كتاب : الفرج بعد الشدة
المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

 كان بسر من رأى، ثلاثة إخوة نصارى أنباريون، أحدهم موسر، ولم يسم، والثاني متجمل، يقال له عون، والثالث، يقال له سلمة، فقير، فآل أمر سلمة فيما يكابده من شدة الفقر، إلى أن تعذر عليه قوت يومه.

فمضى إلى أخيه عون، وسأله أن يتلطف إلى أخيه الموسر، في أن يشغله فيما يعود عليه نفعه، ويخدمه فيه، بدلاً من الغريب.
فامتنع الأخ الموسر من ذلك، وعاوده دفعات، واستعطفه، وضره يتزايد.
فقال الموسر، على سبيل الولع: إن شاء أن أصيره مكان الشاكري، وصبر على العدو، فعلت.
فعرض عون على سلمة ذلك، فقال سلمة: ما عرض أخونا علي هذا إلا لأمتنع، ويجعله حجة، وأنا أستجيب إليه وأصبر، وأرجع إلى الله تعالى، في كشف الحال التي أكون فيها معه، وأرجو الفرج ببغيه علي، ولا أضع نفسي بمسألة الناس، ففعل ذلك.
فكان أخوه يركب، وهو يمشي في أثره بطليسان ونعل، حتى لا يظهر أنه غلامه، وإذا نزل في موضع، لحقه، وأخذ ركابه، وتسلم المركوب، وحفظه إلى أن يخرج.
فلم يزل على هذا، إلى أن طلب وصيف الكبير، رفيق بغا، من يجلسه بباب داره، فيكتب ما يدخل إلى المطبخ، من الحيوان، والحوائج، ليقايس به ما يحتسب عليه.
فوصف عون، أخاه سلمة، لذلك، ووجه إليه فأحضره، فامتنع، وذكر أنه لا دربة له به، ولا فيه آلة له.
فضمن له عون معاونته، وإجمال الحساب في كل عشية، وأجري عليه رزق يسير.
وجلس بالباب، وصار يدعو بالحمالين، فيثبت ما يحضرونه، ويرفع في كل يوم مدرجاً بتفصيل ذلك.
فلما انقضى الشهر جمع وصيف المدارج، وأحضر كاتباً غريباً، وتقدم إليه أن يؤرجها على أصنافها.
وعمل كاتب ديوانه عملاً بما رفعه الوكلاء في ذلك الشهر، فظهرت فيه زيادة عظيمة، فحطت وتوفر مالها.
وحسن موقع ذلك من وصيف، وأحضر سلمة، وما كان رآه قبل ذلك، وصرف المتصرفين في المطبخ به، وأسنى جائزته.
فتوفر على يده في الشهر الثاني، مما كان حط من الأسعار، ما حسن موقعه.
فرد إليه قهرمة داره، فتتابعت التوفيرات، واتصلت جوائزه إياه، وزيادته في جاريه.
وطالت مدة خدمته لوصيف، وغلب على حاله، واتفق له خلوة المتوكل، وحضور وصيف.
فقال لوصيف: قد كثر ولدي، وأريد لهم شيخاً، عفيفاً، ثقة، ليس فيه بأو، ولا مخرقة، لأفرد لهم على يده إقطاعات أجعلها لهم، فلست أحب أن أوسط كتابي أمره.
فوقع في نفس وصيف، أن يصف سلمة، وبخل به، فلم يزل يتردد ذلك في قلبه.
ثم قال: إعلم يا مولاي، إن الله قد رزقني هذه الصفة التي تريدها مني، والرجل عندي، فإذا فكرت في حقوقك، وأن نعمتي منك، لم أستحسن أن أكتمك، وإذا فكرت فيما أفقده منه، توقفت، والآن، فقد أنطقني إقبالك بذكره، وهو سلمة بن سعيد النصراني.
فقال: أحضرنيه الساعة.
فأحضره في الوقت، فحين عاينه المتوكل وقع في نفسه صحة ما وصفه، فوقع لكل ابن بإقطاع ثلثمائة ألف درهم، ولكل ابنة بمائة وخمسين ألف درهم، وقيل أن المتوكل مات عن خمسين إبناً، وخمس وخمسين إبنة، ودفع إليه التوقيع.
وقال له: نجز هذا، واختر من الضياع ما ترى، وانصب لها ديواناً، ووصله، وجعل له منزلة كبيرة، بكتابة الولد.
فلما فرغ من ذلك، وقام به، جرى أمر آخر، أوجب أن رد إليه أيضاً أمر سائر الحرم، وجعل له قبض جراياتهن، وأرزاقهن، وإنفاق ذلك عليهن، وصرف وكلاءهن، وأسبابهن عنهن، وزادت منزلته بذلك لكثرة الحرم.
فبينما سلمة يتردد في دار المتوكل، إلى مقاصير الولد والحرم، وقعت عين المتوكل عليه، فاستدعاه.
وقال له: يا سلمة، ما أكثر ما يذهب على الملوك، حفظت بك ولدي، وحرمي، وأضعت نفسي، وليس لي منك عوض، قد رددت إليك بيت المال، وخزائن الفرش، والكسوة، والطيب، وسائر أمر الدار، فتسلم ذلك، واستخلف عليه من تثق به.
وكان قد أنكر عليه، في بعض خدمته، شيئاً فأمر باعتقاله، ففرشت له حجرة، وترك خلفاؤه يعملون.
ثم ذكره في الليل، وهو يشرب، فقال لخادم: امض إلى الحجرة التي فيها سلمة، فاطلع عليه، وعرفني الصورة التي تجده عليها.
فعاد وذكر أنه وجده يسود، ثم أعاده بعد وقت آخر، فوجده على ذلك، وأعاده الثالثة، فكانت الصورة واحدة.
فاستحضره، وقال: أنت شيخ كبير، تسود ليجود خطك في الآخرة، أو لتصل به في الدنيا إلى أكثر مما وصلت إليه ؟.

قال: لا هذا ولا هذا، ولكنك لما اعتقلتني، وأقررت أصحابي، وثقت بحسن رأيك، فلم أقطع التأهب لخدمتك، لأني أكاتبك كثيراً، فيما أستأمرك به، فأنا أحب أن لا تقع عينك على ما تستقبحه من الخط.
فحسن موقع هذا القول من المتوكل، وأمر بإحضار حقة، فيها خاتم الخاصة، فدفعه إليه.
وقال: هذا خاتمي، وقد رددت إليك ختم ما كنت أختمه بيدي، من غير أن تستأمرني فيه، ليعلم الخاص والعام، أني رفعت منك، وزدت في محلك، ولا يخلقك عندهم الاعتقال، ثم رآه المتوكل بعد ذلك، في وقت من الأوقات، ماشياً في الدار، فقال: سلمة شيخ كبير، هوذا يهرم ويتلف بهذا المشي، لأنه يريد أن يطوف في كل يوم، على الحرم والولد، وقد رأيت أن أجريه مجرى نفسي، في إطلاق الركوب له في داري.
وكان المتوكل يركب حماراً يتخطى به في الممرات، ويركب سلمة حماراً أيضاً، ولم يكن في الدار من يركب غيرهما.

الحرم
الحرم: النساء لرجل واحد، وحريم الرجل: ما يدافع عنه ويحميه، ولذلك سميت نساء الرجل: الحريم.
وكان حريم المتوكل يشتمل على أربعة آلاف سرية تاريخ الخلفاء 350 منهن خمسمائة لفراشه شذرات الذهب 2 - 114 وقد أهدى إليه عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، أربعمائة جارية، مرة واحدة، المستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 63.
أما المعتصم، والد المتوكل، فإنه لما توفي سنة 227 كان من جملة ما ترك ثمانية آلاف جارية شذرات الذهب 2 - 63.
وأما المأمون، حكيم بني العباس، فقد كان حريمه يشتمل على مائتي جارية فقط المستطرف من أخبار الجواري 69.
أما الرشيد، فقد كان حريمه يشتمل على أكثر من ألفي جارية، سوى ما كان لزوجه زبيدة من الجواري ويزيد عددهن عن ألفي جارية أيضاً الأغاني 10 - 172 ونهاية الأرب 4 - 214 و 215 ونشوار المحاضرة رقم القصة 5 - 64.
وكان في دار المقتدر، أربعة آلاف امرأة، بين حرة ومملوكة رسوم دار الخلافة 8.
ولم يكن الإكثار من الجواري مقصوراً على الخلفاء وحدهم، وإنما تعدى ذلك إلى أتباعهم، والمترفين من الأمراء، والرعية.
وعلى سبيل المثال، لا الحصر، نورد أن عتابة، أم جعفر البرمكي، كانت تخدمها أربعمائة وصيفة وفيات الأعيان 1 - 341.
وأن عمر بن فرج الرخجي، أحد العمال الأشرار، كانت لديه مائة جارية الطبري 9 - 161.
وأن زوجة يعقوب بن الليث الصفار، كانت لديها ألف وسبعمائة جارية وفيات الأعيان 6 - 429.
وأن بلكين الصنهاجي، خليفة المعز الفاطمي على أفريقية ت 373 كانت لديه أربعمائة حظية وفيات 1 - 287.
وأن العزيز الفاطمي توفي سنة 386 عن عشرة آلاف جارية إتعاظ الحنفا 295.
وأن ست النصر، أخت الحاكم الفاطمي ت 415، تركت أربعة آلاف جارية بين بيضاء وسوداء ومولدة بدائع الزهور 1 - 58.
وأن نصر الدولة الحميدي، صاحب ميافارقين ت 453، كانت لديه ثلثمائة وستون جارية، بعدد أيام السنة وفيات الأعيان 1 - 177 والوافي بالوفيات 8 - 176.
وكان للمعتمد بن عباد اللخمي، صاحب أشبيلية ت 488 ثمانمائة سرية شذرات الذهب 3 - 386 ومرآة الجنان 3 - 147.
وكان لأبي زنبور، الوزير بمصر ت 314 سبعمائة جارية شذرات الذهب 6 - 173.
وكان عند الوزير يعقوب بن كلس، وزير العزيز الفاطمي ت 380 ثمانمائة حظية، سوى جواري الخدمة خطط المقريزي 2 - 8.
وكان في دار ابن نجية الواعظ ت 599 عشرون جارية للفراش، تساوي كل جارية ألف دينار الذيل على الروضتين 35 فأعجب لواعظ يرتبط لفراشه عشرين جارية.
ومات السلطان الناصر محمد بن قلاوون ت 741، عن ألف ومائتي وصيفة مولدة، سوى من عداهن من بقية الأجناس خطط المقريزي 2 - 212 وماتت زوجته الخونده طغاي سنة 749 عن ألف جارية خطط المقريزي 2 - 426، أما الخونده أردوتكين، زوجة الملك الأشرف خليل، وزوجة الملك الناصر محمد بن قلاوون من بعده، ت 724، فقد كان لها من المماليك أكثر من ألف، ما بين جارية وخادم خطط المقريزي 2 - 63.
وكان مقبول خان وزير فيروز شاه ملك الهند 752 - 790 يملك ألفي جارية، من بينهن الرومية، والصينية، والفارسية الاسلام والدول الاسلامية في الهند ص22.
وفي مقابل من ذكرنا، نورد أن الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز لما استخلف، خير جواريه، وأعتق من رغبت في العتق، واقتصر على زوجته ابنة عمه، فاطمة بنت عبد الملك تاريخ الخلفاء 235.

أما أبو العباس السفاح، أول الخلفاء العباسيين، فإنه تزوج أم سلمة المخزومية، قبل الخلافة، فلم يتزوج عليها، ولم يتسر، ولما استخلف ظل على وفائه لها، فلم يدن إلى امرأة غيرها، حرة ولا أمة، إلى أن مات راجع التفصيل في مروج الذهب للمسعودي 2 - 206 - 208.
وكذلك كان المتقي، إبراهيم بن المقتدر ت 357، فإنه لما استخلف لم يتسر على جاريته التي كانت له تاريخ الخلفاء 394.
وتابعهم في ذلك ملك العرب سيف الدولة، صدقة بن منصور بن دبيس الأسدي ت 501، فإنه اكتفى بزوجة واحدة، لم يتزوج عليها، ولم يتسر المنتظم 9 - 159.
وكذلك كان المستعصم، آخر الخلفاء العباسيين ببغداد ت 656 فقد كانت له - وهو أمير - جاريتان، فلما استخلف لم يتغير عليهما خلاصة الذهب المسبوك 291.

الحمار
قسم صاحب معجم الحيوان، الحمير، إلى أربعة أنواع، حمار البيت، وحمار قبان، وحمار الزرد، والحمار العتابي معجم الحيوان 21، 98، 175، 265، 270 وفي دائرة المعارف الاسلامية 8 - 65 قسم الحمار إلى أهلي ووحشي، والأهلي إلى دابة ركوب، ودابة حمل، ووصف حمار الركوب، بأنه سريع العدو، يهتدي إلى الطريق، ولو سلكه مرة واحدة، وأنه حاد السمع، قليل المرض، وذكر أن العرب لا يركبون الحمير استنكافاً.
أقول: إن العرب في صدر الاسلام، لم يكونوا يستنكفون من ركوب الحمار، فإن النبي صلوات الله عليه كان يركب الحمار المخلاة للبهائي 292 والخليفة عمر بن الخطاب، وهو قدوة، ركب حماراً أرسنه بحبل أسود العقد الفريد 4 - 271 ولما قدم الشام، قدمها على حمار العقد الفريد 4 - 365 و 1 - 14 والبصائر والذخائر 4 - 30.
ثم تغير الحال، فأصبحت الخيل مركب الخلفاء، والأمراء، والأميرات، والوزراء، والقواد، وقد روى ياقوت في معجم الأدباء 5 - 485 و486 قصة عن جمال الدين بن القفطي ذكر فيها أن والده قدم مصر، لم تكن دوابه معه، فأبى أن يركب حماراً.
واستمر على ركوب الحمار، التجار البغداديون القصة 2 - 54 و3 - 56 من نشوار المحاضرة والشعراء ومتوسطو الحال نهاية الأرب 4 - 71 و10 - 99 و100 وفوات الوفيات 3 - 140 والفقهاء والقضاة القصة 3 - 40 من نشوار المحاضرة، وشذرات الذهب 2 - 220 وكذلك عقيلات النساء القصة 317 من هذا الكتاب.
وممن عرف بركوب الحمار خالد بن صفوان البصائر والذخائر م2 ق2 ص588 و589، وأبو عبيدة معمر بن المثنى مرآة الجنان 2 - 45، وابن جامع القرشي المغني الأغاني 6 - 291 ونهاية الأرب 4 - 306، وعيسى بن مسكين فقيه المغرب وقاضي القيروان مرآة الجنان 2 - 224، وأبو يزيد النكاري، الخارج بالمغرب على الفاطميين اتعاظ الحنفا ص70. وأبو العيناء محمد بن القاسم بن خلاد الملح والنوادر للحصري ص230.
ومن الطريف أن نذكر أن أبا القاسم الضحاك بن مزاحم البلخي المفسر ت 105 كان مؤدباً، وكان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار ميزان الاعتدال 2 - 325.
وكان الخلفاء، يركبون الحمير، في أوقات التخفف، وفي بيوتهم، وفي بساتينهم، وخرج الوليد بن يزيد مرة على المغنين، وهو راكب على حمار الأغاني 13 - 278، وكان الهادي يركب حماراً فارهاً تاريخ الخلفاء 279، وخرج مرة ليعزي أحد أفراد حاشيته وهو على حمار أشهب الطبري 8 - 291، وزار عبد الله بن مالك، وهو على حمار الطبري 8 - 216، وكان الرشيد يركب حماراً مصرياً أسود اللون، قريباً من الأرض، يطوف به على جواريه المحاسن والأضداد 174 ومطالع البدور 1 - 238 ويخرج به لعيادة من يريد عيادته الأغاني 5 - 253 ونهاية الأرب 4 - 341 وزيارة من يزوره الأغاني 10 - 175، وانتبه مرة في نصف الليل، فقال: هاتوا حماري، وركبه، وخرج الأغاني 10 - 176، وعاد المعتصم ولده الواثق، ثم رجع راكباً حماراً الأغاني 8 - 251 و252 ونهاية الأرب 4 - 232 وكان يركب الحمار عند خروجه من داره متخففاً القصة 7 - 125 من نشوار المحاضرة، وكان العزيز الفاطمي يركب الحمار إتعاظ الحنفا 294، وكان الحاكم الفاطمي، يركب الحمار، ويدور في الأسواق شذرات الذهب 3 - 193 وخطط المقريزي 2 - 288 ومات الحطيئة الشاعر، وهو على حمار فوات الوفيات 1 - 279.
ومما يجدر ذكره أن الرشيد، لما أمر بقتل جعفر البرمكي، دخل عليه مسرور، وأخرجه إخراجاً عنيفاً، وقيده بقيد حمار، ثم ضرب عنقه الطبري 8 - 295.

وكان الحمار مركب المتحابين إذا خرجوا لموعد الأغاني 1 - 395 ومركب القهرمانات إذا بارحن القصور من أجل أشغال السادة القصة 478 من هذا الكتاب، ومركب المغنين والمغنيات والجواري القصة 479 من هذا الكتاب، ونهاية الأرب 5 - 31 و 110 ومركب رجال الدولة إذا خرجوا متنكرين القصة 471 من هذا الكتاب، والقصة 2 - 2 من نشوار المحاضرة.
وكان المتوكل يركب الحمار في داره كما في هذه القصة، وكان يصعد إلى أعلى منارة سامراء، وهو على حمار مريسي لطائف المعارف 161، أقول: هذه المنارة، ما زالت شامخة في لجو، يسميها الناس: الملوية، والطريق إلى أعلاها، يتلوى حولها، من خارجها.
ولما بنى المكتفي قصر التاج، بنى قبة على أساطين رخام، عرفت بقبة الحمار، لأنه كان يصعد إليها، في مدرج حولها، كمنارة جامع سامراء، على حمار صغير الجرم، وكانت عالية مثل نصف دائرة كتاب دليل خارطة بغداد ص126.
أقول: لما زرت بلاد الأندلس في السنة 1960، أبصرت في أشبيلية، من آثار المسلمين الباقية، مأذنة، يسمونها: الجيرالدا، ذات علو شاهق، يصعد إليها من باطنها، في طريق يتسع لستة أشخاص، يسيرون جنباً إلى جنب، وذكروا لنا أن المؤذن كان يصعد إلى أعلى هذه المأذنة، راكباً حماراً، ووجدت أهالي أشبيلية، يفتخرون بهذه المأذنة، ويقولون: إن من صعد إلى أعلى برج إيفل بباريس، أبصر باريس كلها، أما من صعد إلى أعلى الجيرالدا، فإنه يرى الدنيا كلها.
وكان الناس يغالون في حمير مصر، وهي موصوفة بحسن المنظر، وكرم المخبر لطائف المعارف 161 ونهاية الأرب 10 - 93، وأهل مصر يعنون بتربية الحمير، والقيام عليها، لما يجدونه فيها من الفراهة، وسرعة الحضر، والنجابة، ويبالغون في أثمانها، حتى بيع في بعض السنين، حمار، بمائة دينار وعشرة دنانير، وكان صاحبه يسمع أذان المغرب بالقاهرة، فيركب، ويسوقه، فيلحقها بمصر، وبينهما ثلاثة أميال مطالع البدور 2 - 182.
وذكر ابن سعيد: أن المغاربة كانوا يأنفون من ركوب الحمار، خلافاً لأهالي مصر، فإن أعيان مصر، والفقهاء، والسادة، يركبون الحمير خطط المقريزي 1 - 341 ونفح الطيب 2 - 339 حتى إن ابنة الإخشيد محمد بن طغج، كانت تقطع الأزقة في القاهرة وهي على ظهر حمار خطط المقريزي 1 - 353.
أقول: لم تقتصر الأنفة من ركوب الحمار على المغاربة المسلمين، وإنما تعدتهم إلى إفرنج أسبانيا، فإن الملك الفونس، لما انكسر في السنة 591 في المعركة بينه وبين السلطان أبي يوسف الموحدي، حلق ألفونس رأسه، وركب حماراً، وأقسم لا يركب فرساً حتى ينتصر ابن الأثير 12 - 115، وكذلك صنع علاء الدين الغوري، في السنة 602، فإن أهالي غزنة نهبوا جميع ما كان لديه، فلما وصل إلى باميان، لبس ثياب سوادي، وركب حماراً، وقال: أريد أن يراني الناس وما صنع بي أهل غزنة، حتى إذا عدت إليها وأخربتها لا يلومني أحد ابن الأثير 12 - 220.
وذكر القزويني، في آثار البلاد 262: أن الحمر المريسية، نسبة إلى المريسة في ناحية الصعيد بمصر، من أجود حمر مصر، وأمشاها، وأحسنها صورة، وأكبرها، تحمل إلى سائر البلاد للتحف، وليس في شيء من البلاد مثلها، والبلاد الباردة لا توافقها، فتموت فيها سريعاً.
وخرج توقيع عبد الله بن طاهر: إذا وجدتم البرذون الطخاري، والبغل البرذعي، والحمار المصري، والرقيق السمرقندي، فاشتروها، ولا تستطلعوا رأينا فيها، لطائف المعارف 219.

وروى صاحب مطالع البدور 2 - 183 طريفتين عن الحمار، الأولى: ذكر إنه ركب حماراً، من مصر إلى القاهرة، فلما كان في أثناء الطريق، حاد به عن السكة، وجهد أن يرده، فلم يطق، حتى انتهى إلى جدار بستان، فوقف، وبال، وعاد إلى الطريق، وكذلك جرى له مع حمارين آخرين، والطريفة الثانية: إن حماراً كان بمصر، يجتمع عليه الناس، ويجمعون له مناديل، تلقى على ظهره، ثم يأمره صاحبه بإعادة كل منديل إلى صاحبه، فيدور في الحلقة، ولا يقف إلا على من له في ظهره منديل، فإن أخذه، ذهب عنه، وإن أخذ غيره، لا يذهب، ولو ضرب مائة ضربة، ويأخذ الخاتم من إصبع الرجل، ويسأله عن وزنه، فيقول: كم وزن الخاتم ؟ فإن كان وزنه درهماً، مشى خطوة واحدة، وإن كان درهماً ونصفاً، مشى خطوة ونصفاً، وهكذا، وبينما هو واقف، يقول له شخص: الوالي يسخر الحمير، فما يتم كلامه، إلا ويلقي الحمار نفسه على الأرض، وينفخ بطنه، ويقطع نفسه، كأنه ميت من زمان، فإذا قيل له، بعد ذلك، ما بقيت سخرة، ينهض قائماً.
وكان القاضي، أو الوالي، إذا أمر بإشهار شخص، داروا به على حمار المنتظم 8 - 294 و 10 - 237 ومهذب رحلة ابن بطوطة 2 - 147، ومن طريف ما يذكر أن شخصاً حجره القاضي للسفه، وأمر بإشهاره في البلد، ليمتنع الناس من التعامل معه، فحمل على على حمار، وداروا به في الأسواق، فلما انتهى النهار، طالبه المكاري بالأجر، فالتفت إليه، وقال له: في أي شيء كنا منذ الصباح ؟.
وكان الشماخ الشاعر، أوصف الناس للحمير، أنشد الوليد بن عبد الملك، شيئاً من شعره في وصف الحمير، فقال: ما أوصفه لها، إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً الأغاني 9 - 161.
راجع في الملح للحصري ص283 قصة العاشق الذي حل محل الحمار في الطاحون.
وقيل لمزبد، وقد اشترى حماراً: ما في حمارك عيب، إلا أنه ناقص الجسم، يحتاج إلى عصا، فقال: إني كنت أغتم، لو كان يحتاج إلى بزماورد، فأما العصا، فأمرها هين البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لمخنث عليل، كان يشرب لبن الأتان: كيف أصبحت ؟ قال: لا تسل عمن أصبح أخا الحمار البصائر والذخائر م2 ق1 ص29.
ومن مشهوري الحمير: يعفور، حمار النبي صلوات الله عليه، أهداه له المقوقس، صاحب مصر، ونفق منصرف النبي صلوات الله عليه من حجة الوداع الطبري 3 - 174.
ومن مشهوري الحمير: حمار بشار بن برد، وقد زعم بشار أن حماره هنا كان شاعراً غزلاً، وروى أبياتاً من شعره، راجع القصة في الأغاني 3 - 231 و232.
ومن مشهوري الحمير، الحمار الذي كان يركبه الحاكم الفاطمي، وكان يسميه: القمر النجوم الزاهرة 549.
ومن مشهوري الحمير: حمار الحكيم توما، الذي قال فيه الشاعر:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط ... وصاحبي جاله مركّب
ومن مشهوري الحمير، حمار أبي الحسين الجزار، جمال الدين يحيى بن عبد العظيم، وهو من عائلة جزارين، تكسب بالشعر مدة، ثم عاد إلى الجزارة، واحتج لعدوله عن الشعر إلى الجزارة، بقوله:
لا تلمني يا سيّدي شرف الدي ... ن إذا ما رأيتني قصّابا
كيف لا أشكر الجزارة ما عش ... ت حفاظاً وأترك الآدابا
وبها صارت الكلاب ترجّي ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا
وكان الجزار، كثير الشكوى من حماره، قال فيه:
هذا حماري في الحمير حمار ... في كلّ خطو كبوة وعثار
قنطار تبنٍ في حشاه شعيرةٌ ... وشعيرةٌ في ظهره قنطار
ولما مات حمار هذا الشاعر، داعبه شعراء عصره، بمراث وهزليات، فقال بعضهم:
قولوا ليحيى لا تكن جازعاً ... لا يرجع الذاهب بالليت
طامن أحشاءك فقدانه ... وكنت فيه عالي الصوت
وكنت لا تنزل عن ظهره ... ولو من الحشّ إلى البيت
ما مات من داءٍ ولكنّه ... مات من الشوق إلى الموت
وقال آخر:
مات حمار الأديب، قلت قضى ... وفات من أمره الذي فاتا
مات وقد خلّف الأديب ومن ... خلّف مثل الأديب ما ماتا
فأجابه أبو الحسين قائلاً:
كم من جهولٍ رآني ... أمشي لأطلب رزقا
وقال لي: صرت تمشي ... وكلّ ماشٍ ملقّى

فقلت: مات حماري ... تعيش أنت وتبقى
ومات لابن عنين الدمشقي 549 - 630 حمار، بالموصل، فرثاه بقصيدة مثبتة في ديوانه 140 - 142، منها؛
لا تبعدن تربةً ضمّت شمائله ... ولا عدا جانبيها العارض الهطل
قد كان إن سابقته الريح غادرها ... كأنّ أخمصها بالشوك ينتعل
لا عاجزاً عند حمل المثقلات ولا ... يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوجل
وإنّ لي بنظام الدين تعزية ... عنه وفي النجب من أبنائه بدل
وقرأت في كتاب من تأليف أديب مغربي، أن مغربياً باع حماره من آخر، وشرط عليه المشتري، أن يسلمه الحمار في حلته، وخرجا إليها معاً، ولما دخلا بين البيوت، أبصر البائع حماراً أدبر، قد أهمله أصحابه، فالتفت إلى صاحبه، وقال: أهكذا يعامل الحيوان الأعجم ؟ أنتم قوم سوء، وأعاد إلى المشتري ماله، وكر عائداً بالحمار.
وعرض محمد بن واسع الأزدي، بسوق مرو، حماراً، فقال له رجل: يا عبد الله، أترضاه لي ؟ فقال: لو رضيته لما بعته نشوار المحاضرة، القصة 4 - 61.
ولزيادة التفصيل في هذا الموضوع راجع نهاية الأرب 10 - 93 - 102 والغيث المسجم في شرح لامية العجم 2 - 137 و138، وكتاب الحيوان للجاحظ.
أقول: أدركت الناس ببغداد، قبل انتشار استعمال السيارات، يركب الوجهاء منهم، الحمير، ويختارونها بيضاء، عالية، ويسمونها: الحساوية، لأنها تجلب من الأحساء، وكانوا يتأنقون في اختيار الجل، ويسمونه: المعرقة تلفظ القاف كافاً فارسية.
وقد وصف حمير بغداد البيض، سائح أمريكي اسمه بيري فوك، مر ببغداد في السنة 1872، في عهد الوالي محمد رديف باشا، الذي خلف مدحت باشا، فقال: إن الحمير البيض في بغداد مشهورة في أنحاء الشرق، وأثمانها عالية، وقسم منها كبير الحجم، وتزين بصبغها بالحناء، فتبدو آذانها وأذنابها حمراء اللون، وأبدانها منقطة بالحناء، وهي ما زالت - كما كانت في قديم الزمان - مركب رجال الدين وكبار الحكام، كما أن السيدات يفضلنها على بقية الدواب، وهم يشرحون منخر الحمار، ويشقونه شقاً مستطيلاً، ويقولون إن هذا الشق يجعل الحمار أطول نفساً، ولكني كلما سمعت حماراً ينهق، أيقنت أنه لا ضرورة لهذا التصرف، ولا محل له كتاب عربستان أو بلاد ألف ليلة وليلة.
والبغداديون يسمون الحمار: زمال، من الزمل بكسر الزاي وميم ساكنة أي الحمل، ويقال: زمل بفتح، أي حمل، والزاملة، مؤنث الزامل: الدابة من الإبل وغيرها يحمل عليها المنجد، قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر: كانت زمالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمالة أبي بكر، واحدة، أي مركوبهما لسان العرب، راجع ما كتبه الدكتور سليم النعيمي في مجلة المجمع العلمي العراقي م25 ص25 و26.
وكانت زمالة الزهاوي الشاعر جميل صدقي الزهاوي ت 1936 مضرب المثل في جمال الهيئة والنظافة، وكانت بيضاء، عالية الظهر، حساوية، وكان الزهاوي يعنى عناية فائقة، بعلفها، ونظافتها، وكان - رحمه الله - مصاباً بارتخاء في عضلات ساقيه لا يمكنه من المشي إلا بمعونة، فكان يركبها في روحاته وغدواته.
وللبغداديين أمثال تتعلق بالحمار، أذكر منها ثلاثة: أولها: مثل يضرب لمن يكد ليله ونهاره، من دون راحة، فيقولون: مثل زمال الطمة، يروح محملاً، ويعود محملاً، والطمة: فصيحة، ما طم من الجمر في الرماد، ويطلق البغداديون هذه الكلمة على موقد الحمام، وكان يوقد فيه النفايات والقمامة، وكل ما يحترق، فكان زمال الطمة يروح إليها حاملاً الوقود، ويعود منها حاملاً الرماد المتخلف.
وثانيها: مثل يضرب لمن ورط نفسه في ورطة يصعب التخلص منها، فيقولون: تعال طلع هذا الزمال من هذي الوحلة.
وثالثها: مثل يضرب لمن يتحايل بحيلة مكشوفة، فيقولون: إحنا دافنيه سوا، وأصل المثل: إن بغداديين تعطلا، وحاولا أن يجدا عملاً، فلم يوفقا، ثم وجدا حماراً نافقاً، فأخذاه، ودفناه، ووضعا على قبره شاهداً، وأدعيا إنه قبر ولي من أولياء الله، وأصبح أحدهما سادناً للقبر، والثاني واعظاً وإماماً للجماعة فيه، وظلاً على ذلك حيناً، ثم أحس أحدهما أن صاحبه يغتال قسماً من الواردات، ويستأثر بها، فخاصمه، فبادر صاحبه وضرب بيده على القبر، يحلف على براءته من التهمة، فصاح به صاحبه: ويحك، إحنا دافنيه سوا.

وللبغداديين نوادر، فيها ذكر للحمار، يتندرون بها، أذكر منها نادرتين: الأولى: نادرة يتندر بها البغداديون على أهل الموصل، والمعروف عن أهل الموصل تعصبهم لبعضهم، بحيث لا يتسنى للغريب أن يجد فيها رزقاً، وخلاصتها: أن سقاءً بغدادياً هاجر إلى الموصل، واستقر فيها، وأراد أن يمارس فيها مهنته، فاشترى حماراً وقربة، وباشر بحمل الماء من النهر إلى المدينة، وفي اليوم الأول لم يتعامل معه أحد، وكذلك في اليوم الثاني، وجاع السقاء، وجاع حماره، فأخذه في اليوم الثالث، وذهب إلى سوق المدينة، وقال: يا جماعة، إن حرمانكم إياي من الرزق أمر مفهوم، لأني بغدادي، ولكن هذا الحمار موصلي، وهو يكاد يموت جوعاً، فإن لم ترفقوا بي، فارفقوا به.
والثانية: نادرة يتندر بها البغداديون على أحد القضاة، وخلاصتها: أن اثنين اختصما على حمار، كل واحد منهما يدعي ملكيته، وتداعيا عند القاضي، وقدم المدعي للقاضي عشرة مجيديات رشوة، وبلغ المدعى عليه ما صنعه خصمه، فذهب إلى القاضي وأعطاه عشرة مجيديات أيضاً، ونظر القاضي في الدعوى، وأراد أن يرضي الطرفين، فحكم بأن يباع الحمار ويقسم ثمنه بين المتداعيين، وبيع الحمار بعشرين مجيدياً، وتسلم كل واحد من المتداعيين عشرة مجيديات، فتوجها إلى القاضي، وقالا له: يا أفندينا، تبين أن الحمار لا يعود لواحد منا، وإنما يعود لك، لأنك استوفيت ثمنه كاملاً.
ودخل أحمد بن محمد القزويني إلى سوق النخاسين في الكوفة، وطلب حماراً، لا بالصغير المحتقر، ولا بالكبير المشتهر، إن أقللت علفه صبر، وإن أكثرت علفه شكر، لا يدخل تحت البواري، ولا يزاحم براكبه السواري، إذا خلا الطريق تدفق، وإذا كثر الزحام ترفق، فقال النخاس: أصبر حتى يمسخ القاضي حماراً، وأشتريه لك، أخبار الحمقى والمغفلين ص126.
ونهيق الحمير، يسمى: الزر البصائر والذخائر 4 - 297، راجع أخلاق الوزيرين 149 وفي بغداد، يلفظونها: زعر، وإذا صيح بها أمام الحمار، نهق.
وذكر الجبرتي في تاريخه 2 - 539 و3 - 155 أن العسكر العثماني، بالقاهرة، باشروا في السنة 1217 بخطف حمير الناس من أولاد البلد، فأخفى الناس حميرهم، فكان الجماعة من العسكر ينصتون بآذانهم على أبواب الدور، ويقف بعضهم على الدار، ويقول زر، ويكررها، فينهق الحمار، فيؤخذ.
وكان إبراهيم بن الخصيب المديني، أحمق، وكان له حمار أعجف، وكان إذا علق الناس المخالي بالعشي، أخذ مخلاة حماره، وقرأ عليها " قل هو اللّه أحد " ، وعلقها عليه فارغة، وقال: لعن الله من يرى كيلجة شعيرة، أنفع من " قل هو اللّه أحد " ، فما زال هكذا حتى نفق الحمار، فقال: إن " قل هو اللّه أحد " ، تقتل الحمير، فهي للناس أقتل، لا قرأتها ما عشت البصائر والذخائر أمير المؤمنين 4 - 118 و119، وراجع كتاب أدب الغرباء للأصبهاني 46.
ومما يروى عن السيد عبد الحسين الغريفي، من علماء البحرين، وكان فقيهاً من العلماء الأتقياء، أنه هجم عليه يوماً، وهو في حلقة درسه، معيدي، أوسعه إزعاجاً، وألح عليه أن يستخير له، فإنه بصدد عمل يريد أن يقوم به، فعمد السيد إلى كتاب الله، وفتحه، ثم التفت إليه وقال: أنت تريد أن تشتري حماراً، فقال له: إي والله يا سيدنا، فقال له: امض فاشتره، ولما بارح المعيدي المكان، سأله تلامذته: كيف عرف مراد المعيدي ؟ فقال له: استفتحت له، فظهرت الآية: سنشد عضدك بأخيك.
أقول: أنا في شك من صحة هذه الحكاية، لأن السيد عبد الحسين، وهو من الفقهاء الزهاد، أتقى لله من أن يتخذ من آيات القرآن مورداً للتملح.
وقال عبد القاهر الجرجاني ت 471 شذرات الذهب 3 - 341:
تكبّر على العقل لا ترضه ... ومل إلى الجهل ميل هائم
وعش حماراً تعش سعيداً ... فالسعد في طالع البهائم
وصديقنا المصور أرشاك ببغداد، يخالف الناس في وصف الحمار بالبلادة، وهو يقول: إن الحمار عاقل حكيم، وإن النظرة التي نراها في عينه ونحسب أنها نظرة بلادة، إنما هي نظرة استهانة بنا ولا مبالاة، وكأنه يقول لنا: أنتم تقولون عني أني حمار، وفي الحقيقة، إنكم أنتم الحمير.
للتوسع في البحث، راجع الطبري 5 - 522 و6 - 40 - 42 و7 - 52 و240 و555 و8 - 122 و194 و8 - 300 - 302 و10 - 8، والولاة للكندي 469 و471، والأغاني 12 - 157 و18 - 303 و347 و20 - 69 و22 - 182، والعقد الفريد 6 - 442، والأغاني ط بولاق 20 - 31.

ابن الطبري الكاتب النصراني تجلب له التوفيق رفسة حصان
وجدت في بعض الكتب: أن عبد الله المعروف بابن الطبري النصراني الكاتب، قدم سر من رأى يلتمس التصرف، فلزم الدواوين مدة، إلى أن نفدت نفقته، وانقطعت حيلته، ولم يبق إلا ما عليه من كسوته، فعدم القوت ثلاثة أيام بلياليها، وهو صابر خوفاً من أن يبيع ما عليه، فيتعطل عن الحركة، فلما كان في اليوم الرابع عمل على بيع ما عليه ليأكل ببعضه، وليشتري بالبعض الآخر تاسومة، ومرقعة، وركوة، ويخرج في زي فيج إلى بلد آخر، لأنه بقي ثلاثة أيام لم يأكل شيئاً.
ثم شرهت نفسه إلى الرجوع إلى الديوان، مؤملاً فرجاً يستغني به عن هذا، من تصرف أو غيره.
فمشى يريد الديوان، وهو مغموم مفكر، إذ سمع صوت حافر من ورائه، وقوم يصيحون: الطريق، الطريق.
فلشدة ما به، غفل عن التنحي عن الطريق، فكبسه شهري كان راكبه المؤيد بالله بن المتوكل على الله، وهو إذ ذاك أحد أولياء العهود، فداسه، وسقط على وجهه.
فصعب ذلك على المؤيد، ولم يكن يعرفه، فاغتم أن يجرى منه على إنسان مثل ذلك، فأمر أن يحمل إلى داره، ففعل ذلك، وأفردت له حجرة، ومن يخدمه، وعولج بالدواء، والطعام، والشراب، والطيب، والفرش، حتى برئ بعد أيام، فأنفذ إليه ألفي درهم، وسأله إحلاله مما جرى عليه.
فقال: لا أقبلها، أو تقع عيني على المؤيد، فأشافهه بالدعاء.
فأوصل إليه، فشكره، ودعا له، وقص عليه قصته، وسأله استخدامه.
فخف على قلب المؤيد، واستكتبه، وأمر أن يصرف في داره، وفي دار والدته إسحاق، جارية المتوكل، فتصرف فيها مدة، وصلحت حاله.
وكان الموفق، أخو المؤيد من أمه، قد رأى ابن الطبري، فاجتذبه إلى خدمته، ونفق عليه، وانتهى أمره معه إلى أن جعل إليه تربية المعتضد، وأكسبه الأموال الجليلة.
أبو بكر محمد بن طغج ينتقل من ضعف الحال إلى ملك مصروجدت في بعض الكتب: حدث أبو الطيب بن الجنيد، الذي كان صاحباً لأبي جعفر محمد بن يحيى بن زكريا بن شيرزاد، وكان قبل ذلك جاراً لأبيه أبي القاسم قال: كان أبو بكر محمد بن طغج بن جف ينزل قديماً بالقرب من منازلنا ببغداد، بقصر فرج، وكان رقيق الحال، ضعيفاً جداً.
وكان له على باب دويرته دكان يجلس عليها دائماً، ودابته مشدودة إلى جانبها، وهو يراعيها بالعلف والماء بنفسه.
وكان له رزق سلطاني يسير، يتأخر عنه أبداً، فلا يقبضه إلا في الأحايين.
وكان شديد الاختلال، ظاهر الفقر، وكان له عدة بنات لا ذكر فيهن.
وكان يجتاز به أبو القاسم يحيى بن زكريا بن شيرزاد، أو أحد أبنيه، أبو الحسن، وأبو جعفر، فيقوم قائماً، ويظهر التعبد لهما، ولا يزال واقفاً إلى أن يبعدا عنه.
وكنت ربما جلست إليه، فيأنس بي ويحدثني، ويشكو بثه، وما يقاسيه من كثرة العائلة، وضيق الحال.
ويقول: ليت كان لي فيما رزقته من الولد، ذكر واحد، فكنت أتعزى به قليلاً، ويخف بالرجاء له، والسرور به، بعض كربي وهمي بهؤلاء البنات.
قال أبو الطيب: وضرب الدهر من ضربه، وتقلب من تقلبه، وطال العهد بابن طغج، وخرج في جملة تجريد جرد إلى الشام، وأنسيناه، وترجمت به الظنون، وترامت به الأحوال، حتى بلغ أن يقلد مصر وأعمالها، وكان من علو شأنه، وارتفاع ملكه، وحصول الأمر له، ولولده من بعده، ما كان، مما هو مشهور.
وكان قد طرأ إلى تلك الناحية أحد التجار الواسعي الأحوال، من جوارنا، ممن كان يعرف ابن طغج على تلك الأحوال الأول، فلما كان بعد سنين، عاد الرجل إلى الحضرة، فحدثنا بعظم أمر ابن طغج، واتساع ملكه.
وقال: رأيته غير الرجل الذي كنا نعرفه، مكانة، ورجاحة، وحين رآني، قربني، وأكرمني، وما زال مستبشراً بي، يحادثني، وأحادثه، ويسألني عن واحد واحد، من بني شيرزاد، وغيرهم من الجيران، وأنا أخبره.
حتى قال في بعض قوله: الحمد لله الذي بيده الأمور، ما شاء فعل، يا فلان، ألست ذاكراً ما كنت فيه ببغداد، من تلك الأحوال الخسيسة وما كنت ألاقي من الشدة، والفقر، والفاقة، والغرض بالعيش، والهم بأولئك البنات ؟.
قلت: نعم يا سيدي.
قال: والله لقد كنت أتمنى وأسأل الله أن يرزقني ابناً، فكلما اجتهدت في ذلك جاءتني ابنة، حتى تكاملن في بيتي عشراً.

