبٍ آخَرَ هَل يَنْفَسِخُ العَقْدُ الأَوَّل أَمْ لا؟ هَهُنَا صُورَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ العَقْدُ الذِي مَلكَ بِهِ المَنْفَعَةَ عَقْدًا مُؤَبَّدًا , فَإِنْ لمْ يَكُنْ عَقَدَ مُعَاوَضَةٍ فَلا مَعْنَى لانْفِسَاخِهِ كَالمُوصَى لهُ بِمَنَافِعِ الأَمَةِ إذَا اشْتَرَاهَا فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ لهُ مِلكُهَا بِالعَقْدَيْنِ وَلا ضَرَرَ فِي ذَلكَ , فَهُوَ كَمَا لوْ كَانَ مِلكُهُ للمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عَقْدٍ كَمِلكِ الوَرَثَةِ لمَنَافِعِ العَيْنِ المُوصَى بِرَقَبَتِهَا إذَا اشْتَرَوْهَا مِنْ المُوصَى لهُ , وَإِنْ كَانَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ وَهُوَ النِّكَاحُ انْفَسَخَ بِمِلكِ الرَّقَبَةِ , لأَنَّهُ مِلكٌ ضَعِيفٌ وَمُخْتَلفٌ فِي مَوْرِدِهِ هَل هُوَ المَنْفَعَةُ أَوْ الانْتِفَاعِ؟ وَيَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةِ البُضْعِ وَيَمْلكُ بِهِ الاسْتِمْتَاعَ بِنَفْسِهِ دُونَ المُعَاوَضَةِ عَليْهِ فَلا يَجْتَمِعُ
مَعَ المِلكِ القَوِيِّ , وَهُوَ مِلكُ الرَّقَبَةِ , بَل يَنْدَفِعُ بِهِ وَلا نَقُول: إنَّهُ يَدْخُل مِلكُهُ فِي مِلكِ الرَّقَبَةِ ; لأَنَّ مَالكَ الرَّقَبَةِ لمْ يَكُنْ مَالكًا لهُ فَكَيْفَ يَتَضَمَّنُ عَقْدُهُ عَلى الرَّقَبَةِ بِمِلكِهِ , بَل نَقُول قَدْ اجْتَمَعَ لهُ مِلكُ الرَّقَبَةِ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهَا بِجِهَةٍ وَمَلكَ البُضْعَ بِجِهَةٍ أُخْرَى ضَعِيفَةٍ , فَبَطَلتْ خُصُوصِيَّاتُ الجِهَةِ الضَّعِيفَةِ كُلهَا لمَصِيرِهِ مَالكًا للجَمِيعِ مِلكًا تَامًّا وَهَذَا صَحِيحٌ , فَإِنَّهُ لا يُمْكِنُ بَعْدَ هَذَا المِلكِ أَنْ يُقَال: إنَّهُ يَمْلكُ الانْتِفَاعَ بِالبُضْعِ دُونَ مَنْفَعَتِهِ , وَلا أَنَّهُ يَمْلكُ الانْتِفَاعَ بِهِ بِنَفْسِهِ دُونَ المُعَاوَضَةِ عَليْهِ , فَتَعَيَّنَ إلغَاءُ خُصُوصِيَّاتِ عَقْدِ النِّكَاحِ كُلهَا.
وَالصُّورَةُ الثَّانِيَة: أَنْ يَكُونَ العَقْدُ المَمْلوكُ بِهِ المَنْفَعَةُ غَيْرَ مُؤَبَّدٍ كَالإِجَارَةِ , فَإِذَا مَلكَ العَيْنَ بَعْدَ ذَلكَ فَهَل يَنْفَسِخُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: وَيَنْدَرِجُ تَحْتَ ذَلكَ صُوَرٌ:
مِنْهَا: لوْ اشْتَرَى المُسْتَأْجِرُ العَيْنَ المُسْتَأْجَرَةَ مِنْ مُؤَجِّرِهَا فَفِي انْفِسَاخِ الإِجَارَةِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الأَصْحَابُ وَرُبَمَا حُكِيَ رِوَايَتَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْفَسِخُ لأَنَّهُ يَملكَ الرَّقَبَةَ فَبَطَل مِلكُ المَنْفَعَةِ كَمَا لوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ.
وَالثَّانِي: لا يَنْفَسِخُ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ اخْتِيَارُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَالأَكْثَرِينَ ; لأَنَّ المَنَافِعَ مِلكُهَا أَوَّلاً بِجِهَةِ الإِجَارَةِ وَخَرَجَتْ عَنْ مِلكِ المُؤَجِّرِ , وَالبَيْعُ بَعْدَ ذَلكَ يَقَعُ عَلى مَا يَمْلكُهُ البَائِعُ وَهُوَ العَيْنُ المَسْلوبَةُ النَّفْعِ فَصَارَ كَمَا لوْ اشْتَرَى العَيْنَ المُوصَى بِمَنَافِعِهَا مِنْ الوَرَثَةِ وَاسْتَأْجَرَ المَنَافِعَ مِنْ مَالكِهَا فِي عَقْدٍ أَوْ عَقْدَيْنِ , فَإِنَّ الإِجَارَةَ لا تَنْفَسِخُ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَلا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ البَيْعِ وَالإِجَارَةِ بِخِلافِ النِّكَاحِ , وَأَيْضًا فَالمِلكُ هَاهُنَا أَقْوَى مِنْ مِلكِ النِّكَاحِ لأَنَّهُ يَمْلكُ الانْتِفَاعَ وَالمُعَاوَضَةَ , وَيَمْلكُ بِهِ عُمُومَ المَنَافِعِ , فَلا تَنْفَسِخُ بِمِلكِ الرَّقَبَةِ , فَإِنْ قِيل: لوْ لمْ تَنْفَسِخْ الإِجَارَةُ لعَادَتْ المَنَافِعُ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّتِهَا إلى المُؤَجَّرِ لأَنَّهُ لمْ يَدْخُل فِي عَقْدِ البَيْعِ , وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهَا مُدَّةً مُؤَقَّتَةً بِخِلافِ الزَّوْجِ , لأَنَّهُ مَلكَ المَنْفَعَةَ مِلكًا مُؤَبَّدًا , فَالجَوَابُ أَنَّ البَائِعَ بَاعَ مَا يَمْلكُهُ مِنْ العَيْنِ وَمَنَافِعَهَا التِي يَسْتَحِقُّهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الإِجَارَةِ , فَإِنَّهُ يَمْلكُ العَقْدَ عَلى المَنَافِعِ التِي تَلي العَقْدَ وَاَلتِي تَتَأَخَّرُ عَنْهُ بِالإِجَارَةِ عِنْدَنَا فَالبَيْع أَوْلى , أَمَّا إنْ كَانَ الاسْتِئْجَارُ مِنْ غَيْرِ البَائِعِ وَكَانَ مَالكًا للمَنَافِعِ المُؤَبَّدَةِ فَالإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ وَتَعُودُ إليْهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ المُدَّةِ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ , وَلوْ مَلكَ المُسْتَأْجِرُ العَيْنَ بِهِبَةٍ فَهُوَ كَمَا لوْ مَلكَهَا بِشِرَاءٍ , صَرَّحَ بِهِ الشَّيْخُ مَجْدُ الدِّين فِي مُسَوَّدَتِهِ عَلى الهِدَايَةِ , فَأَمَّا إنْ وَهَبَ العَيْنَ المُسْتَعَارَةَ مِنْ المُسْتَعِيرِ فَإِنَّهُ تَبْطُل العَارِيَّةُ , وَذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ ; لأَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لازِمٍ.
وَمِنْهَا: لوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ الأَبُ وَوَرِثَهَا فَهَل تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَيْضًا وَخَرَّجَهُمَا صَاحِبُ التَّلخِيصِ مِنْ المَسْأَلةِ التِي قَبْلهَا , وَالمَذْهَبُ عِنْدَ القَاضِي فِي الخِلافِ أَنَّهُ لا يَنْفَسِخُ كَشِرَاءِ المُسْتَأْجِرِ , وَقَال فِي المُجَرَّدِ يَنْفَسِخُ , وَتَوَجَّهَ بِأَنَّ المِلكَ بِالإِرْثِ قَهْرِيٌّ يَقْتَضِي تَمَلكَ مَا لا يُتَمَلكُ مِثْلهُ بِالعُقُودِ فَجَازَ أَنْ يَمْلكَ بِهِ المَنَافِعَ المُسْتَأْجَرَةَ مِنْ مُسْتَأْجَرِهَا فَتَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ , وَأَيْضًا فَقَدْ يَنْبَنِي هَذَا عَلى المَنَافِعِ المُسْتَأْجَرَةِ هَل تَحْدُثُ عَلى مِلكِ المُؤَجِّرِ ثُمَّ تَنْتَقِل إلى مِلكِ المُسْتَأْجِرِ؟ فَإِنْ قُلنَا
بِذَلكَ فَلا مَعْنَى لحُدُوثِهَا عَلى مِلكِهِ وَانْتِقَالهَا إليْهِ , هَذَا إذَا كَانَ ثَمَّ وَارِثٌ سِوَاهُ لأَنَّ فَائِدَةَ بَقَاءِ الإِجَارَةِ اسْتِحْقَاقُ بَقِيَّةِ الأُجْرَةِ , فَإِذَا لمْ يَكُنِ وَارِثٌ سِوَاهُ فَلا مَعْنَى لاسْتِحْقَاقِهِ العِوَضَ عَلى نَفْسِهِ إلا أَنْ يَكُونَ عَلى أَبِيهِ دَيْنٌ لغَيْرِهِ وَقَدْ مَاتَ مُفْلسًا بَعْدَ أَنْ أَسْلفَهُ الأُجْرَةَ.
وَمِنْهَا: لوْ اشْتَرَى طَلعًا لمْ يُؤَبَّرْ فِي رُءُوسِ نَخْلةٍ بِشَرْطِ قَطْعِهِ ثُمَّ اشْتَرَى أَصْلهُ فِي الحَال , فَهَل يَتَخَرَّجُ انْفِسَاخُ البَيْعِ فِي الطَّلعِ عَلى مَا مَرَّ مِنْ الوَجْهَيْنِ لأَنَّهُ بِمَنْزِلةِ المَنْفَعَةِ لتَبَعِهِ فِي البَيْعِ أَمْ لا، لأَنَّهُ عَيْنٌ مُسْتَقِلةٌ؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ , وَالمَجْزُومُ بِهِ فِي الكَافِي أَنَّهُ لا يَنْفَسِخُ بِغَيْرِ خِلافٍ.
القاعدة السادسة والثلاثون
القَاعِدَةُ السَّادِسَة وَالثَّلاثُونَ:مَنْ اسْتَأْجَرَ عَيْنًا مِمَّنْ لهُ وِلايَةُ الإِيجَارِ ثُمَّ زَالتْ وِلايَتُهُ قَبْل انْقِضَاءِ المُدَّةِ فَهَل تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ؟ هَذَا قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ إجَارَتُهُ بِوِلايَةٍ مَحْضَةٍ , فَإِنْ كَانَ وَكِيلاً مَحْضًا فَالكَلامُ فِي مُوَكِّلهِ دُونَهُ.
وَإِنْ كَانَ مُسْتَقِلاً بِالتَّصَرُّفِ فَإِنْ انْتَقَلتْ الوِلايَةُ إلى غَيْرِهِ , لا تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ ; لأَنَّ الوَليَّ الثَّانِي يَقُومُ مَقَامَ الأَوَّل كَمَا يَقُومُ المَالكُ الثَّانِي مَقَامَ الأَوَّل , وَإِنْ زَالتْ الوِلايَةُ عَنْ المُوَلى عَليْهِ بِالكُليَّةِ كَصَبِيٍّ يَبْلغُ بَعْدَ إيجَارِهِ أَوْ إيجَارِ عَقَارِهِ وَالمُدَّةُ بَاقِيَةٌ , فَفِي الانْفِسَاخِ وَجْهَانِ أَشْهَرُهُمَا عَدَمُهُ , وَهُوَ قَوْل القَاضِي وَأَصْحَابِهِ لأَنَّهُ تَصَرَّفَ لهُ تَصَرُّفًا لازِمًا فَلا يَنْفَسِخُ بِبُلوغِهِ كَمَا لوْ زَوَّجَهُ أَوْ بَاعَ عَقَارَهُ.
وَالثَّانِي: يَنْفَسِخُ , ذَكَرَهُ فِي المُغْنِي وَجْهًا لأَنَّهُ أَجَّرَهُ مُدَّةً لا وِلايَةَ لهُ عَليْهِ فِيهَا بِالكُليَّةِ , فَأَشْبَهَ إجَارَةَ البَطْنِ الأَوَّل للوَقْفِ إذَا انْقَرَضَ قَبْل انْقِضَاءِ المُدَّةِ , وَفَارَقَ البَيْعَ لأَنَّهُ يَنْبَرِمُ فِي الحَال وَتَنْقَطِعُ عَلقَتُهُ.
نَعَمْ لوْ كَانَ بُلوغُهُ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ فَفِيهِ نَظَرٌ , وَكَذَا النِّكَاحُ يَنْبَرِمُ مِنْ حِينِهِ, ويستقر المَهْرُ فِيهِ بِالدُّخُول بِخِلافِ الإِجَارَةِ ; لأَنَّ الأُجْرَةَ تَتَقَسَّطُ فِيهَا عَلى المُدَّةِ وَلا يَسْتَقِرُّ المِلكُ فِيهَا إلا بِاسْتِيفَاءِ المَنَافِعِ شَيْئًا بَعْدَ الشَّيْءِ , وَذَكَرَ فِي المُغْنِي وَجْهًا آخَرَ: أَنَّهُ إنْ أَجَّرَهُ مُدَّةً يَعْلمُ بُلوغَهُ فِيهَا قَطْعًا لمْ يَصِحَّ فِي الزَّائِدِ , وَيُخَرَّجُ البَاقِي عَلى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ وَنَحْوِهِ , ذَكَرَهُ صَاحِبُ التَّلخِيصِ.
وَالقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ إجَارَتُهُ بِمِلكٍ ثُمَّ تَنْتَقِل إلى غَيْرِهِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَنْتَقِل عَنْهُ إلى مَنْ يَمْلكُ بِالقَهْرِ مَا يَسْتَوْلي عَليْهِ , فَتَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ لمِلكِهِ المَنَافِعَ البَاقِيَةَ مِنْهَا , وَدَخَل تَحْتَ هَذَا إذَا أَجَّرَ مُسْلمٌ شَيْئًا ثُمَّ اسْتَوْلى عَليْهِ الكُفَّارُ , وَإِذَا أَجَّرَ الحَرْبِيُّ شَيْئًا لحَرْبِيٍّ ثُمَّ اسْتَوْلى عَليْهِ المُسْلمُونَ , أَمَّا إنْ أَجَّرَ الحَرْبِيُّ شَيْئًا لمُسْلمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ثُمَّ اسْتَوْلى عَليْهِ المُسْلمُونَ فَالإِجَارَةُ بَاقِيَةٌ لأَنَّ المَنَافِعَ مِلكٌ لمَعْصُومٍ فَلا تُمْلكُ.
وَثَانِيهَا: أَنْ يَنْتَقِل المِلكُ إلى مَنْ خَلفَهُ فِي مَالهِ وَيَقُومُ مَقَامَهُ وَيَتَلقَّى المِلكَ عَنْهُ فَلا اعْتِرَاضَ لهُ عَلى
عُقُودِهِ بَل هُوَ مُنَفِّذٌ لهَا وَذَلكَ كَالوَارِثِ وَالمُشْتَرِي وَالمُتَّهِبِ وَالمُوصَى لهُ بِالعَيْنِ وَالزَّوْجَةِ إذَا أَخَذَتْ العَيْنَ صَدَاقًا , أَوْ أَخَذَهُ الزوج مِنْهَا عِوَضًا عَنْ خُلعٍ أَوْ صُلحًا أَوْ غَيْرَ ذَلكَ.
وَثَالثُهَا: أَنْ يَكُونَ مُزَاحِمًا للأَوَّل فِي الاسْتِحْقَاقِ وَمُتَلقِّيًا للمِلكِ عَمَّنْ تَلقَّاهُ الأَوَّل , لكِنْ لا حَقَّ لهُ فِي العَيْنِ إلا بَعْدَ انْتِهَاءِ اسْتِحْقَاقِهِ كَالبَطْنِ الثَّانِي مِنْ أَهْل الوَقْفِ إذَا أَجَّرَ البَطْنَ الأَوَّل ثُمَّ انْقَرَضَ وَالإِجَارَةُ قَائِمَةٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَا قَال القَاضِي فِي المُجَرَّدِ: أَنَّهُ قِيَاسُ المَذْهَبِ إنَّهُ لا تَنْفَسِخُ ; لأَنَّ الثَّانِي لا حَقَّ لهُ فِي العَيْنِ إلا بَعْدَهُ فَهُوَ كَالوَارِثِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ المَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ , وَقَال: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَابْنِهِ أَبِي الحُسَيْنِ وَحَكَيَاهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ بْنِ شَاقِلا , وَاخْتَارَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ: أَنَّهُ يَنْفَسِخُ ; لأَنَّ الطَّبَقَةَ الثَّانِيَة تَسْتَحِقُّ العَيْنَ بِجَمِيعِ مَنَافِعِهَا تَلقِّيًا عَنْ الوَاقِفِ بِانْقِرَاضِ الطَّبَقَةِ الأُولى فَلا حَقَّ للأُولى فِيهِ بَعْدَ انْقِرَاضِهِمْ , بِخِلافِ الوَرَثَةِ فَإِنَّهُمْ لا يتلقون عَنْ مُوَرِّثِهِمْ إلا مَا خَلفَهُ فِي مِلكِهِ مِنْ الأَمْوَال وَلمْ يَخْلفْ هَذِهِ المَنَافِعَ , وَحَقُّ المَالكِ لمْ يَنْقَطِعْ عَنْ مِيرَاثِهِ بِالكُليَّةِ بَل آثَارُهُ بَاقِيَةٌ وَلذَلكَ تُقْضَى دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْ الشَّرِكَةِ وَهِيَ مِلكُهُ عَلى قَوْلهِ إلى أَنْ تُقْضَى دُيُونُهُ , فَكَيْفَ يَعْرِضُ عَليْهِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِنَفْسِهِ , وَأَيْضًا فَهُوَ كَانَ يَمْلكُ التَّصَرُّفَ فِي مَالهِ عَلى التَّأْيِيدِ بِوَقْفِ عَقَارِهِ وَالوَصِيَّةِ بِهِ وَبِمَا تَحْمِل شَجَرَتُهُ أَبَدًا , وَالمَوْقُوفُ عَليْهِ بِخِلافِهِ فِي ذَلكَ كُلهِ.
وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُغْنِي وَجْهًا آخَرَ بِبُطْلانِ العَقْدِ مِنْ أَصْلهِ بِنَاءً عَلى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَمَا سَبَقَ , لكِنَّ الأُجْرَةَ إنْ كَانَتْ مُقَسَّطَةً عَلى أَشْهُرِ مُدَّةِ الإِجَارَةِ أَوْ أَعْوَامِهَا فَهِيَ صَفَقَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ فَلا تَبْطُل جَمِيعًا بِبُطْلانِ بَعْضِهَا , وَإِنْ لمْ تَكُنْ مُقَسَّطَةً فَهِيَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَطَّرِدُ فِيهَا الخِلافُ المَذْكُورُ.
وَاعْلمْ أَنَّ فِي ثُبُوتِ الوَجْهِ الأَوَّل نَظَرٌ؛ لأَنَّ القَاضِيَ إنَّمَا فَرَضَهُ فِيمَا إذَا أَجَّرَ المَوْقُوفَ عَليْهِ لكَوْنِ النَّظَرِ لهُ مَشْرُوطًا وَهَذَا مَحَل تَرَدُّدٍ , أَعْنِي: إذَا أَجَّرَ بِمُقْتَضَى النَّظَرِ المَشْرُوطِ لهُ هَل يَلحَقُ بِالنَّاظِرِ العَامِّ فَلا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ الإِجَارَاتُ أَمْ لا؟ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا المُتَأَخِّرِينَ مَنْ أَلحَقهُ بِالنَّاظِرِ العَامِّ فِي ذَلكَ , وَهَكَذَا حُكْمُ المُقْطِعِ إذَا أَجَّرَ أَقْطَاعَهُ ثُمَّ انْتَقَلتْ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ بِإِقْطَاعِ أَحَدٍ.
وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مُزَاحِمًا للأَوَّل فِي اسْتِحْقَاقِ التَّلقِّي عَمَّنْ تَلقَّى عَنْهُ الأَوَّل بِسَبْقِ حَقِّهِ وَتَقْدِيمِهِ عَليْهِ وَهُوَ المُشْتَرِي للشِّقْصِ المَشْفُوعِ إذَا أَجَّرَ , وَقُلنَا بِصِحَّةِ تَصَرُّفَاتِهِ بِالإِجَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا , ثُمَّ انْتَزَعَهُ الشَّفِيعُ وَفِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُقْنِعِ لا تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ , لأَنَّ مِلكَ المُؤَجِّرِ ثَابِتٌ , وَيَسْتَحِقُّ الشَّفِيعُ الأُجْرَةَ مِنْ يَوْمِ أَخْذِهِ ; لأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ انْتِزَاعَ العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ , فَإِذَا فَاتَ أَحَدُهُمَا رَجَعَ إلى بَدَلهِ
وَهُوَ الأُجْرَةُ هَا هُنَا , كَمَا نَقُول فِي الوَقْفِ إذَا انْتَقَل إلى البَطْنِ الثَّانِي وَلمْ تَنْفَسِخْ إجَارَتُهُ إنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الأُجْرَةَ مِنْ يَوْمِ الانْتِقَال , وَكَذَلكَ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَلى مِثْل ذَلكَ فِي بَيْعِ العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ , وَأَنَّ المُشْتَرِي يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ مِنْ حِينِ البَيْعِ , وَهُوَ مُشْكِلٌ ; لأَنَّ المَنَافِعَ فِي مُدَّةِ الإِجَارَةِ غَيْرُ مَمْلوكَةٍ للبَائِعِ فَلا يَدْخُل فِي عَقْدِ البَيْعِ , وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ البَائِعَ يَمْلكُ عِوَضَهَا وَهُوَ الأُجْرَةُ وَلمْ يَسْتَقِرَّ بَعْدُ , وَلوْ انْفَسَخَ العَقْدُ لرَجَعَتْ المَنَافِعُ إليْهِ , فَإِذَا بَاعَ العَيْنَ وَلمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا لمْ تَكُنْ تِلكَ المَنَافِعُ وَلا عِوَضُهَا مُسْتَحَقًّا لهُ لشُمُول البَيْعِ للعَيْنِ وَمَنَافِعِهَا , فَيَقُومُ المُشْتَرِي مَقَامَ البَائِعِ فِيمَا كَانَ يَسْتَحِقُّهُ مِنْهَا وَهُوَ اسْتِحْقَاقُهُ عِوَضَ المَنَافِعِ مَعَ بَقَاءِ الإِجَارَةِ , وَفِي رُجُوعِهَا إليْهِ مَعَ الانْفِسَاخ , وَهَذَا هُوَ أَحَدُ الوَجْهَيْنِ للأَصْحَابِ , وَهُوَ مِثَال نَصِّ أَحْمَدَ المَذْكُورُ أَوَّلاً , وَمَا ذَكَرْنَا قَبْل ذَلكَ مِنْ رُجُوعِ المَنَافِعِ إلى البَائِعِ عِنْدَ الانْفِسَاخِ هُوَ الذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَنْفَسِخُ الإِجَارَةُ بِأَخْذِهِ , وَهُوَ المَجْزُومُ بِهِ فِي المُحَرَّرِ , لمَا قُلنَا مِنْ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي العَيْنِ وَالمَنْفَعَةِ , فَيَمْلكُ انْتِزَاعَ كُلٍّ مِنْهُمَا مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ , وَفَارَقَ إجَارَةَ الوَقْفِ عَلى وَجْهٍ , لأَنَّ البَطْن الثَّانِي لا حَقَّ لهُمْ قَبْل انْقِرَاضِ الأَوَّل , وَهُنَا حَقُّ الشَّفِيعِ ثَابِتٌ قَبْل إيجَارِ المُشْتَرِي فَيَنْفَسِخُ بِأَخْذِهِ لسَبْقِ حَقِّهِ , وَلهَذَا قُلنَا عَلى رِوَايَةٍ إنَّ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي فِي مُدَّةِ الخِيَارِ مُرَاعَى , فَإِنْ فَسَخَ البَائِعُ بَطَل , وَأَيْضًا فَلوْ لمْ تَنْفَسِخْ الإِجَارَةُ لوَجَبَ ضَمَانُ المَنَافِعِ عَلى المُشْتَرِي بِأُجْرَةِ المِثْل لا بِالمُسَمَّى لأَنَّهُ ضَمَانُ حَيْلولةٍ , كَمَا قُلنَا فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ المُسْتَأْجَرَ لزِمَهُ ضَمَانُ قِيمَةِ مَنَافِعِهِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ المُدَّةِ.
