كتاب : التبيان في أقسام القرآن
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

وأما شعر الحاجبين ففيه - مع الحسن والزينة والجمال - وقاية العين مما ينحدر من الرأس وجعل على هذا المقدار لأنه لو نقص عنه لزالت منفعة الجمال والوقاية ولو زاد عليه لغطى العين وأضر بها وحال بينها وبين ما تدركه وقد ذكرنا منفعة شعر الهدب
ولما كان الأنفع ولأصلح أن يكون شعر الهدب قائما منتصبا وأن يكون باقيا على حال واحد في مقدار واحد جعل منبت هذا الشعر في جرم صلب شبيه بالغضروف يمتد في طول الجفن لئلا يطول وينمو وهذا كما نشاهد النبات الذي ينبت في الأرض الرخوة اللينة فإنه يطول ويزداد والذي ينبت في الأرض الصخرية الصلبة لا ينمو إلا نموا يسيرا فكذلك الشعر النابت في الأعضاء اللينة الرطبة فإنه سريع النمو كشعر الرأس والعانة

وأما شعر اللحية ففيه منافع : منها الزينة والوقار والهيبة ولهذا لا يرى على الصبيان والنساء من الهيبة والوقار ما يرى على ذوي اللحى ومنها التمييز بين الرجال والنساء
فإن قيل : لو كان شعر اللحية زينة لكان النساء أولى به من الرجال لحاجتهن إلى الزينة وكان التمييز يحصل بخلو الرجال منه ولكان أهل الجنة أولى به وقد ثبت أنهم جرد مرد ؟
قيل : الجواب أن النساء لما كن محل الاستمتاع والتقبيل كان الأحسن والأولى خلوهن عن اللحى فإن محل الاستمتاع إذا خلا عن الشعر كان أتم ولهذا المعنى - والله أعلم - كان أهل الجنة مردا ليكمل استمتاع نسائهم بهم كما يكمل استمتاعهن بهن وأيضا فإنه أكشف لمحاسن الوجوه فإن الشعر يستر ما تحت من البشرة أن يمس بشرة المرأة والله أعلم بحكمته في خلقه

وأما شعر العانة والأبط والأنف فمنفعته تنقية البدن من الفضلة ولهذا إذا أزيل من هذا الموضع وجد البدن خفة ونشاطا وإذا وفر وجد ثقلا وكسلا وغما ولهذا جاءت الشريعة بحلق العانة ونتف الإبط وكان حلق العانة أولى من نتفها لصلابة الشعر وتأذي صاحبها بنتفه وكان نتف الإبط أولى من حلقه لضعف الشعر هناك وشدته وتعجل نباته بالحلق فجاءت الشريعة بالأنفع في هذا وهذا

وتأمل حكمة الرب تعالى في كونه أخلى الكفين والجبهة والأخمصين من الشعر فإن الكفين خلقا حاكمين على الملموسات فلو حصل الشعر فيهما لأخل بذلك وخلقا للقبض وإلصاق اللحم على المقبوض أعون على جودته من التصاق الشعر به وأيضا فإنهما آلة الأخذ والعطاء والأكل ووجود الشعر فيهما يخل بتمام هذه المنفعة
وأما الأخمصان فلو نبت الشعر فيهما لأضر بالماشي وأعاقه في المشي كثيرا مما يعلق بشعره مما على الأرض ويتعلق شعره بما عليها أيضا هذا مع أن أكثر الأوتار والأغشية في الكفين مانع من نفوذ الأبخرة فيها وأما الأخمصين فإن الأبخرة تتصاعد إلى علو وكلما تصاعد كان الشعر أكثر وأيضا فإن كثرة وطء الأرض بالأخمصين يصلبهما ويجعل سطحهما أملس لا ينبت شيئا كما أن الأرض التي توطأ كثيرا لا تنبت شيئا
وأما الجبهة فلو نبت الشعر عليها لستر محاسنها وأظلم الوجه وتدلى على العين وكان يحتاج إلى حلقه دائما ومنع العينين من كمال الإدراك والسبب المؤدي لذلك أن الذي تحت عظم الجبهة هو مقدم الدماغ وهو بارد رطب والبخار لا يتحرك منحرفا إلى الجبهة بل صاعدا إلى فوق
فإن قيل : لم نبت شعر الصبي على رأسه وحاجبيه وأجفانه معه من الصغر دون سائر الشعور ؟
قيل : لشدة الحاجة إلى هذه الشعور الثلاثة أوجدها الله سبحانه معه وهو جنبن في بطن أمه فإن شعر الرأس كالغطاء الواقي له من الآفات والأهداب والأجفان وقاية العين
فإن قيل : فلم لم تنبت له اللحية إلا بعد بلوغه ؟
قيل : لأنه عند البلوغ تجتمع الحرارة في بدنه وتكون أقوى ما هي ولهذا يعرض له في مثل هذا الطور البثرات والدمامل وكثرة الإحتلام وإذا كثرت الحرارة كثرت الأبخرة بسبب التحلل وزادت على القدر المحتاج إليه في شعر الرأس فصرفها أحكم الحاكمين إلى نبات اللحية والعانة وأيضا فإن بين أوعية المنى وبين اللحية ارتباط : إذ العروق والمجاري متصلة بينهما فإذا تعطلت أوعية المنى ويبست تعطل شعر اللحية وإذا قلت الرطوبة والحرارة هناك قل شعر اللحية ولهذا فإن الخصيان لا ينبت لهم لحى
فإن قيل : فما العلة في الكوسج ؟ قيل : برد مزاجه ونقصان حرارته
فإن قيل : فما السبب في الصلع ؟ قيل : عدم احتباس الأبخرة في موضع الصلع
فإن قيل : فلم كان في مقدم الرأس دون جوانبه ومؤخره ؟ قيل : لأن الجزء المقدم من الرأس بسبب رطوبة الدماغ يكون أكثر لينا وتحللا فتتحلل الفضلات التي يكون منها الشعر فلا يبقى للشعر مادة هناك
فإن قيل : فلم لم يحدث في الأصداغ قيل : إن الرطوبة في الأسافل اكثر منها في الأعالي وشاهده الأرض العالية والمنخفضة
فإن قيل : فلم لم تصلع المرأة إلا نادرا وكان الصلع في الرجال أكثر ؟ قيل لأن الأصل أنه يحدث من يبس الجلد بمنزلة احتراقه ذلك لقوة الرطوبة وأما النساء فالرطوبة والبرودة أغلب عليهن ولهذا فإن جلودهن أرطب من جلود الرجال فلا تجف جلود رؤوسهن فلا يعرض لها الصلع ولهذا لا يعرض للصبيان وإن عرض للمرأة صلع فذلك في سن يبسها وبلوغها من الكبر عتيا
فإن قيل : فما السبب في شدة سواد الشعر ؟ قيل : شدة البخارات الخارجة من البدن واعتدالها وصحة مادتها كخضرة الزرع
فإن قيل : ما سبب الصهوبة ؟ قيل : برد المزاج فتضعف الحرارة عن صبغ الشعر وتسويده
فإن قيل : فما سبب القشرة والحمرة ؟ قيل : زيادة الحرارة فتصبغ الشعر ولهذا تجد الشقر أشد حرارة واكثر حركة وهمة
فإن قيل : فما سبب البياض ؟ قيل : البياض نوعان : أحدهما طبيعي وهو الشيب والثاني خارج عن الطبيعة وهو ما يوجد في أواخر الأمراض المجففة بسبب تحلل الرطوبات كما يعرض للنبات عند الجفاف
فإن قيل : فما سبب الطبيعي ؟ قيل : اختلف في ذلك فقالت طائفة : سببه الاستحالة إلى لون البلغم بسبب ضعف الحرارة في أبدان الشيوخ وقالت طائفة : سببه أن الغذاء الصائر إلى الشعر يصير باردا بسبب نقصان الحرارة ويكون بطيء الحركة مدة نفوذه إلى المسام وجمعت طائفة بين القولين وقالوا : العلة في الأمرين واحدة وسببها نقصان الحرارة
فإن قيل : فلم اختص الشيب بالإنسان من بين سائر الحيوان ؟ قيل : لأن لحم الإنسان وجلده رخوين وجلود الحيوانات ولحومها أقوى واصلب فلما غلظت مادة الشعر فيها لم يعرض له ما يعرض لشعر الإنسان ولهذا يكون شعرها كلها معها من حين ولادتها بخلاف الإنسان وأيضا فإن الإنسان يستعمل المطاعم المركبة المتنوعة وكذا المشارب ويتناول أكثر من حاجته فتجتمع فيه فضلات كثيرة فتدفعها الطبيعة إلى ظاهر البدن فمادامت الحرارة قوية فإنه تقوى على إحراق تلك الفضلات فيتولد من إحراقها الشعر الأسود فإذا بلغ الشيخوخة ضعفت الحرارة وعجزت عن إحراق تلك الفضلات فتعمل فيها عملا ضعيفا وأما سائر الحيوانات فلا تتناول الأغذية المركبة وتتناول منها على قدر الحاجة فلا يشيب شعرها كما يشيب شعر الإنسان وأيضا فإن في زمن الشيخوخة يكون أقل حرارة وأكثر رطوبة فيتولد البلغم وأما الحيوانات فليس غالب عليها
فإن قيل : فلم كان شيب الأصداغ في الأكثر مقدما على غيره ؟ قيل : لقرب هذا الموضع من مقدم الدماغ والرطوبة في مقدم الدماغ كثيرة لأن الموضع مفصل والمفصل تجتمع فيه الفضلة الكثيرة فيكثر البرد هناك فيسرع الشيب
فإن قيل : فلم أسرع الشيب في شعور الخصيان والنساء ؟ قيل : أما النساء فلبرد مزاجهم في الأصل ولاجتماع الفضلات الكثيرة فيهن وأما الخصيان فلتوافر المنى على أبدانهم يصير دمهم غليظا بلغميا و لهذا لا يحدث الصلع
فإن قيل : فلم كشعر الإبط لا يبيض ؟ قيل : لقوة حرارة هذا الموضع بسبب قربه من القلب ومسامه كثيرة بلغمية لأنها تتحلل بالعرق الدائم
فإن قيل : فلم أبطأ بياض شعر العانة ؟ قيل : لأن حركة الجماع تحلل البلغم الذي في مسامه
فإن قيل : فلم كانت الحيوانات تتبدل شعورها كل سنة بخلاف الإنسان ؟
قيل : لضعف شعورها عن الدوام والبقاء بخلاف شعر الآدمي
فإن قيل : فما سبب الجعودة والسبوطة ؟
قيل : أما الجعودة فمن شدة الحرارة أو من التواء المسام فالذي من شدة الحرارة فإنه يعرض منه الجعدة كما تعرض للشعر عند عرضه على النار وأما الذي لالتواء المسام فلأن البخار لضعفه لا يقدر أن ينفذ على الاستقامة فيلتوي في المنافذ فتحدث الجعودة
فإن قيل : فما السبب في طول شعر الميت وأظفاره بعد موته إذا بقي مدة ؟
قيل : عنه جوابان : أحدها أنها لا تطول و لكن لما ينقص ما حولها يظن أنها زادت والثاني - وهو أصوب - أن ذلك الطول من الفضلات البخارية التي تتحلل وهلة من الميت فممتد معها الشعر والظفر
فإن قيل : فلم كان المريض - وخاصة المحموم - ينقص لحمه ويزيد شعره ؟
قيل : إن في المرض تكثر الفضلات فتطول الشعور والأظفار بها ويثقل الغذاء فيذوب اللحم وأما في الصحة فتقل الفضلات فلا تحتاج الطبيعة إلى الغذاء وهضمها له وإذا قلت الفضلات نفدت مادة الشعر فيبطئ
فإن قيل : فما العلة في انتصاب شعر الخائف والمقرور حتى يبقى كشعر القنفذ ؟
قيل : العلة فيه أن الجلد وتجتمع المسام على الشعر وتتضايق عليه فينتصب
فإن قيل : فلم انتصب شعر البدن واللحية واللحيين ؟
فإن قيل : فلم كانت كثرة الجماع تزيد في شعر اللحية والجسد وتنقص من شعر الرأس والأجفان ؟
قيل : لأن الشعر فيه ما يكون طبيعيا من أول الخلقة كاللحية وسائر شعر البدن والأول يكون من قوة الحرارة الأصلية والثاني من قوة الحرارة الخارجية فلا جرم نقصت بسببه الشعور الأصلية وتوفرت العرضية
فإن قيل : فلم كان الشعر في الإنسان في الجزء المقدم أكثر منه في المؤخر وباقي الحيوانات بالعكس ؟
قيل : لأن الشعر إنما يكون حيث تكون الحرارة قوية ويكون تحلل الجلد أكثر وهذا في الإنسان في ناحية الصدر والبطن وأما جلدة الظهر فمتكاثفة وأما ذوات الأربع ففي الخلف شعورها أكثر لأن البخار فيها يرقى إلى الخلف وان تلك المواضع هي التي تتلقى الحر والبرد فتحتاج إلى وقاء أكثر
فإن قيل : فلم كان الرأس بالشعر أحق الأعضاء ونباته أكثر ؟
قيل : لأن البخار يتصاعد ويطلب جهة الفوق وهو الرأس
ولا تستطل هذا الفصل فإن أمر الشعر من السمات والفضلات وهذا شأنه فما الظن بغيره من الأجزاء الأصلية ؟ فإذا كانت هذه قليلة من كثير من حكمة الرب تعالى في الشعور ومواضعها ومنافعها فكيف بحكمته في الرأس والقلب والكبد والصدر وغيرها ؟ ولا تضجر من ذلك فإن الخلق فيه من الفقه والحكم نظير ما في الأمر فالرب تعالى حكيم في خلقه وأمره ويحب من يفقه عنه ذلك ويستدل على كمال حكمته وعلمه ولطفه وتدبيره فإذا كان الله لم يضع هذه الفضلات في الإنسان سدى فما الظن بغيرها ؟

ونحن نذكر فصلا مختصرا في حال الإنسان من مبدئه إلى نهايته لنجعله مرآة له ينظر فيها قول خالقه وبارئه { وفي أنفسكم أفلا تبصرون }
لما اقتضى كمال الرب تعالى - جل جلاله - وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة و أنشأهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن اخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها والملائكة تراها ولا تعرف ما يراد منها وإبليس يطيف بها ويقول : لأمر ما خلقت فلما تأكل تصويرها وتشكيلها وتقدير أعضائها وأوصالها وصارت جسدا مصورا مشكلا كأنه ينطق إلا أنه لا روح فيه ولا حياة أرسل إليه روحه فنفخ فيه نفخة وانقلب ذلك الطين لحما ودما وعظاما وعروقا وسمعا وبصرا وشما ولمسا وحركة وكلاما فأول شيء بدأ به أن قال الحمد لله رب العالمين فقال له خالقه وبارئه ومصوره يرحمك الله يا آدم فاستوى جالسا أجمل شيء وأحسنه منظرا وأتمه خلقا وأبدعه صورة فقال الرب تعالى لجميع ملائكته { اسجدوا لآدم } فبادروا بالسجود تعظيما وطاعة لأمر الواحد المعبود ثم قال لهم : لنا في هذه القبضة نم التراب شرع أبدع مما ترون وجمال باطن أحسن مما تبصرون فلنزينن باطنه أحسن من زينة ظاهره ولنجعلنه من أعظم آياتنا نعلمه أسماء كل شيء مما لا تحسنه الملائكة فكان التعليم زينة الباطن وجماله وذلك التصوير زينة الظاهر في أكمل شيء وأجمله صورة ومعنى كل ذلك صنعته تبارك وتعالى في ققضة من تراب ثم اشتق منه صورة هي مثله في الحسن والجمال ليسكن إليها وتقر نفسه وليخرج من بينهما من لا يحصى عدده من الرجال والنساء سواه

