كتاب : المستصفى في علم الأصول
المؤلف : محمد بن محمد الغزالي أبو حامد

منع الزيادة بطريق المنطوق بل بطريق المفهوم ولا يقولون به ولا نقول به هاهنا ثم رفع المفهوم كتخصيص العموم فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ فيجوز بخبر الواحد ثم أنما يستقيم هذا لو ثبت أنه ورد حكم المفهوم واستقر ثم ورد التغريب بعده وهذا لا سبيل إلى معرفته بل لعله ورد بيانا لإسقاط المفهوم متصلا به أو قريبا منه فإن قيل التفسيق ورد الشهادة يتعلق بالثمانين فإذا زيد عليها أزال تعلقه بها قلنا يتعلق التفسيق ورد الشهادة بالقذف لا بالحد ولو سلمنا لكان ذلك حكما تابعا للحد لا مقصودا وكان كحل النكاح بعد انقضاء أربعة أشهر وعشر من عدة الوفاة وتصرف الشرع في العدة بردها من حول إلى أربعة أشهر وعشر ليس تصرفا في إباحة النكاح بل في نفس العدة والنكاح تابع فإن قيل فلو أمر بالصلاة مطلقا ثم زيد شرط الطهارة فهل هو نسخ قلنا نعم لأنه كان حكم الأول أجزاء الصلاة بغير طهارة فنسخ أجزاؤها وأمر بصلاة مع طهارة فإن قيل فيلزمكم المصير إلى أجزاء طواف المحدث لأنه تعالى قال وليطوفوا بالبيت العتيق ( الحج 29 ) ولم يشرط الطهارة والشافعي رحمه الله منع الأجزاء لقوله صلى الله عليه و سلم الطواف بالبيت صلاة وهو خبر الواحد وأبو حنيفة رحمه الله قضى بأن هذا الخبر يؤثر في إيجاب الطهارة أما في إبطال الطواب وأجزائه وهو معلوم بالكتاب فلا قلنا لو استقر قصد العموم في الكتاب واقتضى أجزاء الطواف محدثا ومع الطهارة فاشتراط الطهارة رفع ونسخ ولا يجوز بخبر الواحد ولكن قوله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ( الحج 29 ) يجوز أن يكون أمرا بأصل الطواف ويكون بيان شروطه موكولا إلى الرسول عليه السلام فيكون قوله بيانا وتخصيصا للعموم لا نسخا فإنه نقصان من النص لا زيادة على النص لأن عموم النص يقتضي أجزاء الطواف بطهارة وغير طهارة فأخرج خبر الواحد أحد القسمين من لفظ القرآن فهو نقصان من النص لا زيادة عليه ويحتمل أن يكون رفعا إن استقر العموم قطعا وبيانا إن لم يستقر ولا معنى لدعوى استقراره بالتحكم وهذا نظير قوله تعالى فتحرير رقبة ( النساء 92 ) فإنه يعم المؤمنة وغير المؤمنة فيجوز تخصيص العموم إذ قد يراد بالآية ذكر أصل الكفارة ويكون أمرا بأصل الكفارة دون قيودها وشروطها فلو استقر العموم وحصل القطع بكون العموم مرادا لكان نسخه ورفعه بالقياس وخبر الواحد ممتنعا فإن قيل فما قولكم في تجويز المسح على الخفين هل هو نسخ لغسل الرجلين قلنا ليس نسخا لأجزائه ولا لوجوبه لكنه نسخ لتضييق وجوبه وتعينه وجاعل إياه أحد الواجبين ويجوز أن يثبت بخبر الواحد فإن قيل فالكتاب أوجب غسل الرجلين على التضييق قلنا قد بقي تضييقه في حق من لم يلبس خفا على الطهارة وأخرج من عمومه من لبس الخف على الطهارة وذلك في ثلاثة أيام أو يوم وليلة فإن قيل فقوله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم ( البقرة 282 ) الآية توجب إيقاف الحكم على شاهدين فإذا حكم بشاهد ويمين بخبر الواحد فقد رفع إيقاف الحكم فهو نسخ قلنا ليس كذلك فإن الآية لا تقتضي إلا كون الشاهدين حجة وجواز الحكم بقولهما أما امتناع الحكم بحجة أخرى فليس من الآية بل هو كالحكم بالإقرار وذكر حجة واحدة لا يمنع وجود أخرى وقولهم ظاهر

الآية أن لا حجة سواه فليس هذا ظاهر منطوقه ولا حجة عندهم بالمفهوم ولو كان فرفع المفهوم رفع بعض مقتضى اللفظ وكل ذلك لو سلم استقرار المفهوم وثباته وقد ورد خبر الشاهد واليمين بعده وكل ذلك غير مسلم

مسألة ( إثبات بدل غير المنسوخ )
ليس من شرط النسخ إثبات بدل غير المنسوخ وقال قوم يمتنع ذلك فنقول يمتنع ذلك عقلا أو سمعا ولا يمتنع عقلا جوازه إذ لو امتنع لكان الإمتناع لصورته أو لمخالفته المصلحة والحكمة ولا يمتنع لصورته إذ يقول قد أوجبت عليك القتال ونسخته عنك ورددتك إلى ما كان قبل من الحكم الأصلي ولا يمتنع للمصلحة فإن الشرع لا ينبني عليها وإن ابتنى فلا يبعد أن تكون المصلحة في رفعه من غير إثبات بدل وإن منعوا جوازه سمعا فهو تحكم بل نسخ النهي عن إدخار لحوم الأضاحي وتقدمة الصدقة أمام المناجاة ولا بدل لها وإن نسخت القبلة إلى بدل ووصية الأقربين إلى بدل وغير ذلك وحقيقة النسخ هو الرفع فقط أما قوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ( البقرة 106 ) أن تمسكوا به فالجواب من أوجه الأول أن هذا لا يمنع الجواز وإن منع الوقوع عند من يقول بصيغة العموم ومن لا يقول بها فلا يلزمه أصلا ومن قال بها فلا يلزمه من هذا أنه لا يجوز في جميع المواضع إلا ببدل بل يتطرق التخصيص إليه بدليل الأضاحي والصدقة أمام المناجاة ثم ظاهره أنه أراد أن نسخ آية بآية أخرى مثلها لا يتضمن الناسخ إلا رفع المنسوخ أو يتضمن مع ذلك غيره فكل ذلك محتمل
مسألة ( الأخف والأثقل في النسخ )
قال قوم يجوز النسخ بالأخف ولا يجوز بالأثقل فنقول امتناع النسخ بالأثقل عرفتموه عقلا أو شرعا ولا يستحيل عقلا لأنه لا يمتنع لذاته ولا للاستصلاح فإنا ننكره وإن قلنا به فلم يستحيل أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف إلى الأثقل كما كانت المصلحة في ابتداء التكليف ورفع الحكم الأصلي فإن قيل إن الله تعالى رؤوف رحيم بعباده ولا يليق به التشديد قلنا فينبغي أن لا يليق به ابتداء التكليف ولا تسليط المرض والفقر وأنواع العذاب على الخلق فإن قالوا إنه يمتنع سمعا لقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ( البقرة 185 ) ولقوله تعالى يريد الله أن يخفف عنكم ( النساء 28 ) قلنا فينبغي أن يتركهم وإباحة الفعل ففيه اليسر ثم ينبغي أن لا ينسخ بالمثل لأنه لا يسر فيه إذ اليسر في رفعه إلى غير بدل أو بالأخف وهذه الآيات وردت في صور خاصة أريد بها التخفيف وليس فيه منع إرادة التثقيل والتشديد فإن قيل فقد قال ما ننسخ من آية أو ننسها ( البقرة 106 ) الآية وهذا خير عام والخير ما هو خير لنا وإلا فالقرآن خير كله والخير لنا ما هو أخف علينا قلنا لا بل الخير ما هو أجزل ثوابا وأصلح لنا في المآل وإن كان أثقل في الحال فإن قيل لا يمتنع ذلك عقلا بل سمعا لأنه لم يوجد في الشرع نسخ بالأثقل قلنا ليس كذلك إذ أمر الصحابة أولا بترك القتال والأعراض ثم بنصب القتال مع التشديد بثبات الواحد للعشرة وكذلك نسخ التخيير بين الصوم والفدية بالإطعام بتعيين الصيام وهو تضييق وحرم الخمر ونكاح المتعة والحمر الأهلية بعد إطلاقها ونسخ جواز تأخير الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال

ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكانت الصلاة ركعتين عند قوم فنسخت بأربع في الحضر

مسألة ( هل هناك نسخ في حق من لم يبلغه الخبر أم لا )
اختلفوا في النسخ في حق من لم يبلغه الخبر فقال قوم النسخ حصل في حقه وإن كان جاهلا به وقال قوم ما لم يبلغه لا يكون نسخا في حقه والمختار أن للنسخ حقيقة وهو ارتفاع الحكم السابق ونتيجة وهو وجوب القضاء وانتفاء الأجزاء بالعمل السابق أما حقيقته فلا يثبت في حق من لم يبلغه وهو رفع الحكم لأن من أمر باستقبال بيت المقدس فإذا نزل النسخ بمكة لم يسقط الأمر عمن هو باليمن في الحال بل هو مأمور بالتمسك بالأمر السابق ولو ترك لعصى وإن بان أنه كان منسوخا ولا يلزمه استقبال الكعبة بل لو استقبلها لعصى وهذا لا يتجه فيه خلاف وأما لزوم القضاء للصلاة إذا عرف النسخ فيعرف ذلك بدليل نص أو قياس وربما يجب القضاء حيث لا يجب الإداء كما في الحائض لو صامت عصت ويجب عليها القضاء فكذلك يجوز أن يقال هذا لو استقبل الكعبة عصى ويلزمه استقبالها في القضاء وكما نقول في النائم والمغمى عليه إذا تيقظ وأفاق يلزمهما قضاء ما لم يكن واجبا لأن من لا يفهم لا يخاطب فإن قيل إذا علم النسخ ترك تلك القبلة بالنسخ أو بعلمه بالنسخ والعلم لا تأثير له فدل أن الحكم انقطع بنزول الناسخ لكنه جاهل به وهو مخطىء فيه لكنه معذور قلنا الناسخ هو الرافع لكن العلم شرط ويحال عند وجود الشرط على الناسخ ولكن لا نسخ قبل وجود الشرط لأن الناسخ خطاب ولا يصير خطابا في حق من لم يبلغه وقولهم أنه مخطىء محال لأن اسم الخطأ يطلق على من طلب شيئا فلم يصب أو على من وجب عليه الطلب فقصر ولا يتحقق شيء منه في محل النزاع
الباب الثاني في أركان النسخ وشروطه
ويشتمل عى تمهيد لمجامع الأركان والشروط وعلى مسائل تتشعب من أحكام الناسخ والمنسوخ
أما التمهيد فاعلم أن أركان النسخ أربعة النسخ والناسخ والمنسوخ والمنسوخ عنه فإذا كان النسخ حقيقته رفع الحكم فالناسخ هو الله تعالى فإنه الرافع للحكم والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه هو المتعبد المكلف والنسخ قوله الدال على رفع الحكم الثابت وقد يسمى الدليل ناسخا على سبيل المجاز فيقال هذه الآية ناسخة لتلك وقد يسمى الحكم ناسخا مجازا فيقال صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء والحقيقة هو الأول لأن النسخ هو الرفع والله تعالى هو الرافع بنصب الدليل على الارتفاع وبقوله الدال عليه وأما مجامع شروطه فالشروط أربعة الأول أن يكون المنسوخ حكما شرعيا لا عقليا أصليا كالبراءة الأصلية التي ارتفعت بإيجاب العبادات
الثاني أن يكون النسخ بخطاب فارتفاع الحكم بموت المكلف ليس نسخا إذ ليس المزيل خطابا رافعا لحكم خطاب سابق ولكنه قد قيل أولا الحكم عليك ما دمت حيا فوضع الحكم قاصر على الحياة فلا يحتاج إلى الرفع
الثالث أن لا يكون الخطاب المرفوع حكمه مقيدا بوقت

يقتضي دخوله زوال الحكم كقوله تعالى ثم أتموا الصيام إلى الليل ( البقرة 187 ) الرابع أن يكون الخطاب الناسخ متراخيا لا كقوله تعالى ولا تقربوهن حتى يطهرن ( البقرة 222 ) وقوله تعالى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ( التوبة 29 )
وليس يشترط فيه تسعة أمور الأول أن يكون رافعا للمثل بالمثل بل أن يكون رافعا فقط
الثاني أن لا يشترط ورود النسخ بعد دخول وقت المنسوخ بل يجوز قبل دخول وقته
الثالث أن لا يتشرط أن يكون المنسوخ مما يدخله الاستثناء والتخصيص بل يجوز ورود النسخ على الأمر بفعل واحد في وقت واحد
الرابع أن لا يشترط أن يكون نسخ القرآن بالقرآن والسنة بالسنة فلا تشترط الجنسية بل يكفي أن يكون مما يصح النسخ به
الخامس أن لا يشترط أن يكونا نصين قاطعين إذ يجوز نسخ خبر الواحد بخبر الواحد وبالمتواتر وإن كان لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد
السادس لا يشترط أن يكون الناسخ منقولا بمثل لفظ منسوخ بل أن يكون ثابتا بأي طريق كان فإن التوجه إلى بيت المقدس لم ينقل إلينا بلفظ القرآن والسنة وناسخه نص صريح في القرآن وكذلك لا يمتنع نسخ الحكم المنطوق به باجتهاد النبي صلى الله عليه و سلم وقياسه وإن لم يكن ثابتا بلفظ ذي صيغة وصورة يجب نقلها
السابع لا يشترط أن يكون الناسخ مقابلا للمنسوخ حتى لا ينسخ الأمر إلا بالنهي ولا النهي إلا بالأمر بل يجوز أن ينسخ كلاهما بالإباحة وأن ينسخ الواجب المضيق بالموسع وإنما يشترط أن يكون الناسخ رافعا حكما من المنسوخ كيف كان
الثامن لا يشترط كونهما ثابتين بالنص بل لو كان بلحن القول وفحواه وظاهره وكيف كان بدليل أن النبي صلى الله عليه و سلم بين أن آية وصية الأقارب نسخت بقوله إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث مع أن الجمع بين الوصية والميراث ممكن فليسا متنافيين تنافيا قاطعا
التاسع لا يشترط نسخ الحكم ببدل أو بما هو أخف بل يجوز بالمثل والأثقل وبغير بدل كما سبق
ولنذر الآن مسائل تتشعب عن النظر في ركني المنسوخ والناسخ وهي مسألتان في المنسوخ وأربع مسائل في المنسوخ به

مسألة ( هل الحكم الشرعي قابل للنسخ أم لا )
ما من حكم شرعي إلا وهو قابل للنسخ خلافا للمعتزلة فإنهم قالوا من الأفعال مالها صفات نفسية تقتضي حسنها وقبحها فلا يمكن نسخها مثل معرفة الله تعالى والعدل وشكر المنعم فلا يجوز نسخ وجوبه ومثل الكفر والظلم والكذب فلا يجوز نسخ تحريمه وبنوا هذا على تحسين العقل وتقبيحه وعلى وجوب الأصلح على الله تعالى وحجروا بسببه على الله تعالى في الأمر والنهي وربما بنوا هذا على صحة إسلام الصبي وأن وجوبه بالعقل وإن استثناء الصبي عنه غير ممكن وهذه أصول أبطلناها وبينا أنه لا يجب أصل التكليف على الله تعالى كان فيه صلاح العباد أو لم يكن نعم بعد أن كلفهم لا يمكن أن ينسخ جميع التكاليف إذ لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ وهو الله عز و جل ويجب على المكلف معرفة النسخ والناسخ والدليل المنصوب عليه فيبقى هذا التكليف بالضرورة ونسلم أيضا أنه لا يجوز أن يكلفهم أن لا يعرفوه وأن يحرم عليهم معرفته لأن قوله أكلفك أن لا تعرفني

يتضمن المعرفة أي إعرفني لأني كلفتك أن لا تعرفني وذلك محال فيمكتنع التكليف فيه عند من يمنع تكليف المحال وكذلك لا يجوز أن يكلفه معرفة شيء من الحوادث على خلاف ما هو به لأنه محال لا يصح فعله ولا تركه

مسألة ( نسخ الحكم أو التلاوة أو نسخهما معا )
الآية إذا تضمنت حكما يجوز نسخ تلاوتها دون حكمها ونسخ حكمها دون تلاوتها ونسخهما جميعا وظن قوم استحالة ذلك فنقول هو جائز عقلا وواقع شرعا أما جوازه عقلا فإن التلاوة وكتبتها في القرآن وانعقاد الصلاة بها كل ذلك حكمها كما أن التحريم والتحليل المفهوم من لفظها حكمها وكل حكم فهو قابل للنسخ وهذا حكم فهو إذن قابل للنسخ وقد قال قوم نسخ التلاوة أصلا ممتنع لأنه لو كان المراد منها الحكم لذكر على لسان رسول الله صلى الله عليه و سلم وما أنزله الله تعالى عليه إلا ليتلى ويثاب عليه فكيف يرفع قلنا وأي استحالة في أن يكون المقصود مجرد الحكم دون التلاوة لكن أنزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم بلفظ معين فإن قيل فإن جاز نسخها فلينسخ الحكم معها لأن الحكم تبع للتلاوة فكيف يبقى الفرع مع نسخ الأصل قلنا لا بل التلاوة حكم وانعقاد الصلاة بها حكم آخر فليس بأصل وإنما الأصل دلالتها وليس في نسخ تلاوتها والحكم بأن الصلاة لا تنعقد بها نسخ لدلالتها فكم من دليل لا يتلى ولا تنعقد به صلاة وهذه الآية دليل لنزولها وورودها لا لكونها متلوة في القرآن والنسخ لا يرفع ورودها ونزولها ولا يجعلها كأنها غير واردة بل يلحقها بالوارد الذي لا يتلى كيف ويجوز أن ينعدم الدليل ويبقى المدلول فإن الدليل علامة لا علة فإذا دل فلا ضرر في انعدامه كيف والموجب للحكم كلام الله تعالى القديم ولا ينعدم ولا يتصور رفعه ونسخه فإذا قلنا الآية منسوخة أردنا به انقطاع تعلقها عن العبد وارتفاع مدلولها وحكمها لا ارتفاع ذاتها فإن قيل نسخ الحكم مع بقاء التلاوة متناقض لأنه رفع للمدلول مع بقاء الدليل قلنا إنما يكون دليلا عند انفكاكه عما يرفع حكمه فإذا جاء خطاب ناسخ لحكمه زال شرط دلالته ثم الذي يدل على وقوعه سمعا قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ( البقرة 184 ) الآية وقد بقيت تلاوتها ونسخ حكمها بتعيين الصوم والوصية للوالدين ووقربين متلوة في القرآن وحكمها منسوخ بقوله صلى الله عليه و سلم لا وصية لوارث ونسخ تقديم الصدقة أمام المناجاة والتلاوة باقية ونسخ التربص حولا عن المتوفى عنها زوجها والحبس والأذى عن اللاتي يأتين الفاحشة بالجلد والرجم مع بقاء التلاوة وأما نسخ التلاوة فقد تظاهرت الأخبار بنسخ تلاوة آية الرجم مع بقاء حكمها وهي قوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم واشتهر عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت أنزلت عشر رضعات من محرمات فنسخن بخمس وليس ذلك في الكتاب
مسألة ( أنواع النسخ )
يجوز نسخ القرآن بالسنة والسنة بالقرآن لأن الكل من عند الله عز و جل فما المانع منه ولم يعتبر التجانس مع أن العقل لا يحيله كيف وقد دل السمع على وقوعه إذ التوجه إلى بيت المقدس ليس في القرآن وهو في السنة وناسخه في القرآن وكذلك قوله تعالى فالآن باشروهن ( البقرة 370 ) نسخ لتحريم المباشرة وليس التحريم في القرآن ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان وكان عاشوراء ثابتا بالسنة وصلاة الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت في السنة من جواز تأخيرها إلى انجلاء القتال حتى قال عليه السلام يوم الخندق وقد أخر الصلاة حشا الله قبورهم نارا لحبسهم له عن الصلاة وكذلك قوله تعالى فلا

ترجعوهن إلى الكفار ( الممتحنة 10 ) نسخ لما قرره عليه السلام من العهد والصلح وأما نسخ القرآن بالسنة فنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله صلى الله عليه و سلم ألا لا وصية لوارث لأن آية الميراث لا تمنع الوصية للوالدين والأقربين إذ الجمع ممكن وكذلك قال صلى الله عليه و سلم قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم فهو ناسخ لإمساكهن في البيوت وهذا فيه نظر لأنه صلى الله عليه و سلم بين أن آية الميراث نسخت آية الوصية ولم ينسخها هو بنفسه صلى الله عليه و سلم وبين أن الله تعالى جعل لهن سبيلا وكان قد وعد به فقال أو يجعل الله لهن سبيلا ( النساء 15 ) فإن قيل قال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ السنة بالقرآن كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو أجل من أن لا يعرف هذه الوجوه في النسخ فكأنه يقول إنما تلتغي السنة بالسنة إذ يرفع النبي صلى الله عليه و سلم سنته بسنته ويكون هو مبينا لكلام نفسه وللقرآن ولا يكون القرآن مبينا للسنة وحيث لا يصادف ذلك فلأنه لم ينقل وإلا فلم يقع النسخ إلا كذلك قلنا هذا إن كان في جوازه عقل فلا يخفى أنه يفهم من القرآن وجوب التحول إلى الكعبة وإن كان التوجه إلى بيت المقدس ثابتا بالسنة وكذلك عكسه ممكن وإن كان يقول لم يقع هذا فقد نقلنا وقوعه ولا حاجة إلى تقدير سنة خافية مندرسة إذ لا ضرورة في هذا التقدير والحكم بأن ذلك لم يقع أصلا تحكم محض وإن قال الأكثر كان ذلك فربما لا ينازع فيه احتجوا بقوله تعالى وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال لذين لا يرجون لقآءنا ئت بقرآن غير هذآ أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ( يونس 15 ) فدل أنه لا ينسخ القرآن بالسنة قلنا لا خلاف في أنه لا ينسخ من تلقاء نفسه بل بوحي يوحى إليه لكن لا يكون بنظم القرآن وإن جوزنا النسخ في الاجتهاد فالإذن في الاجتهاد يكون من الله عز و جل والحقيقة أن الناسخ هو الله عز و جل على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم والمقصود أنه ليس من شرطه أن ينسخ حكم القرآن بقرآن بل على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم بوحي ليس بقرآن وكلام الله تعالى واحد هو الناسخ باعتبار والمنسوخ باعتبار وليس له كلامان أحدهما قرآن والآخر ليس بقرآن وإنما الاختلاف في العبارات فربما دل على كلامه بلفظ منظوم يأمرنا بتلاوته فيسمى قرآنا وربما دل بغير لفظ متلوفيسمى سنة والكل مسموع من الرسول عليه السلام والناسخ هو الله تعالى في كل حال على أنهم طالبوه بقرآن مثل هذا القرآن فقال لا أقدر عليه من تلقاء نفسي وما طالبوه بحكم غير ذلك فأين هذا من نسخ القرآن بالسنة وامتناعه احتجوا بقوله تعالى ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ( يونس 15 ) وبين أن الآية لا تنسخ إلا بمثلها أو بخير منها فالسنة لا تكون مثلها ثم تمدح وقال ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ( البقرة 106 ) بين أنه لا يقدر عليه غيره قلنا قد حققنا أن الناسخ هو

الله تعالى وأنه المظهر له على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم المفهم إيانا بواسطته نسخ كتابه ولا يقدر عليه غيره ثم لو نسخ الله تعالى آية على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم ثم أتى بآية أخرى مثلها كان قد حقق وعده فلم يشترط أن تكون الآية الأخرى هي الناسخة للأولى ثم نقول ليس المراد الإتيان بقرآن آخر خير منها لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرا من البعض كيفما قدر قديما أو مخلوقا بل معناه أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل لكونه أخف منه أو لكونه أجزل ثوابا

مسألة ( لا ينسخ الإجماع )
الإجماع لا ينسخ به إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي وما نسخ فالإجماع بالإجماع يدل على ناسخ قد سبق في زمان نزول الوحي من كتاب أو سنة أما السنة فينسخ المتواتر منها بالمتواتر والآحاد بالآحاد أما نسخ المتواتر منها بالآحاد فاختلفوا في وقوعه سمعا وجوازه عقلا فقال قوم وقع ذلك سمعا فإن أهل مسجد القباء تحولوا إلى الكعبة بقول واحد أخبرهم وكان ثابتا بطريق قاطع فقلبوا نسخه عن الواحد والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد به ووقوعه سمعا في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم بدليل قصة قباء وبدليل أنه كان ينفذ آحاد الولاة إلى الأطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا ولكن ذلك ممتنع بعد وفاته بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف والعمل بخبر الواحد تلقى من الصحابة وذلك فيما لا يرفع قاطعا بل ذهب الخوارج إلى منع نسخ القرآن بالخبر المتواتر حتى أنهم قالوا رجم ماعز وإن كان متواترا لا يصلح لنسخ القرآن وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وإن تواترت وليس ذلك بمحال لأنه يصح أن يقال تعبدناكم بالنسخ بخبر الواحد في زمان نزول الوحي وحرمنا ذلك بعده فإن قيل كيف يجوز ذلك عقلا وهو رفع القاطع بالظن وأما حديث قباء فلعله انضم إليه من القرائن ما أورث العلم قلنا تقدير قرائن معرفة توجب إبطال أخبار الآحاد وحمل عمل الصحابة على المعرفة بالقرائن ولا سبيل إلى وضع ما لم ينقل وأما قولهم إنه رفع للقاطع بالظن فباطل إذ لو كان كذلك لقطعنا بكذب الناقل ولسنا نقطع به بل نجوز صدقه وإنما هو مقطوع به بشرط أن لا يرد خبر نسخه كما أن البراءة الأصلية مقطوع بها وترتفع بخبر الواحد لأنها تفيد القطع بشرط عدم خبر الواحد فإن قيل بم تنكرون على من يقطع بكونه كاذبا لأن الرسول عليه السلام أشاع الحكم فلو ثبت نسخه للزمه الإشاعة قلنا ولم يستحيل أن يشيع الحكم ويكل النسخ إلى الآحاد كما يشيع العموم وبكل التخصيص إلى المخصص
مسألة ( لا يصح نسخ المتواتر بالقياس )
لا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد على اختلاف مراتبه جليا كان أو خفيا هذا ما قطع به الجمهور إلا شذوذا منهم قالوا ما جاز التخصيص به جاز النسخ به وهو منقوض بدليل العقل وبالإجماع وبخبر الواحد فالتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ ثم كيف يتساويان والتخصيص بيان والنسخ رفع والبيان تقرير والرفع إبطال وقال بعض أصحاب الشافعي يجوز النسخ بالقياس الجلي ونحن نقول لفظ الجلي مبهم فإن أرادوا المقطوع به فهو صحيح وأما المظنون فلا وما

يتوهم القطع به على ثلاث مراتب الأولى ما يجري مجرى النص وأوضح منه كقوله تعالى فلا تقل لهما أف ( الإسراء 23 ) فإن تحريم الضرب مدرك منه قطعا فلو كان ورد نص بإباحة الضرب لكان هذا ناسخا لأنه أظهر من المنطوق به وفي درجته قوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( الزلزلة 7 ) الآية في أن ما هو فوق الذرة كذلك وكذلك قوله تعالى وورثه أبواه فلأمه الثلث ( النساء 11 ) في أن للأب الثلثين
الرتبة الثانية لو ورد نص بأن العتق لا يسري في الأمة ثم ورد قوله صلى الله عليه و سلم من أعتق شركا له في عبد قوم عليه الباقي لقضينا بسراية عتق الأمة قياسا على العبد لأنه مقطوع به إذ علم قطعا قصد الشارع إلى المملوك لكونه مملوكا
الرتبة الثالثة أن يرد النص مثلا بإباحة النبيذ ثم يقول الشارع حرمت الخمر لشدتها فينسخ إباحة النبيد بقياسه على الخمر إن تعبدنا بالقياس وقال قوم وإن لم نتعبد بالقياس نسخنا أيضا إذ لا فرق بين قوله حرمت كل منتبذ وبين قوله حرمت الخمر لشدتها ولذلك أقر النظام بالعلة المنصوصة وإن كان منكرا لأصل القياس ولنبين أنه إن لم نتعبد بالقياس فقوله حرمت الخمر عليكم لشدتها ليس قاطعا في تحريم النبيذ بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة كما تكون العلة في الرجم زنا المحصن خاصة والمقصود أن القاطع لا يرفع بالظن بل بالقاطع فإن قيل استحالة رفعه بالمظنون عقلي أو سمعي قلنا الصحيح أنه سمعي ولا يستحيل عقلا أن يقال تعبدناكم بنسخ النص بالقياس على نص آخر نعم يستحيل أن نتعبد بنسخ النص بقياس مستنبط من عين ذلك النص لأن ذلك يؤدي إلى أن يصير هو مناقضا لنفسه فيكون واجب العمل به وساقط العمل به فإن قيل فما الدليل على امتناعه سمعا قلنا يدل عليه الإجماع على بطلان كل قياس مخالف للنص وقول معاذ رضي الله عنه اجتهد رأيي بعد فقد النص وتزكية رسول الله صلى الله عليه و سلم له وإجماع الصحابة على ترك القياس بأخبار الآحاد فكيف بالنص القاطع المتواتر واشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد لولا هذا لقضينا برأينا ولأن دلالة النص قاطع في المنصوص ودلالة الأصل على الفرع مظنون فكيف يترك الأقوى بالأضعف وهذا مستند الصحابة في إجماعهم على ترك القياس بالنص فإن قيل إذا تناقض قاطعان وأشكل المتأخر فهل يثبت تأخر أحدهما بقول الواحد حتى يكون هو الناسخ قلنا يحتمل أن يقال ذلك لأنه إذا ثبت الإحصان بقول اثنين مع أن الزنا لا يثبت إلا بأربعة دل على أنه لا يحتاط للشرط بما يحتاط به للمشروط ويحتمل أن يقال النسخ إذا كان بالتأخير والمنسوخ قاطع فلا يكفي فيه قول الواحد فهذا في محل الاجتهاد والأظهر قبوله لأن أحد النصين منسوخ قطعا وإنما هذا مطلوب قبوله للتعيين

مسألة ( نسخ الحكم بقول الصحابي )
لا ينسخ حكم بقول الصحابي نسخ حكم كذا ما لم يقل سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول نسخت حكم كذا فإذا قال ذلك نظر في الحكم إن كان ثابتا بخبر الواحد صار منسوخا بقوله وإن كان قاطعا فلا أما قوله نسخ حكم كذا فلا يقبل قطعا فلعله ظن ما ليس ينسخ نسخا فقد ظن أن الزيادة على النص نسخ وكذلك في

مسائل وقال قوم إن ذكر لنا ما هو الناسخ عنده لم نقلده لكن نظرنا فيه وإن أطلق فنحمله على أنه لم يطلق إلا عن معرفة قطعية وهذا فاسد بل الصحيح أنه إن ذكر الناسخ تأملنا فيه وقضينا برأنيا وإن لم يذكر لم نقلده وجوزنا أن يقول ذلك عن اجتهاد ينفرد به هذا ما ذكره القاضي رحمه الله والأصح عندنا أن نقبل كقول الصحابي أمر بكذا ونهى عن كذا فإن ذلك يقبل كما سنذكره في كتاب الأخبار ولا فرق بين اللفظين فإن قيل قالت عائشة رضي الله عنها ما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا وقد أحلت له النساء اللاتي حظرن عليه بقوله تعالى إنا أحللنا لك أزواجك ( الأحزاب 50 ) فقبل ذلك منها قلنا ليس ذلك مرضيا عندنا ومن قبل فإنما قبل ذلك للدليل الناسخ ورآه صالحا للنسخ ولم يقلد مذهبها
خاتمة الكتاب فيما يعرف به تاريخ الناسخ اعلم أنه إذا تناقض نصان فالناسخ هوالمتأخر ولا يعرف تأخره بدليل العقل ولا بقياس الشرع بل بمجرد النقل وذلك بطرق الأول أن يكون في اللفظ ما يدل عليه كقوله عليه السلام كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فالآن ادخروها وكقوله كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها
الثاني أن تجمع الأمة في حكم على أنه المنسوخ وأن ناسخه الآخر
الثالث أن يذكر الراوي التاريخ مثل أن يقول سمعت عام الخندق أو عام الفتح وكان المنسوخ معلوما قبله ولا فرق بين أن يروي الناسخ والمنسوخ راو واحد أو راويان ولا يثبت التاريخ بطرق الأول أن يقول الصحابي كان الحكم علينا كذا ثم نسخ لأنه ربما قاله عن اجتهاد
الثاني أن يكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر لأن السور والآيات ليس إثباتها على ترتيب النزول بل ربما قدم المتأخر
الثالث أن يكون راويه من أحداث الصحابة فقد ينقل الصبي عمن تقدمت صحبته وقد ينقل الأكابر عن الأصاغر وبعكسه
الرابع أن يكون الراوي أسلم عام الفتح ولم يقل إني سمعت عام الفتح إذ لعله سمع في حاله كفره ثم روى بعد الإسلام أو سمع ممن سبق بالإسلام
الخامس أن يكون الراوي قد انقطعت صحبته فربما يظن أن حديثه مقدم على حديث من بقيت صحبته وليس من ضرورة من تأخرت صحبته أن يكون حديثه متأخرا عن وقت انقطاع صحبة غيره
السادس أن يكون أحد الخبرين على وفق قضية العقل والبراءة الأصلية فربما يظن تقدمه ولا يلزم ذلك كقوله صلى الله عليه و سلم لا وضوء مما مسته النار ولا يلزم أن يكون متقدما على إيجاب الوضوء مما مست النار إذ يحتمل أنه أوجب ثم نسخ والله أعلم
وقد فرغنا من الأصل الأول من الأصول الأربعة وهو الكتاب ويتلوه القول في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم
الأصل الثاني من أصول الأدلة سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وقول رسول الله صلى الله عليه و سلم حجة لدلالة المعجزة على صدقه ولأمر الله تعالى إيانا باتباعه ولأنه وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( النجم 3 ) لكن بعض الوحي يتلى فيسمى كتابا وبعضه لا يتلى وهو السنة
وقول لسول الله صلى الله عليه و سلم حجة على من

سمعه شفاعا فأما نحن فلا يبلغنا قوله إلا على لسان المخبرين إما على سبيل التواتر وإما بطريق الآحاد فلذلك اشتمل الكلام في هذا الأصل على مقدمة وقسمين قسم في أخبار التواتر وقسم في أخبار الآحاد ويشتمل كل قسم على أبواب أما المقدمة ففي بيان ألفاظ الصحابة رضي الله عنهم في نقل الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهوعلى خمس مراتب الأولى وهي أقواها أن يقول الصحابي سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول كذا أو أخبرني أو حدثني أو شافهني فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال وهو الأصل في الرواية والتبليغ قال صلى الله عليه و سلم نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث
الثانية أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا أخبر أو أخبر أو حدث فهذا ظاهره النقل إذا صدر من الصحابي وليس نصا صريحا إذ قد يقول الواحد منا قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه فلا يستحيل أن يقول الصحابي ذلك اعتمادا على ما بلغه تواترا أو بلغه على لسان من يثق به ودليل الاحتمال ما روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال من أصبح جنبا فلا صوم له فلما استكشف قال حدثني به الفضل بن عباس فأرسل الخبر أولا ولم يصرح وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله صلى الله عليه و سلم إنما الربا في النسيئة فلما روجع فيه أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد إلا أن هذا وإن كان محتملا فهو بعيد بل الظاهر أن الصحابي إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فما يقوله إلا وقد سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم بخلاف من لم يعاصر إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن قرينة حاله تعرف أنه لم يسمع ولا يوهم إطلاقه السماع بخلاف الصحابي فإنه إذا قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أوهم السماع فلا يقدم عليه إلا عن سماع هذا هو الظاهر وجميع الأخبار إنما نقلت إلينا كذلك إذ يقال قال أبو بكر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمر قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا نفهم من ذلك إلا السماع
الثالثة أن يقول الصحابي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بكذا أو نهى عن كذا فهذا يتطرق إليه احتمالان أحدهما في سماعه كما في قوله قال
والثاني في الأمر إذ ربما يرى ما ليس بأمر أمرا فقد اختلف الناس في أن قوله إفعل هو للأمر فلأجل هذا قال بعض أهل الظاهر لا حجة فيه ما لم ينقل اللفظ والصحيح أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم تحقيقا أنه أمر بذلك وأن يسمعه يقول أمرتكم بكذا أو يقول إفعلوا وينضم إليه من القرائن ما يعرفه كونه أمرا ويدرك ضرورة قصده إلى الأمر أما احتمال بنائه الأمر على الغلط والوهم فلا نطرقه إلى الصحابة بغير ضرورة بل يحمل ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة ما أمكن ولهذا لو قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم كذا ولكن شرط شرطا ووقت وقتا فيلزمنا اتباعه ولا يجوز أن نقول لعله غلط في فهم الشرط والتأقيت ورأى ما ليس بشرط شرطا ولهذا يجب أن يقبل قول الصحابي نسخ حكم كذا وإلا فلا فرق بين قوله نسخ وقوله أمر ولذلك قال علي رضي الله عنه وأطلق أمرت أن أقاتل الناكثين والمارقين

والقاسطين ولا يظن بمثله أن يقول أمرت إلا عن مستند يقتضي الأمر ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه حتى ظن قوم أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة والصحيح أن من يقول بصيغة العموم أيضا ينبغي أن يتوقف في هذا إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرا للأمة أو لطائفة أو لشخص بعينه وكل ذلك يتيح له أن يقول أمر فيتوقف فيه على الدليل لكن يدل عليه أن أمره للواحد أمر للجماعة إلا إذا كان لوصف يخصه من سفر أو حضر ولو كان كذلك لصرح به الصحابي كقوله أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن نعم لو قال أمرنا بكذا وعلم من عادة الصحابي أنه لا يطلقه إلا في أمر الأمة حمل عليه وإلا احتمل أن يكون أمرا للأمة أو له أو لطائفة
الرابعة أن يقول أمرنا بكذا ونهينا عن كذا فيتطرق إليه ما سبق من الاحتمالات الثلاثة واحتمال رابع وهو الآمر فإنه لا يدري أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم أو غيره من الأئمة والعلماء فقال قوم لا حجة فيه فإنه محتمل وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم لأنه يريد به إثبات شرع وإقامة حجة فلا يحمل على قول من لا حجة في قوله وفي معناه قوله من السنة كذا والسنة جارية بكذا فالظاهر أنه لا يريد إلا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وما يجب اتباعه دون سنة غيره ممن لا تجب طاعته ولا فرق بين أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم أو بعد وفاته أما التابعي إذا قال أمرنا احتمل أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر الأمة بأجمعها والحجة حاصلة به ويحتمل أمر الصحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب طاعته ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قول الصحابي
الخامسة أن يقول كانوا يفعلون كذا فإن أضاف ذلك إلى زمن الرسول عليه السلام فهو دليل على جواز الفعل لأن ذكره في معرض الحجة يدل على أنه أراد ما علمه رسول الله صلى الله عليه و سلم وسكت عليه دون ما لم يبلغه وذلك يدل على الجواز وذلك مثل قول ابن عمر رضي الله عنه كنا نفاضل على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان فيبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا ينكره وقال كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعده أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج الحديث وقالأبو سعيد كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من بر في زكاة الفطر وقالت عائشة رضي الله عنها كانوا لا يقطعون في الشيء التافه وأما قول التابعي كانوا يفعلون لا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض فلا حجة فيه إلا أن يصرح بنقله عن أهل الإجماع فيكون نقلا للإجماع وفي ثبوته بخبر الواحد كلام سيأتي فقد ظهر من هذه المقدمة ما هو خبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وما ليس خبرا عنه والآن فلا بد من بيان طرق انتهاء الخبر إلينا وذلك إما بنقل التواتر أو الآحاد عمل
القسم الأول من هذا الأصل الكلام في التواتر وفيه أبواب الباب الأول في إثبات أن التواتر يفيد العلم ولنقدم عليها حد الخبر وحده أنه

