كتاب : المستصفى في علم الأصول
المؤلف : محمد بن محمد الغزالي أبو حامد

دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب وإذا لم يصب فهو مقصر آثم أما إذا لم يكن إليه طريق متيسر قاطع كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر فقد بينا أن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه لكنه عرضة أن يصير حكما فيه حكم بالقوة لا بالفعل وإنما يصير حكما بالبلوغ أو تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه فمن قال في هذه المسائل حكم معين لله تعالى وأراد به أنه حكم موضوع ليصير حكما في حق المكلف إذا بلغه وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكما في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق وإن أراد به غيره فهو باطل أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها لأن حكم الله تعالى خطابه وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول أو يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي عليه السلام أو سكوته فإنه قد يعرفنا خطاب الله تعالى من غير استماع صيغة فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراما فمعنى تحريمه أنه قيل فيه لا تشربوه وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطبا والمخاطب به هم الملائكة أو الجن أو الآدميون ولا بد أن يكون المخاطب به هم المكلفون من الآدميين ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق فإذا لا يعقل خطاب لا مخاطب به كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ويستحيل أن يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل قاطع فإن قيل عليه أدلة ظنية قلنا قد بينا أن تسمية الأمارات أدلة مجاز فإن الأمارات لا توجب الظن لذاتها بل تختلف بالإضافة فمما لا يفيد الظن لزيد فقد يفيد لعمرو وما يفيد لزيد حكما فقد يفيد لعمرو ونقيضه وقد يختلف تأثيره في حق زيد في حالتين فلا يكون طريقا إلى المعرفة ولو كان طريقا لعصى إذا لم يصبه فسبب هذا الغلط إطلاق اسم الدليل على الأمارات مجازا فظن أنه دليل محقق وإنما الظن عبارة عن ميل النفس إلى شيء واستحسان المصالح كاستحسان الصور فمن وافق طبعه صورة مال إليها وعبر عنها بالحسن وذلك قد يخالف طبع غيره فيعبر عنه بالقبح حيث ينفر عنه فالأسمر حسن عند قوم قبيج عند قوم فهي أمور إضافية ليس لها حقيقة في نفسها فلو قال قائل الأسمر حسن عند الله أو قبيح قلنا لا حقيقة لحسنه وقبحه عند الله إلا موافقته لبعض الطباع ومخالفته لبعضها وهو عند الله كما هو عند الناس فهو عند الله حسن عند زيد قبيح عند عمرو إذ لا معنى لحسنه إلا موافقته طبع زيد ولا معنى لقبحه إلا مخالفته لطبع عمرو وكذلك تحريك الرغبة للفضائل والتفاوت في العطاء هو حسن عند عمر رضي الله عنه موافق لرأيه وهو بعينه ليس موافقا لأبي بكر رضي الله عنه بل الحسن عند أن يجعل الدنيا بلاغا ولا يلتفت إليها فهذه الحقيقة في الظنون ينبغي أن تفهم حتى ينكشف الغطاء وإنما غلط فيه الفقهاء من حيث ظنوا أن الحلال والحرام وصف للأعيان كما ظن قوم أن الحسن والقبح وصف للذوات فإن قيل نحن لا ننكر أن ما لم يرد فيه نطق ولا دليل قاطع فليس فيه حكم نازل موضوع لكن نعني بالأشبه فيما هو قبلة للطالب الحكم الذي كان الله ينزله لو أنزله وربما كان الشارع يقوله لو رجع في تلك المسألة قلنا هذا هو

الحكم بالقوة وما كان ينزل لو نزل إنما يكون حكما لو نزل فقبل نزوله ليس حكما فقد ظهر أنه لا حكم ومن أخطأ لم يخطىء الحكم بل أخطأ ما كان لعله سيصير حكما لو جرى في تقدير الله انزله ولم يجر في تقديره فلا معنى له ويلزم من هذا أن يجوز خطأ المجتهدين جميعا في تقديره وإصابة المجتهدين جميعا فإنه ربما كان ينزل لو أنزل التخيير بين المذهبين وتصويب كل من قال فيه قولا كيفما قال أو ينزل تخطئة كل من قطع القول بإثبات أو نفي حيث لم يتخير بين الحكمين فإن هذه التجويزات لا تنحصر فربما يعلم الله صلاح العباد في أن لا يضع في الوقائع حكما بل يجعل حكمها تابعا لظن المجتهدين فتعبدهم بما يظنون ويبطل مذهب من يقول فيها بحكم معين فيكون في هذا تخطئة كل من أثبت من المجتهدين حكما معينا نفيا أو إثباتا احتجوا بأن قالوا إنما اضطرنا إلى هذا ضرورة الطلب فإنه يستدعي مطلوبا فمن علم أن الجماد ليس بعالم ولا جاهل لا يتصور أن يطلب الظن أو العلم بجهله وعلمه ومن اعتقد أن العالم خال عن وصف القدم والحدوث هل يتصور أن يطلب ما يعتقد انتفاءه فإذا اعتقد الطلب أن قليل النبيذ ليس عند الله حراما ولا حلالا فكيف يجتهد في طلب أحدهما قلنا فقد أخطأ إذ ظننتم أن المجتهد يطلب حكم الله مع علمه بأن حكم الله خطابه فإن الواقعة لا نص فيها ولا خطاب بل إنما يطلب غلبة الظن وهو كمن كان على ساحل البحر وقيل له إن غلب على ظنك السلامة أبيح لك الركوب وإن غلب على ظنك الهلاك حرم عليك الركوب وقبل حصول الظن لا حكم لله عليك وإنما حكمه يترتب على ظنك ويتبع ظنك بعد حصوله فهو يطلب الظن دون الإباحة والتحريم فإن قيل هذا في البحر معقول لأنه ينظر في أمارات الهلاك والسلامة فذلك مطلوبة والإباحة والتحريم أمر وراءه وفي مسألتنا لا مطلوب سوى الحكم قلنا من ههنا غلطتم فإنه لا فرق بين الصورتين ونحن نكشف ذلك بالأمثلة فنقول لو قلنا للشارع ما حكم الله تعالى في العطاء الواجب التسوية أو التفضيل
فقال حكم الله على كل إمام ظن أن الصلاح في التسوية هو التسوية وحكمه على كل من ظن أن المصلحة في التفضيل ولا حكم عليهم قبل تحصيل الظن إنما يتجدد حكمه بالظن وبعده كما يتجدد الحكم على راكب البحر بعد الظن ويتجدد على قاضيين شهد عندهما في واقعتين شخصان وجوب القبول ووجوب الرد عند ظن الصدق وظن الكذب فيجب على أحدهما التصديق وعلى الآخر التكذيب وكذلك إذا قلنا ما حكمه في قليل النبيذ فقال حكمه تحريم الشرب على من ظن أني حرمت قليل الخمر لأنه يدعوه إلى كثيره والتحليل لمن ظن أني حرمت الخمر لعينها إلا لهذه العلة ولا حكم لله تعالى قبل هذا الظن وكذلك إذا قلنا ما حكم الله في قيمة العبد أتضرب على العاقلة أم على الجاني فقال حكم الله تعالى على من ظن أنه بالحر أشبه الضرب على العاقلة وعلى من ظن أنه بالبهيمة أشبه الضرب على الجاني وكذلك نقول ما حكم الله في المفاضلة في بيع الجص والبطيخ فقال حكم الله على من ظن إني حرمت ربا الفضل في البر لأنه مطعوم تحريم البطيخ دون الجص وعلى من ظن أني حرمته للكيل تحريم الجص دون البطيخ فإن قيل فما علة تحريم ربا البر عند الله أهي الطعم أم

الكيل أم القوت فنقول كل واحد من الطعم والكيل لا يصلح أن يكون علة لذاتها بل معنى كونها علة أنها علامة فمن ظن أن الكيل علامة فهو علامة في حقه دون من ظن أن علامته الطعم وليست العلة وصفا ذاتيا كالقدم والحدوث للعالم حتى يجب أن يكون في علم الله على أحد الوصفين لا محالة بل هو أمر وضعي والوضع يختلف بالإضافة وقد وضعته كذلك فهذا لو صرح الشارع به فهو معقول وجانب الخصم لو صرح به كان محالا وهو أن يكون لله حكم ليس بخطاب ولا يتعلق بمخاطب ومكلف فإن هذا يضاد حد الحكم وحقيقته أو يقول تعلق به لكن لا طريق له إلى معرفته فهو محال لما فيه من تكليف ما لا يطاق أو يقول له طريق إلى معرفته وقد أمر به لكنه لا يعصي بتركه فهو أيضا يضاد حد الواجب ويضاد حد الاجماع المنعقد على أن المجتهد يجب عليه العمل بموجب اجتهاده فكيف يجب عليه مع ذلك ضده وكيف يكون مأمورا باستقبال القبلة من غلب على ظنه أن القبلة في جهة أخرى بل بالإجماع لو خالف اجتهاد نفسه واستقبل جهة أخرى فاتفق إن كان جهة القبلة عصى ولزمه القضاء فاستبان أن ذلك الاجتهاد الشرعي على الممكن دون المحال هذا حكم التأثيم والتصويب ونذكر بقية أحكام الاجتهاد في صور مسائل

