كتاب : الفرج بعد الشدة
المؤلف : القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي

فرجع طريح، وأقام بباب الوليد سنة، لا يخلص إليه، ولا يقدر على الدخول عليه، وأراد الرجوع إلى وطنه وقومه.
ثم قال: والله، إن هذا مني لعجز، أرجع من غير أن ألقى ولي العهد، فأعلم من دهاني عنده ؟ ورأى أناساً كانوا أعداء له، قد فرحوا بما كان من أمره، ولم يزل يلطف بالحاجب، حتى قال له: أما إذ أطلت المقام، فأنا أكره أن تنصرف على حالك هذه، ولكن الأمير، إذا كان يوم كذا وكذا، دخل الحمام، ثم أمر بسريره فأبرز، وليس عليه يومئذ حجاب، فإذا كان ذلك اليوم حضرت، فدخلت عليه، وظفرت بحاجتك، ويكون لي أنا عذر.
فلما كان ذلك اليوم دخل الحمام، وأبرز سريره، وجلس عليه، وأذن للناس فدخلوا، وبعث الحاجب إلى طريح، فأقبل.
فلما رآه الوليد من بعيد، صرف وجهه عنه، وكره أن يرده من بين الناس، فسلم، فلم يرد عليه، فأنشأ طريح يقول:
نام الخليّ من الهموم وبتّ في ... ليلٍ أكابده وهمّ مضبع
وسهرت لا أسري ولا في لذّة ... أرقي وأعقد ما لقيت المضجع
أبغي وجوه مخارجي من تهمةٍ ... أزمت عليّ وسدّ منها المطلع
جزعاً لمغضبة الوليد ولم أكن ... من قبل ذاك من الحوادث أجزع
يا ابن الخلائف إنّ سخطك لامرىء ... أمسيت عصمته بلاء مفظع
فلأنزعنّ عن الذي لم تهوه ... إن كان لي ورأيت ذلك منزع
فاعطف فداك أبي عليّ تعطّفاً ... وفضيلة فعسى الفضيلة تنفع
فلقد كفاك، وزاد ما قد نالني ... إن كنت لي ببلاء ضرٍّ تقنع
سمةٌ لذاك عليّ جسم شاحب ... بادٍ تحسّره ولون أسفع
إن كنت في ذنب عتبت فإنّني ... عمّا كرهت لنازعٌ متضرّع
ويئست منك فكلّ عسر باسط ... يده إليّ وكلّ يسر أقطع
من بعد أخذي من حبالك بالّذي ... قد كنت أحسب أنّه لا يقطع
أرمضتني حتّى انقطعت وسدّدت ... عنّي الوجوه ولم يكن لي مدفع
ودخلت في حرم الذمام وحاطني ... خفر أخذت به وعهد مولع
أفهادمٌ ما قد بنيت وخافضٌ ... شرفي وأنت بغير ذلك أوسع
أفلا خشيت شمات قومٍ فيهم ... شنف وأنفسهم عليّ تقطّع
وفضلت في الحسب الأشمّ عليهم ... وصنعت في الأقوام ما لم يصنع
فكأنّ أنفهم بكلّ صنيعة ... أسديتها وجميل فعل يجدع
ودّوا لو أنهم ينال أكفّهم ... شللٌ وأنّك عن صنيعك تنزع
أو تستليم فيجعلونك أسوة ... وأبى الملام لك الندى والمصنع
فقال له: زعمت أن هشاماً يحمل المدح، وأنا لا أحملها ؟ فأنكر.
فدعا الخصي، وكشف عن الصورة، فاعترف الخصي، بما كان قد رشي، حتى أنشد البيتين بحضرة الوليد، فرضي عنه، وأجزل عطاءه، وعوضه ما فاته، ورده إلى ما كان عليه.

بين الجاحظ وأحمد بن أبي دؤاد
وجدت في بعض الكتب: أتي بالجاحظ، إلى أحمد بن أبي دؤاد، بعد نكبة محمد بن عبد الملك الزيات مقيداً في جبة صوف.