وَالثَّالثُ: أَنَّ الشَّفِيعَ بِالخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الإِجَارَةَ أَوْ يَتْرُكَهَا , وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي مَسْأَلةِ الإِعَارَةِ وَهُوَ أَظْهَرُ , فَإِنَّ الإِجَارَةَ بَيْعُ المَنَافِعِ , وَلوْ بَاعَ المُشْتَرِي العَيْنَ أَوْ بَعْضَهَا كَانَ الشَّفِيعُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الأَخْذِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَبَيْنَ الفَسْخِ ليَأْخُذَ مِنْ المُشْتَرِي.
وَخَامِسُهَا: أَنْ يَنْفَسِخَ مِلكُ المُؤَجِّرِ وَيَعُودَ إلى مَنْ انْتَقَل المِلكُ إليْهِ مِنْهُ , فَالمَعْرُوفُ مِنْ المَذْهَبِ أَنَّ الإِجَارَةَ لا تَنْفَسِخُ بِذَلكَ ; لأَنَّ فَسْخَ العَقْدِ لهُ مِنْ حِينِهِ لا مِنْ أَصْلهِ.
وَصَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ فِي التَّنْبِيهِ بِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ لوْ أَنْكَحَهَا المُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ , بِنَاءً على أَنَّ الفَسْخَ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ. وَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي خِلافَيْهِمَا: الفَسْخُ بِالعَيْبِ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ حِينِهِ , وَالفَسْخُ بِالخِيَارِ رَفْعٌ للعَقْدِ مِنْ أَصْلهِ ; لأَنَّ الخِيَارَ يَمْنَعُ اللزُومَ بِالكُليَّةِ , وَلهَذَا يُمْنَعُ مَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي المَبِيعِ وَثَمَنِهِ بِخِلافِ العَيْبِ.
القاعدة السابعة والثلاثون
القَاعِدَةُ السَّابِعَة وَالثَّلاثُونَ:فِي تَوَارُدِ العُقُودِ المُخْتَلفَةِ بَعْضِهَا عَلى بَعْضٍ , وَتَدَاخُل أَحْكَامِهَا وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهَا صُوَرٌ: مِنْهَا: إذَا رَهَنَهُ شَيْئًا ثُمَّ أَذِنَ لهُ فِي الانْتِفَاعِ بِهِ , فَهَل يَصِيرُ عَارِيَّةً حَالةَ الانْتِفَاعِ أَمْ لا؟ قَال القَاضِي فِي خِلافِهِ , وَابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ , وَصَاحِبُ المُغْنِي وَالتَّلخِيصِ: يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالانْتِفَاعِ لأَنَّ ذَلكَ حَقِيقَةُ العَارِيَّةِ , وَأَوْرَدَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ فِي وَقْتِ ضَمَانِهِ احْتِمَاليْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِدُونِ الانْتِفَاعِ.
وَالثَّانِي: يَصِيرُ مَضْمُونًا بِمُجَرَّدِ القَبْضِ إذَا قَبَضَهُ عَلى هَذَا الشَّرْطِ , لأَنَّهُ صَارَ مُمْسِكًا للعَيْنِ لمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا بِهِ , وَهَل يَزُول لزُومُهُ أَمْ لا؟ يَنْبَنِي عَلى أَنَّ إعَارَةَ الرَّاهِنِ بِإِذْنِ المُرْتَهِنِ هَل يُزِيل لزُومَ الرَّهْنِ أَمْ لا؟ وَفِيهِ طَرِيقَانِ:
إحْدَاهُمَا: أَنَّهُ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَهِيَ طَرِيقَةُ المُحَرَّرِ.
وَالثَّانِيَة: إنْ أَعَارَهُ المُرْتَهِنُ لمْ يَزُل اللزُومُ بِخِلافِ غَيْرِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ المُغْنِي.
وَقَال صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ: ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِحَالٍ وَيَشْهَدُ لهُ قَوْل أَبِي بَكْرٍ فِي خِلافِهِ: شَرْطُ مَنْفَعَةِ الرَّهْنِ بَاطِلٌ وَهُوَ رَهْنٌ بِحَالهِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا ثُمَّ أَذِنَ لهُ فِي الانْتِفَاعِ بِهِ , فَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ وَصَاحِبُ التَّلخِيصِ: يَصِيرُ مَضْمُونًا حَالةَ الانْتِفَاعِ لمَصِيرِهِ عَارِيَّةً حِينَئِذٍ قَال ابْنُ عَقِيلٍ: وَلا يَضْمَنُ بِالقَبْضِ قَبْل الانْتِفَاعِ هَاهُنَا لأَنَّهُ لمْ يُمْسِكْهُ لمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ مُنْفَرِدًا بَل لمَنْفَعَتِهِ وَمَنْفَعَةِ مَالكِهِ , بِخِلافِ الرَّهْنِ.
وَمِنْ المُتَأَخِّرِينَ مَنْ قَال: ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لا يَصِيرُ مَضْمُونًا أَيْضًا كَالرَّهْنِ , وَفَرَّقَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ بَيْنَهُمَا , وَلا اخْتِلافَ هَاهُنَا بَيْنَ العَقْدَيْنِ فِي الجَوَازِ إلا أَنْ يَكُونَ مُدَّةَ الانْتِفَاعِ مُؤَقَّتَةً فَيُخَرَّجُ فِيهَا وَجْهٌ بِاللزُومِ مِنْ رِوَايَةِ لزُومِ العَارِيَّةِ المُؤَقَّتَةِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَعَارَهُ شَيْئًا ليَرْهَنَهُ صَحَّ نَصَّ عَليْهِ , وَنَقَل ابْنُ المُنْذِرِ الاتِّفَاقَ عَليْهِ وَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلى الرَّاهِنِ ; لأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ وَأَمَانَةٌ عِنْدَ المُرْتَهِنِ عَليْهِ , وَأَمَّا اللزُومُ وَعَدَمُهُ فَقَال الأَصْحَابُ: هُوَ لازِمٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الرَّاهِنِ وَالمَالكِ , لكِنْ للمَالكِ المُطَالبَةُ بالافتكاك, فَإِذَا انْفَكَّ زَال اللزُومُ فَيَرْجِعُ فِيهِ المِالكُ , وَاسْتَشْكَل ذَلكَ الحَارِثِيُّ وَقَال: إمَّا أَنْ يَكُونَ لازِمًا فَلا يَمْلكُ المَالكُ المُطَالبَةَ قَبْل الأَجَل وَتَكُونُ العَارِيَّةُ هُنَا لازِمَةً لتَعَلقِ حَقِّ الغَيْرِ وَحُصُول الضَّرَرِ بِالرُّجُوعِ كَمَا فِي العَارِيَّةِ كَبِنَاءِ حَائِطٍ وَوَضْعِ خَشَبٍ وَشَبَهِهِمَا انْتَهَى.
وَصَرَّحَ أَبُو الخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ بِعَدَمِ لزُومِهِ فَإِنَّ للمَالكِ انْتِزَاعُهُ مِنْ يَدِ المُرْتَهِنِ فَيَبْطُل الرَّهْنُ.
وَمِنْهَا: لوْ أَعَارَهُ شَيْئًا ثُمَّ رَهَنَهُ عِنْدَهُ.
فَقَال أَبُو البَرَكَاتِ فِي الشَّرْحِ: قِيَاسُ المَذْهَبِ صِحَّتُهُ وَيَسْقُطُ ضَمَانُ العَارِيَّةِ لأَنَّهَا ليْسَتْ لازِمَةً , وَعَقْدُ هَذِهِ الأَمَانَةِ لازِمٌ , ثُمَّ أَخَذَهُ مِنْ كَلامِ الإِمَامِ أَحْمَدَ فِي وُرُودِ عَقْدِ الإِعَارَةِ عَلى الرَّاهِنِ كَمَا سَبَقَ , وَيَتَخَرَّجُ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ مَا فِي تِلكَ
وَمِنْهَا: وُرُودُ عَقْدِ الرَّهْنِ عَلى الغَصْبِ , فَيَصِحُّ عِنْدَنَا , ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَالقَاضِي وَيَبْرَأُ بِهِ الغَاصِبُ , وَكَذَا لوْ أَوْدَعَهُ عِنْدَهُ أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهُ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لخِيَاطَتِهِ أَوْ نَحْوِهَا , ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّابِ وَغَيْرُهُ.
وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ لخِيَاطَتِهِ وَنَحْوِهَا هَل يَبْرَأُ بِهِ عَلى وَجْهَيْنِ , وَذَكَرَ هُوَ فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول في المُضَارَبَةَ إذَا جَعَل المَالكُ المَغْصُوبَ مَعَ الغَاصِبِ مُضَارَبَةً صَحَّ وَلمْ يَبْرَأْ مِنْ ضَمَانِهِ إلى أَنْ يَدْفَعَهُ ثَمَنًا فِيمَا يَشْتَرِي بِهِ فَيَبْرَأُ حِينَئِذٍ مِنْ الضَّمَانِ , وَعَلى قَوْل أَبِي الخَطَّابِ يَبْرَأُ فِي الحَال.
وَمِنْهَا: رَهْنُ المَبِيعِ المَضْمُونِ عَلى البَائِعِ قَبْل قَبْضِهِ عَلى ثَمَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ إذَا قِيل بِصِحَّتِهِ يَزُول بِهِ الضَّمَانُ عَلى قِيَاسِ التِي قَبْلهَا لأَنَّ يَدَهُ صَارَتْ يَدَ ارْتِهَانٍ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال الرَّاهِنُ للمُرْتَهِنِ: إنْ جِئْتُك بِحَقِّك إلى وَقْتِ كَذَا وَإِلا فَالرَّهْنُ لك بِالدَّيْنِ وَقَبْل ذَلكَ فَهُوَ أَمَانَةٌ عِنْدَهُ إلى ذَلكَ الوَقْتِ , ثُمَّ يَصِيرُ مَضْمُونًا ; لأَنَّ قَبْضَهُ صَارَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ , والمنصوص عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ هَارُونَ أَنَّهُ لا يَضْمَنُهُ بِحَالٍ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الخِلافِ ; لأَنَّ الشَّرْطَ يَفْسُدُ فَيَصِيرُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ.
وَمِنْهَا: لوْ كَاتَبَ المُدَبَّرُ أَوْ دَبَّرَ المُكَاتَبُ صَحَّ نَصَّ عَليْهِ , ثُمَّ إنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَلمْ يُؤَدِّ العَبْدُ مِنْ الكِتَابَةِ شَيْئًا عَتَقَ بِالتَّدْبِيرِ مِنْ الثُّلثِ , وَهَل يَكُونُ كَسْبُهُ لهُ كَمَا لوْ عَتَقَ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ وَهُوَ مُكَاتَبٌ أَوْ للوَرَثَةِ كَعِتْقِهِ بِالتَّدْبِيرِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ , وَهَكَذَا حُكْمُ الاسْتِيلادِ وَالكِتَابَةِ , وَنَقَل ابْنُ الحَكَمِ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى بُطْلانِ التَّدْبِيرِ بِالكِتَابَةِ بِنَاءً عَلى أَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيَبْطُل بِالكِتَابَةِ.
القاعدة الثامنة والثلاثون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالثَّلاثُونَ:فِيمَا إذَا وَصَل بِأَلفَاظِ العُقُودِ مَا يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضُوعِهَا فَهَل يَفْسُدُ العَقْدُ بِذَلكَ أَوْ يُجْعَل كِنَايَةً عَمَّا يُمْكِنُ صِحَّتُهُ عَلى ذَلكَ الوَجْهِ؟ وَفِيهِ خِلافٌ , يَلتَفِتُ إلى أَنَّ المُغَلبَ هَل هُوَ اللفْظُ أَوْ المَعْنَى , وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: لوْ أَعَارَهُ شَيْئًا وَشَرَطِ عَليْهِ العِوَضَ فَهَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَصِحُّ وَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ القَرْضِ فَيَمْلكُهُ بِالقَبْضِ إذَا كَانَ مَكِيلاً أَوْ مَوْزُونًا ذَكَرَهُ أَبُو الخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ , وَكَذَلكَ ذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَأَبُو الخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ مِنْ رُءُوسِ المَسَائِل أَنَّهُ يَصِحُّ عِنْدَنَا شَرْطُ العِوَضِ فِي العَارِيَّةِ كَمَا يَصِحُّ شَرْطُ العِوَضِ فِي الهِبَةِ ; لأَنَّ العَارِيَّةَ هِبَةُ مَنْفَعَةٍ , وَلا تَفْسُدُ بِذَلكَ , مَعَ أَنَّ القَاضِيَ قَرَّرَ أَنَّ الهِبَةَ المَشْرُوطُ فِيهَا العِوَضُ ليْسَتْ بَيْعًا , وَإِنَّمَا الهِبَةُ تَارَةً تَكُونُ تَبَرُّعًا وَتَارَةً تَكُونُ بِعِوَضٍ , وَكَذَلكَ العِتْقُ , وَلا يَخْرُجَانِ مِنْ مَوْضِعِهَا , فَكَذَلكَ العَارِيَّةُ , وَهَذَا مَأْخَذٌ آخَرُ للصِّحَّةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَفْسُدُ بِذَلكَ وَجَعَلهُ أَبُو الخَطَّابِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ المَذْهَبَ ; لأَنَّ العِوَضَ يُخْرِجُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا , وَفِي التَّلخِيصِ إذَا أَعَارَهُ عَبْدَهُ عَلى أَنْ يُعِيرَهُ الآخَرُ فَرَسَهُ فَهِيَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ غَيْرُ مَضْمُونَةٍ فَهَذَا رُجُوعٌ إلى أَنَّهَا كِنَايَةٌ فِي عَقْدٍ آخَرَ , وَالفَسَادُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لاشْتِرَاطِ عَقْدٍ فِي عَقْدٍ آخَرَ وَإِمَّا لعَدَمِ تَقْدِيرِ المَنْفَعَتَيْنِ , وَعَليْهِ خَرَّجَهُ الحَارِثِيُّ وَقَال: وَكَذَلكَ لوْ قَال أَعَرْتُك عَبْدِي لتُمَوِّنَهُ أَوْ دَابَّتِي لتَعْلفَهَا , وَهَذَا يَرْجِعُ إلى مُؤْنَةِ العَارِيَّةِ عَلى المَالكِ , وَقَدْ صَرَّحَ الحَلوَانِيُّ فِي التَّبْصِرَةِ بِأَنَّهَا عَلى المُسْتَعِيرِ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال خُذْ هَذَا المَال مُضَارَبَةً وَالرِّبْحُ كُلهُ لك أَوْ لي فَقَال القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ: هِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ يَسْتَحِقُّ فِيهَا أُجْرَةَ المِثْل , وَكَذَلكَ قَال صَاحِبُ المُغْنِي لكِنَّهُ قَال إنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فِي الصُّورَةِ الثَّانِيَة: لأَنَّهُ دَخَل عَلى أَنْ لا شَيْءَ لهُ وَرَضِيَ بِهِ , وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ المُسَاقَاةِ.
وَقَال فِي المُغْنِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنَّهُ إبْضَاعٌ صَحِيحٌ فَرَاعَى الحُكْمَ دُونَ اللفْظِ , وَعَلى هَذَا فَيَكُونُ فِي الصُّورَةِ الأُولى قَرْضًا.
وَمِنْهَا: لوْ اسْتَأْجَرَ المَكِيل أَوْ المَوْزُونَ أَوْ النُّقُودَ أَوْ الفُلوسَ وَلمْ يَذْكُرْ مَا يَسْتَأْجِرُهَا لهُ , فَقَال القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي الإِجَارَاتِ: يَصِحُّ وَيَكُونُ قَرْضًا وَلنَا وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ لا يَصِحُّ.
وَمِنْهَا: لوْ أَجَّرَهُ الأَرْضَ بِثُلثِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ زَرْعٍ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى صِحَّتِهِ , وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي مَعْنَاهُ , فَقَال القَاضِي هِيَ إجَارَةٌ عَلى حَدِّ المُزَارَعَةِ تَصِحُّ بِلفْظِ الإِجَارَةِ وَحُكْمُهَا حُكْمُهَا.
وَقَال أَبُو الخَطَّابِ وَابْنُ عَقِيلٍ وَصَاحِبُ المُغْنِي: هِيَ مُزَارَعَةٌ بِلفْظِ الإِجَارَةِ فَتَصِحُّ عَلى قَوْلنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ البَذْرُ مِنْ العَامِل وَإِلا فَلا.
وَمِنْهَا: لوْ أَسْلمَ فِي شَيْءٍ حَالاًّ فَهَل يَصِحُّ وَيَكُونُ بَيْعًا أَوْ لا يَصِحُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ لا يَصِحُّ البَيْعُ بِلفْظِ السَّلمِ.
وَالثَّانِي: يَصِحُّ , قَالهُ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ مِنْ خِلافِهِ.
وَمِنْهَا: إذَا قَال: أَنْتِ عَليَّ حَرَامٌ أَعْنِي بِهِ الطَّلاقَ وَقُلنَا الحَرَامُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَهَل يَلغُو تَفْسِيرُهُ وَيَكُونُ ظِهَارًا أَوْ يَصِحُّ وَيَكُونُ طَلاقًا؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا: لوْ قَال لهُ فِي دَيْن السَّلمِ: صَالحْنِي مِنْهُ عَلى مِثْل الثَّمَنِ , قَال القَاضِي: يَصِحُّ وَيَكُونُ إقَالةً , وَقَال هُوَ وَابْنُ عَقِيلٍ: لا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ الغَرِيمِ بِمِثْلهِ لأَنَّهُ نَفْسُ حَقِّهِ فَيُخَرَّجُ فِي المَسْأَلةِ وَجْهَانِ التِفَاتًا إلى اللفْظِ وَالمَعْنَى.
القاعدة التاسعة والثلاثون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَة وَالثَّلاثُونَ:فِي انْعِقَادِ العُقُودِ بِالكِنَايَاتِ وَاخْتِلافِ الأَصْحَابِ فِي ذَلكَ.
فَقَال القَاضِي: فِي مَوَاضِعَ: لا كِنَايَةَ إلا فِي الطَّلاقِ وَالعَتَاقِ , وَسَائِرُ العُقُودِ لا كِنَايَةَ فِيهَا , وَذَكَرَ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ نَحْوَهُ , وَزَادَ: وَلا يَحِل العُقُودُ بِالكِنَايَاتِ غَيْرَ النِّكَاحِ وَالرِّقِّ.
وَقَال فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ: تَدْخُل الكِنَايَاتُ فِي سَائِرِ العُقُودِ سِوَى النِّكَاحِ لاشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ عَليْهِ وَهِيَ لا تَقَعُ عَلى النِّيَّةِ وَأَشَارَ إليْهِ صَاحِبُ المُغْنِي أَيْضًا , وَكَلامُ كَثِيرٍ مِنْ الأَصْحَابِ يَدُل عَليْهِ , وَهَي المُعَاطَاةُ التِي يَنْعَقِدُ بِهَا البَيْعُ وَالهِبَةُ وَنَحْوُهُمَا الكِنَايَاتُ وَكَذَلكَ كِنَايَاتُ الوَقْفِ تَنْعَقِدُ بِهِ فِي البَاطِنِ صَرَّحَ بِهِ الحَلوَانِيُّ , وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي القَاعِدَةِ التِي قَبْلهَا كَثِيرٌ مِنْ فُرُوعِ هَذِهِ القَاعِدَةِ.
مِنْهَا: لوْ أَجَّرَهُ عَيْنًا بِلفْظِ البَيْعِ فَفِي الصِّحَّةِ وَجْهَانِ وَقَال صَاحِبُ التَّلخِيصِ: إنْ أَضَافَ البَيْعَ إلى العَيْنِ لمْ يَصِحَّ وَالوَجْهَانِ فِي إضَافَتِهَا إلى المَنْفَعَةِ.
وَمِنْهَا: الرَّجْعَةُ بِالكِنَايَاتِ إنْ اشْتَرَطْنَا الإِشْهَادَ عَليْهَا لمْ يَصِحَّ وَإِلا فَوَجْهَانِ , وَأَطْلقَ الوَجْهَيْنِ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ وَغَيْرُهُ.
وَالأَوْلى مَا ذَكَرْنَاهُ , فَأَمَّا قَوْلهُ لأَمَتِهِ: أَعْتَقْتُك وَجَعَلت عِتْقَك صَدَاقَك فَجَعَلهُ ابْنُ حَامِدٍ كِنَايَةً وَلمْ يُعْقَدْ بِهِ النِّكَاحُ حَتَّى يَقُول: وَتَزَوَّجْتُك.
وَقَال القَاضِي: هُوَ صَرِيحٌ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الصَّدَاقِ , فَإِنَّ الصَّرِيحَ قَدْ يَكُونُ مَجَازًا إذَا اُشْتُهِرَ وَتَبَادَرَ فَهْمُهُ وَلوْ مَعَ القَرِينَةِ , وَفَسَّرَهُ القَاضِي بِأَنَّهُ الظَّاهِرُ وَلا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ نَصًّا , وَكَلامُ أَحْمَدَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ هَذَا اللفْظَ كِنَايَةٌ قَال فِي رِوَايَةِ صَالحٍ: إذَا قَال: أَجْعَل عِتْقَكِ صَدَاقَكِ , أَوْ قَال: صَدَاقُكِ عِتْقُك , كُل ذَلكَ جَائِزٌ إذَا كَانَتْ لهُ نِيَّةٌ فَنِيَّتُهُ تُصَرِّحُ بِاعْتِبَارِ النِّيَّةِ , وَتَأَوَّلهُ القَاضِي بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا , وَكَذَلكَ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى مَا إذَا قَال الخَاطِبُ: للوَليِّ أَزَوَّجْت وَليَّتَك؟ قَال: نَعَمْ وَقَال: للمُتَزَوِّجِ: أَقَبِلت؟ قَال نَعَمْ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْعَقِدُ بِهِ , وَذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ , وَنَعَمْ هَهُنَا كِنَايَةٌ ; لأَنَّ التَّقْدِيرَ نَعَمْ زَوَّجْتُ وَنَعَمْ قَبِلتُ , وَأَكْثَرُ مَا يُقَال إنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي الإِعْلامِ بِحُصُول الإِنْشَاءِ , فَالإِنْشَاءُ إنَّمَا اُسْتُفِيدَ مِنْهَا وَليْسَ فِيهَا مِنْ أَلفَاظِ صَرِيحِ الإِنْشَاءِ شَيْءٌ فَيَكُونُ كِنَايَةً عَنْ لفْظِ النِّكَاحِ وَقَبُولهِ.
القاعدة الأربعون
القَاعِدَةُ الأَرْبَعُونَ:الأَحْكَامُ المُتَعَلقَةُ بِالأَعْيَانِ بِالنِّسْبَةِ إلى تَبَدُّل الأَمْلاكِ وَاخْتِلافِهَا عَليْهَا نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَتَعَلقُ الحُكْمُ فِيهِ بِمِلكٍ وَاحِدٍ فَإِذَا زَال ذَلكَ المِلكُ سَقَطَ الحُكْمُ وَصُوَرُ ذَلكَ كَثِيرَةٌ:
مِنْهَا: الإِجَارَةُ فَمَنْ اسْتَأْجَرَ شَيْئًا مُدَّةً فَزَال مِلكُ صَاحِبِهِ عَنْهُ بِتَمَلكٍ قَهْرِيٍّ يَشْمَل العَيْنَ وَالمَنْفَعَةَ ثُمَّ عَادَ مِلكُ المُؤَجِّرِ وَالمُدَّةُ بَاقِيَةٌ لمْ تَعُدْ الإِجَارَةُ , هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ ; لأَنَّ مِلكَ المُسْتَأْجِرِ زَال عَنْ المَنَافِعِ وَثَبَتَ لهُ الرُّجُوعُ عَلى المَالكِ بِقِسْطِهِ مِنْ الأُجْرَةِ , فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ لمْ يَبْقَ لهُ حَقٌّ فَتَعُودُ العَيْنُ بِمَنَافِعِهَا مِلكًا للمُؤَجِّرِ , أَمَّا إنْ لمْ يَسْتَوْفِ شَيْئًا فَقَدْ سَبَقَ نَظَائِرُهَا فِي قَاعِدَةِ مَنْ تَعَذَّرَ عَليْهِ الأَصْل وَاسْتَقَرَّ حَقُّهُ فِي البَدَل ثُمَّ وَجَدَ الأَصْل فَيَحْتَمِل وَجْهَيْنِ , وَالأَظْهَرُ هُنَا عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ المَنَافِعِ لأَنَّ حَقَّهُ سَقَطَ مِنْهُ وَانْتَقَل إلى بَدَلهَا.