مسألة ( تعارض الأدلة مع بعضها )
إذا تعارض دليلان عند المجتهد وعجز عن الترجيح ولم يجد دليلا من موضع آخر وتحير فالذين ذهبوا إلى أن المصيب واحد يقولون هذا بعجز المجتهد وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض من غير ترجيح فيلزم التوقف أو الأخذ بالاحتياط أو تقليد مجتهد آخر عثر على الترجيح وأما المصوبة فاختلفوا فمنهم من قال يتوقف لأنه متعبد باتباع غالب الظن ولم يغلب عليه ظن شيء وهذا هو الأسلم الأسهل وقال القاضي يتخير لأنه تعارض عنده دليلان وليس أحدهما أولى من الآخر فيعمل بأيهما شاء وهذا ربما يستنكر ويستبعد ويقال كيف يتخير في حال واحدة بين الشيء وضده وليس هذا محالا لأن التخيير بين حكمين مما ورد الشرع به كالتخيير بين خصال الكفارة ولو صرح الشرع بالتخيير كان له ذلك فقد اضطررنا إلى التخيير لأن الحكم تارة يؤخذ من النص وتارة من المصلحة وتارة من الشبه وتارة من الاستصحاب فإن نظرنا إلى النص فيجوز أن يتعارض في حقنا نصان ولا يتبين تاريخ أو يتعارض عمومان ولا يتبين ترجيح أو يتعارض استصحابان كما في مسائل تقابل الأصلين أو يتعارض شبهان بأن تدور المسألة بين أصلين ويكون شبهه هذا كشبهه ذاك أو يتعارض مصلحتان بحيث لا ترجيح فلو قلنا يتوقف فإلى متى يتوقف وربما لا يقبل الحكم التأخير ولا نجد مأخذا آخر للحكم ولا نجد مفتيا آخر يترجح عنده أو وجد من ترجح عنده بخيال هو فاسد عنده يعلم أنه لا يصلح للترجيح فكيف يرجح بما يعتقد أنه لا يصلح للترجيح بل لا سبيل إلا التخيير كما لو اجتمع على العامي مفتيان استوى حالهما عنده في العلم والورع ولم يجد ثالثا فلا طريق إلا التخيير وللفقهاء في تعارض البينتين مذاهب فمنهم من قال نقسم المال بينهما ومعناه تصديق البينتين وتقدير أنه قام لكل واحد سبب كمال الملك لكن ضاق المحل عن الوفاء بهما ولا ترجيح فصار كما لو استحقاه بالشفعة إذ لكل واحد من الشفيعين سبب كامل في استحقاق جميع الشقص المبيع لكن ضاق المحل

فيوزع عليهما وعلى الجملة الاحتمالات أربعة أما العمل بالدليلين جميعا أو إسقاطهما جميعا أو تعيين أحدهما بالتحكم أو التخيير ولا سبيل إلى الجمع عملا وإسقاطا لأنه متناقض ولا سبيل إلى التوقف إلى غير نهاية فإن فيه تعطيلا ولا سبيل إلى التحكم بتعيين أحدهما فلا يبقى إلا الرابع وهو التخيير كما في اجتماع المفتيين على العامي فإن قيل كما استحالت الأقسام الثلاثة فالتخيير أيضا جمع بين النقيضين فهو محال قلنا المحال ما لو صرح الشرع به لم يعقل ولو قال الشارع من دخل الكعبة فله أن يستقبل أي جدار أراد فيتخير بين أن يستقبل جدارا أو يستدبره كان معقولا لأنه كيفما فعل فهو مستقبل شيئا من الكعبة وكيفما تقلب فإليها ينقلب وكذلك إذا قال تعبدتكم باتباع الاستصحاب ثم تعارض استصحابان فكيفما تقلب فهو مستصحب كما إذا أعتق عن كفارته عبدا غائبا انقطع خبره فالأصل بقاء الحياة والأصل بقاء اشتغال الذمة فقد تعارضا وكذلك إذا علم المجتهد أن في التسوية في العطاء مصلحة وهي الأحتراز عن وحشة الصدور بمقدار التفاوت الذي لا يتقدر إلا بنوع من الاجتهاد وفي التفاوت مصلحة تحريك رغبات الفضائل وهما مصلحتان ربما تساوتا عند الله تعالى أيضا فكيفما فعل فقد مال إلى مصلحة وكذلك قد تشبه المسألة أصلين شبها متساويا وقد أمرنا باتباع الشبه فكيفما فعل فهو ممتثل ومثاله قوله تعالى عليه السلام في زكاة الإبل في كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة فمن له من الإبل مائتان فإن أخرج الحقاق فقد عمل بقوله عليه السلام في كل خمسين حقة وإن أخرج بنات لبون فقد عمل بقوله في كل أربعين بنت لبون وليس أحد اللفظين بأولى من الآخر فيتخير فكذلك عند تعارض الاستصحاب والمصلحة والشبه فإن قيل التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم والتخيير بين الواجب وتكره يرفع الوجوب والجمع بين أختين مملوكتين أما أن يحرم أو لا يحرم فإن قلنا بهما جميعا فهو متناقض قلنا يحتمل أن يرجع عند تعارض الدليل الموجب والمسقط إلى الوجه الآخر وهو القول بالتساقط ويطلب الدليل من موضع آخر ويخص وجه التخيير بما لو ورد الشرع فيه بالتخيير لم يتناقض مما يضاهي مسألة بنات اللبون والحقاق وكالاختلاف في المحرم إذا جمع بين التحليلين الواجب عليه بدنة أو شاة إذ التخيير بينهما معقول فيحصل في تعارض الدليلين ثلاثة أوجه وجه في التساقط ووجه في التخيير ووجه في التفصيل وفصل بين ما يمكن التخيير فيه من الواجبات إذ يمكن التخيير فيها وبين ما يتعارض فيه الموجب والمبيح أو المحرم والمبيح فلا يمكن التخيير فيه فيرجع إلى التساقط وإن أردنا الإصرار على وجوب التخيير مطلقا فله وجه أيضا وهو أنا نقول إنما يناقض الوجوب جواز الترك مطلقا أما جوازه بشرط فلا بدليل أن الحج واجب على التراخي وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يلق الله عاصيا عندنا إذا أخر مع العزم على الامتثال فجواز تركه بشرط العزم لا ينافي الوجوب بل المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين فالركعتان واجبتان ويجوز أن يتركهما ولكن جاز تركهما بشرط أن يقصد الترخص ويقبل صدقة قد تصدق الله بها على عباده فهو كمن يستحق أربعة دراهم على غيره فقال له تصدقت عليك بدرهمين إن قبلت وإن لم تقبل وأتيت بالأربعة قبلت

الأربعة عن الدين الواجب فإن شاء قبل الصدقة وأتى بدرهمين وإن شاء اتى بالأربعة عن الواجب ولا يتناقض فكذلك في مسألتنا إذا اقتضى استصحاب شغل الذمة إيجاب عتق آخر بعد أن أعتق عبدا غائبا فلا يجوز له تركه إلا بشرط أن يقصد استصحاب الحياة ويعمل بموجبه فمن لم يخطر له الدليل المعارض أو خطر له ولم يقصد العمل وترك الواجب لم يجز وكذلك إذا سمع قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين ( النساء 23 ) حرم عليه الجمع بين المملوكتين وإنما يجوز له قصد العمل بموجب الدليل الثاني هو قوله تعالى ( 4 ) أو ما ملكت أيمانكم ( النساء 3 ) كما قال عثمان أحلتهما آية وحرمتهما آية وسئل ابن عمر عمن نذر صوم يوم من كل أسبوع فوافق يوم العيد فقال أمر الله بوفاء النذر ونهى النبي صلى الله عليه و سلم عن صوم يوم العيد ولم يزد على هذا معناه أنه إذا لم يظهر ترجيح فيحرم صوم العيد بالنهي ويجوز أن يصوم بشرط أن يقصد العمل بموجب الدليل الثاني وهو الأمر بالوفاء وكان ذلك جوازا بشرط فلا يتناقض الواجب وأما إذا تعارض الموجب والمحرم فيتولد منه التخيير المطلق كالولي إذا لم يجد من اللبن إلا ما يسد رمق أحد رضيعيه ولو قسم عليهما أو منعهما لماتا ولو أطعم أحدهما مات الآخر فإذا أشرنا إلى رضيع معين كان إطعامه واجبا لأن فيه إحياءه وحراما لأن فيه هلاك غيره فنقول هو مخير بين أن يطعم هذا فيهلك ذاك أو ذاك فيهلك هذا فلا سبيل إلا التخييرة فإذا مهما تعارض دليلان في واجبين كالشاة والبدنة في الجمع بين التحليلين تخيير بينهما وأن تعارض دليل الوجوب ودليل الإباحة تخير بشرط قصد العمل بموجب الدليل المبيح كما يتخير بين ترك الركعتين قصدا وبين إتمامهما لكن بشرط قصد الترخص وإن تعارض الموجب والمحرم حصل التخيير المطلق أيضا هذا طريق نصره اختيار القاضي في التخيير فإن قيل تعارض دليلين من غير ترجيح محال وإنما يخفى الترجيح على المجتهد قلنا وبم عرفتم استحالة ذلك فكما تعارض موجب بنات اللبون والحقاق فلم يستحل أن يتعارض استصحابان وشبهان ومصلحتان وينتفى الترجيح في علم الله تعالى فإن قيل فما معنى قول الشافعي المسألة على قولين قلنا هو التخيير في بعض المواضع والتردد في بعض المواضع كتردده في أن البسملة هل هي آية في أول كل سورة فإن ذلك لا يحتمل التخيير لأنه في نفسه أمر حقيقي ليس بإضافي فيكون الحق فيه واحدا فإن قيل فمذهب التخيير يفضي إلى محال وهو أن يخير الحاكم المتخاصمين في شفعة الجوار أو استغراق الجد للميراث أو المقاسمة لأن حكم الله الخيرة وكذلك يخير المفتي العامي وكذلك يحكم لزيد بشفعة الجوار ولعمرو بنقيضه ويوم السبت باستغراق الجد للميراث ويوم الأحد بالمقاسمة بل تثبت الشفعة يوم الأحد وتسترد يوم الاثنين بالرأي الآخر قلنا لا تخيير للمخاصمين بين النقيضين لأن الحاكم منصوب لفصل الخصومة عند التنازع فيلزمه أن يفصل الخصومة بأي رأي أراد كما لو تنازع الساعي والمالك في بنات اللبون والحقاق وفي الشاة والدراهم في الجبران فالحاكم يحكم بما أراد أما الرجوع فغير جائز لمصلحة الحكم أيضا فإنه لو تغير اجتهاده عندكم تغير فتواه ولا ينقض الحكم السابق للمصلحة أما قضاؤه يوم الأحد بخلاف قضائه يوم السبت

وفي حق زيد بخلاف ما في حق عمرو فما قولكم فيه لو تغير اجتهاده أليس ذلك جائزا فكذلك إذا اجتمع دليلان عليه عندنا كما في الحقاق وبنات اللبون يجوز أن يشير بإشارة مختلفة فيأمر زيدا ببنات اللبون وعمرا بالحقاق وعلى الجملة يجوز أن يغاير أمر الحكم أمر الفتوى لمصلحة الحكم كما لو تغير الاجتهاد فإنه لا ينقض الحكم الماضي ويحكم في المستقبل بالاجتهاد الثاني وكذلك المجتهد في القبلة إذا تعارض عنده دليلان في جهتين والصلاة لا تقبل التأخير ولا مجتهد يقلد فهل له سبيل إلا أن يتخير إحدى الجهتين فيصلي إلى أي الجهتين شاء ولا يجوز له أن يعدل إلى الجهتين الباقيتين اللتين دل اجتهاده على أن القبلة ليست فيهما فهذه أمور لو وقع التصريح بها من الشارع كان مقبولا ومعقولا وإليه الإشارة بقول علي وعثمان رضي الله عنهما في الجمع بين المملوكتين أحلتهما آية وحرمتهما آية