فقال له ابن أبي دؤاد: والله يا عمرو ما علمتك إلا متناسياً للنعمة، جاحداً للصنيعة، معدداً للمثالب، مخفياً للمناقب، وإن الأيام لا تصلح مثلك، لفساد طويتك، وسوء اختبارك.
فقال له الجاحظ: خفض عليك، فوالله، لأن تكون المنة لك علي، خير من أن تكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن، أحسن في الأحدوثة من أن أسيء وتسيء، ولأن تعفو في حال قدرتك، أجمل بك من أن تنتقم.
فقال له ابن أبي دؤاد: ما علمتك إلا كثير تزويق اللسان، قد جعلت لسانك أمام قلبك، ثم اضطغنت فيه النفاق، اغرب قبحك الله.
فأنهض في قيوده، ثم قال: يا غلام، الحقه، فخذ قيوده، وصر به إلى الحمام، واحمل إليه خلعة يلبسها، واحمله إلى منزل فيه فرش وآلة وقماش تزاح فيه علله، وادفع إليه عشرة آلاف درهم لنفقته، إلى أن أصلح من خلته، ففعل ذلك كله.
فلما كان من الغد، رؤي الجاحظ متصدراً في مجلس ابن أبي دؤاد، وعليه خلعة من ثيابه، وطويلة من قلانسه، وهو مقبل عليه بوجهه، يقول: هات يا أبا عثمان.
الرشيد يمضي ما تعهد به وزيره جعفر البرمكي في مجلس أنس

أخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: حدثني يحيى بن علي المنجم، قال حدثني أبي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: لم أر قط مثل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، كانت له فتوة، وظرف، وأدب، وحسن غناء، وضرب بالطبل، وكان يأخذ بأجزل حظ، من كل فن.
إنه نائم، فرجع، وقال: سر بنا إلى المنزل، حتى نخلو جميعاً بقية يومنا، فأغنيك، وتغنيني، ونأخذ في شأننا، من وقتنا هذا.
فقلت: نعم.
فسرنا إلى مجلسه، فطرحنا ثيابنا، ودعا بالطعام، فأكلنا، وأمر بإخراج الجواري، وقال: ليبرزن، فليس عندنا من نحتشمه.
فلما رفع الطعام، وجيء بالشراب، دعا بقميص حرير فلبسه، ودعا لي بمثله، ودعا بخلوق، فتخلق، وخلفني، وجعل يغنيني، وأغنيه.
وكان قد دعا بالحاجب، فتقدم إليه أن لا يأذن لأحد من الناس كلهم، وإن جاء رسول أمير المؤمنين، فأعلمه أني مشغول، واحتاط في ذلك، وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم.
ثم قال: إن جاء عبد الملك، فأذنوا له، يعني رجلاً كان يأنس به، ويمازحه، ويحضره خلواته، ثم أخذنا في شأننا.
فبينما نحن على حالة سارة، إذ رفع الستر، فإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل، وغلط الحاجب، فلم يفرق بينه وبين عبد الملك الذي يأنس به جعفر.
وكان عبد الملك هذا من جلالة القدر والتقشف، على حالة معروفة، حتى إنه كان يمتنع من منادمة الخليفة، على اجتهاد من الخليفة أن يشرف معه قدحاً واحداً، فلم يفعل، ترفعاً.
فلما رأيناه مقبلاً، أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه، وكاد جعفر أن تنشق مرارته غيظاً.
وفهم الرجل حالنا، فأقبل نحونا، حتى صار إلى الرواق الذي نحن فيه، فنزع قلنسوته، فرمى بها مع طيلسانه جانباً، ثم قال: أطعمونا شيئاً.
فدعا له جعفر بطعام، وهو منتفخ غيظاً وغضباً، فأكل، ثم دعا برطل فشربه.