وكنت أتمنى منذ سن الحداثة أن أرزق دابة أبلق، واستشعر أني إذا ركبت ذلك، فقد حصلت لي كل فائدة ونعمة، لشدة شهوتي لها، فما سهل الله لي ما طلبته من هذا الباب أيضاً شيئاً.
وتكهلت، وعلت سني، وأنا على تلك الأحوال.
وضرب الدهر ضربه، وخرجت من بغداد، فابتدأ الإقبال يأتي، والإدبار ينصرف.
وكان الله تعالى يرزقني في كل سنة ابناً، ويقبض عني ابنة، حتى مات البنات كلهن، ونشأ لي هؤلاء البنون، وأومأ إلى أحداث بين يديه كأنهم الطواويس حسناً وجمالاً.
ثم قال: وملكت من الخيل العتاق، والبراذين، والبغال، والحمير البلق، ما لم يملك أحد مثله، ولا اجتمع لأحد ما يقاربه، وأكثر من أن يحصى، وصار لغلمان غلماني، الكراع الكثير، فقم بنا حتى ندخل الاصطبلات، فتشاهدها، وتعجب.
فأخذ بيدي، ومشينا حتى دخلنا إلى إصطبل البلق، فما أشك، أنا عددنا من صنوف الدواب البلق أكثر من خمسمائة رأس، ثم ضجرنا، وما زلنا نجتاز في الاصطبل، سنة، سنة.
فيقول: هذا اصطبل الفلانيات، وهو يسأل صاحب كراعه، كم في هذا ؟.
فيقول: في هذا خمسمائة، وفي هذا أربعمائة، ونحو ذلك.
ثم عدنا إلى المجلس، وقد أبهجني ما رأيت، وهو يحمد الله على تفضله وإحسانه، ولازمته، وما فارقت داره حتى قضيت حوائجي، ونفعني، وأحسن إلي، وما قصر، وعدت إلى الشام مكرماً.

غريب الدار ليس له صديق
ذكر عن رجل كان بالبصرة، أنه كان ذا يسار، وتغيرت حاله، فخرج عن البصرة، ثم عاد إليها وقد أثرى، فجعل يحدث بألوان لقيها إلى أن قال: تغيرت حالي، إلى أن دخلت بغداد، غريباً، سليباً، لا أهتدي إلى مذهب ولا حيلة.
قال: فجعلت أسأل: أين السوق، أين الطريق، إلى أن ضجرت، فقلت وأنا مكروب:
غريب الدّار ليس له صديق ... جميع سؤاله أين الطريق
تعلّق بالسؤال بكلّ صقع ... كما يتعلّق الرّجل الغريق
وجعلت أردد ذلك وأمشي، وإذا برجل مشرف من منظر، فقال لي:
ترفّق يا غريب فكلّ عبد ... تطيف بحاله سعةٌ وضيق
وكلّ مصيبة تأتي ستمضي ... وإنّ الصّبر مسلكه وثيق
فخف ما بي، ورفعت رأسي إليه، وسألته عن خبره.
فقال: اصعد إلي أحدثك، فصعدت إليه.
فقال: وردت هذا البلد، وأنا غريب، فتحيرت - والله - كتحيرك، إلى أن مررت بهذه الغرفة، فأشرف علي رجل كان فيها، لا أعرفه، فقال لي: اصعد.
فصعدت، فأسكننيها، ثم تقلبت بي الأحوال، فابتعت الدار، وأثريت، وأنا أتبرك بها، وأجلس فيها كثيراً، فلعلها أن تكون مباركة عليك أيضاً، فإن لي فيما سواها من الدور، مساكن تجذبني.
ففعلت، وأقبلت أحوالي، واحتجت إلى الاتساع، فانتقلت عنها،
عبد الله بن مالك الخزاعي يتسلم كتاباً من الرشيد يخبره بمقتل جعفر البرمكي
وجدت في بعض الكتب: أن البرامكة، قصدت عبد الله بن مالك الخزاعي، بالعداوة، وكان الرشيد حسن الرأي فيه، فكانوا يغرونه به، حتى قالوا له: لا بد من نكبته.
فقال: ما كنت لأفعل هذا، ولكن أبعده عنكم.
فقالوا: ينفى.
فقال: لا، ولكن أوليه ولاية دون قدره، وأخرجه إليها.
فرضوا بذلك، فكتبوا له على حران والرها فقط، وأمروه بالخروج، عن الخليفة.
قال عبد الله: فودعتهم واحداً، واحداً، حتى صرت إلى جعفر لأودعه.
فقال لي: ما على الأرض عربي أنبل منك يا أبا العباس، يغضب عليك الخليفة، فيوليك حران والرها ؟.
فقلت: فما ذنبي حتى غضب علي، وأي شيء جرى مني حتى أوجب الذي أن يفعل بي هذا ؟.
قال جزاؤك أن: يضرب وسطك، وتصلب نصفاً في جانب، ونصفاً في جانب.
فقلت: العجب مني حيث صرت إليك، ونهضت، وخرجت.
وقطعت طريقي بالهم، والغم، مما دفعت إليه، وأني لا آمنهم، مع غيبتي، على السعاية علي.
فبينما أنا في عشية يوم، على باب الدار التي نزلتها، جالساً على كرسي، إذ أقبل إلي مولى لي، فقال لي سراً: قد قتل جعفر بن يحيى البرمكي.
فتوهمت أنه هو أمره بذلك ليجد علي حجة ينكبني بها، فبطحته، وضربته ثلثمائة مقرعة، وحبسته، وبت بليلة طويلة على السطح في داري.
فلما كان في السحر، إذا صوت حلق البريد، فارتعت، ونزلت عن السطح.
وقلت في نفسي: إن هجم علي صاحب البريد فهي بلية، وإن ترجل لي ففرج.

فلما بصر بي صاحب البريد ترجل لي، فطابت نفسي، ودفع إلي كتاباً من الرشيد، يخبرني فيه بقتله جعفر، وقبضه على البرامكة، ويأمرني بالشخوص إلى حضرته.
فشخصت، فلما وصلت إليه، عاملني من الإكرام والإنعام بما زاد على أمنيتي.
وخرجت، فأتيت الجسر، فوجدت جعفراً، قد ضرب وسطه، وصلب نصفه في جانب، ونصفه في الجانب الآخر.

نجاح بن سلمة ينصح سليمان بن وهب برغم ما بينهما من عداوة
حكي أن الواثق سخط على سليمان بن وهب، فرده إلى محمد بن أبي إسحاق، وأمره أن يأخذ خطه بثلاثة آلاف ألف درهم، يؤديها بعد خمسة عشر يوماً، فإن أذعن لذلك، وإلا ضربه خمسمائة سوط.
فطالبه محمد بكتب الخط، فامتنع، فدعا له بالسياط، وجرد لضربه.
ودخل نجاح بن سلمة، فلما رآه سليمان أيقن بالموت، واستغاث به سليمان.
فقال نجاح لمحمد: خله، وأخلني وإياه، ففعل.
فقال نجاح لسليمان: أتعلم أن في الدنيا أحداً أعدى لك مني ؟.
قال: لا.
قال: فهوذا أحامي عنك اليوم لأجل الصناعة، أيما أحب إليك وآثر في نفسك، أن تموت الساعة بلا شك، أو يكون ذلك إلى خمسة عشر يوماً، قد يفرج الله فيها عنك ؟ قال: بل أكون إلى خمسة عشر يوماً بين الأمرين.
قال: فاكتب خطك بما طولبت به، فكتب خطه.
قال سليمان: فما مضت ستة أيام، حتى مات الخليفة، وبطل ذلك المال. وصار نجاح بن سلمة بمشورته تلك على سليمان، أحب إليه من أخيه وولده، وزالت العداوة من بينهما.
قال مؤلف الكتاب: هذا الخبر عندي أنه مضطرب، لأشياء كثيرة، ولكني كتبته، كما وجدته، وقد مضى فيما تقدم من هذا الكتاب خبر نكبة الواثق لسليمان بن وهب، بما هو أصح من هذه الحكاية.
المعتمد يأمر بقطع يد غلام من غلمانه
ثم يعفو عنه
بلغني أن أبا محمد بن حمدون، قال: إشتهى المعتمد أن يتخذ له فرش ديباج، بستوره، وجميع آلاته، على صورة صورها، وألوان اقترحها.
فعمل ذلك بتنيس، وحمل إليه، فسر به غاية السرور، وتقدم، فنجد، ونضد، ونصب، وأحضرني والندماء، وهو يأكل فيه، فما منا إلا من وصفه واستحسنه، ثم قام لينام وينتبه، فيشرب فيه، وصرفنا.
فما شعرنا إلا وقد امتلأت الدار ضجة وصياحاً، ودعا بنا، فوجدناه يزأر كالأسد.
وإذا نصف ستر من تلك الستور قد قطع، وهو يقول: ليس بي قطعه، ولا قيمته، لأنه يمكنني أن أستعمل مكانه، وإنما بي أنه نغص علي السرور به أول يوم، واجترأ علي بمثل هذا الفعل، وأصعب من هذا أنه قطعه وأنا أراه، وغاص الذي قطعه عن عيني فلم أثبته.
ثم دعا بنحرير الخادم وحلف له بأيمان مغلظة، أنه إن لم يبحث إلى أن يحضر الجاني، ليضربن عنقه، وجلس على حاله مغضباً.
ومضى نحرير، فما أبعد حتى أحضر صبياً من الفراشين، كأنه البدر حسناً، والقطعة الديباج معه، وقد أقر بقطعها، واعتذر، وبذل التوبة، وهو يبكي، ويسأل الإقالة.
فلم يسمع المعتمد منه ذلك، وأمر نحرير أن يخرجه، فيقطع يده، فأخرج، وما منا إلا من آلمه قلبه عليه، لملاحة وجهه، وصغر سنه، وليس منا من يجسر على مسألة المعتمد فيه ونحن قيام سكوت.
حتى صرخ المعتمد على الله من يده صراخاً عظيماً، وتأوه، وقال: قد دخل شيء في أصبعي الساعة، وزاد الألم عليه، وجيء بمن رآها، فأحضر منقاشاً، فأخرجت من إصبعه شظية من قصب كالشعرة، فما ندري مم يتعجب، من صغرها ؟ أو من دخولها في لحمه مع ضعفها ؟، أو من شدة إيلاما إياه ؟ ومن كونها فوق الديباج ساعة طرح ونفض.
فلما استراح، قال: يا قوم، إن كان هذا القدر اليسير قد آلمني هذا الألم الكثير، فما حال هذا الصبي الذي أمرنا بقطع يده ؟.
قلنا: أسوأ حال وأشدها، فيجب أن تجعل العفو عنه شكراً لما كفيته.
فقال: ابعثوا إلى نحرير من يلحقه، فإن كان لم يقطعه، منع من قطعه.
فتسابق الغلمان، فلحقوه، والزيت يغلي، وقد مدت يده لتقطع، فخلوه، وسلم.
مروءة عدي بن الرقاع العامليأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثنا أحمد بن جرير، عن محمد بن سلام، قال: عزل الوليد بن عبد الملك عبيدة بن عبد الله بن عبد الرحمان عن الأردن، وضربه، وحلقه، وأقامه للناس.
وقال للموكلين به: من أتاه متوجعاً، وأثنى عليه، فأتوني به.
فأتاه عدي بن الرقاع العاملي، وكان عبيدة محسناً إليه، فوقف عليه، وأنشأ يقول:

وما عزلوك مسبوقاً ولكن ... إلى الغايات سبّاقاً جوادا
وكنت أخي وما ولدتك أمّي ... وصولاً باذلاً لا مستزادا
فقد هيضت بنكبتك القدامى ... كذاك اللّه يفعل ما أرادا
فوثب الموكلون به، فأدخلوه إلى الوليد، وأخبروه بما جرى.
فتغيظ عليه الوليد، وقال له: أتمدح رجلاً قد فعلت به ما فعلت ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، إنه كان إلي محسناً، ولي مؤثراً، ففي أي وقت كنت أكافئه بعد هذا اليوم؟.
قال: صدقت، وكرمت، وقد عفوت عنك، وعنه لك، فخذه وانصرف.
فانصرف به إلى منزله.

غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية
أخبرني محمد بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي غسان البصري، قال: حدثنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلام.
قال محمد بن الحسن، وأخبرني علي بن الحسين الأصبهاني، قال: أخبرني عبد العزيز بن أحمد، عم أبي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثتني كلما بنت عبد العزيز بن موله، قالت: كان عامر بن الطفيل، فارس قيس، وكان عقيماً، وكان أعور.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم، قد رمي منه، ومن أربد، أخي لبيد بن ربيعة، بما أهمه عليه السلام.
وذلك إنهما أتياه، فلقيهما، فوسد عامراً وسادة، وقال: اسلم يا عامر.
قال: على أن تجعل لي الوبر، ولك المدر، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فعلى أن تجعلني الخليفة بعدك، إن أنا أسلمت.
قال: لا.
قال: فما الذي تجعل لي ؟ قال: أعنة الخيل، تقاتل عليها في سبيل الله.
قال: أو ليست أعنة الخيل بيدي اليوم ؟، وولى عامر مغضباً وهو يقول: لأملأنها عليك خيلاً جرداً، ورجالاً مرداً، ولأربطن على كل نخلة فرساً.
وقال عامر لأربد: إما أن تقتله، وأكفيكه، وإما أن أقتله، وأكفنيه.
قال أربد: اكفنيه، وأنا أقتله.
فانصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عامر: إن لي إليك حاجة.
قال: اقترب.
فاقترب، حتى حنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسل أربد سيفه، وأبصر رسول الله بريقه، فتعوذ منه بآية من كتاب الله تعالى، فأعاذه الله منه، ويبست يده على السيف، فلم يقدر على شيء.
فلما رأى عامر أربد لا يصنع شيئاً، انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال لأربد: ما منعك منه ؟.
قال: إني لما سللت بعض سيفي، يبست يدي، فوالله ما قدرت على سله.
قال ابن سلام: وذكر بعضهم أنه قال: لما أردت سل سيفي، نظرت فإذا فحل من الإبل، قطم، فاغرفاه، بين يديه، يهوي إلي، فوالله، لو سللته، لخفت أن يبتلع رأسي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم أرحني منهما، واكفنيهما.
فأما أربد، فأرسل الله تعالى عليه صاعقة، فأحرقته.
وأما عامر فطعن في عنقه، فأخذته غدة كغدة الجمل، فلجأ إلى بيت امرأة من سلول.
فلما غشيه الموت، جعل يقول: غدة كغدة البعير، وموت في بيت سلولية ؟ ثم مات.
وفي أربد، نزل قوله تعالى: " ويرسل الصواعق، فيصيب بها من يشاء، وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحال " .
وفي أربد يقول لبيد أخوه:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماء والأسل
أفجعني الرّعد والصواعق بال ... فارس يوم الكريهة النجل
خرج ليغير فوقع على زيد الخيلأخبرني محمد بن الحسن، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد، قال: حدثنا ابن دريد، بإسناد ذكره عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي، قال: أخبرني شيخ من بني شيبان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة.
وقال لهم: كونوا قريباً من الملك يصيبكم من خيره، إلى أن أرجع إليكم.
وخرج على وجهه لما قد حل به، يؤمل أن يكسب ما يعود به على عياله، وقد جهده الفقر، وبلغ به الطوى.
فحدث، قال: مشيت يوماً وليلة، بحيث لا أدري إلى أين أتوجه، غير أني أجوب في البلاد.
فلما كان من الغد عشاءً، إذا بمهر مقيد حول خباء، فقلت: هذا أول الغنيمة.
فحللته، فلم أذهب إلا قليلاً، حتى نوديت: خل عن المهر، وإلا اختلجت مهجتك.
قال: فنزلت عنه، وتركته، ومضيت وقد تحيرت في أمري، واغتممت غماً شديداً.
فسرت سبعة أيام، حتى انتهيت إلى موضع عطن أباعر، مع تطفيل الشمس، فإذا خباء عظيم، وقبة من أدم.

فقلت: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل.
فنظرت في الخباء فإذا شيخ قد اختلفت ترقوتاه، وكأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس، إذا أنا بفارس قد أقبل، لم أر قط فارساً أجمل منه، ولا أجسم، على فرس عظيم، ومعه أسودان يمشيان إلى جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركن حوله.
ونزل الفارس، وقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ.
قال: فحلب في عس حتى ملأه، ثم جاء به فوضعه بين يدي الشيخ، وتنحى.
فكرع منه مرة، أو مرتين، ثم نزع، فثرت، فشربته.
فرجع العبد، فأخذ العس، فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره.
قال: ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم جاء بالعس، فوضعه بين يدي الشيخ.
فكرع منه كرعة واحدة، ثم نزع فثرت إليه، فشربت نصفه، وكرهت أن أتهم، إن أتيت على آخره.
ثم جاء العبد، وأخذ العس، وقال: يا مولاي، قد شرب.
قال: دعه، ثم أمر بشاة، فذبحت، وشوى للشيخ منها، وأكل هو وعبداه.
فأمهلت حتى ناموا، وسمعت الغطيط، فثرت إلى الفحل، فحللت عقاله، ثم ركبته، فاندفع بي، واتبعته الابل، فسللتها ليلتي كلها حتى أصبحت.
فلما أسفر الصبح، نظرت فلم أر أحداً، فسللتها سلا عنيفاً، حتى تعالى النهار، فالتفت التفاتة، فإذا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي البارحة.
فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل.
فدنا مني، وقال: حل عقاله.
فقلت: كلا - والله - لقد أضر بي الجهد، وخلفت نسيات، وصبية بالحيرة، وآليت أن لا أرجع إليهن إلا بعد أن أفيدهن خيراً، أو أموت.
قال: فإنك ميت، حل عقاله.
قلت: هوذاك.
قال: إنك لمغرور، أنصب لي خطامه، وفي خطامه خمس عجر، فنصبته.
قال: أين تريد أن أضع سهمي ؟.
قلت: في هذا الموضع.
قال: فكأنما وضعه بيده، حتى والى بين خمسة أسهم.
قال: فرددت نبلي، ودنا هو، فأخذ القوس والسيف.
وقال: ارتدف خلفي، ففعلت.
فقال لي، وقد عرف أني أنا الذي شربت اللبن عند الشيخ: ما ظنك بي ؟ قلت: أحسن الظن، مع ما لقيت مني من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي.
فقال: أترى كنا يلحقك منا سوء، وقد بت تنادم مهلهلاً ليلتك.
قلت: زيد الخيل أنت ؟.
قال: نعم، أنا زيد الخيل.
قلت: كن خير آخذ.
قال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان به، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لابنة مهلهل، فأقم عندي، فإني على شرف غارة.
فأقمت أياماً، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير.
فقال: هذه أحب إليك، أم تلك ؟ فقلت: هذه، فأعطانيها.
قال: فقلت: ابعث معي خفراء، ففعل.
وعدت إلى وطني، وفرج الله بكرمه عني، وأصلح حالي.
منع الله سواراً من الطعام والشراب وجاء به حتى أقعده بين يديك
ذكر محمد بن إسحاق بن أبي العشير، عن إسحاق بن يحيى بن معاذ، وقال: حدثني سوار، صاحب رحبة سوار، قال: انصرفت من دار المهدي، فلما دخلت منزلي، دعوت بالغداء، فحاشت نفسي، فأمرت به فرد.
ثم دعوت بالنرد، ودعوت جارية لي ألاعبها، فلم تطب نفسي بذلك، ودخلت القائلة، فلم يأخذني النوم.
فنهضت، وأمرت ببغلة لي شهباء، فأسرجت، فركبتها، فلما خرجت استقبلني وكيل لي ومعه ألفا درهم.
فقلت له: ما هذا ؟.
فقال: ألفا درهم، جبيتها من مستغلك الجديد.
قال: قلت: أمسكها معك، واتبعني.
قال: ومضيت، وخليت رأس البغلة، حتى عبرت الجسر، ثم مضت بي في شارع دار الرقيق، حتى انتهيت إلى الصحراء، ثم رجعت إلى باب الأنبار، فطوفت، فلما صرت في شارع باب الأنبار، انتهيت إلى باب دار لطيف، عنده شجرة، وعلى الباب خادم، فوقفت، وقد عطشت.
فقلت للخادم: أعندك ما تسقينيه ؟.
قال: نعم فأخرج قلة نظيفة طيبة الريح، عليها منديل، فناولنيها، فشربت.
وحضر وقت العصر، فدخلت مسجداً، فصليت فيه، فلما قضيت صلاتي، إذا أنا بأعمى يتلمس.
قلت: ما تريد يا هذا ؟.
قال: إياك أريد.
قلت: وما حاجتك ؟.
فجاء، حتى قعد إلي، فقال: شممت منك رائحة الطيب فتخيلت أنك من أهل النعمة، فأردت أن ألقي إليك شيئاً.
فقلت: قل.
قال: أترى هذا القصر ؟.
قلت: نعم.

قال: هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان، وخرجت معه، فزالت عنا النعمة التي كنا فيها، فأتيت صاحب الدار، لأسأله شيئاً يصلني به فإني في ضنك شديد، وضغطة عظيمة، ورزوح حال قبيح، وأصير إلى سوار، فإنه كان صديقاً لأبي.
قلت: ومن أبوك ؟.
قال: فلان بن فلان، فإذا أصدق الناس - كان - لي.
فقلت: يا هذا، إن الله قد أتاك بسوار، منعه الطعام والشراب والنوم، حتى جاء به فأقعده بين يديك.
ثم دعوت الوكيل، وأخذت منه الألفي درهم، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان غداً، فصر إلي، إلى المنزل.
ثم مضيت، فقلت: ما أحدث المهدي، بشيء أطرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فحدثته بالحديث، فأعجب به، وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت.
فقال لي: ادفعها إليه.
قال: فنهضت، فقال لي: اجلس، أعليك دين ؟.
قلت: نعم.
قال: كم مبلغه ؟.
قلت: خمسون ألف دينار.
فقال: تحمل إليك، فاقض بها دينك، فقبضتها.
فلما كان من الغد، أبطأ علي المكفوف، وأتاني رسول المهدي، يدعوني، فجئته.
فقال: فكرت في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى الحيلة والقرض، وقد أمرت لك بخمسين ألف دينار أخرى.
قال: فقبضتها، وانصرفت، فجاءني المكفوف، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزق الله خيراً كثيراً، وأعطيته من مالي ألفي دينار أخرى، فقبض أربعة آلاف دينار، ودعا لي، وقال: والله، ما ظننت أني أصل منك، ولا من أحد من أهل هذه البلاد، إلى عشر هذا المال، فجزاك الله خيراً.

عروة بن أذينة يفد على هشام بن عبد الملك
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثنا محمد بن جرير الطبري، عن يحيى بن عروة بن أذينة، قال: أضاق أبي، إضاقة شديدة، وتعذرت عليه الأمور، فعمل شعراً امتدح به هشام بن عبد الملك.
ودخل عليه في جملة الشعراء، فلما دخلوا عليه، نسبهم، فعرفهم جميعاً وقال لأبي: أنشدني قولك: لقد علمت ....، فأنشده:
لقد علمت وما الإشراف من خلقي ... أنّ الّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو جلست أتاني لا يعنّيني
وأيّ حظّ امرئٍ لا بدّ يبلغه ... يوماً ولا بدّ أن يحتازه دوني
لا خير في طمع يهدي إلى طبعٍ ... وعلقة من قليل العيش تكفيني
لا أركب الأمر تزري بي عواقبه ... ولا يعاب به عرضي ولا ديني
أقوم بالأمر إمّا كان من أربي ... وأكثر الصمت فيما ليس يعنيني
كم من فقير غنيّ النّفس تعرفه ... ومن غنيّ فقير النّفس مسكين
وكم عدوّ رماني لو قصدت له ... لم يأخذ البعض منّي حين يرميني
وكم أخ لي طوى كشحاً فقلت له ... إنّ انطواءك عنّي سوف يطويني
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ... ولا ألين لمن لا يبتغي ليني
فقال هشام: ألا جلست في بيتك، حتى يأتيك رزقك ؟.
قال: وغفل عنه هشام، فخرج من وقته، وركب راحلته، ومضى منصرفاً.
فافتقده هشام، فسأل عنه، فعرف خبره، فأتبعه بجائزة.
فمضى الرسول، فلحقه على ثلاثة فراسخ، وقد نزل على ماء يتغدى عليه.
فقال له: يقول لك أمير المؤمنين: أردت أن تكذبنا، وتصدق نفسك ؟ هذه جائزتك.
فقال: قل له: قد صدقني الله، وأتاني برزقي بحمده.
قال يحيى: وفرض له فريضتين، كنت في إحداهما.
أبو أيوب المورياني يجيز ابن شبرمة بخمسين ألف درهمقرئ على أبي بكر الصولي، وأنا أسمع، في المسجد الجامع بالبصة، حدثكم الغلابي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن ميثم، وقد كان جاز المائة سنة، قال: سمعت ابن شبرمة، يقول: زوجت ابني على ألفي درهم، وما هي عندي، فطولبت بها، فصرت إلى أبي أيوب المورياني، فقلت له: إني اخترتك لحاجتي، وعرفته خبري، فأمر لي بألفي درهم، فشكرته وقمت.
فقال: اجلس، ألا تريد خادماً ؟.
قال: فقلت: إن رزق الله.
قال: وهذه ألفان لخادمك، ألا تريد نفقة ؟ ألا تريد كذا ؟، وجعل يعدد ويعطيني.
حتى قمت على خمسين ألف درهم، وصلني بها.
ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، هذا الخبر، بلا إسناد، على قريب من هذا.
الواثق يطرد أحمد بن الخصيب من حضرته ثم يعفو عنه

حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الكاتب، وكان يعرف بالديناري، لما بين أبيه الحسن بن رجاء، وبين دينار بن عبد الله، من القرابة، فإنهما كانا ابني خالة، على ما أخبرني، قال: حدثني أبو عيسى محمد بن سعيد الديناري الكاتب، جد أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن مقلة لأمه، قال: لما تخلص أبو أيوب سليمان بن وهب، من نكبة المعتمد، وكنت أكتب له، وجلس في منزله، أمرني أن أكتب إلى العمال الذين ضياعه في أعمالهم، كتباً أعرفهم فيها رجوع الخليفة له، وتبينه باطل ما أنهي إليه، وحمل به عليه، وأخاطبهم عنه في أمر ضياعه وأسبابه.
فكتبت نسخة، قلت فيها: إن أمير المؤمنين - أعزه الله - لما وقف على تمويه من موه عليه في أمرنا، فعل وصنع.
فلما وقف على هذا الفصل، خط على هذا الحرف، وأبدله بغيره، ولم يغير في النسخة سواه.
وقال لي: إذا فرغت من تحرير الكتب، فأذكرني بالتمويه، أحدثك بما كرهته له.
قال: فحررت الكتب، فلما خلا، سألته: لم ضرب على التمويه ؟، فقال: نعم لما غضب علي الواثق، وعلى أحمد بن الخصيب، بسبب إيتاخ، وأشناس، كانت موجدته علينا بسبب واحد، وحبسه لنا في معنى واحد، فمكثنا في الحبس والقيد، إلى أن كلم فينا، فأمر بإحضارنا.
فقلت لأحمد بن الخصيب: قد دعانا، وأظن أنه سيوبخنا، ويعدد علينا ما قرفنا به عنده، ليخرج ما في نفسه، فيعظم منته علينا، بما يأتيه من إطلاقنا، وأعرف عجلتك، وتسرعك إلى ما يضرك، وكأني بك حين يبتدئ بتقريعنا، قد قطعت كلامه، وأنحيت عليه بلسانك ويديك، فأنشأت لنا استئناف غضب وموجدة، وأكسبتنا شراً مما قد أملنا الخلاص منه.
فقال لي: فما أعمل ؟.
قلت: لست أحسبك تتهمني على نفسي ولا عليك، ولا تشك أننا حبسنا لقضية واحدة، فولني جوابه، وأعرني سكوتك، ودعني أرفق به، وأخدعه بما تخدع به الملوك، فلعلنا نتخلص من المكروه الذي نحن فيه.
قال: أفعل.
فاستحلفته على ذلك، فحلف لي.
فلما دخلنا الصحن، وجدنا الخليفة يستاك، وبين يديه طست ذهب، وإبريق ذهب، بيد فراش قائم، وبيد الخليفة مسواك طوله ذراعان.
فلما رآنا، قال: أحسنت إليكما، واصطنعتكما، فخنتماني، وكفرتما نعمتي، وفعلتما، وصنعتما.
فكأني - والله - إنما أوصيت أحمد بن الخصيب، ألا يدعه ينطق.
فقال له، وقد رفع يديه في وجهه: لا والله يا أمير المؤمنين، ما بلغك عنا الحق، ولا فعلنا شيئاً مما سعي بنا، ولقد موه عليك في أمرنا.
فقال: إنما يموه على غبي مثلك، فأومأت إليه بعيني، فأمسك بعض الإمساك.
وعاد الواثق يتمم كلامه، ويعدد علينا نعمه ومننه، فما ملك أحمد نفسه، أن رفع يده، وقال: والله يا أمير المؤمنين، ما كفرنا نعمتك، ولا فعلنا، ولا صنعنا، إنما موه على أمير المؤمنين في أمرنا.
فقال: يا جاهل، قد عدت لها، إنما يجوز التمويه على أحمق مثلك، وأومأت إليه بعيني، فأمسك.
وعاد الواثق في كلامه، فما انضبط أحمد أن رد قوله، وجاء بالتمويه.
فحين سمعها الواثق، انقلبت عيناه في أم رأسه، واستشاط غضباً، وأغلظ له في الشتم، وحذفه بالمسواك، فلولا أنه زاغ عنه، لهشم وجهه، وأعمى عينه.
ثم قال: يا غلمان، أخرجوه إلى لعنة الله، فأخرج أخزى خلق الله.
ونالني من الجزع، والغم، والحيرة في أمره، أمر عظيم، ولم أدر، أقف، أم أمضي، وخفت إن وقفت، أن يقول: ما وقوفك بين يدي، وقضيتكما واحدة، وإن مضيت أن نرد جميعاً إلى الحبس، فرجعت أتقهقر عن موضعي قليلاً، كأني أريد الخروج.
فقال لي: مكانك أنت يا سليمان، هب هذا على ما هو عليه، أنت أيضاً، تنكر أنك فعلت كذا، وصنعت كذا ؟.
فوجدت السبيل إلى ما أردت، فلم أزل أعترف، وألزم نفسي الجناية، وأديم الخضوع والاستعطاف، وأسأل الصفح والإقالة، إلى أن قال: قد عفوت عنك، فقبلت الأرض، وبكيت.
فقال: إخلعوا عليه، وأصرفوه إلى منزله، وليلزم الدار على عادته ورسمه.
فلما وليت، قال: وذلك الكلب، قد كنت أردت العفو عنه، فأخرجني عن حلمي سوء أدبه، فاخلعوا عليه أيضاً.
فخرجت، وإذا بأحمد في بعض الممرات، فعرفته الخبر، ثم قلت له: يا هذا كدت أن تأتي علينا، أرأيت أحداً يكرر على الخليفة لفظة قد كرهها، وأنكرها، ثلاث مرات ؟ أو ما علمت أن التمويه في الحقيقة ضرب من السخرية ؟ قال: فلم يخرج من قلبي فزع التمويه، من ذلك الوقت، إلى الآن.

غضب الرشيد على مروان بن أبي حفصة لمدحه معن بن زائدة وضربه مائة سوط
حدثني عبد الله بن عمر بن الحارث الواسطي السراج، المكفوف المعروف بأبي أحمد الحارثي، قال: حدثنا ابن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: بعث إلي الرشيد في وقت لم تكن عادته أن يستدعيني في مثله، وجاءني الرسول بوجه منكر، فأحضرني إحضاراً عنيفاً منكراً مستعجلاً، فوجلت وجلاً شديداً، وخفت، وجزعت.
فدخلت، فإذا الرشيد على بساط عظيم، وإلى جانبه كرسي خيزران، عليه جويرية خماسية، فسلمت، فلم يرد علي، ولا رفع رأسه إلي، وجعل ينكت الأرض بإصبعه.
فقلت: سعي بي عنده بباطل، يهلكني قبل كشفه، وأيست من الحياة.
فرفع رأسه، وقال: يا أصمعي، ألا ترى الدعي بن الدعي، اليهودي، عبد بني حنيفة، مروان بن أبي حفصة، يقول لمعن بن زائدة، وإنما هو عبد من عبيدنا:
أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مقاماً لا نريد به زيالا
وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
وكان النّاس كلّهم لمعنٍ ... إلى أن زار حفرته عيالا
فقال: إن النوال قد ذهب، مع بقائنا، فما يصنع بنا إذن ؟، ولم يرض حتى جعلني وخاصتي، عيالاً لمعن، والله، لأفعلن به ولأصنعن.
فقلت: يا أمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه، أو العفو عنه.
فقال: علي بمروان، فدخل عليه.
فقال: السياط، فأخذ الخدم يضربونه بها، وهو يصيح: يا أمير المؤمنين، ما ذنبي ؟ يا أمير المؤمنين، استبقني، إلى أن ضرب أكثر من مائة سوط.
فقال: يا أمير المؤمنين، اعف عني، واذكر قولي فيك، وفي آبائك.
فقال: يا غلام، كف عنه، ثم قال: ما قلت، يا كلب ؟.
فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
هل تطمسون من السماء نجومها ... بأكفّكم أم تسترون هلالها
أم تدفعون مقالة عن ربّه ... جبريل بلّغها النّبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آيةٍ ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادراً في غيلها ... لا تولغنّ دماءكم أشبالها
قال: فأمر بإطلاقه، وأن يدفع إليه ثلاثون ألف درهم.
فلما خرج، قال: يا أصمعي تدري من هذه الصبية ؟.
قلت: لا أدري.
قال: هذه مؤنسة بنت أمير المؤمنين، فدعوت له ولها، وتأملته، فإذا هو شارب ثمل.
قال: قم فقبل رأسها.
فقلت: أفلت من واحدة، ودفعت إلى أخرى أشد منها، إن أطعته أدركته الغيرة فقتلني، وإن عصيته قتلني بمعصيتي له، فلما أحب الله عز وجل من تأخير أجلي، ألهمني أن وضعت كمي على رأسها، وقبلت كمي.
فقال: والله يا أصمعي، لو أخطأتها لقتلتك، أعطوه عشرة آلاف درهم، والحق بدارك.
فخرجت وأنا ما أصدق بالسلامة، فكيف بالحباء والكرامة.
أمدح بيت قالته العربقال المفضل بن محمد الضبي: أصبحت يوماً ببغداد، في خلافة المهدي، وأنا من أشد الناس إضاقة وضراً، لا أدري ما أعمل، حيرة وفكراً.
فخرجت، فجلست على باب منزلي بالصراة، أفكر فيما أصنع، فإذا أنا برسول المهدي، قد وقف علي.
فقال: أجب أمير المؤمنين، فراعني، وساء ظني.
فقلت: أدخل، فألبس ثيابي.
فقال: ما إلى ذلك سبيل.
فاشتد جزعي، وخشيت أن يأخذني بما كان بيني وبين إبراهيم بن عبد الله ابن حسن بن حسن رضي الله عنهم.
فاستدعيت ثيابي، وجددت وضوءاً على الباب، ولم أخبر أهلي بقصتي، ولا بما هجم من الغم علي.
وقلت: إن كان خيراً أو شراً، فسيبلغهم، فما معنى تعجيل الهم لهم.
ومضيت مع الرسول، حتى دخلت على المهدي، وأنا في نهاية الجزع، فسلمت، فرد علي السلام.
فقلت في نفسي: ليس إلا خيراً.
فقال: اجلس يا مفضل، فجلست.
فقال: أخبرني عن أمدح بيت قالته العرب.
فتبلدت ساعة، لا أذكر شيئاً، ثم أجرى الله على لساني، أن قلت: قول الخنساء.
فأشرق وجهه، وقال: حيث تقول ماذا ؟.
فقلت: حيث تقول:
وإنّ صخراً لوالينا وسيّدنا ... وإنّ صخراً إذا نشتو لنحّار
وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنّه علم في رأسه نار
فاستبشر به، وقال: قد أخبرت هؤلاء بهذا، وأومأ إلى جماعة بين يديه، فلم يقبلوا مني.
قلت: كان أمير المؤمنين، أحق بالصواب منهم.
قال: يا مفضل، حدثني الآن.

قلت: أي الأحاديث ؟.
قال: أحاديث الأعراب فلم أزل أحدثه، بأحسن ما أحفظ منها، إلى أن كاد المنادي بالظهر أن ينادي.
ثم قال لي: كيف حالك يا مفضل ؟.
قلت: ما يكون حال رجل عليه عشرون ألف درهم ديناً حالاً، وليس في رزقه فضل لقضائها، وقصصت عيه قصة حالي ويومي في الإضافة.
فقال: يا عمر بن بزيع، ادفع إليه الساعة، عشرين ألف درهم يقضي بها دينه، وعشرين ألف درهم يصلح بها حاله، وعشرين ألف درهم يجهز بها بناته، ويوسع بها على عياله.
ثم قال: يا مفضل، ما أحسن ما قال ابن مطير، في مثل حالك:
وقد تغدر الدنيا فيضحي غنيّها ... فقيراً ويغنى بعد بؤس فقيرها
وكم قد رأينا من تكدّر عيشة ... وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها
فأخذت المال، وانصرفت إلى بيتي بستين ألف درهم، بعد الإياس، وتوطين النفس على ضرب الرقبة.