مسألة ( نقض الاجتهاد )
في نقض الاجتهاد المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة خالعها ثلاثا ثم تغير اجتهاده لزمه تسريحها ولم يجز له إمساكها على خلاف اجتهاده ولو حكم بصحة النكاح حاكم بعد أن خالع الزوج ثلاثا ثم تغير اجتهاده لم يفرق بين الزوجين ولم ينقض اجتهاده السابق بصحة النكاح لمصلحة الحكم فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد لنقض النقض أيضا ولتسلسل فاضطربت الأحكام ولم يوثق بها أما إذا نكح المقلد بفتوى مفت وأمسك زوجته بعد دور الطلاق وقد نجز الطلاق بعد الدور ثم تغير اجتهاد المفتي فهل على المقلد تسريح زوجته هذا ربما يتردد فيه والصحيح أنه يجب تسريحها كما لو تغير اجتهاد مقلده عن القبلة في أثناء الصلاة فإنه يتحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده في نفسه وإنما حكم الحاكم هو الذي لا ينقض ولكن بشرط أن لا يخالف نصا ولا دليلا قاطعا فإن أخطأ النص نقصنا حكمه وكذلك إذا تنبهنا لأمر معقول في تحقيق مناط الحكم أو تنقيحه بحيث يعلم أنه لو تنبه له لعلم قطعا بطلان حكمه فينقض الحككم
فإن قيل قد ذكرتم أن مخالف النص مصيب إذا لم يقصر لأن ذلك حكم الله تعالى عليه بحسب حاله فلم ينقض حكمه قلنا نعم هو مصيب بشرط دوام الجهل كمن ظن أنه متطهر فحكم الله عليه وجوب الصلاة ولو علم أنه محدث فحكم الله عليه تحريم الصلاة مع الحدث لكن عند الجهل الصلاة واجبة عليه وجوبا حاصلا ناجزا وهي حرام عليه بالقوة أي هي بصدد أن تصير حراما ما لو علم محدث فمهما علم لزمه تدارك ما مضى وكان ذلك صلاة بشرط دوام الجهل وكذلك مهما بلغ المجتهد النص نقض حكمه الواقع فكذلك الحاكم الآخر العالم بالنص ينقض حكمه وعند هذا ننبه على دقيقة وهي أنا ذكرنا أن اختلاف حال المكلف في الظن والعلم كاختلاف حاله في السفر والإقامة والطهر والحيض فيجوز أن يكون ذلك سببا لاختلاف الحكم لكن بينهما فرق وهو أن من سقط عنه وجوب لسفره أو عجزه فلا يجب إزالة سفره وعجزه ليتحقق الوجوب ومن سقط عنه لجهله وجب إزالة جهله فإن التعليم وتبليغ حكم الشرع وتعريف أسبابه واجب وكذلك نقول من صلى وعلى ثوبه نجاسة لا يعرفها تصح صلاته ولا يقضيها على قول فمن رأى في ثوبه تلك النجاسة يلزمه تعريفه ولو

تيمم ليصلي وقدر غيره على أن يزيل عجزه بحمل ماء إليه لم يلزمه ففي هذه الدقيقة يختلف حكم العلم والجهل وحكم سائر الأوصاف
فإن قيل فلو خالف الحاكم قياسا جليا هل ينقض حكمه قلنا قال الفقهاء ينقض فإن أرادوا به ما هو في معنى الأصل مما يقطع به فهو صحيح وإن أرادوا به قياسا مظنونا مع كونه جليا فلا وجه له إذ لا فرق بين ظن وظن فإذا أنتقى القاطع فالظن يختلف بالإضافة وما يختلف بالإضافة فلا سبيل إلى تتبعه
فإن قيل فمن حكم على خلاف خبر الواحب أو بمجرد صيغة لأمر أو حكم في الفساد بمجرد النهي فهل ينقض حكمه وقد قطعتم بصحة خبر الواحد وأن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب والنهي لا يدل بمجرده على الفساد قلنا معما كانت المسألة ظنية فلا ينقض الحكم لأنا لا ندري أنه حكم لرده خبر الواحد أو أنه حكم بمجرد صيغة الأمر بل لعله كان حكم لدليل آخر ظهر له فإن علمنا أنه حكم لذلك لا لغيره وكانت المسألة مع ذلك ظنية اجتهادية فلا ينبغي أن ينقض لأنه ليس لله في المسألة الظنية حكم معين فقد حكم بما هو حكم الله تعالى على بعض المجتهدين فإن أخطأ في الطريق فليس مخطئا في نفس الحكم بل حكم في محل الاجتهاد وعلى الجملة الحكم في مسألة فيها خبر واحد على خلاف الخبر ليس حكما برد الخبر مطلقا وإنما المقطوع به كون الخبر حجة على الجملة أما آحاد المسائل فلا يقطع فيها بحكم فإن قيل فإن حكم بخلاف اجتهاده لكن وافق مجتهدا آخر وقلده فهل ينقض حكمه ولو حكم حاكم مقلد بخلاف مذهب إمامه فهل ينقض قلنا هذا في حق المجتهد لا يعرف يقينا بل يحتمل تغير اجتهاده وأما المقلد فلا يصح حكمه عند الشافعي ونحن وإن حكمنا يتنفيذ حكم المقلدين في زماننا لضرورة الوقت فإن قضينا بأنه لا يجوز للمقلد أن يتبع أي مفت شاء بل عليه اتباع إمامه الذي هو أحق بالصواب في ظنه فينبغي أن ينقض حكمه ولو جوزنا ذلك فإذا وافق مذهب ذي مذهب فقد وقع الحكم في محل الاجتهاد فلا ينقض وهذه مسائل فقهية أعني نقض الحكم في هذه الصور وليست من الأصول في شيء والله أعلم

مسألة ( في وجوب الاجتهاد على المجتهد وتحريم التقليد عليه )
وقد اتفقوا على أنه إذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم فلا يجوز له أن يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه أما إذا لم يجتهد بعد ولم ينظر فإن كان عاجزا عن الاجتهاد كالعامي فله التقليد وهذا ليس مجتهدا لكن ربما يكون متمكنا من الاجتهاد في بعض الأمور وعاجزا عن البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء كعلم النحو مثلا في مسألة نحوية وعلم صفات الرجال وأحوالهم في مسألة نحوية خبرية وقع النظر فيها في صحة الإسناد فهذا من حيث حصل بعض العلوم واستقل بها لا يشبه العامي ومن حيث أنه لم يحصل هذا العلم فهو كالعامي فيلحق بالعامي أو بالعالم فيه نظر والأشهر والأشبه أنه كالعامي وإنما المجتهد هو الذي صارت العلوم عنده بالقوة القريبة أما إذا احتاج إلى تعب كثير في التعلم بعد فهو في ذلك الفن عاجز وكما يمكنه تحصيله فالعامي أيضا يمكنه التعلم ولا يلزمه بل يجوز له ترك الاجتهاد وعلى الجملة بين درجة المبتدىء في العلم وبين رتبة الكمال منازل واقعة بين

طرفين وللنظر فيها مجال وإنما كلامنا الآن في المجتهد لو بحث عن مسألة ونظر في الأدلة لاستقل بها ولا يفتقر إلى تعلم علم من غيره فهذا هو المجتهد فهل يجب عليه الاجتهاد أم يجوز له أن يقلد غيره هذا مما اختلفوا فيه فذهب قوم إلى أن الإجماع قد حصل على أن من وراء الصحابة لا يجوز تقليدهم وقال قوم من وراء الصحابة والتابعين وكيف يصح دعوى الإجماع وممن قال بتقليد العالم أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري وقال محمد بن الحسن يقلد العالم الأعلم ولا يقلد من هو دونه أو مثله وذهب الأكثرون من أهل العراق إلى جواز تقليد العالم العالم فيما يفتي وفيما يخصه وقال قوم يجوز فيما يخصه دون ما يفتي وخصص قوم من جملة ما يخصه ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد واختار القاضي منع تقليد العالم للصحابة ولمن بعدهم وهو الأظهر عندنا والمسألة ظنية اجتهادية والذي يدل عليه أن قليد من لا تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته بل يجوز خطؤه وتلبيسه حكم شرعي لا يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص ولا نص ولا منصوص إلا العامي والمجتهد إذ للمجتهد أن يأخذ بنظر نفسه وإن لم يتحقق وللعامي أن يأخذ بقوله أما المجتهد إنما يجوز له الحكم بظنه لعجزه عن العلم فالضرورة دعت إليه في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع أما العامي فإنما جوز له تقليد غيره للعجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه والمجتهد غير عاجز فلا يكون في معنى العاجز فينبغي أن يطلب الحق بنفسه فإنه يجوز الخطأ على العالم بوضع الاجتهاد في غير محله والمبادرة قبل استتمام الاجتهاد والغفلة عن دليل قاطع وهو قادر على معرفة جميع ذلك ليتوصل في بعضها إلى اليقين وفي بعضها إلى الظن فكيف يبني الأمر على عماية كالعميان وهو بصير بنفسه فإن قيل وهو ليس يقدر إلا على تحصيل ظن وظن غيره كظنه ولا سيما عندكم وقد صوبتم كل مجتهد قلنا مع هذا إذا حصل ظنه لم يجز له اتباع ظن غيره فكان ظنه أصلا وظن غيره بدلا يدل عليه أنه لم يجز العدول إليه مع وجود المبدل فلا يجوز مع القدرة على المبدل كما في سائر الإبدال والمبدلات إلا أن يرد نص بالتخيير فترتفع البدلية أو يرد نص بأنه بدل عند الوجود لا عند العدم كبنت مخاض وابن لبون في خمس وعشرين من الإبل فإن وجوب بنت مخاض يمنع من قبول ابن لبون والقدرة على شرائه لا تمنع منه
فإن قيل حصرتم طريق معرفة الحق في الإلحاق ثم قطعتم طريق الإلحاق ولا نسلم أن مأخذه الإلحاق بل عمومات تشمل العامي والعالم كقوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( الأنبياء 7 ) وما أراد من لا تعلم شيئا أصلا فإن ذاك مجنون أو صبي بل من لا يعلم تلك المسألة وكذلك قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( النساء 59 ) وهم العلماء قلنا أما قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر فإنه لا حجة فيه من وجهين أحدهما أن المراد به أمر العوام بسؤال العلماء إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول فمن هو من أهل العلم مسؤول وليس بسائل ولا يخرج عن كونه من أهل العلم بأن لا تكون المسألة حاضرة في ذهنه إذ هو متمكن من معرفتها من غير أن يتعلم من غيره
الثاني أن معناه سلوا لتعلموا أي سلوا عن الدليل لتحصيل العلم كما يقال كل لتشبع واشرب لتروي وأما أولو الأمر فإنما أراد بهم الولاة إذ أوجب طاعتهم كطاعة الله ورسوله ولا يجب على المجتهد اتباع المجتهد فإن كان المراد بأولي الأمر الولاة فالطاعة على الرعية وإن كان هم العلماء فالطاعة على العوام ولا نفهم غير ذلك ثم نقول يعارض هذه العمومات عمومات أقوى منها يمكن التمسك بها ابتداء في المسألة كقوله تعالى فاعتبروا