وَمِنْهَا: الإِعَارَةُ فَلوْ أَعَارَهُ شَيْئًا ثُمَّ زَال مِلكُهُ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ لمْ تَعُدْ الإِعَارَةُ.
وَمِنْهَا: الوَصِيَّةُ تَبْطُل بِإِزَالةِ المِلكِ وَلا تَعُودُ بَعْدَهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا يَتَعَلقُ الحُكْمُ فِيهِ بِنَفْسِ العَيْنِ مِنْ حَيْثُ هِيَ تَعَلقًا لازِمًا يَخْتَصُّ تَعَلقُهُ بِمِلكٍ دُونَ مِلكٍ وَلهُ صُوَرٌ:
مِنْهَا: الرَّهْنُ , فَإِذَا رَهَنَ عَيْنًا رَهْنًا لازِمًا ثُمَّ زَال مِلكُهُ عَنْهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَادَ فَالرَّهْنُ بَاقٍ بِحَالهِ , لأَنَّهُ وَثِيقَةٌ لازِمَةٌ للعَيْنِ فَلا تَنْفَكُّ بِتَبَدُّل الأَمْلاكِ كَأَرْشِ الجِنَايَةِ , غَيْرَ أَنَّ الأَرْشَ لازِمٌ لرَقَبَةِ الجَانِي بِدُونِ القَبْضِ , وَالرَّهْنُ لا يَلزَمُ أَوْ لا يَصِحُّ بِدُونِ القَبْضِ , وَذَكَرَ الأَصْحَابُ صُوَرًا يَعُودُ فِيهَا الرَّهْنُ بِعَوْدِ المِلكِ:
مِنْهَا: لوْ سَبَى الكُفَّارُ العَبْدَ المَرْهُونَ ثُمَّ اُسْتُنْقِذَ مِنْهُمْ عَادَ رَهْنًا بِحَالهِ نَصَّ عَليْهِ الإِمَامُ أَحْمَدُ.
وَمِنْهَا: لوْ تَخَمَّرَ العَصِيرُ المُرْتَهَنُ ثُمَّ تَخَلل فَإِنَّهُ يَعُودُ رَهْنًا كَمَا كَانَ. كَذَلكَ يَعُودُ الرَّهْنُ بَعْدَ زَوَالهِ وَإِنْ كَانَ مِلكُ الرَّاهِنِ بَاقِيًا عَليْهِ فِي مَوَاضِعَ.
مِنْهَا: لوْ صَالحَهُ مِنْ دَيْنِ الرَّهْنِ عَلى مَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي المَجْلسِ صَحَّ الصُّلحُ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الدَّيْنِ وَزَال الرَّهْنُ , فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْل القَبْضِ بَطَل الصُّلحُ وَعَادَ الدَّيْنُ وَالرَّهْنُ بِحَالهِ.
وَمِنْهَا: مَا قَالهُ أَبُو بَكْرٍ: إنْ عَادَ الرَّهْنُ إلى الرَّاهِنِ بَطَل الرَّهْنُ , فَإِنْ عَادَ إليْهِ عَادَ رَهْنًا كَمَا كَانَ , وَفِي كَلامِ أَحْمَدَ نَحْوُهُ , وَتَأَوَّلهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ عَلى أَنَّهُ بَطَل لزُومُهُ لأَنَّهُ لوْ بَطَل بِالكُليَّةِ لمْ يَعُدْ بِدُونِ عَقْدٍ , وَهَذَا بَاطِلٌ بِمَسْأَلةِ الصُّلحِ , وَقَدْ وَافَقَا عَليْهاِ , وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّهْنَ لا يَبْطُل بَعْدَ لزُومِهِ بِدُونِ رِضَى المُرْتَهِنِ.
وَمِنْ صُوَرِ هَذَا النَّوْعِ: المُكَاتَبُ , فَإِنَّ المُكَاتَبَةَ عَقْدٌ لازِمٌ ثَابِتٌ فِي الرَّقَبَةِ فَلا يَسْقُطُ بِانْتِقَال المِلكِ فِيهِ.
وَمِنْهَا: الأُضْحِيَّةُ المُعَيَّنَةُ فَإِنَّ الحَقَّ ثَابِتٌ فِي رَقَبَتِهَا لا يَزُول بِدُونِ اخْتِيَارِ المَالكِ فَإِذَا تَعَيَّبَتْ خَرَجَتْ عَنْ كَوْنِهَا أُضْحِيَّةً , فَإِذَا زَال العَيْبُ عَادَتْ أُضْحِيَّةً كَمَا كَانَتْ , ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ.
وَمِنْهَا: التَّدْبِيرُ عَلى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ.
وَمِنْهَا رُجُوعُ الزَّوْجِ فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ الفُرْقَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ سَوَاءٌ كَانَ قَدْ زَال مِلكُ الزَّوْجَةِ عَنْهُ ثُمَّ عَادَ أَوْ لمْ يَزُل ; لأَنَّ حَقَّهُ مُتَعَلقٌ بِعَيْنِهِ.
وَمِنْهَا: عُرُوضُ التِّجَارَةِ إذَا خَرَجَتْ عَنْ مِلكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ثُمَّ عَادَتْ فَإِنَّهُ لا يَنْقَطِعُ الحَوْل بِذَلكَ كَمَا إذَا تَخَمَّرَ العَصِيرُ ثُمَّ تَخَلل.
ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ.
وَمِنْهَا صِفَةُ الطَّلاقِ , تَعُودُ بِعَوْدِ النِّكَاحِ , وَسَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي زَمَنِ البَيْنُونَةِ أَوْ لمْ تُوجَدْ , عَلى المَذْهَبِ الصَّحِيحِ.
وَمِنْهَا: صِفَةُ العِتْقِ تَعُودُ بِعَوْدِ مِلكِ الرَّقِيقِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ , وَفِي الأُخْرَى لا تَعُودُ إذَا وُجِدَتْ الصِّفَةُ بَعْدَ زَوَال المِلكِ , وَفَرَّقَ القَاضِي بَيْنَ الطَّلاقِ وَالعَتَاقِ , بِأَنَّ مِلكَ الرَّقِيقِ لا يُبْنَى فِيهِ أَحَدُ المِلكَيْنِ عَلى الآخَرِ , بِخِلافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُبْنَى فِيهِ أَحَدُ المِلكَيْنِ عَلى الآخَرِ فِي عِدَدِ الطَّلاقِ عَلى الصَّحِيحِ , وَهَذَا التَّفْرِيقُ لا أَثَرَ لهُ ; إذْ لوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لمْ يُشْتَرَطْ لعَدَمِ الحِنْثِ وَوُجُودِ الصِّفَةِ فِي غَيْرِ المِلكِ.
وَمِنْهَا: الرَّدُّ بِالعَيْبِ لا يَمْتَنِعُ بِزَوَال المِلكِ إذَا لمْ يَدُل عَلى الرِّضَا , وَهَاهُنَا صورٌ مُخْتَلفٌ فِي إلحَاقِهَا بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ وَهِيَ مُحْتَمِلةٌ:
فَمِنْهَا: رُجُوعُ الأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لوَلدِهِ إذَا أَخْرَجَهُ الابْنُ عَنْ مِلكِهِ ثُمَّ عَادَ إليْهِ فَهَل يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الرُّجُوعِ أَمْ لا؟
وَمِنْهَا رُجُوعُ غَرِيمِ المُفْلسِ فِي السِّلعَةِ التِي وَجَدَهَا بِعَيْنِهَا وَكَانَ المُفْلسُ قَدْ أَخْرَجَهَا عَنْ مِلكِهِ ثُمَّ عَادَتْ إليْهِ , وَفِي المَسْأَلتَيْنِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: لا حَقَّ لهُمَا فِيهَا ; لأَنَّ حَقَّهُمَا مُتَعَلقٌ بِالعَقْدِ الأَوَّل المُتَلقَّى عَنْهُمَا.
وَالثَّانِي: غَيْرُ مُتَعَلقٍ عَنْهُمَا فَلا يَسْتَحِقَّانِ فِيهِ رُجُوعًا.
وَالثَّالثُ: لهُمَا الرُّجُوعُ نَظَرًا إلى أَنَّ حَقَّهُمَا ثَابِتٌ فِي العَيْنِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ فَأَشْبَهَ الرَّدَّ بِالعَيْبِ.
وَ الرَّابِعُ : إنْ عَادَ بِمِلكٍ جَدِيدٍ سَقَطَ حَقُّهُمَا , وَإِنْ عَادَ بِفَسْخِ العَقْدِ فَلهُمَا الرُّجُوعُ , لأَنَّ المِلكَ العَائِدَ بِالفَسْخِ تَابِعٌ للمِلكِ الأَوَّل فَإِنَّ الفَسْخَ رَفْعٌ للعَقْدِ الحَادِثِ فَيَعُودُ المِلكُ كَمَا كَانَ.
وَمِنْهَا: الفراشُ , فَإِذَا وَطِئَ أَمَةً ثُمَّ بَاعَهَا وَوَطِئَ أُخْتَهَا بِالمِلكِ , ثُمَّ عَادَتْ الأُولى إلى مِلكِهِ فَهَل يَعُودُ الفِرَاشُ أَمْ لا؟ عَلى وَجْهَيْنِ , أَشْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَعُودُ , وَهُوَ المَنْصُوصُ ; فَيَجِبُ عَليْهِ اجْتِنَابُهُمَا حَتَّى يُحَرِّمَ إحْدَاهُمَا.
وَالثَّانِي: لهُ اسْتِدَامَةُ اسْتِفْرَاشِ الثَّانِيَة وَيَجْتَنِبُ الرَّاجِعَةَ لزَوَال الفِرَاشِ فِيهَا بِزَوَال المِلكِ وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ المُحَرَّرِ.
القاعدة الحادية والأربعون
القَاعِدَةُ الحَادِيَة وَالأَرْبَعُونَ:إذَا تَعَلقَ بِعَيْنِ حَقٍّ تَعَلقًا لازِمًا فَأَتْلفَهَا مَنْ يَلزَمُهُ الضَّمَانُ فَهَل يَعُودُ الحَقُّ إلى البَدَل المَأْخُوذِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ آخَرَ؟ فِيهِ خِلافٌ , وَيَتَخَرَّجُ عَلى ذَلكَ مَسَائِل:
مِنْهَا: لوْ أَتْلفَ الرَّهْنَ مُتْلفٌ وَأُخِذَتْ قِيمَتُهُ فَظَاهِرُ كَلامِهِمْ أَنَّهَا تَكُونُ رَهْنًا بِمُجَرَّدِ الأَخْذِ وَفَرَّعَ القَاضِي عَلى ذَلكَ أَنَّ الوَكِيل فِي بَيْعِ المُتْلفِ يَمْلكُ بَيْعَ البَدَل المَأْخُوذِ بِغَيْرِ إذْنٍ جَدِيدٍ وَخَالفَهُ صَاحِبُ الكَافِي وَالتَّلخِيصِ , وَظَاهِرُ كَلامِ أَبِي الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ فِي مَسْأَلةِ إبْدَال الأُضْحِيَّةِ أَنَّهُ لا يَصِيرُ رَهْنًا إلا بِجُعْل الرَّاهِنِ.
وَمِنْهَا: الوَقْفُ إذَا أَتْلفَهُ مُتْلفٌ وَأُخِذَتْ قِيمَتُهُ فَاشْتُرِيَ بِهَا بَدَلهُ فَهَل يَصِيرُ وَقْفًا بِدُونِ إنْشَاءِ الوَقْفِ عَليْهِ مِنْ النَّاظِرِ حَكَى بَعْضُ الأَصْحَابِ فِي ذَلكَ وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: إذَا أَتْلفَ الأُضْحِيَّةَ مُتْلفٌ وَأُخِذَتْ مِنْهُ القِيمَةُ أَوْ بَاعَهَا مَنْ أَوْجَبَهَا ثُمَّ اشْتَرَى بِالقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ مِثْلهَا فَهَل تَصِيرُ مُتَعَيَّنَةً بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ؟ يَتَخَرَّجُ عَلى وَجْهَيْنِ.
وَمِنْهَا: المُوصَى لهُ بِعَيْنٍ إذَا أَتْلفَهَا مُتْلفٌ بَعْدَ المَوْتِ وَقَبْل القَبُول فَحَقُّهُ بَاقٍ فِي بَدَلهَا.
القاعدة الثانية والأربعون
القَاعِدَةُ الثَّانِيَة وَالأَرْبَعُونَ:فِي أَدَاءِ الوَاجِبَاتِ المَاليَّةِ وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلى دَيْنٍ وَعَيْنٍ فَأَمَّا الدَّيْنُ فَلا يَجِبُ أَدَاؤُهُ بِدُونِ مُطَالبَةِ المُسْتَحِقِّ إذَا كَانَ آدَمِيًّا حَتَّى ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي جَوَازِ السَّفَرِ قَبْل المُطَالبَةِ وَجْهَيْنِ , وَهَذَا مَا لمْ يَكُنْ قد عين لهُ وَقْتًا للوَفَاءِ فَأَمَّا إنْ عَيَّنَ وَقْتًا كَيَوْمِ كَذَا فَلا يَنْبَغِي أَنْ يُجَوَّزَ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ لأَنَّهُ لا فَائِدَةَ للتَّوْقِيتِ إلا وُجُوبُ الأَدَاءِ فِيهِ بِدُونِ مُطَالبَةٍ , فَإِنَّ تَعَيُّنَ الوَفَاءِ فِيهِ أَوَّلاً كَالمُطَالبَةِ بِهِ وَأَمَّا إنْ كَانَ الدَّيْنُ للهِ عَزَّ وَجَل فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ يَجِبُ أَدَاؤُهُ عَلى الفَوْرِ لتَوَجُّهِ الأَمْرِ بِأَدَائِهِ مِنْ اللهِ عَزَّ وَجَل , وَدَخَل فِي ذَلكَ الزَّكَاةُ وَالكَفَّارَاتُ وَالنُّذُورُ وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلى إجْبَارِ المُظَاهِرِ عَلى الكَفَّارَةِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ وَأَمَّا العَيْنُ فَأَنْوَاعٌ: مِنْهَا: الأَمَانَاتُ التِي حَصَلتْ فِي يَدِ المُؤْتَمَنِ بِرِضَى صَاحِبِهَا فَلا يَجِبُ أَدَاؤُهَا إلا بَعْدَ المُطَالبَةِ مِنْهُ وَدَخَل فِي ذَلكَ الوَدِيعَةُ وَكَذَلكَ أَمْوَال الشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالوِكَالةِ مَعَ بَقَاءِ عُقُودِهَا.
وَمِنْهَا: الأَمَانَاتُ الحَاصِلةُ فِي يَدِهِ بِدُونِ رِضَى أَصْحَابِهَا فَيَجِبُ المُبَادَرَةُ إلى رَدِّهَا مَعَ العِلمِ بِمُسْتَحَقِّهَا
القاعدة الثالثة والأربعون
القَاعِدَةُ الثَّالثَةُ وَالأَرْبَعُونَ:فِيمَا يَضْمَنُ مِنْ الأَعْيَانِ بِالعَقْدِ أَوْ بِاليَدِ القَابِضُ لمَال غَيْرِهِ , لا يَخْلو إمَّا يَقْبِضُهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ اسْتَنَدَ إلى إذْنٍ شَرْعِيٍّ كَاللقَطَةِ لمْ يَضْمَنْ وَكَذَا إنْ اسْتَنَدَ إلى إذْنٍ عُرْفِيٍّ كَالمُنْقِذِ لمَال غَيْرِهِ مِنْ التَّلفِ وَنَحْوِهِ وَحَكَى فِي التَّلخِيصِ وَجْهًا بِضَمَانِ هَذَا وَفِيهِ بُعْدٌ وَنَصَّ أَحْمَدُ عَلى أَنَّ مَنْ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا ليَرُدَّهُ فَأَبِقَ مِنْهُ فَلا ضَمَانَ عَليْهِ لكِنْ قَدْ يُقَال هُنَا إذْنٌ شَرْعِيٌّ فِي أَخْذِ الآبِقِ لرَدِّهِ وَإِنْ خَلا عَنْ ذَلكَ كُلهِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَعَليْهِ الضَّمَانُ فِي الجُمْلةِ هَذَا إذَا كَانَ أَصْل القَبْضِ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ إلى إذْنٍ , أَمَّا إنْ وَجَدَ اسْتِدَامَةَ قَبْضٍ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ فِي الاسْتِدَامَةِ فَهَهُنَا ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَقَدَ عَلى مِلكِهِ عَقْدًا لازِمًا يَنْقُل المِلكَ فِيهِ وَلمْ يَقْبِضْهُ المَالكُ بَعْدُ فَإِنْ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ تَسْليمِهِ فَهُوَ غَاصِبٌ إلا حَيْثُ يَجُوزُ الامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْليمِ كَتَسْليمِ العِوَضِ عَلى وَجْهٍ أَوْ لكَوْنِهِ رَهْنًا عِنْدَهُ أَوْ لاسْتِثْنَائِهِ مَنْفَعَتَهُ مُدَّةً وَإِنْ لمْ يَكُنْ مُمْتَنِعًا مِنْ التَّسْليمِ بَل بَاذِلاً لهُ فَلا ضَمَانَ عَليْهِ عَلى ظَاهِرِ المَذْهَبِ إلا أَنْ يَكُونَ المَعْقُودُ عَليْهِ مُبْهَمًا لمْ يَتَعَيَّنْ بَعْدُ كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ فَإِنَّ عَليْهِ ضَمَانَهُ فِي الجُمْلةِ وَبِمَاذَا يَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِهِ, قَال الخِرَقِيِّ وَالأَصْحَابُ: لا يَزُول ضَمَانُهُ بِدُونِ قَبْضِ المُشْتَرِي وَهَل يَحْصُل القَبْضُ بِمُجَرَّدِ التَّخْليَةِ مَعَ التَّمْيِيزِ أَوْ لا يَحْصُل بِدُونِ النَّقْل فِيمَا يُنْقَل؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا النَّقْل امْتَدَّ الضَّمَانُ إليْهِ وَهَل يَسْقُطُ بِتَفْرِيطِ المُشْتَرِي فِي النَّقْل؟ عَلى وَجْهَيْنِ أَشْهَرُهُمَا: أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ وَالثَّانِي: لا يَسْقُطُ حَتَّى يُوجَدَ النَّقْل بِكُل حَالٍ , وَذَكَرَ القَاضِي فِي خِلافِهِ فِي مَسْأَلةِ الجَوَائِحِ أَنَّهُ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَفِيهِ بُعْدٌ ثُمَّ وَجَدْتُهُ مَنْصُوصًا صَرِيحًا عَنْ أَحْمَدَ فِي الثَّمَرَةِ المُشْتَرَاةِ قَبْل صَلاحِهَا بِشَرْطِ القَطْعِ إذَا أَخَّرَهَا المُشْتَرِي حَتَّى تَلفَتْ بِجَائِحَةٍ قَبْل صَلاحِهَا أَنَّهَا مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ مُعَللاً بِأَنَّهَا فِي مِلكِ البَائِعِ وَفِي حُكْمِهِ نَقَلهُ عَنْ الحَسَنُ بْنُ ثَوَابٍ وَإِنْ اعْتَبَرْنَا التَّخْليَةَ مَعَ التَّمْيِيزِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فَلأَنَّهُ يَحْصُل بِهِ التَّمَكُّنُ مِنْ القَبْضِ وَلهَذَا يَنْتَقِل الضَّمَانُ فِي بَيْعِ الأَعْيَانِ المُتَمَيِّزَةِ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ عَلى المَذْهَبِ لحُصُول التَّمَكُّنِ مِنْ القَبْضِ , وَلعَل اشْتِرَاطَ النَّقْل إنَّمَا يُخَرَّجُ عَلى الرِّوَايَةِ الأُخْرَى وَهِيَ ضَمَانُ جَمِيعِ الأَعْيَانِ قَبْل القَبْضِ فَلا يَنْتَقِل الضَّمَانُ هُنَا إلا بِحَقِيقَةِ القَبْضِ دُونَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالأَوَّل أَظْهَرُ لأَنَّ الذِي يَجِبُ عَلى البَائِعِ التَّمْيِيزُ وَالتَّخْليَةُ وَهُوَ التَّسْليمُ فَأَمَّا النَّقْل فَوَاجِبٌ عَلى المُشْتَرِي لأَنَّ فِيهِ تَفْرِيعًا لمِلكِ البَائِعِ مِنْ مَالهِ فَيَكُونُ بِتَرْكِهِ مُفَرِّطًا فَيَنْتَقِل
الضَّمَانُ إليْهِ، وَيَشْهَدُ لهُ شِرَاءُ الثَّمَرِ فِي رُءُوسِ النَّخْل فَإِنَّ الضَّمَانَ يَنْتَقِل فِيهِ بِمُجَرَّدِ انْتِهَاءِ الثَّمَرِ إلى أَوَانِ أَخْذِهِ وَصَلاحِيَتِهِ لهُ سَوَاءٌ قَطَعَهُ المُشْتَرِي أَوْ لمْ يَقْطَعْهُ عَلى الصَّحِيحِ وَلكِنْ هَل يُعْتَبَرُ لانْتِقَال الضَّمَانِ التَّمَكُّنُ مِنْ القَطْعِ أَمْ لا؟ خَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلى وَجْهَيْنِ مِنْ الزَّكَاةِ وَرَجَّحَ عَدَمَ اعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ وَاَلذِي عَليْهِ القَاضِي وَالأَكْثَرُونَ اعْتِبَارُ التَّمَكُّنِ مِنْ النَّقْل فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ فَلا يَزَال فِي ضَمَانِ البَائِعِ حَتَّى يَحْصُل تَمَكُّنُ المُشْتَرِي مِنْ النَّقْل وَصَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ بِخِلافِ ذَلكَ وَأَنَّهُ يَضْمَنُ الأَعْيَانَ المُتَمَيِّزَةَ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ سَوَاءٌ تَمَكَّنَ مِنْ القَبْضِ أَوْ لمْ يَتَمَكَّنْ كَمَا قَال فِي مَسْأَلةِ الجَوَائِحِ وَكَذَلكَ حُكْمُ المَمْلوكِ بِصُلحٍ أَوْ خُلعٍ أَوْ صَدَاقٍ.
القِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ عَليْهِ عَقْدًا وَيَنْقُلهُ إلى يَدِ المَعْقُودِ لهُ ثُمَّ يَنْتَهِي العَقْدُ أَوْ يَنْفَسِخُ وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ كَالبَيْعِ إذَا انْفَسَخَ بَعْدَ قَبْضِهِ بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارٍ وَالعَيْنُ المُسْتَأْجَرَةُ إذَا انْتَهَتْ المُدَّةُ أَوْ العَيْنُ التِي أَصْدَقَهَا المَرْأَةَ وَأَقْبَضَهَا ثُمَّ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَاوَضَةٍ كَعَقْدِ الرَّهْنِ إذَا وَفَّى الدَّيْنَ وَكَعَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ الوَدِيعَةِ وَالوَكَالةِ إذَا فُسِخَ العَقْدُ وَالمَال فِي أَيْدِيهمْ فَأَمَّا عُقُودُ المُعَاوَضَاتِ فَيَتَوَجَّهُ فِيهَا للأَصْحَابِ وُجُوهٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ حُكْمَ الضَّمَانِ بَعْدَ زَوَال العَقْدِ حُكْمُ ضَمَانِ المَالكِ الأَوَّل قَبْل التَّسْليمِ فَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا عَليْهِ كان بَعْدَ انْتِهَاءِ العَقْدِ مَضْمُونًا لهُ وَإِلا فَلا وَهِيَ طَرِيقَةُ أَبِي الخَطَّابِ وَصَاحِبِ الكَافِي فِي آخَرَيْنِ اعْتِبَارًا لأَحَدِ الضَّمَانَيْنِ بِالآخِرِ فَعَلى هَذَا إنْ كَانَ عِوَضًا فِي بَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ وَكَانَ مُتَمَيِّزًا لمْ يَضْمَنْ عَلى الصَّحِيحِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُتَمَيِّزٍ ضَمِنَ وَإِنْ كَانَ فِي إجَارَةٍ ضَمِنَ بِكُل حَالٍ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: إنْ كَانَ انْتِهَاءُ العَقْدِ بِسَبَبٍ يَسْتَقِل بِهِ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ كَفَسْخِ المُشْتَرِي أَوْ يُشَارِكُ فِيهِ الآخَرُ كَالفَسْخِ مِنْهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ لهُ لأَنَّهُ يُسَبِّبَ إلى جَعْل مِلكِ غَيْرِهِ فِي يَدِهِ وَإِنْ اسْتَقَل بِهِ الآخَرُ كَفَسْخِ البَائِعِ وَطَلاقِ الزَّوْجِ فَلا ضَمَانَ لأَنَّهُ حَصَل فِي يَدِ هَذَا بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْهُ وَلا عُدْوَانٍ فَهُوَ كَمَا لوْ أَلقَى ثَوْبَهُ فِي دَارِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَذَا الوَجْهُ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ المُغْنِي فِي مَسْأَلةِ الصَّدَاقِ وَعَلى هَذَا يَتَوَجَّهُ ضَمَانُ العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ بَعْدَ انْتِهَاءِ المُدَّةِ لأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلى رَفْعِ العَقْدِ مَعَ المُؤَجِّرِ , وَوُجِّهَ أَنَّ الإِذْنَ فِي القَبْضِ إنَّمَا كَانَ لازِمًا لوُجُوبِ الدَّفْعِ للمِلكِ وَلهَذَا يَتَمَلكُ المُشْتَرِي وَالمُسْتَأْجِرُ أَخَذَهُ بِدُونِ إذْنِهِ فَبَعْدَ زَوَال المِلكِ لا يُوجَدُ إذْنٌ سَابِقٌ وَلا لاحِقٌ وَلوْ قُدِّرَ وُجُودُ الإِذْنِ فِي القَبْضِ فَإِنَّمَا أُذِنَ فِي قَبْضِ مَا مَلكَ عَليْهِ فَلا يَكُونُ إذْنًا فِي قَبْضِ مِلكِهِ هُوَ.