بين الأصمعي والبقال الذي على باب الزقاق
وجدت في بعض الكتب عن الأصمعي، قال: كنت بالبصرة، أطلب العلم، وأنا مقل، وكان على باب زقاقنا بقال، إذا خرجت باكراً يقول لي: إلى أين ؟ فأقول: إلى فلان المحدث، وإذا عدت مساء، يقول لي: من أين ؟ فأقول: من عند فلان الأخباري، أو اللغوي.
فيقول: يا هذا، اقبل وصيتي، أنت شاب، فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب، حتى أطرحها في الدن، وأصب عليها من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وأنظر ما يكون منه، والله، لو طلبت مني، بجميع كتبك، جرزة بقل، ما أعطيتك.
فيضيق صدري بمداومته هذا الكلام، حتى كنت أخرج من بيتي ليلاً، وأدخله ليلاً، وحالي - في خلال ذلك - تزداد ضيقاً، حتى أفضيت إلى بيع آجر أساسات داري، وبقيت لا أهتدي إلى نفقة يومي، وطال شعري، وأخلق وبي، واتسخ بدني.
فأنا كذلك، متحيراً في أمري، إذ جاءني خادم للأمير محمد بن سليمان الهاشمي، فقال: أجب الأمير.
فقلت: ما يصنع الأمير برجل بلغ به الفقر إلى ما ترى ؟.
فلما رأى سوء حالي، وقبح منظري، رجع فأخبر محمد بن سليمان بخبري، وعاد إلي، ومعه تخوت ثياب، ودرج فيه بخور، وكيس فيه ألف دينار.
وقال: قد أمرني الأمير، أن أدخلك الحمام، وألبسك من هذه الثياب، وأدع باقيها عندك، وأطعمك من هذا الطعام، وإذا بخوان كبير فيه صنوف الطعمة، وأبخرك، لترجع إليك نفسك، ثم أحملك إليه.
فسررت سروراً شديداً، ودعوت له، وعملت ما قال، ومضيت معه، حتى دخلت على محمد بن سليمان، فسلمت عليه، فقربني، ورفعني.
ثم قال: يا عبد الملك، قد اخترتك لتأديب ابن أمير المؤمنين، فاعمل على الخروج إلى بابه، وانظر كيف تكون ؟.
فشكرته، ودعوت له، وقلت: سمعاً وطاعة، سأخرج شيئاً من كتبي وأتوجه.
فقال: ودعني، وكن على الطريق غداً.
فقبلت يده، وقمت، فأخذت ما احتجت إليه من كتبي، وجعلت باقيها في بيت، وسددت بابه، وأقعدت في الدار عجوزاً من أهلنا، تحفظها.
وباكرني رسول الأمير محمد بن سليمان، وأخذني، وجاء بي إلى زلال قد اتخذ لي، وفيه جميع ما أحتاج إليه، وجلس معي، ينفق علي، حتى وصلت إلى بغداد.
ودخلت على أمير المؤمنين الرشيد، فسلمت عليه، فرد علي السلام.
وقال: أنت عبد الملك بن قريب الأصمعي.
قلت: نعم، أنا عبد أمير المؤمنين بن قريب الأصمعي.
قال: إعلم، أن ولد الرجل مهجة قلبه، وثمرة فؤاده، وهوذا أسلم إليك ابني محمداً بأمانة الله، فلا تعلمه ما يفسد عليه دينه، فلعله أن يكون للمسلمين إماماً.
قلت: السمع والطاعة.
فأخرجه إلي، وحولت معه إلى دار، قد أخليت لتأديبه، وأخدم فيها من أصناف الخدم، والفرش، وأجرى علي في كل شهر عشرة آلاف درهم، وأمر أن تخرج إلي في كل يوم مائدة، فلزمته.
وكنت مع ذلك، أقضي حوائج الناس، وآخذ عليها الرغائب، وأنفذ جميع ما يجتمع لي، أولاً، فأولاً، إلى البصرة، فأبني داري، وأشتري عقاراً، وضياعاً.
فأقمت معه، حتى قرأ القرآن، وتفقه في الدين، وروى الشعر واللغة، وعلم أيام الناس وأخبارهم.
واستعرضه الرشيد، فأعجب به، وقال: يا عبد الملك، أريد أن يصلي بالناس، في يوم الجمعة، فاختر له خطبة، فحفظه إياها.
فحفظته عشراً، وخرج، فصلى بالناس، وأنا معه، فأعجب الرشيد به، وأخذه نثار الدنانير والدراهم من الخاصة والعامة، وأتتني الجوائز والصلات من كل ناحية، فجمعت مالاً عظيماً.

ثم استدعاني الرشيد، فقال: يا عبد الملك، قد أحسنت الخدمة، فتمن.
قلت: ما عسى أن أتمنى، وقد حزت أماني.
فأمر لي بمال عظيم، وكسوة كثيرة، وطيب فاخر، وعبيد، وإماء، وظهر، وفرش، وآلة.
فقلت: إن رأى أمير المؤمنين، أن يأذن لي في الإلمام بالبصرة، والكتاب إلى عامله بها، أن يطالب الخاصة والعامة، بالسلام علي ثلاثة أيام، وإكرامي بعد ذلك.
فكتب إليه بما أردت، وانحدرت إلى البصرة، وداري قد عمرت، وضياعي قد كثرت، ونعمتي قد فشت، فما تأخر عني أحد.
فلما كان في اليوم الثالث، تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال، وعليه عمامة وسخة، ورداء لطيف، وجبة قصيرة، وقميص طويل، وفي رجله جرموقان، وهو بلا سراويل.
فقال: كيف أنت يا عبد الملك ؟.
فاستضحكت من حماقته، وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد.
وقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك، وجمعت ما عندي من الكتب، وطرحتها في الدن، كما أمرت، وصببت عليها من الماء للعشرة أربعة، فخرج ما ترى.
ثم أحسنت إليه بعد ذلك، وجعلته وكيلي.
المنذر بن المغيرة الدمشقي أحد صنائع البرامكة قال مسرور الكبير: استدعاني المأمون، فقال لي: قد أكثر علي أصحاب أخبار السر، أن شيخاً يأتي خرائب البرامكة، فيبكي وينتحب طويلاً، ثم ينشد شعراً يرثيهم به، وينصرف، فاركب أنت وأيوب الخادم، والأصمعي، ودينار بن عبد الله، واستترا بالجدران، فإذا جاء الشيخ، فأمهلاه، حتى تشاهدان ما يفعل، وتسمعان ما يقول، فإذا أراد الانصراف، فاقبضا عليه، وأتياني به.
قال مسرور: فركبت أنا ودينار وأيوب الخادم مغلسين، فأتينا الموضع، فاختفينا فيه، وأبعدنا الدواب.
فلما كان آخر الليل، إذا بخادم أسود قد أقبل، ومعه كرسي حديد، فطرحه، وجاء على أثره كهل، فجلس على الكرسي، وتلفت يميناً وشمالاً، فلم ير أحداً، فبكى وانتحب، حتى قلت: قد فارق الدنيا، وأنشأ يقول:
أما واللّه لولا خوف واشٍ ... وعينٍ للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا ... كما للنّاس بالحجر استلام
ثم بكى طويلاً، وأنشأ يقول:
ولما رأيت جلل جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وزاد تأسّفي ... عليها وقلت الآن لا تنفع الدنيا
وذكر أبياتاً طويلة، لا تدخل في كتابي هذا، فأرويها.
قال: فلما فرغ من إنشاده وقام، قبضنا عليه، فقال: ما تريدون ؟.
قلت: هذا دينار بن عبد الله، وهذا أيوب الخادم بالحرم، وهذا عبد الملك بن قريب الأصمعي، وأنا مسرور خادم أمير المؤمنين، وهو يستدعيك.
فأبلس، ثم قال: إني لا آمنه على نفسي فامهلاني حتى أوصي.
فقلت: شأنك وما تريد، فقام، وسار، ونحن معه، حتى أتى بعض دكاكين العلافين، بفرضة الفيل.
فاستدعى دواةً وبياضاً، وكتب فيها وصيته، ودفعها إلى الخادم الذي كان معه، وأنفذه إلى منزله، وسرنا به، حتى أدخلناه على المأمون، فلما مثل بين يديه، زبره، وانتهره.
ثم قال له: من أنت ؟ وبم استحق منك البرامكة ما تصنع في دورهم وخراباتهم ؟.
فقال: غير هائب، ولا محتشم: يا أمير المؤمنين، إن للبرامكة عندي أياد، فإن أمر أمير المؤمنين حدثته بإحداها.
فقال: هات.
قال: أنا المنذر بن المغيرة الدمشقي، من ذوي الحسب، نشأت في ظل نعم قديمة، فزالت عني، كما تزول النعم عن الناس، حتى أفضيت إلى بيع مسقط رأسي وروس آبائي، وأملقت حتى لا غاية، فأشير علي بقصد البرامكة.
فخرجت من الشام إلى بغداد، ومعي نيف وعشرون امرأة وصبياً وصبية، فدخلت بهم مدينة السلام، فأنزلتهم في مسجد.
ثم عمدت إلى ثويبات كنت قد أعددتها للقاء الناس، والتذرع بها للبرامكة، فلبستها، وسلكت الطريق، لا أدري أين أقصد، وكنت كما قيل:
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراءه
فلما قال ذلك، بكى المأمون، فقال له مسرور: أقصر يا رجل، فقد أتعبت أمير المؤمنين بوصفك.
فقال له المأمون: دعه يتحدث بما يريد.

قال: نعم، وتركت عيالي جياعاً لا نفقة لهم، ولا معهم ما يباع، فأفضيت إلى مسجد مزخرف، فيه جمع شيوخ، بأحسن زي، وأجمل هيأة، فطمعت في مخاطبتهم، فصعدت إلى المسجد، فجلست معهم، لم أزد على السلام، وجعلت أردد في صدري كلاماً أخاطبهم به، فيحصرني التشور، ويخجلني ذل المسألة، ويحبسني عن الكلام، وأتصبب عرقاً، حياءً وخوفاً من أن يقال لي: من أنت، وما تريد ؟ وما يمكنني الجواب، ولا أدري ما أخاطبهم به، إذ لم تكن لي عادة بالخوض في مثله.
فأنا كذلك، إذ جاء خادم فاستدعى القوم، فقاموا، وقمت معهم، ومضينا، فأدخلوا داراً ذات دهليز طويل، فدخلت معهم، وأفضينا إلى صحن واسع، وإذا شيخ بهي، فإذا هو يحيى بن خالد، على دكة أبنوس في صحن الدار، في وسط البستان، وله ميدان عنده بركة، وقد نصب عليها كراسي أبنوس.
وأقبل القوم، فجلسوا، وجلست معهم، وتأمل الخدم القوم وعددهم، فإذا نحن مائة رجل ورجل، فدخل الخدم وغابوا، ثم خرج مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم مجمرة من ذهب، فيها قطعة كالفهر من عنبر، والخدم بأفخر الثياب، عليهم مناطق الذهب المرصعة بالجوهر، وهم يطيفون بغلام، حين اخضر شاربه، حسن الوجه، فسجروا العنبر.
وأقبل يحيى على الزريقي القاضي، وقال: زوج ابن أخي هذا، بابنتي عائشة على صداق قدره مائة ألف درهم.
فخطب، وعقد النكاح، وأخذنا النثار من فتات المسك، وبنادق العنبر، وتماثيل الند الصغار، والتقط الناس، والتقطت.
ثم جاء مائة خادم وخادم، في يد كل واحد منهم صينية فضة فيها ألف دينار، مخلوطة بالمسك، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية.
فأقبلت الجماعة تكور الدنانير في أكمامها، وتأخذ الصواني تحت آباطها، وتنصرف، الأول، فالأول، حتى بقيت وحدي، لا أجسر على أخذ الصينية وما فيها، والأسف، والحاجة، يمنعاني أن أقوم وأدعها، وأنا مطرق، مفكر.
حتى ضاق صدري، فرفعت رأسي، فغمزني بعض الخدم على أخذها والقيام، فأخذتها وقمت، وأنا لا أصدق، وجعلت أمشي وأتلفت، خوفاً من أن يتبعني من يأخذها، ويحيى يلاحظني من حيث لا أعلم.
فلما قاربت الستر، رددت، فأيست من الصينية، فجئت - وهي معي - حتى قربت منه، فأمرني بالجلوس، فجلست.
فسألني عن حالي، وقصتي، ومن أنا، فصدقته، حتى إذا بلغت إلى تركي عيالي في المسجد، بكى.
ثم قال: علي بموسى، فجاء.
فقال: يا بني، هذا رجل من أبناء النعم، قد رمته الأيام بصروفها، والنوائب بحتوفها، فخذه، واخلطه بنفسك، واصطنعه.
فأخذني موسى إلى داره، فخلع علي من أفخر ثيابه، وأمر بحفظ الصينية لي، وقضيت على ذلك يومي وليلتي.
ثم استدعى أخاه العباس من الغد، وقال له: إن الوزير سلم إلي هذا الفتى، وأمرني فيه بكذا وكذا، وأريد أن أركب اليوم إلى دار أمير المؤمنين، فليكن عندك اليوم حتى أرتجعه غداً، فكان يومي عنده مثل أمسي.
وأقبلوا يتداولوني كل يوم، واحداً بعد واحد، وأنا قلق بأمر عيالي، إلا أنني لا أذكرهم إجلالاً لهم.
فلما كان في اليوم العاشر، أدخلت إلى الفضل بن يحيى، فأقمت في داره يومي وليلتي.
فلما أصبحت، جاءني خادم من خدمه، فقال: يا هذا قم إلى عيالك وصبيانك.
فقلت: إنا لله، لم أحصل لهؤلاء الصبيان على الأكل والشرب، والصينية وما فيها، وما حصلته من النثار، ذهب، فليت هذا كان من أول يوم، وكيف أتوصل الآن إلى يحيى، وأي طريق له إليه.
وتلاعبت بي الأفكار مخافة اليأس، وأظلمت الدنيا في عيني، وقمت أجر رجلي، والخادم يمشي بين يدي، حتى أخرجني من الدار، فازداد إياسي، وما زال يمشي بين يدي حتى أدخلني إلى دار كأن الشمس تطلع من جوانبها، وفيها من صنوف الفرش والأثاث والآلات، ما يكون في مثلها.
فلما توسطتها، رأيت عيالي أجمعين فيها، يرتعون في الديباج والشفوف، وقد حمل إليهم مائة ألف درهم، وعشرة آلاف دينار، والصينية والنثار، وسلم إلي الخادم، صك ضيعتين جليلتين.
وقال: هذه الدار، وما فيها، والضياع بغلاتها، لك.
فأقمت مع البرامكة في أخفض عيش، وأجل حال، حتى نزلت بهم النازلة.
ثم قصدني عمرو بن مسعدة في الضيعتين، فألزمني في خراجهما، ما لا يفي به دخلهما.
فلحقتني شدة عظيمة، فكلما لحقتني نائبة واشتدت بي بلية، قصدت دورهم ومنازلهم، فبكيتهم، ورثيتهم، وشكرتهم، ودعوت لهم، على ما كان منهم إلي، وشكوت ما حل بي بعدهم، فأجد لذلك راحة.

قال: فاستدعى المأمون عمرو بن مسعدة، فلما أتي به، قال له: أتعرف هذا الرجل ؟.
قال: يا أمير المؤمنين، هو بعض صنائع البرامكة.
فأمره ان يرد على الرجل، كلما استخرج منه، وأن يقرر خراجه على ما كان عليه أيام البرامكة وأن يجعل له ضيعة أخرى من جملة الإيغارات يكون دخلها له ويتخذ به سجلاً وأن يقضي حقه ويكرمه، فبكى الشيخ بكاءً شديداً.
فقال له المأمون: ألم أستأنف إليك جميلاً فما بكاؤك ؟.
فقال: بلى والله يا أمير المؤمنين، وزدت على كل فضل وإحسان، ولكن هذا من بركة الله، وبركة البرامكة علي، وبقية إحسانهم إلي، فلو لم آت خراباتهم، فأبكيهم، وأندبهم، حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين، ففعل بي ما فعل، من أين كنت أصل إلى أمير المؤمنين.
فقال له المأمون: إمض مصاحباً، فإن الوفاء مبارك، وحسن العهد من الايمان.

البرامكة
جاء في الفخري 197: إن دولة آل برمك، كانت غرة في جبهة الدهر، وتاجاً على مفرق العصر، فان يحيى وبنوه، كالنجوم زاهرة، والبحار زاخرة، والسيول دافقة، والغيوث ماطرة، أسواق الأدب عندهم نافقة، ومراتب ذوي الحرمات عندهم عالية، والدنيا في أيامهم عامرة، وأبهة المملكة ظاهرة، وهم ملجأ الضعيف، ومعتصم الطريد، وفيهم يقول أبو نؤاس:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمكٍ من رائحين وغاد
وقال الجاحظ: البرامكة محض الأنام، ولباب الكرام، وملح الأيام، عتق منظر، وجودة مخبر، وجزالة منطق، وسهولة لفظ، ونزاهة نفس، واكتمال خصال، العقد الفريد 5 - 28، وقال عنهم أيضاً: إن أيامهم كانت رياض الأزمنة وفيات الأعيان 3 - 474.
وقال محمد بن جميل الكاتب: كان البرامكة شفاء سقام دهرهم، وغياث جدب عصرهم، وما زالوا كهفاً للاجئين، ومفزعاً للملهوفين قطب السرور 63.
وقال القاضي التنوخي، في امتداح مجلس من مجالس الوزير المهلبي: كأنه من مجالس البرامكة نشوار المحاضرة القصة رقم 1 - 28.
وقال سليمان بن وهب، لشخص أحسن إليه: إنك قد فعلت ما لم تفعله البرامكة القصة 165 من هذا الكتاب.
وقال صالح، صاحب المصلى: إن الدهر لا يخلف مثل يحيى أبداً القصة 371 من هذا الكتاب.
وقال إسحاق الموصلي، في الفضل بن يحيى البرمكي، سبحان الذي خلق هذا الرجل، وجبله على كرم بذ به من مضى ومن غبر المحاسن والمساوئ 2 - 22.
وحلف إسحاق الموصلي، بالله الذي لا إله إلا هو: ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا أبلغ في المكاتبة الأغاني 4 - 325.
وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي والمأمون تاريخ الخلفاء 326.
وقال إبراهيم بن المهدي: ما رأيت أكمل من جعفر قط الأوراق للصولي، أشعار أولاد الخلفاء 34.
وأبو حيان التوحيدي، الذي كان كثير الغرام، بثلب الكرام معجم الأدباء 2 - 282 إذ لم يترك أحداً من رؤساء زمانه، إلا وشتمه، أثنى على البرامكة في كتابه أخلاق الوزيرين، فذكر أن معروفهم كان يسع الصغير والكبير، ويعم الغني والفقير أخلاق الوزيرين 489، ونقل في كتابه كذلك ما أورده محمد بن داود الجراح، في كتابه أخبار الوزراء، في الثناء عليهم، فقال: كان آل برمك أندى من السحاب أخلاق الوزيرين 380.
وفي محاضرات الأدباء 3 - 198: إن امرأة بجعفر بن يحيى، وقد صلب، فقالت: لئن صرت اليوم راية، لقد كنت بالأمس غاية.
وفي تحفة المجالس 179: إن البرامكة كانوا يقصدون من آفاق الأرض، وقال أعرابي قصدهم من اليمن: قصدت هؤلاء الأمجاد، الذين انتشر صيتهم في البلاد.
وكان للبرامكة من السخاء والكرم، ما لم يكن لأحد من الناس، وكانوا يخرجون بالليل سراً، ومعهم الأموال يتصدقون بها، وربما دقوا على الناس أبوابهم، فيدفعون إليهم الصرة، بين الثلاثة آلاف إلى الخمسة آلاف، أو الأكثر من ذلك، والأقل، وربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب، فكان الناس - لاعتيادهم ذلك - يعدون إلى العتب، إذا أصبحوا، يطلبون ما القي فيها المحاسن والمساوئ 1 - 150.
وقال فيهم الشاعر: وفيات الأعيان 4 - 35.
عند الملوك مضرّة ومنافع ... وأرى البرامك لا تضرّ وتنفع
إن كان شرّ كان غيرهم له ... والخير منسوب إليهم أجمع
وقال أبو نؤاس: وفيات الأعيان 5 - 59

إنّ البرامكة الكرام تعلّموا ... فعل الجميل فعلّموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى ... جعلوا لها طول البقاء لباسا
وقال أشجع السلمي، يذكر أيامهم: وفيات الأعيان 1 - 336
كأنّ أيّامهم من حسن بهجتها ... مواسم الحجّ والأعياد والجمع
وأصبح جود البرامكة، على تمادي الأيام، مضرب المثل، قال الجماز: جاءنا فلان، بمائدة، كأنها زمن البرامكة على العفاة زهر الأداب 2 - 3 والملح والنوادر 236.
والبغداديون، إلى وقتنا هذا، يذكرون البرامكة، ويصفون الرجل الكريم النفس، السخي اليد، بأنه: برمكي.
وعمت شهرة البرامكة بالجود، جميع أنحاء الدنيا، بحيث أن المقري في نفح الطيب 3 - 109 أمتدح أحد أمراء الموحدين بالأندلس، فوصفه بأن له حكايات في الجود برمكية.
وقد أنكر صاعد، وزير الموفق، ما يذكر عن البرامكة، وقال: هذه أقاصيص من صنع الوراقين، فقال له أبو العيناء: لم لا يكذب على الوزير - أعزه الله - مثل هذا الكذب، وهو حي، يرجى ويخاف، وأولئك موتى، مأيوس من خيرهم وشرهم، القصة 1 - 1 من نشوار المحاضرة.
وبالنظر لعدم وجود سبب واضح عن نكبتهم، فقد خبط المؤرخون خبطاً في الاستنتاج، وذكر كل واحد منهم سبباً، أو أكثر من سبب، فادعى بعضهم أن السبب سياسي، وأنهم أرادوا قلب الدولة، وقال بعضهم: أن ثمة سبباً يتعلق بزواج جعفر، زواجاً لم يرضه الخليفة، وهذا كله لا أصل له، فإن البرامكة، لو أرادوا قلب الدولة، لحاولوا ذلك عندما كانت خراسان في قبضتهم، وأما قضية الزواج، فهي أقصوصة لا تعلق بقبول، ولا تدخل في معقول، والذي يظهر للمتأمل، أن استئثار البرامكة بالحكم، وانقياد الناس لهم، ولهجتهم بالثناء عليهم، والتعلق بهم، أثار غيرة الرشيد، وأشعل نار هواجسه، وصادف وجود دساسين، من رجال الحاشية، ممن يرغب في انتقال السلطة من البرامكة إليهم، مثل الفضل بن الربيع، وعلي بن عيسى بن ماهان، وأحمد بن صبيح، فتظافروا، وأغروا الرشيد بهم، فوجدوا منه أذناً سامعة، وكانت الخيزران، أم الرشيد، حامية البرامكة، قد توفيت في السنة 173، فلم يكد الرشيد يودعها قبرها، حتى دعى الفضل ابن الربيع، وأمره بأخذ الخاتم من جعفر، وحلف له إنه كان يهم بأن يوليه، فتمنعه أمه، فيطيع أمرها الطبري 8 - 238.
ولعل أصح ما ورد في هذا الباب، ما ذكره ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان 1 - 335، قال: سئل سعيد بن سالم عن جناية البرامكة الموجبة لغضب الرشيد، فقال: والله، ما كان منهم ما يوجب بعض ما عمل الرشيد بهم، ولكن طالت أيامهم، وكل طويل مملول، ووالله، لقد استطال الناس، الذين هم خير الناس، أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وما رأوا مثلها عدلاً، وأمناً، وسعة أموال، وفتوح، وأيام عثمان رضي الله عنه، حتى قتلوهما، ورأى الرشيد - مع ذلك - أنس النعمة بهم، وكثرة حمد الناس لهم، ورميهم بآمالهم دونه، والملوك تتنافس بأقل من هذا، فتعنت عليهم، وتجنى، وطلب مساويهم، ووقع منهم بعض الإدلال، خاصة جعفر والفضل، دون يحيى، فإنه كان أحكم خبرة، وأكثر ممارسة للأمور، ولاذ من إعدائهم قوم بالرشيد، كالفضل بن الربيع، وغيره، فستروا المحاسن، وأظهروا القبائح، حتى كان ما كان.
ويؤيد هذا الرأي، ما روي عن هرون الرشيد أنه قال: إن الدالة تفسد الحرمة، وتنقص الذمة، ومنها أتي البرامكة كتاب الآداب لمجد الملك جعفر بن شمس الخلافة ص20.

وقد ذهب المؤرخ ابن خلدون، إلى هذا الرأي، قال: إنما نكب البرامكة ما كان من استبدادهم على الدولة، واحتجانهم أموال الجباية، حتى كان الرشيد يطلب اليسير من المال فلا يصل إليه، فغلبوه على أمره، وشاركوه في سلطانه، ولم يكن له معهم تصرف في أمور ملكه، فعظمت آثارهم، وبعد صيتهم، وعمروا مراتب الدولة وخططها، بالرؤساء من ولدهم وصنائعهم، واحتازوها عمن سواهم، من وزارة، وكتابة، وقيادة، وحجابة، وسيف، وقلم، ويقال إنه كان بدار الرشيد، من ولد يحيى بن خالد، خمسة وعشرون رئيساً، من بين صاحب سيف وصاحب قلم، زاحموا فيها أهل الدولة بالمناكب، ودفعوهم عنها بالراح، لمكان أبيهم يحيى من كفالة هارون، ولي عهد، وخليفة، حتى شب في حجره، ودرج من عشه، وغلب على أمره، وكان يدعوه: يا أبت، فتوجه الإيثار من السلطان إليهم، وعظمت الدالة منهم، وانبسط الجاه عندهم، وانصرفت نحوهم الوجوه، وخضعت لهم الرقاب، وتخطت إليهم من أقصى التخوم، هدايا الملوك، وتحف الأمراء، وسيرت إلى خزائنهم، في سبيل التزلف والإستمالة، أموال الجباية، وأفاضوا في رجال الشيعة يريد شيعة بني العباس وعظماء القرابة، العطاء، وطوقوهم المنن، وكسبوا من بيوتات الأشراف، المعدم، وفكوا العاني، ومدحوا بما لم يمدح به خليفتهم، وأسنوا لعفاتهم الجوائز والصلات، واستولوا على القرى والضياع، حتى آسفوا البطانة، وأحقدوا الخاصة، وأغصوا أهل الولاية تاريخ ابن خلدون 1 - 13 و14.
وذكر صاحب الأغاني 18 - 303: أن الرشيد ندم على قتله البرامكة، وربما بكى عليهم في بعض المجالس.
وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان 6 - 228 و229 نقلاً عن الجهشياري: أن الرشيد ندم على ما كان منه في أمر البرامكة، وتحسر على ما فرط منه في أمرهم، وخاطب جماعة من إخوانه، بأنه لو وثق منهم بصفاء النية، لأعادهم إلى حالهم، وكان الرشيد كثيراً ما يقول: حملونا على نصحائنا وكفاتنا، وأوهمونا أنهم يقومون مقامهم، فلما صرنا إلى ما أرادوا، لم يغنوا عنا، وأنشد:
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللّوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
راجع بعض أخبار البرامكة في المحاسن والمساوئ 1 - 140 و141 و151 - 162 وراجع في العقد الفريد 5 - 62 - 65 الحوار الذي جرى بين هارون الرشيد وبين فاطمة بنت محمد بن الحسن بن قحطبة، أم جعفر البرمكي. وهي أم الرشيد بالرضاعة، وراجع بشأن الثناء على البرامكة، القصة 1 - 2 و1 - 3 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، وراجع كذلك في كتاب الأوراق للصولي أشعار أولاد الخلفاء ص47 الحوار الذي جرى بين الرشيد وبين أخته علية حول مقتل جعفر البرمكي، وراجع في كتاب جواهر الأدب من خزائن العرب ص418 قصة عن الفضل وجعفر، رواها محمد بن عبد الرحمن الهاشمي، صاحب صلاة الكوفة، وراجع الطبري 8 - 300 - 302 والأغاني ط بولاق 20 - 31.

هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
بلغني أنه كان بالكوفة رجل من أهل الأدب والظرف، يعاشر الناس، وتأتيه ألطافهم، فيعيش بها.
ثم انقلب الدهر عليه، فأمسك الناس عنه، وجفوه حتى قعد في بيته، والتجأ إلى عياله، فشاركهن في فضل مغازلهن، واستمر ذلك عليه، حتى نسيه الناس، ولزمه الفقر.
قال: فبينما أنا ذات ليلة في منزلي، على أسوء حال، إذا وقع حافر دابة، ورجل يدق بابي، فكلمته من وراء الباب.
فقلت: ما حاجتك ؟.
فقال: إن أخاً لك لا أسميه، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إني رجل مستتر، ولست آنس بكل أحد، فإن رأيت أن تصير إلي، لنتحدث ليلتنا.
فقلت في نفسي: لعل جدي أن يكون قد تحرك ؟ ثم لم أجد لي ما ألبسه، فاشتملت بأزار امرأتي، وخرجت، فقدم إلي فرساً مجنوباً كان معه، فركبته.
إلى أن أدخلني إلى فتى من أجل الناس وأجملهم وجهاً، فقام إلي، وعانقني، ودعا بطعام فأكلنا، وبشراب فشربنا، وأخذنا في الحديث، فما خضت في شيء إلا سبقني إليه.
حتى إذا صار وقت السحر، قال: إن رأيت أن لا تسألني عن شيء من أمري، وتجعل هذه الزيارة بيني وبينك، إذا أرسلت إليك فعلت، وها هنا دراهم تقبلها، ولا تردها، ولا يضيق بعدها عنك شيء، فنهضت، فأخرج إلي جراباً مملوءاً دراهم.
فدخلتني أريحية الشراب، فقلت: اخترتني على الناس للمنادمة، ولسرك، وآخذ على ذلك أجراً ؟ لا حاجة لي في المال.

فجهد بي، فلم آخذه، وقدم إلي الفرس، فركبته، وعدت إلى منزلي، وعيالي متطلعون لما أجيء به، فأخبرتهم بخبري.
وأصبحت نادماً على فعلي، وقد ورد علي وعلى عيالي، ما لم يكن في حسابنا.
فمكثت حيناً، لا يأتي إلي رسول الرجل، إلى أن جاءني بعد مدة، فصرت إليه، فعاودني بمثل ذلك الفعل، فعاودته بالامتناع، وانصرفت مخفقاً، فأقبلت امرأتي علي باللوم والتوبيخ.
فقلت لها: أنت طالق ثلاثاً إن عاودني ولم آخذ ما يعطيني.
فمكثت مدة أطول من الاولة، ثم جاءني رسوله، فلما أردت الركوب، قالت لي امرأتي: يا ميشوم اذكر يمينك، وبكاء بناتك، وسوء حالك.
فصرت إلى الرجل، فلما أفضينا إلى الشراب، قلت له: إني أجد علة تمنعني منه، وإنما أردت أن يكون رأيي معي.
فأقبل الرجل يشرب، وأنا أحادثه، إلى أن انبلج الفجر، فأخرج الجراب، وعاودني، فأخذته، فقبل رأسي، وشكرني على قبول بره، وقدم إلي الفرس، فانصرفت عليه، حتى انتهيت إلى منزلي، فألقيت الجراب.
فلما رآه عيالي، سجدن لله شكراً، وفتحناه، فإذا هو مملوء دنانير.
فأصلحت منه حالي، واشتريت مركوباً، وثياباً حسنة، وأثاثاً، وضيعة قدرت أن غلتها تفي بي، وبعيالي بعدي، واستظهرت على زماني ببقية الدنانير.
وانثال الناس علي، يظهرون السرور بما تجدد لي، وظنوا أني كنت غائباً في انتجاع ملك، فقدمت مثرياً، وانقطع رسل الرجل عني.
فبينما أنا أسير يوماً بالقرب من منزلي، فإذا ضوضاء عظيمة، وجماعة مجتمعة.
فقلت: ما هذا ؟.
قالوا: رجل من بني فلان، كان يقطع الطريق، فطلبه السلطان، إلى أن عرف خبره ها هنا، فهجم عليه، وقد خرج على الناس بالسيف، يمنع نفسه.
فقربت من الجمع، وتأملت الرجل، فإذا هو صاحبي بعينه، وهو يقاتل العامة، والشرط، ويكشف الناس، فيبعدون عنه، ثم يتكاثرون عليه ويضايقونه.
فنزلت عن فرسي، وأقبلت أقوده، حتى دنوت منه، وقد انكشف الناس عنه.
فقلت: بأبي أنت وأمي، شأنك والفرس، والنجاة، فاستوى على ظهره، فلم يلحق.
فقبض علي الشرط، وأقبلوا علي، يلهزوني، ويشتموني، حتى جاءوا بي إلى عيسى بن موسى، وهو والي الكوفة، وكان بي عارفاً.
فقالوا: أيها الأمير، كدنا أن نأخذ الرجل، فجاء هذا، فأعطاه فرساً نجا عليه.
فاشتد غضب عيسى بن موسى، وكاد أن يوقع بي، وأنا منكر لذلك.
فلما رأيت المصدوقة، قلت: أيها الأمير، أدنني إليك، أصدقك.
فاستدناني، فشرحت له ما كان أفضت بي الحال إليه، وما عاملني به الرجل، وأني كافأته بجميل فعله.
فقال لي سراً: أحسنت، لا بأس عليك.
ثم التفت إلى الناس فقال: يا حمقى، هذا يتهم ؟ إنما لفظ حافر فرسه حصاة، فقاده ليريحه، فغشيه رجل مستقتل، بسيف ماض، قد نكلتم عنه بأجمعكم، فكيف كان هو يدفعه عن فرسه ؟ انصرفوا، ثم خلى سبيلي.
فانصرفت إلى منزلي، وقد قضيت ذمام الفتى، وحصلت النعمة بعد الشدة، وأمنت عواقب الحال، وكان آخر عهدي به.

جعفر بن سليمان أمير البصرة يصفح عمن سرق منه جوهرا
ً
سرق لجعفر بن سليمان الهاشمي جوهر فاخر بالبصرة، وهو أميرها، فجهد أن يعرف له خبراً، فخفي عليه، فأقلقه ذلك، وغاظه، وجد بالشرط وضربهم، وألزمهم إظهاره، فجدوا في الطلب.
فلما كان بعد شهور، أتاه بعضهم برجل وجده في ساباط اللؤلؤ، يبيع درة فاخرة من ذلك الجوهر، قد قبض عليه، وضربه ضرباً عظيماً إلى أن أقر، فأخبر جعفر بخبره، فأذن بدخوله.
فلما رأى الرجل جعفراً، استغاث به، وبكى، ورققه، فرحمه جعفر، وقال: ألم تكن طلبت مني هذه الدرة في وقت كذا، فوهبتها لك ؟.
فقال: بلى.
فقال للشرط: خلوا عنه، واطلبوا اللص.
أخذ الصينية من لا يردها ورآه من لا ينم عليهوروت الفرس قريباً من هذا، فذكروا أن بعض ملوكهم، سخط على حاجب له سخطاً شديداً، وألزمه بيته، وكان فيه كالمحبوس، وقطع عنه أرزاقه وجراياته، فأقام على ذلك سنين، حتى تهتك، ولم تبق له حال.
ثم بلغه أن الملك قد أتخذ سماطاً عظيماً، يحضره الناس في غد يومه ذلك، فراسل أصدقاءه، وأعلمهم أن له حقاً يحضره لبعض ولده، واستعار منهم دابة بسرجه ولجامه، وغلاماً يسعى بين يديه، وخلعة يلبسها، وسيفاً، ومنطقة، فأعير ذلك، فلبسه، وركب الدابة، وخرج من منزله، إلى أن جاء إلى دار الملك.

فلما رآه البوابون لم يشكوا في أنه ما أقدم على ذلك إلا بأمر الملك، وتذمموا لقديم رئاسته عليهم، فأشفقوا من عودها أن يحجبوه إلى أن يستثبتوا.
ودخل هو مظهراً القوة بأمر نفسه، ولم تزل تلك حاله، مع طائفة، حتى وصل إلى الملك، وقد أكل، وهو جالس يشرف.
فلما رآه الملك قطب، وأنكر حضوره، وهم بأن يأمر به، وبالحجاب، والبوابين، فكره أن ينغص يوماً قد أفرده بالسرور على نفسه.
وأقبل الرجل يخدم، فيما كان يخدم فيه قديماً، فازدادت الحال تمويهاً على الحجاب والحاشية، إلى أن كاد المجلس ينصرم، وغفل أكثر من كان حاضراً عنه.
فتقدم إلى صينية ذهب زنتها ألف مثقال، مملؤة مسكاً، فأخذها بخفة، وجعل المسك في كمه، والصينية في خفه، والملك يراه.
وخرج، وعاد إلى منزله، ورد العواري إلى أهلها، وباع المسك، وكسر الصينية، وجعلها دنانير، واتسع بها حاله.
وأفاق الملك - من غد - من سكره، وسمع من يخدم في الشراب يطلب الصينية، وقهرمان الدار يضرب قوماً في طلبها، فذكر حديث الحاجب، وعلم أنه ما حمل نفسه على الغرر الشديد في ذلك، إلا من وراء شدة وضر.
فقال لقهرمانه: لا تطلب الصينية، فما لأحد في ضياعها ذنب، فقد أخذها من لا يردها، ورآه من لا ينم عليه.
فلما كان بعد سنة، عاد ذلك الحاجب، إلى شدة الإضاقة، بنفاد الدنانير، وبلغه خبر سماط يكون عند الملك، في غد يومه، فاحتال بحيلة أخرى، حتى دخل إلى حضرة الملك، وهو يشرب.
فلما رآه الملك، قال: يا فلان، نفذت تلك الدنانير ؟.
فقبل الأرض بين يديه، وبكى، ومرغ خديه، وقال: أيها الملك، قد احتلت مرتين، على أن تقتلني فأستريح مما أنا فيه، من عظم الضر الذي أعانيه، أو تعفو عني كما يليق بك، وتذكر خدمتي، فأعيش في ظلك، وليست لي بعد هذا اليوم حيلة.
فرق له الملك، وعفا عنه، وأمر برد أرزاقه عليه ونعمته، ورده إلى حالته الأولى في خدمته.

سفتجة بثلاث صفعات يفتديها المحال عليه بخمسمائة وخمسين دينارا
ً
بلغني عن رجل من أهل ديار ربيعة، كانت له حال صالحة، فزالت، قال: فلزمتني المحنة والإضاقة، مدة طويلة، فتحيرت، ولم أدر ما أعمل.
وكان أمير الناحية إذ ذاك، العباس بن عمرو الغنوي، وكانت بيني وبين كاتبه معرفة قديمة، فأشير علي بأن ألقاه، وآخذ كتاباً عن العباس إلى بعض أصدقائه من أمراء النواحي وأخرج إليه، فلعلى أتصرف معه، وأعود من جهته بفائدة أجعلها أصل معيشة.
فلقيت الكاتب، فقال لي: صر في غد إلى دار الأمير، حتى أكتب لك.
فمضيت إليه، فكتب لي عنه كتاباً مؤكداً إلى بعض أمراء الأطراف من أصدقاء العباس، فخرجت أريد منزلي.
فلما صرت في بعض الممرات وأنا رجل طويل مبدن، وكنت قد حلقت رأسي، وعليه منديل خفيف، قد أطارته الريح، فانكشف، ولعلة انشغال قلبي بأمري لم أرد المنديل.
وإذا بصفعة قد جاءت، كادت تكبني على وجهي، وتوالت بعدها اثنتان. فالتفت، فإذا العباس بن عمرو، وقد خرج إلى موضع من مواضع الدار، وكان مشتهراً بالمصافعة، مكاشفاً بها، هو، وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به.
فقبضت على يده، وقلت: ما هذا أيها الأمير ؟ ما أفارقك، أو تعطيني شيئاً أنتفع به عوضاً عن هذا الفعل.
فدافعني، وأنا متشبث به، وسقط الكتاب من كمي، فقال: ما هذا الكتاب.
قلت: كتاب، كتب لي عنك إلى فلان، لأخرج إليه، فلعلي أتصرف معه، أو يبرني بشيء.
فقال: هوذا، أكتب لك عليه سفتجة بالصفع، فإنه يفتديها منك بما تنتفع به.
واستدعى دواة، وكتب لي إلى الرجل سفتجة، كما يكتب التجار، بثلاث مكتوبات، كناية عن ثلاث صفعات.
فأخذت الكتاب، وانصرفت متعجباً مما جرى علي، ومن حرفتي في أن العباس لم يسمح لي بشيء، مع جوده، وتحملت، وخرجت إلى ذلك البلد، فأوصلت الكتاب الذي كتبه لي الكاتب عنه.
فردني ذلك الأمير أقبح رد، وآيسني، وقال: قد بلينا بهؤلاء الشحاذين، يجيئونا في كل يوم بكتب لا تساوي مدادها، ويقطعونا عن أشغالنا، انصرف، فمالك عندي تصرف، ولا بر.
فورد علي ما لم أر مثله، وما هالني وقطع بي، وكنت قد سافرت إليه، وقطعت شقة بعيدة، فانصرفت أسوء الناس حالاً.
وفكرت ليلتي، فقلت: ليس إلا العود إليه، ومداراته، فلعل أن يعطيني قدر نفقة الطريق، فأتحمل بها.

