كتاب : التبيان في أقسام القرآن
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية

في أقسام القرآن
وهو سبحانه يقسم بأمور على أمور وإنما يقسم بنفسه الموصوفة بصفاته وآياته المستلزمة لذاته وصفاته وإقسامه ببعض المخلوقات دليل على أنه من عظيم آياته
فالقسم إما على جملة خبرية - وهو الغالب - كقوله تعالى { فورب السماء والأرض إنه لحق } وإما على جملة طلبية كقوله تعالى { فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون } مع أن هذا قد يراد به تحقيق المقسم عليه فيكون من باب الخبر وقد يراد تحقيق القسم
والمقسم عليه يراد بالقسم توكيده وتحقيقه فلابد أن يكون بما يحسن فيه ذلك كالأمور الغائبة والخفية إذا أقسم على ثبوتها فأما الأمور الظاهرة المشهورة كالشمس والقمر والليل والنهار والسماء والأرض فهذه يقسم بها ولايقسم عليها
وما أقسم عليه الرب فهو من آياته فيجوز أن يكون مقسما به ولا ينعكس
وهو سبحانه يذكر جواب القسم تارة وهو الغالب وتارة يحذفه كما يحذف جواب لو كثيرا كقوله تعالى { كلا لو تعلمون علم اليقين } وقوله { ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض } { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } { ولو ترى إذ وقفوا على ربهم } ومثل هذا حذفه من أحسن الكلام لأن المراد أنك لو رأيت ذلك لرأيت هولا عظيما فليس في ذكر الجواب زيادة على مادل عليه الشرط وهذه عادة الناس في كلامهم إذا رأوا أمورا عجيبة وأرادو أن يخبروا بها الغائب عنها يقول أحدهم : لو رأيت ماجرى يوم كذا بموضع كذا ؟ ومنه قوله تعالى { ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب } فالمعنى في أظهر الوجهين : لو يرى الذي ظلموا في الدنيا إذ يرون العذاب في الآخرة والجواب محذوف ثم قال : { أن القوة لله جميعا } كما قال تعالى { ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت } { ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة } أي لو ترى ذلك الوقت ومافيه
وأما القسم فإن الحالف قد يحلف على الشيء ثم يكرر القسم فلا يعيد المقسم عليه لأنه قد عرف مايحلف عليه فيقول : والله إن لي عليه ألف درهم ثم يقول : ورب السموات والأرض والذي نفسي بيده وحق القرآن العظيم ولايعيد القسم عليه لأنه قد عرف المراد
والقسم لما كان يكثر في الكلام اختصر فصار فعل القسم يحذف ويكتفى بالباء ثم عوض من الباء الواو في الأسماء الظاهرة والتاء في أسماء الله كقوله { وتالله لأكيدن أصنامكم } وقد نقل : ترب الكعبة وأما الواو فكثيرة

إذا عرف هذا فهو سبحانه يقسم على أصول الإيمان التي يجب على الخلق معرفتها تارة يقسم على التوحيد وتارة يقسم على أن القرآن حق وتارة على أن الرسول حق وتارة على الجزاء والوعد والوعيد وتارة على حال الإنسان
فالأول كقوله { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } والثاني كقوله { فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم } وقوله { حم * والكتاب المبين * إنا أنزلناه في ليلة مباركة } { حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا } إذا جعل ذلك جواب القسم كما هو الظاهر وإن قيل : بل الجواب محذوف كان كقوله : { ص والقرآن ذي الذكر } فإنه هنا حذف الجواب ومن قال : إن الجواب هو قوله { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } فقد أبعد النجعة
والقسم على الرسول كقوله { والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين * على صراط مستقيم } إذا قيل هو الجواب وإن قيل الجواب محذوف كان كما ذكر ومنه { ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون * وإن لك لأجرا غير ممنون } ومنه { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى } إلى آخر القصة ومنه قوله { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون } وقوله { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس * إنه لقول رسول كريم * ذي قوة عند ذي العرش مكين }
وأما القسم على الجزاء والوعد والوعيد ففي مثل قوله { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } ثم ذكر تفصيل الجزاء وذكر الجنة والنار وذكر أن في السماء رزقهم وما يوعدون ثم قال { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } ومثل قوله { والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع } ومثل { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع }
وقد أمر نبيه أن يقسم على الجزاء والمعاد في ثلاث آيات فقال تعالى { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن } وقال تعالى { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال تعالى { ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين }
وهذا لأن المعاد إنما يعلمه عامة الناس بأخبار الأنبياء وإن كان من الناس من قد يعلمه بالنظر وقد تنازع النظار في ذلك فقالت طائفة أنه لا يمكن علمه إلا بأسمع وهو الخبر وهو قول من لا يرى تعليل الأفعال ويقولون لا ندري ما يفعل الله إلا بعادة أو خبر كما يقوله جهم بن صفوان ومن تبعه و الأشعري وأتباعه وكثير من أهل الكلام في الفقه والحديث من أتباع الأئمة الأربعة بخلاف العلم بالصانع فإن الناس متفقون على أنه لا يعلم إلا بالفعل وإن كان ذلك مما نبهت الرسول عليه وصفاته قد تعلم بالعقل وتعلم بالسمع أيضا كما قد بسط في موضوع آخر
وأما القسم على أحوال الإنسان فكقوله { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى * إن سعيكم لشتى } الآية ولفظ السعي هو العمل لكن يراد به العمل الذي يهتم به صاحبه ويجتهد فيه بحسب الإمكان فإن كان يفتقر إلى عدو بدنه عدا وإن كان يفتقر إلى جمع أعوانه جمع وإن كان يفتقر إلى تفريغ له وترك غيره فعل ذلك فلفظ السعي في القرآن جاء بهذا الإعتبار ليس هو مرادفا للفظ العمل كما ظنه طائفة بل هو عمل مخصوص يهتم به صاحبه ويجتهد فيه لهذا قال في الجمعة { فاسعوا إلى ذكر الله } وهذه أحسن من قراءة من قرأ { فاسعوا إلى ذكر الله } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وائتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم

فصل
وا وما فاتكم فأتموا ] فلم ينه عن السعي إلى الصلاة فإن الله أمر بالسعي إليها بل نهاهم أن يأتوا إليها يسعون فنهاهم عن الإتيان المتصف بسعي صاحبه والإتيان فعل البدن وسعيه عدو البدن وهو منهي عنه وأما السعي المأمور به في الآية فهو الذهاب إليها على وجه الإهتمام بها والتفرغ لها عن الأعمال الشاغلة من بيع وغيره والإقبال بالقلب على السعي إليها وكذلك قوله في قصة فرعون لما قال له موسى { هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى * فأراه الآية الكبرى * فكذب وعصى * ثم أدبر يسعى * فحشر فنادى } فهذا اهتمام واجتهاد في حشر رعيته ومناداته فيهم وكذلك قوله : { وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها } هو عمل بهمة واجتهاد ومنه سمى الساعى على الصدقة والساعي على الأرملة واليتيم ومنه قوله { إن سعيكم لشتى } وهو العمل الذي يقصده صاحبه ويعتني به ليترتب عليه ثواب أو عقاب بخلاف المباحاة المعتادة فإنها لم تدخل في هذا السعي قال تعالى { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } ومنه قوله تعالى { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن } وقوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا }

وأقسم على صفة الإنسان بقوله { والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا * فوسطن به جمعا * إن الإنسان لربه لكنود } وأقسم على عاقبته وهو قسم على الجزاء في قوله { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } وفي قوله { والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات }
وحذف جواب القسم لأنه قد علم بأنه يقسم على هذه الأمور وهي متلازمة فمتى ثبت أن الرسول حق ثبت القرآن والمعاد ومتى ثبت أن القرآن حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدق الرسول الذي جاء به ومتى ثبت أن الوعد والوعيد حق ثبت صدقه وصدق الكتاب الذي جاء به
والجواب يحذف تارة ولا يراد ذكره بل يراد تعظيم المقسم به وأنه مما يحلف به كقوله النبي صلى الله عليه و سلم [ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت ] ولكن هذا يذكر معه الفعل دون مجرد حرف القسم كقولك : فلان يحلف بالله وحده وأنا أحلف بالحالق لا بالمخلوق ونحو ذلك والنصراني يحلف بالصليب والمسيح وفلان أكذب مايكون إذا حلف بالله
وقد يكون هذا النوح بحرف القسم مجردا كما في الحديث : كان أكثر يمين رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لا ومقلب القلوب ] وكان بعض السلف إذا اجتهد في يمينه قال : والله الذي لا إله إلاهو وتارة يحذف الجواب وهو مراد إما لكونه قد ظهر وعرف إما بدلاله الحال كمن قيل له كل فقال لا والله الذي لا إله إلا هو أو بدلالة السياق وأكثر ما يكون هذا إذا كان في نفس المقسم به مايدل على المقسم عليه وهي طريقة القرآن فإن المقصود يحصل بذكر المقسم به فيكون حذف المقسم عليه أبلغ وأوجز كمن أراد أن يقسم على أن الرسول حق فقال : والذي أرسل محمدا بالهدى ودين الحق وأيده بالآيات البينات وأظهر دعوته وأعلى كلمته ونحو ذلك فلا يحتاج إلى ذكر الجواب استغناء عنه بما في القسم من الدلالة عليه كمن أراد أن يقسم على التوحيد وصفات الرب ونعوت جلاله فقال : والله الذي لا إله إلاهو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الأول الآخر الظاهر الباطن وكمن أراد أن يقسم على علوه فوق عرشه فقال : والذي استوى على عرشه فوق سمواته يصعد إليه الكلم الطيب وترفع إليه الأيدي وتعرج الملائكة والروح إليه ونحو ذلك
وكذلك من حلف لشخص أنه يحبه ويعظمه فقال : والذي ملأ قلبي من محبتك وإجلالك ومهابتك ونظائر ذلك - لم يحتج إلى جواب القسم وكان في المقسم به مايدل على المقسم عليه فمن هذا قوله تعالى { ص والقرآن ذي الذكر } فإن في المقسم به من تعظيم القرآن ووصفه بأنه ذي الذكر المتضمن لتذكير العباد مايحتاجون إليه وللشرف والقدر مايدل على المقسم عليه وكونه حقا من عند الله غير مفترى كمايقوله الكافرون وهذا معنى قول كثير من المفسرين - متقدميهم ومتأخريهم : إن الجواب محذوف تقديره : إن القرآن لحق وهذا مطرد في كل ماشأنه ذلك وأما قول بعضهم إن الجواب قوله تعالى { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } فاعترض بين القسم وجوابه بقوله { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } فبعيد لأن كم لا يتلقى بها القسم فلا تقول : والله كم أنفقت مالا وبالله كم أعتقت عبدا وهؤلاء لما لم يخف عليهم ذلك احتاجوا أن يقدروا ما يتلقى بها الجواب أي لكم أهلكنا وأبعد من هذا قول من قال : الجواب في قوله { إن كل إلا كذب الرسل } وأبعد منه قول من قال : الجواب { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } وأبعد منه قول من قال : الجواب قوله { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } وأقرب ماقيل في الجواب لفظا وإن كان بعيدا معنى عن قتاده وغيره : إنه في قوله { بل الذين كفروا } كما قال { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } وشرح صاحب النظم هذا القول فقال : معنى بل توكيد الخبر الذي بعده فصار كإن الشديدة في تثبيت مابعدها وقيل ههنا بمنزلة إن لأنه يؤكد ما بعده من الخبر وإن كان له معنى سواه في نفي خبر متقدم فكأنه عز و جل قال : { ص والقرآن ذي الذكر * بل الذين كفروا في عزة وشقاق } كما تقول : والله إن زيدا لقائم قال : واحتج صاحب هذا القول بأن هذا النظم وإن لم يكن للعربية فيه أصل ولا لها رسم فيحتمل أن يكون نظما أحدثه الله عزوجل لما بينا من احتمال ( أن يكون ) بل بمعنى أن 1هـ
وقال أبو القاسم الزجاج قال النحويون : إن بل تقع في جواب القسم كما تقع إن لأن المراد بها توكيد الخبر وهذا القول اختيار أبي حاتم وحكاه الأخفش عن الكوفيين وقرره بعضهم بأن قال : أصل الكلام بل الذين كفروا في عزة وشقاق والقرآن ذي الذكر فلما قدم القسم ترك على حاله قال الأخفش : وهذا يقوله الكوفيون وليس بجيد في العربية لو قلت : والله قام وأنت تريد قام والله لم يحسن وقال النحاس : هذا خطأ على مذهب النحويين لأنه إذا ابتدأ بالقسم وكان الكلام معتمدا عليه لم يكن بد من الجواب وأجمعوا أنه لايجوز : والله قام عمرو بمعنى قام عمرو والله لأن الكلام يعتمد على القسم وذكر الأخفش وجها آخر في جواب القسم فقال : يجوز أن يكون لصاد معنى يقع عليه القسم لاندري نحن ماهو كأنه يقول : الحق والله قال أبو الحسن الواحدي : وهذا الذي قال الأخفش صحيح المعنى على قول من يقول ( ص ) الصادق الله أو صدق محمد وذكر الفراء هذا الوجه أيضا فقال ( ص ) جواب القسم وقال هو كقولك وجب والله وترك والله فهي جواب لقوله { والقرآن } وذكر النحاس وغيره وجها آخر في الجواب وهو أنه محذوف تقديره : والقرآن ذي الذكر فالأمر كمايقوله هؤلاء الكفار ودل على المحذوف قوله تعالى { بل الذين كفروا } وهذا اختيار ابن جرير وهو مخرج من قوله قتادة وشرحه الجرجاني فقال بل رافع لخبر قبله ومثبت لخبر بعده فقد ظهر مابعده وظهر ماقبله ومابعده دليل على ماقبله فالظاهر يدل على الباطن فإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } مخالفا لهذا المضمر فكأنه قيل : والقرآن ذي الذكر إن الذين كفروا يزعمون أنهم على الحق أو كل مافي هذا المعنى فهذهة ستة أوجه سوى مابدأنا به في جواب القسم والله أعلم
ونظير هذا قوله تعالى { ق والقرآن المجيد * بل عجبوا } قيل جواب القسم ( قد علمنا ) وقال الفراء : محذوف دل عليه قوله { أإذا متنا } أي لتبعثن وقيل قوله { بل عجبوا } كما تقدم بيانه

ومن ذلك قوله { لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } فقد تضمن الأقسام ثبوت الجزاء ومستحق الجزاء وذلك يتضمن إثبات الرسالة والقرآن والمعاد وهو سبحانه يقسم على هذه الأمور الثلاثة ويقررها أبلغ التقرير لحاجة النفوس إلى معرفتها والإيمان بها وأمر رسوله أن يقسم عليه كما قال تعالى { ويستنبئونك : أحق هو ؟ قل : إي وربي إنه لحق } وقال تعالى { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم } وقال تعالى { زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير } فهذه ثلاثة مواضع لارابع لها يأمر نبيه صلى الله عليه و سلم أن يقسم على ما أقسم عليه هو سبحانه من النبوة والقرآن والمعاد
فأقسم سبحانه لعباده وأمر أصدق خلقه أن يقسم لهم وأقام البراهيم القطعية على ثبوت ما أقسم عليه فأبى الظالمون إلا جحودا وتكذبيا
واختلف في النفس المقسم بها ههنا هل هي خاصة أوعامة ؟ على قولين بناء على الأقوال الثلاثة في اللوامة فقال ابن عباس : كل نفس تلوم نفسها يوم القيام يلوم المحسن نفسه أن لايكون ازداد إحسانا ويلوم المسيء نفسه أن لايكون رجع عن إساءته واختار الفراء قال : ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيرا قالت : هلا ازددت خيرا ؟ وإن كانت عملت سوءا قالتك يا ليتني لم أفعل
والقول الثاني : أنهاخاصة ؟ قال الحسنك هي النفس المؤمنة وأن المؤمن - والله - لاتراه إلا يلوم نفسه على كل حالة لأنه يستقصر في كل ماتفعل فيندم ويلوم نفسه وإن الفاجر يمضي قدما لا يعاتب نفسه
والقول الثالث : أنها النفس الكافرة وحدها قاله قتاده ومقاتل وهي النفس الكافرة تلوم نفسها في الآخرة على مافرطت في أمر الله
قال شيخنا : والأظهر أن المراد نفس الإنسان مطلقا فإن نفس كل إنسان لوامة كما أقسم بجنس النفس في قوله { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } فإنه لابد لكل إنسان أن يلوم نفسه أوغيره على أمره ثم هذا اللوم قد يكون محمودا وقد يكون مذموما كماقال تعالى { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون * قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين } وقال تعالى { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } فهذا اللوم غير محمود وفي الصحيحين في قصة احتجاج آدم وموسى [ أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق ؟ ] فحج آدم موسى فهو سبحانه يقسم على صفة النفس اللوامة كقوله { إن الإنسان لربه لكنود } وعلى جزائها كقوله { فوربك لنسألنهم أجمعين } وعلىتباين عملها كقوله { إن سعيكم لشتى } وكل نفس لوامة فالنفس السعيدة تلوم على فعل الشر وترك الخير فتبادر إلى التوبة والنفس الشقية بالضد من ذلك
وجمع سبحانه في القسم بين محل الجزاء وهو يوم القيامة ومحل الكسب وهو النفس اللوامة ونبه سبحانه بكونها لوامة على شدة حاجتها وفاقتها وضرورتها إلى من يعرفها الخير والشر ويدلها عليه ويرشدها إليه ويلهمها إياه فيجعلها مريدة للخير مرشدة له كارهة للشر مجانبة له لتخلص من اللوم ومن شر ما تلوم عليه ولأنها متلومة مترددة لا تثبت على حال واحدة فهي محتاجة إلى من يعرفا ماهو أنفع لها في معاشها ومعادها فتؤثرة وتلوم نفسها عليه إذا فاتها فتتوب منه إن كانت سعيدة ولتقوم عليها حجة عدله فيكون لومها في القيامة لنفسا عليه لوما بحق قد أعذر الله خالقها وفاطرها إليها فيه ففي صفة اللوم تنبيه على ضرورتها إلى التصديق بالرسالة والقرآن وأنها لاغنى لها عن ذلك ولا صلاح ولا فلاح بدونه البتة ولما كان يوم معادها هو محل ظهور هذا اللوم وترتب أثره عليه قرن بينهما في الذكر

ومن ذلك قوله تعالى { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } قال الزجاج وغيره : جواب القسم { قد أفلح من زكاها } ولما طال الكلام حسن حذف اللام من الجواب
وقد تضمن هذا القسم الأقسام بالخالق والمخلوق فأقسم بالسماء وبانيها والأرض وطاحيها والنفس ومسويها
وقد قيل إن مصدرية فيكون الأقسام بنفس فعله تعالى فيكون قد أقسم بالمصنوع الدال عليه وبصنعته الدالة على كمال علمه وقدرته وحكمته وتوحيده ولما كانت حركة الشمس والقمر والليل والنهار أمرا يشهد الناس حدوثه شيئا فشيئا ويعلمون أن الحادث لابد له من محدث كان العلم بذلك منزلا منزلة ذكر المحدث له لفظا فلم يذكر الفاعل في الأقسام الأربعة
ولهذا سلك طائفة من النظار طريق الإستدلال بالزمان على الصانع وهو استدلال صحيح قد نبه عليه القرآن في غير موضع كقوله { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
ولما كانت السماء والأرض ثابتتين حتى ظن من ظن أنهما قد يمتان ذكر مع الأقسام بهما بانيهما ومبدعهما وكذلك النفس فإن حدوثها غير مشهود حتى ظن بعضهم قدمها فذكر مع الأقسام بها مسويها وفاطرها مع ما في ذكر بناء السماء وطحو الأرض وتسوية النفس من الدلالة على الرحمة والحكمة والعناية بالخلق فإن بناء السماء يدل على أنها كالقبة العالية على الأرض وجعلها سقفا لهذا العالم والطحو هو مد الأرض وبسطها وتوسيعها ليستقر عليها الأنام والحيوان ويمكن فيها البناء والغراس والزرع وهو متضمن لنضوب الماء عنها وهو مما حير عقول الطبائعيين حيث كان مقتضى الطبيعة أن يغمرها كثرة الماء فبروز جانب منها على خلاف مقتضى الطبيعة وكونه هذا الجانب المعين دون غيره مع استاء الجوانب في الشكل الكروي يقتضي تخصيصا فلم يحدوا بدا أن يقولوا : عناية الصانع اقتضت ذلك قلنا فنعم إذا ولكن عناية من لا مشيئة له ولا إرادة ولا اختيار ولا علم بمعين أصلا كما تقولونه فيه محال فعنايته تقتضي ثبوت صفات كماله ونعوت جلاله وأنه الفاعل يفعل باختيار ما يريد
وكذلك النفس أقسم بها وبمن سواها وألهمها فجورها وتقواها فإن من الناس من يقول قديمة لا مبدع لها ومنهم من يقول بل هي التي تبدع فجورها وتقواها فذكر سبحانه أنه هو الذي سواها وأبدعها وأنه هو الذي ألهمها الفجور والتقوى فأعلمنا أنه خالق نفوسا وأعمالها وذكر لفظ التسوية كما ذكره في قوله { ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك } وفي قوله { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } إيذانا بدخول البدن في لفظ النفس كقوله { خلقكم من نفس واحدة } وقوله { فسلموا على أنفسكم } { ولا تقتلوا أنفسكم } { لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } ونظائره وباجتماع الروح مع البدن تصبر النفس فاجرة أو تقية وإلا فالروح بدون البدن لا فجور لها
وقوله { قد أفلح من زكاها } الضمير مرفوع في { زكاها } عائد على ( من ) وكذلك هو في { دساها } المعنى قد أفلح من زكى نفسه وقد خاب من دساها هذا القول هو الصحيح وهو نظير قوله { قد أفلح من تزكى } وهو سبحانه إذا ذكر الفلاح علقه بفعل المفلح كقوله { قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون } إلى آخر الآيات وقوله { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } وقوله { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } ونظائره قال الحسن : قد أفلح من زكى نفسه وحملها على طاعة الله وقد خاب من أهلكها وحملها على معصية الله وقاله قتادة وقال ابن قتيبة : يريد أفلح من زكى نفسه أي نماها وأعلاها بالطاعة والبر والصدقة واصطناع المعروف وقد خاب من دساها أي نقصها وأخفاها بترك عمل البر وركوب المعاصي والفاجر أبدا خفي المكان زمن المروءة غامض الشخص ناكس الرأس فكأن المتصف بارتكاب الفواحش دس نفسه وقمعها ومصطنع المعروف شهر نفسه ورفعها وكانت أجواد العرب تنزل الربى و بقاع الأرض لتشهر أنفسها للمعتفين وتوقد النيران في الليل للطارقين وكانت اللئام تنزل الأولاج والأطراف والأهضام لتخفى أماكنها على الطالبين فأولئك أعلوا أنفسهم وزكوها وأولئك أخفوا أنفسهم ودسوها وأنشد :
( وبوأت بيتك في معلم رحيب المباحات والمسرح )
( كفيت العفاة طلاب القرى ونبح الكلاب لمستنبح )
وقال أبو العباس : سألت ابن الأعرابي عن قوله ( وقد خاب من دساها ) : فقال دسى معناه دس نفسه مع الصالحين وليس منهم وعلى هذا فالمعنى أخفى نفسه في الصالحين يرى الناس أنه منهم و هو منطو على غير ما ينطوي عليه الصالحون وقال طائفة أخرى : الضمير يرجع إلى الله سبحانه قال ابن عباس في رواية عطاء : قد أفلحت نفس زكاها الله وأصلحها وهذا قول مجاهد وعكرمة والكلبي وسعيد بن جبير ومقاتل قالوا : سعدت نفس وأفلحت نفس أصلحها الله وطهرها ووفقها للطاعة حتى عملت بها وخابت وخسرت نفس أضلها الله وأغواها وأبطلها وأهلكها
قال أرباب هذا القول : قد أقسم الله بهذه الأشياء التي ذكرها لأنها تدل على وحدانيته وعلى فلاح من طهره وخسارة من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه وإهلاكها بالمعصية من غير قدر سابق وقضاء متقدم قالوا : وهذا أبلغ في التوحيد الذي سيقت له هذه السورة قالوا : ويدل عليه قوله { فألهمها فجورها وتقواها } قالوا : ويشهد له حديث نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : إنتبهت نفسي ليلة فوجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو يقول [ رب أعط نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ] قالوا فهذا الدعاء هو تأويل الآية بدليل الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا قرأ { قد أفلح من زكاها } وقف ثم قال [ اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها وزكها أنت خير من زكاها ] قالوا : وفي هذا ما يبين أن الأمر كله له سبحانه فإنه هو خالق النفس وملهمها الفجور والتقوى وهو مزكيها ومدسيها فليس للعبد في الأمر شيء ولا هو مالك من أمر نفسه شيئا
قال أرباب القول الأول : هذا القول وإن كان جائزا في العربية حاملا للضمير المنصوب على معنى من وإن كان لفظها مذكرا كما في قوله { ومنهم من يستمعون إليك } جمع الضمير وإن كان لفظ من مفردا حملا على نظمها فهذا إنما يحسن حيث لا يقع لبس في مفسر الضمائر وههنا قد تقدم لفظ من والضمير المرفوع في ( زكاها ) يستحقه لفظا ومعنى فهو أولى به ثم يعود الضمير المنصوب على النفس التي هي أولى به لفظا ومعنى فهذا هو النظم الطبيعي الذي يقتضيه سياق الكلام ووضعه وأما عود الضمير الذي يلي من على الموصول السابق وهو قوله { وما سواها } وإخلاء جاره الملاصق له وهو ( من ) ثم عود الضمير المنصوب وهو مؤنث على من ولفظه مذكر دون النفس المؤنثة فهذا يجوز لو لم يكن للكلام محمل غيره أحسن منه فأما إذا كان سياق الكلام ونظمه يقتضي خلافه ولم تدع الضرورة إليه فالحمل عليه ممتنع
قالوا : والقول الذي ذكرناه أرجح من جهة المعنى لوجوده :
( أحدها ) أن فيه إشارة إلى ما تقدم من تعليق الفلاح على فعل العبد واخيتاره كما هي طريقة القرآن ( الثاني ) أن فيه زيادة وهي إثبات فعل العبد وكسبه وما يثاب وما يعاقب عليه وفي قوله { فألهمها فجورها وتقواها } إثبات القضاء والقدر السابق فتضمنت الآيتان هذين الأصلين العظيمين وهما كثيرا ما يقترنان في القرآن كقوله { إنه تذكرة * فمن شاء ذكره * وما يذكرون إلا أن يشاء الله } وقوله { لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } فتضمنت الآيتان الرد على القدرية والجبرية فإنما يزكيها بعد تزكية الله لها بتوفيقه وإعانته وإنما يدسيها بعد تدسية الله لها بخذلانه والتخلية بينه وبين نفسه بخلاف ما إذا كان المعنى على القدر السابق المحض لم يبق للكسب وفعل العبد ههنا ذكر البتة

وذكر في هذه السورة ثمود دون غيرهم من الأمم المكذبة فقال شيخنا : هذا - والله أعلم - من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى فإنه لم يكن في الأمم المكذبة أخف ذنبا وعذابا منهم إذ لم يذكر عنهم من الذنوب ماذكر من عاد ومدين وقوم لوط وغيرهم ولهذا لماذكرهم وعادا قال { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون * فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون } وكذلك إذا ذكرهم مع الأمم المكذبة لم يذكر عنهم ماذكر عن أولئك من التجبر والتكبر والأعمال السيئة كاللواط وبخس المكيال والميزان والفساد في الأرض كمافي سورة هود والشعراء وغيرهما فكان في قوم لوط - مع الشرك - إتيان الفاحشة التي لم يسبقوا إليها وفي قوم عاد - مع الشرك - التجبر والتكبر والتوسع في الدنيا وشدة البطش وقولهم { من أشد منا قوة } وفي أصحاب مدين - مع الشكر - الظلم في الأموال وفي قوم فرعون - مع الشرك - الفساد في الأرض والعلو وكان عذاب كل أمة بحسب ذنوبهم وجرائمهم فعذب قوم عاد بالريح الشديدة العاتية التي لايقوم لهاشيء وعذب قوم لوط بأنواع من العذاب لم يعذب بها أمة غيرهم فجمع لهم بين الهلاك والرجم بالحجارة من السماء وطمس الأبصار وقلب ديارهم عليهم بأن جعل عاليها سافلها والخسف بهم إلىأسفل سافلين وعذب قوم شعيب بالنار التي أحرقتهم وأحرقت تلك الأموال التي اكتسبوها بالظلم والعدوان وأما ثمود فأهلكوا بالصيحة فماتوا في الحال فإذا كان عذاب هؤلاء - وذنبهم مع الشرك عقر الناقة التي جعلها الله آية لهم - فمن انتهك محارم الله واستخف بأوامره ونواهيه وعقر عباده وسفك دماءهم كان أشد عذابا ومن اعتبر أحوال العالم قديما وحديثا ومايعاقب به من سعي في الأرض بالفساد وسفك الدماء بغير حق وأقام الفتن واستهان بحرمات الله علم أن النجاة في الدنيا والآخرة للذين آمنوا وكان يتقون

ومن ذلك قوله تعالى { والفجر * وليال عشر * والشفع والوتر * والليل إذا يسر * هل في ذلك قسم لذي حجر } قيل جوابه { إن ربك لبالمرصاد } وهذا ضعيف لوجهين ( أحدهما ) طول الكلام والفصل بين القسم وجوابه بجمل كثيرة ( والثاني ) قوله { إن ربك لبالمرصاد } ذكر لتقرير عقوبة الله الأمم المذكورة وهي عاد وثمود وفرعون فذكر عقوبتهم ثم قال مقررا ومحذرا { إن ربك لبالمرصاد } فلا نرى تعلقه بذلك دون القسم وأحسن من هذا أن يقال : إن الفجر في الليالي العشر زمن يتضمن أفعالا معظمة من المناسك وأمكنة معظمة وهي محلها وذلك من شعائر الله المتضمنة خضوع العبد لربه فإن الحج والنسك عبودية محضة لله وذلك وخضوع لعظمته وذلك ضد ما وصف به عادا وثمود وفرعون من العتو والتكبر والتجبر فإن النسك يتضمن غاية الخضوع لله وهؤلاء الأمم عتوا وتكبروا عن أمر بهم وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ مامن أيام العمل الصالح فيمن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر ] قيل يارسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال [ ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله لم يرجع من ذلك بشيء ] فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عزوجل به
{ والفجر } إن أريد به جنس الفجر كماهو ظالم اللفظ فإنه يتضمن وقت صلاة الصبح التي هي أول الصلوات فافتتح القسم بمايتضمن أول الصلوات وختمه بقوله { والليل إذا يسر } المتضمن لآخر الصلوات وإن أريد بالفجر فجر مخصوص فهو فجر يوم النحر وليلته التي هي ليلة عرفة فتلك الليلة من أفضل ليالي العام وما رؤى الشيطان في ليلة أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه فيها وذلك الفجر فجر يوم النحر الذي هو أفضل الأيام عند الله كماثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ أفضل الأيام عند الله يوم النحر ] رواه أبو داود بإسناد صحيح وهو آخر أيام العشر وهو يوم الحج الأكبر كماثبت في صحيح البخاري وغيره وهو اليوم الذي أذن فيه مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم [ إن الله بريء من المشركين ورسوله وأن لايحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ] ولا خلاف أن المؤذن أذن بذلك في يوم النحر لايوم عرفة وذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم امتثالا وتأويلا للقرآن
وعلى هذا فقد تضمن القسم المناسك والصلوات وهما المختصان بعبادة الله والخضوع له والتواضع لعظمته ولهذا قال الخليل عليه السلام { إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } وقيل لخاتم الرسل صلى الله عليه و سلم { فصل لربك وانحر } بخلاف حال المشركين المتكبرين الذين لايعبدون الله وحده بل يشركون به ويستكبرون عن عبادته كحال من ذكر في هذه السورة من قوم عاد وثمود وفرعون
وذكر سبحانه من جملة هذه الأقسام ( الشفع والوتر ) إذ هذه الشعائر المعظمة منها شفع ومنها وتر في الأمكنة والأزمنة والأعمال فالصفا والمروة شفع والبت وتر والجمرات وتر ومنى ومزدلفة شفع وعرفة وتر وأما الأعمال فالطواف وتر وركعتاه شفع والطواف بين الصفا والمروة وتر ورمي الجمار وتر كل ذلك سبع سبع وهو الأصل فإن الله وتر يحب الوتر والصلاة منها شفع ومنها وتر والوتر يوتر الشفع فتكون كلها وترا كما قال النبي صلى الله عليه و سلم [ صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة توتر لك ماقد صليت ] وأما الزمان فإن يوم عرفة وتر ويوم النحر شفع وهذا قول أكثر المفسرين وروى مجاهد عن إبن عباس : الوتر آدم وشفع بزوجته حواء وقال في رواية أخرى : الشفع آدم وحواء والوتر الله وحده وعنه رواية ثالثة الشفع يوم النحر والوتر اليوم الثالث وقال عمران بن حصين وقتادة : الشفع والوتر هي الصلاة وروى فيه حديثا مرفوعا وقال عطية العوفي الشفع الخلق قال الله تعالى { وخلقناكم أزواجا } الوتر هو الله وهذا قول الحكم قال : كل شيء شفع والله وتر وقال أبو صالح : خلق الله من كل شيء زوجين إثنين والله وتر واحد وهذا قول مجاهد ومسروق وقال الحسن : الشفع والوتر العدد كله من شفع ووتر وقال ابن زيد : الشفع والوتر الخلق كله من شفع ووتر وقال مقاتل : الشفع الأيام والليالي : والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة ؟
وذكرت أقوال أخر هذه أصولها ومدارها كلها على قولين ( أحدهما ) أن الشفع والوتر نوعان للمخلوفات والمأمورات ( والثاني ) أن الوتر الخالق والمخلوق فهو نظير ماتقدم في قوله { والشمس وضحاها } ونظير ماذكر في قوله { وشاهد ومشهود } وماذكر في قوله { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى } وقال ههنا { والليل إذا يسر } وفي سورة المدثر أقسم بالليل إذا أدبر وفي سورة التكوير أقسم بالليل إذا عسعس وقد فسر بأقبل وفسر بأدبر فإن كان المراد إقباله وحالة امتداده وسريانه وحالة إدباره وهي من آياته الدالة عليه سبحانه
وعرف الفجر باللام إذ كل أحد يعرفه ونكر الليالي العشر لأنها إنما تعرف بالعلم وأيضا فإن التنكير تعظيم لها فإن التنكير يكون للتعظيم
وفي تعريف الفجر مايدل على شهرته وأنه الفجر الذي يعرفه كل أحد ولا يجهله
فلما تضمن هذا القسم ماجاء به إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم كان في ذلك مادل على المقسم عليه ولهذا اعتبر القسم بقوله تعالى { هل في ذلك قسم لذي حجر ؟ } فإن عظمة هذا المقسم به يعرف بالنبوة وذلك يحتاج إلى حجر بحجر صاحبه عن الغفلة واتباع الهوى ويحمله على اتباع الرسل لئلا يصيبه ما أصباب من كذب الرسل كعاد وفرعون وثمود
ولما تضمن ذلك مدح الخاضعين والمتواضعين ذكر حال المستكبرين المتجبرين الطاغين ثم أخبر أنه صب عليهم سوط عذاب ونكره إما للتعظيم وإما لأن يسيرا من عذابه استأصلهم وأهلكهم ولم يكن معه بقاء ولاثبات
ثم ذكر حال الموسع عليهم في الدنيا والمقتر عليهم وأخبر أن توسعته على من وسع عليه - وإن كان إكراما له في الدنيا - فليس ذلك إكراما على الحقيقة ولا يدل على أنه كريم عنده من أهل كرامته ومحبته وأن تقتيره علىمن قتر عليه لا يدل على إهانته له وسقوط منزلته عنده بل يوسع ابتلاء وامتحانا ويقتر ابتلاء وامتحانا فيبتلى بالنعم كما يبتلى بالمصائب وسبحانه هو يبتلى عبده بنعمة تجلب له نقمة وبنعمة تجلب له نعمة أخرى وبنقمة تجلب له نقمة أخرى وبنقمة تجلب له نعمة فهذا شأن نعه ونقمه سبحانه
وتضمنت هذه السورة ذم من اغتر بقوته وسلطانه وماله وهم هؤلاء الأمم الثلاثة : قوم عاد اغتروا بقوتهم وثمود اغتروا بجنانهم وعيونهم وزروعهم وبساتينهم وقوم فرعون اغتروا بالمال والياسة فصارت عاقبتهم إلى ماقص الله علينا وهذا شأنه دائما مع كل من اغتر بشيء من ذلك لابد أن يفسده عليه ويسلبه إياه ثم ذكر سبحانه حال الإنسان في معاملته لمن هو أضعف منه كاليتيم والمسكين فلا يكرم هذا ولا يحض علىطعام هذا ثم ذكر حرصه علىجمع المال وأكله وحبه له وذلك هو الذي أوجب له عدم رحمته لليتيم والمسكين
ثم ختم السورة بمدح النفس المطمئنة وهي الخاشعة المتواضعة لربها وماتؤول إليه من كرامته ورحمته كما ذكر قبلها حال النفس الأمارة وما تؤول إليه من شدة عذابه ووثاقة

وأما سورة { لا أقسم بهذا البلد } فذكر فيها جواب القسم وهو قوله { لقد خلقنا الإنسان في كبد } وفسر الكبد بالاستواء وانتصاب القامة قال ابن عباس في رواية مقسم : منتصبا على قدميه وهذا قول أبي صالح والضحاك وإبراهيم وعكرمة وعبد الله بد شداد قال المنذر : سمعت أبا طالب يقول : الكبد الاستواء والاستقامة وفسر بالنصب هذا قول مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ورواية عن علي وعن ابن عباس قال الحسن : لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم وقال سعيد بن أبي الحسن : يكابد مصائب الدنيا وشدائد الآخرة وقال قتادة : يكابد أمر الدنيا والآخرة فلا تلقاه إلا في مشقة وروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : يعني حمله وولادته ورضاعه وفصاله ونبت أسنانه وحياته ومعاشه ومماته كل ذلك شدة قال مجاهد : حملته أمه كرها ووضعته كرها ومعيشته في شدة فهو يكابد ذلك وعلى هذا فالكبد من مكابدة الأمر وهي معاناة شدته ومشقته والرجل يكابد الليل إذا قاسى هوله وصعوبته والكبد شدة الأمر ومنه تكبد اللبن إذا غلظ واشتد ومنه الكبد لأنها دم يغلظ ويشتد وانتصاب القامة والاستواء من ذلك لأنه إنما يكون عن قوة وشدة فإن الإنسان مخلوق في شدة بكونه في الرحم ثم في القماط والرباط ثم هو على خطر عظيم عند بلوغه حال التكليف ومكابدة المعيشة والأمر والنهي ثم مكابدة الموت وما بعده في البرزخ وموقف القيامة ثم مكابدة العذاب في النار ولا راحة له إلا في الجنة
وفسر الكبد بشدة الخلق وإحكامه وقوته ومنه قول لبيد :
( يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد ؟ )
أي في شدة وعناء وهذا يشبه قوله تعالى { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } قال ابن عباس : أي خلقهم وقال أبو عبيدة : الأسر شدة الخلق يقال : فرس شديد الأسر قال وكل شيء شددته : من قتب أو غيره فهو مأسور وقال المبرد : الأسر القوى كلها وقال الليث : الأسر قوة المفاضل والأوصال وشد الله أسر فلان أي قوى خلقه وكل شيء جمع طرفاه فشد أحدهما بالآخر فقد أسر وقال الحسن : شددنا أوصالهم بعضهم إلىبعض بالعروق والعصب وقال مجاهد : هو الشرج يعني موضع البول والغائط إذا خرج الأذى تقبضا
والمقصور أنه سبحانه أقسم في سورة البلد على حال الإنسان وأقسم سبحانه بالبلد الأمين وهو مكة أم القرى
ثم أقسم بالوالد وما ولد وهو آدم وذريته في قول جمهور المفسرين وعلى هذا فقد تضمن القسم أصل المكان وأصل السكان فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم
وقوله { وأنت حل بهذا البلد } فيه قولان ( أحدهما ) أنه من الاحلال وهو ضد الإحرام ( والثاني ) أنه من الحلول وهو ضد الظعن فإن أريد به المعنى الأول فهو حلال ساكن البلد بخلاف المحرم الذي يحج ويعتمر ويرجع ولأن أمنه إنما تظهر به النعمة عند الحل من الإحرام وإلا ففي حال الإحرام هو في أمان والحرمة هناك للفعل لا للمكان والمقصود هو ذكر حرمة المكان وهي إنما تظهر بحال الحلال الذي لم يتلبس بما يقتضي أمنه ولكن على هذا ففيه تنبيه فإنه إذا أقسم به وفيه الحلال فإذا كان فيه الحرام فهو أولى بالتعظيم والأمن وكذلك إذا أريد المعنى الثاني المشتمل على رسوله وعبده فهو خير البقاع وقد اشتمل على خير العباد فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماما وهاديا لهم وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه كما هو من أعظم آياته ودلائل وحدانيته وربوبيته فمن اعتبر حال بيته وحال نبيه وجد ذلك من أظهر أدلة التوحيد والربوبية
وفي الآية قول ثالث وهو أن المعنى : وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني وقد استحل قومك خير حرمتك وهم لا يعضدون به شجرة ولا ينفرون به صيدا وهذا مروي عن شرحبيل بن سعد وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه
فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله
ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادرا على نفسه فهذا برهان مستقل بنفسه مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } وبقوله { أيحسب أن لم يره أحد ؟ } فيحصى عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه ؟
ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله { أهلكت مالا لبدا } وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه إذ لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكا له بل تقربا به إلى الله وتوصلا به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاكه له فأنكر سبحانه افتخارا وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه فيها إهلاك له
ثم وبخه بقوله { أيحسب أن لم يره أحد ؟ } وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله { أهلكت مالا لبدا } فإن ذلك في الماضي أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه ؟
ثم ذكر برهانا مقدرا أنه سبحانه أحق بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما فكيف يعطيه البصر من لم يره ؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى من لا يتكلم ولايكلم ولا يخاطب ولا يأمر ولاينهى ؟ وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه ؟ ومن جعل غيره عالما بنجدى الخير والشر - وهما طريقاهما - أليس هو أولى وأحق بالعلم منه ومن هذه إلى هذين الطريقين كيف يليق به أن يتركه سدى لا يعرفه ما يضره وما ينفعه في معاشه ومعاده ؟ وهل النبوة والرسالة إلا لتكميل هداية النجدين ؟ فدل هذا كله على إثبات الخالق وصفات كماله وصدق رسله ووعده
وهذه أصول الإيمان التي اتفقت عليها جميع الرسل من أولهم إلى آخرهم إذا تأمل الإنسان حاله وخلقه وجده من أعظم الأدلة على صحتها وثبوتها فتكفي الإنسان فكرته في نفسه وخلقه والرسل بعثوا مذكرين بما في القطر والعقول مكملين له لتقوم على العبد حجة الله بفطرته ورسالته ومع هذا فقامت عليه حجته ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة وهو تخليصها من الرق ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه عليه وهو تصديق خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها فيكون صابرا رحيما في نفسه معينا لغيره على الصبر والرحمة فمن لم يقتحم هذه العقبة وهلك دونها هلك منقطعا عن به غير واصل إليه بل محجوبا عنه
والناس قسمان : ناج وهو من قطع العقبة وصار وراءها وهالك وهو من دون العقبة وهم أكثر الخلق ولا يقتحم هذه العقبة إلا المضمرون فإنها عقبة كؤود شاقة لا يقطعها إلا خفيف الظهر وهم أصحاب الميمنة والهالكون دون العقبة الذين لم يصدقوا الخبر ولم يطيعوا الأمر فهم { أصحاب المشأمة * عليهم نار مؤصدة }
قد أطبقت عليهم فلا يستطيعون الخروج منها كما أطبقت عليهم أعمال الغى والاعتقادات الباطلة المنافية لما أخبرت به رسله فلم تخرج قلوبهم منها كذلك أطبقت عليهم هذه النار فلم تستطع أجسامهم الخروج منها
فتأمل هذه السورة على اختصارها وما اشتملت عليه من مطالب العلم والإيمان وبالله التوفيق
وأيضا فإن طريقة القرآن بذكر العلم والقدرة تهديدا وتخويفا لترتب الجزاء عليهما كما قال تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } وقوله تعالى { أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى * أرأيت إن كان على الهدى * أو أمر بالتقوى * أرأيت إن كذب وتولى * ألم يعلم بأن الله يرى } وقوله تعالى { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون } وقال { أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون } وهذا كثير جدا في القرآن وليس المراد به مجرد الأخبار بالقدرة والعلم لكن الأخبار مع ذلك بما يترتب عليهما من الجزاء بالعدل فإنه إن كان قادرا أمكن مجازاته وإذا كان عالما أمكن ذلك بالقسط والعدل ومن لم يكن قادرا لم يمكن مجازاته وإذا كان قادرا لكنه غير عالم بتفاصيل الأعمال ومقادير جزائها لم يجاز بالعدل والرب تعالى موصوف بكمال القدرة وكمال العلم فالجزاء منه موقوف على مجرد مشيئته وإرادته فحينئذ يجب على العاقل أن يطلب النجاة منه بالإخلاص والاحسان فهو اقتحام العقبة المتضمن للتوبة إلى الله تعالى و الإحسان إلى خلقه
وقال { فلا اقتحم العقبة } وهو فعل ماض ولم يكرر معه لا إما استعمالا لأداة لا كاستعمال ما وإما إجراء لهذا الفعل مجرى الدعاء نحو فلا سلم ولا عاش ونحو ذلك وإما لأن العقبة قد فسرت بمجموع أمور فاقتحامها فعل كل واحد منها فأغنى ذلك من تكريرها فكأنه قال : فلا فكل رقبة ولا أطعم ولا كان من الذين آمنوا
وقراءة من قرأ { فك رقبة } بالفعل كأنها أرجح من قراءة من قرأها بالمصدر لأن قوله { وما أدراك ما العقبة ؟ } على حد قوله { وما أدراك ما الحاقة } { وما أدراك ما يوم الدين } { وما أدراك ما هيه * نار حامية } ونظائره تعظيما لشأن العقبة وتفخيما لأمرها وهي جملة اعتراض بين المفسر والمفسر فإن قوله { فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة * ثم كان من الذين آمنوا } تفسير لاقتحام العقبة مكان شاق كؤود يقتحمه الناس حتى يصلوا إلى الجنة واقتحامه بفعل هذه الأمور فمن فعلها فقد اقتحم العقبة ويدل على ذلك قوله تعالى { ثم كان من الذين آمنوا } وهذا عطف على قوله { فك رقبة } والأحسن تناسب هذه الجمل المعطوفة التي هي تفسير لما ذكر أولا
وأيضا فإن من قرأها بالمصدر المضاف فلابد له من تقدير وهو : ما أدراك ما اقتحام العقبة ؟ واقتحامها فك رقبة وأيضا فمن قرأها بالفعل فقد طابق بين المفسر وما فسره ومن قرأها بالمصدر فقد طابق بين المفسر وبعض ما فسره فإن التفسيران كان لقوله ( اقتحم ) طابقه بقوله { ثم كان من الذين آمنوا } وما بعده دون { فك رقبة } وما يليه وإن كان لقوله ( العقبة ) طابقة { فك رقبة * أو إطعام } دون قوله { ثم كان من الذين آمنوا } وما بعده وإن كانت المطابقة حاصلة معنى فحصولها لفظا ومعنى أتم وأحسن
واختلف في هذه العقبة هل هي في الدنيا أو في الآخرة ؟ فقالت طائفة : العقبة ههنا مثل ضربة الله تعالى لمجاهدة الناس والشيطان في أعمال البر وحكوا ذلك عن الحسن ومقاتل قال الحسن : عقبة والله شديدة : مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه والشيطان وقال مقاتل : هذا مثل ضربه الله يريد أن المعتق رقبة والمطعم اليتيم والمسكين يقاحم نفسه وشيطانه مثل أن يتكلف صعود العقبة فشبه المعتق رقبة في شدته عليه بالمكلف صعود العقبة وهذا قول أبي عبيدة وقالت طائفة : بل هي عقبة حققة يصعدها الناس قال عطاء : هي عقبة جهنم وقال الكلبي : هي عقبة بين الجنة والنار وهذا قول مقاتل إنها عقبة جهنم وهذا قول مقاتل إنها عقبة جهنم وقال مجاهد والضحاك : هي الصراط يضرب على جهنم وهذا لعله قول الكلبي وقول هؤلاء أصح نظرا وأثرا ولغة قال قتادة : فإنها عقبة شديدة فاقتحموها بطاعة الله وفي أثر معروف إن بين أيديكم عقبة كؤودا لا يقتحمها إلا المخفون أو نحو هذا وأن الله سمى الإيمان به وفعل ما أمر وترك ما نهى عقبة فكثيرا ما يقع في كلام السلف الوصية بالتضمر لاقتحام العقبة وقال بعض الصحابة : وقد حضره الموت فجعل يبكي ويقول : مالي لا أبكي وبين يدي عقبة كؤود أهبط منها إما إلى جنة وإما إلى نار فهذا القول أقرب إلى الحقيقة والآثار السلفية والمألوف من عادة القرآن في استعماله ( وما أدراك ) في الأمور الغائبة العظيمة كما تقدم والله أعلم