ثم لما أراد الله سبحانه أن يذر نسلهما في الأرض ويكثره وضع فيهما حرارة الشهوة ونار الشوق والطلب وألهم كلا منهما اجتماعه بصاحبه فاجتمعا على أمر قد قدر فاسمع الآن عجائب ما هناك :
لما شاء الرب تعالى أن يخرج نسخة هذا الإنسان منه أودع جسده حرارة وسلط عليه هيجانها فصارت شهوة غالبة فإذا هاجت حرارة الجسد تحللت الرطوبات من جميع أجزاء الجسد وابتدأت نازلة من خلف الدماغ من عروق خلف الأذنين إلى قفا الظهر ثم تخرج إلى الكليتين ثم تجتمع في أوعية المنى بعد أن طبختها نار الشهوة وعقدتها حتى صار لها قوام وغلظ وقصرتها حتى ابيضت وقدر لها مجاي وطرق تنفذ فيها ثم اقتضت حكمته سبحانه أن قدر لخروجها أقوى الأسباب المستفرغة لها من خارج ومن داخل فقيض لها صورة حسنها في عين الناظر وشوقه إليها وساق أحدهما إلى الآخر بسلسة الشهوة والمحبة فحن كل منهما إلى امتزاجه بصاحبه واختلاطه به ليقضى الله أمرا كان مفعولا وجعل هذا محل الحرث وهذا محل البذر ليلتقي الماء على أمر قد قدر وقدر بينهما تلك الحركات لتعمل الحرارة في تلك الرطوبة والفضلة عملها واستخرجها من تحت الحركات لتعمل الحرارة في تلك الرطوبة والفضلة عملها واستخرجها من تحت الشعر والبشر والظفر لتوافق نسخة الأصل ويكون الداعي إلى التناسل في غاية القوة فلا ينقطع النسل ولهذا لا تجد في منى الاحتلام من القوة ما في منى الجماع وإنما هو من فضلة حرارة تذيب الرطوبة فتنفذ فيها الطبيعة إلى خارج من نوع تصور خيال بواسطة الشيطان كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ الرؤيا الصالحة من الله والحلم من الشيطان ]
فإن قيل : فهذا اختيار منكم لقول من قال : إن المنى يخرج من جميع أجزاء البدن وهذا وإن كان قد قاله كثير من الناس فقد خالفهم آخرون وزعموا انه فضلة تتولد من الطعام وهي من أعدل الفضلات ولهذا صلحت أن تكون مبدأ الإنسان وهو جسم متشابه الأجزاء في نفسه قيل : القول الأول هو الصواب ويدل عليه وجوه : منها عمود اللذة بجميع أجزاء البدن - ومنها مشاكلة أعضاء المولود لأعضاء الوالدين ومنها أن المشابهة الكلية تدل على أن البدن كله أرسل المنى ولولا ذلك لكانت المشابهة بحسب محل واحد فدل على أن كل عضو أرسل قسطه ونصيبه فلما انعقد وصلب ظهرت محاكاته ومشابهته له ومنها أن الأمر لو كان كما زعمه أصحاب المقالة الثانية : من أن المنى جسم واحد متشابه في نفسه لم تتولد منه الأعضاء المختلفة المتشكلة بالأشكال المختلفة لأن القوة الواحدة لا تفعل في المادة الواحدة إلا فعلا واحدا فدل على أن المادة في نفسها ليست متشابهة الأجزاء
ومنها أن المني فضلة الهضم الآخر وذلك إنما يكون عند نضج الدم في العروق وكونه مستعدا استعدادا تاما لأن يصير من جوهر الأعضاء وكذلك عقيب استفراغه من الضعف أكثر مما يحصل من استفراغ أمثاله من الدم ولذلك يورث الضعف في جوهر الأعضاء الأصلية فدل على انه مركب من أجزاء كل منهما قريب الاستعداد لأن يصير جزءا من عضو ولذلك سماه الله سلالة والسلالة فعالة من السل وهو ما يسل من البدن كالبخار كما سمى اصله سلالة من طين لأنه استلها من جميع الأرض كما في جامع الترمذي عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ]
قال أصحاب القول الآخر - وهم جمهور الأطباء وغيرهم : لو كان الأمر كما زعمتم وأن المني يستل من جميع الأعضاء لكان إذا حصل مني الذكر ومني الأنثى في الرحمن تشكل المولود بشكلهما معا ولكان الرجل لا يلد إلا ذكرا دائما لأن المني قد استل عندكم من جميع أجزائه فإذا انقعد وجب أن يكون مثله وأيضا فإن المرأة تضع من وطء الرجل في البطن الواحد ذكرا وأنثى ولا يمكن أن يقال أن ذلك بسبب اختلاف أجزاء المنى
قالوا : ولا نسلم عموم اللذة لأنها إذا حصلت حال الإندفاق بسبب سيلان تلك المادة الحارة جارية على تلك المجاري اللحمية التي لحمتها رخوة شبيهة باللحم القريب العهد بالاندمال إذا سال عليه شيء وهو معتدل السخونة ولو كانت اللذة إنما حصلت بسبب سيلان تلك المادة لحصلت قبل الإندفاق قالوا : وأما احتجاجكم بالتشابه المذكور بين الوالد والمولود فالمشابهة قد تقع في الظفر والشعر وليس يخرج منها شيء وأيضا فالمولود قد يشبه جدا بعيدا من أجداده كما ثبت في الصحيح [ عن النبي صلى الله عليه و سلم : أن رجلا سأله فقال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود قال : هل لك من إبل قال : نعم قال فما ألوانها ؟ قال : سود قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم قال : فأنى له ذلك ؟ قال : عسى أن يكون نزعه عرق قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق ]
قالوا : ولو كان في المنى من كل عضو أجزاء فلا تخلو تلك الأجزاء إما أن تكون موضوعة في المنى وضعها الواجب أو لا تكون كذلك : فإن كانت موضوعة وضعها الواجب كان المنى حيوانا صغيرا وإن لم تكن كذلك استحالت المشابهة
قالوا : وأيضا فإن المنى إما أن يكون مركبا على تركيب هذه الأعضاء وترتيبها أو لا يكون كذلك فالأول باطل قطعا لأن المني رطوبة سيالة فلا تحفظ الوضع والترتيب وإن كانت ثقيلة فتعين الثاني ولابد قطعا أن يحال ذلك الترتيب والتصوير والتشكيل على سبب آخر سوى القوة التي في المادة فإنها قوة لا شعور لها وإدراك ولا تهتدي لهذه التفاصيل التي في الصورة الإنسانية بل هذا التصوير والتشكيل مستند إلى خالق عليم حكيم قد بهرت حكمته العقول ودلت آثار صنعته على كمال أسمائه وصافته وتوحيده وقد اعترف بذلك فاضلا الأطباء وهما بقراط وأفلاطون و أقرا بأن ذلك مستند إلى حكمة الصانع وعنايته وأنه لم يصدر إلا عن حكم عليم قدير ذكره جالينوس عنهما في كتاب رأي بقراط وأفلاطون فأبى جهلة الأطباء وزنادقة المتفلسفة والطبائعيين إلا كفورا وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث حذيفة بن أسيد [ إن الله وكل بالرحمن ملكا يقول : يا رب نطفة يا رب علقة يا رب مضغة فما الرزق ؟ فما الأجل ؟ فما العمل ؟ فيقضى الله ما يشاء ويكتب الملك ] وفي لفظ [ يقول الملك الذي يخلقها ] أي يصورها بإذن الله أي يصور خلقه في الأرحام كيف شاء الله لا إله إلا هو العزيز الحكيم
فقال أصحاب القول الأول : نحن أحق بالتنزيه والتوحيد ومعرفة حكمة الخالق العليم وقدرته وعلمه وأسعد به منكم ومن أحال من سفهائنا وزنادقتنا هذا التخليق على القوة المصورة والأسباب الطبيعية ولم يسندها إلى فاعل مختار عالم بكل شيء قادر على كل شيء لا يكون شيء إلا بإذنه ومشيئته والقوة الطبيعية خلق مسخر من خلقه وعبد من جملة عبيده ليس لها تصرف ولا حركة ولا فعل إلا بإذن بارئها وخالقها - فذلك الذي جهل نفسه وربه وعادى الطبيعة والشريعة والرب تعالى يخلق ما يشاء ويختار ويصور خلقه في الأرحام كيف يشاء بأسباب قدرها وحكم دبرها وإذا شاء أن يسلب تلك الأسباب قواها سلبها وإذا شاء أن يقطع مسبباتها عنها قطعها وإذا شاء أن يهيئ لها أسبابا أخرى تقاومها وتعارضها فعل فإنه الفعال لما يريد وليس في كون المنى مستلا من جميع أجزاء البدن ما يخرج الحوالة على قدرته ومشيئته وحكمته بل ذلك أبلغ في الحكمة والقدرة
وأما قولكم : لو كان المنى مستلا من جميع الأعضاء لكان الولد يتشكل بشكلهما معا فقد أجاب النبي صلى الله عليه و سلم عمن سأله عن ذلك بما شفى وكفى ففي صحيح البخاري من حديث انس رضي الله عنه قال : بلغ عبدالله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وهو في أرضه يخترف فأتاه وقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أو طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ؟ ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أخبرني بهن آنفا جبريل ] فقال عبدالله : ذاك عدو اليهود من الملائكة [ أما أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرآة فسبق ماؤه كان الشبه لها ] فقال أشهد أنك رسول الله فهذا جواب جبريل آمين رب العالمين لا جبريل الطبيب وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل آنث بإذن الله ] وقد يتفق الماآن في الإنزال والقدر : وذلك من أندر الأشياء فيخلق للولد ذكر كذكر الرجل وفرج كفرج المرأة فإذا شاء الله أن يغلب سلالة ماء الرجل على ماء المرأة أو سلالتها أمر ملك الأرحام بتصويره كذلك فإن ذلك لا يخل بحكمته ولا يخرق عادته ولو خرقها لم يخل بحكمة أحكم الحاكمين
وأما منعكم عموم اللذة فشبيه بالمكابرة والمجامع يجد عند الإنزال شيئا قد استل من جميع بدنه وسمعه وبصره وقواه في قالب الرحم فيحس كأنه خلع قميصا كان مشتملا به ولهذا اقتضت حكمة الرب تعالى في شرعه وقدره أن أمره بالاغتسال عقيب ذلك ليخلف عليه الماء ما تحلل من بدنه من ماء وإذا اغتسل وجد نشاطا وقوة وكأنه لم ينقص منه شيء فإن رطوبة الماء تخلف على البدن ما حللته تلك الحركة عن رطوباته وتعمل فيها الحرارة الأصلية عملها فتمد بها القوى التي ضعفت بالإنزال
وأما التشابه الواقع بين الظفر والشعر في الوالد والمولود ولم ين

فصل
بينهما شيء فما أبردها من شبهة فإن الظفر والشعر تابعان للأعضاء والمزاج الذي وقع فيه التشابه فاستتبع تشابه الأصل تشابه التبع
وأما شبه المولد بالجد البعيد من أجداده فهو من أقوى الأدلة لنا في المسالة لأن ذلك الشبه البعيد لم يزل يتنقل في الأصلاب حتى استقر في صورة الولد وبها حصل الشبه
وأما قولكم : إن تلك الأجزاء لا تخلو إما أن تكون موضوعة في المنى وضعها الواجب أولا إلى آخره فجوابكم إنكم إن عنيتم أنها موضوعة بالفعل فليس كذلك وإن أردتم أنها موضوعة بالقوة فنعم وما المانع منه ويكون المنى حيوانا صغيرا بل كبيرا بالقوة ؟ وبهذا ظهر الجواب عن قولكم : إن المنى رطوبة سيالة لا تحفظ الوضع والتركيب وغاية ما يقدر أن ذلك جزء من أجزاء السبب الذي يخلق الله به الولد وجزء السبب لا يستقل بالحكم فالمستقل بالإيجاد مشيئة الله وحده والأسباب محال الظهور

فإن قيل : فهذا تصريح منكم بأن المرأة لها منى وأن منها أحد الجزئين اللذين يخلق الله منهما الولد وقد ظن طائفة من الأطباء أن المرأة لامنى لها
قيل هذا هو السؤال الذي أورته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأم سلمة رضي الله عنها على النبي صلى الله عليه و سلم وأجابهما عنه بإثبات منى المرأة ففي الصحيح [ أن أم سليم رضي الله عنها قالت : يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتملت ؟ قال نعم إذا رأت الماء فقالت أم سلمة : أو تحتلم المرأة ؟ فقال ترتب يداك فبم يشبهها ولدها ؟ ] وفيهما [ عن عائشة رضي الله عنها أم سليم رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل ؟ قال نعمإذا رأت الماء قالت فقلت له : أفترى المرأة ذلك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم وهل يكون الشبه إلا من ذلك ؟ إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه ] هذا لفظ مسلم وقد ذكر جالينوس التشنيع على ارسطاليس حيث قال : إن المرأة لا منى لها فلنحرر هذه المسألة طبعا كما حررت شرعا فنقول :
منى الذكر من جملة الرطوبات والفضلات التي في البدن وهذا أمر يشترك بين الذكر والأنثى منه رأسا يتخلق الولد وبواسطته يكون الشبه ولم لم يكن للمرأة منى لما أشبهها ولدها
ولا يقال : إن الشبه سببه دم الطمث فإنه لا ينعقد مع منى الرجل ولا يتحد به وقد أجرى الله العادة بأن التوالد لايكون إلا بين أصلين يتولد من بينهما ثالث
ومنى الرجل وحده لا يتولد منه الولد ما لم يمازجه مادة أخرى من الأنثى وقد اعترف أرباب القول الآخر بذلك وقالوا : لابد من وجود مادة بيضاء لزجة للمرأة تصير مادة لبدن الجنين ولكن نازعوا هل فيها قوة عاقدة كمافي منى الرجل أم لا ؟ وقد أدخل النبي صلى الله عليه و سلم هذه المسألة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث ثوبان مولاه حيث سأله اليهود عن الولد فقال [ ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنث بإذن الله ] نعم لمنى الرجل خاصة الغلظ والبياض والخروج بدفق ودفع فإن أراد من نفى منى المرأة انتفاء ذلك عنها أصاب ومنى المرأة خاصته الرقة والصفرة والسيلان بغير دفع فإن نفى ذلك عنها أخطأ وفي كل من الماءين قوة فإذا انضم أحدهما إلى الآخر اكتسبا قوة ثالثة وهي من أسباب تكون الجنين واقتضت حكمة الخلاق العليم سبحانه أن جعل داخل الرحم خشنا كالسفنج وجعل فيه طلبا للمنى وقبولا له كطلب الأرض الشديدة العطش للماء وقبولها له فجعله طالبا حافظا مشتاقا إليه بالعطش فلذلك إذا ظفر به ضمه ولم يضيعه بل يشتمل عليه أتم الاشتمال وينضم أعظم انضمام لئلا يفسده الهواء فيتولى القوة والحرارة التي هناك بإذن الله ملك الرحم فإذا اشتمل على المنى ولم يقذف به إلى خارج استدار على نفسه وصار كالكرة وأخذ في الشدة إلى تمام ستة أيام فإذا اشتد نقط فيه نقطة في الوسط وهو موضع القلب ونقطة في أعلاه وهي نقطة الدماغ وفي اليمين وهي نقطة الكبد ثم تتباعد تلك النقط ويظهر بينها خطوط حمر إلى تمام ثلاثة أيام أخر ثم تنفذ الدموية في الجميع بعد ستة أيام أخر فيصير ذلك خمسة عشر يوما ويصير المجموع سبعة وعشرين يوما ثم ينفصل الرأس عن المنكبين والأطراف عن الضلوع والبطن عن الجبين وذلك في تسعة أيام فتصير ستة وثلاثين يوما ثم يتم هذا التمييز بحيث يظهر للحس ظهورا بينا في تمام أربعة أيام فيصير المجموع أربعين يوما تجمع خلقه وهذا مطابق لقول النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته [ إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما ] واكتفى النبي صلى الله عليه و سلم بهذا الإجمال عن التفصيل وهذا يقتضي أن الله قد جمع فيها خلقها جمعا خفيا وذلك الخلق في ظهور خفي على التدريج ثم يكون مضغة أربعين يوما أخرى وذلك التخليق يتزايد شيئا فشيئا إلى أن يظهر للحس ظهورا لإخفاء به كله والروح لم تتعلق به بعد فإنها إنما تتعلق به في الأربعين الرابعة بعد مائة وعشرين يوما كما أخبر به الصادق وذلك مما لا سبيل إلى معرفته إلا بالوحي إذ ليس في الطبيعة ما يقتضيه فلذلك حار فضلاء الأطباء وأذكياء الفلاسفة في ذلك وقالوا : إن هذا مما لاسبيل إلى معرفته إلا بحسب الظن البعيد
قال من وقف على نهايات كلامهم في ذلك دأب فيه حتى كل وهو صاحب الطب الكبير فذكر مناسات خيالية ثم قال : وحقيقة العلم فيه عند الله تعالى لا مطمع لأحد من الخلق في الوقوف عليه
قلت : قد أوقفنا عليه الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم الذي لا ينطق عن الهوى بما ثبت في الصحيحين [ إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذاك ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع : يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ]

ورأيت لبعض الأطباء كلاما ذكر فيه سبب تفاوت زمن الولادة فأذكره وأذكر مافيه :
قال : إذا تم خلق الجنين في مدة معينة فإنها إذا زاد عليها مثلها تحرك الجنين فإذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين قال : فإذا تم خلقه في ثلاثين يوما فإذا صار له ستون يوما تحرك فإذا انضاف إلى الستين مئلاها صارت مائة وثمانين يوما وهي ستة أشهر وهي مدة ينفصل لها الحمل وإذا تم خلقه في خمسة وثلاثين يوما تحرك لسبعين وانفصل لسبعة أشهر وإذا تم خلقه لأربعين تحرك لثمانين وانفصل لثمانية أشهر وإذا تم لخمسة وأربعين تحرك لتسعين وانفصل لتسعة أشهر وعلى هذا الحساب أبدا
وهذا الذي ذكره هذا القائل يقتضي حركة الجنين قبل الأربعين وهذا خطأ قطعا فإن الروح إنما تتعلق به بعد الأربعين الثالثة وحينئذ يتحرك فلا تثبت له حركة قبل مائة وعشرين يوما وما يقدر من حركة قبل ذلك فليست حركة ذاتية اختيارية بل لعلها حركة عارضة بسبب الأغشية والرطوبات وما ذكره من الحساب لا يقوم عليه دليل ولا تجربة مطردة فربما زاد على ذلك أو نقص منه ولكن الذي نقطع به أن الروح لا تتعلق به إلا بعد الأربعين الثالثة وما يقدر من حركة قبل ذلك إن صحت لم تكن بسبب الروح والله أعلم

وأما أقل مدة الحمل فقد تظاهرت الشريعة والطبيعة على أنها ستة أشهر قال تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } وقال تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة } وقال جالينوس : كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحل فرأيت امرأة واحدة ولدت في مائة وأربع وثمانين ليلة وزعم صاحب الشفاء أنه شاهد ذلك وأما أكثره فقال في الشفاء : بلغني من حيث وثقت أن امرأة وضعت بعد الرابع من رأس الحمل ولدا قد نبتت أسنانه وعاش

فإن قيل : فما سبب الأذكار والإناث ؟ قيل : ذلك نختاره أن سببه مشيئة الرب الفاعل باختياره وليس بسبب طبيعي وكل ما ذكر أصحاب الطبائع من الأسباب فمنتقض مثل حرارة الرجل ورطوبته قالوا : وفساد المزاج أيضا يوجب إيلاد الإناث واستقامته توجب الأذكار وهذا تخليط وهذيان فليس الأذكار والإناث إلا قول الله لملك الأرحام وقد استأذن يارب ذكر يا رب أنثى يا رب شقي ام سعيد فما الرزق فما الأجل ؟ والأذكار والإناث قرين السعادة والشقاوة والرزق والأجل
فإن قيل : فتلك أيضا بأسباب ؟ قلنا : نعم ولكن بأسباب بعد الولادة ولا سبب للأذكار والإناث قبل الولادة
فإن قيل : فما تصنعون بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه و سلم عن الولد فقال [ ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنث بإذن الله ] قال اليهودي : صدقت وإنك لنبي قيل : هذا الحديث تفرد به مسلم في صحيحه وقد تكلم فيه بعضهم وقال : الظاهر أن الحديث وهم فيه بعض الرواة وإنما كان السؤال عن الشبه وهو الذي سأله عنه عبدالله بن سلام في الحديث المتفق على صحته فأجابه بسبق الماء فإن الشبه يكون للسابق فلعل بعض الرواة انقلب عليه شبه الولد بالمرأة بكونه أنثى وشبهه بالوالد بكونه ذكرا لاسيما والشبه التام إنما هو بذلك
وقالت طائفة : الحديث صحيح لا مطعن في سنده ولا منافاة بينه وبين حديث عبدالله بن سلام وليست الواقعة واحدة بل هما قضيتان ورواية كل منهما غير رواية الأخرى وفي حديث ثوبان قضية ضبطت وحفظت قال ثوبان : كنت قائما عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فجاء حبر من أحبار اليهود فقال : السلام عليك يا محمد فدفعته دفعة كاد يصرع منها فقال لي : لم تدفعني ؟ فقلت : ألا تقول يارسول الله ؟ قال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ أينفعك شيء إن حدثتك ؟ ] قال : أسمع بأذني فنكت رسول الله صلى الله عليه و سلم بعود معه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ هم في الظلمة دون الجسر ] قال : فمن أول الناس إجازة ؟ قال [ فقراء المهاجرين ] قال اليهودي : فما تحفتهم حتى يدخلوا الجنة ؟ قال [ زيادة كبد الحوت ] قال : فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال [ ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها ] قال : فما شرابهم عليه ؟ قال [ من عين فيها تسمى سلسبيلا ] قال : صدقت قال : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد إلا نبي أو رجل أو رجلان قال [ أينفعك إن حدثتك ؟ ] قال أسمع بأذني قال : جئت أسألك عن الولد قال [ ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا منى الرجل منى المرأة أذكر بإذن الله وإذا علا منى المرأة منى الرجل آنث بإذن الله ] قال اليهودي : لقد صدقت وإنك لنبي ثم انصرف فذهب فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لقد سألني هذا الذي سألني عنه و مالي علم به حتى أتاني به الله ] وأما حديث عبدالله بن سلام رضي الله عنه ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال : بلغ عبدالله بن سلام مقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة فأتاه فقال : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلانبي : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه ومن أي شيء ينزع إلى أخواله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ خبرني آنفا جبريل ] فقال عبدالله : ذاك عدو اليهود من الملائكة فقال [ أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب وأما فأول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشى المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له وإذا سبقت كان الشبه لها ] قال : أشهد أنك رسول الله وذكر الحديث
فتضمن الحديثان أمرين ترتب عليهما الأثران معا وأيهما انفرد ترتب عليه أثره فإذا سبق ماء الرجل وعلا أذكره وكان الشبه له وإن سبة ماء الرجل وعلا آنث وكان الشبه لها وإن سبق ماء المرأة وعلا ماء الرجل أذكر وكان الشبه لها ومع هذا كله فهذا جزء سبب ليس بموجب والسبب الموجب مشيئة الله فقد يسبب بضد السبب وقد يرتب عليه ضد مقتضاه ولا يكون في ذلك مخالفة لحكمته كما لا يكون تعجيزا لقدرته وقد أشار في الحديث إلى هذا بقوله : [ أذكر وآنث بإذن الله ] وقد قال تعالى { لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور * أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير } فأخبر سبحانه أن ذلك عائد إلى مشيئته وانه قد يهب الذكور فقط والإناث فقط وقد يجمع للوالدين بين النوعين معا وقد يخليهما عنهما معا وأن ذلك كما هو راجع إلى مشيئته فهو متعلق بعلمه وقدرته وقد وهب الله آدم الذكور والإناث وإسرائيل الذكور دون الإناث ومحمدا صلى الله عليه و سلم الإناث دون الذكور سوى ولده إبراهيم وقال سليمان عليه السلام [ لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل امرأة منهن بغلام يقاتل في سبيل الله فطاف عليهن فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق ولد ] قال النبي صلى الله عليه و سلم [ والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ] فدل على أن مجرد الوطء ليس بسبب تام وإن كان له مدخل في السببية وأن السبب التام مشيئة الله وحده فهو رب الأسباب المتصرف فيها كيف شاء بإعطائها السببية إذا شاء ومنعها إياها إذا شاء وترتيب ضد مقتضاها عليها إذا شاء والأسباب هي مجاري الشرع والقدر فعليها يجري أمر الله الكوني والديني
فإن قيل : فقد ظهر أن الولد مخلوق من الماءين جميعا فهل يخلق منهما على حد سواء أم يكون الولد من ماء الأب وبعضه من ماء الأم ؟ قيل : قد بين النبي صلى الله عليه و سلم هذه المسألة بأوضح البيان فقال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا حسين ابن الحسين حدثنا أبو كريب عن عطاء بن السائب عن القاسم بن عبدالرحمن عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال : مر يهودي برسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يحدث أصحابه فقالت قريش : يا يهودي إن هذا يزعم انه نبي فقال : لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي فجاء حتى جلس ثم قال : يا محمد مم يخلق الإنسان ؟ فقال [ من كل يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعصب وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم ] فقام اليهودي فقال : هكذا يقول من قبلك