فعدت إليه، وخاطبته بكل رفق وخضوع وسؤال وهو يخشن علي، ويؤيسني، إلى أن قال لحاجبه: أخرجه عني، ولا تدعه بعدها يدخل إلي.
فورد علي أعظم من الأول، وخرجت أخزى خروج، وأقمت أياماً لا أعود إليه، ولا أدري ما أصنع، إلا أن بقالاً في المحلة التي نزلتها يعطيني خبزاً وإداماً بنسيئة.
فجلست إليه يوماً وأنا متحير، والغم بين علي، فسمعت قائلاً يقول: إن الأمير قد جلس للمظالم، جلوساً ارتفع عنه الحجاب فيه، ففكرت كيف أعمل ؟.
وذكرت الكتاب بالسفتجة، فقلت: أمشي وأجعلها نادرة كالظلامة، فإن أعطاني شيئاً، وإلا فضحته بين رعيته، وانصرفت.
فأخذت السفتجة، وجئت، فلم أصادف بالباب من يمنعني، فدخلت إليه.
فحين رآني اغتاظ علي، وقال لحاجبه: ألم آمرك أن لا تدخل هذا إلي.
فقال: كان الإذن عاماً، ولم يميز.
فأقبل الأمير علي، فقال: ألم أقل لك، وأؤيسك مني ؟ فما هذه الملازمة، كأن لك علي ديناً أو سفتجة ؟.
فقلت: نعم، لي على الأمير - أعزه الله - سفتجة.
فازداد غيظه، وقال كالمتعجب: سفتجة، سفتجة ؟.
فأخرجتها، فدفعتها إليه، فلما قرأها عرف الخط والخطاب، فنكس رأسه ساعة، خجلاً، ثم قال لكاتب كان بين يديه، شيئاً لا أعلمه.
فجذبني الكاتب، وقال: إن الأمير قد تذمم مما عاملك به، وأمرني بدفع مائة دينار إليك، فقم معي لتأخذها.
فقلت: ما قصدت الأمير ليبرني، أنا رجل أوصلت إليه سفتجة بمال، فإما قبلها فأعطانيه، فما أريد غيره، ولا أستزيد عليه، ولا أنقص منه شيئاً، وإما كتب لي على السفتجة: راجعة، فأخذتها، وانصرفت.
فساره الكاتب بما قلت، وقوي طمعي في الصنع، فالتفت إلي الكاتب، وقال: قد جعلها لك الأمير مائتي دينار، فانهض لتأخذها.
فقلت، لمن يقول هذا: ما عندي غير ما سمعت، ولان الأمير، وتشددت، ولم يزل الكاتب يتوسط بيننا، إلى أن بذل خمسمائة دينار.
فقلت: على شرط أني لا أبرح من هذا المجلس حتى أقبضها وأسلمها إلى يد تاجر، وآخذ منه سفتجة بها، ويدفع إلي نفقة تكفيني إلى أن أعرف صحة السفتجة، ثم أتحمل بباقي ذلك.
فأجبت إلى ذلك، وأحضر التاجر، والمال، وأخذت منه سفتجة، ودفعوا لي خمسين ديناراً للنفقة، وأقمت مدة، إلى أن عرفت خبر صحة السفتجة، وتحملت ببقية النفقة إلى بلدي.
وحصل لي المال، فجعلته بضاعة في متجر، صلحت به حالي، إلى الآن.

المصافعة
الصفع: ضرب القفا بالكف مبسوطة، والمصافعة: تبادل الصفعات، والصفعان: الذي يصفع كثيراً.
والأصل في الصفع أن يكون للعقوبة والتأديب. كأن يأمر القاضي بصفع من أخل بالحرمة الواجبة نحو مجلس الحكم القصص 2 - 10 و6 - 178 من نشوار المحاضرة للتنخي.
وقد يصفع المتشدق المتقعر في كلامه الامتاع والمؤانسة 2 - 52.
وقد أمر الوزير علي بن عيسى بصفع رجل ادعى النبوة صلة الطبري 26.
وصفع بعض العامة في البصرة، القاضي أبا خليفة وصحبه، لما حسبوهم يقرأون القرآن بلغة الدجاج مروج الذهب 2 - 501.
وصفع أبو محمد المافروخي الفأفاء، عامل البصرة، ابن أحد خلفائه، لما فأفأ له، حاسباً أنه يحاكيه نشوار المحاضرة، رقم القصة 4 - 14.
وقد يجري الصفع لإجبار المكلف على أداء الضريبة المتحققة عليه القصة 184 من هذا الكتاب أو لإجبار العامل المصروف على سداد ما بذمته من الأموال الأميرية القصة 8 - 21 من كتاب نشوار المحاضرة أو لإجبار من صودر على أداء ما صودر عليه القصة 1 - 35 و3 - 122 من كتاب نشوار المحاضرة، والكامل لابن الأثير 8 - 142، وتجارب الأمم 1 - 110 وصلة الطبري 39، أو لاستخراج الودائع تجارب الأمم 1 - 65 أو لتقرير مبلغ المصادرة تجارب الأمم 1 - 65 أو لإجبار المصفوع على ترك عناده القصة 261 من هذا الكتاب، والقصة 3 - 54 من نشوار المحاضرة.
وقد يرد الصفع عقاباً للمدعي الذي عجز عن القيام بما ادعى، كما حصل لابن المغازلي الذي شرط على نفسه إن لم يضحك المعتضد، أن يصفع عشر صفعات، وعجز عن إضحاكه مروج الذهب 2 - 510 و511.
ولما أراد المكتفي الخروج لقتال القرامطة، منعه المنجم أبو الحسن العاصمي، بحجة أن طالعه يدل على أن خروجه هذا، يؤدي إلى زوال دولته، وخرج المكتفي، واستأصل القرامطة، وعاد مظفراً سالماً، فأمر بالعاصمي فأحضر، وصفع صفعاً عظيماً الفلاكة والمفلوكون 37.

وقد يحصل الصفع للإهانة والايذاء، فقد ذكر أن المتوكل غضب على عمر بن فرج الرخجي، أحد كبار العمال في الدولة، فأمر بأن يصفع في كل يوم، فأحصي ما صفع، فكان ستة آلاف صفعة مروج الذهب 2 - 403، وغضب المتوكل على ولده المنتصر، ولي عهده، فأمر بأن يصفع في مجلسه تجارب الأمم 6 - 555 والكامل لابن الأثير 7 - 97، ولزيادة التفصيل راجع تاريخ الطبري 9 - 175، وصلة تاريخ الطبري ص52 و58 و86 والتكملة 37 و41، وتجارب الأمم 1 - 103 والقصة 1 - 119 و4 - 7 من كتاب نشوار المحاضرة للتنوخي، والقصة 250 و304 من هذا الكتاب، والمستطرف من أخبار الجواري للسيوطي 29 والوزراء للصابي 46 و264 ووفيات الأعيان 4 - 159 و6 - 58 وحكاية أبي القاسم البغدادي 138 ومرآة الجنان لليافعي 4 - 18.
وقد يقع الصفع على المقامر إذا قمر، كما وقع لأمير البصرة إسحاق بن العباس بن محمد العباسي، لما قمر، فتحقق عليه حسب الشرط أن يصفع عشر صفعات، فأحالها هذا على صاحب شرطته، وطلب هذا أن يكون الصفع، صفع المداعبة والإخوان، لا صفع العقوبة والسلطان الهفوات النادرة 231.
وأغرب ما أثر عن الصفع، وروده لإيقاع الحجة على الخصم في المناظرة معجم الأدباء 5 - 237.
والذي يتضح من هذه القصة، ومن غيرها من القصص، أن المصافعة، كان لها من يستحسنها، ويستطيبها، ويتملح بذكر فوائدها البصائر والذخائر 4 - 180، وكان لها سوق رائجة.
وكان العباس بن عمرو الغنوي، وهو أحد كبار القواد والولاة العباسيين، من المستهترين بالمصافعة، المكاشفين بها، هو وجماعة من قواد المعتضد، أصدقاء، أخلاء، يستعملون ذلك، ويكاشفون به، وأن المصافعة تجري بينهم للمطايبة، القصة 116 من هذا الكتاب، والقصة 8 - 119 من نشوار المحاضرة وأنها تقع على سبيل المباسطة القصة 1 - 51 و166 من نشوار المحاضرة، ومعجم دوزي لأسماء الألبسة 271.
وكان زيادة الله بن الأغلب، أمير أفريقية 172 - 223 قد اتخذ ندامى يتصافعون في حضوره فوات الوفيات 2 - 34 و35.
وكان القاضي محمد بن الخصيب، قاضي مصر ت 348، وهو ممدوح المتنبي، ممن يمازح في المصافعة أخبار القضاة للكندي 579 و580.
وكان للصفاعنة أرزاق في الدولة، ولما وزر أبو الحسن علي بن عيسى في السنة 314 كان من جملة ما صنعه أن أسقط أرزاق الصفاعنة الكامل لابن الأثير 8 - 165.
وسئل القاضي ابن قريعة، عن حد القفا، فقال للسائل: هو ما اشتمل عليه جربانك، وشرطك فيه حجامك، وداعبك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك فيه سلطانك اليتيمة 2 - 238 وتاريخ بغداد للخطيب 2 - 320.
وداعب ابن المرزبان، أبا العيناء، فقال له: لم لبست جباعة ؟ فقال: وما الجباعة ؟ قال: التي بين الجبة والدراعة، فقال: ولم أنت صفديم ؟ قال: وما صفديم ؟ قال: الذي هو بين الصفعان والنديم الملح للحصري 183.
وكان حذاء ماجن بباب الطاق اسمها الآن الصرافية يسمي النعال، بأسماء من جنس الصفعة، فنعل راسكية، ونعل صعلكية، ونعل قفوية القصة 2 - 98 من نشوار المحاضرة.
وأفرد ابن النديم في الفهرست ص157 بحثاً في أخبار الصفادمة والصفاعنة، كما ذكر أن الكتنجي ألف كتاباً سماه: كتاب الصفاعنة الفهرست 170.
والأصل في الصفع أن يحصل، بالكف على القفا، وربما حصل بجراب فارغ أو محشو مروج الذهب 2 - 509 - 511، وقد يحصل بالنعال وفيات الأعيان 4 - 455، أو بقشور القرع اليتيمة 2 - 340، أو بقشور البطيخ الأحمر المسمى في بغداد بالرقي، نسبة إلى الرقة راجع سبب هذه التسمية في حاشية القصة 268 من هذا الكتاب، ولا يوجد الآن ببغداد من يمارس هذا اللون من المباسطة السمجة، وقد أدركت بعض باعة الرقي الأحداث كانوا يتصافعون بقشور الرقي المق فصيحة، والبغداديون يلفظون قافها كافاً فارسية.
وممن أحسن في الإشارة إلى المصافعة، ابن الحلاوي الموصلي ت 656 قال: الوافي بالوفيات 8 - 108
فطبّ طرطبّ فوق راسي ... وطاق طرطاق في قذالي
وقال الشاعر الأندلسي، أبو عبد الله بن الأزرق: نفح الطيب 3 - 229
أفدي صديقاً كان لي ... بنفسه يسعدني
فربّما أصفعه ... وربّما يصفعني
طقطق طق طقطق طق ... أصخ بسمع الأذن
ولأبن الحجاج شعر كثير في المصافعة، أورد بعضه صاحب اليتيمة 3 - 86 - 88، وللأحنف العكبري في المصافعة اليتيمة 3 - 704؛

لقد بتّ بماخور ... على دفّ وطنبور
وصوت الطبل كردم طع ... وصوت الناي طلّير
فصرنا من حمى البيت ... كأنّا وسط تنّور
وصرنا من أذى الصفع ... كمثل العمي والعور
وممن أحسن في وصف الصفع، جمال الدين بن شيث، المتوفي سنة 625 وقد أورد له صاحب فوات الوفيات 2 - 313 أبياتاً، اخترت منها هذين البيتين:
وتخالفت بيض الأكفّ كأنّها ال ... تصفيق عند مجامع الأعراس
وتطابقت سود الخفاف كأنّها ... وقد المطارق في يد النحّاس
ولأبي الرقعمق، أبي حامد أحمد بن محمد الانطاكي، مقطوعات في المصافعة، راجعها في يتيمة الدهر للثعالبي 1 - 334 - 340.
ولزيادة التفصيل، راجع كتاب الغيث المسجم للصفدي 1 - 203 - 205 وكتاب محاضرات الأدباء للراغب الأصبهاني 2 - 699 و700.

السبب في خلع المقتدر الخلع الثاني
وعودته إلى الحكم
ذكر أصحاب التواريخ، ومصنفو الكتب، وأبو الحسن علي بن الفتح الكاتب المعروف بالمطوق، على ما أخبرني به أحمد بن يوسف بن يعقوب التنوخي عنه في كتابه مناقب الوزراء ومحاسن أخبارهم، وما شاهده أحمد بن يوسف من ذلك، وجماعة حدثوني به، ممن شاهد الحال، منهم أيوب بن العباس بن الحسن، وعلي، والقاسم، ابنا هشام بن عبد الله الكاتب، وأبو الحسين بن عياش الخرزي، خليفة أبي رحمه الله على الحكم بسوق الأهواز، ومن لا أحصي من شيوخنا كثرة، بالسبب في خلع المقتدر عن الخلافة، الخلع الثاني، بعبارات مختلفة، معنى جميعها أن الجيش كله، الفرسان، والرجالة، شغبوا يطلبون الزيادات، ويتبسطون في التماس المحالات، وملوا أيام المقتدر وبغوا عليه بأشياء.
واتفق أن سائساً لهارون بن غريب الخال، علق بغلام في الطريق، للفساد، فرفع إلى أبي الجود، خليفة عجيب، غلام نازوك، على مجلس الجسر بالجانب الغربي، فجاء غلمان هارون يخلصونه ومانعوهم، إلى أن لحقه بعض أصحاب نازوك فصارت بينهم حرب، وانتهت الحال إلى قصص يطول شرحها.
إلى أن أطبق الجيش بأسرهم على خلع المقتدر، فزحفوا إلى داره، بمواطأة من مؤنس المظفر، فقبضوا عليه، وحملوه إلى دار مؤنس، في يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فحبس فيها، وخلع نفسه، وأشهد عليه بالخلع.
وكان رأس الفتنة، والقائم بها، عبد الله بن حمدان، أبو الهيجاء، ونازوك المعتضدي، على مساعدة لهما من مؤنس، وإطباق من الجيش كلهم، وجاءوا بأبي منصور محمد بن المعتضد بالله، فأجلسوه في دار الخلافة، وسلموا عليه بها، ولقبوه القاهر بالله، فقلد نازوك الحجبة، مضافاً إلى ما كان إليه من الشرطة، وجعله صاحب داره.
فلما كان في يوم الإثنين لسبع عشرة ليلة خلت منه، بكر الناس إلى دار الخليفة للبيعة، وجاءت إلى فناء الدار، مما يلي دجلة، جماعة من الرجالة، يطالبون بمال البيعة والزيادة.
فجاء نازوك وأشرف عليهم من الرواق، ومعه خادم من رؤوس غلمانه يقال له عجيب، فقال لهم: ما تريدون ؟ نعطيكم ثلاث نوائب. فقالوا: لا، إلا أرزاق سنة، وزيادة دينار، وزادوا في القول.
فقال لهم: يصعد إلي منكم جماعة، أفهم عنهم، وأكلمهم، فصعد إليه جماعة منهم، من باب الخاصة، وتسلق إلى الرواق جماعة منهم كبيرة، وثاروا على غير مواطأة، ولا رأي متقرر.
فقال لهم نازوك: اخرجوا إلى مجلس الإعطاء، حتى نخرج المال إلى الكتاب، فيقبضونكم.
فقالوا: لا نقبض إلا ها هنا، وهجموا على التسعيني، يبوقون، ويشتمون نازوك.
فمضى نازوك من بين أيديهم، يريد الممر في الطريق الذي ينفذ إلى دجلة، وكان قد سد آخره بالأمس، إحتياطاً لحفظ من في الدار، وتحرزاً من هربهم، فلما رآه مسدوداً رجع، فاستقبله جماعة من الرجالة يطلبونه.
فوثب عليه رجل أصفر منهم، فضربه بكلاب، وثناه آخر يكون في مطبخ أم المقتدر، وله رزق في الرجالة، يقال له: سعيد، ويلقب: ضفدعاً، فقتلوه، وقتلوا عجيباً، وقالوا: لا نريد إلا خليفتنا جعفر المقتدر، وقتل الخدم في الدار أبا الهيجاء، واختبأ القاهر في بعض الحجر، عند بعض الخدم.
وأقبلوا برأس نازوك على رمح قد خرج طرفه من وسط الرأس، إلى دار مؤنس، وهم يقولون: مقتدر، يا منصور.

فطالبوا مؤنساً بالمقتدر، فخافهم على نفسه، فأخرجه إليهم، والمقتدر يستعفي من الخروج، ويظهر الزهد في الخلافة، ويظن أن ما سمعه حيلة على قتله.
إلى أن سمع صياح الناس: مقتدر، يا منصور، وأعلم بقتل نازوك وأبي الهيجاء، فسكن.
وقعد في طياره، وانحدر إلى داره، والرجالة يعدون على الشط بأزائه، إلى أن خرج من الطيار، فالتحقوا به يقبلون يديه ورجليه، حتى دخل داره.
وأحضر جماعة من الهاشميين وغيرهم، فبايعوه بيعةً ثانيةً، وظهر ابن مقلة وزيره، وكان مستتراً تلك الأيام، فأقره على الوزارة، ودبر أمره، وزال عنه ما كان فيه من المحنة والنكبة، ولم ير خليفة أزيل عن سريره، وأخرج من دار ملكه، وأجلس آخر في موضعه، ولقب لقباً من ألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وأجمع على بيعته أهل المملكة والجيش كله، وعلى خلع الأول وحبسه، ثم رجع إلى أمره، ونهيه، وملكه، وداره، في مدة خمسة أيام، بلا سبب ممهد، ولا مواطأة لأحد، ولا مشاورة، ولا مراسلة، إلا ما اتفق في أمر المقتدر، وأخيه القاهر.

خلع الأمين وعودته إلى الحكم
قال مؤلف هذا الكتاب: وعلى أنه قد كان جرى على محمد الأمين قريب من هذا، لما قبض عليه الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وخلعه، وحبسه، وعزم على أن ينفذه إلى المأمون، ثم أن الجيش طالبوه بأرزاقهم، فلم يكن معه، ما يعجله لهم، فوعدهم، فشغبوا، ولم يرضوا بالوعد، واستخرجوا الأمين من حبسه، فبايعوه ثانياً، وردوه، وهرب الحسين بن علي، وزالت عن الأمين تلك الشدة، والقصة في ذلك مشهورة، رواها أصحاب التواريخ، بما يطول اقتصاصه هنا، إلا أنه لم يجلس على سريره خليفة آخر.
كيف خلع المقتدر الخلع الأولقال القاضي أبو علي المحسن بن القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي رحمه الله تعالى: وقد جرت على المقتدر بالله شدة أخرى، وفرج الله عنه، في قصة تشبه قصة الأمين، سواء بسواء، لما أجمع جميع القواد والحاشية، على أن قتلوا العباس بن الحسن، الوزير، وخلعوا المقتدر من الخلافة، الخلع الأول، وبايعوا ابن المعتز، وأحضروه من داره إلى دار سليمان بن وهب، المرسومة - إذ ذاك - بالوزراء، وجلس يأخذ البيعة على القضاة، والأشراف، والكافة، ويدبر الأمور، ووزيره محمد بن داود، ابن الجراح، يكاتب أهل الأطراف، والعمال، والأكناف، بخبر تقلدهما، وقد تلقب بالمنتصر بالله، وخوطب بالخلافة، وأمره في نهاية القوة، وهو على أن يسير إلى دار الخلافة، فيجلس بها، ويقبض على المقتدر، إلا أنه أخر ذلك، لتتكامل البيعة، وتنفذ الكتب، ويسير من غد.
وكان سوسن حاجب المقتدر، والمتولي لأمور داره، والغلمان المرسومين بحمايتها، ممن وافق ابن المعتز، ودخل مع القواد فيما دخلوا فيه، وشرط عليه، أن يقر على ما إليه، ويزاد شرطة بغداد.
فلما جلس ابن المعتز في اليوم الأول، كان المتولي لإيصال الناس إليه، والخادم بحضرته فيما يخدم فيه الحاجب، أحد الخدم غيره.
فبلغ ذلك سوسناً، فشق عليه، وتوهم أن ذلك غدر به، ورجوع عما شرط، وووقف عليه، فدعا الخدم، وغلمان الدار، إلى نصرة المقتدر، فأجابوه، فأغلق الأبواب، وأخذ أهبة الحرب.
وأصبح ابن المعتز، في اليوم الثاني من بيعته، وهو يوم الأحد لسبع بقين من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين، عامداً على المسير إلى الدار، فثبطه محمد بن داود، وعرفه رجوع رأي سوسن، عما كان وافق عليه.
وصغر القواد ذلك في نفسه، فلم يتشاغل بتلافيه، وأشاروا عليه بالركوب إلى دار الخلافة، وهم لا يشكون في تمام الأمر، فركب وهم معه.
وانقلبت العامة مع المقتدر، ورموا ابن المعتز بالستر، وحاربوه مع شرذمة أنفذهم سوسن لحربه ممن أطاعه على نصرة المقتدر.
ولما شاهد ابن المعتز الصورة، انهزم، وهرب، وانحل ذلك الأمر العظيم كله، وتفرق القواد، وسار بعضهم خارجاً عن بغداد، وروسل باقيهم عن المقتدر، بالتلافي، فسكنوا، وعادوا إلى طاعته.
وطلب ابن المعتز، فوجد، وجيء به إلى دار الخلافة، فحبس فيها، ثم قتل، وكانت مدته منذ ظهر يوم السبت، إلى قريب من الظهر من يوم الأحد.
وعاد الأمر مستقيماً للمقتدر بالله، وانفرجت له تلك الشدة، عن ثبات الملك له.
وقد شرح هذا أصحاب التواريخ، بما لا وجه لإعادته ها هنا.
بعث الفضل بن سهل خدابود لقتال خارجي فجاء برأسه

وذكر عبد الله بن بشر، قرابة الفضل بن سهل، قال: كان الفضل إذا دخل مدينة السلام، من السيب - موضع قرية - لحوائجه، وهو - إذ ذاك - صغير الحال، نزل على فامي بها، يقال له: خدابود، فيخدمه هو وأهل بيته، ويقضي حوائجه إلى أن يعود.
وتقضت الأيام، وبلغ الفضل مع المأمون ما بلغ، بخراسان، وقضي أن الفامي ألح عليه الزمان بنكبات متصلة، حتى افتقر، فنهض إلى الفضل بن سهل.
وقدم مرو، فبدأ بي، فسررت به، وأكرمته، وأصلحت من شأنه ما يجب أن يصلح لدخوله على الفضل، وقمت فدخلت إلى الفضل وقد جلس على مائدته.
فقلت له: أتذكر الشيخ الفامي، الذي كنا ننزل عليه ببغداد ؟.
فقال لي: سبحان الله، تقول لي تذكره، وله علينا من الحقوق ما قد علمت ؟ فكيف ذكرته ؟ أظن إنساناً أخبرك بموته.
فقلت: هوذا في منزلي.
فاستطير فرحاً، وقال: هاته الساعة، ثم رفع يده، وقال: لا آكل أو يجيء.
فقمت، وجئت به، فحين قرب منه، تطاول له، وأجلسه بين يديه، فيما بيني وبينه، وأقبل عليه، وقال: يا هذا، ما حبسك عنا طول هذه المدة ؟.
فقال: محن عاقتني، ونكبات أصابتني.
فاقبل يسائله عن واحدة واحدة من بناته وأهله.
فقال له: لم يبق لي بعدك ولد، ولا أهل، ولا مال إلا تلف، وما تحملت إليك، إلا من قرض ومسألة، فكاد الفضل يبكي.
فلما استتم غداءه، أمر له بثياب فاخرة، ومركوب، ومال لنفقته، وأن يدفع إليه منزل، وأثاث، واعتذر إليه، ووعده النظر في أمره.
فلما كان من غد، حضر عنده وكلاء تجار بغداد، وكانوا قد قدموا عليه، يبتغون بيع غلات السواد منه، وأعطوه عطايا لم يجب إليها.
فأحضرني، وقال: قد علمت ما دار بيني وبين هؤلاء، فأخرج إليهم، وأعلمهم أني قد أنفذت البيع لهم، بما التمسوا، على أن يجعلوا لخدابود معهم الربع.
ففعلت ذلك، وأجاب التجار، وفرحوا بما تسهل لهم.
ثم قال لخدابود: إنهم سيهولون عليك بكثرة المؤن، ويبذلون لك مائة ألف درهم على أن تخرج من الشركة، فاحذر أن تفعل، ولا تخرج بأقل من خمسين ألف دينار.
ثم قال: اخرج معه، وتوسط فيما بينهم وبينه، ففعلت ذلك، ولم أقنع حتى قدم التجار لخدابود خمسين ألف دينار، ودخل، فعرف الفضل ما جرى، وشكره، وأقام معنا مدة.
ثم دخل إليه يوماً، والفضل مغموم مفكر، فقال له: أيها الأمير ما الذي قد بلغ بك إلى ما أرى من الفكر والغم ؟ قال: أمر لا أحسب لك فيه عملاً يا خدابود.
قال: فأخبرني به، فإن كان عندي فيه ما يفرجه عنك، وإلا ففي الشكوى راحة.
فقال له الفضل: إن خارجياً قد خرج علينا ببعض كور خراسان، ونحن على إضاقة من المال، وأكثر عساكرنا قد جردوا إلى بغداد، والخارجي يقوى في كل يوم وأنا مرتبك في هذا الأمر.
فقال: أيها الأمير، ما ظننت الأمر، إلا أصعب من هذا، وما هذا حتى تفكر فيه ؟ أنت قد فتحت العراق، وقتلت المخلوع، وأزلت مثل تلك الدولة، وتهتم بهذا اللص الذي لا مادة له ؟ أنفذني إليه أيها الأمير، فإن أتيتك به، أو برأسه، بإقبالك، فهو الذي تريد، وإن قتلت، لم تنثلم الدولة بفقدي، على أني أعلم أن بختك لا يخطئ في هذا المقدار اليسير.
قال: ففكر الفضل ساعة، ثم التفت إلي، فقال: لعل الله يريد أن يعرفنا قدرته بخدابود.
ثم لفق رجالاً، واحتال مالاً، ففرقه عليهم، وخلع على خدابود، وقلده حرب الخارجي، والبلد الذي هو فيه.
فسار خدابود بالعسكر، فلما شارف عسكر الخارجي، جمع وجوه عسكره وقال لهم: إني لست من أهل الحرب، وأعول على نصرة الله تعالى لخليفته على العباد، وعلى إقبال الأمير، وليس هذا الخارجي من أهل المدد، وإنما هو لص لا شوكة له، فاعملوا عمل واثق بالظفر، ولا تقنعوا بدون الوصول إليه، ولكم إن جئتم به، أو برأسه، كذا وكذا.
قال: فحملوا، وحققوا، فانجلت الحرب عن الخارجي قتيلاً، فاحتز رأسه.
وكتب خدابود إلى الفضل، لست ممن يحسن كتب الفتوح، ولا غيرها، ولكن الله جلت عظمته قد أظفرنا بالخارجي، وحصل رأسه معي، وتفرق أصحابه، وأنا أستخلف على الناحية، وأسير برأسه.
قال: وتلا الكتاب مجيء خدابود بالرأس، فعجبنا مما تم له، وعلت حاله مع الفضل.

موت زياد يفرج عن ابن أبي ليلى
وذكر أبو الحسن المدائني، في كتابه كتاب الفرج بعد الشدة والضيقة عن محمد بن الحجاج، عن عبد الملك بن عمير، قال:

كتب معاوية، إلى زايد: إنه قد تلجلج في صدري شيء من أمر حجر ابن عدي، فابعث لي رجلاً من أهل المصر، له فضل، ودين، وعلم، فدعا عبد الرحمن بن أبي ليلى، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب إلي يأمرني أن أوجه إليه رجلاً من أهل المصر، له دين وفضل وعلم، ليسأله عن حجر بن عدي، فكنت عندي ذلك الرجل، فإياك أن تقبح له رأيه في حجر، فأقتلك، وأمر له بألفي درهم، وكساه حلتين، وحمله على راحلتين.
قال عبد الرحمن: فسرت، وما في الأرض خطوة، أشد علي، من خطوة تدنيني إلى معاوية.
فقدمت بابه، فاستأذنت، فأذن لي، فدخلت، فسألني عن سفري، ومن خلفت من أهل المصر، وعن خبر العامة والخاصة.
ثم قال لي: انطلق فضع ثياب سفرك، والبس الثياب التي لحضرك، وعد.
فانصرفت إلى منزلي، ثم رجعت إليه، فذكر حجراً، ثم قال: أما والله، لقد تلجلج في صدري منه شيء، ووددت أني لم أكن قتلته.
قلت: وأنا والله يا معاوية، وددت أنك لم تقتله، فبكى.
فقلت: والله، لوددت أنك حبسته.
فقال لي: وددت أني كنت فرقتهم في كور الشام، فتكفينيهم الطواعين.
قلت: وددت ذلك.
فقال لي: كم أعطاك زياد ؟ قلت: ألفين، وكساني حلتين، وحملني على راحلتين.
قال: فلك مثل ما أعطاك، أخرج إلى بلدك.
فخرجت وما في الأرض شيء أشد علي من أمر يدنيني من زياد، مخافة منه.
فقلت: آتي اليمن، ثم فكرت، فقلت: لا أخفى بها.
فأجمعت على أن آتي بعض عجائز الحي، فأتوارى عندها، إلى أن يأتي الله بالفرج من عنده.
قال: وقدمت الكوفة، فأمر بجهينة الظاهرة، حين طلع الفجر، ومؤذنهم يؤذن.
فقلت: لو صليت، فنزلت، فصرت في المسجد، حتى أقام المؤذن.
فلما قضينا الصلاة، إذا رجل في مؤخر الصف، يقول: هل علمتم ما حدث البارحة ؟ قالوا: وما حدث ؟ قال: مات الأمير زياد.
قال: فما سررت بشيء، كسروري بذلك.

معاوية بن أبي سفيان
أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية 20 ق - 60: مؤسس الدولة الأموية بالشام، وأحد دهاة العرب المتميزين الكبار، حكم الشام حكماً مستمراً، دام ما يزيد على الأربعين سنة، قضى بعضها 18 - 35 أميراً، وقضى الباقي متغلباً، ولاه على الشام الخليفة عمر، ولما ولي عثمان جمع له الديار الشامية كلها، ولما ولي علي عزله، فخرج على علي بحجة المطالبة بدم عثمان الأعلام 8 - 172 حتى إذا قتل علي، وتمكن من السيطرة ترك المطالبة بدم عثمان البصائر والذخائر 2 - 586.
وهو أول من لعن المسلمين على المنابر العقد الفريد 4 - 366 و5 - 91 وأول من حبس النساء بجرائر الرجال، إذ طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، لموالاته علياً، وحبس امرأته بدمشق، حتى إذا قطع عنقه، بعث بالرأس إلى امرأته وهي في السجن، وأمر الحرسي أن يطرح الرأس في حجرها بلاغات النساء 64 واليعقوبي 2 - 232 والديارات 179 و180.
وكان يفرض على الناس لعن علي والبراءة منه، ومن أبى، قتله، أو بعث به إلى عامله زياد ليدفنه حياً العقد الفريد 3 - 234 و4 - 34 والأغاني 18 - 150 وابن الأثير 3 - 485 والأغاني 17 - 153.
وهو أول من سخر الناس، واستصفى أموالهم، وأخذها لنفسه اليعقوبي 2 - 232 وهو أول من حبس على معارضيه أعطياتهم أدب الكتاب للصولي 2 - 224 محتجاً بأن العطاء ينزل من خزائن الله، فقال له الأحنف: إنا لا نلومك على ما في خزائن الله، ولكن على ما أنزله الله من خزائنه، فجعلته في خزائنك، وحلت بيننا وبينه البصائر والذخائر م2 ق2 ص689.
وقيل لشريك بن عبد الله، إن معاوية كان حليماً، فقال: كلا، لو كان حليماً ما سفه الحق ولا قاتل علياً كتاب الآداب لجعفر 22 و23.
وروى ابن الجوزي، عن الحسن البصري، إنه قال: أربع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا واحدة، لكانت موبقة، وهي: أخذه الخلافة بالسيف، من غير مشاورة، وفي الناس بقايا الصحابة، وذوو الفضيلة، واستخلافه ابنه يزيد، وكان سكيراً خميراً، يلبس الحرير، ويضرب بالطنابير، وادعاؤه زياد أخاً، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، وقتله حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويلاً له من حجر، وأصحاب حجر خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.

وقال نيكلسون: اعتبر المسلمون انتصار بني أمية، وعلى رأسهم معاوية، انتصاراً للأرستقراطية الوثنية، التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله حتى قضى عليها، وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها. وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، لذلك، لا ندهش إذا كره المسلمون بني أمية، وغطرستهم، لا سيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالاً كثيرين، لم يعتنقوا الإسلام إلا سعياً وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكاً كسروياً، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك تاريخ الإسلام 1 - 278 و279.
وكان مصروف الهمة إلى تدبير أمر الدنيا، يهون عليه كل شيء إذا انتظم أمر الملك الفخري 107 ولما استولى على الملك، استبد على جميع المسلمين، وقلب الخلافة ملكاً رسائل الجاحظ 14 - 16 وكان يقول: إنا لا نحول بين الناس وألسنتهم، ما لم يحولوا بيننا وبين السلطان محاضرات الأدباء 1 - 226.
وختم معاوية أعماله، بإرادته أن يظهر العهد ليزيد، فقال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنه، ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون ؟ فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، فسكت وأضمرها، ودس ابن أثال الطبيب إلى عبد الرحمن، فسقاه سماً، فمات الأغاني 16 - 197.
ثم فرض ولده يزيد على الناس فرضاً، وحملهم على بيعته قسراً، وأوعز إلى رجل من الأزد، اسمه يزيد بن المقفع، فقام خطيباً وقال: أمير المؤمنين هذا وأشار إلى معاوية، فإذا مات فهذا وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا وأشار إلى السيف، فقال له معاوية: أقعد، فأنت سيد الخطباء العقد الفريد 4 - 370 ومروج الذهب 2 - 21.
إقرأ بعض أخبار معاوية في تاريخ اليعقوبي 2 - 217 وفي الامتاع والمؤانسة 2 - 75 و3 - 178 وفي محاضرات الأدباء 1 - 353 وفي كتاب التاج للجاحظ 205 وفي المحاسن والمساوئ 2 - 148 وفي البيان والتبيين للجاحظ 2 - 87 و110 و4 - 133 وفي الأغاني 4 - 189 و6 - 266 و15 - 168، 197 و198 و17 - 144 وفي وفيات الأعيان 2 - 169 وفي الفخري 106 - 110 وفي البصائر والذخائر م2 ق2 ص671 و702 وفي نفح الطيب 2 - 542 وفي خزانة الأدب للبغدادي 2 - 518 و519.
خرج يريد خالداً القسري فأعطاه الحكم فأغناه
وقد أخبرني علي بن دبيس، عن الخزاعي المدائني، عن أبي عمر الزاهد وقد لقيت أبا عمر، وحملت منه شيئاً من علومه ورواياته، وأجاز لي كل ما صح منها، فدخل هذا في إجازته.
وحدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الوراق، في كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني عمي مصعب، عن نوفل بن عمارة: أن رجلاً من قريش، من بني أمية، له قدر وخطر، لحقه دين، وكان له مال من نخل وزرع، فخاف أن يباع عليه، فشخص من المدينة يريد الكوفة، يقصد خالد بن عبد الله القسري، وكان والياً لهشام بن عبد الملك على العراق، وكان يبر من قدم عليه من قريش.
فخرج الرجل يريده، وأعد له من طرف المدينة، حتى قدم فيد، فأصبح بها.
فرأى فسطاطاً، عنده جماعة، فسأل عنه، فقيل: للحكم بن عبد المطلب، يعني أبا عبد الله بن عبد المطلب بن حنظلة بن الحارث بن عبيد بن عمرو بن مخزوم، وكان يلي المشاعر، فلبس نعليه، وخرج حتى دخل عليه.
فلما رآه، قام إليه فتلقاه، وسلم عليه وأجلسه في صدر فراشه، ثم سأله عن مخرجه، فأخبره بدينه، وما أراد من إتيان خالد بن عبد الله.
فقال الحكم: انطلق بنا إلى منزلك، فلو علمت بمقدمك لسبقتك إلى إتيانك، فمضى معه، حتى أتى منزله، فرأى الهدايا التي أعدها لخالد، فتحدث ساعة معه.
ثم قال: إن منزلنا أحضر عدة، وأنتم مسافرون، ونحن مقيمون، فأقسمت عليك إلا قمت معي إلى المنزل، وجعلت لنا من هذه الهدايا نصيباً.
فقام الرجل معه، وقال: خذ منها ما أحببت، فأمر بها، فحملت كلها إلى منزله، وجعل الرجل يستحي أن يمنعه شيئاً، حتى صار إلى المنزل.
فدعا بالغداء، وأمر بالهدايا، ففتحت، فأكل منها، ومن حضره، ثم أمر ببقيتها فرفعت إلى خزانته، وقام الناس.

ثم أقبل على الرجل، وقال له: أنا أولى بك من خالد، وأقرب منه رحماً ومنزلاً، وها هنا مال للغارمين، أنت أولى الناس به، وأقرب، وليس لأحد عليك فيه منة، إلا الله تعالى، تقضي به دينك، ثم دعا له بكيس فيه ثلاثة آلاف دينار، فدفعت إليه.
ثم قال: قد قرب الله - جلت عظمته - عليك الخطوة، فانصرف إلى أهلك مصاحباً، محفوظاً.
فقام الرجل من عنده، يدعو له ويشكره، ولم يكن له همة إلا الرجوع إلى أهله، وانطلق الحكم يشيعه.
ثم قال: كأني بزوجتك، قد قالت: أين طرائف العراق، خزها، وبزها، وعروضها، أما كان لنا منها نصيب ؟ ثم أخرج صرة قد كان حملها معه، فيها خمسمائة دينار، فقال له: أقسمت عليك، إلا جعلت هذه عوضاً عن هدايا العراق، وانصرف.
وذكر أبو الحسين القاضي، هذا الخبر، في كتابه، كتاب الفرج بعد الشدة، بغير إسناد، على قريب من هذه العبارة.