ومن ذلك أقسامه { والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين } فأقسم سبحانه بهذه الأمكنة الثلاثة العظيمة التي هي مظاهر أنبيائه ورسله أصحاب الشرائع العظام والأمم الكثيرة فالتين والزيتون المراد به نفس الشجرتين المعروفتين ومنبتهما وهو أرض بيته المقدس فإنها أكثر البقاع زيتونا وتينا وقد قال جماعة من المفسرين : أنه سبحانه أقسم بهذين النوعين من الثمار لمكان العزة فيهما فإن التين فاكهة مخلصة من شوائب التنغيص لاعجم له وهو على مقدار اللقمة وهوفاكهة وقوت وغذاء وأدم ويدخل في الأدوية ومزاجه من أعدل الأمزجة وطبعه طبع الحياة الحرارة والرطوبة وشكله من أحسن الأشكال ويدخل أكله والنظر إليه في باب المفرحات وله لذة يمتاز بها عن سائر الفواكه ويزيد في القوة ويوافق الباءة وينفع من البواسير والنقرس ويؤكل رطبا ويابسا وأما الزيتون ففيه من الآيات ماهو ظاهر لمن اعتبر فإن عوده يخرج ثمرا يعصر منه هذا الدهن الذي هو مادة الور وصبغ للآكلين وطيب ودواء وفيه من مصالح الخلق مالا يخفى وشجره باق على مر السنين المتطاولة وورقه لايسقط وهذا الذي قالوله حق ولاينفي أن يكون منبته مرادا فإن منبت هاتين الشجرتين حقيق بأن يكون من جملة البقاع الفاضلة الشريفة فيكون الأقسام قد تناول الشجرتين ومنبتهما وهو مظهر عبدالله ورسوله وكلمته وروحه عيسى بن مريم كما أن طور سينين مظهر عبده ورسوله وكليمه موسى فإنه الجبل الذي كلمه عليه وناجاه وأرسله إلى فرعون وقومه
ثم أقسم بالبلد الأمين وهو مكة مظهر خاتم أنبيائه ورسله سيد ولد آدم وترقى في هذا القسم من الفاضل إلى الأفضل فبدأ بموضع مظهر المسيح ثم نثى بموضع مظهر الكليم ثم ختمه بموضع مظهر عبده ورسوله وأكرم الخلق عليه ونظير هذا بعينه في التورارة التي أنزلها الله على كليمه موسى جاء الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من فاران فمجيئه من طور سيناء بعثته لموسى بن عمران وبدأ به على حكم الترتيب الواقع ثم ثنى بنبوة المسيح ثم ختمه بنبوة محمد صلى الله عليه و سلم وجعل نبوة موسى بمنزلة مجيء الصبح ونبوة المسيح بعده بمنزلة طلوع الشمس وإشراقها ونبوة صلى الله عليه و سلم وعليهما بمنزلة استعلائها وظهورها للعالم ولما كان الغالب على بني إسرائيل الحسن ذكر ذلك مطابقا للواقع ولما كان الغالب على الأمة الكاملة حكم العقل ذكرها على الترتيب العقلي وأقسم بها بداية الإنسان ونهايته فقال { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } أي في أحسن صورة وشكل واعتدال معتدل القامة مستوى الخلقة كامل الصورة أحسن من كل حيوان سواه والتقويم تصيير الشيء على ماينبغي أن يكون في التأليف والتعديل وذلك صنعته تبارك وتعالى في قبضة من تراب وخلقه بالمشاهدة من نطفة من ماء وذلك من أعظم الآيات الدالة على وجوده وقدرته وحكمته وعلمه وصفات كماله ولهذا يكررها كثيرا في القرآن لمكان العبرة بها والاستدلال بأقرب الطرق على وحدانيته وعلى المبدأ والمعاد
وتضمن إقسامه بتلك الأمكنة الثلاثة الدالة عليه وعلى علمه وحكمته - عنايته بخلقه بأن أرسل منها رسلا أنزل عليهم كتبه يعرفون العباد بربهم وحقوقه عليهم وينذرونهم بالله ونقمته ويدعونهم إلى كرامته وثوابه
ثم لما كان الناس في إجابة هذه الدعوة فريقين منهم من أجاب ومنهم من أبى ذكر حال الفريقين فذكر حال الأكثرين وهم المردودون إلى أسفل سافلين والصحيح أنه النار قاله مجاهد والحسن وأبو العالية قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : هي النار بعضها أسفل من بعض وقالت طائفة منم قتادة وعكرمة وعطاء والكلبي وإبراهيم : أنه أرذل العمر وهو مروى عن ابن عباس والصواب القول الأول لوجوه ( أحدها ) أن أرذل العمر لايسمى أسفل سافلين لا في لغة ولاعرف وإنما أسفل سافلين هو سجين الذي هو مكان الفجار كماأن عليين مكان الأبرار ( الثاني ) أن المردودين إلى أسفل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليل جدا فأكثرهم يموت ولا يرد إلى أرذل العمر ( الثالث ) أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في رد من طال عمره منهم إلى أرذل العمر فليس ذلك مختصا بالكفار حتى يستثنى منهم المؤمنين ( الرابع ) أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار بل جعله لجنس بني آدم فقال { ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } فجعلهم قسمين : قسما متوفى قبل الكبر وقسما مردودا إلى أرذل العمر ولم يسمه أسفل سافلين ( الخامس ) أنه لاتحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين وجزاء المؤمنين أجرا غير ممنون ( السادس ) أن قول من فسره بأرذل العمر يستلزم خلو الآية عن جزاء الكفار وعاقبة أمرهم ويستلزم تفسيرها بأمبر محسوس فيكون قد ترك الأخبار عن المقصود الأهم وأخبر عن امر يعرف بالحس والمشاهدة وفي ذلك هضم لمعنى الآية وتقصيره بها عن المعنى اللائق بها ( السابع ) أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في مبدأه ومعاده فمبدؤه خلقه في أحسن تقويم ومعاده رده إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون وهذا موافق لطريقة القرآن وعادته في ذكر مبدأ العبد ومعاده فما لأرذلك العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه ؟ ( الثامن ) أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس وإخراج الكلام عن ظاهره والتكلف البعيد له فإنهم إن قالوا : إن الذي يرد إلى أرذل العمر هم الكفار احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثنناء ؟ فمنهم من قدر ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لاتبطل أعمالهم إذا ردوا إلى أ رذل العمر بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة فهذا - وإن كان حقا - فإن الاستثناء إنما وقع من الرد لامن الأجر والعمل ولما علم أرباب هذا القول مافيه من التكلف خص بعضهم الذي آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرآن خاصة فقالوا من قرأ القرآن لايرد إلى أرذل العمر وهذا ضعيف من وجهين ( أحدهما ) أن الاستثناء عام في المؤمنين قارئهم وأميهم وأنه لادليل على ماادعوه وهذا لايعلم بالحس ولاخبر يجب التسليم له يقتضيه والله أعلم
( التاسع ) أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقه في أحسن تقويم وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان وعبادته وحده لاشريك له فينقله حينئذ من هذه الدار إلى أعلى عليين فإذا لم يؤمن به وأشرك به وعصى رسله نقله منها إلى أسفل سافلين وبدله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم صورة من أقبح الصور في أسفل سافلين فتلك نعمته عليه وهذا عدله فيه وعقوبته على كفران نعمته ( العاشر ) أن نظير هذه الآية قوله تعالى { فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين والمستثنون هنا هم المستثنون هناك والأجر غير الممنون هناك هو المذكور هنا والله أعلم
وقوله { غير ممنون } أي غير مقطوع ولامنقوص ولامكدر عليهم وهذا هو الصواب وقالت طائفة : غير ممنون به عليهم بل هو جزاء أعمالهم ويذكر هذا عن عكرمة ومقاتل وهو قول كثير من القدرية قال هؤلاء : إن المنة تكدر النعمة فتمام النعمة أن يكون غير ممنون بها على المنعم عليه وهذا القول خطأ قطعا أتى أربابه من تشبيه نعمة الله على عبده بإنعام المخلوق على المخلوق وهذا من أبطل الباطل فإن المنة التي تكدر النعمة هي منه المخلوق على المخلوق وأما منه الخالق على المخلوق فبها تمام النعمة ولذتها وطيبها فإنها منة حقيقية قال تعالى { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } وقال تعالى { ولقد مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } فتكون منة عليهما بنعمة الدنيا دون نعمة الآخرة وقال لموسى { ولقد مننا عليك مرة أخرى } وقال أهل الجنة { فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم } وقال تعالى { لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم } الآية وقال { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } الآية وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال للأنصار [ ألم اجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي ؟ ] فجعلوا يقولون له : الله ورسوله أمن فهذا جواب العارفين بالله ورسوله وهل المنة كل المنة إلا لله المان بفضله الذي جميع الخلق في منته وإنما قبحت منه المخلوق لأنها منة بماليس منه وهي منة يتأذى بها الممنون عليه وأما منة المنان بفضله التي ماطاب العيش إلا بمنته وكل نعمة منه في الدنيا والآخرة فهي منة يمن بها على من أنعم عليه فتلك لايجوز نفيها وكيف يجوز أن يقال إنه لامنة لله على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في دخول الجنة ؟ وهل هذاإلا من أبطل الباطل ؟
فإن قيل : هذا القدر لايخفى على من قال هذا القول من العلماء وليس مرادهم ماذكر وإنما مرادهم أنه لايمن عليهم به بل يقال : هذا جزاء أعمالكم التي عملتموها في الدنيا وهذا أجركم فأنتم تستوفون أجور أعمالكم لانمن عليكم بما أعطيناكم قيل : وهذا أيضا هو الباطل بعينه فإن ذلك الأجر ليست الأعمال ثمنا له ولامعاوضة عنه وقد قال أعلم الخلق بالله صلى الله عليه و سلم [ لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله ] قالوا : ولا أنت يارسول الله ؟ قال [ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ] فأخبر أن دخول الجنة برحمة الله وفضله وذلك محض منته عليه وعلى سائر عباده وكما أنه سبحانه المان بإرسال رسله وبالتوفيق لطاعته وبالإعانة عليها فهو المان بإعطاء الجزاء وذلك كله محض منته وفضله وجوده لاحق لأحد عليه بحيث إذا وفاه إياهم لم يكن له عليه منة فإن كان في الدنيا باطل فهذا ليس منه في شيء
فإن قيل : كيف تقولون هذا وقد أخبر رسوله عنه بأن حق العباد عليه إذا وحدوه أن لايعذبهم وقد أخبر عن نفسه أن حقا عليه نصر المؤمنين ؟ قيل : لعمر الله هذا من أعظم منته على عباده أن جعل على نفسه حقا بحكم وعده الصادق : أن يثيبهم ولايعذبهم إذا عبدوه ووحدوه ؟ فهذا من تمام منته فإنه لو عذب أهل سمواته وأرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولكن منته اقتضت أن أحق على نفسه ثواب عابديه وإجابة سائليه
( ما للعباد عليه حق واجب كلا ولاسعي لديه ضائع )
( إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله فهو الكريم الواسع )
وقوله سبحانه { فما يكذبك بعد بالدين } أصح القولين أن هذا خطاب للإنسان أي فما يكذبك بالجزاء والمعاد بعد هذا البيان وهذا البرهان ؟ فتقول إنك لا تبعث ولا تحاسب ولو تفكرت في مبدأ خلقك وصورتك لعلمت أن الذي خلقك أقدر على أن يعيدك بعد موتك وينشئك خلقا جديدا وأن ذلك لو أعجزه لأعجزه وأعياه خلقك الأول وأيضا فإن الذي كمل خلقك في أحسن تقويم بعد أن كنت نطفة من ماء مهين كيف يليق به أن يتركك سدى لايكمل ذلك بالأمر والنهي وبيان ما ينفعك ويضرك ولاتنقل لدار هي أكمل من هذه ويجعل هذا الدار طريقا لك إليها فحكمة أحكم الحاكمين تأبى ذلك وتقضي خلافه قال منصور : قلت لمحاهد { فما يكذبك بعد بالدين } عنى به محمدا ؟ فقال : معاذ الله إنما عنى به الإنسان وقال قتادة : الضمير للنبي صلى الله عليه و سلم واختاره الفراء وهذا موضع يحتاج إلى شرح وبيان
يقال : كذب الرجل إذا قال الكذب وكذبته أنا إذا نسبته إلى الكذب ولو اعتقدت صدقه وكذبته إذا اعتقدت كذبه وإن كان صادقا قال تعالى { فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك } وقال { فإنهم لا يكذبونك } فالأول بمعنى وأن ينسبوك إلى الكذب والثاني بمعنى لايعتقدون أنك كاذب ولكنهم يعاندون ويدفعون الحق بعد معرفته جحودا وعنادا هذا أصل هذه اللفظة ويتعدى الفعل إلى الخبر بنفسه وإلى خبره بالباء وبقي فيقال : كذبته بكذا وكذبته فيه والأول أكثر استعمالا ومنه قوله { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } وقوله { وكذبوا بآياتنا }
إذا عرف هذا فقوله { فما يكذبك } إختلف في ما هل هي بمعنى أي شيء يكذبك أو بمعنى من الذي يكذبك ؟ فمن جعلها بمعنى أي شيء تعين على قوله أني كون الخطاب للإنسان أي فأي شيء يجعلك بعد هذا البيان مكذبا بالدين وقد وضحت لك دلائل الصدق والتصديق ؟ ومن جعلها بمعنى فمن الذي يكذبك جعل الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم قال الفراء : كأنه يقول من يقدر على تكذبيك بالثواب والعقاب بعدما تبين له من خلق الإنسان ما وصفناه ؟ وقال قتادة : فمن يكذبك أيها الرسول بعد هذا بالدين ؟
وعلى قول قتادة والفراء إشكال من وجهين : ( أحدهما ) إقامة مامقام من وأمره سهل ( والثاني ) أن الجار والمجرور يستدعى متعلقا وهو يكذبك أي فمن يكذبك بالدين ؟ فلا يخلو إما أن يكون المعنى فمن يجعلك كاذبا بالدين أو مكذبا به ولايصح واحد منهما أما الثاني والثالث فظاهر فإن كذبته ليس معناه جعلته مكذبا أو مكذبا وإنما معناه نسبته إلى الكذب فالمعنى على هذا فمن يجعلك بعد كاذبا بالدين وهذا إنما يتعدى إليه بالباء الفعل المضاعف لا الثلاثي فلا يقال : كذب كذا وإنما يقال كذب به
وجواب هذا الإشكال أن قوله : كذب بكذا معناه كذب المخبر به ثم حذف المفعول به لظهور العلم به حتى كأنه نسي وعدوا الفعل إلى المخبر به فإذا قيل من يكذبك بكذا ؟ فهو بمعنى كذبوك بكذا سواء أي نسبوك إلى الكذب في الأخبار به بل الأشكال في قول مجاهد والجمهور فإن الخطاب إذا كان للإنسان وهو المكذب أي فاعل التكذيب فكيف يقال له : مايكذبك ؟ أي يجعلك مكذبا والمعروف كذبه إذا جعله كاذبا لامكذبا ومثل فسقه إذا جعله فاسقا لامفسقا لغيره
وجواب هذا الأشكال : أن صدق وكذب - بالتشديد - يراد به معنيان : ( أحدهما ) النسب وهي إنما تكون للمفعول كما ذكرتم ( والثاني ) الداعي والحامل على ذلك وهو يكون للفاعل قال الكسائي : يقال : ماصدقك بكذا أو ماكذبك بكذا أي ماحملك على التصديق والتكذيب
قلت وهو نظير ماأجرأك علىهذا أي ماحملك على الاجتراء عليه وما قدمك وما أخرك أي ما دعاك وحملك على التقديم والتأخير وهذا استعمال سائغ موافق للعربية وبالله التوفيق
ثم ختم السورة بقوله { أليس الله بأحكم الحاكمين } وهذا تقرير لمضمون السورة من إثبات النبوة والتوحيد والمعاد وحكمه بتضمن نصره لرسوله على من كذبه وجحد ماجاء به بالحجة والقدرة والظهور عليه وحكمه بين عباده في الدنيا بشرعه وأمره وحكمه بينهم في الآخرة بثوابه وعقابه وإن أحكم الحاكمين لايليق به تعطيل هذه الأحكام بعدما ظهرت حكمته في خلق الإنسان في أحسن تقويم ونقله في أطوار التخليق حالا بعد حال إلىأكمل الأحوال
فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن لايجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ؟ وهل ذلك إلا قدح في حكمه وحكمته ؟ فلله ما أخصر لفظ هذه السورة وأعظم شأنها وأتم معناها والله أعلم

ومن ذلك قسمه سبحانه وتعالى بـ { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * وما خلق الذكر والأنثى } وقد تقدم ذكر القسم عليه وأنه سعى الإنسان في الدنيا وجزاؤه في العقبى فهو سبحانه يقسم بالليل في جميع أحواله اذ هو من آياته الدالة عليه فأقسم به وقت غشيانه وأتى بصيغة المضارع لأنه يغشى شيئا بعد شيء وأما النهار فإنه إذا طلعت الشمس ظهر وتجلى وهلة واحدة ولهذا قال في سورة الشمس وضحاها { والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها } وأقسم به وقت سريانه كما تقدم وأقسم به وقت إدباره وأقسم به إذا عسعس فقيل معناه أدبر فيكون مطابقا لقوله { والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر } وقيل : معناه أقبل فيكون كقوله { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } فيكون قد أقسم بإقبال الليل والنهار وعلى الأول يكون القسم واقعا على انصرام الليل ومجيء النهار عقبيه وكلاهما من آيات ربوبيته
ثم أقسم بخلق الذكر والأنثى وذلك يتضمن الأقسام بالحيوان كله على اختلاف أصنافه ذكره وأنثاه وقابل بين الذكر والأنثى كما قابل بين الليل والنهار وكل ذلك من آيات ربوبيته فإن إخراج الليل والنهار بواسطة الأجرام العلوية كإخراج الذكر والأنثى بواسطة الأجرام السفلية فأخرج من الأرض ذكور الحيوان وإناثه على اختلاف أنواعها كما أخرج من السماء الليل والنهار بواسطة الشمس فيها وأقسم سبحانه بزمان السعي وهو الليل والنهار وبالساعي وهو الذكر والأنثى على اختلاف السعي كما اختلف الليل والنهار والذكر والأنثى وسعيه وزمانه مختلف وذلك دليل على اختلاف جزائه وثوابه وأنه سبحانه لا يسوي بين من اختلف سعيه في الجزاء كما لم يسو بين الليل والنهار والذكر والأنثى
ثم أخبر عن تفريقه بين عاقبة سعي المحسن وعاقبة سعي المسيء فقال { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى } فتضمنت الآيتان ذكر شرعه وذكر الأعمال وجزائها وحكمة القدر في تيسير هذا لليسرى وهذا للعسرى وأن العبد ميسر بأعماله لغاياتها ولا يظلم ربك أحدا وذكر للتيسير لليسرى ثلاثة أسباب ( أحدها ) إعطاء العبد وحذف مفعول الفعل إرادة للإطلاق والتعميم أي أعطى ما أمر به وسمحت به طبيعته وطاوعته نفسه وذلك يتناول إعطاءه من نفسه الإيمان والطاعة والإخلاص والتوبة والشكر وإعطاءه الإحسان والنفع بماله ولسانه وبدنه ونيته وقصده فتكون نفسه نفسا مطيعة باذلة لا لئيمة مانعة فالنفس المطيعة هي النافعة المحسنة التي طبعها الإحسان وإعطاء الخير اللازم والمتعدي فتعطي خيرها لنفسها ولغيرها فهي بمنزلة العين التي ينتفع الناس بشربهم منها وسقي دوابهم وأنعامهم وزرعهم فهم ينتفعون بها كيف شاءوا فهي ميسرة لذلك وهكذا الرجل المبارك ميسر للنفع حيث حل فجزاء هذا أن ييسره الله لليسرى كما كانت نفسه ميسرة للعطاء
( السبب الثاني ) التقوى وهي اجتناب ما نهى الله عنه وهذا من أعظم أسباب التيسير وضده من أسباب التعسير فالمتقي ميسرة عليه أمور دنياه وآخرته وتارك التقوى وإن يسرت عليه بعض أمور دنياه تعسر عليه من أمور آخرته بحسب ما تركه من التقوى وأما تيسير ما تيسر عليه من أمور الدنيا فلو اتقى الله لكان تيسيرها عليه أتم ولو قدر أنها لم تتيسر له فقد يسر الله له من الدنيا ما هو أنفع له مما ناله بغير التقى فإن طيب العيش ونعيم القلب ولذة الروح وفرحها وابتهاجها من أعظم نعيم الدنيا وهو أجل من نعيم أرباب الدنيا بالشهوات واللذات وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا } فأخبر أنه ييسر على المتقي مالا ييسر على غيره وقال تعالى { ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب } وهذا أيضا ييسر عليه بتقواه وقال تعالى { ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا } وهذا يتيسر عليه بإزالة ما يخشاه وإعطائه ما يحبه و يرضاه وقال { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم } وهذا يتيسر بالفرقان المتضمن النجاة والنصر والعلم والنور الفارق بين الحق والباطل وتكفير السيئات ومغفرة الذنوب وذلك غاية التيسير وقال تعالى { واتقوا الله لعلكم تفلحون } والفلاح غاية اليسر كما أن الشقاء غاية العسر وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم } فضمن لهم سبحانه بالتوقى ثلاثة أمور : ( أحدها ) أعطاهم نصيبين من رحمته نصيبا في الدنيا ونصيبا في الآخرة وقد يضاعف لهم نصيب الآخرة فيصير نصيبين ( الثاني ) أعطاهم نورا يمشون به في الظلمات ( الثالث ) مغفرة ذنوبهم وهذا غاية التيسير فقد جعل سبحانه التقوى سببا لكل يسر وترك التقوى سببا لكل عسر
( السبب الثالث ) التصديق بالحسنى وفسرت بلا إله إلا الله وفسرت بالجنة وفسرت بالخلف وهي أقوال السلف واليسرى صفة لموصوف محذوف أي الحالة والخلة اليسرى وهي فعلى من اليسرى والأقوال الثلاثة ترجع إلى أفضل الأعمال وأفضل الجزاء فمن فسرها بلا إله إلا الله فقد فسرها بمفرد يأتي بكل جمع فإن التصديق الحقيقي بلا إله إلا الله يستلزم التصديق بشعبها وفرعها كلها وجميع أصول الدين وفروعه من شعب هذه الكلمة فلا يكون العبد مصدقا بها حقيقة التصديق حتى يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه ولا يكون مؤمنا بالله إله العالمين حتى يؤمن بصفات جلاله ونعوت كماله ولا يكون مؤمنا بأن الله لا إله إلا هو حتى يسلب خصائص الإلهية عن كل موجود سواه ويسلبها عن اعتقاده وإرادته كما هي منفية في الحقيقة والخارج ولا يكون مصدقا بها من نفى الصفات العليا ولامن نفى كلامه وتكليمه ولامن نفى استوائه على عرشه وأنه يرفع إليه الكلم الطيب والعمل الصالح وأنه رفع المسيح إليه وأسرى برسوله صلى الله عليه و سلم إليه وأنه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه إلى سائر ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه و سلم ولا يكون مؤمنا بهذه الكلمة مصدقا بها على الحقيقة من نفى عموم خلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء وعلمه بكل شيء وبعثة الأجساد من القبور ليوم النشور ولا يكون مصدقا بها من زعم أنه يترك خلقه سدى لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وكذلك التصديق بها يقتضي الإذعان والإقرار بحقوقها وهي شرائع الإسلام التي هي تفصيل هذه الكلمة بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب نواهيه هو تفصيل لا إله إلا الله فالمصدق بها على الحقيقة الذي يأتي بذلك كله وكذلك لم تحصل عصمة المال والدم على الإطلاق إلا بها وبالقيام بحقها وكذلك لاتحصل النجاة من العذاب على الإطلاق إلا بها وبحقها فالعقوبة في الدنيا والآخرة على تركها أو ترك حقها
ومن فسر الحسنى بالجنة فسرها بأعلى أنواع الجزاء وكماله ومن فسرها بالخلف ذكر نوعا من الجزاء فهذا جزاء دنيوي والجنة الجزاء في الآخرة فرجع التصديق بالحسنى إلى التصديق بالإيمان وجزائه والتحقيق أنها تتناول الأمرين
وتأمل ما اشتملت عليه هذه الكلمات الثلاث - وهي الإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى - من العلم والعمل وتضمنته من الهدى ودين الحق فإن النفس لها ثلاث قوى : قول البذل والإعطاء وقوة الكف والإمتناع ودقة الإدراك والفهم ففيها قوة العلم والشعور ويتبعها قوة الحب والإرادة وقوة البعض والنفرة فهذه القوى الثلاثة عليها مدار صلاحها وسعادتها وبفسادها يكون فسادها وشقاوتها ففساد قوة العلم والشعور يوجب له التكذيب بالحسنى وفساد قوة الحب والإرادة يوجب له ترك الاعطاء وفساد قوة البعض والنفرة يوجب له ترك الاتقاء فإذا كملت قوة حبه وإرادته بإعطائه ما أمر به وقوة بغضه ونفرته باتقائه من نهى عنه وقوة علمه وشعوره بتصديقه بكلمة الإسلام وحقوقها وجزائها فقد زكى نفسه وأعدها لكل حالة يسرى فصارت النفس بذلك ميسرة لليسرى
ولما كان الدين يدور على ثلاث قواعد فعل المأمور وترك المحظور وتصديق الخبر وإن شنت قلت الدين طلب وخبر والطلب نوعان : طلب فعل وطلب ترك فقد تضمنت هذه الكلمات الثلاث مراتب الدين أجمعها فانتظم ذلك الدين كله أكمل الناس من كملت له هذه التقوى الثلاث ودخول النقص بحسب نقصانها أو بعضها فمن الناس من يكون قوة إعطائه وبذلك أتم من قوة انكفافه وتركه فقوة الترك فيه أضعف من قوة الإعطاء ومن الناس من يكون قوة التصديق أتم من قوة الاعطاء والمنع ومن الناس من يكون فيه قوة التصديق أتم من قوة الاعطاء والمنع فقوته العلمية والشعورية أتم من قوته الإرادية وبالعكس فيدخل النقص بحسب ما نقص من قوة هذه القوى الثلاث ويفوته من التيسير لليسرى بحسب ما فاته منها ومن كملت له هذه القوى يسر لكل يسرى قال ابن عباس { فسنيسره لليسرى } أي نهيئه لعمل الخير تيسر عليه أعمال الخير وقال مقاتل والكلبي والفراء : نيسره للعود إلى العمل الصالح
وحقيقة اليسرى أنها الخلة والحالة السهلة النافعة الواقعة له وهي ضد العسرى وذلك يتضمن تيسيره للخير وأسبابه فيجري الخير وييسر على قلبه ويديه ولسانه وجوارحه فتصير خصال الخير ميسرة عليه مذللة ما منقادة لا تستعصي عليه ولا تستصعب لأنه مهيأ لها ميسر لفعلها يسلك سبلها ذللا وتقاد له علما وعملا فإذا خاللته قلت هو الذي قيل فيه :
( مبارك الطلعة ميمونها يصلح للدنيا وللدين )
{ وأما من بخل } فعطل قوة الإرادة والاعطاء عن فعل ما امر به ( استغنى ) بترك التقوى عن ربه فعطل قوة الإنكفاف والترك عن فعل ما نهى عنه ( وكذب بالحسنى ) فعطل قوة العلم والشعور عن التصديق بالإيمان وجزائه { فسنيسره للعسرى } قال عطاء : سوف أحول بين قلبه وبين الإيمان بي وبرسولي وقال مقاتل : يعسر عليه أن يعطى خيرا وقال عكرمة عن ابن عباس : نيسره للشر قال الواحدي : وهذا هو القول لأن الشر يؤدي إلى العذاب فهو الخلة العسرى والخير يؤدي إلى اليسر والراحة في الجنة فهو الخلة اليسرى يقول : سنهيؤه للشر بأن يجريه على يديه قال الفراء : العرب تقول قد يسرت غنم فلان إذا تهيأت للولادة وكذلك إذا ولدت وغزرت ألبانها أي يسرت ذلك على أصحابها إنتهى
والتيسير للعسرى يكون بأمرين ( أحدهما ) أن يحول بينه وبين أسباب الخير فيجري الشر على قلبه ونيته ولسانه وجوارحه ( والثاني ) أن يحول بينه وبين الجزاء الأيسر كما حال بينه وبين أسبابه فإن قيل : كيف قابل اتقى باستغنى ؟ وهل يمكن العبد أن يستغني عن ربه طرفة عين ؟
قيل : هذا من أحسن المقابلة فإن المتقي لما استشعر فقره وفاقته وشدة حاجته إلى ربه اتقاه ولم يتعرض لسخطه وغضبه ومقته بارتكاب ما نهاه عنه فإن من كان شديد الحاجة والضرورة إلى شخص فإنه يتقي غضبه وسخطه عليه غاية الإتقاء ويجانب ما يكرهه غاية المجانية ويعتمد فعل ما يحبه ويؤثره فقابل التقوى بالإستغناء تبشيعا لحال تارك التقوى ومبالغة في ذمه بأن فعل فعل المستغني عن ربه لافعل الفقير المضطر إليه الذي لاملجأ له إلا إليه ولاغنى له عن فضله وجوده وبره طرفة عين فلله ما أحلى هذه المقابلة وما أجمع هاتين الآيتين للخيرات كلها وأسبابها والشرور كلها وأسبابها فسبحان من تعرف إلى خصائص عباده بكلامه وتجلى لهم فيه فهم لا يطلبون أثرا بعد عين ولا يستبدلون الحق بالباطل والصدق بالمين
وقد تضمنت هاتان الآيتان فصل الخطاب في مسألة القدر وإزالة كل لبس وإشكال فيها وذلك بين بحمد الله لن وفق لفهمه ولهذا أجاب بها النبي صلى الله عليه و سلم من أورد عليه السؤال الذي لا يزال الناس يلهجون به في القدر فأجاب بفصل الخطاب وأزال الأشكال ففي الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ما منكم من أحد إلا وقد علم مقعده من الجنة والنار ] قيل : يا رسول الله أفلا ندع العمل ونتكل على الكتاب ؟ قال [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ] ثم قرأ [ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى ] فقد تضمن هذا الحديث الرد على القدرية والجبرية وإثبات القدر والشرع وإثبات الكتاب الأول المتضمن لعلم الله سبحانه الأشياء قبل كونها وإثبات خلق الفعل الجزائي وهو يبطل أصول القدرية الذين يمنعون خلق الفعل مطلقا ومن أقر منهم بخلق فعل الجزاء دون الإبتداء هدم أصله ونقض قاعدته والنبي صلى الله عليه و سلم أخبر بمثل ما أخبر به الرب تعالى أن العبد ميسر لما خلق له لا مجبور فالجبر لفظ بدعى والتيسير لفظ القرآن والسنة وفي الحديث دلالة على أن الصحابة كانوا أعلم الناس بأصول الدين فإنهم تلقوها عن أعلم الخلق بالله على الإطلاق وكانوا إذا استشكوا شيئا سألوه عنه وكان يجيبهم بما يزيل الأشكال ويبين الصواب فهم العارفون بأصول الدين حقا لا أهل البدع والأهواء من المتكلمين ومن سلك سبيلهم
وفي الحديث استدلال النبي صلى الله عليه و سلم على مسائل أصول الدين بالقرآن وإرشاده الصحابة لاستنباطها منه خلافا لمن زعم أن كلام الله ورسوله لا يفيد العلم بشيء من أصول الدين ولا يجوز أن تستفاد معرفة الله وأسمائه وصفاته وأفعاله منه وعبر عن ذلك بقوله : الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين
وفي الحديث بيان أن من الناس من خلق للسعادة ومنهم من خلق للشقاوة خلافا لمن زعم أنهم كلهم خلقوا للسعادة ولكن اختاروا الشقاوة ولم يخلقوا لها وفيه إثبات الأسباب وأن العبد ميسر للأسباب الموصلة له إلى ما خلق له وفيه دليل على اشتقاق السنة من الكتاب ومطابقتها له فتأمل قوله صلى الله عليه و سلم [ إعملوا فكل ميسر لما خلق له ] ومطابقته لقوله تعالى { فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى } كيف انتظم الشرع والقدر والسبب والمسبب ؟
وهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه و سلم هو الذي فطر الله عليه عباده بل الحيوان البهيم بل مصالح الدنيا وعمارتها بذلك فلو قال كل أحد : إن قدر لي كذا وكذا فلابد أن أناله وإن لم يقدر فلا سبيل إلى نيله فلا أسعى ولا أتحرك لعد من السفهاء الجهال و لم يمكنه طرد ذلك أبدا وإن أتى به في أمر معين فهل يمكنه أن يطرد ذلك في مصالحه جميعها من طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه وهروبه مما يضاد بقاءه وينافي مصالحه أم يجد نفسه غير منفكة ألبتة عن قول النبي صلى الله عليه و سلم [ إعملوا فكل ميسر لما خلق له ] ؟ فإذا كان هذا في مصالح الدنيا وأسباب منافعها فما الموجب لتعطيله في مصالح الآخرة وأسباب السعادة والفلاح فيها ورب الدنيا والآخرة واحد فكيف يعطل ذلك في شرع الرب وأمره ونهيه ويستعمل في إرادة العبد وأغراضه وشهواته ؟ وهل هذا إلا محض الظلم والجهل والإنسان ظلوم جهول ظلوم لنفسه جهول بربه فهذا الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه و سلم وتلا عنده هاتين الآيتين موافقا لما جعله الله في عقول العقلاء وركب عليه فطر الخلائق حتى الحيوان البهيم وأرسل به جميع رسله وأنزل به جميع كتبه
ولو اتكل العبد على القدر ولم يعمل لتعطلت الشرائع وتعطلت مصالح العالم وفسد أمر الدنيا والدين وإنما يستروح إلى ذلك معطلوا الشرائع ومن خلع ربقه الأوامر والنواهي من عنقه وذلك ميراث من إخوانهم المشركين الذين دفعوا أمر الله ونهيه وعارضوا شرعه بقضائه وقدره كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون * قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } وقال تعالى { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } وقال تعالى { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } وقال تعالى { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين } ؟
فإن قيل : فالإعطاء والتقوى والتصديق بالحسنى هي من اليسرى بل هي أصل اليسرى من يسرها للعبد أولا ؟ وكذلك أضدادها ؟
قيل : الله سبحانه هو الذي يسر لعبد أسباب الخير والشر وخلق خلقه قسمين : أهل سعادة فيسرهم لليسرى وأهل شقاوة فيسرهم للعسرى واستعمل هؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها وهؤلاء في الأسباب التي خلقوا لغاياتها لا يصلحون لسواها وحكمته الباهرة تأبى أن يضع عقوبته في موضع لا تصلح له كما يأبى أن يضع كرامته وثوابه في محل لا يصلح لهما ولا يليق بهما بل حكمة آحاد خلقه تأبى ذلك ومن جعل محل المسك والرجيع واحدا فهو من أسفه السفهاء
فإن قيل : فلم جعل هذا لا يليق به إلا الكرامة وهذا لا يليق به إلا الإهانة ؟ قيل : هذا سؤال جاهل لا يستحق الجواب كأنه يقول : لم خلق الله كذا وكذا ؟
فإن قيل : وعلى هذا فهل لهذا الجاهل من جواب لعله يشفى من جهله ؟ قيل : نعم شأن الربوبية خلق الأشياء وأضدادها وخلق الملزومات ولوازمها وذلك هو محض الكمال فالعلو لازم وملزوم للسفل والليل لازم وملزوم للنهار وكمال هذا الوجود بالحر والبرد والصحو والغيم ومن لوازم الطبيعة الحيوانية الصحة والمرض واختلاف الإرادات والمرادات و وجود اللازم بدون ملزومه ممتنع ولولا خلق المتضادات لما عرف كمال القدرة والمشيئة والحكمة ولما ظهرت أحكام الأسماء والصفات وظهور أحكامها وآثارها لابد منه إذ هو مقتضى الكمال المقدس والملك التام وإذا أعطيت اسم الملك حقه - ولن تستطيع - علمت أن الخلق والأمر والثواب والعقاب والعطاء والحرمان أمر لازم لصفة الملك وأن صفة الملك تقتضي ذلك ولابد وأن تعطيل هذه الصفة أمر ممتنع فالملك الحق يقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب وأمر العباد ونهيهم وثوابهم وعقابهم وإكرام من يستحق الإكرام وإهانة من يستحق الإهانة كما تستلزم حياة الملك وعلمه وإرادته وقدرته وسمعه وبصره وكلامه ورحمته ورضاه وغضبه واستواءه على سرير ملكه يدبر أمر عباده وهذه الإشارة تكفي اللبيب في مثل هذا الموضع ويطلع منها على أرض مونقة وكنوز من المعرفة وبالله التوفيق

ثم قال تعالى { إن علينا للهدى * وإن لنا للآخرة والأولى } قيل : معناه إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلال قال قتادة : على الله البيان بيان حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته إختاره أبو إسحاق وهو قول مقاتل وجماعة وهذا المعنى حق ولكن مراد الآية شيء آخر وقيل : المعنى إن علينا للهدى والإضلال قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : يريد أرشد أوليائي إلى العمل بطاعتي وأحول بين أعدائي وبين أن يعملوا بطاعتي قال الفراء : فترك ذكر الإضلال كما قال { سرابيل تقيكم الحر } أي والبرد وهذا أضعف من القول الأول وإن كان معناه صحيحا فليس هو معنى الآية وقيل المعنى : من سلك الهدى فعلى الله سبيله كقوله { وعلى الله قصد السبيل } وهذا قول مجاهد وهو أصح الأقوال في الآية قال الواحدي : علينا للهدى أي إن الهدى يوصل صاحبه إلى الله وإلى ثوابه وجنته وهذا المعنى في القرآن في ثلاث مواضع : ههنا وفي النحل في قوله { وعلى الله قصد السبيل } وفي الحجر في قوله { هذا صراط علي مستقيم } وهو معنى شريف جليل يدل على أن سالك طريق الهدى يوصله طريقه إلى الله ولابد والهدى هو الصراط المستقيم فمن سلكه أوصله إلى الله فذكر الطريق والغاية فالطريق الهدى والغاية الوصول إلى الله فهذه أشرف الوسائل وغايتها أعلى الغايات ولما كان مطلوب السالك إلى الله تحصيل مصالح دنياه وآخرته لم يتم له هذا المطلوب إلا بتوحيد طلبه والمطلوب منه فأعلمه سبحانه أن سواه لا يملك من الدنيا والآخرة شيئا وأن الدنيا والآخرة جميعا له وحده فإذا تيقن العبد ذلك اجتمع طلبه و مطلوبه على من يملك الدنيا والآخرة وحده فتضمنت الآيتان أربعة أمور هي المطالب العالية : ذكر أعلى الغايات وهو الوصول إلى الله سبحانه وأقرب الطرق والوسائل إليه وهي طريقة الهدى وتوحيد الطريق فلا يعدل عنها إلى غيرها وتوحيد المطلوب وهو الحق فلا يعدل عنه إلى غيره فاقتبس هذه الأمور من مشكاة هذه الكلمات فإن هذه غاية العلم والفهم وبالله التوفيق
والهدى التام يتضمن توحيد المطلوب وتوحيد الطلب وتوحيد الطرق الموصلة والإنقطاع و تخلف الوصول يقع من الشركة في هذه الأمور أوفي بعضها فالشركة في المطلوب تنافي التوحيد والإخلاص والشركة في الطلب تنافي الصدق والعزيمة والشركة في الطريق تنافي اتباع الأمر فالأول يوقع في الشرك والرياء والثاني يوقع في المعصية والبطالة والثالث يوقع في البدعة ومفارقة السنة فتأمله
فتوحيد المطلوب يعصم من الشرك وتوحيد الطلب يعصم من المعصية وتوحيد الطريق يعصم من البدعة والشيطان إنما ينصب فخه بهذه الطرق الثلاثة
ولما أقام سبحانه الدليل وأنار السبيل وأوضح الحجة وبين المحجة أنذر عباده عذابه الذي أعده لمن كذب خبره وتولى عن طاعته وجعل هذا الصنف من الناس هم أشقاهم كما جعل أسعدهم أهل التقوى والإحسان والإخلاص فهذا الصنف هو الذي يجنب عذابه كما قال { وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى } فهذا المتقي المحسن لا يفعل ذلك إلا ابتغاء وجه ربه فهو مخلص في تقواه وإحسانه
وفي الآية الإرشاد إلى أن صاحب التقوى لا ينبغي له أن يتحمل من الخلق ونعمهم وإن حمل منهم شيئا بادر إلى جزائهم عليه لئلا يتبقى لأحد من الخلق عليه نعمة تجزى فيكون بعد ذلك عمله كله لله وحده ليس للمخلوق جزاء على نعمته
ونبه يقول { تجزى } على أن نعمة الإسلام التي لرسول الله صلى الله عليه و سلم على هذا الأتقى لا تجزى فإن كل ذي نعمة يمكن جزاء نعمته إلا نعمة الإسلام فإنها لا يمكن المنعم بها عليه أن يجزى بها وهذا يدل على أن الصديق رضي الله عنه أول وأولى من ذكر في هذه الآية وأنه أحق الأمة بها فإن عليا رضي الله عنه تربى في بيت النبي صلى الله عليه و سلم فلرسول الله صلى الله عليه و سلم عنده نعمة غير نعمة الإسلام يمكن أن تجزى

ومن ذلك إقسامه سبحانه بـ { والضحى * والليل إذا سجى } على إنعامه على رسوله صلى الله عليه و سلم وإكرامه له وإعطائه ما يرضيه وذلك متضمن لتصديقه له فهو قسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة فهو قسم على النبوة والمعاد وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته وحكمته ورحمته وهما الليل والنهار
فتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافى بعد ظلام الليل للمقسم عليه وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه : ودع محمدا ربه فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه وأيضا فإن فالق ظلمة الليل عن ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة فهذان للحس وهذان للعقل ؟ وأيضا فإن الذي اقتضت رحمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغي بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم
فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه وتأمل هذه الجزالة والرونق الذي على هذه الألفاظ والجلالة التي على معانيها
ونفى سبحانه أن يكون ودع نبيه أو قلاه فالتوديع الترك والقلى البغض فما تركه منذ اعتنى به وأكرمه ولا أبغضه منذ أحبه وأطلق سبحانه أن الآخرة خير له من الأولى وهذا يعم كل حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها ثم وعده بما تقر به عينه وتفرح به نفسه وينشرح به صدره وهو أن يعطيه فيرضى وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر وكثرة الأتباع ورفع ذكراه و إعلاه كلمته وما يعطيه بعد مماته وما يعطيه في موقف القيامة وما يعطيه في الجنة وأما ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار فهذا من غرور الشيطان لهم ولعبة بهم فإنه صلوات الله وسلامة عليه يرضى بما يرضى به ربه تبارك وتعالى وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة ثم يحد لرسوله حدا يشفع فيهم ورسوله أعرف به وبحقه من أن يقول : لا أرضى أن يدخل أحدا من أمتي النار على أن يدعه فيها بل ربه تبارك وتعالى يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه ولا يشفع في غير من أذن له فيه ورضيه
ثم ذكر سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد تيمه وهدايته بعد الضلالة وإغنائه بعد الفقر فكان محتاجا إلى من يؤويه ويهديه ويغنيه فآواه ربه وهداه وأغناه فأمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر فنهاه أن يقهر اليتيم وأن ينهر السائل وأن يكتم النعمة بل يحدث بها فأوصاه سبحانه باليتامى والفقراء والمتعلمين قال مجاهد ومقاتل : لا تحقر اليتيم فقد كنت يتيما وقال الفراء : لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم فغلظ الخطاب في أمر اليتيم وكذلك من لاناصر له يغلظ في أمره وهو نهى لجميع المكلفين
{ وأما السائل فلا تنهر } قال أكثر المفسرين : هو سائل المعروف والصدقة لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرا فأما أن تطعمه وإما أن ترده ردا لينا قال الحسن : أما إنه ليس بالسائل الذي يأتيك ولكن طالب العلم وهذا قول يحيى بن آدم قال : إذا جاءك طالب العلم فلا تنهره والتحقيق أن الآية تتناول النوعين

ومن ذلك إقسامه سبحانه بـ { والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا } وقد اختلف الصحابة ومن بعدهم في ذلك فقال علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما : هي إبل الحاج تعدو من عرفة إلى مزدلفة ومن مزدلفة إلى منى وهذا اختيار محمد بن كعب وأبي صالح وجماعة من المفسرين وقال عبدالله بن عباس : هي خيل الغزاة وهذا قول أصحاب ابن عباس والحسن وجماعة واختاره الفراء والزجاج قال أصحاب الإبل : السورة مكية ولم يكن ثم جهاد ولاخيل تجاهد وإنما أقسم بما يعرفونه ويألفونه وهي إبل الحاج إذا عدت من عرفة إلى مزدلفة فهي عاديات والضبح والضبع مد الناقة ضبعها في السير يقال ضبحت وضبعت بمعنى واحد وأنشد أبو عبيدة وقد اختار هذا القول :
( فكان لكم أجري جميعا وأضبحت بي البازل الوجناء في الآل تضبح )
قالوا فهي تعدو ضبحا فتورى بأخفافها النار من حك الأحجار بعضها ببعض فتثير النقع - وهو الغبار - بعدوها فيتوسط جمعا وهي المزدلفة
قال أصحاب الخيل المعروف في اللغة أن الضبح أصوات أنفاس الخيل إذا عدون والمعنى والعاديات ضابحة فيكون ضبحا مصدرا على الأول وحالا على الثاني قالوا والخيل هي التي تضبح في عدوها ضبحا وهو صوت يسمع من أجوافها ليس بالصهيل ولا الحمحمة ولكن صوت أنفاسها في أجوافها من شدة العدو وقال الجرجاني كلا القولين قد جاء في التفسير إلا أن السياق يدل على أنها الخيل وهو قوله تعالى { فالموريات قدحا } والايراء لا يكون إلا للحافر لصلابته وأما الخف ففيه لين واسترخاء إنتهى
قالوا : والضبح في الخيل أظهرمنه في الإبل والايراء لسنابك الخيل أبين منه لاخفاف الإبل قالوا : والنقع هو الغبار وإثارة الخيل بعدوها له أظهر من إثارة أخفاف الإبل والضمير في به عائد على المكان الذي تعدو فيه قالوا وأعظم مايثير الغبار عند الإغارة إذا توسطت الخيل جمع العدو لكثرة حركتها واضطرابها في ذلك المكان وأما حمل الآية في إثارة الغبار في وادي محسر عند الإغارة فليس بالبين ولا يثور هناك غبار في الغالب لصلابة المكان قالوا : وأما قولكم إنه لم يكن بمكة حين نزول الآية جهاد ولا خيل تجاهد فهذا لا يلزم لأنه سبحانه أقسم بما يعرفونه من شأن الخيل إذا كانت في غزو فأغارت فأثارت النقع وتوسطت جمع العدو وهذا أمر معروف وذكر خيل المجاهدين أحق ما دخل في هذا الوصف فذكره على وجه التمثيل لا الإختصاص فإن هذا شأن خيل المقاتلة وأشرف أنواع الخيل خيل المجاهدين والقسم إنما وقع بما تضمنه شأن هذه العاديات من الآيات البينات من خلق هذا الحيوان الذي هو من أكرم البهيم وأشرفه وهو الذي يحصل به العز والظفر والنصر على الأعداء فتعدوا طالبة للعدو وهاربة منه فيثير عدوها الغبار لشدته وتورى حوافرها وسنابكها النار من الأحجار لشدة عدوها فتدرك الغارة التي طلبتها حتى تتوسط جمع الأعداء فهذا من أعظم آيات الرب تعالى وأدلة قدرته وحكمته فذكرهم بنعمة عليهم في خلق هذا الحيوان الذي ينتصرون به على أعدائهم ويدركون به ثأرهم كما ذكرهم سبحانه بنعمه عليهم في خلق الإبل التي تحمل أثقالهم من بلد إلى بلد فالإبل أخص بحمل الأثقال والخيل أخص بنصرة الرجال فذكرهم بنعمه بهذا وهذا وخص الإغارة بالضبح لأن العدو لم ينتشروا إذ ذاك ولم يفارقوا محلهم وأصحاب الإغارة حامون مستريحون يبصرون مواقع الغارة والعدو لم يأخذوا أهبتهم بل هم في غرتهم وغفلتهم ولهذا كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا أراد الغارة صبر حتى يطلع الفجر فإن سمع مؤذنا أمسك وإلا أغار
ولما علم أصحاب الإبل أن أخفافها أبعد شيء من ورى النار تأولوا الآية على وجوه بعيدة فقال محمد بن كعب : هم الحاج إذا أوقدوا نيرانهم ليلة المزدلفة وعلى هذا فيكون التقدير : فالجماعات الموريات وهذا خلاف الظاهر وإنما الموريات هي العاديات وهي المغيرات روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : هم الذين يغيرون فيورون بالليل نيرانهم لطعامهم وحاجتهم كأنهم أخذوه من قوله تعالى { أفرأيتم النار التي تورون } وهذا إن أريد به التمثيل وأن الآية تدل عليه فصحيح وإن أريد به اختصاص الموريات فليس كذلك لأن الموريات هي العاديات بعينها ولهذا عطفها عليه بالفاء التي للتسبب فإنها عدت فأورت وقال قتادة : الموريات هي الخيل تورى نار العداوة بين المقتتلين وهذا ليس بشيء وهو بعيد من معنى الآية وسياقها وأضعف منه قول عكرمة : هي الألسنة تورى نار العداوة بعظيم ما نتكلم به وأضعف منه ما ذكر عنه مجاها : هي أفكار الرجال تورى نار المكر والخديعة في الحرب
وهذه الأقوال إن أريد أن اللفظ دل عليها وأنها هي المراد فغلط وإن أريد أنها أخذت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب
وتفسير الناس يحاور على ثلاثة أصول : تفسير على اللفظ وهو الذي ينجو إليه المتأخرون وتفسيره على المعنى وهو الذي يذكره السلف وتفسير على الإشارة والقياس وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم وهذا لابأس به بأربعة شرائط : أن لا يناقض معنى الآية وأن يكون معنى صحيحا في نفسه وأن يكون في اللفظ إشعار به وأن يكون نبيه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة كان استنباطا حسنا
وأضعف من ذلك كله قول ابن جريج : قدحا يعني : فالمنجحات أمرا يريد البالغين بنجحهم فيما طلبوه وعطف قوله ( فأثرن فوسطن ) وهما فعلان على العاديات والموريات لما فيه من معنى الفعل

فهذا شأن القسم وأما شأن المقسم عليه فهو حال الإنسان وهو كون الإنسان كنودا بشهادته على نفسه أو شهادة ربه عليه وكونه بخيلا لحبه المال والكنود للنعمة وفعله كند يكند كنودا مثل كفر يكفر كفورا والأرض الكنود التي لا تنبت شيئا وامرأة كندى أي كفور للمعاشرة وأصل اللفظ منع الحق والخير ورجل كنود إذا كان مانعا لما عليه من الحق وعبارات المفسرين تدور على هذا المعنى قال ابن عباس رضي الله عنهما وأصحابه رحمهم الله تعالى : هو الكفور وقيل هو البخيل الذي يمنع رفده ويجيع عبده ولا يعطى في النائبة وقال الحسن : هو اللوام لربه يعد المصائب وينسى النعم
وأما قوله { وإنه على ذلك لشهيد } فقال ابن عباس : يريد أن ربه على ذلك لشهيد وقيل إن الإنسان لشهيد على ذلك إن أنكر بلسانه أشهد ربه عليه حاله ويؤيد هذا القول سياق الضمائر فإن قوله { وإنه لحب الخير لشديد } للإنسان فافتتح الخبر عن الإنسان بكونه كنودا ثم ثناه بكونه شهيدا على ذلك ث م ختمه بكونه بخيلا بماله لحبه إياه ويؤيد قول ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتى بعلي فقال { وإنه على ذلك لشهيد } أي مطلع عالم به كقوله { ثم الله شهيد على ما يفعلون } ولو أريد شهادة الإنسان لأتى بالباء فقيل وإنه بذلك لشهيد كماقال تعالى { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر } فلو أراد شهادة الإنسان لقال : وإنه على نفسه لشهيد فإن كنوده المشهود به ونفسه هي المشهود عليها
ثم قال تعالى { وإنه لحب الخير لشديد } والخير هنا المال باتفاق المفسرين والشديد البخيل من أجل حب المال فحب المال هو الذي حمله على البخل هذا قول الأكثرين وقال ابن قتيبة : بل المعنى : إنه لشديد الحب للخير فتكون اللامز في قوله { لحب الخير } متعلقة بقوله { لشديد } على حد تعلق قولك : إنه لزيد لضارب ومنعت طائفة من النحاة أن يعمل ما بعد اللام فيما قبلها وهذه الآيات حجة على الجواز فإن قوله { لربه } معمول ( لكنود ) وقوله ( على ذلك ) معمول ( لشهيد ) ولاوجه للتكلف البارد في تقدير عامل مقدم محذوف يفسره هذا المذكور فالحق جواز إن لزيد لضارب فوصف سبحانه الإنسان بكفران نعم ربه وبخله بما آتاه من الخير فلاهو شكور للنعم ولامحسن إلى خلقه بل بخيل بشكره بخيل بماله وهذا ضد المؤمن الكريم فإن مخلص لربه محسن إلىخلقه فالمؤمن له الإخلاص والإحسان والفاجر له الكفر والبخل وقد ذم الله سبحانه هذين الخلقين المهلكين في غير موضع من كتابه كقوله { فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون } فالرياء ضد الإخلاص ومنع الماعون ضد الإحسان وكذلك قوله تعالى { إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله } فاختياله وفخره من كفره وكنوده وهذا ضد قوله { الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } وقوله { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا } وكذلك ذكر الخلقين الذميمين في قوله { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ونظيره { وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } ونظيره ماتقدم في سورة الليل من ذم المستغني البخيل ومدح المعطى المصدق بالحسنى ونظيره قوله { ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالا وعدده } فإن الهمزة واللمزة من الفجر والكبر وجمع المال وتعديده من ا لبخل وذلك مناف لسر الصلاة والزكاة ومقصودهما
ثم خوف سبحانه الإنسان الذي هذا وصفه حين يبعثر مافي القبور ويحصل مافي الصدور أي ميز وجمع وبين وأظهر ونحو ذلك وجمع سبحانه بين القبور والصدور كما جمع بينهما النبي صلى الله عليه و سلم في قوله [ ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا ] فإن الإنسان يواري صدره مافيه من الخير والشر ويواري قبره جسمع فيخرج الرب جسمه من قبره وسره من صدره فيصير جسمه بارزا على الأرض وسره باديا على وجهه كماقال تعالى { يعرف المجرمون بسيماهم } وقال { سنسمه على الخرطوم }

ومفعول العلم إن علمت فيه وكسرت لمكان اللام وقيد سبحانه كونه خبيرا بهم ذلك اليوم - وهو خبير بهم في كل وقت - إيذانا بالجزاء وأنه يجاريهم في ذلك اليوم بما يعلمه منهم فذكر العلم والمراد لازمه والله سبحانه وتعالى أعلم

ومن ذلك اقسامه ( بالعصر ) على حال الإنسان في الآخرة هذه السورة على غاية اختصارها لها شأن عظيم حتى قال الشافعي رحمه الله : لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم
والعصر المقسم به قيل : هو أول الوقت الذي يلي المغرب من النهار وقيل : هو آخر ساعة من ساعاته وقيل : المراد صلاة العصر وأكثر المفسرين على أنه الدهر وهذا هو الراجح وتسمية الدهر عصرا أمر معروف في لغتهم قال :
( ولن يلبث العصران يوم وليلة إذا طلبا أن يدركا ما تيمما )
ويوم وليلة بدل من العصران فأقسم سبحانه بالعصر لمكان العبرة والآية فيه فإن مرور الليل والنهار على تقدير قدرة العزيز العليم منتظم لمصالح العالم على اكمل ترتيب ونظام وتعاقبهما واعتدالهما تارة وأخذ أحدهما من صاحبه تارة واختلافهما في الضوء والظلام والحر والبرد وانتشار الحيوان وسكونه وانقسام العصر إلى القرون والسنين والأشهر والأيام والساعات وما دونها - آية من آيات الرب تعالى وبرهان من براهين قدرته وحكمته
فأقسم بالعصر الذي هو زمان أفعال الانسان ومحلها على عاقبة تلك الأفعال وجزائها ونبه بالمبدأ وهو خلق الزمان والفاعلين وأفعالهم على المعاد وأن قدرته كما لم تقصر على المبدأ لم تقصر عن المعاد وأن حكمته التي اقتضت خلق الزمان وخلق الفاعلين وأفعالهم وجعلها قسمين خيرا وشرا تأبى أن يسوى بينهم وأن لايجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وأن يجعل النوعين رابحين أو خاسرين بل الانسان من حيث هو إنسان خاسر إلا من رحم الله فهداه ووفقه للإيمان والعمل الصالح في نفسه وأمر غيره به وهذا نظير رده الانسان إلى أسفل سافلين واستثناء الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء المردودين
وتأمل حكمة القرآن لما قال { إن الإنسان لفي خسر } فإنه ضيق الاستثناء وخصصه فقاله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } ولما قال { ثم رددناه أسفل سافلين } وسع الاستثناء وعممه فقال { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ولم يقل { وتواصوا } فإن التواصي هو امر الغير بالإيمان والعمل الصالح وهو قدر زائد على مجرد فعله فمن لم يكن كذلك قد خسر هذا الربح فصار في خسر ولا يلزم أن يكون في أسفل سافين فإن الإنسان قد يقوم بما يجب عليه ولا يأمر غيره فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرتبة زائدة وقد تكون فرضا على الأعيان وقد تكون فرضا على الكفاية وقد تكون مستحبة
والتواصي بالحق يدخل فيه الحق الذي يجب والحق الذي يستحب والصبر يدخل فيه الصبر الذي يجب والصبر الذي يستحب فهؤلاء إذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر حصل لهم من الربح ما خسره أولئك الذين قاموا بما يجب عليهم في أنفسهم ولم يأمروا غيرهم به وإن كان أولئك لم يكونوا من الذين خسروا أنفسهم وأهليهم فمطلق الخسار شيء والخسار المطلق شيء وهو سبحانه إنما قال { إن الإنسان لفي خسر } ومن ربح في سلعة وخسر في غيرها قد يطلق عليه أنه في خسر وأنه ذو خسر كما قال عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما : لقد قرطنا في قراريط كثيرة فهذا نوع تقريط وهو نوع خسر بالنسبة إلى من حصل ربح ذلك
ولما قال في سورة والتين { ثم رددناه أسفل سافلين } قال { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فقسم الناس إلى هذين القسمين فقط ولما كان الإنسان له قوتان قوة العلم وقوة العمل وله حالتان حالة يأتمر فيها بأمر غيره وحالة يأمر فيها غيره استثنى سبحانه من كمل قوته العلمية بالإيمان وقوته العملية بالعمل الصالح وإنقاد لأمر غيره له بذلك وأمر غيره به من الانسان الذي هو في خسر فإن العبد له حالتان حالة كمال في نفسه وحالة تكميل لغيره وكماله وتكميله موقوف على أمرين : علم بالحق وصبر عليه فتضمنت الآية جميع مراتب الكمال الانساني من العلم النافع والعمل الصالح والاحسان إلى نفسه بذلك وإلى أخيه به وانقياده وقبوله لمن يأمره بذلك