ثم أقبل إلى المجلس الذي كنا فيه، فأخذ بعضادتي الباب، ثم قال: أشركونا فيما أنتم فيه.
فقال له جعفر: ادخل، فدخل فدعا له بقميص حرير وخلوق، فلبس، وتخلق، ثم دعا برطل، ورطل حتى شرب ثلاثة أرطال، ثم اندفع يغنينا، فكان - والله - أحسننا غناءً.
فلما طابت نفس جعفر، وسري عنه ما كان به، التفت إليه، وقال: ارفع حوائجك.
فقال: ليس هذا موضع حوائج.
فقال: أقسم عليك، لتفعلن.
ولم يزل يلح عليه حتى قال له: أمير المؤمنين واجد علي كما قد علمت، فأحب أن تترضاه.
قال: فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك، فهات حوائجك، كما أقول لك.
قال: علي دين فادح.
قال: كم مبلغه ؟ قال: أربعة آلاف ألف درهم.
قال: هذه أربعة آلاف ألف درهم، فإن أحببت قبضها، قبضتها الساعة، فإنه لا يمنعني من أعطائك إياها، إلا أن قدرك يجل عندي أن يصلك مثلي، ولكني ضامن لها، حتى تحمل لك في غد، من مال أمير المؤمنين، فسل أيضاً.
قال: تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسم ابني.
قال: ولاه أمير المؤمنين مصر، وزجه ابنته الغالية، ومهرها عنه ألفي ألف درهم.
قال إسحاق: فقلت في نفسي، قد سكر الرجل - يعني جعفر - .
فلما أصبحنا، حضرت دار الرشيد، فإذا بجعفر بين يديه، ووجدت في الدار جلبة، فإذا بأبي يوسف القاضي ونظرائه، وقد دعي بهم، ثم دعي بعبد الملك وابنه، فدخلا على الرشيد.
فقال الرشيد لعبد الملك: إن أمير المؤمنين كان واجداً عليك، وقد رضي عنك، وأمر لك بأربعة آلاف ألف درهم، فخذها من جعفر الساعة.
ثم دعا بابنه، وقال: اشهدوا علي أنني قد زوجته ابنتي الغالية، ومهرتها عنه ألفي ألف درهم، ووليته مصر.
فلما خرج جعفر سألته عن الخبر، فقال: بكرت إلى دار الرشيد، فحكيت له جميع ما جرى حرفاً حرفاً، ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع، فعجب منه، وسر به.
فقلت له: وقد ضمنت له عن أمير المؤمنين ضماناً.
فقال: ما هو ؟ فأعلمته.
فقال: نفي له بضمانك، وأمر بإحضاره، فكان ما رأيت ؟.

جعفر البرمكي
أبو الفضل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي 150 - 187: وزير الرشيد، أحد مشهوري البرامكة ومقدميهم، كان الرشيد يدعوه: أخي، واستوزره، وألق إليه أزمة الملك، فانقادت له الدولة، ثم قتله وأحرق جثته.
وهو أحد الموصوفين بفصاحة المنطق، وبلاغة القول، وكرم اليد والنفس، وكان كاتباً بليغاً، يتدارس الكتاب تواقيعه الأعلام 2 - 126.

حلف إسحاق الموصلي بالله الذي لا إله إلا هو، ما رأيت أذكى من جعفر بن يحيى قط، ولا أفطن، ولا أعلم بكل شيء، ولا أفصح لساناً، ولا أبلغ في المكاتبة الأغاني 4 - 325 وقال ثمامة بن أشرس: ما رأيت رجلاً أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي تاريخ الخلفاء 326 وقال إبراهيم بن المهدي: ما رأيت أكمل من جعفر قط الأوراق للصولي، أشعار أولاد الخلفاء 34 والعقد الفريد 2 - 425.