لا بارك الله في مال بعد عثمان
وذكر أيضاً في كتابه، بغير إسناد: أن عثمان بن طلحة، ركبه دين فادح، مبلغه ألفا دينار، فأراد الخروج إلى العراق، لمسألة السلطان قضاءه عنه.
فلما عزم على السفر، اتصل خبره بأخيه جعفر بن طلحة، فقال: لا بارك الله في مال بعد عثمان.
فدخل على نسائه، فجعل يخلع حليهن، حتى جمع له أكثر من ألفي دينار، فدفعها إليه.
فقضى دينه، وأقام.
رفع صوته بالتلبية فحملت إليه أربعة آلاف ديناروحدثنا أحمد بن عبد الله، في هذا الكتاب، كتاب نسب قريش، قال: حدثنا أحمد بن سليمان، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مفضل بن غسان، عن أبيه، عن رجل من قريش، قال: حج محمد بن المنكدر، من بني تيم بن مرة، قال: وكان معطاءً، فأعطى حتى بقي في إزار واحد، وحج معه أصحابه.
فلما نزل الروحاء، أتاه وكيله، فقال: ما معنا نفقة، وما بقي معنا درهم.
فرفع محمد صوته بالتلبية، فلبى، ولبى أصحابه، ولبى الناس، وبالماء محمد بن هشام.
فقال: والله، إني لأظن أن محمد بن المنكدر بالماء، فانظروا.
فنظروا، وأتوه فقالوا: هو بالماء.
فقال: ما أظن معه درهماً، احملوا إليه أربعة آلاف درهم.
يزيد بن عبد الملك بن مروان يصف عمر بن هبيرة بالرجلة ويوليه العراققال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: نالت عمر بن هبيرة، إضاقة شديدة، فأصبح ذات يوم، في نهاية الكسل، وضيق الصدر، والضجر مما هو فيه.
فقال له أهله ومواليه: لو ركبت فلقيت أمير المؤمنين، فلعله - إذا رآك - أن يجري لك شيئاً فيه محبة، أو يسألك عن حالك، فتخبره.
فركب، فدخل على يزيد بن عبد الملك، فوقف بين يديه ساعة، وخاطبه.
ثم نظر يزيد بن عبد الملك إلى وجه عمر، وقد تغير تغيراً شديداً، أنكره، فقال: أتريد الخلاء ؟ قال: لا.
قال: إن لك لشأناً.
قال: يا أمير المؤمنين، أجد بين كتفي أذىً لا أدري ما هو.
قال يزيد بن عبد الملك: انظروا ما هو.
فنظروا، فإذا بين كتفيه عقرب، قد ضربته عدة ضربات.
فلم يبرح حتى كتب عهده على العراق، وجعل يزيد بن عبد الملك يصفه بالرجلة، وشدة القلب.
كان خالد القسري لا يملك إلا ثوبه فجاءه الفرج بولاية العراقوذكر أبو الحسين في كتابه: أن خالد بن عبد الله القسري، أصابته إضاقة شديدة، فبينما هو ذات يوم في منزله، إذ أتاه رسول هشام بن عبد الملك يدعوه لولاية العراق، فتلوم، فاستحثه الرسول.
فقال له خالد: رويداً حتى يجف قميصي، وقد كان غسله قبل موافاة الرسول، ولم يكن بقي له غيره.
فقال له الرسول: يا هذا، أسرع في الإجابة، فإنك تدعى إلى قمصان كثيرة.
فجاء إلى هشام، فولاه العراق.
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين
قال: ومن الأعجوبات، ما ذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، عن علي بن الهيثم، قال: رأيت شيئاً قلما رئي مثله، رأيت ثقل الفضل بن الربيع، على ألف بعير، ثم رأيت ثقله في زنبيل، ونحن مستترون، وفيه أدوية لعلته، وهو ينقله من موضع إلى موضع.
ورأيت الحسن بن سهل، وكان مع طريف خادمي في بيت الدهليز، وثقله في زنبيل، فيه نعلان، وقميصان، وإزار، وإسطرلاب، وما أشبه ذلك، ثم رأيت ثقله على ألف بعير.
باع من إضاقته لجام دابته في الصباح وحلت له عشرون ألف دينار وقت الظهرقال: وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثنا أبو القاسم ميمون بن موسى قال:

خرج رجل من الكتاب في عسكر المعتصم إلى مصر، يريد التصرف، فلم يحظ بشيء مما أمل، ودخل المعتصم بالله مصر.
قال: فحدثني بعض المتصرفين عنه، قال: نزلت في دار بالقرب منه، فحدثني الرجل بما كنت وقفت على بعضه.
قال: أصبحت ذات يوم، وقد نفدت نفقتي، وتقطعت ثيابي، وأنا من الهم، والغم، على ما لا يوصف عظماً.
فقال لي غلامي: يا مولاي، أي شيء نعمل اليوم ؟ فقلت له: خذ لجام الدابة، فبعه، فإنه محلى، وابتع مكانه لجاماً حديداً، واشتر لنا خبزاً سميذاً، وجدياً سميناً، فقد قرمت إلى أكلهما، وعجل، ولا تدع أن تبتاع فيما تبتاعه كوز نبيذ شيروي.
فمضى الغلام، وجلست أفكر في أمري، ومن ألاقي، وكيف أعمل، وإذا بباب الدار قد دق دقاً عنيفاً، حتى كاد أن يكسر، وإذا رهج شديد.
فقلت لغلام كان واقفاً بين يدي: بادر، فانظر ما هذا.
فإلى أن يفتح الباب، كسر، وامتلأت الدار بالغلمان الأتراك وغيرهم، وإذا بأشناس، وهو حاجب المعتصم، ومحمد بن عبد الملك الزيات، وهو الوزير، قد دخلا.
فطرحت لهم زلية، فجلسا عليها، وإذا معهما حفارون.
قال: فلما رأيت ذلك، بادرت فقبلت أيديهما، فسألاني عن خبري، فخبرتهما إياه، وأنني قد خرجت في جملة أهل العسكر، طلباً للتصرف، وذكرت حالي وما قد آلت إليه، فوعداني جميلاً، والحفارون يحفرون في وسط الدار، حتى ترجل النهار، وأنا واقف بين أيديهما، وربما حدثتهما.
فالتفت أشناس إلى محمد بن عبد الملك فقال: أنا والله جائع.
فقال له محمد: وأنا - والله - كذلك.
فقلت عند ذلك: يا سيدي، عند خادمكما شيء قد اتخذ له، فإن أذنتما في إحضاره أحضره.
فقالا: هات.
فقدمت الجدي، وما كان ابتيع لنا، فأكلا، واستوفيا، وغسلا أيديهما.
ثم قال لي أشناس: عندك شيء من ذلك الفن ؟ قلت: نعم، فسقيتهما ثلاثة أقداح.
وجعل أحدهما يقول للآخر: ظريف، وما ينبغي لنا أن نضيعه البائس.
فبينما الحال على ذلك، إذ أرتفع تكبير الحفارين، وإذا هم قد كشفوا عن عشرين مرجلاً دنانير، فوجهوا بالبشارة إلى المعتصم، وأخرجت المراجل.
فلما نهضا، قال أحدهما للآخر: فهذا الشقي الذي أكلنا طعامه، وشربنا شرابه، ندعه هكذا ؟ فقال له الآخر: فنعمل ماذا ؟ قال: نحفن له من كل مرجل حفنة، لا تؤثر فيه، فنكون قد أغنيناه، ونصدق أمير المؤمنين عن الحديث.
ثم قالا: افتح حجرك، وجعل كل واحد، يحفن لي حفنة، من كل مرجل، وأخذا المال، وانصرفا.
فنظرت، فإذا قد حصل لي عشرون ألف دينار، فانصرفت بها إلى العراق، وابتعت بها ضياعاً ولزمت منزلي، وتركت التصرف.

سبحان خالقك يا أبا قلابة فقد تنوق في قبح وجهك
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، عن أبي قلابة المحدث، قال: ضقت ضيقة شديدة، فأصبحت ذات يوم، والمطر يجيء كأفواه القرب، والصبيان يتضورون جوعاً، وما معي حبة واحدة فما فوقها، فبقيت متحيراً في أمري.
فخرجت، وجلست في دهليزي، وفتحت بابي، وجعلت أفكر في أمري، ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه، وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر.
فإذا بامرأة نبيلة، على حمار فاره، وخادم أسود آخذ بلجام الحمار، يخوض في الوحل، فلما صار بإزاء داري، سلم، وقال: أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله، وأنا هو.
فسألتني عن مسألة، فأفتيتها فيها، فصادف ذلك ما أحبت، فأخرجت من خفها خريطة، فدفعت إلي منها ثلاثين ديناراً.
ثم قالت: يا أبا قلابة، سبحان خالقك، فقد تنوق في قبح وجهك، وانصرفت.
المنصور العباسي يتذكر ما ارتكب من العظائم فيبكي وينتحبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: دخل عمرو بن عبيد، على أبي جعفر المنصور قبل دولة بني العباس، وكان صديقه، وبين يديه طبق عليه رغيف، وغضارة فيها فضلة سكباج، وهو يتغدى، وقد كاد يفرغ، فلما بصر بعمرو، قال: يا جارية، زيدينا من هذا السكباج، وهاتي خبزاً.
قالت: ليس عندنا خبز، وما بقى من السكباج شيء.
قال: فارفعي الطبق، ثم قال: " عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم، ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون " .
فلما أفضى الأمر إلى أبي جعفر، وارتكب العظائم، دخل عليه عمرو بن عبيد، فوعظه، ثم قال: أتذكر يوماً دخلت عليك ... وأعاد الحديث، وقد استخلفك، فماذا عملت ؟ فجعل المنصور يبكي وينتحب، وفيه حديث طويل.

ارتكب المنصور فظائع من قتل، وتعذيب، ودفن الناس أحياء، ودق الأوتاد في الأعين، وبناء الحيطان على الأحياء، وكان يشهد تعذيب من يأمر بتعذيبه، حتى أنه كان يشهد تعذيب النساء أيضاً.
راجع في الفخري 165 سبب حبس آل الحسن، وقتلهم، وقد حبسهم المنصور في سرداب تحت الأرض، لا يفرقون فيه بين ضياء النهار، وسواد الليل، وهدم الحبس على قسم منهم، وكانوا يتوضؤون أي يقضون حاجاتهم في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، وكان الورم يبدو في أقدامهم فلا يزال يرتفع حتى يبلغ القلب، فيموت صاحبه، ومات إسماعيل بن الحسن، فترك عندهم حتى جيف، فصعق داود بن الحسن، ومات مروج الذهب 2 - 236.
وبلغ المنصور أن عبد الله بن محمد النفس الزكية، فر منه إلى السند، فبعث وراءه من قتله مقاتل الطالبيين 310 - 313، وأمر المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، فبنيت عليه أسطوانة، وهو حي الفخري 164، ومقاتل الطالبيين 200، والطبري 7 - 546 وابن الأثير 5 - 526 وأمر بعبد الله بن الحسن بن الحسن فطرح عليه بيت فقتله مقاتل الطالبيين 228 أما الباقون فما زالوا في الحبس حتى ماتوا، وقيل إنهم وجدوا مسمرين في الحيطان اليعقوبي 2 - 370.
وأمر المنصور بإبراهيم بن الحسن بن الحسن، فدفن حياً مقاتل الطالبيين 28 وجرد محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمه فاطمة بنت الحسين، فضرب ألف سوط مروج الذهب 2 - 236 وأمر بأن يدق وجهه بالجرز، وهو العمود من الحديد الطبري 7 - 543 وبلغ من شدة الضرب أن أخرج وكأنه زنجي مقاتل الطالبيين 220 وابن الأثير 5 - 525 وجاءت إحدى الضربات على عينه، فسالت مقاتل الطالبيين 220 والطبري 7 - 542 ثم قتله، وقطع عنقه مقاتل الطالبيين 226.
ولما حمل رأس محمد بن عبد الله إلى المنصور، قال لمطير بن عبد الله: أما تشهد أن محمداً بايعني ؟ فقال: أشهد بالله لقد أخبرتني بأن محمداً خير بني هاشم، وأنك بايعت له، فشتمه، وأمر به، فوتد في عينيه المحاسن والمساوئ 2 - 138.
ولما قتل إبراهيم بن عبد الله في باخمرى، بعث المنصور برأسه إلى أبيه عبد الله فوضعه بين يديه مروج الذهب 2 - 236 و237 وأمر بسديف بن ميمون الشاعر، فدفن حياً العقد الفريد 5 - 87 - 89.
ومن بعد وفاة المنصور عثر المهدي، وزوجته ريطة، على أزج في قصر المنصور، فيه جماعة من قتلى الطالبيين، وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم، وإذا فيهم أطفال، ورجال، شباب ومشايخ، عدة كثيرة، فلما رأى المهدي ذلك، ارتاع لما رأى، وأمر فحفرت لهم حفيرة دفنوا فيها الطبري 8 - 105.
ولما طال حبس عبد الله بن الحسن، وأهل بيته، جلست إحدى بناته للمنصور، فتوسلت إليه بالقرابة، وطلبت منه الرحمة، فقال لها: أذكرتنيه، وأمر به فحدر إلى المطبق وكان آخر العهد به تاريخ بغداد للخطيب 9 - 432.
ومما يبعث على العجب أن المنصور، الذي ضرب أسوء الأمثال في القسوة، أوصى ولده المهدي، فقال: أحفظ محمداً في أمته، وإياك والدم الحرام، فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، وافتتح عملك بصلة الرحم، وبر القرابة الطبري 8 - 105 و106.

إن قرح الفؤاد يجرح جرحا
ً
وذكر القاضي أبو الحسين، قال: روي لنا عن خالد بن أحمد البطحاوي، مولى آل جعفر بن أبي طالب، قال: تزوجت امرأة، فبينا أنا ذات ليلة من ليالي العرس، وليس عندنا قليل ولا كثير، وأنا أهم الناس بذلك، إذ جاءتني امرأتان، فطرقتا باب منزلي، فخرجت إليهما، فإذا بجارية شابة، وأخرى نصف.
فقالت: أنت خالد البطحاوي ؟.
قلت: نعم.
قالت: أحب أن تنشدنا قولك: خلفوني ببطن حام، فأنشدتهما:
خلّفوني ببطن حامٍ صريعاً ... ثمّ ولّوا وغادروني صبحا
جمع اللّه بين كلّ محبٍّ ... ذبحوه بشفرة الحبّ ذبحا
غادر الحبّ في فؤادي قرحاً ... إنّ قرح الفؤاد يجرح جرحا
قال: فرمت إلي الشابة بدملج ذهب، وانصرفتا، فبعته بجملة دراهم، واتسعت بها.
أبو عمر القاضي يصبح وليس عنده درهم واحد فيجيئه الفرج في وقت قريبوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثني أبي، قال: أضقت إضاقة شديدة، في نكبتي، وأصبحت يوماً، وما عندي درهم واحد فما فوقه، وكان الوقت شتاءً، والمطر يجيء.

فجلست ضيق الصدر، مفكراً في أمري، إذ جاءني صديق لي، فقال: قد جئت لأقيم عندك اليوم، فازداد ضيق صدري، وقلت له: بالرحب والسعة، وأظهرت له السرور بمجيئه.
ودخلت إلى النساء، فقلت لهن: احتلن فيما ننفق في هذا اليوم، على رهن أو بيع شيء من البيت، فقد طرقنا ضيف.
وخرجت، فجلست مع الرجل، وأنا على نهاية من شغل القلب، خوفاً أن لا يتفق قرض، ولا بيع، لأجل المطر.
فأنا كذلك، إذ دخل الغلام، فقال: خليفة أبي الأغر السلمي بالباب.
فقلت: أي وقت هذا لخليفة أبي الأغر ؟ وأمرته أن يخرج فيصرفه، ثم تذممت من صرفه، وقد قصدني في مثل هذا اليوم.
فقلت: قل له يدخل.
فدخل، وحادثني قليلاً، ثم قرب مني، وأخرج صرة فيها مائة دينار.
وقال: يقول لك أخوك: وجهت إليك بهذه الصرة، فتأمر بصرفها في مثل هذا اليوم، في بعض ما يصلح حالك.
فامتنعت من قبولها، فلم يزل خليفته يلطف بي، حتى قبلتها.

بين أحمد بن أبي خالد وصالح الأضجم
حدثني أبي، أبو القاسم التنوخي، في المذاكرة، بإسناد ذهب عن حفظي، قال: كان أحمد بن أبي خالد، بغيضاً، قبيح اللهجة، وكان مع ذلك حراً، وكان يلزمه رجل متعطل من طلاب التصرف يقال له: صالح بن علي الأضجم، من وجوه الكتاب، فحدث، قال: طالت بي العطلة في أيام المأمون، والوزير - إذ ذاك - أحمد بن أبي خالد، وضاقت حالي، حتى خشيت التكشف.
فبكرت يوماً إلى أحمد بن أبي خالد مغلساً، لأكلمه في أمري، فرأيت بابه قد فتح، وخرج بين يديه شمعة، يريد دار المأمون.
فلما نظر إلي، أنكر علي بكوري، وعبس في وجهي، وقال: في الدنيا أحد بكر هذا البكور ليشغلنا عن أمرنا.
فلم تصبر نفسي أن قلت: ليس العجب منك - أصلحك الله - فيما استقبلتني به، وإنما العجب مني، وقد سهرت ليلتي، وأسهرت من في داري تأميلاً لك، وتوقعاً للصبح، لأصير إليك، فأبثك أمري، وأستعين بك على صلاح حالي، وإلا فعلي، وعلي، وحلفت يميناً غليظة، لا وقفت ببابك، ولا سألتك حاجة، حتى تصير إلي معتذراً مما كلمتني به.
وانصرفت مغموماً، مكروباً بما لقيني به، متندماً على ما فرط مني، غير شاك في العطب، إذ كنت لا أقدر على الحنث، وكان ابن أبي خالد، لا يلتفت إلى إبرار قسمي.
فإني لكذلك، وقد طلعت الشمس، إذ طلع بعض غلماني، فقال: أحمد بن أبي خالد، مقبل في الشارع، ثم دخل آخر، فقال: قد دخل دربنا، ثم دخل آخر، فقال: قد وقف على الباب، ثم تبادر الغلمان بدخوله الدهليز، فخرجت مستقبلاً له.
فلما استقر به مجلسه في داري، ابتدأت أشكره على إبراره قسمي، فقال: إن أمير المؤمنين، كان أمرني بالبكور إليه في بعض مهماته، فدخلت إليه، وقد غلبني الفكر، لما فرط مني إليك، حتى أنكر ذلك، فقصصت عليه قصتي معك.
فقال: قد أسأت بالرجل، قم، فامض إليه، فاعتذر مما قلت له.
قلت: فأمضي إليه فارغ اليد ؟ قال: فتريد ماذا ؟ قلت: يقضي دينه.
قال: كم هو ؟.
قلت: ثلثمائة ألف درهم.
قال: وقع له بذلك.
قلت: فيرجع بعد إلى الدين ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم أخرى.
قلت: فولاية يشرف بها.
قال: وله مصر، أو غيرها، مما يشبهها.
قلت: ومعونة على سفره ؟ قال: وقع له بثلثمائة ألف درهم ثالثة.
قال: وأخرج التوقيع من خفه، بالولاية، وبتسعمائة ألف درهم، فدفع ذلك إلي، وانصرف.
وقد ذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، الخبر على قريب من هذا.
جندي تركي تشتد إضاقته ثم يأتيه الفرجوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: حدثنا إبراهيم بن القاسم، قال: كان في جيراني، بالجانب الشرقي، من مدينة السلام، رجل من الأتراك، له رزق في الجند، فتأخر رزقه في أيام المكتفي، ووزارة العباس بن الحسن، فساءت حاله، ورثت هيأته، حتى أدمن الجلوس عند خباز كان بالقرب منا، وكان يستسعفه، فيعطيه في كل يوم خمسة أرطال خبزاً، يتقوت بها هو وعياله.
فاجتمع عليه للخباز شيء، ضاق به صدر الخباز معه أن يعطيه سواه، فمنعه، فخرج ذات يوم، فجلس، وهو عظيم الهم، ثم كشف لي حديثه.
وقال: قد عملت على مسألة كل من يشتري من الخباز شيئاً، أن يتصدق علي، فقد حملني الجوع على هذا، وكلما أردت فعله، منعتني نفسي منه.
فبينما هو معي في هذا، إذ جاء رجل بزي نقيب، يسأل عنه، فدل عليه، فوجده جالساً عند الخباز.
فقال له: قم.
فقال: إلى أين ؟

قال: إلى الديوان، حتى تقبض رزقك، فقد خرج لك ولأصحابك رزق شهرين، فمضى معه.
فلما كان بعد ساعة، جاءني، وقد قبض مائتين وأربعين ديناراً.
فرم منزله، وأصلح حاله، وحال عياله، وأبتاع دابةً وسرجاً وسلاحاً، وقضى دينه، وخرج مع قائد كان برسمه، وحسنت حالته.

أحمد بن مسروق عامل الأهواز يتحدث عن الفرج الذي وجده في قانصة البطة
وذكر أبو الحسين في كتابه عن الحسين بن موسى، أخي إبراهيم بن موسى، قال: خرجت إلى فارس، في أيام المعتمد على الله، فمررت بالأهواز، والمتقلد لخراجها أحمد بن مسروق، فاجتمعنا، وتذاكرنا حديث الغم والفرج، وما ينال الناس منهما، ومن المرض والصحة.
فحدثني: أنه كان في ناحية إسحاق بن إبراهيم، فلما توفي، وقدم محمد بن عبد الله بن طاهر، تعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وحالفته أمراض كثيرة، فكان لا يصح له بدن يوماً واحداً.
قال: وكان له رفيق، فخرج إلى سر من رأى، فتعلق بالفتح بن خاقان، فحسنت حاله.
قال: فكان يكتب إلي في الخروج إليه، فيمنعني من ذلك عوز النفقة.
فإني لمغموم، مفكر في الحال التي أنا عليها، إذ دخل بعض نسائنا، فلامتني على طول الهم والغم، وقالت: كن اليوم عندي، حتى أذبح لك مخلفة بطة سمنت لنا، وتجتمع مع جواريك، فيغنين لك وتتفرج.
فقلت: نعم، وجئت إلى منزلنا، وذبحت البطة، فإذا قد خرجت إلي، ومعها حجر أحمر، لم تدر ما هو.
فقالت: خرج هذا من قانصة البطة، فما هو ؟ قلت: لا أدري، ولكن هبيه لي حتى أريه لمن يعرفه.
فقالت: خذه، فرأيت شيئاً لم أعرفه، إلا أني بعثت به إلى صديق لي بباب الطاق، وسألته أن يبيعه لي.
فقال: نعم، ثم إنه غسله بماء حار، وباعه بمائة وثلاثين ديناراً.
فأخذت الدنانير، واشتريت مركوباً، وتجهزت إلى سر من رأى، فلزمت أبا نوح، وباب الفتح بن خاقان، فنفدت نفقتي، وجعل رفيقي ينفق علي، ويقرضني.
فدعاني الفتح بن خاقان يوماً، وقد يئست منه، وإذا بين يديه أبو نوح، فقال: هذا أحمد بن مسروق ؟ قال: نعم.
قال: كيف أنت إن أنفذتك في أمر، واصطنعتك ؟ قلت: إني كنت مع الخراسانية كاتباً أعرف جميع الأعمال.
فأدخلني إلى المتوكل، فلما وقفت بين يديه، قال: إنا ننفذك في أمر هو محنتك، وبه ارتفاعك أو سقوطك، فانظر كيف تكون ؟ قال: فقبلت الأرض، ووعدت الكفاية به من نفسي.
وخرج الفتح، ومعه عبيد الله بن يحيى، فوقع لي عبيد الله بأجر ثلاثة آلاف درهم، مع الشاكرية الذين يقبضون عشرة أشهر من السنة، والإستقبال في أول شهر يوضع لهم، ووقع إلى خازن بيت المال بأن يدفع إلي ثلاثين ألف درهم معونة.
وكتب كتبي بالنظر في مصالح الأهواز، وأشياء هناك بالستر والأمانة، احتيج إلى كشفها، فسرت إليها، وبلغت في الأمور ما أحمد.
فصار رسمي أن أقلد أعمالها، فمرة المعونة، ومرة الخراج، ومرة يجمعان لي جميعاً.
فزالت تلك العلل والأمراض التي كانت قد حالفتني، ولا أعرف لذلك سبباً غير الفرج.
فقال الحسين بن موسى، لأحمد بن مسروق: على ذكر وجود الحجر في قانصة البطة: أخبرك أني لما سرت في سفرتي هذه، إلى الموضع المعروف باصطربند، رأيت بستاناً حسناً، فيه باقلى وخضرة، بعقب مطرة، فاستحسنته، فعدلت إليه.
فقال: عساه البستان الذي فيه الصخرة التي كأنها نابتة.
قلت: هو.
قال: هيه.
قلت: فتغدينا فيه، وشربنا أقداحاً، وكنت مستنداً إلى الصخرة، فلما نهضنا، رأيت في وسط الصخرة نقرة، قد اجتمع فيها ماء المطر، فهو في غاية الصفاء.
فوضعت فمي لأشرب منه، فتحرك فيه شيء، فنحيت فمي عنه، وتأملته، فبدت لي خرقة، فجذبتها، فإذا صرة.
فقال أحمد بن مسروق: صرتي، والله، كان فيها ثلثمائة دينار.
قلت: نعم، فمن أين صارت لك ؟.
قال: مررت بهذا الموضع، آخر خرجة خرجتها إلى الأهواز، فملت إلى الموضع، كما ملت، وكانت هذه الصرة في يدي، فوضعتها في الحجر، وأنسيتها وركبت، ثم طلبتها، فلم أجدها، ولا علمت أين وضعتها، إلا الساعة، فذكرتها بحديثك.
قلت: فالدنانير مع غلامي.
قال: خذها، بارك الله لك فيها، وأبرأت ذمتك منها.
أصلح بين متخاصمين بدرهم فوهب الله له درة بمائة وعشرين ألفاً

قال: وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد، قال: حدث حمد بن إبراهيم بن عمر البرقي، قال: حدثنا العباس بن محمد البرقي، ل: حدثنا أبو زيد، عن الفضيل بن عياض، قال: حدثني رجل: أن رجلاً خرج بغزل، فباعه بدرهم ليشتري به دقيقاً، فمر على رجلين، كل واحد منهما آخذ برأس صاحبه.
فقال: ما هذا ؟ فقيل: يقتتلان في درهم، فأعطاهما ذلك الدرهم، وليس له شيء غيره.
فأتى إلى امرأته، فأخبرها بما جرى له، فجمعت له أشياء من البيت، فذهب ليبيعها، فكسدت عليه، فمر على رجل ومعه سمكة قد أروحت.
فقال له: إن معك شيئاً قد كسد، ومعي شيء قد كسد، فهل لك أن تبيعني هذا بهذا ؟ فباعه.
وجاء الرجل بالسمكة إلى البيت، وقال لزوجته: قومي فأصلحي أمر هذه السمكة، فقد هلكنا من الجوع.
فقامت المرأة تصلحها، فشقت جوف السمكة، فإذا هي بلؤلؤة، قد خرجت من جوفها.
فقالت المرأة: يا سيدي، قد خرج من جوف السمكة شيء أصغر من بيض الدجاج، وهو يقارب بيض الحمام.
فقال: أريني، فنظر إلى شيء ما رأى في عمره مثله، فطار عقله، وحارلبه.
فقال لزوجته: هذه أظنها لؤلؤة.
فقالت: أتعرف قدر اللؤلؤة.
قال: لا، ولكني أعرف من يعرف ذلك، ثم أخذها، وانطلق بها إلى أصحاب اللؤلؤ، إلى صديق له جوهري، فسلم عليه، فرد عليه السلام، وجلس إلى جانبه يتحدث، وأخرج تلك البيضة.
وقال: أنظر كم قيمة هذه ؟ قال: فنظر زماناً طويلاً، ثم قال: لك بها علي أربعون ألفاً، فإن شئت أقبضتك المال الساعة، وإن طلبت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإنه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فنظر إليها واستحسنها، وقال: لك بها علي ثمانون ألفاً، وإن شئت الزيادة، فاذهب بها إلى فلان، فإني أراه أثمن بها لك مني.
فذهب بها إليه، فقال: لك بها علي مائة وعشرون ألفاً، ولا أرى أحداً يزيدك فوق ذلك شيئاً.
فقال: نعم، فوزن له المال، فحمل الرجل في ذلك اليوم أثنتي عشرة بدرة، في كل بدرة عشرة آلاف درهم، فذهب بها إلى منزله، ليضعها فيه، فإذا فقير واقف بالباب، يسأل.
فقال: هذه قصتي التي كنت عليها، أدخل، فدخل الرجل.
فقال: خذ نصف هذا المال، فأخذ الرجل الفقير، ست بدر، فحملها، ثم تباعد غير بعيد، ورجع إليه.
وقال: ما أنا بمسكين، ولا فقير، وإنما أرسلني إليك ربك عز وجل، الذي أعطاك بالدرهم عشرين قيراطاً، فهذا الذي أعطاك، قيراط منه، وذخر لك تسعة عشر قيراطاً.

يحيى البرمكي يتحدث عن عارفة في عنقه ليعقوب بن داود
وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: روي أن خالد بن برمك، قال لابنه يحيى، في إضاقة نالته: قد ترى ما نحن فيه، فلو لقيت يعقوب بن داود، وشكوت إليه ما نحن فيه.
فأتى يعقوب بن داود، فذكر له ذلك، فسكت عنه، فانصرف يحيى، وهو مكروب، آيس من خيره، فأخبره أباه.
فقال: افتضحنا، فياليت أنا لم نكن كشفنا له خبرنا.
قال: فركب يحيى بن خالد من غد، فلقيه بعض إخوانه، فقال: ما زال يعقوب بن داود يطلبك طلباً شديداً، فمضى إليه.
فقال له يعقوب: أين كنت ؟ والله، إنك أوردت على قلبي ما شغله بالفكر في إصلاحه، وقد عن لي أمر رجوت به صلاح حالك، إمض بنا إلى الديوان، فسار معه إليه.
فقال يعقوب: علي بتجار السواد، فأحضروا.
فقال: أشركوا أبا علي معكم بالثلث فيما تبتاعونه من غلة السلطان، ففعلوا.
فقال: لعل ذلك يشق عليكم ؟ فقالوا: أجل.
فقال: أخرجوه، بربح تجعلونه له.
فأخرجوه بربح ستين ألف دينار، فصلحت حاله، وحال أبيه، ومضى إليه بالمال.
من يفعل الخير لا يعدم جوازيهوذكر محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء، هذا الخبر بخلاف هذا، فقال: حكى يحيى بن خاقان، قال: كنت يوماً عند يحيى بن خالد، وبحضرته ابنه الفضل، إذ دخل عليه أحمد بن يزيد، المعروف بابن أبي خالد، فسلم وخرج.
فقال يحيى للفضل: في أمر هذا الرجل، خبر، فإذا فرغنا من شغلنا فأذكرني به، حتى أعرفك، فلما فرغ من عمله، أذكره.
فقال: نعم، كانت العطلة، قد بلغت مني، ومن أبي، وتوالت المحن علينا، حتى لم نهتد إلى ما ننفقه.
فلبست ثيابي يوماً، لأركب، فقال لي أهلي: إن هؤلاء الصبيان باتوا البارحة بأسوء حال، وأنا ما زلت أعللهم بما لا علالة فيه، وأصبحت، وما لهم شيء، وما لدابتك علف.

فقرعت قلبي، وقطعتني عن الحركة، ورميت بفكري، فلم يقع إلا على منديل طبري، كان بعض البزازين أهداه إلي.
فقلت: ما فعل المنديل الطبري ؟ فقالت: ها هو.
فأخرجته إلى الغلام وقلت له: اخرج إلى الشارع، فبع هذا المنديل، فمضى، وعاد من ساعته، فقال: خرجت إلى البقال الذي يعاملنا، وعنده رجل، فأعطاني بالمنديل إثني عشر درهماً صحاحاً، وقد بعته بشرط، فإن أمضيت البيع، وإلا أخرجت المنديل إلى سوق قنطرة البردان، واستقصيت فيه، كما تحب.
فأمرته بإمضاء البيع للحال التي خبرتني بها المرأة، وأن يشتري ما يحتاج إليه الصبيان، وعلفاً للدابة، وركبت، لا أدري إلى أين أقصد.
فأنا في الشارع، وإذا أنا بأبي خالد، والد هذا، ومعه موكب عظيم ضخم، وهو يومئذ يكتب لأبي عبيد الله، كاتب المهدي، فملت إليه، ورميت نفسي عليه.
وقلت له: قد تناهت العطلة بأخيك، وبي، إلى ما لا نهاية وراءه، وعلي، وعلي، إن لم تكن قصتي في يومي هذا، كيت وكيت، وقصصت عليه الخبر، وهو مستمع لذلك، ماض في سيره، فلما بلغ مقصده، انصرفت عنه، ولم يقل لي حرفاً.
فانصرفت منكسف البال، منكراً على نفسي إسرافي في الشكوى، وإطلاعي إياه على ما أطلعته عليه.
وقلت: ما زدت على أن فضحت نفسي، وقللتها في عينه من غير نفع.
ووافيت منزلي على حال أنكرتها أهلي، فسألتني.
فقلت: جنيت اليوم على نفسي جناية كنت عنها غنياً، وقصصت عليها قصتي مع يزيد.
فأقبلت توبخني، وقالت: ما حملك على أن أظهرت للرجل حالك ؟ فإن أقل ما في ذلك، أن لا يأتمنك على أمر، فإن من تناهت به الحال إلى ما ذكرت، كان غير مؤتمن، فنالني من توبيخها، أضعاف ما نالني أولاً.
وأصبحنا في اليوم الثاني، فوجهت بأحد ثوبي، فبيع، وتبلغنا بثمنه وأصبحنا في اليوم الثالث، ونحن في غاية الضيقة، فطوينا يومنا وليلتنا.
فلما كان اليوم الرابع، ضاقت نفسي، وقل صبري، وضعفت قوتي، واخترت الموت على الحالة التي أنا فيها.
فقالت لي أهلي: أنا خائفة عليك من الوسواس، فيكون ما نحتاج لعلاجك، أضعاف ما نحتاج لمؤونتنا، فسهل الأمر عليك، ولا تضجر، ولا تقنط من رحمة الله، فإن الله عز وجل، الصانع، المدبر، الحكيم.
قال: فركبت، لا أدري أين أقصد، فلما صرت إلى قنطرة البردان، لقيني رسول أبي خالد يطلبني، فدخلت داره.
فقال لي حاجبه: اجلس، فأقمت، وخرج مع الزوال، فدنوت منه.
فقال: يا ابن أخي، شكوت إلي بالأمس، شكوى، لم يكن في جوابها إلا الفعل، وأمر بإحضار حميد، وداهر، تاجرين كانا يبيعان الطعام.
فقال لهما: قد علمتما أني إنما بعتكما البارحة، ثلاثين ألف كر، على أن ابن أخي هذا شريككما فيها بالسعر.
ثم قال: لك في هذه عشرة آلاف كر بالسعر، فإن دفعا إليك ثلاثين ألف دينار ربحك، وآثرت أن تخرج إليهما من حصتك، فعلت، وإن آثرت أن تقيم على ابتياعك، فعلت.
قال: فتنحينا ناحية، وقالا: إنك رجل شريف، وابن شريف، وليست التجارة من شأنك، ومتى أقمت على ألابتياع، احتجت إلى كفاة وأعوان، ولكن خذ منا ثلاثين ألف دينار، وخلنا والطعام.
فقلت: قد فعلت، وقمت إلى أبي خالد، فقلت: قد أجبتهما إلى أخذ المال، وتركهما والطعام.
فقال: هذا أروح لك، فخذ المال، وتبلغ به، والزمنا، فإنا لا نقصر في أمرك بكل ما يمكننا.
فأخذت من الرجلين ثلاثين ألف دينار، وما كان بين ذلك، وبين بيع المنديل والثوب، إلا أربعة أيام.
فسرت إلى أبي، وخبرته الخبر، وقلت له: جعلت فداك تأمر في المال بأمرك ؟ فقال: نعم، أحكم عليك فيه، بمثل ما حكم أبو خالد به على التاجرين، أي أن الثلث لي.
فحملت إليه عشرة آلاف دينار، واشتريت بعشرة آلاف دينار ضيعة، ولم أزل أنفق الباقي، إلى أن أداني ذلك إلى هذه الحال، وإنما حدثتك بهذا، لتعرف - يا بني - للرجل حقه.
فقلت ليحيى بن خاقان: فما الذي كان من يحيى بن خالد إلى أحمد بن أبي خالد ؟ قال: ما زال هو وولده، على نهاية البر به، حتى نال ما نال من الوزارة، بذلك الأساس الذي أسساه.
وقرئ على أبي بكر الصولي، بالبصرة، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، بإسناد، وأنا حاضر، في كتابه كتاب الوزراء حدثكم عون بن محمد الكندي، عن إبراهيم بن الحسن بن سهل، قال: سمعت أهلي يتحدثون:

أن يحيى بن خالد البرمكي، قال: نالتني خلة في أيام المهدي، فجئت إلى يزيد الأحول، أبي خالد، وكان يكتب لأبي عبيد الله، فأبثثته حالي، فما أجابني، ولا أقبل علي، فتأخرت نادماً، ثم جاءني رسوله من الغد، فصرت إليه.
فقال لي: إنك شكوت إلي شكوى لم يكن جوابها الكلام والتوجع، وقد بعت جماعة من التجار، ثلاثين ألف كر، من غلات السواد، واشترطت لك ربع الربح، فخذ كتابي هذا إليهم، فإن أحببت أن تصبر إلى أن تباع الغلة، توفر ربحك، وإن ناظرت التجار، وخرجت من حصتك بربح عاجل، فأقبل ما يبذلونه لك ثلاثون ألف دينار، فدعوت له.
ولقيت القوم، فقالوا: أنت رجل سلطان، ولا يتهيأ لك ما نفعل نحن من الصبر على الغلة، وانتظار الأسعار، فهل لك أن تخرج منها بربح ثلاثين ألف دينار معجلة ؟ فقلت: نعم، فقبضتها في يوم واحد، وانصرفت.
وذكر أبو الحسين في كتابه، قال: حدث محمد بن أحمد بن الخصيب، قال: حدثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول، يحدث، قال: كان السلطان قد جفا خالد بن برمك، واطرحه، حتى نالته إضاقة شديدة، وكاد أن ينكشف.
فحدثت أن يحيى بن خالد أصبح يوماً، فخرجت إليه امرأته، أم الفضل ابنه، فقالت له: ما أصبح اليوم في منزلك دقيق، ولا علف للدابة، ولا نفقة لشيء.
فقال لها: بيعوا شيئاً من البيت.
قالت: ما بقي في البيت ما له قدر، ولا ما يمكن بيعه.
فقال: قد كان فلان، أهدى إلينا منديلاً فيه ثياب، فبعنا الثياب، فما فعل المنديل ؟ قالت: باق.
قال: فبيعوه.
فبعثت به إلى سوق قنطرة البردان، فبيع بنيف وعشرين درهماً، فأنفقوها أياماً.
ثم خرجت إليه، فقالت: ما قعودك ؟ ما عندنا نفقة، ولا دقيق، ولا علف للدابة.
فركب يحيى، فكان أول من لقيه أبو خالد الأحول، فشكا إليه ما هو فيه، فأمسك، ثم أجابه بجواب ضعيف.
وانصرف يحيى إلى منزله، وقد كاد يتلف غماً وندماً، ولام زوجته، وأقام أياماً لا يركب، وزوجته تحتال فيما تنفق.
ثم حركته على الركوب، وشكت إليه انقطاع الحيلة، وتعذر القوت، فركب، فلما صار في بعض الطريق، لقيه أبو خالد.
فقال له: صرت إلي، وسألتني أمراً، حتى إذا أحكمته لك، تركت تنجزه.
فقال: كرهت التثقيل عليك.
فقال: إنك شكوت إلي أمرك، فغمني، وذكرته لأبي عبيد الله، فتقدم إلي فيه بأمر، ثم لم تصر إلي، فتعال معي الآن إلى الديوان.
قال يحيى: فمضيت معه إلى الديوان، فأحضر التجار المبتاعين لغلات الأهواز، فقال لهم: هذا الرجل الذي جعل له الوزير سهماً معكم فيما ابتعتموه فحاسبوه على ما بينكم وبينه.
قال يحيى: فأخذ التجار بيدي إلى ناحية، فواقفوني، على ربح خمسين ألف دينار، وأن أدعهم والغلة، فما برحت، حتى راج لي المال، وحملته إلى منزلي.
وعرفت أبي الحال، فأخذ من المال عشرين ألفاً، وقال: هذه تكفيني لنفقتي، إلى أن يفرج الله تعالى عني، والباقي لك، فإن عيالك كثير.
قال أحمد بن أبي خالد: فرعى لي القوم ذلك، يعني البرامكة، فلما صار الأمر إليهم، أشركوني في نعمتهم، وكان آخر ما وليت لهم جند الأردن.
وانصرفت إلى مدينة السلام، وقد سخط الرشيد على يحيى، ومعي من المال ستة آلاف دينار، فتوصلت إلى أن دخلت إليه في الحبس، فتوجعت له، وعرضت عليه المال.
فقال: لست أجحف بك، احمل إلينا منه ثلاثة آلاف دينار، وكتب رقعة، بخط لا أعرفه، ثم أتربها، ثم قطعها نصفين، فجعل أحدهما تحت مصلاه، ودفع إلي الآخر.
وقال: أمرنا قد ولى، ودولتنا قد انقضت، وهذا الخليفة سيموت، وستقع فتنة يطول فيها الأمر بين خليفتين، يكون الظاهر منهما صاحب المشرق، وسيكون لغلام، يقال له الفضل بن سهل، معه حال، فإذا بلغك ذلك، فادفع إليه هذا النصف من الرقعة، فإنك ستبلغ بها ما تحب عنده.
قال أحمد بن أبي خالد: فخرجت من عنده، وأنا أندم الناس على إخراجي من يدي ثلاثة آلاف دينار، إلى رجل قد نعى نفسه إلي، فاحتفظت بنصف الرقعة.
ومضت الأيام، وولي محمد المخلوع، ووقعت الفتن، ولزمتني عطلة، ودامت، حتى رقت حالي، واشتد إختلالي.
ودخل طاهر مدينة السلام، فإني ذات يوم متفكر في أمري، متحير فيما أعمله، سمعت قرع الباب علي.
فقلت لزوجتي: أخرجي إلى الدهليز، وأعرفي الخبر، ولا تتكلمي، ولا تفتحي، فمضت، وجاءت مذعورة.
وقالت: ما أدري، على الباب جماعة من الشرط والمسودة ونفاطات.