القول الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب أو هو القول الذي يدخله الصدق أو الكذب وهو أولى من قولهم يدخله الصدق والكذب إذ الخبر الواحد لا يدخله كلاهما بل كلام الله تعالى لا يدخله الكذب أصلا والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلا والخبر قسم من أقسام الكلام القائم بالنفس وأما العبارة فهي الأصوات المقطعة التي صيغتها مثل قول القائل زيد قائم وضارب وهذا ليس خبرا لذاته بل يصير خبرا بقصد القاصد إلى التعبير به عما في النفس ولهذا إذا صدر من نائم أو مغلوب لم يكن خبرا وأما كلام النفس فهو خبر لذاته وجنسه إذا وجد لا يتغير بقصد القاصد أما إثبات كون التواتر مفيدا للعلم فهو ظاهر خلافا للسمنية حيث حصروا العلوم في الحواس وأنكروا هذا وحصرهم باطل فإنا بالضرورة نعلم كون الألف أكثر من الواحد واستحالة كون الشيء الواحد قديما محدثا وأمورا أخر ذكرناها في مدارك اليقين سوى الحواس بل نقول حصرهم العلوم في الحواس معلوم لهم وليس ذلك مدركا بالحواس الخمس ثم لا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة تسمى بغداد وإن لم يدخلها ولا يشك في وجود الأنبياء بل في وجود الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله بل في الدول والوقائع الكبيرة فإن قيل لو كان هذا معلوما ضرورة لما خالفناكم قلنا من يخالف في هذا فإنما يخالف بلسانه أو عن خبط في عقله أو عن عناد ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل إنكارهم في العادة لما علموه وعنادهم ولو تركنا ما علمناه ضرورة لقولكم للزمكم ترك المحسوسات بسبب خلاف السوفسطائية أما بطلان مذهب الكعبي حيث ذهب إلى أن هذا العلم نظري فإنا نقول النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا وكل علم نظري فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك فإن عنيتم بكونه نظريا شيئا من ذلك فنحن ننكره وإن عنيتم به أن مجرد قول المخبر لا يفيد العلم ما لم ينتظم في النفس مقدمتان إحداهما أن هؤلاء مع اختلاف أحوالهم وتباين أغراضهم ومع كثرتهم على حال لا يجمعهم على الكذب جامع ولا يتفقون إلا على الصدق
والثانية أنهم قد اتفقوا على الأخبار عن الواقعة فيبتني العلم بالصدق على مجموع المقدمتين فهذا مسلم ولا بد وأن تشعر النفس بهاتين المقدمتين حتى يحصل له العلم والتصديق وإن لم تتشكل في النفس هذه المقدمات بلفظ منظوم فقد شعرت به حتى حصل التصديق وإن لم يشعر بشعورها وتحقيق القول فيه أن الضروري إن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة كقولنا القديم لا يكون محدثا والموجود لا يكون معدوما فهذا ليس بضروري فإنه حصل بواسطة المقدمتين المذكورتين وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا ضروري ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بوجه توسطها وحصول العلم بواسطتها فيسمى أوليا وليس بأولي كقولنا الإثنان نصف الأربعة فإنه لا يعلم ذلك إلا بواسطة وهو أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر والإثنان أحد الجزأين المساوي للثاني من جملة الأربعة فهو إذا نصف

فقد حصل هذا العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن حاضرة ولهذا لو قيل ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين يفتقر فيه إلى تأمل ونظر حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزأين متساويين أحدهما ستة وثلاثون فإذا العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات وما هو كذلك فهو ليس بأولي وهل يسمى ضروريا هذا ربما يختلف في الاصطلاح والضروري عند الأكثرين عبارة عن الأولي لا عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية وهي نظرية ومعنى كونها نظرية أنها ليست بأولية وكذلك العلم بصدق خبر التواتر ويقرب منه العلم المستفاد من التجربة التي يعبر عنها باطراد العادات كقولنا الماء مرو والخمر مسكر كما نبهنا عليه في مقدمة الكتاب فإن قيل لو استدل مستدل على كونه غير ضروري بأنه لو كان ضروريا لعلمنا بالضرورة كونه ضروريا ولما تصور الخلاف فيه فهذا الاستدلال صحيح أم لا قلنا إن كان الضروري عبارة عما نجد أنفسنا مضطرين إليه فبالضرورة نعلم من أنفسنا أنا مضطرون إليه وإن كان عبارة عما يحصل بغير واسطة فيجوز أن يحتاج في معرفة ذلك إلى تأمل ويقع الشك فيه كما يتصور أن نعتقد شيئا على القطع ونتردد في أن اعتقادنا علم محقق أم لا

الباب الثاني في شروط التواتر
وهي أربعة الأول أن يخبروا عن علم لا عن ظن فإن أهل بغداد لو أخبرونا عن طائر أنهم ظنوه حماما أو عن شخص أنهم ظنوه زيدا لم يحصل لنا العلم بكونه حماما وبكونه زيدا وليس هذا معللا بل حال المخبر لا تزيد على حال المخبر لأنه كان في قدرة الله تعالى أن يخلق لنا العلم بخبرهم وإن كان عن ظن ولكن العادة غير مطردة بذلك
الشرط الثاني أن يكون علمهم ضروريا مستندا إلى محسوس إذ لو أخبرنا أهل بغداد عن حدوث العالم وعن صدق بعض الأنبياء لم يحصل لنا العلم وهذا أيضا معلوم بالعادة وإلا فقد كان في قدرة الله تعالى أن يجعل ذلك سببا للعلم في حقنا
الشرط الثالث أن يستوي طرفاه وواسطته في هذه الصفات وفي كمال العدد فإذا نقل الخلف عن السلف وتوالت الأعصار ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر لم يحصل العلم بصدقهم لأن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه فلا بد من شروط ولا جل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى صلوات الله عليه تكذيب كل ناسخ لشريعته ولا بصدق الشيعة والعباسية والبكرية في نقل النص على إمامة علي أو العباس أو أبي بكر رضي الله عنهم وإن كثر عدد الناقلين في هذه الأعصار القريبة لأن بعض هذا وضعه الآحاد أولا ثم أفشوه ثم كثر الناقلون في عصره وبعده والشرط إنما حصل في بعض الأعصار فلم تستو فيه الأعصار ولذلك لم يحصل التصديق بخلاف وجود عيسى عليه السلام وتحديه بالنبوة ووجود أبي بكر وعلي رضي الله عنهما وانتصابهما للإمامة فإن كل ذلك لما تساوت فيه الأطراف والواسطة حصل لنا علم ضروري لا نقدر على تشكيك أنفسنا فيه ونقدر على التشكيك فيما نقلوه عن موسى وعيسى عليهما السلام وفي نص الإمامة
الشرط الرابع في العدد وتهذب الغرض منه برسم مسائل
مسألة ( العدد الذي يحصل به التواتر )
عدد المخبرين ينقسم إلى ما هو ناقص فلا يفيد العلم وإلى ما هو كامل وهو

الذي يفيد العلم وإلى زائد وهو الذي يحصل العلم ببعضه وتقع الزيادة فضلا عن الكفاية والكامل وهو أقل عدد يورث العلم ليس معلوما لنا لكنا بحصول العلم الضروري نتبين كمال العدد لا أنا بكمال العدد نستدل على حصول العلم فإذا عرفت هذا فالعدد الكامل الذي يحصل التصديق به في واقعة هل يتصور أن لا يفيد العلم في بعض الوقائع قال القاضي رحمه الله ذلك محال بل كل ما يفيد العلم في واقعة يفيد في كل واقعة وإذا حصل العلم لشخص فلا بد وأن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع ولا يتصور أن يختلف وهذا صحيح إن تجرد الخبر عن القرائن فإن العلم لا يستند إلى مجرد العدد ونسبة كثرة العدد إلى سائر الوقائع وسائر الأشخاص واحدة أما إذا اقترنت به قرائن تدل على التصديق فهذا يجوز أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص وأنكر القاضي ذلك ولم يلتفت إلى القرائن ولم يجعل لها أثرا وهذا غير مرضي لأن مجرد الأخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين وإن لم تكن قرينة ومجرد القرائن أيضا قد يورث العلم وإن لم يكن فيه أخبار فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار فيقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة معنى القرائن وكيفية دلالتها فنقول لا شك في أن نعرف أمورا ليست محسوسة إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان وبغضه له وخوفه منه وغضبه وخجله وهذه أحوال في نفس المحب والمبغض لا يتعلق الحس بها قد تدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال ولكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف
ثم الثاتي والثالث يؤكد ذلك ول أفردت آحاذها لتطرق إليها الإحتمال يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر يتطرق إليه الاحتمال لو قدر مفردا ويحصل القطع بسبب الاجتماع ومثاله أنا نعرف عشق العاشق لا بقوله بل بأفعال هي أفعال المحبين من القيام بخدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس فإن كل واحد يدل دلالة لو انفرد لاحتمل أن يكون ذلك لغرض آخر يضمره لا لحبه إياه لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يحصل لنا علم قطعي بحبه وكذلك ببغضه إذا رؤيت منه أفعال ينتجها البغض وكذلك نعرف غضبه وخجله لا بمجرد حمرة وجهه لكن الحمرة إحدى الدلالات وكذلك نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن لكن ينضم إليه أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها عن لبن ولا تخلو حلمته عن ثقب ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج للبن وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا وإن لم يكن غالبا لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه مع أنه لم يتناول طعاما آخر صار قرينة ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم نشاهده وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتواترها وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال كقول كل مخبر على حياله وينشأ من الاجتماع العلم وكأن هذا مدرك سادس من مدارك العلم سوى ما

ذكرناه في المقدمة من الأوليات والمحسوسات والمشاهدات الباطنة والتجريبات والمتواترات فيلحق هذا بها وإذا كان هذا غير منكر فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص عن انضمام قرائن إليه لو تجرد عن القرائن لم يفد العلم فإنه إذا أخبر خمسة أو ستة عن موت إنسان لا يحصل العلم بصدقهم لكن إذا انضم إليه خروج والد الميت من الدار حاسر الرأس حافي الرجل ممزق الثياب مضطرب الحال يصفق وجهه ورأسه وهو رجل كبير ذو منصب ومروءة لا يخالف عادته ومروءته إلا عن ضرورة فيجوز أن يكون هذا قرينة تنضم إلى قول أولئك فتقوم في التأثير مقام بقية العدد وهذا مما يقطع بجوازه والتجرية تدل عليه وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة الملك وسياسة إظهاره والمخبرون من رؤساء جنود الملك فيتصور اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب ولو كانوا متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم فهذا يؤثر في النفس تأثيرا لا ينكر ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك وما برهانه على استحالته فقد بان بهذا أن العدد يجوز أن يختلف بالوقائع وبالأشخاص فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق ببعض الأشياء فيقوم ذلك مقام القرائن وتقوم تلك القرائن مقام خبر بعض المخبرين فينشأ من ذلك أن لا برهان على استحالته فإن قيل فهل يجوز أن يحصل العلم بقول واحد قلنا حكي عن الكعبي جوازه ولا يظن بمعتوه تجويزه مع انتفاء القرائن أما إذا اجتمعت قرائن فلا يبعد أن تبلغ القرائن مبلغا لا يبقى بينها وبين إثارة العلم إلا قرينة واحدة ويقوم إخبار الواحد مقام تلك القرينة فهذا مما لا يعرف استحالته ولا يقطع بوقوعه فإن وقوعه إنما يعلم بالتجربة ونحن لم نجربه ولكن قد جربنا كثيرا مما اعتقدناه جزما بقول الواحد مع قرائن أحواله ثم انكشف أنه كان تلبيسا وعن هذا أحال القاضي ذلك وهذا كلام في الوقائع مع بقاء العادات على المعهود من استمرارها فأما لو قدرنا خرق هذه العادة فالله تعالى قادر على أن يحصل لنا العلم بقول واحد من غير قرينة فضلا على أن تنضم إليه القرائن

مسألة ( هل شهادة الأربعة فيها غلبة الظن )
قطع القاضي رحمه الله بأن قول الأربعة قاصر عن العدد الكامل لأنها بينة شرعية يجوز بالإجماع للقاضي وقفها على المزكين لتحصل غلبة الظن ولا يطلب الظن فيما علم ضرورة وما ذكره صحيح إذا لم تكن قرينة فإنا لا نصادف أنفسنا مضطرين إلى خبر الأربعة أما إذا فرضت قرائن مع ذلك فلا يستحيل حصول التصديق لكن لا يكون ذلك حاصلا عن مجرد الخبر بل عن القرائن مع الخبر والقاضي رحمه الله يحيل ذلك مع القرائن أيضا
مسألة ( هل شهادة الخمسة تفيد العلم )
قال القاضي علمت بالإجماع أن الأربعة ناقص أما الخمس فأتوقف فيها لأنه لم يقم فيها دليل الإجماع وهذا ضعيف لأنا نعلم بالتجربة ذلك فكم من أخبار نسمعها من خمسة أو ستة ولا يحصل لنا العلم بها فهو أيضا ناقص لا نشك فيه
مسألة ( العدد الذي يفيد التواتر )
إذا قدرنا انتفاء القرائن فأقل عدد يحصل به العلم الضروري معلوم لله تعالى وليس معلوما لنا ولا سبيل لنا إلى معرفته فإنا لا ندري متى حصل علمنا بوجود مكة ووجود الشافعي ووجود الأنبياء عليهم السلام عند تواتر الخبر إلينا وأنه كان بعد خبر المائة والمائتين ويعسر علينا تجربة ذلك وإن تكلفناها وسبيل التكلف أن نراقب أنفسنا إذا قتل

رجل في السوق مثلا وانصرف جماعة عن موضع القتل ودخلوا علينا يخبرونا عن قتله فإن قول الأول يحرك الظن وقول الثاني والثالث يؤكده ولا يزال يتزايد تأكيده إلى أن يصير ضروريا لا يمكننا أن نشكك فيه أنفسنا فلو تصور الوقوف على اللحظة التي يحصل العلم فيها ضرورة وحفظ حساب المخبرين وعددهم لأمكن الوقوف ولكن درك تلك اللحظة عسير فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدا خفي التدريج نحو تزايد عقل الصبي المميز إلى أن يبلغ حد التكليف ونحو تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال فلذلك بقي هذا في غطاء من الإشكال وتعذر على القوة البشرية إدراكه فأما ما ذهب إليه قوم التخصيص بالأربعين أخذا من الجمعة وقوم إلى التخصيص بالسبعين أخذا من قوله تعالى واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا ( الأعراف 155 ) وقوم إلى التخصيص بعدد أهل بدر فكل ذلك تحكمات فاسدة باردة لا تناسب الغرض ولا تدل عليه ويكفي تعارض أقوالهم دليلا على فسادها فإذا لا سبيل لنا إلى حصر عدده لكنا بالعلم الضروي نستدل على أن العدد الذي هو الكامل عند الله تعالى قد توافقوا على الإخبار فإن قيل فكيف علمتم حصول العلم بالتواتر وأنتم لا تعلمون أقل عدده قلنا كما نعلم أن الخبز يشبع والماء يروي والخمر يسكر وإن كنا لا نعلم أقل مقدار منه ونعلم أن القرائن تفيد العلم وإن لم نقدر على حصر أجناسها وضبط أقل درجاتها

مسألة ( هل يكذب العدد الكامل )
العدد الكامل إذا أخبروا ولم يحصل العلم بصدقهم فيجب القطع بكذبهم لأنه لا يشترط في حصول العلم إلا شرطان أحدهما كمال العدد
والثاني أن يخبروا عن يقين ومشاهدة فإذا كان العدد كاملا كان امتناع العلم لفوات الشرط الثاني فنعلم أنهم بجملتهم كذبوا أو كذب بعضهم في قوله إني شاهدت ذلك بل بناه على توهم وظن أو كذب متعمدا لأنهم لو صدقوا وقد كمل عددهم حصل العلم ضرورة وهذا أيضا أحد الأدلة على أن الأربعة ليسوا عدد التواتر إذ القاضي لم يحصل له العلم بصدقهم وجاز له القضاء بغلبة الظن بالإجماع ولو تمر عددهم لكان انتفاء العلم بصدقهم دليلا قاطعا على كذب جميعهم أو كذب واحد منهم ولقطعنا بأن فيهم كاذبا أو متوهما ولا يقبل شهادة أربعة يعلم أن فيهم كاذبا أو متوهما فإن قيل فإن لم يحصل العلم بقولهم وقد كثروا كثرة يستحيل بحكم العادة توافقهم على الكذب عن اتفاق ويستحيل دخولهم تحت ضابط وتساعدهم على الكذب بحيث ينكتم ذلك على جميعهم ولا يتحدث به واحد منهم فعلى ماذا يحمل كذبهم وكيف يتصور ذلك قلنا إنما يمكن ذلك بأن يكونوا منقسمين إلى صادقين وكاذبين أما الصادقون فعددهم ناقص عن المبلغ الذي يستقل بإفادة العلم وأما الكاذبون فيحتمل أن يقع منهم التواطؤ لنقصان عددهم عن مبلغ يستحيل عليهم التواطؤ مع

الانكتام فإن كانوا مبلغا لا يستحيل التواطؤ عليهم مع الانكتام فلا يستحيل الانكتام في الحال إلى أن يتحدث به في ثاني الحال ونقل الشيعة نص الإمامة مع كثرتها إنما لم يفد العلم لأنهم لم يخبروا عن المشاهدة والسماع بل لو سمعوا عن سلف فهم صادقون لكن السلف الواضعون لهذا الكذب يكون عددهم ناقصا عن مبلغ يستحيل منهم التواطؤ مع الانكتام وربما ظن الخلف أن عددهم كامل لا يستحيل عليهم التواطؤ فيخطئون في الظن فيقطعون بالحكم ويكون هذا منشأ غلطهم
خاتمة لهذا الباب في بيان شروط فاسدة ذهب إليها قوم وهي خمسة الأول شرط قوم في عدد التواتر أن لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد وهذا فاسد فإن الحجيج بأجمعهم إذا أخبروا عن واقعة صدتهم عن الحج ومنعتهم من عرفات حصل العلم بقولهم وهم محصورون وأهل الجامع إذا أخبروا عن نائبة في الجمعة منعت الناس من الصلاة علم صدقهم مع أنهم يحويهم مسجد فضلا عن بلد وكذلك أهل المدينة إذا أخبروا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بشيء حصل العلم وقد حواهم بلد
الثاني شرط قوم أن تختلف أنسابهم فلا يكونوا بني أب واحد وتختلف أوطانهم فلا يكونوا في محلة واحدة وتختلف أديانهم فلا يكونوا أهل مذهب واحد وهذا فاسد لأن كونهم من محلة واحدة ونسب واحد لا يؤثر إلا في إمكان تواطئهم والكثرة إلى كمال العدد تدفع هذا الإمكان وإن لم تكن كثرة أمكن التواطؤ من بني الأعمام كما يمكن من الأخوة ومن أهل بلد كما يمكن من أهل محلة وكيف يعتبر اختلاف الدين ونحن نعلم صدق المسلمين إذا أخبروا عن قتل وقتنة وواقعة بل نعلم صدق أهل قسطنطينية إذا أخبروا عن موت قيصر
فإن قيل فلنعلم صدق النصارى في نقل التثليث عن عيسى عليه السلام وصدقهم في صلبه قلنا لم ينقلوا التثليث توقيفا وسماعا عن عيسى بنص صريح لا يحتمل التأويل لكن توهموا ذلك بألفاظ موهمة لم يقفوا على مغزاها كما فهم المشبهة التشبيه من آيات وأخبار لم يفهموا معناها والتواتر ينبغي أن يصدر عن محسوس فأما قتل عيسى عليه السلام فقد صدقوا في أنهم شاهدوا شخصا يشبه عيسى عليه السلام مقتولا ولكن شبه لهم فإن قيل فهل يتصور التشبيه في المحسوس فإن تصور فليشك كل واحد منا إذا رأى زوجته وولده فلعله شبه له قلنا إن كان الزمان زمان خرق العادة يجوز التشبيه في المحسوس وذلك زمان النبوة لإثبات صدق النبي صلى الله عليه و سلم وذلك لا يوجب الشك في غير ذلك الزمان إذ لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعبانا وخرق العادة به لتصديق النبي عليه السلام ومع ذلك إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف من انقلابها ثعبانا ثقة بالعادات في زماننا
فإن قيل خرق العادة في زماننا هذا جائز كرامة للأولياء فلعل وليا من الأولياء دعا الله تعالى بذلك فأجابه فلنشك لإمكان ذلك قلنا إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات فإذا وجدنا من أنفسنا علما ضروريا بأنه لم تنقلب العصا ثعبانا ولا الجبل ذهبا ولا الحصى في الجبال جواهر ويواقيت قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة وإن كان قدارا عليها
الثالث شرط قوم أن يكونوا أولياء مؤمنين وهو فاسد إذ يحصل العلم بقول الفسقة والمرجئة والقدرية بل بقول الروم إذا أخبروا بموت ملكهم حصل العلم
الرابع شرط قوم أن لا يكونوا محمولين بالسيف على الإخبار وهو فاسد لأنهم إن

حملوا على الكذب لم يحصل العلم لفقد الشرط وهو الإخبار عن العلم الضروري وإن صدقوا حصل العلم فلو أن أهل بغداد حملهم الخليفة بالسيف على الإخبار عن محسوس شاهدوه أو شهادة كتموها فأخبروا حصل العلم بقولهم
فإن قيل هل يتصور عدد يحصل العلم بقولهم إذا أخبروا عن اختيار ولا يحصل لو أخبروا عن إكراه قلنا أجاب القاضي رحمه الله ذلك من حيث أنه لم يجعل للقرائن مدخلا وذلك غير محال عندنا فإنا بينا أن النفس تشعر بأن هؤلاء على كثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع ثم تصدق فإذا ظهر كون السيف جامعا لم يبعد أن لا يحصل العلم
الخامس شرط الروافض أن يكون الإمام المعصوم في جملة المخبرين وهذا يوجب العلم بأخبار الرسول صلى الله عليه و سلم عن جبريل عليه السلام لأنه معصوم فأي حاجة إلى أخبار غيره ويجب أن لا يحصل العلم بنقلهم على التواتر النص على علي رضي الله عنه إذ ليس فيهم معصوم وأن لا تلزم حجة الإمام إلا على من شاهده من أهل بلده وسمع منه دون سائر البلاد وأن لا تقوم الحجة بقول أمرائه ودعاته ورسله وقضاته إذ ليسوا معصومين وأن لا يعلم موت أمير وقتله ووقوع فتنة وقتال في غير مصر وكل ذلك لازم على هذيانهم

الباب الثالث في تقسيم الخبر إلى ما يجب تصديقه وإلى ما يجب تكذيبه وإلى
ما يجب التوقف
فيه وهي ثلاثة أقسام القسم الأول ما يجب تصديقه وهي سبعة الأول ما أخبر عنه عدد التواتر فإنه يجب تصديقه ضرورة وإن لم يدل عليه دليل آخر فليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرد الأخبار إلا المتواتر وما عداه فإنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس الخبر
الثاني ما أخبر الله تعالى عنه فهو صدق بدليل استحالة الكذب عليه ويدل عليه دليلان أقواهما إخبار الرسول عليه السلام عن امتناع الكذب عليه تعالى والثاني أن كلامه تعالى قائم بنفسه ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل إذ الخبر يقوم بالنفس على وفق العلم والجهل على الله تعالى محال
الثالث خبر الرسول عليه السلام ودليل صدقه دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين لأن ذلك لو كان ممكنا لعجز الباري عن تصديقه رسله والعجز عليه محال
الرابع ما أخبر عنه الأمة إذ ثبت عصمتها بقول الرسول عليه السلام المعصوم عن الكذب وفي معناه كل شخص أخبر الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه و سلم عنه بأنه صادق لا يكذب
الخامس كل خبر يوافق ما أخبر الله تعالى عنه أو رسوله صلى الله عليه و سلم أو الأمة

أو من صدقه هؤلاء أو دل العقل عليه والسمع فإنه لو كان كاذبا لكان الموافق له كذبا
السادس كل خبر صح أنه ذكره المخبر بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم وبمسمع منه ولم يكن غافلا عنه فسكت عليه لأنه لو كان كذبا لما سكت عنه ولا عن تكذيبه ونعني به ما يتعلق بالدين
السابع كل خبر ذكر بين يدي جماعة أمسكوا عن تكذيبه والعادة تقضي في مثل ذلك بالتكذيب وامتناع السكوت لو كان كذبا وذلك بأن يكون للخبر وقع في نفوسهم وهم عدد يمتنع في مستقر العادة التواطؤ عليهم بحيث ينكتم التواطؤ ولا يتحدثون به وبمثل هذه الطريقة ثبتت أكثر أعلام رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ كان ينقل بمشهد جماعات وكانوا يسكتون عن التكذيب مع استحالة السكوت عن التكذيب على مثلهم فمهما كمل الشرط وترك النكير كما سبق نزل منزلة قولهم صدقت فإن قيل لو ادعى واحد أمرا بمشهد جماعة وادعى علمهم به فسكتوا عن تكذيبه فهل يثبت صدقه قلنا إن كان ذلك في محل النظر والاجتهاد فلا يثبت صدقه لاحتمال أنهم اعتقدوا عن النظر ما ادعاه وإن كان يسنده إلى مشاهدة وكانوا عددا يستحيل عليهم الدخول تحت داع واحد فالسكوت عن تكذيبه تصديق من جهتهم فإن قيل وهل يدل على الصدق تواتر الخبر عن جماعة لا يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب قصدا ولا التوافق على اتفاق قلنا أحال القاضي رحمه الله ذلك وقال قولهم يورث العلم ضرورة إن بلغوا عدد التواتر في علم الله فإن لم يورث العلم الضروري دل على نقصان العدد ولا يجوز الاستدلال على صدقهم بالنظر في أحوالهم بل نعلم قطعا كذبهم أو اشتمالهم على كاذب أو متوهم وهذا على مذهبه إن لم ينظر إلى القرائن لازم أما من نظر إلى القرائن فلا يبعد أن يعلم صدقهم بنوع من النظر فإن قيل خبر الواحد الذي عمل به الأمة هل يجب تصديقه قلنا إن عملوا على وفقه فلعلهم عملوا عن دليل آخر وإن عملوا به أيضا فقد أمروا بالعمل بخبر الواحد وإن لم يعرفوا صدقه فلا يلزم الحكم بصدقه فإن قيل لو قدر الراوي كاذبا لكان عمل الأمة بالباطل وهو خطأ ولا يجوز ذلك على الأمة قلنا الأمة ما تعبدوا إلا بالعمل بخبر يغلب على الظن صدقهم فيه وقد غلب على ظنهم كالقاضي إذ قضى بشهادة عدلين فلا يكون مخطئا وإن كان الشاهد كاذبا بل يكون محقا لأنه لم يؤمر إلا به
القسم الثاني من الأخبار ما يعلم كذبه وهي أربعة الأول ما يعلم خلافه بضرورة العقل أو نظره أو الحس والمشاهدة أو أخبار التواتر وبالجملة ما خالف المعلوم بالمدارك الستة المذكورة كمن أخبر عن الجمع بين الضدين وإحياء الموتى في الحال وأنا على جناح نسر أو في لجة بحر وما يحس خلافه
الثاني ما يخالف النص القاطع من الكتاب والسنة المتواترة وإجماع الأمة فإنه ورد مكذبا لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه و سلم وللأمة
الثالث ما صرح بتكذيبه جمع كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب إذا

قالوا حضرنا معه في ذلك الوقت فلم نجد ما حكاه من الواقعة أصلا
الرابع ما سكت الجمع الكثير عن نقله والتحدث به مع جريان الواقعة بمشهد منهم ومع إحالة العادة السكوت عن ذكره لتوفر الدواعي على نقله كما لو أخبر مخبر بأن أمير البلدة قتل في السوق على ملأ من الناس ولم يتحدث أهل السوق به فيقطع بكذبه إذ لو صدق لتوفرت الدواعي على نقله ولا حالت العادة اختصاصه بحكايته وبمثل هذه الطريقة عرفنا كذب من ادعى معارضة القرآن ونص الرسول على نبي آخر بعده وأنه أعقب جماعة من الأولاد الذكور ونصه على إمام بعينه على ملأ من الناس وفرضه صوم شوال وصلاة الضحى وأمثال ذلك مما إذا كان أحالت العادة كتمانه فإن قيل فقد تفرد الآحاد بنقل ما تتوفر الدواعي عليه حتى وقع الخلاف فيه كإفراده صلى الله عليه و سلم الحج أو قرانه وكدخوله الكعبة وصلاته فيها وأنه عليه السلام نكح ميمونة وهو حرام وأنه دخل مكة عنوة وقبوله شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال وانفراد الأعرابي بالرؤية حتى لم يشاركه أحد فيه وانشقاق القمر ولم ينقله إلا ابن مسعود رضي الله عنه وعدد يسير معه وكان ينبغي أن يراه كل مؤمن وكافر وباد وحاضر ونقل النصارى معجزات عيسى عليه السلام ولم ينقلوا كلامه في المهد وهو من أعظم العلامات ونقلت الأمة القرآن ولم ينقلوا بقية معجزات الرسول عليه السلام كنقل القرآن في الشيوع ونقل الناس أعلام الرسل ولم ينقلوا أعلام شعيب عليه السلام ونقلت الأمة سور القرآن ولم تنقل المعوذتين نقل غيرهما حتى خالف ابن مسعود رضي الله عنه في كونهما من القرآن وما تعم به البلوى من اللمس والمس أيضا فكل هذا نقض على هذه القاعدة والجواب أن إفراد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقرانه ليس مما يجب أن ينكشف وأن ينادي به رسول الله صلى الله عليه و سلم على الكافة بل لا يطلع عليه إلا من أطلعه عليه أو على نيته بإخباره إياه نعم ظهر على الاستفاضة تعليمه الناس الإفراد والقران جميعا وأما دخوله الكعبة وصلاته فيها فقد يكون ذلك مع نفر يسير ومع واحد واثنين ولا يقع شائعا كيف ولو وقع شائعا لم تتوفر الدواعي على دوام نقله لأنه ليس من أصول الدين ولا من فرائضه ومهماته وأما دخوله مكة عنوة فقد صح على الاستفاضة دخوله متسلحا مع الألوية والأعلام وتمام التمكن والاستيلاء وبذله الأمان لمن دخل دار أبي سفيان ولمن ألقى سلاحه واعتصم بالكعبة وكل ذلك غير مختلف فيه ولكن استدل بعض الفقهاء بما روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه ودى قوما قتلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه على أنه كان صلحا ووقوع مثل هذه الشبهة للآحاد ممكن إلى أن تزال بالنظر وأن يكون ذلك بنهي خاص عن قوم مخصوصين ولسبب مخصوص وأما انفراد الأعرابي برؤية الهلال فممكن وقد يقع مثل ذلك في زماننا في الليلة الأولى لخفاء الهلال ودقته فينفرد به من يتحد بصره وتصدق في الطلب رغبته ويقع على موضع الهلال بصره عن معرفة أو اتفاق وأما انشقاق القمر فهي آية ليلية وقعت والناس نيام غافلون وإنما كان في لحظة فرآه من ناظره النبي صلى الله عليه و سلم من قريش ونبهه على النظر له وما انشق منه إلا شعبة ثم عاد صحيحا في لحظة فكم من انقضاض كوكب وزلزلة وأمور هائلة من ريح

وصاعقة بالليل لا يتنبه له إلا الآحاد على أن مثل هذا إنما يعمله من قيل له انظر إليه فانشق عقيب القول والتحدي ومن لم يعلم ذلك ووقع عليه بصره ربما توهم أنه خيال انقشع أو كوكب كان تحت القمر فانجلى القمر عنه أو قطعة سحاب سترت قطعة من القمر فلهذا لم يتواتر نقله وأما نقلهم القرآن دون سائر الأعلام فذلك لأمرين أحدهما أن الدواعي لا تتوفر بعد ثبوت النبوة بالقرآن واستقلالها به على نقل ما يقع بعده بحيث تقع المداومة عليه اكتفاء بثبوتها بالقرآن الذي هو أعظم الآيات ولأن غير القرآن إنما ظهر في عمر كل واحد مرة واحدة وربما ظهر بين يدي نفر يسير والقرآن كان يردده طول عمره مرة بعد أخرى ويلقيه على كافتهم قصدا ويأمرهم بحفظه والتلاوة له والعمل بموجبه وأما المعوذتان فقد ثبت نقلهما شائعا من القرآن كسائر السور وابن مسعود رضي الله عنه لم ينكر كونهما من القرآن لكن أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد أيضا لأنه كانت السنة عنده أن لا يثبت إلا ما أمر النبي صلى الله عليه و سلم بإثباته وكتبته ولما لم يجده كتب ذلك ولا سمع أمره به أنكره وهذا تأويل وليس جحدا لكونه قرآنا ولو جحد ذلك لكان فسقا عظيما لا يضاف إلى مثله ولا إلى أحد من الصحابة وأما ترك النصارى نقل كلام عيسى عليه السلام في المهد فلعله لم يتكلم إلا بحضرة نفر يسير ومرة واحدة لتبرئة مريم عليها السلام عما نسبوها إليه فلم ينتشر ذلك ولم يحصل العلم بقول من سمع ذلك منهم فاندرس فيما بينهم وأما شعيب ومن يجري مجراه من الرسل عليهم السلام فلم يكن لهم شريعة ينفردون بها بل كانوا يدعون إلى شريعة من قبلهم فلم تتوفر الدواعي على نقل معجزاتهم إذ لم يكن لهم معجزات ظاهرة لكن ثبت صدقهم بالنص والتوقيف من نبي ذي معجزة وأما الخبر عن اللمس والمس للذكر وما تعم به البلوى فيجوز أن يخبر به الرسول عليه السلام عددا يسيرا ثم ينقلونه آحادا ولا يستفيض وليس ذلك مما يعظم في الصدور وتتوفر الدواعي على التحدث به دائما
القسم الثالث ما لا يعلم صدقه ولا كذبه فيجب التوقف فيه وهو جملة الأخبار الواردة في أحكام الشرع والعبادات مما عدا القسمين المذكورين وهو كل خبر لم يعرف صدقه ولا كذبه فإن قيل عدم قيام الدليل على صدقه يدل على كذبه إذ لو كان صدقا لما أخلانا الله تعالى عن دليل على صدقه قلنا ولم يستحيل أن يخلينا عن دليل قاطع على صدقه ولو قلب هذا وقيل يعلم صدقه لأنه لو كان كذبا لما أخلانا الله تعالى عن دليل قاطع على كذبه لكان مقاوما لهذا الكلام وكيف يجوز ذلك ويلزم منه أن يقطع بكذب كل شاهد لا يقطع بصدقه وكفر كل قاض ومفت وفجوره إذا لم يعلم إسلامه وورعه بقاطع وكذا كل قياس ودليل في الشرع لا يقطع بصحته فليقطع ببطلانه وهذا بخلاف التحدي بالنبوة إذا لم تظهر معجزة فإنا نقطع بكذبه لأن النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي كلفنا تصديقه وتصديقه بغير دليل محال وتكليف المحال محال فبه علمنا أنا لم نكلف تصديقه فلم يكن رسولا إلينا قطعا أما خبر الواحد وشهادة الإثنين فلم نتعبد فيه بالتصديق بل بالعمل عند ظن الصدق والظن حاصل والعمل ممكن ونحن مصيبون وإن كان هو كاذبا ولو عملنا

بقول شاهد واحد فنحن مخطئون وإن كان هو صادقا فإن قيل إنما وجب إقامة المعجزة لنعرف صدقه فنتبعه فيما يشرعه فليجب عليه إزالة الشك فيما يبلغ من الشرع بالمشافهة والإشاعة إلى حد التواتر ليحصل العلم في حق من لم يشافهه به قلنا لا استحالة في أن يقسم الشارع شرعه إلى ما يتعبد فيه بالعلم والعمل فيجب فيه ما ذكرتموه وإلى ما يتعبد فيه بالعمل دون العلم فيكون فرض من يسمع من الرسول العلم والعمل جميعا وفرض من غاب العمل دون العلم ويكون العمل منوطا بظن الصدق في الخبر وإن كان هو كاذبا عند الله تعالى وكذا الظن الحاصل من قياس وقول شاهد ويمين المدعى عليه أو يمين المدعي مع النكول فلا نحيل شيئا من ذلك
القسم الثاني من هذا الأصل في أخبار الآحاد وفيه أبواب الباب الأول في إثبات التعبد به مع قصوره عن إفادة العلم وفيه أربع مسائل

مسألة ( هل خبر الواحد يفيد العلم )
اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد وأما قول الرسول عليه السلام مما علم صحته فلا يسمى خبر الواحد وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم وهو معلوم بالضرورة إنا لا نصدق بكل ما نسمع ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن ولا تمسك لهم في قوله تعالى فإن علمتموهن مؤمنات ( الممتحنة 10 ) وأنه أراد الظاهر لأن المراد به العلم الحقيقي بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان دون الباطن الذي لم يكلف به والإيمان باللسان يسمى إيمانا مجازا ولا تمسك لهم في قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء 36 ) وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به لأن المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق وأما العلم بخبر الواحد فمعلوم الوجوب بدليل قاطع أوجب العمل عند ظن الصدق والظن حاصل قطعا ووجوب العمل عنده معلوم قطعا كالحكم بشهادة اثنين أو يمين المدعي مع نكول المدعى عليه
مسألة ( هل يتعبد بخبر الواحد )
أنكر منكرون جواز التعبد بخبر الواحد عقلا فضلا عن وقوعه سمعا فيقال لهم من أين عرفتم استحالته أبالضرورة ونحن نخالفكم فيه ولا نزاع في الضرورة أو بدليل ولا سبيل لهم إلى إثباته لأنه لو كان محالا لكان يستحيل إما لذاته أو لمفسدة تتولد منه ولا يستحيل لذاته ولا التفات إلى المفسدة ولا نسلم أيضا لو التفتنا إليها فلا بد من بيان وجه المفسدة فإن قيل وجه المفسدة أن يروي الواحد خبرا في سفك دم أو في استحلال بضع وربما يكذب فيظن أن سفك الدم هو بأمر الله تعالى ولا يكون بأمره فكيف يجوز الهجوم بالجهل ومن شككنا في إباحة بضعه وسفك دمه فلا يجوز الهجوم عليه بالشك فيقبح من الشارع حوالة الخلق على الجهل واقتحام الباطل بالتوهم بل إذا أمر الله