يا أولي الأبصار ( الحشر 2 ) وقوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( النساء 83 ) وقوله أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ( محمد 24 ) وقوله وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ( الشورى 10 ) وقوله فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ( النساء 59 ) فهذا كله أمر بالتدبر والاستنباط والاعتبار وليس خطابا مع العوام فلم يبق مخاطب إلا العلماء والمقلد تارك للتدبر والاعتبار والاستنباط وكذلك قوله تعالى ( 34 ) ( الزمر 55 ) وهذا بظاهره يوجب الرجوع إلى الكتاب فقط لكن دل الكتاب على اتباع السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس وصار جميع ذلك منزلا فهو المتبع دون أقوال العباد فهذه ظواهر قوية والمسألة ظنية يقوي فيها التمسك بأمثالها ويعتضد ذلك بفعل الصحابة فإنهم تشاوروا في ميراث الجد والعول والمفوضة ومسائل كثيرة وحكم كل واحد منهم بظن نفسه ولم يقلد غيره فإن قيل لم ينقل عن طلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وهم أهل الشورى نظر في الأحكام مع ظهور الخلاف والأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم قلنا كانوا لا يفتون اكتفاء بمن عداهم في الفتوى أما عملهم في حق أنفسهم لم يكن إلا بما سمعوه من النبي صلى الله عليه و سلم والكتاب وعرفوه فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم لتعرف الدليل لا للتقليد فإن قيل فما تقولون في تقليد الأعلم قلنا الواجب أن ينظر أولا فإن غلب على ظنه ما وافق الأعلم فذاك وإن غلب على ظنه خلافه فما ينفع كونه أعلم وقد صار رأيه مزيفا عنده والخطأ جائز على الأعلم وظنه أقوى في نفسه من ظن غيره وله أن يأخذ بظن نفسه وفاقا ولم يلزمه تقليده لكونه أعلم فينبغي أن لا يجوز تقليده ويدل عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تسويغ الخلاف لابن عباس وابن عمر وابن الزبير وزيد بن ثابت وأبي سلمة بن عبد الرحمن وغيرهم من أحداث الصحابة لأكابر الصحابة ولأبي بكر ولعمر رضي الله عن جميعهم فإن قيل فهل من فرق بين ما يخصه وبين ما يفتي به قلنا يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذ لو جاز ذلك لجاز الفتوى الشافعي وأبي حنيفة لكن لا يفتي من يستفتيه بتقليد غيره إذا لو جاز ذلك لجاز الفتوى للعوام وأما ما يخصه إذا ضاق الوقت وكان في البحث تفويت فهذا هل يلحقه بالعاجز في جواز التقليد فيه نظر فقهي ذكرناه في مسألة العدول إلى التيمم عند ضيق الوقت وتناوب جماعة على بئر ماء فهذه مسألة محتملة والله أعلم
الفن الثاني من هذا القطب في التقليد والاستفتاء وحكم العوام فيه وفيه أربع مسائل

مسألة ( تعريف التقليد )
التقليد هو قبول قول بلا حجة وليس ذلك طريقا إلى العلم لا في الأصول ولا

في الفروع وذهب الحشوية والتعليمية إلى أن طريق معرفة الحق التقليد وأن ذلك هو الواجب وأن النظر والبحث حرام ويدل على بطلان مذهبهم مسالك
الأول هو أن صدق المقلد لا يعلم ضرورة فلا بد من دليل ودليل الصدق المعجزة فيعلم صدق الرسول عليه السلام بمعجزته وصدق كلام الله بأخبار الرسول عن صدقه وصدق أهل الإجماع بأخبار الرسول عن عصمتهم ويجب على القاضي الحكم بقول العدول لا بمعنى اعتقاد صدقهم لكن من حيث دل السمع على تعبد القضاة باتباع غلبة الظن صدق الشاهد أم كذب ويجب على العامي اتباع المفتي إذ دل الإجماع على أن فرض العوام اتباع ذلك كذب المفتي أم صدق أم أصاب فنقول قول المفتي والشاهد لزم بحجة الإجماع فهو قبول قول بحجة فلم يكن تقليدا فإنا نعني بالتقليد قبول قول بلا حجة فحيث لم تقم حجة ولم يعلم الصدق بضرورة ولا بدليل فالاتباع فيه اعتماد على الجهل
المسلك الثاني أن نقول أتحيلون الخطأ على مقلدكم أم تجوزونه فإن جوزتموه فإنكم شاكون في صحة مذهبكم وإن أحلتموه فبم عرفتم استحالته بضرورة أم بنظر أو تقليد ولا ضرورة ولا دليل فإن قلدتموه في قوله أن مذهبه حق فبم عرفتم صدقه في تصديق نفسه وإن قلدتم فيه غيره فبم عرفتم صدق المقلد الآخر وإن عولتم على سكون النفس إلى قوله فبم تفرقون بين سكون نفوسكم وسكون نفوس النصارى واليهود وبم تفرقون بين قول مقلدكم إني صادق محق وبين قول مخالفكم ويقال لهم أيضا في إيجاب التقليد هل تعلمون وجوب التقليد أم لا فإن لم تعلموه فلم قلدتم وإن علمتم فبضرورة أم بنظر أو تقليد ويعود عليهم السؤال في التقليد ولا سبيل لهم إلى النظر والدليل فلا يبقى إلا إيجاب التقليد بالتحكم فإن قيل عرفنا صحته بأنه مذهب للأكثرين فهو أولى بالاتباع قلنا وبم أنكرتم على من يقول الحق دقيق غامض لا يدركه إلا الأقلون ويعجز عنه الأكثرون لأنه يحتاج إلى شروط كثيرة من الممارسة والتفرغ للنظر ونفاذ القريحة والخلو عن الشواغل ويدل على أنه عليه السلام محقا في ابتداء أمره وهو في شرذمة يسيرة على خلاف الأكثرين وقد قال تعالى نحن ( الأنعام 116 ) كيف وعدد الكفار في زماننا أكثر ثم يلزمكم أن تتوقفوا حتى تدوروا في جميع العالم وتعدوا جميع المخالفين فإن ساووهم توقفوا وإن غلبوا رجحوا كيف وهو على خلاف نص القرآن قال الله تعالى وقليل من عبادي الشكور ( سبأ 13 ) ولكن ولكن أكثرهم لا يعلمون ( الطور 47 ) وأكثرهم للحق كارهون ( المؤمنون 70 ) فإن قيل فقد قال عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة والشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد قلنا أولا بم عرفتم صحة هذه الأخبار وليست متواترة فإن كان عن تقليد فبم تتميزون عن مقلد اعتقد فسادها ثم لو صح فمتبع السواد الأعظم ليس بمقلد بل علم بقول الرسول وجوب اتباعه وذلك قبول قول بحجة وليس بتقليد ثم المراد بهذه الأخبار ذكرناه في كتاب الإجماع وأنه الخروج عن موافقة الإمام أو موافقة الإجماع ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إن الناظر متورط في شبهات وقد كثر ضلال الناظرين فترك الخطر وطلب السلامة أولى قلنا وقد كثر ضلال المقلدين من اليهود والنصارى فبم تفرقون بين تقليدكم وتقليد سائر الكفار حيث قالوا ( 9 ) ( الزخرف 22 ) ثم نقول إذا وجبت المعرفة

كان التقليد جهلا وضلالا فكأنكم حملتم هذا خوفا من الوقوع في الشبهة كمن يقتل نفسه عطشا وجوعا خيفة من أن يغص بلقمة أو يشرق بشربة لو أكل وشرب وكالمريض يترك العلاج رأسا خوفا من أن يخطىء في العلاج وكمن يترك التجارة والحراثة خوفا من نزول صاعقة فيختار الفقر خوفا من الفقر
الشهبة الثانية تمسكهم بقوله تعالى ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا ( غافر 4 ) وأنه نهى عن الجدال في القدر والنظر يفتح باب الجدال قلنا نهى عن الجدال بالباطل كما قال تعالى وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ( غافر 5 ) بدليل قوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن ( النحل 125 ) فأما القدر فنهاهم عن الجدال فيه إما لأنه كان قد وقفهم على الحق بالنص فمنعهم عن الممارة في النص أو كان في بدء الإسلام فاحترز عن أن يسمعه المخالف فيقول هؤلاء بعد لم تستقر قدمهم في الدين أو لأنهم كانوا مدفوعين إلى الجهاد الذي هو أهم عندهم ثم إنا نعارضهم بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء 36 ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( البقرة 169 ) قل هاتوا برهانكم ( البقرة 111 ) هذا كله نهي عن التقليد وأمر بالعلم ولذلك عظم شأن العلماء وقال تعالى يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( المجادلة 11 ) وقال عليه السلام يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وتأويل الجاهلين وانتحال المبطلين ولا يحصل هذا بالتقليد بل بالعلم وقالابن مسعود لا تكونن إمعة قيل وما إمعة قال أن يقول الرجل أنا مع الناس إن ضلوا ضللت وإن اهتدوا اهتديت ألا لا يوطنن أحدكم نفسه أن يكفر إن كفر الناس