فإن قيل : قد ذكرتم أن تعلق الروح بالجنين إنما يكون بعد الأربعين الثالثة وإن خلق الجنين يجمع في بطن أمه أربعين يوما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك وبينتم أن كلام الأطباء لا يناقض ما اخبر به الوحي من ذلك فما تصنعون بحديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يدخل الملك في النطفة بعدما تستقر في الرحم أربعين أو خمس وأربعين ليلة فيقول : أي رب أشقي أم سعيد ؟ فيكتبان : فيقول : أي رب : ذكر أو أنثى ؟ فيكتبان ويكتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثم يطوي الصحيفة فلا يزاد فيها ولاينقص ] قيل نتلقاه بالقبول والتصديق وترك التحريف ولاينافي ما ذكرناه إذ غاية مافيه أن التقدير وقع بعد الأربعين الأولى وحديث ابن مسعود يدل على أنه وقع بعد الأربعين الثالثة وكلاهما حق قاله الصادق صلى الله عليه و سلم وهذا تقدير بعد تقدير فالأول تقدير عند انتقال النطفة إلى أول أطوار التخليق التي هي أول مراتب الإنسان وأما قبل ذلك فلم يتعلق بها التخليق والتقدير الثاني عند كمال خلقه ونفخ الروح فذلك تقدير عند أول خلقه وتصويره وهذا تقدير عقد تمام خلقه وتصويره وهذا أحسن من جواب من قال : أن المراد بهذه الأربعين التي في حديث حذيفة الأربين الثالثة وهذا بعيد جدا من لفظ الحديث ولفظه يأباه كل الأباء فتأمله
فإن قيل : فما تصنعون بحديثه الآخر الذي في صحيح مسلم عن عامر بن واثلة أنه سمع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يقول : [ الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من وعظ بغيره ] فأتى رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم يقال له حذيفة ابن أسيد الغفاري فحدثه بذلك من قول ابن مسعود وقال له : وكيف يشقى رجل بغير عمل ؟ فقال له الرجل : أتعجب من ذلك ؟ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول [ إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم قال : يا رب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما يشاء ويكتب الملك بالصحيفة في يده فلايزيد على أمره ولاينقص ]
وفي لفظ آخر في الصحيح أيضا : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم بأذنى هاتين يقول [ إن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك الذي يخلقها فيقول : يا رب أذكر أو أنثى ؟ أسوي أم غير سوي ؟ فيجعله الله سويا أو غير سوي ثم يقول : يا رب ما رزقه ؟ وما أجله ؟ وما خلقه ؟ ثم يجعله الله عز و جل شقيا أو سعيدا ] وفي لفظ آخر في الصحيح أيضا [ أن ملكا موكلا بالرحم إذا أراد الله أن يخلق شيئا بإذن الله لبضع وأربعين ليلة ] ثم ذكر نحوه
قيل : نتلقاه أيضا بالتصديق والقبول وترك التحريف وهذا يوافق ما أجمع عليه الأطباء أن مبدأ التخليق والتصوير بعد الأربعين
فإن قيل : فكيف التوفيق بين هذا وبين حديث ابن مسعود وهو صريح في [ أن النطفة أربعين يوما نطفة ثم أربعين علقة ثم أربعين مضغة ] ومعلوم أن العلقة والمضغة لا صورة فيهما ولا جلد ولا لحم ولا عظم وليس بنا حاجة إلى التوفيق بين حديثه هذا وبين قول الأطباء فإن قول النبي صلى الله عليه و سلم معصوم وقولهم عرضة للخطأ ولكن الحاجة إلى التوفيق بين حديثه وحديث حذيفة المتقدم ؟ قيل : لا تنافى بين الحديثين بحمد الله وكلاهما خارج من مشكاة صادقة معصومة وقد ظن طائفة أن التصوير في حديث حذيفة إنما هو بعد الأربعين الثالثة قالوا : وأكثر مافيه التعقيب بالفاء وتعقيب كل شيء بحسبه وقد قال تعالى { خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } وهذا تعقيب بحسب ما يصلح له المحل ولا يلزم أن يكون الثاني عقيب الأول تعقيب اتصال
وظنت طائفة أخرى أن التصوير والتخليق في حديث حذيفة في التقدير والعلم والذي في حديث ابن مسعود في الوجود الخارجي والصواب يدل على أن الحد ما دل عليه الحديث من أن ذلك في الأربعين الثانية ولكن هنا تصويران : أحدهما تصوير خفي لا يظهر وهوتصوير تقديري كما تصور حين تفصل الثوب أو تنجر الباب مواضع القطع والتفصيل فيعلم عليها ويضع مواضع الفصل والوصل وكذلك كل من يضع صورة في مادة لاسيما مثل هذه الصورة ينشئ فيها التصوير والتخليق على التدريج شيئا بعد شيء لاوهلة واحدة كما يشاهد بالعيان في التخليق الظاهر في البيضة
فههنا أربع مراتب : أحدها تصوير وتخليق علمي لم يخرج إلى الخارج الثانية مبدأ تصوير خفي يعجز الحس عن إدراكه الثالثة تصوير يناله الحس ولكنه لم يتم بعد الرابعة تمام التصوير الذي ليس بعد إلا نفخ الروح
فالمرتبة الأولى علمية والثلاث الأخر خارجية عينية وهذا التصوير بعد التصوير نظير التقدير بعد التقدير فالرب تعالى قد مقادير الخلائق تقديرا عاما قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وهنا كتب السعادة والشقاوة والأعمال والأرزاق والآجال ( الثاني ) تقدير بعد هذا وهو أخص منه وهو التقدير الواقع عند القبضتين حين قبض تبارك وتعالى أهل السعادة بيمينه وقال [ هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ] وقبض أهل الشقاوة باليد الأخرى وقال [ هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ] ( الثالث ) تقدير بعد هذا وهو أخص منه عندما يمنى به كما في حديث حذيفة بن أسيد المذكور ( الرابع ) تقدير آخر بعد هذا وهو عندما يتم خلقه وينفخ فيه الروح كما صرح به الحديث الذي قبله وهذا يدل على سعة علم الرب تبارك وتعالى وإحاطته بالكليات والجزئيات وكذلك التصوير الثاني مطابق للتصوير العلمي والثالث مطابق للثاني والرابع مطابق للثالث وهذا ممايدل على كمال قدرة الرب تعالى ومطابقة المقدور للمعلوم فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين
ونظير هذا التقدير الكتابة العامة قبل المخلوقات ثم كتابة ما يكون من العام إلى العام في ليلة القدر وكل مرتبة من هذه المراتب تفصيل لما قبلها وتنوع وكلام رسول الله صلى الله عليه و سلم يصدق بعضه بعضا ويفسر بعضه بعضا ويطابق الواقع في الوجود ولا يخالفه وإنما يخبر بما لا يستقل الحس والعقل بإدراكه لا بما يخالف الحس والعقل وإنما يعرفه الناس ويستقلون بإدراكه على أمر عيني يتعلق به الإيمان أو على حكم شرعي يتعلق به التكليف والله أعلم

فإن قيل : أي عضو يتخلق أولا قبل سائر الأعضاء ؟ قيل : اختلف في ذلك على أربعة أقوال ( أحدها ) أنه القلب وهو قول الأكثرين ( والثاني ) أنه الدماغ والعينان وهو قول بقراط ( والثالث ) الكبد وهو قول محمد بن زكريا ( والرابع ) أنه السرة وهو قول جماعة من الأطباء
قال أصحاب القلب : لا شك أن في المنى قوة روحية بسبب تلك القوة سعد أن يكون إنسانا وحاجته إلى الروح الذي هو مادة القوى أشد فلا بد أن يكون لذلك الروح مجمع خاص منه تنبعث إلى سائر الأعضاء فالجوهر الروحي أول شيء ينبعث من المنى ويجتمع في موضع واحد ويحيط به ما يتصل إليه ذلك الجوهر الروحي من جميع الجوانب فيجب أن يكون مجمعها هو الوسط وسائر الأجزاء يحيط به وذلك الوسط هو القلب
قالوا : ولأن تمام البدن موقوف على الحرارة الغريزية التي بها البدن ولا بد أن يتقدم على ذلك العضو الذي منه القوة الغريزية التي بها ينمو وهو القلب
قالوا : ولأن أفعال القوى إنما تتم بالروح وهي لابد لها من متعلق تتعلق به ولابد أن يتقدم متعلقها عليها وهو القلب
قالوا : وهذا هو الأليق والأنسب بحكمة الرب تعالى فإن القلب ملك والأعضاء جنود له وخدم فإذا صلح القلب صلحت جنوده وإذا فسد فسدتـ وقد أشار النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إلى ما يرشد إلى ذلك فقال [ إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب ] فما أولى هذه المضغة بأن تكون متقدمة في وجودها على سائر الأعضاء وسائر ما تبع لها في الوجود كما هي تبع لها في الصلاح والفساد
قالوا : وقد شاهد أصحاب التشريح في المنى عند انعقاده نطفة في وسطه
قال أصحاب الدماغ : شاهدنا الفراخ في البيض أول ما يتكون منها رأسها وسنة الله في بروز الجنين أول ما يبدو منه إلى الوجود رأسه
قال أصحاب الكبد : لما كان المنى محتاجا إلى قوة مغذية تزيد في جوهره حتى يصير بحيث يمكن أن تكون الأعضاء فيه كان أول الأعضاء وأسبقها إليه وهو محل القوة المغذية وهو الكبد
قال أصحاب السرة : حاجة الجنين إلى جذب الغذاء أشد من حاجته إلى الأقوات و إداركه ومن السرة يجذب الغذاء
وأولى هذه الأقوال القول الأول - فإن القلب ومنزلته وشرفه ومحله الذي وضعه الله به يقتضي أنه المبدوء به قبل سائر الأعضاء المتقدم عليها بالوجود والله أعلم

فإن قيل : الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا ؟ قيل كان فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات ولم تكن حركة نموه وإغتذائه بالإرادة فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه و اغتذائه
فإن قيل : قد ثبت أو الولد يتخلق من ماء الأبوين فهل يتمازجان ويختلطان حتى يصيرا ماء واحدا أو يكون أحدهما هو المادة والآخر بمنزلة الانفحة التي تعقده ؟ قيل هو موضع اختلف فيه أرباب الطبيعة فقالت طائفة منهم : منى الأب لا يكون جزءا من الجنين وإنما هو مادة الروح الساري في الأعضاء وأجزاء البدن كلها من منى الأم ومنهم من قال بل هو ينعقد من منى الأنثى ثم يتحلل ويفسد
قالوا : ولهذا كان الولد جزءا من أمه ولهذا جاءت الشريعة بتبعيته لها في الحرية والرق
قالوا : ولهذا لو نرى فحل رجل على جارية آخر فأولدها فالولد لمالك الأم دون مالك الفحل لأنه تكون من أجزائها ولحمها ودمها وماء الأب بمنزلة الماء الذي يسقي الأرض
قالوا : والحس يشهد أن الأجزاء التي في المولود من أمه أضعاف أضعاف الأجزاء التي فيه من أبيه فثبت أن تكوينه من منى الأم ودم الطمث ومنى الأب عاقد له كالأنفحة
ونازعهم الجمهور وقالوا : إنه يتكون من مني الرجل والأنثى ثم لهم قولان : أحدهما أن يكون من منى الذكر أعضاؤه وأجزاؤه ومن منى الأنثى صورته والثاني أن الأعضاء والأجزاء والصورة تكونت من مجموع الماءين وأنهما امتزجا واختلطا وصارا ماء واحدا وهذا هو الصواب لأننا نجد الصورة والتشكيل تارة إلى الأب وتارة إلى الأم والله أعلم
وقد دل على هذا قوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والأصل هو الذكر فمنه البذر ومنه السقي والأنثى وعاء ومستودع لولده تربيه في بطنها كما تربيه في حجرها ولهذا كان الولد للأب حكما ونسبا
وأما تبعيته للأم في الحرية والرق فلأنه إنما تكون وصار ولدا في بطنها وغذته بلبانها مع الجزء الذي فيه منها وكان الأب أحق بنسبه وتعصيبه لأنه أصله ومادته ونسخته وكان أشرفهما دينا أولى به تغليبا لدين الله وشرعه
فإن قيل : فهلا طردتم هذا وقلتم : لو سقط بذر رجل في أرض آخر يكون الزرع لصاحب الأرض دون مالك البذر ؟
قيل : الفرق بينهما أن البذر مال متقوم في أرض آخر فهو لمالكه وعليه أجرة الأرض أو هو بينهما بخلاف المنى فإنه ليس بمال ولهذا نهى الشارع فيه عن المعارضة واتفق الفقهاء على أن الفحل لو نزا على رمكة كان الولد لصاحب الرمكة

فإن قيل : فهل يتكون الجنين من ماءين وواطئين ؟ قيل : هذه مسألة شرعية كونية والشرع فيها تابع للتكوين وقد اختلف فيها شرعا وقدرا فمنعت ذلك طائفة وأبته كل الاباء وقالت : الماء إذا استقر في الرحم اشتمل عليه وانضم غاية الانضمام بحيث لا يبقى فيه مقدار رسم رأس إبرة إلا انسد فلا يمكن انفتاحه بعد ذلك لماء ثان لا من الواطئ ولا من غيره
قالوا : وبهذا أجرى الله العادة : أن الولد لا يكون إلا لأب واحد كما لا تكون الأم إلا واحدة وهذا هو مذهب الشافعي
وقالت طائفة : بل يتخلق من ماءين فأكثر قالوا : وانضمام الرحم واشتماله على الماء لايمنع قبوله الماء الثاني فإن الرحم أشوق شيء وأقبله للمنى
قالوا : ومثال ذلك كمثال المعدة فإن الطعام إذا استقر فيها انضمت عليه غاية الانضمام فإذا ورد عليها طعام فوقه انفتحت له لشوقها إليه
قالوا : وقد شهد بهذا القائف بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ولد ادعاه اثنان فنظر إليهما وإليه وقال : ما أراهما إلا اشتركا فيه فوافقه عمر وألحقه بهما ووافقه على ذلك الإمام أحمد ومالك رضي الله عنهما
قالوا : والحسن يشهد بذلك كما ترى في جراء الكلبة والستور تأتي بها مختلفة الألوان لتعدد آبائها وقد قال النبي ؟ [ من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقى ماءه زرع غيره ] يريد وطء الحامل من غير الواطىء قال الإمام أحمد : الوطء يزيد في سمع الولد وبصره هذا بعد انعقاده
وعلى هذه مسألة فقهية وهي : لو أحبل جارية غيره بنكاح أو زنى ثم ملكها هل تصير أم ولد ؟ فيها أربعة أقوال وهي روايات عن الإمام أحمد : أحدها لا تصير أم ولد لأنها لم تعلق بالولد في ملكه والثاني تصير أم ولد لأنها وضعت في ملكه والثالث إن وضعت في ملكه صارت أم ولد وإن وضعت قبل أن يملكها لم تصر لأن الوضع والإحبال كان في غير ملكه والرابع إن وطئها بعد أن ملكها صارت أو ولد وإلا فلا لأن الوطء يزيد في خلقه الولد كما قال الامام أحمد : الوطء يزيد في سمع الولد وبصره وهذا أرجح الأقوال وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم [ أنه مر على امرأة مجح على باب فسطاط فقال لعل سيدها يريد أن يلم بها لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له ] والمجح الحامل المقرب وقوله كيف يورثه أي يجعل له تركة موروثة عنه كأنه عبده ولا يحل له ذلك ؟ فهذا دليل على أن وطء الحامل إذا وطئت كثيرا جاء الولد عبلا ممتلئا وإذا هجر وطؤها جاء الولد هزيلا ضعيفا فهذه أسرار شرعية موافقة للأسرار الطبيعية مبنية عليها والله أعلم
فإن قيل : فهل يمكن أن يخلق من الماء ولدان في بطن واحد ؟ قيل : هذه مسألة التوأم وهو ممكن بل وقع وله أسباب : أحدها كثرة المنى فيفيض إلى بطن الرحم دفعات والرحم يعرض له عند الحركة الجارية للمنى حركات اختلاجية مختلفة فربما اتفق أن كان الجاذب للدفعة الأولى من المنى أحد جانبيه وللثانية الجانب الآخر ومنها أن بيت الأولاد في الرحم فيه تجاويف فيكون المنى كثيرا فيغفل أحدها عن فضلة يشتمل عليها التجويف الثاني وهكذا الثالث قال أرسطو : وقد يعيش للمرأة خمسة أولاد في بطن واحد وحكى عن امرأة أنها وضعت في أربع بطون عشرين ولدا قال صاحب القانون : سمعت بجرجان أن امرأة أسقطت كيسا فيه سبعون صورة صغيرة جدا قال أرسطو : وإذا توأمت بذكر وأنثى فقلما تسلم الوالدة والمولود وإذا توأمت بذكرين أو انثيين فتسلم كثيرا قال : والمرأة قد تحبل على الحبل ولكن يهلك الأول في الأكثر فقد أسقطت امرأة واحدة اثنى عشر جنينا حملا على حمل وأما إذا كان الحمل واحدا أو بعد وضع الأول فقد يعيشان والله أعلم
فإن قيل : فما السبب المانع للحمل من الحيض غالبا قال الإمام أحمد وأبو حنيفة : إن ما نراه من الدم يكون دم فساد حيض والشافعي وإن قال أن دم حيض - وهو إحدى الروايتين عن عائشة - فلا ريب أنه نادر بالإضافة إلى الأغلب ؟ قيل : دم الطمث ينقسم ثلاثة أقسام : قسم ينصرف إلى غذاء الجنين وقسم يصعد إلى البدن وقسم يحبس إلى وقت الوضع فيخرج مع الولد وهو دم النفاس وربما كانت مادة الدم قوية - وهو كثير فيخرج بعضه لقوته وكثرته والراجح من الدليل أنه حيضا واستيفاء الأدلة من الجانبين قد ذكرناه في مواضع آخر والله أعلم
فإن قيل : فما السبب في أن النساء الحبالى يشتقن في الشهر الثاني والثالث إلى تناول الأشياء الغريبة التي لا يعتد بها طبا ؟ قيل : إن دم الطمث لما احتبس يهن بحكمة قدرها الله وهي أن صرفه غذاء للولد ومقدار ما يحتاج إليه يسير فتدفعه الطبيعة الصحيحة إلى فم المعدة فيحدث لهن شهوة تلك الأشياء الغريبة
فإن قيل : فكيف وضع الجنين في بطن أمه : قائما أو قاعدا أو مضطجعا ؟
قيل : هو معتمد بوجهه على رجليه وبراحتيه على ركبتيه ورجلاه مضمومتان إلى قدميه ووجهه إلى ظهر أمه وهذا من العناية الألهية أن أجلسه هذه الجلسة في المكان الضيق في الرحم على هذا الشكل وأيضا فلو كان رأسه إلى أسفل لوقع ثقل الأعضاء الحسية على الأعضاء الشريفة وأدى ذلك إلى تلفه ولأنه عند محاولة الخروج إذا انقلب أعانته على الخروج فإنه إذا خرج أول ما يخرج منه رأسه لأن الرأس إذا خرج أولا كان خروج سائر الأعضاء بعده سهلا ولو خرج على الباقي وإن خرجت الرجل الواحدة أولا انعاق عند الثانية وإن خرجتا معا انعاق عند اليدين وإن خرجت الرجلان واليدان انعاق عند الرأس فكان يلتوي إلى خلف وتلتوي السرة إلى العنق فيتألم الرحم ويصعب الخروج ويؤدي إلى مرضه أو تلفه
فإن قيل : فما سبب الاجهاض الذي يسمونه الطرح قبل كمال الولد ؟
قيل : الجنين في البطن بمنزلة الثمرة في الشجرة وكل منهما له اتصاله قوى بالأم ولهذا يصعب قطع الثمرة قبل كمالها من الشجرة وتحتاج إلى قوة فإذا بلغت الثمرة نهايتها سهل قطعها وربما سقطت بنفسها وذلك لأن تلك الرباطات والعروق التي تمدها من الشجرة كانت في غاية القوة والغذاء فلما رجع ذلك الغذاء إلى تلك الشجرة ضعفت تلك الرطوبات والمجاري وساعدها ثقل الثمرة فسهل أخذها وكذلك الأمر في الجنين فإنه ما دام في البطن قبل كماله واستحكامه فإن رطوباته وأغشيته تكون مانعة له من السقوط فإذا تم وكمل ضعفت تلك الرطوبات وانتهكت الأغشية واجتمعت تلك الرطةبات المزلقة فسقط الجنين هذا هو الأمر الطبيعي الجاري على استقامة الطبيعة وسلامتها وأما السقوط قبل ذلك فلفساد في الجنين ولفساد في طبيعة الأم أو ضعفت الطبيعة كما تسقط الثمرة قبل إدراكها لفساد يعرض أو لضعف الأصل أو لفساد يعرض من خارج فإسقاط الجنين لسبب من هذه الأسباب الثلاثة فالآفات التي تصيب الأجنة بمنزلة الآفات التي تصيب الثمار
فإن قيل : فكيف يخرج من الرحم - مع ضيقه - ما هو أكبر منه بأضعاف مضاعفة ؟
قيل : هذا من أعظم الأدلة على عناية الرب تعالى وقدرته ومشيئته فإن الرحم لابد أن ينفتح الانفتاح العظيم جدا قال غير واحد من العقلاء : ولابد من انفصال يعرض للمفاصل العظيمة ثم تلتئم بسرعة أسرع من لمح البصر وقد اعترف فضلاء الأطباء وحذاقهم بذلك وقالوا : لايكون ذلك إلا بعناية إلهية وتدبير تعجز العقول عن إدراكه وتقر للخلاق بكمال الربوبية والقدرة
فإن قيل : فما السبب في بكاء الصبي حالة خروجه إلى هذه الدار ؟
قيل : ههنا سببان : سبب باطن أخبر به الصادق المصدوق لا يعرفه الأطباء وسبب ظاهر فأما السبب الباطن فإن الله سبحانه اقتضت حكمته أن وكل بكل واحد من ولد آدم شيطانا فشيطان المولود قد خنس ينتظر خروجه ليقارنه ويتوكل به فإذا انفصل استقبله الشيطان وطعنه في خاصرته تحرقا عليه وتغيظا واستقبالا له بالعداوة التي كانت بين الأبوين قديما فيبكي المولود من تلك الطعنة ولو آمن زنادقة الأطباء والطبائعيين بالله ورسوله لم يجدوا عندهم ما يبطل ذلك ولا يرده وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه : قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صياح المولود حين يقع نزعة من الشيطان وفي الصحيحين من حديثه أيضا رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه ] وفي لفظ آخر [ كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولادته إلا مريم وابنها ] وفي لفظ البخاري [ كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبه بأصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب ] والسبب الظاهر الذي لا تخبر الرسل بأمثاله لرخصه عند الناس ومعرفتهم له من غيرهم هو مفارقته المألوف والعادة التي كان فيها إلى أمر غريب فإنه ينتقل من جسم حار إلى هواء بارد ومكان لم يألفه فيستوحش من مفارقته وطنه ومألفه وعند أرباب الإشارات أن بكاءه إرهاص بين يدي ما يلاقيه من الشدائد والآلام والمخاوف وأنشد في ذلك :
( ويبكي بها المولود حتى كأنه بكل الذي يلقاه فيها يهدد )
( وإلا فما يبكيه فيها وإنها لأوسع مما كان فيه وأرغد ؟ )
ولهم نظير هذه الإشارة في قبض كفه عند خروجه إلى الدنيا وفي فتحها عند خروجه منها وهو الإشارة إلى أنه خرج إليها مركبا على الحرص والطمع وفارقها صفر اليدين منها وأنشد في ذلك
( وفي قبض كف المرء عند ولادة دليل على الحرص الذي هو مالكه )
( وفي فتحها عند الممات إشارة إلى فرقة المال الذي هو تاركه )
ولهم نظير هذه الإشارة في بكاء الطفل وضحك من حوله : أن الأمر سبدل ويصير إلى ما يبكي من حوله عند موته كما ضحكوا عند ولادته وأنشد في ذلك :
( ولدتك إذ ولدتك أمك باكيا والناس حولك يضحكون سرورا )
( فاعمل لعلك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكا مسرورا )
ونظير هذه الإشارة أيضا قولهم : إن المولود حين ينفصل يمد يده إلى فيه إشارة إلى تعجيل نزوله عند القدوم عليه بأنه ضيف من تمام إكرامه تعجيل قراه فأشار بلسان الحال إلى ترك التأخير وربما مص أصبعه إشارة إلى نهاية فقره وأنه بلغ منه إلى مص الأصابع ومنه قول الناس لمن بلغ به الفقر غايته : فهو يمص أصابعه وأنشد في ذلك :
( ويهوى إلى فيه يمص بنانه يطالب بالتعجيل خوف التشاغل )
( ويعلمهم أني فقير وليس لي من القوت شيء غير مص الأنامل )
ونظير هذه الإشارة أنه يحدث بالعجب ممن يظهر من الحدث :
( ويحدث بين الحاضرين إشارة إلى أنه من حادث ليس يعصم )
( يقول : وعندي بعدها خواتها وما منكم إلا وذو العرش أرحم )
ونظير هذه الإشارة أنه يضحك بعد الأربعين وذلك عندما يتعقل نفسه الناطقة ويدركها وفي ذلك قصاص من البكاء الذي أصابه عند ولادته وتأخر بعده لكي يتأسى العبد إذا أصابته شدة فالفرج يأتي في أثرها :
( ويضحك بعد الأربعين إشارة إلى فرج وافاه بعد الشدائد )
( يقول : هي الدنيا فتبكيك مرة وتضحك أخرى فاصطبر للعوائد )
قالوا : ويرى الأماني بعد ستين يوما من ولادته ولكنه ينساها لضعف القوة الحافظة وكثرة الرطوبات وفي ذلك لطف به أيضا لضعف قلبه عن التفكر فيما يراه :
( ويرى بعين القلب - إذ يأتي له ستون يوما - رؤية الأحلام )
( لكنه ينساه بعد لضهفه عن ضبطه في يقظة ومنام )