تعالى بأمر فليعرفنا أمره لنكون على بصيرة إما ممتثلون أو مخالفون والجواب أن هذا السؤال إن صدر ممن ينكر الشرائع فنقول له أي استحالة في أن يقول الله تعالى لعباده إذا طار بكم طائر وظننتموه غرابا فقد أوجبت عليكم كذا وكذا وجعلت ظنكم علامة وجوب العمل كما جعلت زوال الشمس علامة وجوب الصلاة فيكون نفس الظن علامة الوجوب والظن مدرك بالحس وجوده فيكون الوجوب معلوما فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعا وأصاب فإذا جاز أن يجعل الزوال أو ظن كونه غرابا علامة فلم لا يجوز أن يجعل ظنه علامة ويقال له إذا ظننت صدق الراوي والشاهد والحالف فاحكم به ولست متعبدا بمعرفة صدقه ولكن بالعمل عند ظن صدقه وأنت مصيب وممتثل صدق أو كذب ولست متعبدا بالعلم بصدقه ولكن بالعمل عند ظنك الذي تحسه من نفسك وهذا ما نعتقده في القياس وخبر الواحد والحكم بالشاهد واليمين وغير ذلك وأما إذا صدر هذا من مقر بالشرع فلا يتمكن منه لأنه تعبد بالعمل بالشهادة والحكم والفتوى ومعاينة الكعبة وخبر الرسول صلى الله عليه و سلم فهذه خمسة ثم الشهادة قد يقطع بها كشهادة الرسول صلى الله عليه و سلم وشهادة خزيمة بن ثابت حين صدقه رسول الله صلى الله عليه و سلم وشهادة موسى وهارون والأنبياء صلوات الله عليهم وقد يظن ذلك كشهادة غيرهم ثم ألحق المظنون بالمقطوع به في وجوب العمل وكذلك فتوى النبي صلى الله عليه و سلم وحكمه مقطوع به وفتوى سائر الأئمة وحكم سائر القضاة مظنون وألحق بالمعلوم والكعبة تعلم قطعا بالعيان وتظن بالاجتهاد وعند الظن يجب العمل كما يجب عند المشاهدة فكذلك خبر الرسول صلى الله عليه و سلم يجب العمل به عند التواتر فلم يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم في وجوب العلم خاصة ومن أراد أن يفرق بين هذه الخمسة في مفسدة أو مصلحة لم يتمكن منه أصلا فإن قيل فهل يجوز التعبد بالعمل بخبر الفاسق قلنا قال قوم يجوز بشرط ظن الصدق وهذا الشرط عندنا فاسد بل كما يجوز أن تجعل حركة الفلك علامة التعبد بالصلاة فحركة لسان الفاسق يجوز أن تجعل علامة فتكليف العمل عند وجود الخبر شيء وكون الخبر صدقا أو كذبا شيء آخر

مسألة ( هل يجب العمل بخبر الواحد )
ذهب قوم إلى أن العقل يدل على وجوب العمل بخبر الواحد دون الأدلة السمعية واستدلوا عليه بدليلين أحدهما أن المفتي إذا لم يجد دليلا قاطعا من كتاب أو إجماع أو سنة متواترة ووجد خبر الواحد فلو لم يحكم به لتعطلت الأحكام ولأن النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان مبعوثا إلى أهل العصر يحتاج إلى إنفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر إلى كل أحد إذ لو أنفذ عدد التواتر إلى كل قطر لم يف بذلك أهل مدينته وهذا ضعيف لأن المفتي إذا فقد الأدلة القاطعة يرجع إلى البراءة الأصلة والاستصحاب كما لو فقد خبر الواحد أيضا وأما الرسول رسول الله صلى الله عليه و سلم فليقتصر على من يقدر على تبليغه فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به فليس تكليف الجميع واجبا نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ولا شخصا عن التكليف فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد

ضرورة في حقه
والدليل الثاني إنهم قالوا صدق الراوي ممكن فلو لم نعمل بخبر الواحد لكنا قد تركنا أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه و سلم فالاحتياط والحزم في العمل وهو باطل من ثلاثة أوجه أحدها أن كذبه ممكن فربما يكون عملنا بخلاف الواجب
الثاني أنه كان يجب العمل بخبر الكافر والفاسق لأن صدقه ممكن
الثالث هو أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي فلا ترفع بالوهم وقد استدل به قوم في نفي خبر الواحد وهو وإن كان فاسدا فهو أقوم من قوله إن الصدق إذا كان ممكنا يجب العمل به

مسألة ( هل يتعبد بخبر الواحد )
الصحيح الذي ذهب إليه الجماهير من سلف الأمة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين أنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلا ولا يجب التعبد به عقلا وأن التعبد به واقع سمعا وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاساني بتحريم العمل به سمعا ويدل على بطلان مذهبهم مسلكان قاطعان أحدهما إجماع الصحابة على قبول خبر الواحد
والثاني تواتر الخبر بإنفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم الولاة والرسل إلى البلاد وتكليفه إياهم تصديقهم فيما نقلوه من الشرع ونحن نقرر هذين المسلكين المسلك الأول ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر وإن لم تتواتر آحادها فيحصل العلم بمجموعها ونحن نشير إلى بعضها فمنها ما روي عن عمر رضي الله عنه في وقائع كثيرة من ذلك قصة الجنين وقيامه في ذلك يقول أذكر الله امرءا سمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئا في الجنين فقام إليه حمل بن مالك بن النابغة وقال كنت بين جارتين ( يعني ضرتين ) فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم بغرة عبد أو وليدة فقال عمر لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا أي لم نقض بالغرة أصلا وقد انفصل الجنين ميتا للشك في أصل حياته
ومن ذلك أنه كان رضي الله عنه لا يرى توريث المرأة من دية زوجها فلما أخبره الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من ديته رجع إلى ذلك
ومن ذلك ما تظاهرت به الأخبار عنه في قصة المجوس أنه قال ما أدري ما الذي أصنع في أمرهم وقال أنشد الله امرءا سمع فيهم شيئا إلا رفعه إلينا فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فأخذ الجزية منهم وأقرهم على دينهم
ومنها ما ظهر منه ومن عثمان رضي الله عنهما وجماهير الصحابة رضي الله عنهم من الرجوع عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها وقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا
ومن ذلك ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قضى في السكنى بخبر فريعة بنت مالك بعد أن أرسل إليها وسألها
ومنها ما ظهر من علي رضي الله عنه من قبوله خبر الواحد واستظهاره باليمين حتى قال في الخبر المشهور كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا نفعني الله بما شاء منه وإذا حدثني غيره أحلفته فإذا حلف صدقته

وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما من عبد يصيب ذنبا الحديث
فكان يحلف المخبر لا لتهمة بالكذب ولكن للاحتياط في سياق الحديث على وجهه والتحرز والتحرز من تغيير لفظه نقلا بالمعنى ولئلا يقدم على الرواية بالظن بل عند السماع المحقق
ومنها ما روي عنزيد بن ثابت رضي الله عنه أنه كان يرى أن الحائض لا يجوز لها أن تصدر حتى يكون آخر عهدها الطواف بالبيت وأنكر على ابن عباس خلافه في ذلك فقيل له إن ابن عباس سأل فلانة الأنصارية هل أمرها رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك فأخبرته فرجع زيد بن ثابت يضحك ويقول لابن عباس ما أراك إلا قد صدقت ورجع إلى موافقته بخبر الأنصارية
ومنها ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيخ تمر إذا أتانا آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله حتى تكسرت
ومنها ما اشتهر من عمل أهل قباء في التحول عن القبلة بخبر الواحد وأنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة فانحرفوا إلى الكعبة بخبره
ومنها ما ظهر من ابن عباس رضي الله عنه وقد قيل أن فلانا رجلا من المسلمين يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس بموسى نبي إسرائيل عليه السلام فقال ابن عباس كذب عدو الله أخبرني أبي بن كعب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ذكر موسى والخضر بشيء يدل على أن موسى صاحب الخضر هو موسى بني إسرائيل فتجاوز ابن عباس العمل بخبر الواحد وبادر إلى التكذيب بأصله والقطع بذلك لأجل خبر أبي بن كعب
ومنها أيضا ما روي عن أبي الدرداء أنه لما باع معاوية شيئا من آنية الذهب والورق بأكثر من وزنه فقال له أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن ذلك فقال له معاوية إني لا أرى بذلك بأسا فقال أبو الدرداء من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أبدا
ومنها ما اشتهر عن جميعهم في أخبار لا تحصى الرجوع إلى عائشة وأم سلمة وميمونة وحفصة رضوان الله عليهن وإلى فاطمة بنت أسد وفلانة وفلانة ممن لا يحصى كثرة وإلى زيد وأسامة بن زيد وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم من الرجال والنساء والعبيد والموالي وعلى ذلك جرت سنة التابعين بعدهم حتى قال الشافعي رحمه الله وجدنا علي بن الحسين رضي الله عنه يعول على أخبار الآحاد وكذلك محمد بن علي وجبير بن مطعم ونافع بن جبير وخارجة بن زيد وأبو سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعطاء بن يسار وكذلك كان حال طاوس وعطاء ومجاهد وكان سعيد بن المسيب يقول أخبرني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه و سلم في الصرف فيثبت حديثه سنة ويقول حدثني أبو هريرة وعروة بن الزبير يقول حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قضى أن الخراج بالضمان ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز فينقض عمر قضاءه لأجل ذلك وكذلك ميسرة باليمن ومكحول بالشام وعلى ذلك كان فقهاء البصرة كالحسن وابن سيرين وفقهاء الكوفة وتابعوهم كعلقمة والأسود والشعبي ومسروق وعليه جرى من

بعدهم من الفقهاء ولم ينكر عليهم أحد في عصر ولو كان نكير لنقل ولوجب في مستقر العادة اشتهاره وتوفرت الدواعي على نقله كما توفرت على نقل العمل به فقد ثبت أن ذلك مجمع عليه من السلف وإنما الخلاف حدث بعدهم فإن قيل لعلهم عملوا بها مع قرائن أو بأخبار أخر صاحبتها أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها لا بمجرد هذه الأخبار كما زعمتم كما قلتم عملهم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصا صريحا على أنهم عملوا بمجردها بل بها مع قرائن قارنتها قلنا لأنهم لم ينقل عنهم لفظ إنما عملنا بمجرد الصيغة من أمر ونهي وعموم وقد قالوا هاهنا لولا هذا لقضينا بغير هذا وصرح ابن عمر رضي الله عنهما برجوعهم عن المخابرة بخبر رافع بن خديج ورجوعهم في التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها كيف وصيغة العموم والأمر والنهي قط لا تنفك عن قرينة من حال المأمور والمأمور به والآمر أما ما يرويه الراوي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فماذا يقترن به حتى يكون دليلا بسببه فتقدير ذلك كتقدير قرائن في عملهم بنص الكتاب وبالخبر المتواتر وبالإجماع وذلك يبطل جميع الأدلة وبالجملة فمناشدتهم في طلب الأخبار لا داعي لها إلا بالعمل بها فإن قيل فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة أيضا قلنا ذلك لفقدهم شرط قبولها كما سيأتي وكما تركوا العمل بنص القرآن وبأخبار متواترة لاطلاعهم على نسخها أو فوات الأمر وانقراض من كان الخطاب متعلقا به
الدليل الثاني ما تواتر من إنفاذ رسول الله صلى الله عليه و سلم أمراءه وقضاته ورسله وسعاته إلى الأطراف وهم آحاد ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات وحل العهود وتقريرها وتبليغ أحكام الشرع فمن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على الموسم سنة تسع وإنفاذه سورة براءة مع علي وتحميله فسخ العهود والعقود التي كانت بينهم وبينه صلى الله عليه و سلم ومن ذلك توليته عمر رضي الله عنه على الصدقات وتوليته معاذا قبض صدقات اليمن والحكم على أهلها ومن ذلك إنفاذه صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة متحملا ورسولا مؤديا عنه حتى بلغه أن قريشا قتلته فقلق لذلك وبايع لأجله بيعة الرضوان وقال والله لئن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا ومن ذلك توليته صلى الله عليه و سلم على الصدقات والجبايات قيس بن عاصم ومالك بن نويرة والزبرقان بن بدر وزيد بن حارثة وعمرو بن العاص وعمرو بن حزم وأسامة بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم ممن يطول ذكرهم وقد ثبت باتفاق أهل السير أنه كان صلى الله عليه و سلم يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه ولو احتاج في كل رسول إلى تنفيذ عدد التواتر معه لم يف بذلك جميع أصحابه وخلت دار هجرته عن أصحابه وأنصاره وتمكن منه أعداؤه من اليهود وغيرهم وفسد النظام والتدبير وذلك وهم باطل قطعا فإن قيل كان قد أعلمهم صلى الله عليه و سلم تفصيل الصدقات شفاها وبأخبار متواترة وإنما بعثهم لقبضها قلنا ولم وجب تصديقهم في دعوى القبض وهم آحاد ثم لم يكن بعثه صلى الله عليه و سلم في الصدقات فقط بل كان في تعليمهم الدين والحكم بين المتخاصمين وتعريف وظائف الشرع فإن قيل فليجب عليهم قبول أصل الصلاة والزكاة بل أصل الدعوة والرسالة

والمعجزة قلنا أما أصل الزكاة والصلاة فكان يجب قبوله لأنهم كانوا ينفذون لشرح وظائف الشرع بعد انتشار أصل الدعوة وأما أصل والرسالة والإيمان وأعلام النبوة فلا إذ كيف يقول رسول رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أوجب عليكم تصديقي وهم لم يعرفوا برسالته أما بعد التصديق به فيمكن الإصغاء إلى رسله بإيجابه الإصغاء إليهم فإن قيل فإنما يجب قبول خبر الواحد إذا دل قاطع على وجوب العمل به كما دل الإجماع والتواتر عندكم فأولئك بماذا صدقوا الولاة في قولهم يجب عليكم العمل بقولنا قلنا قد كان تواتر إليهم من سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ينفذ الولاة والرسل آحادا كسائر الأكابر والرؤساء ولولا علمهم بذلك لجاز للمتشكك أن يجادل فيه إذ عرض له شك ولكن قل ما يعرض الشك فيه مع القرائن فإن الذي يدخل بلادنا مع منشور القضاء قد لا يخالجنا ريب في صدقه وإن لم يتواتر إلينا ولكن بقرائن الأحوال والمعرفة لخط الكاتب وببعد جرأته على الكذب مع تعريضه للخطر في أمثال ذلك
الدليل الثالث إن العامي بالإجماع مأمور باتباع المفتي وتصديقه مع أنه ربما يخبر عن ظنه فالذي يخبر بالسماع الذي لا يشك فيه أولى بالتصديق والكذب والغلط جائزان على المفتي كما على الراوي بل الغلط على الراوي أبعد لأن كل مجتهد وإن كان مصيبا فإنما يكون مصيبا إذا لم يقصر في إتمام النظر وربما يظن أنه لم يقصر ويكون قد قصر وهذا على مذهب من يجوز تقليد مقلد الشافعي رحمه الله إذا نقل مذهبه أوقع لأنه يروي مذهب غيره فكيف لا يروي قول غيره فإن قيل هذا قياس لا يفيد إلا الظن ولا يجوز إثبات الأصول بالظن والقياس والعمل بخبر الواحد أصل كيف ولا ينقدح وجه الظن فإن المجتهد مما يضطر إليه ولو كلف آحاد العوام درجة الاجتهاد تعذر ذلك فهو مضطر إلى تقليد المفتي قلنا لا ضرورة في ذلك بل ينبغي أن يرجع إلى البراءة الأصلية إذ لا طريق له إلى المعرفة كما وجب على المفتي بزعمكم إذا بلغه خبر الواحد أن يرد الخبر فيرجع إلى البراءة الأصلية إذا تعذر عليه التواتر ثم نقول ليس هذا قياسا مظنونا بل هو مقطوع به بأنه في معناه لأنه لو صح العمل بخبر الواحد في الأنكحة لقطعنا به في البياعات ولم يختلف الأمر باختلاف المروي وهاهنا لم يختلف إلا المخبر عنه فإن المفتي يخبر عن ظن نفسه والراوي عن قول غيره كما لم يفرق في حق الشاهدين بين أن يخبرا عن أنفسهما أو عن غيرهما إذا شهدا على عدالة غيرهما أو يخبرا عن ظن أنفسهما العدالة في غيرهما
الدليل الرابع قوله تعالى فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ( التوبة 122 ) فالطائفة نفر يسير كالثلاثة ولا يحصل العلم بقولهم وهذا فيه نظر لأنه إن كان قاطعا فهو في وجوب الإنذار لا في وجوب العمل على المنذر عنه اتحاد المنذر كما يجب على الشاهد الواحد إقامة الشهادة لا ليعمل بها وحدها لكن إذا انضم غيرها إليها وهذا الاعتراض هو الذي يضعف أيضا التمسك بقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ( البقرة 159 ) وبقوله صلى الله عليه و سلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها الحديث وأمثالهما ثم

اعلم أن المخالف في المسألة له شبهتان الشبهة الأولى قولهم لا مستند في إثبات خبر الواحد إلا الإجماع فكيف يدعي ذلك وما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الواحد فمن ذلك توقف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قبول خبر ذي اليدين حيث سلم عن اثنتين حتى سأل أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وشهدا بذلك وصدقاه ثم قبل وسجد للسهو ومن ذلك رد أبي بكر رضي الله عنه خبر المغيرة بن شعبة من ميراث الجد حتى أخبره معه محمد بن مسلمة ومن ذلك رد أبي بكر وعمر خبر عثمان رضي الله عنهم فيما رواه من استئذانه الرسول في رد الحكم بن أبي العاص وطالباه بمن يشهد معه بذلك ومن ذلك ما اشتهر من رد عمر رضي الله عنه خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان حتى شهد له أبو سعد الخدري رضي الله عنه ومن ذلك رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث ومن ذلك رد عائشة رضي الله عنها خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه و سلم وأمثال ذلك مما يكثر وأكثر هذه الأخبار تدل على مذهب من يشترط عددا في الراوي لا على مذهب من يشترط التواتر فإنهم لم يجتمعوا فينتظروا التواتر لكنا نقول في الجواب عما سألوا عنه الذي رويناه قاطع في عملهم وما ذكرتموه رد لأسباب عارضة تقتضي الرد ولا تدل على بطلان الأصل كما أن ردهم بعض نصوص القرآن وتركهم بعض أنواع القياس ورد القاضي بعض أنواع الشهادات لا يدل على بطلان الأصل ونحن نشير إلى جنس المعاذير في رد الأخبار والتوقف فيها أما توقف رسول الله صلى الله عليه و سلم عن قول ذي اليدين فيحتمل ثلاثة أمور أحدها أنه جوز الوهم عليه لكثرة الجمع وبعد انفراده بمعرفة ذلك مع غفلة الجميع إذ الغلط عليه أقرب من الغفلة على الجمع الكثير وحيث ظهرت أمارات الوهم يجب التوقف
الثاني أنه وإن علم صدقه جاز أن يكون سبب توقفه أن يعلمهم وجوب التوقف في مثله ولو لم يتوقف لصار التصديق مع سكوت الجماعة سنة ماضية فحسم سبيل ذلك
الثالث أنه قال قولا لو علم صدقا لظهر أثره في حق الجماعة واشتغلت ذمتهم فألحق بقبيل الشهادة فلم يقبل فيه قول الواحد والأقوى ما ذكرناه من قبل نعم لو تعلق بهذا من يشترط عدد الشهادة فيلزمه اشتراط ثلاثة ويلزمه أن تكون في جمع يسكت عليه الباقون لأنه كذلك كان
أما توقف أبي بكر في حديث المغيرة في توريث الجدة فلعله كان هناك وجه اقتضى التوقف وربما لم يطلع عليه أحد أو لينظر أنه حكم مستقر أو منسوخ أو ليعلم هل عند غيره مثل ما عنده ليكون الحكم أوكدا أو خلافه فيندفع أو توقف في انتظار استظهار بزيادة كما يتسظهر الحاكم بعد شهادة اثنين على جزم الحكم إن لم يصادف الزيادة لا على عزم الرد أو أظهر التوقف لئلا يكثر الإقدام على الرواية عن تساهل ويجب حمله على شيء من ذلك إذ ثبت منه قطعا قبول خبر الواحد وترك الإنكار على القائلين به
وأما رد حديث عثمان في حق الحكم بن أبي العاص فلأنه خبر عن إثبات حق لشخص فهو كالشهادة لا تثبت بقول واحد أو توقف لأجل قرابة عثمان من الحكم وقد كان

معروفا بأنه كلف بأقاربه فتوقف تنزيها لعرضه ومنصبه من أن يقول متعنت إنما قال ذلك لقرابته حتى ثبت ذلك بقول غيره أو لعلهما توقفا ليسنا للناس التوقف في حق القريب الملاطف ليتعلم منهما التثبت في مثله
وأما خبر أبي موسى في الاستئذان فقد كان محتاجا إليه ليدفع به سياسة عمر عن نفسه لما انصرف عن بابه بعد أن قرع ثلاثا كالمترفع عن المثول ببابه فخاف أن يصير ذلك طريقا لغيره إلى أن يروي الحديث على حسب غرضه بدليل أنه لما رجع مع أبي سعيد الخدري وشهد له قال عمر إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم ويجوز للإمام التوقف مع انتفاء التهمة لمثل هذه المصلحة كيف ومثل هذه الأخبار لا تساوي في الشهرة والصحة أحاديثنا في نقل القبول عنهم
وأما رد علي خبر الأشجعي فقد ذكر علته وقال كيف نقبل قول أعرابي بوال على عقبيه بين أنه لم يعرف عدالته وضبطه ولذلك وصفه بالجفاء وترك التنزه عن البول كما قال عمر في فاطمة بنت قيس في حديث السكنى لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت فهذا سبيل الكلام على ما ينقل من التوقف في الأخبار
الشبهة الثانية تمسكهم بقوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم ( الإسراء 36 ) وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( البقرة 169 ) وقوله تعالى وما شهدنا إلا بما علمنا ( يوسف 81 ) وقوله تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ( الحجرات 6 ) والجهالة في قول العدل حاصلة وهذا باطل من أوجه الأول أن إنكارهم القول بخبر الواحد غير معلوم ببرهان قاطع بل يجوز الخطأ فيه فهو إذا حكم بغير علم
الثاني أن وجوب العمل به معلوم بدليل قاطع من الإجماع فلا جهالة فيه
الثالث إن المراد من الآيات منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يمسع والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول
الرابع إن هذا لو دل على رد خبر الواحد لدل على شهادة الاثنين والأربعة والرجل والمرأتين والحكم باليمين فكما علم بالنص في القرآن وجوب الحكم بهذه الأمور مع تجويز الكذب فكذلك بالإخبار
الخامس أنه يجب تحريم نصب الخلفاء والقضاة لأنا لا نتيقن إيمانهم فضلا عن ورعهم ولا نعلم طهارة إمام الصلاة عن الجنابة والحدث فليمتنع الاقتداء

الباب الثاني في شروط الراوي وصفته
وإذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فاعلم أن كل خبر فليس بمقبول وافهم أولا أنا لسنا نعني بالقبول التصديق ولا بالرد التكذيب بل يجب علينا قبول قول العدل وربما كان كاذبا أو غالطا ولا يجوز قبول قول الفاسق وربما كان صادقا بل نعني بالمقبول ما يجب العمل به وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به والمقبول رواية كل مكلف عدل مسلم ضابط منفردا كان بروايته أو معه غيره فهذه خمسة أمور لا بد من النظر فيها الأول أن رواية الواحد تقبل وإن لم تقبل شهادته خلافا للجبائي وجماعة حيث شرطوا العدد ولم يقبلوا إلا قول رجلين ثم لا تثبت رواية كل واحد إلا من رجلين آخرين وإلى أن ينتهي إلى زماننا يكثر كثرة عظيمة لا يقدر معها على إثبات حديث أصلا وقال قوم لا بد من أربعة أخذا من شهادة الزنا ودليل بطلان مذهبهم أنا نقول إذا

ثبت قبول قول الآحاد مع أنه لا يفيد العلم فاشتراط العدد تحكم لا يعرف إلا بنص أو قياس على منصوص ولا سبيل إلى دعوى النص وما نقل الصحابة من طلب استظهار فهو في واقعتين أو ثلاث لأسباب ذكرناها أما ما قضوا فيه بقول عائشة وحدها وقول زوجات رسول الله صلى الله عليه و سلم وقول عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم فهو خارج عن الحصر فقد علمنا قطعا من أحوالهم قبول خبر الواحد كما علمنا قطعا رد شهادة الواحد وإن أخذوا من قياس الشهادة فهو قياس باطل إذ عرف من فعلهم الفرق ولم لا يقاس عليه في شرط الحرية والذكورة واشترط في أخبار الزنا أربعة وفيما يتعلق برؤية الهلال وشهادة القابلة واحد والمصير إلى ذلك خرق للإجماع ولا فرق إن وجب القياس
الشرط الثاني وهو الأول تحقيقا فإن العدد ليس عندنا من الشروط وهو التكليف فلا تقبل رواية الصبي لأنه لا يخاف الله تعالى فلا وازع له من الكذب فلا تحصل الثقة بقوله وقد اتبعوا في قبول الشهادة سكون النفس وحصول الظن والفاسق أوثق من الصبي فإنه يخاف الله تعالى وله وازع من دينه وعقله والصبي لا يخاف الله تعالى أصلا فهو مردود بطريق الأولى والتمسك بهذا أولى من التمسك برد إقراره وإنه إذا لم يقبل قوله فيما يحكيه عن نفسه فبأن لا يقبل فيما يرويه عن غيره أولى فإن هذا يبطل بالعبد فإنه قد لا يقبل إقراره وتقبل روايته فإن كان سببه أنه يتناول ملك السيد وملك السيد معصوم عنه فملك الصبي أيضا محفوظ عنه لمصلحته فما لا يتعلق به قد يؤثر فيه قوله بل حاله حتى يجوز الاقتداء به اعتمادا على قوله أنه ظاهر وعلى أنه لا يصلي إلا طاهر لكنه كما يجوز الاقتداء بالبر والفاجر فكذلك بالصبي والبالغ وشهادة الفاسق لا تقبل والصبي أجرأ على الكذب منه أما إذا كان طفلا مميزا عند التحمل بالغا عند الرواية فإنه يقبل لأنه لا خلل في تحمله ولا في أدائه ويدل على قبول سماعه إجماع الصحابة على قبول خبر ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير وغيرهم من أحداث الصحابة من غير فرق بين ما تحملوه بعد البلوغ أو قبله وعلى ذلك درج السلف والخلف من إحضار الصبيان مجالس الرواية ومن قبول شهادتهم فيما تحملوه في الصغر فإن قيل فقد قال بعض العلماء تقبل شهادة الصبيان في الجنايات التي تجري بينهم قلنا ذلك منه استدلال بالقرائن إذا كثروا وأخبروا قبل التفرق أما إذا تفرقوا فيتطرق إليهم التلقين الباطل ولا وازع لهم فمن قضى به فإنما قضى به لكثرة الجنايات بينهم ولمسيس الحاجة إلى معرفته بقرائن الأحوال فلا يكون ذلك على منهاج الشهادة
الشرط الثالث أن يكون ضابطا فمن كان عند التحمل غير مميز أو كان مغفلا لا يحسن ضبط ما حفظه ليؤديه على وجهه فلا ثقة بقوله وإن لم يكن فاسقا
الشرط الرابع أن يكون مسلما ولا خلاف في أن رواية الكافر لا تقبل لأنه متهم في الدين وإن كان تقبل شهادة بعضهم على بعض عند أبي حنيفة ولا يخالف في رد روايته والاعتماد في ردها على الإجماع المنعقد على سلبه أهلية هذا المنصب في الدين وإن كان عدلا في دين نفسه وهو أولى من قولنا الفاسق مردود الشهادة والكفر أعظم أنواع الفسق وقد قال تعالى إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا ( الحجرات 6 ) لأن الفاسق متهم لجرأته على المعصية والكافر المترهب قد لا

يتهم لكن التعويل على الإجماع في سلب الكافر هذا المنصب فإن قيل هذا يتجه في اليهود والنصارى ومن لا يؤمن بديننا إذ لا يليق في السياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه فما قولكم في الكافر المتأول وهو الذي قد قال ببدعة يجب التكفير بها فهو معظم للدين وممتنع من المعصية وغير عالم بأنه كافر فلم لا تقبل روايته وقد قبل الشافعي رواية بعض أهل البدع وإن كان فاسقا ببدعته لأنه متأول في فسقه قلنا في رواية المبتدع المتأول كلام سيأتي وأما الكافر وإن كان متأولا فلا تقبل روايته لأن كل كافر متأول فإن اليهودي أيضا لا يعلم كونه كافرا أما الذي ليس بمتأول وهو المعاند بلسانه بعد معرفة الحق بقلبه فذلك مما يندر وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني فلا ينظر إليه بل هذا المنصب لا يتسفاد إلا بالإسلام وعرف ذلك بالإجماع لا بالقياس
الشرط الخامس العدالة قال الله تعالى لهم ( الحجرات 6 ) وهذا زجر عن اعتماد قول الفاسق ودليل على شرط العدالة في الرواية والشهادة والعدالة عبارة عن استقامة السيرة والدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعا حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفا وازغا عن الكذب ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي ولا يكفي أيضا اجتناب الكبائر بل من الصغائر ما يرد به كسرقة بصلة وتطفيف في حبة قصدا وبالجملة كل ما يدل على ركاكة دينه إلى حد يستجرىء على الكذب بالأعراض الدنيوية كيف وقد شرط في العدالة التوقي عن بعض المباحات القادحة في المروءة نحو الأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأراذل وإفراط المزح والضابط في ذلك فيما جاوز محل الإجماع أن يرد إلى اجتهاد الحاكم فما دل عنده على جراءته على الكذب رد الشهادة به وما لا فلا وهذا يختلف بالإضافة إلى المجتهدين وتفصيل ذلك من الفقه لا من الأصول ورب شخص يعتاد الغيبة ويعلم الحاكم أن ذلك له طبع لا يصبر عنه ولو حمل على شهادة الزور لم يشهد أصلا فقوله شهادته بحكم اجتهاده جائز في حقه ويختلف ذلك بعادات البلاد واختلاف أحوال الناس في استعظام بعض الصغائر دون بعض ويتفرع عن هذا الشرط مسألتان

مسألة ( تعريف العدالة )
قال بعض أهل العراق العدالة عبارة عن إظهار الإسلام فقط مع سلامته عن فسق ظاهر فكل مسلم مجهول عنده عدل وعندنا لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة والبحث عن سيرته وسريرته ويدل على بطلان ما قالوه أمور الأول أن الفاسق مردود الشهادة والرواية بنص القرآن ولعلمنا بأن دليل قبول خبر الواحد قبول الصحابة إياه وإجماعهم ولم ينقل ذلك عنهم إلا في العدل والفاسق لو قبلت روايته لقبل بدليل الإجماع أو بالقياس على العدل المجمع عليه ولا إجماع في الفاسق ولا هو في معنى العدل في حصول الثقة بقوله فصار الفسق مانعا من الرواية كالصبا والكفر وكالرق في الشهادة ومجهول الحال في هذه الخصال لا يقبل قوله فكذلك مجهول الحال في الفسق لأنه إن كان فاسقا فهو مردود الرواية وإن كان عدلا فغير مقبول أيضا للجهل به كما لو شككنا في صباه ورقه وكفره ولا فرق
الثاني أنه لا تقبل شهادة المجهول وكذلك روايته وإن منعوا شهادة المال فقد سلموا شهادة

العقوبات ثم المجهول مردود في العقوبات وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحد وإن اختلفا في بقية الشروط
الثالث أن المفتي المجهول الذي لا يدري أنه بلغ رتبة الاجتهاد أم لا يجوز للعامي قبول قوله وكذلك إذا لم يدر أنه عالم أم لا بل سلموا أنه لو لم تعرف عدالته وفسقه فلا يقبل وأي فرق بين حكاية المفتي عن نفسه اجتهاده وبين حكايته خبرا عن غيره
الرابع أن شهادة الفرع لا تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل وهو مجهول عند القاضي فلم يجب تعيينه وتعريفه إن كان قول المجهول مقبولا وهذا رد على من قبل شهادة المجهول ولا جواب عنه فإن قيل يلزمه ذكر شاهد الأصل فلعل القاضي يعرفه بفسق فيرد شهادته قلنا إذا كان حد العدالة هو الإسلام من غير ظهور فسق فقد تحقق ذلك فلم يجب التتبع حتى يظهر الفسق ثم يبطل ما ذكره بالخبر المرسل فإنهم لم يوجبوا ذكر الشيخ ولعل المروي له يعرف فسقه
الخامس أن مستندنا في خبر الواحد عمل الصحابة وهم قد ردوا خبر المجهول فرد عمر رضي الله عنه فاطمة بنت قيس وقال كيف نقبل قول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت ورد علي خبر الأشجعي في المفوضة وكان يحلف الراوي وإنما يحلف من عرف من ظاهره العدالة دون الفسق ومن رد قول المجهول منهم كان لا ينكر عليه غيره فكانوا بين راد وساكت وبمثله ظهر إجماعهم في قبول العدل إذ كانوا بين قابل وساكت غير منكر ولا معترض
السادس ما ظهر من حال رسول الله صلى الله عليه و سلم في طلبه العدالة والعفاف وصدق التقوى ممن كان ينفذه للأعمال وأداء الرسالة وإنما طلب الأشد التقوى لأنه كان قد كلفهم أن لا يقبلوا إلا قول العدل فهذه أدلة قوية في محل الاجتهاد قريبة من القطع والمسألة اجتهادية لا قطعية
شبه الخصوم وهي أربع الأولى أنه صلى الله عليه و سلم قبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية الهلال ولم يعرف منه إلا الإسلام قلنا وكونه أعرابيا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بالوحي وإما بالخبرة وإما بتزكية من عرف حاله فمن يسلم لكم أنه كان مجهولا عنده
الثانية أن الصحابة قبلوا قول العبيد والنسوان والأعراب لأنهم لم يعرفوهم بالفسق وعرفوهم بالإسلام قلنا إنما قبلوا قول أزواج رسول الله صلى الله عليه و سلم وأزواج أصحابه وكانت عدالتهن وعدالة مواليهم مشهورة عندهم وحيث جهلوا ردوا كرد قول الأشجعي وقول فاطمة بنت قيس
الثالثة قولهم لو أسلم كافر وشهد في الحال أو روى فإن قلتم لا نقبل شهادته فهو بعيد وإن قبلتم فلا مستند للقبول إلا إسلامه وعدم معرفة الفسق منه فإذا انقضت مدة ولم نعرف منه فسقا لطول مدة إسلامه لم نوجب رده قلنا لا نسلم قبول روايته فقد يسلم الكذوب ويبقى على طبعه فما لم نطلع على خوف في قلبه وازع عن الكذب لا نقبل شهادته والتقوى في القلب وأصله الخوف وإنما تدل عليه أفعاله في مصادره وموارده فإن سلمنا قبول روايته فذلك لطرق إسلامه وقرب عهده بالدين وشتان بين من هو في طراوته وبدايته وبين من قسا قلبه بطول الألف فإن قيل إذا رجعت العدالة إلى هيئة باطنة في النفس وأصلها الخوف وذلك لا يشاهد بل يستدل عليه بما ليس بقاطع بل هو مغلب على الظن فأصل ذلك الخوف هو الإيمان فذلك يدل على الخوف دلالة

ظاهرة فلنكتف به قلنا لا يدل عليه فإن المشاهدة والتجربة دلت على أن عدد فساق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم فكيف نشكك نفوسنا فيما عرفناه يقينا ثم هلا أكتفي بذلك في شهادة العقوبات وشهادة الأصل وحال المفتي في العدالة وسائر ما سلموه
الرابعة قولهم يقبل قول المسلم المجهول في كون اللحم لحم ذكي وكون الماء في الحمام طاهرا وكون الجارية المبيعة رقيقة غير مزوجة ولا معتدة حتى يحل الوطء بقوله وقول المجهول في كونه متطهرا للصلاة عن الحدث والجنابة إذا أم الناس وكذلك قول من يخبر عن نجاسة الماء وطهارته بناء على ظاهر الإسلام وكذلك قول من يخبر الأعمى عن القبلة قلنا أما قول العاقد فمقبول لا لكونه مجهولا لكنه مع ظهور الفسق وذلك رخصة لكثرة الفساق ولمسيس حاجتهم إلى المعاملات وكذلك جواز الاقتداء بالبر والفاجر فلا يشترط الستر أما الخبر عن القبلة وعن طهارة الماء فلم يحصل سكون النفس بقول المخبر فلا يجب قبوله والمجهول لا تسكن النفس إليه بل سكون النفس إلى قول فاسق جرب باجتناب الكذب أغلب منه إلى قول المجهول وما يخص العبد بينه وبين الله تعالى فلا يبعد أن يرد إلى سكون نفسه فأما الرواية والشهادة فأمرهما أرفع وخطرهما عام فلا يقاسان على غيرهما وهذه صور ظنية اجتهادية أما رد خبر الفاسق والمجهول فقريب من القطع

مسألة ( هل تقبل شهادة الفاسق المتأول )
الفاسق المتأول وهو الذي لا يعرف فسق نفسه اختلفوا في شهادته وقد قال الشافعي أقبل شهادة الحنفي وأحده إذا شرب النبيذ لأن هذا فسق غير مقطوع به إنما المقطوع به فسق الخوارج الذين استباحوا الديار وقتلوا الذراري وهم لا يدرون أنهم فسقة وقد قال الشافعي تقبل شهادة أهل الأهواء لا الخطابية من الرافضة لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم في المذهب واختار القاضي أنه لا تقبل رواية المبتدع وشهادته لأنه فاسق بفعله وبجهله بتحريم فعله ففسقه مضاعف وزعم أن جهله بفسق نفسه كجهله بكفر نفسه ورق نفسه ومثار هذا الخلاف أن الفسق يرد الشهادة لأنه نقصان منصب يسلب الأهلية كالكفر والرق أو هو مردود القول للتهمة فإن كان للتهمة فالمبتدع متورع عن الكذب فلا يتهم وكلام الشافعي مشير إلى هذا وهو في محل الاجتهاد فذهب أبي حنيفة أن الكفر والفسق لا يسلبان الأهلية بل يوجبان التهمة ولذلك قبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض ومذهب القاضي أن كليهما نقصان منصب يسلب الأهلية ومذهب الشافعي أن الكفر نقصان والفسق موجب للرد للتهمة وهذا هو الأغلب على الظن عندنا
فإن قيل هذا مشكل على الشافعي من وجهين أحدهما أنه قضى بأن النكاح لا ينعقد بشهادة الفاسق وذلك لسلب الأهلية الثاني أنه إن كان للتهمة فإذا غلب على ظن القاضي صدقه فليقبل
قلنا أما الأول فأخذه قوله صلى الله عليه و سلم لا نكاح إلا بولي وشاهدين عدل وللشارع أن يشترط زيادة على أهلية الشهادة كما شرط في الولي وكما شرط في الزنا زيادة عدد
وأما الثاني فسببه أن الظنون تختلف وهو أمر خفي ناطه الشرع بسبب ظاهر وهو عدد مخصوص ووصف مخصوص وهو العدالة فيجب اتباع السبب الظاهر دون المعنى الخفي كما في العقوبات وكما في رد شهادة الوالد لأحد ولديه على الآخر فإنه قد يتهم وترد شهادته

لأن الأبوة مظنة للتهمة فلا ينظر إلى الحال وإنما مظنة التهمة ارتكاب الفسق مع المعرفة دون من لا يعرف ذلك ويدل أيضا على مذهب الشافعي قبول الصحابة قول الخوارج في الأخبار والشهادة وكانوا فسقة متأولين وعلى قبول ذلك درج التابعون لأنهم متورعون عن الكذب جاهلون بالفسق فإن قيل فهل يمكن دعوى الإجماع في ذلك قلنا لا فإنا نعلم أن عليا والأئمة قبلوا قول قتلة عثمان والخوارج لكن لا نعلم ذلك من جميع الصحابة فلعل فيهم من أضمر إنكارا لكن لم يرد على الإمام في محل الاجتهاد فكيف ولو قبل جميعهم خبرهم فلا يثبت أن جميعهم اعتقدوا فسقهم وكيف يفرض والخوارج من جملة أهل الإجماع وما اعتقدوا فسق أنفسهم بل فسق خصومهم وفسق عثمان وطلحة ووافقهم عليه عمار بن ياسر وعدي بن حاتم وابن الكواء والأشتر النخعي وجماعة من الأمراء وعلي في تقية من الإنكار عليهم خوف الفتنة فإن قيل لو لم يعتقدوا فسق الخوارج لفسقوا قلنا ليس كذلك فليس الجهل بما يفسق ويكفر فسقا وكفرا وعلى الجملة فقبولهم روايتهم يدل على أنهم اعتقدوا رد خبر الفاسق للتهمة ولم يتهموا المتأول والله أعلم
خاتمة جامعة للرواية والشهادة اعلم أن التكليف والإسلام والعدالة والضبط يشترك فيه الرواية والشهادة فهذه أربعة أما الحرية والذكورة والبصر والقرابة والعدد والعداوة فهذه الستة تؤثر في الشهادة