مسألة ( تقليد العامي للعلماء )
العامي يجب عليه الاستفتاء واتباع العلماء وقال قوم من القدرية يلزمهم النظر في الدليل واتباع الإمام المعصوم وهذا باطل بمسلكين أحدهما إجماع الصحابة فإنهم كانوا يفتون العوام ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامهم فإن قال قائل من الإمامية كان الواجب عليهم اتباع على لعصمته وكان علي لا ينكر عليهم تقية وخوفا من الفتنة قلن هذا كلام جاهل سد على نفسه باب الاعتماد على قول علي وغيره من الأئمة في حال ولايته إلى آخر عمره لأنه لم يزل في اضطراب من أمره فلعل جميع ما قاله خالف فيه الحق خوفا وتقية
المسلك الثاني إن الإجماع منعقد على أن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل وتتعطل الحرف والصنائع ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بحملتهم بطلب العلم وذلك يرد العلماء إلى طلب المعايش ويؤدي إلى اندراس العلم بل إلى إهلاك العلماء وخراب العالم وإذا استحال هذا لم يبق إلا سؤال العلماء فإن قيل فقد أبطلتم التقليد وهذا عين التقليد قلنا التقليد قبول قول بلا حجة وهؤلاء وجب عليهم ما أفتى به المفتي بدليل الإجماع كما وجب على الحاكم قبول قول الشهود

ووجب علينا قبول خبر الواحد وذلك عند ظن الصدق والظن معلوم ووجوب الحكم عند الظن معلوم بدليل سمعي قاطع فهذا الحكم قاطع والتقليد جهل فإن قيل فقد رفعتم التقليد من الدين وقد قال الشافعي رحمه الله ولا يحل تقليد أحد سوى النبي عليه السلام فقد أثبت تقليدا قلنا قد صرح بإبطال التقليد رأسا إلا ما استثنى فظهر أنه لم يجعل الاستفتاء وقبول خبر الواحد وشهادة العدول تقليد نعم يجوز تسمية قبول قول الرسول تقليدا توسعا واستثناؤه من غير جنسه ووجه التجوز أن قبول قوله وإن كان لحجة دلت على صدقه جملة فلا تطلب منه حجة على غير تلك المسألة فكأنه تصديق بغير حجة خاصة ويجوز أن يسمى ذلك تقليدا مجازا

مسألة ( فتوى العامي للعلماء العدول )
لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا وأن سأل من لا يعرف جهله فقد قال قوم يجوز وليس عليه البحث وهذا فساد لأن كل من وجب عليه قبول قول غيره فيلزمه معرفة حاله فيجب على الأمة معرفة حال الرسول بالنظر في معجزته فلا يؤمن بكل مجهول يدعي أنه رسول الله ووجب على الحاكم معرفة حال الشاهد في العدالة وعلى المفتي معرفة حال الراوي وعلى الرعية معرفة حال الإمام والحاكم وعلى الجملة كيف يسأل من يتصور أن يكون أجهل من السائل فإن قيل إذا لم يعرف عدالة المفتي هل يلزمه البحث إن قلتم يلزمه البحث فقد خالفتم العادة لأن من دخل بلدة فيسأل عالم البلدة ولا يطلب حجة على عدالته وإن جوزتم مع الجهل فكذلك في العلم قلنا من عرفه بالفسق فلا يسأله ومن عرفه بالعدالة فيسأله ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر بالفتوى ولا يمكن أن يقال ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة الفتوى والجهل أغلب على الخلق فالناس كلهم عوام إلا الأفراد بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد فإن قيل فإن وجب السؤال لمعرفة عدالته أو علمه فيفتقر إلى التواتر أم لا يفتقر إليه قيل يحتمل أن يقال ذلك فإن ذلك ممكن ويحتمل أن يقال يكفي غالب الظن الحاصل بقول عدل أو عدلين وقد جوز قوم العمل بإجماع نقله العدل الواحد وهذا يقرب منه من وجه
مسألة ( تعدد العلماء بالنسبة لسؤال العامي )
إذا لم يكن في البلدة إلا مفت واحد وجب على العامي مراجعته وإن كانوا جماعة فله أن يسأل ممن شاء ولا يلزمه مراجعة الأعلم كما فعل في زمان الصحابة إذ سأل العوام الفاضل والمفضول ولم يحجر على الخلق في سؤال غير أبي بكر وعمر وغير الخلفاء وقال قوم تجب مراجعة الأفضل فإن استووا تخير بينهم وهذا يخالف إجماع الصحابة إذ لم يحجر الفاضل على المفضول الفتوى بل لا تجب إلا مراجعة من عرفه بالعلم والعدالة وقد عرف كلهم بذلك نعم إذا اختلف عليه مفتيان في حكم فإن تساويا راجعهما مرة أخرى وقال تناقض فتواكما وتساويتما عندي فما الذي يلزمني فإن خيراه تخير وإن اتفقا على الأمر بالاحتياط أو الميل إلى جانب معين فعل وإن أصرا على الخلاف لم يبق إلا التخيير فإنه لا سبيل إلى تعطيل الحكم وليس أحدهما بأولى من الآخر والأئمة كالنجوم فبأيهم اقتدى

اهتدى أما إذا كان أحدهما أفضل وأعلم في اعقتاده اختار القاضي أنه يتخير أيضا لأن المفضول أيضا من أهل الاجتهاد لو انفرد فكذلك إذا كان معه غيره فزيادة الفضل لا تؤثر والأولى عندي أنه يلزمه اتباع الأفضل فمن اعتقد أن الشافعي رحمه الله أعلم والصواب على مذهبه أغلب فليس له أن يأخذ بمذهب مخالفه بالتشهي وليس للعامي أن ينتقي من المذاهب في كل مسألة أطيبها عنده فيتوسع بل هذا الترجيح عنده كترجيح الدليلين المتعارضين عند المفتي فإنه يتبع ظنه في الترجيح فكذلك ههنا وإن صوبنا كل مجتهد ولكن الخطأ ممكن بالغفلة عن دليل قاطع وبالحكم قبل تمام الاجتهاد واستفراغ الوسع والغلط على الأعلم أبعد لا محالة وهذا التحقيق وهو أنا نعتقد أن لله تعالى سرا في رد العباد إلى ظنونهم حتى لا يكونوا مهملين متبعين للهوى مسترسلين استرسال البهائم من غير أن يزمهم لجام التكليف فيردهم من جانب إلى جانب فيتذكرون العبودية ونفاذ حكم الله تعالى فيهم في كل حركة وسكون يمنعهم من جانب إلى جانب فما دمنا نقدر على ضبطهم بضابط فذلك أولى من تخييرهم وإهمالهم كالبهائهم والصبيان أما إذا عجزنا عند تعارض مفتيين وتساويهما أو عند تعارض دليلين فذلك ضرورة والدليل عليه أنه إذا كان يمكن أن يقال كل مسألة ليس لله تعالى فيها حكم معين أو يصوب فيها كل مجتهد فلا يجب على المجتهد فيها النظر بل يتخير فيفعل ما شاء إذ ما من جانب إلا ويجوز أن يغلب على ظن مجتهد والإجماع منعقد على أنه يلزمه أولا تحصيل الظن ثم يتبع ما ظنه فكذلك ظن العامي ينبغي أن يؤثر فإن قيل المجتهد لا يجوز له أن يتبع ظنه قيل أن يتعلم طرق الاستدلال والعامي يحكم بالوهم ويغتر بالظواهر وربما يقدم المفضول على الفاضل فإن جاز أن يحكم بغير بصيرة فلينظر في نفس المسألة وليحكم بما يظنه فلمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها من شأن العوام وهذا سؤال واقع ولكنا نقول من مرض له طفل وهو ليس بطبيب فسقاه دواء برأيه كان متعديا مقصرا ضامنا ولو راجع طبيبا لم يكن مقصرا فإن كان في البلد طبيبان فاختلفا في الدواء فخالف الأفضل عد مقصرا ويعلم فضل الطبيبين بتواتر الأخبار وبإذعان المفضول له وبتقديمه بأمارات تفيد غلبة الظن فكذلك في حق العلماء يعلم الأفضل بالتسامع وبالقرائن دون البحث عن نفس العلم والعامي أهل له فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي فهذا هو الأصح عندنا والأليق بالمعنى الكلي في ضبط الخلق بلجام التقوى والتكليف والله أعلم
الفن الثالث من القطب الرابع في الترجيح وكيفية تصرف المجتهد عند تعارض الأدلة ويشتمل هذا الفن على مقدمات ثلاث وبابين أما المقدمة الأولى ففي بيان ترتيب الأدلة
فنقول يجب على المجتهد في كل مسألة أن يرد نظره إلى النفي الأصلي قبل ورود الشرع ثم يبحث عن الأدلة السمعية المغيرة فينظر أول شيء في الإجماع فإن وجد في المسألة إجماعا ترك النظر في الكتاب والسنة