فخرجت، ووقفت خلف الباب، وقلت: من هذا ؟ فقالوا: هذا منزل أحمد بن أبي خالد الأحول ؟ فقلت: نعم.
فقالوا: نحن رسل الأمير طاهر بن الحسين إليه.
فقلت: لعلكم غلطتم، ما يريد الأمير من مثله ؟ فقال بعضهم: يا هذا، إنا جئنا في أمر يسره، فأعلمه إياه، وأنه لا بأس عليه.
قال: وظنني غلاماً في الدار، فسكنت إلى هذا القول، ورجعت إلى مجلسي من الدار، وأنفذت جارية سوداء كانت لي، حتى تفتح الباب.
فدخل قائد جليل، وبرك بين يدي، وقال: أنت - أعزك الله تعالى أحمد بن أبي خالد ؟ قلت: نعم.
قال: الأمير يسألك أن تصير إليه الساعة.
قال: فأردت أن أسبر الأمر الذي دعيت إليه، أخير هو أم شر.
فقلت: أدخل، وألبس ثيابي.
قال: افعل.
قال: فدخلت، وأوصيت زوجتي فيما أحتاج إليه، وعلمت أنه لا بأس علي، ولبست مبطنتي، وطيلساني، وشاشيتي، وخفي، ثم خرجت.
فقلت: ليس لي مركوب.
قال: فاركب من جنائبي، فركبت دابة قدمها إلي، وصرت إلى طاهر، فسلمت عليه، فساعة رآني، قال: أنت أحمد بن أبي خالد الأحول ؟ قلت: نعم.
فألقى إلي كتاباً في نصف قرطاس، بخط الفضل بن سهل، وكان أول كتاب رأيته، لأبي فلان، من فلان، فإذا عنوانه: لأبي الطيب أعزه الله تعالى، من ذي الرياستين، الفضل بن سهل، وصدره: أعزك الله، وأطال بقاءك، أمر أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، بأن تتقدم ساعة وصول كتابي هذا، بطلب أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب، حيثما كان من أقطار الأرض، فتحضره مجلسك، وتصله بخمسين ألف درهم، وتحمله على عشرين دابة من دواب البريد، إلى باب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، مصوناً، ولا ترخص له في التأخر، فرأيك - أعزك الله - في العمل بذلك، موفقاً، إن شاء الله تعالى، وكتب في يوم كذا من شهر كذا.
قال: فلما قرأت الكتاب، اشتد سروري، وقلت: آخذ فيما أحتاج إليه، وأنهض.
فقال: ما إلى تأخرك سبيل، هذا المال، وهذه الدواب، وتخرج الساعة.
فقلت: أكتب إلى منزلي بما أحتاج إليه، وأخذت المال، وحملت أكثره إليهم، وكاتبتهم بما أحتاج إليه.
وذكرت الرقعة التي من يحيى بن خالد، فأمرتهم بإنفاذها إلي، وطلبت قماشاً قليلاً مما لا بد منه.
فعاد الجواب بوصول المال، وأنفذوا النصف من الرقعة، وما طلبت من القماش، وشخصت من دار طاهر، سحر تلك الليلة.
فما مررت بمدينة إلا خدمت فيها أتم خدمة، إلى أن وافيت الري، فلقيني رجل ذكر لي أن ذا الرياستين أنفذه لتلقي، والقيام بمصالحي إلى أن أوافي حضرته، فلم يزل قائماً بما أحتاج إليه، ويحض كل من أجتاز به على تفقدي وخدمتي إلى أن وافيت باب الفضل بمرو، ومعي صاحبه، وصاحب طاهر.
فوقفت بباب الفضل طويلاً إلى أن تفرغ، ودعاني، فدخلت، وهو في قبة أدم، وعليه سواد، وحوله السلاح كله، وبين يديه جحفة فيها كتب.
فلما مثلت بين يديه، قال لي: أنت أحمد بن أبي خالد الكاتب ؟ فقلت: نعم.
قال: انصرف إلى منزلك، وارجع إلينا بعد ثلاثة أيام في سواد، لأدخلك على أمير المؤمنين.
فوليت من بين يديه، وأنا لا أدري إلى أين أمضي، وإذا خادم قد لحقني، وأخذ بيدي، وخرج معي، حتى سار إلى دار قد أعدت لي، وفيها كل ما أحتاج إليه من فرش، وآلة، وكسوة، وغلمان، ودواب، وقماش، وغير ذلك من الأطعمة والأشربة، فجعل يعرفني ما تحت يد كل غلام، ثم قال: هذا كله لك، وانصرف، فأقمت في كل نعمة وسرور، ثلاثة أيام.
ثم غدوت في اليوم الرابع في سواد، فألفيت ذا الرياستين خارجاً من داره، فترجلت، ودنوت، فأعطاني طرف كمه فقبلته، ثم أمرني بالركوب، فركبت، وسرت في موكبه، حتى وافى دار المأمون، فثنى رجله، ونزل في محفة معدة له، فجلس فيها، وحمله القواد على أعناقهم، حتى أجلسوه مع المأمون على السرير، فمكثت غير بعيد.
فجاء خادم فدعاني، فدخلت، والفضل والمأمون على السرير، وكل واحد منهما مقبل على صاحبه.
فقال الفضل: يا أمير المؤمنين، هذا أحمد بن أبي خالد، كانت كتبه ترد علينا من مدينة السلام بأخبار المخلوع، في وقت كذا، وفي وقت كذا، وقد وفد على أمير المؤمنين وهو من اليسار، وحسن الحال، على أمر يقصر عنه الوصف، وهو يعرض نفسه، وماله، على أمير المؤمنين، يريد أنه متى خلا بي، فسألني عن شيء، كنت قد عرفته.
قال أحمد: فشيعت كلامه بما حضرني.

فقال المأمون: بل، قد وفر الله تعالى عليه ماله، ونضيف إليه أمثاله.
فقال: يا أمير المؤمنين، ويشرك بينه وبين خدم أمير المؤمنين، في تقلد الأعمال.
قال: نعم.
قال: ويولى ديوان التوقيع، وديوان الفض والخاتم.
قال: افعل.
قال: ويخلع عليه خلعة هذه الأعمال.
قال: نعم.
قال: وصلة يعرف بها موقعه من أمير المؤمنين.
قال: نعم.
قال أحمد: فما برحت، حتى أنجز لي كل ذلك، وانصرفت.
فلما كان بعد عشرين يوماً بعث إلي في الليل، فعلمت أنه لم يحضرني في هذا الوقت، إلا ليسألني عن الرقعة، فجعلتها في خفي، وصرت إليه، وإذا هو جالس، والحسن أخوه إلى جانبه.
فقال لي: يا أبا العباس، كانت بينك وبين شيخنا أبي علي رضي الله عنه حرمة ؟ قلت: نعم، وأي حرمة.
فقال: ما هي ؟ فقصصت عليه كيف كانت قصة أبي معه، ثم وصلت ذلك بخبري، إلى أن أنتهيت إلى حديث الدنانير ونصف الرقعة.
فقال: أين هي ؟ فأخرجتها من خفي، فدفعتها إليه، فرفع مصلاه، فإذا النصف الذي كان يحيى بن خالد رحمه الله، جعله تحت مصلاه، فقرن بينهما، والتفت إلى أخيه وقد دمعت عيناه.
فقال: هذا خط أبي علي رضي الله عنه، ثم قال: أقرأت ما فيها ؟ قلت: لا.
قال: فيها أمتعني الله بك - يا بني - طويلاً، وأحسن الخلافة عليك، قد وجب علي من حق أبي العباس أحمد بن أبي خالد الأحول الكاتب، في الحال التي أنا عليها، ما قد أثقلني، وأعجزني عن مكافأته، إلى غير ذلك مما أعتد به لسلفه، ونجمنا قد أفل، وأمرنا قد انقضى، ودولتك قد حضرت، وجدك قد علا، فأحب أن تقضي عني حق هذا الفتى، إن شاء الله تعالى.
قال أحمد بن أبي خالد: فلم أزل مع الفضل، تترقى حالي، واختص بخدمة المأمون، إلى أن دارت الأيام، واستكتبني المأمون، وزادت النعمة، ونمت، والحمد لله على ذلك.
وذكر محمد بن عبدوس في كتابه كتاب الوزراء في أخبار أحمد بن أبي خالد، قال: كان سبب اتصاله بالمأمون، أن الرشيد لما سخط على البرامكة، واتصل خبرهم، وما هم فيه من الضيق، بأحمد بن أبي خالد، شخص نحو الرقة، فوافاها وقد أمر الرشيد بمنع حاشيتهم من الدخول إليهم.
فلم يزل يحتال حتى وصل إلى يحيى، فانتسب له، وعرفه أنه قصده لخدمته.
فرحب به يحيى وأعلمه أنه كان يحب أن يقصده في وقت إمكان الأمور، ليبلغ من مكافأته وتحقيق ظنه حسب رغبته.
فشكره أحمد، وسأله قبول شيء حمله معه، وإن كان يسيراً، وضرع إليه.
فدفعه يحيى عنه، وقال: نحن في كفاية.
فألح أحمد عليه، وأعلمه أنه لا يثق بقبول انقطاعه إليه إلا بإجابته إلى ما سأل.
فسأله يحيى عن مقدار ذلك، فقال: عشرة آلاف درهم.
فقال: أدفعها إلى السجان.
وقال لأحمد: إن حالنا حال لا نرجو معها بلوغ مكافأتك، ولكني سأكتب لك كتاباً إلى رجل سيقوم بأمر الخليفة الذي يملك خراسان، فأوصل إليه كتابي، فسيقوم بقضاء حقك.
ثم كتب له في قريطيس كتاباً، وطواه، ووضع عليه خاتمه، فانصرف أحمد إلى منزله.
فلما قلد الفضل بن سهل أمر المأمون، قصده أحمد بن أبي خالد، فوصل إليه في دار المأمون.
فلما فرغ من أعماله، أوصل إليه الكتاب، فأنكر وجهه، وسأله عن صاحب الكتاب، فقال: يقرأه الأمير - أطال الله بقاءه - فإنه سيعرفه.
فلما فضه، ونظر إلى الخط استبشر، ثم استدنى أحمد بن أبي خالد، وأعلمه إنه من أعظم خلق الله منةً عليه، وأوجبهم حقاً، وأمره بالمصير إلى منزله.
فصار أحمد بن أبي خالد إلى دار الفضل، فلما وصل إليه فيها، عانقه، وقبله، وقال: أوجبت - والله - علي حقاً.
وسأله عن خبر الكتاب، فذكره له، فوعده ببلوغ المحبة، وأمر بإنزاله منزلاً يتخذ له، ويفرش بما يحتاج إليه، ووجه بحاجبه، وبعض خدمه، ومعهم تخوت ثياب، وخمسون ألف درهم، واعتذر إليه، وأمره بالاستعداد للوصول إلى المأمون، ثم أوصله إليه، ووصفه له، وقرظه.
ولم يزل يقوم بحاله عنده، حتى أمر المأمون بتصريف أحمد بن أبي خالد، وأجرى له الأرزاق والأنزال، وأجراه في الوصول إليه مجرى الخاصة، وقلده من أعمال خراسان، وما وراء النهر، أعمالاً جليلة، وتمكنت حاله عنده.

قال محمد بن عبدوس: وحدثني علي بن أبي عون، قال: حدثني أبو العباس بن الفرات، قال: حدثني علي بن الحسن، قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني الكاتب: وذكر من خبر أحمد بن أبي خالد ويحيى بن خالد مثل الذي ذكره يحيى بن خاقان، وزاد فيه: إن أحمد بن أبي خالد لم يحظ من أيام يحيى بن خالد بشيء، وإنه لزمه عند حبسه، فلما حضرته الوفاة زوده كتاباً إلى الفضل بن سهل يعتذر إليه فيه من ولاية ما أولاه، ويسأله مكافأته عنه، وأنه احتفظ بالكتاب مدة أيام الرشيد، وصدراً من أيام محمد، وساءت حال أحمد بن أبي خالد، وعظم فقره جداً، واشتدت عليه العطلة والخلة، فلما أنفذ محمد الأمين علي بن عيسى بن ماهان، لمحاربة طاهر، عمل أحمد على اتباع عسكره.
قال محمد بن عمر الجرجاني: فجاءني يذكر ما عزم عليه، ويصف إفراط خلته، وقصور حيلته، وسألني أن أسأل سلاماً الأبرش، لمودة كانت بينه وبين أبيه، أن يعينه بمركوب وبألفي درهم.
فقصدت سلاماً، وسألته في ذلك، فقال: والله، لو كان لي بعدد الذباب دواب، ما أعطيته شعرة من ذنب واحد منها، ولو كان عندي بقدر رمل عالج عين وورق، ما أعطيته منها حبة.
فانصرفت إليه - وقد كان أقام في منزلي، ينتظر ما يجري - فأخبرته بما قال، وحلفت له أني ما أملك إلا دابة، وبغلة، وأربعمائة درهم، فليأخذ منها ما شاء.
فقال: أنت إلى الدابة في الحضر أحوج، وأنا إلى البغلة في السفر أحوج، فأعطنيها، وأنت مقيم، وأنا مسافر، وتقدر - أنت - أن تحتال لنفسك نفقة، وأنا لا أقدر، فأعطني أربعمائة الدرهم كلها.
فدفعتها إليه مع البغلة، وصحب عسكر علي بن عيسى.
فلما حدث على علي ما حدث، صار إلى الفضل، فأوصل إليه الكتاب، فقرأه، وسر نهاية السرور، وأكرمه غاية الإكرام، وأنكر عليه تأخره إلى ذلك الوقت.
وقال: ما أعرف شيئاً أقضي به حقك، إلا أن أشركك في أمري، وأقلدك العرض على أمير المؤمنين خلافة لي.
فقلده ذلك، وكبر أمره.
ولم يزل أحمد بن أبي خالد، يضرب على سلام الأبرش، ويغري به المأمون، إلى أن قال له: قد وهبت لك دمه، وجميع ما يملكه.
فقبض عليه، وقبض منه ما قيمته أربعة آلاف ألف درهم، ودعا بالسيف والنطع، وأمر بضرب عنقه، بعد أن قرعه بما كان منه عند مسألة محمد بن عمر الجرجاني في أمره.
ثم أعرض عن قتله، وأمر بحبسه، وقال للمأمون: إني كرهت أن أتجاوز مذهب أمير المؤمنين في العفو، فاستصوب رأيه.
وترقت أحوال أحمد بن أبي خالد، إلى أن تقلد وزارة المأمون.
قال محمد بن عمر الجرجاني: وحدثت الفتن بعد ذلك ببغداد، وتشرد أهلها عنها، فهربت إلى إخوان كانوا لي بالكوفة، فأقمت عندهم، واستطبت البلد، فسكنته، وأبتعت بجميع ما أملكه ضيعة هناك، وولينا عامل أحسن إلينا، فشكرناه، وانعقدت بيننا وبينه مودة وكيدة.
ثم صرف بعامل آخر، فحقد علينا المودة التي كانت بيننا وبين المصروف، فأساء معاشرتنا، واضطرنا إلى قصد أحمد بن أبي خالد للتظلم، فدخلت بغداد، فلما رآني أكرمني، واستبطأني، وذكر تطلعه إلى لقائي، وطلبه إياي، وغموض خبري عليه، وسألني عن أموري، فشرحتها له، فكتب بخطه بصرف العامل، وتقليد المصروف الذي كان صديقي.
وأعلمني بما جرى عليه أمر سلام الأبرش، وقال: قد كنت جعلت لك فيما قبضت منه الربع، وهو معزول لك، فتسلمه، وكان قيمته ألف ألف درهم.

قصة أبي عبيد الله وزير المهدي وكيف ارتقت به الحال حتى نال الوزارة
وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: حدثني محمد بن أحمد بن الخصيب، قال: حدثني من سمع أحمد بن أبي خالد الأحول، يقول: كان أبي صديقاً لأبي عبيد الله وزير المهدي، وهو إذ ذاك معلم، وأبي متخلي، فكانا يتعاشران، ويألفهما أحمد بن أيوب.
قال أبو خالد: وكنا نتبين في أبي عبيد الله شمائل الرئاسة، ونصدره إذا اجتمعنا، ونرجع إلى رأيه فيما يعرض لنا.
فقلت له ليلة، ونحن نشرب: نحسبك سترأس، وتبلغ مبلغاً عظيماً، فإن كان ذلك، فما أنت صانع بنا ؟ فقال: أما أنت يا أبا خالد، فأصيرك خليفتي على أمري، وأما أنت يا ابن أيوب، فقل ما أردت.
فقال: أريد أن توليني أعمال مصر سبع سنين متوالية، ولا تسألني بعد الصرف عن حساب.
قال: ذلك لك.

قال أبو خالد: فلم يمض لهذا الأمر إلا مديدة، حتى أمسكت السماء، وخرج الناس يستسقون، وكان عليهم - إذ ذاك - ثعلبة بن قيس، عاملاً من قبل صالح بن علي، فما انصرف الناس، حتى أتت السماء بمطر غزير.
فقال ثعلبة لكاتبه: اكتب إلى الأمير بما كان من القحط، وما حدث بعده من الاستسقاء، وما تفضل الله به من الغيث.
فكتب كتاباً، لم يرضه ثعلبة، فقال لمن حوله: ألا يصاب لي رجل، يخاطب السلطان عني، بخطاب حسن.
فقال له بعضهم: ها هنا رجل مؤدب، معه بلاغة، وأدب كثير، وفيه - مع ذلك - عقل.
فقال: أحضره.
فأحضر أبا عبيد الله، وأمره بأن يكتب عنه إلى صالح بن علي، في ذلك المعنى، فكتب كتاباً استحسنه ثعلبة، وأنفذه إلى صالح بن علي.
فلما قرأه أعجبه، وكتب إلى ثعلبة: أن أحمل إلي كاتبك على البريد، فحمله إليه، فلما وافاه، امتحنه، فوجده كافياً في كل ما أراده، فاستكتبه.
فلما تتابعت كتبه عن صالح بن لعي، إلى المنصور، قال المنصور: كنت أرى كتب صالح بن علي ترد ملحونةً، وأراها الآن ترد بغير ذلك الخط، وهي محكمة، سديدة، حسنة.
فخبر بخبر أبي عبيد الله، فأحضره، فلما فاتشه، وجده كما أراد، فاستكتبه لابنه المهدي.
قال أبو خالد: وطعن الربيع على أبي عبيد الله، عند المنصور، مراراً.
فقال: ويلك، أتلومني في اصطناع معاوية، وقد كنت أجتهد بأبي عبد الله - يعني المهدي - أن ينزع عنه لباس العجم، فلا يفعل، فلما صحبه معاوية، لبس لباس الفقهاء.
قال أبو خالد: ثم أشخصني أبو عبيد الله إليه، لما كتب للمهدي، فقلدني خلافته على الديوان، فلما مات المنصور، وولي المهدي الخلافة، أنفذت الكتب إلى أحمد بن أيوب بولاية مصر، فلم يزل بمصر، والياً عليها، إلى أن توفي بها.

القاضي التنوخي يتحدث عن قصته مع أبي علي أحمد بن محمد الصولي
قال مؤلف هذا الكتاب: كنت بالبصرة في المكتب سنة خمس وثلاثين، وأنا مترعرع، أفهم، وأحفظ ما أسمع، وأضبط ما يجري.
وكان أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، قد مات بها في شهر رمضان من هذه السنة، وأوصى إلى أبي في تركته، وذكر في وصيته أنه لا وارث له.
فحضر إلى أبي ثلاثة إخوة شباب، فقراء، بأسوء حال، يقال لأكبرهم: أبو علي أحمد، والأوسط: أبو الحسن محمد، والأصغر أبو القاسم، بنو محمد التمار.
وذكروا لأبي، أن أمهم تقرب إلى أبي بكر الصولي، وأنهم يرثونه برحمها منه، وذكروا الرحم واتصالها.
فسامهم أبي، أن يبينوا ذلك عنده بشهادة شاهدين من العدول، ليعطيهم ما يفضل - بعد الدين من التركة - عن الثلث، فاضطربوا في ذلك، وكانوا يتعكسون في إقامة الشهادة شهوراً، ويلازمون باب أبي.
وكان مكتبي في بيت قد أخرجه من داره إلى سكة الإثنين التي ينزلها، وجعل بينه، وبين باب داره، دكاناً ممتداً.
فكنت، ومعلمي، والصبيان، نجلس طرفي النهار على الدكان، وفي انتصافه في البيت.
فكان هؤلاء الإخوة يجلسون عندي في المكتب كثيراً، ويؤانسون معلمي، ويلاعبوني، ويتقربون إلي، ويسألوني أن أعرض لهم على أبي، الرقعة، بعد الرقعة، يعطوني إياها.
فقال لي يوماً، الأكبر منهم، وهو أبو علي أحمد بن محمد: إن أعطاك الله تعالى، الحياة، حتى تتقلد القضاء، وتصير مثل القاضي أبيك في الجلالة والنعمة، وجئتك، أي شيء تعطيني ؟ فقلت له، بالصبا، وكما جرى عليه لساني: خمسمائة دينار.
قال: فأعطني خطك بها، فاستحييت، وسكت.
فقال لمعلمي: قل له يكتب لي.
فقال لي: اكتب له، وأملى علي المعلم، وأبو علي، رقعة في هذا المعنى، وأخذها أبو علي.
فما مضت إلا أياماً حتى استدت لهم الشهادة عند أبي، على صحة ما ادعوه من الرحم، واستحقاق الميراث بها.
وكان أبي قد باع التركة، وقضى الدين، وفرق قدر الثلث، وترك الباقي مالاً عنده، فأمر بتسليمه إليهم، وأشهد بقبضه عليهم، وانصرفوا.
فما وقعت لي عين على أحد منهم، إلا في سنة ست وخمسين وثلثمائة، فإني كنت أتقلد القضاء والوقوف بسوق الأهواز، ونهر تيرى، والأنهار، والأسافل، وسوق رامهرمز، سهلها وجبلها، وأعمال ذلك، وأنا في داري بالأهواز، وأمري في ضيعتي مستقيم.
فدخل إلي بوابي، فقال: بالباب رجل يقول: أنا من قرابة الصولي، قدمت من بغداد بكتب إليك، وذكره لي، فلم أذكره.
وقلت: أدخله.

فدخل رجل شيخ لم أعرفه، فسلم، وجلس، وقال: أنا خادم القاضي منذ كان في المكتب، أنا قرابة الصولي، فعرفته، ولم أذكر الخط، ولا القضية.
فأخرج إلي كتباً من جماعة رؤساء ببغداد، يذكرون أنه قد كان مقيماً منذ سنين، ببغداد، وراقاً بقصر وضاح بالشرقية، بحالة حسنة، فلحقته محن أفقرته، ويسألوني تصريفه، ومنفعته، فوعدته جميلاً.
فقال: إنما جعلت هذه الكتب، طريقاً يعرفني القاضي بها، وما أعول الآن عليها، إذ قد أحياني الله عز وجل، إلى أن رأيته قاضياً في بعض عمل أبيه رضي الله عنه، وجاهه ونعمته، كجاهه ونعمته، أو قريب من ذلك، وقد حل لي بذلك دين عليه، واجب في ذمته، وما أقنع إلا به.
فقلت: ما معنى هذا الكلام.
فقال: أينسى القاضي ديني ؟ ثم أخرج رقعتي التي كان أخذها مني في المكتب.
فحين رأيتها، ذكرت الحديث، وحمدت الله كثيراً، وقلت: دين واجب حال، وحق مرعي وكيد، ولكن تعرف صعوبة الزمان، والله، ما يحضرني اليوم مائة دينار منها، ولو حضرت، ما صلح أن أشتهر بصلتك بها، فيصير لي حديث يعود بضرر علي، ولكن ارض مني، بأخذ دينك متفرقاً.
فقال: قد رضيت، وما جئت إلا لأقيم في فنائك، إلى أن أموت.
وجاء لينهض، فقلت: إلى أين ؟ اجلس، فجلس، فوقعت له في الحال، إلى بزاز كان يعاملني، أن يعطيه ثياباً بثلثمائة درهم، وإلى جهبذ الوقوف، أن يعطيه من أبواب البر، عشرة دنانير، واستدعيت كيس نفقتي، وأعطيته منه مائتي درهم.
وقلت له: قم، فاستأجر داراً، وتأثث بما قد حضر الآن، وأكتس، وعد إلي، لأصرفك فيما أرجو أن أوصله إليك، منه، ومن مالي، الجملة التي في الرقعة.
فقبل يدي، ورجلي، وبكى، وقال: الحمد لله الذي أراني هذا الفضل منك، وحقق فراستي فيك، وقام.
وجاءني بعد يومين، في ثياب جدد، فأمرت بوابي ألا يحجبه علي، وخلطته بنفسي، وأجريت عليه من أبواب البر بالوقوف، بالضعف والمسكنة، دينارين في الشهر، وقلدته الإشراف على المنفقين في ديوان الوقوف، وأجريت عليه لهذا ثلاثة دنانير أخرى في الشهر، ووليته جباية عقار الأيتام، ووليته عليهم، وأذنت له في أخذ أعشار الارتفاع، وجعلته مشرفاً على أوصياء في وصايا في أيديهم، إلى أن يخرجوها في وجوهها، وجعلت له على ذلك أجراً،.
وركبت إلى عامل البلد، فسألته له، فأجرى عليه في كل سنة، من مال أثمان فرائض الصدقات، ستين ديناراً، وكان رسم أهل ديوان الصدقات بكور الأهواز، في ذلك الحين، أن يسبب لهم بنصف أرزاقهم، ويرتفق العمال من ذلك النصف بقطعة منه، ويصل إليهم الباقي تحققاً، أو يسبب أخذه مستأنفاً، لضيق المال، وقلته عن أصول أرزاق المرتزقة، فكنت أتقدم إلى من يقوم له في المطالبة، أن يلازم العمال، حتى يصل إليه كاملاً.
وكنت أعطيه، في كل شهر أو شهرين، شيئاً من مالي، وشيئاً من كسوتي، وثياباً صحيحة من بزازي، فوالله الذي لا إله إلا هو، ما صرفت عن عملي - وكانت صحبته لي نحو ثلاثين شهراً - إلا وقد وصل إليه من هذا الوجه، ومن غيره، أكثر من خمسمائة دينار، حتى أنه تزوج فيها بوساطتي، وبجاه خدمتي، إلى امرأة موسرة، من أهل الأهواز، وصار الرجل من المتوسطين بالأهواز، وصار ينسب إلى الصولي، وشهر نفسه بأبي علي الصولي.
ثم صرفت عن تلك الولاية في سنة تسع وخمسين وثلثمائة، لما ولي الوزارة محمد بن العباس، فقصدني، وصرفني، وقبض ضيعتي، وأشخصني إلى بغداد، بعد حقوق كانت لي عليه، وآمال لي فيه.
فتجرد أبو علي هذا، المعروف بالصولي، لسبي في المجالس، وشتمي في المحافل، والطعن علي بالعظائم، والسعاية علي في مكارهي.
فكشف الله تعالى تلك المحن عني، وأجراني على تفضله، بغير كثير سعي مني، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعدت بعد ثلاث سنين وشهور، إلى الأهواز، والياً بها، وللأعمال التي كنت عليها معها، وأضيف إلي واسط وأعمالها، وقد استخلفت عليها، ورجعت إلى داري، فجاءني هذا الرجل معتذراً.
فقلت له: أتحب أن أقبل عذرك ؟ قال: نعم.
قلت: أخبرني ما السبب الذي أحوجك إلى ما عملت بي من القبيح، بعدما عملته معك من الجميل ؟ فجمجم في القول.
فقلت له: ما إلى الرضا سبيل.

فقال: أنا أصدقك، دخلت عليك يوماً، وعلى رأسك قلنسوة باذان جديدة من خرقة حسنة، فاستملحتها، فسألتك هبتها لي، فرددتني، فلما كان بعد أيام، رأيتها على رأس ابن نظيف المتكلم، المعروف بشهدانه.
فسألته: من أين لك هذه ؟ فقال: وهبها لي القاضي.
فوقر ذلك في نفسي منك، وتزايد، فلما حدثت تلك النكبة، كان مني بعض ما بلغك، وأكثره كذب، وأنت ولي العفو، وجعل يقبل يدي ورجلي، ويبكي.
فعجبت من لؤم طبعه، ومن كثرة شره، وقبح كفره للنعم، واختلاف أحكام الأزمنة وأهلها، وجعلت أكثر من قول: الحمد لله على تفضله، ولم أكافه بقبيح البتة.
واقتصرت به على الحال التي كنت وليته إياه، لأن القاضي الذي ولي القضاء بعدي، أقره على ما كنت وليته، فكان قد استمر له أخذ الدنانير من الصدقات، والجاري من الوقوف، وأبواب البر، وقبضت يدي عن نفعه بما فوق ذلك.
فر هارباً من الضائقة فوافاه الفرج في النهروان
وذكر أبو الحسين القاضي في كتابه، قال: حدثني أبو علي أحمد بن جعفر بن عبد ربه البرقي، قال: حدثني أبو سعيد الحسين بن سعيد القطربلي.
قال مؤلف هذا الكتاب: وحدثني صاحب لي من ولد إبراهيم بن إسحاق، أخي موسى بن إسحاق القاضي الأنصاري الخطمي، وهو علي بن محمد بن إسحاق، أخي موسى بن إسحاق، قال: سمعت أبا الحسين بن أبي عمر القاضي، يحدث أبا القاسم علي بن يعقوب كاتب بجكم، وكاتب الترجمان بهذا الحديث، ويقول: إنني ألفت كتاباً وسميته كتاب الفرج بعد الشدة، وذكرت فيه هذا الخبر، وعدة أخبار تجري مجراه، قال: وأخذ يقرظ كتابه، ويشوق علي بن يعقوب إليه، قال: حدثني أبو سعيد الحسين القطربلي، قال: كان في جيراني رجل من أهل البيوتات، وكانت له نعمة، فزالت عنه، وساءت حاله جداً، وكانت له زوجة وأربع بنات، فحبلت زوجته، وأخذها المخاض في الليل.
قال: ولم تكن لي حيلة في الدنيا، فخرجت ليلاً، هارباً على وجهي، أمشي، حتى أتيت جسر النهروان، وأملت أن ألقى عاملها، وكان يعرفني، وأسأله تصريفي في شيء، وتعجيل رزق شهر، لأنفذه إلى زوجتي.
فوصلت إلى الموضع، وقد ارتفع النهار، فقعدت أستريح بالقرب من بقال.
فإذا فيج - وهو الساعي - قد جاء، فوضع مخلاته وعصاه، ثم قال للبقال: أعطني كذا وكذا، من خبز، وتمر، وإدام، فأعطاه، فأكل، ووزن له الثمن.
ثم فتح مخلاته، فميز ما فيها من الكتب، فرأيت فيها كتاباً إلي، وعليه اسم منزلي، واسمي، وكنيتي، ولا أعرف كاتبه.
فقلت للفيج: هذا الكتاب إلي.
فقال: أتدري ما تقول ؟.
فقلت له: قد قلت الصحيح، فإن مضيت إلى بغداد، لم تجد صاحب الكتاب.
فقال: أهاهنا إنسان يعرفك ؟ قلت: نعم، العامل.
قال: قم بنا إليه.
فجئت، فلما دخلت على العامل، قال: ما أقدمك علينا يا فلان ؟ فقلت له: قبل كل شيء - أعزك الله - من أنا ؟ وأين منزلي ببغداد ؟ فقال: أنت فلان بن فلان، ومنزلك بمدينة السلام، في مدينة المنصور منها، في سكة كذا وكذا.
فقلت للفيج: عرفت صدقي ؟ قال: نعم.
قال: فحدثت العامل بحديثي، وأخذت الكتاب من الفيج، فإذا هو من بعض المستورين بالدينور، يذكر أن ابن عم كان لي قد توفي، بعد أن أوصى إليه أني وارثه، وسماني له، ووصف منزلي ببغداد.
قال: وقد كتب الرجل يذكر أن ابن عمي أوصى بالثلث من ماله في وجوه من أبواب القرب، وأن يسلم باقي ثلثيه إلي، وأنه باع من أثاثه ومنقوله، ما خاف فساده من تركته، وصرف الثلث منه في بعض ما كان أوصى به، وأنفذ إلي سفتجة بالثلثين من ذلك، مبلغها سبعمائة ديناراً وكذا وكذا ديناراً، تحل بعد أربعين يوماً، على تاجر في دار القطن بالكرخ.
وقال: الوجه أن تبادر إلى الدينور، وتبيع العقار والضياع، أو أبيع الثلث منها ليصرف في وجوهه، وتتمسك بالثلثين إذا شئت.
قال: فورد علي من السرور ما لا عهد لي بمثله، وحمدت الله عز وجل.
فقلت للفيج: قد وجب حقك، وسأحسن إليك، وشرحت له قصتي، وأنه لا حبة معي فضة فما فوقها.
فجاء إلى البقال، فقال: زن لأستاذي بكذا وكذا خبزاً، وبكذا وكذا إداماً، وما يريد غيرهما.
فتغديت، ووزن الفيج ثمن ذلك من عنده، واستأجر حمارين، أركبني أحدهما، وركب هو الآخر، ووزن الأجرة من عنده.

وجئنا في بقية يومنا إلى بغداد، وقصدنا دار القطن، وفي النهار بقية صالحة، فأوصلت السفتجة إلى التاجر، فنظرها، وقال: صحيحة، إذا حل الأجل، فاحضر للقبض.
فقلت له: خذ حديثي، وافعل بعد ذلك ما يوفقك الله تعالى له، وقصصت عليه قصتي.
فقال لي: والله الذي لا إله إلا هو، إنك صادق ؟، فحلفت.
فأخرج كيساً كان بقربه، فوزن لي منه مال السفتجة.
وصرت من وقتي إلى السوق، فاشتريت سويقاً، وسكراً، وعسلاً، وشيرجاً، وخبزاً عظيماً، وخروفاً مشوياً، وحلوى، مما يصلح للنساء في النفاس، ومهداً، وفرشاً حسناً، وعطراً صالحاً، وشيئاً من ثياب.
وصرت إلى منزلي، وقد قرب العشاء الآخرة، فوجدت كل من فيه من النساء يلعنني، ويدعو علي.
فقدمت الحمالين، ودخلت وراءهم، فانقلبت الدار بالدعاء لي، وصار الغم سروراً، ووجدت زوجتي قد ولدت غلاماً.
فعرفت الصبيان خبر السفتجة، والميراث، والفيج، وأعطيت الزوجة، والقابلة، من الدنانير شيئاً.
وأقمت الفيج عندي أياماً، حتى أصلحت من أمري، وأمر عيالي، ما وجب صلاحه، وخلفت لهم نفقة، وأخذت من الدنانير نفقة، وأعطيت الفيج منها، فأجزلت له، واكتريت حمارين، لي وله، واستصحبته إلى الدينور.
فوجدت فيها ما تحصل لي مما خلفه ابن عمي نحو عشرة آلاف دينار، فبعت ذلك كله، وأخذت بحصتي سفاتج إلى بغداد.
وعدت وقد فرج الله عني، وقد صلح حالي، وأنا أعيش في بقية تلك الحال إلى الآن.
خرج مملقاً وعاد قائداً
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: أملق بعض الكتاب، وتعطل، وافتقر، حتى لم يبق له شيء، وكاد يسأل، وخرج على وجهه في الحالة التي كان عليها.
ثم إنه ورد بعد قليل من سفرته، فدخلت عليه، وقلت: ما خبرك يا فلان ؟ فقال: متمثلاً بهذين البيتين:
فإبنا سالمين كما ترانا ... وما خابت غنيمة سالمينا
وما تدرين أيّ الأمر خير ... أما تهوين أم ما تكرهينا
فطيبت نفسه، وجعلت أسليه.
فأقام أياماً، وتأتت له نفقة، فخرج إلى خراسان، فما سمعنا له خبراً سنين، فإذا هو قد جاءنا بزي قائد عظيم، لكثرة الدواب، والبغال، والجمال، والغلمان، والمال العظيم، والقماش.
فدخلت إليه، وهنأته، فقال: تضايقي تنفرجي، وما تراني بعد هذا أطلب تصرفاً.
فباع تلك الأشياء، وترك منها ما يصلح لذي المروءة، واشترى من المال ضيعة بعشرين ألف دينار، ولزم منزله وضيعته.
عودة المرء سالماً غنيمة حسنة
قال مؤلف هذا الكتاب: أرجف لبعض رؤساء دولة شاهدناها، بالوزارة، واحتد أمره، وبرد، وأرجف لعدو له بالوزارة.
فلقيت بعض أصدقاء الأول، فسألته عن حقيقة الحال، فقال لي: أمس لقيته، فسألته عن سبب وقوف أمره، واحتداد أمر عدوه، فرد علي جواب آيس من الأمر.
ثم قال لي: وقد جعلت في نفسي، أن انصراف هذا الأمر خير لي، فإن فيما ألي من أمور المملكة كفاية، ثم أنشدني كالمستريح إلى ذلك، يقول:
إذا نحن إبنا سالمين بأنفس ... كرامٍ رجت أمراً فخاب رجاؤها
فأنفسنا خير الغنيمة إنّها ... تؤوب وفيها ماؤها وحياؤها
فلما كان بعد بضعة عشر يوماً، أمر، وولي الوزارة، وبطل أمر عدوه.
وكان هذا الخبر، أجدر بأن يجعل في باب من بشر بفرج من نطق أو فأل، ولكنني جئت به هاهنا، لاشتباك معنى الشعر في الخبرين المتجاورين.
قضى الله للهبيري رزقاً على يد الوزير ابن الزيات فاستوفاه على رغم أنفه
وذكر أبو الحسين القاضي، بإسناد، قال: حدثني أبو الحسن علي بن أحمد الكاتب، عن أحمد بن إسرائيل، قال: كنت كاتباً لمحمد بن عبد الملك الزيات، فقدم عليه رجل من ولد عمر بن هبيرة، يقال له: إبراهيم بن عبد الله الهبيري، فلازمه يطلب تصرفاً.
وكان ابن الزيات قليل الخير، لا يرعى ذماماً، ولا يوجب حرمة، ولا يحب أن يصطنع أحداً، فأضجره الهبيري من طول تردده عليه.
فدعاني ابن الزيات يوماً، وهو راكب، وقال: قد تبرمت بملازمة هذا الرجل، فقل له: إني لست أوليه شيئاً، ولا له عندي تصرف، ومره بالانصراف عني.
قال: فقلت: أنا والله أستحي أن ألقى مؤملاً لك، عنك، بمثل هذا.
قال: لا بد أن تفعل.
قلت: نعم.