دون الرواية لأن الرواية حكمها عام لا يختص بشخص حتى تؤثر فيه الصداقة والقرابة والعداوة فيروي أولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم عنه ويروي كل ولد عن والده والضرير الضابط للصوت تقبل روايته وإن لم تقبل شهادته إذ كانت الصحابة يروون عن عائشة اعتمادا على صوتها وهم كالضرير في حقها ولا يشترط كون الراوي عالما فقيها سواء خالف ما رواه القياس أو وافق إذ رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فلا يشترط إلا الحفظ ولا يشترط مجالسة العلماء وسماع الأحاديث بل قبل الصحابة قول أعرابي لم يرو إلا حديثا واحدا نعم إذا عارضه حديث العالم الممارس ففي الترجيح نظر سيأتي ولا تقبل رواية من عرف باللعب والهزل في أمر الحديث أو التساهل في أمر الحديث أو بكثرة السهو فيه إذ تبطل الثقة بجميع ذلك أما الهزل والتساهل في حديث نفسه فقد لا يوجب الرد ولا يشترط كون الراوي معروف النسب بل إذا عرف عدالة شخص بالخبرة قبل حديثه وإن لم يكن له نسب فضلا عن أن يكون لا يعرف نسبه ولو روى عن مجهول العين لم نقبله بل من يقبل رواية المجهول صفته لا يقبل رواية المجهول عينه إذ لو عرف عينه ربما عرفه بالفسق بخلاف من عرف عينه ولم يعرفه بالفسق فلو روى عن شخص ذكر اسمه واسمه مردد بين مجرح وعدل فلا يقبل لأجل التردد

الباب الثالث في الجرح والتعديل
وفيه أربعة فصول الأول في عدد المزكى وقد اختلفوا فيه فشرط بعض المحدثين العدد في المزكى والجارح كما في مزكى الشاهد وقال القاضي لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي وإن كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكى وقال قوم يشترط في الشهادة دون الرواية وهذه مسألة فقهية والأظهر عندنا أنه يشترط في الشهادة دون الرواية وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس الرواية فإن قيل صح من الصحابة قبول رواية الواحد ولم يصح قبول تزكية الواحد فيرجع فيه إلى قياس الشرع قلنا نحن نعلم مما فعلوه كثيرا مما لم يفعلوه إذ نعلم أنهم كما قبلوا حديث الصديق رضي الله عنه كانوا يقبلون تعديله لمن روى الحديث وكيف يزيد شرط الشيء على أصله والإحصان يثبت بقول اثنين وإن لم يثبت الزنا إلا بأربعة ولم يقس عليه وكذلك نقول تقبل تزكية العبد والمرأة في الرواية كما تقبل روايتهما وهذه مسائل فقهية ثبتت بالمقاييس الشبيهة فلا معنى للإطناب فيها في الأصول
الفصل الثاني في ذكر سبب الجرح والتعديل قالالشافعي يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل إذ قد يجرح بما لا يراه جارحا لاختلاف المذاهب فيه وأما العدالة فليس لها إلا سبب واحد وقال قوم مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى البناء على الظاهر فلا بد من ذكر سببه وقال قوم لا بد من السبب فيهما جميعا أخذا بمجامع كلام الفريقين وقال القاضي لا يجب ذكر المسبب فيهما جميعا لأنه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن فلا يصلح للتزكية وإن كان بصيرا فأي معنى للسؤال والصحيح عندنا أن هذا يختلف باختلاف حال المزكي فمن حصلت الثقة ببصيرته وضبطه يكتفى بإطلاقه ومن عرفت عدالته في نفسه ولم تعرف بصيرته بشروط العدالة فقد نراجعه إذا فقدنا عالما بصيرا به وعند ذلك نستفصله أما إذا تعارض الجرح والتعديل قدمنا الجرح فإن الجارح أطلع على زيادة ما أطلع عليها المعدل ولا نفاها فإن نفاها بطلت عدالة المزكي إذ النفي لا يعلم إلا إذا جرحه بقتل إنسان فقال المعدل رأيته حيا بعده تعارضا وعدد المعدل إذا زاد قيل إنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على مزيد ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد
الفصل الثالث في نفس التزكية وذلك إما بالقول أو بالرواية عنه أو بالعمل بخبره أو بالحكم بشهادته فهذه أربعة أعلاها صريح القول وتمامه أن يقول هو عدل رضا لأني عرفت منه كيت وكيت فإن لم يذكر السبب وكان بصيرا بشروط العدالة كفى
الثانية أن يروي عنه خبرا وقد اختلفوا في كونه تعديلا والصحيح أنه إن عرف من عادته أو بصريح قوله أنه لا يستجيز الرواية إلا من عدل كانت الرواية تعديلا وإلا فلا إذ من عادة أكثرهم الرواية من كل من سمعوه ولو كلفوا الثناء عليهم سكتوا فليس في روايته ما يصرح بالتعديل فإن قيل لو عرفه بالفسق ثم روى عنه كان غاشا في الدين قلنا لم نوجب على غيره العمل لكن قال سمعت فلانا قال كذا وصدق فيه ثم لعله لم يعرفه بالفسق ولا العدالة فروى ووكل البحث إلى من أراد القبول
الثالثة العمل بالخبر إن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس بتعديل وإن عرفنا يقينا أنه عمل بالخبر فهو تعديل إذ لو عمل بخبر غير العدل لفسق وبطلت عدالته فإن قيل لعله ظن أن مجرد الإسلام مع عدم الفسق عدالة قلنا هذا يتطرق إلى التعديل بالقول ونحن نقول العمل

كالقول وهذا الاحتمال ينقطع بذكر سبب العدالة وما ذكرناه تفريع على الاكتفاء بالتعديل المطلق إذ لو شرط ذكر السبب لشرط في شهادة البيع والنكاح عد جميع شرائط الصحة وهو بعيد فإن قيل لعله عرفه عدلا ويعرفه غيره بالفسق قلنا من عرفه لا جرم لا يلزمه العمل به كما لو عدل جريحا
الرابعة أن يحكم بشهادته فذلك أقوى من تزكيته بالقول أما ترك الحكم بشهادته وبخبره فليس جرحا إذ قد يتوقف في شهادة العدل وروايته لأسباب سوى الجرح كيف وترك العمل لا يزيد على الجرح المطلق وهو غير مقبول عند الأكثرين وبالجملة إن لم ينقدح وجه لتزكية العمل من تقديم أو دليل آخر فهو كالجرح المطلق
الفصل الرابع في عدالة الصحابة رضي الله عنهم والذي عليه سلف الأمة وجماهير الخلف أن عدالتهم معلومة بتعديل الله عز و جل إياهم وثنائه عليهم في كتابه فهو معتقدنا فيهم إلا أن يثبت بطريق قاطع ارتكاب واحد لفسق مع علمه به وذلك مما لا يثبت فلا حاجة لهم إلى التعديل قال الله تعالى بصير ( آل عمران 110 ) وقال تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ( البقرة 143 ) وهو خطاب مع الموجودين في ذلك العصر وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ( الفتح 18 ) وقال عز و جل والسابقون الأولون ( التوبة 100 ) وقد ذكر الله تعالى المهاجرين والأنصار في عدة مواضع وأحسن الثناء عليهم وقال صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني ثم الذين يلونهم وقال صلى الله عليه و سلم لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه وقال صلى الله عليه و سلم إن الله اختار لي أصحابا وأصهارا وأنصارا فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب سبحانه وتعديل رسول الله صلى الله عليه و سلم كيف ولو لم يرد الثناء لكان فيما اشتهر وتواتر من حالهم في الهجرة والجهاد وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأهل في موالاة رسول الله صلى الله عليه و سلم ونصرته كفاية في القطع بعدالتهم وقد زعم قوم أن حالهم كحال غيرهم في لزوم البحث وقال قوم حالهم العدالة في بداية الأمر إلى ظهور الحرب والخصومات ثم تغير الحال وسفكت الدماء فلا بد من البحث وقال جماهير المعتزلة عائشة وطلحة والزبير وجميع أهل العراق والشام فساق بقتال الإمام الحق وقال قوم من سلف القدرية يجب رد شهادة علي وطلحة والزبير مجتمعين ومفترقين لأن فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه وقال قوم نقبل شهادة كل واحد إذا انفرد لأنه لم يتعين فسقه أما إذا كان مع مخالفه فشهدا ردا إذ نعلم أن أحدهما فاسق وشك بعضهم في فسق عثمان وقتلته وكل هذا جراءة على السلف على خلاف السنة بل قال قوم ما جرى بينهم ابتنى على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطىء معذور لا ترد شهادته وقال قوم ليس ذلك مجتهدا فيه ولكن قتلة عثمان والخوارج مخطئون قطعا لكنهم جهلوا خطأهم وكانوا متأولين والفاسق المتأول لا ترد روايته وهذا أقرب من المصير إلى سقوط تعديل القرآن مطلقا فإن قيل القرآن أثنى على الصحابة فمن الصحابة من عاصر رسول الله صلى الله عليه و سلم أو من لقيه مرة أو من صحبه ساعة أو من طالت صحبته وما حد

طولها قلنا الإسم لا يطلق إلا على من صحبه ثم يكفي للاسم من حيث الوضع الصحبة ولو ساعة ولكن العرف يخصص الاسم بمن كثرت صحبته ويعرف ذلك بالتواتر والنقل الصحيح وبقول الصحابي كثرت صحبتي ولا حد لتلك الكثرة بتقدير بل بتقريب الباب الرابع في مستند الراوي وكيفية ضبطه ومستنده إما قراءة الشيخ عليه أو قراءته على الشيخ أو إجازته أو مناولته أو رؤيته بخطه في كتاب فهي خمس مراتب الأولى وهي الأعلى قراءة الشيخ في معرض الأخبار ليروى عنه وذلك يسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا وقال فلان وسمعته يقول
الثانية أن يقرأ على الشيخ وهو ساكت فهو كقوله هذا صحيح فتجوز الرواية به خلاف لبعض أهل الظاهر إذ لو لم يكن صحيحا لكان سكوته وتقريره عليه فسقا قادحا في عدالته ولو جوزنا ذلك لجوزنا أن يكذب إذا نطق بكونه صحيحا نعم لو كان ثم مخيلة قلة اكتراث أو غفلة فلا يكفي السكوت وهذا يسلط الراوي على أن يقول أخبرنا وحدثنا فلان قراءة عليه أما قوله حدثنا مطلقا أو سمعت فلانا اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يجوز لأنه يشعر بالنطق لأن الخبر والحديث والمسموع كل ذلك نطق وذلك منه كذب إلا إذا علم بصريح قوله أو بقرينة حاله أنه يريد به القراءة على الشيخ دون سماع حديثه
الثالثة الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني الكتاب الفلاني أو ما صح عندك من مسموعاتي وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع أما إذا اقتصر على قوله هذا مسموعي من فلان فلا تجوز الرواية عنه لأنه لم يأذن في الرواية فلعله لا يجوز الرواية لخلل يعرفه فيه وإن سمعه وكذلك لو قال عندي شهادة لا يشهد ما لم يقل أذنت لك في أن تشهد على شهادتي أو لم تقم تلك الشهادة في مجلس الحكم لأن الرواية شهادة والإنسان قد يتساهل في الكلام لكن عند جزم الشهادة قد يتوقف ثم الإجازة تسلط الراوي على أن يقول حدثنا وأخبرنا إجازة أما قوله حدثنا مطلقا جوزه قوم وهو فاسد لأنه يشعر بسماع كلامه وهو كذب كما ذكرناه في القراءة على الشيخ
الرابعة المناولة وصورته أن يقول خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان ومجرد المناولة دون هذا اللفظ لا معنى له وإذا وجد هذا اللفظ فلا معنى للمناولة فهو زيادة تكلف أحدثه بعض المحدثين بلا فائدة كما يجوز رواية الحديث بالإجازة فيجب العمل به خلافا لبعض أهل الظاهر لأن المقصود معرفة صحة الخبر لا عين الطريق المعرف وقوله هذا الكتاب مسموعي فاروه عني في التعريف كقراءته والقراءة عليه وقولهم إنه قادر على أن يحدثه به فهو كذلك لكن أي حاجة إليه ويلزم أن لا تصح القراءة عليه لأنه قادر على القراءة بنفسه ويجب أن لا يروى في حياة الشيخ لأنه قادر على الرجوع إلى الأصل كما في الشهادة فدل أن هذا لا يعتبر في الرواية
الخامسة الاعتماد على الخط بأن يرى مكتوبا بخطه إني سمعت على فلان كذا فلا يجوز أن يروي عنه لأن روايته شهادة عليه بأنه قاله والخط لا يعرفه هذا نعم يجوز أن يقول رأيت مكتوبا في كتاب بخط ظننت أنه خط فلان فإن الخط أيضا قد يشبه الخط أما إذا قال هذا خطي قبل قوله ولكن لا يروي عنه ما لم يسلطه على الرواية بصريح قوله أو أما بقرينة حاله في الجلوس لرواية الحديث أما إذا

قال عدل هذه نسخة صحيحة من صحيح البخاري مثلا فرأى فيه حديثا فليس له أن يروي عنه لكن هل يلزمه العمل إن كان مقلدا فعليه أن يسأل المجتهد وإن كان مجتهدا فقال قوم لا يجوز له العلم به ما لم يسمعه وقال قوم إذا علم صحة النسخة بقول عدل جاز العمل لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد وكان الخلق يعتمدون تلك الصحف بشهادة حامل الصحف بصحته دون أن يسمعه كل واحد منه فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن وعلى الجملة فلا ينبغي أن يروي إلا ما يعلم سماعه أولا وحفظه وضبطه إلى وقت الأداء بحيث يعلم أن ما أداه هو الذي سمعه ولم يتغير منه حرف فإن شك في شيء منه فليترك الرواية
ويتفرع عن هذا الأصل مسائل

مسألة ( الشك في الرواية إذا كان في مسموعاته )
عن الزهري مثلا حديث واحد شك أنه سمعه من الزهري أم لا لم يجز له أن يقول سمعت الزهري ولا أن يقول قال الزهري لأن قوله قال الزهري شهادة على الزهري فلا يجوز إلا عن علم فلعله سمعه من غيره فهو كمن سمع إقرارا ولم يعلم أن المقر زيد و عمرو فلا يجوز أن يشهد على زيد بل نقول لو سمع مائة حديث من شيخ وفيها حديث واحد علم أنه لم يسمعه ولكنه التبس عليه عينه فليس له روايته بل ليس له رواية شيء من الأحاديث عنه إذ ما من حديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه ولو غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من الزهري لم تجز الرواية بغلبة الظن وقال قوم يجوز لأن الاعتماد في هذا الباب على غلبة الظن وهو بعيد لأن الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن ولكن في حق الحاكم فإنه لا يعلم صدق الشاهد أما الشاهد فينبغي أن يتحقق لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم فيما تمكن فيه المشاهدة ممكن وتكليف الحاكم أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال وكذلك الراوي لا سبيل له إلى معرفة صدق الشيخ ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع فإذا لم يتحقق فينبغي أن لا يروي فإن قيل فالواحد في عصرنا يجوز أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يتحقق ذلك قلنا لا طريق له إلى تحقق ذلك ولا يفهم من قوله قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه سمعه لكن يفهم منه أنه سمع هذا الحديث من غيره أو رواه في كتاب يعتمد عليه وكل من سمع ذلك لا يلزمه العمل به لأنه مرسل لا يدري من أين يقوله وإنما يلزم العمل إذا ذكر مستنده حتى ينظر في حاله وعدالته والله أعلم
مسألة ( تكذيب الشيخ الراوي )
إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد قاطع بكذب الراوي ولم يعمل به لم يصر الراوي مجروحا لأن الجرح ربما لا يثبت بقول واحد ولأنه مكذب شيخه كما أن شيخه مكذب له وهما عدلان فهما كبينتين متكاذبتين فلا يوجب الجرح أما إذا أنكر إنكار متوقف وقال لست أذكره فيعمل بالخبر لأن الراوي جازم أنه سمعه منه وهو ليس بقاطع بتكذيبه وهما عدلان فصدقهما إذا ممكن وذهب الكرخي إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث وبنى عليه اطراح خبر الزهري أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها واستدل بأنه الأصل ولأنه ليس للشيخ أن يعمل بالحديث والراوي فرعه فكيف يعمل به قلنا للشيخ أن يعمل به إذا روى العدل له عنه فإن بقي شك له مع رواية العدل فليس له العمل به وعلى

الراوي العمل إذا قطع بأنه سمع وعلى غيرهما العمل جمعا بين تصديقهما والحاكم يجب عليه العمل بقول الشاهد المزور الظاهر العدالة ويحرم على الشاهد ويجب على العامي العمل بفتوى المجتهد وإن تغير اجتهاده إذا لم يعلم تغير اجتهاده والمجتهد لا يعمل به بعد التغير لأنه علمه فعمل كل واحد على حسب حاله وقد ذهب إلى العمل به مالك والشافعي وجماهير المتكلمين وهذا لأن النسيان غالب على الإنسان وأي محدث يحفظ في حينه جميع ما رواه في عمره فصار كشك الشيخ في زيادة في الحديث أو في إعراب في الحديث فإن ذلك لما لم يبطل الحديث لكثرة وقوع الشك فيه فكذلك أصل الحديث

مسألة ( هل تقبل زيادة الثقة بالحديث )
انفراد الثقة بزيادة في الحديث عن جماعة النقلة مقبول عند الجماهير سواء كانت الزيادة من حيث اللفظ أو من حيث المعنى لأنه لو انفرد بنقل حديث عن جميع الحفاظ لقبل فكذلك إذا انفرد بزيادة لأن العدل لا يتهم بما أمكن فإن قيل يبعد انفراده بالحفظ مع إصغاء الجميع قلنا تصديق الجميع أولى إذا كان ممكنا وهو قاطع بالسماع والآخرون ما قطعوا بالنفي فلعل الرسول صلى الله عليه و سلم ذكره في مجلسين فحيث ذكر الزيادة لم يحضر إلا الواحد أو كرر في مجلس واحد وذكر الزيادة في إحدى الكرتين ولم يحضر إلا الواحد ويحتمل أن يكون راوي النقص دخل في أثناء المجلس فلم يسمع التمام أو اشتركوا في الحضور ونسوا الزيادة إلا واحدا أو طرأ في أثناء الحديث سبب شاغل مدهش فغفل به البعض عن الإصغاء فيختص بحفظ الزيادة المقبل على الإصغاء أو عرض لبعض السامعين خاطر شاغل عن الزيادة أو عرض له مزعج يوجب قيامه قبل التمام فإذا احتمل ذلك فلا يكذب العدل ما أمكن
مسألة ( هل تقبل رواية بعض الخبر )
رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع نقل الحديث بالمعنى ومن جوز النقل على المعنى جوز ذلك إن كان قد رواه مرة بتمامه ولم يتعلق المذكور بالمتروك تعلقا يغير معناه وأما إذا تعلق كشرط العبادة أو ركنها أو ما به التمام فنقل البعض تحريف وتلبيس أما إذا روى الحديث مرة تاما ومرة ناقصا نقصانا لا يغير فهو جائز ولكن بشرط أن لا يتطرق إليه سوء الظن بالتهمة فإذا علم أنه يتهم باضطراب النقل وجب عليه الاحتراز عن ذلك
مسألة ( هل يصح رواية الحديث بالمعنى )
نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ حرام على الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ أما العالم بالفرق بين المحتمل وغير المحتمل والظاهر والأظهر والعام والأعم فقد جوز له الشافعي ومالك وأبو حنيفة وجماهير الفقهاء أن ينقله على المعنى إذا فهمه وقال فريق لا يجوز له إلا إبدال بما يرادفه ويساويه في المعنى كما يبدل القعود بالجلوس والعلم بالمعرفة والاستطاعة بالقدرة والإبصار بالإحساس بالبصر والحظر بالتحريم وسائر ما لا يشك فيه وعلى الجملة ما لا يتطرق إليه تفاوت بالاستنباط والفهم وإنما ذلك فيما فهمه قطعا لا فيما فهمه بنوع استدلال يختلف فيه الناظرون ويدل على جواز ذلك للعالم الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم فإذا جاز إبدال العربية بعجمية ترادفها فلأن يجوز عربية بعربية ترادفها وتساويها أولى وكذلك كان سفراء رسول الله صلى الله عليه و سلم في

البلاد يبلغونهم أوامره بلغتهم وكذلك من سمع شهادة الرسول صلى الله عليه و سلم فله أن يشهد على شهادته بلغة أخرى وهذا لأنا نعلم أنه لا تعبد في اللفظ وإنما المقصود فهم المعنى وإيصاله إلى الخلق وليس ذلك كالتشهد والتكبير وما تعبد فيه باللفظ فإن قيل فقد قال صلى الله عليه و سلم نضر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه
قلنا هذا هو الحجة لأنه ذكر العلة وهو اختلاف الناس في الفقه فما لا يختلف الناس فيه من الألفاظ المترادفة فلا يمنع منه وهذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وإن أمكن أن تكون جميع الألفاظ قول رسول الله صلى الله عليه و سلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنه حديث واحد ونقل بألفاظ مختلفة فإنه روى رحم الله امرءا ونضر الله امرءا وروي ورب حامل فقه لا فقه له وروى حامل فقه غير فقيه وكذلك الخطب المتحدة والوقائع المتحدة رواها الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ مختلفة فدل ذلك على الجواز

مسألة ( هل يقبل الحديث المرسل أم لا )
المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجماهير ومردود عند الشافعي والقاضي وهو المختار وصورته أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من لم يعاصره أو قال من لم يعاصر أبا هريرة قال أبو هريرة والدليل أنه لو ذكر شيخه ولم يعدله وبقي مجهولا عندنا لم نقبله فإذا لم يسمه فالجهل أتم فمن لا يعرف عينه كيف تعرف عدالته فإن قيل رواية العدل عنه تعديل فالجواب من وجهين الأول أنا لا نسلم فإن العدل قد يروي عمن لو سئل عنه لتوقف فيه أو جرحه وقد رأيناهم رووا عمن إذا سئلوا عنه عدلوه مرة وجرحوه أخرى أو قالوا لا ندري فالراوي عنه ساكت عن تعديله ولو كان السكوت عن الجرح تعديلا لكان السكوت عن التعديل جرحا ولوجب أن يكون الراوي إذا جرح من روى عنه مكذبا نفسه ولأن شهادة الفرع ليس تعديلا للأصل ما لم يصرح وافتراق الرواية والشهادة في بعض التعبدات لا يوجب فرقا في هذا المعنى كما لم يوجب فرقا في منع قبول رواية المجروح والمجهول وإذا لم يجز أن يقال لا يشهد العدل إلا على شهادة عدل لم يجز ذلك في الرواية ووجب فيها معرفة عين الشيخ والأصل حتى ينظر في حالهما فإن قيل العنعنة كافية في الرواية مع أن قوله روى فلان عن فلان عن فلان يحتمل ما لم يسمعه فلان عن فلان بل بلغه بواسطة ومع الاحتمال يقبل ومثل ذلك في الشهادة لا يقبل قلنا هذا إذا لم يوجب فرقا في رواية المجهول والمرسل مروي عن مجهول فينبغي أن لا يقبل ثم العنعنة جرت العادة بها في الكتبة فإنهم استثقلوا أن يكتبوا عند كل اسم روي عن فلان سماعا منه وشحوا على القرطاس والوقت أن يضيعوه فأوجزوا وإنما يقبل في الرواية ذلك إذا علم بصريح لفظه أو عامته أنه يريد به السماع فإن لم يرد السماع فهو متردد بين المسند والمرسل فلا يقبل
الجواب الثاني أنا إن سلمنا جدلا أن الرواية تعديل فتعديله المطلق لا يقبل ما لم يذكر السبب فلو صرح بأنه سمعه من عدل ثقة لم يلزم قبوله وإن سلم قبول التعديل

المطلق فذلك في حق شخص نعرف عينه ولا يعرف بفسق أما من لم نعرف عينه فلعله لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطلع عليه المعدل وإنما يكتفي في كل مكلف بتعريف غيره عند العجز عن معرفة نفسه ولا يعلم عجزه ما لم يعرفه بعينه وبمثل هذه العلة لم يقبل تعديل شاهد الفرع مطلقا ما لم يعرف الأصل ولم يعينه فلعل الحاكم يعرفه بفسق وعداوة وغيره احتجوا باتفاق الصحابة والتابعين على قبول مرسل العدل فابن عباس مع كثرة روايته قيل أنه لم يسمع من رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا أربعة أحاديث لصغر سنه وصرح بذلك في حديث الربا في النسيئة وقال حدثني به أسامة بن زيد وروى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة فلما روجع قال حدثني به أخي الفضل بن عباس وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من صلى على جنازة فله قيراط ثم أسنده إلى أبي هريرة وروى أبو هريرة أن من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له وقال ما أنا قلتها ورب الكعبة ولكن محمدا صلى الله عليه و سلم قالها فلما روجع قال حدثني به الفضل بن عباس وقال البراء بن عازب ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابه ببعضه أما التابعون فقد قال النخعي إذا قلت حدثني فلان عن عبد الله فهو حدثني وإذا قلت قال عبد الله فقد سمعته من غير واحد وكذلك نقل عن جماعة من التابعين قبول المرسل والجواب من وجهين الأول أن هذا صحيح ويدل على قبول بعضهم المراسيل والمسألة في محل الاجتهاد ولا يثبت فيها إجماع أصلا وفيه ما يدل على أن الجملة لم يقبلوا المراسيل ولذلك باحثوا ابن عباس وابن عمر وأبا هريرة مع جلالة قدرهم لا لشك في عدالتهم ولكن للكشف عن الراوي فإن قيل قبل بعضهم وسكت الآخرون فكان إجماعا قلنا لا نسلم ثبوت الإجماع بسكوتهم لا سيما في محل الاجتهاد بل لعله سكت مضمرا للإنكار أو مترددا فيه
والجواب الثاني أن من المنكرين للمرسل من قبل مرسل الصحابي لأنهم يحدثون عن الصحابة وكلهم عدول ومنهم من أضاف إليه مراسيل التابعين لأنهم يروون عن الصحابة ومنهم من خصص كبار التابعين بقبول مرسله والمختار على قياس رد المرسل أن التابعي والصحابي إذا عرف بصريح خبره أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل لأنهم قد يروون عن غير الصحابي من الأعراب الذين لا صحبة لهم وإنما ثبتت لنا عدالة أهل الصحبة قال الزهري بعد الإرسال حدثني به رجل على باب عبد الملك وقال عروة بن الزبير فيما أرسله عن بسرة حدثني به بعض الحرس

مسألة ( هل يقبل خبر الواحد )
خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول خلافا للكرخي وبعض أصحاب الرأي لأن كل ما نقله العدل وصدقه فيه ممكن وجب تصديقه فمس الذكر مثلا نقله العدل وصدقه فيه ممكن فإنا لا نقطع بكذب ناقله بخلاف ما لو انفرد واحد بنقل ما تحيل العادة فيه أن لا يستفيض كقتل أمير في السوق وعزل وزير وهجوم واقعة في الجامع منعت الناس من الجمعة أو كخسف أو زلزلة أو انقضاض كوكب عظيم وغيره من العجائب فإن الدواعي تتوفر على إشاعة جميع ذلك ويستحيل انكتامه وكذلك القرآن لا يقبل فيه خبر الواحد لعلمنا بأنه صلى

الله عليه وسلم تعبد بإشاعته واعتنى بإلقائه إلى كافة الخلق فإن الدواعي تتوفر على إشاعته ونقله لأنه أصل الدين والمنفرد برواية سورة أو آية كاذب قطعا فأما ما تعم به البلوى فلا نقطع بكذب خبر الواحد فيه فإن قيل بم تنكرون على من يقطع بكذبه لأن خروج الخارج من السبيلين لما كان الإنسان لا ينفك عنه في اليوم والليلة مرارا وكانت الطهارة تنتقض به فلا يحل لرسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا يشيع حكمه ويناجي به الآحاد إذ يؤدي إلى إخفاء الشرع وإلى أن تبطل صلاة العباد وهم لا يشعرون فتجب الإشاعة في مثله ثم تتوفر الدواعي على نقله وكذلك مس الذكر مما يكثر وقوعه فكيف يخفى حكمه قلنا هذا يبطل أولا بالوتر وحكم الفصد والحجامة والقهقهة ووجوب الغسل من غسل الميت وإفراد الإقامة وتثنيتها وكل ذلك مما تعم به البلوى وقد أثبتوها بخبر الواحد فإن زعموا أن ليس عموم البلوى فيها كعمومها في الأحداث فنقول فليس عموم البلوى في اللمس والمس كعمومها في خروج الأحداث فقد يمضي على الإنسان مدة لا يلمس ولا يمس الذكر إلا في حالة الحدث كما لا يفتصد ولا يحتجم إلا أحيانا فلا فرق
والجواب الثاني وهو التحقيق أن الفصد والحجامة وإن كان لا يتكرر كل يوم ولكنه يكثر فكيف أخفي حكمه حتى يؤدي إلى بطلان صلاة خلق كثير وإن لم يكن هو الأكثر فكيف وكل ذلك إلى الآحاد ولا سبب له إلا أن الله تعالى لم يكلف رسول الله صلى الله عليه و سلم إشاعة جميع الأحكام بل كلفه إشاعة البعض وجوز له رد الخلق إلى خبر الواحد في البعض كما جوز له ردهم إلى القياس في قاعدة الربا وكان يسهل عليه أن يقول لا تبيعوا المطعوم بالمطعوم أو المكيل بالمكيل حتى يستغنى عن الاستنباط من الأشياء الستة فيجوز أن يكون ما تعم به البلوى من جملة ما تقتضي مصلحة الخلق أن يردوا فيه إلى خبر الواحد ولا استحالة فيه وعند ذلك يكون صدق الراوي ممكنا فيجب تصديقه وليس علة الإشاعة عموم الحاجة أو ندورها بل علته التعبد والتكليف من الله وإلا فما يحتاج إليه كثير كالفصد والحجامة كما يحتاج إليه الأكثر في كونه شرعا لا ينبغي أن يخفى فإن قيل فما الضابط لما تعبد الرسول صلى الله عليه و سلم فيه بالإشاعة قلنا إن طلبتم ضابطا لجوازه عقلا فلا ضابط بل لله تعالى أن يفعل في تكليف رسوله من ذلك ما يشاء وإن أردتم وقوعه فإنما يعلم ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه و سلم وإذا استقرينا السمعيات وجدناها أربعة أقسام الأول القرآن وقد علمنا أنه عني بالمبالغة في إشاعته
الثاني مباني الإسلام الخمس ككلمتي الشهادة والصلاة والزكاة والصوم والحج وقد أشاعه إشاعة اشترك في معرفته العام الخاص
الثالث أصول المعاملات التي ليست ضرورية مثل أصل البيع والنكاح فإن ذلك أيضا قد تواتر بل كالطلاق والعتاق والاستيلاد والتدبير والكتابة فإن هذا تواتر عند أهل العلم وقامت به الحجة القاطعة إما بالتواتر وإما بنقل الآحاد في مشهد الجماعات مع سكوتهم والحجة تقوم به لكن العوام لم يشاركوا العلماء في العلم بل فرض العوام فيه القبول من العلماء
الرابع تفاصيل هذه الأصول فما يفسد الصلاة والعبادات وينقض الطهارة من اللمس والمس والقيء وتكرار مسح الرأس فهذا الجنس منه ما شاع ومنه ما نقله الآحاد ويجوز أن يكون مما تعم به البلوى

فما نقله الآحاد فلا استحالة فيه ولا مانع فإن ما أشاعه كان يجوز أن لا يتعبد فيه بالإشاعة وما وكله إلى الآحاد كان يجوز أن يتعبد فيه بالإشاعة لكن وقوع هذه الأمور يدل على أن التعبد وقع كذلك فما كان يخالف أمر الله سبحانه وتعالى في شيء من ذلك هذا تمام الكلام في الأخبار والله أعلم
الأصل الثالث من أصول الأدلة الإجماع وفيه أبواب الباب الأول في إثبات كونه حجة على منكريه ومن حاول إثبات كون الإجماع حجة افتقر إلى تفهيم لفظ الإجماع أولا وبيان تصوره ثانيا وبيان إمكان الاطلاع عليه ثالثا وبيان الدليل على كونه حجة رابعا
أما تفهيم لفظ الإجماع فإنما نعني به اتفاق أمة محمد صلى الله عليه و سلم خاصة على أمر من الأمور الدينية ومعناه في وضع اللغة الاتفاق والإزماع وهو مشترك بينهما فمن أزمع وصمم العزم على إمضاء أمر يقال أجمع والجماعة إذا اتفقوا يقال أجمعوا وهذا يصلح لإجماع اليهود والنصارى وللاتفاق في غير أمر الدين لكن العرف خصص اللفظ بما ذكرناه وذهب النظام إلى أن الإجماع عبارة عن كل قول قامت حجته وإن كان قول واحد وهو على خلاف اللغة والعرف لكنه سواه على مذهبه إذ لم ير الإجماع حجة وتواتر إليه بالتسامع تحريم مخالفة الإجماع فقال هو كل قول قامت حجته
أما الثاني وهو تصوره فدليل تصوره وجوده فقد وجدنا الأمة مجمعة على أن الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب وكيف يمتنع تصوره والأمة كلهم متعبدون باتباع النصوص والأدلة القاطعة ومعرضون للعقاب بمخالفتها فكما لا يمتنع اجتماعهم على الأكل والشرب لتوافق الدواعي فكذلك على اتباع الحق واتقاء النار فإن قيل الأمة مع كثرتها واختلاف دواعيها في الاعتراف بالحق والعناد فيه كيف تتفق آراؤها فذلك محال منها كاتفاقهم على أكل الزبيب مثلا في يوم واحد قلنا لا صارف جميعهم إلى تناول الزبيب خاصة ولجميعهم باعث على الاعتراف بالحق كيف وقد تصور إطباق اليهود مع كثرتهم على الباطل فلم لا يتصور إطباق المسلمين على الحق والكثرة إنما تؤثر عند تعارض الأشباه والدواعي والصوارف ومستند الإجماع في الأكثر نصوص متواترة وأمور معلومة ضرورة بقرائن الأحوال والعقلاء كلهم فيه على منهج واحد نعم هل يتصور الإجماع عن اجتهاد أو قياس ذلك فيه كلام سيأتي إن شاء الله
أما الثالث وهو تصور الاطلاع على الإجماع فقد قال قوم لو تصور إجماعهم فمن الذي يطلع عليهم مع تفرقهم في الأقطار فنقول يتصور معرفة ذلك بمشافهتهم إن كانوا عددا يمكن لقاؤهم وإن لم يمكن عرف مذهب قوم بالمشافهة ومذهب الآخرين بأخبار التواتر عنهم كما عرفنا أن مذهب جميع أصحاب الشافعي منع قتل المسلم بالذمي وبطلان النكاح بلا ولي ومذهب جميع النصارى التثليث ومذهب جميع المجوس التثنية فإن قيل مذهب أصحاب الشافعي وأبي حنيفة مستند إلى قائل واحد وهو الشافعي وأبو حنيفة وقول الواحد يمكن أن يعلم وكذلك مذهب النصارى يستند إلى عيسى عليه السلام أما قول جماعة لا ينحصرون كيف يعلم قلنا وقول أمة محمد صلى الله عليه و سلم في أمور الدين يستند إلى ما فهموه من محمد صلى الله عليه و سلم

وسمعوه منه ثم إذا انحصر أهل الحل والعقد فكما يمكن أن يعلم قول واحد أمكن أن يعلم قول الثاني إلى العشرة والعشرين فإن قيل لعل أحدا منهم في أسر الكفار وبلاد الروم قلنا تجب مراجعته ومذهب الأسير ينقل كمذهب غيره وتمكن معرفته فمن شك في موافقته للآخرين لم يكن متحققا للإجماع فإن قيل فلو عرف مذهبه ربما يرجع عنه بعده قلنا لا أثر لرجوعه بعد انعقاد الإجماع فإنه يكون محجوجا به ولا يتصور رجوع جميعهم إذ يصير أحد الإجماعين خطأ وذلك ممتنع بدليل السمع
أما الرابع وهو إقامة الحجة على استحالة الخطأ على الأمة وفيه الشأن كله وكونه حجة إنما يعلم بكتاب أو سنة متواترة أو عقل أما الإجماع فلا يمكن إثبات الإجماع به وقد طمعوا في التلقي من الكتاب والسنة والعقل وأقواها السنة ونحن نذكر المسالك الثلاثة المسلك الأول التمسك بالكتاب وذلك قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ( البقرة 143 ) وقوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس ( آل عمران 110 ) الآية وقوله تعالى وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ( الأعراف 181 ) وقوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ( آل عمران 103 ) وقوله تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ( الشورى 110 ) ومفهومه أن ما اتفقتم فيه فهو حق وقوله عز و جل فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ( النساء 59 ) مفهومه إن اتفقتهم فهو حق فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض بل لا تدل أيضا دلالة الظواهر وأقواها قوله تعالى ومن يشاقق لرسول من بعد ما تبين له لهدى ويتبع غير سبيل لمؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وسآءت مصيرا ( النساء 115 ) فإن ذلك يوجب اتباع سبيل المؤمنين وهذا ما تمسك به الشافعي وقد أطنبنا في كتاب تهذيب الأصول في توجيه الأسئلة على الآية ودفعها والذي نراه أن الآية ليست نصا في الغرض بل الظاهر أن المراد بها أن من يقاتل الرسول ويشاقه ويتبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته ونصرته ودفع الأعداء عنه نوله ما تولى فكأنه لم يكتف بترك المشاقة حتى تنضم إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته والذب عنه والانقياد له فيما يأمر وينهي وهذا هو الظاهر السابق إلى الفهم فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل ولو فسر رسول الله صلى الله عليه و سلم الآية بذلك لقبل ولم يجعل ذلك رفعا للنص كما لو فسر المشاقة بالموافقة واتباع سبيل المؤمنين بالعدول عن سبيلهم
المسلك الثاني وهو الأقوى التمسك بقوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على الخطأ وهذا من حيث اللفظ أقوى وأدل على المقصود ولكن ليس بالمتواتر كالكتاب والكتاب متواتر لكن ليس بنص فطريق تقرير الدليل أن نقول تظاهرت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بألفاظ مختلفة مع اتفاق المعنى في عصمة هذه الأمة من الخطأ واشتهر على لسان المرموقين والثقات من الصحابة كعمر وابن مسعود وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك وابن عمر وأبي هريرة وحذيفة بن اليمان وغيرهم ممن يطول ذكره من نحو قوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على