وَالوَجْهُ الثَّالثُ: حُكْمُ الضَّمَانِ بَعْدَ الفَسْخِ حُكْمُ مَا قَبْلهُ فَإِنْ كَانَ مَضْمُونًا فَهُوَ مَضْمُونٌ وَإِلا فَلا يَكُونُ البَيْعُ بَعْدَ فَسْخِهِ مَضْمُونًا لأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلى المُشْتَرِي بِحُكْمِ العَقْدِ وَلا يَزُول الضَّمَانُ بِالفَسْخِ
صَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَمُقْتَضَى هَذَا ضَمَانُ الصَّدَاقِ عَلى المَرْأَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ صَاحِبِ المُحَرَّرِ وَأَنَّهُ لا ضَمَانَ فِي الإِجَارَةِ لأَنَّ العَيْنَ لمْ تَكُنْ مَضْمُونَةً مِنْ قَبْل , وَصَرَّحَ بِذَلكَ القَاضِي وَغَيْرُهُ, يُوَجَّهُ بِأَنَّ المَبِيعَ وَالصَّدَاقَ إنَّمَا أُقْبِضَهُ لانْتِقَال مِلكِهِ عَنْهُ بِخِلافِ العَيْنِ المُسْتَأْجَرَةِ فَإِنَّهُ أُقْبِضَهَا مَعَ عِلمِهِ بِأَنَّهَا مِلكُهُ فَكَانَ إذْنًا فِي قَبْضِ مِلكِهِ بِخِلافِ الأَوَّل حَتَّى قَال القَاضِي وَأَبُو الخَطَّابِ: لوْ عَجَّل أُجْرَتَهَا ثُمَّ انْفَسَخَتْ قَبْل انْتِهَاءِ المُدَّةِ فَلهُ حَبْسُهَا حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الأُجْرَةَ وَلا يَكُونُ ضَامِنًا.
وَالوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لا ضَمَانَ فِي الجَمِيعِ وَيَكُونُ المَبِيعُ بَعْدَ فَسْخِهِ أَمَانَةً مَحْضَةً صَرَّحَ بِذَلكَ أَبُو الخَطَّابِ فِي الانْتِصَارِ لأَنَّهُ حَصَل تَحْتَ يَدِهِ مِلكُ غَيْرِهِ بِغَيْرِ عُدْوَانٍ فَلمْ يَضْمَنْهُ كَمَا لوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إليْهِ ثَوْبًا وَكَذَلكَ اخْتَارَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلاقِ.
وَالوَجْهُ الخَامِسُ: التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهِيَ العَقْدُ أَوْ يُطَلقَ الزَّوْجُ , وَبَيْنَ أَنْ يَنْفَسِخَ العَقْدُ فَفِي الأَوَّل يَكُونُ أَمَانَةً مَحْضَةً لأَنَّ حُكْمَ المَالكِ ارْتَفَعَ وَعَادَ مِلكًا للأَوَّل , وَفِي الفَسْخِ يَكُونُ مَضْمُونًا لأَنَّ الفَسْخَ يَرْفَعُ حُكْمَ العَقْدِ بِالكُليَّةِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا بِغَيْرِ عَقْدٍ أَوْ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ فِي صُورَةِ البَيْعِ , وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلكَ الأَزَجِيُّ فِي النِّهَايَةِ وَصَاحِبُ التَّلخِيصِ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَقِيلٍ فِي مَسَائِل الرَّدِّ بِالعَيْبِ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ نَقْصَهُ فِيمَا قَبْل الفَسْخِ وَبَعْدَهُ بِالقِيمَةِ لارْتِفَاعِ العَقْدِ وَيَصِيرُ مَقْبُوضًا عَلى وَجْهِ السَّوْمِ.
وَنَقَل الأَثْرَمُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ دَفَعَ إلى آخَرَ دِينَارًا مِنْ شَيْءٍ كَانَ لهُ عَليْهِ فَخَرَجَ فِيهِ نَقْصٌ فَقَال: للدَّافِعِ خُذْهُ وَأَعْطِنِي غَيْرَهُ فَقَال: أَمْسِكْهُ مَعَكَ حَتَّى أُبَدِّلهُ لكَ فَضَاعَ الدِّينَارُ فَقَال: مَا أَعْلمُ عَليْهِ شَيْئًا إنَّمَا هُوَ السَّاعَةَ مُؤْتَمَنٌ , فَيَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّ المَفْسُوخَ بِعَيْبٍ بَعْدَ فَسْخِهِ أَمَانَةٌ , وَيُحْتَمَل وَهُوَ أَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا جَعَلهُ أَمَانَةً لأَمْرِ المُعْطِي بِإِمْسَاكِهِ لهُ فَهُوَ كَإِيدَاعِهِ مِنْهُ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: عُقُودُ الشَّرِكَات كَالوِكَالةِ والوَدِيعَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالرَّهْنِ إذَا انْتَهَتْ أَوْ انْفَسَخَتْ وَالهِبَةِ إذَا رَجَعَ فِيهَا الأَبُ , أَوْ قِيل بِجَوَازِ فَسْخِهَا مُطْلقًا كَمَا أَفْتَى بِهِ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الرَّهْنِ وَأَنَّهُ لا يَجِبُ رَدُّهُ إلى صَاحِبِهِ اسْتِصْحَابًا للإِذْنِ السَّابِقِ وَالائْتِمَانِ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الإِجَارَةِ وَكَذَلكَ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَأَبُو الخَطَّابِ فِي خِلافَيْهِمَا فِي بَقِيَّةِ العُقُودِ المُسَمَّاةِ وَأَنَّهَا تَبْقَى أَمَانَةً كَمَا لوْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى دَارِهِ ثَوْبًا , هَذَا يَحْتَمِل أَنَّهُ مَعَ عِلمِ المَالكِ بِالحَال لا يَجِبُ الدَّفْعُ لأَنَّ الوَاجِبَ التَّمكِينُ مِنْهُ لا حَمْلهُ إليْهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالفَرْقُ بَيْنَ عُقُودِ الأَمَانَاتِ المَحْضَةِ وَالمُعَاوَضَاتِ أَنَّ المُعَاوَضَاتِ تُضْمَنُ بِالعَقْدِ وَبِالقَبْضِ فَإِذَا كَانَ عَقْدُهَا مُضَمَّنًا كَانَ فَسْخُهَا كَذَلكَ وَعُقُودُ الأَمَانَاتِ لا تُضْمَنْ بِالعَقْدِ فَكَذَلكَ بِالفَسْخِ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ مَضْمُونًا إنْ لمْ يُبَادِرْ إلى الدَّفْعِ إلى المَالكِ كَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى
دَارِهِ ثَوْبًا وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ خِلافِهِ فِي الوَدِيعَةِ وَالوِكَالةِ وَكَلامُ القَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ يُشْعِرُ بِالفَرْقِ بَيْنَ الوَدِيعَةِ وَالرَّهْنِ فَإِنَّهُمَا عَللا كَوْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةً بِأَنَّهُ أَمَانَةٌ وَوَثِيقَةٌ فَإِذَا زَالتْ الوَثِيقَةُ بَقِيَتْ الأَمَانَةُ كَمَا لوْ كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ فَأَذِنَ لهُ فِي بَيْعِهَا ثُمَّ نَهَاهُ , وَهَذَا التَّعْليل مُقْتَضَاهُ الفَرْقُ بَيْنَ الوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالوِكَالةِ لأَنَّ هَذِهِ العُقُودَ كُلهَا مُشْتَمِلةً عَلى ائْتِمَانٍ وَتَصَرُّفٍ فَإِذَا زَال التَّصَرُّفُ بَقِيَ الائْتِمَانُ بِخِلافِ الوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ ليْسَ فِيهَا غَيْرُ ائْتِمَانٍ مُجَرَّدٍ فَإِذَا زَال صَارَ ضَامِنًا وَحُكْمُ المَغْصُوبِ إذَا أَبْرَأ المَالكُ الغَاصِبَ مِنْ ضَمَانِهَا كَمَا ذَكَرْنَا.
القِسْمُ الثَّالثُ: أَنْ تُحَصِّل فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلهِ كَمَنْ مَاتَ مُوَرِّثُهُ وَعِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَوْ شَرِكَةٌ أَوْ مُضَارَبَةٌ فَانْتَقَلتْ إلى يَدِهِ فَلا يَجُوزُ لهُ الإِمْسَاكُ بِدُونِ إعْلامِ المَالكِ كَمَا سَبَقَ لأَنَّ المَالكَ لمْ يَأْتَمِنْهُ.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ فِي الرَّهْنِ: أَنَّهُ لا يَقَرُّ فِي يَد الوَصِيِّ حَتَّى يُقِرَّهُ الحَاكِمُ فِي يَدِهِ فَإِنْ تَلفَتْ تَحْتَ يَدِهِ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ الأَدَاءِ فَلا ضَمَانَ لعَدَمِ التَّفْرِيطِ , وَكَمَا لوْ تَلفَتْ اللقَطَةُ قَبْل ظُهُورِ المَالكِ , وَيَتَخَرَّجُ وَجْهٌ آخَرُ بِالضَّمَانِ كَمَا خَرَّجَهُ ابْنُ عَقِيلٍ فِي البَيْعِ , وَإِنْ تَلفَتْ بَعْدَهُ فَالمَشْهُورُ الضَّمَانُ لتَعَدِّيهِ بِتَرْكِ الرَّدِّ مَعَ إمْكَانِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ , وَحَكَى صَاحِبُ المُقْنِعِ وَجْهًا آخَرَ وَأَشَارَ إليْهِ صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَنَّهُ لا ضَمَانَ وَيَكُونُ أَمَانَةً عِنْدَهُ كَمَا لوْ انْقَضَتْ مُدَّةُ الإِجَارَةِ ثُمَّ تَلفَتْ العَيْنُ عِنْدَ المُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ فَإِنَّ المُسْتَأْجِرَ مُسْتَصْحِبٌ للإِذْنِ فِي القَبْضِ بِخِلافِ هَذَا وَكَذَلكَ حُكْمُ مَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى بَيْتِهِ ثَوْبًا كَمَا سَبَقَ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ كَلامِ القَاضِي أَنَّهَا أَمَانَةٌ عِنْدَهُ وَلعَل مُرَادَهُ مَعَ عِلمِ المَالكِ وَإِمْسَاكِهِ عَنْ المُطَالبَةِ فَيَكُونُ تَقْرِيرًا , وَلوْ دَخَل حَيَوَانٌ لغَيْرِهِ أَوْ عَبْدٌ لهُ إلى دَارِهِ فَعَليْهِ أَنْ يُخْرِجَهُ ليَذْهَبَ كَمَا جَاءَ لأَنَّ يَدَهُ لمْ تَثْبُتْ عَليْهِمَا بِخِلافِ الثَّوْبِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَقِيلٍ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا مَا قُبِضَ مِنْ مَالكِهِ بِعَقْدٍ لا يَحْصُل بِهِ المِلكُ فَثَلاثَةُ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا قَبَضَهُ آخِذُهُ لمَصْلحَةِ نَفْسِهِ كَالعَارِيَّةِ فَهُوَ مَضْمُونٌ فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ.
قَالوا لأَنَّ الإِذْنَ إنَّمَا تَعَلقَ بِالانْتِفَاعِ وَقَبْضُ العَيْنِ وَقَعَ مِنْ حَيْثُ اللزُومِ فَهُوَ كَقَبْضِ المُضْطَرِّ مَال غَيْرِهِ لإِحْيَاءِ نَفْسِهِ لا يَسْقُطُ عَنْهُ الضَّمَانُ لأَنَّ إذْنَ الشَّرْعِ تَعَلقَ بِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ وَجَاءَ الإِذْنُ فِي الإِتْلافِ مِنْ بَابِ اللزُومِ وَلوْ وَهَبَهُ شِقْصًا مِنْ عَيْنٍ ثُمَّ أَقْبَضَهُ العَيْنَ كُلهَا فَفِي المُجَرَّدِ وَالفُصُول يَكُونُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ وَدِيعَةً عِنْدَهُ وَاسْتَدْرَكَ ذَلكَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ وَقَال: بَل هُوَ عَارِيَّةٌ حَيْثُ قَبَضَهُ ليَنْتَفِعَ بِهِ بِلا عِوَضٍ وَهَذَا صَحِيحٌ إنْ كَانَ أَذِنَ لهُ فِي الانْتِفَاعِ بِهِ مَجَّانًا , أَمَّا إنْ طَلبَ مِنْهُ أُجْرَةً فَهِيَ إجَارَةٌ وَإِنْ لمْ يَأْذَنْ لهُ فِي الانْتِفَاعِ بَل فِي الحِفْظِ فَوَدِيعَةٌ وَلوْ قَال أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ للعَبْدِ المُشْتَرَكِ أَنْتَ حَبِيسٌ
عَلى آخِرِنَا مَوْتًا لمْ يَعْتِقْ لمَوْتِ الأَوَّل مِنْهُمَا وَيَكُونُ فِي يَدِ الثَّانِي عَارِيَّةً فَإِذَا مَاتَ عَتَقَ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ.
القِسْمُ الثَّانِي: مَا أَخَذَهُ لمَصْلحَةِ مَالكِهِ خَاصَّةً كَالمُودَعِ فَهُوَ أَمِينٌ مَحْضٌ لكِنْ إذَا تَلفَتْ الوَدِيعَةُ مِنْ بَيْنِ مَالهِ فَفِي ضَمَانِهِ خِلافٌ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يَبْنِيه عَلى أَنَّ قَوْلهُ هَل يُقْبَل فِي ذَلكَ أَمْ لا , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول تَلفُهَا مِنْ بَيْنِ مَالهِ أَمَارَةٌ عَلى تَفْرِيطِهِ فِيهَا وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ العَارِيَّةِ والوَدِيعَةِ: بِأَنَّ اليَدَ فِي العَارِيَّةِ آخِذَةٌ وَفِي الوَدِيعَةِ مُعَاطَاةٌ وَهُوَ يَرْجِعُ إلى تَعْيِينِ جِهَةِ المَصْلحَةِ فِيهِمَا وَكَذَلكَ الوَصِيُّ وَالوَكِيل بِغَيْرِ جُعْلٍ حَتَّى لوْ كَانَ لهُ دَيْنٌ وَعَليْهِ دَيْنٌ فَوَكَّلهُ فِي قَبْضِ مَالٍ لهُ وَأَذِنَ لهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ مِنْهُ فَتَلفَ المَال قَبْل اسْتِيفَائِهِ فَإِنَّهُ لا يَضْمَنُهُ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ مُثَنَّى الأَنْبَارِيِّ.
القِسْمُ الثَّالثُ: مَا قَبَضَهُ لمَنْفَعَةٍ تَعُودُ إليْهِمَا وَهُوَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا أَخَذَهُ عَلى وَجْهِ المِلكِ فَتَبَيَّنَ فَسَادُهُ أَوْ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ فَأَمَّا الأَوَّل فَهُوَ المَقْبُوضُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَهُوَ مَضْمُونٌ فِي المَذْهَبِ لأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلى وَجْهِ الضَّمَانِ وَلا بُدَّ. وَنَقَل ابْنُ مشيش وَحَرْبٌ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ كَالمَقْبُوضِ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ.
وَكَذَلكَ صَرَّحَ بِجَرَيَانِ الخِلافِ فِيهِ ابْنُ الزاغوني فِي فَتَاوِيهِ. وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي الهِبَةِ للثَّوَابِ إنْ أَرَادَ رَدَّهَا عَلى صَاحِبِهَا.
وَقَدْ نَقَصَتْ بِغَيْرِ اسْتِعْمَالهِ لمْ يَضْمَنْ النَّقْصَ وَشَبَّهَهُ بِالرَّهْنِ وَتَأَوَّلهُ القَاضِي بِتَأْوِيلٍ بَعِيدٍ جِدًّا وَقَدْ رَدَّهُ أَبُو البَرَكَاتِ فِي تَعْليقِهِ عَلى الهِدَايَةِ ثُمَّ اخْتَارَ هُوَ تَخْرِيجُهُ عَلى أَنَّ الهِبَةَ للثَّوَابِ يَغْلبُ فِيهَا حُكْمُ الهِبَاتِ وَمِنْ حُكْمِ الهِبَةِ أَنْ لا يَضْمَنَ نَقْصَهَا قَال وَلازِمُ هَذَا أَنْ نَقُول لا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا إذَا تَلفَتْ بِغَيْرِ تَعَدٍّ قَال: وَهَذَا عِنْدِي أَحْسَنُ الوُجُوهِ قَال: وَمَعَ هَذَا فَفِيهِ نَظَرٌ وَهُوَ كَمَا قَال لأَنَّهُ لوْ كَانَ كَذَلكَ لمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ تَنْقُصَ بِفِعْلهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلهِ وَلمَا صَحَّ تَشَبُّهُهُ بِالرَّهْنِ.
وَيُحْتَمَل عِنْدِي تَخْرِيجُهُ عَلى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلى أَنَّ الهِبَةَ بِالثَّوَابِ المَجْهُول فَاسِدَةٌ فَيَكُونُ ذَلكَ مُوَافِقًا لمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي المَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ وَإِمَّا عَلى أَنَّهَا صَحِيحَةٌ وَهُوَ الأَظْهَرُ لقَوْلهِ ثُمَّ أَرَادَ رَدَّهُ إلى مَالكِهِ فَدَل عَلى أَنَّ لهُ إمْسَاكَهُ وَذَلكَ لا يَكُونُ إلا مَعَ الصِّحَّةِ فَعَلى هَذَا إنَّمَا لمْ يُضَمِّنْهُ النَّقْصَ لأَنَّ الهِبَةَ للثَّوَابِ لا تُمْلكُ بِدُونِ دَفْعِ العِوَضِ وَكَذَلكَ شَبَّهَهَا بِالرَّهْنِ وَسَنَزِيدُهُ إيضَاحًا فِي المَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى , وَأَمَّا المَقْبُوضُ عَلى وَجْهِ السَّوْمِ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ يَحْكِي فِي ضَمَانِهِ رِوَايَتَيْنِ سَوَاءٌ أَخَذَ بِتَقْدِيرِ الثَّمَنِ أَوْ بِدُونِهِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي , وَابْنِ عَقِيلٍ وَصُحِّحَ الضَّمَانُ لأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلى وَجْهِ البَدَل وَالعِوَضِ فَهُوَ كَالمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ثُمَّ إنْ كَانَ لمْ يُقَدِّرْ الثَّمَنَ ضَمِنَهُ بِقِيمَتِهِ وَإِلا فَهَل يَضْمَنُهُ بِالقِيمَةِ أَوْ بِالثَّمَنِ المُقَدَّرِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَقِيلٍ وَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى: إنْ أَخَذَهُ مَعَ تَقْدِيرِ الثَّمَنِ ليُرِيَهُ أَهْلهُ فَإِنْ رَضُوهُ ابْتَاعَهُ فَهُوَ مَضْمُونٌ بِغَيْرِ خِلافٍ , وَكَذَلكَ إنْ سَاوَمَ صَاحِبَهُ بِهِ وَلمْ يَقْطَعْ ثَمَنَهُ وَأَخَذَهُ ليُرِيَهُ أَهْلهُ وَإِنْ أَخَذَهُ بِإِذْنِ مَالكِهِ مِنْ غَيْرِ سَوْمٍ وَلا قَطْعِ ثَمَنٍ ليُرِيَهُ أَهْلهُ
فَإِنْ رَضُوهُ وَزْنَ ثَمَنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَليْهِ وَجَعَل السَّامِرِيُّ الضَّمَانَ فِيمَا قُطِعَ ثَمَنُهُ مَبْنِيًّا عَلى أَنَّهُ بَيْعٌ بِالمُعَاطَاةِ بِشَرْطِ الخِيَارِ وَهَذَا يَدُل عَلى أَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الخِلافُ إذَا قُلنَا لمْ يَنْعَقِدْ البَيْعُ بِذَلكَ وَفِي كَلامِ أَحْمَدَ إيمَاءٌ إلى ذَلكَ لأَنَّهُ عَلل الضَّمَانَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ بِأَنَّهُ مِلكُهُ وَعَلل فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ انْتِفَاءَ الضَّمَانِ فِيمَا إذَا لمْ يُقْطَعْ ثَمَنُهُ بِأَنَّهُ مِلكٌ للبَائِعِ بَعْدُ حَتَّى يُقْطَع ثَمَنُهُ فَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ مَعَ القَطْعِ يَنْتَقِل المِلكُ فِيهِ إلى المُشْتَرِي وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلكَ أَنَّ المَقْبُوضَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ لا يُضْمَنُ أَيْضًا لبَقَاءِ المِلكِ فِيهِ لمَالكِهِ , وَكَذَلكَ فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ المَأْخُوذُ سِلعَتَيْنِ ليَخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ فَلا يَضْمَنُهَا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ سِلعَةً وَاحِدَةً وَهَذَا يَحْتَمِل ثَلاثَةَ أُمُورٍ.
أَحَدُهَا: مَا قَال السَّمِرِيُّ: أَنَّهُ بَيْعٌ بِشَرْطِ الخِيَارِ وَيَكُونُ المُعَلقُ عَلى الرِّضَا فَسْخُهُ لا عَقْدُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْعًا مُعَلقًا عَلى شَرْطٍ فَقَدْ فَعَلهُ أَحْمَدُ بِنَفْسِهِ لمَّا رَهَنَ نَعْلهُ بِالثَّمَنِ وَيُبْعِدُ هَذَا أَنَّهُ لمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ أَنْ يَتْلفَ قَبْل الرِّضَى بِهِ أَوْ بَعْدَهُ.
وَالثَّالثُ: أَنْ يَكُونَ بَيْعًا بِمُعَاطَاةٍ تَرَاخَى القَبُول فِيهِ عَنْ المَجْلسِ وَقَدْ نَصَّ عَلى صِحَّةِ مِثْل ذَلكَ فِي النِّكَاحِ فِي رِوَايَةِ أَبِي طَالبٍ , وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا إذَا قَبَضَ المُشْتَرِي زِيَادَةً عَلى حَقِّهِ غَلطًا فَإِنَّهَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَليْهِ لأَنَّهُ قَبَضَهَا عَلى وَجْهِ العِوَضِ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالأَصْحَابُ وَيَحْتَمِل أَنْ لا يَضْمَنَ عَلى مَعْنَى تَعْليل أَحْمَدَ فِي المَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ أَنَّهُ عَلى مِلكِ البَائِعِ وَمِنْ ذَلكَ لوْ دَفَعَ إليْهِ كِيسًا وَقَال لهُ: اسْتَوْفِ مِنْهُ قَدْرَ حَقِّك فَفَعَل فَهَل يَصِحُّ؟ عَلى وَجْهَيْنِ بِنَاءً عَلى قَبْضِ الوَكِيل لنَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ وَالمَنْصُوصُ الصِّحَّةُ نَصَّ عَليْهِ فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ وَيَكُونُ البَاقِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةً وَعَلى عَدَمِ الصِّحَّةِ قَدَّرَ حَقَّهُ كَالمَقْبُوضِ بِالسَّوْمِ وَالبَاقِي أَمَانَةٌ ذَكَرَهُ فِي التَّلخِيصِ وَلوْ دَفَعَ إلى غَرِيمٍ لهُ نَقْدًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ مَا عَليْهِ ليُصَارِفَهُ عَليْهِ فِيمَا بَعْدُ فَهِيَ أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ نَصَّ عَليْهِ مَعَ أَنَّهَا قُبِضَتْ للمُعَاوَضَةِ وَقِيَاسُ قَوْل الأَصْحَابِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ كَمَا قَالوا فِي الضَّامِنِ إذَا قَبَضَ مِنْ المَضْمُونِ عَنْهُ قَبْل الأَدَاءِ عَلى وَجْهِ الاسْتِيفَاءِ مِنْهُ عِنْدَ الوَفَاءِ أَنَّهُ مَضْمُونٌ لقَبْضِهِ عَلى وَجْهِ المُعَاوَضَةِ وَأَوْلى لأَنَّ القَبْضَ هُنَا وُجِدَ قَبْل الاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ كَمَا لوْ أَقَبَضَتْ المَرْأَةُ زَوْجَهَا مَالاً عِوَضًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ عَليْهَا بِالطَّلاقِ قَبْلهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مَا أُخِذَ لمَصْلحَتِهِمَا عَلى غَيْرِ وَجْهِ التَّمْليكِ لعَيْنِهِ كَالرَّهْنِ وَالمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالوِكَالةِ بِجُعْلٍ وَالوَصِيَّةُ كَذَلكَ فَهَذَا كُلهُ أَمَانَةٌ عَلى المَذْهَبِ , وَفِي الرَّهْنِ رِوَايَةٌ أُخْرَى تَدُل عَلى ضَمَانِهِ وَتَأَوَّلهَا القَاضِي وَأَثْبَتَهَا ابْنُ عَقِيلٍ وَالأَعْيَانُ المُسْتَأْجَرَةُ وَالمُوصَى بِمَنْفَعَتِهِ أَمَانَةٌ كَالرَّهْنِ لأَنَّهُ مَقْبُوضٌ عَلى وَجْهِ الاسْتِحْقَاقِ.