ولما تكامل للنطفة أربعون يوما فاستحكم نضجها وعقدتها حرارة الرحم استعدت لحالة هي أكمل من الأولى وهي الدم الجامد الذي يشبه العلقة ويقبل الصورة ويحفظها بانعقادها وتماسك أجزائها فإذا تم لها أربعون استعدت لحاقا هي أكمل من الحالتين قبلها وهي صيرورتها لحما أصلب من العلقة وأقوى وأحفظ للمخ المودع فيها واللحم هو كسرتها والرباكات تمسك أجزاءها وتشد بعضها بعضا والكبد الذي يأخذ صفو الغذاء فيرسله إلى سائر الأعضاء وإلى الشعر والظفر والأمعاء التي هي مجاري وصول الطعام والشراب إلى المعدة والعروق التي هي مجاري منفذه وإيصاله إلى سائر أجزاء البدن والمعدة التي هي خزانة الطعام والشراب وحافظته لمستحقيه والقلب الذي هو منبع الحرارة ومعدن الحياة والمستولي على مملكة البدن والرئة التي تروح عن البدن وتفيده الهواء البارد الذي به حياته واللسان الذي هو بريد القلب وترجمانه ورسوله والسمع الذي صاحب أخباره والبصر الذي هو طليعته ورائده والكاشف له عما يريد كشفه والأعضاء التي هي خدمه وخوله والرجلان تسعى في مصالحه واليد تبطش في حوائجه والأسنان تفصل قوته وتقطعه والعروق توصله إلى أربابه والذكر آلة نسله وأنثياه خزانة مادة النسل والكبد للغذاء وقسمته وهي في الحيوان بمنزلة شرش الشجر والنبات تجدب الغذاء وترسله إلى جميع الأجزاء وآلات الغذاء خدم له والقلب للأرواح الذي به حياة الحيوان وآلات النفس خدم له والدماغ معدن الحس والتصور والحواس خدم له والأنثيان معدن التناسل والذكر خدم لهما وهذه الأعضاء هي رأس أعشاء البدن

وأما آلات الغذاء فثلاثة أقسام : آلة تقبل الغذاء وتصلحه وتفرقه وترسله إلى جميع البدن وآلة تقبل فضلاته و ألة تعين في إخراج ثفله وما لا منفعة في بقائه فالآلات القابلة هي الفم والمري والبطن والكبد والعروق الموصلة إلى الكبد والعروق الموصلة منها إلى البدن

وأما الآلات القابلة للفضلات فالمرارة تقبل ما لطف منها والطحال يقبل كثيفها والكلى والمثانة يقبلان المتوسط والكبد موضوعة في الجانب الأيمن وتأخذ يسيرا للجانب الأيسر وهذا لحكمة بديعة وهي أن القلب في الجانب الأيسر أقرب وهو معدن الحار الغريزي فتجنب عند الكبد قليلا لئلا يتأذى بحرارتها وجعل في أوعية الغذاء قوى خادمة له فالفم مع كونه يقطع الغذاء وبطحنه يحيله ويغيره والمرىء مع كونه منفذا إلى المعدة يغيره تغييرا ثانيا والمعدة مع كونها خزانة حافظة له تنضجه وتطبخه وتغيره تغييرا ثالثا وتهضمه وتنفى منه ما لا يصلح وتخرجه وتدفعه إلى مخرج الثفل : فإن الطعام إذا استقر في المعدة اشتملت عليه وتقلبه دما خالصا ثم تقسمه على جميع الأعضاء قسمة عدل لا جور فيها ولا حيف
ولما كانت المعدة حوض البدن الذي يرده أجزاء البدن منكل ناحية اقتضت الحكمة الإلهية جعلها في وسطه وخالص الغذاء يتأدى إلى الكبد من شعب كثيرة ويجتمع في موضع واحد واسع يسمى باب الكبد وجميع العروق التي تتصل بالمعدة والأمعاء والطحال تجتمع وترتقي إلى باب الكبد والمعدة تجذب الموافق ويبقى المخالف المنافي الذي عجزت قوتها عنه ثم إن الكبد تصفيه وتنقيه بعد إجتذابه مرة أخرى وتنفى عنه غير الموافق
وقد أعد الصانع الحكيم سبحانه لتنقية الدم من الكبد ثلاثة خدام فارهيم قائمين بالمرصاد بلا كسل ولا فتور وقد وضع كلا منها في المكان اللائق به ونصبه نصبة بها يكون أمكن من عمله ولما استقر الغذاء في المعدة وطبخته وأنضجته صارت فضلاته ثلاثة : فضلة كالدردى الراسب وفضلة كالرغوة والزبد الطافي وفضلة مائية فجعل كل خادم من هذه الخدام الثلاثة على فضلة لا يتعداها إلى الأخرى ليجذبها من مجرى خادم الفضلة الخفيفة الطافية وهي للصفرة المرارة نصبها الرب تعالى فوق الكبد لأن المجتذب هو الفضلة الطافية ومكانها فوق مكان الدردى الراسب وخادم الفضلة التي هي كالدردى الراسب الطحال ونصبه الخلاق العليم أسفل من باب الكبد حيث كان ما يجتذبه من أسفل ولم يكن في الجانب الأيمن لأن المعدة قد شغلت ذلك الجانب وكان الجانب الأيسر خاليا فلم تعده فإذا نقى الدم من هاتين الفضلتين خدمه الخادم الثالث - وهو الكبد - وقد بقي أحمر نقي اللون مشرقا نورانيا ويصل إليها من عرق عظيم يسمى الأجوف ثم يوزع من هناك على جهات البدن العليا والسفلى في رواضع كثيرة العدد ما بين كبير وصغير ومتوسط كلها تتصل بالعرق الأجوف وتمتاز منه وما دام الدم في هذا العرق ففيه مائية غير محتاج إليها لأنها كانت بتركب الغذاء فلما وصل إلى مستقره استغنى عنها فاحتاج ولا بد إلى إخراجها ودفعها ولو لم يبادر إلى ذلك أضرت به فخلق الله سبحانه الكليتين يمتصان هذه الفضلة بعنقين طويلين كالأنبوبتين ويفرغانها في المثانة بعرقين آخرين وضعهما سبحانه أسفل من الكبد قليلا حيث يكون أمكن لتخليص المائية كما تروق العصارات وأما المرارة فوضعها الله سبحانه فوق الكبد لأنها بمنزلة السفنجة أو القطنة التي يقطف بها الدهن عن وجه الرطوبات وأما الطحال فوضعه أميل إلى أسفل لأنه بمنزلة ما يجتذب الأشياء المصونة إذا رسبت

إذا تنقى الدم من هذه الفضلات كلها وعملت فيه هذه الخدم بقواها التي أودعها الله فيها هذا العمل وأصلحته هذا الاصلاح عمل ملك الأعضاء والجوارح - وهو القلب - فيه عملا آخر فقصده بحرارة أخرى وهي أقوى من حرارة الكبد

وجعل سبحانه في المعدة أربع قوى : قوة جاذبة للملائم : وقوة منضجة له وقوة ممسكة له وقوة دافعة للفضلة المستغنى عنها منه ورئيس هذه القوى هي القوة المنضجة وسائرها خدم لها وحصت المعدة عن سائر الأعضاء بأن أودع فيها قوة تحس بالعوز والنقصان وخاصتها تنبيه الحيوان لتناول الغذاء عند الحاجة وأما سائر الأعضاء فإنها تتغذى بالنبات باجتذاب الملائم إليها ولما احتاجت المعدة إلى قوة وحس بالعوز ولم يكن ذلك إلا من معدن الحواس وهو الدماغ أتاها روح لعصب عظيم فأنبت أكثرها في فمها وما يليه وباقيه مستقيا حتى بلغ قعرها
فإن قيل : فما الحكمة في أن باعد الله سبحانه بين المعدة والفم وجعل بينهما مجرى طويلا وهو المرىء وهلا اتصلت المعدة بالفم واستغنت عن المرىء ؟ قيل : هذا من تمام حكمة الخالق وفيه منافع كثيرة منها أن يحصل للغذاء تغير ما في طريق المجرى فيلطف قبل وصوله إليها ومنها بعده عن آلة التنفس لئلا تعوقه وتعوق الصوت والكلام وأن لا تنقلب المعدة إلى خارج عند شدة الجوع كما يعرض ذلك للحيوان الشره إذا كان قصير العنق
فإن قيل : فلم كانت إلى الجانب الأيسر أميل إلى الجانب الأيمن ؟ قيل : ليتسع المكان على الكبد ولا ينحصر
فإن قيل : فهلا كانت مستقيمة في وضعها بل مال أسفلها إلى الجانب الأيمن ؟ قيل : ليتسع المكان على الطحال حيث كان أخفض موضعا من الكبد
فإن قيل : فلم جعلت مستطيلة مدورة وجعلت مما يلي الصلب مسطحة ؟
قيل : لما وضعها الله بين الكبد والطحال جعلها مستطيلة وكانت مستديرة لتتسع للطعام وللشرات وكان أسفلها أوسع من أعلاها لذلك وجعل لها مدخلا وهو المرىء ومخرجا يسمى البواب وجعل البواب أضيق من المرىء لأن ما تبتلعه يكون أصلب وأخشن مما تخرجه فجعل مدخل الداخل أوسع من مخرج الخارج لإنضاجه في المعدة ولينه ولحكم آخر : منها أن لا ينزل منه الطعام والشراب قبل نضجه ولتقوى المعدة على حبسه وليخرج أولا فأولا لا دفعة واحدة والمرىء يتسع بالتدريج حتى يبلغ المعدة ولذلك يظن أنه جزء منها وأما البواب فإن الجزء الضيق منه
يتصل بأسفلها الذي هو أوسعها ثم يتسع على التدريج ليسهل خروج الفضلة

والكبد منطبقة على المعدة محتوية عليها بزوائدها لتسخنها والطحال يسخنها من الباب الأيسر والصلب يسخنها من خلف والترائب من قدامها والترائب مؤلفة من طبقتين رقيقتين تنطبق إحداهما على الأخرى بشحم كثير وهو غشاء الأمعاء كلها ولباسها ثم غشى البطن كله بغشاء واحد بقي الأحشاء ويمنع من انفتاح المعدة والأمعاء بالرياح ويربط جملة آلات الغذاء ولم يجعل في الكبد تجويف كتجويف القلب لتحتوي على الدم احتواء ممكنا وتحيله إحالة بليغة وللكبد ثلاث شباك من العروق : شبكة بينها وبين المعدة والأمعاء وشبكة في مفرعها وشبكة في مجذبها فالشبكة الأولى تجذب الغذاء وتحيله بعد أن أحاله وفي الشبكة الثانية يصير دما وفي الشبكة الثالثة يزداد صفاء وترويقا وللكبد بالقلب والدماء اتصال بشظة من العصب خفية كنسج العنكبوت
ولما كانت النفس المعدية بمنزلة حيوان عاد وحشي وكل جسم يموت فلا بد أن تتصل به هذه النفس وتغذوه بخلاف النفس المفكرة التي محلها الدماغ وبخلاف النفس الغضبية التي محلها القلب فالنفس المفكرة تستعين بالنفس الغضبية على تلك النفس الحيوانية العادية الوحشية - فاقتضت حكمة الخالق سبحانه أو وصل بين محل هذه الأنفس الثلاثة ليذعن بعضها لبعض
ولا تنكر تسمية هذه القوى نفوسا فليس الشأن في التسمية فأنت تجد فيك نفسا حيوانية تطلب الطعام والشراب ونفسا مفكرة سلطانها على التصور والعلم والشعور ونفسا غضبية سلطانها على الغضب والإرادة وتضرب كل واحدة منها فيما جعلت إليه وبعضها عون لبعض فمحل النفس الحيوانية الكبد ومحل المفكرة الدماغ ومحل الغضبية القلب

وتأمل الحكمة في أن جعلت صفاقات عروق الكبد أرق من صفاقات سائر عروق البدن لينفذ إلى الكبد جوهر الدم بسرعة وهي مع ذلك غير محتاجة إلى الوقاية لأن الكبد تحوزها بلحمها وإنما وضعت مجاري المرة الصفراء بعد العروق التي تصعد الغذاء من المعدة وقبل العروق التي تأخذ الدم منها لأن هذا الموضع هو بين موضع كمال الطبخ وبين موضع انتقاله إلى العرض الأجوف وحينئذ يمكن انفصال المرة عن الدم وجمعت العروق كلها إلى عرق واحد هو الباب ثم عادت فتقسمت في مقعر الكبد ثم عادت فجمعت في مدها إلى عرق واحد وهو الأجوف لتجيد بقسميها إنضاج ما تحتوي عليه ولئلا ينفذ بسرعة وكذلك كل موضع احتيج فيه إلى طول مكث المادة هي بقاؤها فيه بطول مسلكها وكثرة تعاريجه كما فعل في مجاري المنى وشبكة الدماغ وهذا شأن العروق الجواذب وأما العروق الضوارب فبالعكس من ذلك فإنها جمعت في مقعر الكبد دون مجده بها لأنه موضع الدم وحاجته إلى التغذية بالحرارة ماسة قال جالينوس : ولا تقع العروق الضوارب في مجذب يعلم الخالق سبحانه أن جذبه الكبد لأنها تتحرك دائما بمجاورة الحجاب فيقوم لها ذلك مقام حركة العروق الضوارب وجعلت هذه العروق الضوارب رقاقا لأنها إنما وضعت لترويح الكبد لا لتغذيتها ولا لاتصال روح إليها إذ ليس بالكبد حاجة إلى قبول روح حيواني كثير ولا يحتاج لحمها إلا إلى غذاء لطيف بخاري

وأحرز الصانع سبحانه موضع الكبد ووضعها بأن ربطها بالمعدة والأمعاء كلها بالعروق وبالغشاء الممدود على البطن الذي يشد جميعها ووصل بها رباطات من جميع النواحي وغشاؤها الرابط يتصل بالحجاب برباط قوي ورباط الكبد بالحجاب صلب وثيق لأن الكبد معلقة به وهو أصلب من غشاء الكبد لشدة الحاجة إلى صلابته لأنه يحرز الكبد والعرق الأجوف متى ناله آفة مات الحيوان كما تهلك أغصان الشجرة إذا أصاب ساقها آفة
وجعل أرق هذه الرباطات من خلف لشدة بالعظام وأغلظه من قدام حيث لا عظام هناك تقيه وهذا من شدة الأسر الذي قال الله تعالى فيها { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } شد أوصالهم بالرباطات المحكمة وجعل خلقهم بعضه موصولا ببعض ولما كان الحجاب آلة شريفة للنفس بوعد من العضوين المجاورين له - وهما المعدة والكبد - بمقدار حاجته لئلا يزحماه ويعوقاه عن فعله فبوعدت المعدة عنه بطول مجراها