فلما صرت إلى منزلي، وجهت إلى الهبيري، فجاءني، فقلت له: ما كنت تؤمل أن تنال بصحبة أبي جعفر محمد بن عبد الملك الزيات، خذه من مالي، ولا تقربه، وهذه ثلاثة آلاف درهم.
فقال متعجباً: من مالك ؟.
قلت: نعم.
قال: أنا أؤمل أن أكسب معه أكثر من ذلك.
فقلت: إنه قد حملني إليك رسالة، استحيت من أدائها، فعدلت عنها إلى هذا.
قال: فهات ما حملك.
قال: فأعدت عليه ما قال ابن الزيات.
فقال: قد سمعت منك، فهل أنت مؤد عني ما أقول ؟ قلت: نعم.
قال: قل له، قد كنت آتيك في صبيحة كل يوم مرة، ووالله لآتينك منذ الآن في كل غدوة وعشية، فإن قضى الله عز وجل على يدك رزقاً، أخذته على رغمك.
فرجعت إلى ابن الزيات، فأعلمته قوله.
فقال: دعه، فوالله، لا يرى مني خيراً أبداً.
قال: ولازمه الرجل، غدوة وعشية، فكان إذا رآه، التفت إلي، وقال: قد جاء البغيض، فمكث كذلك مدة.
وركب ابن الزيات يوماً إلى الواثق، وهو بالهاروني، بسر من رأى، وكنت معه.
فدخل إلى الخليفة، وجلست في بعض الدور، أنتظر خروجه، فخرج، وهو يكثر التعجب.
فسألته، فقال: أنت تعرف مذهبي، قال: وكان يرى رأي المعتزلة، ويقول: إن الأرزاق، تأتي بالاكتساب.
فقلت له: وماذا تهيأ عليك ؟ فقال: دخلت إلى الخليفة، فقال: على الباب أحد نصطنعه ؟ فلم يخطر ببالي غير الهبيري، فأمسكت.
فقال: ويلك أكلمك فلا تجيبني، وأعجلني عن الفكر.
فقلت: على باب أمير المؤمنين، رجل من أعداء دولته، وأعداء سلفه، ومن صنائع بني أمية، من ولد عمر بن هبيرة.
قال: فنصطنعه فيشكرنا، كما اصطنع أباه بنو أمية فشكرهم.
قلت: إنه معدم.
قال: نغنيه، فراودته.
فقال: كم تدفعني عنه ؟ أعطه الساعة ثلاثين ألف درهم.
ثم قال: من أهل الدراريع هو، أم من أهل الأقبية ؟.
قلت: صاحب قباء.
قال: قلدوه الساعة عملاً يصلح له، وأثبت له من ولده، وغلمانه، وأهله، مائة رجل.
فلما فرغ من كلامه، قال: قل للهبيري ما عرفتك، وادفع إليه ما أمر له الخليفة به، وسله ألا يشكرني، فقد جهدت في دفع الواثق عنه، فما اندفع، قال أحمد بن إسرائيل: فلما خرجت إلى الشاعر، إذا بالهبيري ينتظر خروج ابن الزيات، فعرفته ما جرى، فقال: لا بد من شكره على كل حال، وجاء ابن الزيات فترجل له الهبيري، فشكره.
فقال له: ألم أقل لأحمد يقول لك: لا تشكرني.
فقال: لا بد من ذلك، لأن الله تعالى قد أجرى رزقي على يديك.
قال: أحمد بن إسرائيل: فوالله، ما مضى اليوم، حتى قبض المال، وولي بعض كور فارس.
وذكر هذا الخبر محمد بن عبدوس الجهشياري، في كتابه كتاب الوزراء عمن حدثه به، عن أحمد بن إسرائيل، فذكر أن الرجل، يقال له: أحمد بن عبد الله الهبيري، وذكر قريباً من هذا، وذكر أن الذي خوطب في أمره من الخلفاء، كان المتوكل، وأن الذي أمر له به، كان خمسة آلاف درهم، وأن يضم إليه ثلثمائة رجل، وأن حاله بعد ذلك علت عند المتوكل، ولم يقل أنه قلده بعض كور فارس.
وحدثني أبي رحمه الله تعالى، هذا الحديث، وذكر أن تردد الهبيري - ولم يسمه - إلى ابن أبي خالد الأحول، وأن الذي حمل الرسالة إلى الهبيري، قصده إلى منزله، وحمل معه ثلاثة آلاف درهم، وقال: إن الوزير يقول لك، ليس لك عندي تصرف، فخذ هذه النفقة، وانصرف عني إلى حيث شئت.
فغضب الهبيري، وقال: جعلني شحاذاً، والله لا أخذتها.
قال الرسول: فغاظني ذلك، فقلت له: والله، ما المال إلا من عندي، لأني استحيت أن أعيد عليك رسالته، فآثرت أن أغرم مالاً في الوسط، أجمل به صاحبي، وأؤجر فيك، وأرفع نفسي عن قبيح التوسط الذي ارتكبته.
فقال: أما أنت، فأحسن الله جزاءك، وأما مالك، فأنا لا أقبله، ولو مصصت الثماد، ولكن تؤدى إلي الرسالة بعينها، فأديتها.
فقال: تتفضل، وتحمل عني حرفين.
فقلت: هات.
قال: تقول له: والله، ما لزومي لك في نفسك، ولو تعطلت، ما مررت بك، ولكن الله تعالى، يقول: وأتوا البيوت من أبوابها، وأنت باب رزق مثلي، لأني لا أحسن إلا هذه الصناعة، ولا بد من أن آتيك طالباً رزقي من بابه، وليس يمنعني ذلك استقبالك إياي بالرد، فإن قسم الله تعالى لي على يديك شيئاً، أخذته منك، وإلا، فلا أقل من أن أؤذيك برؤيتي، كما تؤذيني بتعطيلي.
وقال فيه عن ابن أبي خالد: فصرت في الوقت إلى المأمون، فقال: هاتم شخصاً أوله مصراً.

قال: فأراد أن يذكر له رجلاً يعتني به، يعرف بالزبيري، لتولي ذلك العمل، فلغيظه من الهبيري، وقرب عهده به وبحديثه، غلط، فقال: الهبيري.
فقال الخليفة: أو يعيش ؟ وعرفه، وذكر له خدمة قديمة.
وأراد ابن أبي خالد أن يزهده فيه، قال: فطعنت عليه بكل شيء، وهو يقول: لا أريد غيره، أنا أعرفه بالجلادة.
إلى أن قلت له: أنا غلطت، وإنما أردت أن أقول فلان الزبيري.
قال: وإن غلطت، فالهبيري، أقوم بهذا من الزبيري، وأنا أعرفهما، فلما رآني قد أقمت على الدفع عنه، قال: له معك قصة، فاصدقني عنها، فصدقته.
فقال: قد والله، أجرى رزقه على يديك، وأنت راغم، أخرج فوله مصر.
فقلت: إنه ضعيف، ولا حالة له، ولا مروءة، فكيف يخرج في مثل هذه الحال إلى عمله ؟ قال: وهذا من رزقه الذي يجرى على يديك وأنت راغم، أطلق له مائة ألف درهم فأخرجه.
فخرجت، وامتثلت أمره راغماً.

تضايقي تنفرجي
وذكر القاضي أبو الحسين رحمه الله تعالى، عن رجل، قال: حدثتني أم أبي، قالت: كان زوجي قد نهض إلى مصر، وتصرف بها، وعمل، ونكب، وتعطل، فأقام هناك.
وأضقنا إضاقة شديدة، وعرضنا بيع ضيعة لنا، فلم نجد لها ثمناً، وتأخر كتابه عنا، وانقطع خبره، حتى توهمنا أن حادثاً قد حدث عليه.
وكان أولادي أصاغر، فجعلت أحتال وأنفق عليهم، حتى لم يبق في المنزل شيء.
وحضر وقت عمارة الضيعة، واحتجنا إلى بذار ونفقة، فتعذر ذلك علينا، حتى كادت تتعطل، ويفوت وقت الزراعة.
فأصبحت يوماً، وبي من الغم لاجتماع هذه الأحوال أمر عظيم، فوجهت إلى بعض من كنت أثق به، وأتوهم أنني لو سألته إسعافنا بالكثير من ماله لا يخالفنا، لأقترض منه شيئاً لذلك، فرد رسولي، واعتذر.
وعرفني الرسول الذي بعثت به إليه، أنه قال: إذا بعثت إليهم ما طلبوا، والضيعة لم تعمر، ولم تحصل لهم غلة، وزوجها لم يعرف له خبر، فمن أين يردون علي ؟ فلما رجع الرسول بذلك، كدت أموت غماً، وامتنعت من الطعام يومي وليلتي.
وأصبحت، فما انتصف النهار، حتى ورد كتاب زوجي بسلامته، وذكر السبب في تأخير كتابه، وأرسل إلي في كتابه سفتجة بمائة دينار، وتخوت ثياب قد أنفذها مع تاجر من أهل مصر، قيمتها خمسون ديناراً، فقبضت ذلك، وعمرنا الضيعة، ورزعت تلك السنة، وصلحت حالنا.
من مكارم سعيد بن العاص أمير الكوفةوذكر القاضي أبو الحسين في كتابه: حكي أن سعيد بن العاص، قدم الكوفة عاملاً لعثمان بن عفان، رضي الله عنه، وكان ممن يتعشى عنده، رجل من الفقراء، قد ساءت حاله.
فقالت امرأته: ويحك، أنه قد بلغنا عن أميرنا كرم، فاذكر له حالك، وحاجتك، لعله أن ينيلنا شيئاً، فلم يبق للصبر فينا بقية.
فقال: ويحك لا تخلقي وجهي.
قالت: فاذكر له ما نحن فيه على كل حال.
فلما كان بالعشي، أكل عنده، فلما انصرف الناس، ثبت الرجل.
فقال سعيد: حاجتك ؟، فسكت.
فقال سعيد لغلمانه: تنحوا، ثم قال: إنما نحن أنا وأنت، فاذكر حاجتك، فتعقد، وتعصر، فنفخ سعيد المصباح فأطفأه.
ثم قال له: يرحمك الله، لست ترى وجهي، فاذكر حاجتك.
فقال: أصلح الله الأمير، أصابتنا حاجة، فأحببت أن أذكرها لك.
فقال: إذا أصبحت فالق فلاناً وكيلي.
فلما أصبح الرجل، لقي الوكيل، فقال: إن الأمير قد أمر لك بشيء، فهات من يحمله معك، قال: ما عندي من يحمل، فانصرف إلى امرأته، فجعل يلومها، ويقول: قال لي وكيله هات من يحمل معك، وما أظنه أمر لي إلا بقوصرة تمر، أو قفيز بر، وذهب ماء وجهي، ولو كانت دراهم أو دنانير لأعطانيها في يدي.
فلما كان بعد أيام، قالت له امرأته: يا هذا، قد بلغ بنا الأمر إلى ما ترى، ومهما أعطاك الأمير، يقوتنا أياماً، فالق وكيله، فلقيه.
فقال: أين تكون ؟ إني قد أخبرت الأمير أنه ليس لك من يحمل ما أمر به لك معك، فأمرني أن أوجه من يحمل معك ما أمر به لك.
ثم أخرج إليه ثلاثة من السودان، على راس كل واحد منهم بدرة دراهم، ثم قال: امضوا معه.
فلما بلغ الرجل باب منزله، فتح بدرة، فأخرج منها دراهم، فدفعها إلى السودان، وقال: امضوا.
فقالوا: أين نمضي، نحن عبيدك، ما حمل مملوك للأمير هدية قط، فرجع إلى ملكه.
قال: فصلحت حاله، واستظهر على دنياه.
ألجأته الحاجة إلى بيع مقنعة أمه ثم ملك مصر

وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، بإسناد ذكره، قال: حدثني عمي أبو الطيب محمد بن يوسف بن يعقوب، قال: حدثني بعض إخواني، قال: كنت أحضر طعام عبيد الله بن السري، بمصر، فكان إذا وضع الخوان، وضع رغيفاً، وعزل بيده من كل شيء، فإذا فرغ تصدق به.
فقدمت إليه ذات يوم عناق سمينة، في أول الطعام، فضرب بإصبعه في جنبها، فشخبت حتى ملأت الخوان دسماً فأمسك يده، وقال: الحمد لله، ذكرت بهذا شيئاً أحدثكم به.
كنت ببغداد، نازلاً بسوق الهيثم، فأصابتني حاجة شديدة، وبقيت بلا حبة فضة فما فوقها، ولا في منزلي ما أبيعه.
فإني لكذلك، وما عندي طعام، ولا ما أشتري به قوت يومي، إلا أن عندي نبيذ قد أدرك، وأنا جالس على باب داري ضيق الصدر، أفكر فيما أعمله.
إذ أجتاز بي صديق لي، فجلس إلي، فتحدثنا، فعرضت عليه المقام عندي، عرض معذر، كما جرى على لساني، فأجابني، وقعد.
فانقطع بي، وتمنيت أني خرست، فلم أجد بداً من إدخاله منزلي، فأدخلته.
وقمت إلى أمي فعرفتها الخبر، فأعطتني مقنعتها، وقالت: بعها، وقم بأمرك اليوم، فبعتها بثلاثة دراهم، واشتريت بها خبزاً وسمكاً وبقلاً، وريحاناً، وجئت به.
فبينا نحن كذلك، إذ مرت بي سنور لبعض الجيران، فمددت يدي إليها، فإذا هي ذلول، فقبضت عليها، وذبحتها، وسلختها، ودفعتها إلى أمي، فقلت: اشويها، ففعلت، وقدمتها إلى صديقي، مع ما اشتريته، فأكلنا.
فذكرت لما وقعت يدي على هذه العناق، حالي تلك، وحالنا اليوم من السعة والنعمة، ونفاذ الأمر، فالحمد لله على ما أنعم.
ودعا بمال عظيم، وأمر أن يتصدق بنصفه بمصر، وبعث نصفه إلى مكة والمدينة، يتصدق به هناك.
وأمر بالخوان وما عليه أن يطعم للمساكين، ودعا بخوان آخر.
أبى أن يعطيه ديناراً ثم أعطاه ألفي دينار
حدثني أبو بكر محمد بن عبيد الله بن محمد الرازي، المعروف بابن حمدون، عن الحسن بن محمد الأنباري الكاتب، قال: كان لي أيام مقامي بأرجان جار تاجر، يعرف بجعفر بن محمد، وكنت آنس به، فحدثني، قال: كنت أحد دائماً، وأنزل على رجل علوي، حسيني فقير، مستور، فألطفه، وأتفقده.
فتأخرت عن الحج سنة، ثم عاودت، فوجدته مثرياً، فسررت، وسألته عن سبب ذلك.
فقال: كان قد اجتمع معي دريهمات على وجه الدهر، ففكرت، عام أول، في أن أتزوج، فإني كنت عزباً، كما قد علمت.
ثم علمت أن فرض الحج قد تعين علي، فرأيت أن أقدم أداء الفرض، وأتوكل على الله عز وجل، في أن يسهل لي - بعد ذلك - ما أتزوج به.
فلما حججت، طفت طواف الدخول، وأودعت رحلي، وما كان معي، في بيت من خان، وأقفلت بابه، وخرجت إلى منى.
فلما عدت، وجدت البيت مفتوحاً، فارغاً، فتحيرت، ونزلت بي شدة ما مر بي قط مثلها.
فقلت: هذا أعظم للثواب، فما وجه الغم، فاستسلمت لأمر الله عز وجل.
فجلست في البيت، لا حيلة لي، ولا تسمح نفسي بالمسألة، فاتصل مقامي ثلاثة أيام، ما طعمت فيها شيئاً.
فلما كان في اليوم الرابع، بدأ في الضعف سحراً، وخفت على نفسي، وذكرت قول جدي رسول الله صلى الله عليه وآله: ماء زمزم لما شرب له، فخرجت أريدها حتى شربت منها، ورجعت أريد باب إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام لأستريح فيه.
فبينا أنا أسير، إذ عثرت في الطريق بشيء أوجع إصبعي، فأكببت عليه لأمسكه، فوقعت يدي على هميان أدم أحمر كبير، فأخذته.
فلما حصل في يدي، ندمت، وعلمت أن اللقطة - ما لم تعرف - حرام.
وقلت: إن تركته الآن، كنت أنا المضيع له، وقد لزمني أن أعرفه، ولعل صاحبه، إذا رجع إليه، أن يهب لي شيئاً أقتاته حلالاً.
فجئت إلى بيتي، وفتحت الهميان، فإذا فيه دنانير صفر، تزيد على ألفي دينار.
فسددته، ورجعت إلى المسجد، فجلست عند الحجر، وناديت: من ضاع له شيء، فيأتيني بعلامته، ويأخذه.
فانقضى يومي، وأنا أنادي، وما جاءني أحد، وأنا على حالي من الجوع.
وبت في بيتي، ليلتي كذلك، وعدت إلى الصفا والمروة، فعرفته عندهما يومي، حتى كاد ينقضي، فلم يأتني أحد.
فضعفت ضعفاً شديداً، وخشيت على نفسي، فرجعت متحاملاً، ثقيلاً، حتى جلست على باب إبراهيم الخليل، على نبينا وعليه السلام، وقلت قبل انصرافي: إني قد ضعفت عن الصياح وأنا ماض أجلس على باب إبراهيم، فمن رأيتموه يطلب شيئاً ضاع منه، فأرشدوه إلي.

فلما قرب المغرب، وأنا في الموضع، إذا أنا بخراساني ينشد ضالة، فصحت به، وقلت له: صف لي ما ضاع منك، فأعطاني صفة الهميان بعينه، وذكر وزن الدنانير وعددها.
فقلت: إن أرشدتك إلى من يرده عليك، تعطيني منه مائة دينار ؟.
قال: لا.
قلت: فخمسين ديناراً ؟ قال: لا.
قلت: فعشرة دنانير ؟ قال: لا.
فلم أزل أنزل معه، حتى بلغت إلى دينار واحد.
فقال: لا، إن رأى من هو عنده، أن يرده إيمانا واحتساباً، وإلا فهو أبصر، وولى لينصرف.
فورد علي أعظم وارد، وهممت بالسكوت، ثم خفت الله سبحانه وتعالى، وأشفقت أن يفوتني الخراساني.
فصحت به، إرجع، إرجع، وأخرجت الهميان، فدفعته إليه، فأخذه، ومضى، وجلست، ليس لي قوة على المشي إلى بيتي.
فما غاب عني إلا قليلاً، حتى عاد، فقال لي: من أي البلاد أنت، ومن أي الناس ؟.
قال: فاغتظت منه غيظاً شديداً، وقلت: ما عليك، هل بقي لك عندي شيء ؟ قال: لا، ولكني أسألك بالله العظيم، من أي الناس والبلاد أنت ؟ فعرفني، ولا تضجر.
فقلت: رجل من العرب، من أهل الكوفة.
فقال: من أيهم أنت، واختصر ؟ فقلت: رجل من ولد الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
فقال: ما حالك ومالك ؟ قلت: لا أملك في هذه الدنيا كلها إلا ما تراه، وقصصت عليه حال محنتي وما كنت طمعت فيه أن يعطينيه من الهميان، وما قد انتهيت إليه من الضعف من الجوع.
فقال: أريد من يعرفني صحة نسبك وحالك، حتى أقوم بجميع أمرك كله.
فقلت: ما أقدر على المشي للضعف، ولكن إئت الطواف، وصح بالكوفيين، وقل: رجل من بلدكم، علوي، بباب إبراهيم، يريد أن يجيئه منكم من ينشط لحال هو فيها، فمن جاء معك فهاته.
فغاب غير بعيد، ثم جاء ومعه من الكوفيين جماعة اتفق أنهم كلهم كانوا يعرفون باطن حالي.
فقالوا: ما تريد أيها الشريف ؟ فقلت: هذا رجل يريد أن يعرف حالي، ونسبي، لشيء بيني وبينه، فعرفوه ما تعرفون من ذلك.
قال: فعرفوه صحة نسبي، ووصفوا له طريقتي، وعدمي.
فمضى، وجاء فأخرج الهميان بعينه، كما سلمته إليه، فقال: خذ هذا بأسره، بارك الله لك فيه.
فقلت: يا هذا، ما كفاك ما عاملتني به، حتى تهزأ بي، وأنا في حال الموت.
قال: معاذ الله، هو لك، والله.
فقلت: فلم بخلت علي بدينار منه، ثم وهبت لي الجميع ؟ فقال: ليس الهميان لي، وما كان يجوز لي أن أعطيك منه شيئاً، قل أو كثر، وإنما أعطانيه رجل من بلدي، وسألني أن أطلب في العراق، أو في الحجاز، رجلاً علوياً، حسينياً، فقيراً، مستوراً، فإذا علمت هذا من حاله، أغنيته، بأن أسلم إليه هذا المال كله، ليصير أصلاً لنعمة تنعقد له، فلم تجتمع لي هذه الصفات قبلك في أحد، فلما اجتمعت فيك، بما شاهدته من أمانتك، وفقرك، وعفتك، وصبرك، وصح عندي نسبك، أعطيتكه.
فقلت له: يرحمك الله، إن كنت تحب استكمال الأجر، فخذ منه ديناراً، وابتع لي به دراهم، واشتر بها ما آكله، وصربه إلي الساعة ها هنا.
فقال: لي إليك حاجة.
قلت: قل.
قال: أنا رجل موسر، والذي أعطيتك ليس لي فيه شيء، كما عرفتك، وأنا أسألك أن تقوم معي إلى رحلي، فتكون في ضيافتي إلى الكوفة، وتتوفر عليك دنانيرك.
فقلت: ما في حركة، فأحتمل في حملي، كيف شئت.
فغاب عني ساعة، وجاء بمركوب، وأركبنيه إلى رحله، وأطعمني في الحال ما كان عنده، وقطع لي من الغد ثياباً وكان يخدمني بنفسه، وعادلني في عماريته إلى الكوفة، فلما بلغتها، أعطاني من عنده دنانير أخر، وقال لي: تزود بها بضاعة، وفارقته، وأنا أدعو له، وأشكره، ولم أمس الهميان.
وأخذت أنفق من الدنانير التي أعطانيها الرجل، باقتصاد، إلى أن اتفقت لي ضيعة رخيصة، فابتعتها بالهميان، فأغلت، وأثمرت، وأنا، من الله عز وجل، في نعمة جزيلة، وخير كثير، والحمد لله على ذلك.

سافر إلى الموصل ثم إلى نصيبين في طلب التصرف حتى إذا أيس جاءه الفرج
وذكر القاضي أبو الحسين، في كتابه، قال: قال بعضهم: لحقتني نكبة في بعض الأوقات، وتطاولت علي الأيام في العطلة، وركبني دين فادح، وبعت آخر ما كان في ملكي.
فصار إلي صديق لي، حاله مثل حالي في العطلة، فقال: هل لك أن نخرج إلى الموصل، فإن عاملها فلان، ولي به حرمة، فنتطلب منه تصرفاً.
فقلت: أفعل.

فاحتلت نفقة، وخرجنا، حتى دخلنا الموصل، فوجدنا العامل يريد الرحيل إلى ديار ربيعة.
قال: فلقيه الرجل، ولم يتهيأ لي لقاءه، وخرجنا إلى ناحية، فلقيته أنا هناك، فوعد جميلاً، وسرت إلى نصيبين، وقد نفدت نفقتي.
وكشف لنا العامل هناك، أنه قد قلد مصر، مضافاً إلى أعماله، وأنه يريد الخروج إليها.
فقلت لصديقي: إنه لم تبق معي نفقة، ولا في فضل للخروج إلى مصر، فأعطاني من نفقته.
وقد كان صديقي تقلد من قبل العامل عملاً جليلاً، وخرج إليه، وأقمت أنا بنصيبين، وأقام العامل بها، ليصلح أمره ويخرج إلى مصر، وعملت أنا على أن أتحمل بما أعطانيه صديقي، وأرجع إلى بغداد.
فغلب علي ضيق الصدر، والهم، واستدعيت المزين ليصلح شعري، فهو بين يدي، إذ دخل علي غلام العامل، فقال: صاحبي يطلبك، وقد قلبنا عليك الدنيا منذ أمس، فلم نعرف منزلك إلا الساعة.
ففرغت من شغلي مع المزين، وتوضأت، وركبت، وكان يوم الجمعة، فلما صرت في دار العامل، لقيني غلامه، وكان حاجبه، فقال: نحن في طلبك منذ أمس، فلم توجد، وقد قام الآن عن مجلسه، وأخذ في التشاغل بأمر الصلاة، ولكن بكر في غد.
قال: فضعف في نفسي، وقلت: إنه ما أرادني لخير، وعملت على أن أنحدر تلك العشية إلى بغداد.
فلم يدعني غلامي، وقال: أقل ما في الأمر، أن يكون الرجل قد تذمم من أتباعك إياه إلى هاهنا، فيطلق لك نفقة، ونحن مضيقون.
فعلمت أن الصواب في لقائه، فأقمت، وبكرت من غد، فدخلت غليه، فعاتبني على انقطاعي عنه.
وقال: أنا مفكر في أمرك، وقد غمني طول تعطلك، مع قصدك إياي من بغداد، ومسيرك معي إلى ها هنا، ثم التفت إلى كاتب بين يديه، فقال: أكتب له كتاب التقليد، للإشراف على الضياع بديار مضر، وأحل النفقة على الثغور الجزرية، واستقبل برزقه، وهو مائة وخمسون ديناراً، في كل شهر، الوقت الذي جاءنا فيه إلى الموصل.
قال: فشكرته، واضطربت من قلة الرزق.
فقال: إقبل هذا، ولا تخالفني، إلى أن يسهل الله - جلت عظمته - غيره، فقمت مفكراً، من أين أصلح أمري، وأتحمل إلى العمل، وأنفق إلى أن أصل إليه.
قال: فما خرجت من الدار حتى ردني، فقال: بالباب قوم يحتاج إلى إثباتهم، فاجلس، وأثبتهم، واعمل لهم جرائد بأسمائهم، وحلاهم، وأرزاقهم، واستقبالاتهم، وجئني بها.
فتشاغلت بذلك يومين، وثلاثة، وجئت بالجرائد، فلما وقف عليها أعجبته، وقال: أرى عملك، عمل فهم بالجيش.
فقلت: ما عملته قط إلا مرة واحدة.
فقال: لم أقل هذا لأنك تقصر في نفسي عن غيره، ولكن ينبغي للكاتب، والعامل، أن يحسنا كل شيء يقع عليه اسم كتابة وعمالة.
ثم قال: خذ هذا الصك، وأقبض ما فيه من الجهبذ، واجلس في المسجد المحاذي لداري، وأنفق في الصنف الفلاني من أهل هذه الجريدة.
قال: فأخذت الصك وكان بألوف دنانير، فأخذت ماله، وأنفقت في القوم، وتفرقوا وهم شاكرون، وفضل مال من ذلك، وكتبت إليه بخبره، واستأمرته فيما أعمل به.
فقال: خذه من رزقك.
وأعطاني مالاً ثانياً، وقال: أنفقه في الصنف الآخر، إلى أن انفقت في جميع أهل الجريدة، فحصل لي من ذلك، زيادة على ألف دينار، فجعلتها في طريقي لنفقتي.
وشخصت قبله إلى ديار مضر، فنظرت في العمل، وسار هو مجتازاً إلى مصر.
واستأذنته في المسير إليها معه، فقال: لا أحب أن أعجل لك الصرف، ونحن نمضي إلى أعمال فيها قوم، ولعلي أقف من حالهم على ما لا يجوز معه صرفهم، فتحصل أنت على الصرف المعجل، ولكن أقم بمكانك وعملك، وأسير أنا، فإن احتجت إلى متصرفين، كنت أول من استدعيته.
فشكرته، وأقمت في عملي سنتين، أثريت فيهما، وعظمت حالي، ولم يتفق استدعاؤه إياي إلى مصر، إلى أن صرفت، وانسللت من الرقة، ودخلت بغداد، موفراً، ومعي مال جليل، فابتعت به ضيعة، ولزمتها، وتركت التصرف.

للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
وذكر أبو الحسين القاضي، قال: حدثني أبي، عن بعض إخوانه، أحسبه أبا يوسف يعقوب بن بيان، أنه قال: أملق بعض الكتاب في أيام الرشيد حتى أفضى إلى بيع أنقاض داره، ونقض ما فيها، فلم يبق فيها إلا بيتاً واحداً، كان يأوي إليه وولده، وانقطع عن الناس، وانقطعوا عنه دهراً.
وكان الرشيد يولي على أذربيجان في كل سنتين أو ثلاثة، رجلاً من بني هاشم.

فولاها سنة من السنين، رجلاً منهم كان متعطلاً، فطلب كاتباً فارهاً يصطنعه، وشاور فيه صديقاً له من الكتاب، فوصف له هذا الرجل المتعطل، ووعده بإحضاره، وصار إليه، وطرق الباب عليه، ودخل، فوجده من الفقر على حال لا يتهيأ له معها لقاء أحد.
فبعث إليه من منزله بخلعة من ثيابه، ودابة، وغلاماً، وبخوراً، ودراهم، فركب معه إلى الهاشمي، فلقيه.
وامتحنه الهاشمي، فوجده بارعاً في صناعته، فاستكتبه، وقرر جاريه، وأمر له بمال معجل معونة له على سفره، وأمره بأن يتقدمه إلى أذربيجان.
فعاد الرجل إلى منزله، وأصلح من حاله، وخلف نفقة لعياله، وشخص.
فلما بلغ المصروف الخبر، رحل عن البلد، وأخذ غير الطريق الذي بلغه أن الكاتب قد سلكها، وخلف كاتبه لرفع الحساب.
فلما شارف كاتب الوالي الناحية، خرج إليه كاتب المعزول ولقيه، فسأله عن صاحبه، فأعلمه شخوصه إلى مدينة السلام، فأنكر ذلك.
فقال له كاتب المعزول: مل بنا إلى موضع نجلس فيه، ونتحدث، وترى رأيك، فمالا، ونزلا، وطرح لهما ما جلسا عليه.
فقال: أعزك الله لا تنكر انصراف صاحبي، فإنه رجل كبير المقدار، وفي مقامه إلى أن تصيروا إلى العمل، مهانة تلحقه، وقد خلف قبلي، خمسين ومائة ألف درهم لصاحبك، ودواباً ورقيقاً بقيمة ثلاثة آلاف درهم، فاقبض ذلك، وأكتب لنا كتاباً بإزاحة علتك، وانفصال ما بيننا وبينك، ونحن ننصب لك من يرفع الحساب، رفع من لا يستقصى عليه، ولا يعنت.
فقبل كاتب الوالي ذلك، وركبا، وقد زال الخلاف فيما بينهما، وخرج الكاتب لاحقاً بصاحبه، وخلف من يسلم الحساب.
واتصل ظاهر الخبر بالهاشمي الوالي، وكتب إليه كاتبه: إني قد بلغت من الأمر مبلغاً مرضياً، إذا وقفت عليه.
فلما ساروا إلى الناحية، عرف ما جرى، فحسن موقعه، وتبرك بالكاتب، وغلب على قلبه، فكسب مالاً عظيماً.
فلما مضت ثلاث سنين، صرف الهاشمي بالرجل الذي كان والياً قبله، وبلغ الهاشمي الخبر.
فقال لكاتبه: ما الرأي ؟ قال: نفعل به مثلما فعل بنا، وترحل أنت، وأقيم أنا، ومعي مثل ما أعطانا، فأعطيه إياه، وآخذ كتابه بانفصال ما بيننا وبينه، وألحق بك، ففعل.
ووافى كاتب الصارف، الذي كان معروفاً، فتلقاه الكاتب في الموضع الذي لقيه فيه، لما كان معزولاً مصروفاً، فسلم عليه، وعدلا فنزلا، وعرض عليه ما خلفه صاحبه، له، ولصاحبه، وسأله قبول ذلك، والكتاب بمثل ما كان كتب إلى الرشيد، فامتنع من قبول ذلك، وكتب له بانفصال ما بينهما، إلى الرشيد، كتاباً وكيداً.
وقال له: أراك فاضلاً، فطناً، وأرى صاحبك عاقلاً، وقبول ذلك، لا يكون منكما مكافأة، بل كأنه بيع وشراء، وقد فكرت في أمر، هو أنفع - لنا ولكم - من هذا.
قال: ما هو ؟ فقال: أعقد بين صاحبك وصاحبي صهراً، وبيني وبينك صهراً، ونكون إخوة وأصدقاء.
فقال: فعل الله بك وصنع، ما في الدنيا أكرم ولاية، ولا صرفاً منك.
فعقدا بينهما الصهرين، وسارا إلى مقصدهما، ودخل الكاتب بغداد، وقد حصل الهاشمي صاحبه، فأخبره الخبر، فأحمد رأيه، وأمضى عقده في المصاهرة.
فصار الكاتب من أرباب الأحوال، وعاد إلى أفضل ما كان عليه.

هاك يا هذا الذي لا أعرفه
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه، قال: روي عن شيخ من أهل الكوفة، قال: أملقت وبلغت بي الحال أن نقضت منزلي، فلما اشتد علي الأمر، وتجرد عيالي من الكسوة، جاءتني الخادمة، فقالت: ما لنا دقيق، ولا معنا ثمنه، فما نعمل ؟.
فقلت: أسرجي حماري، وقد كان بقي لي حمار.
فقالت: ما أكل شعيراً منذ ثلاث، فكيف تركبه ؟ فقلت: أسرجيه على كل حال، فأسرجته، فركبته، أدب عليه، هارباً مما أنا فيه، حتى انتهيت إلى البصرة.
فلما شارفتها إذا أنا بموكب مقبل، فلما انتهوا إلي، دخلت في جملتهم، فرجعت الخيل تريد البصرة، فسرت معهم حتى دخلتها، وانتهى صاحب الموكب إلى منزله، فنزل، ونزل الناس معه، ونزلت معهم.
ودخلنا، فإذا الدهليز مفروش، والناس جلوس مع الرجل، فدعا بغداء، فجاءوا بأحسن غداء، فتغديت مع الناس، ثم وضأنا، ودعا بالغالية، فغلفنا بها.
ثم قال: يا غلمان، هاتوا سفطاً، فجاءوا بسفط أبيض مشدود، ففتح فإذا فيه أكياس، في كل كيس ألف درهم، فبدأ يعطي من على يمينه، فأمرها عليهم، ثم انتهى إلي وأعطاني كيساً، ثم ثنى وأعطاني آخر، ثم ثلث وأعطاني آخر، وأخذت الجماعة.

وبقي في السفط كيس واحد، فأخذه بيده، وقال: هاك يا هذا الذي لا أعرفه.
فأخذت أربعة أكياس، وخرجت، فقلت لانسان: من هذا ؟ قال: عبيد الله بن أبي بكرة.

أول دخول الأصمعي إلى الرشيد
وذكر أبو الحسين في كتابه أيضاً، أن الأصمعي قال: لزمت باب الرشيد، فكنت أقيم عليه طول نهاري، وأبيت بالليل مع الحراس أسامرهم، وأتوقع طالع سعد، حتى كدت أموت ضراً وهزالاً، وأن أصير إلى ملالة، ثم أتذكر ما في عاقبة الصبر من الفرج، فأؤمل صلاح حالي باتفاق محمود، فأصبر.
فبينا أنا ذات ليلة، وقد قاسيت فيها السهاد والأرق، إذ خرج بعض الحجاب، فقال: هل بالباب أحد يحسن الشعر ؟ فقلت: الله أكبر، رب مضيق فكه التيسير، أنا ذلك الرجل.
فأخذ بيدي، وقال: ادخل، فإن ختم لك بالسعادة، فلعلها أن تكون ليلة تقر عينك فيها بالغنى.
فقلت: بشرك الله بخير، ودخلت، فواجهت الرشيد في البهو جالساً، والخدم قيام على رأسه، وجعفر بن يحيى البرمكي، جالس إلى جنبه.
فوقف بي الحاجب حيث يسمع تسليمي، فسلمت، ثم قال: تنح قليلاً حتى تسكن، إن كنت وجدت روعة.
فقلت في نفسي: فرصة تفوتني آخر الدهر، إن شغلت بعارض، فلا أعتاض منها إلا كمداً، حتى يصفق علي الضريح، فقلت: إضاءة كرم أمير المؤمنين، وبهاء جده، يجردان من نظر إليه من أذية النفس، يسألني - أيده الله - فأجيب، أو أبتدئ فأصيب ؟ فتبسم إلي جعفر، وقال: ما أحسن ما استدعى الإحسان، وحري به أن يكون محسناً.
ثم قال لي: أشاعر أنت، أم راوية للشعر ؟ قلت: راوية.
قال: لمن ؟ قلت: لكل ذي جد وهزل، بعد أن يكون محسناً.
فقال: أنصف القارة من راماها.
ثم قال: ما معنى هذه الكلمة ؟ قلت: لها وجهان، زعمت التبابعة، أنه كان لها رماة لا تقع سهامها في غير الحدق، فكانت تكون في الموكب الذي يكون فيه الملك، فخرج فارس معلم بعذبات سمور في قلنسوته، فنادى: أين رماة الحدق ؟ فقالت العرب: أنصف القارة من راماها.
والوجه الآخر: الموضع المرتفع من الأرض، والجبل الشاهق، فمن ضاهاه بفعاله فقد راماه، وما أحسب هذا هو المعنى، لأن المراماة، كالمعاطاة، وكما أن المعاطاة للنديم، هي أن يأخذ كاساً، ويعطي كأساً، كذلك المراماة، أن يرميها وترميه.
فقال: أصبت، فهل رويت للعجاج بن رؤبة شيئاً ؟ قلت: الأكثر.
قال: أنشدني قوله:
أرّقني طارق همٍّ طرقا
فمضيت فيها مضي الجواد، تهدر أشداقي، فلما بلغت مدحه لبني أمية، ثنيت عنان اللسان، لامتداحه المنصور.
فقال: أعن عمد، أو غير عمد ؟ فقلت: عن عمد، تركت كذبه إلى صدقه، بما وصف فيه المنصور من مجده.
فقال جعفر: بارك الله عليك، مثلك يؤهل لمثل هذا الموقف.
ثم التفت إلي الرشيد، فقال: أرويت لعدي بن الرقاع، شيئاً ؟ قلت: الأكثر، قال: أنشدني قوله:
بانت سعاد وأخلفت ميعادها
فابتدأت تهدر أشداقي، فقال جعفر: يا هذا أنشد على مهل، فلن تنصرف إلا غانماً.
فقال الرشيد: أما إذ قطعت علي، فأقسم، لتشركني في الجائزة.
قال: فطابت نفسي، فقلت: أفلا ألبس أردية التيه على العرب، وأنا أرى الخليفة والوزير يتشاطران لي المواهب، فتبسم، ومضيت فيها.
ثم قال: أرويت لذي الرمة شيئاً ؟ قلت: الأكثر، قال أنشدني قوله:
أمن حذر الهجران قلبك يطمح
فقلت: عروس شعره.
قال: فأيه الختن ؟ قلت: قوله، يا أمير المؤمنين:
ما بال عينيك منها الماء ينسكب
فقال: امض فيها، فمضيت فيها، حتى انتهيت إلى وصفه جمله.
فقال جعفر: ضيق علينا ما اتسع من مسامرة السهر، بجمل أجرب.
فقال الرشيد: أسكت، فهي التي سلبتك تاج ملكك، وأزعجتك عن قرارك، ثم جعلت جلودها سياطاً، تضرب بها أنت وقومك عند الغضب.
فقال جعفر: الحمد لله، عوقبت من غير ذنب.
فقال الرشيد: أخطأت في كلامك، لو قلت: أستعين بالله، قلت صواباً، إنما يحمد الله تعالى على النعم، ويستعان على الشدائد.
ثم قال لي: إني لأجد مللاً، وهذا جعفر، ضيف عندنا، فسامره باقي ليلتك، فإذا أصبحت، فإن وضاء الخادم، يلقاك بثلاثين ألف درهم.
قال: ثم قربت إليه النعل، فجعل الخادم يصلح عقب النعل في رجله، فقال: ارفق ويحك، أحسبك قد عقرتني.
فقال جعفر: قاتل الله العجم، لو كانت سندية، ما احتاج أمير المؤمنين إلى هذه الكلفة.

فقال: هذه نعلي ونعل آبائي، ما تدع نفسك والتعرض لما تكره.
ثم قال لي جعفر: لولا أن المجلس مجلس أمير المؤمنين، ولا يجوز لي فيه أن آمر بمثل ما أمر به، لأمرت لك بثلاثين ألف درهم، ولكني آمر لك بتسعة وعشرين ألف درهم، فإذا أصبحت فاقبضها والزم الباب.
قال: فما صليت من غد الصبح، إلا وفي منزلي ما أمر لي به، فأيسرت ولزمتهما، وزال ما كنت فيه من الضر، وأتى الإقبال، والنعمة والسلامة، وأفلحت، ولله الحمد.