الضلالة ولم يكن الله ليجمع أمتي على الضلالة وسألت الله تعالى أن لا يجمع أمتي على الضلالة فأعطانيها ومن سره أن يسكن بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم وإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد وقوله صلى الله عليه و سلم يد الله مع الجماعة ولا يبالي الله بشذوذ من شذ ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم وروي لا يضرهم خلاف من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء ومن خرج عن الجماعة أو فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ومن فارق الجماعة ومات فميتته جاهلية
وهذه الأخبار لم تزل ظاهرة في الصحابة والتابعين إلى زماننا هذا لم يدفعها أحد من أهل النقل من سلف الأمة وخلفها بل هي مقبولة من موافقي الأمة ومخالفيها ولم تزل الأمة تحتج بها في أصول الدين وفروعه فإن قيل فما وجه الحجة ودعوى التواتر في آحاد هذه الأخبار غير ممكن ونقل الآحاد لا يفيد العلم قلنا في تقرير وجه الحجة طريقان أحدهما أن ندعي العلم الضروري بأن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد عظم شأن هذه الأمة وأخبر عن عصمتها عن الخطأ بمجموع هذه الأخبار المتفرقة وإن لم تتواتر آحادها وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى العلم بشجاعة علي وسخاوة حاتم وفقه الشافعي وخطابة الحجاج وميل رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عائشة من نسائه وتعظيمه صحابته وثنائه عليهم وإن لم تكن آحاد الأخبار فيها متواترة بل يجوز الكذب على كل واحد منها لو جردنا النظر إليه ولا يجوز على المجموع وذلك يشبه ما يعلم من مجموع قرائن آحادها لا ينفك عن الاحتمال ولكن ينتفي الاحتمال عن مجموعها حتى يحصل العلم الضروري
الطريق الثاني أن لا ندعي علم الاضطرار بل علم الاستدلال من وجهين الأول أن هذه الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها في إثبات الإجماع ولا يظهر أحد فيها خلافا وإنكارا إلى زمان النظام ويستحيل في مستقر العادة توافق الأمم في أعصار متكررة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الهمم والمذاهب في الرد والقبول ولذلك لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف وإبداء تردد فيه
الوجه الثاني أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلا مقطوعا به وهو الإجماع الذي يحكم به على كتاب الله تعالى وعلى السنة المتواترة ويستحيل في العادة التسليم لخبر يرفع به الكتاب المقطوع به إلا إذا استند إلى مستند مقطوع به فأما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلوما حتى لا يتعجب متعجب ولا يقول قائل كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستند إلى خبر غير معلوم الصحة وكيف تذهل عنه جميع الأمة إلى زمان النظام فيختص بالتنبه له هذا وجه الاستدلال وللمنكرين في معارضته ثلاثة مقامات الرد والتأويل والمعارضة المقام الأول في الرد
وفيه أربعة أسئلة السؤال الأول قولهم لعل واحدا خالف هذه الأخبار وردها ولم ينقل إلينا قلنا هذا أيضا تحيله العادة إذ الإجماع أعظم أصول الدين فلو خالف فيه مخالف لعظم الأمر فيه واشتهر الخلاف إذ لم يندرس خلاف الصحابة في دية الجنين ومسألة الحرام وحد الشرب فكيف اندرس الخلاف في أصل عظيم يلزم فيه التضليل والتبديع لمن أخطأ في نفيه وإثباته وكيف اشتهر خلاف النظام مع سقوط

قدره وخسة رتبته وخفي خلاف أكابر الصحابة والتابعين هذا مما لا يتسع له عقل أصلا
السؤال الثاني قالوا قد استدللتم بالخبر على الإجماع ثم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر فهب أنهم أجمعوا على الصحة فما الدليل على أن ما أجمعوا على صحته فهو صحيح وهل النزاع إلا فيه قلنا لا بل استدللنا على الإجماع بالخبر وعلى صحة الخبر بخلو الإعصار عن المدافعة والمخالفة له مع أن العادة تقتضي إنكار إثبات أصل قاطع يحكم به على القواطع بخبر غير معلوم الصحة فعلمنا بالعادة كون الخبر مقطوعا به لا بالإجماع والعادة أصل يستفاد منها معارف فإن بها يعلم بطلان دعوى معارضة القرآن واندراسها وبها يعلم بطلان دعوى نص الإمامة وإيجاب صلاة الضحى وصوم شوال وإن ذلك لو كان لاستحال في العادة الكسوت عنه
السؤال الثالث قالوا بم تنكرون على من يقول لعلهم أثبتوا الإجماع لا بهذه الأخبار بل بدليل آخر قلنا قد ظهر منهم الاحتجاج بهذه الأخبار في المنع من مخالفة الجماعة وتهديد من يفارق الجماعة ويخالفها وهذا أولى من أن يقال لو كان لهم فيه مستند لظهر وانتشر فإنه قد نقل تمسكهم أيضا بالآيات
السؤال الرابع قولهم لما علمت الصحابة صحة هذه الأخبار لم لم يذكروا طريق صحتها للتابعين حتى كان ينقطع الارتياب ويشاركونهم في العلم قلنا لأنهم علموا تعريفه عليه السلام عصمة هذه الأمة بمجموع قرائن وأمارات وتكريرات ألفاظ وأسباب دلت ضرورة على قصده إلى بيان نفي الخطأ عن هذه الأمة وتلك القرائن لا تدخل تحت الحكاية ولا تحيط بها العبارات ولو حكوها لتطرق إلى آحادها احتمالات فاكتفوا بعلم التابعين بأن الخبر المشكوك فيه لا يثبت به أصل مقطوع به ويقع التسليم في العادة به فكانت العادة في حق التابعين أقوى من الحكاية
المقام الثاني في التأويل ولهم تأويلات ثلاثة الأول قوله صلى الله عليه و سلم لا تجتمع أمتي على ضلالة ينبىء عن الكفر والبدعة فلعله أراد عصمة جميعهم عن الكفر بالتأويل والشبهة وقوله على الخطأ لم يتواتر وإن صح فالخطأ عام يمكن حمله على الكفر قلنا الضلال في وضع اللسان لا يناسب الكفر قال الله تعالى ووجدك ضالا فهدى ( الضحى 7 ) وقال تعالى إخبارا عن موسى عليه السلام فعلتها إذا وأنا من الضالين ( الشعراء 20 ) وما أراد من الكافرين بل أراد من المخطئين يقال ضل فلان عن الطريق وضل سعي فلان كل ذلك الخطأ كيف وقد فهم ضرورة من هذه الألفاظ تعظيم شأن هذه الأمة وتخصيصها بهذه الفضيلة أما العصمة عن الكفر فقد أنعم بها في حق علي وابن مسعود وأبي وزيد على مذهب النظام لأنهم ماتوا على الحق وكم من آحاد عصموا عن الكفر حتى ماتوا فأي خاصية للأمة فدل أنه أراد ما لم يعصم عنه الآحاد من سهو وخطأ وكذب ويعصم عنه الأمة تنزيلا لجميع الأمة منزلة النبي صلى الله عليه و سلم في العصمة عن الخطأ في الدين أما في غير الدين من إنشاء حرب وصلح وعمارة بلدة فالعموم يقتضي العصمة للأمة عنه أيضا ولكن ذلك مشكوك فيه وأمر الدين مقطوع بوجوب العصمة فيه كما في حق النبي صلى الله عليه و سلم فإنه أخطأ في أمر تأبير النخل ثم قال أنتم

أعرف بأمر دنياكم وأنا أعرف بأمر دينكم
التأويل الثاني قولهم غاية هذا أن يكون عاما يوجب العصمة عن كل خطأ ويحتمل أن يكون المراد به بعض أنواع الخطأ من الشهادة في الآخرة أو ما يوافق النص المتواتر أو يوافق دليل العقل دون ما يكون بالاجتهاد والقياس قلنا لا ذاهب من الأمة إلى هذا التفصيل إذ ما دل من العقل على تجويز الخطأ عليهم في شيء دل على تجويزه في شيء آخر وإذا لم يكن فارق لم يكن تخصيص بالتحكم دون دليل ولم يكن تخصيص أولى من تخصيص وقد ذم من خالف الجماعة وأمر بالموافقة فلو لم يكن ما فيه العصمة معلوما استحال الاتباع إلا أن ثبت العصمة مطلقا وبه ثبتت فضيلة الأمة وشرفها فأما العصمة عن البعض دون البعض فهذا يثبت لكل كافر فضلا عن المسلم إذ ما من شخص يخطىء في كل شيء بل كل إنسان فإنه يعصم عن الخطأ في بعض الأشياء
التأويل الثالث أن أمته صلى الله عليه و سلم كل من آمن به إلى يوم القيامة فجملة هؤلاء من أول الإسلام إلى آخر عمر الدنيا لا يجتمعون على خطأ بل كل حكم انقضى على اتفاق أهل الأعصار كلها بعد بعثة النبي صلى الله عليه و سلم فهو حق إذ الأمة عبارة عن الجميع كيف والذين ماتوا في زماننا هم من الأمة وإجماع من بعدهم ليس إجماع جميع الأمة بدليل أنهم لو كانوا قد خالفوا ثم ماتوا لم ينعقد بعدهم إجماع وقبلنا من الأمة من خالف وإن كان قد مات فكذلك إذا لم يوافقوا قلنا كما لا يجوز أن يراد بالأمة المجانين والأطفال والسقط والمجتن وإن كانوا من الأمة فلا يجوز أن يراد به الميت والذي لم يخلق بعد بل الذي يفهم قوم يتصور منهم اختلاف واجتماع ولا يتصور الاجتماع والاختلاف من المعدوم والميت والدليل عليه أنه أمر باتباع الجماعة وذم من شذ عن الموافقة فإن كان المراد به ما ذكروه فإنما يتصور الاتباع والمخالفة في القيامة لا في الدنيا فيعلم قطعا أن المراد به إجماع يمكن خرقه ومخالفته في الدنيا وذلك هم الموجودن في كل عصر أما إذا مات فيبقى أثر خلافه فإن مذهبه لا يموت بموته وسيأتي فيه كلام شاف إن شاء الله تعالى
المقام الثالث المعارضة بالآيات والأخبار أما الآيات فكل ما فيها منع من الكفر والردة والفعل الباطل فهو عام مع الجميع فإن لم يكن ذلك ممكنا فكيف نهوا عنه كقوله تعالى وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ( الأعراف 33 ) ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ( البقرة 217 ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( البقرة 188 ) وأمثال ذلك قلنا ليس هذا نهيا لهم عن الاجتماع بل نهي للآحاد وإن كان كل واحد على حياله داخلا في النهي وإن سلم فليس من شرط النهي وقوع المنهي عنه ولا جواز وقوعه فإن الله تعالى علم أن جميع المعاصي لا تقع منهم ونهاهم عن الجميع وخلاف المعلوم غير واقع وقال لرسوله صلى الله عليه و سلم لئن أشركت ليحبطن عملك ( الزمر 65 ) وقال فلا تكونن من الجاهلين ( الأنعام 35 ) وقد علم أنه قد عصمه منهم وأن ذلك لا يقع وأما الأخبار فقوله عليه السلام بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وقوله عليه السلام خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى إن الرجل ليحلف وما يستحلف ويشهد وما يستشهد وكقوله صلى الله عليه و سلم لا تقوم

الساعة إلا على شرار أمتي قلنا هذا وأمثاله يدل على كثرة العصيان والكذب ولا يدل على أنه لا يبقى متمسك بالحق ولا يناقض قوله صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال كيف ولا تجري هذه الأخبار في الصحة والظهور مجرى الأحاديث التي تمسكنا بها
المسلك الثالث التمسك بالطريق المعنوي وبيانه أن الصحابة إذا قضوا بقضية وزعموا أنهم قاطعون بها فلا يقطعون بها إلا عن مستند قاطع وإذا كثروا كثرة تنتهي إلى حد التواتر فالعادة تحيل عليهم قصد الكذب وتحيل عليهم الغلط حتى لا يتنبه واحد منهم للمحق في ذلك وإلى أن القطع بغير دليل قاطع خطأ فقطعهم في غير محل القطع محال في العادة فإن قضوا عن اجتهاد واتفقوا عليه فيعلم أن التابعين كانوا يشددون النكير على مخالفيهم ويقطعون به وقطعهم بذلك قطع في غير محل القطع فلا يكون ذلك أيضا إلا عن قاطع وإلا فيستحيل في العادة أن يشذ عن جميعهم الحق مع كثرتهم حتى لا يتنبه واحد منهم للحق وكذلك نعلم أن التابعين لو أجمعوا على شيء أنكر تابعوا التابعين على المخالف وقطعوا بالإنكار وهو قطع في غير محل القطع فالعادة تحيل ذلك إلا عن قاطع وعلى مساق هذا قالوا لو رجع أهل الحل والعقد إلى عدد ينقص عن عدد التواتر فلا يستحيل عليهم الخطأ في العادة ولا تعمد الكذب لباعث عليه فلا حجة فيه وهذه الطريقة ضعيفة عندنا لأن منشأ الخطأ إما تعمد الكذب وإما ظنهم ما ليس بقاطع قاطعا والأول غير جائز على عدد التواتر وأما الثاني فجائز فقد قطع اليهود ببطلان نبوة عيسى ومحمد عليهما السلام وهم أكثر من عدد التواتر وهو قطع في غير محل القطع لكن ظنوا ما ليس بقاطع قاطعا والمنكرون لحدوث العالم والنبوات والمرتكبون لسائر أنواع البدع والضلالات عددهم بالغ مبلغ عدد التواتر ويحصل الصدق بإخبارهم ولكن أخطؤوا بالقطع في غير محل القطع وهذا القائل يلزمه أن يجعل إجماع اليهود والنصارى حجة ولا تخصيص لهذه الأمة وقد أجمعوا على بطلان دين الإسلام فإن قيل هذا تمسك بالعادة وأنتم في نصرة المسلك الثاني استروحتم إلى العادة وهذا عين الأول قلنا العادة لا تحيل على عدد التواتر أن يظنوا ما ليس بقاطع قاطعا وعن هذا قلنا شرط خبر التواتر أن يستند إلى محسوس والعادة تحيل الانقياد والسكوت عمن دفع الكتاب والسنة المتواترة بإجماع دليله خبر مظنون غير مقطوع به وكل ما هو ضروري يعلم بالحس أو بقرينة الحال أو بالبديهة فمنهاجه واحد ويتفق الناس على دركه والعادة تحيل الذهول عنه على أهل التواتر وما هو نظري فطرقه مختلفة فلا يستحيل في العادة أن يجتمع أهل التواتر على الغلط فيه فهذا هو الفرق بين المسلكين فإن قيل اعتمادكم في هذا المسلك الثاني أن ما أجمعوا عليه حق وليس بخطأ فما الدليل على وجوب اتباعه وكل مجتهد مصيب للحق ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه والشاهد المزور مبطل ويجب على القاضي اتباعه فوجوب الاتباع شيء وكون الشيء حقا غيره قلنا أجمعت الأمة على وجوب اتباع الإجماع وأنه من الحق الذي يجب اتباعه وبحسب كونهم محقين في قولهم يجب اتباع الإجماع ثم نقول كل حق علم كونه حقا فالأصل فيه وجوب

الاتباع والمجتهد يجب اتباعه إلا على المجتهد الذي هو محق أيضا فقدم حق حصل باجتهاده على ما حصل باجتهاد غيره في حقه والشاهد المزور لو علم كونه مزورا لم يتبع ويدل عليه أيضا ذمة من خالف الجماعة وأنه ذكر هذا في معرض الثناء على الأمة ولا يتحقق ذلك إلا بوجوب الاتباع وإلا فلا يبقى له معنى إلا أنهم محقون إذا أصابوا دليل الحق وذلك جائز في حق كل واحد من أفراد المؤمنين فليس فيه مدح وتخصيص البتة

الباب الثاني في بيان أركان الإجماع
وله ركنان المجمعون ونفس الإجماع الركن الأول المجمعون وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم وظاهر هذا يتناول كل مسلم لكن لكل ظاهر طرفان واضحان في النفي والإثبات وأوساط متشابهة أما الواضح في الإثبات فهو كل مجتهد مقبول الفتوى فهو أهل الحل والعقد قطعا ولا بد من موافقته في الإجماع وأما الواضح في النفي فالأطفال والمجانين والأجنة فإنهم وإن كانوا من الأمة فنعلم أنه عليه الصلاة و السلام ما أراد بقوله لا تجتمع أمتي على الخطأ إلا من يتصور منه الوفاق والخلاف في المسألة بعد فهمهما فلا يدخل فيه من لا يفهمها وبين الدرجتين العوام المكلفون والفقيه الذي ليس بأصولي والأصولي الذي ليس بفقيه والمجتهد الفاسق والمبتدع والناشىء من التابعين مثلا إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة فنرسم في كل واحد مسألة 61
مسألة ( إجماع أهل الحل والعقد )
يتصور دخول العوام في الإجماع فإن الشريعة تنقسم إلى ما يشترك في دركه العوام والخواص كالصلوات الخمس ووجوب الصوم والزكاة والحج فهذا مجمع عليه والعوام وافقوا الخواص في الإجماع وإلى ما يختص بدركه الخواص كتفصيل أحكام الصلاة والبيع والتدبير والاستيلاد فما أجمع عليه الخواص فالعوام متفقون على أن الحق فيه ما أجمع عليه أهل الحل والعقد لا يضمرون فيه خلافا أصلا فهم موافقون أيضا فيه ويحسن تسمية ذلك إجماع الأمة قاطبة كما أن الجند إذا حكموا جماعة من أهل الرأي والتدبير في مصالحة أهل قلعة فصالحوهم على شيء يقال هذا باتفاق جميع الجند فإذا كل مجمع عليه من المجتهدين فهو مجموع عليه من جهة العوام وبه يتم إجماع الأمة فإن قيل فلو خالف عامي في واقعة أجمع عليها الخواص من أهل العصر فهل ينعقد الإجماع دونه إن كان ينعقد فكيف خرج العامي من الأمة وإن لم ينعقد فكيف يعتد بقول العامي قلنا قد اختلف الناس فيه فقال قوم لا ينعقد لأنه من الأمة فلا بد من تسليمه بالجملة أو بالتفصيل وقال آخرون وهو الأصح إنه ينعقد بدليلين أحدهما أن العامي ليس أهلا لطلب الصواب إذ ليس له آلة هذا الشأن فهو كالصبي والمجنون في نقصان الآلة ولا يفهم من عصمة الأمة من الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة لأهليته
والثاني وهو الأقوى أن العصر الأول من الصحابة قد أجمعوا على أنه لا عبرة بالعوام في هذا الباب أعني خواص الصحابة وعوامهم ولأن العامي إذا قال قولا علم أنه يقوله عن جهل وأنه ليس يدري ما يقول وأنه ليس أهلا للوفاق والخلاف فيه وعن هذا لا يتصور صدور هذا من عامي عاقل لأن العاقل يفوض ما لا يدري إلى من يدري فهذه صورة فرضت ولا وقوع لها أصلا ويدل

على انعقاد الإجماع أن العامي يعصي بمخالفته العلماء ويحرم ذلك عليه ويدل على عصيانه ما ورد من ذم الرؤساء الجهال إذا ضلوا وأضلوا بغير علم
وقوله تعالى ( 4 ) لعلمه الذين يستنبطونه منهم ( النساء 83 ) فردهم عن النزاع إلى أهل الاستنباط وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء وتحريم فتوى العامة بالجهل والهوى وهذا لا يدل على انعقاد الإجماع دونهم فإنه يجوز أن يعصي بالمخالفة كما يعصي من يخالف خبر الواحد ولكن يمتنع وجود الإجماع لمخالفته والحجة في الإجماع فإذا امتنع بمعصية أو بما ليس بمعصية فلا حجة وإنما الدليل ما ذكرنا من قبل

مسألة ( يعتد بقول الأصولي والفقيه المبرز )
إذا قلنا لا يعتبر قول العوام لقصور آلتهم فرب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث هو ناقض الآلة في درك الأحكام فقال قوم لا يعتد إلا بقول أئمة المذاهب المستقلين بالفتوى كالشافعي ومالك وأبي حنيفة وأمثالهم من الصحابة والتابعين ومنهم من ضم إلى الأئمة الفقهاء الحافظين لأحكام الفروع الناهضين بها لكن أخرج الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع ولا يحفظها والصحيح أن الأصولي العارف بمدارك الأحكام وكيفية تلقيها من المفهوم والمنظوم وصيغة الأمر والنهي والعموم وكيفية تفهيم النصوص والتعليل أولى بالاعتداد بقوله من الفقيه الحافظ للفروع بل ذو الآلة من هو متمكن من درك الأحكام إذا أراد وإن لم يحفظ الفروع والأصولي قادر عليه والفقيه الحافظ للفروع لا يتمكن منه وآية أنه لا يعتبر حفظ الفروع أن العباس والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبا عبيدة بن الجراح وأمثالهم ممن لم ينصب نفسه للفتوى ولم يتظاهر بها تظاهر العبادلة وتظاهر علي وزيد بن ثابت ومعاذ كانوا يعتدون بخلافهم لو خالفوا وكيف لا وكانوا صالحين للإمامة العظمى ولا سيما لكون أكثرهم في الشورى وما كانوا يحفظون الفروع بل لم تكن الفروع موضوعة بعد لكن عرفوا الكتاب والسنة وكانوا أهلا لفهمهما والحافظ لفروع قد لا يحفظ دقائق فروع الحيض والوصايا فأصل هذه الفروع كهذه الدقائق فلا يشترط حفظها فينبغي أن يعتد بخلاف الأصولي وبخلاف الفقيه المبرز لأنهما ذوا آلة على الجملة يقولان ما يقولان عن دليل أما النحوي والمتكلم فلا يعتد بهما لأنهما من العوام في حق هذا العلم إلا أن يقع الكلام في مسألة تنبني على النحو أو على الكلام فإن قيل فهذه المسألة قطعية أم اجتهادية قلنا هي اجتهادية ولكن إذا جوزنا أن يكون قوله معتبرا صار الإجماع مشكوكا فيه عند مخالفته فلا يصير حجة قاطعة إنما يكون حجة قاطعة إذا لم يخالف هؤلاء أما خلاف العوام فلا يقع ولو وقع فهو قول باللسان وهو معترف بكونه جاهلا بما يقول فبطلان قوله مقطوع به كقول الصبي فأما هذا فليس كذلك فإن قيل فإذا قلد الأصولي الفقهاء فيما اتفقوا عليه في الفروع وأقر بأنه حق هل ينعقد الإجماع قلنا نعم لأنه لا مخالفة وقد وافق الأصولي جملة وإن لم يعرف التفصيل كما أن الفقهاء اتفقوا على أن ما أجمع عليه المتكلمون في باب الاستطاعة والعجز والأجسام والأعراض والضد والخلاف فهو صواب فيحصل الإجماع بالموافقة الجملية كما يحصل من العوام لأن كل فريق كالعامي بالإضافة إلى ما لم يحصل علمه وإن حصل علما آخر
مسألة ( عدم انعقاد الإجماع بالمجتهد الفاسق المبتدع )

إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق وخلاف المجتهد الفاسق معتبر فإن قيل لعله يكذب في إظهار الخلاف وهو لا يعتقده
قلنا لعله يصدق ولا بد من موافقته ولو لم نتحقق موافقته كيف وقد نعلم اعتقاد الفاسق بقرائن أحواله في مناظراته واستدلالاته والمبتدع ثقة يقبل قوله فإنه ليس يدري أنه فاسق أما إذا كفر ببدعته فعند ذلك لا يعتبر خلافه وإن كان يصلي إلى القبلة ويعتقد نفسه مسلما لأن الأمة ليست عبارة عن المصلين إلى القبلة بل عن المؤمنين وهو كافر وإن كان لا يدري أنه كافر نعم لو قال بالتشبيه والتجسيم وكفرناه فلا يستدل على بطلان مذهبه بإجماع مخالفيه على بطلان التجسيم مصيرا إلى أنهم كل الأمة دونه لأن كونهم كل الأمة موقوف على إخراج هذا من الأمة والإخراج من الأمة موقوف على دليل التكفير فلا يجوز أن يكون دليل تكفيره ما هو موقوف على تكفيره فيؤدي إلى إثبات الشيء بنفسه نعم بعد أن كفرناه بدليل عقلي لو خالف في مسألة أخرى لم يلتفت إليه فلو تاب وهو مصر على المخالفة في تلك المسألة التي أجمعوا عليها في حال كفره فلا يلتفت إلى خلافه بعد الإسلام لأنه مسبوق بإجماع كل الأمة وكان المجمعون في ذلك الوقت كل الأمة دونه فصار كما لو خالف كافر كافة الأمة ثم أسلم وهو مصر على ذلك الخلاف فإن ذلك لا يلتفت إليه إلا على قول من يشترط انقراض العصر في الإجماع فإن قيل فلو ترك بعض الفقهاء الإجماع بخلاف المبتدع المكفر إذا لم يعلم أن بدعته توجب الكفر وظن أن الإجماع لا ينعقد دونه فهل يعذر من حيث أن الفقهاء لا يطلعون على معرفة ما يكفر به من التأويلات قلنا للمسألة صورتان إحداهما أن يقول الفقهاء نحن لا ندري أن بدعته توجب الكفر أم لا ففي هذه الصورة لا يعذرون فيه إذ يلزمهم مراجعة علماء الأصول ويجب على العلماء تعريفهم فإذا أفتوا بكفره فعليهم التقليد فإن لم يقنعهم التقليد فعليهم السؤال عن الدليل حتى إذا ذكر لهم دليله فهموه لا محالة لأن دليله قاطع فإن لم يدركه فلا يكون معذورا كمن لا يدرك دليل صدق الرسول صلى الله عليه و سلم فإنه لا عذر مع نصب الله تعالى الأدلة القاطعة
الصورة الثانية أن لا يكون قد بلغته بدعته وعقيدته فترك الإجماع لمخالفته فهو معذور في خطئه وغير مؤاخذ به وكان الإجماع لم ينتهض حجة في حقه كما إذا لم يبلغه الدليل الناسخ لأنه غير منسوب إلى تقصير بخلاف الصورة الأولى فإنه قادر على المراجعة والبحث فلا عذر له في تركه فهو كمن قبل شهادة الخوارج وحكم بها فهو مخطىء لأن الدليل على تكفير الخوارج على علي عثمان رضي الله عنهما والقائلين بكفرهما المعتقدين استباحة دمهما ومالهما ظاهر يدرك على القرب فلا يعذر من لا يعرفه بخلاف من حكم بشهادة الزور وهو لا يعرف لأنه لا طريق له إلى معرفة صدق الشاهد وله طريق إلى معرفة كفره فإن قيل وما الذي يكفر به قلنا الخطب في ذلك طويل وقد أشرنا إلى شيء منه في كتاب فصل التفرقة بين الإسلام والزندقة والقدر الذي نذكره الآن أنه يرجع إلى ثلاثة أقسام الأول ما يكون نفس اعتقاده كفرا كإنكار الصانع وصفاته وجحد النبوة
الثاني ما يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصانع وصفاته وتصديق رسله ويلزمه إنكار ذلك من

حيث التناقض
الثالث ما ورد التوقيف بأنه لا يصدر إلا من كافر كعبادة النيران والسجود للصنم وجحد سورة من القرآن وتكذيب بعض الرسل واستحلال الزنا والخمر وترك الصلاة وبالجملة إنكار ما عرف بالتواتر والضرورة من الشريعة

مسألة ( هل ينعقد إجماع غير الصحابة )
قال قوم لا يعتد بإجماع غير الصحابة وسنبطله وقال قوم يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة ولكن لا يعتد بخلاف التابعي في زمان الصحابة ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه وهذا فاسد مهما بلغ التابعي رتبة الاجتهاد قبل تمام الإجماع لأنه من الأمة فإجماع غيره لا يكون إجماع جميع الأمة بل إجماع البعض والحجة في إجماع الكل نعم لو أجمعوا ثم بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم فهو مسبوق بالإجماع فليس له الآن أن يخالف كمن أسلم بعد تمام الإجماع ويدل عليه قوله تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ( الشورى 10 ) وهذا مختلف فيه ويدل عليه إجماع الصحابة على تسويغ الخلاف للتابعي وعدم إنكارهم عليه فهو إجماع منهم على جواز الخلاف كيف وقد علم أن كثيرا من أصحاب عبد الله كعلقمة والأسود وغيرهما كانوا يفتون في عصر الصحابة وكذا الحسن البصري وسعيد بن المسيب فكيف لا يعتد بخلافهم وعلى الجملة فلا يفضل الصحابي التابعي إلا بفضيلة الصحبة ولو كانت هذه الفضيلة تخصص الإجماع لسقط قول الأنصار بقول المهاجرين وقول المهاجرين بقول العشرة وقول العشرة بقول الخلفاء الأربعة وقولهم بقول أبي بكر وعمر رضي الله عنهم فإن قيل روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن مجاراة الصحابة وقالت فروج يصقع مع الديكة قلنا ما ذكرناه مقطوع به ولم يثبت عن عائشة ما ذكرتم إلا بقول الآحاد وإن ثبت فهو مذهبها ولا حجة فيه ثم لعلها أرادت منعه من مخالفتهم فيما سبق إجماعهم عليه أو لعلها أنكرت عليه خلافه في مسألة لا تحتمل الاجتهاد في اعتقادها كما أنكرت على زيد بن أرقم في مسألة العينة وظنت أن وجوب حسم الذريعة قطعي واعلم أن هذه المسألة يتصور الخلاف فيها مع من يوافق على أن إجماع الصحابة يندفع بمخالفة واحد من الصحابة أما من ذهب إلى أنه لا يندفع خلاف الأكثر بالأقل كيفما كان فلا يختص كلامه بالتابعي
مسألة ( هل ينعقد إجماع الأكثر أم لا )
الإجماع من الأكثر ليس بحجة مخالفة الأقل وقال قوم إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر اندفع الإجماع وإن نقص فلا يندفع والمعتمد عندنا أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها وليس هذا إجماع الجميع بل هو مختلف فيه وقد قال تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ( الشورى 10 ) فإن قيل قد تطلق الأمة ويراد بها الأكثر كما يقال بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ويراد الأكثر قلنا من يقول بصيغة العموم يحمل ذلك على الجميع ولا يجوز التخصيص بالتحكم بل بدليل وضرورة ولا ضرورة ههنا ومن لا يقول به فيجوز أن يريد به الأقل وعند ذلك لا يتميز البعض المراد عما ليس بمراد ولا بد من إجماع الجميع ليعلم أن البعض المراد داخل فيه كيف وقد وردت أخبار تدل على قلة أهل الحق حيث قال صلى الله عليه و سلم وهم يومئذ الأقلون وقال صلى الله عليه و سلم سيعود الدين غريبا كما بدا غريبا وقال تعالى أكثرهم لا يعقلون ( المائدة 103 ) وقال تعالى

وقليل من عبادي الشكور ( سبأ 13 ) وقال تعالى كم من فئة قليلة ( البقرة 249 ) الآية وإذا لم يكن ضابط ولا مرد فلا خاص إلا باعتبار قول الجميع
الدليل الثاني إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد فكم من مسألة قد انفرد فيها الآحاد بمذهب كانفراد ابن عباس بالعول فإنه أنكره فإن قيل لا بل أنكروا على ابن عباس القول بتحليل المتعة وأن الربا في النسيئة وأنكرت عائشة على ابن أرقم مسألة العينة وأنكروا على أبي موسى الأشعري قوله النوم لا ينقض الوضوء وعلى أبي طلحة القول بأن أكل البرد لا يفطر وذلك لانفرادهم به قلنا لا بل لمخالفتهم السنة الواردة فيه المشهورة بينهم أو لمخالفتهم أدلة ظاهرة قامت عندهم ثم نقول هب أنهم أنكروا انفراد المنفرد والمنكر منكر عليهم إنكارهم ولا ينعقد الإجماع فلا حجة في إنكارهم مع مخالفة الواحد
ولهم شبهتان الشبهة الأولى قولهم قول الواحد فيما يخبر عن نفسه لا يورث العلم فكيف يندفع به قول عدد حصل العلم بإخبارهم عن أنفسهم لبلوغهم عدد التواتر وعن هذا قال قوم عدد الأقل إلى أن يبلغ مبلغ التواتر يدفع الإجماع وهذا فاسد من ثلاثة أوجه الأول إن صدق الأكثر وإن علم فليس ذلك صدق جميع الأمة واتفاقهم والحجة في اتفاق الجميع فسقطت الحجة لأنهم ليسوا كل الأمة
الثاني إن كذب الواحد ليس بمعلوم فلعله صادق فلا تكون المسألة اتفاقا من جميع الصادقين إن كان صادقا
الثالث إنه لا نظر إلى ما يضمرون بل التعبد متعلق بما يظهرون فهو مذهبهم وسبيلهم لا ما أضمروه فإن قيل فهل يجوز أن تضمر الأمة خلاف ما تظهر قلنا ذلك إن كان إنما يكون عن تقية وإلجاء وذلك يظهر ويشتهر وإن لم يشتهر فهو محال لأنه يؤدي إلى اجتماع الأمة على ضلالة وباطل وهو ممتنع بدليل السمع
الشبهة الثانية إن مخالفة الواحد شذوذ عن الجماعة وهو منهي عنه فقد ورد ذم الشاذ وأنه كالشاذ من الغنم عن القطيع قلنا الشاذ عبارة عن الخارج عن الجماعة بعد الدخول فيها ومن دخل في الإجماع لا يقبل خلافه بعده وهو الشذوذ أما الذي لم يدخل أصلا فلا يسمى شاذا فإن قيل فقد قال عليه السلام عليكم بالسواد الأعظم فإن الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد قلنا أراد به الشاذ الخارج على الإمام بمخالفة الأكثر على وجه يثير الفتنة وقوله وهو عن الاثنين أبعد أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ولهذا قال عليه السلام والثلاثة ركب وقد قال بعضهم قول الأكثر حجة وليس بإجماع وهو متحكم بقوله أنه حجة إذ لا دليل عليه وقال بعضهم مرادي به أن اتباع الأكثر أولى قلنا هذا يستقيم في الأخبار وفي حق المقلد إذا لم يجد ترجيحا بين المجتهدين سوى الكثرة وأما المجتهد فعليه اتباع الدليل دون الأكثر لأنه إن خالفه واحد لم يلزمه اتباعه وإن انضم إليه مخالف آخر لم يلزمه الاتباع

مسألة ( إجماع أهل المدينة عند مالك )
قالمالك الحجة في إجماع أهل المدينة فقط وقال قوم المعتبر إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة والمصرين الكوفة والبصرة وما أراد المحصلون بهذا إلا أن هذه

البقاع قد جمعت في زمن الصحابة أهل الحل والعقد فإن أراد مالك أن المدينة هي الجامعة لهم فمسلم له ذلك لو جمعت وعند ذلك لا يكون للمكان فيه تأثير وليس ذلك بمسلم بل لم تجمع المدينة جميع العلماء لا قبل الهجرة ولا بعدها بل ما زالوا متفرقين في الأسفار والغزوات والأمصار فلا وجه لكلام مالك إلا أن يقول عمل أهل المدينة حجة لأنهم الأكثرون والعبرة بقول الأكثرين وقد أفسدناه أو يقول يدل اتفاقهم في قول أو عمل أنهم استندوا إلى سماع قاطع فإن الوحي الناسخ نزل فيهم فلا تشذ عنهم مدارك الشريعة وهذا تحكم إذ لا يستحيل أن يسمع غيرهم حديثا من رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر أو في المدينة لكن يخرج منها قبل نقله فالحجة في الإجماع ولا إجماع وقد تكلف لمالك تأويلات ومعاذير استقصيناها في كتاب تهذيب الأصول ولا حاجة إليها هاهنا وربما احتجوا بثناء رسول الله صلى الله عليه و سلم على المدينة وعلى أهلها وذلك يدل على فضيلتهم وكثرة ثوابهم لسكناهم المدينة ولا يدل على تخصيص الإجماع بهم وقد قال قوم الحجة في اتفاق الخلفاء الأربعة وهو تحكم لا دليل عليه إلا ما تخيله جماعة في أن قول الصحابي حجة وسيأتي في موضعه

مسألة ( هل يشترط التواتر في الإجماع )
اختلفوا في أنه هل يشترط أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر أما من أخذه من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة فيلزمه الاشتراط والذين أخذوه من السمع اختلفوا فمنهم من شرط ذلك لأنه إذا نقص عددهم فنحن لا نعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يعلم إيمانهم لا بقولهم لكن بقوله صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال
فإذا لم يكن على وجه الأرض مسلم سواهم فهم على الحق
الثاني أنا لم نتعبد بالباطن وإنما أمة محمد من آمن بمحمد صلى الله عليه و سلم ظاهرا إذ لا وقوف على الباطن وإذا ظهر أنا متعبدون باتباعهم فيجوز أن يستدل بهذا على أنهم صادقون لأن الله تعالى لا يتعبدنا باتباع الكاذب وتعظيمه والاقتداء به فإن قيل كيف يتصور رجوع عدد المسلمين إلى ما دون عدد التواتر وذلك يؤدي إلى انقطاع التكليف فإن التكليف يدوم بدوام الحجة والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة وعن وجود محمد صلى الله عليه و سلم وتحديه بالنبوة والكفار لا يقومون بنشر أعلام النبوة بل يجتهدون في طمسها والسلف من الأئمة مجمعون على دوام التكليف إلى القيامة وفي ضمنه الإجماع على استحالة اندراس الأعلام وفي نقصان عدد التواتر ما يؤدي إلى الاندراس وإذا لم يتصور وجود هذه الحادثة فكيف نخوض في حكمها قلنا يحتمل أن يقال ذلك ممتنع لهذه الأدلة وإنما معنى تصور هذه المسألة رجوع عدد أهل الحل والعقد إلى ما دون عدد التواتر وإن قطعنا بأن قول العوام لا يعتبر فتدوم أعلام الشرع بتواتر العوام ويحتمل أن يقال يتصور وقوعها والله تعالى يديم الأعلام بالتواتر الحاصل من جهة المسلمين والكفار فيتحدثون بوجود محمد صلى الله عليه و سلم ووجود معجزته وإن لم يعترفوا بكونها معجزة أو يخرق الله تعالى العادة فيحصل العلم بقول القليل حتى تدوم الحجة بل نقول قول القليل مع القرائن المعلومة

في مناظرته وتسديده قد يحصل العلم من غير خرق عادة فبجميع هذه الوجوه يبقى الشرع محفوظا فإن قيل فإذا جاز أن يقل عدد أهل الحل والعقد فلو رجع إلى واحد فهل يكون مجرد قوله حجة قاطعة قلنا إن اعتبرنا موافقة العوام فإذا قال قولا وساعده عليه العوام ولم يخالفوه فيه فهو إجماع الأمة فيكون حجة إذ لو لم يكن لكان قد اجتمعت الأمة على الضلالة والخطأ وإن لم نلتفت إلى قول العوام فلم يوجد ما يتحقق به اسم الاجتماع والإجماع إذ يستدعي ذلك عددا بالضرورة حتى يسمى إجماعا ولا أقل من اثنين أو ثلاثة وهذا كله يتصور على مذهب من يعتبر إجماع من بعد الصحابة فأما من لا يقول إلا بإجماع الصحابة فلا يلزمه شيء من ذلك لأن الصحابة قد جاوز عددهم عدد التواتر