وأما الطحال فبعضهم يقول : إنه لا نفع فيه وإنما شغل المكان به لئلا يبقى فارغا فيميل أحد شقي البدن بثقل الكبد فجعل موازنا للكبد
قلت : وهذا غلط من وجه وصواب من وجه : أما الصواب فمن الحكم العجيبة جعل الطحال في الجانب الأيسر على موازنة الكبد لئلا يميل الشق الأيمن بها ولا يمكن أن تقوم المعدة بموازنة الكبد لأنها دائما تمتلىء وتخلو فتارة تكون أخف من الكبد وتارة أرجح منها فيصير البدن مترجحا أو يميل إلى شق الكبد وقتا وإلى شق المعدة وقتا آخر فجعل الخالق سبحانه الطحال يوازن الكبد وجعل المعدة بينهما في الوسد لئلا يثقل جانب ويخف جانب آخر عند امتلائها وخلوها فلما جعلت وسطا لم يختلف وضع البدن باختلافها
وأما الغلط فقوله : إنه لا منفعة فيه وإنما يشغل المكان لئلا يبقى فارغا فإنه - وإن لم يعلم فيه منفعة لم يكن له أن ينفيها فإن عدم العلم بالمنفعة لا يكون علما بعدمها ولا شيء في البدن خال عن المنفعة البتة وفي الطحال من المنافع أنه يجذب الفضلة الغليظة العكرة السوداء من الكبد نوعا من جنس العروق كالعنق له فإذا حصلت تلك الفضلة عنده أنضجها وأحالها وهو ينضج غليظ الدم وعكره كما ينضج قولون غليظ الغذاء ويابسه ويستعمل في فعله العروق والضوارب الكثيرة المبثوثة فيه كلها فما نضج واستحال إلى طبيعته صار غذاء له وما لم يمكن أن ينقل إلى الدم الموافق له قذفه إلى المعدة بعنق آخر من جنس العروق وإنما أمكنه جذب الفضل الأسود بقوة لحميته لأنه رخو متحلحل خفيف كالإسفتنج ولما اتصلت به العروق الضوارب الكثيرة استغنى بها عن إنضاج الفضول السوداء ليبقى لحمه خفيفا متحلحلا لأن دم الشرايين رقيق لطيف قريب طبيعته البخار فما اغتذى به كان نحيفا كالرئة ولكن الرئة تغتذي بما صفا ورق وأشرق وكان أحمر ناريا وكذلك الرئة كانت أخف وزنا منه وأسخف جرما ومائلة إلى البياض وأما الطحال فيغتذي بماء لطيف من الخلط الأسود المنطبخ في الشرايين فيستريح منه البدن ويغتذي به الطحال فالطحال يغتذي بغذاء لطيف من غذاء الكبد لأنه يرشح إليه من الشرايين التي صفا فأيهما يحبه جدا ولأجل سواد تلك الفضلة وكونها عكرة في الأصل لم يكن لون الطحال أحمر ولا مشرقا
فاما الكبد فتتغذى بدم غليظ فاضل يرشح إليها من العروق غير الضوارب فلجودة غذائيها كان لونها أحمر ولفضلته كانت كثيفة فالكبد تغتذي بدم أحمر غليظ والطحال بدم أسود لطيف والرئة بدم صاف مشرق في غاية النضج قريب من طبيعة الروح فجوهر كل عضو على ما هو عليه غذاؤه ملائما له فالغاذي شبيه بالمغتذي في طبعه وفعله وهذا كما أن حكمة الله سبحانه في خلقه فيه جرت حكمته في شرعه وأمره حيث حرم الأغذية الخبيثة على عباده لأنهم إذا اغتذوا بها صارت جزءا منهم فصارت أجزاؤهم مشابهة لأغذيتهم إذ الغاذي شبيه بالمغتذي بل يستحيل إلى جوهره فلهذا كان نوع الإنسان أعدل أنواع الحيوان مزاجا لاعتدال غذائه وكان الإغتذاء بالدم ولحوم السباع يورث المغتذي بها قوة شيطانية سبعية عادية على الناس فمن محاسن الشريعة تحريم هذه الأغذية وأشبهاهها إلا إذا عارضها مصلحة أرجح منها كحال الضرورة ولهذا لما أكلت النصارى لحوم الخنازير أورثها نوعا من الغلظة والقسوة وكذلك من أكل لحوم السباع والكلاب صار فيه قوتها ولما كانت القوة الشيطانية عارضة ثابتة لازمة لذوات الأنياب من السباع حرمها الشارع ولما كانت القوة الشيطانية عارضة في الإبل أمر بكسرها بالوضوء لمن أكل منها ولما كانت الطبيعة الحمارية لازمة للحمار حرم رسول الله صلى الله عليه و سلم لحوم الحمر الأهلية ولما كان الدم مركب الشيطان ومجراه حرمه الله تعالى تحريما لازما
فمن تأمل حكمة الله سبحانه في خلقه وأمره وطبق بين هذا وهذا فتحا له بابا عظيما من معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته وهذا هو الذي حركنا لبسط القول في هذا المقام الذي لا يكاد يرى فيه إلا أحد طريقين : طريق طبيب معترض للوحي مقلد لبقراط وطائفته قد عبرت عينه على الرسل وما جاءوا به وهو ممن قال تعالى فيه { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } وطريق من يجحد ذلك كله ويكذب قائله ويظن منافاته للشريعة فيجحد حكمة الله تعالى في خلقه وإبداعه في صنعه وكلا الطريقين مذموم وسالكه من الوصول إلى الغاية محروم فلا نكذب بشرع الله ولا نجحد حكمة الله وأكثر ما أفسد الناس أنهم لم يروا إلا طبائعيا زنديقا منحلا عن الشرائع أو متساهلا قادحا فيما جرت به حكمة الله ومشيئته في خلقه منكرا للقوى والطبائع والأسباب والحكم والتعليل فإذا أراد الآخر أن يدخل في معرفة الحكم والغايات وما أودع الله في مخلوقات من المنافع والقوى والأسباب صده زندقة هؤلاء وكفرهم وإعراضهم عما جاءت به الرسل وقدحهم فيما عندهم من العلم فيختار دينه على عقله ويختار ذلك عقله وما استقر عنده مما لا يكابر فيه حسه ولا عقله على الدين وهذا قد بلى خلق الأطباء والطبائعيين فهو عنده أحد أنواع أدلة التوحيد والمعاد وصفات الخالق وما أخبرت به الرسل هو من أظهر أدلته ولا يزداد الباطن فيه إلا إيمانا وما أخبرت به الرسل لا يناقض ما جرت به عادة الله وحكمته في خلقه : من نصب الأسباب وترتيب مسبباتها عليها بعلمه وحكمته فمصدر خلقه وأمره علمه تعالى وحكمته وآلاء الرب تعالى لا تتعارض ولا تتناقض ولا يبطل بعضها بعضا والله أعلم

والكبد والطحال متقابلان والمعدة بينهما والعروق الضوارب تتصل بها المعدة والقلب بمنزلة التنور أو بمنزلة أتون الحمام يسخن ماءه وله إلى كل بيت منفذ ينفذ منه وهج النار إليه وكذلك الحار العزيزي الذي منبعه من القلب ينفذ في مسالك ومنافذ إلى جميع الأعضاء فيسخنها

وجعلت الأعضاء مسلكا مؤديا والمعدة هي الآلة لهضم الغذاء واستمرائه والأمعاء تؤدي ذلك إلى الكبد ولما كانت الأمعاء آلة الأداء والإتصال كثرت لفائفها وطولها وكانت العروق التي تأتيها من الكبد لا تحصى كثرة لينفذ فيها الغذاء أولا فأولا وتفيضه يسيرا يسيرا فلولا تطويل لفائف الأمعاء لكان يخرج قبل أخذ خاصيته وكان يعرض إليهم بشهوة الأكل دائما وكان الإنسان يعدم التفرغ لمصالحة وسائر أعماله وكان دائما مكبا على الغذاء ولهذا صار الحيوان الذي ليس لامعائه استدارات بل له معي واحد مستقيم مكبا على الغذاء دائما عديم الصبر عنه كالفيل وأما ما لامعائه استدارات فإنه إذا فارقه الغذاء أو بعضه في الإستدارة الأولى صادفه في الثانية فإن هو فاته في الثانية صادفه في الثالثة والرابعة والخامسة كذلك فيمكن صبره على الغذاء حكمة بالغة
وما ينفذ إلى الأمعاء يبعث من العروق الضاربة ويأخذ من الغذاء جزءا يسيرا لطيفا وأما العروق غير الضاربة فهي مجاري الغذاء بالحقيقة فأخذت أكثره وأما العروق الضاربة فجعلت مسلكا للأرواح المنبعثة من القلب فاستغنت بقليل الغذاء وجعل للقلب وصلة بالأمعاء ليحسنها أولا ويمدها بقوة الحار بإذن خالقه ثم يأخذ منها الجزء الملائم من الغذاء المستغنى عن فعل الكبد للطاقة جوهره فإن هذا الجزء لو حصل في الكبد لم يؤمن إحراقه وفساده فلا ينتفع به القلب ثم يأخذ منها شدة الحاجة وصدق المجاعة فيتعجل ذلك من أدنى المواضع ولذلك يشاهد من أكل مسنبة شديدة يحس بزيادة ونماء في كل أعضائه حتى يمر الطعام بالمعدة قبل استقراره فيها فسبحان من أتقن ما صنع
ولما كانت المعدة آلة هضم الغذاء والأمعاء آلة دفعه جعل للأمعاء طبقتان ليقوى دفعها بهما جميعا وليكون حرزا لها وحفظا ولذلك من تعرض له قرحة الأمعاء بانجراد أحد الصفاقين يبقى الآخر سليما وجعلت الأمعاء الغلاظ لقذف الثفل والرقاق لتأذية الغذاء والسبب في أن صار الإنسان لا يحتاج إلى تناول الغذاء دائماص كثرة لفائف أمعائه والسبب المائع من قذف الفضول دائما سعة الأمعاء الغلاظ التي تقوم لها مقام وعاء آخر شبيه بالمعدة في السعة كما أن المثانة وعاء للبول كذلك

ونحن نذكر فصلا مختصرا في هذا الباب يجمع شتات ذلك بإيضاح وإيجاز إن شاء الله تعالى وبه الحول القوة فنقول :
المرىء موضوع خلف الحلقوم ومما يلي فقار الظهر وينتهي في ذهابه إلى الحجاب وهو مشدود برباطات فإذا أبعد مال إلى الجانب الأيسر واتسع وذلك المتسع هو المعدة وأسفلها يعود ماثلا إلى اليمين والمعدة مقر طبخه وفمها هو المسدف منها ويسمونه الفؤاد وهذا من غلطهم إلا أن يكون ذلك اصطلاحا خاصا منهم والفؤاد عند أهل اللغة هو القلب قال الجوهري : الفؤاد القلب وقال الأصمعي : وفي الجوف الفؤاد وهو القلب وقد فرق بعض أهل اللغة بين القلب والفؤاد فقال الليث : القلب مضغة من الفؤاد معلقة بالنياط وقالت طائفة : مسدف القلب وقال النبي صلى الله عليه و سلم [ جاءكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة ] ففرق بينهما ووصف القلب بالرقة الأفئدة باللين وأما كون فم المعدة هو الفؤاد فهذا لا نعلم أحدا من أهل اللغة قاله وتأمل وصف النبي صلى الله عليه و سلم القلب بالرقة التي هي ضد القساوة والغلظة والفؤاد باللين الذي هو ضد اليبس والقسوة فإذا اجتمع لين الفؤاد إلى رقة القلب حصل من ذلك الرحمة والشفقة والإحسان ومعرفة الحق وقبوله فإن اللين موجب للقبول والفهم والرقة تقتضي الرحمة والشفقة وهذا هو العلم والرحمة وبهما كمال الإنسان وربنا وسع كل شيء رحمة وعلما فلنرجع إلى ما نحن بصدده فنقول :
المعدة مع المرىء ذات طبقتين لطيفتين واللحم في الطبقة الداخلة أقل ولهذا يغلب عليها البياض وهي عصبية حساسة وهي في الطبعة الخارجة أكثر ولهذا يغلب عليها الحمرة وهي مربوطة مع الفقار برباطات وثيقة وتنتهي من جهة قعرها إلى منفذ هو باب المعدة وبوابها يغلق عند اشتماله على الغذاء مدة هضمه ويقال لباطن جرم المعدة : خمل المعدة
والأمعاء المصارين وهو جمع مصران - بضم الميم - وهو جمع مصير وسمي مصيرا لمصير الغذاء إليه والسفلى يقال لها : الاقتاب ومنه قوله صلى الله عليه و سلم فتندلق أقتاب بطنه والعليا أرق من السفلى لما تقدم من الحكمة
فأعلى الرقاق يسمى الإثني غشر لأن مساحته إثناء عشر إصبعا ويليه المسى بالصائم لقلة لبث الغذاء فيه لا لأنه يوجد أبدا خاليا كما ظنه بعضهم فإن هذا باطل حسا وشرعا كما سنذكره والثالث المسمى بالرقيق واللفائف وهو أطول الأمعاء وأكثرها تلافيف ولبث الغذاء فيه أطول والعروق التي تأتيه من الكبد أقل وأما اللذان قبله فمنتصبان في طول البدن قصيران ويقل لبث الغذاء فيهما وهو في الصائم أقل لبثا وهذه الثلاثة تسمى الأمعاء العليا والأمعاء الرقاق وهي كلها في سعة البواب
وأما الدامع وهو الأول من الثلاثة السفلى فيسمى الأعور لأنه لا منفذ له بل هو كالكيس يخرج منه ما دخل من حيث دخل وحكمته سبحانه أنه يتم فيه ما يعسر هضمه من الأشياء الصلبة كما يتم ذلك في قوانص الطيور ووضعه في الجانب الأيمن
والخامس المسمى يقولون يبتدىء من الجانب الأيمن ويأخذ عرضا إلى الأيسر ويحتبس فيه الثفل وربما يستقضي ما فيه
والسادس هو الآخر وهو المعي المستقيم لأنه مستقيم الوضع في طول البدن وهو واسع جدا يجتمع فيه الثفل كما يجتمع البول في المثانة وعليه الفضلة المانعة لخروج الثفل بدون الإرادة وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ المؤمن يأكل في معى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ] فأطلق على المعدة اسم المعى تغليبا ولمشابهتها بالأمعاء لكون كل واحد من الأمعاء والمعدة محلا للغذاء وهذا لغة العرب كما يقولون : القمران والعمران والركنان اليمانيان والشاميان والعراقيان ونظائر ذلك ولا سيما فإن تركيب الأمعاء كتركيب المعدة إذ هي مركبة من طبقتين لحمية خارجية وعصبية داخلة والطبقة الداخلية فيها لزوجات متصلة بها لتقيها من حر ألم البراز ورداءته كثيفة فلا تمسكه ولا يتعلق بها شيء منه ولما كان الكافر ليس في قلبه شيء من الإيمان والخير يغتذي به انصرفت قواه ونهمته كلها إلى الغذاء الحيواني البهيمي لما فقد الغذاء الروحي القلبي فتوفرت أمعاؤه وقواه على هذا الغذاء واستفرغت أمعاؤه هذا الغذاء وامتلأت به بحسب استعدادها وقبولها كما امتلأت به العروق والمعدة وأما المؤمن فإنه إنما يأكل العلفة ليتقوى بها على ما أمر به فهمته وقواه مصروفة إلى أمور وراء الأكل فإذا أكل ما يغذيه ويقيم صلبه إستغنى قلبه ونفسه وروحه بالغذاء الإيماني عن الإستكثار من الغذاء الحيواني فاشتغل معاه الواحد - وهو قولان - بالغذاء فأمسكه حتى أخذت منه الأعضاء والقوى مقدار الحاجة فلم يحتج إلى أن يملأ أمعاءه كلها من الطعام وهذا أمر معلوم بالتجربة وإذا قويت مواد الإيمان ومعرفة الله وأسمائه وصفاته ومحبته والشوق إلى لقائه في القلب استغنى بها العبد عن كثير من الغذاء ووجد لها قوة تزيد على قوة الغذاء الحيواني فإن كثف طباعك عن هذا وكنت عنه بمعزل فتأمل حال الفرح والسرور يتجدد نعمة عظيمة واستغناؤك مدة عن الطعام والشراب مع وفور قوتك وظهور الدموية على بشرتك وتغذية بالسرور والفرح ولا نسبة لذلك إلى فرح القلب ونعيمه وابتهاج الروح بقربه تعالى ومحبته ومعرفته كما قيل :
( لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الطعام وتلهيها عن الزاد )
وقد قال صلى الله عليه و سلم في الحديث المتفق على صحته [ إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني ] وصدق الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه فإن المقصود من الطعام والشراب التغذية الممسكة فإذا حصل له أعلى الغذاءين وأشرفهما وأنفعهما فيكف لا يغنيه عن الغذاء المشترك وإذا كنا نشاهد أن الغذاء الحيواني يغلب على الغذاء القلبي الروحي حتىيصير الحكم له ويضمحل هذا الغذاء بالكلية فكيف لا يضمحل غذاء البدن عند استيلاء غذاء القلب والروح ويصير الحكم له ؟ وقد كان صلى الله عليه و سلم يمكث الأيام لا يطعم شيئا وله قوة ثلاثين رجلا ويطوف مع ذلك على نسائه كلهن في ليلة واحدة وهن تسع نسوة وهذا المسيح بن مريم صلى الله عليه و سلم حتى لم يمت وغذاؤه من جنس غذاء الملائكة وأنت تشاهد المريض يمكث الأيام العديدة لا يأكل ولا يشرب لاشتغال نفسه بمحاربة المرض ومدافعته واكتفاء الطبيعة ببقية الغذاء الذي في الأمعاء والمعدة مدة الحرب فإذا وضعت الحرب أوزارها رأيت شدة طلبه للغذاء فالخائف والمحب والفرح والحزين والمستولي عليه الفكر لا تطالبه نفسه بشيء من الغذاء كالخالي من ذلك

والكبد عضو لحمي تتخلله عروق رقاق وغلاظ وعلى الكبد غشاء عصبي حساس يحيط بها وينثني إلى غلافه والكبد هي الأصل في الغذاء وآلات الغذاء خدم لها ومعينات فإن الإنسان لما كان كالشجرة المستقلة جعل له ما يقوم مقام النهر الجاري في أصول الشجرة يسقيها وهو الأمعاء والمعدة بمنزلة العين وتجري منها العروق مجرى السواقي وعروق الكبد المتصلة بالأمعاء بمنزلة عروق الشجرة المتصلة بأرض الساقية تمتص الماء منها وتؤديه إلى الشجرة وأغصانها ورقها وثمارها وهذه العروق تمص الماء من الطين والثرى وكذلك عروق الكبد تمتص صفو الماء وخالصه من كليتيه وتحيله إلى طبيعة الأعضاء كما تفعل عروق الشجرة وشكل الكبد شكل هلالي محدب من ظاهره مقعر من باطنه وهي تحت الأضلاع الخمس ولها خمس شعب يقال لها الزوائد تحتوي على المعدة كما تحتوي الكف بأصابعها على الشيء المقبوض ويقال للشعبة الصغيرة منها خاصة زائد الكبد وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم [ إن سبعين ألفا من أهل الجنة يأكلون من زيادة كبد الحوت الذي هو طعامهم ] وهذا يدل على عظم قدر هذه الزائدة فما الظن بالكبد التي هي زائدته فكيف بالحوت الذي حواها ؟
ومقعرها يسمى المورد لأنه يورد الغذاء من المعدة والأمعاء ويسمى باب الكبد ثم تتشعب هذه العروق من جانبيه بشعب تتصل بالأمعاء وتسمى الجداول لشبهها بالسواقي الصغار وتؤدي إلى نقرة عظيمة ولهذه الجداول أغشية من فوقها ومن تحتها فتستدير مع الأمعاء المتصله بها وتسمى هذه الأغشية وما تحتويه المرابط

والعرق الثاني ينقسم في مجذبها إلى عروق صغار وأصغر منها حتى تبلغ غاية الرقة ثم تعود وتجتمع أول فأول على قياس ما تفرق وأخذ من كثرة إلى وحدة ومن رقة إلى غلظ حتى يجتمع منها العرق الخارج من الكبد المسمى بالأجوف ومنها يتأدى الدم إلى البدن كله وحين يخرج ينقسم إلى قسمين فيأخذ أحدهما نافذا في الحجاب نحو القلب ويسمى الوتين قال أهل اللغة : الوتين عرق يسقي القلب قال في الصحاح : الوتين عرق في القلب إذا انقطع مات صاحبه وأصيب وتينه فهو موتون وقال الواحدي الوتين نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه وهذا قول جميع أهل اللغة وأنشدوا للشماخ :
( إذا بلغتني وحملت رحلي عرابة فاشرقي بدم الوتين )
وقال ابن عباس وجمهور المفسرين : هو حبل القلب ونياطه وأما الأبهر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم [ هذا أوان انقطاع أبهري ] فقال الجوهري : الأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهما أبهران يخرجان من القلب ثم تتشعب منهما سائر الشرايين وأنشدوا للأصمعي :
( وللفؤاد وجيب عند أبهره لدم الغلام وراء الغيب بالحجر )

والمرارة موضوعة على الكبد ولها مجريان : أحدهما متصل بتقعير الكبد يجتذب المرة الصفراء والآخر يتصل بالأمعاء العليا يصب في المرة ليغسلها ويجليها ويتصل منه السر بأسفل المعدة ليمتزج بالغذاء فيكون فيه معونة على مضمه