قتل الرشيد جعفراً في السنة 287 بالأنبار، وهما قادمان من مكة في آخر شهر محرم، أمر، فأحيط بجعفر ليلاً، ودخل عليه مسرور وهو في لهوه، فأخرجه إخراجاً عنيفً، يقوده، حتى أتى به المنزل الذي فيه الرشيد، وقيده بقيد حمار، ثم ضرب عنقه الطبري 8 - 295، وكان قتله وهو ابن 37 سنة، بعد أن استمرت وزارة البرامكة للرشيد 17 سنة الطبري 8 - 300.
وذكر الصولي في كتابه الأوراق، أشعار أولاد الخلفاء ص 57: أن علية، أخت الرشيد، قالت له، بعد إيقاعه بالبرامكة: ما رأيت لك يوم سرور تاماً، منذ قتلت جعفراً، فلأي شيء قتلته ؟ فقال: يا حياتي، لو علمت أن قميصي يعلم السبب الذي قتلت له جعفراً، لأحرقته.
وفي العقد الفريد، لابن عبد ربه 5 - 61: إن الرشيد، لما قتل جعفراً، أمر بجثته ففصلت على ثلاثة جذوع، رأسه في جذع على الجسر، مستقبل الصراة، وبعض جسده على جذع بالجزيرة، وسائر جسده على جذع على آخر الجسر الثاني مما يلي باب بغداد، فلما دنا الرشيد من باب بغداد، استقبله وجه جعفر مستقبلاً الشمس، فاربد وجه الرشيد، وأغضى بصره، وأمر بالنضاحات، فنضح عليه، حتى احترق عن آخره.

الرشيد يرضى عن فرج الرخجي ويعيده إلى عمالة الأهواز
ذكر ابن عبدوس في كتابه الوزراء، قال: كان الرشيد قد قلد فرجاً الرخجي الأهواز، فاتصلت السعايات به عنده، وكثرت الشكايات منه، وتظلم الرعية، وادعي عليه أنه اقتطع مالاً عظيماً، فصرفه بمحمد بن أبان الأنباري وقبض عليه.
وحدث للرشيد سفر، فأشخصه معه، فلما كان في بعض الطريق دعا به، فقال مطر بن سعيد، كاتب فرج: فلما أمر بإحضاره، حضر وأنا معه، ولست أشك في الإيقاع به، وإزالة نعمته، فوقفت بباب مضرب الرشيد، ودخل فرج، ونحن نتوقعه أن يخرج منكوباً، إذ خرج وعليه الخلع، فتضاعفت النعمة عندي، وسرت معه إلى منزله.
فلما خلا سألته عن خبره، فقال: دخلت عليه ووجهه إلى الحائط، وظهره إلي، فلما أحس بي، شتمني أقبح شتم، وتوعدني أشد توعد.
ثم قال: يا ابن الفاعلة، رفعتك فوق قدرك، وائتمنتك، فخنتني، وسرقت مالي، وفعلت، وصنعت، والله، لأفعلن بك، ولأصنعن.
فلما سكت، قلت: القول ما قاله أمير المؤمنين في إنعامه، وأكثر منه، وحلفت له بأيمان البيعة وغيرها، أني ناصحت وما سرقت، ووفرت وما خنت، واستقصيت حقوقه من غير ظلم، ولكني كنت إذا حضر وقت الغلات، جمعت التجار وناديت عليها، فإذا تقررت العطايا أنفذت البيع، وجعلت لي مع التجار حصة، فربما ربحت، وربما وضعت، إلى أن اجتمع لي من ذلك وغيره، في عدة سنين، عشرون ألف ألف درهم، فاتخذت أزجاً كبيراً، وأودعته المال، وسددته عليه فخذها، وحول وجهك إلى عبدك، وكررت عليه الأيمان، بأيمان البيعة على صدقي.
فقال لي: بارك الله لك في مالك، ارجع إلى عملك.