فإنهما يقبلان النسخ والإجماع لا يقبله فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسنة دليل قاطع على النسخ إذ لا تجتمع الأمة على الخطأ ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة وهما على رتبة واحدة لأن كل واحد يفيد العلم القاطع ولا يتصور التعارض في القطعيات السمعية إلا بأن يكون أحدهما ناسخا فما وجد فيه نص كتاب أو سنة متواترة أخذ به وينظر بعد ذلك إلى عمومات الكتاب وظواهره ثم ينظر في مخصصات العموم من أخبار الآحاد ومن الأقيسة فإن عارض قياس عموما أو خبر واحد عموما فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها فإن لم يجد لفظا نصا ولا ظاهرا نظر إلى قياس النصوص فإن تعارض قياسات أو خبران أو عمومان طلب الترجيح كما سنذكره فإن تساويا عنده توقف على رأي وتخير على رأي آخر كما سبق
المقدمة الثانية في حقيقة التعارض ومحله
اعلم أن الترجيح إنما يجري بين ظنين لأن الظنون تتفاوت في القوة ولا يتصور ذلك في معلومين إذ ليس بعض العلوم أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد أستغناء عن التأمل بل بعضها يستغني عن أصل التأمل وهو البديهي وبعضها غير بديهي يحتاج إلى تأمل لكنه بعد الحصول محقق يقيني لا يتفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم ولذلك قلنا إذا تعارض نصان قاطعان فلا سبيل إلى الترجيح بل إن كانا متواترين حكم بأن المتأخر ناسخ ولا بد أن يكون أحدهما ناسخا وإن كانا من أخبار الآحاد وعرفنا التاريخ أيضا حكمنا بالمتأخر وإن لم نعرف فصدق الراوي مظنون فنقدم الأقوى في نفوسنا وكما لا يجوز التعارض والترجيح بين نصين قاطعين فكذلك في علتين قاطعتين فلا يجوز أن ينصب الله علة قاطعة للتحريم في موضع وعلة قاطعة للتحليل في موضع وتدور بينهما مسألة توجد فيها العلتان ونتعبد بالقياس لأنه يؤدي إلى أن يجتمع قاطع على التحريم وقاطع على التحليل في فرع واحد في حق مجتهد واحد وهو محال لا كالعلل المظنونة لأن الظنون تختلف بالإضافات فلا تجتمع في حق مجتهد واحد فإن تقاوم ظنان أوجبنا التوقف على رأي كما لو تعارض قاطعان ومن أمر بالتخيير أجاب بأنه لا يجوز أن يرد نصان قاطعان بالتحريم والتحليل من غير تقدم وتأخر ويكون معناه التخيير لأن اللفظ لا يحتمل التخيير فكذلك التعبد بالقياس مع التصريح بالتعليل تصريح بالنفي والإثبات لا يحتمل التخيير من حيث اللفظ فيكون متناقضا أما الدليل الذي دل على تعبد المجتهد باتباع الظن فيصلح لأن ينزل على اتباع أغلب الظنين وعند التعارض على التخيير بينهما فإنه أمر بإتباع المصلحة وبالتشبيه وبالاستصحاب فإذا تعارضا فكيفما فعل فهو مستصحب ومشبه ومتبع للمصلحة أما القواطع فمتضادة ومتناقضة لا بد من أن تكون ناسخا أو منسوخا فلا تقبل الجمع نعم لو أشكل التاريخ وعجزنا عن طلب دليل آخر فلا بد أن يتخير إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر مع تضادهما فإن قيل فهل يجوز أن يجتمع علم وظن قلنا لا فإن الظن لو خالف العلم فهو محال لأن ما علم كيف يظن خلافه وظن خلافه شك فكيف يشك فيما يعلم وإن وافقه فإن أثر الظن يمحي بالكلية بالعلم فلا يؤثر معه
المقدمة الثالثة في دليل وجوب الترجيح
فإن قال قائل لم رجحتم أحد الظنين وكل

ظن لو انفرد بنفسه لوجب اتباعه وهلا قضيتم بالتخيير أو التوقف قلنا كان يجوز أن يرد التعبد بالتسوية بين الظنين وإن تفاوتا لكن الإجماع قد دل على خلافه على ما علم من السلف في تقديم بعض الأخبار على بعض لقوة الظن بسبب علم الرواة وكثرتهم وعدالتهم وعلو منصبهم فلذلك قدموا خبر أزواجه عليه السلام على غيره من النساء وقدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر من روى لاماء إلا من الماء وخبر من روت من أزواجه أنه كان يصبح جنبا على ما روى أبو هريرة عن الفضل بن عباس أن من أصبح جنبا فلا صوم له وكما قوي علي خبر أبي بكر فلم يحلفه وحلف غيره وقوى أبو بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة لما روى معه محمد بن مسلمة وقوى عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان بموافقة أبي سعيد الخدري في الرواية إلى غير ذلك مما يكثر تتبعه وكذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد الأصلين وجب اتابعه بالإجماع فقد فهم من أهل الإجماع أنهم تعبدوا بما هو عادة للناس في ميراثهم وتجارتهم وسلوكهم الطرق المخوفة فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يرجحون ويميلون إلى الأقوى
فإن قيل فلم لم ترجحوا في الشهادة بالكثرة وقوة غلبة الظن بل يقضي بالتعارض عند تناقض البينتين قلنا لأن أهل الإجماع لم يرجحوا في الشهادة وقد رجحوا في الرواية وسببه أن باب الشهادة مبني على التعبد حتى لو أتى عشرة بلفظ الأخبار دون الشهادة لم تقبل ولا تقبل شهادة مائة امرأة ولا مائة عبد على باقة بقل هذه هي المقدمات

الباب الأول فيما ترجح به الأخبار
اعلم أن التعارض هو التناقض فإن كان في خبرين فأحدهما كذب والكذب محال على الله ورسوله وإن كان في حكمين من أمر ونهي وحظر وإباحة فالجمع تكليف محال فأما أن يكون أحدهما كذبا أو يكون متأخرا ناسخا أو أمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالتين كما إذا قال الصلاة واجبة على أمتي الصلاة غير واجبة على أمتي فنقول أراد بالأول المكلفين وأراد بالثاني الصبيان والمجانين أو في حالتي العجز والقدرة أو في زمن دون زمن
وإن عجزنا عن الجمع وعن معرفة المتقدم والمتأخر رجحنا وأخذنا بالأقوى وتقوى الخبر في نفوسنا بصدق الراوي وصحته وتضعيف الخبر في نفوسنا إما باضطراب في متنه أو بضعف في سنده أو بأمر خارج من السند والمتن أما ما يتعلق بالسند والمتن فسبعة عشر الأول سلامة متن أحد الخبرين عن الاختلاف والاضطراب دون الآخر فسلامته مرجحة فإن ما لا يضطرب فهو بقول الرسول أشبه فإن انضاف إلى اضطراب اللفظ اضطراب المعنى كان أبعد عن أن يكون قول الرسول فيدل على الضعف وتساهل الراوي في الرواية
فإن قيل فيجب أن تكون رواية الزيادة في متن الحديث اضطرابا يوجب إطراحه قلنا لا يجب لأنه في معنى خبرين منفصلين إلا أن يعرف محدث بكثرة الانفراد بالرواية عن الحفاظ فيجوز أن يقدم خبر غيره على خبره
الثاني اضطراب السند بأن يكون في أحدهما ذكر رجال تلتبس أسماؤهم ونعوتهم وصفاتهم بأسماء قوم ضعفاء وصفاتهم بحيث يعسر التمييز
الثالث أن يروي أحدهما في تضاعيف قصة مشهورة متداولة بين أهل النقل ومعارضة قد

انفرد به الراوي لا في جملة القصة فما روي في الجماعة أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه الواحد عاريا عن قصته المشهورة
الرابع أن يكون راويه معروفا بزيادة التيقظ وقلة الغلط فالثقة بروايته عند الناس أشد
الخامس أن يقول أحدهما سمعنا النبي عليه السلام والآخر أن يقول كتب إلي بكذا فإن التحريف والتصحيف في المكتوب أكثر منه في المسموع
السادس أن يتطرق الخلاف إلى أحد الخبرين أنه موقوف على الراوي أو مرفوع فالمتفق على كونه مرفوعا أولى
السابع أن يكون منسوبا إليه نصا وقولا والآخر ينسب إليه اجتهادا بأن يروي أنه كان في زمانه أو في مجلسه ولم ينكره فما نسب إليه قولا ونصا أقوى لأن النص غير محتمل وما في زمانه ربما لم يبلغه وما في مجلسه ربما غفل عنه
الثامن أن يروي أحد الخبرين عمن تعارضت الرواية عنه فنقل عنه أيضا ضده فيقدم عليه ما لم يتعارض لأن المتعارض متساقط فيبقى الآخر سليما عن المعارضة
التاسع أن يكون الراوي صاحب الواقعة فهو أولى بالمعرفة من الأجنبي فرواية ميمونة تزوجني النبي عليه السلام ونحن حلالان بعدما رجع مقدمة على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام
العاشر أن يكون أحد الراويين أعدل وأوثق وأضبط وأشد تيقظا وأكثر تحريا
الحادي عشر أن يكون أحدهما على وفق عمل أهل المدينة فهو أقوى لأن ما رآهمالك رحمه الله حجة وإجماعا إن لم يصلح حجة فيصلح للترجيح لأن المدينة دار الهجرة ومهبط الوحي الناسخ فيبعد أن ينطوي عليهم
الثاني عشر أن يوافق أحد الخبرين مرسل غيره فيرجح به من يرجح بكثرة الرواة لأن المرسل حجة عند قوم فإن لم يكن حجة فلا أقل من أن يكون مرجحا
الثالث عشر أن تعمل الأمة بموجب أحد الخبرين فإنه إذا احتمل أن يكون عملهم بدليل آخر فيحتمل أن يكون هذا الخبر فيكون صدقه أقوى في النفس
الرابع عشر أن يشهد القرآن أو الإجماع أو النص المتواتر أو دليل العقل لوجوب العمل على وفق الخبر فيرجح به
فإن قيل ذلك قاطع في تصديقه قلنا لا بل يتصور أن يكذب على النبي عليه السلام فيما يوافق القرآن والاجماع فيقول سمعت ما لم يسمعه وإنما يجب صدقه إذا اجتمعت الأمة على صدقه لا إذا اجتمعت على عمل يوافق خبره ولعله عن دليل آخر
الخامس عشر أن يكون أحدهما أخص والآخر أعم فيقدم ما هو أخص بالمقصود كتقديم قوله في الرقة ربع العشر في إيجابه على الطفل والبالغ على قوله رفع القلم عن ثلاثة لأن هذا تعرض لنفي الخطاب العام وليس بتعرض للزكاة ولا لسقوط الزكاة عن الولي بإخراج زكاته والحديث الأول متعرض لخصوص الزكاة ومتناول لعمومه مال الصبي فهو أخص وأمس بالمقصود
السادس عشر أن يكون أحدهما مستقلا بالإفادة ومعارضه لا يفيد إلا بتقدير إضمار أو حذف وذلك مما يتطرق إليه زيادة التباس لا يتطرق إلى المستقبل
السابع عشر أن يكون رواة أحد الخبرين أكثر فالكثرة تقوي الظن ولكن رب عدل أقوى في النفس من عدلين لشدة تيقظه وضبطه والاعتماد في ذلك على ما غلب على ظن المجتهد
هذا ما يوجب الترجيح لأمر في سند الخبر أو في متنه وقد يرجح لأمور خارجة عنها وهي خمسة الأول كيفية استعمال الخير في محل الخبر كقوله لا نكاح إلا بولي مع قوله الأيم