والقوة التي وكلها الله سبحانه وتعالى بتدبير البدن من أعظم آياته الدالة عليه فإنها تفعل في الطعام والشراب الواردين عليه أفعالا متنوعة من تقطيع وتفصيل وتمريخ وتحليل وتركيب فمبدأ ذلك في الفم وهو تقطيعه بالأسنان ومضغه واختلاطه بالرطوبات التي فيه وانهضامه فيه انهضاما تاما ثم بعد ذلك عند وروده إلى المعدة تهضمه هضما آخر ويسمى الهضم الأول ويعينها على هضمه ما يجاورها من الأعضاء فالكبد عن يمينها والطحال عن يسارها والقلب من فوقها والمرىء أمامها والأمعاء السبل الموصلة إليها والعروق الطرق المؤدية منها والحرارة النار الطابخة للطعام فيها والقوة الهاضمة والجاذبة والغاذية والدامعة خدم لها فإذا انهضم الطعام فيها صار كيلوسا شبيها بماء الكشل الثخين ثم تنهز صوبه ولطيفه فتقذفه العروق الرقاق الشعرية التي هي برقة الشعر وينجذب إلى الكبد فإذا ورد هذا اللطيف إلى الكبد اشتملت عليه بجملته فطبخته وهضمته وأحالته إلى جوهرها وصيرته دما ويسمى هذا الهضم الثاني ولما كان هذا الإنضاج والطبخ يشبه طبخ القدر علاه شيء كالرغوة والزبد وهي الصفراء ورسب منه شيء مثل العكر وهو السوداء وتخلف عن تمام النضج شيء بقي على فجوجته وهو البلغم والشيء الذي يصفى ويبقى من ذلك كله هو الدم فاندفع من الكبد في العرق الأعظم المعروف بالأجوف بعد أن تصفت عنه المائية إلى آلة البول فيسلك هذا الدم في الأوردة المتشعبة من الجوف ثم في جداول متثقبة من الأوردة ثم في سواقي متثقبة من الجداول ثم في رواضع مشتقة من السواقي ثم في عروق رقاق شعرية ثم يرشح من أفواهها في الأعضاء لتغتذي به فتحله الأعضاء وتصيره لجوهرها فيصير في اللحم لحما وفي العظم عظما وفي العصب عصبا وفي الظفر ظفرا وفي الشعر شعرا وفي السمع والبصر وآلة الحس كذلك فتبارك من هذا صنعه في قطرة من ماء مهين

والدم هو الخليط الأصلي والغذاء الحقيقي للبدن والمخلف عليه بدل ما ينقص ويتحلل منه والأخلاط الآخر كالأبازير والتوابل وهي صنفان : صنف لطيف وهو دم القلب وغليظ وهو دم الكبد ومثله مثل السلطان إذا كان وقورا حليما ساكنا عاشت به رعيته وإذا غضب واحتد قتل

وأما البلغم فخليط فج مستعد لين يستكمل نضجه عند عوز الغذاء إذ تولته الحرارة الغريزية فهضمته وصبرته دما فيكون في المعدة والأمعاء وفي الكبد عند قصور الهضم وفيه من المنفعة أنه يرطب البدن ويبل المفاصل لسلس حركاتها ويخالط الدم في تغذية الأعضاء البلغمية المزاج كالدماغ
ولما كانت الأعضاء محتاجة أن يكون قريبا منها لترطبها لم يجعل له عضو يختص به لاسيما والأعضاء تغتذي به إذا أعوزها الغذاء

وأما الصفراء فخليط لطيف حار وحاجة البدن إليها في أن تخالط الدم وترقه بلطفها وتنفذه في المسالك الضيقة ولتعينه في تغذية الأعضاء الحارة اليابسة وما ينفصل عنها مما يستغني عنه يتصفى إلى المرارة لتأخذ نصيبها منه وما تستغني عنه المرارة تصبه إلى الأمعاء ليغسلها عن لطخة الأثفال ولزوجتها ولتدع عضل المقعدة فيحس بالحاجة إلى التبرز

وأما المرارة السوداء فخليط بارد يابس وفيه من المنافع أنه ينفذ مع الدم في العروق ليشده ويقويه ويكفيه ويمسكه ويمنعه من سهولة الحرمة عند الحاجة إلى ذلك ويعينه على تغذية الأعضاء المحتاجة أن يكون في غذائيها شيء من السوداء كالعظام وما اتصل منه واستغنى عنه يصفى إلى الطحال فيصفيه الطحال جدا ويتغذى به ثم يجلب ما يستغني عنه الطحال إلى فم المعدة فيدغدغه بالحموضة التي فيه فتتحرك الشهوة ويحس بالجوع فتطلب الأعضاء القصوى معلومها وراتبها من الأعضاء التي تليها وتطلبه الأعضاء التي تليها من التي تجاورها وهكذا حتى ينتهي الطلب إلى المعدة فالجوع طلب الأعضاء القصوى معلومها من الأعضاء الدنيا

ولما اقتضت حكمة الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه ولا إله غيره - حيث كان بدن الإنسان مشبها في أحواله بالمدينة - وأن يوجد فيه أعضاء رئيسية تقوم بمصالحها كما تقوم رؤساء المدينة بمصالحها وتكون لها بمنزلة الولاة والأمراء وأعضاء تكوى خادمة لهذه الأعضاء الرئيسية فإن الرئيس لا يكون رئيسا إلا بمرؤوس وهي : بمنزلة الشرط والجلاوزة والنقباء وأن يوجد فيها أعضاء كالرعية وهي قسمان : ماله اتصال بالرؤساء وإن لم يكن له اتصال خدمة وما لا اتصال له بهم بل هو مستقل بنفسه بالأعضاء إذا بهذا التقسيم أربعة : أحدها الأعضاء الرئيسية المخدومة الثاني الأعضاء المرءوسة الخادمة الثالث الأعضاء المرءوسة بلا خدمة الرابع الأعضاء التي ليست رئيسة ولا مرءوسة

و

الأعضاء الرئيسية
إنما استحقت الرياسة لشرفها إذ كانت هي الأصول والمعادن والمبادئ للقوى الأولى في البدن المضطر إليها في بقاء الشخص والنوع وهي بحسب بقاء الشخص ثلاثة : القلب والكبد والدماغ وبحسب بقاء النوع أربعة : الثلاثة المذكورة والأنثيان
وأما القلب فهو الذي جعله الخلاق العليم قائما بأمر البدن كقيام الملك بالرعية وهو أول عضو يتحرك في البدن وآخر عضو يسكن منه وهو مبدأ جميع الخلق وما يلحقه من صلاح أو فساد يتأذى منه إلى غيره من الأعضاء
وأما الكبد فهي العضو التي تقوم لحفظ الحياة إذ كانت هي التي تملأ الأعضاء بالغذاء ليبقى البدن محفوظا ما أمكن بقاؤه
وأما الدماغ فهو العضو القائم بأمر الحس والإدراك وتكميل الحياة إذ فيه آلات الإحساس التي بها يعرف النافع من الضار الملائم من المنافر وبه صارت الحياة نافعة صالحة متجاوزة لزينة حياة النبات
وأنا الانثيان فهما اللذان يقومان لحفظ بقاء النوع

وأما

الأعضاء الخادمة
فالرئة والشرايين الحاملة المؤدية من القلب الحرارة الغريزية والقوى والأرواح الحيوانية التي بها قوام البدن
فهذان خادما القلب والمعدة والأوردة خادمان للكبد والأوردة تنفذ الدم الغاذي والقوى إلى جميع البدن والكبد خادمة الدماغ وكذلك الأعصاب التي بها يحصل الحس والحركة والانثيان يخدمهما الأعضاء المؤدية للمنى والمجاري المؤدية عنهما إلى موضع التوالد

وأما

الأعضاء المرءوسة بلا خدمة
فهي أعضاء مختصة بقوى لها طبيعة بها يتم تدبيرها ويستقيم أمرها ولا يدفع ذلك أنه يقبض عليها من الأعضاء الرئيسية قوى تمدها بإذن الله تعالى كالأذن والعين والأنف فإن كل واحد منها يقوم بأمر نفسه بما فيه من القوة الطبيعية التي أعطاها إياها الخالق سبحانه ولا يتم ذلك إلا بأن تأتيها قوة حساسة تنزل عليها من الدماغ بإذن الله تعالى

وأما

الأعضاء التي ليست برئيسة ولا مرءوسة
فهي التي اختصت بقوى غريزية فيها من أصل الخلقة في أول التكوين ليتم بها قوام أمرها وتدبيرها في جلب المنافع ودفع المضار كالعظام والغضاريف وسائر الأعضاء المتشابهة الأجزاء مثل الرباطات والأعصاب والأوتار والشرايين والأوردة والأغشية واللحم والعظام كالأساس والأسطوانات لبناء هيكل البدن
فإن قيل : هل في العظام قوة الإحساس وحياته أم لا ؟ قيل : هذا موضع اختلف فيه أرباب الشريعة فيما بينهم وأرباب الطبيعة فيما بينهم فقالت طائقة : لا حياة في العظام وإن كان فيها قوة النمو والاغتذاء
قالوا : إن الحياة إنما هي الروح الحيواني ولا حفظ للعظام فيه
قالوا : ولأن مركب الحياة إنما هو الدم المنبث في العروق والأعصاب واللحم ولهذا لم يكن للشعر ولا للظفر نصيب من ذلك ولهذا لم يألم الإنسان بأخذه
قالوا : فحياة العظام والشعر حياة نمو واغتذاء وحياة أعضاء البدن حياة نمو وإحساس
قالوا : ولهذا قلنا إن العظام لا تنجس بالموت لأنها لم يكن فيها حياة تزول بالموت
قالوا : وزال النمو لا يوجب نجاسة ما فارقه بدليل يبس الزرع والشجر
قال آخرون : الدليل على أن العظام تحلها الحياة قوله تعالى { قال من يحيي العظام وهي رميم * قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } والحس يدل على ذلك أيضا فإن العظم يألم ويضرب ويسكن وذلك نفس إحساسه
قالوا : ولا يمكن إنكار كون العظام فيها قوة حساسة تحس بالبارد والحار
قال الآخرون : الإحساس والألم ليس للعظم في نفسه وإنما هو لما جاوره من اللحم
قال المنازعون لهم : هذا مكابرة ظاهرة فإن العظم نفسه يألم ولا سيما إذا تصدع ثم إن الأسنان والأضراس تحس بالألم والحار والبارد بأنفسها لا بمجاورها من اللحم ولهذا توسطت طائفة ثالثة وقالت : عظام الأسنان خاصة لها الإحساس بخلاف سائر العظام وهؤلاء قد سلموا المسألة من مكان قريب فإن الذي دل على إحساس الأسنان وحياتها هو الدال على حياة سائر العظام والشبهة التي ذكروها لو صحت لمنعت من إحساس الأسنان
وأما حديث الطهارة والنجاسة فذاك لأمر آخر وراء الحياة
من نجسها بالموت سوى بينها وبين اللحم ومن لم ينجسها - وهو الراجح في الدليل - فذاك لعدم علة التنجيس فيها وإن الموت ليس بعلة النجاسة وإنما هو دليل العلة وسببها والعلة هي احتقان الفضلات في اللحم والعظم بريء من ذلك والدليل على هذا أن الشارع لم يحكم بنجاسة الحيوان النامي الذي لا نفس له سائلة لعدم احتقان الفضلات فيه فلان لا يحكم بنجاسة العظم أولى وأحرى فإن الرطوبات التي في الذباب والعقرب والخنفساء أكثر من الرطوبات التي في العظم

والذي أحصاه المشرحون من العظام في البدن مائتان وثمانية وأربعون عظما سوى الصغار السمسميات التي أحكم بها مفاصل الأصابع والتي في الحنجرة وقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أن الإنسان خلق من ثلاثمائة وستين مفصلا فإن كانت المفاصل هي العظام فقد اعترف جالينوس وغيره بأن في البدن عظاما صغارا لم تدخل تحت ضبطهم وإحصائهم وإن كان المراد بالمفاصل المواضع التي تنفصل بها الأعضاء بعضها عن بعض - كما قال الجوهري وغيره المفصل واحد مفاصل الأعضاء - فتلك أعم من العظام فتأمله وإن السلاميات المذكورة في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر [ يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقه فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة ] الحديث فالسلامي العظم وجمعه سلاميات فهنا ثلاثة أمور : أعضاء وعظام ومفاصل وجعل الله سبحانه العظام أصلب شيء في البدن لتكون رأسا وعندة في البدن إذ كانت الأعضاء كلها موضوعة على العظام حتى القلب كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى وهي حاملة للأعضاء والحامل أقوى من المحمول ولتكون وقاية وجنة أيضا كالقحف فإنه وقاية الدماغ وعظام الصدر وقاية له وجعلت العظام كثيرة لفوائد ومنافع عديدة : منها الحركة فإن الإنسان قد يحتاج إلى حركة بعض أجزائه دون بعض وقد يحتاج إلى حركة جزء من عضو
ومنها أنه لو كان على عظم واحد لكان إذا أراد أن يتحرك تحرك بجملته
ومنها أنه كان يتعذر عليه الصنائع والحل والربط
ومنها أنه إذا أصابه آفة عمت جميع البدن فجعلت العظام كثيرة ليكون متى نال بعضها آفة لم تسر إلى غيره وقام غيره من العظام مقامه في تحصيل تلك المنفة
ومنها تعذر المنافع التي حصلت بسبب تعدد العظام ولولا كثرتها وتعددها لفاتت تلك المنافع
ومنها أن من العظام مايحتاج البدن إلى كبيره ومنها مايحتاج إلى صغيره ومنها ما يحتاج إلى مستطيلة ومنها مايحتاج إلى مجوفه ومنها مايحتاج إلى محنيه ومنها مايحتاج إلى مستقيمه ولايحصل ذلك إلا بتعدد العظام
ومنها بديع الصنع وحسن التأليف والتركيب وغير ذلك من الفوائد
ثم شد الخالق بعضها إلى بعض بالرباطات والأسر المحكم ثم كساها لحما حفظا لها ووقاية ثم كسى اللحم جلدا صونا له
ولما كانت الفضلات تنقسم إلى لطيفة وغليظة جعل الله سبحانه للغليظة منها مجارى تنجذب فيها إلى أسفل ويخرج منها خروجا ظاهرا للحس واما اللطيفة فهي الفضلات البخارية ولما كان من شأنها أن تصعد إلى فوق وتخرج عن البدن بالتحليل جعل في العظام العليا منها منافذ يتحلل منها البخار المتصاعد فلم تكن تلك المنافذ محسوسة لئلا يضعف صوان الدماغ - وهو القحف - بوصول الأجسام المؤذية إليه فجعل الدماغ مركبة من عظام كثيرة ووصل بعضها ببعض بوصل يقال لها الشئون ومنه قولهم : فلان لم تجمع شئون رأسه
ويشتمل الرأس بجملة أجزائه على تسعة وخمسين عظما وجعل القحف مستديرا تاما في مقدمه ومؤخره وجانبيه بمنزلة غطاء القدر وعظامه ستة وهي : عظم اليافوخ وعظم الجهة وعظم مؤخر الرأس والعظمان اللذان فيهما ثقبا السمع وفي كل واحد من الصدغين عظمان مصمتان
وعظام اللحى الأعلى أربعة عشر عظما : ستة منها في محاجر العينين وإثنان للأنف وإثنان تحت الأنف وهما المثقوبان إلى الفم وإثنان في الوجنتين وإثنان تحت الشفة العليا
وأما العظم الشبيه بالوتد فهو واحد وهو كالقاعدة للرأس
وعظام اللحى الأسفل إثنان : وهما متصلان في وسط الذقن وبينهما بنيان ويتصلان من فوق باللحى الأعلى اتصالا مفصليا
والأسنان إثنان وثلاثون في كل لحى ستة عشر : أربع ثنيات وتليها الرباعيات وتليها النابان ويليهما الأضراس : خمسة من هنا وخمسة من هنا والنواجذ أول الأضراء وهما ناجذان في كل ناحية ناجذ وربما نقصت النواجذ في بعض الأفراد وكان في كل جانب أربعة أضراس
وقد سلم الله غذاء الإنسان إلى يده فتأخذه فتسلمه إلى شفتيه فتسلمه الشفتان إلى الأنياب والثنايا فتفصله ثم تسلمه إلى الأضراء فتسلمه وتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان والفم فيعجنه ثم يسلمه إلى الحلقوم والمرئ فيسلمه ويوصله إلى المعدة فتطبخه وتنضجه وتصلحه كماينبغي ثم تسلمه إلى الكبد فيتسلمه منها ثم يرسل منه إلى كل عضو راتبه ومعلومه ثم تصب قربة الصفراء في المرارة السوداء في الطحال والثفل يخرجه عنها كما تقدم بيانه

والرأس يقال بالعموم على مايقله العنق بجملته ويقال بالخصوص على الفروة وهي جلدة الرأس حيث منبت الشعر والجمجمة العظم الذي يحوي الدماغ وهي مؤلفة من سبع قطع متقابلة تسمى القبائل وتسمى مواضع التآليف شئونا ووسط الجمجمة يسمى الهامة وحد الهامة من الجانبين قرن الرأس وحد الهامة من المقدم اليافوخ ومن المؤخر القمحدوة وهي مايصيب الأرض من رأس المستلقي على ظهره ولها ثلاث حدود : نقرة القفا والقذالان فنقرة القفا حدها من آخر الوسط والقذالان جانبا النقرة وقد تقدم تفصيل القبائل السبع
وسنظهر الجمجمة عمايحيط بها : السمحاق وسطها غشاوتان : إحداهما تلي الجمجمة وهو أثخنها وأصلبهما والآخر يكتنف الدماغ ويحيط به ويخالطه ويقال لكل منهما : أم الدماغ ويسميان الأمان ومنة الآمة والمأمومة التي فيها ثلث الدية وهي الجراحة التي تبلغ أم الدماغ ويقال لها : تجويف الدماغ
وبطن وهي ثلاث بطون وبين بطني الدماغ اللذين في مؤخره ووسطه مجرى فيه قطعة من الدماغ مستطيلة شبيهة بالدودة ينسد ذلك المجرى وينفتح بها وتحت الدماغ سبلة مبسوطة مؤلفة من عروق ضوارب يتولد منها روح نفساني ينفذ إلى البطنين اللذين في مقدم الدماغ
وفي الدماغ البركة والحوض والقمح والدودة والبطون والأغشية ومبادئ الأعصاب ويحتوي الدماغ على ثلاث خزائن نافذ بعضها إلى بعض وتسمى بطونا : فالأولى في مقدمة تنقسم إلى قسمين والثانية في وسطه والثالثة في مؤخره وجوهر الدماغ مخي متزرد الشكل كأنه زرد مجموع والروح النفساني مثبت في خلل الزرد والدماغ مقسوم في طوعه لنصفين متضامين والتنصيف في مقدم الدماغ أظهر والغشاءان يدخلان في فصول الدماغ وتزريده والصلب منهما يدخل بطونا بين جزءي البطن المقدم فيحجز بينهما وتحته مصفى كالبركة تسمى المعصرة تصب في العروق الدم المنضج وتنبعث في جداول تسقي المبطن المقدم وتجتمع إلى عرقين كبيرين يحملان الدم إلى البطن الأوسط والمؤخر والبطن الأوسط كدهليز ومنفذ بين المقدم والمؤخر وسقفه معقود كالأزج والدماغ موضوع طولا على زائدتين متقاربتين فيتماسان ويتباعدان إلى الإنفراج فيفتح الدهليز ويتراءى البطنان المقدم والمؤخر والجزء المؤخر أخفى تدويرا من المقدم وأصغر زردا وهو كرى الإستطالة ويستدق على التدريج حتى يسيل منه النخاع كالجدول من العين
وفي الدماغ مجريان : أحدهما في آخر المقدم والمؤخر في الأوسط لدفع فضوله ويجتمعان عند منفذ واحد عميق أولهما في الغشاء الرقيق والآخر في الغشاء الصلب يأخذ إلى ضيق كالقمع
ولماكان الدماغ مبدأ حركات البدن إلى إرادته ولم يكن به حاجة إلى الحركة القوية فحوط عليه بسور من عظام بخلاف المعدة والكبد والرحم وسائر آلات الغذاء فإنها لما احتاجت إلى أن تتسع وتمتلئ بالغذاء فتحمل مرة بعد أخرى وأن تعصر الفضول فتخرجها والعظم يمنع من ذلك ويكفي فيه الفصل وحده فأحيط عليه بسور من عظم
وأما الصدر فإنه لما احتاج إلى الوثاقة بالعظام وإلى الحركة بافصل بالفصل ألف الصدر منهما وكان البطن أوسع من الصدر لما يحل بها من آلات الغذاء والتنفس والطحال والمرئ وغيرها