تَنْبِيهٌ - مِنْ الأَعْيَانِ المَضْمُونَةِ مَا ليْسَ لهُ مَالكٌ مِنْ الخَلقِ وَمَا لهُ مَالكٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ.
فَالأَوَّل: كَالصَّيْدِ إذَا قَبَضَهُ المُحْرِمُ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَخْليَتُهُ وَإِرْسَالهُ وَسَوَاءٌ ابْتَدَأَ قَبْضَهُ فِي الإِحْرَامِ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ ثُمَّ أَحْرَمَ وَإِنْ تَلفَ قَبْل إرْسَالهِ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَجَبَ ضَمَانُهُ للتَّفْرِيطِ وَإِنْ كَانَ قَبْلهُ لزِمَهُ الضَّمَانُ فِيمَا ابْتَدَأَ قَبْضَهُ فِي الإِحْرَامِ دُونَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلهُ لتَفْرِيطِهِ فِي الأُولى دُونَ الثَّانِيَة.
هَذَا قَوْل القَاضِي وَصَاحِبِ المُغْنِي , وَخَرَّجَ ابْنُ عَقِيلٍ الضَّمَانَ فِيهِمَا لأَنَّهَا عَيْنٌ مَضْمُونَةٌ فَلا يَقِفُ ضَمَانُهَا عَلى عَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ كَالعَوَارِيِّ وَالغُصُوبِ.
وَالثَّانِي: الزَّكَاةُ إذَا قُلنَا: تَجِبُ فِي العَيْنِ فَالمَذْهَبُ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِتَلفِهَا بِكُل حَالٍ ; لأَنَّهَا وَجَبَتْ شُكْرًا لنِعْمَةِ المَال النَّامِي المَوْجُودِ فِي جَمِيعِ الحَوْل فَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالمُعَاوَضَةِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ مَا لمْ يَدْخُل تَحْتَ اليَدِ كَالدُّيُونِ وَالثَّمَرِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ لانْتِفَاءِ قَبْضِهِ وَكَمَال الانْتِفَاعِ بِهِ وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ خَرَّجَ وَجْهًا بِسُقُوطِ الضَّمَانِ قَبْل إمْكَانِ الأَدَاءِ مُطْلقًا.
القاعدة الرابعة والأربعون
القَاعِدَةُ الرَّابِعَة وَالأَرْبَعُونَ:فِي قَبُول قَوْل الأُمَنَاءِ فِي الرَّدِّ وَالتَّلفِ أَمَّا التَّلفُ فَيُقْبَل فِيهِ قَوْل كُل أَمِينٍ إذْ لا مَعْنَى للأَمَانَةِ إلا انْتِفَاءُ الضَّمَانِ , وَمِنْ لوَازِمِهِ قَبُول قَوْلهِ فِي التَّلفِ وَإِلا للزِمَ الضَّمَانُ بِاحْتِمَال التَّلفِ وَهُوَ لا يَلزَمُهُ الضَّمَانُ مَعَ تَحَقُّقِهِ وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلكَ الوَدِيعَةُ إذَا هَلكَتْ مَال المُودَعِ عَلى طَرِيقَةِ مَنْ يَحْكِي الخِلافَ فِيهَا فِي قَبُول قَوْل المُودَعِ فِي التَّلفِ لا فِي أَصْل ضَمَانِهِ وَكَذَلكَ العَيْنُ المُسْتَأْجَرَةُ وَالمُسْتَأْجَرُ عَلى عَمَلٍ فِيهَا حُكِيَ فِيهَا رِوَايَةٌ بِالضَّمَانِ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَعَلهَا رِوَايَةً بِثُبُوتِ الضَّمَانِ فِيهَا فَلا تَكُونُ أَمَانَةً , وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى الخِلافَ فِي قَبُول دَعْوَى التَّلفِ بِأَمْرٍ خَفِيٍّ وَهِيَ طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي مُوسَى فَلا تَخْرُجُ بِذَلكَ عَنْ الأَمَانَةِ وَأَمَّا الرَّدُّ فَالأُمَنَاءُ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ.
الأَوَّل: مَنْ قَبَضَ المَال لمَنْفَعَةِ مَالكِهِ وَحْدَهُ فَالمَذْهَبُ أَنَّ قَوْلهُمْ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ وَنَقَل أَبُو طَالبٍ وَابْنُ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الوَدِيعَةَ إذَا ثَبَتَتْ بِبَيِّنَةٍ لمْ تُقْبَل دَعْوَى الرَّدِّ بِدُونِ بَيِّنَةٍ وَخَرَّجَهَا ابْنُ عَقِيلٍ عَلى أَنَّ الإِشْهَادَ عَلى دَفْعِ الحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالبَيِّنَةِ وَاجِبٌ فَيَكُونُ تَرْكُهُ تَفْرِيطًا فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ وَكَذَلكَ خَرَّجَ طَائِفَةٌ مِنْ الأَصْحَابِ فِي وَصِيِّ اليَتِيمِ أَنَّهُ لا يُقْبَل قَوْلهُ فِي الرَّدِّ بِدُونِ بَيِّنَةٍ , وَعَزَاهُ القَاضِي فِي خِلافِهِ إلى قَوْل الخِرَقِيِّ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلى هَذَا المَأْخَذِ ; لأَنَّ الإِشْهَادَ بِالدَّفْعِ إلى اليَتِيمِ مَأْمُورٌ بِهِ بِنَصِّ القُرْآنِ , وَقَدْ صَرَّحَ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ بِاشْتِرَاطِهِ الإِشْهَادَ عَليْهِ كَالنِّكَاحِ.
القِسْمُ الثَّانِي: مَنْ قَبَضَ المَال لمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ كَالمُرْتَهِنِ فَالمَشْهُورُ أَنَّ قَوْلهُ فِي الرَّدِّ غَيْرُ مَقْبُولٍ لشِبْهِهِ بِالمُسْتَعِيرِ وَخَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ وَأَبُو الحُسَيْنِ وَجْهًا آخَرَ بِقَبُول قَوْلهِ فِي الرَّدِّ لأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الجُمْلةِ وَكَذَلكَ الخِلافُ فِي المُسْتَأْجَرِ.
القِسْمُ الثَّالثُ: مَنْ قَبَضَ المَال لمَنْفَعَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالكِهِ كَالمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالوَكِيل بِجُعْلٍ وَالوَصِيُّ كَذَلكَ فَفِي قَبُول قَوْلهِمْ فِي الرَّدِّ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ لوُجُودِ الشَّائِبَتَيْنِ فِي حَقِّهِمْ.
أَحَدُهُمَا: عَدَمُ القَبُول وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي المُضَارِبِ فِي رِوَايَةُ ابْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عَليْهِ البَيِّنَةَ بِدَفْعِ رَأْسِ المَال وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ حَامِدٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَالقَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: قَبُول قَوْلهِمْ في ذلك وَهُوَ اخْتِيَارُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِهِ أَبِي الحُسَيْنِ وَالشَّرِيفِ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي الخَطَّابِ فِي خِلافِهِ وَوَجَدْت ذَلكَ مَنْصُوصًا عَنْ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ فِي المُضَارِبِ أَيْضًا فِي رَجُلٍ دَفَعَ إلى آخَرَ أَلفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَجَاءَ بِأَلفٍ فَقَال هَذَا رِبْحٌ وَقَدْ دَفَعْتُ إليْكَ أَلفًا رَأْسَ مَالكِ قَال وَهُوَ مُصَدِّقٌ فِيمَا قَال , وَوَجَدْت فِي مَسَائِل أَبِي دَاوُد عَنْ أَحْمَدَ نَحْوَ هَذَا أَيْضًا , وَكَذَلكَ نَقَل عَنْهُ مُهَنَّا فِي مُضَارِبٍ دَفَعَ إلى رَبِّ المَال كُل يَوْمٍ شَيْئًا ثُمَّ قَال كَانَ مِنْ رَأْسِ المَال أَنَّ القَوْل قَوْلهُ مَعَ يَمِينِهِ وَحُكْمُ الأَجِيرِ المُشْتَرَكِ حُكْمُ هَؤُلاءِ وَكَذَلكَ مَنْ يَعْمَل فِي عَيْنٍ بِجُزْءٍ مِنْ نَمَائِهَا لأَنَّهُ إمَّا أَجِيرٌ أَوْ شَرِيكٌ وَالفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْتَأْجِرِ أَنَّ المُسْتَأْجِرَ قَبَضَ مَال المُؤَجِّرِ ليَسْتَوْفِيَ مِنْهُ حَقَّ نَفْسِهِ فَصَارَ حِفْظُهُ لنَفْسِهِ وَصَارَ المَال فِي أَيْدِيهِمْ أَمَانَةً لا حَقَّ لهُمْ فِيهِ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِيمَا يُنَمَّى مِنْهُ أَوْ فِي ذِمَّةِ المَالكِ فَأَمَّا مَنْ يَعْمَل فِي المَال بِجُزْءٍ مِنْ عَيْنِهِ فَهُوَ كَالوَصِيِّ الذِي يَأْكُل مِنْ مَال اليَتِيمِ القَوْل قَوْلهُ فِي الرَّدِّ أَيْضًا صَرَّحَ بِهِ القَاضِي لأَنَّ المَال لمْ يَقْبِضْهُ لحَقِّ نَفْسِهِ بَل للحِفْظِ عَلى المَالكِ وَحَقُّهُ فِيهِ مُتَعَلقٌ بِعَمَلهِ بِخِلافِ المُرْتَهِنِ وَالمُسْتَأْجِرِ - ثُمَّ هَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ.
أَحَدُهُا: أَنْ يَدَّعِيَ الأَمِينُ أَنَّهُ رَدَّ الأَمَانَةَ إلى مَنْ ائْتَمَنَهُ وَهَذَا هُوَ الذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَدَّعِيَ الرَّدَّ إلى غَيْرِ مَنْ ائْتَمَنَهُ بِإِذْنِهِ فَهَل يُقْبَل قَوْلهُ؟ عَلى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ المَنْصُوصُ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي الحَسَنِ التَّمِيمِيِّ أَنَّهُ يُقْبَل قَوْلهُ
وَالثَّانِي: لا يُقْبَل فَقِيل: لتَفْرِيطِهِ بِتَرْكِ الإِشْهَادِ عَلى المَدْفُوعِ إليْهِ فَلوْ صَدَّقَهُ الأَمِينُ عَلى الدَّفْعِ لمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ وَقِيل: بَل لأَنَّهُ ليْسَ أَمِينًا للمَأْمُورِ بِالدَّفْعِ إليْهِ فَلا يُقْبَل قَوْلهُ فِي الرَّدِّ إليْهِ كَالأَجْنَبِيِّ وَكُلٌّ مِنْ الأَقْوَال الثَّلاثَةِ قَدْ نُسِبَ إلى الخِرَقِيِّ بَل وَنُسِبَ إليْهِ أَنَّ دَعْوَى الوَصِيِّ الرَّدَّ إلى اليَتِيمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ كَمَا سَبَقَ فَرُبَمَا اطَّرَدَ هَذَا فِي دَعْوَى الرَّدِّ مِنْ جَمِيعِ الأُمَنَاءِ إلاّ مَنْ ائْتَمَنَهُمْ وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَرُبَمَا اُخْتُصَّ بِالوَصِيِّ لأَنَّ ائْتِمَانَهُ ليْسَ مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ فَهُوَ كَالأَجْنَبِيِّ مَعَهُ.
هَذَا إذَا ادَّعَى الرَّدَّ بِإِذْنِ المَالكِ وَإِنْ ادَّعَاهُ مَعَ عَدَمِ إذْنِهِ فَلا يُقْبَل مِنْهُ حَتَّى وَلا الأَدَاءُ إلى الوَارِثِ وَالحَاكِمِ لأَنَّهُمَا يَأْتَمِنَاهُ نَقَلهُ فِي التَّلخِيصِ إلا أَنْ يَدَّعِيَ الرَّدَّ إلى مَنْ يَدُهُ كَيَدِ المَالكِ كَوَكِيلهِ أَوْ رَدَّ الوَدِيعَةَ إلى عَبْدِهِ وَخَازِنِهِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالهُ لأَنَّ أَيْدِيَهُمْ كَيَدِهِ , وَيَتَوَجَّهُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إلى الحَاكِمِ وَالوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ المُوَرِّثِ القَبُول لقِيَامِهِمَا مَقَامَ المُؤْتَمَنِ وَهُوَ رَدٌّ مُبَرِّئٌ.
القِسْمُ الثَّالثُ: أَنْ يَدَّعِيَ غَيْرُ الأَمِينِ - كَوَارِثِهِ - أَنَّ الأَمِينَ رَدَّ إلى المَالكِ فَلا يُقْبَل لأَنَّهُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ فَلا يُقْبَل قَوْلهُ , وَمِنْ المُتَأَخِّرِينَ مَنْ خَرَّجَ وَجْهًا بِالقَبُول لأَنَّ الأَصْل عَدَمُ حُصُولهَا فِي يَدِهِ وَجَعَل أَصْل أَحَدِ الوَجْهَيْنِ فِيمَا إذَا مَاتَ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلمْ تُوجَدْ فِي تَرِكَتِهِ وَلمْ يُعْلمْ بَقَاؤُهَا عِنْدَهُ أَنَّهَا
لا تُضْمَنُ وَلا حَاجَةَ إلى التَّخْرِيجِ إذاً لأَنَّ الضَّمَانَ عَلى هَذَا الوَجْهِ مُنْتَفٍ سَوَاءٌ ادَّعَى الوَارِثُ الرَّدَّ أَوْ التَّلفَ أَوْ لمْ يَدَّعِ شَيْئًا.
القِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَدَّعِيَ مَنْ حُكْمُهُ حُكْمُ الأُمَنَاءِ فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ بِالتَّلفِ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّدِّ كَوَارِثِ المُودَعِ وَنَحْوِهِ وَالمُلتَقِطِ بَعْدَ ظُهُورِ المَالكِ وَمَنْ أَطَارَتْ الرِّيحُ إلى دَارِهِ ثَوْبًا إذَا ادَّعُوا الرَّدَّ إلى المَالكِ , فَفِي التَّلخِيصِ لا يُقْبَل لأَنَّ المَالكَ لمْ يَأْتَمِنْهُ وَيَتَوَجَّهُ قَبُول دَعْوَاهُ فِي حَالةٍ لا يَضْمَنُ فِيهَا بِالتَّلفِ لأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ شَرْعًا فِي هَذِهِ الحَالةِ.
تَنْبِيهٌ- عَامِل الصَّدَقَةِ مَقْبُول القَوْل فِي دَفْعِهَا إلى المُسْتَحِقِّينَ وَلوْ كَذَّبُوهُ بِغَيْرِ خِلافٍ وَإِنْ كَانَ وَكِيلاً بِجُعْلٍ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ لأَنَّ الصَّدَقَةَ عِبَادَةٌ فَلا اسْتِحْلافَ فِيهَا وَلذَلكَ لا يُسْتَحْلفُ أَرْبَابُهَا إذَا ادَّعُوا الدَّفْعَ إلى العَامِل وَأَنْكَرَ فَكَذَلكَ العَامِل لأَنَّهُ أَمِينٌ لأَرْبَابِهَا فَيُقْبَل قَوْلهُ عَليْهِمْ فِي الرَّدِّ وَأَمَّا عَامِل الخَرَاجِ فَلا يُقْبَل قَوْلهُ فِي الدَّفْعِ إلا بِبَيِّنَةٍ أَوْ تَصْدِيقٍ ذَكَرَهُ القَاضِي أَيْضًا وَعَلل بِأَنَّ الخَرَاجَ دَيْنٌ فَلا يُقْبَل قَوْل مُسْتَوْفِيهِ فِي دَفْعِهِ إلى مُسْتَحِقِّهِ وَهَذَا التَّعْليل مُنْتَقَضٌ بِالوَكِيل فِي اسْتِيفَاءِ دَيْنٍ وَدَفْعِهِ إلى مُسْتَحِقِّهِ فَإِنَّ قَوْلهُ مَقْبُولٌ فِي ذَلكَ كَمَا سَبَقَ وَالأَظْهَرُ تَخْرِيجُ حُكْمِ عَامِل الخَرَاجِ عَلى الوَكِيل فَإِنْ كَانَ مُتَبَرِّعًا فَالقَوْل قَوْلهُ وَإِنْ كَانَ بِجُعْلٍ فَفِيهِ وَجْهَانِ وَكَذَلكَ يُخَرَّجُ فِي عَامِل الوَقْفِ وَنَاظِرِهِ.
القاعدة الخامسة والأربعون
القَاعِدَةُ الخَامِسَة وَالأَرْبَعُونَ:عُقُودُ الأَمَانَاتِ هَل تَنْفَسِخُ بِمُجَرَّدِ التَّعَدِّي فِيهَا أَمْ لا؟ المَذْهَبُ أَنَّ الأَمَانَةَ المَحْضَةَ تَبْطُل بِالتَّعَدِّي وَالأَمَانَةَ المُتَضَمِّنَةَ لأَمْرٍ آخَرَ لا تَبْطُل عَلى الصَّحِيحِ.
وَيَتَخَرَّجُ عَلى هَذَا مَسَائِل:
مِنْهَا: إذَا تَعَدَّى فِي الوَدِيعَةِ بَطَلتْ وَلمْ يَجُزْ لهُ الإِمْسَاكُ وَوَجَبَ الرَّدُّ عَلى الفَوْرِ لأَنَّهَا أَمَانَةٌ مَحْضَةٌ وَقَدْ زَالتْ بِالتَّعَدِّي فَلا تَعُودُ بِدُونِ عَقْدٍ مُتَجَدِّدٍ هَذَا هُوَ المَشْهُورُ , وَلوْ كَانَتْ عَيْنَيْنِ فَتَعَدَّى فِي إحْدَاهُمَا فَهَل يَصِيرُ ضَامِنًا لهُمَا أَوْ لمَا وُجِدَ فِيهِ التَّعَدِّي خَاصَّةً؟ فِيهِ تَرَدُّدٌ ذَكَرَهُ القَاضِي أَبُو يَعْلى الصَّغِيرُ وَذَكَره ابْنُ الزاغوني أَنَّهُ إذَا زَال التَّعَدِّي وَعَادَ إلى الحِفْظِ لمْ تَبْطُل وَقَدْ يُوَجَّهُ بِأَنَّ المَالكَ أَسْنَدَ إليْهِ الحِفْظَ لرِضَاهُ بِأَمَانَتِهِ فَمَتَى وُجِدَتْ الأَمَانَةُ فَالإِسْنَادُ مَوْجُودٌ لوُجُودِ عِلتِهِ فَهُوَ كَمَا لوْ صَرَّحَ بِالتَّعْليقِ فَقَال: كُلمَا خُنْتَ ثُمَّ عُدْتَ فَأَنْتَ أَمِينٌ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لصِحَّةِ تَعْليقِ الإِيدَاعِ عَلى الشَّرْطِ كَالوِكَالةِ صَرَّحَ بِهِ القَاضِي.
وَمِنْهَا: الوَكِيل إذَا تَعَدَّى فَالمَشْهُورُ أَنَّ وِكَالتَهُ لا تَنْفَسِخُ بَل تَزُول أَمَانَتُهُ وَيَصِيرُ ضَامِنًا وَلهَذَا لوْ بَاعَ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْل صَحَّ وَضَمِنَ النَّقْصَ لأَنَّ الوِكَالةَ إذْنٌ فِي التَّصَرُّفِ مَعَ اسْتِئْمَانٍ فَإِذَا زَال أَحَدُهُمَا لمْ يَزُل الآخَرُ هَذَا هُوَ المَشْهُورُ عَلى هَذَا فَإِنَّمَا يَضْمَنُ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّعَدِّي خَاصَّةً حَتَّى
لوْ بَاعَهُ وَقَبَضَ ثَمَنَهُ لمْ يَضْمَنْهُ لأَنَّهُ لمْ يَتَعَدَّ فِي عَيْنِهِ ذَكَرَهُ فِي التَّلخِيصِ وَلا يَزُول الضَّمَانُ عَنْ عَيْنِ مَا وَقَعَ فِيهِ التَّعَدِّي بِحَالٍ إلا عَلى طَرِيقَةِ ابْنِ الزاغوني فِي الوَدِيعَةِ وَظَاهِرُ كَلامِ كَثِيرٍ مِنْ الأَصْحَابِ: أَنَّ المُخَالفَةَ مِنْ الوَكِيل تَقْتَضِي فَسَادَ الوِكَالةِ لا بُطْلانَهَا فَيَفْسُدُ العَقْدُ وَيَصِيرُ مُتَصَرِّفًا بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ , وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ وَصَاحِبُ المُحَرَّرِ وَجْهًا آخَرَ وَبِهِ جَزَمَ القَاضِي فِي خِلافِهِ: أَنَّ الوِكَالةَ تَبْطُل كَالوَدِيعَةِ لزَوَال الائْتِمَانِ وَالإِذْنُ فِي التَّصَرُّفِ كَانَ مَنُوطًا بِهِ.
وَمِنْهَا: الشَّرِكَةُ وَالمُضَارَبَةُ إذَا تَعَدَّى فِيهِمَا فالمعروف مِنْ المَذْهَبِ أَنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا وَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لبَقَاءِ الإِذْنِ فِيهِ وَيَتَخَرَّجُ بُطْلانُ تَصَرُّفِهِ مِنْ الوِكَالةِ.
وَمِنْهَا: الرَّهْنُ إذَا تَعَدَّى المُرْتَهِنُ فِيهِ زَال ائْتِمَانُهُ وَبَقِيَ مَضْمُونًا عَليْهِ وَلمْ تَبْطُل تَوْثِقَته وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي نَظَرِيَّاتِهِ احْتِمَالاً بِبُطْلانِ الرَّهْنِ وَفِيهِ بُعْدٌ لأَنَّهُ عَقْدٌ لازِمٌ وَحَقٌّ للمُرْتَهِنِ عَلى الرَّاهِنِ لا سِيَّمَا إنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي عَقْدٍ وَقُلنَا يَلزَمُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ فَإِنَّ الرَّاهِنَ يُجْبَرُ عَلى تَقْبِيضِهِ فَكَيْفَ يَزُول بِالتَّعَدِّي.
وَمِنْهَا: إذَا اسْتَأْجَرَهُ لحِفْظِ شَيْءٍ مُدَّةً فَحَفِظَهُ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ تَرَكَ فَهَل تَبْطُل الإِجَارَةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَال ابْنُ المُثَنَّى: أَصَحُّهُمَا لا تَبْطُل ; بَل يَزُول الاسْتِئْمَانُ وَيَصِيرُ ضَامِنًا.
وَفِي مَسَائِل ابْنِ مَنْصُورٍ عَنْ أَحْمَدَ إذَا اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا شَهْرًا مَعْلومًا فَجَاءَ إليْهِ فِي نِصْفِ ذَلكَ الشَّهْرِ أَنَّ للمُسْتَأْجِرِ الخِيَار.
وَالوَجْهُ الآخَرُ: يَبْطُل العَقْدُ فَلا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الأُجْرَةِ بِنَاءً عَلى أَصْلنَا فِيمَنْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْليمِ بَعْضِ المَنَافِعِ المُسْتَأْجَرَةِ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً وَبِذَلكَ أَفْتَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُنُونِهِ.