أحق بنفسها من وليها لأنا نحمل ذلك على أنها أحق بنفسها في الأذن لا في العقد واللفظ يعم الأذن والعقد وهم يحملون خبرنا على الصغير أو الأمة أو النكاح من غير كفء ولاخلاف واقع في الكبيرة وهم صرفوا خبرنا عن محل الخلاف ونحن استعملنا الخبرين في الكبيرة فتأويلنا أقرب فإنه لا ينبو عنه اللفظ بل كان اللفظ محتملا لهما أما تنزيل خبرنا على الصغيرة والأمة فبعيد
الثاني أن يكون أحد الخبرين يوجب غضا من منصب الصحابة فيكون أضعف كما رووا من أمر النبي صلى الله عليه و سلم الصحابة بإعادة الوضوء عند القهقهة فخبرنا وهو قوله كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا إلا من جنابة لا من بول أو غائط أو نوم وليس فيه القهقهة فهو أولى من خبرهم
الثالث أن يكون أحد الخبرين متنازعا في خصوصه والآخر متفق على تطرق الخصوص إليه فقد قال قوم أنه يسقط الاحتجاج به فإن لم يصح ذلك فيدل على ضعفه لا محالة
الرابع أن يكون أحد الخبرين قد قصد به بيان الحكم المتنازع فيه دون الآخر كقوله أيما إهاب دبغ فقد طهر لم يفرق فيه بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل فدلالة عمومه على جلد ما لا يؤكل أقوى من دلالة نهيه عن افتراش جلود السباع لأنه ما سيق لبيان النجاسة والطهارة بل ربما نهى عن الافتراش للخيلاء أو لخاصية لا نعقلها
الخامس يتضمن أحد الخبرين إثبات ما ظهر تأثيره في الحكم دون الآخر حتى تقدم رواية عائشة وابن عمر وابن عباس أن بريرة أعتقت تحت عبد على ما روي أنها أعتقت تحت حر لأن ضرر الرق في الخيار قد ظهر أثره ولا يجري ذلك في الحر
القول فيما يظن أنه ترجيح وليس بترجيح وله أمثلة ستة الأول أن يعمل أحد الراويين بالخبر دون الآخر أو يعمل بعض الأمة أو بعض الأئمة بموجب أحد الخبرين فلا يرجح به إذ لا يجب تقليدهم فالمعمول به وغير المعمول به واحد
الثاني أن يكون أحدهما غريبا لا يشبه الأصول كحديث القهقهة وغرة الجنين وضرب الدية على العاقلة وخبر نبيذ التمر ودفع القيمة في إحدى عيني الفرس فهذه الأحاديث لو صحت لا تؤخر عن معارضها الموافق للأصول لأن للشارع أن يتعبد بالغريب والمألوف نعم لو ثبت التقاوم بين الخبرين تساقطا ورجعنا إلى القياس وذلك ليس من الترجيح في شيء
الثالث الخبر الذي يدرأ الحد لا يقدم على الموجب وإن كان الحد يسقط بالشبهة وقال قوم الرافع أولى وهو ضيعف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ الإيجاب أو الإسقاط
الرابع إذا روي خبران من فعل النبي صلى الله عليه و سلم أحدهما مثبت والآخر ناف فلا يرجع أحدهما على الآخر لاحتمال وقوعهما في حالين فلا يكون بينهما تعارض
وقد بينا في باب أفعال النبي عليه السلام محل امتناع التعارض بين الفعلين
الخامس خبر يتضمن العتق والآخر يتضمن نفيه قال قوم من أهل العراق المثبت للعتق أولى لغلبة العتق ولأنه لا يقبل الفسخ وهذا ضعيف لأن هذا لا يوجب تفاوتا في صدق الراوي وثبوت نقله
السادس الخبر الحاظر لا يرجح على

المبيح على ما ظنه قوم لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة

الباب الثاني في ترجيح العلل
ومجامع ما يرجع إليه ترجيح العلل خمسة الأول ما يرجع إلى قوة الأصل الذي منه الانتزاع فإن قوة الأصل تؤكد العلة
الثاني ما يرجع إلى تقوية نفس العلة في ذاتها
الثالث ما يرجع إلى قوة طريق إثبات العلة من نص أو إجماع أو أمارة
الرابع ما يقوي حكم العلة الثابت بها
الخامس أن تتقوى بشهادة الأصول وموافقتها لها
القسم الأول ما يرجع إلى قوة الأصل وهي عشرة الأول أن تكونا إحدى العلتين منتزعة من أصل معلوم استقراره في الشرع ضرورة والأخرى من أصل معلوم لكن بنظر ودليل فإنهما وإنا كانا معلومين فجاحد الضروري يكفر وجاحد النظري لا يكفر فذلك أقوى
فإن قيل أليس قد قدمتم أنه لا يقدم معلوم على معلوم قلنا العلتان مظنونتان وإنما المعلوم أصلاهما والترجيح للعلة المظنونة
الثاني أن يكون أحد الأصلين محتملا للنسخ أو ذهب بعض العلماء إلى نسخه فما سلم عن الاختلاف والاحتمال أولى وأقوى
الثالث أن يثبت أصل إحدى العلتين بخبر الواحد والآخر بخبر متواتر وأمر مقطوع به فإن العمل بخبر الواحد وإن كان واجبا قطعا فهو حق بالإضافة إلى من ظن صدق الراوي والآخر حق في نفسه مطلقا لا بالإضافة
الرابع أن يكون أحد الأصلين ثابتا بروايات كثيرة والآخر برواية واحدة فإنه يرجح الأول عند من يرجح بكثرة الرواة ولا يرجح عند من لا يرى ذلك
الخامس أن يكون أحد الأصلين ثابتا بعموم لم يدخله التخصيص فيقدم على ما ثبت بعموم دخله التخصيص لضعفه
السادس أن يكون أحد الأصلين ثابتا بصريح النص والآخر ثبت بتقدير إضمار أو حذف دقيق فالنص الصريح أولى
السابع أن يكون أحد الأصلين أصلا بنفسه والآخر فرعا لأصل آخر فالفرع ضعيف عند من جوز القياس عليه والأظهر منع القياس عليه وكذلك أصل ثبت بخبر الواحد أقوى من أصل ثبت بالقياس على خبر الواحد
الثامن أن يكون أحد الأصلين مما اتفق القائسون على تعليله والآخر اختلفوا فيه فالمتفق على تعليله من القائسين وإن لم يكونوا كل الأمة أقرب إلى كونه معلوما من المختلف فيه
التاسع أن يكون دليل أحد الأصلين مكشوفا معينا والآخر أجمعوا على أنه ثابت بدليل فإن لم يكن معينا فيقدم المكشوف لأنه يمكن معرفة رتبته وتقديمه على غيره والمجهول لا يدري ما رتبته وما وجه معارضته لغيره ومساواته له
العاشر أن يكون أحد الأصلين مغيرا للنفي الأصلي والآخر مقررا فالمغير أولى لأنه حكم شرعي وأصل سمعي والآخر نفي للحكم على الحقيقة
القسم الثاني ما لا يرجع إلى الأصل ونرجع إلى بقية الأقسام الأربعة نوردها من غير تفصيل لتعلق بعضها بالعض ويرجع ذلك إلى قريب من عشرين وجها الأول أن تثبت إحدى العلتين بنص قاطع وهذا قد أورد في الترجيح وهو ضعيف لأن الظن ينمحي في مقابلة القاطع فلا يبقى معه حتى يحتاج إلى ترجيح إذ لو بقي معه لتطرق شكنا إليه ويخرج عن

كونه معلوما وقد بينا أنه لا ترجيح لمعلوم على معلوم ولا لمظنون على مظنون
الثاني أن تعتضد إحدى العلتين بموافقة قول صحابي انتشر وسكت عنه الآخرون وهذا يصح على مذهب من لا يرى ذلك إجماعا أما من اعتقده إجماعا صار عنده قاطعا ويسقط الظن في مقابلته
الثالث أن تعتضد بقول صحابي وحده ولم ينتشر فقد قال قوم قوله حجة فإن لم يكن حجة فلا يبعد أن يقوى القياس به في ظن مجتهد إذ يقول إن كان ما قاله عن توقيف فهو أولى وإن كان قال ما قاله عن ظن وقياس فهو أولى بفهم مقاصد الشرع منا ويجوز أن لا يترجح عند مجتهد
الرابع أن يترجح بموافقته بخبر مرسل أو بخبر مردود عنده لكن قال به بعض العلماء فهذا مرجح بشرط أن لا يكون قاطعا ببطلان مذهب القائلين به بل يرى ذلك في محل الاجتهاد
الخامس أن تشهد الأصول بمثل حكم إحدى العلتين أعني لجنسها لا لعينها فإنه إن شهدت لعينها كان قاطعا رافعا للظنون إلى النيات وشهادة الكفارات لاستواء البدل والمبدل في النية فهذا أيضا يصلح للترجيح عند من غلب على ظنه ذلك
السادس أن يكون نفس وجود العلة ضروريا في أحدهما نظريا في الآخر فإن كانا معلومين أو كان أحدهما متيقنا والآخر مظنونا فإن من أوصاف العلة ما يتيقن ككون البر قوتا وكون الخمر مسكرا ومنه ما يظن ككون الكلب نجسا إذا عللنا منع بيعه بنجاسته وككون التراب مبطلا رائحة النجاسة إذا ألقي في الماء الكثير المتغير لا ساترا وكذلك علة مركبة من وصفين أحدهما ضروري والآخر نظري أو أحدهما معلوم والآخر مظنون إذا عارضها ما هو ضروري الوصفين أو معلوم الوصفين لأن ما علم مجموع وصفيه أولى مما تطرق الشك أو الظن إلى أحد وصفيه لأن الحكم لا محالة يتبع وجود نفس العلة فما قوى العلم أو الظن بوجود العلة قوى الظن بحكم العلة
السابع الترجيح بما يعود إلى التعلق بالعلم بالعلة فإذا كان إحدى العلتين حكما ككنونه حراما أو نجسا والأخرى حسيا ككونه قوتا ومسكرا زعموا أن رد الحكم إلى الحكم أولى حتى أن تعليل الحكم بالحرية والرق أولى من تعليله بالتمييز والعقل وتعليله بالتكليف أولى من تعليله بالإنسانية وهذا من الترجيحات الضعيفة
الثامن أن تكون إحدى العلتين سببا أو سببا للسبب كما لو جعل الزنا والسرقة علة للحد والقطع كان أولى من جعل أخذ مال الغير على سبيل الخفية علة ومن جعل إيلاج الفرج في الفرج علة حتى يتعدى إلى النباش واللائط لأن تلك العلة استندت إلى الاسم الذي ظهر الحكم به هذا إذا تساوت العلتان من كل وجه أما إذا دل الدليل على أن الحكم غير منوط بالسبب الظاهر بل بمعنى تضمنه فالدليل متبع فيه كما أن القاضي لا يقضي في حالة الغضب لا للغضب ولكن لكونه ممنوعا من استيفاء الفكر فيجري في الحاقن والجائع وهو أولى من التعليل بالغضب الذي ينسب الحكم إليه
التاسع الترجيح بشدة التأثير ولا نعني بشدة التأثير قيام الدليل على كونه علة لأن الدليل يقوم على المعنى الكائن في نفسه دون الدليل فليكن لكون العلة مؤثرة معنى ثم إذا تحقق ذلك في نفسه وفي علم الله تعالى ربما