فاستقل الآن النظر في نفسك وانظر إلى المبدأ الأول وهو النطفة التي هي قطرة مهينة ضعيفة لو تركت ساعة لبطلت وفسدت كيف أخرجها رب الأرباب من بين الصلب والترائب ؟ وكيف أوقع المحبة والألفة بين الذكور والإناث ثم قادهما بسلسلة المحبة والشهوة إلى الإجتماع ثم استخرج النطفة من الذكر بحركة الوقاع من أعماق العروق وجمعها في الرحم في قرار مكين لاتناله يد ولا تطلع عليه شمس ولايصيبه هواء ثم صرف تلك النطفة طورا بعد طور وطبقا بعد طبق وغذاها بماء الحيض
وكيف جعل سبحانه النطفة - وهي بيضاء مشرقة - علقة حمراء ثم جعلها مضغة ثم قسم أجزاء المضغة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم في داخل الرحم في الظلمات الثلاث ولو كشف لك الغطاء لرأيت التخطيط والتصوير يظهر في تلك النطفة شيئا بعد شيء من غير أن ترى المصور ولا آلته ولاقلمه فهل رأيت مصورا لاتحس آلته ولاتلاقيها ؟
ثم تأمل هذه القبة العظيمة التي قد ركبت على المنكبين وما أودع فيها من العجائب وما ركب فيها من الخزائن وماأودع في تلك الخزائن من المنافع وما اشتملت عليه هذه القبة من العظام المختلفة الأشكال والصفات والمنافع ومن الرطوبات والأعصاب والطرق والمجاري والدماغ والمنافذ والقوى الباطنة من الذكر والفكر والتخيل وقوة الحفظ ففيه القوة المفكرة والذاكرة والمخيلة والحافظة وهذه القوى مودعة في خزانتها مسخرة لمصالحها يستعملها ويستخدمها كيف أراد
فتأمل كيف دور سبحانه الرأس وشق سمعه وبصره وأنفه وفمه ؟ وكيف ركب كرته في بطن الأم من ثلاثة وعشرين عظما وخلق تلك العظام على كيفيات مختلفة
وتأمل كيف انقلبت تلك النطفة اللينة الضعيفة إلى العظام الصلبة الشديدة ؟
ثم تأمل كيف قدر سبحانه كل واحد من تلك العظام بشكل مخصوص بحيث حصل من مجموعها مالو كان على خلافه لبطلت المنفعة وفات الغرض ثم ركب بعضها مع بعض بحيث حصل من مجموعها كرة الرأس على هذه الخلقة المخصوصة
ولما كان الرأس أشرف الأعضاء الإنسانية وأجمعها للقوى والمنافع والآلات والخزائن اقتضت العناية الإلهية بأن صين بأنواع من الصيانات وذلك أن الدماغ يحيطه غشاء رقيق وفوق ذلك الغشاء غشاء آخر يقال له : السمحاق ثم فوق ذلك الغشاء طبقة لحمية وفوق تلك الطبقة اللحمية الجلد ثم فوق الجلد الشعر فخلق سبحانه فوق دماعك سبع طبقات كما خلق فوق الأرض سبع سموات طباقا والمقصود من تخليقها الإحتياط في صون الدماغ من الآفات والدماغ من الرأس بمنزلة القلب من البدن
وهو سبحانه قسمه في طوله ثلاثة أقسام وجعل القسم المقدم محل الحفظ والتخيل والبطن الأوسط محل التأمل والتفكر والبطن الأخير محل التذكر والإستراجاع لما كان قد نسيه ولكل واحدة من هذه الأمور الثلاثة أمر مهم للانسان لابد له منه وأنه محتاج إلى التفهم والتفهيم ولولم يكن حافظا لمعاني التصورات وصورها بعد غيبتها لكان إذا سمع كلمة وفهمها شذت عنه عند مجيء الأخرى فلم يحصل المقصود من الفهم والإفهام فجعل له ربه وفاطره خزانة تحفظ له صور المعلومات حتى تجتمع له وتسمى القوة التي فيها القوة الحافظة ولاتتم مصلحة الإنسان إلا بها فإنه إذا رأى شيئا ثم غاب عنه ثم رآه مرة أخرى عرف أن هذا الذي رآه قبل ذلك لأنه في المرة الأولى ثبتت صورته في الحافظة ثم تتوارى عنه بالحجاب فلما رآه مرة ثاينة صارت هذه الصورة المحسوسة مطابقة للمصورة المعنوية التي في الذهن فحصل الجزم بأن هذا ذاك ولولا القوة الحافظة لماحصل ذلك ولما عرف أحد أحدا بعد غيبته عنه ولذلك إذا طالت الغيبة جدا وانمحت تلك الصورة الأولى من الذهن بالكلية لم يحصل له العلم بأن هذا هو الذي رآه أولا إلا بعد تفكر وتأمل
وقد قال قوم : إن محل هذه الصور النفس وقال قوم : محلها القلب وقال قوم : محلها العقل ولكل فريق منهم حجج وأدلة وكل منهم أدرك شيئا وغاب عنه شيء إذ الإدراك المذكور مفتقر إلى مجموع ذلك لايتم إلابه
والتحقيق أن منشأ ذلك ومبدأه من القلب ونهايته ومستقره في الرأس وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ ؟ على قولين : حكي روايتين عن الإمام أحمد والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها } فجعل العقل في القلب كماجعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } قال غير واحد من السلف : لمن كان له عقل
واحتج آخرون : بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لمازال فإن السمع والبصر لايزولان بضرب اليد أو الرجل ولاغيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما
وأجاب أرباب القلب عن هذا بأنه لا يمتنع زواله بفساد الدماغ وإن كان في القلب لمابين القلب والرأس من الإرتباط وهذا كما لايمتنع نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين وفساد القوة بفساد العضو قد يكون لأنه محلها وارتباطه بها والله أعلم
وعلى كل تقدير فذلك من أعظم آيات الله وأدلته وقدرته وحكمته كيف ترتسم صورة السموات والأرض والبحار والشمس والقمر والأقاليم والممالك والأمم في هذا المحل الصغير ؟ والإنسان يحفظ كتبا كثيرة جدا وعلوما شتى متعددة وصنائع مختلفة فترتسم كلها في هذا الجزء الصغير من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض بل كان صورة منهن بنفسها محصلة في هذا المحل وأنت لو ذهبت تنقش صورا وأشكالا كثيرة في محل صغير لاختلط بعضها ببعض وطمس بعضها بعضا وهذا الجزء الصغير تنقش فيه الصور الكثيرة المختلفة والمتضادة ولايبطل منها صورة صورة
ومن أعجب الأشياء أن هذه القوة العاقلة تقبل ماتؤديه إليها الحواس فتجتمع فيها ثم تعيد كل حاسة منها فائدة الحاسة الأخرى مثاله : أنك ترى الشخص فتعلم أنه فلان وتسمع صوته فتعلم أنه هو وتلمس الشيء فتعرفه وتشمه فتعرف أنه هو ثم تستدل بماتسمعه من صوته على أنه هو الذي رأيته فيغنيك سماع صوته عن رؤيته ويقوم لك مقام مشاهدته ولهذا جوز أكثر الفقهاء شهادة الأعمى وبيعه وشراءه وأجمعوا على جواز وطئه امرأته وهولم يرها قط اعتمادا منه على الصوت بل لو كانت خرساء أيضا وهو أطرش جاز له الوطء
وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطا ونفوذا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرا في كتابه كقوله { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } وقوله تعالى { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } وقوله { لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها } وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لافي كل شيء
ثم أودع سبحانه قوة التفكر وأمره باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة فركب القوة المفكرة من شيئين من الأشياء الحاضرة عند القوة الحافظة تركيبا خاصا فيتولد من بين هذين الشيئين شيء ثالث جديد لم يكن للعقل شعور به كانت مواده عنده لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث ومن ههنا حصل استخراج الصنائع والحرف والعلوم وبناء المدن والمساكن وامور الزراعة والفلاحة وغير ذلك فلما استخرجت القوة المفكرة ذلك واستحسنته سلمته إلى القوة الإرادية العلمية فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان فكان أمرا ذهنيا ثم صار وجوديا خارجيا ولولا الفكرة لما اهتدى الإنسان إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك من أعظم النعم وتمام العناية الإلهية ولهذا لما فقد البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوة لم يتمكنوا مما تمكن منه أرباب الفكر
ولما كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمن فكرا وتقديرا فيفكر في استخراج المادة أولا ثم يقدرها ويفصلها ثانيا كما يصنع الخياط يحصل الثوب ثم يقدره ويفصله ثانيا قال تعالى عن الوحيد { ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا * سأرهقه صعودا * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر } فكرر سبحانه التقدير دون التفكير وذمه عليه دونه وهذا منزل على مقتضى حال سواه فإنه بالفكر طالب لاستخراج المجهول ولك غير مذموم فلما استخرجه قدر له تقديرين : تقديرا كليا وتقديرا جزئيا فالتقدير الكلي أن الساحر هو الذي يفرق بين المرء وزوجه والتقدير الجزئي أن الذي يفرق بين المرء وزوجه مذموم فههنا تقدير بعد تقدير فلهذا كرره سبحانه وذمه عليه وأما التفكير فإن الفكر طالب لمعرفة الشيء فلايذم بخلاف من قدر بعد تفكيره مايوصله إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق فتأمله

ثم انزل إلى العين وتأمل عجائبها وشكلها وخلقها وإيداع النور الباصر فيها وتركيبها من عشر طبقات وثلاث رطوبات ولكل واحد من هذه الطبقات والرطوبات شكل مخصوص ومقدار مخصوص لولم يكن عليه لاختلت المصلحة المقصودة وجعل سبحانه موضع الأبصار في قدر العدسة ثم اظهر في تلك العدسة قدر السماء والأرض والجبال والبحار والشمس والقمر فانظر كيف اتسعت تلك العدسة أن يرتسم فيها مالانسبة لها إليه ألبتة ؟ وجعل تلك القوة الباصرة في جزء أسود فتأمل كيف قام الباصر بهذا الجزء الأسود ؟
وجعل سبحانه الحدقة مصونة بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها وجعل شعر الأجفان أسود ليكون سواده سببا لاجتماع النور الذي به الأبصار ويكون مانعا من تفرقه ويكون أبلغ في الحسن والجمال
وخلق سبحانه لتحرك الحدقة أربعة وعشرين عضلة لو نقصت واحدة منهن لاختل أمر العين
ولما كانت العين شبيهة بالمرآة - التي إنما ينتفع بها إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء - جعل سبحانه الأجفان متحركة إلى الانفتاح والأطباق أبدا باختيار الانسان وغير اختياره لتبقى الحدقة نقية صافية عن جميع الكدورات وجعل العيبين بمنزلة المرآتين الصقيليتين اللتين تنطبع فيهما صور الأشياء الخارجة فيتأثر القلب ثم يظهر مافيه عليهما فيتأثران به فهما مرآة لما في القلب يظهر فيهما ومرآة لما في الخارج تنطبع صورته فيهما فالعينان على القلب كالزجاجتين الموضوعتين في المرآة ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه وحبه وبغضه ونفرته ومن أعجب الأشياء أن العين من ألطف أعضاء البدن وهي لاتتأثر بالحر والبرد تأثر غيرها من الأعضاء الكثيفة ولو كان الأمر عائدا إلى مجرد الطبيعة لكان ينبغي أن يكون الأمر بالعكس لأن الألطف أسرع تاثرا فعلم أن حصول هذه المصالح ليس هو بمجرد الطبع

ثم اعدل إلى الأذنين وتأمل شقهما وخلقهما وإيداع الرطوبة فيهما ليكونا عونا على إدراك السمع وجعلها مرة لتمتنع الهوام عن الدخول في الأذن وحوطهما سبحانه بصدفتين يجمعان الصوت ويؤديانه ‘لى الصماخ وجعل في الصدفتين تعريجات لتطول المسافة فتنكسر حدة الصوت و لا تلج الهوام دفعة بل تكثر حركاتها فينتبه لها فيخرجها وجعل العينين مقدمتين والأذنين مؤخرتين لأن العينين بمنزلة الطليعة والكاشف والرائد الذي يتقدم القوم ليكشف لهم وبمنزلة السراج الذي يضيء للسالك ما أمامه وأما الأذنان فيدركان المعاني الغائبة التي ترد على العبد من أمامه ومن خلفه وعن جانبيه فكان جعلهما في الجانبين أعدل الأمور فسبحان من بهرت حكمته العقول
وجعل للعينين غطاء لأن مدرك الأذن الأصوات ولا بقاء لها فلو جعل عليهما غطاء لزال الصوت قبل ارتفاع الغطاء فزالت المنفعة المقصودة وأما مدرك العين فأمر ثابت والعين محتاجة إلى غطاء يقيها وحصول الغطاء لا يؤثر في الإدراك وقال بعض أهل العلم : - عينا الانسان هاديان وأذناه رسولان إلى قلبه ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريدان والقلب ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده وإذا خبث خبثت جنوده

ثم انزل إلى الأنف وتأمل شكله وخلقته وكيف رفعه سبحانه في وسط الوجنة بأحسن شكل وفتح له بابين وأودع فيهما حاسة الشم وجعله آلة لاستنشاق الهواء وإدراك الروائح على اختلافها فيستنشق بهما الهواء البارد والطيب فيستغنى بالمنخرين عن فتح الفم أبدا ولولاهما لاحتاج إلى فتح فيه دائما وجعل سبحانه تجويفه واسعا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده قبل الوصول إلى الدماغ فإن الهواء المستنشق ينقسم قسمين : شطرا منه - وهو أكثره - ينفذ إلى الرئة وشطرا ينفذ إلى الدماغ ولذلك يضر المزكوم استنشاق الهواء البارد وجعل في الأنف أيضا إعانة على تقطيع الحروف وجعل بين المنخرين حاجزا وذلك أبلغ في حصول المنفعة المقصودة حتى كأنهما أنفان بمنزلة العينين والأذنين واليدين والرجلين وقد يصيب أحد المنخرين آفة فيبقى الآخر سالما وجعل تجويفه نازلا إلى أسفل ليكون مصبا للفضلات النازلة من الدماغ وستره بساتر أبدي لئلا تبدو تلك الفضلات عن عين الرائي
تأمل منفعة النفس الذي لو قطع عن الانسان لهلك وهو أربعة وعشرون ألف نفس في اليوم والليلة قسط كل ساعة ألف نفس
وتأمل كيف يدخل الهواء في المنخرين فينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلقوم فيعتدل مزاجه ثم يصل إلى الرئة فيصفي فيها من الغلظ والكدرة ثم يصل إلى القلب أصفى ماكان وأعدله فيروح عنه ثم ينفذ منه إلى العروق المتحركة ويتقدم إلى أقاصي أطراف البدن ثم إذا سخن جدا وخرج عن حد الانتفاع به عاد عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين ثم يخرج ويعود مثله وهكذا أبدا فمجموع ذلك هو النفس الواحد وقد أحصى الرب عدد هذه الأنفس وجعل مقابل كل نفس منها ماشاء الله من الأحقاب في الجحيم أوفي النعيم فما أسفه من أضاع ماهذا قيمته في غير شيء

وهو سبحانه جعل القلب أمير البدن ومعدنا للحرارة الغريزية فإذا استنشق الهواء البارد وصل إلى القلب واعتدلت حرارته فيبقى هناك مدة فلما سخن واحتراق واحتاج إلى إخراجه ودفعه منه لم يضيع أحكم الحاكمين ذلك النفس ويخرجه بغير فائدة بل جعل إخراجه سببا لحدوث الصوت ثم جعل سبحانه في الحنجرة واللسان والحنك باختلافها الصوت فيحدث الحرف ثم ألهم الإنسان أن يركب ذلك الحرف إلى مثله ونظيره فيحدث الكلمة ثم ألهمه تركيب تلك الكلمة إلىمثلها فيحدث الكلام
فتأمل هذه الحكم الباهرة في إيصال النفس إلى القلب لحفظ حياته ثم عند الحاجة إلى إخراجه والاستغناء عنه جعله سببا لهذه المنفعة العظيمة فتبارك الله أحسن الخالقين
وخلق سبحانه هذه المقاطع والحناجر مختلفة الأشكال فكما أنه لاتتشابه صورتان كذلك لايتشابه صوتان من كل وجه بل كمايحصل الامتياز بين الأشخاص بالقوة الباصرة فكذلك يحصل بالقوة السامعة فيحصل الامتياز للأعمى والبصير

ثم انزل إلى الصدر تر معدن العلم والحلم والوقار والسكينة والبر وأضدادها فتجد صدور العلية تعلو بالبر والخير والعلم والاحسان وصدور السفلة تغلي بالفجور والشرور والإساءة والحسد والمكر
ثم انفذ من ساحة الصدر إلى مشاهدة القلب تجد ملكا عظيما جالسا على سرير مملكته يأمر وينهى ويولى ويعزل وقد حف به الأمراء والوزراء والجند كلهم في خدمته إن استقام استقاموا وإن زاغ زاغوا وإن فسد فسدوا فعليه المعول وهو محل نظر الرب تعالى ومحل معرفته ومحبته وخشيته والتوكل عليه والإنابة إليه والرضى به وعنه والعبودية عليه أولا وعلى رعيته وجنده تبعا فأشرف مافي الإنسان قلبه فهو العالم بالله الساعي إليه المحب له وهومحل الإيمان والعرفان وهو المخاطب المبعوث إليه الرسل المخصوص بأشرف العطايا من الإيمان والعقل وإنما الجوارح أتباع للقلب يستخدمها استخدام الملوك للعبيد والراعي للرعية والذي يسري إلى الجوارح من الطاعات والمعاصي إنما هي آثاره فإن أظلم أظلمت الجوارح وإن استنار استنارت ومع هذا فهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عزوجل
فسبحان مقلب القلوب ومودعها مايشاء من أسرار الغيوب الذي يحول بين المر وقلبه ويعلم ماينطوي عليه من طاعته ودينه مصرف القلوب كيف أراد وحيث اراد أوحى إلى قلوب الأولياء أن أقبلي إلي فبادرت وقامت بين يدي رب العالمين وكره عز و جل انبعاث آخرين فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين كانت اكثر يمين رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ولامقلب القلوب ] وكان من دعائه [ اللهم يامقلب القلوب ثبت قلوبنا على طاعتك ] قال بعض السلف : القلب أشد تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانها وقال الآخر : القلب أشد تقلبا من الريشة بأرض فلاة في يوم ريح عاصف
ويطلق القلب على معنيين : أحدهما أمر حسي وهو العضو اللحمي الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر وفي باطنه تجويف وفي التجويف دم أسود وهو منبع الروح والثاني أمر معنوي وهو لطيفة ربانية رحمانية روحانية لها بهذا العضو تعلق واختصاص وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسانية
وللقلب جندان : جند يرى بالأبصار وجند يرى بالبصائر فأما جنده المشاهد فالأعضاء الظاهرة والباطنة وقد خلقت خادمة له لا تستطيع له خلافا فإذا امر العين بالانفتاح انفتحت وإذا أمر اللسان بالكلام تكلم وإذا امر اليد بالبطش بطشت وإذا أمر الرجل بالسعي سعت وكذا جميع الأعضاء ذللك له تذليلا
ولما خلق القلب للسفر إلى الله والدار الآخرة وحصل في هذا العالم ليتزود منه افتقر إلى المركب والزاد لسفره الذي خلق لأجله فأعين بالأعضاء والقوى وسخرت له وأقيمت له في خدمته لتجلب له ما يوافقه من الغذاء والمنافع ويدفع عنه مايضره ويهلكه فافتقر إلى جندين : باطن وهو الإرادة والشهوة والقوى وظاهر وهو الأعضاء فخلق في القلب في الإرادات والشهوات ما احتاج إليه وخلقت له الأعضاء التي هي آلة الإرادة واحتاج في دفع المضار إلى جندين : باطن وهو الغضب الذي يدفع المهلكات وينتقم به من الأعداء وظاهر وهو الأعضاء التي ينفذ بها غضبه كالأسلحة للقتال ولايتم ذلك إلا بمعرفته مايجلب ومايدفع فأعين الجند من العلم بما يكشف له حقائق ماينفعه ومايضره
ولما سلطت عليه الشهوة والغضب والشيطان أعين بجند من الملائكة وجعل له محل من الحلال ينفذ فيه شهواته وجعل بإزائه أعداء له ينفذ فيهن غضبه فما ابتلى بصفة من الصفات إلا وجعل لها مصرفا ومحلا ينفذها فيه فجعل لقوة الحسد فيه مصرفا وهو المنافسة في فعل الخير والغبطة عليه والمسابقة إليه ولقوة الكبر مصرفا وهو التكبر على أعداء الله تعالى وإهانتهم وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم لمن رآه يختال بين الصفين في الحرب [ إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن ] وقد أمر الله سبحانه بالغلظة على اعدائه
وجعل لقوة الحرص مصرفا وهو الحرص على ماينفع كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ احرص على ماينفعك ] ولقوةالشهوة مصرفا وهو التزوج بأربع والتسري بماشاء ولقوة حب المال مصرفا وهو إنفاقه في مرضاته تعالى والتزود منه لمعاده
فمحبة المال على هذا الوجه لاتذم ولمحبة الجاه مصرفا وهو استعماله في تنفيذ أوامره وإقامة دينه ونصر المظلوم وإغاثة الملهوف وإعانة الضعيف وقمع أعداء الله فمحبة الرياسة والجاه على هذا الوجه عبادة وجعل لقوة اللعب واللهو مصرفا وهو لهوه مع امرأته أو بقوسه وسهمه أو تأديبه فرسه وكان مااعان على الحق وجعل لقوة التحيل والمكر فيه مصرفا وهو التحيل على عدوه وعدو الله تعالى بأنواع التحيل حتى يراغمه ويرده خاسئا ويستعمل معه من أنواع المكر ما يستعمله عدوه معه وهكذا جميع القوى التي ركبت فيه جعل لها مصرفا وقد ركبها الله فيه لمصالح اقتضتها حكمته ولايطلب تعطيلها وإنما تصرف مجاريها من محل إلىمحل ومن موضع إلىموضع ومن تأمل هذا الموضع وتفقه فيه علم شدة الحاجة إليه وعظم الانتفاع به