وَمِنْهَا: الوَصِيُّ إذَا تَعَدَّى فِي التَّصَرُّفِ فَهَل يَبْطُل كَوْنُهُ وَصِيًّا أَمْ لا؟ ذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي المُفْرَدَاتِ احْتِمَاليْنِ: أَحَدُهُمَا: لا يَبْطُل بَل تَزُول أَمَانَتُهُ ويصير ضَامِنًا كَالوَكِيل وَالثَّانِي: تَبْطُل لأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ حَيِّزِ الأَمَانَةِ بِالتَّفْرِيطِ فَزَالتْ وِلايَتُهُ بِانْتِفَاءِ شَرْطِهَا كَالحَاكِمِ إذَا فَسَقَ.
وَفَرْضُ المَسْأَلةِ فِيمَا إذَا أَقْدَمَ عَلى البَيْعِ بِدُونِ قِيمَةِ المِثْل وَعَلى هَذَا يَتَخَرَّجُ بَيْعُ العَدْل الذِي بِيَدِهِ الرَّهْنُ لهُ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْل أَوْ الثَّمَنِ المُقَدَّرِ هَل يَصِحُّ أَمْ لا؟ لأَنَّ الأَمَانَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ , وَاخْتِيَارُ صَاحِبِ المُغْنِي أَنَّهُ لا يَصِحُّ بَيْعُهُ بِدُونِ ثَمَنِ المِثْل لكِنَّهُ عَلل بِمُخَالفَةِ الإِذْنِ وَهُوَ مُنْتَقَضٌ بِالوَكِيل.
وَلهَذَا أَلحَقَهُ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي الفُصُول بِبَيْعِ الوَكِيل فَصَحَّحَاهُ وَضَمَّنَاهُ النَّقْصَ وَمِثْلهُ إجَارَةُ النَّاظِرِ للوَقْفِ بِدُونِ أُجْرَةِ المِثْل.
القاعدة السادسة والأربعون
القَاعِدَةُ السَّادِسَة وَالأَرْبَعُونَ:فِي العُقُودِ الفَاسِدَةِ هَل هِيَ مُنْعَقِدَةٌ أَوْ لا؟ وَهِيَ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: العُقُودُ الجَائِزَةُ كَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ وَالوِكَالةِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا آنِفًا أَنَّ إفْسَادَهَا لا يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالإِذْنِ لكِنَّ خصائصها تَزُول بِفَسَادِهَا فَلا يَصْدُقُ عَليْهَا أَسْمَاءُ العُقُودِ الصَّحِيحَةِ إلا مُقَيَّدَةً
بِالفَسَادِ.
وَصَرَّحَ القَاضِي فِي خِلافِهِ بِأَنَّهُ لوْ حَلفَ عَلى الشَّرِكَةِ الفَاسِدَةِ مِنْ أَصْلهَا أَنَّهَا شَرِكَةٌ حَنِثَ قَال: وَيُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَالمَنْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَعَ القَوْل بِنُفُوذِهِ وَبَقَاءِ الإِذْنِ مُشْكِلٌ لا سِيَّمَا وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ العَامِل يَسْتَحِقُّ المُسَمَّى.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي : العُقُودُ اللازِمَةُ فَمَا كَانَ مِنْهَا لا يَتَمَكَّنُ العَبْدُ مِنْ الخُرُوجِ مِنْهُ بِقَوْلهِ كَالإِحْرَامِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ لأَنَّهُ لا سَبِيل إلى التَّخَلصِ مِنْهُ إلا بِإِتْمَامِهِ أَوْ الإِحْصَارِ عَنْهُ , وَمَا كَانَ العَبْدُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الخُرُوجِ مِنْهُ بِقَوْلهِ فَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ حُكْمٌ مَبْنِيٌّ عَلى التَّغْليبِ وَالسِّرَايَةِ وَالنُّفُوذِ فَهُوَ مُنْعَقِدٌ وَهُوَ النِّكَاحُ وَالكِتَابَةُ يَتَرَتَّبُ عَليْهِمَا الطَّلاقُ وَالعِتْقُ فَلقُوَّتِهِمَا وَنُفُوذِهِمَا انْعَقَدَ العَقْدُ المُخْتَصُّ بِهِمَا وَنَفَذَا فِيهِ وَتَبَعَهُمَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْ أَحْكَامِ العَقْدِ فَفِي النِّكَاحِ يَجِبُ المَهْرُ بِالعَقْدِ حَتَّى لوْ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول لزِمَهُ نِصْفُ المَهْرِ عَلى وَجْهٍ وَيَسْتَقِرُّ بِالخَلوَةِ وَتَعْتَدُّ فِيهِ مِنْ حِينِ الفُرْقَةِ لا مِنْ حِينِ الوَطْءِ وَتَعْتَدُّ للوَفَاةِ فِيهِ قَبْل الطَّلاقِ وَفِي الكِتَابَةِ تَسْتَتْبِعُ الأَوْلادُ وَالأَكْسَابُ.
وَالثَّانِي: مَا لا يَتَرَتَّبُ عَليْهِ ذَلكَ كَالبَيْعِ وَالإِجَارَةِ فَالمَعْرُوفُ مِنْ المَذْهَبِ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ وَيَتَرَتَّبُ عَليْهِ أَحْكَامُ الغَصْبِ وَخَرَّجَ أَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ مِنْ النِّكَاحِ وَاعْتَرَضَهُ أَحْمَدُ الحَرْبِيُّ فِي تَعْليقِهِ وَقَال: النِّكَاحُ الفَاسِدُ مُنْعَقِدٌ فَلهَذَا صَحَّ التَّصَرُّفُ فِيهِ بِخِلافِ البَيْعِ وَلكِنْ أَبُو الخَطَّابِ قَدْ لا يُسَلمُ انْعِقَادَ النِّكَاحِ الفَاسِدِ وَلا غَيْرِهِ لأَنَّهُ يَرَى أَنَّ المُجَامِعَ يَحِل مِنْ إحْرَامِهِ وَأَنَّ الطَّلاقَ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ إنَّمَا يَقَعُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ فَمِنْ هُنَا حَسُنَ عِنْدَهُ هَذَا التَّخْرِيجُ إذْ البَيْعُ وَالنِّكَاحُ فِي هَذَا عَلى حَدٍّ وَاحِدٍ وَأَبْدَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي عُمَدِهِ احْتِمَالاً بِنُفُوذِ الإِقَالةِ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ كَالطَّلاقِ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ قَال: وَيُفِيدُ ذَلكَ أَنَّ حُكْمَ الحَاكِمِ بَعْدَ الإِقَالةِ بِصِحَّةِ العَقْدِ لا يُؤَثِّرُ.
وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ فِي نُفُوذِ العِتْقِ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ كَالطَّلاقِ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ بِأَنَّ الطَّلاقَ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ نَفْسِهِ فَنَفَذَ بِخِلافِ العِتْقِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَهُوَ البَائِعُ وَهَذَا كُلهُ يُشْعِرُ بِانْعِقَادِ البَيْعِ وَذَكَرَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي فُصُولهِ احْتِمَاليْنِ فِيمَا إذَا قَال لغَيْرِهِ بَعْدَ نِدَاءِ الجُمُعَةِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي وَعَليَّ ثَمَنُهُ فَفَعَل هَل يَنْفُذُ عِتْقُهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ الآمِرِ لهُ؟ وَلكِنَّ هَذَا عَقْدٌ مَوْضُوعٌ للعِتْقِ وَالمِلكُ تَابِعٌ لهُ فَهُوَ كَالكِتَابَةِ بِخِلافِ البَيْعِ.
فَإِنْ قِيل: فَهَلا قُلتُمْ: إنَّ صِحَّةَ التَّصَرُّفِ فِي البَيْعِ الفَاسِدِ مُسْتَنِدٌ إلى الإِذْنِ كَمَا فِي العُقُودِ الجَائِزَةِ إذَا فَسَدَتْ؟ قِيل: ذَلكَ لا يَصِحُّ لوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ البَيْعَ وُضِعَ لنَقْل المِلكِ لا للإِذْنِ وَصِحَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ تُسْتَفَادُ مِنْ المِلكِ لا مِنْ الإِذْنِ بِخِلافِ الوِكَالةِ فَإِنَّهَا موضوعة للإِذْنِ , يُوَضِّحُهُ أَنَّ المُوَكِّل أَذِنَ لوَكِيلهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لهُ وَقَدْ فَعَل مَا أَمَرَهُ وَالبَائِعُ إنَّمَا أَذِنَ للمُشْتَرِي فِي التَّصَرُّفِ لنَفْسِهِ بِالمِلكِ وَلا مِلكَ هَهُنَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الإِذْنَ فِي البَيْعِ مَشْرُوطٌ بِسَلامَةِ عِوَضِهِ فَإِذَا لمْ يُسَلمْ العِوَضُ انْتَفَى الإِذْنُ وَالوِكَالةُ إذْنٌ مُطْلقٌ بِغَيْرِ شَرْطٍ.
القاعدة السابعة والأربعون
القَاعِدَةُ السَّابِعَةُ وَالأَرْبَعُونَ:فِي ضَمَانِ المَقْبُوضِ بِالعَقْدِ الفَاسِدِ
كُل عَقْدٍ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي صَحِيحِهِ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي فَاسِدِهِ وَكُل عَقْدٍ لا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي صَحِيحِهِ لا يَجِبُ الضَّمَانُ فِي فَاسِدِهِ.
وَنَعْنِي بِذَلكَ أَنَّ العَقْدَ الصَّحِيحَ إذَا كَانَ مُوجِبًا للضَّمَانِ فَالفَاسِدُ كَذَلكَ وَإِذَا لمْ يَكُنْ الصَّحِيحُ مُوجِبًا للضَّمَانِ فَالفَاسِدُ كَذَلكَ , فَالبَيْعُ وَالإِجَارَةُ وَالنِّكَاحُ مُوجِبَةٌ للضَّمَانِ مَعَ الصِّحَّةِ فَكَذَلكَ مَعَ الفَسَادِ.
وَالأَمَانَاتُ كَالمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالوِكَالةِ الوَدِيعَةِ وَعُقُودُ التَّبَرُّعَاتِ كَالهِبَةِ لا يَجِبُ الضَّمَانُ فِيهَا مَعَ الصِّحَّةِ.
فَكَذَلكَ مَعَ الفَسَادِ وَكَذَلكَ الصَّدَقَةُ , فَأَمَّا قَوْل أَصْحَابِنَا فِيمَنْ عَجَّل زَكَاتَهُ ثُمَّ تَلفَ المَال وَقُلنَا لهُ الرُّجُوعُ بِهِ أَنَّهُ إذَا تَلفَ ضَمِنَهُ القَابِضُ فَليْسَ مِنْ القَبْضِ الفَاسِدِ بِشَيْءٍ لأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا لكِنَّهُ مُرَاعًى فَإِنْ بَقِيَ النِّصَابُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ قَبَضَ زَكَاةً , وَإِنْ تَلفَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لمْ يَكُنْ زَكَاةً فَيَرْجِعُ بِهَا.
نَعَمْ إذَا ظَهَرَ قَابِضُ الزَّكَاةِ مِمَّنْ لا يَجُوزُ لهُ أَخْذُهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لكَوْنِ القَبْضِ لمْ يُمْلكْ بِهِ وَهُوَ مُفَرِّطٌ بِقَبْضِ مَا لا يَجُوزُ لهُ قَبْضُهُ فَهَذَا مِنْ القَبْضِ البَاطِل لا الفَاسِدِ.
وَليْسَ المُرَادُ أَنَّ كُل حَالٍ ضَمِنَ فِيهَا فِي العَقْدِ الصَّحِيحِ وَضَمِنَ فِي مِثْلهَا مِنْ الفَاسِدِ فَإِنَّ البَيْعَ الصَّحِيحَ لا يَجِبُ فِيهِ ضَمَانُ المَنْفَعَةِ , وَإِنَّمَا يَضْمَنُ العَيْنَ بِالثَّمَنِ.
المَقْبُوضُ بِالبَيْعِ الفَاسِدِ يَجِبُ ضَمَانُ الأُجْرَةِ فِيهِ عَلى المَذْهَبِ.
وَالإِجَارَةُ الصَّحِيحَةُ تَجِبُ فِيهَا الأُجْرَةُ بِتَسْليمِ العَيْنِ المَعْقُودِ عَليْهَا سَوَاءٌ انْتَفَعَ بِهَا المُسْتَأْجِرُ أَوْ لمْ يَنْتَفِعْ , وَفِي الإِجَارَةِ الفَاسِدَةِ رِوَايَتَانِ:
إحْدَاهُمَا: كَذَلكَ.
وَالثَّانِيَة: لا تَجِبُ الأُجْرَةُ إلا بِالانْتِفَاعِ , وَلعَلهَا رَاجِعَةٌ إلى أَنَّ المَنَافِعَ لا تُضْمَنُ فِي الغَصْبِ وَنَحْوِهِ إلا بِالانْتِفَاعِ وَهُوَ الأَشْبَهُ.
وَكَذَلكَ يُخَرَّجُ فِي ضَمَانِ مَنْفَعَةِ المَبِيعِ هَهُنَا , وَلكِنْ نَقَل جَمَاعَةٌ عَنْ أَحْمَدَ مَا يَدُل عَلى أَنَّ الإِجَارَةَ الصَّحِيحَةَ لا تَجِبُ فِيهَا الأُجْرَةُ إلا بِقَدْرِ الانْتِفَاعِ إذَا تَرَكَ المُسْتَأْجِرُ بَقِيَّةَ الانْتِفَاعِ بِعُذْرٍ مِنْ جِهَتِهِ , وَتَأَوَّلهَا القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَأَقَرَّهَا صَاحِبُ شَرْحِ الهِدَايَةِ وَالقَاضِي أَيْضًا فِي بَعْضِ تَعَاليقِهِ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ يَسْتَقِرُّ فِيهِ المَهْرُ بِالخَلوَةِ بِدُونِ الوَطْءِ.
وَفِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا وَقَدْ قِيل إنَّ ذَلكَ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ البُضْعَ هَل يَثْبُتُ عَليْهِ اليَدُ أَمْ لا؟ وَقَدْ نُقِل عَنْ أَحْمَدَ فِيمَا إذَا نَكَحَ العَبْدُ نِكَاحًا فَاسِدًا أَنَّهُ لا مَهْرَ لهَا وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلى أَنَّهُ لمْ يُوجَدْ دُخُولٌ أَوْ عَلى أَنَّهُمَا كَانَا عَالمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ فَتَكُونُ زَانِيَةً.
وَنَقَل ابْنُ مشيش وَحَرْبٌ عَنْهُ أَنَّ المَبِيعَ المَقْبُوضَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ ثَمَنٍ لا يُضْمَنُ لأَنَّهُ عَلى مِلكِ البَائِعِ , وَقَدْ سَبَقَ ذَلكَ وَالعَمَل فِي المَذْهَبِ عَلى خِلافِهِ , إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهَل يَضْمَنُ فِي العَقْدِ الفَاسِدِ بِمَا سَمَّى فِيهِ أَوْ بِقِيمَةِ المِثْل؟ فِيهِ خِلافٌ فِي مَسَائِل:
مِنْهَا: المَبِيعُ وَالمَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ ضَمَانُهُ بِالقِيمَةِ لا بِالثَّمَنِ المُسَمَّى فِيهِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ وَأَبِي طَالبٍ لأَنَّ المُسَمَّى إنَّمَا وَقَعَ الرِّضَى بِهِ فِي ضَمَانِ العَقْدِ وَالعَقْدُ غَيْرُ مُوجِبٍ للضَّمَانِ.
وَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ الضَّمَانُ بِأَمْرٍ آخَرَ طَارِئٍ عَلى العَقْدِ وَهُوَ التَّلفُ تَحْتَ يَدِهِ فَيَجِبُ ضَمَانُهُ بِالقِيمَةِ أَوْ المِثْل كَمَا لوْ اتَّفَقَا عَلى ضَمَانِ العَارِيَّةِ عِنْدَ إقْبَاضِهَا بِشَيْءٍ ثُمَّ تَلفَتْ فَإِنَّهُ يُلغَى المُتَّفَقُ عَليْهِ وَيَجِبُ المِثْل أَوْ القِيمَةُ كَذَلكَ هَهُنَا.
وَحَكَى القَاضِي فِي المُجَرَّدِ وَابْنُ عَقِيلٍ فِي الفُصُول فِي الكِتَابَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ العَزِيزِ أَنَّ المَقْبُوضَ بِالبَيْعِ الفَاسِدِ يُضْمَنُ بِالمُسَمَّى وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَقَال: إنَّهُ قِيَاسُ المَذْهَبِ آخِذًا لهُ مِنْ النِّكَاحِ قَال: لأَنَّ إقْبَاضَهُ إيَّاهُ إذْنٌ لهُ فِي إتْلافِهِ بِالعِوَضِ المُسَمَّى فَأَشْبَهَ مَا لوْ قَال لهُ أَتْلفْهُ بِأَلفِ دِرْهَمٍ فَأَتْلفَهُ فَإِنَّهُ لا يَسْتَحِقُّ عَليْهِ غَيْرَ مَا سَمَّى لهُ وَقَدْ يُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ المُسَمَّى إنَّمَا جُعِل عِوَضًا عَنْ المِلكِ لا عَنْ الإِتْلافِ وَلمْ يَتَضَمَّنْ العَقْدُ إذْنًا فِي الإِتْلافِ إنَّمَا تَضَمَّنَ نَقْل مِلكٍ بِعِوَضٍ وَلمْ يُوجَدْ نَقْل المِلكِ فَلا يَثْبُتُ العِوَضُ وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ.
وَمِنْهَا: الإِجَارَةُ الفَاسِدَةُ وَالمَعْرُوفُ مِنْ المَذْهَبِ ضَمَانُهَا بِأُجْرَةِ المِثْل أَيْضًا وَيَتَخَرَّجُ عَلى قَوْل أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا تُضْمَنُ بِالأُجْرَةِ المُسَمَّاةِ وَالقَوْل فِيهَا كَالقَوْل فِي البَيْعِ سَوَاءٌ.
وَمِنْهَا: الكِتَابَةُ الفَاسِدَةُ تُضْمَنُ بِالمُسَمَّى فَإِذَا أَدَّى مَا سَمَّى فِيهَا حَصَل العِتْقُ وَلمْ يَلزَمْهُ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ , وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى ذَلكَ لكِنْ المُتَأَخِّرُونَ زَعَمُوا أَنَّ الكِتَابَةَ الفَاسِدَةَ تَعْليقٌ بِصِفَةٍ فَلا يُؤَثِّرُ فَسَادُهَا وَلا تَحْرِيمُهَا كَمَا لوْ قَال لعَبْدِهِ: إنْ أَعْطَيْتَنِي خَمْرًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَعْطَاهُ عَتَقَ لوُجُودِ الصِّفَةِ وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَعِنْدَهُ أَنَّ الكِتَابَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ أَبَدًا وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَقِيلٍ وَهُوَ الأَظْهَرُ وَلا يَقَعُ العِتْقُ عِنْدَهُ بِأَدَاءِ المُحَرَّمِ لأَنَّ العَقْدَ لا يَنْعَقِدُ بِعِوَضٍ مُحَرَّمٍ بَل هُوَ عِنْدَهُ بَاطِلٌ.
وَمِنْهَا: النِّكَاحُ الفَاسِدُ يَسْتَقِرُّ بِالدُّخُول فِيهِ وُجُوبُ المَهْرِ المُسَمَّى فِي الرِّوَايَةِ المَشْهُورَةِ عَنْ أَحْمَدَ وَهِيَ المَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُوسَى وَاخْتَارَهَا القَاضِي وَأَكْثَرُ أَصْحَابِهِ فِي كُتُبِ الخِلافِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَالبَيْعِ بِأَنَّ النِّكَاحَ مَعَ فَسَادِهِ مُنْعَقِدٌ , وَيَتَرَتَّبُ عَليْهِ أَكْثَرُ أَحْكَامِ الصَّحِيحِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلاقِ وَلزُومِ عِدَّةِ الوَفَاةِ بَعْدَ المَوْتِ وَالاعْتِدَادِ مِنْهُ بَعْدَ المُفَارَقَةِ فِي الحَيَاةِ وَوُجُوبِ المَهْرِ فِيهِ بِالعَقْدِ وَتَقَرُّرِهِ بِالخَلوَةِ فَلذَلكَ لزِمَ المَهْرُ المُسَمَّى فِيهِ كَالصَّحِيحِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ ضَمَانَ المَهْرِ فِي النِّكَاحِ الفَاسِدِ ضَمَانُ عَقْدٍ كَضَمَانِهِ فِي الصَّحِيحِ وَضَمَانُ البَيْعِ الفَاسِدِ ضَمَانُ تَلفٍ بِخِلافِ البَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ ضَمَانَهُ ضَمَانُ عَقْدٍ.
وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الوَاجِبَ مَهْرُ المِثْل أَخْذًا مِنْ رِوَايَةِ المَرُّوذِيّ عَنْهُ فِي عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَدَخَل بِهَا فَقَدْ جَعَل لهَا عُثْمَانُ الخَمْسِينَ , وَأَنَا أَذْهَب إلى أَنْ يُعْطِي شَيْئًا فَلمْ يُوجِبْ المُسَمَّى وَهُوَ اخْتِيَارُ الخِرَقِيِّ وَصَاحِبِ المُغْنِي , وَاسْتَدَلوا بِقَوْلهِ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ فِيمَنْ أَنْكَحَتْ نَفْسَهَا إنَّ لهَا المَهْرَ بِمَا اسْتَحَل مِنْهَا فَأَوْجَبَ المَهْرَ بِالاسْتِحْلال وَهُوَ الإِصَابَةُ فَدَل عَلى أَنَّهُ لمْ يَجِبْ بِالعَقْدِ وَإِنَّمَا وَجَبَ بِالوَطْءِ وَالوَاجِبُ بِالوَطْءِ مَهْرُ المِثْل.
وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الاسْتِحْلال يَحْصُل بِمُحَاوِلةِ الحِل
وَتَحْصِيلهِ وَإِنْ لمْ يُوجَدْ الوَطْءُ.
وَقَدْ يُطْلقُ عَلى اسْتِحْلال مَا لمْ يَحِل مِنْ الأَجْنَبِيَّةِ مِثْلهُ وَهُوَ الخَلوَةُ أَوْ المُبَاشَرَةُ وَذَلكَ مُقَرَّرٌ عِنْدَنَا للمَهْرِ.
وَقَدْ قَال النَّبِيُّ صَلى اللهُ عَليْهِ وَسَلمَ: للمُلاعِنِ مِثْل ذَلكَ وَليْسَ مَحْمُولاً عِنْدَنَا إلا عَلى مَا ذَكَرْنَا لا عَلى حَقِيقَةِ الوَطْءِ , فَأَمَّا عُقُودُ المُشَارَكَاتِ إذَا فَسَدَتْ كَالشَّرِكَةِ وَالمُضَارَبَةِ فَهَل يَجِبُ المُسَمَّى فِيهَا أَوْ أُجْرَةُ المِثْل؟ فِيهِ خِلافٌ بَيْنَ الأَصْحَابِ وَليْسَ ذَلكَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ لأَنَّ كَلامَنَا فِي ضَمَانِ القَابِضِ بِالعَقْدِ الفَاسِدِ وَهَذِهِ العُقُودُ لا ضَمَانَ فِيهَا عَلى القَابِضِ , وَإِنَّمَا يَجِبُ لهُ فِيهَا العِوَضُ بِعَمَلهِ إمَّا المُسَمَّى وَإمَّا أُجْرَةُ المِثْل عَلى خِلافٍ فِيهِ.
القاعدة الثامنة والأربعون
القَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ وَالأَرْبَعُونَ:كُل مَنْ مَلكَ شَيْئًا بِعِوَضٍ مَلكَ عَليْهِ عِوَضَهُ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَيَطَّرِدُ هَذَا فِي البَيْعِ وَالسَّلمِ وَالقَرْضِ وَالإِجَارَةِ فَيَمْلكُ المُسْتَأْجِرُ المَنَافِعَ وَالمُؤَجِّرُ الأُجْرَةَ بِنَفْسِ العَقْدِ , وَكَذَلكَ فِي النِّكَاحِ فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ فَيَمْلكُ الزَّوْجُ مَنْفَعَةَ البُضْعِ بِالعَقْدِ وَتَمْلكُ المَرْأَةُ بِهِ الصَّدَاقَ كُلهُ وَكَذَلكَ الكِتَابَةُ تُمَلكُ العَبْدَ مَنَافِعَهُ وَاكْتِسَابَهُ وَتُمَلكُ عَليْهِ النُّجُومَ بِنَفْسِ العَقْدِ , وَكَذَلكَ الخُلعُ وَالإِعْتَاقُ عَلى مَالٍ , وَكَذَلكَ المُعَاوَضَاتُ القَهْرِيَّةُ كَأَخْذِ المُضْطَرِّ طَعَامَ الغَيْرِ وَأَخْذِ الشَّفِيعِ الشِّقْصَ وَنَحْوِهِمَا.