نصب الله عليه دليلا معرفا أو أمارة معلنة وربما لم ينصب دليلا فإذا قوة الدليل المعرف بكونها علة ليس من شدة التأثير في شيء بل فسروا شدة التأثير بوجوه أولها انعكاس العلة مع اطرادها فهي أولى من التي لا تنعكس عند قوم إذ دوران الحكم مع عدمها ووجودها نفيا وإثباتا يدل على شدة تأثيرها كشدة الخمر إذ يزول الحكم بزوالها
الثاني أن تكون العلة مع كونها علة داعية إلى فعل ما هي علة تحريمه كالشدة فإنها محرمة وهي داعية إلى الشرب المحرم لما فيها من الأطراب والسرور فهي مع تأثيرها في الحكم أثرت في تحصيل محل الحكم وهو الشرب
الثالث أن تكون علة ذات وصف واحد وعارضها علة ذات أوصاف فقال قوم الوصف الواحد أولى لأن الحكم الثابت به المخالف للنفي الأصلي أكثر فكان تأثيره أكثر فروعا فهي أكثر تأثيرا وقال قوم ذات أوصاف أولى لأن الشريعة حنيفية فالباقي على النفي الأصلي أكثر ولا يبعد أن يغلب على ظن المجتهد شيء من ذلك
الرابع أن تكون إحداهما أكثر وقوعا فهي أكثر تأيرا فتكون أولى وهذا بعيد لأن تأثيرا العلة إنما يكون في محل وجودها أما حيث وجود لها كيف يطلب تأثيرها
الخامس علة يشهد لها أصلان أولى مما يشهد لها أصل واحد عند قوم وهذا يظهر إن كان طريق الاستنباط مختلفا وإن كان متساويا فهو ضعيف ولا يبعد أن يقوي ظن مجتهد به وتكون كثرة الأصول ككثرة الرواة للخبر مثاله أنا إذا تنازعنا في أن يد السوم لم توجب الضمان فقال الشافعي رحمه الله علته أنه أخذ لغرض نفسه من غير استحقاق وعداه إلى المستعير وقال الخصم بل علته أنه أخذ ليتملك فيشهد للشافعي في علته رحمه الله يد الغاصب ويد المستعير من الغاصب ولا يشهد لأبي حنيفة رحمه الله إلا يد الرهن فلا يبعد أن يغلب رجحان علة الشافعي عند مجتهد ويكون كل أصل كأنه شاهد آخر وكذلك الربا إذا علل بالطعم بشهد له الملح أيضا وإن علل بالقوت لم يشهد له فلا يبعد أن يكون ذلك من الترجيحات
العاشر من الترجيحات العلة المثبتة للعموم الذي منه الاستنباط فهي أولى من المخصصة قال الله تعالى أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ( النساء 43 ) فبرزت علة تقتضي إخراج المحرم والصغيرة من العموم وبرزت علة أخرى توافق العموم فالذي ينفي العموم لمجرده حجة فلا أقل من الترجيح به
وقال قوم المخصصة أولى لأنها عرفت ما لم يعرف العموم فأفادت والعلة المقررة للعموم لم تفد مزيدا فكانت أولى كالمتعدية فإنها أولى من القاصرة عند قوم وهذا ضعيف لأن المتعدية قررت الملفوظ وألحقت به المسكوت وأفادت والقاصرة لم تفد شيئا حتى قال قائلون هي فاسدة فتخيل قوم لذلك ترجيح المتعدية وليس ذلك بصحيح أيضا
وأما المخصصة فخالفت موجب العموم فكانت أضعف من التي لم تخالف
الحادي عشر ترجيح العلة بكثرة شبهها بأصلها على التي هي أقل شبها بأصلها وهذا ضعيف عند من لا يرى مجرد الشبه في الوصف الذي لا يتعلق الحكم به موجبا للحكم ومن رأى ذلك موجبا فغاينه أن تكون كعلة أخرى ولا يجب ترجيح علتين على علة واحدة لأن الشيء يترجح بقوته لا بانضمام مثله إليه كما لا يترجح الحكم الثابت بالكتاب والسنة والاجماع على الثابت بأحد هذه الأصول ويقرب من هذا قولهم رد الشيء إلى

جنسه أولى من رده إلى غير جنسه حتى يكون قياس الصلاة على الصلاة أولى من قياسها على الصوم والحج لأنه أقرب شبها به
وهذا ليس ببعيد لأن اختلاف الأصول يناسب اختلاف الأحكام فإذا كان جنس المظنون واحدا كان التفاوت أغلب على الظن وعن هذا جعل مجرد الشبه حجة عند قوم
الثاني عشر علة أوجبت حكما وزيادة مرجحة على ما لا يوجب الزيادة عند قوم لأن العلة تراد لحكمها فما كانت فائدتها أكثر فهي أولى حتى قالوا ما أوجب الجلد والتغريب أولى مما لا يوجب إلا الجلد وعلى مسافة قالوا علة تقتضي الوجوب أولى مما تقتضي الندب
وما تقتضي الندب أولى مما تقتضي الإباحة لأن في الواجب معنى الندب وزيادة
الثالث عشر ترجيح المتعدية على القاصرة وهو ضعيف عند من لا يفسد القاصرة لأن كثرة الفروع بل وجود أصل الفروع لا تبين قوة في ذات العلة بل ينقدح أن يقال القاصرة أوفق للنص فهي أولى
الرابع عشر ترجيح الناقلة عن حكم العقل على المقررة لأ الناقلة أثبتت حكما شرعيا والمقررة ما أثبتت شيئا وقال قوم بل المقررة أولى لأنها معتضدة بحكم العقل الذي يستقل بالنفي لولا هذه العلة ومثاله علة تقتضي الزكاة في الخضراوات وأخرى تنفي الزكاة وعلة توجب الربا في الأرز وأخرى تنفي فإن قيل فلم صحت العلة المبقية على حكم الأصل ولم تفد شيئا لأنها لو لم تكن علة لكنا نبقي الحكم أيضا قلنا إن كان الأمر كذلك فلا يصح كمن علل ليدل على أن هبوب الرياح لا يوجب الصوم والوضوء بل ينبغي أن يقتضي تفصيلا لا يقتضيه العقل أو تقتضي زيادة شرط أو إطلاقا لا يقتضيه العقل
كما لو نصب علة لجواز بيع غير القوت فإن تخصيص غير القوت عن القوت مما لا يقتضيه العقل
الخامس عشر تقديم العلة المثبتة على النافية قال به قوم وهو غير صحيح لأن النفي الذي لا يثبت إلا شرعا كالإثبات وإن كان نفيا أصليا يرجع إلى ما قدمناه من الناقلة والمقررة وقد قال الكرخي العلة الدارئة للحد أولى من الموجبة وهذا يصح بعد ثبوت قوله عليه السلام ادرؤوا الحدود بالشبهات ولا يجري في العبادات والكفارات وما لا يسقط بالشبهات بل إذا كان للوجوب وجه وللسقوط وجه وتعارض الوجهان كان المحل محل شبهة فيسقط لعموم الخبر لا لترجيح الدارئة على الموجبة
السادس عشر ترجيح علة هي بطريق الأولى على ما هي مثل كتعليل قبول شهادة التائب وقياسه على ما قبل إقامة حد القذف وتعليل وجوب كفارة العمد وقياسه على الخطأ وتعليل صحة النكاح عند فساد التسمية قياسا على ترك التسمية وإن كان ذلك بطريق الأولى فهو أقوى
السابع عشر رجح قوم العلة الملازمة على التي تفارق في بعض الأحوال وهو ضعيف إذ رب لازم لا يكون علة كحمرة الخمر بل كوجود الخمر والبر
الثامن عشر رجح قوم علة انتزعت من أصل سلم من المعارضة على علة انتزعت من أصل لم يسلم من المعارضة بمثلها
التاسع عشر رجح قوم علة توجب حكما أخف لأن الشريعة حنيفية سمحة ورجح آخرون بالضد لأن التكليف شاق ثقيل فهذه ترجيحات ضعيفة
العشرون ترجيح علة توجب في الفرع مثل حكمها على علة توجب في الفرع خلاف حكمها كتعليل الشافعي رحمه الله في مسألة جنين الأمة يوجب حكما مساويا للأصل في التسوية بين الذكر والأنثى وتعليل أبي

حنيفة رضي الله عنه يوجب الفرق بين الذكر والأنثى في الفرع إذ أوجب في الأنثى من الأمة عشر قيمتها وفي الذكر نصف
عشر قيمته والأصل هو جنين الحرة وفي الذكر والأنثى منه خمس من الإبل والعلة التي تقطع النظر عن الأنوثة والذكورة أولى لأنها أوفق للأصل فهذه وجوه الترجيحات وبعضها ضعيف يفيد الظن لبعض المجتهدين دون بعض ويمكن أن يكون وراء هذه الجملة ترجيحات من جنسها وفيما ذكرناه تنبيه عليها إن شاء الله تعالى
هذا تمام القول في القطب الرابع وبه وقع الفراغ من الأقطاب الأربعة التي عليها مدار أصول الفقه وبالله التوفيق

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5