وجماع الطرق والأبواب التي يصان منها القلب وجنوده أربعة فمن ضبطها وعدلها وأصلح مجاريها وصرفها في محالها اللائقة بها استفاد منها قلبه وجوارحه ولم يشمت به عدوه : وهي الحرص والشهوة والغضب والحسد فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير وكماهي طرق إلى العذاب السرمدي فهي طرق إلى النعيم الأبدي فآدم أبو البشر صلى الله عليه و سلم أخرج من الجنة بالحرص ثم أدخل إليها بالحرص ولكن فرق بين حرصه الأول وحرصه الثاني وأبو الجن أخرج منها بالحسد ثم لم يوفق لمنافسة وحسد يعيده إليها وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم [ لاحسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار ]
وأما الغضب فهو غول العقل يغتاله كما يغتال الذئب الشاة وأعظم مايفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته وإذا كان حرصه إنما هو على ماينفعه وحسده منافسة في الخير وغضبه لله على أعدائه وشهوته مستعملة فيما أبيح له وعونا له على ما أمر به لم تضره هذه الأربعة بل انتفع بها أعظم الانتفاع

وإذا تأملت حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب فهذا يلم به مرة وهذا يلم به مرة فإذا ألم به الملك حدث من لمته الانفساح والانشراح والنور والرحمة والاخلاص والانابة ومحبة الله وإيثاره علىماسواه وقصر الأمل والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور فلو دامت له تلك الحالة لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه ولكن تأتيه لمة الشيطان فتحدث له من الضيق والظلمة والهم والغم والخوف والسخط على المقدور والشك في الحق والحرص على الدنيا وعاجلها والغفلة عن الله - ماهو من أعظم عذاب القلب
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يحصيها إلا الله : فمنهم من تكون لمة الملك أغلب من لمة الشيطان وأقوى فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ماعنده من حياة القلب فيبادر إلى طرد تلك اللمة ولايدعها تستحكم فيصعب تداركها فهو دائما في حرب بين اللمتين يدال له مرة ويدال عليه مرة أخرى والعاقبة للتقوى
ومنهم من تكون لمة الشيطان أغلب عليه وأقوى فلا تزال تغلب لمة الملك حتى تستحكم ويصير الحكم لها فيموت القلب ولايحس ماناله الشيطان به مع أنه في غاية العذاب والضيق والحصر ولكن سكر الشهوة والغفلة حجب عنه الإحساس بذلك الألم فإذا كشف أمكنه تداركه بالدواء وحسمه وإن عاد الغطاء عاد الأمر كما كان حتى ينكشف عنه وقت المفارقة للدنيا فتظهر حينئذ تلك الآلام والهموم والغموم والأحزان وهي لم تتجدد له وإنما كانت كامنة تواريها الشواغل فلما زالت الشواغل ظهر ماكان كامنا وتجدد له أضعافه

والشيطان يلم بالقلب لما كان هناك من جواذب تجذبه وهي نوعان : صفات وإرادات : فإذا كانت الجواذب صفات قوى سلطانه هناك واستفحل أمره ووجد موطئا ومقارا فتأتي الاذكار والدعوات والتعوذات كحديث النفس لاتدفع سلطان الشيطان لأن مركبه صفة لازمة فإذا قلع العبد تلك الصفات وعمل على التطهر منها والاغتسال بقي للشيطان بالقلب خطرات ووساوس ولمات من غير استقرار وذلك يضعفه ويقوي لمة الملك فتأتي الاذكار والدعوات والتعوذات فتدفعه بأسهل شيء
وإذا أردت لذلك مثالا مطابقا : فمثله مثل كلب جائع شديد الجوع وبينك وبينه لحم أو خبز وهو يتأملك ويراك لاتقاومه وهو أقرب منك فأنت تزجره وتصيح عليه وهوي يأبى إلا التحوم عليك والغارة على مابين يديك فالأذكار بمنزلة الصياح عليه والزجر له ولكن معلومه ومراده عندك وقد قربته عليك فإذا لم يكن بين يديك شيء يصلح له وقد تأملك فرآك أقوى منه فإنك تزجره وتصيح عليه فيذهب وكذلك القلب الخالي عن قوة الشيطان ينزجر بمجرد الذكر
وأما القلب الذي فيه تلك الصفات التي هي مركبه وموطنه فيقع الذكر في حواشيه وجوانيه ولايقوى على إخراج العدو منه ومصداق ذلك تجده في الصلاة فتأمل في الحال وانظر هل تخرج الصلاة بأذكارها وقراءتها الشيطان من قلبك وتفرغه كله لله تعالى بكليته وتقيمه بين يدي ربه مقبلا بكليته عليه يصلي لله تعالى كأنه يراه قد اجتمع همه كله على الله ؟ وصار ذكره ومراقبته ومحبته والأنس به في محل الخواطر والوساوس أم لا ؟ والله المستعان
وههنا نكتة ينبغي التفطن لها وهي أن القلوب الممتلئة بالأخلاط الرديئة فالعبادات والأذكار والتعوذات أدوية لتلك الأخلاط كما يثير الدواء أخلاط البدن فإن لم يكن قبل الدواء وبعده حمية لم يزد الدواء على إثارته وإن أزال منه شيئا ما فمدار الأمر على شيئين : الحمية واستعمال الأدوية

وأول ما يطرق القلب الخطرة فإن دفعها استراح مما بعدها وإن لم يدفعها قويت فصارت وسوسة فكان دفعها أصعب فإن بادر ودفعها وإلا قويت وصارت شهوة فإن عالجها وإلا صارت إرادة فإن عالجها وإلا صارت عزيمة ومتى وصلت إلى هذه الحال لم يمكن دفعها واقترن بها الفعل ولابد ومايقدر عليه مرة بدون مقدماته وحينئذ ينتقل العلاج إلى أقوى الأدوية وهو الاستفراغ التام بالتوبة النصوح ولاريب أن دفع مبادئ هذا الداء من أوله أيسر وأهون من استفراغه بعد حصوله - إن ساعد القدر وأعان التوفيق وإن الدفع أولى به وإن تألمت النفس بمفارقة المحبوب فليوازن بين فوات هذا المحبوب الأخس المنقطع النكد المشوب بالآلام والهموم وبين فوات المحبوب الأعظم الدائم الذي لانسبة لهذا المحبوب إليه ألبتة لافي قدره ولافي بقائه وليوازن بين ألم فوته وبين ألم فوت المحبوب الأخس وليوازن بين لذة الانابة والاقبال على الله تعالى والتنعم بحبه وذكره وطاعته ولذة الاقبال على الرذائل والاتيان بالقبائح وليوازن بين لذة الظفر بالذنب ولذة الظفر بالعدو وبين لذة الذنب ولذة العفة ولذة الذنب ولذة القوة وقهر العدو وبين لذة الذنب ولذة إرغام عدوه ورده خاسئا ذليلا وبين لذة الذنب ولذة الطاعة التي تحول بينه وبين مراده وبين فوت مراده وفوت ثناء الله تعالى وملائكته عليه وفوت حسن جزائه وجزئل ثوابه وبين فرحة إدراكه وفرحة تركه لله تعالى عاجلا وفرحة ما يثنيه عليه في دنياه وآخرته والله المستعان
وهذا فصل جره الكلام في قوله تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } أشرنا إليه إشارة ولو استقصيناه لاستدعى عدة أسفار ولكن فيما ذكرناه تنبيه على ماتركناه وبالله التوفيق

ولنرجع إلى المقصود ثم قال الله تعالى { وفي السماء رزقكم وما توعدون } أما الرزق ففسر بالمطر وفسر بالجنة وفسر برزق الدنيا والآخرة ولاريب أن المطر من الرحمة وأن الجنة مستقر الرحمة فرزق الدارين في السماء التي هي في العلو وقوله تعالى : { وما توعدون } قال عطاء رضي الله عنه : من الثواب والعقاب وقال الكلبي : من الخير والشر وقال مجاهد : من الجنة والنار وقال ابن سيرين : من أمر الساعة
قلت : كون الجنة والخير في السماء فلا إشكال فيه وكون النار في السماء وما يوعد به اهلها يحتاج إلى تبيين فإذا نظرت إلى أسباب الخير والشر وأسباب دخول الجنة والنار وافتراق الناس وانقسامهم إلى شقي وسعيد وجدت ذلك كله بقضاء الله وقدره النازل من السماء وذلك كله مثبت في السماء في صحف الملائكة وفي اللوح المحفوظ قبل العمل وبعده فالأمر كله من السماء وقول من قال : من أمر الساعة : يكشف عن هذا المعنى فإن أمر الساعة يأتي من السماء وهو الموعود بها فالجنة والنار الغاية التي لأجلها قامت الساعة فصح كل ما قال السلف في ذلك والله أعلم

ثم أقسم سبحانه أعظم قسم بأعظم مقسم به على أجل مقسم عليه وأكد الأخبار بهذا القسم ثم أكد بتشبيهه بالأمر المحقق الذي لايشك فيه ذو حاسة سليمة فقال : { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد إنه لحق واقع كما أنكم تنطقون وقال الفراء : إنه لحق كما ان الآدمي ناطق وقال الزجاج : هذا كما تقول في الكلام : إن هذا لحق كما انك ههنا
قلت : وفي الحديث [ إنه لحق كما أنك ههنا ] فشبه سبحانه تحقيق ما أخبر به بتحقيق نطق الآدمي ووجوده والواحد منا يعرف أنه ناطق ضرورة ولايحتاج نطقه إلى استدلال على وجوده ولايخالجه شك في أنه ناطق فكذلك ما أخبر الله عنه من أمر التوحيد والنبوة والمعاد وأسمائه وصفاته حق ثابت في نفس الأمر يشبه بثبوت نطقكم ووجوده وهذا باب يعرفه الناس في كلامهم يقول أحدهم : هذا حق مثل الشمس وأفصح الشاعر عن هذا بقوله :
( وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل )
وههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الرب تعالى شهد بصحة ما أخبر به وهو أصدق الصادقين وأقسم عليه وهو أبر المقسمين وأكده بتشبيهه بالواقع الذي لا يقبل الشك بوجه وأقام عليه من الأدلة العيانية والبرهانية ماجعله معاينا مشاهدا بالبصائر وإن لم يعاين بالأبصار ومع ذلك فأكثر النفوس في غفلة عنه لاتستعد له ولاتأخذ له أهبة والمستعد له الآخذ له أهبة لايعطيه حقه منهم إلا الفرد بعد الفرد فأكثر الخلق لاينظرون في المراد من إيجادهم وإخراجهم إلى هذه الدار ولايتفكرون في قلة مقامهم في دار الغرور ولافي رحيلهم وانتقالهم عنها ولا إلى أين يرحلون ؟ وأين يستقرون ؟ قد ملكهم الحس وقل نصيبهم من العقل وشملتهم الغفل وغرتهم الأماني التي هي كالسراب وخدعهم طول الأمل وكأن المقيم لايرحل وكأن أحدهم لايبعث ولايسأل وكأن مع كل مقيم توقيع من الله : لفلان ابن فلان بالأمان من عذابه والفوز بجزيل ثوابه فأما اللذات الحسية والشهوات النفسية كيفما حصلت فإنهم حصلوها ومن أي وجه لاحت أخذوها غافلين عن المطالبة آمنين من العاقبة يسعون لمايدركون ويتركون ما هم به مطالبون ويعمرون ماهم عنه منتقلون ويخربون ماهم إليه صائرون وهم عن الآخرة هم غافلون ألهتهم شهوات نفوسهم فلا ينظرون في مصالحها ولايأخذون في جمع زادها في سفرها { نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون } والعجب كل العجب من غفلة من تعد عليه لحظاته وتحصى عليه أنفاسه ومطايا اليل والنهار تسرع به ولايتفكر إلى أن يحمل ولا إلى أي منزل ينقل ؟
( وكيف تنام العين وهي قريرة ولم تدر في أي المحلين تنزل ؟ )
وإذا نزل بأحدهم الموت قلق لخراب ذاته وذهاب لذاته لا لما سبق من جناياته ولا لسوء منقلبه بعد مماته فإن خطرت على أحدهم خطرة من ذلك اعتمد العفو أو الرحمة وكان يتيقن أن ذلك نصيبه ولابد فلو أن العاقل أحضر ذهنه ما استحضر عقله وسار بفكره وأمعن النظر وتأمل الآيات لفهم المراد من إيجاده ولنظرت عين الراحل إلى الطريق ولأخذ المسافر في التزود والمريض في التداوي والحازم مايجوز أن يأتي فما الظن بأمر متيقن كما أنه لصدق إيمانهم وقوة إيقانهم وكأنهم يعاينون الأمر فأضحت ربوع الايمان من أهلها خالية ومعالمه على عروشها خاوية قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن علي عن الأوزاعي قال : كان السلف إذا طلع الفجر أو قبله كأنما على رؤوسهم الطير مقبلين على أنفسهم حتى لو أن حبيبا لأحدهم غاب عنه حينا ثم قدم لما التفت إليه فلا يزالون كذلك إلى طلوع الشمس ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتخلفون بأول ما يقتضون فيه أمر معادهم وماهم صائرون إليه ثم يأخذون في الفقه

ومن ذلك قوله تعالى : { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب } الصحيح أن ق ون وص بمنزلة حم وألم وطس : تلك حروف مفرد وهذه متعددة وقد تقدمت الإشارة إلى بعض ما فيها قبل
وههنا قد اتحد المقسم به والمقسم عليه وهو القرآن فأقسم بالقرآن على ثبوته وصدقه وأنه حق من عنده ولذلك حذف الجواب ولم يصرح به لما في القسم من الدلالة عليه أو لأن المقصود نفس المقسم به كما تقدم بيانه ثم أخذ سبحانه في بيان عجب الكفار من غير عجيب بل بما لا ينبغي أن يقع سواء كما قال سبحانه { الر تلك آيات الكتاب الحكيم * أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم } فأي عجب من هذا حتى يقول الكافرون { إن هذا لسحر مبين } وكيف يتعجب من رحمة الخالق عباده وهدايته وإنعامه عليهم بتعريفهم على لسان رسوله صلى الله عليه و سلم بطريق الخير والشر وما هم صائرون إليه بعد الموت وأمرهم ونهيهم حتى يقابل ذلك بالتعجب ونسبة ما جاء به إلى السحر لولا غاية الجهل والظلم وإن العجب كل العجب قولهم وتكذيبهم كما قال تعالى { وإن تعجب فعجب قولهم }

ومن ذلك { حم * والكتاب المبين } وقوله { ص والقرآن ذي الذكر } وقوله { يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين } والصحيح أن يس بمنزلة حم وألم ليس أسماء من أسماء النبي صلى الله عليه و سلم
وأقسم سبحانه بكتابه على صدق رسوله وصحةنبوته ورسالته فتأمل قدر المقسم به والمقسم عليه وقوله تعالى { على صراط مستقيم } وجوز فيه ثلاثة : أن يكون خيرا بعد خبر فأخبر عنه بأنه رسوله وأنه على صراط مستقيم وأن يكون متعلقا بالخبر نفسه تعلق المعمول بعامله أي أرسلتك على صراط وهذا يحتاج إلى بيان تقدير : المجعولين على صراط مستقيم وكونه من المرسلين مستلزم لذلك فاستغنى عن ذكره

ومن ذلك قوله تعالى { والصافات صفا } أقسم سبحانه بملائكته الصفافات للعبودية بين يديه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه [ ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ؟ تتمون الصفوف الأول وتراصون في الصف ] وكما قالوا عن أنفسهم { وإنا لنحن الصافون } والملائكة الصافات أجنحتها في الهواء والزاجرات الملائكة التي تزجر السحاب وغيره بأمر الله ( فالتاليات ) التي تتلو لكلام الله وقيل : الصافات الطير : كما قال تعالى { أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن } وقال تعالى { والطير صافات } والزاجرات الآيات والكلمات الزاجرات عن معاصي الله والتاليات الجامعات لكتاب الله تعالى
وقيل : صافات القتال في سبيله فالزاجرات الخيل للحمل على أعدائه فالتاليات الذاكرين له عند ملاقاة عدوهم وقيل : الجامعات الصافات أبدانها في الصلاة الزاجرات أنفسها عن معاصي الله فالتاليات آياته واللفظ يحتمل ذلك كله وإن كان أحق من دخل فيه وأولى الملائكة فإن الأقسام كالدليل والآية على صحة ما أقسم عليه من التوحيد وماذكر من غير الملائكة فهو من آثار الملائكة وبواسطتها كان
وأقسم سبحانه بذلك على توحيد ربوبيته وإلهيته وقرر توحيد ربوبيته فقال { إن إلهكم لواحد * رب السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق } من أعظم الأدلة على أنه إله واحد ولو كان معه إله آخر لكان الإله مشاركا له في ربوبيته كما شاركه في إلهيته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وهذه قاعدة القرآن يقرر توحيد الإلهية بتوحيد الربوبية فيقرر كونه معبودا وحده بكونه خالقا رازقا وحده وخص المشارق ههنا بالذكر إما لدلالتها على المغارب إذ الأمر أن المتضايقان كل منهما يستلزم الآخر وإما لكون المشارق مطلع الكواكب ومظاهر الأنوار وإما توطئة لما ذكر بعدها من تزيين السماء بزينة الكواكب وجعلها حفظا من كل شيطان : فذكر المشارق أنسب بهذا المعنى وأليق والله تعالى أعلم

ومن ذلك قوله في قصة لوط عليه السلام ومراجعته قومه له { قالوا أولم ننهك عن العالمين * قال هؤلاء بناتي إن كنتم فاعلين * لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } أكثر المفسرين من السلف والخلف - بل لايعرف عن السلف فيه نزاعا أن هذا قسم من الله بحياة رسوله صلى الله عليه و سلم وهذا من أعظم فضائله أن يقسم الرب عز و جل بحياته وهذه مزية لاتعرف لغيره ولم يوافق الزمخشري على ذلك فصرف القسم إلى أنه بحياة لوط وأنه من قول الملائكة فقال : هو على إرادة القول أي قالت الملائكة للوط عليه الصلاة و السلام : لعمرك : إنهم لفي سكرتهم يعمهون وليس في اللفظ مايدل على واحد من الأمرين بل ظاهر اللفظ وسياقه إنما يدل على ما فهمه السلف لا أهل التعطيل والاعتزال قال ابن عباس رضي الله عنهما : لعمرك أي وحياتك قال : وما أقسم الله تعالى بحياة نبي غيره والعمر واحد إلا أنهم خصوا القسم بالمفتوح لإثبات الأخف لكثرة دوران الحلف على ألسنتهم وأيضا فإن العمر حياة مخصوصة فهو عمر شريف عظيم أهل أن يقسم به لمزيته على كل عمر من أعمار بني آدم ولاريب أن عمره وحياته صلى الله عليه و سلم من أعظم النعم والآيات فهو أهل أن يقسم به والقسم به أولى من القسم بغيره من المخلوقات وقوله تعالى { يعمهون } أي يتحيرون وإنما وصف الله سبحانه اللوطية بالسكرة لأن سكرة العشق مثل سكرة الخمرة كما قال القائل :
( سكران : ... : سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران ؟ )

ومن ذلك قوله تعالى { فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما } أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسما مؤكدا بالنفي قبله على عدم إيمان الخلق حتى يحكموا رسوله في كل ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع وأحكام المعاد وسائر الصفات وغيرها ولم يثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفى عنهم الحرج وهو ضيق الصدر وتنشرح صدروهم لحكمه كل الانشراح وتنفسح له كل الانفساح وتقبله كل القبول ولم يثبت لهم الإيمان بذلك أيضا حتى ينضاف إليه مقابلة حكمة الرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض فهنا قد يحكم الرجل غيره وعنده حرج من حكمه ولا يلزم من انتفاء الحرج الرضا والتسليم والانقياد إذ قد يحكمه وينتفى الحرج عنه في تحكيمه ولكن لا ينقاد قلبه ولا يرضى كل الرضى بحكمه والتسليم أخص من انتفاء الحرج فالحرج مانع والتسليم أمر وجودي ولا يلزم من انتفاء الحرج حصوله بمجرد انتفائه إذ قد ينتفي الحرج ويبقى القلب فارغا منه ومن الرضى به والتسليم له فتأمله
وعند هذا يعلم أن الرب تبارك وتعالى أقسم على انتفاء إيمان أكثر الخلق وعند الامتحان تعلم هل هذه الأمور الثلاثة موجودة في قلب اكثر من يدعى الإسلام أم لا
والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين والحمد لله رب العالمين 

أقسام الكتاب
1 2