ومن ذلك أقسامه سبحانه : { والسماء ذات البروج } التي تنزلها الشمس والقمر وفسرت بالنجوم أو نوع منها وفسرت بالقصور العظام وكل ذلك من آيات قدرته وشواهد وحدانيته فإن السماء كرة متشابهة الأجزاء والشكل الكروي لايتميز منه جانب عن جانب بطول ولاقصر ولاوضع بل هو متساوي الجوانب فجعل هذه البروج في هذه الكرة على اختلاف صورها وأشكالها ومقاديرها يستحيل أن توجد بغير فاعل ويستحيل أن يكون فاعلها غير قادر ولاعالم ولامريد ولاحي ولاحكيم ولامباين للمفعول وهذا ونحوه مماهدم قواعد الطبائعية والملاحدة والفلاسفة الذين لا يثبتون للعالم ربا بائنا قادرا فاعلا بالاختيار عالما بتفاصيله حكيما مدبرا له
فبروج السماء هي منازلها أو منازل السيارة التي فيها من أعظم آياته سبحانه فلهذا أقسم بها مع السماء ثم أقسم باليوم الموعود وهو يوم القيامة وهو المقسم به وعليه كما أن القرآن يقسم به وعليه ودل على وقوع اليوم الموعود باتفاق جميع الرسل عليه وبما عرفه عباده من حكمته وعزته التي تأبى أن يتركهم سدى ويخلقهم عبثا وبغير ذلك من الآيات والبراهين التي يستدل بها سبحانه على إمكانة تارة وعلى وقوعه تارة وعلى تنزيهه عما يقول أعداؤه من أنه لا يأتي به تارة فالأقسام به عند من آمن بالله كالأقسام بالسماء وغيرها من الموجودات المشاهدة بالعيان
ثم أقسم سبحانه بالشاهد والمشهود مطلقين غير معينين وأعم المعاني فيه أنه المدرك والمدرك والعالم والمعلوم والرائي والمرئي وهذا أليق المعاني به وماعداه من الأقوال ذكرت على وجه التمثيل لاعلى وجه التخصيص
فإن قيل : فما وجه الارتباط بين هذه الأمور الثلاثة المقسم بها ؟ قيل : هي بحمد الله في غاية الارتباط والأقسام بها متناول لكل موجود في الدنيا والآخرة وكل منها آية مستقلة دالة على ربوبيته وإلهيته فأقسم بالعالم العلوي وهي السماء ومافيها من البروج التي هي أعظم الأمكنة وأوسعها ثم أقسم بأعظم الأيام وأجلها قدرا الذي هو مظهر ملكه وأمره ونهيه وثوابه وعقابه ومجمع أوليائه وأعدائه والحكم بينهم بعلمه وعدله ثم أقسم بما هو أعم من ذلك كله وهو الشاهد والمشهود وناسب هذا القسم ذكر أصحاب الأخدود الذين عذبوا أولياءه وهم شهود على ما يفعلون بهم والملائكة شهود عليهم بذلك والأنبياء وجوارحهم تشهد به عليهم وأيضا فالشاهد هو المطلع والرقيب والمخبر والمشهود وهو المطلع عليه المخبر به المشاهد
فمن نوع الخليقة إلى شاهد ومشهود وهو أقدر القادرين كما نوعها إلى مرئي لنا وغير مرئي كما قال { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } كما نوعها إلى أرض وسماء وليل ونهار وذكر وأنثى وهذا التنويع والاختلاف من آياته سبحانه - كذلك نوعها إلى شاهد ومشهود
وفيه سر آخر وهو أن من المخلوقات ماهو مشهود عليه ولايتم نظام العالم إلا بذلك فكيف يكون المخلوق شاهدا رقيبا حفيظا على غيره ولايكون الخالق تبارك وتعالى شاهدا على عباده مطلعا عليهم رقيبا ؟
وأيضا فإن ذلك يتضمن القسم بملائكته وأنبيائه وسله فإنهم شاهدون على العباد فسيكون من باب اتحاد المقسم به والمقسم عليه كما أقسم باليوم الموعود وهو المقسم به وعليه وأيضا فيوم القيامة مشهود كماقال تعالى { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود } يشهده الله وملائكته والانس والجن والوحش من آياته والمشهود من آياته
وأيضا فكلامه مشهود كما قال تعالى { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا } تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار فالمشهود من أعظم آياته وكذلك الشاهد فكل ما وقع عليه اسم شاهد ومشهود فهو داخل في هذا القسم فلا وجه لتخصيصه ببعض الأنواع أو الأعيان إلا على سبيل التمثيل
وأيضا فكتاب الأبرار في عليين يشهده المقربون فالكتاب مشهود والمقربون شاهدون
والأحسن أن يكون هذا القسم مستغنيا عن الجواب لأن القصة التنبيه على المقسم به وأنه من آيات الرب العظيمة ويبعد أن يكون الجواب ( قتل أصحاب الأخدود ) الذين فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ذات الوقود
ثم وصف حالهم القبيحة بأنهم قعود على جانب الأخدود شاهدين ما يجري على عباد الله تعالى وأوليائه عيانا ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا يعيبون عليهم دينا سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السموات والأرض وهذا الوصف يقتضي إكرامهم وتعظيمهم ومحبتهم فعاملوهم بضد ما يقتضي أن يعاملوا به وهذا شأن أعداء الله دائما ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يحبوا ويكرموا لأجله كما قال تعالى { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون } وكذلك اللوطية نقموا من عباد الله تننزيههم عن مثل فعلهم فقالوا { أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } وكذلك أهل الأشراك ينقمون من الموحدين تجريدهم التوحيد وإخلاص الدعوة والعبودية لله وحده وكذلك أهل البدع ينقمون من أهل السنة تجريد متابعتها وترك ما خالفها وكذلك المعطلة ينقمون على أهل السنة محبتهم للصحابة جميعهم وترضيهم عنهم وولايتهم إياهم وتقديم من قدمه رسول الله صلى الله عليه و سلم منه وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها وكذلك أهل الرأي المحدث ينقمون على أهل الحديث وحزب الرسول أخذهم بحديثه وتركهم ماخالفه وكل هؤلاء لهم نصب وفيهم شبه من أصحاب الأخدود وبينهم وبينه نسب قريب أو بعيد
ثم أخبر سبحانه أنه أعد لهم عذاب جهنم وعذاب الحريق حيث لم يتوبوا وأنهم لو تابوا بعد أن فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار لغفر لهم ولم يعذبهم وهذا غاية الكرم والجود قال الحسن : أنظروا إلى هذا الكرم والجود يقتلون أولياءه ويفتنونهم وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة أنظروا إلى كرم الرب تعالى يدعوهم إلى التوبة وقد فتنوا أولياءه فحرقوهم بالنار فلا ييأس العبد من مغفرته وعفوه ولو كان منه ماكان فلا عداوة أعظم من هذه العداوة ولا اكفر ممن حرق بالنار من آمن بالله وحده وعبده وحده ومع هذا فلو تابوا لم يعذبهم وألحقهم بأوليائه
ثم ذكر سبحانه جزاء أوليائه المؤمنين ثم ذكر شدة بطشه وأنه لايعجزه شيء فإنه هو المبدئ المعيد ومن كان كذلك فلا أشد من بطشه وهو مع ذلك الغفور الودود يغفر لمن تاب إليه ويوده ويحبه فهو سبحانه الموصوف بشدة البطش ومع ذلك هو الغفور الودود المتودد إلى عباده بنعمه الذي يود من تاب إليه وأقبل عليه وهو الودود أيضا أي المحبوب قال البخاري في صحيحه : الودود الحبيب والتحقيق أن اللفظ يدل على المرين على كونه ودا لأوليائه ومودودا لهم فأحدهما بالوضع والآخر باللزوم فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه وقال شعيب عليه السلام { إن ربي رحيم ودود }
وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور فإن الرحل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه وكذلك قد يرحم من لايحب والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه ويرحمه ويحبه مع ذلك فإنه يحب التوابين وإذا تاب إليه عبده أحبه ولوكان منه ماكان
ثم قال ( ذو العرش ) فأضاف العرش إلى نفسه كما تضاف إليه الأشياء العظيمة الشريفة وهذا يدل على عظمة العرش وقربه منه سبحانه واختصاصه به بل يدل على غاية القرب والاختصاص كمايضيف إلى نفسه بذو صفاته القائمة به كقوله { ذو القوة } { ذو الجلال والإكرام } ويقال : ذو العزة وذو الملك وذو الرحمة ونظائر ذلك فلو كان حظ العرض منه حظ الأرض السابعة لكان لافرق أن يقال : ذو العرش وذو الأرض
ثم وصف نفسه بالمجيد وهو المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها وعدم إحصاء الخلق لها وسعة أفعاله وكثرة خيره ودوامه وأما من ليس له صفات كمال ولا أفعال حميدة فليس له من المجد شيء والمخلوق إنما يصير مجيدا بأوصافه وأفعاله فكيف يكون الرب تبارك وتعالى مجيدا وهو معطل عن الأوصاف والأفعال ؟ تعالى الله عما يقول المعطلون علوا كبيرا بل هو المجيد الفعال لما يريد والمجد في لغة العرب كثرة أوصاف الكمال وكثرة أفعال الخير وأحسن ما قرن اسم المجيد إلى الحميد كما قالت الملائكة لبيت الخليل عليه السلام { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد } وكما شرع لنا في آخر الصلاة أن نثني على الرب تعالى بأنه حميد مجيد وشرع في آخر الركعة عند الاعتدال أن نقول ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد فالحمد والمجد على الاطلاق لله الحميد المجيد فالحميد الحبيب المستحق لجميع صفات الكمال والمجيد العظيم الواسع القادر الغني ذو الجلال والإكرام
ومن قرأ ( المجيد ) بالكسر فهو صفة لعرشه سبحانه وإذا كان عرشه مجيدا فهو سبحانه أحق بالمجد وقد استشكل هذه القراءة بعض الناس وقال : لم يسمع في صفات الخلق مجيد ثم خرجها على أحد الوجهين إما الجوار وإما أن يكون صفة لربك وهذا من قلة بضاعة هذا القائل فإن الله سبحانه مطابق وصف عرشه بالكرم وهو نظير المجد ووصفه بالعظمة فوصفه سبحانه بالمجد مطابق لوصفه بالعظمة والكرم بل هو أحق المخلوقات أن يوصف بذلك لسعته وحسنه وبهاء منظره فإنه أوسع كل شيء في المخلوقات وأجمله وأجمعه لصفات الحسن وبهاء المنظر وعلو القدر والرتبة والذات ولايقدر قدر عظمته وحسنه وبهاء منظره إلا الله ومجده مستفاد من مجد خالقه ومبدعه والسموات السبع والأرضون السبعون في الكرسي - الذي بين يديه - كحلقة ملقاة في أرض فلاة والكرسي فيه كتلك الحلقة في الفلاة قال ابن عباس : السموات السبع في العرش كسبعة دراهم جعلن في ترس فكيف لا يكون مجيدا وهذا شأنه فهو عظيم كريم مجيد وأما تكلف هذا المتكلف جره إلى الجوار أو أنه صفة لربك فتكلف شديد وخروج عن المألوف في اللغة من غير حاجة إلى ذلك
وقوله { فعال لما يريد } دليل على أمور ( أحدها ) انه سبحانه يفعل بإرادته ومشيئته ( الثاني ) انه لم يزل كذلك لأنه لم يزل كذلك لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه وأن ذلك من كماله سبحانه فلا يجوز أن يكون عادما لهذا الكمال في وقت من الأوقات وقد قال تعالى { أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون } وما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثا بعد أن لم يكن ( الثالث ) أنه إذا أراد شيئا فعله فإن ما موصولة عامة أي يفعل كل ما يريد أن يفعله وهذا في إرادته المتعلقة بفعله وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه ويجعله فاعلا لم يوجد الفعل فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه ويجعله فاعلا لم يوجد الفعل وإن أراده حتى يريده من نفسه أن يجعله فاعلا وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية وخبطوا في مسألة القدر لغفلتهم عنها فإن هنا إرادتين : إرادة أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله الرب فاعلا وليستا متلازمتين وإن لزم من الثانية الأولى من غير عكس فمتى أراد من نفسه أن يعين عبده وأن يخلق له أسباب الفعل فقد أراد فعله وقد يريد فعله ولا يريد من نفسه أن يخلق له أسباب الفعل فلا يوجد الفعل
فإن اعتاص عليك فهم هذا الموضع وأشكل عليك فانظر إلى قول النبي صلى الله عليه و سلم حاكيا عن ربه قوله للعبد يوم القيامة [ قد أردت منك أهون من هذا وأنت في صلب أبيك : أن لاشرك بي شيئا ] ولم يقع هذا المراد لأنه لم يرد من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له
( الرابع ) أن فعله سبحانه وإرادته متلازمان فما أراد أن يفعله فعله وما فعله فقد أراده بخلاف المخلوق فإنه يريد مالايفعل وقد يفعل مالا يريد فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده
( الخامس ) إثبات إرادة متعددة بحسب الأفعال وأن كل فعل له إرادة تخصه وهذا هو المعقول في الفطر وهو الذي يفعله الناس من الإرادة فشأنه تعالى أن يريد على الدوام ويفعل ما يريد
( السادس ) أن كل ما صلح أن تتعلق به إرادته جاز فعله فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء وأن يرى نفسه لعباده وأن يتجلى لهم كيف شاء وأن يخاطبهم ويضحك إليهم وغير ذلك مما يريد سبحانه لم يمتنع عليه فعله فإنه فعال لما يريد وإنما تتوقف صحة ذلك على إخبار الصادق به فإذا أخبر به وجب التصديق به وكان رده ردا لكماله الذي اخبر به عن نفسه وهذا عين الباطل وكذلك إذا أمكن إرادته سبحانه محو ما شاء وإثبات ما شاء أمكن فعله وكانت الإرادة والفعل من مقتضيات كماله المقدس
وقد اشتملت هذه السورة على اختصارها من التوحيد على وصفه سبحانه بالعزة المتضمنة للقدرة والقوة وعدم النظير والحمد المتضمن لصفات الكمال والتنزيه عن اضدادها مع محبته وإلهيته وملكه السموات والأرض المتضمن لكمال غناه وبواطنها وإحاطة بصره بمرئياتها وسمعه بمسموعاتها وعلمه بمعلوماتها ووصفه بشدة البطش المتضمن لكمال القوة والعزة والقدرة وتفرد بالإبداء والإعادة المتضمن لتوحيد ربوبيته وتصرفه في المخلوقات بالإبداء والإعادة وانقيادها لقدرته فلا يستعصى عليه منها شيء ووصفه بالمغفرة المتضمن لكمال جوده وإحسانه وغناه ورحمته ووصفه بالودود المتضمن لكونه حبيبا إلى عباده محبا لهم ووصفه بأنه ذو العرش الذي لا يقدر قدره سواه وأن عرشه المختص به لا يليق بغيره أن يستوى عليه ووصفه بالمجد المتضمن لسعة العلم والقدرة والملك والغنى والجود والإحسان والكرم وكونه فعالا لما يريد المتضمن لحياته وعلمه وقدرته ومشيئته وحكمته وغير ذلك من أوصاف كماله
فهذه السورة كتاب مستقل في أصول الدين تكفي من فهمها
فالحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده
ثم ختمها بذكر فعله وعقوبته بمن أشرك به وكذب رسله تحذيرا لعباده من سلوك سبيلهم وأن من فعل فعلهم فعل به كما فعل بهم ثم اخبر عن أعدائه بأنهم مكذبون بتوحيده ورسالاته مع كونهم في قبضته وهو محيط بهم ولا أسوأ حالا ممن عادى من هو في قبضته ومن هو قادر عليه من كل وجه وبكل اعتبار فقال { بل الذين كفروا في تكذيب * والله من ورائهم محيط } فهذا أعجب عجب ممن كفر بمن هو محيط به وآخذ بناصيته قادر عليه ثم وصف كلامه بأنه مجيد وهو أحق بالمجد من كل كلام كما ان المتكلم به له المجد كله فهو المجيد وكلامه مجيد وعرشه مجيد قال ابن عباس رضي الله عنهما : قرآن مجيد كريم لأن كلام الرب ليس كما يقول الكافرون : شعر وكهانة وسحر وقد تقدم أن المجد السعة وكثرة الخير وكثرة خير القرآن لا يعلمها إلا من تكلم به
وقوله { في لوح محفوظ } اكثر القراء على الجر صفة للوح وفيه إشارة إلى أن الشياطين لا يمكنهم التنزل به لأن محله محفوظ أن يصلوا إليه وهو في نفسه محفوظ أن يقدر الشيطان على الزيادة فيه والنقصان فوصفه سبحانه بأنه محفوظ في قوله { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } ووصف محله بالحفظ في هذه السورة فالله سبحانه حفظ محله وحفظه من الزيادة والنقصان والتبديل وحفظ معانيه من التحريف كماحفظ ألفاظه من التبديل وأقام له من يحفظ حروفه من الزيادة والنقصان ومعانيه من التحريف والتغيير

ومن ذلك أقسامه سبحانه بـ { والسماء والطارق } وقد فسره بأنه { النجم الثاقب } الذي يثقب ضوؤه والمراد به الجنس لا نجم معين ومن عينه بأنه الثريا أوزحل فإن أراد التمثيل فصحيح وإن أراد التخصيص فلا دليل عليه
والمقصود أنه سبحانه أقسم بالسماء ونجومها المضيئة وكل منها آية من آياته الدالة على وحدانيته وسمى النجم طارقا لأنه يظهر بالليل بعد اختفائه بضوء الشمس فشبه بالطارق الذي يطرق الناس أو أهلا ليلا قال الفراء : ما أتاك ليلا فهو طارق وقال الزجاج والمبرد : لا يكون الطارق نهارا ولهذا تستعمل العرب الطروق في صفة الخيال كثيرا كما قال ذو الرمة :
( ألا طرقت مي هيوما بذكرها وأيدي الثريا جنح بالمغارب )
وقال جرير :
( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا وقت الزيارة فارجعي بسلام )
ولهذا قيل : أول من رد الطيف جرير فلم يزل الناس على قبوله وإكرامه كالضيف فالطيف والضيف كلاهما لايرد وقال الآخر :
( ألا طرقت من آخر الليل زينب عليك سلام هل لما فات مطلب ؟ )

والمقسم عليه ههنا حال النفس الإنسانية والاعتناء بها وإقامة الحفظة عليها وأنها لم تترك سدى بل قد أرصد عليها من يحفظ عليها أعمالها ويحصيها فأقسم سبحانه أنه ما من نفس إلا عليها حافظ من الملائكة يحفظ عملها وقولها ويحصي ما تكتسب من خير أو شر
واختلف القراء في لما فشددنا بعضهم وخففها بعضهم فمن قرأها بالتشديد جعلها بمعنى إلا وهي تكون بمعنى إلا في موضعين ( أحدهما ) بعد إن المخففة مثل هذا الموضع أو المثقلة مثل قوله { وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم } ( والثاني ) في باب القسم نحو سألتك بالله لما فعلت قال أبو علي الفارسي : من خفف كانت عنده هي المخففة من الثقيلة واللام في خبرها هي الفارقة بين إن النافية والخفيفة وما زائدة وإن هي التي يتلقى بها القسم كما يتلقى بالمثقلة
ومن قرأها مشددة كانت إن عنده نافية بمعنى ما ولما في معنى إلا قال سيبويه عن الخليل - في قولهم : نشدتك بالله لما فعلت - قال المعنى : إلا فعلت
ثم نبه سبحانه الانسان على دليل المعاد بما يشاهده من حال مبدئه على طريقة القرآن في الاستدلال على المعاد بالمبدأ فقال { فلينظر الإنسان مم خلق } أي فلينظر نظر الفكر والاستدلال ليعلم أن الذي ابتدأ أول خلقه من نطفة قادر على إعادته
ثم أخبر سبحانه أنه خلقه من ماء دافق والدفق صب الماء يقال دفقت الماء فهو مدفوق ودافق ومندفق فالمدفوق الذي وقع عليه فعلك كالكسور والمضروب والمندفق المطاوع لفعل الفاعل تقول دفقته فاندفق كماتقول كسرته فانكسر والدافق قيل إنه فاعل بمعنى مفعول كقولهم سر كاتم وعيشة راضية وقيل : هو على النسب لا على الفعل أي ذي دفق أو ذات ولم يرد الجريان على الفعل وقيل - وهو الصواب - إنه اسم فاعل على بابه ولا يلزم من ذلك أن يكون هو فاعل الدفق فإن اسم الفاعل هو من قام به الفعل سواء فعله هو أو غيره كما يقال : ماء جار ورجل ميت وإن لم يفعل الموت بل لما قام به من الموت نسب إليه على جهة الفعل وهذا غير منكر في لغة أمة من الأمم فضلا عن أوسع اللغات وأفصحها وأما العيشة الراضية فالوصف بها أحسن من الوصف بالمرضية فإنها اللائقة بهم فشبه ذلك برضاها بهم كما رضوابها كأنها رضيت بهم ورضوا بها وهذا أبلغ من مجرد كونها مرضية فقط فتأمله وإذا كانوا يقولون : الوقت الحاضر والساعة الراهنة - وإن لم يفعلا ذلك فكيف يمتنع أن يقولوا ماء دافق وعيشة راضية ؟
ونبه سبحانه بكونه دافقا على أنه ضعيف غير متماسك ثم ذكر محله الذي يخرج منه وهو بين الصلب والترائب قال ابن عباس : صلب الرجل وترائب المرأة وهو موضع القلادة من صدرها والولد يخلق من المائين جميعا وقيل : صلب الرجل وترائبه وهي صدره فيخرج من صلبه وصدره وهذه الآية الدالة على قدرة الخالق سبحانه نظير إخراجه اللبن الخالص من بين الفرث والدم
ثم ذكر الأمر المستدل عليه والمعاد بقوله { إنه على رجعه لقادر } أي على رجعه إليه يوم القيامة كما هو قادر على خلقه من ماء هذا شأنه هذا هو الصحيح في معنى الآية وفيها قولان ضعيفان ( أحدهما ) قول مجاهد : على رد الماء في الاحليل لقادر ( والثاني ) قول عكرمة والضحاك على رد الماء في الصلب وفيه قول ثالث قال مقاتل : إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبا إلى النطفة
والقول الصواب هو الأول لوجوه ( أحدهما ) أنه هو المعهود من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المعاد ( الثاني ) أن ذلك أدل على المطلوب من القدرة على رد الماء في الاحليل ( الثالث ) أنه لم يأت لهذا المعنى في القرآن نظير في موضع واحد ولا أنكره أحد حتى يقيم سبحانه الدليل عليه ( الرابع ) أنه قيد الفعل بالظرف وهو قوله { يوم تبلى السرائر } وهو يوم القيامة أي ان الله قادر على رجعه إليه حيا في ذلك اليوم ( الخامس ) أن الضمير في ( رجعه ) هو الضمير في قوله { فما له من قوة ولا ناصر } وهذا للانسان قطعا لا للماء ( السادس ) أنه لاذكر للاحليل حتى يتعين كون المرجع إليه فلو قال قائل : على رجعه إلى الفرج الذي صب فيه لم يكن فرق بينه وبين هذا القول ولم يكن أولى منه ( السابع ) أن رد الماء إلى الاحليل أو الصلب بعد خروجه منه غير معروف ولا هو أمر معتاد جرت به القدرة وإن كان مقدورا للرب تعالى ولكن هو لم يجره ولم تجر به العادة ولا هو مما تكلم الناس فيه نفيا أو إثباتا ومثل هذا لا يقرره الرب ولا يستدل عليه وينبه على منكريه وهو سبحانه إنما يستدل على امر واقع ولابد إما قد وقع ووجد أو سيقع
فإن قيل : فقد قال تعالى { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه } أي نجعله كخف البعير قيل : هذه أيضا فيها قولان ( أحدهما ) ( والثاني ) - وهو الأرجح - أن تسوية بنانه إعادتها كماكانت بعد مافرقها البلى في التراب
( الثامن ) أنه سبحانه دعا الانسان إلى النظر فيما خلق منه ليرده نظره عن تكذيبه بما أخبر به وهو لم يخبره بقدرة خالقه على رد الماء في إحليله بعد مفارقته له حتى يدعوه إلى النظر فيما خلق منه ليستقبح منه صحة إمكان رد الماء ( التاسع ) أنه لا ارتباط بين النظر في مبدأ خلقه ورد الماء في الاحليل بعد خروجه ولاتلازم بينهما حتى يجعل أحدهما دليلا على إمكان الآخر بخلاف الارتباط الذي بين المبدأ والمعاد والخلق الأول والخلق الثاني والنشأة الأولى والنشأة الثانية فإنه ارتباط من وجوه عديدة ويلزم من إمكان أحدهما إمكان الآخر ومن وقوعه صحة وقوع الآخر فحسن الاستدلال بأحدهما على الآخر
( العاشر ) أنه سبحانه نبه بقوله { إن كل نفس لما عليها حافظ } على أنه قد وكل عليه من يحفظ عليه عمله ويحصيه فلا يضيع منه شيء ثم نبه بقوله : { إنه على رجعه لقادر } على بعثه لجزائه على العمل الذي حفظ وأحصى عليه فذكر شأن مبدأ عمله ونهايته فمبدؤه محفوظ عليه ونهايته الجزاء عليه ونبه على هذا بقوله { يوم تبلى السرائر } أي تختبر وقال مقاتل : تظهر وتبدو وبلوت الشيء إذا اختبرته ليظهر لك باطنه وما خفى منه والسرائر جمع سريرة وهي سرائر الله التي بينه وبين عبده في ظاهره وباطنه لله فالايمان من السرائر وشرائعه من السرائر فتختبر ذلك اليوم حتى يظهر خيرها من شرها ومؤديها من مضيعها وما كان لله مما لم يكن له قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما : يبدي الله يوم القيامة كل سر فيكون زينا في الوجوه وشينا فيها والمعنى تختبر السرائر بإظهارها وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب والحمد والذم
وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة وهو أن الأعمال نتائج السرائر الباطنة فمن كانت سريرته صالحة كان عمله صالحا فتبدو سريرته على وجهه نورا وإشراقا وحياء ومن كانت سريرته فاسدة كان علمه تابعا لسريرته لا اعتبار بصورته فتبدو سريرته على وجهه سوادا وظلمة وشيئا وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته فيوم القيامة تبدو عليه سريرته ويكون الحكم والظهور لها قال الشاعر :
( فان لها في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبلى السرائر )
ثم أخبر سبحانه عن حال الانسان في يوم القيامة أنه غير ممتنع من عذاب الله لا بقوة منه ولا بقوة من خارج وهو الناصر فإن العبد إذا وقع في شدة فإما أن يدفعها بقوته أوقوة من ينصره وكلاهما معدوم في حقه ونظيره قوله سبحانه { لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون }
ثم أقسم سبحانه بـ { والسماء ذات الرجع * والأرض ذات الصدع } فأقسم بالسماء ورجعها بالمطر والأرض وصدعها بالنبات قال الفراء : تبدى بالمطر ثم ترجع به في كل عام وقال أبو إسحق : الرجع المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : تبدى بالمطر ثم ترجع به في كل عام والتحقيق أن هذا على وجه التمثيل ورجع السماء هو إعطاء الخير الذي يكون من جهتها حالا بعد حال على مرور الأزمان ترجعه رجعا أي تعطيه مرة بعد مرة والخير كله من قبل السماء يجيء ولما كان أظهر الخير المشهود بالعيان المطر فسر الرجع به وحسن تفسيره به ومقابلته بصدع الأرض عن النبات وفسر الصدع بالنبات لأنه يصدع الأرض أي يشقها فأقسم سبحانه بالسماء ذات المطر والأرض ذات النبات وكل من ذلك آية من آيات الله تعالى الدالة على ربوبيته
وأقسم على كون القرآن حقا وصدقا فقال { إنه لقول فصل * وما هو بالهزل } كما أقسم في أول السورة على حال الانسان في مبدئه ومعاده والقول الفصل هو الذي يفصل بين الحق والباطل فميز هذا من هذا ويفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ومصيب الفصل الذي ينفصل عنده المراد ويتميز من غيره كما قال : أصاب الفصل وأصاب المرء إذا أصاب بكلامه نفس المعنى المراد ومنه فصل الخطاب وأيضا فالقول الفصل ببيان المعنى ضد الاجمال فكون القرآن فصلا يتضمن هذه المعاني كلها ويتضمن كونه حقا ليس بالباطل وجدا ليس بالهزل ولما كان الهزل هو الذي لا حقيقة له - وهو الباطل واللعب - قابل بين الفصل والهزل وإنما يكيد المكذبون ويحيلون ويخادعون لرده ولا يردونه بحجة والله يكيدهم كما يكيدون دينه ورسوله وعباده وكيده سبحانه استدراجهم من حيث لا يعلمون والاملاء لهم حتى يأخذهم على غرة كما قال تعالى { وأملي لهم إن كيدي متين } فالانسان إذا أراد أن يكيد غيره يظهر له إكرامه وإحسانه إليه حتى يطمئن إليه فيأخذه كما يفعل الملوك فإذا فعل ذلك أعداء الله بأوليائه ودينه كان كيد الله لهم حسنا لاقبح فيه فيعطيهم ويعافيهم وهو يستدرجهم حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة
ثم قال { فمهل الكافرين أمهلهم رويدا } أي أنظرهم قليلا ولا تستعجل لهم والرب تعالى هو الذي يمهلهم وإنما خرج الخطاب للرسول على جهة التهديد والوعيد لهم أو على معنى انتظر بهم قليلا ورويدا في كلامهم يكون اسم فعل فينصب بها الاسم نحو رويدا زيدا أي خله وأمهله وارفق به : الثاني أن يكون مصدرا مضافا إلى المفعول نحو رويد زيد أي إمهال زيد نحو ضرب الرقاب الثالث أن يكون نعتا منصوبا نحو قولك : ساروا رويدا تقول العرب : ضعه رويدا أي وضعا رويدا وفي حديث عائشة في خروج النبي صلى الله عليه و سلم بالليل من عندها إلى البقيع [ فخرج رويدا وأجاف الباب رويدا ] ويجوز في هذا الوجه وجهان : أحدهما أن يكون حالا والثاني أن يكون نعتا لمصدر محذوف فإن اظهرت المنعوت تعين الوجه الثاني ورويدا في هذه الآية هو من هذا النوع الثالث والله أعلم

ومن ذلك أقسامه بـ { الشفق * والليل وما وسق * والقمر إذا اتسق } فأقسم بثلاثة أشياء متعلقة بالليل ( أحدها ) الشفق وهو في اللغة الحمرة بعد غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء الآخرة وكذلك هو في الشرع قال الفراء والليث والزجاج وغيرهم : الشفق الحمرة في السماء أصل موضوع الحرف لرقة الشيء ومنه شيء لا تماسك له لرقته ومنه الشفقة وهو الرقة وأشفق عليه إذا رقه له وأهل اللغة يقولون : الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها ولهذا كان الصحيح أن الشفق الذي يدخل وقت العشاء الآخرة بغيبوبته هو الحمرة فإن الحمرة لما كانت بقية ضوء الشمس جعل بقاؤها حدا لوقت المغرب فإذا ذهبت الحمرة بعدت الشمس عن الأفق فدخل وقت العشاء وأما البياض فإنه يمتد وقته بطول لبثه ويكون حاصلا مع بعد الشمس عن الأفق ولهذا صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : الشفق الحمرة والعرب تقول : ثوب مصبوغ كأنه الشفق إذا كان أحمر حكاه الفراء وكذلك قال الكلبي : الشفق الحمرة التي تكون في المغرب وكذلك قال مقاتل : هو الذي يكون بعد غروب الشمس في الأفق قبل الظلمة وقال عكرمة : هو بقية النهار وهذا يحتمل أن يريد به أن تلك الحمرة بقية ضوء الشمس التي هي آية النهار وقال مجاهد : هو النهار كله وهذا ضعيف جدا وكأنه لما رآه قابله بالليل وما وسق ظن أنه النهار وهذا ليس بلازم
( الثاني ) قسمه بالليل وما وسق أي وما ضم وحوى وجمع والليل وما ضمه وحواه آية أخرى والقمر آية واتساقه آية أخرى والشفق يتضمن إدبار النهار وهو آية وإقبال الليل وهو آية أخرى فإن هذا إذا أدبر خلفه الآخر يتعاقبان لمصالح الخلق فإدبار النهار آية وإقبال الليل آية وتعقب أحدهما الى آخر آية والشفق الذي هو متضمن الأمرين آية والليل - آية وما حواه آية والهلال آية وتزايده كل ليلة آية واتساقه - وهو امتلاؤه نورا - آية ثم أخذه في النقص آية وهذه وأمثالها آيات دالة على ربوبيته مستلزمة للعلم بصفات كماله ولهذا شرع - عند إقبال الليل وإدبار النهار - ذكر الرب تعالى بصلاة المغرب وفي الحديث [ اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعائك وحضور صلواتك اغفر لي ] كما شرع ذكر الله بصلاة الفجر عند إدبار الليل وإقبال النهار ولهذا يقسم سبحانه بهذين الوقتين كقوله { والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر } وهو يقابل إقسامه بالشفق : ونظيره إقسامه بـ { والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس }
ولما كان الرب تبارك وتعالى يحدث عن كل واحد من طرفي إقبال الليل والنهار وإدبارهما ما يحدثه ويبث من خلقه ما شاء فينشر الأرواح الشيطانية عند إقبال الليل وينشر الأرواح الإنسانية عند إقبال النهار فيحدث هذا الانتشار في العالم أثره - شرع سبحانه في هذين الوقتين هاتين الصلاتين العظيمتين مع ما في ذلك من ذكره عند هاتين الآيتين المتعاقبتين وعند انصرام إحداهما واتصال الأخرى بها مع ما بينهما من التضاد والاختلاف وانتقال الحيوان عند ذلك من حال إلى حال ومن حكم إلى حكم وذلك مبدأ ومعاد يومي مشهود للخليقة كل يوم وليلة فالحيوان والنبات في مبدأ ومعاد وزمان العالم في مبدأ ومعاد { أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير }

وقوله { لتركبن طبقا عن طبق } الظاهر أنه جواب القسم ويجوز أن يكون من القسم المحذوف جوابه ولتركبن وما بعده مستأنف
وقرئ ( لتركبن ) بضم الباء للجمع وبفتحها فمن فتحها فالخطاب عنده للإنسان أي لتركبن أيها الإنسان وقيل هو النبي صلى الله عليه و سلم خاصة وقيل : ليست التاء للخطاب ولكنها للغيبة أي لتركبن السماء طبقا عن طبق ومن ضمها فالخطاب للجماعة ليس إلا فمن جعل الكناية للسماء قال : المعنى لتركبن السماء حالا بعد حال من حالاتها التي وصفها الله تعالى من الانشقاق والانفطار والطي وكونها كالمهل مرة وكالدهان مرة ومورانها وتفتحها وغير ذلك من حالاتها وهذا قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ودل على السماء ذكر الشفق والقمر وعلى هذا فيكون قسما على المعاد وتغيير العالم
ومن قال الخطاب للنبي صلى الله عليه و سلم فله ثلاث معان : لتركبن سماء بعد سماء حتى تنتهي إلى حيث يصعدك الله هذا قول ابن عباس في رواية مجاهد وقول مسروق والشعبي قالوا : والسماء طبق ولهذا يقال للسماوات السبع الطباق والمعنى الثاني لتصعدن درجة بعد درجة ومنزلة بعد منزلة ورتبة بعد رتبة حتى تنتهي إلى محل القرب والزلفى من الله والمعنى الثالث لتركبن حالا بعد حال من الأحوال المختلفة التي نقل فيها رسوله صلى الله عليه و سلم من الهجرة والجهاد ونصره على عدوه وإدالة العدو عليه تارة وغناه وفقره وغير ذلك من حالاته التي تنقل فيها إلى أن بلغ ما بلغه إياه
ومن قال : الخطاب للإنسان أو لجملة الناس فالمعنى واحد وهو تنقل الإنسان حالا بعد حال من حيث كونه نطفة إلى مستقره من الجنة أو النار فكم بين هذين من الأطباق والأحوال للإنسان
وأقول المفسرين كلها تدور على هذا قال ابن عباس رضي الله عنهما : لتصيرن الأمور حالا بعد حال وقيل لتركبن أيها الإنسان حالا بعد حال من النطفة إلى العلقة إلى المضغة إلى كونه حيا إلى خروجه إلى هذه الدار ثم ركوبه طبق التمييز بين ما ينفعه ويضره ثم ركوبه بعد ذلك طبقا آخر وهو طبق البلوغ ثم ركوبه طبق الأشد ثم طبق الشيخوخة ثم طبق الهرم ثم ركوبه طبق ما بعد الموت في البرزخ وركوبه في أثناء هذه الأحوال أطباقا عديدة لا يزال ينتقل فيها حالا بعد حال إلى دار القرابة فذلك آخر أطباقه التي يعلمها العباد ثم يفعل الله سبحانه بعد ذلك ما يشاء
واختار أبو عبيدة قراءة الضم وقال : المعنى بالناس أشبه منه بالنبي صلى الله عليه و سلم فإنه ذكر قبل الآية من يؤتى كتابه بيمينه ومن يؤتى كتابه بشماله ثم ذكر بعدها قوله { فما لهم لا يؤمنون ؟ } فذكر كونهم طبقا بعد طبق قال الواحدي : وهذا قول أكثر المفسرين قالوا : لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر قال سعيد بن جبير وابن زيد : لتكونن في الآخرة بعد الأولى ولتصيرن أغنياء بعد الفقر وفقراء بعد الغنى وقال عطاء : شدة بعد شدة وقال أبو عبيدة لتركبن سنة من كان قبلكم في التكذيب والاختلاف على الرسل
وأنت إذا تأملت هذا المقسم به والمقسم عليه وجدته من أعظم الآيات الدالة على الربوبية وتغيير الله سبحانه للعالم وتصريفه له كيف أراد ونقله إياه من حال إلى حال وهذا محال أن يكون بنفسه من غير فاعل مدبر له ومحال أن يكون فاعله غير قادر ولاحي ولا مريد ولاحكيم ولا عليم وكلاهما في الامتناع سواء
فالمقسم به وعليه من أعظم الأدلة على ربوبيته وتوحيده وصفات كماله وصدقه وصدق رسله وعلى المعاد ولهذا عقب ذلك بقوله { فما لهم لا يؤمنون } إنكارا على من لم يؤمن بعد ظهور هذه الآيات المستلزمة لمدلولها أتم استلزام وأنكر عليهم عدم خضوعهم وسجودهم للقرآن المشتمل على ذلك بأفصح عبارة وأبينها وأجزلها و أوجزها فالمعنى أشرف معنى والعبارة أشرف عبارة : غاية الحق بغاية البيان والفصاحة
{ بل الذين كفروا يكذبون } ولا يصدقون بالحق جحودا وعنادا { والله أعلم بما يوعون } بما يضمرون في صدروهم ويكتمونه وما يسرونه من أعمالهم وما يجمعونه فيجازيهم عليه بعلمه وعدله { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون }
( 22 ) فصل
ومن ذلك قوله سبحانه { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس } أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة من طلوعها وجريانها وغروبها هذا قول علي وابن عباس وعامة المفسرين وهو الصواب

ومن ذلك قوله سبحانه { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس } أقسم سبحانه بالنجوم في أحوالها الثلاثة من طلوعها وجريانها وغروبها هذا قول علي وابن عباس وعامة المفسرين وهو الصواب
والخنس جمع خانس والخنس الانقباض والاختفاء ومنه سمي الشيطان خناسا لانقباضه وانكماشه حين يذكر العبد ربه ومنه قول أبي هريرة فانخنست والكنس جمع كانس وهو الداخل في كناسه أي في بيته ومنه تكنست المرأة إذا دخلت في هودجها ومنه كنست الظباء إذا أوت إلى أكناسها
والجواري جمع جارية كغاشية و غواش قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل وهذا قول مقاتل وعطاء وقتادة وغيرهم قالوا : الكواكب تخنس بالنهار فتختفي ولا ترى وتكنس في وقت غروبها ومعنى تخنس - على هذا القول - تتأخر عن البصر وتتوارى عنه بإخفاء النهار لها وفيه قول آخر وهو أن خنوسها رجوعها وهي حركتها الشرقية فإن لها حركتين حركة بفعلها وحركة بنفسها فخنوسها حركتها بنفسها راجعة وعلى هذا فهو قسم أن خنوسها و كنوسها اختفاؤها وقت مغيبها فتغيب في مواضعها التي تغيب فيها وهذا قول الزجاج
ولما كان للنجوم حال ظهور وحال اختفاء وحال جريان وحال غروب أقسم سبحانه بها في أحوالها كلها ونبه بخنوسها على حال ظهورها لأن الخنوس هو الاختفاء بعد الظهور ولا يقال لما لا يزال مختفيا : أنه قد خنس فذكر سبحانه جريانها وغروبها صريحا وخنوسها وظهورها واكتفى من ذكر طلوعها بجريانها الذي مبدؤه الطلوع فالطلوع أول جريانها
فتضمن القسم طلوعها وغروبها وجريانها واختفاءها وذلك من آياته ودلائل ربوبيته
وليس قول من فسرها بالظباء وبقر الوحش بالظاهر لوجوه ( أحدها ) أن هذه الأحوال في الكواكب السيارة أعظم آية وعبرة ( الثاني ) اشتراك أهل الأرض في معرفته بالمشاهدة والعيان ( الثالث ) أن البقر والظباء ليست لها حالة تختفي فيها عن العيان مطلقا بل لا تزال ظاهرة في الفلوات ( الرابع ) إن الذين فسروا الآية بذلك قالوا ليس خنوسها من الاختفاء قال الواحدي هو من الخنس في الأنف وهو تأخر الأرنبة وقصر القصبة والبقر والظباء أنوفهن خنس والبقرة خنساء والظبي أخنس ومنه سميت الخنساء لخنس أنفها ومعلوم أن هذا امر خفي يحتاج إلى تامل وأكثر الناس لا يعرفونه وآيات الرب التي يقسم بها لا تكون إلا ظاهرة جلية يشترك في معرفتها الخلائق وليس الخنس في أنف البقرة والظباء بأعظم من الاستواء والاعتدال في أنف ابن آدم فالآية فيه أظهر ( الخامس ) أن كنوسها في أكنتها ليس بأعظم من دخول الطير وسائر الحيوانات في بيته الذي يأوى فيه ولا اظهر منه حتى يتعين للقسم ( السادس ) أنه لو كان جمعا للظبي لقال الخنس - بالتسكين - لأنه جمع أخنس فهو كأحمر وحمر ولو أريد به جمع بقرة خنساء لكان على وزن فعلاء أيضا كخمراء وحمر فلما جاء جمعه على فعل - بالتشديد - استحال أن يكون جمعا لواحد من الظباء والبقر وتعين أن يكون جمعا لخانس كشاهد وشهد وصائم وصوم وقائم وقوم ونظائرها ( السابع ) أنه ليس بالبين أقسام الرب تعالى بالبقر والغزلان وليس هذا عرف القرآن ولاعادته وإنما يقسم سبحانه من كل جنس بأعلاه كما أنه لما أقسم بالنفوس أقسم بأعلاها وهي النفس الإنسانية ولما أقسم بكلامه أقسم بأشرفه وأجله وهو القرآن ولما أقسم بالعلويات أقسم بأشرفها وهي السماء وشمسها وقمرها ونجومها ولما أقسم بالزمان أقسم بأشرفها وهو الليالي العشر وإذا أراد سبحانه أن يقسم بغير ذلك أدرجه في العموم كقوله { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } وقوله { الذكر والأنثى } في قراءة رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحو ذلك ( الثامن ) أن اقتران القسم بالليل والصبح يدل على أنها النجوم وإلا فليس باللائق اقتران البقر والغزلان والليل والصبح في قسم واحد ؟ وبهذا احتج أبو إسحاق على أنهار النجوم فقال : هذا أليق بذكر النجوم منه بذكر الوحش ( التاسع ) أنه لو أراد ذلك سبحانه لبينه وذكر ما يدل عليه كما أنه لما أراد بالجواري السفن قال { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } وهنا ليس في اللفظ ولا في السياق ما يدل على أنها البقر والظباء وفيه ما يدل على أنها النجوم من الوجوه التي ذكرناها وغيرها ( العاشر ) أن الارتباط الذي بين النجوم التي هي هداية للسالكين و رجوم للشياطين وبين المقسم عليه - وهو القرآن الذي هو هدى للعالمين وزينة للقلوب وداحض لشبهات الشيطان - أعظم من الارتباط الذي بين البقر والظباء والقرآن والله أعلم

واختلف في عسعسة الليل هل هي إقباله أم إدباره ؟ فالأكثر ون على أن عسعس بمعنى ولى وذهب وأدبر هذا قول علي وابن عباس وأصحابه قال الحسن : أقبل بظلامه وهو إحدى الروايتين عن مجاهد
فمن رجح الإقبال قال : أقسم الله سبحانه وتعالى بإقبال الليل وإقبال النهار فقوله { والصبح إذا تنفس } مقابل لليل إذا عسعس قالوا : ولهذا أقسم الله بـ { والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى } وبالضحى قالوا فغشيان الليل نظير عسعسته وتجلى النهار نظير تنفس الصبح إذ هو مبدؤه وأوله
ومن رجح أنه إدباره احتج بقوله تعالى { كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر } فأقسم بإدبار الليل وإسفار الصبح وذلك نظير عسعسة الليل وتنفس الصبح قالوا : والأحسن أن يكون القسم بانصرام الليل وإقبال النهار فإنه عقيبه من غير فصل فهذا أعظم في الدلالة والعبرة بخلاف إقبال الليل وإقبال النهار فإنه لم يعرف القسم في القرآن بهما ولأن بينهما زمنا طويلا فالآية في انصرام هذا ومجيء الآخر عقيبه بغير فصل أبلغ فذكر سبحانه حالة ضعف هذا و إدباره و حالة قوة هذا وتنفسه وإقباله يطرد ظلمة الليل بتنفسه فكلما تنفس هرب الليل وأدبر بين يديه وهذا هو القول والله أعلم

ثم ذكر سبحانه المقسم عليه وهو القرآن وأخبر أنه قول رسول كريم وهو ههنا جبريل قطعا لأنه ذكر صفته بعد ذلك بما يعنيه به وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو محمد صلى الله عليه و سلم لأنه نفى بعده أن يكون قول من زعم من أعدائه أنه قوله فقال { وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون } فأضافه إلى الرسول الملكي تارة وإلى البشرى تارة وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده وإلا تناقصت النسبتان ولفظ الرسول يدل على ذلك فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله وهذا صريح في أنه كلام من أرسل جبريل ومحمدا صلى الله عليه و سلم وأن كلا منهما بلغه عن الله فهو قوله مبلغا وقول الله الذي تكلم به حقا فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلما بالقرآن وهو كلامه حقا في هاتين الآيتين بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تعالى وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ فجبريل سمعه من الله ومحمد صلى الله عليه و سلم سمعه من جبريل
ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين عند الرب تعالى مطاع في السموات أمين فهذه خمس صفات تتضمن تذكية سند القرآن وأنه سماع محمد من جبريل وسماع جبريل من رب العالمين فناهيك بهذا السند علوا وجلالة : قول الله سبحانه بنفسه تزكيته
الصفة الأولى كون الرسول الذي جاء به إلى محمد صلى الله عليه و سلم كريما ليس كما يقول أعداؤه : إن الذي جاء به شيطان فإن الشيطان خبيث مخبث لئيم قبيح المنظر عديم الخير باطنه أقبح من ظاهره وظاهره أشنع من باطنه وليس فيه ولا عنده خير فهو أبعد شيء عن الكرم والرسول الذي أ لقى القرآن إلى محمد صلى الله عليه و سلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير طيب مطيب معلم الطيبين وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر فهو مما أجراه ربه على يده وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي
الوصف الثاني أنه ذو قوة كما قال في موضع آخر { علمه شديد القوى } وفي ذلك تنبيه على أمور :
( أحدها ) أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو منه وأن ينالوا منه شيئا وأن يزيدوا فيه أو ينقصوا منه بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقربه
( الثاني ) أنه موال لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له ومواد له وناصر كما قال تعالى { وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور والله هاديه وناصره
( الثالث ) أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك
( الرابع ) أنه قادر على تنفيذ ما أمر به لقوته فلا يعجز عن ذلك مؤد له كما أمر به لأمانته فهو القوي الأمين وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها الوي عليه الأمين على فعله وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قويا أمينا معظما ذا مكانة عنده مطاعا في الناس كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفات وهذا يدل على عظمة شان المرسل والرسول والرسالة والمرسل إليه حيث انتدب له الكريم القوي المكين عنده المطاع في الملأ الأعلى الأمين حق الأمين فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية
وقوله { عند ذي العرش مكين } أي له مكانة ووجاهة عنده وهو أقرب الملائكة إليه وفي قوله { عند ذي العرش } إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريبا من ذي العرش سبحانه
وفي قوله ( مطاع ثم ) إشارة إلى أن جنوده وأعوانه يطيعونه إذا ندبه لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه و سلم وفيه إشارة أيضا إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعا في الأرض كما أن جبريل مطاع في السماء وأن كلا من الرسولين مطاع في محله وقومه وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع
وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حمله وأدائه على وجهه
ثم نزه رسوله البشرى وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال { وما صاحبكم بمجنون } وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين
ثم أخبر عن رؤيته صلى الله عليه و سلم لجبريل وهذا يتضمن أنه ملك موجود في الخارج يرى بالعيان ويدركه البصر لاكما يقول المتفلسفة ومن قلدهم : أنه العقل الفعال وأنه ليس مما يدرك بالبصر وحقيقته عندهم أنه خيال موجود في الأذهان لا في الأعيان وهذا مما خالفوا به جميع الرسل وأتباعهم وخرجوا به عن جميع الملل ولهذا كان تقرير رؤية النبي صلى الله عليه و سلم لجبريل أهم من تقرير رؤيته لربه تعالى فإن رؤيته لجبريل هي أصل الإيمان الذي لا يتم إلا باعتقادها ومن أنكرها كفر قطعا وأما رؤيته لربه تعالى فغايتها أن تكون مسألة نزاع لا يكفر جاحدها بالاتفاق وقد صرح جماعة من الصحابة بأنه لم يره وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك فنحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى وإن كانت رؤية الرب أعظم من رؤية جبريل ومن دونه فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة
ثم نزه رسوليه كليهما - أحدهما بطريق النطق والثاني بطريق اللزوم - عما يضاد مقصود الرسالة من الكتمان الذي هو الضنة والبخل والتبديل والتغيير الذي يوجب النهمة فقال { وما هو على الغيب بضنين } فإن الرسالة لا يتم مقصودها إلا بأمرين : أدائها من غير كتمان وأدائها على وجهها من غير زيادة ولا نقصان والقراءتان كالآيتين فتضمنت إحداهما - وهي قراءة الضاد - تنزيهه عن البخل فإن الضنين هو البخيل يقال ضننت به أضن بوزن بخلت به أبخل ومعناه ومنه قول جميل بن معمر :
( أجود بمضنون التلاد وإنني بسرك عمن سالني لضنين )
قال ابن عباس رضي الله عنهما : ليس بخيلا بما أنزل الله وقال مجاهد : لا يضن عليهم بما يعلم
وأجمع المفسرون على أن الغيب ههنا القرآن والوحي وقال الفراء يقول تعالى : يأتيه غيب السماء وهو منفوس فيه فلا يضن به عليكم وهذا معنى حسن جدا فإن عادة النفوس الشح بالشيء النفيس ولاسيما عمن لا يعرف قدره ويذمه ويذم من هو عنده ومع هذا فهذا الرسول لا يبخل عليكم بالوحي الذي هو أنفس شيء وأجله وقال أبو علي الفارسي : المعنى يأتيه الغيب فيبينه ويخبر به ويظهره ولا يكتمه كما يكتم الكاهن ما عنده ويخفيه حتى يأخذ عليه حلوانا وفيه منى آخر وهو أنه على ثقة من الغيب الذي يخبر به فلا يخاف أن ينتقض ويظهر الأمر بخلاف ما أخبر ب كما يقع للكهان وغيرهم ممن يخبر بالغيب فإن كذبهم أضعاف صدقهم وإذا أخبر أحدهم بخبر لم يكن على ثقة منه بل هو خائف من ظهور كذبه فإقدام هذا الرسول على الأخبار بهذا الغيب العظيم الذي هو أعظم الغيب واثقا به مقيما عليه مبديا له في كل مجمع ومعيدا مناديا به على صدقه مجلبا به على أعدائه من أعظم الأدلة على صدقه
أما قراءة من قرأ ( بظنين ) بالظاء فمعناه المتهم يقال : ظننت زيدا بمعنى اتهمته وليس من الظن الذي هو الشعور والإدراك فإن ذاك يتعدى إلى مفعولين ومنه ما أنشده أبو عبيدة :
( أما وكتاب الله لا عن شناءة هجرت ولكن المحب ظنين )
والمعنى : وما هذا الرسول على القرآن بمتهم بل هو أمين لا يزيد فيه ولا ينقص وهذا يدل على أن الضمير يرجع إلى محمد صلى الله عليه و سلم لأنه قد تقدم وصف الرسول الملكي بالأمانة ثم قال { وما صاحبكم بمجنون } ثم قال ( وما هو ) أي وما صاحبكم بمتهم ولا بخيل
واختار أبو عبيدة قراءة الظاء لمعنيين : أحدهما أن الكفار لم يبخلوه وإنما اتهموه فنفي التهمة أولى من نفي البخل الثاني أنه قال ( على الغيب ) ولو كان المراد البخل لقال بالغيب لأنه يقال فلان ضنين بكذا وقلما يقال على كذا
قلت : ويرجحه أنه وصفه بما وصف به رسوله الملكي من الأمانة فنفى عنه التهمة كما وصف جبريل بأنه أمين ويرجحه أيضا أنه سبحانه نفى أقسام ا لكذب كلها عما جاء به من الغيب فإن ذلك لو كان كذبا فإما أن يكون منه أو ممن علمه وإن كان منه فإما أن يكون تعمده أولم يتعمده فإن كان من معلمه فليس هو بشيطان رجيم وإن كان منه مع التعمد فهو المهم ضد الأمين وإن كان عن غير تعمد فهو المجنون فنفى سبحانه عن رسوله ذلك كله وزكى سند القرآن أعظم تزكية فلهذا قال سبحانه { وما هو بقول شيطان رجيم } ليس تعليم الشيطان ولا يقدر عليه ولا يحسن منه كما قال تعالى { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون } فنفى فعله وابتغاءه منهم وقدرتهم عليه وكل من له أدنى خبرة بأحوال الشياطين والمجانين والمتهمين وأحوال الرسل يعلم علما لا يمارى فيه ولايشك بل علما ضروريا كسائر الضروريات - منافاة أحدهما للآخر ومضادته له كمنافاة أحد الضدين لصاحبه بل ظهور المنافاة بين الأمرين للعقل أبين من ظهور المنافاة بين النور والظملة للبصر ولهذا وبخ سبحانه من كفر بعد ظهور هذا الفرق المبين بين دعوة الرسل ودعوة الشياطين فقال { أين تذهبون } ؟ قال أبو إسحاق فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينت لكم ؟
قلت : هذا من أحسن اللازم وأبينه أن تبين للسامع الحق ثم تقول له : إيش تقول خلاف هذا ؟ وأين تذهب خلاف هذا ؟ قال تعالى { فبأي حديث بعده يؤمنون } وقال { فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون ؟ } فالأمر منحصر في الحق والباطل والهدى والضلال فإذا عدلتم عن الهدى والحق فأين العدول وأين المذهب
ونظير هذا قوله { فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } أي إن أعرضتم عن الإيمان بالقرآن والرسول وطاعته فليس إلا الفساد في الأرض والشرك والمعاصي وقطيعة الرحم ونظيره قوله تعالى { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } لما تركوا الحق وعدلوا عنه مرج عليهم أمرهم والتبس فلا يدرون ما يقولون وما يفعلون بل لا يقولون شيئا إلا كان باطلا ولا يفعلون شيئا إلا كان ضائعا غير نافع لهم وهذا شأن كل من خرج عن الطريق الموصل إلى المقصود ونظيره قوله تعالى { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } وقد كشف هذا المعنى كل الكشف بقوله عز و جل { فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون }

ثم أخبر تعالى عن القرآن بأنه ذكر للعالمين وفي موضع آخر تذكرة للمتقين وفي موضع آخر لرسوله صلى الله عليه و سلم ولقومه وفي موضع آخر ذكر مطلق وفي موضع آخر ذكر مبارك وفي موضع آخر وصفه بأنه ذو الذكر
ويجمع هذه المواضع تبين المراد من كونه ذكرا عاما وخاصا وكونه ذا ذكر فإنه يكر العباد بمصالحهم في معاشهم ومعادهم ويذكرهم بالمبدأ والمعاد ويذكرهم بالرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وحقوقه على عباده ويذكرهم بالخير ليقصدوه وبالشر ليجتنبوه ويذكرهم بنفوسهم وأحوالها وآفاتها وما تكمل به ويذكرهم بعدوهم وما يريد منهم وبماذا يحترزون من كيده ومن أي الأبواب والطرق يأتي إليهم ويذكرهم بفاقتهم وحاجتهم إليه وأنهم مضطرون إليه لا يستغنون عنه نفسا واحدا ويذكرهم بنعمه عليهم ويدعوهم بها إلى نعم أخرى أكبر منها ويذكرهم بأسه وشده بطشه وانتقامه ممن عصى أمره وكذب رسله ويذكرهم بثوابه وعقابه
ولهذا يأمر سبحانه عباده أ يذكروا ما في كتابه كما قال : { خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون } وإذا كان كذلك فأحق وأولى وأول من كان ذاكرا له من أنزل عليه ثم لقومه ثم لجميع العالمين وحيث خص به المتقين فلأنهم الذين انتفعوا بذكره
وأما وصفه بأنه ذو الذكر فلانه مشتمل على الذكر فهو صاحب الذكر ومنه الذكر فهو ذكر وفيه الذكر كما أنه هدى وفيه الهدى وشفاء وفيه الشفاء ورحمه وفيه الرحمة
وقوله سبحانه { لمن شاء منكم أن يستقيم } بدل من العالمين وهو بدل بعض من كل وهذا من أحسن ما يستدل به على أن البدل في قوة ذكر عاملين مقصودين فإن جهة كونه ذكرا للعالمين كلهم غير جهة كونه ذكرا لأهل الإستقامة فإنه ذكر للعموم بالصلاحية والقوة وذكر لأهل الاستقامة بالحصول والنفع فكما أن البدل أخص من المبدل منه فالعامل المقدر فيه أخص من العامل الملفوظ في المبدل منه ولابد من هذا فتأمله
وقوله { لمن شاء منكم } رد على الجبرية القائلين بأن العبد لا مشيئة له أو أن مشيئته مجرد علامة على حصول الفعل لا ارتباط بينها وبينه إلا مجرد اقتران عادي من غير أن يكون سببا فيه
وقوله { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } رد على القدرية القائلين بأن مشيئة العبد مستقلة بإيجاد الفعل من غير توقف على مشيئة الله بل متى شاء العبد الفعل وجد ويستحيل عندهم تعلق مشيئة الله بفعل العبد بل هو يفعله بدون مشيئة الله
فالآيتان مبطلتان لقول الطائفتين فإن قال الجبري : هو سبحانه لم يقل إن الفعل واقع بمشيئة العبد بل أخبر أن الاستقامة تحصل عند المشيئة ونحن قائلون بذلك وقال القدري قوله { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } مختلفة فمشيئة العبد هي الموجبة للفعل التي بها يقع ومشيئة الله لفعله هو أمره بذلك ونحن لا ننكر ذلك
فالجواب أن هذا من تحريف الطائفتين أما الجبري فيقال له اقتران الفعل عندك بمشيئة العبد بمنزلة اقترانه بكونه وشكله وسائر أغراضه التي لا تأثير لها في الفعل فإن نسبة جميع أغراضه إلى الفعل في عدم التأثير نسبة إرادية عندك و الإتران حاصل بجميع أغراضه فما الذي أوجب تخصيص المشيئة ؟ سوى الله سبحانه في فطر الناس أو عقولهم أو شرائعهم بين نسبة المشيئة والإرادة إلى الفعل ونسبة سائر أغراض الحي إذا كان عندك ليس إلا مجرد الاقتران عادة ؟ والاقتران العادي حاصل مع الجميع
وأما القدي فتحريفه أشد لأنه حمل المشيئة على الأمر وقال : المعنى وما تشاؤون إلا بأمر الله وهذا باطل قطعا فإن المشيئة في القرآن لم تستعمل في ذلك وإنما استعملت في مشيئة التكوين كقوله { ولو شاء ربك ما فعلوه } وقوله { ولو شاء الله ما اقتتلوا } وقوله { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } وقوله { أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } ونظائر ذلك مما لا يصح فيه حمل المشيئة على الأمر البتة
والذي دلت عليه الآية مع سائر أدلة التوحيد وأدلة العقل الصريح أن مشيئة العبادة من جملة الكائنات التي لا توجد إلا بمشيئة الله سبحانه وتعالى فما لم يشأ لم يكن البتة كما أن ما شاء كان ولابد
ولكن ههنا أمرا يجب التنبيه عليه وهو أن مشيئة الله سبحانه تارة تتعلق بفعله وتارة تتعلق بفعل العبد فتعلقها بفعله وهو أن يشاء من نفسه إعانة عبده وتوفيقه وتهيئته للفعل فهذه المشيئة تستلزم فعل العبد ومشيئته ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة الله لمشيئة عبده دون أن يشاء فعله فإنه سبحانه قد يشاء من عبده المشيئة وحدها فيشاء العبد الفعل ويريده ولا يفعله لأنه لم يشأ من نفسه إعانته عليه وتوفيقه له
وقد دل على هذا قوله تعالى { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين } وقوله { وما يذكرون إلا أن يشاء الله }
وهاتان الآيتان متضمنتان إثبات الشرع والقدر والأسباب والمسببات وفعل العبد واستناده إلى فعل الرب ولكل منهما عبودية مختص بها : فعبودية الآية الأولى والاجتهاد و استفراغ الوسع والاختيار و السعي وعبودية الثانية الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجوء إليه واستنزال التوفيق والعون منه والعلم بأن العبد لا يمكنه أن يشاء ولا يفعل حتى يجعله الله كذلك
وقوله ( رب العالمين ) ينتظم ذلك كله ويتضمنه فمن عطل أحد الأمرين فقد جحد كمال الربوبية وعطلها وبالله التوفيق

ومن ذلك قوله تعالى { والنازعات غرقا * والناشطات نشطا * والسابحات سبحا * فالسابقات سبقا * فالمدبرات أمرا } فهذه خمسة أمور وهي صفات الملائكة
فأقسم سبحانه بالملائكة الفاعلة لهذه الأفعال إن ذلك من أعظم آياته وحذف مفعول النزع والنشط لأنه لو ذكر ما تنزع وتنشط لأوهم التقييد به وأن القسم على نفس الأفعال الصادرة من هؤلاء الفاعلين فلم يتعلق الغرض بذكر المفعول كقوله { فأما من أعطى واتقى } ونظائره فكان نفس النزع هو المقصود لا عين المنزوع
وأكثر المفسرين على أنها الملائكة التي تنزع أرواح بني آدم من أجسامهم وهم جماعة كقوله { توفته رسلنا } وقوله { إن الذين توفاهم الملائكة } وأما قوله { قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم } فأما أن يكون واحدا وله أعوان وإما أن يكون المراد الجنس لا الوحدة كقوله { وصدقت بكلمات ربها وكتبه } وقوله { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها }
والنزع هو اجتذاب الشيء بقوة والإغراق في النزع هو أن يجتذبه إلى آخره ومنه إغراق النزع في جذب القوة بأن يبلغ بها غاية المد فيقال : أغرق في النزع ثم صار مثلا لكل من بالغ في فعل حتى وصل إلى آخره
والغرف اسم مصدر أقيم مقامه كالعطاء والكلام أقيم مقامه الاعطاء والتكلم
واختلف الناس هل النازعات متعد أو لازم ؟ فعلى القول الذي حكيناه يكون متعديا وهذا قول علي ومسروق ومقاتل وأبي صالح وعطيه عن ابن عباس وقال ابن مسعود : هي أنفس الكفار وهو قول قتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس وعلى هذا فهو فعل لازم وغرقا على هذا معناه نزعا شديدا أبلغ ما يكون وأشده
وفي هذا القول ضعف من وجوه ( أحدها ) أن عطف ما بعده عليه يدل على أنها الملائكة فهي السابحات والمدبرات والنازعات ( الثاني ) أن الأقسام بنفوس الكفار خاصة ليس بالبين ولا في اللفظ ما يدل عليه ( الثالث ) أن النزع مشترك بين نفوس بني آدم والإغراق لا يختص بالكافر وقال الحسن : النازعات هي النجوم تنزع من الشرق إلى الغرب وغرقا هي غروبها قال : تنزع من ههنا وتغرق ههنا واختاره الأخفش وأبو عبيد وقال مجاهد : هي شدائد الموت وأهواله التي تنزع الأرواح نزعا شديدا وقال عطاء وعكرمة : هي القسى والنازعات على هذا القول بمعنى النسب أو ذوات النزع التي ينزع بها الرامي فهو النازع
قلت : النازعات اسم فاعل من نزع ويقال : نزع كذا إذا اجتذبه بقوة ونزع عنه إذا خلاه وتركه بعد ملابسته له ونزع إليه ذهب إليه وما إليه وهذا إنما توصف به النفوس التي لها حركة إرادية للميل إلى الشيء أو الميل عنه وأحق ما صدق عليه الوصف الملائكة لأن هذه القوة فيها أكمل وموضع الآية فيها أعظم فهي التي تغرق في النزع إذا طلبت ما تنزعه أو تنزع إليه والنفس الإنسانية أيضا لها هذه القوة والنجوم أيضا تنزع من أفق إلى أفق فالنزع حركة شديدة سواء كانت من ملك أو نفس إنسانية أونجم والنفوس تنزع إلى أوطانها وإلى مألفها وعند الموت تنزع بها إلى المنايا تنزع النفوس والقسى تنزع بالسهام والملائكة تنزع من مكان إلى مكان وتنزع ما وكلت بنزعه والخيل تنزع في أعنتها نزعا تغرف فيه الأعنة لطول أعناقها
فالصفة واقعة على كل من له هذه الحركة التي هي آية من آيات الرب تعالى فإنه هو الذي خلقها وخلق محلها وخلق القوة والنفس التي بها تتحرك ومن ذكر صورة من هذه الصور فإنما أراد التمثيل وإن كانت الملائكة أحق من تناوله هذا الوصف
فأقسم بطوائف الملائكة وأصنافهم : فهم النازعات التي تنزع الأرواح من الأجساد والناشطات التي تنشطها أي تخرجها بسرعة وخفة من قولهم : نشط الدلو من البئر إذا أخرجها وأنا أنشط بكذا أي أخف له وأسرع ( والسابحات ) التي تسبح في الهواء في طريق ممرها إلى ما أمرت به كما تسبح الطير في الهواء ( فالسابقات ) التي تسبق وتسرع إلى ما أمرت به لا تبطئ عنه ولا تتأخر ( فالمدبرات ) أمور العباد التي أمرها ربها بتدبيرها وهذا أولى الأقوال
وقد روي عن ابن عباس : أن ( النازعات ) الملائكة تنزع نفوس الكفار بشدة وعنف ( والناشطات ) الملائكة التي تنشط أرواح المؤمنين بيسر وسهولة واختار الفراء هذا القول فقال : هي الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها وتنزع نفس الكافر قال الواحدي : إنما اختار ذلك لما بين النشط والنزع من الفرق في الشدة واللين فالنزع الجذب بشدة والنشط الجذب برفق ولين ( والناشطات ) هي النفوس التي تنشط لما أمرت به والملائكة أحق الخلق بذلك ونفوس المؤمنين ناشطة لما أمرت به
وقيل ( السابحات ) هي النجوم تسبح في الفلك كما قال تعالى { كل في فلك يسبحون } وقيل : هي السفن تسبح في الماء وقيل : هي نفوس المؤمنين تسبح بعد المفارقة صاعدة إلى ربها
قلت : والصحيح أنها الملائكة والسياق يدل عليه وأما السفن والنجوم فإنما تسمى جارية وجواري كما قال تعالى { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام } وقال { حملناكم في الجارية } وقال { الجوار الكنس } ولم يسمها سابحات وإن أطلق عليها فعل السباحة كقوله { كل في فلك يسبحون } ويدل عليه ذكره السابقات بعدها والمدبرات بالفاء وذكره الثلاثة الأول بالواو لأن السبق والتدبير مسبب عن المذكور قبله فإنها نزعت ونشطت وسبحت فسبقت إلى ما أمرت به فدبرته ولو كانت هي السفن أو النجوم أو النفوس الآدمية لما عطف عليها فعل السبق والتدبير بالفاء فتأمله
قال مسروق ومقاتل والكلبي : ( فالسابقات سبقا ) هي الملائكة قال مجاهد وأبو روق : سبقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح والإيمان والتصديق قال مقاتل : تسبق بأرواح المؤمنين الجنة وقال الفراء والزجاج : هي الملائكة تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء إذا كانت الشياطين تسترق السمع وهذا القول خطأ لا يخفى فساده إذ يقتضي الاشتراك بين الملائكة والشياطين في إلقائهم الوحي وأن الملائكة تسبقهم به إلى الأنبياء وهذا ليس بصحيح فإن الوحي الذي تأتى به الملائكة إلى الأنبياء لا تسترقه الشياطين وهم معزولون عن سماعه وإن استرقوا بعض ما يسمعونه من ملائكة السماء الدنيا من أمور الحوادث فالله سبحانه صان وحيه إلى الأنبياء أن تسترق الشياطين شيئا منه وعزلهم عن سمعه ولو أن قائل هذا القول فسر السابقات بالملائكة التي تسبق الشياطين بالرجم بالشهب قبل إلقاء الكلمة التي استرقها لكان له وجه فإن الشيطان يبدو مسرعا بإلقائه إلى وليه فتسبقه الملائكة في نزوله بالشهب الثاقب فتهلكه وربما ألقى الكلمة قبل إدراك الشهاب له
وفسرت ( السابقات سبقا ) بالأنفس السابقات إلى طاعة الله ومرضاته
وأما ( المدبرات أمرا ) فأجمعوا على أنها الملائكة قال مقاتل : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت : يدبرون أمر الله تعالى في الأرض وهم ( المقسمات أمرا ) قال عبد الرحمن بن ساباط : جبريل موكل بالرياح والجنود وميكائيل موكل بالفطر والنبات وملك الموت موكل بقبض الأنفس وإسرافيل ينزل بأمر الله عليهم وقال ابن عباس : هم الملائكة وكلهم الله بأمور عرفهم العمل بها والوقوف عليها بعضهم لبني آدم يحفظون ويكتبون وبعضهم وكلوا بالأمطار والنبات والخسف والمسخ والرياح والسحاب إنتهى
وقد أخبر أن الله وكل بالرجم ملكا وللرؤيا ملك موكل بها وللجنة ملائكة موكلون بعمارتها وعمل آلاتها وأوانيها وغراسها وفرشها ونمارقها وأرائكها وللنار ملائكة موكلة بعمل ما فيها وإيقادها وغير ذلك
فالدنيا وما فيها والجنة والنار والموت وأحكام البرزخ - وكل الله بذلك كله ملائكة يدبرون ما شاء الله من ذلك ولهذا كان الإيمان بالملائكة أحد أركان الإيمان الذي لا يتم الإيمان إلا به
وأما من قال أنها النجوم فليس هذا من قول أهل الإسلام ولم يجعل الله النجوم تدبر شيئا من الخلق بل هي مدبرة ومسخرة كما قال تعالى { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } فالله سبحانه هو المدبر بملائكته لأمر العالم العلوي والسفلي
قال الجرجاني : وذكر السابقات والمدبرات بالفاء وما قبلها بالواو لأن ما قبلها أقسام مستأنفة وهذان القسمان منشآن عن الذي قبلهما كأنه قال : فاللاتي سبحن فسبقن كما نقول قام فذهب أوجب الفاء أن القيام كان سببا للذهاب ولو قلت : قام وذهب لم تجعل القيام سببا للذهاب
واعترض عليه الواحدي فقال : هذا غير مطرد في هذه الآية لأنه يبعد أن يجعل السبق سببا للتدبير مع أن السابقات ليست الملائكة في قول المفسرين
قلت : الملائكة داخلون في السابقات قطعا وأما اختصاص السابقات بالملائكة فهذا محتمل وأما قوله : يبعد أن يكون السبق سببا للتدبير فليس كما زعم بل السبق المبادرة إلى تنفيذ ما يؤمر به الملك فهو سبب للفعل الذي أمر به وهو التدبير مع أن الفاء دالة على التعقيب وأن التدبير يتعقب السبق بلا تراخ بخلاف الأقسام الثلاثة والله أعلم
وجواب القسم محذوف يدل عليه السياق - وهو البعث المستلزم لصدق الرسول وثبوت القرآن أو أنه من القسم الذي أريد به التنبيه على الدلالة والعبرة بالمقسم به دون أن يراد به مقسما عليه بعينه وهذا القسم يتضمن الجواب المقسم عليه وإن لم يذكر لفظا ولعل هذا مراد من قال أنه محذوف العلم به لكن هذا الوجه ألطف مسلكا فإن المقسم به إذا كان دالا على المقسم عليه مستلزما استغنى عن ذكره بذكره وهذا غير كونه محذوفا لدلالة ما بعده عليه فتأمله ولعل هذا قول من قال أنه إنما أقسم برب هذه الأشياء وحذف المضاف فإن معناه صحيح لكن على غير الوجه الذي قدروه فإن إقسامه سبحانه بهذه الأشياء لظهور دلالتها على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وقدرته وحكمته فالاقسام بها في الحقيقة إقسام بربوبيته وصفات كماله فتأمله
ثم قرر سبحانه بعد هذا القسم أمر المعاد ونبوة موسى المستلزمة لنبوة محمد صلى الله عليه و سلم إذ من المحال أن يكون موسى نبيا ومحمد ليس نبيا مع أن ما يثبت نبوة موسى فلمحمد نظيره أو أعظم منه وقرر سبحانه تكليمه لموسى بندائه لو بنفسه فقال { إذ ناداه ربه } فأثبت المستلزم للكلام والتكليم وفي موضع آخر أثبت النجاء والنداء والنجاء نوع من التكليم ومحال ثبوت النوع بدون الجنس
ثم أمره أن يخاطبه بألين خطاب فيقول له : { هل لك إلى أن تزكى * وأهديك إلى ربك فتخشى } ففي هذا من لطف الخطاب ولينه وجوهك
( أحدهما ) : إخراج الكلام مخرج العرض ولم يخرج مخرج الأمر والإلزام وهو ألطف ونظيره قول إبراهيم لضيفه المكرمين { ألا تأكلون } ولم يقل كلوا ( الثاني ) قوله { إلى أن تزكى } والتزكي والنماء والطهارة والبركة والزيادة فعرض عليه أمرا يقبله كل عاقل ولا يرده إلا كل أحمق جاهل ( الثالث ) قوله ( تزكى ) ولم يقل أزكيك فأضاف التزكية إلى نفسه وعلى هذا يخاطب الملوك ( الرابع ) قوله ( وأهديك ) أي أكون دليلا لك وهاديا بين يديك فنسب الهداية إليه والتزكي إلى المخاطب أي أكون دليلا لك وهاديا فتزكى أنت كما تقول للرجل : هل لك أن أدلك على كنز تأخذ منه ما شئت ؟ وهذا أحسن من قوله أعطيك ( الخامس ) قوله ( إلى ربك ) فإن في هذا ما يوجب قبول ما دل عليه وهو أنه يدعوه ويوصله إلى ربه فاطره وخالقه الذي أوجده ورباه بنعمه : جنينا وصغيرا وكبيرا وآتاه الملك وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام كما تقول لمن خرج عن طاعة سيده : ألا تطيع سيدك ومولاك و مالكك ؟ وتقول للوالد ألا تطيع أباك الذي رباك ( السادس ) قوله ( فتخشى ) أي إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته لأن من عرف الله خافه ومن لم يعرفه لم يخفه فخشيته تعالى مقرونة بمعرفته وعلى قدر المعرفة تكون الخشية ( السابع ) أن في قوله { هل لك } فائدة لطيفة وهي أن المعنى هل لك في ذلك حاجة أو أرب ؟ ومعلوم أن كل عاقل يبادر إلى قبول ذلك لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته لا إلى حاجة الداعي فكأنه يقول : الحاجة لك وأنت المتزكي وأنا الدليل لك والمرشد لك إلى أعظم مصالحك فقابل هذا بغاية الكفر والعناد وادعى أنه رب العالمين هذا وهو يعلم أنه ليس بالذي خلق فوسى ولا در فهدى فكذب الخبر وعصى الأمر ثم أدبر يسعى بالخديعة والمكر فحشر جنوده فأجابوه ثم نادى فيهم بأنه ربهم الأعلى و استخفهم فأطاعوه فبطش به جبار السموات والأرض بطشة عزيز مقتدر وأخذه نكال الآخرة والأولى ليعتبر بذلك من يعتبر فاعتبر بذلك من خشى ربه من المؤمنين وحق القول على الكافرين
ثم أقام سبحانه حجته على العالمين بخلق ما هو أشد منهم وأكبر وأعظم وأعلى وأرفع وهو خلق السماء وبناؤها ورفع سمكها وتسويتها وإظلام ليلها وإخراج ضحاها وخلق الأرض ومدها وبشطها وتهيئتها لما يراد منها وأخرج منها شراب الحيوان وأقواتهم وأرسى الجبال فجعلها رواسي للأرض لئلا تميد بأهلها وأودعها من المنافع ما يتم به مصالح الحيوان الناطق والبهيم فمن قدر على ذلك كله كيف يعجز عن إعادتهم خلقا جديدا ؟
فتأمل دلالة المقسم به المذكور في أول السورة على المعاد والتوحيد وصدق الرسل كدلالة هذا الدليل المذكور وإذا كان هذا هو المقصود لم يكن محتاجا إلى جواب والله أعلم

ومن ذلك قوله تعالى { والمرسلات عرفا * فالعاصفات عصفا * والناشرات نشرا * فالفارقات فرقا * فالملقيات ذكرا * عذرا أو نذرا * إنما توعدون لواقع } فسرت المرسلات بالملائكة وهو قول أبي هريره وابن عباس في رواية مقاتل وجماعة وفسرت بالرياح وهو قول ابن مسعود وإحدى الرواينين عن ابن عباس وقول قتاده وفسرت بالسحاب وهو قول الحسن وفسرت بالأنبياء وهو رواية عطاء عن ابن عباس
قلت : الله سبحانه يرسل الملائكة ويرسل الأنبياء ويرسل الرياح ويرسل السحاب فيسوقه حيث يشاء ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء فإرساله واقع على ذلك كله وهو نوعان : إرسال دين يحبه ويرضاه كإرسال رسله وأنبيائه وإرسال كون وهو نوعان : نوع يحبه ويرضاه كإرسال ملائكته في تدبير أمر خلقه ونوع لايحبه بل يسخطه ويبغضه كإرسال الشيطان على الكفار
فالإرسال المقسم به ههنا مقيد بالعرف فإما أن يكون ضد المنكر فهو إرسال رسله من الملائكة ولا يدخل في ذلك إرسال الرياح ولا الصواعق ولا الشياطين وأما إرسال الأنبياء فلو أريد لقال : والمرسلين وليس بالفصيح تسمية الأنبياء مرسلات وتكلف الجماعات المرسلات خلاف المعهود من استعمال اللفظ فلم يطلق في القرآن جمع ذلك إلا جمع تذكير لا جمع تأنيث وأيضا فاقتران اللفظة بما بعدها من الأقسام لا يناسب تفسيرها بالأنبياء وأيضا فإن الرسل مقسم عليهم في القرآن لا مقسم بهم كقولهم { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } وقوله { إنك لمن المرسلين } وقوله { يس * والقرآن الحكيم * إنك لمن المرسلين } وإن كان العرف من التابع كعرف الفرس وعرف الديك والناس إلى فلان عرف واحد أي سابقون في قصده والتوجيه إليه - جاز أن تكون المرسلات الرياح ويؤيده عطف العاصفات عليه والناشرات وجاز أن تكون الملائكة وجاز أن يعم النوعين لوقوع الإرسال عرفا عليهما ويؤيده أن الرياح موكل بها ملائكة تسوقها وتصرفها ويؤيد كونها الرياح عطف العاصفات عليها بفاء التعقيب والتسبب فكأنها أرسلت فعصفت ومن جعل المرسلات الملائكة قال : هي تعصف في مضيها مسرعة كما تعصف الرياح و الأكثرون على أنها الرياح وفيها قول ثالث أنها تعصف بروح الكافر يقال عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه قال الأعشي :
( تعصف بالدارع والحاسر )
حكاه أبو اسحق وهو قول متكلف فإن المقسم به لا بد أن يكون آية ظاهره تدل على الربوبية وأما الأمور الغائبة التي يؤمن بها يقسم عليه وإنما يقسم سبحانه بملائكته وكتابه لظهور شأنهما ولقيام الأدلة والأعلام الظاهره الدالة على ثبوتهما
وأما { الناشرات نشرا } فهو استئناف قسم آخر ولهذا أتى به بالواو وما قبله معطوف على القسم الأول بالفاء قال ابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة : هي الرياح تأتي بالمطر ويدل على صحة قولهم قوله تعالى { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } يعني أنها تنشر السحاب نشرا وهو ضد الطي وقال مقاتل : هي الملائكة تنشر كتب بني آدم وصحائف أعمالهم وقاله مسروق وعطاء بن ابن عباس وقالت طائفة : هي الملائكة تنشر أجنحتها في الجو عند صعودها ونزولها وقيل : تنشر أوامر الله في الأرض والسماء وقيل : تنشر النفوس فتحييها بالإيمان وقال أبو صالح : هي الأمطار تنشر الأرض أي تحييها
قلت : ويجوز أن تكون الناشرات لازما لا مفعول له ولا يكون المراد أنهن نشرن كذا فإنه يقال : نشر الميت : حيى وأنشره الله إذا أحياه فيكون المراد بها الأنفس التي حييت بالعرف الذي أرسلت به المرسلات أو الأشباح والأرواح والبقاع التي حييت بالرياح المرسلات فإن الرياح سبب لنشور الأبدان والنبات والوحي سبب لنشور الأرواح وحياتها لكن هنا أمرا ينبغي التفطن له وهو أنه سبحانه جعل الأقسام في هذه السورة نوعين وفصل أحدهما من الآخر وجعل العاصفات معطوفا على المرسلات بفاء التعقيب فصارا كأنهما نوع واحد ثم جعل الناشرات كأنه قسم مبتدأ فأتى فيه بالواو ثم عطف عليه الفارقات والملقيات بالفاء فأوهم هذا أن الفارقات والملقيات مرتبط بالناشرات وأن العاصفات مرتبط بالمرسلات وقد اختلف في الفارقات والأكثرون على أنها الملائكة ويدل عليه عطف الملقيات ذكرا عليها بالفاء وهي الملائكة بالاتفاق
وعلى هذا فيكون القسم بالملائكة التي تنشر أجنحتها عند النزول ففرقت بين الحق والباطل فألقت الذكر على الرسل إعذارا وإنذارا
ومن جعل الناشرات الرياح جعل الفارقات صفة لها وقال : هي تفرق السحاب ههنا وههنا ولكن يأبى ذلك عطف الملقيات بالفاء عليها ومن قال : الفارقات أي القرآن يفرق بين الحق والباطل فقوله يلتئم مع كون الناشرات الملائكة أكثر من التئامه إذا قيل : إنها الرياح ومن قال : هي جماعات الرسل فإن أراد الرسل من الملائكة فظاهر وإن أراد الرسل من البشر فقد تقدم بيان ضعف هذا القول
ويظهر - والله أعلم بما أراد من كلامه - أن القسم في هذه الآية وقع على النوعين : الرياح والملائكة ووجه المناسبة أن حياة الأرض والنبات وأبدان الحيوان بالرياح فإنها من روح الله وقد جعلها الله تعالى نشورا وحياة القلوب والأرواح بالملائكة فبهذين النوعين يحصل نوعا الحياة ولهذا - والله أعلم - فصل أحد النوعين من الآخر بالواو وجعل ما هو تابع لكل نوع بعده بالفاء
وتأمل كيف وقع القسم في هذه السورة على المعاد والحياة الدائمة الباقية وحال السعداء والأشقياء فيها وقررها بالحياة الأولى في قوله { ألم نخلقكم من ماء مهين } فذكر فيها المبدأ والمعاد وأخلص السورة لذلك فحسن الأقسم بما يحصل من نوعا الحياة المشاهدة وهو الرياح والملائكة فكان في القسم بذلك أبين دليل وأظهر آية على صحة ما أقسم عليه وتضمنته السورة ولهذا كان المكذب بعد ذلك في غاية الجحود والعناد والكفر فاستحق الويل بعد الويل فتضاعف عليه الويل كما تضاعف منه الكفر والتكذيب
فلا أحسن من هذا التكرار في هذا الموضع ولا أعظم منه موقعا فإنه تكرر عشر مرات ولم يذكر إلا في أثر دليل أو مدلول عليه عقيب ما يوجب التصديق وما يوجب التصديق به فتأمله

ومن ذلك قوله تعالى { لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة } وقد تقدم ذكر هذين القسمين ومناسبة الجمع بينهما في الذكر وكون الجواب غير مذكور وأنه يجوز أن يكون مما حذف لدلالة السياق عليه والعلم به ويجوز أن يكون من القسم المقصود به التنبيه على دلالة المقسم به وكونه آية ولم يقصد به مقسما عليه معينا فكأنه يقول : اذكر يوم القيامة والنفس اللوامة مقسما بها لكونها من آياتنا وأدلة ربوبيتنا
ثم أنكر على الإنسان بعد هذه الآية حسبانه وظنه أن الله لا يجمع عظامه بعدما فرقها البلى ثم أخبر سبحانه عن قدرته على جمع غيرها من عظامه وعلى هذا فيكون سبحانه قد احتج على فعله لما أنكره أعداؤه بقدرته عليه وأخبر عن فعله بأنه لا يلزمهم من القدرة ووقوع المقدور والمعنى : بل نجمعها قادرين على تسوية بنانه ودل على هذا المعنى المحذوف قوله ( بلى ) فإنها حرف إيجاب لما تقدم من النفي فلهذا يستغنى عن ذكر الفعل بذكر الحرف الدال عليه فدلت الآية على الفعل وذكرت القدرة لإبطال قول المكذبين
وفي ذكر البنان لطيفة أخرى وهي أنها أطرافه وآخر ما يتم به خلقه فمن قدر على جمع أطرافه وآخر ما يتم به خلقه مع دقتها وصغرها ولطافتها فهو على مادون ذلك أقدر فالقوم لما استبعدوا جمع العظام بعد الفناء و الإرمام قيل إنا نجمع ونسوى أكثرها تفرقا وأدقها أجزاء وآخر أطراف البدن وهي عظام الأنامل ومفاصلها
وقالت طائفة : المعنى نحن قادرون على أن نسوى أصابع يديه ورجليه ونجعلها مستوية شيئا واحدا كخف البعير وحافر الحمار لا نفرق بينهما ول أيمكنه أن يعمل بها شيئا مما يعمل بأصابعه المفرقة ذات المفاصل والأنامل من فنون الأعمال والبسط والقبض والتأتي لما يريد من الحوائج وهذا قول ابن عباس وكثير من المفسرين والمعنى على هذا القول : إنا في الدنيا قادرون على أن نجعل عظام بنانه مجموعة دون تفرق فكيف لا نقدر على جمعها بعد تفريقها
فهذا وجه من الاستدلال غير الأول وهو الاستدلال بقدرته سبحانه على جمع العظام التي فرقها ولم يجمعها والأول استدلال بقدرته سبحانه على جمع عظامه بعد تفريقها وهما وجهان حسنان وكل منهما له ترجيح من وجه فيرجح الأول أنه هو المقصود وهو الذي انكره الكفار وهو إجراء على نسق الكلام وأطراده و لأن الكلام لم يسق لجمع العظام وتفريقها في الدنيا وإنما سبق لجمعها في الآخرة بعد تفرقها بالموت ويرجح القول الثاني - ولعله قول جمهور المفسرين حتى أن فيهم من لم يذكر غيره - وأنه استدلال بآية ظاهرة مشهورة وهي تفريق البنان مع انتظامها في كف واحد وارتباط بعضها ببعض فهي متفرقة في عضو واحد يقبض منها واحدة ويبسط أخرى ويحرك واحدة والأخرى ساكنة ويعمل بواحدة والأخرى معطلة وكلها في كف واحد قد جمعها ساعد واحد فلو شاء سبحانه لسواها فجعلها صفة واحدة كباطن الكف ففاته هذه المنافع والمصالح التي حصلت بتفريقها ففي هذا أعظم الأدلة على قدرته سبحانه على جمع عظامه بعد الموت
ثم أخبر سبحانه عن سوء حال الإنسان وإصراره على المعصية والفجور وأنه لا يرعوي ولا يخاف يوما يجمع الله فيه عظامه و يبعثه حيا بل هو مريد للفجور ما عاش فيفجر في الحال ويريد الفجور في غد وما بعده وهذا ضد الذي يخاف الله والدار الآخرة فهذا لا يندم على ما مضى منه ولا يقلع في الحال ولا يعزم في المستقبل على الترك بل هو عازم على الاستمرار وهذا ضد التائب المنيب
ثم نبه سبحانه على الحامل له على ذلك وهو استبعاده ليوم القيامة وليس هذا استبعادا لزمنه مع إقراره بوقوعه بل هو استبعاد لوقوعه كما حكى عنه في موضع آخر قوله { ذلك رجع بعيد } أي بعيد وقوعه وليس المراد أنه واقع بعيد زمنه هذا قول جماعة من المفسرين منهم ابن عباس وأصحابه قال ابن عباس : يقدم الذنب ويؤخر التوبة وقال قتادة : وعكرمة : قدما في معاصي الله لا ينزع عن فجوره
وفي الآية قول آخر وهو أن المعنى بل يريد الإنسان ليكذب بما أمامه عن البعث ويوم القيامة وهذا قول ابن زيد واختيار ابن قتيبة وابن اسحق قال هؤلاء : ودليل ذلك قوله { يسأل أيان يوم القيامة } ويرجع هذا القول لفظه ( بل ) فإنها تعطى أن الإنسان لم يؤمن بيوم القيامة مع هذا البيان والحجة بل هو مريد للتكذيب به ويرجحه أيضا أن السياق كله في ذم المكذب بيوم القيامة لا في ذم العاصي والفاجر وأيضا فإن ما قبل الآية وما بعدها يدل على المراد فإنه قال { أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوي بنانه } فأنكر سبحانه عليه حسبانه أن الله لا يجمع عظامه ثم قرر قدرته على ذلك ثم أنكر عليه إرادة التكذيب بيوم القيامة فالأول حسبان منه أن لا يحييه بعد موته والثاني تكذيب منه بيوم البعث وأنه يريد أن يكذب بما وضح وبان دليل وقوعه وثبوته فهو مريد للتكذيب به ثم أخبر عن تصريحه بالتكذيب فقال { يسأل أيان يوم القيامة } فالأول إرادة التكذيب والثاني نطق بالتكذيب وتكلم به وهذا قول قوي كما ترى لكن ينبغي إفراغ هذه الألفاظ في قوالب هذا المعنى فإن لفظة ( يفجر ) إنما تدل على عمل الفجور لا على التكذيب وحذف الموصول مع ما جره وإبقاء الصلة خلاف الأصل فإن أصاب هذا القول قالوا تقديره ليكفر بما أمامه وهذا المعنى صحيح لكن دلالة هذا اللفظ عليه ليست بالبينة
فالجواب أن الأمر كذلك لكن الفعل إذا ضمن معنى فعل آخر لم يلزم إعطاءه حكمه من جميع الوجوه بل من جلالة هذه اللغة العظيمة الشأن وجزالتها أن يذكر المتكلم فعلا وما يضمنه معنى فعل آخر ويجري على المضمن أحكامه لفظا وأحكام الفعل الآخر معنى فيكون في قوة ذكر الفعلين مع غاية الاختصار ومن تدبر هذا وجده كثيرا في كلام الله تعالى
فلفظ ( يفجر ) اقتضت ( أمامه ) بلا واسطة حرف ولا اسم موصول فأعطيت ما اقتضته لفظا واقتضى ما تضمنه الفعل من ذكر الحرف والموصول فأعطيته معنى فهذا وجه هذا القول لفظا ومعنى والله أعلم
ثم أخبر سبحانه عن حال هذا الإنسان إذا شاهد اليوم الذي كذب به فقال { فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفر } فبرق بصره أي يشخص بما يشاهده من العجائب التي كان يكذب بها وخسف القمر ذهب ضوءه وانمحى وجمع الشمس والقمر ولم يجتمعا قبل ذلك بل يجمعهما الذي يجمع عظام الإنسان بعدما فرقها البلى ومزقها ويجمع للإنسان يومئذ جميع عمله الذي قدمه وأخره من خير أو شر ويجمع ذلك من جمع القرآن في صدر رسوله ويجمع المؤمنين في دار الكرامة فيكرم وجوههم بالنظر إليه ويجمع المكذبين في دار الهوان وهو قادر على ذلك كله كما جمع خلق الإنسان من نطفة من منى يمنى ثم جعله علقة مجتمعة الأجزاء بعدما كانت نطفة متفرقة في جميع بدن الإنسان وكما يجمع بين الإنسان وملك الموت ويجمع بين الساق والساق إما ساق الميت أو ساق من يجهز بدنه من البشر ومن يجهز روحه من الملائكة أو يجمع عليه شدائد الدنيا والآخرة فكيف ( أنكر ) هذا الإنسان أن يجمع بينه وبين عمله وجزائه وأن يجمع مع بني جنسه ليوم الجمع وأن يجمع عليه بين أمر الله ونهيه وعبوديته فلا يترك سدى مهملا معطلا لا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب فلا يجمع عليه ذلك
فما أجمع هذه السورة لمعان الجمع والضم وقد افتتحت بالقسم بيوم القيامة الذي يجمع الله فيه بين الأولين والآخرين وبالنفس اللوامة التي اجتمع فيها همومها وغمومها وإرادتها واعتقاداتها وتضمنت ذكر المبدأ والمعاد والقيامة الصغرى والكبرى وأحوال الناس في المعاد وانقسام وجوههم إلى ناظرة منعمة و باسرة معذبة وتضمنت وصف الرياح بأنها جسم ينتقل من مكان إلى مكان فتجمع من تفاريق البدن حتى تبلغ التراق ويقول الحاضرون ( من راق ؟ ) أي من يرقى من هذه العلة التي أعيت على الحاضرين أي التمسوا له من يرقيه والرقية آخر الطب وقيل : من يرقى بها ويصعد أملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ؟ فعلى الأول تكون من رقى يرقى كرمى يرمى وعلى الثاني من رقى يرقى كشقى يشقى ومصدره الرقاء ومصدر الأول الرقية والقول الأول أظهر لوجوه ( أحدها ) أنه ليس كل ميت يقول حاضروه من يرقى بروحه وهذا إنما يقوله من يؤمن برقي الملائكة بروح الميت وأنهم ملائكة رحمة وملائكة عذاب بخلاف التماس الرقية وهي الدعاء فإنه قل ما يخلو منه المحتضر ( الثاني ) أن الروح إنما يرقى بها الملك بعد مفارقتها وحينئذ يقال من يرقى بها وأما قبل المفارقة فطلب الرقية للمريض من الحاضرين أنسب من طلب علم من يرقى بها إلى الله ( الثالث ) أن فاعل الرقية يمكن العلم به فيحسن السؤال عنه ويفيد السامع وأما الراقي إلى الله فلا يمكن العلم بتعيينه حتى يسأل عنه و ( من ) إنما يسأل بها عن تعيين ما يمكن السائل أن يصل إلى العلم بتعيينه ( الرابع ) أن مثل هذا السؤال إنما يراد به تحضيض وإثارة اهتمام إلى فعل يقع بعد من نحو قوله { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } وفعل الراقي إلى الله لا يحسن فيه واحد من الأمرين هنا بخلاف فاعل الرقية فإنه يحسن فيه الأول ( الخامس ) أن هذا خرج على عادة العرب وغيرهم في طلب الرقية لمن وصل إلى مثل تلك الحال فحكى الله سبحانه ما جرت عادتهم بقوله وحذف فاعل القول لأنه ليس الغرض متعلقا بالقائل بل بالقول ولم تجر عادة المخاطبين بأن يقولوا من يرقى بروحه فكان حمل الكلام على ما ألف وجرت العادة بقوله أولى إذ هو تذكير لهم بما يشاهدونه ويسمعونه ( السادس ) أنه لو أريد هذا المعنى لكان وجه الكلام أن يقال من هو الراقي ومن الراقي ولا وجه للكلام غير ذلك كما يقال من هو القائل منكما كذا وكذا وفي الحديث [ من القائل كلمة كذا ] ( السابع ) إن كلمة من إنما يسأل بها عن التعيين كما يقول : من الذي فعل كذا ومن ذا الذي قاله فيعلم أن فاعلا وقائلا فعل وقال ولا يعلم تعيينه فيسأل عن تعيينه بمن تارة وبأي تارة وهم لم يسألوا عن تعيين الملك الراقي بالروح إلى الله
فإن قيل : بل علموا أن ملك الرحمة والعذاب صاعد بروحه ولم يعلموا تعيينه فيسأل عن تعيين أحدهما قيل : هم يعلمون أن تعيينه غير ممكن فكيف يسألون عن تعيين ما لا سبيل للسامع إلى تعيينه ولا إلى العلم به ( الثامن ) أن الآية إنما سيقت لبيان يأسه من نفسه ويأس الحاضرين معه وتحقق أسباب الموت وأنه قد حضر ولم يبق شيء ينجع فيه ولا مخلص منه بل هو قد ظن أنه مفارق لا محالة فالحاضرون قد علموا أنه لم يبق لأسباب الحياة المعتادة تأثير في بقائه فطلبوا أسبابا خارجة عن المقدور تستجلب بالرقى والدعوات فقالوا من راق ؟ أي من يرقى هذا العليل من أسباب الهلاك والرقية عندهم كانت مستعملة حيث لا يجدي الدواء ( التاسع ) أن مثل هذا إنما يراد به النفي والاستبعاد : وهو أحد التقديرين فهو استبعاد لنفي الرقية لا طلب لوجود الراقي كقوله { قال من يحيي العظام وهي رميم } أي لا أحد يحييها وقد صارت إلى هذه الحال فإن أريد بها هذا المعنى استحال أن يكون من الرقي وإن أريد بها الطلب استحال أيضا أن يكون منه وقد بينا أنها في مثل هذا إنما تستعمل للطلب أو للإنكار وحينئذ أن يراد به طلب الفعل أو طلب التعيين ولا سبيل إلى حمل واحد من هذه المعاني على الرقي لما بيناه والله أعلم

ومن أسرار هذه السورة أنه سبحانه جمع فيها لأوليائه بين جمال الظاهر والباطن : فزين وجوههم بالنضرة و بواطنهم بالنظر إليه فلا أجمل لبواطنهم ولا أنعم ولا أحلى - من النظر إليه ولا أجمل لظواهرهم من نضرة الوجه وهي إشراقه وتحسينه وبهجته وهذا كما قال في موضع آخر { ولقاهم نضرة وسرورا } ونظيره قوله { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا } فهذا جمال الظاهر وزينته ثم قال { وحفظا من كل شيطان مارد } فهذا جمال باطنها ونظيره قوله عن امرأة العزيز بعد أن قالت ليوسف { اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فذكرها لهذا هو من تمام وصفها لمحاسنه وأنه في غاية المحاسن ظاهرا وباطنا وينظر إلى هذا المعنى ويناسبه قوله { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } فقابل بين الجوع والعرى لأن الجوع ذل الباطن والعرى ذل الظاهر وقابل بين الظمأ وبين حر الباطن والضحى وهو حر الظاهر بالبروز للشمس وقريب من هذا قوله { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } في ذكر الزاد الظاهر الحسي والزاد الباطن المعنوي فهذا زاد سفر الدنيا وهذا زاد سفر الآخرة ويلم به قول هود { يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ويزدكم قوة إلى قوتكم } فالأول القوة الظاهرة المنفصلة عنهم والثاني الباطنة المتصلة بهم ويشبهه قوله { فما له من قوة ولا ناصر } فنفى عنهم الدافعين : الدافع من أنفسهم والدافع من خارج وهو الناصر

ومن أسرارها أنها تضمنت إثبات قدرة الرب على ما علم أنه لا يكون ولا يفعله وهذا على أحد القولين في قوله { بلى قادرين على أن نسوي بنانه } فأخبر أنه قادر عليه ولم يفعله ولم يرده وأصرح من هذا قوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض وإنا على ذهاب به لقادرون } وهذا أيضا على أحد القولين أي تغور العيون في الأرض فلا يقدر على الماء قال ابن عباس : يريد أن سيغيض فيذهب فلا يكون من هذا الباب بل يكون من باب القدرة على ما سيفعله وأصرح من هذين الموضعين قوله تعالى { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم } وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال عند نزول هذه الآية أعوذ بوجهك ولكن قد ثبت عنه صلى الله عليه و سلم أنه لابد أنه لابد أن يقع في أمته خسف ولكن لا يكون عاما وهذا عذاب من تحت الأرجل وروى أنه كان في الأمة قذف أيضا وهذا عذاب من فوق فيكون هذا من باب الإخبار بقدرته على ما سيفعله وإن أريد به القدرة على عذاب الاستئصال فهو من القدرة على مالا يريده وقد صرح سبحانه بأنه لو شاء لفعل ما لم يفعله في غير موضع من كتابه كقوله { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } وقوله { ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } ونظائره وهذا مما لا خفاء فيه بين أهل السنة وبه تبين فساد قول من قال : إن القدرة لا تكون إلا مع الفعل لا قبل وأن الصواب التفصيل بين القدرة الموجبة والمصححة فنفي القدرة عن الفاعل قبل الملابسة مطلقا خطأ والله أعلم

ومن أسرارها أنها تضمنت التأني والتثبت في تلقي العلم وأن لا يحمل السامع شدة محبته وحرصه وطلبه على مبادرة المعلم بالأخذ قبل فراغه من كلامه بل من آداب الرب التي أدب بها نبيه صلى الله عليه و سلم أمره بترك الاستعجال على تلقي الوحي بل يصبر إلى أن يفرغ جبريل من قراءته ثم يقرأه بعد فراغه عليه فهكذا ينبغي لطالب العلم ولسامعه أن يصبر على معلمه حتى يقضي كلامه ثم يعيده عليه أو يسأل عما أشكل عليه منه ولا يبادره قبل فراغه
وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في ثلاثة مواضع من كتابه هذا أحدها والثاني قوله { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا * فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما } والثالث قوله { سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله } فضمن لرسوله أن لا ينسى ما أقرأه إياه وهذا يتناول القراءة وما بعدها
وقد ذم الله سبحانه في هذه السورة من يؤثر العاجلة على الآجلة وهذا لاستعجاله بالتمتع بما يفنى وإيثاره ما يبقى و رتب كل ذم ووعيد في هذه السورة على هذا الاستعجال ومحبة العاجلة فإرادته أن يفجر أمامه هو من استعجاله وحب العاجلة وتكذيبه بيوم القيامة من فرط حب العاجلة وإيثاره لها واستعجاله بنصيبه وتمتعه به قبل أوانه ولولا حب العاجلة وطلب الاستعجال لتمتع به في الآجلة أكمل ما يكون وكذلك تكذيبه وتوليه وترك الصلاة هو من استعجاله ومحبته العاجلة والرب سبحانه وصف نفسه بضد ذلك فلم يعجل على عبده بل أمهله إلى أن بلغت الروح التراقي وأيقن بالموت وهو إلى هذه الحال مستمر على التكذيب والتولي والرب تعالى لا يعاجله بل يمهله ويحدث له الذكر شيئا بعد شيء ويصرف له الآيات ويضرب له الأمثال وينبهه على مبدئه : من كونه نطفة من منى يمني ثم علقة ثم خلقا سويا فلم يعجل عليه بالخلق وهلة واحدة ولا بالعقوبة إذ كذب خبره وعصى أمره بل كان خلقه وأمره وجزاؤه بعد تمهيل وتدريج وأناة ولهذا ذم الإنسان بالعجلة بقوله : { وكان الإنسان عجولا } وقال { خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون }

ومن أسرارها أن إثبات النبوة والمعاد يعلم بالعقل وهذا أحد القولين لأصحابنا وغيرهم فإن الله سبحانه أنكر على من حسب أنه يترك سدى فلا يؤمر ولا ينهى ولا يثاب ولا يعاقب ولم ينف سبحانه ذلك بطريق الخير المجرد بل نفاه نفي مالا يليق نسبته إليه ونفي منكر على من حكم به وظنه ثم استدل سبحانه على فساد ذلك وبين أن خلقه الإنسان في هذه الأطوار وتنقله فيها طورا بعد طور حتى بلغ نهايته - يأبى أن يتركه سدى فإنه ينزه عن ذلك كما ينزه عن العبث والعيب والنقص
وهذه طريقة القرآن في غير موضع كماقال تعالى { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون * فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } فجعل كماله ملكه وكونه سبحانه الحق وكونه لا إله إلا هو وكونه رب العرش المستلزم لربوبيته لكل مادونه - مبطلا لذلك الظن الباطل والحكم الكاذب وإنكار هذا الحسبان عليهم مثل إنكاره عليهم حسبانهم أنه لا يسمع سرهم ونجواهم وحسبان أنه لايراهم ولايقدر عليهم وحسبان أن يسوي بين أوليائه وبين أعدائه في محياهم ومماتهم وغير ذلك مما هو منزه عنه تنزيهه عن سائر العيوب والنقائص وأن نسبة ذلك كنسبة ما يتعالى عنه مما لا يليق : من اتخاذ الولد والشريك ونحو ذلك مماي نكره سبحانه على من حسبه أشد الإنكار فدل على أن ذلك قبيح ممتنع نسبته إليه كما يمتنع أن ينسب إليه سائر ما ينافي كماله المقدس
ولو كن نفي تركه سدى إنما يعلم بالسمع المجرد لم يقل بع ذلك { ألم يك نطفة } إلى آخره ومما يدل أن تعطيل أسمائه وصفاته ممتنع وكذلك تعطيل موجبها ومقتضاها فإن ملكه الحق يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه وكذلك يستلزم إرسال رسله وإنزال كتبه وبعث المعاد ليوم يجزى فيه المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فمن أنكر ذلك فقد أنكر حقيقة ملكه ولم يثبت له الملك الحق ولذلك كان منكر ذلك كافرا بربه وإن زعم أنه يقر بصانع العالم فلم يؤمن بالملك الحق ولذلك كان منكر ذلك كافرا بربه وإن زعم أنه يقر بصانع العالم فلم يؤمن بالملك الحق الموصوف بصفات الجلال والمستحق لنعوت الكمال كما أن المعطل لكلامه وعلوه على خلقه لم يؤمن به سبحانه فإنه آمن برب لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى و لا يصعد إليه قول ولا عمل ولا ينزل من عنده ملك ولا أمر ولانهي ولاترفع إليه الأيدي ومعلوم أن هذا النفي آمن به رب مقدر في ذهنه ليس هو رب العالمين وإله المرسلين
وكذلك إذا اعتبرت اسمه الحي وجدته مقتضيا لصفات كماله من علمه وسمعه وبصره وقدرته وإرادته ورحمته وفعله ما يشاء واسمه القيوم مقتض لتدبير أمر العالم العلوي والسفلي وقيامه بمصالحه وحفظ له فمن أنكر صفات كماله لم يؤمن بأنه الحي القيوم وإن أقر بذلك ألحد في أسمائه وعطل حقائقها حيث لم يمكنه تعطيل ألفاظها وبالله التوفيق

ومن ذلك قوله تعالى { كلا والقمر * والليل إذ أدبر * والصبح إذا أسفر * إنها لإحدى الكبر * نذيرا للبشر * لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } أقسم سبحانه بالقمر الذي هو آية الليل وفيه من الآيات الباهرة الدالة على ربوبية خالقه وبارئه وحكمته وعلمه وعنايته بخلقه - ما هو معلوم بالمشاهدة
وهو سبحانه أقسم بالسماء وما فيها ممالا نراه من الملائكة وما فيها مما نراه من الشمس والقمر والنجوم وما يحدث بسبب حركات الشمس والقمر : من الليل والنهار وكل ذلك آية من آياته ودلالة من دلائل ربوبيته
ومن تدبر أمر هذين النيرين العظيمين وجدهما من أعظم الآيات في خلقهما وجرمهما ونورهما وحركتهما على نهج واحد لا ينيان ولا يفتران دائبين ولا يقع في حركتهما اختلاف بالبطء والسرعة والرجوع والاستقامة والانخفاض والارتفاع ولا يجري أحدهما في فلك صاحبه ولا يدخل عليه في سلطانه ولا تدرك الشمس القمر ولايجيء الليل قبل انقضاء النهار بل لكل حركة مقدرة ونهج معين لا يشركه فيه الآخر كما أن له تأثيرا ومنفعة لا يشركه فيها الآخر وذلك مما يدل من له أدنى عقل على أنه بتسخير مسخر وأمر آمر تدبير مدبر بهرت حكمته العقول وأحاط علمه بكل دقيق وجليل وفرق ما علمه الناس من الحكم التي في خلقهما مالا تصل إليه عقولهم ولا تنتهي إلى مباديها أوهامهم فغايتنا الاعتراف بجلال خالقهما وكمال حكمته ولطف تدبيره وأن نقول ما قاله أولوا الألباب قبلنا { ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار } ولو أن العبد وصف له جرم أسود مستدير عظيم الخلق يبدو فيه النور كخيط متسخن ثم يتزايد كل ليلة حتى يتكامل نوره فيصير أضوأ شيء وأحسنه وأجمله ثم يأخذ في النقصان حتى يعود إلى حاله الأول فيحصل بسبب ذلك معرفة الأشهر والسنين وحساب آجال العالم : من مواقيت حجهم وصلاتهم ومواقيت أجائرهم ومدايناتهم ومعاملتهم التي لا تقوم مصالحهم إلابها فمصالح الدنيا والدين متعلقة بالأهلة
وقد ذكر سبحانه ذلك في ثلاثة آيات من كتابه : أحدها قوله { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } والثانية قوله { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون } والثالثة قوله { وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلا } فلولا ما يحدثه الله سبحانه في آيات الليل من زيادة ضوئها ونقصانه لم يعلم ميقات الحج والصوم والعدد ومدة الرضاع ومدة الحمل ومدة الإجارة ومدة آجال الحاملات
فإن قيل : كان يمكن هذا بحركة الشمس والأيام التي تحفظ بطلوع الشمس وغروبها كما يعرف أهل الكتابين مواقيت صيامهم وأعيادهم بحساب الشمس قيل : هذا وإن كان ممكنا إلا أنه يعسر ضبطه ولا يقف عليه إلا الآحاد من الناس ولا ريب أن معرفة أوائل الشهور وأوساطها وأواخرها بالقمر أمر يشترك فيه الناس وهو أسهل من معرفة ذلك بحساب الشمس وأقل اضطرابا واختلافا ولا يحتاج إلى تكلف حساب وتقليد من لا يعرفه من الناس لمن يعرفه فالحكمة البالغة التي في تقدير السنين والشهور بسير القمر أظهر وأنفع وأصلح واقل اختلافا من تقديرها بسير الشمس فالرب جل جلاله دبر الأهلة بهذا التدبير العجيب لمنافع خلقه في مصالح دينهم ودنياهم مع ما يتصل به من الاستدلال به على وحدانية الرب وكمال حكمته وعلمه وتدبيره فشهادة الحق بتغير الأجرام الفلكية وقيام أدلة الحدوث والخلق عليها فهي آيات ناطقة بلسان الحال على تكذيب الدهرية وزنادقة الفلاسفة والملاحدة القائلين : بأنها أزلية أبدية لا يتطرق إليها التغيير ولا يمكن عدمها
فإذا تأمل البصير القمر مثلا وافتقاره إلى محل يقوم به وسيره دائبا لا يفتر مسير مسخر مدبر وهبوطه تارة وارتفاعه تارة وأفوله تارة وظهوره تارة وذهاب نوره شيئا فشيئا ثم عوده إليه كذلك وسبب ضوئه جملة واحدة حتى يعود قطعة مظلمة بالكسوف - علم قطعا أنه مخلوق مربوب مسخر تحت أمر خالق قاهر مسخر له كما يشاء وعلى أن الرب سبحانه لم يخلق هذا باطلا وأن هذه الحركة فيه لابد أن تنتهي إلى الانقطاع والسكون وأن هذا الضوء والنور لابد أن ينتهي إلى ضده وأن هذا السلطان لابد أن ينتهي إلى العزل وسيجمع بينهما جامع المتفرقات بعد أن لم يكونا مجتمعين ويذهب بهما حيث شاء ويرى المشركين من عبدتهما حال آلهتم التي عبدوها من دونه كما يرى عباد الكواكب انتثارها وعباد السماء انفطارها وعباد الشمس تكويرها وعباد الأصنام إهانتها وإلقاءها في النار أحقر شيء في النار أحقر شيء وأذله وأصغره كما أرى عباد العجل في الدنيا حاله ومبارد عباده تسحقه وتمحقه والريح تمزقه وتذروه وتنسفه في اليم وكما أرى الأصنام في الدنيا صورها مكسرة مخردلة ملقاة بالأمكنة القذرة ومعاول الموحدين قد هشمت منها تلك الوجوه وكسرت تلك الرؤوس وقطعت تلك الأيدي والأرجل التي كانت لا يوصل إليها بغير التقبيل والاستلام وهذه سنة الله والأرجل التي كانت لا يوصل إليها بغير التقبيل والاستلام وهذه سنة الله التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أنه يرى عابد غيره حال معبوده في الدنيا والآخرة وإن كان المعبود غير راض بعبادة غيره ويريه تبريه منه ومعاداته له أحوج ما يكون إليه { ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة } ويعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين :
( تأمل سطور الكائنات فإنها من الملك الأعلى إليك رسائل )
( وقد خط فيها - لو تأملت خطها - ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
ولو شاء تعالى لأبقى القمر على حالة واحدة لا يتغير وجعل التغيير في الشمس ولو شاء لغيرهما معا ولو شاء لأبقاهما على حالة واحدة ولكن يرى عباده آياته في أنواع تصاريفها ليدلهم على أنه الله الذي لا إله إلا هو الملك الحق المبين الفعال لما يريد { ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين } وأما تأثير القمر في ترطيب أبدان الحيوان والنبات وفي المياه وجزر البحر ومده وبحرانات الأمراض وتنقلها من حال إلى حال وغير ذلك من المنافع فأمر ظاهر

وما أقسامه سبحانه بـ { والليل إذ أدبر } فلما في أدباره وإقبال النهار من أبين الدلالات الظاهرة على المبدأ والمعاد فإنه مبدأ ومعاد يومي مشهود بالعيان بينما الحيوان في سكون الليل قد هدأت حركاتهم وسكنت أصواتهم ونامت عيونهم وصاروا إخوان الأموات إذا أقبل من النهار داعيه وأسمع الخلائق مناديه فانتشرت منهم الحركات وارتفعت منهم الأصوات حتى كأنهم قاموا أحياء من القبور يقول قائلهم [ الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا وإليه النشور ] فهو معاد جديد بدأه وأعاده الذي يبدئ ويعيد فمن ذهب بالليل وجاء بالنهار سوى الواحد القهار ؟
فمن تأمل حال الليل إذا عسعس وأدبر والصبح إذا تنفس وأسفر فهزم جيوش الظلام بنفسه وأضاء أفق العالم بقبسه و فل كتائب الكواكب بعساكره وأضحك نواحي الأرض بتباشيره وبشائره فيالهما آيتان شاهدتان بوحدانية منشئهما وكمال ربوبيته وعظم قدرته وحكمته فتبارك الذي جعل طلوع الشمس وغروبها مقيما لسلطان الليل والنهار فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كله فكيف كان الناس يسعون في معاشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ؟ وكيف كانت تهنيهم الحياة مع فقد لذة النور وروحه وأي ثمار ونبات وحيوان كان يوجد ؟ وكيف كانت تتم مصالح أبدان الحيوان والنبات ؟ ولولا غروبها لم يكن للناس هدر ولا قرار مع علم حاجتهم إلى الهدوء لراحة أبدانهم وجموم حواسهم فلولا جثوم هذا الليل عليهم بظلمته ما هدأوا ولا قروا ولا سكنوا بل جعله أحكم الحاكمين سكنا ولباسا كما جعل النهار ضياء ومعاشا ولولا الليل وبرده لاحترقت أبدان النبات والحيوان من دوام شروق الشمس عليها وكان يحرق ما عليها من نبات وحيوان فاقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن جعلها سراجا يطلع على العالم في وقت حاجتهم إليه ويغيب في وقت استغنائهم عنه فطلوعه لمصلحتهم وغيبته لمصلحتهم وصار النور والظلمة على تضادهما متعاونين متضافرين على مصلحة هذا العالم وقوامه فلو جعل الله سبحانه النهار سرمدا إلى يوم القيامة والليل سرمدا إلى يوم القيامة لفاتت مصالح العالم واشتدت الضرورة إلى تغيير ذلك وإزالته بضده
وتأمل حكمته سبحانه في ارتفاع الشمس وانخفاضها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما في ذلك من مصالح الخلق ففي الشتاء تغور الحرارة في الشجر والنبات فيتولد منها مواد الثمار ويكثف الهواء فينشأ منه السحاب وينعقد فيحدث المطر وحركات الطبائع وفي الصيف يخرم الهواء فينضج الثمار وتشتد الحبوب ويحفف وجه الأرض فيتهيأ العمل وفي الخريف يصفو الهواء وتبرد الحرارة ويمتد الليل وتستريح الأرض والشجر للحمل والنبات مرة ثانية بمنزلة راحة الحامل بين الحملين ففي هذه الأزمنة مبدأ ومعاد مشهود وشاهد بالمبدأ والمعاد الغيبي
والمقصود أن بحركة هذين النيرين تتم مصالح العالم وبذلك يظهر الزمان فإن الزمان مقدار الحركة فالسنة الشمسية مقدار سير الشمس من نقطة الحمل إلى مثلها والسنة القمرية مقدرة بسير القمر وهو أقرب إلى الضبط واشترك الناس في العلم به وقدر أحكم الحاكمين تنقلهما في منازلهما لما في ذلك من تمام الحكمة ولطف التدبير فإن الشمس لو كانت تطلع وتغرب في موضع واحد لا تتعداه لما وصل ضوءها وشعاعها إلى كثير من الجهات فكان نفعها يفقد هناك فجعل الله سبحانه طلوعها دولا بين الأرض لينال نفعها وتأثيرها البقاع فلا يبقى موضع من المواضع التي يمكن أن تطلع عليها إلا أخذ بقسطه من نفعها واقتضى هذا التدبير المحكم أن وقع مقدار الليل والنهار على أربعة وعشرين ساعة ويأخذ كل منهما من صاحبه ومنتهى كل منهما إذا امتد خمسة عشر ساعة فلو زاد مقدار النهار على ذلك إلى خمسين ساعة مثلا أو أكثر لاختل نظام العالم وفسد أكثر الحيوان والنبات ولو نقص مقداره عن ذلك لاختل النظام أيضا وتعطلت المصالح ولو استويا دائما لما اختلفت فصول السنة التي باختلافها مصالح العباد والحيوان فكان في هذا التقدير والتدبير المحكم من الآيات والمصالح والمنافع ما يشهد بأن ذلك تقدير العزيز العليم ولهذا يذكر سبحانه هذا التقدير ويضيفه إلى عزته وعلمه كما قال تعالى { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون * والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم } وقال تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم } وقال تعالى { فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم } فهذه ثلاثة مواضع يذكر فيها أن تقدير حركات الشمس والقمر والأجرام العلوية وما ينشأ عنها كان من مقتضى عزته وعلمه وأنه قدره بهاتين الصفتين وفي هذا تكذيب لأعداء الله الملاحدة الذين ينفون قدرته واختياره وعلمه بالمغنيات

وأقسم سبحانه بهذه الأشياء الثلاثة - وهي القمر والليل إذا أدبر والصبح إذا أسفر - على المعاد لما في القسم من الدلالة على ثبوت المقسم عليه فإنه يتضمن كمال قدرته وحكمته وعنايته بخلقه وإبداء الخلق وإعادته كما هو مشهود في إبداء النهار والليل وإعادتهما وفي إبداء النور وإعادته في القمر وفي إبداء الزمان وإعادته الذي هو حاصل بسير الشمس والقمر وإبداء الحيوان والنبات وإعادتهما وإبداء فصول السنة وإعادتها وإبداء ما يحدث في تلك الفصول وإعادته فكل ذلك دليل ظاهر على المبدأ والمعاد الذي أخبرت به الرسل كلهم عنه فصرف سبحانه الآيات الدالة على صدق رسله ونوعها وجعلها للفطر تارة وللسمع تارة وللمشاهدة تارة فجعلها آفاقية ونفسية ومنقولة ومعقولة ومشهودة بالعيان ومذكورة بالحنان فأبى الظالمون إلا كفورا { واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا }
ولما أقام الحجة وبين المحجة إرتهن كل نفس يكسبها وآخذها بذنبها واستثنى من أولئك من قبل هداه واتبع رضاه وهم أصحاب اليمين الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين وسلكوا غير سبيل المجرمين الذين ليسوا من المصلين ولا من مطمعي المسكين وهم من أهل الخوض مع الخائضين المكذبين بيوم الدين فهذه أربع صفات أخرجتهم من زمرة المفلحين وأدخلتهم في جملة الهالكين : ( الأولى ) ترك الصلاة وهي عمود الإخلاص للمعبود ( الثانية ) ترك إطعام المسكين الذي هو من مراتب الإحسان للعبيد فلا إخلاص للخالق ولا إحسان للمخلوق كما قال تعالى { الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون } وقال { لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } وهذا ضد ما وصف به أصحاب اليمين بقوله { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } وقال { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون } وقرن سبحانه بين هذين الأصلين في غير موضع في كتابه : أمر بهما تارة وأثنى على فاعليهما تارة وتوعد بالويل والعقاب تاركهما تارة فإن مدار النجاة عليهما ولا فلاح لمن أخل بهما
الصفة الثالثة والرابعة الخوض بالباطل والتكذيب بالحق فاجتمع لهم عدم الإخلاص والإحسان والخوض بالباطل والتكذيب بالحق واجتمع لأصحاب ( اليمين ) الإخلاص والإحسان والتصديق بالحق والتكلم به فاستقام إخلاصهم وإحسانهم ويقينهم وكلامهم واستبدل أصحاب الشمال بالإخلاص شركا وبالإحسان اساءة وباليقين شكا وتكذيبا وبالكلام النافع خوضا في الباطل فلذلك لم تنفعهم شفاعة الشافعين أي لم يكن لهم من شفيع فيهم لأن الشفاعة تقع فيهم ولا تنفع وهذا لما أعرضوا عن التذكرة ولم يرفعوا بها رأسا وجفلوا عن سماعها كما تجفل حمر الوحش من الأسد أو من الرماة
ثم ختم السورة بأنه جمع فيها بين شرعه وقدره وإقامة الحجة عليهم بإثبات المشيئة لهم وبيان مقتضى التوحيد والربوببية وأن ذلك إليه لا إليهم فالأول عدله والثاني فضله فالأول يوجب السعي والطلب والحرص على ما ينجيهم كما يفعلون ذلك في مصالح دنياهم بل أشد والثاني يوجب الإستعانة والتوكل والتفويض والرغبة إلى من ذلك بيده ليسهل لهم ويوفقهم والله المستعان وعليه التكلان

ومن ذلك قوله { فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون * إنه لقول رسول كريم } إلى آخرها قال مقاتل : بما تبصرون من الحلق وما لا تبصرون منه وقال قتادة : أقسم بالأشياء كلها بما يبصر منها وما لا يبصر وقال الكلبي تبصرون من شيء وما لا تبصرون من شيء وهذا أعم قسم وقع في القرآن فإنه يعم العلويات والسفليات والدنيا والآخرة وما يرى وما لا يرى ويدخل في ذلك الملائكة كلهم والجن والأنس والعرش والكرسي وكل مخلوق وكل ذلك من آيات قدرته وربوبيته وهو سبحانه يصرف الأقسام كما يصرف الآيات ففي ضمن هذا القسم أن كل ما يرى وما يرى آية ودليل على صدق رسوله وأن ما جاء به هو من عند الله وهو كلامه لا كلام شاعر ولا مجنون ولا كاهن
ومن تأمل المخلوقات ما يراه منها وما لا يراه واعتبر ما جاء به الرسول بها ونقل فكرته في مجاري الخلق والأمر ظهر له أن هذا القرآن من عند الله وأنه كلامه وهو أصدق الكلام وأنه حق ثابت كما أن سائر الموجودات ما يرى منها ومالا يرى حق كما قال تعالى { فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون } أي إن كان نطقكم حقيقة وهو أمر موجود لا تمارون فيه ولا تشكون فهذا ما أخبرتكم به من التوحيد والمعاد والنبوة حق كما في الحديث [ إنه لحق مثل ما أنك ههنا ] فكأنه سبحانه يقول : إن القرآن حق كما أن ما شاهدوه من الخلق وما لا يشاهدونه حق موجود بل لو فكرتم فيما تبصرون وما لا تبصرون لدلكم وما لا يشاهدونه حق موجود بل لو فكرتم فيما تبصرون ومالا تبصرون لدلكم ذلك على أن القرآن حق ويكفي الإنسان من جميع ما يبصره ومالا يبصره بعينه ومبدأ خلقه ونشأته وما يشاهده من أحواله ظاهرا وباطنا ففي ذلك أبين دلالة على وحدانية الرب وثبوت صفاته وصدق ما أخبر به رسوله وما لم يباشر قلبه ذلك حقيقة لم تخالط بشاشة الإيمان قلبه
ثم ذكر سبحانه المقسم عليه فقال { إنه لقول رسول كريم } وهذا رسول البشرى محمد صلى الله عليه و سلم وفي إضافته إليه باسم الرسالة أبين دليل أنه كلام المرسل فمن أنكر أن يكون الله قد تكلم بالقرآن فقد أنكر حقيقة الرسالة لو كانت إضافته إليه إنشاء وابتداء لم يكن رسولا ولناقض ذلك إضافته إلى رسوله الملكي في سورة التكوير
ثم بين سبحانه كذب أعدائه وبهتهم في نسبة كلامه تعالى إلى غيره وأنه لم يتكلم به بل قاله من تلقاء نفسه كما بين كذب من قال { إن هذا إلا قول البشر } فمن زعم أنه قول البشر فقد كفر وسيصليه الله سقر
ثم أخبر سبحانه أنه تنزيل من رب العالمين وذلك يتضمن أمورا : ( أحدها ) أنه تعالى فوق خلقه كلهم وأن القرآن نزل من عنده ( والثاني ) أنه تكلم به حقيقة لقوله { من رب العالمين } ولو كان غيره هو المتكلم به لكان من ذلك الغير ونظير هذا قوله { ولكن حق القول مني } ونظيره قوله { قل نزله روح القدس من ربك بالحق } وقوله { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وقوله { تنزيل من حكيم حميد } وما كان من الله فليس بمخلوق ولا ينتقض هذا بأن الزرق والمطر وما في السموات والأرض جميعا منه وهو مخلوق لأن ذلك كله أعيان قائمة بنفسها وصفات وأفعال لتلك الأعيان فإضافتها إلى الله سبحانه وانها منه إضافة خلق كإضافة بيته وعبده وناقته وروحه وبابه - إليه بخلاف كلامه فإنه لابد أن يقوم بمتكله إذ كلام من غير متكلم كسمع من غير سامع وبصره من غير مبصر وذلك عين المحال فإذا أضيف إلى الرب كان بمنزلة إضافة سمعه وبصره وحياته وقدرته وعلمه ومشيئته إليه ومن زعم أن هذه إضافة مخلوق إلى خالق فقد زعم أن الله لا سمع له ولا بصر ولا حياة ولا قدرة ولا مشيئة تقوم به وهذا هو التعطيل الذي هو شر من الاشراك وإن زعم أن إضافة السمع والبصر والعلم والحياة القدرة إضافة صفة إلى موصوف فإضافة الكلام إليه إضافة مخلوق إلى خالق فقد تناقض وخرج عن موجب العقل والفطرة والشرع ولغات الأمم وفرق بين مماثلين حقيقة وعقلا وشرعا وفطرة ولغة
وتأمل كيف إضافه سبحانه إلى الرسول بلفظ القول وأضافه إلى نفسه بلفظ الكلام في قوه { حتى يسمع كلام الله } فإن الرسول يقول للمرسل إليه ما أمر بقوله فيقول : قلت كذا وكذا وقلت له : ما أمرتني أن أقوله كما قال المسيح { ما قلت لهم إلا ما أمرتني به } والمرسل يقول للرسول : قل لهم كذا وكذا كما قال تعالى { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم } ونظائره فإذا بلغ الرسول ذلك صح أن يقال : قال الرسول كذا وهذا قول الرسول - أي قاله مبلغا - وهذا قوله مبلغا عن مرسله ولا يجيء في شيء من ذلك تكلم لهم بكذا وكذا ولا تكلم الرسول بكذا وكذا ولا أنه بكلام رسول كريم ولا في موضع واحد بل قيل للصديق - وقد تلى آية - هذا كلامك وكلام صاحبك فقال : ليس بكلامي ولا كلام صاحبي هذا كلام الله

الأمر الثالث ما تضمنه قوله { تنزيل من رب العالمين } إنه ربوبيته الكاملة لخلقة تأبى أن يتركهم سدى : لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يرشدهم إلى ما ينفعهم ويحذرهم ما يضرهم بل يتركهم هملا بمنزلة الأنعام السائمة فمن زعم ذلك لم يقدر رب العالمين قدره ونسبه إلا ما لا يليق به تعال { فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم }
ثم أقام سبحانه البرهان القاطع على صدق رسوله وأنه لم يتقول عليه فيما قاله وأنه لو تقول عليه لما أقره ولعاجله بالإهلاك فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عله وافترى عليه وأضل عباده واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم وأظهر في الأرض الفساد والجور والكذب وخالف الخلقـ فكيف يليق بأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأقدر القادرين أن يقره على ذلك ؟ بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره ويظفره بأهل الحق : يسفك دماءعم ويسبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلا : إن الله أمرني بذلك وأباحه لي ؟ بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها فيصدقه بإقراره وبالآيات المستلزمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول وأظهر ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها
فكل آية على انفرادها مصدقة له ثم يحصل باجتماع تلك الآيات تصديق فوق تصديق كل آية بمفردها ثم يعجز الخلق عن معارضته ثم يصدقه بكلامه وقوله ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه فيشهد له بإقراره وفعله وقوله فمن أعظم المحال وأبطل الباطل وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين ورب العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفترى عليه الذي هو شر الخلق على الإطلاق فمن جوز على الله أن يفعل هذا بشر خلقه وأكذبهم فما آمن بالله قطعا ولا عرف الله ولا هذا هو رب العالمين ولا يحسن نسبة ذلك إلى من له مسكة من عقل وحكمة وحجى ومن فعل ذلك فقد أزرى بنفسه ونادى على جهله
وأذمر في عذل مناظرة جرت لي مع بعض اليهود قلت له - بعد أن أقضى في نبوة النبي صلى الله عليه و سلم - إلى أن قلت له : إنكار نبوته يتضمن القدح في رب العالمين وتنقصه بأقبح النقص فكان الكلام معكم في الرسول والكلام الآن في تنزيه الرب تعالى فقال : كيف تقول مثل هذا الكلام ؟ فقلت له : بيانه علي فاسمع الآن : أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولا وإنما كان ملكا قاهرا قهر الناس بسيفه صلى الله عليه و سلم ( حتى دانوا له ومكث ثلاثا وعشرين سنة يكذب على الله ويقول : أوحى إلي ولم يوح إليه وأمرني ولم يأمره ونهاني ولم ينهه وقال الله كذا ولم يقل ذلك وأحل كذا وحرم كذا وأوجب كذا وكره كذا ولم يحل ذلك ولا حرمه ولا أوجبه بل هو فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبا مفتريا على الله وعلى أنبيائه وعلى رسله وملائكته ثم مكث من ذلك ثلاث عشرة سنة يستعرض عباده : يسفك دماءهم ويأخذ أموالهم ويسترق نساءهم وأبناءهم ولا ذنب لهم إلا الرد عليه ومخالفته وهو في ذلك كله يقول : الله أمرني بذلك ولم يأمره ومع ذلك فهو ساع في تبديل أديان الرسل ونسخ شرائعهم وحل نواميسهم فهذه حاله عندكم فلا يخلو إما أن يكون الرب تعالى عالما بذلك مطلعا عليه من حاله يراه ويشاهده أم لا فإن قلتم إن ذلك جميعه غائب عن الله لم يعلم به قد حتم في الرب تعالى ونسبتموه إلى الجهل المفرط إذ لم يطلع على هذا الحادث العظيم ولا علمه ولا رآه وإن قلتم بل كان ذلك بعلمه وإطلاعه ومشاهدته قيل لكم فهل كان قادرا على أن يغير ذلك ويأخذ على يديه ويحول بينه وبينه أم لا ؟ فإن قلتم ليس قادرا على ذلك نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إرادتهم وإن قلتم بل كان قادرا ولكن مكنه ونصره وسلطه على الخلق ولم ينصر أولياءه وأتباع رسله نسبتموه إلى أعظم السفه والظلم والإخلال بالحكمة هذا لو كان مخلى بينه وبين ما فعله فكيف وهو في ذلك كله ناصره ومؤيده ومجيب دعواته ومهلك من خالفه وكذبه ومصدقه بأنواع التصديق ومظهر الآيات على يديه التي لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يأتوا بواحدة منها لما أمكنهم ولعجزوا عن ذلك وكل وقت من الأوقات يحدث له من أسباب النصر والتمكين والظهور والعلو وكثرة الأتباع أمرا خارجا عن العادة فظهر أن من أنكر كونه رسولا نبيا فقد سبب الله وقدح منه ونسبه إلى الجهل والعجز والسفه
قلت له : ولا ينتقض هذا بالملوك الظلمة الذين مكنهم الله في الأرض وقتا ما ثم قطع دابرهم وأبطل سنتهم ومحا آثارهم وجورهم فإن أولئك لم يعيدوا شيئا من هذا ولا أيدوا ونصروا وظهرت على أيديهم الآيات ولا صدقهم الرب تعالى بإقراره ولا بفعله ولا بقوله بل أمرهم كان بالضد من أمر الرسول كفرعون ونمرود وأضرابهما ولا ينتقص هذا بمن ادعى النبوة من الكذابين فإن حالة كانت ضد حال الرسول من كل وجه بل حالهم من أظهر الأدلة على صدق الرسول ومن حكمة الله سبحانه أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود ليعلم حال الكذابين وحال الصادتين وكان ظهورهم من أبين الأدلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم فبضدها تتبين الأشياء والضد يظهر حسبنة الضد فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه
فلما سمع ذلك قال : معاذ الله لا نقول أنه ملك ظالم بل نبي كريم من اتبعه فهو من السعداء وكذلك من اتبع موسى فهو كمن اتبع محمدا ؟
قلت له : بطل كل ما تموهون به بعد هذا فإنكم إذا أقررتم أنه نبي صادق فلا بد من تصديقه في جميع ما أخبر به وقد علم أتباعه وأعداؤه بالضرورة أنه دعا الناس كلهم إلى الإيمان وأخبر أن من لم يؤمن به فهو كافر مخلد في النار وقاتل من لم يؤمن به من أهل الكتاب وسجل عليهم بالكفر واستباح أموالهم ودماءهم ونساءهم وأبناءهم فإن كان ذلك عدوانا منه وجورا لم يكن نبيا وعاد الأمر إلى القدح في الرب تعالى وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم يسع أحدا مخالفته وترك أتباعه ولزم تصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر
وقد أرشد سبحانه إلى هذا الملك في غير موضع من كتابه فقال { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين } يقول سبحانه : لو تقول علينا قولا واحدا من تلقاء نفسه لم نقله ولم نوجه إليه لما أقررناه ولأخذنا بيمينه ثم أهلكناه هذا أحد القولين قال ابن قتيبة في هذا قولان أحدهما أن اليمين القوة والقدرة وأقام اليمين مقام القوة لأن قوة كل شيء في ميامنه قلت : وعلى هذا تكون اليمين من صفة الأخذ وهذا قول ابن عباس في اليمين
قال : ولأهل اللغة في هذا مذهب آخر وهذا أن الكلام ورد على ما اعتاده الناس من الأخذ بيد من يعاقب وهو قولهم إذا أرادوا عقوبة رجل خذ بيده وأكثر ما يقوله السلطان والحاكم بعد وجوب الحكم : خذ بيده واسفع بيده فكأن قال : لو كذب علينا في شيء ( مما بلغ ) إليكم عنا لأخذنا بيمينه ثم عاقبناه بقطع الوتين وإلى هذا المعنى ذهب الحسن
فقد أخبر سبحانه أنه لو تقول عليه شيئا من الأقاويل لما أقره ولعاجله بالعقوبة فإن كذبا على الله ليس ككذب على غيره ولا يليق به أن يقر الكاذب عليه فضلا عن أن ينصره ويؤيده ويصدقه
ويقوله : { ثم لقطعنا منه الوتين } والوتين : نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه هذا قول جميع أهل اللغة وقال ابن قتيبة : ولم يرد أنا نقطع ذلك العرق بعينه ولكن أراد لو كذب علينا لأمتناه أو قتلناه فكان كمن قطع وتينه قال : ومثله قوله : ( [ مازالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطعت أبهري ] والأبهر : عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال : فهذا أوان قتلني السم فكنت كمن انقطع أبهره
ثم قال تعالى { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي لا يحجزه مني أحد ولا يمنعه مني
الموضع الثاني قوله تعالى { أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور } وفي معنى الآية للناس قولان : أحدهما قول مجاهد ومقاتل : إن يشأ الله يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك والثاني قول قتادة : إن يشأ الله ينسك القرآن ويقطع عنك الوحي وهذا القول دون الأول لوجوه
( أحدهما ) أن هذا خرج جوابا لهم وتكذيبا لقولهم : أن محمدا كذب على الله وافترى عليه هذا القرآن فأجابهم بأحسن جواب وهو أن الله تعالى قاد لا يعجزه شيء فلو كان كما تقولون لختم على قلبه فلا يمكنه أن يأتي بشيء منه بل يصير القلب كالشيء المختوم عليه فلا يوصل إلى مافيه فيعود المعنى إلى أنه لو افترى علي لم أمكنه ولم أقره ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر من قلب مختوم عليه فإن فيه من علوم الأولين والآخرين وعلم المبدأ والمعاد والدنيا والآخرة والعلم الذي لا يعلمه إلا الله والبيان التام والجزالة والفصاحة والجلالة والأخبار بالغيوب ما لم يمكن من ختم على قلبه أن يأتي به ولا ببعضه فلولا أني أنزلته على قلبه ويسرته بلسانه - لما أمكنه أن يأتيكم بشيء منه فأين هذا المعنى إلى المعنى الذي ذكره الآخرون ؟ وكيف يلتئم مع حكاية قولهم ؟ وكيف يتضمن الرد عليهم ؟
( الوجه الثاني ) أن مجر الربط على قلبه بالصبر على أذاهم يصدر من المحق والمبطل فلا يدل ذلك على التمييز بينهما ولا يكون فيه رد لقولهم فإن الصبر على أذى المكذب لا يدل بمجرده على صدق المخبر
( الثالث ) أن الرابط على قلب العبد لا يقال له ختم على قلبه ولا يعرف هذا في عرف المخاطب ولا لغة العرب ولا هو المعهود في القرآن بل المعهود استعمال الختم على القلب في شأن الكفار في جميع موارد اللفظ في القرآن كقوله { ختم الله على قلوبهم } وقوله { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة } ونظائره وأما ربطه على قلب العبد بالصبر فكقوله { وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض } وقوله { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها } والإنسان يسوغ له في الدعاء أن يقول : اللهم إربط على قلبي ولا يحسن أن يقول : اللهم اختم على قلبي
( الرابع ) أنه سبحانه حيث يحكى أقوالهم ( أنه افتراه ) لا يجيبهم عليه هذا الجواب بل يجيبهم بأنه لو افتراه لم يملكوا له من الله شيئا بل كان يأخذه ولا يقدرون على تخليصه كقوله { أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا } وتارة يجيبهم بالمطالبة بمعارضته بمثلة أو شيء منه وتارة بإقامة الأدلة القاطعة على أنه الحق وأنهم هم الكاذبون المفترون وهذا هو الذي يحسن في جواب هذا السؤال لا مجرد الصبر
( الخامس ) أن هذه الآية نظير ما نحن فيه وأنه لو شاء لما أقره ولا مكنه وتفسير القرآن بالقرآن من أبلغ التفاسير
( السادس ) أنه لا دلالة في سياق الآية على الصبر يوجه ما : لا بالمطابقة ولا التضمن ولا اللزوم فمن أين يعلم أنه أراد ذلك ولم يستمر هذا المعنى في غير هذا المعنى فيحمل عليه بخلاف كونه يحول بينه وبينه ولا يمكنه من الإفتراء عليه فقد ذكره في مواضع ( السابع ) أنه سبحانه أخبر أنه لو شاء لما تلاه عليهم ولا أدراهم به وأن ذلك إنما هو بمشيئته وإذنه وعلمه كما قال تعالى { قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به } وهذا من أبلغ الحجج وأظهرها أي هذا الكلام ليس من قبلي ولا من عندي ولا أقدر أن أفتريه على الله ولو كان ذلك مقدروا لي لكان مقدروا لمن هو من أهل العلم والكتابة ومخالطة الناس والتعلم منهم ولكن الله بعثني به ولو شاء سبحانه لم ينزله ولم ييسره بلساني فلم يدعني أتلوه عليكم وإن أعلمكم به البتة لا على لساني ولا على لسان غيري ولكنه أوحاه إلي وأذن لي في تلاوته عليكم وأدراكم به بعد أن لم تكونوا دارين به فلو كان كذبا وافتراء كما تقولون لأمكن غيري أن يتلوه عليكم وتدرون به من جهته لأن الكذب لا يعجز عنه البشر وأنتم لم تدروا بهذا ولم تسمعوه إلا مني ولم تسمعوه من بشر غيري
ثم أجاب عن سؤال مقدر وهو أنه تعلمه من غيره أو افتراه من تلقاء نفسه فقال { فقد لبثت فيكم عمرا من قبله } تعلمون حالي ولا يخفى عليكم سيري ومدخلي ومخرجي وصدقي وأمانتي ومن هذا لم أتمكن من قول شيء منه ألبته ولا كان لي به علم ولا ببعضه ثم أتيتكم به وهلة من غير تعمل ولا تعلم ولا معاناة للأسباب التي أتمكن بها منه ولا من بعضه وهذا من أظهر الأدلة وأبين البراهين أنه من عند الله أوحاه إلي وأنزله علي ولو شاء ما فعل فلم يمكنني من تلاوته ولا أمكمكم من العلم به بل مكنني من تلاوته ومكنكم من العلم به فلم تكونوا عالمين به ولا ببعضه ولم أكن قبل أن يوحى إلي تاليا له ولا لبعضه
فتأمل صحة هذا الدليل وحسن تأليفه وظهور دلالته
ومن هذا قوله سبحانه { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } وهذا هو المناسب لقوله { أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشإ الله يختم على قلبك } ولقوله { ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين } وبرهان مستقل مذكور في القرآن على وجوه متعددة والله أعلم ؟
( الثامن ) أن مثل هذا التركيب إنما جاء في القرآن للنفي لا للإثبات كقوله تعالى { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك } وقوله { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } وقوله { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } وقوله { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } ونظائره لم يأت إلا فيما كان ما بعد فعل المشيئة منفيا
( التاسع ) أن الختم على القلب لا يستلزم الصبر بل قد يختم على قلب العبد ويسلبه صبره بل إذا ختم على القلب زال الصبر وضعف بخلاف الربط على القلب فإنه يستلزم الصبر كما قال تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم } ومعنى الربط في اللغة الشد ولهذا يقال لكل من صبر على أمر بط قلبه كأنه حبس قلبه عن الإضطراب ومنه يقال : هو رابط الجأش وقد ظن الواحدي أن على زائدة والمعنى يربط قلوبكم وليس كما ظن بل بين ربط الشيء والربط عليه فرق ظاهر فإنه يقال ربط الفرس والدابة ولا يقال ربط عليها فإذا أحاط الربط بالشيء وعمه قيل : ربط عليه كأنه أحاط عليه بالربط فلهذا قيل : ربط على قلبه وكان أحسن من أن يقال ربط قلبه والمقصود أن هذا الربط يكون معه الصبر أشد وأثبت بخلاف الختم
( العاشر ) أن الختم هو شد القلب حتى لا يشعر ولا يفهم فهو مانع يمنع العلم والتقصد والنبي صلى الله عليه و سلم كان يعلم قول أعدائه : أنه افترى القرآن ويشعر به فلم يجعل الله على قلبه مانعا من الأذى بقولهم قيل : هذا أولى أن يسمى ختما وقد كان يؤذيه قولهم ويحزنهم كما قال تعالى { قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون } وكان وصول هذا الأذى إليه من كرامة الله له فإنه لم يؤذ نبي ما أوذى فالقول في الآية هو قول قتادة والله أعلم
ثم أخبر سبحانه أن القرآن تذكره للمتقين يتذكر به المتقى فيبصر ما ينفعه فيأتيه وما يضره فيجتنبه ويتذكر به أسماء الرب تعالى وصفاته وأفعاله فيؤمن ويتذكر به ثوابه وعقابه ووعيده وأمره ونهيه وآياته في أوليائه وأعدائه ونفسه وما يزكيها ويطهرها ويعليها وما يدسيها ويخفيها ويحقرها ويذكر به علم المبدأ والمعاد والجنة والنار وعلم الخير والشر فهو التذكرة على الحقيقة تذكرة حجة للعالمين ومنفعة وهداية للمتعلمين
ثم قال سبحانه { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } أي لا يخفون عليناـ فسنجازيهم بتكذيبهم
ثم أخبر سبحانه أن رسوله وكلامه حسرة على الكافرين إذا عاينوا حقيقة ما أخبر به كان تكذيبهم عليهم من أعظم الحسرات حين لا ينفعهم التحسر وهكذا كل من كذب بحق وصدق بباطل فإنه إذا انكشف له حقيقة ما كذب به وصدق به كان تكذيبه وتصديقه حسرة عليه كمن فرط فيما ينفعه وقت تحصيله حتى إذا اشتدت حاجته إليه وعاين فوز المحصلين صار تفريطه عليه حسرة
ثم أخبر سبحانه أن القرآن والرسول حق اليقين فقيل : هو من باب إضافة الموصوف إلى صفته أي الحق اليقين نحو مسجد الجامع وصلاة الأولى وهذا موضع يحتاج إلى تحقيق فنقول وبالله التوفيق :
ذكر الله سبحانه في كتابه مراتب اليقين وهي ثلاثة : حق اليقين وعلم اليقين وعين اليقين كما قال تعالى { كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين } فهذه ثلاث مراتب لليقين أولها عليه وهو التصديق التام به بحيث لا يعرض له شك ولا شبهة تقدح في تصديقه كعلم اليقين بالجنة مثلا وتيفنهم أنها دار المتقين ومقر المؤمنين فهذه مرتبة العلم كيقينهم أن الرسل أخبروا بها عن الله وتيقنهم صدق المخبر
( المرتبة الثانية ) عين اليقين وهي مرتبة الرؤية والمشاهدة كما قال تعالى { لترونها عين اليقين } وبين هذه المرتبة والتي قبلها فرق ما بين العلم والمشاهدة : فاليقين للسمع وعين اليقين للبصر وفي المسند للإمام أحمد مرفوعا ( ليس الخبر كالمعاين ) وهذه المرتبة هي التي سألها إبراهيم الخليل ربه أن يريه كيف يحيي الموت ليحصل له مع علم اليقين عين اليقين فكان سؤاله زيادة لنفسه وطمأنينة لقلبه فيسكن القلب عند المعاينة ويطمئن لقطع المسافة التي بين الحبر والعيان وعلى هذه المسافة أطلق النبي صلى الله عليه و سلم لفظ الشك حيث قال ( نحن أحق بالشك من إبراهيم ) ومعاذ الله أن يكون هناك شك ولا من إبراهيم وإنما هو عين بعد علم وشهود بعد خبر ومعاينة بعد سماع
( المرتبة الثالثة ) مرتبة حق اليقين وهي مباشرة الشيء بالإحساس به كما إذا أدخلوا الجنة وتمتعوا بما فيها فهم في الدنيا في مرتبة علم اليقين وفي الموقف حين نزلف ونقرب منهم حتى يعاينوها في مرتبة عين اليقين وإذا دخلوها وباشروا نعيمها في مرتبة حق اليقين ومباشرة المعلوم تارة يكون بالحواس الظاهرة وتارة يكون بالقلب فلهذا قال { إنه لحق اليقين } فإن القلب يباشر الإيمان به ويخالطه كما يباشر بالحواس ما يتعلق بها فحينئذ يخالط بشاشته القلوب ويبقى لها حق اليقين وهذه أعلى مراتب الإيمان وهي الصديقية التي تتفاوت فيها مراتب المؤمنين
وقد ضرب بعض العلماء للمراتب الثلاثة مثلا فقال : إذ قال لك من تجزم بصدقه : عندي عسل أريد أن أطعمك منه فصدقته كان ذلك علم يقين فإذا أحضره بين يديك صار ذلك عين اليقين فإذا ذقته صار ذلك حق اليقين وعلى هذا فليست هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى صفته بل من إضافة الجنس إلى نوعه إن العلم والعين والحق أعم من كونها يقينا فأضيف العام إلى الخاص مثل بعض المتاع وكل الدراهم ولما كان المضاف والمضاف إليه في هذا الباب يصدقان على ذات واحدة بخلاف قولك : دار عمرو وثوب زيد ظن من ظن أنها من إضافة الموصوف إلى صفته وليس كذلك بل هي من باب إضافة الجنس إلى نوعه كثوب خز وخاتم فضة فالمضاف إليه قد يكون مغايرا للمضاف لا يصدقان على ذات واحدة وقد يجانسه فيصدقان على مسمى واحد والله أعلم
ثم ختم السورة بقولة { فسبح باسم ربك العظيم } وهي جديرة بهذه الخاتمة لما تضمنته من الأخبار عن عظمة الرب تعالى وجلاله وذكر عظمة ملكه وجريان حكمه بالعدل على عباده في الدنيا والآخرة وذكر عظمته تعالى في إرسال رسوله وإنزال كتابه وأن تعالى أعظم وأجل وأكبر عند أهل سمواته والمؤمنين من عباده من أن يقر كذبا متقولا عليه مفترى عليه يبدل دينه وينسخ شرائعه ويقتل عباده ويخبر عنه بما لا حقيقة له وهو سبحانه مع ذلك يؤيده وينصره ويجيب دعواته ويأخذ أعداءه ويرفع قدره ويعلي ذكره فهو سبحانه العظيم الذي تأبى عظمته أن يفعل ذلك بمن أتى بأقبح أنواع الكذب والظلم فسبحان ربنا العظيم وتعالى عما ينسبه إليه الجاهلون علوا كبيرا

ومن ذلك قوله عز و جل { فلا أقسم برب المشارق والمغارب إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين } أقسم سبحانه برب المشارق والمغارب وهي إما مشارق النجوم ومغاربها أومشارق الشمس ومغاربها وأن كل موضع من الجهة مشرق ومغرب فكذلك جمع في موضع وأفرد في موضع وثنى في موضع آخر فقال { رب المشرقين ورب المغربين } فقيل : هما مشرقا الصيف والشتاء وجاء في كل موضع ما يناسبه فجاء : في سورة الرحمن { رب المشرقين ورب المغربين } لأنها سورة ذكرت فيها المزدوجات فذكر فيها الخلق والتعليم والشمس والقمر والنجوم والشجر والسماء والأرض والحب والثمر والجن والإنس ومادة أبي البشر وأبي الجن والبحرين والجنة والنار وقسم الجنة إلى جنتين عاليتين وجنتين دونهما وأخبر أن في كل جنة عينين فناسب كل المناسبة أن يذكر المشرقين والمغربين
وأما سورة ( سأل سائل ) فإنه أقسم سبحانه على عموم قدرته وكمالها وصحة تعلقها بإعادتهم بعد العدم فذكر المشارق والمغارب بلفظ الجمع إذ هو أدل على المقسم عليه سواء أريد مشارق النجوم ومغاربها أو مشارق الشمس ومغاربها أو كل جزء من جهتي المشرق والمغرب فكل ذلك آية ودلالة على قدرته تعالى على أن يبدل أمثال هؤلاء المكذبين وينشئهم فيما لا يعلمون فيأتي بهم في نشأة أخرى كما يأتي بالشمس كل يوم من مطلع ويذهب ( بها ) في مغرب
وأما في سورة ( المزمل ) فذكر المشرق والمغرب بلفظ الإفراد لما كان المقصود ذكر ربوبيته ووحدانيته وكما أنه تفرد بربوبية المشرق والمغرب وحده فكذلك يجب أن يتفرد بالربوبية والتوكل عليه وحده فليس للمشرق والمغرب رب سواه فكذلك ينبغي أن لا يتخذ إله ولا وكيل سواه وكذلك قال موسى لفرعون حين سأله { وما رب العالمين } فقال { رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } وفي ربوبيته سبحانه للمشارق والمغارب تنبيه على ربوبيته للسموات وما حوته من الشمس والقمر والنجوم وربوبيته ما بين الجهتين وربوبيته الليل والنهار وما تضمناه ثم قال { إنا لقادرون * على أن نبدل خيرا منهم وما نحن بمسبوقين } أي لقادرون على أن يذهب بهم ونأتي بأطوع لنا منهم وخيرا منهم كما قال تعالى { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا } وقوله { وما نحن بمسبوقين } أي لا يفوتني ذلك إذا أردته ولا يمتنع مني وعبر عن هذا المعنى بقولة { وما نحن بمسبوقين } لأن المغلوب يسبقه الغالب إلى ما يريده فيفوت عليه ولهذا عدى بعلى دون إلى كما في قوله { وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم } فإنه لما ضمنه معنى مغلوبين ومقهورين عداه بعلى بخلاف سبقه إليه فإنه فرق بين سبقته إله وسبقته عليه فالأول بمعنى غلبته وقهرته عليه والثاني بمعنى وصلت إليه قبله

وقد وقع الأخبار عن قدرته عليه سبحانه على تبديلهم بخير منهم وفي بعضها تبديل أمثالهم وفي بعضها استبداله قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم فهذه ثلاثة أمور يجب معرفة ما بينها من الجمع والفرق فحيث وقع التبديل بخير منهم فهو إخبار عن قدرته على أن يذهب بهم ويأتي بأطوع واتقى له منهم في الدنيا وذلك قوه { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم } يعني بل يكونوا خيرا منكم قال مجاهد : يستبدل بهم من شاء من عباده فيجعلهم خيرا من هؤلاء فلم يتولوا بحمد الله فلم يستبدل بهم وأما ذكره تبديل أمثالهم ففي سورة الواقعة وسورة الإنسان فقال في الواقعة { نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } وقال في سورة الإنسان { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } قال كثير من المفسرين : المعنى أنا إذا أردنا أن نخلق خلقا غيركم لم يسبقنا سابق ولم يفتنا ذلك وفي قوله { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } إذا شئنا أهلكناهم وأتينا بأشباههم فجعلناهم بدلا منهم قال المهدوي : قوما موافقين لهم في الخلق مخالفين لهم في العمل ولم يذكر الواحدي ولا ابن الجوزي غير هذا القول وعلى هذا فتكون هذه الآيات نظير قوله تعالى { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } فيكون استدلالا بقدرته على إذهابهم والإتيان بأمثالهم على إتيانه بهم أنفسهم إذا ماتوا
ثم استدل سبحانه بالنشأة الأولى فذكرهم بها فقال { ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون } فنبههم بما علموه وعاينوه على صدق ما أخبرتهم به رسله من النشأة الثانية
والذي عندي في معنى هاتين الآيتين وهما آية الواقعة والإنسان أن المراد بتبديل أمثالهم الخلق الجديد والنشأة الآخرة التي وعدوا بها وقد وفق الزمخشري لفهم هذا من سورة الإنسان فقال : وبدلنا أمثالهم في شدة الأسر يعني النشأة الأخرى ثم قالوا : وقيل وبدلنا غيرهم ممن يطيع وحقه أن يأتي بأن لا بإذا كقوله { وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم } قلت : وإتيانه بإذا التي لا تكون إلا للمحق الوقوع يدل على تحقق وقوع هذا التبديل وأنه واقع لا محالة وذلك هو النشأة الأخرى التي استدل على إمكانها بقوله { ولقد علمتم النشأة الأولى } واستدل بالمثل على المثل وعلى ما أنكروه بما عاينوه وشاهدوه وكونهم أمثالهم هو إنشاؤهم خلقا جديدا بعينه فهم هم بأعيانهم وهم أمثالهم وكونهم أمثالهم هو إنشاؤهم خلقا جديدا بعينه فهم هم بأعيانهم وهم أمثالهم فهم أنفسهم يعادون فإذا قلت : المعاد هذا هو الأول بعينه صدقت وإن قلت : هو مثله صدقت فهو هو معاد أو هو مثل الأول وقد أوضح هذا سبحانه بقوله { بل هم في لبس من خلق جديد } فهذه الخلق الجديد هو المتضمن لكونهم أمثالهم وقد سماه الله سبحانه وتعالى إعادة والمعاد مثل المبدأ وسماه نشأة أخرى وهي مثل الأولى وسماه خلقا جديدا وهو مثل الخلق الأول كما قال { فعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } وسماه أمثالا وهم هم فتطابقت ألفاظ القرآن وصدق بعضها بعضا وبين بعضها بعضا ولهذا تزول إشكالات أوردها من لم يفهم المعاد الذي أخبرت به الرسل عن الله ولا يفهم من هذا القول ما قاله بعض المتأخرين أنهم غيرهم من كل وجه فهذا خطأ قطعا - معاذ الله من اعتقاده - بل هم أمثالهم وهم أعيانهم فإذا فهمت الحقائق فلا يناقش في العبارة إلا ضيق العطن صغير العقل ضعيف العلم
وتأمل قوله تعالى في الواقعة { أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت } كيف ذكر مبدأ النشأة وآخرها مستدلا بها على النشأة الثانية بقولة { وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون } فإنكم إنما علمتم النشأة الأولى في بطون أمهاتكم ومبدأها مما تمنون ولن نغلب على أن ننشئكم نشأة ثانية فيما لا تعلمون فإذا أنتم أمثال ما كنتم في الدنيا في صوركم وهيئاتكم وهذا من كمال قدرة الرب تعالى ومشيئته لو تذكرتم أحوال النشأة الأولى لدلكم ذلك على قدرة منشئها على النشأة التي كذبتم بها فأي استدلال وإرشاد أحسن من هذا وأقرب إلى العقل والفهم وأبعد من كل شبهة وشك ؟ وليس بعد هذا البيان والاستدلال إلا الكفر بالله وما جاءت به الرسل والإيمان
وقال في سورة الإنسان { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } فهذه النشأة الأولى ثم قال { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } فهذه النشأة الأخرى ونظير هذا { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى * من نطفة إذا تمنى * وأن عليه النشأة الأخرى } وهذا في القرآن كثير جدا يقرن بين النشأتين مذكرا للفطر والعقول بإحداهما على الأخرى وبالله التوفيق