مسألة ( مذهب الظاهرية )
ذهب داود وشيعته من أهل الظاهر إلى أنه لا حجة في إجماع من بعد الصحابة وهو فاسد لأن الأدلة الثلاثة على كون الإجماع حجة أعني الكتاب والسنة والعقل لا تفرق بين عصر وعصر فالتابعون إذا أجمعوا فهو إجماع من جميع الأمة ومن خالفهم فهو سالك غير سبيل المؤمنين ويستحيل بحكم العادة أن يشذ الحق عنهم مع كثرتهم عند من يأخذه من العادة ولهم شبهتان أضعفهما قولهم الاعتماد على الخبر والآية وهو قوله تعالى ويتبع غير سبيل المؤمنين ( النساء 115 ) يتناول الذين نعتوا بالإيمان وهم الموجودون وقت نزول الآية فإن المعدوم لا يوصف بالإيمان ولا يكون له سبيل وقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ يتناول أمته الذين آمنوا به وتصور إجماعهم واختلافهم وهم الموجودون وهذا باطل إذ يلزم على مساقه أن لا ينعقد إجماع بعد موت سعد بن معاذ وحمزة ومن استشهد من المهاجرين والأنصار ممن كانوا موجودين عند نزول الآية فإن إجماع من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين وكل الأمة ويلزم أن لا يعتد بخلاف من أسلم بعد نزول الآية وكملت آلته بعد ذلك وقد أجمعنا وإياهم والصحابة على أن موت واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع بل إجماع الصحابة بعد النبي صلى الله عليه و سلم حجة بالاتفاق وكم من صحابي استشهد في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد نزول الآية
الشبهة الثانية أن الواجب اتباع سبيل جميع المؤمنين وإجماع جميع الأمة وليس التابعون جميع الأمة فإن الصحابة وإن ماتوا لم يخرجوا بموتهم عن الأمة ولذلك لو خالف واحد من الصحابة إجماع التابعين لا يكون قول جميع الأمة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي فإذا كان خلاف بعض الصحابة يدفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يدفع لأنهم بالموت لم يخرجوا عن كونهم من الأمة قالوا وقياس هذا يقتضي أن لا يثبت وصف الكلية أيضا للصحابة بل ينتظر لحوق التابعين وموافقتهم من بعدهم إلى القيامة فإنهم كل الأمة لكن لو اعتبر ذلك لم ينتفع بالإجماع إلا في القيامة فثبت أن وصف الكلية إنما هو لمن دخل في الوجود دون من لم يدخل فلا سبيل إلى إخراج الصحابة من الجملة وعند ذلك لا يثبت وصف كلية الأمة للتابعين والجواب أنه كما بطل على القطع الالتفات إلى اللاحقين بطل الالتفات إلى الماضين ولولا ذلك لما تصور إجماع بعد موت واحد من المسلمين في زمان الصحابة والتابعين ولا بعد أن استشهد حمزة وقد اعترفوا بصحة إجماع

الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وبعد موت من مات بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس ذلك إلا لأن الماضي لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر وأن وصف كلية الأمة حاصل لكل من الموجودين في كل وقت وأما إجماع التابعين على خلاف قول واحد من الصحابة فقد قال قوم يصير قول الصحابي مهجورا لأنهم كل الأمة وإن سلمنا وهو الصحيح فنقول إن اتفقوا على وفق قوله انعقد الإجماع إذ موافقته إن لم تقو الإجماع فلا تقدح فيه وإن أجمعوا على خلاف قوله فلا يصير ذلك القول عندنا مهجورا حتى يحرم على تابعي التابعين موافقته لأنه بعد أن أفتى في المسألة فليس فتوى التابعين فيها فتوى جميع الأمة بل فتوى البعض فإن قيل إن ثبت نعت الكلية للتابعين فليكن خلاف قولهم بعدهم حراما وإن قال به صحابي قبلهم وإن لم يكونوا كل الأمة فينبغي أن لا تقوم الحجة بإجماعهم ولا يحرم خلافهم إذ خلاف بعض الأمة ليس بحرام أما أن تكون كلية الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض وجمع بين النفي والإثبات قلنا ليس بمتناقض لأن الكلية إنما تثبت بالإضافة إلى المسألة التي خاضوا فيها فإذا نزلت مسألة بعد الصحابة فالتابعون فيها كل الأمة إذا أجمعوا فيها أما ما أفتى فيها الصحابي ففتواه ومذهبه لا ينقطع بموته وهذا كالصحابي إذا مات بعد الفتوى وأجمع الباقون على خلافه لا يكون ذلك إجماعا من الأمة ولو مات ثم نزلت واقعة بعده انعقد الإجماع على كل مذهب وتكون الكلية حاصلة بالإضافة فإن قيل إن كان في الأمة غائب لا ينعقد الإجماع دونه وإن لم يكن لذلك الغائب خبر من الواقعة ولا فتوى فيها لكن نقول لو كان حاضرا لكان له قول فيها فلا بد من موافقته فليكن الميت قبل التابعين كالغائب قلنا يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن الإجماع انعقد دونه ولو كان غائبا لم ينعقد لأن الغائب في الحال ذو مذهب ورأي بالقوة فتمكن موافقته ومخالفته فيحتمل أن يوافق أو يخالف إذا عرضت المسألة عليه بخلاف الميت فإنه لا يتصور في حقه خلاف أو وفاق لا بالقوة ولا بالفعل بل المجنون والمريض الزائل العقل والطفل لا ينتظر لأنه بطل منه إمكان الوفاق والخلاف فإن قيل فما أجمع عليه التابعون يندفع بخلاف واحد من الصحابة إذا نقل فإن لم ينقل فلعله خالف ولكن لم ينقل إلينا فلا يستيقن إجماع كل الأمة قلنا يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا يكون كحقيقة خلافه وهذا التحقيق وهو أنه لو فتح باب الاحتمال لبطلت الحجج إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه وانفراد الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا فيبطل إجماع الصحابة لاحتمال أن واحدا منهم أضمر المخالفة وإنما أظهر الموافقة لسبب ويرد خبر الواحد لاحتمال أن يكون كاذبا وإذا عرف الإجماع وانقرض العصر أمكن رجوع واحد منهم قبل الموت وإن لم ينقل إلينا فيبطل الإجماع على مذهب من يشترط انقراض العصر فإن قيل إن الأصل عدم النسخ وعدم الرجوع قلنا والأصل عدم خوضه في الواقعة وعدم الخلاف والوفاق جميعا ومع أن الأصل العدم فالاحتمال لا ينتفي وإذا ثبت الاحتمال حصل الشك فيصير الإجماع غير مستيقن مع الشك ولكن يقال لا يندفع الإجماع بكل شك فإن قيل في مسألة تجويز النسخ وتجويز الرجوع شك بعد استيقان أصل الحجة وإنما

الشك في دوامها وهاهنا الشك في أصل الإجماع لأن الإجماع موقوف على حصول نعت الكلية لهم ونعت الكلية موقوف على معرفة انتفاء الخلاف فإذا شككنا في انتفاء الخلاف شككنا في الكلية فشككنا في الإجماع قلنا لا بل نعت الكلية حاصل للتابعين وإنما ينتفي بمعرفة الخلاف فإذا لم يعرف بقيت الكلية وما ذكروه يضاهي قول القائل الحجة في نص مات الرسول عليه السلام قبل نسخه فإذا لم يعرف موته قبل نسخه شككنا في الحجة والحجة الإجماع المنقرض عليه العصر فإذا شككنا في الرجوع فقد شككنا في الحجة وكذلك القول في قول الميت الأول من الصحابة فإنا لا نقول صار كلية الباقين مشكوكا فيها هذا تمام الكلام في الركن الأول
الركن الثاني في نفس الإجماع ونعني به اتفاق فتاوى الأمة في المسألة في لحظة واحدة انقرض عليه العصر أو لم ينقرض أفتوا عن اجتهاد أو عن نص مهما كانت الفتوى نطقا صريحا وتمام النظر في هذا الركن ببيان أن السكوت ليس كالنطق وأن انقراض العصر ليس بشرط وأن الإجماع قد ينعقد عن اجتهاد فهذه ثلاث مسائل

مسألة ( الإجماع السكوتي )
إذا أفتى بعض الصحابة بفتوى وسكت الآخرون لم ينعقد الإجماع ولا ينسب إلى ساكت قول وقال قوم إذا انتشر وسكتوا فسكوتهم كالنطق حتى يتم به الإجماع وشرط قوم انقراض العصر على السكوت وقال قوم هو حجة وليس بإجماع وقال قوم ليس بحجة ولا إجماع ولكنه دليل تجويزهم الاجتهاد في المسألة والمختار أنه ليس بإجماع ولا حجة ولا هو دليل على تجويز الاجتهاد في المسألة إلا إذا دلت قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين الرضا وجواز الأخذ به عند السكوت والدليل عليه أن فتواه إنما تعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه احتمال وتردد والسكوت متردد فقد يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب الأول أن يكون في باطنه مانع من إظهار القول ونحن لا نطلع عليه وقد تظهر قرائن السخط عليه مع سكوته
الثاني أن يسكت لأنه يراه قولا سائغا لمن أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن هو موافقا عليه بل كان يعتقد خطأه
الثالث أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب فلا يرى الإنكار في المجتهدات أصلا ولا يرى الجواب إلا فرض كفاية فإذا كفاه من هو مصيب سكت وإن خالف اجتهاده
الرابع أن يسكت وهو منكر لكن ينتظر فرصة الإنكار ولا يرى البدار مصلحة لعارض من العوارض ينتظر زواله ثم يموت قبل زوال ذلك العارض أو يشتغل عنه
الخامس أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه وناله ذل وهوان كما قال ابن عباس في سكوته عن إنكار العول في حياة عمر كان رجلا مهيبا فهبته
السادس أن يسكت لأنه متوقف في المسألة لأنه بعد في مهلة النظر
السابع أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار وأغناه عن الإظهار ثم يكون قد غلط فيه فترك الإنكار عن توهم إذا رأى الإنكار فرض كفاية وظن أنه قد كفى وهو مخطىء في وهمه فإن قيل لو كان فيه خلاف لظهر قلنا لو كان فيه وفاق لظهر فإن تصور عارض يمنع من ظهور الوفاق تصور مثله في ظهور الخلاف وبهذا يبطل قول الجبائي حيث شرط انقراض العصر في السكوت إذ من العوارض المذكورة ما يدوم إلى آخر العصر أما من قال هو حجة وإن لم يكن إجماعا فهو

تحكم لأنه قول بعض الأمة والعصمة إنما تثبت للكل فقط فإن قيل نعلم قطعا أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة فنقل إليهم مذهب بعض الصحابة مع انتشاره وسكوت الباقين كانوا لا يجوزون العدول عنه فهو إجماع منهم على كونه حجة قلنا هذا إجماع غير مسلم بل لم يزل العلماء مختلفين في هذه المسألة ويعلم المحصلون أن السكوت متردد وأن قول بعض الأمة لا حجة فيه

مسألة ( انعقاد الإجماع باتفاق الأمة )
إذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة انعقد الإجماع ووجبت عصمتهم عن الخطأ وقال قوم لا بد من انقراض العصر وموت الجميع وهذا فاسد لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم وقد حصل قبل الموت فلا يزيده الموت تأكيدا وحجة الإجماع الآية والخبر وذلك لا يوجب اعتبار العصر فإن قيل ما داموا في الأحياء فرجوعهم متوقع وفتواهم غير مستقرة قلنا والكلام في رجوعهم فإنا لا نجوز الرجوع من جميعهم إذ يكون أحد الإجماعين خطأ وهو محال أما بعضهم فلا يحل له الرجوع لأنه برجوعه خالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصيا فاسقا والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع فإن قيل كيف يكون مخالفا للإجماع وبعد ما تم الإجماع وإنما يتم بانقراض العصر قلنا إن عنيتم به أنه لا يسمى إجماعا فهو بهت على اللغة والعرف وإن عنيتم أن حقيقته لم تتحقق فما حده وما الإجماع إلا اتفاق فتاويهم والاتفاق قد حصل وما بعد ذلك استدامة للاتفاق لا إتمام للاتفاق ثم نقول كيف يدعي ذلك ونحن نعلم أن التابعين في زمان بقاء أنس بن مالك وأواخر الصحابة كانوا يحتجون بإجماع الصحابة ولم يكن جواز الاحتجاج بالإجماع مؤقتا بموت آخر الصحابة ولهذا قال بعضهم يكفي موت الأكثر وهو تحكم آخر لا مستند له ثم نقول هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع فإنه إن بقي واحد من الصحابة جاز للتابعي أن يخالف إذ لم يتم الإجماع وما دام واحد من عصر التابعين أيضا لا يستقر الإجماع منهم فيجوز لتابعي التابعين الخلاف وهذا خبط لا أصل له ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إنه ربما قال بعضهم ما قاله عن وهم وغلط فيتنبه له فكيف يحجر عليه في الرجوع عن الغلط وكيف يؤمن ذلك باتفاق يجري في ساعة واحدة قلنا وبأن يموت من أين يحصل أمان من غلطه وهل يؤمن من الغلط إلا دلالة النص على وجوب عصمة الأمة وأما إذا رجع وقال تبينت أني غلطت فنقول إنما يتوهم عليك الغلط إذا انفردت وأما ما قلته في موافقة الأمة فلا يحتمل الخطأ فإن قال تحققت أني قلت ما قلته عن دليل كذا وقد انكشف لي خلافه قطعا فنقول إنما أخطأت في الطريق لا في نفس المسألة بل موافقة الأمة تدل على أن الحكم حق وإن كنت في طريق الاستدلال مخطئا
الشبهة الثانية إنهم ربما قالوا عن اجتهاد وظن ولا حجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يرجع وإذا جاز الرجوع دل أن الإجماع لم يتم قلنا لا حجر على المجتهد في الرجوع إذا انفرد باجتهاده أما ما وافق فيه اجتهاده اجتهاد الأمة فلا يجوز الخطأ فيه ويجب كونه حقا والرجوع عن الحق ممنوع

الشبهة الثالثة أنه لو مات المخالف لم تصر المسألة إجماعا بموته والباقون هم كل الأمة لكنهم في بعض العصر فلذلك لا يصير مذهب المخالف مهجورا فإن كان العصر لا يعتبر فليبطل مذهب المخالف قلنا قال قوم يبطل مذهبه ويصير مهجروا لأن الباقين هم كل الأمة في ذلك الوقت وهو غير صحيح عندنا بل الصحيح أنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى تلك المسألة التي أفتى فيها الميت فإن فتواه لا ينقطع حكمها بموته وليس هذا للعصر فإنه جار في الصحابي الواحد إذا قال قولا وأجمع التابعون في جميع عصرهم على خلافه فقد بينا أنه لا يبطل مذهبه لأنهم ليسوا كل الأمة بالإضافة إلى هذه المسألة
الشبهة الرابعة ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال اجتمع رأيي ورأي عمر على منع بيع أمهات الأولاد وأنا الآن أرى بيعهن فقال عبيدة السلماني رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة قلنا لو صح إجماع الصحابة قاطبة لما كان هذا يدل من مذهب علي على اشتراط انقراض العصر ولو ذهب إلى هذا صريحا لم يجب تقليده كيف ولم يجتمع إلا رأيه ورأي عمر كما قال وأما قول عبيدة رأيك في الجماعة ما أراد به موافقة الجماعة إجماعا وإنما أراد به أن رأيك في زمان الألفة والجماعة والاتفاق والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة وتفرق الكلمة وتطرق التهمة إلى علي في البراءة من الشيخين رضي الله عنهم فلا حجة فيما ليس صريحا في نفسه

مسألة ( كيفية انعقاد الإجماع )
يجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة وقال قوم الخلق الكثير لا يتصور اتفاقهم في مظنة الظن ولو تصور لكان حجة وإليه ذهب ابن جرير الطبري وقال قوم هو متصور وليس بحجة لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد ولا يحرمه والمختار أنه متصور وأنه حجة وقولهم أن الخلق الكثير كيف يتفقون على حكم واحد في مظنة الظن قلنا هذا إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال وأما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد فأي بعد في أن يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في الاسكار فهو في معناه في التحريم كيف وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات وظواهر وأخبار آحاد صحت عند المحدثين والاحتمال يتطرق إليها كيف وقد أجمعوا على التوحيد والنبوة وفيهما من الشبهة ما هو أعظم جذبا لأكثر الطباع من الاحتمال الذي في مقابلة الظن الأظهر وقد أجمعت على إبطال النبوة مذاهب باطلة ليس لها دليل قطعي ولا ظني فكيف لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر وظن غالب ويدل عليه جواز الاتفاق عن اجتهاد لا بطريق القياس كالاتفاق على جزاء الصيد ومقدار أرش الجناية وتقدير النفقة وعدالة الأئمة والقضاة وكل ذلك مظنون وإن لم يكن قياسا
ولهم شبه الأولى قولهم كيف تتفق الأمة على اختلاف طباعها وتفاوت أفهامها في الذكاء والبلادة على مظنون قلنا إنما يمتنع مثل هذا الاتفاق في زمان واحد وساعة معينة لأنهم في مهلة النظر قد يختلفون أما في أزمنة متمادية فلا يبعد أن يسبق الأذكياء إلى الدلالة الظاهرة ويقررون ذلك عند ذوي البلادة فيقبلونه منهم ويساعدون عليه وأهل هذا المذهب قد جوزوا الإجماع على نفي القياس وإبطاله مع ظهور أدلة صحته فكيف يمتنع الإجماع على هذا

الشبهة الثانية قولهم كيف تجتمع الأمة على قياس وأصل القياس مختلف فيه قلنا إنما يفرض ذلك من الصحابة وهم متفقون عليه والخلاف حدث بعدهم وإن فرض بعد حدوث الخلاف فيستند القائلون بالقياس إلى القياس والمنكرون له إلى اجتهاد ظنوا أنه ليس بقياس وهو على التحقيق قياس إذ قد يتوهم غير العموم عموما وغير الأمر أمرا وغير القياس قياسا وكذا عكسه
الشبهة الثالثة قولهم إن الخطأ في الاجتهاد جائز فكيف تجتمع الأمة على ما يجوز فيه الخطأ وربما قالوا الإجماع منعقد على جواز مخالفة المجتهد فلو انعقد الإجماع عن قياس لحرمت المخالفة التي هي جائز بالإجماع ولتناقض الإجماعان قلنا إنما يجوز الخطأ في اجتهاد ينفرد به الآحاد أما اجتهاد الأمة المعصومة فلا يحتمل الخطأ كاجتهاد رسول الله صلى الله عليه و سلم وقياسه فإنه لا يجوز خلافه لثبوت عصمته فكذا عصمة الأمة من غير فرق

الباب الثالث في حكم الإجماع
وحكمه وجوب الاتباع وتحريم المخالفة والامتناع عن كل ما ينسب الأمة إلى تضييع الحق والنظر فيما هو خرق ومخالفة وما ليس بمخالفة يتهذب برسم مسائل
مسألة ( الإجماع على رأيين )
إذا اجتمعت الأمة في المسألة على قولين كحكمهم مثلا في الجارية المشتراة إذا وطئها المشتري ثم وجد بها عيبا فقد ذهب بعضهم إلى أنها ترد مع العقر وذهب بعضهم إلى منع الرد فلو اتفقوا على هذين المذهبين كان المصير إلى الرد مجانا خرقا للإجماع عند الجماهير إلا عند شذوذ من أهل الظاهر والشافعي إنما ذهب إلى الرد مجانا لأن الصحابة بجملتهم لم يخوضوا في المسألة وإنما نقل فيها مذهب بعضهم فلو خاضوا فيها بجملتهم واستقر رأي جميعهم على مذهبين لم يجز إحداث مذهب ثالث ودليله أنه يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق إذ لا بد لمذهب الثالث من دليل ولا بد من نسبة الأمة إلى تضييعه والغفلة عنه وذلك محال ولهم شبه الشبهة الأولى قولهم إنهم خاضوا خوض مجتهدين ولم يصرحوا بتحريم قول ثالث قلنا وإذا اتفقوا على قول واحد عن اجتهاد فهو كذلك ولم يجز خلافهم لأنه يوجب نسبتهم إلى تضييح الحق والغفلة عن دليله فكذلك هاهنا
الشبهة الثانية قولهم إنه لو استدل الصحابة بدليل أو علة لجاز الاستدلال بعلة أخرى لأنهم لم يصرحوا ببطلانها فكذلك القول الثالث لم يصرحوا ببطلانه قلنا فليجز خلافهم إذا اتفقوا عن اجتهاد إذ يجوز التعليل بعلة أخرى فيما اتفقوا عليه لكن الجواب أنه ليس من فرض دينهم الاطلاع على جميع الأدلة بل يكفيهم معرفة الحق بدليل واحد فليس في إحداث علة أخرى واستنباطها نسبة إلى تضييع الحق وفي مخالفتهم في الحكم إذا اتفقوا نسبة إلى التضييع فكذلك إذا اختلفوا على قولين
الشبهة الثالثة إنه لو ذهب بعض الصحابة إلى أن اللمس والمس ينقضان الوضوء وبعضهم إلى أنهما لا ينقضان الوضوء ولم يفرق واحد بينهما فقال تابعي ينقض أحدهما

دون الآخر كان هذا جائزا وإن كان قولا ثالثا قلنا لأن حكمه في كل مسألة يوافق مذهب طائفة وليس في المسألتين حكم واحد وليست التسوية مقصودة ولو قصدوها وقالوا لا فرق واتفقوا عليه لم يجز الفرق وإذا فرقوا بين المسألتين واتفقوا على الفرق قصدا امتنع الجمع أما إذا لم يجمعوا ولم يفرقوا فلا يلتئم حكم واحد من مسألتين بل نقول صريحا لا يخلو إنسان عن معصية وخطأ في مسألة فالأمة مجتمعة على المعصية والخطأ وكل ذلك ليس بمحال إنما يستحيل الخطأ بحيث يضيع الحق حتى لا يقوم به طائفة مع قوله عليه السلام لا تزال طائفة من أمتي على الحق فلهذا نقول يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فرقتين وتخطىء فرقة في مسألة والفرقة الأخرى تقوم بالحق فيها والقائمون بالحق يخطئون في المسألة الأخرى ويقوم بالحق فيها المخطئون في المسألة الأولى حتى يقول مثلا أحد شطري الأمة القياس ليس بحجة والخوارج مبطلون ويقول فريق آخر القياس حجة والخوارج محقون فيشملهم الخطأ ولكن في مسألتين فلا يكون الحق في مسألتين مضيعا بين الأمة في كل واحد منهما
الشبهة الرابعة إن مسروقا أحدث في مسألة الحرام قولا ثالثا ولم ينكر عليه منكر قلنا لم يثبت استقرار كافة الصحابة على رأيين في مسألة الحرام بل ربما كان بعضهم فيها في مهلة النظر أو لم يخض فيها أو لعل مسروقا خالف الصحابة في ذلك الوقت ولم ينطق بوفاقهم وكان أهلا للاجتهاد في وقت وقوع هذه المسألة كيف ولم يصح هذا عن مسروق إلا بإخبار الآحاد فلا يدفع بها ما ذكرنا

مسألة ( خلاف القليل للإجماع )
إذا خالف واحد من الأمة أو اثنان لم ينعقد الإجماع دونه فلو مات لم تصر المسألة إجماعا خلافا لبعضهم ودليلنا أن المحرم مخالفة الأمة كافة ومن ذهب إلى مذهب الميت بعد عصره لا يمكن أن يقال مذهبه خلاف كافة الأمة لأن الميت من الأمة لا ينقطع مذهبه بموته ولذلك يقال فلان وافق الشافعي أو خالفه وذلك بعد موت الشافعي فمذهب الميت لا يصير مهجورا بموته ولو صار مهجورا لصار مذهب الجميع كالمنعدم عند موتهم حتى يجوز لمن بعدهم أن يخالفهم فإن قيل فلو مات في مهلة النظر وهو بعد متوقف فماذا تقولون فيه قلنا نقطع في طرفين واضحين إحداهما أن يموت قبل الخوض في المسألة وقبل أن تعرض عليه فالباقون بعده كل الأمة وإن خاض وأفتى فالباقون بعض الأمة وإن مات في مهلة النظر فهذا محتمل فإنه كما لم يخالفهم لم يوافقهم أيضا بل المتوقف مخالف للجازم لكنه بصدد الموافقة فهذه المسألة محتملة عندنا والله أعلم
مسألة ( إجماع التابعين على أحد قولي الصحابة )
إذا اتفق التابعون على أحد قولي الصحابة لم يصر القول الآخر مهجورا ولم يكن الذاهب إليه خارقا للإجماع خلافا للكرخي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي وكثير من القدرية كالجبائي وابنه لأنه ليس مخالفا لجميع الأمة فإن الذين ماتوا على ذلك المذهب هم من الأمة والتابعون في تلك المسألة بعض الأمة وإن كانوا كل الأمة فمذهبهم باختيار أحد القولين لايحرم القول الآخر فإن صرحوا بتحريم القول الآخر فنحن بين أمرين إما أن نقول هذا محال وقوعه لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين إذ مضت الصحابة

مصرحة بتجويز الخلاف وهؤلاء اتفقوا على تحريم ما سوغوه وإما أن نقول أن ذلك ممكن ولكنهم بعض الأمة في هذه المسألة والمعصية من بعض الأمة جائزة وإن كانوا كل الأمة في كل مسألة لم يخض الصحابة فيها لكن هذا يخالف قوله صلى الله عليه و سلم لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إذ يكون الحق قد ضاع في هذا الزمان فلعل من يميل إلى هذا المذهب يجعل الحديث من أخبار الآحاد فإن قيل بم تنكرون على من يقول هذا إجماع يجب اتباعه وأما الصحابة فقد اتفقوا على قولين بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في أحدهما قلنا هذا تحكم واختراع عليهم فإنهم لم يشترطوا هذا الشرط والإجماع حجة قاطعة فلا يمكن الشرط في الحجة القاطعة إذ يتطرق الاحتمال إليه ويخرج عن كونه قاطعا ولو جاز هذا لجاز أن يقال إذا أجمعوا على قول واحد عن اجتهاد فقد اتفقوا بشرط أن لا يعثر من بعدهم على دليل يعين الحق في خلافه وقد مضت الصحابة متفقة على تسويغ كل واحد من القولين فلا يجوز خرق إجماعهم

مسألة ( الرجوع إلى أحد الرأيين )
إذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر ويخلص من الأشكال أما نحن إذا لم نشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول هم بعض الأمة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة فيعظم الإشكال وطرق الخلاص عنه خمسة أحدها أن نقول هذا محال وقوعه وهو كفرض إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما ظهر لهم دليل البطلان وكيف يحجز على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه قلنا هذا استبعاد محض ونحن نحيل ذلك لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه وكيف يتصور رفعه وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر ثم يبقى الإشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف وإلى أن الأئمة من قريش لأن كل فريق يؤثم مخالفه ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الأخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين
والمخلص الثاني اشتراط انقراض العصر وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم
والمخلص الثالث اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق بدليل قاطع في أحد المذهبين وهو

مشكل لأنه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به وخرج عن كونه حجة فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع ومستندا إليه لا إلى الإجماع ولأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ لم يفرق بين إجماع وإجماع ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد وعند ذلك يناقض آخر كلامه أوله حيث قال اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد
المخلص الرابع أن يقال النظر إلى الاتفاق الأخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد وهذا مشكل فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون ولو جاز هذا لجاز أن يقال الإجماع الثاني ليس بحجة بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف وهذا أولى لأنه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل
المخلص الخامس هذا وهو أن الأخير ليس بحجة ولا يحرم القول المهجور لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف فإذا تقدم لم يكن حجة وهذا أيضا مشكل لأن قوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الخطأ يحسم باب الشرط ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان فيكون كل واحد من الإجماعين حجة ويتناقض فلعل الأولى الطريق الأول وهو أن هذا لا يتصور لأنه يؤدي إلى التناقض وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا فإن قيل فإذا ذهب جميع الأمة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الأمة وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للأمة ومذهبكم يؤدي إلى هذه الإحالة عند سلوك الطريق الأول قلنا لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا وسبيل قطعه أن يقال لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك ولكنا نقول يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته لكن لإفضائه إلى ما هو ممتنع سمعا والشيء تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد فإنه محال لا لذاته لكن لإفضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة وهو ممتنع سمعا والله أعلم

مسألة ( ظهور حديث يخالف إجماع الصحابة )
فإن قال قائل إذا أجمعت الصحابة على حكم ثم ذكر واحد منهم حديثا على خلافه ورواه فإن رجعوا إليه كان الإجماع الأول باطلا وإن أصروا على خلاف الخبر فهو محال لا سيما في حق من يذكره تحقيقا وإذا رجع هو كان مخالفا للإجماع وإن لم يرجع كان مخالفا للخبر وهذا لا مخلص عنه إلا باعتبار انقراض العصر فليعتبر قلنا عنه مخلصان أحدهما أن هذا فرض محال فإن الله يعصم الأمة عن الإجماع على نقيض الخبر أو يعصم الراوي عن النسيان إلى أن يتم الإجماع
الثاني أنا ننظر إلى أهل الإجماع فإن أصروا تبين أنه حق وأن الخبر إما أن يكون غلط فيه الراوي فسمعه من غير

رسول الله صلى الله عليه و سلم وظن أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه و سلم أو تطرق إليه نسخ لم يسمعه الراوي وعرفه أهل الإجماع وإن لم ينكشف لنا فإن رجع الراوي كان مخطئا لأنه خالف الإجماع وهو حجة قاطعة وإن رجع أهل الإجماع إلى الخبر قلنا كان ما أجمعوا عليه حقا في ذلك الزمان إذ لم يكلفهم الله ما لم يبلغهم كما يكون الحكم المنسوخ حقا قبل بلوغ النسخ وكما لو تغير الاجتهاد أو يكون كل واحد من الرأيين حقا عند من صوب قول كل مجتهد فإن قيل فإن جاز هذا فلم لا يجوز أن يقال إذا أجمعت الأمة عن اجتهاد جاز لمن بعدهم الخلاف بل جاز لهم الرجوع فإن ما قالوه كان حقا ما دام ذلك الاجتهاد باقيا فإذا تغير تغير الفرض والكل حق لا سيما إذا اختلفوا عن اجتهاد ثم رجعوا إلى قول واحد وهلا قلتم إن ذلك جائز لأنهم كانوا يجوزون للذاهب إلى إنكار العول وبيع أم الولد القول به ما غلب ذلك على ظنه فإذا تغير ظنه تغير فرضه وحرم عليه ما كان سائغا له ولا يكون هذا رفعا للإجماع بل تجويزا للمصير إلى مذهب بشرط غلبة الظن فإذا تغير الظن لم يكن مجوزا ويكون هذا مخلصا سادسا في المسألة التي قبل هذه المسألة قلنا ما أجمعوا عليه عن اجتهاد لا يجوز خلافه بعده لا لأنه حق فقط لكن لأنه حق اجتمعت الأمة عليه وقد أجمعت الأمة على أن كل ما أجمعت الأمة عليه يحرم خلافه لا كالحق الذي يذهب إليه الآحاد وأما إذا اختلفوا عن اجتهاد فقد اتفقوا على جواز القول الثاني فيصير جواز المصير إليه أمرا متفقا عليه ولا يجوز أن يقيد بشرط بقاء الاجتهاد كما لو اتفقوا على قول واحد بالاجتهاد فإنه لا يشترط فيه أن لا يتغير الاجتهاد بل يحرم خلافه مطلقا من غير شرط فكذلك هذا فإن قيل فلو ظهر للتابعين ذلك الخبر على خلاف ما أجمعت الصحابة عليه ونقله إليهم من كان حاضرا عند إجماع أهل الحل والعقد ولم يكن الراوي من أهل الحل والعقد قلنا يحرم على التابعين موافقته ويجب عليه اتباع الإجماع القاطع فإن خبر الواحد يحتمل النسخ والسهو والإجماع لا يحتمل ذلك

مسألة ( هل يثبت الإجماع بخبر الواحد )
الإجماع لا يثبت بخبر الواحد خلافا لبعض الفقهاء والسر فيه أن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسنة المتواترة وخبر الواحد لا يقطع به فكيف يثبت به قاطع وليس يستحيل التعبد به عقلا لو ورد كما ذكرناه في نسخ القرآن بخبر الواحد لكن لم يرد فإن قيل فليثبت في حق وجوب العمل به إن لم يكن العمل به مخالفا لكتاب ولا سنة متواترة إذ الإجماع كالنص في وجوب العمل والعمل بما ينقله الراوي من النص واجب وإن لم يحصل القطع به لصحة النص فكذا الإجماع قلنا إنما يثبت العمل بخبر الواحد اقتداء بالصحابة وإجماعهم عليه وذلك فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
أما ما روي عن الأمة من اتفاق أو إجماع فلم يثبت فيه نقل وإجماع ولو أثبتناه لكان ذلك بالقياس ولم يثبت لنا صحة القياس في إثبات أصول الشريعة هذا هو الأظهر ولسنا نقطع ببطلان مذهب من يتمسك به في حق العمل خاصة والله أعلم
مسألة ( ليست من الإجماع الأخذ بالأقل )
الأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع خلافا لبعض الفقهاء ومثاله إن الناس اختلفوا في دية اليهودي فقيل إنها مثل دية المسلم وقيل إنها مثل نصفها وقيل

إنها ثلثها فأخذ الشافعي بالثلث الذي هو الأقل وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر فلا مخالف فيه وإنما المختلف فيه سقوط الزيادة ولا إجماع فيه بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعا على سقوط الزيادة لكان موجب الزيادة خارقا للإجماع ولكان مذهبه باطلا على القطع لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه وبحث عن مدارك الأدلة فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة فرجع إلى استصحاب الحال في البراءة الأصلية التي يدل عليها العقل فهو تمسك بالاستصحاب ودليل العقل لا بدليل الإجماع كما سيأتي معناه إن شاء الله تعالى وهذا تمام الكلام في الإجماع الذي هو الأصل الثالث
الأصل الرابع دليل العقل والاستصحاب اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل لكن دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل عليهم السلام وتأييدهم بالمعجزات وانتفاء الأحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع فإذا ورد نبي وأوجب خمس صلوات فتبقى الصلاة السادسة غير واجبة لا بتصريح النبي بنفيها لكن كان وجوبها منتفيا إذ لا مثبت للوجوب فبقي على النفي الأصلي لأن نطقه بالإيجاب قاصر على الخمسة فبقي على النفي في حق السادسة وكأن السمع لم يرد وكذلك إذا أوجب صوم رمضان بقي صوم شوال على النفي الأصلي وإذا أوجب عبادة في وقت بقيت الذمة بعد انقضاء الوقت على البراءة الأصلية وإذا أوجب على القادر بقي العاجز على ما كان عليه فإذا النظر في الأحكام إما أن يكون في إثباتها أو في نفيها أما إثباتها فالعقل قاصر عن الدلالة عليه وأم النفي فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد الدليل السمعي بالمعنى الناقل من النفي الأصلي فانتهض دليلا على أحد الشطرين وهو النفي فإن قيل إذا كان العقل دليلا بشرط أن لا يرد سمع فبعد بعثة الرسل ووضع الشرع لا يعلم نفي السمع فلا يكون انتفاء الحكم معلوما ومنتهاكم عدم العلم بورود السمع وعدم العلم لا يكون حجة قلنا انتفاء الدليل السمعي قد يعلم وقد يظن فإنا نعلم أنه لا دليل على وجوب صوم شوال ولا على وجوب صلاة سادسة إذ نعلم أنه لو كان لنقل وانتشر ولما خفي على جميع الأمة وهذا علم بعدم الدليل وليس هو عدم العلم بالدليل فإن عدم العلم بالدليل ليس بحجة والعلم بعدم الدليل حجة
أما الظن فالمجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة في وجوب الوتر والأضحية وأمثالهما فرآها ضعيفة ولم يظهر له دليل مع شدة بحثه وعنايته بالبحث غلب على ظنه انتفاء الدليل فنزل ذلك منزلة العلم في حق العمل لأنه ظن استند إلى بحث واجتهاد وهو غاية الواجب على المجتهد فإن قيل ولم يستحيل أن يكون واجبا ولا يكون عليه دليل أو يكون عليه دليل لم يبلغنا قلنا أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال لأنه تكليف بما لا يطاق ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود السمع وأما إن كان عليه دليل ولم يبلغنا فليس دليلا في حقنا إذ لا تكليف علينا إلا فيما بلغنا فإن قيل فيقدر كل عامي أن ينفي مستندا إلى أنه لم يبلغه الدليل قلنا هذا إنما يجوز للباحث

المجتهد المطلع على مدارك الأدلة القادر على الاستقصاء كالذي يقدر على التردد في بيته لطلب متاع إذا فتش وبالغ أمكنه أن يقطع بنفي المتاع أو يدعي غلبة الظن أما الأعمى الذي لا يعرف البيت ولا يبصر ما فيه فليس له أن يدعي نفي المتاع من البيت فإن قيل وهل للاستصحاب معنى سوى ما ذكرتموه قلنا يطلق الاستصحاب على أربعة أوجه يصح ثلاثة منها الأول ما ذكرناه
والثاني استصحاب العموم إلى أن يرد تخصيص واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ أما العموم فهو دليل عند القائلين به وأما النص فهو دليل على دوام الحكم بشرط أن لا يرد نسخ كما دل العقل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يرد سمع مغير
الثالث استصحاب حكم دل الشرع على ثبوته ودوامه كالملك عند جريان العقد المملك وكشغل الذمة عند جريان إتلاف أو التزام فإن هذا وإن لم يكن حكما أصليا فهو حكم شرعي دل الشرع على ثبوته ودوامه جميعا ولولا دلالة الشرع على دوامه إلى حصول براءة الذمة لما جاز استصحابه فالاستصحاب ليس بحجة إلا فيما دل الدليل على ثبوته ودوامه بشرط عدم المغير كما دل على البراءة العقل وعلى الشغل السمعي وعلى الملك الشرعي ومن هذا القبيل الحكم بتكرر اللزوم والوجوب إذا تكررت أسبابها كتكرر شهر رمضان وأوقات الصلوات ونفقات الأقارب عند تكرر الحاجات إذا أفهم انتصاب هذه المعاني أسبابا لهذه الأحكام من أدلة الشرع إما بمجرد العموم عند القائلين به أو بالعموم وجملة من القرائن عند الجميع وتلك القرائن تكريرات وتأكيدات وإمارات عرف حملة الشريعة قصد الشارع إلى نصبها أسبابا إذا لم يمنع مانع فلولا دلالة الدليل على كونها أسبابا لم يجز استصحابها فإذن الاستصحاب عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي وليس راجعا إلى عدم العلم بالدليل بل إلى دليل مع العلم بانتفاء المغير أو مع ظن انتفاء المغير عند بذل الجهد في البحث والطلب
الرابع استصحاب الإجماع في محل الخلاف وهو غير صحيح ولنرسم فيه وفي افتقار النافي إلى دليل مسألتين

مسألة ( استصحاب الإجماع )
لا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف خلافا لبعض الفقهاء ومثاله المتيمم إذا رأى الماء في خلال الصلاة مضى في الصلاة لأن الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها فطريان وجود الماء كطريان هبوب الريح وطلوع الفجر وسائر الحوادث فنحن نستصحب دوام الصلاة إلى أن يدل دليل على كون رؤية الماء قاطعا للصلاة وهذا فاسد لأن هذا المستصحب لا يخلو إما أن يقر بأنه لم يقم دليلا في المسألة لكن قال أنا ناف ولا دليل على النافي وأما أن يظن أنه أقام دليلا فإن أقر بأنه لم يدل فسنبين وجوب الدليل على النافي وإن ظن أنه أقام دليلا فقد أخطأ فإنا نقول إنما يستدام الحكم الذي دل الدليل على دوامه فالدليل على دوام الصلاة ههنا لفظ الشارع أو إجماع فإن كان لفظا فلا بد من بيان لذلك اللفظ فلعله يدل على دوامها عند العدم لا عند الوجود فإن دل بعمومه على دوامها عند العدم والوجود جميعا كان ذلك تمسكا بعموم عند القائلين به فيجب إظهار دليل التخصيص وإن كان ذلك بإجماع فالإجماع منعقد على دوام الصلاة عند العدم أما حال الوجود فهو مختلف فيه ولا إجماع مع الخلاف ولو كان الإجماع شاملا