وَأَمَّا تَسْليمُ العِوَضَيْنِ فَمَتَى كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلاً لمْ يَمْنَعْ ذَلكَ المُطَالبَةَ بِتَسْليمِ الآخَرِ وَإِنْ كَانَا حَاليْنِ فَفِي البَيْعِ إنْ كَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَالمَذْهَبُ وُجُوبُ إقْبَاضِ البَائِعِ أَوَّلاً لأَنَّ حَقَّ المُشْتَرِي تَعَلقَ بِعَيْنٍ فَقُدِّمَ عَلى الحَقِّ المُتَعَلقِ بِالذِّمَّةِ وَلا يَجُوزُ للبَائِعِ حَبْسُ المَبِيعِ عِنْدَهُ عَلى الثَّمَنِ عَلى المَنْصُوصِ لأَنَّهُ صَارَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً فَوَجَبَ رَدُّهُ بِالمُطَالبَةِ كَسَائِرِ الأَمَانَاتِ , واخْتَارَ صَاحِبُ المُغْنِي أَنَّ لهُ الامْتِنَاعَ مِنْ إقْبَاضِهِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ لأَنَّ تَسْليمَهُ بِدُونِ الثَّمَنِ ضَرَرًا بِفَوَاتِ الثَّمَنِ عَليْهِ فَلا يَلزَمُ تَسْليمُهُ حَتَّى يُحْضِرَهُ وَقَال أَبُو الخَطَّاب فِي انْتِصَارِهِ: الصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ التَّسْليمُ حَتَّى يَتَسَلمَ الثَّمَنَ كَمَا فِي النِّكَاحِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَهُمَا سَوَاءٌ وَلا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلى البَدَاءَةَ بِالتَّسْليمِ بَل يَنْصَبُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ مَنْ يَقْبِضُ مِنْهُمَا ثُمَّ يُقَبِّضُهُمَا فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ خِيَارٌ لهُمَا أَوْ لأَحَدِهِمَا لمْ يَمْلكْ البَائِعُ المُطَالبَةَ بِالنَّقْدِ ذَكَرَهُ القَاضِي فِي الإِجَارَاتِ مِنْ خِلافِهِ وَصَرَّحَ بِهِ الأَزَجِيُّ فِي نِهَايَتِهِ وَلا يَمْلكُ المُشْتَرِي قَبْضَ المَبِيعِ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ بِدُونِ إذْنٍ صَرِيحٍ مِنْ البَائِعِ نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الشَّالنْجِيِّ وَأَمَّا فِي الإِجَارَةِ فَالمَذْهَبُ أَنَّهُ لا يَجِبُ تَسْليمُ الأُجْرَةِ إلا بَعْدَ تَسْليمِ العَمَل المَعْقُودِ عَليْهِ أَوْ العَيْنِ المَعْقُودِ عَليْهَا كَمَا لا يَجِبُ دَفْعُ الثَّمَنِ إلا بَعْدَ تَسْليمِ المَبِيعِ وَمَتَى تُسَلمُ العَيْنُ وَجَبَ عَليْهِ تَسْليمُ الأُجْرَةِ لتَمَكُّنِهِ مِنْ الانْتِفَاعِ بِقَبْضِهَا نَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ.
وَقَال القَاضِي فِي تَعْليقِهِ: إنَّ الأَجِيرَ يَجِبُ دَفْعُ الأُجْرَةِ إليْهِ إذَا شَرَعَ فِي العَمَل لأَنَّهُ قَدْ سَلمَ نَفْسَهُ لاسْتِيفَاءِ المَنْفَعَةِ فَهُوَ كَتَسْليمِ الدَّارِ المُؤَجَّرَةِ.
وَلعَلهُ يَخُصُّ ذَلكَ بِالأَجِيرِ الخَاصِّ لأَنَّ مَنَافِعَهُ تَتْلفُ تَحْتَ يَدِ المُسْتَأْجِرِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِتَسْليمِ العَقَارِ.
وَقَال ابْنُ أَبِي مُوسَى:
مَنْ اُسْتُؤْجِرَ لعَمَلٍ مَعْلومٍ اسْتَحَقَّ الأُجْرَةَ عِنْدَ إيفَاءِ العَمَل وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ فِي كُل يَوْمٍ بِأَجْرٍ مَعْلومٍ فَلهُ أَجْرُ كُل يَوْمٍ عِنْدَ تَمَامِهِ , وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ المُسْتَأْجَرَ للعَمَل مُدَّةً يَجِبُ لهُ أُجْرَةُ كُل يَوْمٍ فِي آخِرِهِ لأَنَّ ذَلكَ مُقْتَضَى العُرْفِ , وَقَدْ يُحْمَل عَلى مَا إذَا كَانَتْ المُدَّةُ مُطْلقَةً غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ كَاسْتِئْجَارِهِ كُل يَوْمٍ بِكَذَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَيَثْبُتُ لهُ الخِيَارُ فِي آخَرِ كُل يَوْمٍ فَيَجِبُ لهُ الأُجْرَةُ فِيهِ لأَنَّهُ غَيْرُ مَلزُومٍ بِالعَمَل فِيمَا بَعْدَهُ وَلأَنَّ مُدَّتَهُ لا تَنْتَهِي فَلا يُمْكِنُ تَأْخِيرُ إعْطَائِهِ إلى تَمَامِهَا أَوْ عَلى أَنَّ المُدَّةَ المُعَيَّنَةَ إذَا عَيَّنَّا لكُل يَوْمٍ مِنْهَا قِسْطًا مِنْ الأُجْرَةِ فَهِيَ إجَارَاتٌ مُتَعَدِّدَةُ وَأَمَّا النِّكَاحُ فَتَسْتَحِقُّ المَرْأَةُ فِيهِ المَهْرَ بِالعَقْدِ وَلهَا الامْتِنَاعُ مِنْ التَّسْليمِ حَتَّى تَقْبِضَهُ فِي المَذْهَبِ ذَكَرَهُ الخِرَقِيِّ وَالأَصْحَابُ , وَنَقَلهُ ابْنُ المُنْذِرِ اتِّفَاقًا مِنْ العُلمَاءِ وَعَللهُ الأَصْحَابُ بِأَنْ المَنْفَعَةَ المَعْقُودَ عَليْهَا تَتْلفُ بِالاسْتِيفَاءِ فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ المَهْرِ عَليْهَا لمْ يُمْكِنْهُمَا اسْتِرْجَاعُ عِوَضِهَا بِخِلافِ المَبِيعِ فَلذَلكَ مَلكَتْ الامْتِنَاعَ مِنْ التَّسْليمِ حَتَّى تَقْبِضَهُ وَهَذِهِ العِلةُ مَوْجُودَةٌ فِيمَا لا يَتَبَاقَى مع المَبِيعِ مِنْ المَطْعُومَاتِ وَالمَشْرُوبَاتِ وَالفَوَاكِهِ وَالرَّيَاحِينِ ; بَل فِي سِلعِ التِّجَارَةِ أَيْضًا. وَهَذَا مِمَّا يُرَجِّحُ مَا اخْتَارَهُ أَبُو الخَطَّابِ.
وَأَيْضًا فَطَرْدُ هَذَا التَّعْليل أَنْ يَجُوزَ الامْتِنَاعُ مِنْ تَسْليمِ العَيْنِ المُؤَجَّرَةِ حَتَّى تُسْتَوْفَى الأُجْرَةُ لأَنَّ المَعْقُودَ عَليْهِ يَتْلفُ أَيْضًا وَيُسْتَهْلكُ فَلا يُمْكِنُ اسْتِرْدَادُهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الوُصُول إلى الأُجْرَةِ لكِنْ قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا تَسَلمَ المَرْأَةَ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي الحَال مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ المَهْرُ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَخَذَ المَهْرِ مِنْهُ فَاتَ عَلى الزَّوْجَةِ المَهْرُ وَمَا قَابلهُ , وَأَمَّا فِي الإِجَارَةِ فَإِذَا تَسَلمَ المُسْتَأْجِرُ العَيْنَ المُؤَجَّرَةَ فَللمُؤَجِّرِ المُطَالبَةُ حِينَئِذٍ بِالأُجْرَةِ فَإِنْ تَعَذَّرَ حُصُولهَا مَلكَ الفَسْخَ فَيَرْجِعُ إلى المُؤَجِّرِ مَا خَرَجَ عَنْهُ أَوْ غَالبُهُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ يُمْكِنُ الاسْتِمْتَاعُ بِهَا فَإِنْ كَانَتْ لا تَصْلحُ لذَلكَ فَقَال ابْنُ حَامِدٍ وَغَيْرُهُ: لهَا المُطَالبَةُ بِهِ أَيْضًا وَرَجَّحَ صَاحِبُ المُغْنِي خِلافَهُ وَخَرَّجَهُ صَاحِبُ التَّرْغِيبِ مِمَّا حَكَى الآمِدِيُّ أَنَّهُ لا يَجِبُ البَدَاءَةَ بِتَسْليمِ المَهْرِ بَل يَعْدِل كَالثَّمَنِ المُعَيَّنِ فَلا يَلزَمُ تَسْليمُ المَهْرِ إلا عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَسَلمِ العِوَضِ المَعْقُودِ عَليْهِ وَقَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: الأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّ الصَّغِيرَةَ تَسْتَحِقُّ المُطَالبَةَ لهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ لأَنَّ النِّصْفَ يُسْتَحَقُّ بِإِزَاءِ الحَبْسِ وَهُوَ حَاصِلٌ بِالعَقْدِ وَالنِّصْفُ الآخَرُ بِإِزَاءِ الدُّخُول فَلا تَسْتَحِقَّهُ إلا بِالتَّمَكُّنِ أَمَّا لوْ اسْتَقَرَّ المَهْرُ بِالدُّخُول ثُمَّ نَشَزَتْ المَرْأَةُ فَلا نَفَقَةَ لهَا وَلهَا أَوْ لوَليِّهَا أَوْ سَيِّدِهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً المُطَالبَةُ بِالمَهْرِ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ وَغَيْرُهُ لأَنَّ وُجُوبَهُ اسْتَقَرَّ بِالتَّمَكُّنِ فَلا يُؤَثِّرُ فِيهِ مَا طَرَأَ عَليْهِ بَعْدَهُ
القاعدة التاسعة والأربعون
القَاعِدَةُ التَّاسِعَة وَالأَرْبَعُونَ:القَبْضُ فِي العُقُودِ عَلى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مِنْ مُوجَبِ العَقْدِ وَمُقْتَضَاهُ كَالبَيْعِ اللازِمِ وَالرَّهْنِ اللازِمِ وَالهِبَةِ اللازِمَةِ وَالصَّدَاقِ وَعِوَضِ الخُلعِ فَهَذِهِ العُقُودُ تَلزَمُ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ , وَإِنَّمَا القَبْضُ فِيهَا مِنْ مُوجَبَاتِ عُقُودِهَا.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ القَبْضُ مِنْ تَمَامِ العَقْدِ كَالقَبْضِ فِي السَّلمِ وَالرِّبَوِيَّاتِ وَفِي الرَّهْنِ وَالهِبَةِ وَالوَقْفِ
عَلى رِوَايَةٍ وَالوَصِيَّةِ عَلى وَجْهٍ وَفِي بَيْعِ غَيْرِ المُعَيَّنِ أَيْضًا عَلى خِلافٍ فِيهِ , فَأَمَّا السَّلمُ فَمَتَى تَفَرَّقَا قَبْل قَبْضِ رَأْسِ مَالهِ بَطَل وَكَذَلكَ فِي الرِّبَوِيَّاتِ , وَأَمَّا الرَّهْنُ وَالهِبَةُ فَهَل يُعْتَبَرُ القَبْضُ فِيهِمَا فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ أَوْ فِي المُبْهَمِ غَيْرِ المُتَمَيِّزِ كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ , وَأَمَّا الوَقْفُ فَفِي لزُومِهِ بِدُونِ إخْرَاجِ الوَقْفِ عَنْ يَدِهِ رِوَايَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ , وَأَمَّا الوَصِيَّةُ فَهَل تَلزَمُ بِالقَبُول فِي المُبْهَمِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ:
وَاخْتَارَ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ أَنَّهَا لا تَلزَمُ فِيهِ بِدُونِ قَبْضٍ , وَخَرَّجَ صَاحِبُ المُغْنِي وَجْهًا ثَالثًا أَنَّهَا لا تَلزَمُ بِدُونِ القَبْضِ مُطْلقًا كَالهِبَةِ , وَكَذَلكَ حَكَى صَاحِبُ المُغْنِي وَغَيْرُهُ وَجْهَيْنِ فِي رَدِّ المَوْقُوفِ عَليْهِ المُعَيَّنِ للوَقْفِ هَل يَبْطُل بِرَدِّهِ؟ وَصَرَّحَ القَاضِي فِي المُجَرَّدِ بِأَنَّ المِلكَ فِيهِ لا يَلزَمُ بِدُونِ القَبْضِ وَأَمَّا المَبِيعُ المُبْهَمُ فَذَكَرَ القَاضِي فِي مَوْضِعٍ أَنَّهُ غَيْرُ لازِمٍ بِدُونِ القَبْضِ وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّهُ لازِمٌ مِنْ جِهَتِهِ وَلمْ يَتَعَرَّضْ للمُشْتَرِي وَلعَلهُ جَعَلهُ غَيْرَ لازِمٍ مِنْ جِهَةِ البَائِع لأَنَّهُ لمْ يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ بَعْدُ وَاخْتَارَ صَاحِبُ المُغْنِي أَنَّهُ لازِمٌ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَقَال هُوَ ظَاهِرُ كَلامِ الخِرَقِيِّ.
وَاعْلمْ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَصْحَابِ يَجْعَل القَبْضَ فِي هَذِهِ العُقُودِ مُعْتَبَرًا للزُومِهَا وَاسْتِمْرَارِهَا لا لانْعِقَادِهَا وَإِنْشَائِهَا وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلكَ صَاحِبُ المُغْنِي وَأَبُو الخَطَّابِ فِي انْتِصَارِهِ وَصَاحِبُ التَّلخِيصِ وَغَيْرُهُمْ.
وَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ جَعَل القَبْضَ فِيهَا شَرْطًا للصِّحَّةِ وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلكَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِيهِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلمِ وَالهِبَةِ.
وَقَال فِي الشَّرْحِ: مَذْهَبُنَا أَنَّ المِلكَ فِي المَوْهُوبِ لا يَثْبُتُ بِدُونِ القَبْضِ وَفُرِّعَ عَليْهِ إذَا دَخَل وَقْتُ الغُرُوبِ مِنْ ليْلةِ الفِطْرِ وَالعَبْدُ مَوْهُوبٌ لمْ يَقْبِضْ ثُمَّ قَبَضَ وَقُلنَا يُعْتَبَرُ فِي هِبَتِهِ القَبْضُ فَفُطْرَتُهُ عَلى الوَاهِبِ.
وَكَذَلكَ صَرَّحَ ابْنُ عَقِيلٍ بِأَنَّ القَبْضَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الهِبَةِ كَالإِيجَابِ فِي غَيْرِهَا وَكَلامُ الخِرَقِيِّ يَدُل عَليْهِ أَيْضًا , وَكَذَلكَ ذَكَرَ القَاضِي أَنَّ القَبْضَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّرْفِ وَالسَّلمِ وَصَرَّحَ بِهِ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ , وَلكِنَّ صَاحِبَ المُحَرَّرِ لمْ يَذْكُرْ فِي الرَّهْنِ إلا أَنَّ القَبْضَ شَرْطٌ للزُومِهِ , وَصَرَّحَ أَبُو بَكْرٍ بِأَنَّهُ شَرْطٌ لصِحَّتِهِ وَأَنَّ الرَّهْنَ يَبْطُل بِزَوَالهِ وَكَذَلكَ صَاحِبُ المُحَرَّرِ فِي شَرْحِ الهِدَايَةِ وَالشِّيرَازِيُّ وَغَيْرُهُمَا.
وَأَمَّا القَرْضُ وَالصَّدَقَةُ وَالزَّكَاةُ وَغَيْرُهَا فَفِيهَا طَرِيقَانِ:
إحْدَاهُمَا: لا يُمْلكُ إلا بِالقَبْضِ رِوَايَةً وَاحِدَةً وَهِيَ طَرِيقَةُ المُجَرَّدِ وَالمُبْهِجِ وَنَصَّ عَليْهِ أَحْمَدُ فِي مَوَاضِعَ.
وَالثَّانِيَة: أَنَّهُ فِي المُبْهَمِ لا يُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ بِخِلافِ المُعَيَّنِ فَإِنَّهُ يُمْلكُ فِيهِ بِالعَقْدِ وَهِيَ طَرِيقَةُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَابْنِ عَقِيلٍ فِي مُفْرَدَاتِهِ وَالحَلوَانِيِّ وَابْنِهِ إلا أَنَّهُمَا حَكَيَا فِي المُعَيَّنِ رِوَايَتَيْنِ كَالهِبَةِ.
وَأَمَّا السَّهْمُ مِنْ الغَنِيمَةِ فَيُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ إذَا عَيَّنَّهُ الإِمَامُ بِغَيْرِ خِلافٍ صَرَّحَ بِهِ الحَلوَانِيُّ وَابْنُ عَقِيلٍ وَغَيْرُهُمَا.
وَأَمَّا العَارِيَّةُ فَلا تُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ إنْ قِيل إنَّهَا هِبَةُ مَنْفَعَةٍ وَخَرَّجَ القَاضِي فِيهَا رِوَايَةً أُخْرَى
أَنَّهَا تُمْلكُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ كَهِبَةِ الأَعْيَانِ وَتَلزَمُ إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً وَإِنْ قِيل هِيَ إبَاحَةٌ فَلا يَحْصُل المِلكُ فِيهَا بِحَالٍ بَل يُسْتَوْفَى عَلى مِلكِ المَالكِ كَطَعَامِ الضَّيْفِ.
قَال الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: التَّحْقِيقُ أَنْ يُقَال فِي هَذِهِ العُقُودِ إذَا لمْ يَحْصُل القَبْضُ فَلا عَقْدَ , وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الفُقَهَاءِ يَقُول بَطَل العَقْدُ فَكَمَا يُقَال إذَا لمْ يَقْبَل المُخَاطَبُ بَطَل الإِيجَابُ فَهَذَا بُطْلانُ مَا لمْ يَتِمَّ لا بُطْلانُ مَا تَمَّ انْتَهَى.
وَلا يُسْتَبْعَدُ تَوَقُّفُ انْعِقَادِ العَقْدِ عَلى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلى الإِيجَابِ وَالقَبُول كَمَا يَتَوَقَّفُ انْعِقَادُ النِّكَاحِ مَعَهُمَا عَلى الشَّهَادَةِ.
وَفِي الهِبَةِ وَجْهٌ ثَالثٌ حُكِيَ عَنْ ابْنِ حَامِدٍ أَنَّ المِلكَ فِيهَا يَقَعُ مُرَاعًى فَإِنْ وُجِدَ القَبْضُ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ للمَوْهُوبِ بِقَبُولهِ وَإِلا فَهُوَ للوَاهِبِ , وَفُرِّعَ عَلى ذَلكَ حُكْمُ الفِطْرَةِ. وَقَدْ يَطَّرِدُ قَوْلهُ بِالوَقْفِ وَالمُرَاعَاةِ إلى بَقِيَّةِ هَذِهِ العُقُودِ.
وَأَمَّا البَيْعُ الذِي يُعْتَبَرُ لهُ القَبْضُ فَفِي كَلامِ أَبِي بَكْرٍ مَا يَدُل عَلى أَنَّهُ لا يَنْعَقِدُ بِدُونِ القَبْضِ أَيْضًا , فَإِنَّهُ قَال: إذَا اشْتَرَاهُ كَيْلاً فَلا يَقَعُ بَيْنَهُمَا إلا كَيْلاً وَتَأَوَّلهُ القَاضِي عَلى نَفْيِ الضَّمَانِ وَهُوَ بَعِيدٌ قَال: لأَنَّ أَحْمَدَ قِيل لهُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مشيش أَليْسَ قَدْ مَلكَهُ المُشْتَرِي؟ قَال بَلى وَلكِنْ هُوَ مِنْ مَال البَائِعِ يَعْنِي إذَا تَلفَ , قُلت: لكِنْ صَرَّحَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ بِانْتِقَال المِلكِ قَبْل القَبْضِ فَقَال: أَمَّا مَا يُكَال وَيُوزَنُ فَلا بُدَّ للبَائِعِ أَنْ يُوَفِّيَهُ المُبْتَاعَ لأَنَّ مِلكَ البَائِعِ فِيهِ قَائِمٌ حَتَّى يُوفِيَهُ المُشْتَرِي وَمَالا يُكَال وَلا يُوزَنُ إذَا كَانَ مَعْلومًا فَهُوَ مِلكٌ للمُشْتَرِي فَمَا لزِمَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَليْهِ.
وَقَال أَيْضًا فِي طَعَامٍ اُشْتُرِيَ بِالصِّفَةِ وَلا يُحَوِّل البَائِعُ الثَّمَنَ وَالبَائِعُ مَالكٌ بَعْدُ مَا لمْ يَكِلهُ المُشْتَرِي وَهَذَا صَرِيحٌ لا يُمْكِنُ تَأْوِيلهُ , فَيَكُونُ إذَا عَنْ أَحْمَدَ فِي انْتِقَال المِلكِ فِي بَيْعِ المَكِيل وَالمَوْزُونِ بِدُونِ القَبْضِ رِوَايَتَانِ.
القاعدة الخمسون
القَاعِدَةُ الخَمْسُونَهَل يَتَوَقَّفُ المِلكُ فِي العُقُودِ القَهْرِيَّةِ عَلى دَفْعِ الثَّمَنِ أَوْ يَقَعُ بِدُونِهِ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ؟ هَذَا عَلى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّمَلكُ الاضْطِرَارِيُّ كَمَنْ اُضْطُرَّ إلى طَعَامِ الغَيْرِ وَمَنَعَهُ وَقَدَرَ عَلى أَخْذِهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مَضْمُونًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ ثَمَنٌ يَدْفَعُهُ فِي الحَال أَوْ لا لأَنَّ ضَرَرَهُ لا يَنْدَفِعُ إلا بِذَلكَ.
وَالثَّانِي: مَا عَدَّدَهُ مِنْ التَّمْليكَاتِ المَشْرُوعَةِ لإِزَالةِ ضَرَرٍ مَا كَالأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَأَخْذِ الغِرَاسِ وَالبِنَاءِ مِنْ المُسْتَعِيرِ وَالمُسْتَأْجِرِ وَالزَّرْعِ وَمِنْ الغَاصِبِ وَتَقْوِيمِ الشِّقْصِ مِنْ العَبْدِ المُشْتَرَكِ إذَا قِيل إنَّهُ تَمَلكٌ
يَقِفُ عَلى التَّقْوِيمِ. وَكَالفُسُوخِ التِي يَسْتَقِل بِهَا البَائِعُ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ يَتَخَرَّجُ ذَلكَ كُلهُ عَلى وَجْهَيْنِ, فَإِنَّ لأَصْحَابِنَا فِي الأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لا يَمْلكُ بِدُونِ دَفْعِ الثَّمَنِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ ابْنِ عَقِيلٍ وَيَشْهَدُ لهُ نَصُّ أَحْمَدَ أَنَّهُ إذَا لمْ يُحْضِرْ المَال مُدَّةً طَوِيلةً بَطَلتْ شُفْعَتُهُ.