فلما أقام عليهم الحجة وقطع المعذرة قال { فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } وهذا تهديد شديد يتضمن ترك هؤلاء الذين قامت عليهم حجتي فلم يقبلوها ولم يخافوا بأسي ولا صدقوا رسالاتي في خوضهم بالباطل ولعبهم فالخوض في الباطل ضد التكلم بالحق واللعب ضد السعي فلا يعود نفعه على ساعيه فالأول ضد العلم الناقع والثاني ضد العمل الصالح فلا تكلم بالحق ولا عمل بالصواب وهذا شأن كل من أعرض عما جاء به الرسول لا بد له من هذين الأمرين
ثم ذكر سبحانه حالهم عند خروجهم من القبور فقال { يوم يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون } أي يسرعون والنصب العلم والغاية التي تنصب فيؤمونها وهذا من ألطف التشبيه وأبينه وأحسنه فإن الناس يقومون من قبورهم مهطعين إلى الداعي يؤمون الصوت لا يعرجون عنه يمنة ولا يسرة كما قال { يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له } أي يقبلون من كل أوب إلى صوته وناحيته لا يعرجون عنه قال الفراء : وهذا كما تقول : دعوتك دعوة لا عوج لك عنها وقال الزجاج : المعنى لا عوج لهم من دعائه أي لا يقدرون إلا على اتباعه وقصده
فإن قلت : إذا كان المعنى لا عوج لهم عن دعوتي فكيف قال ( لا عوج له ) قيل : قالت طائفة : اللام بمعنى عن أي لا عوج عنه وقالت طائفة : المعنى لا عوج لهم عن دعائي كما قال الزجاج وفي القولين تكلف ظاهر ولما كانت الدعوة تسمع الجميع لا تعوج عنهم وكلهم يؤم صوت الداعي ويتبعه لا يعوج عنه كان مجيء اللام منتظما للمعنيين ودالا عليهما والمعنى لا عوج لدعائه لا في إسماعهم إياه ولا في إجابتهم له
ثم قال تعالى { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة } فوصفهم بذل الظاهر وهو خشوع الأبصار وذل الباطن وهو ما يرهقهم من الذل خشعت عنه أبصارهم وقريب من هذا قوله { ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة } ونظيره قوله { وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } وضد هذا قوله تعالى { إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى } فنفى عنه الجوع الذي هو ذلك الباطن والعري الذي هو ذلك الظاهر وضده أيضا قوله : { ولقاهم نضرة وسرورا } فالنضرة عز الظاهر وجماله والسرور عز الباطن وجماله ومثله أيضا قوله { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا } فجمع لهم بين زينة الظاهر والباطن ومثله قوله { يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير } فجمع لهم بين زينة الظاهر والباطن ومثله قوله { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب * وحفظا من كل شيطان مارد } فرين ظاهرها بالنجوم وباطنها بالحفظ من كل شيطان رجيم ومثله قوله أيضا { وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات } وقريب منه قوله تعالى { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } ومنه قوله { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون * وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون } فجمع لهؤلاء بين جمال الظاهر والباطن ولأولئك بين تسويد الظاهر والباطن ومنه قول امرأة العزيز { فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } فوصفت ظاهره بالجمال وباطنه بالعفة فوصفته بجمال الظاهر والباطن فكأنها قالت : هذا ظاهره وباطنه أحسن من ظاهره وهذا كله يدلك على ارتباط الظاهر بالباطن قدرا وشرعا والله أعلم بالصواب

ومن ذلك قوله تعالى { ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون } الصحيح أن ن وق وص من حروف الهجاء التي يفتتح بها الرب سبحانه بعض السور وهي أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ولم تجاوز الخمسة وهي أحادية وثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية ولم تجاوز الخمسة ولم تذكر قط في أول سورة إلا وعقبها بذكر القرآن إما مقسما به وإما مخبرا عنه ما خلا سورتين سورة كهيعص ون كقوله { الم * ذلك الكتاب } { الم * الله لا إله إلا هو الحي القيوم * نزل عليك الكتاب } { المص * كتاب أنزل إليك } { المر تلك آيات الكتاب } وهكذا إلى آخره ففي هذا تنبيه على شرف هذه الحروف وعظم قدرها وجلالتها إذ هي مباني كلامه وكتبه التي تكلم سبحانه بها وأنزلها على رسله وهدى بها عباده وعرفهم بواسطتها نفسه وأسماءه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه ووعيده ووعده وعرفهم بها الخير والشر والحسن والقبيح وأقدرهم على التكلم بها بحيث يبلغون بها أقصى ما في أنفسهم بأسهل طريق وقلة كلفة ومشقة وأوصله إلى المقصود وأدل عليه وهذا من أعظم نعمه عليهم كما هو من أعظم آياته ولهذا عاب سبحانه على من عبد إلها لا يتكلم وامتن على عباده بأن أقدرهم على البيان بها بالتكلم فكان في ذكر هذه الحروف التنبيه على كمال ربوبيته وكمال إحسانه وإنعامه فهي أولى أن يقسم بها من الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والنجوم وغيرها من المخلوقات فهي دالة أظهر دلالة على وحدانيته وقدرته وحكمته وكماله وكلامه وصدق رسله
وقد جمع سبحانه بين الأمرين - أعني القرآن ونطق اللسان - وجعل تعليمها من تمام نعمته وامتنانه كما قال { الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان } فبهذه الحروف علم القرآن وبها علم البيان وبها فضل الإنسان على سائر أنواع الحيوان وبها أنزل كتبه وبها أرسل رسله وبها جمعت العلوم وحفظتـ وبها انتظمت مصالح العباد في المعاش والمعاد وبها يتميز الحق من الباطل والصحيح من الفاسد وبها جمعت أشتات العلوم وبها أمكن تنقلها في الأذهان وكم جلب بها من نعمة ودفع بها من نقمة ؟ وأقيلت بها من عثرة وأقيمت بها من حرمة وهدى بها من ضلالة وأقيم بها من حق وهدم بها من باطل ؟ فآياته سبحانه في تعليم البيان كآياته في خلق الإنسان ولولا عجائب صنع الله ما ثبتت تلك الفضائل في لحم ولا عصب فسبحان من هذا صنعه في هواء يخرج من قصبة الرئة فينضم في الحلقوم وينفرش في أقصى الحلق ووسطه وآخره وأعلاه وأسفله وعلى وسط اللسان وأطرافه وبين الثنايا وفي الشفتين والخيشوم فيسمع له عند كل مقطع من تلك المقاطع صوت غير صوت المقطع المجاور له فإذا هو حرف
فألهم سبحانه الإنسان بضم بعضها إلى بعض فإذا هي كلمات قائمة بأنفسها ثم ألهمهم تأليف تلك الكلمات بعضها إلى بعض وإذا هي كلام دال على أنواع المعاني أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا ونفيا وإثباتا وإقرارا وإنكارا وتصديقا وتكذيبا وإيجابا واستحبابا وسؤالا و جوابا إلى غير ذلك من أنواع الخطاب نظمه ونثره و وجيزه و مطوله على اختلاف لغات الخلائق كل ذلك صنعته تبارك وتعالى في هواء مجرد خارج من باطن الإنسان إلى ظاهره في مجار قد هيئت وأعدت لتقطيعه وتفصيله ثم تأليفه وتوصيله فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين فهذا شأن الحرف المخلوق
وأما الحرف الذي به تكون المخلوقات فشأنه أعلى وأجل وإذا كان هذا شأن الحروف فحقيق أن تفتتح بها السور كما افتتحت بالأقسام لما فيها من آيات الربوبية وأدلة الوحدانية فهي دالة على كمال قدرته سبحانه وكمال علمه وكمال حكمته وكمال رحمته وعنايته بخلقه ولطفه وإحسانه وإذا أعطيت الاستدلال بها حقه استدللت بها على المبدأ والمعاد والخلق والأمر والتوحيد والرسالة فهي من أظهر أدلة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن القرآن كلام الله تكلم به حقا وأنزله على رسوله وحيا وبلغه كما أوحي إليه صدقا ولا تهمل الفكرة في كل سورة افتتحت بهذه الحروف واشتمالها على آيات هذه المطالب وتقريرها وبالله التوفيق

ثم أقسم سبحانه بـ { ن والقلم وما يسطرون } فأقسم بالكتاب وآلته وهو القلم الذي هو إحدى آياته وأول مخلوقاته الذي جرى به قدره وشرعه وكتب به الوحي وقيد به الدين وأثبتت به الشريعة وحفظت به العلوم وقامت به مصالح العباد في المعاش والمعاد فوطدت به الممالك وأمنت به السبل والمسالك وأقام في الناس أبلغ خطيب وأفصحه وأنفعه لهم وأنصحه وواعظا تشفى مواعظه القلوب من السقم وطبيبا يبرئ بإذنه من أنواع الألم : يكسر العساك العظيمة على أنه الضعيف الوحيد ويخاف سطوته وبأسه ذو البأس الشديد وبالأقلام تدبر الأقاليم وتساس الممالك والعلم لسان الضمير يناجيه بما استتر عن الأسماع فينسج حلل المعاني في الطرفين فتعود أحسن من الوشي المرقوم ويودعها حكمه فتصير بوادر الفهوم والأقلام نظام للأفهام وكم أن اللسان يريد القلب فالقلم يريد اللسان ويولد الحروف المسموعة عن اللسان كتولد الحروف المكتوبة عن القلم والقلم بريد القلب ورسوله وترجمانه ولسانه الصامت

والأقلام متفاوتة في الرتب فأعلاها وأجلها قدرا قلم القدر السابق الذي كتب الله به مقادير الخلائق كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة ] واختلف العلماء هل القلم أو المخلوقات أو العرش ؟ على قولين ذكرهما الحافظ أبو يعلى الهمداني أصحهما أن العرش قبل القلم لما ثبت في الصحيح من حديث عبدالله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف عام عرشه على الماء ] فهذا صريح أن التقدير وقع قبل خلق العرش والتقدير وقع عند أول خلق القلم لحديث عبادة هذا
ولا يخلو قوله [ إن أول ما خلق الله القلم ] إلى آخره إما أن يكون جملة أو جملتين فإن كل جملة - وهو الصحيح - كان معناه أنه عند أول خلقه قال له : أكتب كما في لفظ [ أول ما خلق الله القلم قال له أكتب ] بنصب أول والقلم فإن كانا جملتين وهو مروى برفع أول والقلم فيتعين حمله على أنه أول المخلوفات من هذا العالم ليتفق الحديثان إذ حديث عبدالله بن عمر صريح في أن العرش سابق على التقدير والتقدير مقارن لخلق القلم وفي اللفظ الآخر [ لما خلق الله القلم قال له اكتب ]
فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها وقد قال غير واحد من أهل التفسير أنه القلم الذي أقسم الله به

القلم الثاني

قلم الوحي
وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم والعالم خدم لهم وإليهم الحل والعقد والأقلام كلها خدم لأقلامهم وقد رفع النبي صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام : فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي

والقلم الثالث

قلم التوقيع
عن الله ورسوله وهو قلم الفقهاء والمفتين وهذا القلم أيضا حاكم غير محكوم عليه فإليه التحاكم في الدماء والأموال والفروج والحقوق وأصحابه مخبرون عن الله بحكمه الذي حكم به بين عباده وأصحابه حكام وملوك على أرباب الأقلام وأقلام العالم خدم لهذا القلم

القلم الرابع

قلم طب الأبدان
التي تحفظ بها صحتها الموجودة وترد إليها صحتها المفقودة وتدفع به عنها آفاتها وعوارضها المضادة لصحتها وهذا القلم أنفع الأقلام بعد قلم طب الأديان وحاجة الناس إلى أهله تلتحق بالضرورة

القلم الخامس التوقيع عن الملوك ونوابهم وسياس الملك ولهذا كان أصحابه أعز أصحاب الأقلام والمشاركون للملوك في تدبير الدول فإن صلحت أقلامهم صلحت المملكة وإن فسدت أقلامهم فسدت المملكة وهم وسائط بين الملوك ورعاياهم

القلم السادس

قلم الحساب
وهو القلم الذي تضبط به الأموال مستخرجها ومصروفها ومقاديرها وهو قلم الأرزاق وهو قلم الكم المتصل والمنفصل الذي تضبط به المقادير وما بينها من التفاوت والتناسب ومبناه على الصدق والعدل فإذا كذب هذا القلم وظلم فسد أمر المملكة

القلم السابع

قلم الحكم
الذي تثبت به الحقوق وتنفذ به القضايا وتراق به الدماء وتؤخذ به الأموال والحقوق من اليد العادية فترد إلى اليد المحقة ويثبت به الإنسان وتنقطع به الخصومات وبين هذا القلم وقلم التوقيع عن الله عموم وخصوص فهذا له الفنوذ واللزوم وذاك له العموم والشمول وهو قلم قائم بالصدق فيما يثبته وبالعدل فيما يمضيه وينفذه

القلم الثامن

قلم الشهادة
وهو القلم الذي تحفظ به الحقوق وتصان عن الإضاعة وتحول بين الفاجر وإنكاره ويصدق الصادق ويكذب الكاذب ويشهد للمحق بحقه وعلى المبطل بباطله وهو الأمين على الدماء والفروج والأموال والأنساب والحقوق ومتى خان هذا القلم فسد العالم أعظم فساد وباستقامته يستقيم أمر العالم ومبناه على العلم وعدم الكتمان

القلم التاسع

قلم التعبير
وهو كاتب وحي المنام وتفسيره وتعبيره وما أريد منه وهو قلم شريف جليل مترجم للوحي المنامي كاشف له وهو من الأقلام التي تصلح للدنيا والدين وهو يعتمد طهارة صاحبه ونزاهته وأمانته وتحريه للصدق والطرائق الحميدة والمناهج السديدة مع علم راسخ وصفاء باطن وحسن مؤيد بالنور الإلهي ومعرفة بأحوال الخلق وهيآتهم وسيرهم وهو من ألطف الأقلام وأعمها جولانا وأوسعها تصرفا وأشدها تشبثا بسائر الموجودات : علويها وسفليها وبالماضي والحال والمستقبل فتصرف هذا القلم في المنام هو محل ولايته وكرسي مملكته وسلطانه

القلم العاشر

قلم تواريخ العالم ووقائعه
وهو القلم الذي تضبط به الحوادث وتنقل من أمة إلى أمة ومن قرن إلى قرن فيحصر ما مضى من العالم وحوادثه في الخيال وينقشه في النفس حتى كأن السامع يرى ذلك ويشهده فهو قلم المعاد الروحاني وهذا القلم قلم العجائب فإنه يعيد لك العالم في صورة الخيال فتراه بقلبك وتشاهد ببصيرتك

القلم الحادي عشر

قلم اللغة
وتفاصيلها من شرح المعاني ألفاظها ونحوها وتصريفها وأسرار تراكيبها وما يتبع ذلك من أحوالها ووجوهها وأنواع دلالتها على المعاني وكيفية الدلالة وهو قلم التعبير عن المعاني باختيار أحسن الألفاظ وأعذبها وأسهلها وأوضحها وهذا القلم واسع التصرف جدا بحسب سعة الألفاظ وكثرة مجاريها وتنوعها

القلم الثاني عشر

القلم الجامع
وهو قلم الرد على المبطلين ورفع سنة المحقين وكشف أباطيل المبطلين على اختلاف أنواعها وأجناسها وبيان تناقضهم وتهافتهم وخروجهم عن الحق ودخولهم في الباطل وهذا القلم في الأفلاك نظير الملوك في الأنام وأصحابه أهل الحجة الناصرون لما جاءت به الرسل المحاربون لأعدائهم وهم الداعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة المجادلون لمن خرج عن سبيله بأنواع الجدال وأصحاب هذا القلم حرب لكل مبطل وعدو لكل مخالف للرسل فهم في شأن وغيرهم من أصحاب الأقلام في شأن
فهذه الأقلام التي فيها انتظام مصالح العالم ويكفي في جلالة القلم أنه لم تكتب كتب الله إلا به وأن الله سبحانه أقسم به في كتابه وتعرف إلى غيره بأن علم بالقلم وإنما وصل إلينا ما بعث به نبينا صلى الله عليه و سلم بواسطة القلم ولقد أبدع أبو تمام إذ يقول في وصفه :
( لك القلم الأعلى الذي بشباته
يصاب من الأمر الكلى والمفاصل )
( له ريقة طل ولكن وقعها
بآثاره في الغرب والشرق وابل )
( لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجنا اشتارته أيد عواسل )
( له الخلوات اللاء لولا نجيها
لما احتلفت للملك تلك المحافل )
( فصيح إذا استنطقته وهو راكب
وأعجم إن خاطبته وهو راجل )
( إذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت
عليه شعاب الفكر وهي حوافل )
( أطاعته أطراف القنا وتقوضت
لنجواه - تقويض الخيام - الجحافل )
( إذا استغزر الذهن الذي وأقبلت
أعاليه في القرطاس وهي أسافل )
( وقد رفدته الخنصران وسددت
ثلاث نواحيه الثلاث الأنامل )
( رايت جليلا شأنه وهو مرهف
ضنا وسمينا خطبه وهو ناحل )

والمقسم عليه بالقلم والكتابة في هذه السورة تنزيه نبيه ورسوله عما يقول فيه أعداؤه وهو قوله تعالى { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } وأنت إذا طابقت بين هذا القسم والمقسم به وجدته دالا عليه أظهر دلالة وأبينها فإن ما سطر الكاتب بالقلم من أنواع العلوم التي يتلقاها البشر بعضهم عن بعض لا تصدر من مجنون ولا تصدر إلا من عقل وافر فكيف يصدر ما جاء به الرسول من هذا الكتاب الذي هو في أعلى درجات العلوم ؟ بل العلوم التي تضمنها ليس في قوى البشر الإتيان بها ولاسيما من أمي لا يقرأ كتابا ولا يخط بيمينه مع كونه في أعلى أنواع الفصاحة سليما من الاختلاف بريا من التناقض يستحيل من العقلاء كلهم لو اجتمعوا في صعيد واحد أن يأتوا بمثله ولو كانوا في عقل رجل واحد منهم فكيف يتأتى ذلك من مجنون لا عقل له يميز به ما عسى كثير من الحيوان أن يميزه وهل هذا إلا من أقبح البهتان وأظهر الإفك
فتأمل شهادة هذا المقسم به للمقسم عليه ودلالته عليه أتم دلالة ولو أن رجلا أنشأ رسالة واحدة بديعة منتظمة الأول والآخر متساوية الأجزاء يصدق بعضها بعضا أو قال قصيدة كذلك أو صنف كتابا كذلك لشهد له العقلاء بالعقل ولما استجاز أحد رميه بالجنون مع إمكان - بل وقوع - معارضتها ومشاكلتها والإتيان بمثلها أو أحسن منها فكيف يرمى بالجنون من أتى بما عجزت العقلاء كلهم قاطبة عن معارضته ومماثلته وعرفهم من الحق ما لا تهتدي عقولهم إليه بحيث أذعنت له عقول العقلاء وخضعت له ألباب الأولياء وتلاشت في جنب ما جاء به بحيث لم يسعها إلا التسليم له والانقياد والإذعان طائعة مختارة وهي ترى عقولها أشد فقرا وحاجة إلى ما جاء به ولا كمال لها إلا بما جاء به ؟ فهو الذي كمل عقولها كما يكمل الطفل برضاع الثدي ولهذا فإن أتباعه أعقل الخلق على الإطلاق وهذه مؤلفاتهم وكتبهم في الفنون إذا وازنت بينها وبين مؤلفات مخالفيه ظهر لك التفاوت بينها ويكفي في عقولهم أنهم عمورا الدنيا بالعلم والعدل والقلوب بالإيمان والتقوى فكيف يكون متبوعهم مجنونا وهذا حال كتابه وهديه وسيرته وحال أتباعه ؟ وهذا إنما حصل له ولأتباعه بنعمة الله عليه وعليهم فنفى عنه الجنون بنعمته عليه
وقد اختلف في تقدير الآية فقالت فرقة : الباء في ( بنعمة ربك ) باء القسم فهو قسم آخر اعتراض بين المحكوم به والمحكوم عليه كما يقول ما أنت بالله بكاذب وهذا التقدير ضعيف جدا لأنه قد تقدم القسم الأول فكيف يقع القسم الثاني في جوابه ؟ ولا يحسن أن تقول : والله ما أنت بالله بقائم وليس هذا من فصيح الكلام ولا عهد في كلامهم وقالت فرقة : العامل في ( بنعمة ربك ) أداة معنى النفي أو معنى أنفى عنك الجنون بنعمة ربك ورد أبو عمر ابن الحاجب وغيره وهذا القول بأن الحروف لا تعمل معانيها وإنما تعمل ألفاظها وقال الزمخشري يتعلق ( بنعمة ربك بمجنون ) منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا في قولك : أنت بنعمة الله عاقل يستويان في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك ضرب زيد عمرا وما ضرب زيد عمرا يعمل الفعل مثبتا ومنفيا إعمالا واحدا ومحله النصب على الحال أي ما أنت بمجنون منعما عليك بذلك ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي
واعترض عليه بأن العامل إذا تسلط على محكوم به وله معمول فإنه يجوز فيه وجهان : أحدهما نقى ذلك المعمول فقط نحو قولك : ما زيد بذاهب مسرعا فإنه ينتفى الإسراع دون القيام ولا يمتنع أن يثبت له ذهاب في غير إسراع والثاني ينفي المحكوم به فينتفي معموله بانتفائه فينتفي الذهاب في هذه الحال فينتفي الإسراع بانتفائه فإذا جعل { بنعمة ربك } معمولا لمجنون لزم أحد الأمرين وكلاهما منتف جزما
وهذا الإعتراض هنا فاسد لأن المعنى إذا حصل ما أنت بمجنون منعما عليك لزم من صدق هذا الخب نفيها قطعا ولا يصح نفي المعمول وثبوت العامل في هذا الكلام ولا يفهم منه من آلة الفهم وإنما يفهم الآدمي من هذا الكلام أن الجنون انتقى عنك بنعمة الله عليك وانتفى عنا فهمه هذا المعترض بنعمة الله علينا ثم اخبر سبحانه عن كماله حالتي نبيه صلى الله عليه و سلم في دنياه وأخراه فقال { وإن لك لأجرا غير ممنون } أي غير مقطوع بل هو دائم مستمر ونكر الأجر تنكير تعظيم كما قال { إن في ذلك لعبرة } و { إن في ذلك لآية } و { إن في ذلك لذكرى } و { إن للمتقين مفازا } و { وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب } وهو كثير وإنما كان التنكير للتعظيم لأنه صور للسامع بمنزلة أمر عظيم لا يدركه الوصف ولا يناله التعبير ثم قال { وإنك لعلى خلق عظيم } وهذه من أعظم آيات نبوته ورسالته لمن منحه الله فهما ولقد سئلت أم المؤمنين عن خلقه صلى الله عليه و سلم فأجابت بما شفى وكفى فقالت : كان خلقه القرآن فهم سائلها أن يقوم لا يسألها شيئا بعد ذلك ومن هذا قال ابن عباس وغيره : أي على دين عظيم وسمى الدين خلقا لأن الخلق هيئة مركبة من علوم صادقة وإرادات زاكية وأعمال ظاهرة وباطنة موافقة للعدل والحكمة والمصلحة وأقوال مطابقة للحق تصدر تلك الأقوال والأعمال عن تلك العلوم والإرادات فتكتسب النفس بها أخلاقا هي أزكى الأخلاق وأشرفها وأفضلها فهذه كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه و سلم المقتبسة من مشكاة القرآن فكان كلامه مطابقا للقرآن تفصيلا له وبيينا وعلومه علوم القرآن وإرادته وأعماله ما أوجبه وندب إليه القرآن وإعراضه وتركه لما منع منه القرآن ورغبته فيما رغب فيه وزهده فيما زهد فيه وكراهته لما كرهه ومحبته لما أحبه وسعيه في تنفيذ أوامره وتبليغه والجهاد في إقامته فترجمت أم المؤمنين لكمال معرفتها بالقرآن وبالرسول صلى الله عليه و سلم وحسن تعبيرها عن هذا كله بقولها : كان خلقه القرآن وفهم هذا السائل لها عن هذا المعنى فاكتفى به واشتفى
فإذا كانت أخلاق العباد وعلومهم وإراداتهم وأعمالهم مستفادة من القلم وما يسطرون وكان في خلق القلم والكتابة إنعام عليهم وإحسان إليهم إذ وصلوا به إلى ذلك فكيف ينكرون إنعامه وإحسانه على عبده ورسوله الذي أعطاه أعلى الأخلاق وأفضل العلوم والأعمال والإرادات التي لاتهتدي للقول على تفاصيلها من غير قلم ولا كتابة ؟ فهل هذا إلا من أعظم آيات نبوته وشواهد صدق رسالاته ؟ وسيعلم أعداؤه المكذبون له أيهم المفتون هو أم هم ؟ وقد علموا هم والعقلاء ذلك في الدنيا ويزداد علمهم في البرزخ وينكشف ويظهر كل الظهور في الآخرة بحيث تتساوى أقدام الخلائق في العلم به
وقد اختلف تقدير قوله { بأيكم المفتون } فقال أبو عثمان المازني : هو كلام مستأنف والمفتون عنده مصدر أي : بأيكم الفتنة والاستفهام عن أمر دائر بين إثنين قد علم انتفاؤه عن أحدهما قطعا فتعين حصوله للآخر والجمهور على خلاف هذا التقدير وهو عندهم متصل بما قبله ثم لهم فيه أربعة أوجه :
( أحدها ) أن الباء زائدة والمعنى : أيكم المفتون وزيدت في المبتدأ كما زيدت في قولك : بحسبك أن تفعل قاله أبو عبيد
( الثاني ) أن المفتون بمعنى الفتنة أي ستبصر ويبصرون بأيكم الفتنة والباء على هذا ليست بزائدة قال الأخفش
( الثالث ) أن المفتون مفعول على بابه ولكن هنا مضاف محذوف تقديره بأيكم فتون المفتون وليست الباء زائدة قاله الأخفش أيضا
( الرابع ) أن الباء بمعنى في والتقدير في أي فريق منكم النوع المفتون والباء على هذا ظرفية وهذه الأقوال كلها تكلف ظاهر لا حاجة إلى شيء منه و ( ستبصر ) مضمن معنى تشعر وتعلم فعدى بالباء كما تقول : ستشعر بكذا وتعلم به قال تعالى { ألم يعلم بأن الله يرى } وإذا دعاك اللفظ إلى المعنى من مكان قريب فلا تجب من دعاك إليه من مكان بعيد

ومن ذلك قوله تعالى { فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين } ذكر سبحانه هذا القسم عقيب ذكر القيامة الكبرى وأقسام الخلق فيها ثم ذكر الأدلة القاطعة على قدرته وعلى المعاد بالنشأة الأولى وإخراج النبات من الأرض وإنزال الماء من السماء وخلق النار ثم ذكر بعد ذلك أحوال الناس في القيامة الصغرى عند مفارقة الروح للبدن وأقسم بمواقع النجوم على ثبوت القرآن وأنه تنزيله
وقد اختلف في النجوم التي أقسم بمواقعها فقيل : هي آيات القرآن ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في روياة عطاء وقول سعيد بن جبير والكلبي ومقاتل وقتادة وقيل : النجوم هي الكواكب ومواقعها مساقطها عند غروبها هذا قول أبي عبيدة وغيره وقيل : مواقعها اتنشارها و انكدارها واندثارها يوم القيامة وهذا قول الحسن ومن حجة هذا القول أن لفظ مواقع تقتضيه فإنه مفاعل من الوقوع وهو السقوط فلكل نجم موقع وجمعها مواقع ومن حجة قول من قال هي مساقطها عند الغروب أن الرب تعالى يقسم بالنجوم وطلوعها وجريانها وغروبها إذ فيها وفي أحوالها الثلاث آية وعبرة ودلالة كما تقدم في قوله تعالى { فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس } وقال { والنجم إذا هوى } وقال { فلا أقسم برب المشارق والمغارب } ويرجح هذا القول أيضا أن النجوم حيث وقعت في القرآن فالمراد منها الكواكب كقوله تعالى { وإدبار النجوم } وقوله { والشمس والقمر والنجوم }
وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه : ( أحدها ) أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وآيات القرآن يهتدى بها في ظلمات الجهل والغي فتلك هداية في الظلمات الحسية وآيات القرآن في الظلمات المعنوية فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الرجوم للشياطين وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الإنس والجن والنجوم آيات المشهودة المعاينة والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما فيها مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول
ومن قرأ { بمواقع النجوم } على الأفراد فلدلالة الواحد المضاف إلى الجميع على التعدد والمواقع اسم جنس والمصادر إذا اختلفت جمعت وإذا كان النوع واحدا أفردت قال تعالى { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } فجمع الأصوات لتعدد النوع وأفرد صوت الحمير لوحدته فإفراد موقع النجوم لوحدة المضاف إليه وتعدد المواقع لتعدده إذ لكل نجم موقع

والمقسم عليه ههنا قوله { إنه لقرآن كريم } ووقع الاعتراض بين القسم وجوابه بقوله : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } ووقع الاعتراض بين الصفة والموصوف في جملة هذا الاعتراض بقوله تعالى { لو تعلمون عظيم } فجاء هذا الاعتراض في ضمن هذا الاعتراض ألطف شيء وأحسنه موقعا وأحسن ما يقع هذا الاعتراض إذا تضمن تأكيدا أو تنبيها أو احترازا كقوله تعالى { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } فاعترض بين المبدأ والخبر بقوله : { لا نكلف نفسا إلا وسعها } لما تضمنه ذلك من الاحتراز الدافع لتوهم متوهم : أن الوعد إنما يستحقه من أتى بجميع الصالحات فرفع ذلك بقوله { لا نكلف نفسا إلا وسعها } وهذا أحسن من قول من قال : أنه خبر عن الذين آمنوا ثم أخبر عنهم بخبر آخر فهما خبران عن مخبر واحد فإن عدم التكليف فوق الوسع لا يخص الذين آمنوا بل هو حكم شامل لجميع الخلق مع ما في هذا التقدير من إخلاء الخبر عن الرابط وتقدير صفة محذوفة أي نفسا منهم وتعطيل هذه الفائدة الجليلة
ومن ألفط الاعتراض وأحسنه قوله تعالى { ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون } فاعترض بقوله سبحانه بين الجعلين وفوائد الاعتراض تختلف بحسب قصد المتكلم وسياق الكلام من قصد الاعتناء والتقرير والتوكيد وتعظيم المقسم به والمخبر عنه ورفع توهم خلاف المراد والجواب عن سؤال مقدر وغير ذلك :
فمن الاعتراض الذي يقصد به التقرير والتوكيد قول الشاعر :
( لو أن الباخلين - وأنت منهم - ... رأوك تعلموا منك المطالا )
ومما يقصد به الجواب عن سؤال مقدر قول الآخر :
( فلا هجره يبدو - وفي اليأس راحة - ... ولا وصله يصفو لنا فنكارمه )
فقوله : وفي اليأس راحة جواب لتقدير سؤال سائل وما يغني عنك هجره ؟ فقال : وفي اليأس راحة أي المطلوب أحد أمرين : إما يأس مريح أو وصال صاف
ومن اعتراض الاحتراز قول الجعدي :
( ألا زعمت بنو جعد بأني ... - وقد كذبوا - كبير السن فاين )
ومنه قول نصيب :
( فكدت - ولم اخلق من الطير - إن بدا ... سنا بارق نحو الحجاز أطير )
فقوله : ولما أخلق من الطير لرفع استفهام يتوجه عليه على سبيل الإنكار لو قال فكدت أطير فيقال له : وهل خلقت من الطير فاحترز بهذا الاعتراض وعندي أن هذا الاعتراض يفيد غير هذا وهو قوة شوقه ونزوعه إلى أرض الحجاز فأخبر انه كاد يطير على أنه أبعد شيء من الطيران فإنه لم يخلق من الطير ولا عجب طيران من خلق من الطير وإنما العجب طيران من لم يخلق من الطير لشدة نزوعه وشوقه إلى جهة محبوبة فتأمله
ومن مواقع الاعتراض بالدعاء كقول الشاعر :
( قد كنت أبكي وأنت راضية حذار هذا الصدود والغضب )
( إن تم ذا الهجر يا ظلوم - ولا ... تم - فما لي في العيش من أرب )
وقول الآخر :
( إن سليمى والله يكلؤها ... ضنت بشيء ما كان يرزؤها )
وقول الآخر :
( إن الثمانين - وبلغتها - ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
ومنه الاعتراض بالقسم كقوله :
( ذاك الذي - وأبيك - يعرف مالكا ... والحق يدفع ترهات الباطل )
ومن اعتراض الاستعطاف قوله :
( فمن لي بعين التي كنت مرة ... إلي بها - نفس فداؤك - تنظر )
فاعترض بقوله : نفس فداؤك استعطافا
فتأمل حسن الاعتراض وجزالته في قول الرب تعالى { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر } فقوله { والله أعلم بما ينزل } اعتراض بين الشرط وجوابه أفاد امورا : منها الجواب عن سؤال سائل : ما حكمة هذا التبديل وما فائدته ومنها أن الذي بدل وأتى بغيره منزل محكم نزوله قبل الإخبار ومنها أن مصدر الأمرين عن علمه تبارك وتعالى وأن كلا منهما منزل فيجب التسليم والإيمان بالأول والثاني
ومن الاعتراض الذي هو في أعلى درجات الحسن قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك } فاعترض بذكر شأن حمله ووضعه بين الوصية والموصى به توكيدا لأمر الوصية بالوالدة التي هذا شأنها وتذكيرا لولدها بحقها وما قاسته من حمله ووضعه مما لم يتكلفه الأب ومنه قوله تعالى { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها } فاعترض بقوله : { والله مخرج ما كنتم تكتمون } بين الجمل المعطوف بعضها على بعض إعلاما بأن تدارؤهم وتدافعهم في شأن القتيل ليس نافعا لهم في كتمانه فالله يظهره ولابد ولا تستطل هذا الفصل وأمثاله فإن يعطيك ميزانا وينهج لك طريقا يعينك على فهم الكتاب والله المستعان

ثم قال : { إنه لقرآن كريم } فوصفه بما يقتضي حسنه وكثرة خيره ومنافعه وجلالته فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع وهو من كل شيء أحسنه وأفضله والله سبحانه وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ووصف به عرشه ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر السلف الكريم بالحسن قال الكلبي : إنه لقرآن كريم أي حسن كريم على الله وقال مقاتل : كرمه الله وأعزه لأنه كلامه وقال الأزهري : الكريم اسم جامع لما يحمد والله كريم جميل الفعال وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة وبالجملة فالكريم الذي من شأنه أن يعطي الخير الكثير بسهولة ويسر وضده اللئيم الذي لا يخرج خيره النزر إلا بعسر وصعوبة وكذلك الكريم في الناس واللئيم

ثم قال تعالى : { في كتاب مكنون } اختلف المفسرون في هذا : فقيل هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله : { في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة } ويدل على أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وهذا هو الصحيح في معنى الآية ومن المفسرين من قال : إن المراد به أن المصحف لا يمسه إلا طاهر
والأول أرجح لوجوه :
( أحدها ) أن الآية سيقت تنزيها للقرآن أن تنزل به الشياطين وأن محله لا يصل إليه فيمسه إلا المطهرون فيستحيل على أخابث خلق الله وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يمسوه كما قال تعالى { وما تنزلت به الشياطين * وما ينبغي لهم وما يستطيعون } فنفي الفعل وتأتيه منهم وقدرتهم عليه فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم ولا يقدرون عليه فإن الفعل قد ينتفى عمن يحسن منه وقد يليق بمن لا يليق عليه فنفى عنهم الأمور الثلاثة وكذلك قوله في سورة عبس { في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة * كرام بررة } فوصف محله بهذه الصفات بيانا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزل به وتقرير هذا المعنى أهم وأجل وأنفع من بيان كون المصحف لا يمسه إلا طاهر
( الوجه الثاني ) أن السورة مكية والاعتناء في السور المكية إنما هو بأصول الدين من تقرير التوحيد والمعاد والنبوة وأما تقرير الأحكام والشرائع فمظنة السور المدنية
( الثالث ) إن القرآن لم يكن في مصحف عند نزول هذه الآية ولا في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنما جمع في المصحف في خلافة أبي بكر وهذا وإن جاز أن يكون باعتبار ما يأتي فالظاهر أنه إخبار بالواقع حال الأخبار يوضحه
( الوجه الرابع ) وهو قوله : { في كتاب مكنون } والمكنون المصون المستور عن الأعين الذي لا تناله أيدي البشر كما قال تعالى ك { كأنهن بيض مكنون } وهكذا قال السلف قال الكلبي : مكنون من الشياطين وقال مقاتل : مستور وقال مجاهد : لايصيبه تراب ولا غبار وقال أبو اسحق : مصون في السماء يوضحه
( الوجه الخامس ) أن وصفه بكونه مكنونا نظير وصفه بكونه محفوظا فقوله { لقرآن كريم * في كتاب مكنون } كقوله { بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ } يوضحه
( الوجه السادس ) أن هذا أبلغ في الرد على المكذبين وابلغ في تعظيم القرآن من كون المصحف لا يمسه محدث
( الوجه السابع ) قوله { لا يمسه إلا المطهرون } بالرفع فهذا خبر لفظا ومعنى ولو كان نهيا لكان مفتوحا ومن حمل الآية على النهي احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النهي والأصل في الخبر والنهي حمل كل منهما على حقيقته وليس ههنا موجب يوجب صرف الكلام عن الخبر إلى النهي
( الوجه الثامن ) أنه قال : { إلا المطهرون } ولم يقل إلا المطهرون ولو أراد به منع المحدث من مسه لقال إلا المتطهرون كما قال تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين } وفي الحديث [ اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ] فالمتطهر فاعل التطهير والمطهر الذي طهره غيره فالمتوضئ متطهر والملائكة مطهرون
( الوجه التاسع ) أنه لو أريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الاختبار عن كونه مكنونا كبير فائدة إذ مجرد كون الكلام مكنونا في كتاب لا يستلزم ثبوته فكيف يمدح القرآن بكونه مكنونا في كتاب وهذا أمر مشترك والآية إنما سيقت لبيان مدحه وتشريفه وما اختص به من الخصائص التي تدل على أنه منزل من عند الله وأنه محفوظ مصون لا يصل إليه شيطان بوجه ما ولا يمس محله إلا المطهرون وهم السفرة الكرام البررة
( الوجه العاشر ) ما رواه سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو الأحوص حدثنا عاصم الأحول عن أنس بن مالك في قوله { لا يمسه إلا المطهرون } قال المطهرون الملائكة وهذا عند طائفة من أهل الحديث في حكم المرفوع وقال الحاكم : تفسير الصحابة عندنا في حكم المرفوع ومن لم يجعله مرفوعا فلا ريب أنه عنده أصح من تفسير من بعد الصحابة والصحابة أعلم الأمة بتفسير القرآن ويجب الرجوع إلى تفسيرهم وقال حرب في مسائله : سمعت اسحق في قوله { لا يمسه إلا المطهرون } قال : النسخة التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون قال الملائكة :
وسمعت شيخ الإسلام يقرر الاستدلال بالآية على أن المصحف لا يمسه المحدث بوجه آخر فقال هذا من باب التنبيه والإشارة إذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسها إلا المطهرون فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسها إلا طاهر والحديث مشتق من هذه الآية وقوله [ لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ] رواه أهل السنن من حديث الزهري عن بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده : أن في الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه و سلم إلى أهل اليمن في السنن والقرائض والديات [ أن لا يمس القرآن إلا طاهر ] قال أحمد : أرجو أن يكون صحيحا وقال أيضا : لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتبه وقال أبو عمر بن عبدالبر : هو كتاب مشهور عن اهل السير معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بشهرتها عن الإسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة ثم قال : وهو كتاب معروف عند العلماء وما فيه فمتفق عليه إلا قليلا وقد رواه ابن حبان في صحيحه ومالك في موطنه وفي المسألة آثار أخر مذكورة في غير هذا الموضع

ودلت الآية بإشارتها وإيمائها على أنه لا يدرك معانيه ولا يفهمه إلا القلوب الطاهرة وحرام على القلب المتلوث بنجاسة البدع والمخالفات أن ينال معانيه وأن يفهمه كما ينبغي قالت البخاري في صحيحه في هذه الآية : لا يجد طعمه إلا من آمن به وهذا أيضا من إشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من شهد أنه كلام الله تكلم بها حقا و أنزله على رسوله وحيا ولا ينال معانيه إلا من لم يكن في قلبه حرج منه بوجه من الوجوه فمن لم يؤمن بأنه حق من عند الله ففي قلبه منه حرج ومن لم يؤمن بأن الله سبحانه تكلم به وحيا وليس مخلوقا من جملة مخلوقاته ففي قلبه من حرج ومن قال : إن له باطنا يخالف ظاهره وإن له تأويلا بخالف ما يفهم منه ففي قلبه منه حرج ومن قال : إن له تأويلا لا نفهمه ولا نعلمه وإنما نتلوه متعبدين بألفاظه ففي قلبه منه حرج ومن سلط عليه آل الآرائيين وهذيان المتكلمين وسفسطة المسفسطين وخيالات المتصوفين ففي قلبه منه حرج ومن جعله تابعا ومذهبه وقول من قلده دينه ينزله على أقواله ويتكلف حمله عليها ففي قلبه منه حرج ومن لم يحكمه ظاهرا وباطنا في أصول الدين وفروعه ويسلم وينقاد لحكمه أين كان ففي قلبه منه حرج ومن لم يأتمر بأوامره وينزجر عن زواجره ويصدق جميع أخباره ويحكم أمره ونهيه وخبره ويرد له كل أمر ونهي وخبر خالفه ففي قلبه منه حرج وكل هؤلاء لم تمس قلوبهم معانيه ولا يفهمونه كما ينبغي أن يفهم ولا يجدون من لذة حلاوته وطعمه ما وجده الصحابة ومن تبعهم
وأنت إذا تأملت قوله { لا يمسه إلا المطهرون } وأعطيت الآية حقها من دلالة اللفظ وإيمائه وإشارته وتنبيهه وقياس الشيء على نظيره واعتباره بمشاكله وتأملت المشابهة التي عقدها الله سبحانه وربطها بين الظاهر والباطن - فهمت هذه المعاني كلها من الاية وبالله التوفيق

ثم أكد ذلك وقرره وأوطده بقوله : { تنزيل من رب العالمين } وكما أنه لازم لكونه قرآنا كريما في كتاب مكنون فهو ملزوم له فهو دليل عليه مدلول له
وأفاد كونه تنزيلا من رب العالمين مطلوبين عظيمين من أجل مطالب الدين :
( أحدهما ) أنه المتكلم وأنه منه نزل ومنه بدأ وهو الذي تكلم به ومن هنا قال السلف : منه بدأ ونظيره { ولكن حق القول مني } وقوله : { قل نزله روح القدس من ربك }
( والثاني ) علو الله سبحانه فوق خلقه فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر - هو وصول الشيء من أعلا إلى أسفل والرب تعالى إنما يخاطب عباده بما تعرفه فطرهم وتشهد به عقولهم وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة تملكه لهم وتصرفه فيهم وحكمه عليهم وإحسانه وإنعامه عليهم وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى ويدعهم هملا ويخلقهم عبثا لا يأمرهم ولاينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به وهذا الإستدلال اقوى وأشرف من الإستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس وتلك إنما تكون لخواص العقلاء
وقد أشار سبحانه إلى الطريقين في غير موضع من كتابه كقوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } فهذا استدلال بالآيات المعاينة المخلوقة ثم قال : { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } فهذا استدلال بكمال ربوبيته وكمال أوصافه على صدق رسوله فيما جاء به وهذه الطريق أخص وأقوى وأكمل وأعلى والأول أعم واشمل وقد تقدم بيانها عنده قوله تعالى : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } وأين الإستدلال بأوصاف الرب تعالى وكماله المقدس على ثبوت النبي وبعثه من الإستدلال عليه ببعض مخلوقاته ؟
وتأمل فرق ما بين استدلال سيدة نساء العالمين خديجة الله عنها بصفات الرب تعالى وصفات محمد صلى الله عليه و سلم واستنتاجها من بين هذين الأمرين صحة نبوته وأنه رسول الله حقا وأن من كانت هذه صفات ربه وخالقه تأبى أن يخزيه وأنه يؤيده ويعليه ويتم نعمته عليه
وأنت إذا تأملت هذه الطريقة وهذا الإستدلال وجدت بينها وبين طريقة المتكلمين من الفرق مالا يخفى وإذا حصل للعبد الفقه في الأسماء والصفات إنتفع به في باب معرفة الحق والباطل من الأقوال والطرائق والمذاهب والعقائد - أعظم انتفاع وأتمه وقد بينا في كتابنا المعالم بطلان التحيل وغيره من الحيل الربوبية من أسماء الرب وصفاته وأنه يستحيل على الحكيم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع التحيلات فأين ذلك الوعد الشديد وجواز التوصل إليه بالطريق البعيد إذ ليست حكمة الرب تعالى وكمال علمه وأسمائه وصفاته تنتقض بإحالة ذلك وامتناعه عليه فهذا استدلال بالفقه الأكبر في الأسماء والصفات على الفقه العملي في باب الأمر والنهي وهذا باب حرام على الجهمي المعطل أن يلجه إلى الجنة حرام عليه ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسين ألف سنة والله العزيز الوهاب لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع وبه التوفيق

ثم وبخهم سبحانه على وصفهم الادهان في غير موضعه وأنهم يداهنون بما حقه أن يصدع به ويفرق به ويعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب والأفئدة ويحارب ويسالم لأجله ولا يلتوي عنه لا يمنة ولا يسرة ولا يكون للقب التفات إلى غيره ولا محاكمة إلا إليه ولا مخاصمة إلا به ولابه اهتداء في طرق المطالب العالية إلا بنوره ولا شفاء إلا به فهو روح الوجود وحياة العالم ومدار السعادة وقائد الفلاح وطريق النجاة وسبيل الرشاد ونور البصائر فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة ؟ وإنما أنزل بالحق وللحق والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا يمكن إزالته أو في حق ضعيف لا يمكن إقامته فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يدهن به ؟
ثم قال سبحانه { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } لما كان قوام كل واحد من البدن والقلب إنما هو بالرزق فرزق البدن الطعام والشراب ورزق القلب الإيمان والمعرفة بربه وفاطره ومحبته والشوق إليه والأنس بقربه والإبتهاج بذكره وكان لا حياة له إلا بذلك كما أن البدن لا حياة له إلا بالطعام والشراب - أنعم سبحانه على عبادة بهذين النوعين من الرزق وجعل قيام أبدانهم وقلوبهم بهما ثم فاوت سبحانه بينهم في قسمة هذين الرزقين بحسب ما اقتضاه علمه وحكمته : فمنعم من وفر حظه من الرزقين ووسع عليه فيهما ومنهم من قتر عليه في الرزقين ومنهم من وسع عليه رزق البدن وقتر عليه رزق القلب وبالعكس وهذا الرزق إنما يتم ويكمل بالشكر والشكر مادة زيادته وسبب حفظه وبقائه وترك الشكر سبب زواله وانقطاعه عن العبد فإن الله تعالى تأذن أنه لابد ان يزيد الشكور من نعمه ولابد أن يسلبها من لم يشكرها فلما وضعوا الكفر والتكذيب موضع الشكر والإيمان جعلوا رزقهم نفسه تكذيبا فإن التصديق والشكر لما كانا سبب زيادة الرزق وهما رزق القلب حقيقة فهؤلاء جعلوا مكان هذا الرزق التكذيب والكفر فجعلوا رزقهم التكذيب وهذا المعنى هو الذي حام حوله من قال : التقدير وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون وقال آخرون : التقدير وتجعلون بدل شكر رزقكم أنكم تكذبون فحذف مضافين معا وهؤلاء أطالوا اللفظ وقصروا بالمعنى ومن بعض معنى الآية قوله : مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا لا يصح أن تدل عليه الآية ويراد بها وإلا فمعناها أوسع منه وأعم وأعلى والله أعلم

ثم ختم السورة ب

أحوالهم عند القيامة الصغرى
كما ذكر في أولها أحوالهم في القيامة الكبرى وقسمهم إلى ثلاثة أقسام كما قسمهم هناك إلى ثلاثة وذكر بين يدي هذا التقسيم الاستدلال على صحته وثبوته بأنهم مربوبون مدبرون مملوكون فوقهم رب قاهر مالك يتصرف فيهم بحسب مشيئته وإرادته وقررهم على ذلك بما لا سبيل لهم إلى دفعه ولا إنكاره فقال { فلولا إذا بلغت الحلقوم } أي وصلت الروح إلى هذا الموضع بحيث فارقت ولم تفارق فهي برزخ بين الموت والحياة كما أنها إذا فارقت صارت في برزخ بين الدنيا والآخرة ملائكة الرب تعالى أقرب إلى المحتضر من حاضريه من الأنس ولكنهم لا يبصرون بهم فلولا تردونها إلى مكانها إلى البدن أيها الحاضرون إن كان الأمر كما تزعمون أنكم غير مجزيين ولا مدينين ولا مستوعبين ليوم الحساب
فإن قيل : أي ارتباط بين هذين الأمرين حتى يلازم بينهما ؟
قيل : هذا من أحسن الاستدلال وأبلغه فإنهم إما أن يقروا بأنهم مربوبون مملوكون عبيد لمالك قادر متصرف فيهم قاهر آمر ناه أو لا يقرون بذلك : فإن أقروا به لزمهم القيام بحقه عليهم وشكره وتعظيمه وإجلاله وأن لا يجعلوا له ندا ولا شريكا وهذا هو الذي جاءهم به رسوله ونزله عليه به كتابه وإن أنكروا ذلك وقالوا إنهم ليسوا بعبيد ولا مملوكين ولا مربوبين وإن الأمر إليهم يردون الأرواح إلى مقارها إذا بلغت الحلقوم فإن المتصرف في نفسه الحاكم على روحه لا يمتنع منه ذلك بخلاف المحكوم عليه المنصرف فيه غير المدبر له سواء الذي هو عبد مملوك من جميع الجهات وهذا الاستدلال لا محيد عنه ولا مدفع له ومن أعطاه حقه من التقرير والبيان إنتفع به غاية النفع وانقاد لأجله للعبودية وأذعن ولم يسعه غير التسليم للربوبية والإلهية والإقرار بالعبودية ولله ما احسن جزالة هذه الألفاظ وفصاحتها وبلوغها أقصى مراتب البلاغة والفصاحة والاختصار التام وندائها إلى معناها من أقرب مكان واشتمالها على التوبيخ والتقرير والإلزام ودلائل الربوبية والتوحيد والبعث وفصل النزاع في معرفة الروح وأنها تصعد وتنزل وتنتقل من مكان إلى مكان وما أحسن إعادة لولا ثانيا قبل ذكر الفعل الذي يقتضيه الأول وجعل الحرفين يقتضيانه اقتضاء واحدا وذكر الشرطين بين لولا الأولى والثانية وما تقتضيه من الفعل ثم الموالاة بين الشرط الأول والثاني مع الفصل بينهما بكلمة واحدة هي الرابط بين لولا الأولى والثانية والشرط والأول والثاني وهذا تركيب يستحد العقل والسمع لمعناه ولفظه
فتضمنت الآيتان تقريرا وتوبيخا واستدلالا على أصول الإيمان : من وجود الخالق سبحانه وكمال قدرته ونفوذ مشيئته وربوبيته و تصرفه في أرواح عباده حيث لا يقدرون على التصرف فيها بشيء وأن أرواحهم بيده يذهب بها إذا شاء ويردها إليهم إذا شاء ويخلي أبدانهم منها تارة ويجمع بينها وبينهما تارة وإثبات المعاد وصدق رسوله فيما اخبر به عنه وإثبات ملائكته وتقرير عبودية الخلق وأتى بهذا في صورة تحضيضين وتوبيخين وتقريرين وجوابين وشرطين وجزاءين - منتظمة أحسن الإنتظام ومتداخلة أحسن التداخل متعلقا بعضها ببعض وهذا كلام لا يقدر البشر على مثل نظمه ومعناه قال الفراء : وأجيبت { فلولا إذا بلغت } و { فلولا إن كنتم غير مدينين } بجواب واحد وهو { ترجعونها إن كنتم صادقين } قال : ومثله قوله تعالى : { فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أجيبا بجواب واحد وهما شرطان قال الجرجاني : قوله { ترجعونها } جواب قوله { فلولا } المتقدمة والمتأخرة علىتأويل : فلولا إذا بلغت النفس الحلقوم تردونها إلى موضعها إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين كما تزعمون ؟ يقول تعالى : إن كان الأمر كما تزعمون أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا إله ولا رب يقوم بذلك فهلا تردون نفس من يعز عليكم إذا بلغت الحلقوم ؟ فإذا لم يمكنكم في ذلك حيلة بوجه من الوجوه فهل دلكم ذلك على أن الأمر إلى مليك قادر قاهر متصرف فيكم وهو الله الذي لا إله إلا هو ؟ وقال أبو اسحق : معناه فلا ترجعون الروح إن كنتم غير مملوكين مدبرين ؟ فهلا إن كان الأمر كما تزعمون كما يقول قائلكم { لو أطاعونا ما قتلوا } و { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } أي إن كنتم تقدرون أن تؤخروا أجلا فهلا ترجعون الروح إذا بلغت الحلقوم ؟ وهلا تردون عن أنفسكم الموت
قلت : وكان هذا يلتفت إلى قوله تعالى : { قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم } أي إن كنتم كما تزعمون لا تبعثون بعد الموت خلقا جديدا فكونوا خلقا لا يغنى ولا يبلى إما من حجارة أو من حديد أو أكبر من ذلك ووجه الملازمة ما تقدم ذكره وهو إما أن تقروا بأن لكم ربا متصرفا فيكم ومالكا لكم تنفذ فيكم مشيئته وقدرته يميتكم إذا شاء ويحييكم إذا شاء فكيف تنكرون قدرته على إعادتكم خلقا جديدا بعدما أماتكم وإما أن تنكروا أن يكون لكم رب قادر قاهر مالك نافذ المشيئة فيكم والقدرة فيكم فكونوا خلقا لا يقبل الفناء والموت فإذا لم تستطيعوا إن تكونوا كذلك فما تنكرون من قدرة من جعلكم خلقا يموت ويحيا أن يحييكم بعدما أماتكم ؟ فهذا استدلال يعجزهم عن كونهم خلقا لا يموت والذي في الواقعة استدلال يعجزهم عن رد الروح إلى مكانها إذا قاربت الموت وليس بعد هذا الاستدلال إلا الإذعان والانقياد أو الكفر والعناد