حال الوجود لكان المخالف خارقا للإجماع كما أن المخالف في انقطاع الصلاة عند هبوب الرياح وطلوع الفجر خارق للإجماع لأن الإجماع لم ينعقد مشروطا بعدم الهبوب وانعقد مشروطا بعدم الماء فإذا وجد فلا إجماع فيجب أن يقاس حال الوجود على حال العدم المجمع عليه بعلة جامعة فأما أن يستصحب الإجماع عند انتفاء الإجماع فهو محال وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط أن لا يدل دليل السمع فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع وههنا انعقد الإجماع بشرط العدم وانتفى الإجماع عند الوجوب أيضا فهذه الدقيقة وهي أن كل دليل يضاد نفس الخلاف فلا يمكن استصحابه مع الخلاف والإجماع يضاده نفس الخلاف إذ لا إجماع مع الخلاف بخلاف العموم والنص ودليل العقل فإن الخلاف لا يضاده فإن المخالف مقر بأن العموم مقر بأن العموم تناول بصيغته محل الخلاف إذ قوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل شامل بصيغته صوم رمضان مع خلاف الخصم فيه فيقول أسلم شمول الصيغة لكني أخصصه بدليل فعليه الدليل وهاهنا المخالف لا يسلم شمول الإجماع محل الخلاف إذ يستحيل الإجماع مع الخلاف ولا يستحيل شمول الصيغة مع الدليل فهذه الدقيقة لا بد من التنبه لها فإن قيل الإجماع يحرم الخلاف فكيف يرتفع بالخلاف قلنا هذا الخلاف غير محرم بالإجماع وإنما لم يكن المخالف خارقا للإجماع لأن الإجماع إنما انعقد على حالة العدم لا على حالة الوجود فمن ألحق الوجود بالعدم فعليه الدليل فإن قيل فالدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلى أن يقوم دليل على انقطاعه قلنا فلينظر في ذلك الدليل أهو عموم أو نص يتناول حالة الوجود أم لا فإن كان هو الإجماع مشروط بالعدم فلا يكون دليلا عند الوجود فإن قيل بم تنكرون على من يقول الأصل أن كل ما ثبت دام إلى وجود قاطع فلا يحتاج الدوام إلى دليل في نفسه بل الثبوت هو الذي يحتاج إلى الدليل كما أنه إذا ثبت موت زيد وثبت بناء دار أو بلد كان دوامه بنفسه لا بسبب قلنا هذا وهم باطل لأن كل ما ثبت جاز أن يدوم فلا بد لدوامه من سبب ودليل سوى دليل الثبوت ولولا دليل العادة على أن من مات لا يحيا والدار إذا بنيت لا تنهدم ما لم تهدم أو يطول الزمان لما عرفنا دوامه بمجرد ثبوته كما إذا أخبر عن قعود الأمير وأكله ودخوله الدار ولم تدل العادة على دوام هذه الأحوال فإنا لا نقضي بدوام هذه الأحوال أصلا فكذلك خبر الشرع عن دوام الصلاة مع عدم الماء ليس خبرا عن دوامها مع الوجود فيفتقر دوامها إلى دليل آخر
فإن قيل ليس هو مأمورا بالشروع فقط بل بالشروع مع الإتمام قلنا نعم هو مأمور بالشروع مع العدم وبالإتمام مع العدم أما مع وجود فهو محل الخلاف فما الدليل على أنه مأمور في حالة الوجود بالإتمام
فإن قيل لأنه منهي عن إبطال العمل وفي استعمال الماء إبطال العمل قلنا هذا الأمر إنجرار إلى ما جررناكم إليه وانقياد للحاجة إلى الدليل وهذا الدليل وإن كان ضعيفا فبيان ضعفه ليس من حظ الأصولي ثم هو ضعيف لأنه إن أردتم بالبطلان إحباط ثوابه فلا نسلم أنه لا يثاب على فعله وإن أردتم أنه أوجب عليه مثله فليس الصحة عبارة عما لا يجب فعل مثله على ما قررناه من قبل
فإن قيل الأصل أنه لا يجب شيء

بالشك ووجوب استئناف الصلاة مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين قلنا هذا يعارضه أن وجوب المضي في هذه الصلاة مشكوك فيه وبراءة الذمة بهذه الصلاة مع وجود الماء مشكوك فيه فلا يرتفع به اليقين ثم نقول من يوجب الاستئناف يوجبه بدليل يغلب على الظن كما يرفع البراءة الأصلية بدليل يغلب على الظن كيف واليقين قد يرفع بالشك في بعض المواضع فالمسائل فيه متعارضة وذلك إذا اشتبهت ميتة بمذكاة ورضيعة بأجنبية وماء طاهر بماء نجس ومن نسي صلاة من خمس صلوات احتجوا بأن الله تعالى صوب الكفار في مطالبتهم للرسل بالبرهان حين قال تعالى تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ( إبراهيم 10 ) فقد اشتغل الناس بالبراهين المغيرة للاستصحاب قلنا لأنهم لم يستصحبوا الإجماع بل النفي الأصلي الذي دل العقل عليه إذ الأصل في فطرة الآدمي أن لا يكون نبيا وإنما يعرف ذلك بآيات وعلامات فهم مصيبون في طلب البرهان ومخطئون في المقام على دين آبائهم بمجرد الجهل من غير برهان

مسألة ( النافي هل عليه دليل )
اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل فقال قوم لا دليل عليه وقال قوم لا بد من الدليل وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات فأوجبوا الدليل في العقليات دون الشرعيات
والمختار أن ما ليس بضروري فلا يعرف إلا بدليل والنفي فيه كالإثبات وتحقيقه أن يقال للنافي ما ادعيت نفيه عرفت انتفاءه أو أنت شاك فيه فإن أقر بالشك فلا يطالب الشاك بالدليل فإنه يعترف بالجهل وعدم المعرفة وإن قال أنا متيقن للنفي قيل يقينك هذا حصل عن ضرورة أو عن دليل ولا تعد معرفة النفي ضرورة فإنا نعلم أنا لسنا في لجة بحر أو على جناح نسر وليس بين أيدينا نيل ولا تعد معرفة النفي ضرورة وإن لم يعرفه ضرورة فإنما عرفه عن تقليد أو عن نظر فالتقليد لا يفيد العلم فإن الخطأ جائز على المقلد والمقلد معترف بعمى نفسه وإنما يدعي البصيرة لغيره وإن كان عن نظر فلا بد من بيانه فهذا أصل الدليل ويتأيد بلزوم إشكالين بشعين على إسقاط الدليل عن النافي وهو أن لا يجب الدليل على نافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي حدوث العالم ونافي الصانع ونافي النبوات ونافي تحريم الزنا والخمر والميتة ونكاح المحارم وهو محال والثاني أن الدليل إذا سقط عن هؤلاء لم يعجز أن يعبر المثبت عن مقصود إثباته بالنفي فيقول بدل قوله محدث إنه ليس بقديم وبدل قوله قادر إنه ليس بعاجز وما يجري مجراه
ولهم في المسألة شبهتان الشبهة الأولى قولهم أنه لا دليل على المدعى عليه بالدين لأنه ناف والجواب من أربعة أوجه ( الأول ) أن ذلك ليس لكونه نافيا ولا لدلالة العقل على سقوط الدليل عن النافي بل ذلك بحكم الشرع لقوله صلى الله عليه و سلم البينة على المدعي واليمين على من أنكر ولا يجوز أن يقاس عليه غيره لأن الشرع إنما قضى به للضرورة إذ لا سبيل إلى إقامة دليل على النفي فإن ذلك إنما يعرف بأن يلازمه عدد التواتر من أول وجوده إلى وقت الدعوى فيعلم انتفاء سبب اللزوم قولا وفعلا بمراقبة اللحظات فكيف يكلف إقامة البرهان على ما يستحيل إقامة البرهان عليه بل المدعي أيضا لا دليل عليه لأن قول الشاهدين لا يحصل المعرفة بل الظن بجريان سبب اللزوم من إتلاف أو دين وذلك في الماضي أما في

الحال فلا يعلم الشاهد شغل الذمة فإنه يجوز براءتها بأداء أو إبراء ولا سبيل للخلق إلى معرفة شغل الذمة وبراءتها إلا بقول الله تعالى وقول الرسول المعصوم ولا ينبغي أن يظن أن على المدعي أيضا دليلا فإن قول الشاهد إنما صار دليلا بحكم الشرع فإن جاز ذلك فيمين المدعى عليه أيضا لازم فليكن ذلك دليلا
( والجواب الثاني ) أن المدعى عليه يدعي علم الضرورة ببراءة ذمة نفسه إذ يتيقن أنه لم يتلف ولم يلتزم ويعجز الخلق كلهم من معرفته فإنه لا يعرفه إلا الله تعالى فالنافي في العقليات إن ادعى معرفة إن ادعى معرفة النفي ضرورة فهو محال وإن أقر بأنه مختص بمعرفته اختصاصا لا يمكن أن يشاركه فيه إلا الله فعند ذلك لا يطالب بالدليل وكذلك أنه إذا أخبر عن نفسه بنفي الجوع ونفي الخوف وما جرى مجراه وعند ذلك يستوي الإثبات والنفي فإنه لو ادعى وجود الجوع والخوف كان ذلك معلوما له ضرورة ويعسر على غيره معرفته والعقليات مشتركة النفي منها والإثبات والمحسوسات أيضا يستوي فيها النفي والإثبات
( الثالث ) أن النافي في مجلس الحكم عليه دليل وهي اليمين كما على المدعي دليل وهو البينة وهذا ضعيف إذ اليمين يجوز أن تكون فاجرة فأي دلالة لها من حيث العقل لولا حكم الشرع نعم هو كالبينة فإن قول الشاهدين أيضا يجوز أن يكون غلطا وزورا فاستعماله من هذا الوجه صحيح كما سبق أو يقال كما وجب على النافي في مجلس القضاء أن يعضد جانبه بزيادة على دعوى النفي فليجب ذلك في الأحكام فهذا أيضا له وجه
( الرابع ) أن يد المدعى عليه دليل على نفي ملك المدعي وهو ضعيف لأن اليد تسقط دعوى المدعي شرعا وإلا فاليد قد تكون عن غصب وعارية فأي دلالة لها
( الشبهة الثانية ) وهي أنه كيف يكلف الدليل على النفي وهو متعذر كإقامة الدليل على براءة الذمة فنقول تعذره غير مسلم فإن النزاع إما في العقليات وإما في الشرعيات أما العقليات فيمكن أن يدل على نفيها بأن إثباتها يفضي إلى المحال وما أفضى إلى المحال فهو محال لقوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ( الأنبياء 22 ) ومعلوم أنهما لم تفسدا فدل ذلك على نفي الثاني ويمكن إثباته بالقياس الشرطي الذي سميناه في المقدمة طريق التلازم فإن كل إثبات له لوازم فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم وكذلك المتحدي ليس نبيا إذ لو كان نبيا لكان معه معجزة إذ تكليف المحال محال فهذا طريق وهو الصحيح
الطريق الثاني أن يقال للمثبت لو ثبت ما ادعيته لعلم ذلك بضرورة أو دليل ولا ضرورة مع الخلاف ولا دليل فيدل ذلك على الانتفاء وهذا فاسد فإنه ينقلب على النافي فيقال له لو انتفى الحكم لعلم انتفاؤه بضرورة أو بدليل ولا ضرورة ولا دليل ولا يمكنه أن يتمسك بالاستصحاب بأن يقول مثلا الأصل عدم إله ثان فمن ادعاه فعليه الدليل إذ لا يسلم له أن الأصل العدم بخلاف البراءة الأصلية فإن العقل قد دل على نفي الحكم قبل السمع من حيث دل على أن الحكم هو التكليف والخطاب من الله تعالى وتكليف المحال محال ولو كلفناه من غير رسول مصدق بالمعجزة يبلغ إلينا تكليفه كان ذلك تكليف محال فاستندت البراءة الأصلية إلى دليل عقلي بخلاف عدم الإله الثاني وأما قولهم لو ثبت إله ثان لكان لله تعالى عليه دليل فهو تحكم من وجهين ( أحدهما ) أنه يجوز

أن لا ينصب الله تعالى على بعض الأشياء دليلا ويستأثر بعلمه
( الثاني ) إنه يجوز أن ينصب عليه دليلا ونحن لا نتنبه له ويتنبه له بعض الخواص أو بعض الأنبياء ومن خصص بحاسة سادسة وذوق أخر بل الذي يقطع به أن الأنبياء يدركون أمورا نحن لا ندركها وأن في مقدورات الله أمورا ليس في قوة البشر معرفتها ويجوز أن يكون لله تعالى صفات لا تدرك بهذه الحواس ولا بهذا العقل بل بحاسة سادسة أو سابعة بل لا يستحيل أن تكون اليدوالوجه عبارة عن صفات لا نفهمها ولا دليل عليها ولو لم يرد السمع بها لكان نفيها خطأ فلعل من الصفات من هذا القبيل ما لم يرد السمع بالتعبير عنه ولا فينا قوة إدراكها بل لو لم يخلق لنا السمع لأنكرنا الأصوات ولم نفهمها ولو لم يخلق لنا ذوق الشعر لأنكرنا تفرقة صاحب العروض بين الموزون وغير الموزون فما يدرينا أن في قدرة الله تعالى أنواعا من الحواس لو خلقها لنا لأدركنا بها أمورا أخر نحن ننفيها فكان هذا إنكارا بالجهل ورميا في العماية أما الشرعيات فقد تصادف الدليل عليها من الإجماع كنفي وجوب صوم شوال وصلاة الضحى أو النص كقوله صلى الله عليه و سلم لا زكاة في الحلى ولا زكاة في المعلوفة أو من القياس كقياس الخضراوات على الرمان والبطيخ المنصوص على نفي الزكاة عنه كقول الراوي لا زكاة في الرمان والبطيخ بل هو عفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد لا يساعد مثل هذا الدليل فنبحث عن مدارك الإثبات فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي الثابت بدليل العقل وهو دليل عند عدم ورود السمع وحيث أوردنا في تصانيف الخلاف أن النافي لا دليل عليه أردنا به أنه ليس عليه دليل سمعي إذ يكفيه استصحاب البراءة الأصلية التي كنا نحكم بها لولا بعثة الرسول وورود السمع فإن قيل دليل العقل مشروط بانتفاء السمع وانتفاء السمع غير معلوم وعدم العلم به لا يدل على عدمه ولا سبيل إلى دعوى العلم بانتفائه فإن ذلك لا يعلم قلنا قد بينا أن انتفاءه تارة يعلم كما في انتفاء وجوب صوم شوال وصلاة الضحى وتارة يظن بأن يبحث من هو من أهل البحث عن مدارك الشرع والظن فيه كالعلم لأنه صادر عن اجتهاد إذ قد يقول لو كان لوجدته فإذا لم أجده مع شدة بحثي دل على أنه ليس بكائن كطالب المتاع في البيت إذا استقصى فإن قيل أليس للاستقصاء غاية محدودة بل للبحث بداية ووسط ونهاية فمتى يحل له أن ينفي الدليل السمعي المغير قلنا مهما رجع رجع إلى نفسه فعلم أنه بذل غاية وسعه في الطلب كطالب المتاع في البيت فإن قيل البيت محصور وطلب اليقين فيه ممكن ومدارك الشرع غير محصورة فإن الكتاب وإن كان محصورا فالأخبار غير محصورة وربما كان راوي الحديث مجهولا قلنا إن كان ذلك في ابتداء الإسلام قبل انتشار الأخبار ففرض كل مجتهد ما هو جهد رأيه إلى أن يبلغه الخبر وإن كان بعد أن رويت الأخبار وصنفت الصحاح فما دخل فيها محصور عند أهلها وقد انتهى إلى المجتهدين وأوردوها في مسائل الخلاف
وعلى الجملة فدلالة العقل على النفي الأصلي مشروطة بنفي المغير كما أن دلالة العموم مشروطة بنفي المخصص وكل واحد من المخصص والمغير تارة يعلم انتفاؤه وتارة يظن وكل واحد دليل في الشرع
هذا تمام الكلام في الأصل الرابع

وهو منتهى الكلام في القطب الثاني المشتمل على أصول الأدلة المثمرة التي هي الكتاب والسنة والإجماع والعقل
خاتمة لهذا القطب ببيان أن ثم ما يظن أنه من أصول الأدلة وليس منها وهو أيضا أربعة شرع من قبلنا وقول الصحابي والاستحسان والاستصلاح
فهذه أيضا لا بد من شرحها الأصل الأول من الأصول الموهومة شرع من قبلنا من الأنبياء فيما لم يصرح شرعنا بنسخه ونقدم على هذا الأصل مسألة وهي أنه صلى الله عليه و سلم قبل مبعثه هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء منهم من قال لم يكن متعبدا ومنهم من قال كان متعبدا ثم منهم من نسبه إلى نوح عليه السلام وقوم نسبوه إلى إبراهيم عليه السلام وقوم نسبوه إلى موسى وقوم إلى عيسى عليهما السلام والمختار أن جميع هذه الأقسام جائز عقلا لكن الواقع منه غير معلوم بطريق قاطع ورجم الظن فيما لا يتعلق به الآن تعبد عملي لا معنى له فإن قيل الدليل القاطع على أنه لم يكن على ملة أنه لو كان لافتخر به أولئك القوم ونسبوه إلى أنفسهم ولكان يشتهر تلبسه بشعارهم وتتوفر الدواعي على نقله قلنا هذا يعارضه أنه لو كان منسلخا عن التكليف والتعبد بالشرائع لظهر مخالفته أصناف الخلق وتوفرت الدواعي على نقله ويشبه أن يكون اختفاء حاله قبل البعث معجزة خارقة للعادة وذلك من عجائب أموروه وللمخالف شبهتان الأولي أن موسى وعيسى دعوا إلى دينهما كافة المكلفين من عباد الله تعالى فكان هو داخلا تحت العموم وهذا باطل من وجهين أحدهما أنه لم ينقل إلينا على التواتر عنهما عموم صيغة حتى ننظر في فحواه فلا مستند لهذه الدعوى إلا المقايسة بدين نبينا صلى الله عليه و سلم والمقايسة في مثل هذا باطل وإن كان عموم فلعله استثنى عنه من ينسخ شريعتهما
الثاني أنه ربما كان زمانه زمان فترة الشرائع واندراسها وتعذر القيام بها ولأجله بعث صلى الله عليه و سلم فمن أين يعلم قيام الحجة على تفصيل شريعتهما
الثانية من شبههم أنه صلى الله عليه و سلم كان يصلي ويحج ويعتمر ويتصدق ويذبح الحيوان ويجتنب الميتة وذلك لا يرشد إليه العقل قلنا هذا فاسد من وجهين ( أحدهما ) أن شيئا من ذلك لم يتواتر بنقل مقطوع به ولا سبيل إلى إثباته بالظن
( الثاني ) أنه ربما ذبح الحيوان بناء على أنه لا تحريم إلا بالسمع ولا حكم قبل ورود الشرع وترك الميتة عيافة بالطبع كما ترك أكل الضب عيافة والحج والصلاة إن صح فلعله فعله تبركا بما نقل جملته من أنبياء السلف وإن اندرس تفصيله ونرجع الآن إلى الأصل المقصود وهو أنه بعد بعثته هل كان متعبدا بشريعة من قبله والقول في الجواز العقلي والوقوع السمعي
أما الجواز العقلي فهو حاصل إذ لله تعالى أن يتعبد عباده بما شاء من شريعة سابقة أو مستأنفة أو بعضها سابقة وبعضها مستأنفة ولا يستحيل منه شيء لذاته ولا لمفسدة فيه وزعم بعض القدرية أنه لا يجوز بعثة نبي إلا بشرع مستأنف فإنه إن لم يجدد أمرا فلا فائدة في بعثته ولا يرسل الله تعالى رسولا بغير فائدة ويلزمهم على هذا

تجويز بعثته بمثل تلك الشريعة إذا كانت قد اندرست وإرساله بمثلها إذا كانت قد اشتملت على زوائد وأن يكون الأول مبعوثا إلى قوم والثاني مبعوثا إليهم وإلى غيرهم ولعلهم يخالفون إذا كانت الأولى غضة طرية ولم تشتمل الثانية على مزيد فنقول يدل على جوازه ما يدل على جواز نصب دليلين وبعثة رسولين معا كما قال تعالى إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث ( يس 14 ) وكما أرسل موسى وهارون وداود وسليمان بل كخلق العينين مع الاكتفاء في الإبصار بإحداهما ثم كلامهم بناء على طلب الفائدة في أفعال الله تعالى وهو تحكم
أما الوقوع السمعي فلا خلاف في أن شرعنا ليس بناسخ جميع الشرائع بالكية إذ لم ينسخ وجوب الإيمان وتحريم الزنا والسرقة والقتل والكفر ولكن حرم عليه صلى الله عليه و سلم هذه المحظورات بخطاب مستأنف أو بالخطاب الذي نزل إلى غيره وتعبد باستدامته ولم ينزل عليه الخطاب إلا بما خالف شرعهم فإذا نزلت واقعة لزمه اتباع دينهم إلا إذا أنزل عليه وحي مخالف لما سبق فإلى هذا يرجع الخلاف والمختار أنه لم يتعبد صلى الله عليه و سلم بشريعة من قبله ويدل عليه أربعة مسالك المسلك الأول أنه صلى الله عليه و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له بم تحكم قال بالكتاب والسنة والاجتهاد ولم يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله صلى الله عليه و سلم وصوبه ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه فإن قيل إنما لم يذكر التوراة والإنجيل لأن في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما قلنا سنبين سقوط تمسكهم بتلك الآيات بل فيه قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ( المائدة 48 ) وقال صلى الله عليه و سلم لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي ثم نقول في الكتاب ما يدل على اتباع السنة والقياس فكان ينبغي أن يقتصر على ذكر الكتاب فإن شرع في التفصيل كانت الشريعة السابقة أهم مذكور فإن قيل اندرجت التوراة والإنجيل تحت الكتاب فإنه اسم يعم كل كتاب قلنا إذا ذكر الكتاب والسنة لم يسبق إلى فهم المسلمين شيء سوى القرآن وكيف يفهم غيره ولم يعهد من معاذ قط تعلم التوراة والإنجيل والعناية بتمييز المحرف عن غيره كما عهد منه تعلم القرآن ولو وجب ذلك لتعلمه جميع الصحابة لأنه كتاب منزل لم ينسخ إلا بعضه وهو مدرك بعض الأحكام ولم يتعهد حفظ القرآن إلا لهذه العلة وكيف وطالع عمر رضي الله عنه ورقة من التوراة فغضب صلى الله عليه و سلم حتى احمرت عيناه وقال لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي
المسلك الثاني أنه صلى الله عليه و سلم لو كان متعبدا بها للزمه مراجعتها والبحث عنها ولكان لا ينتظر الوحي ولا يتوقف في الظهار ورمي المحصنات والمواريث ولكان يرجع أولا إليها لا سيما أحكام هي ضرورة كل أمة فلا تخلو التوراة عنها فإن لم يراجعها لاندراسها وتحريفها فهذا يمنع التعبد وإن كان ممكنا فهذا يوجب البحث والتعلم ولم يراجع قط إلا في رجم اليهود ليعرفهم أن ذلك ليس مخالفا لدينهم

المسلك الثالث أن ذلك لو كان مدركا لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض الكفايات كالقرآن والأخبار ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام كما وجب عليهم المناشدة في نقل الأخبار ولرجعوا إليها في مواضع اختلافهم حيث أشكل عليهم كمسألة العول وميراث الجد والمفوضة وبيع أم الولد وحد الشرب والربا في غير النسيئة ومتعة النساء ودية الجنين وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم والرد بالعيب بعد الوطء والتقاء الختانين وغير ذلك من أحكام لا تنفك الأديان والكتب عنها ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة لا سيما وقد أسلم من أخبارهم من تقوم الحجة بقولهم كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار ووهب وغيرهم ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب فكيف يحصل القياس قبل العلم
المسلك الرابع إطباق الأمة قاطبة على أن هذه الشريعة ناسخة وأنها شريعة رسولنا صلى الله عليه و سلم بجملتها ولو تعبد بشرع غيرها لكان مخبرا لا شارعا ولكان صاحب نقل لا صاحب شرع إلا أن هذا ضعيف لأنه إضافة تحتمل المجاز وأن معلوما بواسطته وإن لم يكن هو شارعا لجميعه
وللمخالف التمسك بخمس آيات وثلاثة أحاديث ( الآية الأولى ) أنه تعالى لما ذكر الأنبياء قال أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ( الأنعام 90 )
قلنا أراد بالهدى التوحيد ودلالة الأدلة العقلية على وجدانيته وصفاته بدليلين أحدهما أنه قال فبهداهم اقتده ( الأنعام 90 ) ولم يقل بهم وإنما هداهم الأدلة التي ليست منسوبة إليهم أما الشرع فمنسوب إليهم فيكون اتباعهم فيه اقتداء بهم
الثاني أنه كيف أمر بجميع شرائعهم وهي مختلفة وناسخة ومنسوخة ومتى بحث عن جميع ذلك وشرائعهم كثيرة فدل على أنه أراد الهدى المشترك بين جميعهم وهو التوحيد
( الآية الثانية ) قوله تعالى هذا ( النحل 123 ) وهذا يتمسك به من نسبه إلى إبراهيم عليهالسلام وتعارضه الآية الأولى ثم لا حجة فيها إذ قال أوحينا إليك فوجب بما أوحي إليه لا بما أوحي إلى غيره وقوله أن اتبع أي افعل مثل فعله وليس معناه كن متبعا له وواحدا من أمته كيف والملة عبارة عن أصل الدين والتوحيد والتقديس الذي تتفق فيه جميع الشرائع ولذلك قال تعالى ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ( البقرة 130 ) ولا يجوز تسفيه الأنبياء المخالفين له ويدل عليه أنه لم يبحث عن ملة إبراهيم وكيف كان يبحث مع اندراس كتابه وأسناد أخباره
( الآية الثالثة ) قوله تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ( الشورى 13 ) وهذا يتمسك به من نسبه إلى نوح عليه السلام وهو فاسد إذا تعارضه الآيتان السابقتان ثم الدين عبارة عن أصل التوحيد وإنما خصص نوحا بالذكر تشريفا له وتخصيصا ومتى راجع رسول الله صلى الله عليه و سلم تفصيل شرع نوح وكيف أمكن ذلك مع أنه أقدم الأنبياء وأشد الشرائع اندراسا كيف وقد قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا فلو قال شرع لنوح ما وصاكم به لكان ربما دل هذا على غرضهم وأما هذا فيصرح بضده
( الآية الرابعة ) قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون ( المائدة 44 ) الآية وهو أحد الأنبياء

فليحكم بها واستدل بهذا من نسبه إلى موسى عليه السلام وتعارضه الآيات السابقة ثم المراد بالنور والهدى أصل التوحيد وما يشترك فيه النبيون دون الأحكام المعرضة للنسخ ثم لعله أراد النبيين في زمانه دون من بعدهم ثم هو على صيغة الخبر لا على صيغة الأمر فلا حجة فيه ثم يجوز أن يكون المراد حكم النبيين بها بأمر ابتدأهم به الله تعالى وحيا إليهم لا بوحي موسى عليه السلام
( الآية الخامسة ) قوله تعالى بعد ذكر التوراة وأحكامها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ( المائدة 44 ) قلنا المراد به ومن لم يحكم بما أنزل الله مكذبا به وجاحدا له لا من حكم بما أنزل الله عليه خاصة أو من لم يحكم به ممن أوجب عليه الحكم به من أمته وأمة كل نبي إذا خالفت ما أنزل على نبيهم أو يكون المراد به يحكم بمثلها النبيون وإن كان بوحي خاص إليهم لا بطريق التبعية
وأما الأحاديث فأولها أنه صلى الله عليه و سلم طلب منه القصاص في سن كسرت فقال كتاب الله يقضي بالقصاص وليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى والسن بالسن ( المائدة 45 ) قلنا بل فيه فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ( البقرة 194 ) فدخل السن تحت عمومه
( الحديث الثاني ) قوله صلى الله عليه و سلم من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها وقرأ قوله تعالى وأقم الصلاة لذكري ( طه 14 ) وهذا خطاب مع موسى عليه السلام قلنا ما ذكره صلى الله عليه و سلم تعليلا للإيجاب لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله لذكري أي لذكر إيجابي للصلاة ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب
الحديث الثالث مراجعته صلى الله عليه و سلم التوراة في رجم اليهوديين وكان ذلك تكذيبا لهم في إنكار الرجم إذ كان يجب أن يراجع الإنجيل فإنه آخر ما أنزل الله فلذلك لم يراجع في واقعة سوى هذه والله أعلم
الأصل الثاني من الأصول الموهومة قول الصحابي وقد ذهب قوم إلى أن مذهب الصحابي حجة مطلقا وقوم إلى أنه حجة إن خالف القياس وقوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر خاصة لقوله صلى الله عليه و سلم اقتدوا باللذين من بعدي وقوم إلى أن الحجة في قول الخلفاء الراشدين إذا اتفقوا والكل باطل عندنا فإن من يجوز عليه الغلط والسهو ولم تثبت عصمته عنه فلا حجة في قوله فكيف يحتج بقولهم مع جواز الخطأ وكيف تدعى عصمتهم من غير حجة متواترة وكيف يتصور عصمة قوم يجوز عليهم الاختلاف وكيف يختلف المعصومان كيف وقد اتفقت الصحابة على جواز مخالفة الصحابة فلم ينكر أبو بكر وعمر على من خالفهما بالاجتهاد بل أوجبوا في مسائل الاجتهاد على كل مجتهد أن يتبع اجتهاد نفسه فانتفاء الدليل على العصمة ووقوع الإختلاف بينهم وتصريحهم بجواز مخالفتهم فيه ثلاثة أدلة قاطعة
وللمخالف خمس شبه الشبهة الأولى قولهم وإن لم تثبت عصمتهم فإذا تعبدنا باتباعهم لزم الاتباع كما أن الراوي الواحد لم تثبت عصمتهم لكن لزم اتباعه للتعبد به وقد قال صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم والجواب أن هذا خطاب مع عوام أهل عصره صلى الله عليه و سلم

بتعريف درجة الفتوى لأصحابه حتى يلزم اتباعهم وهو تخيير لهم في الاقتداء بمن شاؤوا منهم بدليل أن الصحابي غير داخل فيه إذ له أن يخالف صحابيا آخر فكما خرج الصحابة بدليل فكذلك خرج العلماء بدليل وكيف وهذا لا يدل على وجوب الاتباع بل على الاهتداء إذا اتبع فلعله يدل على مذهب من يجوز للعالم تقليد العالم أو من يخير العامي في تقليد الأئمة من غير تعيين الأفضل
الشبهة الثانية أن دعوى وجوب الاتباع إن لم تصح لجميع الصحابة فتصح للخلفاء الأربعة لقوله صلى الله عليه و سلم عليكم سنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وظاهر قوله عليكم للإيجاب وهو عام قلنا فيلزمكم على هذا تحريم الاجتهاد على سائر الصحابة رضي الله عنهم إذا اتفق الخلفاء ولم يكن كذلك بل كانوا يخالفون وكانوا يصرحون بجواز الاجتهاد فيما ظهر لهم وظاهر هذا تحريم مخالفة كل واحد من الصحابة وإن انفرد فليس في الحديث شرط الاتفاق وما اجتمعوا في الخلافة حتى يكون اتفاقهم اتفاق الخلفاء وإيجاب اتباع كل واحد منهم محال مع اختلافهم في مسائل لكن المراد بالحديث إما أمر الخلق بالانقياد وبذل الطاعة لهم أي عليكم بقبول إمارتهم وسنتهم أو أمر الأمة بأن ينهجوا منهجهم في العدل والإنصاف والإعراض عن الدنيا وملازمة سيرة رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفقر والمسكنة والشفقة على الرعية أو أراد منع من بعدهم عن نقض أحكامهم فهذه احتمالات ثلاثة تعضدها الأدلة التي ذكرناها
الشبهة الثالثة قولهم إنه إن لم يجب اتباع الخلفاء فيجب اتباع أبي بكر وعمر بقوله صلى الله عليه و سلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر قلنا تعارضه الأخبار السابقة فيتطرق إليه الاحتمالات الثلاثة ثم نقول بموجبه فيجب الاقتداء بهما في تجويزهما لغيرهما مخالفتهما بموجب الاجتهاد ثم ليت شعري لو اختلفا كما اختلفا في التسوية في العطاء فأيهما يتبع
الشبهة الرابعة أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى وولى عثمان فقبل ولم ينكر عليه قلنا لعله اعتقد بقوله عليه السلام من بعدي جواز تقليد العالم للعالم وعلي رضي الله عنه لم يعتقد أو اعتقد أن قوله صلى الله عليه و سلم اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إيجاب التقليد ولا حجة في مجرد مذهبه ويعارضه مذهب علي إذ فهم أنه إنما أراد عبد الرحمن اتباعهما في السيرة والعدل وفهم على إيجاب التقليد
الشبهة الخامسة أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس فلا محمل له إلا سماع خبر فيه قلنا فهذا إقرار بأن قوله ليس بحجة وإنما الحجة الخبر إلا أنكم أثبتم الخبر بالتوهم المجرد ومستندنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في قبول خبر الواحد وهم إنما عملوا بالخبر المصرح بروايته دون الموهوم المقدر الذي لا يعرف لفظه ومورده فقوله ليس بنص صريح في سماع خبر بل ربما قاله عن دليل ضعيف ظنه دليلا وأخطأ فيه والخطأ جائز عليه وربما يتمسك الصحابي بدليل ضعيف وظاهر موهوم ولو قاله عن نص قاطع لصرح به نعم لو تعارض قياسان وقول الصحابي مع أحدهما فيجوز للمجتهد إن غلب على ظنه الترجيح بقول الصحابي أن يرجح وكذلك نوع من المعنى يقتضي تغليظ الدية بسبب الجرم وقياس أظهر منه يقتضي نفي التغليظ فربما يغلب على ظن المجتهد أن ذلك المعنى

الأخفى الذي ذهب إليه الصحابي يترجح به ولكن يختلف ذلك باختلاف المجتهدين أما وجوب اتباعه ولم يصرح بنقل خبر فلا وجه له وكيف وجميع ما ذكروه أخبار آحاد ونحن أثبتنا القياس والإجماع وخبر الواحد بطرق قاطعة لا بخبر الواحد وجعل قول الصحابي حجة كقول رسول الله صلى الله عليه و سلم وخبره إثبات أصل من أصول الأحكام ومداركه فلا يثبت إلا بقاطع كسائر الأصول

مسألة ( هل يجوز تقليد الصحابي )
إن قال قائل إن لم يجب تقليدهم فهل يجوز تقليدهم قلنا أما العامي فيقلدهم وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة فقال في القديم يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولا وانتشر قوله ولم يخالف وقال في موضع آخر يقلد وإن لم ينتشر ورجع في الجديد إلى أنه لا يقلد العالم صحابيا كما لا يقلد عالما آخر ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل على الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوى وهو الصحيح المختار عندنا إذ كل ما دل على تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب ( الاجتهاد ) لا يفرق فيه بين الصحابي وغيره
فإن قيل كيف لا يفرق بينهم مع ثناء الله تعالى وثناء رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( النساء 59 ) وقال تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين ( الفتح 18 ) وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير الناس قرني وقال صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم إلى غير ذلك قلنا هذا كله ثناء يوجب حسن الاعتقاد في علمهم ودينهم ومحلهم عند الله تعالى ولا يوجب تقليدهم لا جوازا ولا وجوبا فإنه صلى الله عليه و سلم أثنى أيضا على آحاد الصحابة ولا يتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه كقوله صلى الله عليه و سلم لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح وقال صلى الله عليه و سلم إن الله قد ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه يقول الحق وإن كان مرا وقال لعمر والله ما سلكت فجا إلا سلك الشيطان فجا غير فجك وقال صلى الله عليه و سلم في قصة أسارى بدر حيث نزلت الآية على وفق رأي عمر لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر وقال صلوات الله عليه إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم وكان علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة يقولون ما كنا نظن إلا أن ملكا بين عينيه يسدده وأن ملكا ينطق على لسانه وقال صلى الله عليه و سلم في حق علي اللهم أدر الحق مع علي حيث دار وقال صلى الله عليه و سلم أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل وقال عليه السلام رضيت لأمتي ما رضي ابن أم عبد وقال عليه السلام لأبي بكر وعمر لو اجتمعا على شيء ما خالفتهما وأراد في مصالح الحرب وكل ذلك ثناء لا يوجب الاقتداء أصلا
فصل في تفريع الشافعي في القديم على تقليد الصحابة ونصوصه
قال في كتاب اختلاف الحديث إنه روي عن علي أنه صلى في ليلة ست ركعات في كل ركعة ست سجدات قال لو ثبت ذلك عن علي لقلت به وهذا لأنه رأى أنه لا يقول ذلك إلا عن

توقيف إذ لا مجال للقياس فيه وهذا غير مرضي لأنه لم ينقل فيه حديثا حتى يتأمل لفظه ومورده وقرائنه وفحواه وما يدل عليه ولم نتعبد إلا بقبول خبر يرويه صحابي مكشوفا يمكن النظر فيه كما كان الصحابة يكتفون بذكر مذهب مخالف للقياس ويقدرون ذلك حديثا من غير تصريح به وقد نص في موضع أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يخالف فهو حجة وهو ضعيف لأن السكوت ليس بقول فأي فرق بين أن ينتشر أو لا ينتشر وقد نص على أنه إذا اختلفت الصحابة فالأئمة أولى فإن اختلف الأئمة فقول أبي بكر وعمر أولى لمزيد فضلهما وقال في موضع آخر يجب الترجيح بقول الأعلم والأكثر قياسا لكثرة القائلين على كثرة الرواة وكثرة الأشباه وإنما يجب ترجيح الأعلم لأن زيادة علمه تقوي اجتهاده وتبعده عن الإهمال والتقصير والخطأ وإن اختلف الحكم والفتوى من الصحابة فقد اختلف قول الشافعي فيه فقال مرة الحكم أولى لأن العناية به أشد والمشورة فيه أبلغ وقال مرة الفتوى أولى لأن سكوتهم على الحكم يحمل على الطاعة للوالي وكل هذا مرجوع عنه فإن قيل فما قولكم في ترجيح أحد القياسين بقول الصحابي قلنا قال القاضي لا ترجيح إلا بقوة الدليل ولا يقوى الدليل بمصير مجتهد إليه والمختار أن هذا في محل الاجتهاد فربما يتعارض ظنان والصحابي في أحد الجانبين فتميل نفس المجتهد إلى موافقة الصحابي ويكون ذلك أغلب على ظنه ويختلف ذلك باختلاف المجتهدين وقال قوم إنما يجوز ترجيح قياس المصير إذا كان أصل القياس في واقعة شاهدها الصحابي وإلا فلا فرق بينه وبين غيره وهذا قريب ولكن مع هذا يحتمل أن يكون مصيره إليه لا لاختصاصه بمشاهدة ما يدل عليه بل بمجرد الظن أما إذا حمل الصحابي لفظ الخبر على أحد محتمليه فمنهم من رجح ومنهم من قال إذا لم يقل علمت ذلك من لفظ الرسول صلى الله عليه و سلم بقرينة شاهدتها فلا ترجيح به وهذا اختيار القاضي فإن قيل فقد ترك الشافعي في الجديد القياس في تغليظ الدية في الحرم بقول عثمان وكذلك فرق بين الحيوان وغيره في شرط البراءة بقول علي قلنا له في مسألة شرط البراءة أقوال فلعل هذا مرجوع عنه وفي مسألة التغليظ الظن به أنه قوي القياس بموافقة الصحابة فإن لم يكن كذلك فمذهبه في الأصول أن لا يقلد والله أعلم
الأصل الثالث من الأصول الموهومة الاستحسان وقد قال به أبو حنيفة وقال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وله ثلاثة معان الأول وهو الذي يسبق إلى الفهم ما يستحسنه المجتهد بعقله ولا شك في أنا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلا بل لو ورد الشرع بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق إلى أوهام العوام مثلا فهو حكم الله عليكم لجوزناه ولكن وقوع التعبد لا يعرف من ضرورة العقل ونظره بل من السمع ولم يرد فيه سمع متواتر ولا نقل آحاد ولو ورد لكان لا يثبت بخبر الواحد فإن جعل الاستحسان مدركا من مدارك أحكام الله تعالى ينزل منزلة الكتاب والسنة والإجماع وأصلا من الأصول لا يثبت بخبر الواحد ومهما انتفى الدليل وجب النفي
المسلك الثاني أنا نعلم قطعا إجماع الأمة قبلهم