وَالثَّانِي: تَمْلكُ بِدُونِهِ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ , وَنَصَّ أَحْمَدُ فِي فَسْخِ البَائِعِ أَنَّهُ لا يُنَفَّذُ بِدُونِ رَدِّ الثَّمَنِ قَال أَبُو طَالبٍ: قُلتُ لأَحْمَدَ: يَقُولونَ إذَا كَانَ لهُ الخِيَارُ فَمَتَى قَال اخْتَرْتُ دَارِي أَوْ أَرْضِي فَالخِيَارُ لهُ وَيُطَالبُ بِالثَّمَنِ؟ قَال: كَيْفَ لهُ الخِيَارُ وَلمْ يُعْطِهِ مَالهُ؟! ليْسَ هَذَا بِشَيْءٍ إنْ أَعْطَاهُ فَلهُ الخِيَارُ وَإِنْ لمْ يُعْطِهِ مَالهُ فَليْسَ لهُ الخِيَارُ , وَاخْتَارَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ ذَلكَ , وَقَدْ يُتَخَرَّجُ مِثْلهُ فِي سَائِرِ المَسَائِل لأَنَّ التَّسْليطَ عَلى انْتِزَاعِ الأَمْوَال قَهْرًا إنْ لمْ يَقْتَرِنْ بِهِ دَفَعَ العِوَضَ وَإِلا حَصَل بِهِ ضَرُورَةُ فَسَادٍ وَأَصْل الانْتِزَاعِ القَهْرِيِّ إنَّمَا شُرِعَ لدَفْعِ الضَّرَرِ وَالضَّرَرُ لا يُزَال بِالضَّرَرِ , وَقَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ مَسْأَلةِ أَبِي طَالبٍ وَبَقِيَّةِ المَسَائِل بِأَنَّ البَائِعَ لوْ فَسَخَ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ الثَّمَنِ اجْتَمَعَ لهُ العِوَضُ وَالمُعَوَّضُ , وَذَلكَ مُمْتَنِعٌ وَلا يُوجَدُ مِثْلهُ فِي بَقِيَّةِ الصُّوَرِ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهَا التَّمَلكُ وَيُعَوَّضُ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ جَائِزٌ كَالقَرْضِ وَغَيْرِهِ.
تَنْبِيهٌ - الأَمْلاكُ القَهْرِيَّةُ تُخَالفُ الاخْتِيَارِيَّةَ مِنْ جِهَةِ أَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا وَأَحْكَامِهَا وَتَمَلكِ مَا لا يُتَمَلكُ بِهَا.
أَمَّا الأَوَّل: فَيَحْصُل التَّمَلكُ القَهْرِيُّ بِالاسْتِيلاءِ عَلى مِلكِ الغَيْرِ الأَجْنَبِيِّ , بِخِلافِ الاخْتِيَارِيِّ.
وَأَمَّا الثَّانِي: فَالتَّمَلكُ القَهْرِيُّ كَالأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ هَل يُشْتَرَطُ مَنْفَعَتُهُ كَالبَيْعِ أَمْ لا لأَنَّهُ قَهْرِيٌّ كَالمِيرَاثِ؟ قَال فِي التَّلخِيصِ: فِيهِ تَرَدُّدٌ.
وَأَمَّا الثَّالثُ: فَقَدْ ذَكَرْنَا اشْتِرَاطَ دَفْعِ الثَّمَنِ للتَّمَلكِ القَهْرِيِّ , وَللمُشْتَرِي حَبْسُ الشَّخْصِ المَشْفُوعِ عَلى دَفْعِ الثَّمَنِ , وَإِنْ قُلنَا يَمْلكُ بِدُونِهِ وَيُنَفَّذُ تَصَرُّفُ الشَّفِيعِ فِيهِ قَبْل قَبْضِهِ , وَهَل يَثْبُتُ لهُ فِيهِ خِيَارُ المَجْلسِ؟ عَلى وَجْهَيْنِ قَال فِي التَّلخِيصِ: وَيُخَرَّجُ التَّرَدُّدُ فِي الجَمِيعِ نَظَرًا إلى الجِهَتَيْنِ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ: فَيَمْلكُ الكَافِرُ العَبْدَ المُسْلمَ بِالإِرْثِ وَيَرُدُّهُ عَليْهِ بِعَيْبٍ وَنَحْوِهِ فِي أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَبِاسْتِيلادِ المُسْلمِ أَمَتَهُ وَبِالقَهْرِ.
وَكَذَلكَ تُمْلكُ المَصَاحِفُ بِهَذِهِ الأَسْبَابِ , وَهَل يَمْلكُ أُمَّ وَلدِ المُسْلمِ بِالقَهْرِ؟ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَتُمْلكُ بِالمِيرَاثِ الخَمْرُ وَالكَلبُ وَكَذَا الصَّيْدُ فِي حَقِّ المُحْرِمِ عَلى أَحَدِ الوَجْهَيْنِ وَلا يَتَمَلكُ ذَلكَ كُلهُ بِالاخْتِيَارِ.
القاعدة الواحدة والخمسون
القَاعِدَةُ الحَادِيَة وَالخَمْسُونَ:فِيمَا يُعْتَبَرُ القَبْضُ لدُخُولهِ فِي ضَمَانِ مَالكِهِ وَمَا لا يُعْتَبَرُ لهُ المِلكُ يَقَعُ تَارَةً بِعَقْدٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ عَقْدٍ وَالعُقُودُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: عُقُودُ المُعَاوَضَاتِ المَحْضَةِ فَيَنْتَقِل الضَّمَانُ فِيهَا إلى مَنْ يَنْتَقِل المِلكُ إليْهِ بِمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِنْ القَبْضِ التَّامِّ وَالحِيَازَةِ إذَا تَمَيَّزَ المَعْقُودُ عَليْهِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَعَيَّنَ فَأَمَّا المَبِيعُ المُبْهَمُ غَيْرُ المُتَعَيَّنِ كَقَفِيزٍ مِنْ صُبْرَةٍ فَلا يَنْتَقِل ضَمَانُهَا بِدُونِ القَبْضِ , وَهَل يَكْفِي كَيْلهُ وَتَمْيِيزُهُ أَمْ لا بُدَّ مِنْ نَقْلهِ؟ حَكَى الأَصْحَابُ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ثُمَّ لهُمْ طَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُول هَل التَّخْليَةُ قَبْضٌ فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ المَبِيعَةِ أَمْ لا بُدَّ مِنْ نَقْلهِ؟ حَكَى الأَصْحَابُ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ , وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول: التَّخْليَةُ قَبْضٌ فِي المَبِيعِ المُتَعَيَّنِ رِوَايَةً وَاحِدَةً , وَفِيمَا ليْسَ بِمُتَعَيَّنٍ إذَا عُيِّنَ وَخَلي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رِوَايَتَيْنِ وَكِلا الطَّرِيقَيْنِ مَسْلكُ القَاضِي فِي خِلافِهِ وَلهُ طَرِيقَةٍ ثَالثَةٍ سَلكَهَا فِي المُجَرَّدِ أَنَّ الكَيْل قَبْضٌ للمُبْهَمِ رِوَايَةً وَاحِدَةً , وَذَكَرَ قَوْل أَحْمَدَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ هَارُونَ: قَبْضُهُ كَيْلهُ وَالتَّخْليَةُ قَبْضٌ فِي المُعَيَّنَاتِ عَلى رِوَايَتَيْنِ وَهَذِهِ أَصَحُّ مِمَّا قَبْلهَا.
وَقَدْ فَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ المُبْهَمِ فَجَعَل قَبْضَهُ كَيْلهُ وَبَيَّنَ الصُّبْرَةَ فَجَعَل قَبْضَهَا نَقْلهَا فِي رِوَايَةِ الأَثْرَمِ لأَنَّ المُبْهَمَ إذَا كِيل فَقَدْ حَصَل فِيهِ التَّمْيِيزُ وَزِيَادَةٌ وَهِيَ اعْتِبَارُ قَدْرِهِ وَكِلاهُمَا مِنْ فِعْل البَائِعِ وَهُوَ الوَاجِبُ عَليْهِ وَلمْ يُوجَدْ فِي بَقِيَّةِ المُعَيَّنَاتِ شَيْءٌ مِنْ ذَلكَ سِوَى تَمْيِيزِهَا بِنَفْسِهَا , وَعَلى الطَّرِيقَةِ الأُولى فَيَكُونُ بَعْدَ كَيْلهِ وَتَمْيِيزِهِ كَسَائِرِ الأَعْيَانِ المُتَمَيِّزَةِ وَمَا عَدَا ذَلكَ مِنْ الأَعْيَانِ المُتَمَيِّزَةِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي ضَمَانِ المُشْتَرِي بِالعَقْدِ فِي ظَاهِرِ المَذْهَبِ لتَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِهِ التَّامِّ بِالحِيَازَةِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ عِلقُ البَائِعِ مِنْهُ لأَنَّ عَليْهِ تَسْليمَهُ وَالتَّمْكِينَ مِنْ قَبْضِهِ وَقَدْ حَصَل , إلا الثَّمَرَ المُشْتَرَى فِي رُءُوسِ شَجَرِهِ فَإِنَّ المُشْتَرِيَ لا يَتَمَكَّنُ مِنْ كمال قَبْضِهِ فِي الحَال بِحِيَازَتِهِ إليْهِ , وَكَذَلكَ مَا لا يَتَأَتَّى نَقْلهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لكَثْرَتِهِ فَإِنَّهُ لا يَنْتَقِل إلى ضَمَانَةِ المُشْتَرِي إلا بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَتَأَتَّى فِيهِ نَقْلهُ عَادَةً صَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَغَيْرُهُ.
فَالنَّاقِل للضَّمَانِ هُوَ القُدْرَةُ التَّامَّةُ عَلى الاسْتِيفَاءِ وَالحِيَازَةِ وَحُكْمُ المُبْهَمِ المُشْتَرَى بِعَدَدٍ أَوْ ذَرْعٍ كَذَلكَ وَأَنْكَرَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ مَنْصُورٍ دُخُول المَعْدُودِ فِيهِ وَلعَل مُرَادَهُ إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً , وَأَمَّا المُشَاعُ فَكَالمُتَعَيَّنِ لأَنَّ تَسْليمَهُ يَكُونُ عَلى هَيْئَةٍ لا يَقِفُ عَلى إفْرَازِهِ كَذَلكَ ذَكَرَهُ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ وَالصُّبْرَةُ المُبْتَاعَةُ كَيْلاً أَوْ وَزْنًا كَالقَفِيزِ المُبْهَمِ عِنْدَ الخِرَقِيِّ وَأَبِي بَكْرٍ وَالأَكْثَرِينَ لأَنَّ عِلقَ البَائِعِ لمْ تَنْقَطِعْ مِنْهَا وَلمْ تَتَمَيَّزْ فَإِنَّ زِيَادَتَهَا لهُ وَنَقْصَهَا عَليْهِ وَفِي التَّلخِيصِ إنَّ بَعْضَ الأَصْحَابِ خَرَّجَ فِيهَا وَجْهًا بِإِلحَاقِهَا بِالعَبْدِ وَالثَّوْبِ بِنَاءً عَلى أَنَّ العِلةَ اخْتِلاطُ المَبِيعِ بِغَيْرِهِ.
قَال وَهُوَ ضَعِيفٌ , قَال: وَاسْتَثْنَى بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْهَا المتعينات فِي الصَّرْفِ لقَوْلهِ عَليْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: "إلا هَاءَ وَهَاءَ".
وَمُرَادُهُ: أَنَّ الشَّارِعَ اعْتَبَرَ لهُ القَبْضَ فَالتَحَقَ بِالمُبْهَمَاتِ.
وَنَقَل صَالحٌ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَمَاتَ فِي يَدِ المُبْتَاعِ هُوَ مِنْ مَال المُبْتَاعِ إلا أَنْ يَقُول المُبْتَاعُ تَسَلمْهُ فَلا يَتَسَلمُهُ وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ يَكُونُ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ إلا أَنْ يَمْتَنِعَ المُشْتَرِي مِنْ تَسَلمِهِ بَعْدَ عَرْضِهِ عَليْهِ فَيَدْخُل فِي ضَمَانِهِ , وَنَقَل حَنْبَلٌ عَنْهُ إذَا عَرَضَهُ البَائِعُ عَليْهِ وَلمْ يَنْقُدْهُ الثَّمَنَ فَتَلفَ فَهُوَ مِنْ مَال البَائِعِ , وَإِنْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ وَتَرَكَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ مَال المُشْتَرِي.
وَيَلتَحِقُ بِهَذِهِ المَضْمُونَاتِ مِنْ المَبِيعِ مَا اُشْتُرِيَ بِصِفَةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ عَلى العَقْدِ لأَنَّ الغَيْبَةَ مَانِعَةٌ مِنْ التَّمَكُّنِ مِنْ القَبْضِ , فَأَمَّا المَبِيعُ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ يَغْلبُ فِيهِ هَلاكُ السِّلعَةِ فَهَل يَكُونُ مَضْمُونًا عَلى البَائِعِ مُطْلقًا أَمْ لا؟ هَذِهِ مَسْأَلةُ تَبَايُعِ الغَنِيمَةِ بَعْدَ القِسْمَةِ فِي دَارِ الحَرْبِ إذَا غَلبَ عَليْهَا العَدُوُّ بَعْدَ ذَلكَ وَعَنْ أَحْمَدَ فِي ضَمَانِهَا رِوَايَتَانِ , كَذَا حَكَى الأَصْحَابُ وَلمْ يُفَرِّقْ أَكْثَرُهُمْ بَيْنَ مَا قَبْل القَبْضِ وَبَعْدَهُ.
وَظَاهِرُ كَلامِ ابْنِ عَقِيلٍ التَّفْرِيقُ وَأَنَّهُ قَبْل القَبْضِ مِنْ ضَمَانِ البَائِعِ قَوْلاً وَاحِدًا كَالثَّمَرِ المُعَلقِ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ لتَعَرُّضِهِ للآفَاتِ وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّ الثَّمَرَ لمْ يَتَمَكَّنْ المُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهِ تَامًّا بِخِلافِ المَبِيعِ المُعَيَّنِ فِي دَارِ الحَرْبِ , وَخَصَّ أَكْثَرُ الأَصْحَابِ ذَلكَ بِمَال الغَنِيمَةِ لأَنَّ تَطَلبَ الكُفَّارِ لهَا شَدِيدٌ وَحِرْصَهُمْ عَلى اسْتِرْدَادِهَا مَعْلومٌ بِخِلافِ غَيْرِهَا مِنْ أَمْوَال المُسْلمِينَ وَحَكَى ابْنُ عَقِيلٍ فِي تَبَايُعِ المُسْلمِينَ أَمْوَالهُمْ بَيْنَهُمْ بِدَارِ الحَرْبِ إذَا غَلبَ عَليْهَا العَدُوُّ قَبْل قَبْضِهِ وَجْهَيْنِ كَمَال الغَنِيمَةِ فَأَمَّا مَا بِيعَ فِي دَارِ الإِسْلامِ فِي زَمَنِ نَهْبٍ وَنَحْوِهِ فَمَضْمُونٌ عَلى المُشْتَرِي قَوْلاً وَاحِدًا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الأَصْحَابِ كَشِرَاءِ مَنْ يَغْلبُ عَلى الظَّنِّ هَلاكُهُ كَمَرِيضٍ مَيْئُوسٍ مِنْهُ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ قَاتِلٍ فِي مُحَارَبَةٍ أَوْ فِي زَمَنِ طَاعُونٍ غَالبٍ , وَيُحْتَمَل فِي هَذَا أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ التَّلفِ قَبْل القَبْضِ وَبَعْدَهُ فَأَمَّا الأَعْيَانُ المَمْلوكَةُ بِعَقْدٍ غَيْرِ البَيْعِ كَالصُّلحِ وَالنِّكَاحِ وَالخُلعِ وَالعِتْقِ وَنَحْوِ ذَلكَ فَحُكْمُهَا حُكْمُ البَيْعِ فِيمَا ذَكَرْنَا عِنْدَ أَكْثَرِ الأَصْحَابِ.
قَال فِي المُغْنِي ليْسَ فِيهِ اخْتِلافٌ.
وَحَكَى أَبُو الخَطَّابِ وَمَنْ اتَّبَعَهُ رِوَايَةً بِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلى الزَّوْجِ قَبْل القَبْضِ مُطْلقًا فَإِنَّهُ نَصَّ فِيمَا إذَا أَصْدَقَهَا غُلامًا فَفُقِئَتْ عَيْنُهُ قَبْل أَنْ تَقْبِضَهُ أَنَّ عَليْهِ ضَمَانَهُ وَتَأَوَّلهَا القَاضِي عَلى أَنَّ الزَّوْجَ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ التَّسْليمِ حَتَّى فُقِئَتْ عَيْنُهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا بِلا رَيْبٍ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُخَرَّجَ مِنْ هَذَا رِوَايَةٌ بِأَنَّ ضَمَانَ جَمِيعِ الأَعْيَانِ لا تَنْتَقِل إلا بِالقَبْضِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ وَخَرَّجَهَا بَعْضُ الأَصْحَابِ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ مِنْ نَصِّهِ عَلى ضَمَانِ صُبَرِ الطَّعَامِ عَلى البَائِعِ قَبْل القَبْضِ فَمِنْ الأَصْحَابِ مَنْ تَأَوَّلهَا عَلى أَنَّهَا بِيعَتْ كَيْلاً , وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّهَا رِوَايَةً فِي المَكِيل وَالمَوْزُونِ وَإِنْ بِيعَ جُزَافًا , وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَّجَ مِنْهَا رِوَايَةً فِي جَمِيعِ الأَعْيَانِ المُتَمَيِّزَةِ وَمَأْخَذُ ذَلكَ أَنَّ عُلقَ المِلكِ لا تَنْقَطِعُ عَنْهُ بِدُونِ القَبْضِ لأَنَّ تَسْليمَهُ وَاجِبٌ عَليْهِ بِحَقِّ العَقْدِ وَلمْ يُوجَدْ فَلمْ تَتِمَّ أَحْكَامُ العَقْدِ فَكَانَ مَضْمُونًا عَلى المُمَلكِ وَهَذِهِ شُبَهُ ابْنِ عَقِيلٍ التِي اعْتَمَدَهَا فِي أَنَّ ضَمَانَ جَمِيعِ الأَعْيَانِ عَلى البَائِعِ قَبْل القَبْضِ , وَهِيَ ضَعِيفَةٌ فَإِنَّ البَائِعَ عَليْهِ التَّمْكِينُ مِنْ القَبْضِ وَهُوَ مَعْنَى التَّسْليمِ فَإِذَا وُجِدَ مِنْهُ فَقَدْ قَضَى مَا عَليْهِ , وَأَمَّا النَّقْل فَهُوَ عَلى المُشْتَرِي دُونَ البَائِعِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَليْهِ لتَفْرِيغِ مِلكِ البَائِعِ مِنْ مِلكِهِ , فَكَيْفَ يَكُونُ
تَعَدِّيهِ بِشَغْل أَرْضِ المَالكِ بِمِلكِهِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ أَوْ مَعَ مُطَالبَتِهِ بِتَفْرِيغِهِ مُوجِبًا للضَّمَانِ عَلى البَائِعِ.
وَيُحْتَمَل أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ مِنْ العُقُودِ بِأَنَّ المَهْرَ فِي النِّكَاحِ ليْسَ بِعِوَضٍ أَصْليٍّ بَل هُوَ شَبِيهٌ بِالهِبَةِ , وَلهَذَا سَمَّاهُ اللهُ نِحْلةً فَلا يَنْتَقِل ضَمَانُهُ إلى المَرْأَةِ بِدُونِ القَبْضِ: كَالهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالزَّكَاةِ , وَهَذَا كُلهُ فِي الأَعْيَانِ.
فَأَمَّا المَنَافِعُ فِي الإِجَارَةِ لا تَدْخُل فِي ضَمَانِ المُسْتَأْجِرِ بِدُونِ القَبْضِ أَوْ التَّمْكِينِ مِنْهُ أَوْ تَفُوتُهُ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ اسْتَوْفَى المَنَافِعَ فَلا كَلامَ وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَائِهَا بِقَبْضِ العَيْنِ أَوْ تَسْليمِ الأَجِيرِ الخَاصِّ نَفْسَهُ تَلفَتْ مِنْ ضَمَانِهِ أَيْضًا لتَمَكُّنِهِ مِنْ الانْتِفَاعِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: عُقُودٌ لا مُعَاوَضَةَ فِيهَا كَالصَّدَقَةِ وَالهِبَةِ وَالوَصِيَّةِ , فَالوَصِيَّةُ تُمْلكُ بِدُونِ القَبْضِ وَالهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيهِمَا خِلافٌ سَبَقَ فَإِذَا قِيل لا يُمْلكَانِ بِدُونِ القَبْضِ فَلا كَلامَ لكِنْ هَل يُكْتَفَى بِالقَبْضِ فِيهِمَا بِالتَّخْليَةِ عَلى رِوَايَةٍ كَالبَيْعِ أَمْ لا بُدَّ مِنْ النَّقْل؟ جمهور الأَصْحَابِ عَلى تَسْوِيَةِ الرَّهْنِ وَالهِبَةِ بِالبَيْعِ فِي كَيْفِيَّةِ القَبْضِ , وَاخْتَارَ صَاحِبُ التَّلخِيصِ أَنَّهُ لا يَكْفِي التَّمْكِينُ هَهُنَا فِي اللزُومِ فَفِي أَصْل المِلكِ أَوْلى قَال: لأَنَّ القَبْضَ هُنَا سَبَبُ الاسْتِحْقَاقِ بِخِلافِ القَبْضِ فِي البَيْعِ فَإِنَّ العَقْدَ سَبَبٌ لاسْتِحْقَاقِ القَبْضِ فَيَكْفِي فِيهِ التَّمَكُّنُ.
وَإِنْ قِيل يَحْصُل المِلكُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ فَلا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلى المُمَلكِ إذَا تَلفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ لأَنَّهَا عُقُودُ بِرٍّ وَتَبَرُّعٍ فَلا يَقْتَضِي الضَّمَانَ وَكَلامُ الأَصْحَابِ يَشْهَدُ لذَلكَ.
وَأَمَّا الوَصِيَّةُ إذَا ثَبَتَ المِلكُ للمُوصَى لهُ إمَّا بِالمَوْتِ بِمُجَرَّدِهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ أَوْ بِالمَوْتِ مُرَاعًى بِالقَبُول أَوْ بِالقَبُول مِنْ حِينِهِ دُونَ مَا قَبْلهُ عَلى اخْتِلافِ الوُجُوهِ فِي المَسْأَلةِ فَإِنَّ ضَمَانَهُ مِنْ حِينِ القَبُول عَلى المُوصَى لهُ مِنْ غَيْرِ خِلافٍ نَعْلمُهُ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهِ وَأَمَّا مَا قَبْل القَبُول فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ المُوصَى لهُ أَيْضًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلامِ أَحْمَدَ وَالخِرَقِيِّ وَصَرَّحَ بِهِ القَاضِي وَابْنُ عَقِيلٍ فِي كِتَابِ العِتْقِ , وَكَذَلكَ صَاحِبُ المُغْنِي وَالتَّرْغِيبِ وَغَيْرُهُمْ , وَلمْ يَحْكُوا فِيهِ خِلافًا.
وَهَذَا لأَنَّا إنْ قُلنَا يَمْلكُهُ بِمُجَرَّدِ المَوْتِ أمَّا مَعَ القَبُول أَوْ بِدُونِهِ فَهُوَ مِلكُهُ فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ قَبْضِهِ كَانَ عَليْهِ ضَمَانُهُ كَمَا لوْ مَلكَهُ بِهِبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ العُقُودِ , وَإِنْ قُلنَا لا يَمْلكُهُ إلا مِنْ حِينِ القَبُول فَلأَنَّ حَقَّهُ تَعَلقَ بِالعينِ تَعَلقًا يَمْنَعُ الوَرَثَةَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَأَشْبَهَ العَبْدَ الجَانِيَ إذَا أَخَّرَ المَجْنِيُّ عَليْهِ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ حَتَّى نَقَصَ أَوْ تَلفَ وَلأَنَّ حَقَّ المُوصَى لهُ فِي التَّمَلكِ ثَابِتٌ لا يُمْكِنُ إبْطَالهُ فَكَانَ ضَمَانُ النَّقْصِ عَليْهِ وَإِنْ لمْ يَحْصُل لهُ المِلكُ كَمَا فِي رِبْحِ المُضَارَبَةِ إذَا قُلنَا لا يُمْلكُ إلا بِالقِسْمَةِ وَنِصْفِ الصَّدَاقِ إذَا قُلنَا لا يُمْلكُ إلا بِالتَّمَلكِ وَالمَغَانِمِ إذَا قُلنَا لا تُمْلكُ بِدُونِ القِسْمَةِ بِخِلافِ بَقِيَّةِ العُقُودِ فَإِنَّ الحَقَّ فِيهَا يُمْكِنُ إبْطَالهُ.
وَالوَجْهُ الثَّانِي: لا يَدْخُل فِي ضَمَانِهِ إلا بِالقَبُول عَلى الوُجُوهِ كُلهَا وَهُوَ المَجْزُومُ بِهِ فِي المُحَرَّرِ لأَنَّهُ إنْ قِيل لا يُمْلكُ إلا مِنْ حَيْنِهِ فَوَاضِحٌ لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ قَبْل ذَلكَ عَلى مِلكِهِ فَلا يُحْسَبُ نَقْصُهُ عَليْهِ , وَإِنْ قِيل يَمْلكُهُ بِالمَوْتِ فَالعَيْنُ مَضْمُونَةٌ عَلى التَّرِكَةِ بِدَليل مَا لوْ تَلفَتْ قَبْل القَبول فَإِنَّهَا تَتْلفُ مِنْ التَّرِكَةِ