فلما قام الدليل ووضح السبيل وتم البرهان على انهم مملوكون مربوبون مجزيون محاسبون - ذكر طبقاتهم عند الحشر الأول والقيامة الصغرى وهي ثلاث طبقات : طبقة المقربين وطبقة أصحاب اليمين وطبقة المكذبين فجعل تحية المقربين عند الوفاة الروح والريحان والجنة وهذه الكرامات الثلاثة التي يعطونها بعد الموت نظير الثلاث التي يعطونها يوم القيامة : فالروح الفرح والسرور والإبتهاج ولذة الروح فهي كلمة جامعة لنعيم الروح ولذتها وذلك قوتها وغذاؤها والريحان الرزق وهو الأكل والشرب والجنة المسكن الجامع لذلك كله فيعطون هذه الثلاث في البرزج وفي المعاد الثاني
ثم ذكر الطبقة الثانية وهي طبقة أصحاب اليمين ولما كانوا دون المقربين في المرتبة جعل تحيتهم عند القدوم عليه السلامة من الآفات والشرور التي تحصل للمكذبين الضالين فقال : { وأما إن كان من أصحاب اليمين * فسلام لك من أصحاب اليمين } والسلام مصدر من سلم أي فلك السلامة والخطاب له نفسه أي : يقال لك السلامة كما يقال للقادم : لك الهناء ولك السلامة ولك البشرى ونحو ذلك من الألفاظ كما يقولون : خير مقدم ونحو ذلك فهذه تحية عند اللقاء قال مقاتل : يسلم الله لهم أمرهم ويتجاوز عن سيئاتهم ويتقبل حسناتهم وقال الكلبي : يسلم عليه أهل الجنة ويقولون : السلامة لك وعلى هذا فقوله { من أصحاب اليمين } أي : هذه التحية حاصلة لك من إخوانك أصحاب اليمين فإنه إذا قدم عليهم حيوه بهذه التحية وقالوا السلامة لك وفي الآية أقوال أخر فيها تكلف وتعسف فلا حاجة إلى ذكرها
ثم ذكر الطبقة الثالثة وهي طبقة الضال في نفسه المكذب لأهل الحق وإن له عند الموافاة نزل الحميم وسكنى الجحيم ثم أكد هذا الجزاء مما جعله كأنه رأى العين لمن آمن بالله ورسوله فقال { إن هذا لهو حق اليقين } فرفع شأنه عن درجة الظن والعلم إلى اليقين وعن درجة اليقين إلى حقه
ثم أمره أن ينزه اسمه تبارك وتعالى عما لا يليق به وتنزيه الاسم متضمن لتنزيه المسمى عما يقوله الكاذبون والجاحدون

ومن ذلك قوله تعالى : { والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى } أقسم سبحانه بالنجم عند هويه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي
واختلف الناس في المراد بالنجم : فقال الكلبي عن ابن عباس : أقسم بالقرآن إذا نزل منجما على رسوله : أربع آيات وثلاثا والسورة وكان بين أوله وآخره عشرون سنة وكذلك روى عطاء عنه وهو قول مقاتل والضحاك ومجاهد واختاره الفراء وعلى هذا فسمي القرآن نجما لتفرقه في النزول والعرب تسمي التفرق تنجما والمفرق نجما ونجوم الكتاب أقساطها ويقول : جعلت مالي على فلان نجوما منجمة كل نجم كذا وكذا وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر و مساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها فيقولون : إذا طلع النجم - يريدون الثريا - حل عليك الدين ومنه قوله زهير في دية جعلت نجوما على العاقل :
( ينجمها قوم لقوم غرامة ولم يهرقوا ما بينهم ملء مجحم )
ثم جعل كل تنجم تفريقا وإن لم يكن موقتا بطلوع نجم
وقوله ( هوى ) على هذا القول أي : نزل من عل إلى سفل قال أبوزيد : هوت العقاب تهوي هويا - بفتح الهاء - إذا انقضت على صيد أو غيره وكذلك قال ابن الأعرابي وفرق بين الهوى لقوله :
( والدلو في اصعادها عجل الهوى )
وقال الليث : العامة تقول الهوى - بالضم - في مصدر هوى يهوى وكذلك قال الأصمعي : هوى يهوى هو بفتح الهاء إذا سقط إلى أسفل قال وكذلك الهوى في السهر إذا مضى
وههنا أمر يجب التنبيه عليه غلط فيه أبو محمد بن حزم أقبح غلط فذكر في السماء الرب تعالى الهوى بفتح الهاء واحتج بمافي الصحيح من حديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول في سجود ( سبحان ربي الأعلى ) فظن أبو محمد : أن الهوى صفة للرب وهذا من غلط رحمه الله وإنما الهوى على وزن فعيل اسم لقطعة من الليل يقال : مضى هوى من الليل على وزن فعيل ومضى هزيع منه أي : طرف وجانب وكان يقول ( سبحان ربي الأعلى ) في قطعة من الليل وجانب منه وقد صرحت بذلك في اللفظ الآخر فقالت : كان يقول ( سبحان ربي الأعلى ) الهوى من الليل
عدنا إلى قوله { والنجم إذا هوى } وقال ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وعطية : يعني الثريا إذا سقطت وغابت وهو الرواية الأخرى عن مجاهد والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا قال : فباتت تعد النجم وقال أبو حمزة اليماني : يعني النجوم إذا انتشرت يوم القيامة وقال ابن عباس في رواية عكرمة : يعني النجوم التي ترمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع وهذا قول الحسن وهو أظهر الأقوال ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه آية وحفظا للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسوله حق وصدق لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه بل قد أحرس بالنجم إذا هوى رصدا بين يدي الوحي وحرسا له وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور وفي المقسم به دليل على المقسم عليه
وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى ولا تسمية نزوله هويا ولا عهد في القرآن ذلك فيحمل هذا اللفظ عليه وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت وليس بالبين أيضا القسم بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة بل هذا مما يقسم الرب عليه ويدل عليه بآياته فلا يجعله نفسه دليلا لعدم ظهوره للمخاطبين لاسيما منكرو البعث فإنه سبحانه إنما استدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه فأظهر الأقوال قول الحسن والله أعلم
وبين المقسم به والمقسم عليه من التناسب ما لا يخفى فإن النجوم التي ترمى الشياطين آيات من آيات الله يحفظ بها دينه ووحيه وآياته المنزلة على رسوله بها ظهر دينه وشرعه وأسماؤه وصفاته وجعلت هذه النجوم المشاهدة خدما وحرسا لهذه النجوم الهاوية ونفى سبحانه عن رسوله الضلال المنافي للهدى والغي المنافي للرشاد ففي ضمن هذا النفي الشهادة له بأنه على الهدى والرشاد فالهدى في علمه والرشاد في علمه وهذان الأصلان هما غاية كمال العبد وبهما سعادته وفلاحه وبهما وصل النبي صلى الله عليه و سلم خلفاءه فقال [ عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي ] فالراشد ضد الغاوي والمهدي ضد الضال وهو الذي زكت نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو صاحب الهدى ودين الحق ولا يشتبه الراشد المهدي بالضال الغاوي إلا على أجهل خلق الله و أعمالهم قلبا وأبعدهم من حقيقة الإنسانية ولله در القائل :
( وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم )
فالناس أربعة أقسام : ضال في علمه غاو في قصده وعمله وهؤلاء شرار الخلق وهم مخالفو الرسل
( الثاني ) مهتد في علمه غاو في قصده وعمله وهؤلاء هم الأمة الغضبية ومن تشبه بهم وهو حال كل من عرف الحق ولم يعمل به
( الثالث ) مهتد في علمه راشد في قصده وهؤلاء ورثة الأنبياء وهم وإن كانوا الأقلين عددا فهم الأكثرون عند الله قدرا وهم صفوة الله من عباده وحزبه من خلقه
وتأمل كيف قال سبحانه { ما ضل صاحبكم } ولم يقل ما ضل محمد تأكيدا لإقامة الحجة عليهم بأنه صاحبهم وهم أعم الخلق به وبحاله وأقواله وأعماله وأنهم لا يعرفونه بكذب ولاغي ولا ضلال ولا ينقمون عليه أمرا واحدا قط وقد نبه على هذا المعنى بقوله { أم لم يعرفوا رسولهم } وبقوله { وما صاحبكم بمجنون }

ثم قال سبحانه { وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى } ينزه نطق رسوله أن يصدر عن هوى وبهذا الكمال هداه ورشده وقال { وما ينطق عن الهوى } ولم يقل وما ينطق بالهوى لأن نطقه عن الهوى أبلغ فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به فتضمن نفي الأمرين نفي الهوى عن مصدر النطق ونفيه عن نفسه : فنطقه بالحق ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال
ثم قال { إن هو إلا وحي يوحى } فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل أي ما نطقه إلا وحي يوحى وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائدا إلى القرآن فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة وإن كليهما وحي يوحى وقد احتج الشافعي لذلك فقال : لعل من حجة من قال بهذا قوله { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } قال ولعل من حجته أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم [ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : الغنم والخادم رد عليك - الحديث ] وفي الصحيحين أن يعلى بن أمية كان يقول لعمر : ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه و سلم حين ينزل عليه الوحي فلما كان بالجعرانة سأله رجل فقال : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بالخلوق فنظر إليه النبي صلى الله عليه و سلم ساعة ثم سكت فجاء الوحي فأشار عمر بيده إلى يعلى فجاء فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه و سلم محرم يعظ ثم سرى عنه فقال [ أين السائل آنفا ] فجيء به فقال [ إنزع عنك الجبة وغسل أثر الطيب واصنع في عمرتك ما نصع في حجتك ] قال الشافعي : أخبرنا مسلم بن ابن جريج عن أبي طاووس عن أبيه أن عنده كتابا نزل به الوحي وما فرض رسول الله صلى الله عليه و سلم من صدقة وعقول فإنما نزل به الوحي وذكر الأوزاعي عن حسان بن عطية قال : كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه و سلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن يعلمه إياه وذكر الأوزاعي أيضا عن أبي عبيد صاحب سليمان أخبرني القاسم بن مخمرة حدثني ابن فضيلة قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه و سلم : سعر لنا قال [ لا تسألني عن سن أحدثها فيكم لم يأمرني بها ولكن سلوا الله من فضله ] وابن فضيلة هذا يسمى طلحة وهذا صح عنه أنه قال [ ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ] وهذا هو السنة بلا شك و قد قال تعالى { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } وهما القرآن والسنة وبالله التوفيق

ثم أخبر تعالى عن وصف من علمه الوحي والقرآن مما يعلم أنه مضاد لا وصاف الشيطان معلم الضلال والغواية فقال ( علمه شديد القوى ) وهذا نظير قوله ( ذي قوة عند ذي العرش ) وذكرنا هناك السر في وصفه بالقوة
وقوله ( ذو مرة ) أي جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة ليس شيطانا أقبح خلق الله وأشوههم صورة بل هو من أجمل الخلق وأقواعم وأعظمهم أمانة ومكانة عند الله وهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له كما تقدم نظيره في سورة التكوير فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلالته وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم والشياطين وتلامذتهم بضد من ذلك فهم أقبح الخلق صورة ومعنى وأجهل الخلق وأضعفهم همما ونفوسا
ثم ذكر استواء هذا المعلم بالأفق الأعلى ودنوه وتدليه وقربه من رسول الله صلى الله عليه و سلم وإيحاء الله ما أوحى فصور سبحانه لأهل الإيمان صورة الحال من نزول جبريل من عنده إلى أن استوى بالأفق ثم دنى وتدلى وقرب من رسوله فأوحى إليه ما أمره الله بإيحائه حتى كأنهم يشاهدون صورة الحال ويعاينونها هابطا من السماء إلى أن صار بالأفق الأعلى مستويا عليه ثم نزل وقرب من محمد صلى الله عليه و سلم وخاطبه بما أمرع الله به قائلا : ربك يقول لك كذا وكذا وأخبر سبحانه عن مسافة هذا القرب بأن قدر قوسين أو أدنى من ذلك وليس هذا على وجه الشك بل تحقيق لقدر المسافة وأنها لا تزيد عن قوسين ألبتة كما قال تعالى { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } تحقيق لهذا العدد وأنهم لا ينقصون عن مائة ألف رجل واحدا ونظيره قوله { ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة } أي لا تنقص قسوتها عن قسوة الحجارة بل إن لم تزد على قسوة الحجارة لم تكن دونها وهذا المعنى أحسن وألطف وأدق من قول من جعل أو في هذه المواضع بمعنى بل ومن قول من جعلها للشك بالنسبة إلى الرأي وقول من جعلها بمعنى الواو فتأمله انتهى

ثم أخبر تعالى عن تصديق فؤاده لما رأته عيناه وأن القلب صدق العين وليس كمن رأى شيئا على خلاف ما هو به فكذب فؤاده وبصره بل ما رآه ببصره صدقه الفؤاد وعلم أنه كذلك وفيها قراءتان : إحداهما بتخفيف كذب والثانية بتشديدها يقال كذبته عينه وكذبه قلبه وكذبه جسده إذا أخلف ما ظنه وحدسه قال الشاعر :
( كذبتك عينك أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا )
أي أرتك مالا حقيقة له فنفى هذا عن رسوله وأخبره أن فؤاده لم يكذب ما رآه و ( ما ) إما أن تكون مصدرية فيكون المعنى : ما كذب فؤاده رؤيته وإما أن تكون موصولة فيكون المعنى : ما كذب الفؤاد الذي رآه بعينه وعلى التقديرين فهو إخبار عن تطابق رؤية القلب لرؤية البصر وتوافقهما وتصديق كل منهما لصاحبه وهذا ظاهر جدا في قراءة التشديد وقد استشكلها طائفة منهم المبرد وقال : في هذه القراءة بعد قال : لأنه إذا رأى بقلبه فقد علمه أيضا بقلبه وإذا وقع العلم فلا كذب معه فإنه إذا كان الشيء في القلب معلوما فكيف يكون معه تكذيب ؟
قلت : وجواب هذا من وجهين ( أحدهما ) أن الرجل قد يتخيل الشيء على خلاف ما هو به فيكذبه قلبه إذ يريه صورة المعلوم على خلاف ما هي عليه كما تكذبه عينه فيقال : كذبه قلبه وكذبه ظنه وكذبته عينه فنفى سبحانه ذلك عن رسوله وأخبر أن ما رآه الفؤاد فهو كما رآه كمن رأى الشيء على حقيقة ما هو به فإنه يصح أن يقال : لم تكذبه عينه
( الثاني ) أن يكون الضمير في ( رأى ) عائدا إلى الرأي لا إلى الفؤاد ويكون المعنى : ما كذب الفؤاد ما رآه البصر وهذا بحمد الله لا إشكال فيه والمعنى ما كذب الفؤاد ما رآه البصر بل صدقه وعلى القراءتين فالمعنى : ما أوهمه الفؤاد أنه رأى ولم ير ولا اتهم بصره
ثم أنكر سبحانه عليهم مكابرتهم و جحدهم له على ما رآه كما ينكر على الجاهل مكابرته للعالم ومماراته له على ما علمه وفيها قراءتان أفمارونه وأفتمرونه وهذه المماراة أصلها من الجحد والدفع يقول مريت الرجل حقه إذا جحدته كما قال الشاعر :
( لئن هجرت أخا صدق ومكرمة لقد مريت أخا ما كان يمريكا )
ومنه المماراة وهي المجادلة والمكابرة ولهذا عدى هذا الفعل بعلى وهي على بابها وليست بمعنى عن كما قاله المبرد بل الفعل متضمن معنى المكابرة وهذا في قراءة الألف أظهر ورجح أبو عبيدة : قراءة من قرأ ( أفتمرونه ) قال : وذلك أن المشركين إنما شأنهم الجحود لما كان يأتيهم من الوحي وهذا كان أكثر من المماراة منهم يعني أن من قرأ ( أفتمارونه ) فمعناه أفتجادلونه ؟ ومن قرأ ( أفتمرونه ) معناه أفتجحدونه ؟ وجحودهم لما جاء به كان هو شأنهم وكان أكثر من مجادلتهم له وخالفه أبو علي وغيره واختاروا قراءة ( أفتمارونه ) قال أبو علي : من قرأ أفتمارونه فمعناه أفتجادلونه جدالا ترومون به دفعه عما علمه وشاهده ؟ ويقوي هذا الوجه قوله تعالى { يجادلونك في الحق بعد ما تبين } ومن قرأ ( أفتمرونه ) كان المعنى أفتجحدونه ؟ قال : والمجادلة كأنها أشبه في هذا لأن الجحود كان منهم في هذا وغيره وقد جادله المشركون في الإسراء
قلت : القوم جمعوا بين الجدال والدفع والإنكار فكان جدالهم جدال جحود ودفع لا جدال استرشاد وتبين الحق : وإثبات الألف يدل على المجادلة والإتيان بعلى يدل على المكابرة فكانت قراءة الألف منتظمة للمعنيين جميعا فهي أولى وبالله التوفيق

ثم أخبر سبحانه عن رؤيته لجبريل مرة أخرى عند سدرة المنتهى : فالمرة الأولى كانت دون السماء بالأفق الأعلى والثانية كانت فوق السماء عند سدرة المنتهى وقد صح عنه صلى الله عليه و سلم أنه جبريل عليه الصلاة و السلام رآه على صورته التي خلق عليها مرتين كما في الصحيحين عن زر بن حبيش أنه سئل عن قوله تعالى { فكان قاب قوسين أو أدنى } قال : أخبرني ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى جبريل له ستمائة جناح وفي الصحيحين أيضا عن عبدالله بن مسعود { ما كذب الفؤاد ما رأى } قال : [ رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح ] وقال البخاري عنه : [ رأى رفرفا أخضر يسد الأفق ] وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة [ ولقد رآه نزلة أخرى ] قال : رأى جبريل عليه السلام وفي صحيحه أيضا عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة فقالت : ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال : وكنت متكئا فجلست فقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز و جل { ولقد رآه بالأفق المبين } { ولقد رآه نزلة أخرى } ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : [ إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض ] فقالت : أولم تسمع أن الله عز و جل يقول { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير } أو لم تسمع أن الله عز و جل يقول { وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم } قالت : ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله عز و جل يقول { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } قال : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله عز و جل يقول { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } ولو كان محمد كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } وفي الصحيحين عن مسروق أيضا قال : سألت عائشة رضي الله عنها هل رأى محمد ربه ؟ فقالت : سبحان الله ! لقد وقف شعري مما قلت وفيهما أيضا قال قلت لعائشة : فأين قوله عز و جل { ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى } قالت : إنما ذاك جبريل كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد الأفق وفي صحيح مسلم بأن أبا ذر سأله صلى الله عليه و سلم : هل رأيت ربك فقال [ نور أنى أراه ] وفي صحيح مسلم أيضا من حديث أبي موسى الأشعري قام فينا رسول الله صلى الله عليه و سلم بخمس كلمات فقال : [ إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ] وهذا الحديث ساقه مسلم بعد حديث أبي ذر المقدم وهو كالتفسير له ولا ينافي هذا قوله في حديث الصحيح حديث الرؤية يوم القيامة [ فيكشف الحجاب فينظرون إليه ] فإن النور الذي هو حجاب الرب تعالى يراد به الحجاب الأدنى إليه وهو لو كشف لم يقم له شيء كما قال ابن عباس في قوله عز و جل { لا تدركه الأبصار } قال : ذاك نوره الذي هو نوره إذا تجلى به لم يقم له شيء وهذا الذي ذكره ابن عباس يقتضي أن قوله ( لا تدركه الأبصار ) على عمومه وإطلاقه في الدنيا والآخرة ولا يلزم من ذلك أن لايرى بل يرى في الآخرة بالأبصار من غير إدراك وإذا كانت أبصارنا لا تقوم لأدراك الشمس على ماهي عليه وإن رأتها مع القرب الذي بين المخلوق والمخلوق فالتفاوت الذي بين أبصار الخلائق وذات الرب جل جلاله أعظم وأعظم ولهذا لما حصل للجبل أدنى شيء من تجلي الرب تسافى الجبل واندك لسبحات ذلك القدر من التجلي وفي الحديث الصحيح المرفوع [ جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن ] فهذا يدل أن رداء الكبرياء على وجهه تبارك وتعالى هو المانع من رؤية الذات ولا يمنع من أصل الرؤية فإن الكبرياء والعظمة أمر لازم لذاته تعالى فإذا تجلى سبحانه لعباده يوم القيامة وكشف الحجاب بينهم وبينه فهو الحجاب المخلوق وأما أنوار الذات الذي يحجب عن إدراكها فذاك صفة للذات لا تفارق ذات الرب جل جلاله ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه وتكفي هذه الإشارة في هذا المقام للمصدق الموقن وأما المعطل الجهمي فكل هذا عنده باطل ومحال
والمقصود أن المخبر عنه بالرؤية في سورة النجم هو جبريل
وأما قول ابن عباس : رأى محمد ربه بفؤاده مرتين فالظاهر أن مستنده هذه الآية وقد تبين أن المرئي فيها جبريل فلا دلالة فيها على ما قاله ابن عباس وقد حكى عثمان بن سعيد الدرامي الإجماع على ما قالته عائشة فقال - في نقضه على بشر المريسي في الكلام على حديث ثوبان ومعاذ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ رأيت ربي البارحة في أحسن صورة ] فحكى تأويل المريسي الباطل - ثم قال : ويلك إن تأويل هذا الحديث على غير ما ذهبت إليه أما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حديث أبي ذر [ إن لم ير به ] وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم [ لن تروا ربكم حتى تموتوا ] وقالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أن محمدا رأى به فقد أعظم على الله الفرية وأجمع المسلمون على ذلك مع قوال الله { لا تدركه الأبصار } يعنون أبصار أهل الدنيا وإنما هذه الرؤية كانت في المنام يمكن رؤية الله على كل حال كذلك وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال [ صليت ما شاء الله من الليل ثم وضعت جنبي فأتاني ربي في أحسن صورة ] فهذا تأويل هذا الحديث عند أهل العلم وقد ظن القاضي أبو يعلى أن الرواية اختلفت عن الإمام أحمد : هل رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ربه ليلة الإسراء أم لا على ثلاث روايات :
( إحداها ) أنه رآه قال الروزي : قلت لأبي عبدالله يقولون إن عائشة قالت : من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قول عائشة ؟ فقال : بقول النبي صلى الله عليه و سلم رأيت ربي وقول النبي صلى الله عليه و سلم أكبر من قولها قال : وذكر المروزي في موضع آخر أنه قال لأبي عبدالله ههنا رجل يقول : إن الله يرى في الآخرة ولا أقول إن محمدا رأى به في الدنيا فغضب وقال هذا أهل أن يخفى يسلم الخبر كما جاء قال : فظاهر هذا أنه أثبت رؤية عين ونقل حنبل قال قلت لأبي عبدالله : النبي صلى الله عليه و سلم رأى ربه رؤيا حلم بقلبه ؟ قال فظاهر هذا نفي الرؤية وكذلك نقل الأثرم وقد سأله عن حديث عبدالرحمن بن عابس عن النبي صلى الله عليه و سلم [ رأيت ربي في أحسن صورة ] فقال معمر مضطرب لأن معمرا رواه عن أيوب عن معبد عن عبدالرحمن بن عابس عن النبي صلى الله عليه و سلم ورواه حماد عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس ورواه يوسف بن عطية عن قتادة عن أنس ورواه عبدالرحمن بن يزيد عن جابر عن خالد بن الجلاج عن عبدالرحمن بن عابس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وأصل الحديث واحد قال الأثرم : فقلت لأبي عبدالله : فإلى أي شيء تذهب ؟ فقال قال الأعمش بن زياد بن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه بقلبه ونقل الأثرم أن رجلا قال لأحمد عن الحسين الأشيب أنه قال لم ير النبي صلى الله عليه و سلم ربه تعالى فأنكره عليه إنسان وقال لم تقول رآه ولا تقول بعينه ولا بقلبه ؟ كما جاء الحديث فاستسحن ذلك الأشيب فقال أبو عبدالله حسن قال وظاهر هذا إثبات رؤية لا يعقل معناها هل كانت بعينه أم بقلبه ؟ فهذه نصوص أحمد وقد جعلها القاضي مختلفة وجعل المسألة على ثلاث روايات ثم احتج للرواية الأولى بحديث أن الطفيل وحديث عبدالرحمن ابن عابس الحضرمي ولا دلالة فيهما لأنها رؤية منام فقط واحتج لها بما لا يرضي أحمد أن يحتج به وهو حديث لا يصح عن أبي عبيدة بن الجراح مرفوعا [ لما كانت ليلة أسرى بي رأيت ربي في أحسن صورة فقال فيم يختصم الملأ معاذ بن جبل احتبس عنا رسول الله صلى الله عليه و سلم في صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس ثم خرج فصلى بنا ثم قال رأيت ربي البارحة في أحسن صورة فقال يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ ] وذكر الحديث فهذا كان بالمدينة والإسراء كان بمكة وليس عن الإمام أحمد ولا عن النبي صلى الله عليه و سلم نص أنه رآه بعينه يقظة وإنما حمل القاضي كلام أحمد ما لا يحتمله واحتج لما فهم منه بما لا يدل عليه وكلام أحمد يصدق بعضه بعضا والمسألة رواية واحدة عنه فإنه لم يقل بعينه وإنما قال رآه واتبع في ذلك قول ابن عباس رأى محمد ربه ولفظ الحديث رأيت ربي وهو مطلق وجاء بيانه في الحديث الآخر
ولكن في رد أحمد قول عائشة ومعارضته بقول النبي صلى الله عليه و سلم إشعار بأنه أثبت الرؤية التي أنكرتها عائشة وهي لم تنكر رؤية المنام ولم تقل من زعم أن محمدا رأى ربه في المنام فقد أعظم على الله الفرية وهذا يدل على أحد أمرين إما أن يكون الإمام أحمد أنكر قول من أطلق نفي الرؤية إذ هو مخالفته للحديث وإما أن يكون رواية عنه بإثبات الرؤية وقد صرح بأنه رآه رؤيا حلم بقلبه وهذا تقييد منه للرؤية وأطلق أنه رآه وأنكر قول من نفى مطلق الرؤية واستحسن قول من قال رآه ولا يقول بعينه ولا بقلبه وهذه النصوص عنه متفقة لا مختلفة وكيف يقول أحمد رآه بعيني رأسه يقظة ولم يجىء ذلك في حديث قط فأحمد إنما اتبع ألفاظ الحديث كما جاءت وإنكاره من قال لم يره أصلا لا يدل على إثبات رؤية اليقظة بعينه والله أعلم

وقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } قال ابن عباس ما زاغ البصر يمينا ولا شمالا ولا جاوز ما أمر به وعلى هذا المفسرون فنفى عن نبيه ما يعرض للرائي الذي لا أدب له بين يدي الملوك والعظماء من التفاتة يمينا وشمالا ومجاوزة بصره لما بين يديه وأخبر عنه بكمال الأدب في ذلك المقام وفي تلك الحضرة إذ لم يلتفت جانبا ولم يمد بصره إلى غير ما أرى من الآيات وما هناك من العجائب بل قام مقام العبد الذي أوجب أدبه إطراقه وإقباله على ما رأى دون التفاته إلى غيره ودون تطلعه إلى ما لم يره مع ما في ذلك من ثبات الجأش وسكون القلب وطمأنينته وهذا غاية الكمال وزيغ البصر التفاته جانبا وطغيانه مده أمامه إلى حيث ينتهي فنزه في هذه السورة علمه من الضلال وقصده وعمله عن الغي ونطقه عن الهوى وفؤاده عن تكذيب بصره وبصره عن الزيغ والطغيان وهكذا يكون المدح
( تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد )

ولما ذكر رؤيته لجبريل عند سدرة المنتهى استطرد منها وذكر أن جنة المأوى عندها وأنه يغشاها من أمره وخلقه ما يغشى وهذا من أحسن الاستطراد وهو أسلوب لطيف جدا في القرآن وهو نوعان :
( أحدهما ) أن يستطرد من الشيء إلى لازمه مثل هذا ومثل قوله { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم } ثم استطرد من جوابهم إلى قوله { الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون * والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون * والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون * لتستووا على ظهوره } وهذا ليس من جوابهم ولكن تقرير له وإقامة الحجة عليهم ومثله قوله تعالى { فمن ربكما يا موسى * قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى * قال فما بال القرون الأولى * قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى } فهذا جواب موسى ثم استطر سبحانه منه إلى قوله : { الذي جعل لكم الأرض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى * كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى * منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } ثم عاد إلى الكلام الذي استطرد منه
( والنوع الثاني ) أن يستطرد من الشخص إلى النوع كقوله { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين } إلى آخره فالأول آدم والثاني بنوه ومثله قوله { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما } إلى آخر الآيات فاستطرد من ذكر الأبوين إلى ذكر المشركين من أولادهما والله أعلم

ومن ذلك قوله تعالى : { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } تضمن هذا القسم خمسة أشياء وهي مظاهر آياته وقدرته وحكمته الدالة على ربوبيته ووحدانيته فالطور هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه وكليمه موسى بن عمران عند جمهور المفسرين من السلف والخلف وعرفه ههنا باللام وعرفه في موضع آخر بالإضافة فقال { وطور سينين } وهذا الجبل مظهر بركة الدنيا والآخرة وهو الجبل الذي اختاره الله لتكليم موسى عليه قال عبدالله ابن أحمد في كتاب الزهد لأبيه / حدثني محمد بن عبيد بن حبان قال حدثنا جعفر ابن سليمان قال حدثنا أبو عمران الجوني عن نوف البكالى قال : أوحى الله عز و جل إلى الجبال : إني نازل على جب منكم قال فشمخت الجبال كلها إلا جبل الطور فإنه تواضع وقال أرضي بما قسم الله لي فكان الأمر عليه وجبل هذا شأنه حقيق أن يقسم الله به وإنه لسيد الجبال
( الثاني ) الكتاب المسطور في الرق المنشور واختلف في هذا الكتاب فقيل في اللوح المحفوظ وهذا غلط فإنه ليس برق وقيل هو الكتاب الذي تضمن أعمال بني آدم وقال مقاتل تخرج إليهم أعمالهم يوم القيامة في رق منشور وهذا وإن كان أقوى وأصح من القول الأول واختاره جماعة من المفسرين ومنهم من لم يزك غيره فالظاهر أن المراد به الكتاب المنزل من عند الله وأقسم الله به لعظمته وجلالته وما تضمنه من آيات ربوبيته وأدلة توحيده وهداية خلقه
ثم قيل هو التوراة التي أنزل الله على موسى وكأن صاحب هذا القول رأى اقتران الكتاب بالطور فقال هو التوراة ولكن التوراة إنما أنزلت في ألواح لا في رق إلا أن يقال هي في رق السماء وأنزلت في ألواح وقيل هو القرآن ولعل هذا أرجح الأقوال لأنه سبحانه وصف القرآن بأنه في صحف مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة فالصحف هي الرق وكونه بأيدي سفرة هو كونه منشورا وعلى هذا فيكون قد أقسم بسيد الجبال وسيد الكتب ويكون ذلك متضمنا للنبوتين المعظمتين نبوة موسى ونبوة محمد وكثيرا ما يقرن بينهما وبين محلهما كما في سورة التين والزيتون
ثم أقسم بسيد البيوت وهو البيت المعمور وفي وصفه الكتاب بأنه مسطور تحقيق لكونه مكتوبا مفروغا منه وفي وصفه بأنه منشور إيذان بالإعتناء به وأنه بأيدي الملائكة منشور غير مهجور
وأما البيت المعمور فالمشهور أنه الضراح الذي في السماء الذي رفع للنبي صلى الله عليه و سلم ليلة الإسراء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم وهو بحيال البيت المعمور في الأرض وقيل هو البيت الحرام ولا ريب أن كلا منهما معمور : فهذا معمور بالملائكة وعبادتهم وهذا معمور بالطائفين والقائمين والركع والسجود وعلى كلا القولين فكل منهما سيد البيوت
ثم أقسم سبحانه بمخلوقين عظيمين من بعض مخلوقاته وهما مظهر آياته وعجائب صنعته وهما : السقف المرفوع وهو السماء فإنها من أعظم آياته قدرا وارتفاعا وسعة وسمكا ولنا وإشراقا وهي محل ملائكته وهي سقف العالم وبها انتظامه ومحل النيرين اللذين بهما قوام الليل والنهار والسنين والشهور والأيام والصيف والشتاء والربيع والخريف ومنها تنزل البركات وإليها تصعد الأرواح وأعمالها وكلماتها الطيبة
( والثاني ) البحر المسجور وهو آية عظيمة من آياته وعجائبه لا يحصيها إلا الله واختلف في هذا البحر هل هو الذي فوق السموات أو البحر الذي نشاهده ؟ على قولين فقالت طائفة : هو البحر الذي عليه العرش وبين أعلاه وأسفله مسيرة خمسمائة عام كما في الحديث الذي رواه أبو داود من حديث سماك عن عبدالله بن مخيمرة عن الأحنف بن قيس قال كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فمرت بهم سجابة فنظر إليها فقال : ما تسمون هذه ؟ قالوا : السحاب قال والمزن قالوا والمزن قال والعنان قالوا والعنان قال هل تدرون ما بين السماء والأرض ؟ قالوا : لا ندري قال إن بعد ما بينهما إما واحدة أو إثنتان أو ثلاث وسبعون سنة ثم السماء فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السابعة بحرا بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أو عال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش ما بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم اله فوق ذلك وهذا لا يناقض ما في جامع الترمذي [ إن بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام ] إذ المسافات تختلف مقاديرها باختلاف المقدر به فالخمسمائة مقدرة بسير الإبل والسبعون بسير البريد وهو يقطع بقدر ما تقطعه الإبل سبعة أضعاف وهذا القول في البحر الذي تحت العرش محكى من علي بن أبي طالب
والثاني أنه بحر الأرض واتلف في المسحور فقيل المملوء هذا قول جميع أهل اللغة قال الفراء المسجور في كلام العرب المملوء يقال : سجرت الاناء إذا ملأته قال لبيد
( فتوسطا عرض السرى وصدعا مسجورة متجاور أقلامها )
وقال المبرد : المسجور المملوء عند العرب وأنشد للنمر بن تولب :
إذا شاء طالع مسجورة
يريد عينا مملوءة ماء وكذا قال ابن عباس : المسجورة الممتلىء وقال مجاهد : المسجور الموقد قال الليث : السجر إيقادك في التنور تسجره سجرا والسجر اسم الحطب وهذا قول الضحاك وكعب وغيرهما قال : البحر يسجر فيزداد في جهنم وحكى هذا القول عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال مسجور : قال الفراء : وهذا يرجع إلى القول الأول لأنك تقول : سجرت التنور إذا ملأته حطبا وروى ذو الرمة الشاعر عن أبي عباس أن المسجور اليابس الذي قد نضب ماؤه وذهب وليس لذي الرمة رواية عن ابن عباس غير هذا الحرف وهذا القول اختيار أبي العالية قال أبو زيد : المسجور المملوء و المسجور الذي ليس فيه شيء جعله من الأضداد وقد روى عن ابن عباس أن المسجور المحبوس ومنه ساجور الكلب وهو القلادة من عود أو حديد تمسكه والمعنى على هذا أنه محبوس بقدرة الله أن يفيض على الأرض فيغرقها فإن ذلك مقتضى الطبيعة أن يكون الماء غامرا للأرض فوقها كما أن الهواء فوق الماءـ ولكن أمسكه الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا وفي هذا حديث ذكره أحمد مرفوعا [ ما من يوم إلا والبحر يستأذن ربه أن يغرق بني آدم ]
وهذا الموضع مما هدم أصول الملاحدة والدهرية فإنه ليس في الطبيعة ما يقتضي حبس الماء عن بعض جوانب الأرض مع كون كرة الماء عالية على كرة الأرض بالذات ولو فرض أن في الطبيعة ما يقتضي بروز جوانبها لم يكن فيها ما يقتضي تخصيص هذا الجانب بالبروز دون غيره وما ذكره الطبائعيون والمتفلسفة أن العناية الإلهية اقتضت ذلك لمصلمى العالم فنعم هو كما ذكروا ولكن عناية من يفعل بقدرته ومشيئته وهو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وهو أحكم الحاكمين - غير معقولة فإن العناية الإلهية تقضي حياته وقدرته ومشيئته وعلمه وحكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وقيام الأفعال به فإثبات العناية الألهية مع نفي هذه الأمور ممتنع وبالله التوفيق
وأقوى الأقوال في المسجور أنه الموقد وهذا هو المعروف في اللغة من المسجور ويدل عليه قوله تعالى { وإذا البحار سجرت } قال علي وابن عباس : أوقدت فصارت نارا ومن قال يبست وذهب ماؤها فلا يناقض كونها نارا موقدة وكذا من قال ملئت فإنها تملأ نارا
وإذا اعتبرت أسلوب القرآن ونظمه ومفرداته رأيت اللفظة تدل على ذلك كله فإن البحر محبوس بقدرة الله ومملوء ماء ويذهب ماؤه يوم القيامة ويصير نارا : فكل من المفسرين أخذ معنى من هذه المعاني والله أعلم

وأقسم سبحانه بهذه الأمور على المعاذ والجزاء فقال { إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع } ولما كان الذي يقع قد يمكن دفعه أخبر سبحانه أنه لا دافع له وهذا يتناول أمرين : أحدهما أنه لا دافع لوقوعه والثاني أنه لا دافع له إذا وقع
ثم ذكر سبحانه وقت وقوعه فقال { يوم تمور السماء مورا * وتسير الجبال سيرا } والمور قد فسر بالحركة وفسر بالدوران وفسر بالتموج والاضطراب والتحقيق أنه حركة في تموج وتكفؤ وذهاب ومجيء ولهذا فرق بين حركة السماء وحركة الجبال فقال { وتسير الجبال سيرا } وقال { وإذا الجبال سيرت } من مكان إلى مكان وأما السماء فإنها تتكفأ وتموج وتذهب تجيء قال الجوهري : مار الشيء يمور مورا ترهيأ أي : تحرك جاء وذهب كما تكفأ النخلة العيدانة أي الطويلة ومنه قوله { يوم تمور السماء مورا } قال الضحاك : تموج موجا وقال أبو عبيدة والأخفض : تكفأ وأنشد للأعشى :
( كأن مشيتها من بيت جارتها مور السحابة لا ريث ولا عجل )
ثم ذكر وعيد المكذبين بالمعاد والنبوة وذكر أعمالهم وعلومهم التي كانوا عليها وهي الخوض الذي هو كلام باطل واللعب الذي هو سعى ضائع فلا علم نافع ولا عمل صالح بل علومهم خوض بالباطل وأعمالهم لعب ولما كانت هذه العلوم والأعمال مستلزمة لدفع الحق بعنف وقهر أدخلوا جهنم وهم يدعون إليها دعا أي يدفع في أقفيتهم وأكتافهم دفعا بعد دفع فإذا وقفوا عليها وعاينوها وقفوا وقيل لهم { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } وتقولون لا حقيقة لها ولا من أخبر بها صادق ثم يقال { أفسحر هذا ؟ } الآن كما كنتم تقولون للحق لما جاءتكم به الرسل : أن سحر وأنهم سحرة فهذا الآن سحر لا حقيقة له كما قلتم أم على أبصاركم غشاوة فلا تبصرونها كما كان عليها غشاوة في الدنيا فلا تبصرون الحق ؟ أفعميت أبصاركم اليوم عن رؤية هذا الحق كما عميت في الدنيا فلا تبصرون الحق ؟ ثم سلب عنهم نفع البصر الذي كانوا في الدنيا إذا دهمتهم الشدائد وأحاطت بهم لجأوا إليه وتعللوا بانقضاء البلية لانقضاء أمدها فقيل لهم يومئذ : ( اصبروا أو لا تصبروا ) كلاهما سواء عليكم لا يجدي عنكم الصبر ولا الجزع فلا الصبر يخفف عنكم حمل هذا العذاب ولا الجزع يعطف عليكم قلوب الحزنة ولا يستنزل لكم الرحمة ثم أعلموا بأن الرب تعالى لم يظلمهم بذلك وإنما هو نفس أعمالهم صارت عذابا فلم يجدوا من اقترانهم به بدا بل صارت عذابا لازما لهم كما كانت إرادتهم وعقائدهم الباطلة وأعمالهم القبيحة لازمة لهم ولزوم العذاب لأهله في النار بحسب لزوم تلك الإرادة الفاسدة والعقائد الباطلة وما يترتب عليها من الأعمال لهم في الدنيا فإذا زال ذلك اللزوم في وقت ما بضده وبالتوبة النصوح زوالا كليا لم يعذبوا عليه في الآخرة لأن أثره قد زال من قاوبهم وألسنتهم وجوارحهم ولم يبق له أثر يترتب عليه فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له والمادة الفاسدة إذا زالت من البدن بالكلية لم يبق هناك ألم ينشأ عنها وإن لم تزل تلك الإرادة والأعمال ولكن عارضها معارض أقوى منها كان التأثير للمعارض وغلب الأقوى الأضعف وإن تساوى الأمران تدافعا وقاوم كل منهما الآخر وكان محل صاحبه جبال الأعراف بين الجنة والنار فهذا حكم الله وحكمته في خلقه وأمره ونهيه وعقابه ولا يظلم ربك أحدا

ثم ذكر سبحانه أرباب العلوم النافعة والعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة وهم المتقون فذكر مساكنهم وهم في الجنان وحالهم في المساكن وهو النعيم وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم { فاكهين بما آتاهم ربهم } والفاكهه : المعجب بالشيء المسرور المغبتط به وفعله فكه - بالكسر - يفكه فهو فكه وفاكه إذا كان طيب النفس والفاكهه البال ومنه الفاكهة وهي المرح الذي ينشأ عن طيب النفس وتفكهت بالشي إذا تمتعت به ومنه الفاكهة التي يتمتع بها ومنه قوله { فظلتم تفكهون } قيل : معناه تندمون وهذا تفسير بلازم المعنى وإنما الحقيقة تزيلون عنكم التفكه وإذا زال التفكه خلفه ضده يقال : تحنث إذا زال الحنث عنه وتحرج وتحوب وتأثم ومنه تفكه وهذا البناء يقال للداخل في الشيء : كتعلم وتحلم وللخارج منه : كتحرج وتأثم
والمقصود أنه سبحان جمع لهم بين النعيمين : نعيم القلب بالتفكه ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح ووقاهم عذاب الجحيم فوقاهم مما يكرهون وأعطاهم ما يحبون جزاء وفاقا لأنهم تركوا ما يكره وأتوا بما يحب : فكان جزاءهم مطابقا لأعمالهم
ثم أخبر عن دوام ذلك لهم بما أفهمه قوله ( هنيئا ) فإنهم لو علموا زواله وانقطاعه لنغص عليهم ذلك نعيمهم ولم يكن هناء لهم
ثم ذكر مجالسهم وهيئاتهم فيها فقال { متكئين على سرر مصفوفة } وفي ذكر اصطفافها تنبيه على كمال النعمة عليهم بقرب بعضهم من بعض ومقابلة بعضهم بعضا كما قال تعالى { متكئين عليها متقابلين } فإن من تمام اللذة والنعيم أن يكون مع الإنسان في بستانه ومنزله من يحب معاشرته ويؤثر قربه ولا يكون بعيدا منه قد حيل بينه وبينه بل سريره إلى جانب سرير من يحبه
وذكر أزواجهم وأنهم الحور العين وقد تكرر وصفهم في القرآن بهاتين الصفتين قال أبو عبيدة : جعلناهم أزواجا كما يزوج البعل بالبعل جعلناهم اثنين اثنين وقال يونس قرناهم بهن وليس من عقد التزويج واحتج على هذا بأن العرب لا تقول تزوجت بها وإنما تقول تزوجتها قال تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها } وفي الحديث [ زوجتكها بما معك من القرآن ] وقال غيره : العرب تقول تزوجت بامرأة وقال الأزهري : العرب تقول : زوجة امرأة وتزوجت امرأة وليس في كلامهم تزوجت بامرأة ومنه قوله تعالى { وزوجناهم بحور عين } أي قرناهم وعلى هذا فزوجناهم عند هؤلاء من الاقتران والشفع أي شفعناهم وقرناهم بهن وقالت طائفة منهم مجاهد : زوجناهم بهن أي أنحكناهم إياهن
قلت : وعلى هذا فتلويح فعل التزويج قد دل على النكاح وتعديته بالباء المتضمنة معنى الاقتران والضم فالقولان واحد والله أعلم
وأما الحور العين فقال مجاهد : التي يحار فيها الطرف باديا مخ سوقهن من وراء ثيابهن ويرى الناظر وجهه في كبد إحداهن كالمرآة من رقة الجلد وصفاء اللون وقال قتادة بحور أي بيض وكذا قال ابن عباس وقال مقاتل : الحور البيض الوجوه العين : الحسان الأعين وعين حوراء : شديدة السواد نقية البياض طويلة الأهداب مع سوادها كاملة الحسن ولا تسمى المرأة حوراء حتى يكون مع حور عينها بياض لون الجسد فوصفهن بالبياض والحسن والملاحة كما قال { خيرات حسان } فالبياض في ألوانهن والحسن في وجوههن والملاحة في عيونهم وقد وصف الله سبحانه نساء أهل الجنة بأحسن الصفات ودل بما وصف بما سكت عنه
فإن شئت التفصيل فالذي يحمد ويستحب من وجه المرأة وبدنها وأخلاقها البياض في أربعة أشياء : اللون وبياض العين والفرق والثغر والسواد في أربعة سواد العين وسواد شعر الرأس والجفن وسواد الحاجبين والحمرة في أربعة اللسان والشفتين والوجنتين وحمرة تشوب البياض فتحسنه وتزينه ومن التدوير أربعة أشياء الوجه والرأس والكعب والمقعد ومن الطور أربعة : القامة والعنق والشعر والحاجب والسعة في أربعة : الجبهة والعين والوجه والصدر ومن الصغر في أربعة : الثدي والفم والكف والقدم ومن الطيب في أربعة : الفم والأنف والفرق والفرج ومن الضيق في موضع واحد ومن الأخلاق كما قال تعالى { عربا أترابا } إذ العرب جمع عروب وهي المرأة المتحببة إلى زوجها بأخلاقها ولطافتها وشمائلها قال ابن الأعرابي العروب من النساء المطيعة لزوجها المتحببة إليه وقال أبو عبيدة : هي الحسنة التبعل قال المبرد : هي العاشقة لزوجها وقال البخاري في صحيحه : هي الغنجة ويقال الشكلة فهذا وصف أخلاقهن وذلك وصف خلقهن وأنت إذا تأملت الصفات التي وصفهن الله بها رأيتها مستلزمة لهذه الصفات ولما وراءها والله المستعان

ثم أخبر سبحانه عن تكميل نعيمهم بإلحاق ذرياتهم بهم في الدرجة وإن لم يعملوا أعمالهم لتقر أعينهم بهم ويتم سرورهم وفرحهم وأخبر سبحانه أنه لم ينقص الآباء من عملهم من شيء بهذا الإلحاق فينزلهم من الدرجة العليا إلى الدرجة السفلى بل ألحق الأبناء بالآباء ووفر على الآباء أجورهم ودرجاتهم
ثم أخبر سبحانه أن هذا إنما هو فعله في أهل الفضل وأما أهل العلد فلا يفعل بهم ذلك بل { كل امرئ بما كسب رهين } ففي هذا دفع لتوهم التسوية بين الفريقين بهذا الإلحاق كما في قوله : { وما ألتناهم من عملهم من شيء } دفع لتوهم حط الآباء إلى درجة الأبناء وقسمة أجور الآباء بينهم وبين الأبناء فينقص أجر أعمالهم فرفع هذا التوهم بقوله { وما ألتناهم من عملهم من شيء } أي ما نقصناهم ثم ذكر إمدادهم باللحم والفاكهة والشرب وأنهم يتعاطون كؤوس الشراب بينهم يشرب أحدهم ويناول صاحبه ليتم بذلك فرحهم وسرورهم
ثم نزه ذلك الشراب عن الآفات من اللغو من أهله عليه ولحوق الإثم لهم فقال { لا لغو فيها ولا تأثيم } فنفى باللغو السباب والتخاصم والهجر والفحش في المقال والعربدة ونفى بالتأثيم جميع الصفات المذمومة التي أثمت شارب الخمر وقال سبحانه { ولا تأثيم } ولم يقل ولا إثم أي : ليس فيها ما يحملهم على الإثم ولا يؤثم بعضهم بعضا بشربها ولا يؤثمهم الله بذلك ولا الملائكة فلا يلغون ولا يأثمون قال ابن قتيبة : لا يذهب بعقولهم فيلغوا ولم يقع منهم ما يؤثمهم
ثم وصف خدمهم الطائفين عليهم بأنهم كاللؤلؤ في بياضهم والمكنون : المصون الذي لا تدنسه الأيدي فلم تذهب الخدمة تلك المحاسن وذلك اللون والصفاء والبهجة بل مع انتصابهم لخدمتهم كأنهم لؤلؤ مكنون ووصفهم في موضع آخر { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } ففي ذكره المنثور إشارة إلى تفرقهم في حوائج ساداتهم وخدمتهم وذهابهم ومجيئهم وسعة المكان بحيث لا يحتاجون أن ينضم بعضهم إلى بعض فيه لضيقه
ثم ذكر سبحانه ما يتحدثون به هناك وأنهم يقولون { إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } أي : كنا خائفين في محل الأمن بين الأهل والأقارب والعشائر فأوصلنا ذلك الخوف والإشفاق إلى أن من الله علينا فأمنا مما تخاف { ووقانا عذاب السموم } وهذا ضد حال الشقى الذي كان في أهله مسرورا فهذا كان مسرورا مع إساءته وهؤلاء كانوا مشفقين مع إحسانهم فبدل الله سبحانه إشفاقهم بأعظم الأمن وبدل أمن أولئك بأعظم المخاوف فبالله سبحانه المستعان
ثم أخبر عن حالهم في الدنيا وأنهم كانوا يعبدون الله فيها فأوصلتهم عبادته وحده إلى قربه وجواره ومحل كرامته والذي جمع لهم ذلك كله بره ورحمته فإنه هو البر الرحيم فهذا هو المقسم عليه بتلك الأقسام الخمسة في أول السورة والله أعلم