على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه وشهوته من غير نظر في دلالة الأدلة والاستحسان من غير نظر في أدلة الشرع حكم بالهوى المجرد وهو كاستحسان العامي ومن لا يحسن النظر فإنه إنما جوز الاجتهاد للعالم دون العامي لأنه يفارقه في معرفة أدلة الشريعة وتمييز صحيحها من فاسدها وإلا فالعامي أيضا يستحسن ولكن يقال لعل مستند استحسانك وهم وخيال لا أصل له ونحن نعلم أن النفس لا تميل إلى الشيء إلا بسبب مميل إليه لكن السبب ينقسم إلى ما هو وهم وخيال إذا عرض على الأدلة لم يتحصل منه طائل وإلى ما هو مشهور من أدلة الشرع فلم يميز المستحسن ميله عن الأوهام وسوابق الرأي إذا لم ينظر في الأدلة ولم يأخذ منها ولهم شبه ثلاث الشبهة الأولى قوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم ( الزمر 55 ) وقال الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ( الزمر 18 ) قلنا اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة فبينوا أن هذا مما أنزل إلينا فضلا عن أن يكون من أحسنه وهو كقوله تعالى واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ( الزمر 55 ) ثم نقول نحن نستحسن إبطال الاستحسان وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة فليكن هذا حجة عليهم
الجواب الثاني أن يلزم من ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ فإن قلتم المراد بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو من أهل النظر فكذلك نقول المراد كل استحسان صدر عن أدلة الشرع وإلا فأي وجه لاعتبار أهلية النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر
الشبهة الثانية قوله صلى الله عليه و سلم ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولا حجة من أوجه الأول أنه خبر واحد لا تثبت به الأصول
الثاني أن المراد به ما رآه جميع المسلمين لأنه لا يخلو أن يريد به جميع المسلمين أو آحادهم فإن أراد الجميع فهو صحيح إذ الأمة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل والإجماع حجة وهو مراد الخبر وإن أراد الآحاد لزم استحسان العوام فإن فرق بأنهم ليسوا أهلا للنظر قلنا إذا كان لا ينظر في الأدلة فأي فائدة لأهلية النظر
الثالث أن الصحابة أجمعوا على استحسان منع الحكم بغير دليل ولا حجة لأنهم مع كثرة وقائعهم تمسكوا بالظواهر والأشباه وما قال واحد حكمت بكذا وكذا لأني استحسنته ولو قال ذلك لشددوا الإنكار عليه وقالوا من أنت حتى يكون استحسانك شرعا وتكون شارعا لنا وما قال معاذ حيث بعثه إلى اليمن أني أستحسن بل ذكر الكتاب والسنة والاجتهاد فقط
الشبهة الثالثة إن الأمة استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة وعوض الماء ولا تقدير مدة السكون واللبث فيه وكذلك شرب الماء من يد السقاء بغير تقدير العوض ولا مبلغ الماء المشروب لأن التقدير في مثل هذا قبيح في العادات فاستحسنوا ترك المضايقة فيه ولا يحتمل ذلك في إجارة ولا بيع والجواب من وجهين الأول أنهم من أين عرفوا أن الأمة فعلت ذلك من غير حجة ولا دليل ولعل الدليل جريان ذلك في عصر رسول الله صلى الله عليه و سلم

مع معرفته به وتقريره عليه لأجل المشقة في تقدير الماء المشروب والمصبوب في الحمام وتقدير مدة المقام والمشقة سبب الرخصة
الثاني أن نقول شرب الماء بتسليم السقاء مباح وإذا أتلف ماءه فعليه ثمن المثل إذ قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما بذله في الغالب وما يبذل له في الغالب يكون ثمن المثل فيقبله السقاء فإن منع فعليه مطالبته فليس في هذا إلا الاكتفاء في معرفة الإباحة بالمعاطاة والقرينة وترك المماسكة في العوض وهذا مدلول عليه من الشرع وكذلك داخل الحمام مستبيح بالقرينة ومتلف بشرط العوض بقرينة حال الحمامي ثم ما يبذله إن ارتضى به الحمامي واكتفى به عوضا أخذه وإلا طالبه بالمزيد إن شاء فليس هذا أمرا مبدعا ولكنه منقاس والقياس حجة
التأويل الثاني للاستحسان قولهم المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إبرازه وإظهاره وهذا هوس لأن ما لا يقدر على التعبير عنه لا يدري أنه وهم وخيال أو تحقيق ولا بد من ظهوره ليعتبر بأدلة الشريعة لتصححه الأدلة أو تزيفه أما الحكم بما لا يدري ما هو فمن أين يعلم جوازه أبضرورة العقل أو نظره أو بسمع متواتر أو آحاد ولا وجه لدعوى شيء من ذلك كيف وقد قال أبو حنيفة إذا شهد أربعة على زنا شخص لكن عين كل واحد منهم زاوية من زوايا البيت وقال زنى فيها فالقياس أن لا حد عليه لكنا نستحسن حده فيقول له لم يستحسن سفك دم مسلم من غير حجة إذ لم تجتمع شهادة الأربعة على زنا واحد وغايته أن يقول تكذيب المسلمين قبيح وتصديقهم وهم عدول حسن فنصدقهم ونقدر دورانه في زنية واحدة على جميع الزوايا بخلاف ما لو شهدوا في أربعة بيوت فإن تقدير التزاحف بعيد وهذا هوس لأنا نصدقهم ولا نرجم المشهود عليه كما لو شهد ثلاثة وكما لو شهدوا في دور وندرأ الرجم من حيث لم نعلم يقينا اجتماع الأربعة على شهادة واحدة فدرء الحد بالشبهة أحسن كيف وإن كان هذا دليلا فلا ننكر الحكم بالدليل ولكن لا ينبغي أن يسمى بعض الأدلة استحسانا
التأويل الثالث للاستحسان ذكره الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة ممن عجز عن نصرة الاستحسان وقال ليس هو عبارة عن قول بغير دليل بل هو بدليل وهو أجناس منها العدول بحكم المسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن مثل قوله مالي صدقة أو لله علي أن أتصدق بمالي فالقياس لزوم التصدق بكل ما يسمى مالا لكن استحسن أبو حنيفة التخصيص بمال الزكاة لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة ( التوبة 103 ) ولم يرد إلا مال الزكاة
ومنها أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة كالفرق في سبق الحدث والبناء على الصلاة بين السبق والتعمد على خلاف قياس الأحداث وهذا مما لا ينكر وإنما يرجع الاستنكار إلى اللفظ وتخصيص هذا النوع من الدليل بتسميته استحسانا من بين سائر الأدلة والله أعلم
الأصل الرابع من الأصول الموهومة الاستصلاح وقد اختلف العلماء في جواز اتباع المصلحة المرسلة ولا بد من كشف معنى المصلحة وأقسامها فنقول المصلحة بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع لاعتبارها وقسم شهد لبطلانها وقسم لم يشهد الشرع لا لبطلانها ولا لاعتبارها
أما ما شهد الشرع لاعتبارها فهي حجة

ويرجع حاصلها إلى القياس وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع وسنقيم الدليل عليه في القطب الرابع فإنه نظر في كيفية استثمار الأحكام من الأصول المثمرة ومثاله حكمنا أن كل ما أسكر من مشروب أو مأكول فيحرم قياسا على الخمر لأنها حرمت لحفظ العقل الذي هو مناط التكليف فتحريم الشرع الخمر دليل على ملاحظة هذه المصلحة
القسم الثاني ما شهد الشرع لبطلانها مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك لما جامع في نهار رمضان إن عليك صوم شهرين متتابعين فلما أنكر عليه حيث لم يأمره بإعتاق رقبة مع اتساع ماله قال لو أمرته بذلك لسهل عليه واستحقر إعتاق رقبة في جنب قضاء شهوته فكانت المصلحة في إيجاب الصوم لينزجر به فهذا قول باطل ومخالف لنص الكتاب بالمصلحة وفتح هذا الباب يؤدي إلى تغيير جميع حدود الشرائع ونصوصها بسبب تغير الأحوال ثم إذا عرف ذلك من صنيع العلماء لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم وظنوا أن كل ما يفتون به فهو تحريف من جهتهم بالرأي
القسم الثالث ما لم يشهد له من الشرع بالبطلان ولا بالاعتبار نص معين وهذا في محل النظر فلنقدم على تمثيله تقسيما آخر وهو أن المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها تنقسم إلى ما هي في رتبة الضرورات وإلى ما هي في رتبة الحاجات وإلى ما يتعلق بالتحسينات والتزيينات وتتقاعد أيضا عن رتبة الحاجات ويتعلق بأذيال كل قسم من الأقسام ما يجري منها مجرى التكملة والتتمة لها ولنفهم أولا معنى المصلحة ثم أمثلة مراتبها أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ولسنا نعني به ذلك فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته فإن هذا يفوت على الخلق دينهم وقضاؤه بإيجاب القصاص أدبه حفظ النفوس وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسل والأنساب وإيجاب زجر الغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون إليها وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر والقتال والزنا والسرقة وشرب المسكر أما ما يجري مجرى التكملة والتتمة لهذه المرتبة فكقولنا المماثلة مرعية في استيفاء القصاص لأنه مشروع للزجر والتشفي ولا يحصل ذلك إلا بالمثل وكقولنا القليل من الخمر إنما حرم لأنه يدعو إلى الكثير فيقاس عليه النبيذ فهذا دون الأول ولذلك اختلفت فيه الشرائع أما تحريم السكر فلا تنفك عنه شريعة لأن السكر يسد باب التكليف والتعبد

الرتبة الثانية ما يقع في رتبة الحاجات من المصالح والمناسبات كتسليط الولي على تزويج الصغيرة والصغير فذلك لا ضرورة إليه لكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح وتقييد الأكفاء خيفة من الفوات واستغناما للصلاح المنتظر في المآل وليس هذا كتسليط الولي على تربيته وإرضاعه وشراء الملبوس والمطعوم لأجله فإن ذلك ضرورة لا يتصور فيها اختلاف الشرائع المطلوب بها مصالح الخلق أما النكاح في حال الصغر فلا يرهق إليه توقان شهوة ولا حاجة تناسل بل يحتاج إليه لصلاح المعيشة باشتباك العشائر والتظاهر بالإصهار وأمور من هذا الجنس لا ضرورة إليها أما ما يجري مجرى التتمة لهذه الرتبة فهو كقولنا لا تزوج الصغيرة إلا من كفؤ وبمهر مثل فإنه أيضا مناسب ولكنه دون أصل الحاجة إلى النكاح ولهذا اختلف العلماء فيه
الرتبة الثالثة ما لا يرجع إلى ضرورة ولا إلى حاجة ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزائد ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات مثاله سلب العبد أهلية الشهادة مع قبول فتواه وروايته من حيث أن العبد نازل القدر والرتبة ضعيف الحال والمنزلة باستسخار المالك إياه فلا يليق بمنصبه التصدي للشهادة أما سلب ولايته فهو من مرتبة الحاجات لأن ذلك مناسب للمصلحة إذ ولاية الأطفال تستدعي استغراقا وفراغا والعبد مستغرق بالخدمة فتفويض أمر الطفل إليه إضرار بالطفل أما الشهادة فتتفق أحيانا كالرواية والفتوى ولكن قول القائل سلب منصب الشهادة لخسة قدره ليس كقوله سلب ذلك لسقوط الجمعة عنه فإن ذلك لا يشم منه رائحة مناسبة أصلا وهذا لا ينفك عن الانتظام لو صرح به الشرع ولكن تنتفي مناسبته بالرواية والفتوى بل ذلك ينقص عن المناسب إلى أن يعتذر عنه والمناسب قد يكون منقوصا فيترك أو يحترز عنه بعذر أو تقييد كتقييد النكاح بالولي لو أمكن تعليله بفتور رأيها في انتقاء الأزواج وسرعة الاغترار بالظواهر لكان واقعا في الرتبة الثانية ولكن لا يصح ذلك في سلب عبارتها وفي نكاح الكفؤ فهو في الرتبة الثالثة لأن ألأليق بمحاسن العادات استحياء النساء عن مباشرة العقد لأن ذلك يشعر بتوقان نفسها إلى الرجال ولا يليق ذلك بالمروءة ففوض الشرع ذلك إلى الولي حملا للخلق على أحسن المناهج وكذلك تقييد النكاح بالشهادة لو أمكن تعليله بالإثبات عند النزاع لكان من قبيل الحاجات ولكن سقوط الشهادة على رضاها يضعف هذا المعنى فهو لتفخيم أمر النكاح وتمييزه عن السفاح بالأعلان والإظهار عند من له رتبة ومنزلة على الجملة فليلحق برتبة التحسينات فإذا عرفت هذه الأقسام فنقول الواقع في الرتبتين الأخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده إن لم يعتضد بشهادة أصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد وإن لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان فإن اعتضد بأصل فذاك قياس وسيأتي أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في أن يؤدي إليه اجتهاد وإن لم يشهد له أصل معين ومثاله إن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أسارى المسلمين فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الإسلام وقتلوا كافة المسلمين ولو رمينا الترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا وهذا لا عهد به في الشرع ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع

المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى أيضا فيجوز أن يقول قائل هذا الأسير مقتول بكل حال فحفظ جميع المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع لأنا نعلم قطعا أن مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصد حسم سبيله عند الإمكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل وكان هذا التفاتا إلى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصود الشرع لا بدليل واحد وأصل معين بل بأدلة خارجة عن الحصر لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على أصل معين وانقدح اعتبارها باعتبار ثلاثة أوصاف أنها ضرورة قطعية كلية وليس في معناها ما لو تترس الكفار في قلعة بمسلم إذ لا يحل رمي الترس إذ لا ضرورة فينا غنية عن القلعة فنعدل عنها إذ لم نقطع بظفرنا بها لأنها ليست قطعية بل ظنية وليس في معناها جماعة في سفينة لو طرحوا واحدا منهم لنجوا وإلا غرقوا بجملتهم لأنها ليست كلية إذ يحصل بها هلاك عدد محصور وليس ذلك كاستئصال كافة المسلمين ولأنه ليس يتعين واحد للإغراق إلا أن يتعين بالقرعة ولا أصل لها وكذلك جماعة في مخمصة لو أكلوا واحدا بالقرعة لنجوا فلا رخصة فيه لأن المصلحة ليست كلية وليس في معناها قطع اليد للأكلة حفظا للروح فإنه تنقدح الرخصة فيه لأنه إضرار به لمصلحته وقد شهد الشرع للأضرار بشخص في قصد صلاحه كالفصد والحجامة وغيرهما وكذا قطع المضطر قطعة من فخذه إلى أن يجد الطعام فهو كقطع اليد لكن ربما يكون القطع سببا ظاهرا في الهلاك فيمنع منه لأنه ليس فيه يقين الخلاص فلا تكون المصحلة قطعية فإن قيل فالضرب بالتهمة للاستنطاق بالسرقة مصلحة فهل تقولون بها قلنا قد قال بها مالك رحمه الله ولا نقول به لا لإبطال النظر إلى جنس المصلحة لكن لأن هذه مصلحة تعارضها أخرى وهي مصلحة المضروب فإنه ربما يكون بريئا من الذنب وترك الضرب في مذنب أهون من ضرب بريء فإن كان فيه فتح باب يعسر معه انتزاع الأموال ففي الضرب فتح باب إلى تعذيب البريء فإن قيل فالزنديق المتستر إذا تاب فالمصلحة في قتله وأن لا تقبل توبته وقد قال صلى الله عليه و سلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فماذا ترون قلنا هذه المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد قتله إذ وجب بالزندقة قتله وإنما كلمة الشهادة تسقط القتل في اليهود والنصارى لأنهم يعتقدون ترك دينهم بالنطق بكلمة الشهادة والزنديق يرى التقية عين الزندقة فهذا لو قضينا به فحاصله استعمال مصلحة في تخصيص عموم وذلك لا ينكره أحد فإن قيل رب ساع في الأرض بالفساد بالدعوة إلى البدعة أو بإغراء الظلمة بأموال الناس وحرمهم وسفك دمائهم بإثارة الفتنة والمصلحة قتله لكف شره فماذا ترون فيه قلنا إذا لم يقتحم جريمة موجبة لسفك الدم فلا يسفك دمه إذ في تخليد الحبس عليه كفاية شره فلا حاجة إلى القتل فلا تكون هذه المصلحة ضرورية فإن قيل إذا كان الزمان زمان فتنة ولم يقدر على تخليد الحبس فيه مع تبدل الولايات على قرب فليس في إبقائه وحبسه إلا إيغار صدره وتحريك داعيته ليزداد في الفساد والإغراء جدا عند الإفلات قلنا هذا الآن رجم بالظن وحكم بالوهم فربما لا يفلت ولا تتبدل الولاية والقتل بتوهم المصلحة

لا سبيل إليه فإن قيل فإذا تترس الكفار بالمسلمين فلا نقطع بتسلطهم على استئصال الإسلام لو لم يقصد الترس بل يدرك ذلك بغلبة الظن قلنا لا جرم ذكر العراقيون في المذهب وجهين في تلك المسألة وعللوا بأن ذلك مظنون
ونحن إنما نجوز ذلك عند القطع أو ظن قريب من القطع والظن القريب من القطع إذا صار كليا وعظم الخطر فيه فتحتقر الأشخاص الجزئية بالإضافة إليه فإن قيل إن في توقفنا عن الساعي في الأرض بالفساد ضررا كليا بتعريض أموال المسلمين ودمائهم للهلاك وغلب ذلك على الظن بما عرف من طبيعته وعادته المجربة طول عمره قلنا لا يبعد أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى قتله إذا كان كذلك بل هو أولى من الترس فإنه لم يذنب ذنبا وهذا قد ظهرت منه جرائم توجب العقوبة وإن لم توجب القتل وكأنه التحق بالحيوانات الضارية لما عرف من طبيعته وسجيته فإن قيل كيف يجوز المصير إلى هذا في هذه المسألة وفي مسألة الترس وقد قدمتم أن المصلحة إذا خالفت النص لم تتبع كإيجاب صوم شهرين على الملوك إذا جامعوا في نهار رمضان وهذا يخالف قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا ( النساء 93 ) وقوله تعالى ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ( الأنعام 151 ) وأي ذنب لمسلم يتترس به كافر فإن زعمتم أنا نخصص العموم بصورة ليس فيها خطر كلي فلنخصص العتق بصورة يحصل بها الانزجار عن الجناية حتى يخرج عنها الملوك فإذا غاية الأمر في مسألة الترس أن يقطع باستئصال أهل الإسلام فما بالنا نقتل من لم يذنب قصدا ونجعله فداء للمسلمين ونخالف النص في قتل النفس التي حرم الله تعالى قلنا لهذا نرى المسألة في محل الاجتهاد ولا يبعد المنع من ذلك ويتأيد بمثله السفينة وأنه يلزم منه قتل ثلث الأمة لاستصلاح ثلثيها ترجيحا للكثرة إذ لا خلاف في أن كافرا لو قصد قتل عدد محصور كعشرة مثلا وتترس بمسلم فلا يجوز لهم قتل الترس في الدفع بل حكمهم كحكم عشرة أكرهوا على قتل أو اضطروا في مخمصة إلى أكل واحد وإنما نشأ هذا من الكثرة ومن كونه كليا لكن للكلي الذي لا يحصر حكم آخر أقوى من الترجيح بكثرة العدد وكذلك لو اشتبهت أخته بنساء بلدة حل له النكاح ولو اشتبهت بعشرة وعشرين لم يحل ولا خلاف أنهم لو تترسوا بنسائهم وذراريهم قاتلناهم وإن كان التحريم عاما لكن تخصصه بغير هذه الصورة فكذلك هاهنا التخصيص ممكن وقول القائل هذا سفك دم محرم معصوم يعارضه أن في الكف عنه إهلاك دماء معصومة لا حصر لها ونحن نعلم أن الشرع يؤثر الكلي على الجزئي فإن حفظ أهل الإسلام عن اصطلام الكفار أهم في مقصود الشرع من حفظ دم مسلم واحد فهذا مقطوع به من مقصود الشرع والمقطوع به لا يحتاج إلى شهادة أصل فإن قيل فتوظيف الخراج من المصالح فهل إليه سبيل أم لا قلنا لا سبيل إليه مع كثرة الأموال في أيدي الجنود أما إذا خلت الأيدي من الأموال ولم يكن من مال المصالح ما يفي بخراجات العسكر ولو تفرق العسكر واشتغلوا بالكسب لخيف دخول الكفار بلاد الإسلام أو خيف ثوران الفتنة من أهل العرامنة في بلاد الإسلام فيجوز للإمام أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند ثم إن رأى في طريق التوزيع التخصيص بالأراضي فلا حرج لأنا نعلم أنه إذا تعارض شران أو

ضرران قصد الشرع دفع أشد الضررين وأعظم الشرين وما يؤديه كل واحد منهم قليل بالإضافة إلى ما يخاطر به من نفسه وماله لو خلت خطة الإسلام عن ذي شوكة يحفظ نظام الأمور ويقطع مادة الشرور وكان هذا لا يخلو عن شهادة أصول معينة فإن لولي الطفل عمارة القنوات وإخراج أجرة الفصاد وثمن الأدوية وكل ذلك تنجيز خسران لتوقع ما هو أكثر منه وهذا أيضا يؤيد مسلك الترجيح في مسألة الترس لكن هذا تصرف في الأموال والأموال مبتذلة يجوز ابتذالها في الأغراض التي هي أهم منها وإنما لمحظور سفك دم معصوم من غير ذنب سافك فإن قيل فبأي طريق بلغ الصحابة حد الشرب إلى ثمانين فإن كان حد الشرب مقدرا فكيف زادوا بالمصلحة وإن لم يكون مقدرا وكان تعزيرا فلم افتقروا إلى الشبه بحد القذف قلنا الصحيح أنه لم يكن مقدرا لكن ضرب الشارب في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم بالنعال وأطراف الثياب فقدر ذلك على سبيل التعديل والتقويم بأربعين فرأوا المصلحة في الزيادة فزادوا والتعزيرات مفوضة إلى رأي الأئمة فكأنه ثبت الإجماع أنهم أمروا بمراعاة المصلحة وقيل لهم اعملوا بما رأيتموه أصوب بعد أن صدرت الجناية الموجبة للعقوبة ومع هذا فلم يريدوا الزيادة على تعزير رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا بتقريب من منصوصات الشرع فرأوا الشرب مظنة القذف لأن من سكر هذى ومن هذى افترى ورأوا الشرع يقيم مظنة الشيء مقام نفس الشيء كما أقام النوم مقام الحدث وأقام الوطء مقام شغل الرحم والبلوغ مقام نفس العقل لأن هذه الأسباب مظان هذه المعاني فليس ما ذكروه مخالفة للنص بالمصلحة أصلا فإن قيل فما قولكم في المصالح الجزئية المتعلقة بالأشخاص مثل المفقود زوجها إذا اندرس خبر موته وحياته وقد انتظرت سنين وتضررت بالعزوبة أيفسخ نكاحها للمصلحة أم لا وكذلك إذا عقد وليان أو وكيلان نكاحين أحدهما سابق واستبهم الأمر ووقع اليأس عن البيان بقيت المرأة محبوسة طول العمر عن الأزواج ومحرمة على زوجها المالك لها في علم الله تعالى وكذلك المرأة إذا تباعد حيضها عشر سنين وتعوقت عدتها وبقيت ممنوعة من النكاح هل يجوز لها الاعتداد بالأشهر أو تكتفي بتربص أربع سنين وكل ذلك مصلحة ودفع ضرر ونحن نعلم أن دفع الضرر مقصود شرعا قلنا المسألتان الأوليان مختلف فيهما فهما في محل الاجتهاد فقد قال عمر تنكح زوجة المفقود بعد أربع سنين من انقطاع الخبر وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد تصبر إلى قيام البينة على موته أو انقضاء مدة يعلم أنه لا يعيش إليها لأنا إن حكمنا بموته بغير بينة فهو بعيد إذ لا تدارس الأخبار أسباب سوى الموت لا سيما في حق الخامل الذكر النازل القدر وإن فسخنا فالفسخ إنما يثبت بنص أو قياس على منصوص والمنصوص أعذار وعيوب من جهة الزوج من أعسار وجب وعنة فإذا كانت النفقة دائمة فغايته الامتناع من الوطء وذلك في الحضرة لا يؤثر فكذلك في الغيبة فإن قيل سبب الفسخ دفع الضرر عنها ورعاية جانبها فيعارضه أن رعاية جانبه أيضا مهم ودفع الضرر عنه واجب وفي تسليم زوجته إلى غيره في غيبته ولعله محبوس أو مريض معذور إضرار به فقد تقابل الضرران وما من ساعة إلا وقدوم الزوج فيها ممكن فليس تصفو هذه المصلحة عن معارض وكذلك

اختلف قول الشافعي في مسألة الوليين ولو قيل بالفسخ من حيث تعذر إمضاء العقد فليس ذلك حكما بمجرد مصلحة لا يعتضد بأصل معين بل تشهد له الأصول المعينة أما تباعد الحيضة فلا خلاف فيها في مذهب الشافعي ولم يبلغنا خلاف عن العلماء وقد أوجب الله تعالى التربص بالأقراء إلا على اللائي يئسن من المحيض وليست هذه من الآيسات وما من لحظة إلا ويتوقع فيها هجوم الحيض وهي شابة فمثل هذا القدر النادر لا يسلطنا على تخصيص النص فإنا لم نر الشرع يلتفت إلى النوادر في أكثر الأحوال وكان لا يبعد عندي لو اكتفي بأقصى مدة الحمل وهو أربع سنين لكن لما أوجبت العدة مع تعليق الطلاق على يقين البراءة غلب التعبد فإن قيل فقد ملتم في أكثر هذه المسائل إلى القول بالمصالح ثم أوردتم هذا الأصل في جملة الأصول الموهومة فليلحق هذا بالأصول الصحيحة ليصير أصلا خامسا بعد الكتاب والسنة والإجماع والعقل قلنا هذا من الأصول الموهومة إذ من ظن أنه أصل خامس فقد أخطأ لأنا رددنا المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والإجماع فكل مصلحة لا ترجع إلى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والإجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطرحة ومن صار إليها فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وكل مصلحة رجعت إلى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصودا بالكتاب والسنة والإجماع فليس خارجا من هذه الأصول لكنه لا يسمى قياسا بل مصلحة مرسلة إذ القياس أصل معين وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الأحوال وتفاريق الإمارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة وإذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في اتباعها بل يجب القطع بكونها حجة وحيث ذكرنا خلافا فذلك عند تعارض مصلحتين ومقصودين وعند ذلك يجب ترجيح الأقوى ولذلك قطعنا بكون الإكراه مبيحا لكلمة الردة وشرب الخمر وأكل مال الغير وترك الصوم والصلاة لأن الحذر من سفك الدم أشد من هذه الأمور ولا يباح به الزنا لأنه مثل محذور الإكراه فإذا منشأ الخلاف في مسألة الترس الترجيح إذ الشرع ما رجح الكثير على القليل في مسألة السفينة ورجح الكل على الجزء في قطع اليد المتأكلة وهل يرجح الكلي على الجزئي في مسألة الترس فيه خلاف ولذلك يمكن إظهار هذه المصالح في صيغة البرهان إذ تقول في مسألة الترس مخالفة مقصود الشرع حرام وفي الكف عن قتال الكفار مخالفة لمقصود الشرع
فإن قيل لا ننكر أن مخالفة مقصود الشرع حرام ولكن لا نسلم أن هذه مخالفة قلنا قهر الكفار واستعلاء الإسلام مقصود وفي هذا استئصال الإسلام واستعلاء الكفر فإن قيل فالكف عن المسلم الذي لم يذنب مقصود وفي هذا مخالفة المقصود قلنا هذا مقصود وقد اضطررنا إلى مخالفة أحد المقصودين ولا بد من الترجيح والجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي وهذا جزئي بالإضافة فلا يعارض بالكلي فإن قيل مسلم أن هذا جزئي ولكن لا يسلم أن الجزئي محتقر بالإضافة إلى الكلي فاحتقار الشرع له يعرف بنص أو قياس على منصوص قلنا قد عرفنا ذلك لا بنص واحد معين بل بتفاريق أحكام واقتران

دلالات لم يبق معها شك في أن حفظ خطة الإسلام ورقاب المسلمين أهم في مقاصد الشرع من حفظ شخص معين في ساعة أو نهار وسيعود الكفار عليه بالقتل فهذا مما لا يشك فيه كما أبحنا أكل مال الغير بالإكراه لعلمنا بأن المال حقير في ميزان الشرع بالإضافة إلى الدم وعرف ذلك بأدلة كثيرة فإن قيل فهلا فهمتم أن حفظ الكثير أهم من حفظ القليل في مسألة السفينة وفي الإكراه وفي المخمصة قلنا لم نفهم ذلك إذ أجمعت الأمة على أنه لو أكره شخصان على قتل شخص لا يحل لهما قتله وأنه لا يحل لمسلمين أكل مسلم في المخمصة فمنع الإجماع من ترجيح الكثرة أما ترجيح الكلي فمعلوم إما على القطع وإما بظن قريب من القطع يجب اتباع مثله في الشرع ولم يرد نص على خلافه بخلاف الكثرة إذ الإجماع في الإكراه وفي المخمصة منع منه فبهذه الشروط التي ذكرناها يجوز اتباع المصالح وتبين أن الاستصلاح ليس أصلا خامسا برأسه بل من استصلح فقد شرع كما أن من استحسن فقد شرع وتبين به أن الاستصلاح على ما ذكرنا وهذا تمام الكلام في القطب الثاني من الأصول
القطب الثالث في كيفية استثمار الأحكام من مثمرات الأصول ويشتمل هذا القطب على صدر ومقدمة وثلاثة فنون صدر القطب الثالث اعلم أن هذا القطب هو عمدة علم الأصول لأن ميدان سعي المجتهدين في اقتباس الأحكام من أصولها واجتنائها من أغصانها إذ نفس الأحكام ليست ترتبط باختيار المجتهدين ورفعها ووضعها والأصول الأربعة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل لا مدخل لاختيار العباد في تأسيسها وتأصيلها وإنما مجال اضطراب المجتهد واكتسابه استعمال الفكر في استنباط الأحكام واقتباسها من مداركها والمدارك هي الأدلة السمعية ومرجعها إلى الرسول صلى الله عليه و سلم إذ منه يسمع الكتاب أيضا وبه يعرف الإجماع والصادر منه من مدارك الأحكام ثلاثة إما لفظ وإما فعل وإما سكوت وتقرير ونرى أن نؤخر الكلام في الفعل والسكوت لأن الكلام فيهما أوجز
واللفظ إما أن يدل على الحكم بصيغته ومنظومه أو بفحواه ومفهومه أو بمعناه ومعقوله وهو الاقتباس الذي يسمى قياسا فهذه ثلاثة فنون المنظوم والمفهوم والمعقول
الفن الأول في المنظوم وكيفية الاستدلال بالصيغة من حيث اللغة والوضع ويشتمل هذا الفن على مقدمة وأربعة أقسام القسم الأول في المجمل والمبين القسم الثاني في الظاهر والمؤول القسم الثالث في الأمر والنهي القسم الرابع في العام والخاص فهذا صدر هذا القطب
أما المقدمة فتشتمل على سبعة فصول الفصل الأول في مبدأ اللغات أنه اصطلاح أم توقيف
الفصل الثاني في أن اللغة هل تثبت قياسا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية
الفصل الخامس في اللفظ المفيد وغير المفيد
الفصل السادس في طريق فهم المراد من الخطاب على الجملة
الفصل السابع في المجاز والحقيقة

الفصل الأول في مبدأ اللغات وقد ذهب قوم إلى أنها اصطلاحية إذ كيف تكون توقيفا ولا يفهم التوقيف إذا لم يكن لفظ صاحب التوقيف معروفا للمخاطب باصطلاح سابق وقال قوم إنها توقيفية إذ الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب ومناداة ودعوة إلى الوضع ولا يكون ذلك إلا بلفظ معروف قبل الاجتماع للاصطلاح وقال قوم القدر الذي يحصل به التنبيه والبعث على الاصطلاح يكون بالتوقيف وما بعده يكون بالاصطلاح والمختار أن النظر في هذا إما أن يقع في الجواز أو في الوقوع
أما الجواز العقلي فشامل للمذاهب الثلاثة والكل في حيز الإمكان
أما التوقيف فبأن يخلق الأصوات والحروف بحيث يسمعها واحد أو جمع ويخلق لهم العلم بأنها قصدت للدلالة على المسميات والقدرة الأزلية لا تقصر عن ذلك
وأما الاصطلاح فبأن يجمع الله دواعي جمع من العقلاء للاشتغال بما هو مهمهم وحاجتهم من تعريف الأمور الغائبة التي لا يمكن الإنسان أن يصل إليها فيبتدىء واحد ويتبعه الآخر حتى يتم الاصطلاح بل العاقل الواحد ربما ينقدح له وجه الحاجة وإمكان التعريف بتأليف الحروف فيتولى الوضع ثم يعرف الآخرين بالإشارة والتكرير معها للفظ مرة بعد أخرى كما يفعل الوالدان بالولد الصغير وكما يعرف الأخرس ما في ضميره بالإشارة وإذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعا أما الواقع من هذه الأقسام فلا مطمع في معرفته يقينا إلا ببرهان عقلي أو بتواتر خبر أو سمع قاطع ولا مجال لبرهان العقل في هذا ولم ينقل تواتر ولا فيه سمع قاطع فلا يبقى إلا رجم الظن في أمر لا يرتبط به تعبد عملي ولا ترهق إلى اعتقاده حاجة فالخوض فيه إذا فصول لا أصل له فإن قيل قال الله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ( البقرة 31 ) وهذا يدل على أنه كان بوحي وتوقيف فيدل على الوقوع وإن لم يدل على استحالة خلافه قلنا وليس ذلك دليلا قاطعا على الوقوع أيضا إذ يتطرق إليه أربعة احتمالات أحدها أنه ربما ألهمه الله تعالى الحاجة إلى الوضع فوضع بتدبيره وفكره ونسب ذلك إلى تعليم الله تعالى لأنه الهادي والملهم ومحرك الداعية كما تنسب جميع أفعالنا إلى الله تعالى
الثاني أن الأسماء ربما كانت موضوعة باصطلاح من خلق الله تعالى قبل آدم من الجن أو فريق من الملائكة فعلمه الله تعالى ما تواضع عليه غيره
الثالث أن الأسماء صيغة عموم فلعله أراد به أسماء السماء والأرض وما في الجنة والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم عليه السلام من الحرف والصناعات والآلات وتخصيص قوله تعالى كلها كتخصيص قوله تعالى وأوتيت من كل شيء ( النمل 23 ) وقوله تعالى تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ( الأحقاف 25 ) إذ يخرج عنه ذاته وصفاته
الرابع أنه ربما علمه ثم نسيه أو لم يعلم غيره ثم اصطلح بعده أولاده على هذه اللغات المعهودة الآن والغالب أن أكثرها حادثة بعده
الفصل الثاني في أن الأسماء اللغوية هل تثبت قاسا وقد اختلفوا فيه فقال بعضهم سموا الخمر من العنب خمرا لأنها تخمر العقل فيسمى النبيذ خمرا لتحقق ذلك المعنى فيه قياسا عليه حتى يدخل في عموم قوله صلى الله عليه و سلم حرمت الخمر لعينها وسمي الزاني زانيا لأنه مولج فرجه في فرج محرم فيقاس عليه اللائط في إثبات اسم الزاني حتى يدخل في عموم قوله تعالى ( 42 ) الزانية والزاني ( النور

) وسمي السارق سارقا لأنه أخذ مال الغير في خفية وهذه العلة موجودة في النباش فيثبت له اسم السارق قياسا حتى يدخل تحت عموم قوله تعالى ( 5 ) والسارق والسارقة ( المائدة 38 ) وهذا غير مرضي عندنا لأن العرب إن عرفتنا بتوقيفها أنا وضعنا الاسم للمسكر المعتصر من العنب خاصة فوضعه لغيره تقول عليهم واختراع فلا يكون لغتهم بل يكون وضعا من جهتنا وإن عرفتنا أنها وضعته لكل ما يخامر العقل أو يخمره فكيفما كان قاسم الخمر ثابت للنبيذ بتوقيفهم لا بقياسنا كما أنهم عرفونا أن كل مصدر فله فاعل فإذا سمينا فاعل الضرب ضاربا كان ذلك عن توقيف لا عن قياس وإن سكتوا عن الأمرين احتمل أن يكون الخمر اسم ما يعتصر من العنب خاصة واحتمل غيره فلم نتهكم عليهم ونقول لغتهم هذا وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعاني ويخصصونها بالمحل كما يسمون الفرس أدهم لسواده كميتا لحمرته والثوب المتلون بذلك اللون بل الآدمي المتلون بالسواد لا يسمونه بذلك الاسم لأنهم ما وضعوا الأدهم والكميت للأسود والأحمر بل لفرس أسود وأحمر وكما سموا الزجاج الذي تقر فيه المائعات قارورة أخذا من القرار ولا يسمون الكوز والحوض قارورة وإن قر الماء فيه فإذا كل ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم بالتوقيف فلا سبيل إلى إثباته ووضعه بالقياس وقد أطنبنا في شرح هذه المسألة في كتاب أساس القياس فثبت بهذا أن اللغة وضع كلها وتوقيف ليس فيها قياس أصلا
الفصل الثالث في الأسماء العرفية اعلم أن الأسماء اللغوية تنقسم إلى وضعية وعرفية والاسم يسمى عرفيا باعتبارين أحدهما أن يوضع الاسم لمعنى عام ثم يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة ذلك الاسم ببعض مسمياته كاختصاص اسم الدابة بذوات الأربع مع أن الوضع لكل ما يدب واختصاص اسم المتكلم بالعالم بعلم الكلام مع أن كل قائل ومتلفظ متكلم وكاختصاص اسم الفقيه والمتعلم ببعض العلماء وبعض المتعلمين مع أن الوضع عام قال الله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها ( البقرة 31 ) وقال تعالى خلق لإنسان علمه لبيان ( الرحمن 3 4 ) وقال عز و جل فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ( النساء 78 )
الاعتبار الثاني أن يصير الاسم شائعا في غير ما وضع له أولا بل فيما هو مجاز فيه كالغائط المطمئن من الأرض والعذرة البناء الذي يستتر به وتقضى الحاجة من ورائه فصار أصل الوضع منسيا والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم بعرف الاستعمال وذلك بالوضع الأول فالأسامي اللغوية إما وضعية وإما عرفية أما ما انفرد المحترفون وأرباب الصناعات بوضعه لأدواتهم فلا يجوز أن يسمى عرفيا لأن مبادىء اللغات والوضع الأصلي كلها كانت كذلك فيلزم أن يكون جميع الأسامي اللغوية عرفية
الفصل الرابع في الأسماء الشرعية قالت المعتزلة والخوارج وطائفة من الفقهاء الأسماء لغوية ودينية وشرعية أما اللغوية فظاهرة وأما الدينية فما نقلته الشريعة إلى أصل الدين كلفظ الإيمان والكفر والفسق وأما الشرعية فكالصلاة والصوم والحج والزكاة واستدل القاضي على إفساد مذهبهم بمسلكين الأول أن هذه الألفاظ يشتمل عليها القرآن والقرآن نزل بلغة العرب قال الله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5