قصة حائك الكلام
وذكر أبو الحسين القاضي، في كتابه، قال: بلغني عن عمرو بن مسعدة، أنه قال: كنت مع المأمون عند قدومه من بلاد الروم، حتى إذا نزل الرقة، قال لي: يا عمرو، أما ترى الرخجي، قد احتوى على الأهواز، وهي سلة الخبز، وجميع الأموال قبله، وقد طمع فيها، وكتبي متصلة في حملها، وهو يتعلل، ويتربص بنا الدوائر.
فقلت: أنا أكفي أمير المؤمنين هذا، وأنفذ من يضطره إلى حمل ما عليه.
فقال: ما يقنعني هذا.
قلت: فيأمر أمير المؤمنين بأمره.
قال: تخرج إليه بنفسك، حتى تصفده بالحديد، وتحمله إلي، بعد أن تقبض جميع ما في يده من أموالنا، وتنظر في ذلك، وترتب فيه عمالاً.
فقلت: السمع والطاعة، فلما كان من غد، دخلت إليه.
فقال: ما فعلت فيما أمرتك به ؟ قلت: أنا على ذاك.
قال: أريد أن تجيئني في غد مودعاً.
قلت: السمع والطاعة، فلما كان من غد، جئت مودعاً.
فقال: أريد أن تحلف لي، أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً، فاضطربت من ذلك، إلى أن حظر علي واستحلفني أن لا أقيم فيها أكثر من ثلاثة أيام، فخرجت، وأنا مضطرب مغموم.
وقلت في نفسي: أنا في موضع الوزارة، وقد جعلني مستحثاً إلى عامل، ومستخرجاً، ولكن أمر الخليفة لا بد من سماعه، وأمتثال مرسومه.
وسرت حتى قدمت بغداد، ولم أقم بها إلا ثلاثة أيام، وانحدرت منها في زلال، أريد البصرة، وجعل لي فيه خيش، واستكثرت من الثلج لشدة الحر.
فلما صرت بين جرجرايا، وجبل، سمعت صائحاً من الشاطئ، يصيح: يا ملاح، فرفعت سجف الزلال، فإذا بشيخ كبير السن حاسر الرأس، حافي القدمين، خلق القميص.
فقلت للغلام: أجبه، فأجابه.
فقال: أنا شيخ كبير السن، على هذه الصورة التي ترى، وقد أحرقتني الشمس، وكادت تتلفني، وأنا أريد جبل، فاحملوني معكم، فإن الله عز وجل يحسن أجر صاحبكم.
قال: فشتمه الملاح، وانتهره.
فأدركتني عليه رقة، وقلت للغلام: خذه معنا، فقدم إلى الشط، وصحنا به، وحملناه.
فلما صار معنا في الزلال، وانحدرنا، تقدمت، فدفع إليه قميص، ومنديل، وغسل وجهه، واستراح، فكأنه كان ميتاً عاد إلى الدنيا.
وحضر وقت الغداء، فتذممت وقلت للغلام: هاته يأكل معنا.
فجاء وقعد على الطعام، فأكل أكل أديب، نظيف، غير أن الجوع قد أثر فيه.
فلما رفعت المائدة، أردت أن قوم ويغسل يده ناحية، كما يفعل العامة، في مجالس الخاصة، فلم يفعل، فغسلت يدي.
وتذممت أن آمر بقيامه، فقلت: قدموا له الطست، فغسل يده، وأردت بعدها أن يقوم لأنام، فلم يفعل.
فقلت: يا شيخ، أيش صناعتك ؟ قال: حائك، أصلحك الله.
فقلت في نفسي: هذه الحياكة علمته سوء الأدب، فتناومت عليه، ومددت رجلي.
فقال: قد سألتني عن صناعتي، فأجبتك، فأنت - أعزك الله - ما صناعتك ؟ فأكبرت ذلك، وقلت: أنا جنيت على نفسي هذه الجناية، ولا بد من احتماله، أتراه - الأحمق - لا يرى زلالي، وغلماني، ونعمتي، وأن مثلي لا يقال له مثل هذا ؟ ثم قلت: أنا كاتب.
فقال: كاتب كامل، أم كاتب ناقص ؟ فإن الكتاب خمسة، فمن أيهم أنت ؟ فورد علي من قول الحائك، مورد عظيم، وسمعت كلاماً أكبرته، وكنت متكئاً، فجلست.
ثم قلت له: فصل الخمسة.
قال: نعم، كاتب خراج، يقتضي أن يكون عالماً بالشروط، والطسوق، والحساب، والمساحة، والبثوق، والفتوق، والرتوق.
وكاتب أحكام، يحتاج أن يكون عالماً بالحلال، والحرام، والاختلاف، والاحتجاج، والإجماع، والأصول، والفروع.
وكاتب معونة، يحتاج أن يكون عالماً بالقصاص، والحدود، والجراحات، والمراتبات، والسياسات.
وكاتب جيش، يحتاج أن يكون عالماً بحلى الرجال، وشيات الدواب، ومداراة الأولياء، وشيء من العلم بالنسب والحساب.
وكاتب رسائل، يحتاج إلى أن يكون عالماً بالصدور، والفصول، والإطالة، والإيجاز، وحسن البلاغة، والخط.

قال: فقلت: أنا كاتب رسائل.
قال: فأسألك عن بعضها ؟ قلت: سل.
قال: أصلحك الله، لو أن رجلاً من إخوانك تزوجت أمه، فأردت أن تكاتبه مهنئاً، فماذا كنت تكتب إليه ؟ ففكرت في الحال، فلم يخطر ببالي شيء، فقلت: اعفني.
قال: قد فعلت، ولكنك، لست بكاتب رسائل.
قلت: أنا كاتب خراج.
قال: لا بأس، لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل والإنصاف، وتقصي حق السلطان، فتظلم إليك بعضهم من مساحك، وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك، فحلف المساح بالله العظيم، لقد أنصفوا، وما ظلموا، وحلف الرعية بالله العظيم، أنهم قد جاروا وظلموا، وقالوا لك: قف معنا على ما مسحوه، وأنظر من الصادق من الكاذب، فخرجت لتقف عليه، فوقفوا على قراح شكله: قاتل قثا، كيف كنت تمسحه ؟ فقلت: كنت آخذ طوله على انعواجه، وآخذ عرضه، ثم أضربه في مثله.
قال: إن شكل قاتل قثا، يكون رأساه محددان، وفي تحديده تقويس.
قلت: فآخذ الوسط فأضربه بالعمود.
قال: إذاً ينثني عليك العمود، فأسكتني.
فقلت: أنا لست كاتب خراج.
قال: فإذاً ماذا ؟ قلت: أنا كاتب قاض.
قال: لا تبال، أفرأيت لو أن رجلاً توفي، وخلف امرأتين حاملتين، إحداهما حرة، والأخرى سرية، وولدت السرية غلاماً، والحرة جارية، فعمدت الحرة إلى ولد السرية فأخذته، وتركت بدله الجارية، فاختصمتا في ذلك، كيف الحكم بينهما ؟ قلت: لا أدري.
قال: فلست كاتب قاض.
قلت: أنا كاتب جيش.
قال: لا بأس، أرأيت، لو أن رجلين جاءا إليك لتحليهما، وكل واحد منهما، اسمه، واسم أبيه، كأسم الآخر، واسم أبيه، إلا أن أحدهما مشقوق الشفة العليا، والآخر مشقوق الشفة السفلى، كيف كنت تحليهما ؟ قلت: أقول فلان الأعلم، وفلان الأعلم.
قال: إن رزقيهما مختلفان، وكل واحد منهما يجيء في دعوة الآخر.
قلت: لا أدري.
قال: فلست بكاتب جيش.
قلت: أنا كاتب معونة.
قال: لا تبال، لو أن رجلين رفعا إليك شج أحدهما شجة موضحة، وشج الآخر صاحبه شجة مأمومة، كيف تفصل بينهما ؟ قلت: لا أدري.
قال: إذن، لست كاتب معونة، فاطلب لنفسك - أيها الرجل - شغلاً غير هذا.
قال: فقصرت إلى نفسي، وغاظني، فقلت: قد سألت عن هذه الأمور، ويجوز أن لا يكون عندك جوابها، كما لم يكن عندي، فإن كنت عالماً بالجواب، فقل.
فقال: نعم، أما الذي تزوجت أمه، فتكتب إليه: أما بعد، فإن الأمور، تجري من عند الله، بغير محبة عباده، ولا اختيارهم، بل هو تعالى، يختار لهم ما أحب، وقد بلغني تزويج الوالدة، خار الله لك في قبضها، فإن القبر أكرم الأزواج، وأستر للعيوب، والسلام.
وأما قراح قاتل قثا، فيمسح العمود، حتى إذا صار عدداً في يدك ضربته في مثله، ومثل ثلثه، فما خرج فهو مساحته.
وأما الجارية والغلام، فيوزن اللبنان، فأيهما أخف، فالجارية له.
وأما المرتزقان المتوافقان في الاسمين فإن كان الشق في الشفة العليا، كتبت فلان الأعلم، وإذا كان في الشفة السفلى، كتبت فلان الأفلح.
وأما أصحاب الشجتين، فلصاحب الموضحة ثلث الدية، ولصاحب المأمومة نصف الدية.
قال: فلما أجاب في هذه المسائل، تعجبت منه، وامتحنته في أشياء غيرها كثيرة، فوجدته ماهراً في جميعها، حاذقاً، بليغاً.
فقلت: ألست زعمت أنك حائك ؟ فقال: أنا - أصلحك الله - حائك كلام، ولست بحائك نساجة، ثم أنشأ يقول:
ما مرّ بؤس ولا نعيم ... إلاّ ولي فيهما نصيب
نوائب الدهر أدّبتني ... وإنّما يوعظ الأديب
قد ذقت حلواً وذقت مرّاً ... كذاك عيش الفتى ضروب
قلت: فما سبب الذي بك من سوء الحال ؟ قال: أنا راجل كاتب، دامت عطلتي، وكثرت عيلتي وتواصلت محنتي، وقلت حيلتي، فخرجت أطلب تصرفاً، فقطع علي الطريق، فتركت كما ترى، فمشيت على وجهي، فلما لاح لي الزلال، استغثت بك.
قلت: فإني قد خرجت إلى تصرف جليل، أحتاج فيه إلى جماعة مثلك، وقد أمرت لك بخلعة حسنة، تصلح لمثلك، وخمسة آلاف درهم، تصلح بها أمرك، وتنفذ منها إلى عيالك، وتتقوى نفسك بباقيها، وتصير معي إلى عملي، فأوليك أجله، إن شاء الله تعالى.
فقال: أحسن الله جزاءك، إذن تجدني بحيث يسرك، ولا أقوم مقام معذر إن شاء الله.

فأمرت بتقبيضه ما رسمت له، فقبضه، وانحدر إلى الأهواز معي، فجعلته المناظر للرخجي، والمحاسب له بحضرتي، والمستخرج لما عليه، فقام بذلك أحسن قيام وأوفاه.
وعظمت حاله معي، وعادت نعمته إلى أحسن ما كانت عليه.
أنا أبوك
قال مؤلف هذا الكتاب: وقد بلغني حديث لعمرو بن مسعدة في زلاله، بخلاف هذا، حدثني به عبيد الله بن محمد بن الحسن بن الحفا العبقسي، وهو يذكر أن أهله أقرباء لبني مارية الذين كانوا تناء الصراة، وأهل النعم بها، قال: حدثني أبي، قال: سمعت شيوخنا بالصراة، وأهلنا، يتحدثون: أن عمرو بن مسعدة، كان مصعداً من واسط إلى بغداد، في حر شديد، وهو جالس في زلال، فناداه رجل: يا صاحب الزلال بنعمة الله عليك إلا نظرت إلي.
قال: فكشف سجف الزلال، فإذا بشيخ ضعيف حاسر الرأس.
فقال له: قد ترى ما أنا عليه، ولست أجد من يحملني، فابتغ الأجر في، وتقدم إلى ملاحيك يطرحوني بين مجاديفهم، إلى أن أصل بلداً يطرحوني فيه.
قال عمرو بن مسعدة: فرحمته، وقلت خذوه، فأخذوه، فغشي عليه، وكاد يموت لما لحقه من المشي في الشمس.
فلما أفاق، قلت له: يا شيخ، ما حالك، وما قصتك ؟ فقال: قصة طويلة.
فسكنته وطرحت عليه قميصاً ومنديلاً، وأمرت له بدراهم وشمشك، فشكرني.
فقلت: لا بد أن تحدثني بحديثك.
فقال: أنا رجل كانت لله عز وجل علي نعمة جليلة، وكنت صيرفياً، فابتعت جارية بخمسمائة دينار، فعشقتها عشقاً عظيماً، وكنت لا أقدر أن أفارقها ساعة واحدة، فإذا خرجت إلى الدكان، أخذني كالجنون والهيمان، حتى أعود فأجلس معها يومي كله.
فدام ذلك حتى تعطل دكاني، وتعطل كسبي، وأقبلت أنفق من رأس المال، حتى لم يبق منه قليل ولا كثير، وأنا مع ذلك لا أطيق أن أفارقها.
فحبلت الجارية، وأقبلت أنقض داري، وأبيع نقضها، حتى فرغت من ذلك، فلم تبق لي حيلة.
فضربها الطلق، فقالت: يا هذا، هوذا أموت، فاحتل فيما تبتاع به عسلاً، ودقيقاً، وشيرجاً، ولحماً، وإلا مت.
فبكيت، وحزنت، وخرجت على وجهي، وجئت لأغرق نفسي في دجلة، فذكرت حلاوة النفس، وخوف العقاب في الآخرة، فامتنعت.
ثم خرجت هائماً على وجهي إلى النهروان، وما زلت أمشي من قرية إلى قرية، حتى بلغت خراسان، فصادفت بها من عرفني، وتصرفت في ضياعه، ورزقني الله عز وجل مالاً عظيماً، فأثريت، واتسعت حالي، ومكثت سنين، لا أعرف خبر منزلي، فلم أشك أن الجارية قد ماتت.
وتراخت السنون حتى حصل لي ما قيمته عشرون ألف دينار.
فقلت: قد صارت لي نعمة، فلو رجعت إلى وطني.
فابتعت بالمال كله، متاعاً من خراسان، وأقبلت أريد العراق، من طريق فارس والأهواز.
فلما حصلت بينهما، خرج على القافلة لصوص، فأخذوا جميع ما فيها، ونجوت بثيابي، وعدت فقيراً.
ودخلت الأهواز، فبقيت بها متحيراً، حتى كشفت خبري لبعض أهلها ممن أعرفه، فأعطاني ما تحملت به إلى واسط.
ونفدت نفقتي، فمشيت إلى هذا الموضع، قود كدت أتلف، فاستغثت بك، ولي منذ فارقت بغداد، ثمان وعشرون سنة.
فعجبت من ذلك، وقلت له: اذهب، فاعرف خبر أهلك، وصر إلي، فإني أتقدم بتصريفك فيما يصلح لمثلك، فشكر، ودعا، ودخلنا بغداد.
ومضت على ذلك مدة طويلة، أنسيته فيها، فبينا أنا يوماً، قد ركبت، أريد دار المأمون، وإذا بالشيخ على بابي، راكباً بغلاً فارهاً، بمركب محلى ثقيل، وغلام أسود بين يديه، وثياب حسنة، فلما رأيته رحبت به، وقلت: ما الخبر ؟ فقال: طويل، وها أنا آتي إليك في غد، وأحدثك بالخبر.
فلما كان من الغد، جاءني، فقلت له: عرفني خبرك، فقد سررت بسلامتك، وبظاهر حالك.
فقال: إني صعدت من زلالك، فقصدت داري، فوجدت حائطها الذي يلي الطريق كما خلفته، غير أن باب الدار كان مجلواً، نظيفاً، وعليه دكاكين، وبواب، وبغال مع شاكرية.
فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت جاريتي، وملك الدار بعض الجيران، فباعها من رجل من أصحاب السلطان.
ثم تقدمت إلى بقال كنت أعرفه في المحلة، فوجدت في دكانه غلاماً حدثاً.
فقلت له: من تكون من فلان البقال ؟ فقال: أنا أبنه.
فقلت: ومتى مات ؟ قال: منذ عشرين سنة.
قلت: لمن هذه الدار ؟ قال: لابن داية أمير المؤمنين، وهو الآن صاحب بيت ماله.
قلت: بمن يعرف ؟ قال: بابن فلان الصيرفي، فأسماني.
قلت: فهذه الدار من باعها إليه.

قال: هذه دار أبيه.
قلت: وأبوه يعيش ؟ قال: لا.
قلت: أتعرف من حديثهم شيئاً ؟ قال: نعم، حدثني أبي، أن والد هذا الرجل كان صيرفياً جليلاً، فافتقر، وأن أم هذا الرجل ضربها الطلق، فخرج أبوه يطلب لها شيئاً، ففقد، وهلك.
وقال أبي: جاءني رسول أم هذا، يطلب لها شيئاً، وهي تستغيث بي، فقمت لها بحوائج الولادة، ودفعت لها عشرة دراهم، فما أنفقتها، حتى قيل: قد ولد لأمير المؤمنين الرشيد، مولود ذكر، وقد عرض عليه جميع الدايات، فلم يقبل ثديهن، وقد طلب له الحرائر، فجاءوه بغير واحدة، فما أخذ ثدي واحدة منهن، وهم في طلب مرضع.
فأرشدت الذي طلب الداية إلى أم هذا، فحملت إلى دار الرشيد، فحين وضع فم الصبي على ثديها، قبله، فأرضعته، وكان الصبي المأمون، وصارت عندهم في حال جليلة، ووصل إليها منهم خير كثير.
ثم خرج المأمون إلى خراسان، وخرجت هذه المرأة وابنها هذا معها، ولم نعرف أخبارهم إلا منذ قريب، لما عاد المأمون، وعادت حاشيته، رأينا هذا قد صار رجلاً، ولم أكن رأيته قبل قط، وقد كان أبي مات.
فقالوا: هذا ابن فلان الصيرفي، وابن داية الخليفة المأمون، فبنى هذه الدار وسواها.
فقلت: فعندك علم من أمه أهي حية أم ميتة ؟ قال: هي حية، تمضي إلى دار الخليفة أياماً، وتكون عند ابنها أياماً هنا.
فحمدت الله تعالى على هذه الحال، وجئت، حتى دخلت الدار مع الناس، فرأيت الصحن في نهاية العمارة والحسن، وفيه مجلس كبير مفروش بفرش فاخرة، وفي صدره رجل شاب بين يديه كتاب وجهابذة، وحساب يستوفيه عليهم، وفي صفاف الدار وبعض مجالسها، جهابذة بين أيديهم الأموال والتخوت والشواهين، يقبضون ويقبضون، وبصرت بالفتى، فرأيت شبهي فيه، فعلمت أنه ابني، فجلست في غمار الناس، إلى أن لم يبق في المجلس غيري، فأقبل علي.
فقال: يا شيخ، هل من حاجة تقولها ؟ فقلت: نعم، ولكنه أمر لا يجوز أن يسمعه غيرك.
فأومأ إلى غلمان كانوا قياماً حوله، فانصرفوا، وقال: قل، أعزك الله.
قلت: أنا أبوك.
فلما سمع ذلك تغير وجهه، ثم وثب مسرعاً، وتركني مكاني.
فلم أشعر إلا بخادم جاءني، فقال: قم يا سيدي، فقمت أسير معه، حتى بلغت ستارة منصوبة، في دار لطيفة، وكرسي بين يديها، والفتى جالس على كرسي آخر.
فقال: اجلس أيها الشيخ.
فجلست على الكرسي، ودخل الخادم، فإذا بحركة خلف الستارة.
فقلت: أظنك تريد أن تختبر صدق ما قلت لك من جهة فلانة، وذكرت اسم جاريتي، أمه.
قال: فإذا بالستارة قد كشفت، والجارية قد خرجت إلي، فوقعت علي تقبلني وتبكي، وتقول: مولاي والله.
قال: فرأيت الفتى، قد تشوش، وبهت، وتحي.
فقلت للجارية: ويحك ما خبرك ؟ فقالت: دع خبري، ففي مشاهدتك، مما تفضل الله عز وجل بذلك، كفاية، إلى أن أخبرك، فقل ما كان من خبرك أنت ؟ فقصصت عليها خبري، منذ يوم خروجي من عندها، إلى يومي ذاك، وقصت هي، علي قصتها، مثل ما قال ابن البقال، وأعجب، وأشرح، وكل ذلك بمرأى من الفتى ومسمع، فلما استوفى الحديث، خرج وتركني في مكاني.
قال: وإذا أنا بخادم، قال: يا مولاي، يسألك ولدك أن تخرج إليه.
قال: فخرجت إليه، فلما رآني من بعيد، قام قائماً على رجليه، وقال: معذرة إلى الله، وإليك يا أبة، من تقصيري في حقك، فإنه فجأني من أمرك، ما لم أظن أنه يكون، والآن، فهذه النعمة لك، وأنا ولدك، وأمير المؤمنين مجتهد بي منذ دهر، أن أدع هذه الجهبذة، وأتوفر على خدمته في الدار، فلا أفعل، طلباً للتمسك بصنعتي، والآن، فأنا أسأله أن يرد إليك عملي، وأخدمه أنا في غيرها، فقم عاجلاً، وأصلح أمرك.
فأخذت إلى الحمام ونظفت، وجاءوني بخلعة، فألبستها، وخرجت إلى حجرة والدته، فجلست فيها.
ثم أدخلني على أمير المؤمنين، وحدثته بحديثي، وخلع علي، ورد إلي العمل الذي كان إلى ولدي، وأجرى علي من الرزق، في كل شهر كذا، وقلد ابني أعمالاً هي من أجل عمله، وأضعف له أرزاقه، وأمره بلزم حضرته في أشياء استعمله فيها من خاص أمره.
فجئت لأشكرك على ما عاملتني به من الجميل، وأعرفك بتجدد النعمة.
قال عمرو بن مسعدة: فلما أسمى الفتى، علمت أنه ابن داية المأمون، كما قال.

سقط عليه حائط ونهض سالما
ً

حدثني عمر بن عبد الملك بن الحسن بن يوسف السقطي، وكان خليفتي على القضاء بحران ونواح من ديار مضر، ثم خلفني على قطعة من سقي الفرات، قال: حدثني أبو الخطاب محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، الشاهد بالبصرة، قال: غلست يوماً أريد مسجد الزياديين، بشارع المربد، لوعد كان علي فيه، وكانت الريح قوية، وإذا بين يدي بأذرع رجل يمشي.
فلما بلغنا دار رياح، قلعت الريح سترة آجر وجص على رأس حائط، فرمت بها على ذلك الرجل، فلم أشك في هلاكه، وارتفعت غبرة عظيمة أفزعتني، فرجعت.
فلما سكنت، عدت أسلك الطريق، حتى إذا دست بعض السترة، لم أجد الرجل، فعجبت.
وتممت طريقي، حتى دخلت مسجد الزياديين، فرأيت أهل المسجد مجتمعين، فحدثتهم بما رأيت في طريقي، متوجعاً للرجل، وشاكراً لله عز وجل على سلامتي.
فقال رجل منهم: يا أبا الخطاب، أنا الذي وقعت عليه السترة، وذلك أني قصدت هذا المسجد لمثل ما وعدت له، فلما سقطت السترة لم أحس بضرر لحقني، ووجدت نفسي قائماً سالماً، فحمدت الله تعالى، وتحيرت، ووقفت حتى انجلت الغبرة، فتأملت الصورة، فاذا في السترة موضع باب كبير، وقد سقط باقي السترة حوالي، وسائر جسدي في موضع ذلك الباب، فخرجت منه إلى ها هنا.

نفاه الواثق وأعاده المتوكل
ووجدت بخط جحظة: حدثني عبيد الله بن عمر البازيار، نديم المتوكل، قال: لما نفاني الواثق، من سر من رأى، إلى البحر، من أجل خدمتي لجعفر، لحقتني إضاقة شديدة، وغموم متصلة، واستبعدت الفرج.
فكنت أبكر في كل يوم، بباشق على يدي، إلى الصحراء، فأرجع بالدراجة والدراجتين، فيكون ذلك قوتي، لإضاقتي.
فدخلت يوم جمعة، إلى الجامع، لأصلي قريباً من المنبر، وليس معي خب، فإذا الخطيب، يخطب: اللهم أصلح عبدك وخليفتك عبد الله جعفر، الإمام المتوكل على الله، أمير المؤمنين.
فداخل قلبي من السرور، حال، لم أدر معه، في أي مكان أنا.
قال: وسقطت مغشياً علي، فظن الناس أني قد صرعت، فأخرجوني، فمشيت إلى الموضع الذي أسكنه، فإذا البرد على بابي، يطلبونني.
فركبت معهم إلى المتوكل، فكان من أمري معه ما كان، وزادني على الغنى درجات عظيمة، وعدت إلى حالي من اليسار.
البحتري يهنئ الفتح بنجاته من الغرقوحدثت: أن الفتح بن خاقان، اجتاز على بعض القناطر، وهو يتصيد، وقد انقطع من عسكره، فانخسفت القنطرة من تحته، فغرق.
فرآه أكار، وهو لا يعرفه، فطرح نفسه وراءه، وخلصه، وقد كاد أن يتلف، ولحقه أصحابه، فأمر للأكار بمال عظيم، وصدق بمثله.
فدخل إليه البحتري، فأنشده قصيدته التي أولها:
متى لاح برق أو بدا طلل قفر ... جرى مستهلّ لا بكيّ ولا نزر
وفيها يقول:
لقد كان يوم النهر يوم عظيمة ... أطلّت ونعماء جرى بهما النهر
أجزت عليه عابراً فتشاعبت ... أواذيه لما أن طما فوقه البحر
وزالت أواخي الجسر وانهدمت به ... قواعده العظمى وما ظلم الجسر
تحمّل حلماً مثل قدسٍ وهمّة ... كرضوى وقدراً ليس يعدله قدر
فما كان ذاك الهول إلاّ غيابة ... بدا طالعاً من تحت ظلمتها البدر
فإن ننس نعمى اللّه فيك فحظّنا ... أضعنا وإن نشكر فقد وجب الشكر
فقال له الفتح: الناس يهنئونا بنثر، وأنت بنظم، وبراحة، وأنت بتعب، وأجزل صلته
الباب الثامن
فيمن أشقى على أن يقتل
فكان الخلاص من القتل إليه أعجل
بدأ الهادي خلافته بتنحية الربيع عن الوزارة واستيزار إبراهيم الحراني
ذكر محمد بن عبدوس في كتاب الوزراء: أن إبراهيم بن ذكوان الحراني الأعور الكاتب، صاحب طاق الحراني ببغداد، كان خاصاً بالمهدي.
قال: وان المهدي أنفذ موسى ابنه إلى جرجان، وأنفذ معه إبراهيم الحراني، فخص إبراهيم بموسى ولطف موضعه منه.
فاتصل بالمهدي عنه أشياء تزيد فيها عليه أعداؤه وكثروا، فكتب المهدي إلى موسى في حمله إليه، فضن به، ودافع عنه.
فكتب إليه المهدي: إن لم تحمله، خلعتك من العهد، وأسقطت منزلتك.

فلم يجد موسى من حمله بداً، وحمله مع بعض خدمه، مرفهاً، مكرماً، وقال للخادم: إذا دنوت من محل المهدي، فقيد إبراهيم، واحمله في محمل، بغير وطاء ولا غطاء، وألبسه جبة صوف، وأدخله إليه بهذه الصورة، فامتثل الخادم ما أمر به في ذلك.
واتفق أنه ورد إلى العسكر، والمهدي يريد الركوب إلى الصيد، وهو - إذ ذاك - بالروذبار، فبصر بالموكب، فسأل عنه فقيل خادم لموسى ومعه إبراهيم الحراني.
فقال: وما حاجتي إلى الصيد، وهل صيد أطيب من صيد إبراهيم الحراني ؟ قال: فأدنيت منه، وهو علي ظهر فرسه.
فقال: إبراهيم ؟ قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
فقال: لا لبيك، والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، ثم والله لأقتلنك، إمض يا خادم به إلى المضرب.
فحملت، وقد يئست من الفرج، ومن نفسي، ففزعت إلى الله تعالى بالدعاء والإبتهال.
وانصرف المهدي، فأكل اللوزينج المسموم المشهور خبره، فمات من وقته، وتخلصت.
وذكر محمد بن عبدوس - بعد هذا - أن الهادي لما بلغه موت المهدي، نجا من جرجان إلى بغداد، على دواب البريد، وما سمع بخليفة ركب دواب البريد غيره، فدخل بغداد والربيع مولى المنصور على الوزارة، كما كان يتقلدها للمهدي، فصرفه وقلد إبراهيم بن ذكوان الحراني.

لما اعتقل إبراهيم بن المهدي حبسه المأمون عند أحمد بن أبي خالد الأحول
قال محمد بن عبدوس، في كتاب الوزراء: لما ظفر المأمون بإبراهيم بن المهدي، حبسه عند أحمد بن أبي خالد، ولم يزل في أزجه.
فحكى يوسف بن إبراهيم، مولى إبراهيم بن المهدي، قال: لما وجه المأمون، إبراهيم بن المهدي، إلى أحمد بن أبي خالد ليحبسه عنده، دخل إبراهيم إلى أحمد.
فقال له إبراهيم: الحمد لله الذي من علي بمصيري إليك وحصولي في دارك، وتحت يدك، ولم يبتلني بغيرك.
قال إبراهيم: فقطب أحمد، وبسر في وجهي، وقال: يا إبراهيم، لقد حسن ظنك بي، إذ تتوهم أن أمير المؤمنين لو أمرني بضرب عنقك، أني أتعدى ذلك إلى غير ما أمرني به فيك.
قال: فأدرت عيني في مجلسه، فتبينت فيمن حضر من أهل خراسان، إنكاراً لقوله.
فقلت: صدقت يا ابن أبي خالد، إن قتلتني بأمر أمير المؤمنين، كنت غير ملوم، وكذلك لو أمرني بالشق عن قلبك وكبدك، فعلت ذلك، وكنت غير ملوم.
ولم أحمد ربي - وإن كان حمده واجباً في كل حال - لحسن ظني بك، ولكنني علمت، أن لأمير المؤمنين خزنة سيوف، وخزنة أقلام، وأنه متى أراد قتل إنسان، دفعه إلى خزنة السيوف، ومتى أراد مناظرته، دفعه إلى خزنة الأقلام.
فحمدت الله تعالى، على ما من به علي، من إحلاله إياي، محل من يساءل، لا محل من يعاجل.
قال: فرأيت وجوه كل من حوله قد أشرقت، وأسفرت، وأعجبوا بما كان مني.
فقال أحمد بن أبي خالد: الناس يتكلمون على قدر أنفسهم وآبائهم، وكلامك على قدر المهدي، وقدر نفسك، وكلامي على قدر خلقي، وقدر يزيد الأحول، وأنا أستقيلك مما سبق مني، فأقلني، أقال الله عثرتك، وسهل أمرك، وعجل خلاصك.
فقلت: قد أقال الله عثرتك.
قال: وما مضت لي في داره، خمسون ليلة، حتى سار إلي في نصف الليل، فأخرجني، وألقى علي درعاً، وظاهر بدراعة، وحملني على دابة، وهو يركض إلى الجانب الغربي، فوقفني بين الجسر والخلد.
فوقع في نفسي أن إلقاءه علي الدرع، إنما هو لإيراده إياي على سكران، فأراد أن يقيني بادرته، وعلمت أنه أراد أنه إذا ورد علي أمر، أن أتماوت.
فخلفني مع أصحابه، ومضى يركض، ثم عاد إلي.
ثم قال: يقول لك أمير المؤمنين: يا فاسق، ألم يكن لك في السابق القديم من فعلك، كفاية تحولك عما كان منك في هذه الليلة التي وثب فيها علي ابن عائشة وابن الأفريقي، ومن يتابعهما، وأضرابهم، حتى اضطروني إلى أن ركبت إلى المطبق لمحاربتهم، حتى أظفرني الله جل وعز بهم، فقتلتهم، وأنا ملحقك بهم، فاحتج لنفسك، إن كانت لك حجة، وإلا فإنك لاحق بهم.
فعلمت أن الرسالة ممن غلب عليه النبيذ، وأني أحتاج إلى إغضابه، حتى يغلب غضبه السكر.
فقلت: يا أبا العباس، دمي في عنقك، فاتق الله، ولا تقتلني.
فقال لي: يا هذا، ما الذي يتهيأ لي أن أعمل، وهل يمكنني دفع شيء يأمرني به ؟

فقلت: لا، وإني أريد أن أحقن دمي، بأن تؤدي عني ما تسمعه مني، وإنما تقتلني، إذا أجبته بجواب، فأديت عني غيره، تقديراً منك، أنه أصلح وأدعى إلى سلامتي، فلا يتلقى قولك بالقبول، فأد قولي كما أقول.
فقال أحمد بن أبي خالد: علي عهد الله، أن أؤدي ما تقول.
قال: فقلت، تقول له: يا أمير المؤمنين إن كنت تعقل، فأنت تعلم أني أعقل، فما أشك أنه سيستعيد منك هذا القول، فأعده.
وتقول له: يقول لك: يا أمير المؤمنين استترت منك، وأنت خارج عن البلد، وأنا نافذ الأمر فيه، ومعي عالم من الناس، وأثب بك في مدينتك، ومدينة آبائك، وأنا أسير في سرب ابن أبي خالد، مع نفر محبسين، مثقلين بالحديد ؟ هذا ما لا يقبله عاقل.
فأدى أحمد رسالته إلى المأمون، فقال: صدق، فأردده إلى موضعه.
فركض أحمد إلي، وهو ينادي: سلامة سلامة، والحمد لله رب العالمين، وانصرف إلى منزله.
قال ابن عبدوس: فأقام فيه، إلى أن انصرف المأمون، لنكاح بوران، فأشخصه معه إلى فم الصلح، وسألته بوران بنت الحسن بن سهل، فرضي عنه.

جيء بإبراهيم بن المهدي وهو مذنب وخرج وهو مثاب
وحدثني أبو العلاء الدلال البصري، بها، قال: حدثني أبو نصر بن أبي داؤد، قال: حدثني أبي، عن أبيه، قال: كنت يوماً عند المأمون، وقد جاءوه بإبراهيم بن المهدي، وفي عنقه ساجور، وفي رجله قيدان، فوقف بين يدي المأمون.
فقال له: هيه، يا إبراهيم، إني استشرت في أمرك، فأُشير علي بقتلك، فرأيت ذنبك يقصر عن واجب حق عمومتك.
فقال: يا أمير المؤمنين، أبيت أن تأخذ حقك إلا من حيث عودك الله تعالى، وهو العفو عن قدرة.
فقال المأمون: مات - والله - الحقد، عند هذا العذر، يا غلام، لا يتخلف أحد من أهل المملكة عن الركوب بين يديه، ويحمل بين يديه عشر بدر، وعشرة تخوت ثياب.
قال: ما رأيت إنساناً جيء به وهو مذنب، فخرج وهو مثاب، وأهل المملكة بين يديه، إلا هو.
قبض على إبراهيم بن المهدي وهو بزي امرأةوجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطي: أن إبراهيم بن المهدي، لما طال استتاره من المأمون، ضاق صدره، فخرج ليلة من موضع كان فيه مستخفياً، يريد موضعاً آخر، في زي امرأة، وكان عطراً.
فعرض له حارس، فلما شم منه رائحة الطيب، ارتاب به، فكلمه، فلم يجب، فعلم أنه رجل، فضبطه.
فقال له: خذ خاتمي، فثمنه ثلاثون ألف درهم وخلني، فأبى، وعلق به، وحمله إلى صاحب الشرطة، فأتى به المأمون.
فلما أدخله داره، وعرف خبره، أمر بأن يدخل إليه، إذا دعي، على الحال التي أخذ عليها.
ثم جلس مجلساً عاماً، وقام خطيب بحضرة المأمون، يخطب بفضله، وما رزقه الله، جلت عظمته، من الظفر بإبراهيم.
وأدخل إبراهيم بزيه، فسلم على المأمون، وقال: يا أمير المؤمنين، إن ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو أقرب للتقوى، ومن تناولته يد الاغترار، بما مد له من أسباب الرجاء، لم يأمن عادية الدهر، ولست أخلو عندك من أن أكون عاقلاً أو جاهلاً، فإن كنت جاهلاً فقد سقط عني اللوم من الله تعالى، وإن كنت عاقلاً، فيجب أن تعلم أن الله عز وجل، قد جعلت فوق كل ذي عفو، كما جعل كل ذي ذنب دوني، فإن تؤاخذ، فبحقك، وإن تعف، فبفضلك، ثم قال:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقّك أو لا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
وقال:
أذنبت ذنباً عظيماً ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنٌّ ... وإن جزيت فعدل
قال: فرق له المأمون، وأقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس والقواد، وقال: ما ترون في أمره ؟ فقال بعضهم: يضرب عنقه.
وقال البعض: تقطع أطرافه، ويترك إلى أن يموت، وكل أشار بقتله، وإن اختلفوا في القتلة.
فقال المأمون، لأحمد بن أبي خالد: ما تقول أنت يا أحمد ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إن قتلته، وجدت مثلك قد قتل مثله، وإن عفوت عنه، لم تجد مثلك قد عفا عن مثله، فأي أحب إليك، أن تفعل فعلاً تجد لك فيه شريكاً، أو أن تنفرد بالفضل ؟ فأطرق المأمون طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: أعد علي ما قلت يا أحمد، فأعاد.
فقال المأمون: بل ننفرد بالفضل، ولا رأي لنا في الشركة.

فكشف إبراهيم المقنعة عن رأسه، وكبر تكبيرة عالية، وقال: عفا - والله - أمير المؤمنين عني، بصوت كاد الإيوان أن يتزعزع منه، وكان طويلاً، آدم، جعد الشعر، جهوري الصوت.
فقال له المأمون: لا بأس عليك يا عم، وأمر بحبسه في دار أحمد بن أبي خالد.
فلما كان بعد شهر، أحضره المأمون، وقال له: اعتذر عن ذنبك.
فقال: يا أمير المؤمنين، ذنبي أجل من أن أتفوه معه بعذر، وعفو أمير المؤمنين، أعظم من أن أنطق معه بشكر، ولكني أقول:
تفديك نفسي أن تضيق بصالح ... والعفو منك بفضل جود واسع
إنّ الذي خلق المكارم حازها ... في صلب آدم للإمام السابع
ملئت قلوب الناس منك مهابة ... وتظلّ تكلؤهم بقلبٍ خاشع
فعفوت عمّن لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
ورحمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وحنين والدة بقلب جازع
ردّ الحياة إليّ بعد ذهابها ... كرم المليك العادل المتواضع
فقال له المأمون: لا تثريب عليك يا عم، قد عفوت عنك، فاستأنف الطاعة متحرزاً من الظنة، يصف عيشك، وأمر بإطلاقه، ورد عليه ماله وضياعه، فقال إبراهيم يشكره في ذلك:
رددت مالي ولم تبخل عليّ به ... وقبل ردّك مالي قد حقنت دمي
فأبت عنك وقد خوّلتني نعماً ... هما الحياتان من موت ومن عدم
فلو بذلت دمي أبغي رضاك به ... والمال، حتى أسلّ النعل من قدمي
ما كان ذاك سوى عاريّة رجعت ... إليك لو لم تعرها كنت لم تلم
وقام علمك بي فاحتجّ عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متّهم
فإن جحدتك ما أوليت من نعم ... إنّي لباللؤم أولى منك بالكرم
فقال المأمون: إن من الكلام، كلاماً كالدر، وهذا منه، وأمر لإبراهيم بخلع ومال، قيل أنه ألف ألف درهم.
وقال له: يا إبراهيم، إن أبا إسحاق، وأبا عيسى، أشارا علي بقتلك.
فقال إبراهيم: ما الذي قتل لهما يا أمير المؤمنين ؟ قال: قلت لهما: إن قرابته قريبة، ورحمه ماسة، وقد بدأنا بأمر، وينبغي أن نستتمه، فإن نكث فالله مغير ما به.
قال إبراهيم: قد نصحا لك، ولكنك أبيت إلا ما أنت أهله يا أمير المؤمنين، ودفعت ما خفت، بما رجوت.
فقال المأمون: قد مات حقدي بحياة عذرك، وقد عفوت عنك، وأعظم من عفوي عنك أنني لم أجرعك مرارة امتنان الشافعين.
إن من أعظم المحنة أن تسبق أمية هاشماً إلى مكرمة
وحدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني علي بن سليمان الأخفش، ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، يعنيان أبا العباس المبرد، قال: حدثنا الفضل بن مروان، قال: لما دخل إبراهيم بن المهدي على المأمون وقد ظفر به، كلمه بكلام كان سعيد بن العاص كلم به معاوية بن أبي سفيان في سخطة سخطها عليه، واستعطفه به، وكان المأمون يحفظ الكلام.
فقال له المأمون: هيهات يا إبراهيم، هذا كلام قد سبقك به فحل بني العاص، وقارحهم، سعيد بن العاص، خاطب به معاوية.
فقال له إبراهيم: وأنت إن عفوت عني، فقد سبقك فحل بني حرب، وقارحهم، إلى العفو، ولم تكن حالي في ذلك، أبعد من حال سعيد عند معاوية، فإنك أشرف منه، وأنا أشرف من سعيد، وأنا أقرب إليك من سعيد إلى معاوية، وإن من أعظم المحنة أن تسبق أمية هاشماً إلى مكرمة.
فقال له: صدقت يا عم، وقد عفوت عنك.

لما قدم للقتل تماسك فلما عفي عنه بكى
وجدت في بعض الكتب: أنه لما حصل إبراهيم بن المهدي في قبضة المأمون، لم يشك هو وغيره في أنه مقتول، فأطال حبسه في مطمورة، بأسوأ حال وأقبحها.
قال إبراهيم: فأيست من نفسين ووطنتها على القتل، وتعزيت عن الحياة، حتى صرت أتمني القتل، للراحة من العذاب، وما اؤمله في الآخرة، من حصول الثواب.
فبينا أنا كذلك، إذ دخل علي أحمد بن أبي خالد مبادراً، فقال: أعهد، فقد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك.
فقلت: أعطني دواة وقرطاساً، فكتبت وصية ذكرت فيها كلما احتجت إليه، وأسندتها إلى المأمون، وشكلة والدتي، وتوضأت، فتطوعت ركعات، ومضى أحمد
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7