ومن ذلك قوله { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا } أقسم بالذاريات وهي الرياح تذرو المطر وتذرو التراب وتذرو النبات إذا تهشم كما قال تعالى { فأصبح هشيما تذروه الرياح } أي تفرقه وتنشره ثم بما فوقها وهي السحاب الحاملات وقرا أي ثقلا من الماء وهي روايا الأرض يسوقها الله سبحانه على متون السحاب الرياح كما في جامع الترمذي من حديث الحسن بن أبي هريرة قال : [ بينما نبي الله صلى الله عليه و سلم جالس في أصحابه إذا أتى عليهم سحاب فقال نبي الله صلى الله عليه و سلم هل تدرون ما هذا ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال هذا العنان هذه روايا الأرض يسوقها الله تبارك وتعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه ]
ثم أقسم سبحانه بما فوق ذلك وهي { الجاريات يسرا } وهي النجوم التي من فوق الغمام و { يسرا } أي : مسخرة مذللة منقادة وقال جماعة من المفسرين : أنها السفن تجري ميسرة في الماء جريا سهلا ومنهم من لم يذكر غيره واختار شيخنا رحمه الله القول الأول وقال هو أحسن في الترتيب والانتقال من السافل إلى العالي فإنه بدأ بالرياح وفوقها السحاب وفوقه النجوم وفوقها الملائكة المقسمات أمر الله الذي أمرت به بين خلقه والصحيح أن { المقسمات أمرا } لا تختص بأربعة وقيل : هم جبريل يقسم الوحي والعذاب وأنواع العقوبة على من خالف الرسل وميكائيل على القطر والبرد والثلج والنبات يقسمها بأمر الله وملك الموت يقسم المنايا بين الخلق بأمر الله وإسرافيل يقسم الأرواح على أبدانها عند النفخ في الصور وهم المدبرات أمرا وليس في اللفظ ما يدل على الاختصاص بهم والله أعلم
وأقسم سبحانه بهذه الأمور الأربعة لمكان العبرة والآية والدلالة الباهرة على ربوبيته ووحدانيته وعظم قدرته ففي الرياح من العبر هبوبها وسكونها ولينها وشدتها واختلاف طبائعها وصفاتها ومهابها وتصريفها وتنوع منافعها وشدة الحاجة إليها فللمطر خمسة رياح : ريح ينشر سحابه وريح يؤلف بينه وريح تلقحه وريح تسوقه حيث يريد الله وريح تذور أمامه وتفرقه وللنبات ريح وللسفن ريح وللرحمة ريح وللعذاب ريح إلى غير ذلك من أنواع الرياح وذلك تقضى بوجود خالق مصرف لها مدبر لها يصرفها كيف شاء ويجعلها رخاء تارة ورحمة تارة وعذابا تارة فتارة يحيي بها الزرع والثمار وتارة بغطيها بها وتارة ينحى بها السفن وتارة يهلكها بها وتارة ترطب الأبدان وتارة تذيبها وتارة عقيما وتارة لاقحة وتارة جنوبا وتارة دبورا وتارة صبا وتارة شمالا وتارة حارة وتارة باردة وهي مع غاية قوتها ألطف شيء وأقبل المخلوقات لكل كيفية سريعة التأثر والتأثير لطيفة المسارق بين السماء والأرض إذا قطع عن الحيوان الذي على وجه الأرض هلك كبحر الماء الذي إذا فارقه حيوان الماء هلك يحسبها الله سبحانه إذا شاء ويرسلها إذا شاء تحمل الأصوات إلى الأذان والرائحة إلى الأنف والسحاب إلى الأرض الجرز وهي من روح الله تأتي بالرحمة ومن عقوبته تأتي بالعذاب وهي أقوى خلق الله كما رواه الترمذي في جامعه من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ لما خلق الله الأرض جعلت تميد فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت فعجبت الملائكة من شدة الجبال وقالوا يارب هل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم النار قالوا : يارب فهل من خلقك شيء أشد من الحديد ؟ قال نعم النار قالوا : يارب فهل من خلقك شيء أشد من النار ؟ قاع نعم الماء قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الماء ؟ قال نعم الريح قالوا : يارب فهل من خلقك أشد من الريح ؟ قال نعم ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله ] ورواه الإمام أحمد في مسنده وفي الترمذي في حديث قصة عاد أنه لم يرسل عليهم من الريح إلا قدر حلقة الخاتم فلم تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم وقد وصفها الله بأنها عاتية قال البخاري في صحيحه : عتت على الخزنة فلم يستطيعوا أن يردوها
والمقصود أن الرياح أعظم من آيات الرب الدالة على عظمته وربوبيته وقدرته

ثم أقسم بالسحاب وهو من أعظم آيات الله في الجو في غاية الخفة ثم يحمل الماء والبرد فيصير أثقل شيء فيأمر الرياح فتحمله على متونهما وتسير به حيث أمرت فهو مسخر بين السماء والأرض حامل لأرزاق العباد والحيوان فإذا أفرغه حيث أمر به اضمحل وتلاشى بقدرة الله فإنه لو بقي لأضر النبات والحيوان فأنشأه سبحانه في زمن يصلح إنشاؤه فيه وحمله من الماء ما يحمله وساقه إلى بلد شديد الحاجة إليه
فسل السحاب من أنشأه بعد عدمه ؟ وحمله الماء والثلج والبرد ؟ ومن حمله على ظهور الرياح ؟ ومن أمسكه بين السماء والأرض بغير عماد ؟ ومن أغاث بقطره العباد وأحيا به البلاد وصرفه بين خلقه كما أراد وأخرج ذلك القطر بقدر معلوم وأنزله منه وأفناه بعد الاستغناء عنه ولو شاء لأدامه عليهم فلم يستطيعوا إلى دفعه سبيلا ولو شاء لأمسكه عنهم فلا يجدون إليه وصولا فإن لم يحبك جوابا حباك اعتبار مرسل الرياح من أنشأها بقدرته ؟ وصرفها بحكمته وسخرها بمشيئته وأرسلها بشرا بين يدي رحمته جعلها سببا لتمام نعمته وسلطانا على من شاء بعقوبته ؟ ومن جعلها رخاء وذراية ولاقحة ومثيرة ومؤلفة ومغذية لأبدان الحيوان والشجر والنبات وجعلها قاصفا وعاصفا ومهلكة وعاتية ؟ إلى غير ذلك من صفاتها فهل ذلك لها من نفسها وذاتها أم تدبير مدبر شهدت الموجودات بربوبيته وأقرت المصنوعات بوحدانيته بيده النفع والضر وله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ؟
وسل الجاريات يسرا من السفن : من أمسكها على وجه الماء وسخر لها البحر ؟ ومن أرسل لها الرياح التي تسوقها على الماء سوق السحاب على متون الرياح ؟ ومن حفظها في مجراها ومرساها من طغيان الماء وطغيان الريح ؟ فمن الذي جعل الريح لها بقدر لو زاد عليها لأغرقها ولو نقص عنه لعاقها ؟ ومن الذي أجرى لها ريحا واحدة تسير بها ولم يسلط على تلك الريح ما يصادمها ويقاومها فتتموج في البحر يمينا وشمالا تتلاعب بها الريح ؟ ومن الذي علم الخلق الضعيف صنعة هذا البيت العظيم الذي يمشي على الماء فيقطع المسافة البعيدة ويعود إلى بلده يشق الماء ويمخره مقبلا ومدبرا بريح واحدة تجري في موج كالجبال { ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام * إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور * أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير } ومن الذي حمل في هذا البيت نبيه وألياءه خاصة وأغرق جميع أهل الأرض سواهم ؟
وسل الجاريات يسرا من الكواكب والشمس والقمر : من الذي خلقها وأحسن خلقها ورفع مكانها وزين بها قبة العالم وفاوت بين أشكالها ومقاديرها وألوانها وحركاتها وأماكنها من السماء فمنها الكبير ومنها الصغير والمتوسط والأبيض والأحمر والزجاجي اللون والدري اللون والمتوسط في قبة الفلك والمتطرف في جوانبها وبين ذلك ؟ ومنها ما يقطع الفلك في شهر ومنها ما يقطعه في عام ومنها ما يقطعه في ثلايين عاما ومنها ما يقطعه في أضعاف ذلك ومنها ما لا يزال ظاهرا لا يغيب بحال فهو أبدي ومنها أبدي الخفاء ومنها ما له حالتان ظهور واختفاء ومنها ما له حركتان حركة عرضية من المشرق إلى المغرب وحركة ذاتية من المغرب إلى المشرق فحالما يأخذ الكوكب في الغروب فإذا كوكب آخر في مقابلته وكوكب آخر قد طلع وهو آخذه في الارتفاع والتصاعد وكوكب آخر في الربع الشرقي وكوكب آخر في وسط السماء وكوكب آخر قد مال عن الوسط وآخر قد دنا من الغروب وكأنه رقيبه ينتظر بطلوعه غيبته
وأنت إذا تأملت أحوال هذه الكواكب وجدتها تدل على المعاد كما تدل على المبدأ وتدل على وجود الخالق وصفات كماله وربوبيته وحكمته ووحدانيته أعظم دلالة وكل ما دل على صفات جلاله ونعوت كما له دل على صدق رسله فكما جعل الله النجوم هداية في طريق البر والبحر فهي هداية في طرق العلم بالخالق سبحانه وقدرته وعلمه وحكمته والمبدأ والمعاد والنبوة ودلالتها على هذه المطالب لا تقتصر عن دلالتها على طرق البر والبحر بل دلالتها للعقول على ذلك أظهر من دلالتها على الطرق الحسية فهي هداية في هذا وهذا

وأما دلالة ( المقسمات أمرا ) وهم الملائكة فلأن ما يشاهد من تدبير العالم العلوي والسفلي ومالا يشاهد إنما هو على أيدي الملائكة فالرب تعالى يدبر بهم أمر العالم وقد وكل بكل عمل من الأعمال طائفة منهم فوكل بالشمس والقمر والنجوم والأفلاك طائفة منهم ووكل بالقطر والسحاب طائفة ووكل بالنبات طائفة ووكل بالأجنة والحيوان طائفة ووكل بالموت طائفة وبحفظ بني آدم طائفة وبإحصاء أعمالهم وكتابتها طائفة وبالوحي طائفة وبالجبال طائفة وبكل شأن من شئون العالم طائفة هذا مع ما في خلق الملائكة من البهاء والحسن وما فيهم من القوة والشدة ولطاقة الجسم وحسن الخلقة وكمال الانقياد لأمره والقيام في خدمته وتنفيذ أوامره في أقطار العالم
ثم أقسم سبحانه بهذه الأمور على صدق وعده ووقوع جزائه بالثواب والعقاب فقال : { إنما توعدون لصادق } أي ما توعدون من أمر الساعة والثواب والعقاب لحق كائن وهو وعد صدق لا كذب ( وإن الدين لواقع ) أي إن الجزاء لكائن لا محالة ويجوز أن تكون ( ما ) موصولة والعائد محذوف والمعنى أن الذي توعدونه لصادق أي كائن وثابت وأن تكون مصدرية أي إن وعدكم لحق وصدق
ووصف الوعد بكونه صادقا أبلغ من وصفه بكونه صدقا ولا حاجة إلى تكلف جعله بمعنى مصدوق فيه بل هو صادق نفسه كما يوصف المتكلم بأنه صادق في كلامه فوصف كلامه بأنه صادق وهذا مثل قولهم : سر كاتم وليل قائم ونهار صائم وماء دافق ومنه { عيشة راضية } وليس ذلك بمجاز ولا مخالف لمقتضى التركيب
وإذا تأملت هذا التناسب والارتباط بين المقسم به والمقسم عليه وجدته دالا عليه مرشدا إليه
ثم أقسم سبحانه ( بالسماد ذات الحبك ) أصل الحبك في اللغة إجادة النسج يقال : حبك الثوب إذا أجاج نسجه وحبل محبوك إذا كان شديد الفتل وفرس محبوك الكفل أي : مدمجه وقال شمر : المحبوك في اللغة ما أجيد عمله ودابة محبوكة : إذا كانت مدمجة الخلق وقال أبو عبيدة والمبرد الحبك : الطريق واحدها حباك وحباك الحمام : طرائق على جناحيه وحبك الماء طريقه وقال الفراء : الحبك تكسير كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح والماء الدائم إذا مرت به الريح وتجعد الشعر حبك أيضا واحدها حبيكة مثل طرق وطريقة وحباك مثل مثال ومثل والمقصود بهذا كله ما أفصح به ابن عباس فقال : يريد الخلق الحسن
وروى سعيد بن جبير عنه قال : الحبك حسنها واستواؤها وقال قتادة : ذات الخلق الشديد وقال مجاهد : متقنة البنيان وقال أيضا : ذات الطرائق ولكنها بعيدة من العباد فلا يرونها كحبك الماء إذا ضربته الريح وكحبك الرمل وكحبك الشعر وقال عكرمة : بنيانها كالبرد المسلسل
قلت وفي الحديث في صفة الدجال [ ورأسه حبط ] أي جعد الشعر ومن أحسن ما قيل في تفسير الحبك ما ذكره الترمذي في تفسير الجامع من حديث الحسن [ عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : هل تدرون ما فوقكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم قال فإنها الرقيع سقف محفوظ وموج مكفوف ] وذكر الحديث

ثم ذكر المقسم عليه فقال : ( إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك ) فالقول المختلف أقوالهم في القرآن وفي النبي صلى الله عليه و سلم وهو خرص كله فإنهم لما كذبوا بالحق اختلفت مذاهبهم وآراؤهم وطرائقهم وأقوالهم فإن الحق شيء واحد وطريق مستقيم فمن خالفه اختلفت به الطرق والمذاهب كما قال تعالى { بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج } أي : مختلط ملتبس وفي ضمن هذا الجواب : أنكم في أقوال باطلة متناقضة يكذب بعضها بعضا بسبب تكذيبهم بالحق
ثم أخبر سبحانه أنه يصرف بسبب ذلك القول المختلف من صرف فعن ههنا فيها طرف من معنى التسبيب كقوله { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك }
وقوله { من أفك } أي من سبق في علم الله أنه يضل ويؤفك كقوله { فإنكم وما تعبدون * ما أنتم عليه بفاتنين * إلا من هو صال الجحيم }
وقالت طائفة : الضمير يرجع إلى القرآن وقيل إلى الإيمان وقيل إلى الرسول والمعنى يصرف عنه من صرف حتى يكذب به
ولما كان هذا القول المختلف خرصا وباطلا ( قتل الخراصون ) أي المكذبون ( الذين هم في غمرة ساهون ) وجهالة قد عمرت قلوبهم أي غطتها وغشتها كغمرة الماء وغمرة الموت فالغمرات ما غطاها من جهل أو هوى أو سكر أو غفلة أو حب أو بغض أو خوف أو غم ونحو ذلك قال تعالى { بل قلوبهم في غمرة من هذا } أي غفلة وقيل جهالة
ثم وصفهم بأنهم ساهون في غمرتهم والسهو الغفلة عن الشيء وذهاب القلب عنه والفرق بينه وبين النسيان أن النسيان الغفلة بعد الذكر والمعرفة والسهو لا يستلزم ذلك
ثم قال { يسألون أيان يوم الدين ؟ } استبعادا للوقوع وجحدا فأخبر تعالى أن ذلك { يوم هم على النار يفتنون } والمشهور في تفسير هذا الحرف أنه بمعنى يحرقون ولكن لفظة على تعطي معنى زائدا على ما ذكروه ولو كان المراد نفس الحرق لقيل يومهم في النار يفتنون ولهذا لما علم هؤلاء ذلك قال كثير منهم : على بمعنى في كما تكون في بمعنى على والظاهر أن فتنتهم على النار قبل فتنهم فيها لهم عند عرضهم عليها ووقوفهم عليها فتنة وعند دخولهم والتعذيب بها فتنة أشد منها ومن جعل الفتنة ههنا من الحريق أخذه من قوله تعالى { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا } واستشهد على ذلك أيضا بهذه اللفظة التي في الذاريات وحقيقة الأمر أن الفتنة تطلق على العذاب وسببه ولهذا سمى الله الكفر فتنة فهم لما أتوا بالفتنة التي هي أسباب العذاب في الدنيا سمى جزاءهم فتنة ولهذا قال { ذوقوا فتنتكم } وكان وقوفهم على النار وعرضهم عليها من أعظم فتنتهم وآخر هذه الفتنة دخول النار والتعذيب بها ففتنوا أولا بأسباب الدنيا وزينتها ثم فتنوا بإرسال الرسل إليهم ثم فتنوا بمخالفتهم وتكذيبهم ثم فتنوا بعذاب الدنيا ثم فتنوا بعذاب الموت ثم يفتنون في موقف القيامة ثم إذا حشروا إلى النار ووقفوا عليها وعرضوا عليها وذلك من أعظم فتنتهم ثم الفتنة الكبرى التي أنستهم جميع الفتن قبلها

ثم ذكر سبحانه جزاء من خلص من هذه الفتن بالتقوى وهو الجنات والعيون وأنهم { آخذين ما آتاهم ربهم } من الخير والكرامة
وفي ذلك دليل على أمور : منها قبولهم له ومنها رضاهم به ومنها وصولهم إليه بلا مانع ولا عائق ومنها أن جزاءهم من جنس أعمالهم فكما أخذوا ما أمرهم به في الدنيا وقابلوه بالرضا والتسليم وانشراح الصدر أخذوا ما آتاهم من الجزاء كذلك ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك وهو إحسانهم المتضمن لعبادته وحده لا شريك له والقيام بحقوقه وحقوق عباده ثم ذكر ليلهم وأنهم قليل هجوعهم منه
وقد قيل إ ن ( ما ) نافية والمعنى ما يهجعون قليلا من الليل فكيف بالكثير ؟ وهذا ضعيف لوجوه ( أحدها ) أن هذا ليس بلازم لوصف المتقين الذين يستحقوق هذا الجزاء ( الثاني ) أن قيام من نام من الليل نصفه أحب إلى الله من قيام من قامه كله ( الثالث ) أنه لو كان المراد بذلك إحياء الليل جميعه لكان أولى الناس بهذا رسول الله صلى الله عليه و سلم وما قام ليلة حتى الصباح ( الرابع ) أن الله سبحانه إنما أمر رسوله أن يتهجد بالقرآن من الليل لا من الليل كله فقال { ومن الليل فتهجد به } ( الخامس ) أنه سبحانه لما أمره بقيام الليل في سورة المزمل إنما أمره بقيام النصف أو النقصان منه أو الزيادة عليه فذكر له هذه المراتب الثلاثة ولم يذكر قيامه كله ( السادس ) أنه صلى الله عليه و سلم لما بلغه عن عثمان بن مظعون أنه لا ينام من الليل بعث إليه فجاء فقال [ يا عثمان أرغبت عن سنتي ؟ قال : لا والله يا رسول و لكن سنتك أطلب قال : فإني أنام وأصلي وأصوم وأفطر وأنكح النساء فاتق الله ياعثمان فإن لأهلك عليك حقا وإن لضيفك عليك حقا وإن لنفسك عليك حقا فصم وأفطر وصل ونم ] ولما بلغه عن زينب بنت جحش أنها تصلي الليل كله حتى جعلت حبلا بين ساريتين إذا فترت تعلقت به أنكر ذلك وأمر بحله ( السابع ) أن الله أثنى عليهم بأنهم كانت { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } وتقلق عنها حتى يقوموا إلى الصلاة ولهذا جازاهم عن هذا التجافي - الذي سببه قلق القلب واضطرابه حتى يقوم إلى الصلاة - بقرة الأعين - ( الثامن ) أن الصحابة الذين هم أول وأولى من دخل في هذه الآية - لم يفهموا منها عدم نومهم بالليل أصلا فروى بجبر بن سعد عن سعيد عن قتادة عن أنس في قوله { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قال : كانوا يصلون مابين المغرب والعشاء ( التاسع ) أن في هذا التقرير تفكيكا للكلام وتقديما لمعمول العامل المنفى عليه لأنك تجعل قليلا مفعول يهجعون وهو منفى والبصريون لايجيزون ذلك وإن أجازه الكوفيون وفصل بعضهم فأجازه في الظرف ولم يجزه في غيره

وقيل : ما زائدة وخبر كان ( يهجعون ) و ( قليلا ) منصوب إما على المصدرية أي هجوعا قليلا وإما على الظرف أي زمنا قليلا
واستشكل هذا بأن نوم نصف الليل وقيام ثلثه ثم نومه سدسه أحب القيام إلى الله فيكون وقت الهجوع أكثر من وقت القيام فكيف يثني عليهم بما الأفضل خلافه ؟
وأجيب عن ذلك بأن من قام هذا القيام فزمن هجوعه أقل من زمن يقظته قطعا فإنه مستيقظ من المغرب إلى العشاء ومن الفجر إلى طلوع الشمس فيبقى ما بين العشاء إلى طلوع الفجر فيقومون نصف ذلك الوقت فيكون زمن الهجوع أقل من زمن الاستيقاظ
وقيل : ما مصدرية وهي في موضع رفع بقليل أي كانوا قليلا هجوعهم وهو قول الحسن وقيل : إنها موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف أي قليلا من الليل الوقت الذي يهجعون وفيه تكلف وقيل : ما يهجعون بدل اشتمال من اسم كان والتقدير كان هجوعهم من الليل قليلا ويراد عليه أن من الليل متعلق يهجعون و معمول المصدر لا يتقدم عليه وأجيب عنه أنه منصوب على التفسير ومعناه أن يقدر له فعل محذوف ينصبه مفسره هذا المذكور وقليلا خبر كان وتم الكلام بذلك والمعنى كانوا صنفا أو جنسا قليلا ثم قال { من الليل ما يهجعون } وأصحاب هذا القول يجعلون ما نافية فيعود الكلام إلى نفي هجوعهم شيئا من الليل وقد تقدم ما فيه
ثم أخبر عنهم بأنهم مع صلاتهم بالليل كانوا يستغفرون الله عند السحر فختموا صلاتهم بالاستغفار والتوبة فباتوا لربهم سجدا وقياما ثم تابوا إليه واستغفروه عقيب ذلك وكان النبي صلى الله عليه و سلم إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا وأمره الله سبحانه أن يختم عمره بالاستغفار وأمر عباده أن يختموا إفاضتهم من عرفات بالاستغفار وشرع صلى الله عليه و سلم للمتوضئ أني ختم وضوءه بالتوبة فأحسن ما ختمت به الأعمال التوبة والاستغفار
ثم أ خبر سبحانه عن إحسانهم إلى الخلق مع إخلاصهم لربهم فجمع لهم بين الإخلاص والإحسان ضد { الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون } وأكد إخلاصهم في هذا الإحسان بأن مصرفه للسائل والمحروم الذي لا يقصد بإعطائه الجزاء منه ولا الشكور والمحروم المتعفف الذي لا يسأل
وتأمل حكمة الرب تعالى في كونه حرمه بقضائه وشرع لأصحاب الجدة إعطاءه وهو أغنى الأغنياء وأجود الأجودين فلم يجمع عليه بين الحرمان بالقدر وبالشرع شرع عطاءه بأمره وحرمه بقدره فلم يجمع عليه حرمانين

ثم ذكرهم سبحانه بآياته الأفقية والنفسية فقال { وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون } فآيات الأرض أنواع كثيرة منها خلقها وحدوثها بعد عدمها وشواهد الحدوث والافتقار إلى الصانع عليها لا تجحد فإنها شواهد قائمة بها ومنها بروز هذا الجانب فيها عن الماء مع كون مقتضى الطبيعة أن يكون مغمورا به ومنها سعتها وكبر خلقها ومنها تسطيحها كما قال تعالى { وإلى الأرض كيف سطحت } ولا ينافى ذلك كونها كرية فهي كرة في الحقيقة لها سطح يستقر عليه الحيوان ومنها أنه جعلها فراشا لتكون مقر الحيوان ومساكنه وجعله قرارا وجعلها مهادا ذلولا توطأ بالأقدام وتضرب بالمعاول والفئوس وتحمل على ظهرها الأبينة الثقال فهي ذلول مسخرة لما يريد العبد منها وجعلها بساطا وجعلها كفاتا للأحياء تضمهم على ظهرها وللأموات تضمنهم في بطنها وطحاها فمدها وبسطها ووسعها ودحاها فهيأها لما يراد منها بأن أخرج منها ماءها ومرعاها وشق فيها الأنهار وجعل فيها السبل والفجاج ونبه بجعلها مهادا وفراشا على حكمته في جعلها ساكنة وذلك آية أخرى إذ لا دعامة تحتها تمسكها ولا علاقة فوقها ولكنها لما كانت على وجه الماء كانت تكفأ فيه كما تكفأ السفينة فاقتضت العناية الأزلية والحكمة الإلهية أن وضع عليها رواسي يثبتها بها لئلا تميد وليستقر عليها الأنام وجعلها ذلولا على الحكمة في أن لم تكن في غاية الصلابة والشدة كالحديد فيمتنع حفرها وشقها والبناء فيها والغرس والزرع وبعث النوم عليها والمشي فيها ونبه بكونها قرارا على الحكمة في أنها لم تخلق في غاية اللين والرخاوة والدماثة فلا تمسك بناء ولا يستقر عليها الحيوان ولا الأجسام الثقيلة : بل جعلها بين الصلابة والدماثة وأشرف الجواهر عند الإنسان الذهب والفضة والياقوت والزمرد فلو كانت الأرض من هذه الجواهر لفاتت مصالح العباد والحيوان منها وتعطلت المنافع المقصودة منها وبهذا يعلم أن جواهر التراب أشرف من هذه الجواهر وأنفع وأبرك وإن كانت تلك أعلى وأعز فغلاؤها وعزتها لقاتها وإلا فالتراب أنفع منها وأبرك وأنفس وكذلك لم يجعلها شفافة فإن الجسم الشفاف لا يستقر عليه النور وما كان كذلك لم يقبل السخونة فيبقى في غاية البرد فلا يستقر عليه الحيوان ولا يتأتى فيه النبات وكذلك لم يجعلها صقيلة براقة لئلا يحترق ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس كما يشاهد من احتراق القطن ونحوه عند انعكاس شعاع الجسم الصقيل الشفاف فاقتضت حكمته سبحانه أن جعلها كثيفة غبراء فصلحت أن تكون مستقرا للحيوان والأنام والنبات
ولما كان الحيوان الهوائي لا يمكنه أن يعيش في الماء كالحيوان المائي أبرز له جانبها كما تقدم وجعله على أوفق الهيئات لمصالحه وأنشأ منها طعامه وقوته وكذلك خلق منها النوع الإنساني وأعاده إليها ويخرجه منها

ومن آياتها أن جعلها مختلفة الأجناس والصفات والمنافع مع أنها قطع متجاورات متلاصقة فهذه سهلة وهذه حزنة تجاورها وتلاصقها وهذه طيبة تنبت وتلاصقها أرض لا تنبت وهذه تربة وتلاصقها رمال وهذه صلبة ويلاصقها ويليها رخوة وهذه سوداء ويليها أرض بيضاء وهذه حصى كلها ويجاورها أرض لا يوجد فيها حجر وهذه تصلح لنبات كذا وكذا وهذه لا تصلح له بل تصلح لغيره وهذه سبخة مالحة وهذه بضدها وهذه ليس فيها جبل ولا معلم وهذه مسجرة بالجبال وهذه لا تصلح إلا على المطر وهذه لا ينفعها المطر بل لا تصلح إلا على سقي الأنهار فيمطر الله سبحانه الماء على الأرض البعيدة ويسوق الماء إليها على وجه الأرض
فلو سألتها من نوعها هذا التنوع ؟ ومن فرق أجزاءها هذا التفريق ؟ ومن خصص كل قطعة منها بما خصها به ؟ ومن ألقى عليها رواسيها وفتح فيها السبل وأخرج منها الماء والمرعى ؟ ومن أمسكها عن الزوال ؟ ومن بارك فيها وقدر فيها أقواتها وأنشأ منها حيوانها ونباتها ؟ ومن وضع فيها معادتها وجواهرها ومنافعها ؟ ومن هيأها مسكنا ومستقرا للأنام ؟ ومن يبدأ الخلق منها ثم يعيده إليها ثم يخرجه منها ؟ ومن جعلها ذلولا غير مستصعبة ولا ممتنعة ؟ ومن وطأ مناكبها وذلك مسالكها ووسع مخارجها وشق أنهارها وأنبت أشجارها وأخرج ثمارها ؟ ومن صدعها عن النبات وأودع فيها جميع الأقوات ؟ ومن بسطها ؟ وفرشها ومهدها وذللها وطحاها ودحاها وجعل ما عليها زينة لها ؟ ومن الذي يمسكها أن تتحرك فتتنزلزل فيسقط ما عليها من بناء ومعلم أو يخسفها بمن عليها فإذا هي تمور ؟ ومن الذي أنشأ منها النوع الإنساني الذي هو أبدع المخلوقات وأحسن المصنوعات بل أنشأ منها آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلى الله عليه و سلم وعليهم أجمعين وأنشأ منها أولياءه وأحباءه وعباده الصالحين ؟ ومن جعلها حافظة لما استودع فيها من المياه والأرزاق والمعادن والحيوان ؟ ومن جعل بينها وبين الشمس والقمر هذا القدر من المسافة فلو زادت على ذلك لضعف تأثرها بحرارة الشمس ونور القمر فتعطلت المنفعة الواصلة إلى الحيوان والنبات بسبب ذلك ولو زادت في القرب لاشتدت الحرارة والسخونة - كما نشاهده في الصيف - فاحترقت أبدان الحيوان والنبات وبالجملة فكانت تفوت هذه الحكمة التي بها انتظام العالم ؟ ومن الذي جعل فيها الجنات والحدائق والعيون ؟ ومن الذي جعل باطنها بيوتا للأموات وظاهرها بيوتا للأحياء ؟ ومن الذي يحييها بعد موتها فينزل عليها الماء من السماء ثم يرسل عليها الريح ويطلع عليها الشمس فتأخذ في الجبل فإذا كان وقت الولادة مخضت للوضع واهتزت وأنبتت من كل زوج بهيج
فسبحان من جعل السماء كالأب والأرض كالأم والقطر كالماء الذي ينعقد منه الولد فإذا حصل الحب في الأرض ووقع عليه الماء أثرت نداوة الطين فيه وأعانتها السخونة المختفية في باطن الأرض فوصلت النداوة والحرارة إلى باطن الحبة فاتسعت الحبة وربت وانتفخت وانفلقت عن ساقين : ساق من فوقها وهو الشجرة وساق من تحتها وهو العرق ثم عظم ذلك الولد حتى لم يبق لأبيه نسبة إليه ثم وضع من الأولاد بعد أبيه آلافا مؤلفة كل ذلك صنع الرب الحكيم في حبة واحدة لعلها تبلغ في الصغر إلى الغاية وذلك من البركة التي وضعها الله سبحانه في هذه الأمر
فيالها من آية تكفي وحدها في الدلالة على وجود الخالق وصفات كماله وأفعاله وعلى صدق رسله فيما أخبروا به عنه بإخراج من في القبور ليوم البعث والنشور
فتأمل اجتماع هذه العناصر الأربعة وتجاورها وامتزاجها وحاجة بعضها إلى بعض وانفعال بعضها عن بعض وتأثيره فيه وتأثره به بحيث لا يمكنه إلا الاتباع من التأثر والانفعال ولا يستقل الآخر بالتأثير ولا يستغني عن صاحبه وفي ذلك أظهر دلالة على أنها مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة حادثة بعد عدمها فقيرة إلى موجد غني عنها مؤثر غير متأثر قديم غير حديث تنقاد المخلوقات كلها لقدرته وتجيب داعي مشيئته وتلبي داعي وحدانيته وربوبيته وتشهد بعلمه وحكمته وتدعو عباده إلى ذكره وشكره وطاعته وطاعته وعبوديته ومحبته وتحذرهم من بأسه ونقمته وتحثهم على المبادرة إلى رضوانه وجنته
فانظر إلى الماء والأرض كيف لما أراد الرب تعالى امتزاجهما وازدواجهما أنشأ الرياح فحركت الماء وساقته إلى أن قذفته في عمق الأرض ثم أنشأ لها حرارة لطيفة سماوية وحصل بها الإنبات ثم أنشأ لها حرارة أخرى أقوى منها حصل بها الانفتاح وكانت حالته الأولى تضعف عن الحرارة الثانية فادخرت إلى وقت قوته وصلابته فحرارة الربيع للإخراج وحرارة الصيف للإنضاج هذا وإن الأم واحدة والأب واحد واللقاح واحد والأولاد في غاية التباين والتنوع كما قال تعالى { وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون }
فهذا بعض آيات الأرض ومن الآيات التي فيها وقائعه سبحانه التي أوقعها بالأمم المكذبين لرسلهم المخالفين لأمره وأبقى آثارهم دالة عليهم كما قال تعالى { وعادا وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم } وقال في قوم لوط { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين * وبالليل أفلا تعقلون } وقال { فأخذتهم الصيحة مشرقين * فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل * إن في ذلك لآيات للمتوسمين * وإنها لبسبيل مقيم } أي بطريق ثابت لا يزول عن حاله وقال { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين * فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين } أي ديار هاتي الأمتين لبطريق واضح يمر به السالكون وقال تعالى { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم } وقال عن قوم عاد { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } وقال { أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم } فأي دلالة أعظم من رجل يخرج وحده لا عدة له ولا عدد ولا مال فيدعو الأمة العظيمة إلى توحيد الله والإيمان به وطاعته ويحذرهم من بأسه ونقمته فتتفق كلمتهم أو أكثرهم على تكذيبه ومعاداته فيذكرهم أنواع العقوبات الخارجة عن قدرة البشر فيغرق المكذبين كلهم تارة ويخسف بغيرهم الأرض تارة ويهلك آخرين بالريح وآخرين بالصيحة وآخرين بالمسخ وآخرين بالصواعق وآخرين بأنواع العقوبات وينجو داعيهم ومن معه والهالكون أضعاف أضعاف أضعافهم عددا وقوة ومنعة وأموالا
( فيالك من آيات حق لو اهتدى بهن مريد الحق كن هواديا )
( ولكن على تلك القلوب أكنة فليست وإن أصغت تجيب المناديا )
فهلا امتنعوا - إن كانوا على الحق وهم أكثرهم عددا وأقوى شوكة - بقوتهم وعددهم من بأسه وسلطانه وهلا اعتصموا من عقوبته كما اعتصم من هو أضعف منهم من أتباع الرسل ؟
ومن الآيات التي في الأرض مما يحدثه الله فيها كل وقت ما يصدق به رسله فيما أخبرت به فلا تزال آيات الرسل وأعلام صدقهم وأدلة نبوتهم يحدثها الله سبحانه وتعالى في الأرض إقامة للحجة على من لم يشاهد تلك الآيات التي قاربت عصر الرسل حتى كأن أهل كل قرن يشاهدون ما يشاهده الأولون أو نظيره كما قال { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } وهذه الإرادة لا تختص بقرن دون قرن بل لابد أن يري الله سبحانه أهل كل قرن من الآيات ما يبين لهم أن الله الذي لا إله إلا هو وأن رسله صادقون وآيات الأرض أعظم مما ذكر وأكثر فنبه باليسير منها على الكثير

ثم قال { وفي أنفسكم أفلا تبصرون ؟ } لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه فإذا تفكر الانسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين واضمحلت عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات الجهل فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره دالة عليه مرشدة إليه إذا يجده مكونا من قطره ماء : لحوما منضدة وعظما مركبة وأوصالا متعددة مأسورة مشددة بحباله العروق والأعصاب قد قمطت وشدت وجمعت بجلد متين مشتمل على ثلاثمائة وستين مفصلا ما بين كبير وصغير وثخين ودقيق ومستطيل ومستدير ومستقيم ومنحن وشدت هذه الأوصال بثلاثمائة وستين عرقا للإتصال والإنفصال والقبض والبسط والمد والضم والصنايع والكتابة
وجعل فيه تسعة أبواب : فبابان للسمع وبابان للبصر وبابان للشم وبابان للكلام والطعام والشراب والتنفس وبابان لخروج الفضلات التي يؤذيه احتباسها
وجعل داخل بابي السمع مرا قاتلا لئلا تلج فيها تخلص إلى الدماغ فتؤذيه وجعل داخل بابي البصر مالحا لئلا تذيب الحرارة الدائمة ما هناك من الشحم وجعل داخل باب الطعام والشراب حلوا ليسيغ به ما يأكله ويشربه فلا يتنغص به لو كان مرا أو مالحا
وجعل له مصباحين من نور كالسراج المضيء مركبين في أعلى مكان منه وفي أشرف عضو من أعضائه طليعة له وركب هذا النور في جزء صغير جدا يبصر به السماء والأرض وما بينهما وغشاه بسبع طبقات وثلاث رطوبات بعضها فوق بعض حماية له وصيانة وحراسة وجعل على محله غلقا بمصراعين أعلا وأسفل وركب في ذيل المصراعين أهدابا من الشعر وقاية للعين وزينة وجمالا وجعل فوق ذلك كله حاجبين من الشعر يحجبان العين من العرق النازل ويتلقيان عنها ما ينصب من هناك وجعل سبحانه لكل طبقة من طبقات العين شغلا مخصوصا ولكل واحد من الرطوبات مقدارا مخصوصا لو زاد على ذلك أو نقص منه لاختلت المنافع والمصالح المطلوبة وجعل هذا النور الباصر في قدر عدسة ثم أظهر في تلك العدسة صورة السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والعالم العلوي والسفلي مع اتساع أطرافه وتباعد أقطاره واقتضت حكمته سبحانه أن جعل فيها بياضا وسوادا وجعل القوة الباصرة في السواد وجعل البياض مستقرا لها ومسكنا وزين كلا منهما بالآخر وجعل الحدقة مصونة بالأجفان والحواجب كما تقدم والحواجب الأهداب وجعلها سوداء إذ لو كانت بيضاء لتفرق النور الباصر فضعف الإدراك فإن السواد يجمع البصر ويمنع من تفرق النور الباصر وخلق سبحانه لتحريك الحدقة وتقليبها اربعا وعشرين عضلة لو نقصت عضلة واحدة لاختل أمر العين
ولما كانت العين كالمرآة التي إنما تنطبع فيها الصور إذا كانت في غاية الصقالة والصفاء جعل سبحانه هذه الأجفان متحركة جدا بالطبع إلى الانطباق من غير تكلف لتبقى هذه المرآة نقية صافية من جميع الكدورات ولهذا لما لم يخلق لعين الذبابة أجفانا فإنها لا تزال تراها تنظف عينها بيدها من آثار الغبار و الكدورات

وكما جعل سبحانه العينين مؤديتين للقلب ما يريانه فيوصلانه إليه كما ترياه جعلهما مرآتين للقلب يظهر فيهما ما هو مودع فيه من الحب والبغض والخير والشر والبلادة والفطنة والزيغ والاستقامة فيستدل بأحوال العين على أحوال القلب وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة : وهي فراسة العين وفراسة الأذن وفراسة القلب فالعين مرآة للقلب وطليعة ورسول ومن عجيب أمرها أنها من ألطف الأعضاء وأبعدها تأثرا بالحر والبرد على أن الأذن على صلابتها وغلظها لتتأثر بهما أكثر من تأثر العين على لطافتها وليس ذلك بسبب الغطاء الذي عليها من الأجفان فإنها لو كانت متفتحة لم تتأثر بذلك تأثر الأعضاء اللطيفة

ومن ذلك : الأذنان شقهما تبارك وتعالى في جانبي الوجه وأودعهما من الرطوبة ما يكون معينا على إدراك السمع وأودعهما القوة السمعية وجعل سبحانه في هذه الصدقة انحرافات واعوجاجات لتطول المسافة قليلا فلا يصل الهواء إلا بعد انكسار حدته فلا يصدمها وهلة واحدة فيؤذيها وأيضا لئلا يفجأها الداخل إليها من الدبيب والحشرات بل إذا دخل إلى عوجة من تلك الإنعطافات وقف هناك فسهل إخراجه
وكانت العينان في وسط الوجه والأذنان في جانبيه لأن العينين محل الملاحة والزينة والجمال وهما بمنزلة النور الذي يمشي بين يدي الإنسان وأما الأذنان فكان جعلهما في الجانبين لكون إدراكهما لما خلف الإنسان وأمامه وعن يمينه وعن شماله سواء فتأتي المسموعات إليهما على نسبة واحدة وخلف العينان بغطاء والأذنان بغير غطاء وهذا في غاية الحكمة إذ لو كان للأذنين غطاء لمنع الغطاء إدراك الصوت فلا يحصل إلا بعد ارتفاع الغطاء والصوت عرض لا ثبات له فكان يزول قبل كشف الغطاء بخلاف ماتراه العين فإنه أجسام وأعراض لاتزول فيما بين كشف الغطاء وفتح العين وجعل سبحانه الأذن عضوا غضروفيا ليس بلحم مسترخ ولا عظم صلب بل هي بين الصلابة واللين فتقبل بلينها وتحفظ بصلابتها ولا تنصدع انصداع العظام ولا تتأثر بالحر والبرد والشمس والسموم تأثر اللحم إذ المصلحة في بروزها لتتلقى ما يرد عليها من الأصوات والأخبار

ومن ذلك الأنف نصبه سبحانه في وسط الوجه قائما معتدلا في أحسن شكل وأوفقه للمنفعة وأودعه حاسة الشم التي يدرك بها الروائح وأنواعها وكيفياتها ومنافعها ومضارها ويستدل بها على مضار الأغذية والأدوية ومنافعها وأيضا فإنه يستنشق بالمنخرين الهواء البارد الرطب فيؤديه إلى القلب فيتروح به فيستغني بذلك عن فتح الفم أبدا وجعل تجويفه بقدر الحاجة فلم يوسعه عن ذلك فيدخله هواء كثير ولم يضيقه فلا يدخله من الهواء ما يكفيه وجعل ذلك التجويف مستطيلا لينحصر فيه الهواء وينكسر برده وحدته قبل أن يصل إلى الدماغ فلولا ذلك لصدمه بحدته وقوته
والهواء الذي يستنشقه الأنف ينقسم شطرين : شطرا يصعد إلى الدماغ وشطرا ينزل إلى الرئة وهو من آلات النطق فإن له إعانة على تقطيع الحروف وكما أن تجويفه جعل لاستنشاق الهواء فإنه جعل مصبا لفضلات الدماغ تنحدر فيه في تلك القصبة فيخرج فيستريح الدماغ ولذلك جعل عليها سترا ولم يجعلها بارزة فتستقبحها العيون وجعل فيها تجويفا فإنه قد ينسد أحدهما أو يعرض له آفة تمنعه من الإدراك والاستنشاق فيبقى التجويف الثاني نائبا عنه يعمل عمله كما اقتضت الحكمة مثل ذلك في العينين
ثم تأمل الهواء الذي يستنشقه الأنف كيف يدخله أولا من المنخرين وينكسر برده هناك ثم يصل إلى الحلق فيعتدل مزاجه هناك ثم يصل إلى الرئة ألطف ما يكون ثم تبعثه الرئة إلى القلب فيروح عن الحرارة الغريزية التي فيه ثم ينفذ من القلب إلى العروق المتحركة ويبلغ إلى أقاصي أطراف البدن ثم إذا سخن في الباطن وخرج عن حد الانتفاع خرج عن تلك الأقاصي إلى البدن ثم إلى الرئة ثم إلى الحلقوم ثم إلى المنخرين خارجا فيخرج منهما ويعود عوضه هواء بارد نافع والنفس الواحد من أنفاس العبد إنما يتم بمجموع هذه الأمور والقوى والأفعال وهو له في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفس لله في كل نفس عدة نعم قد وقفت على القليل منها فما ظنك بما وراء النفس من الأعضاء والقوى ومنافعها وتمام النعمة بها ؟

وأما الفم فمحل العجائب وباب الطعام والشراب والنفس والكلام ومكن اللسان الناطق الذي هوآلة العلوم وترجمان القلب ورسوله المؤدي عنه
ولما كان القلب ملك البدن ومعدنا للحرارة الغريرية فإذا دخل الهواء البارد وصل إليه فاعتدلت حرارته وبقي هناك ساعة فسخن واحترق فاحتاج القلب إلى دفعه وإخراجه فجعل أحكم الحاكمين إخراجه سببا لحدوث الصوت في الحنجرة والحنك واللسان والشفتين والأسنان مقاطع ومخارج مختلفة وبسبب اختلافها تميزت الحروف بعضها عن بعض ثم ألهم العبد تركيب تلك الحروف ليؤدي بها عن القلب ما يأمر به
فتأمل الحكمة الباهرة حيث لم يضع سبحانه ذلك النفس المستغنى عنه المحتاج إلى دفعه وإخراجه بل جعل فيه إذا استغنى عنه منفعة ومصلحة هي من أكمل المنافع والمصالح فإن المقصود الأصلي من النفس هو اتصال الريح البارد إلى القلب فأما إخراج النفس هو جار مجرى دفع الفضلة الفاسدة فصرف ذلك سبحانه إلى رعاية مصلحة ومنفعة أخرى وجعله سببا للأصوات والحروف والكلام
ثم أنه سبحانه جعل الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة لتختلف الأصوات باختلافها فلا يتشابه صوتان كما لا تتشابه صورتان وهذا من أظهر الأدلة فإن هذا الاختلاف - الذي بين الصور والأصوات على كثرتها وتعددها فقلما يشتبه صوتان أو صورتان - ليس في الطبيعة ما يقتضيه وإنما هو صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحسن كل شيء خلقه فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين فميز سبحانه بين الأشخاص بما يدركه السمع والبصر

وأودع اللسان من المنافع منفعة الكلام - وهي أعظمها - ومنفعة الذوق والإدراك وجعله دليلا على اعتدال مزاج القلب وانحرافه كما جعله دليلا على استقامته واعوجاجه فترى الطبيب يستدل بما يبدو للبصر على اللسان من الخشونة والملاسة والبياض والحمرة والتشقق وغيره على حال القلب والمزاج وهو دليل قوي على أحوال المعدة والأمعاء كما يستدل السامع بما يبدو عليه من الكلام على ما في القلب فيبدو عليه صحة القلب وفساده معنى وصورة

وجعل سبحانه اللسان عضوا لحميا لا عظم فيه ولا عصب لتسهل حركته ولهذا لا تجد في الأعضاء من لا يكترث بكثرة الحركة سواه فإن أي عضو من الأعضاء إذا حركته كما تحرك اللسان لم يطق ذلك ولم يلبث أن يكل ويخلد إلى السكون إلا اللسان وأيضا فإن من أعدل الأعضاء وألطفها وهو في الأعضاء بمنزلة رسول الملك ونائبه فمزاجه من أعدل أمزجة البدن ويحتاج إلى قبض وبسط وحركة في أقاصي الفم وجوانبه فلو كان فيه عظام لم يتهيأ منه ذلك ولمي تهيأ منه الكلام التام ولا الذوق التام فكونه الله كما اقتضاه السبب الفاعي والغائي والله أعلم

وجعل سبحانه على اللسان غلقين : أحدهما الأسنان والثاني الفم وجعل حركته اختياريه وجعل على العين غطاء واحدا ولم يجعل على الأذن غطاء وذلك لخطر اللسان وشرفه وخطر حركاته وكونه في الفم بمنزلة القلب في الصدر وذلك من اللطائف فإن آفة الكلام اكثر من آفة النظر وآفة النظر أكثر من آفة السمع فجعل للأكثر آفات طبقين وللمتوسط طبقا وجعل الأقل آفة بلا طبق

وجعل سبحانه الفم اكثر الأعضاء رطوبة والريق يتحلل إليه دائما لا يفارقه وجعله حلوا لا مالحا كماء العين ولا مرا كالذي في الأذن ولا عفنا كالذي في الأنف بل هو أعذب مياه البدن وأحلاها حكمة بالغة فإن الطعام والشراب يخالطه بل هو الذي يحيل الطعام ويمتزج به امتزاج العجين بالماء فلولا أنه حلو لما التذ الإنسان بل ولا الحيوان بطعام ولا شراب ولا ساغه إلا على كره وتنغيص ولما كان كثير من الطعام لا يمكن تحوله إلى بعد طبخه جعل الرب تعالى له آلة للتقطيع والتفصيل وآلة للطحن فجعل آلة القطع - وهي الثنايا وما يليها - حادة الرؤوس ليسهل بها القطع وجعل النواجذ وما يليها من الأضراس مسطحة الرؤوس عريضة ليتأتى بها الطحن ونظمها احسن نظام كاللؤلؤ المنظم في سلك وجعلها من الجانب الأعلى والأسفل ليتأتى بها القطع والطحن وجعلها من الجانب الأيمن والأيسر إذ ربما كلت إحدى الآلتين أو تعطلت أو عرض لها عارض فينتقل إلى الآلة الأخرى وأيضا لو كان العمل على جانب واحد دائما أوشك أن يتعطل ويضعف
وتأمل كيف أنبتها سبحانه من نفس اللحم وتخرج من خلاله نابتة كما ينبت الزرع في الأرض ولم يكسها سبحانه لحما كسائر العظام سواها إذ لو كساها اللحم لتعطلت المنفعة المقصودة ولما كانت العظام محتاجة إلى لحم يكسوها ويحفظها ويتلقى عنها الحرارة والبرد ويحفظ عليها رطوبتها لم تكمل مصلحة الحيوان إلا بهذه الكسوة ولما كانت عظام الإنسان محتاجة إلى ذلك من وجه مستغنية عنه من وجه جعلت كسوتها منفصلة عنها وجعلت هي المكتيسة العارية لتمام المنفعة بذلك ولما كانت آلة القطع والكسر والطحن لم تنشأ مع الطفل من أول نشأته - كسائر عظامه لعدم الحاجة إليها - عطل عنها وقت استغنائه عنها بالرضاع وأعطيها وقت حاجته إليها وفيه حكمة أخرى وهي أنه لو نشأت معه من حين يولد لأضرت بحلمة الثدي إذ لا عقل له يحرزه عن عضها فكانت الأم تمتنع من إرضاعه
ومن عجيب أمرها الإتفاق والموالاة التي بينهما وبين المعدة فإنه يسلم إليها الشيء اليابس والصلب فتطحنه ثم تسلمه إلى اللسان فيعجنه ثم اللسان يسلمه إلى الحلق فيوصله إلى المعدة فتنضجه وتطبخه ثم يرسل إليها منه معلومها المقدر لها فإذا عجزت عن قطع شيء وطحنه عجزت المعدة عن إنضاجه وطبخه وإذا كلت الأسنان كلت المعدة وإذا ضعفت ضعفت
وهي تصحب الإنسان وتخدمه ما لم يرها فإذا وقعت عينه عليها فارقته الأبد وهي سلاح ومنشار وسكين وروح وزينة وفيها منافع ومصالح غير هذه

ثم تأمل حال الشعر ومنبته وسببه فإن البدن لما كان حارا رطبا والحرارة إذا عملت في الرطوبة فلابد أن تثير بخارا وتلك الأبخرة تتصاعد من عمق البدن إلى سطحه وتريد الانفصال من هناك فلابد أن تحدث مساما و منافذه في ظاهر الجلد وتلك الأبخرة إما أن تكون رطبة لطيفة فحينئذ تنفصل من المسام ولا تحدث شيئا وإما أن تكون دخانية يابسة غليظة فالجلد حينئذ إما أن يكون في نهاية النعومة والنضارة كجلد الصبيان أو في غاية اليبس والقشف أو يكون معتدلا فإذ ذاك لا يتولد فيه الشعر لأن البخار إذا شق سطح الجلد وانفصل عاد الجلد إلى الحال إلى اتصاله الأول بسبب كثرة رطوبته ونعومته مثاله السمك إذا رفع رأسه من الماء إنشق له الماء فإذا عاد إلى الماء عاد إلى اتصاله الأول وكذلك نشاهد الأشياء الرطبة كالنشاء مثلا إذا أغلي فخرج البخار من موضع الغليان عادت الرطوبة إلى الموضع الذي خرج منه ذلك البخار فسدته فإن كان الجلد في غاية اليبس لم يتولد الشعر لأن الجلد اليابس إذا انثقب بقيت تلك الثقب مفتوحة ليبس الجلد فيفرق أجزاءه البخار ولا يجتمع بعضه إلى بعض فإن الجلد متوسط بين النعومة والكثافة فإنه ينفتح فيه المسام بسبب تلك الأبخرة ولايعود ينسد بعد خروج البخار ولكن لا تبقى المسام شديدة الانفتاح وحينئذ يبقى ذلك البخار الدخاني في تلك الثقبة لا يزال يمده بخار آخر يدفعه أولا فأولا إلى خارج من غير أن ينقطع أصله فيبقى بعضه مركوزا في الجلد منزلته منزلة أصل النبات وبعضه يطلع إلى خارج منزلته منزلة ساق النبات وكذلك الشعر فمادة الشعر هي البخار الدخاني اليابس وسببه هو الحرارة الطبيعية المحرقة لذلك البخار والآلة التي بها يتم أمره هي المسام التي ارتكن فيها البخار فتلبد هناك فصار شعرا بإذن الله تعالى
والغاية التي من أجلها وجد شيئان : أحدهما عام وهو تنقية البدن من الفضول الدخانية الغليظة والآخر خاص وهو إما للزينة وإما للوقاية
وإذا بان أن الشعر إنما يتولد مع الحرارة واليبس المعتدل بقيت ثلاثة أقسام : أحدها حرارة غالبة على اليبس كالصبيان الثاني عكسه وهو يبس غالب على الحرارة كالمشائخ الثالث حرارة ضعيفة ويبس ضعيف كأبدان النساء ففي هذه الأقسام يقل الشعر : وأما الشباب فإن حرارة أبدانهم ويبسهم معتدل فيقوى تولد الشعر فيهم
وفي شعر الرأس منافع ومصالح : منها وقايته عن الحر والبرد والمرض ومنها الزينة والحسن
والسبب الذي صار به شعر الرأس أكثر من شعر البدن هو أن البخار شأنه أن يصعد من جميع البدن إلى الدماغ ومن الدماغ إلى فوق وكان هذا الشعر ناميا على الدوام لأن البخار يتصاعد إلى الرأس أبدا وهو مادة الشعر فبنماء الشعر ينمو البخار وكان فيه تخليص للبدن من تلك المواد وتكثير لوقايته وغطائه

أقسام الكتاب
1 2