بين ثمامة بن أشرس والفضل بن سهل وزير المأمونوذكر ابن عبدوس أيضاً في كتاب الوزراء، عن ثمامة بن أشرس، أنه قال: اجتمع الناس، وجلس لهم الفضل بن سهل، على فرش مرتفعة، فقام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر النبي فصلى عليه، ثم ابتدأ بالوقيعة في عبد الله بن مالك الخزاعي، وذكر أنه كان يدعي على الرشيد - في حكاية حكاها - دخول بيت القيان، وهو كاذب في ذلك، وهو الذي كان يفعل هذا الفعل، ويدخل المواخير والدساكر، ولا يرفع نفسه عن ذلك، ولا يصون عرضه.
قال ثمامة: ثم أقبل علي، فقال: وإن أبا معن، ليعلم ذلك، ويعرف صحة ما أقول، فتركت تشييع كلامه بالتصديق، وأطرقت إلى الأرض، ودخلتني عصبية العربية لابن مالك.
ثم عاد إلى تهجين عبد الله، والتوسع في الدعاوى عليه، ثم أقبل علي ثانية، وقال: إن ثمامة ليعرف ذلك، فسكت، وأطرقت، وإنما كان يريد مني تشييع كلامه بالتصديق.
فلما رأى إعراضي عن مساعدته ترك الإقبال علي، وأخذ في خطبته، حتى فرغ من أربه في أمر عبد الله بن مالك.

فلما تفرق الناس عنه، وانصرفت، علمت أني قد تعرضت لموجدة الفضل، وهو الوزير، وحالي عنده حالي.
فلما حصلت في منزلي، جاءني بعض إخواني ممن كان في ناحية الفضل، فأخبرني أن يحيى بن عبد الله، وغيره، قالوا: ماذا صنع أبو معن، يخاطبه الوزير، فيعرض عنه مرة بعد أخرى.
فقلت: أنا والله، بالموجدة عليه - أعزه الله - أحق، لأنه قام في ذلك الجمع، وقد حضر كل شريف ومشروف، فلم يستشهد بي في خطبته، وما أجراه في كلامه، إلا في موضع ريبة، أو ذكر نبوة، ودار مقين ومغنية، وما أقدر أن أشهد إلا أن أكون مع القوم ثالثاً.
فقالوا: صدقت - والله - يا أبا معن، بئس الموضع وضعك.
فرجع كلامي إليه، فقال: صدق والله ثمامة، وهو بالمعتبة أحق.
واندفعت عني موجدته، وما كان بي إلا ما داخلني من الحمية لعبد الله بن مالك.

بين الأمين وإبراهيم بن المهدي
أخبرني أبو الفرج الأموي الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن خلف ابن المرزبان، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، ووجدت في بعض الكتب بإسناد غير هذا، ليس لي بسماع، فجمعت بني الخبرين، على أتم اللفظ، قال: جرى بين الأمين، وبين عمه إبراهيم بن المهدي، كلام، وهما على النبيذ، فوجد الأمين على إبراهيم، وبانت لإبراهيم الوحشة منه، فانصرف إبراهيم إلى منزله قلقاً، وحجبه الأمين عنه.
وبلغ إبراهيم ذلك، فبعث إلى الأمين بألطاف، ورقعة يعتذر فيها، فرد الأمين الهدية، ولم يجب إبراهيم عن الرقعة.
فوجه إبراهيم إليه وصيفة مليحة مغنية، كان رباها، وعلمها الغناء، وبعث معها عوداً معمولاً من العود الهندي، مكللاً بالجوهر، وألبسها حلة منسوجة بالذهب، وقال أبياتاً، وغنى فيها، وألقى عليها الأبيات حتى حفظتها، وأخذت الصوت، وأحكمت الصنعة فيه.
فوقفت الجارية بين يدي الأمين، وقالت: عمك وعبدك، يقول.. واندفعت تغني:
هتكت الضمير بردّ اللّطف ... وكشّفت هجرك لي فانكشف
فإن كنت تنكر شيئاً جرى ... فهب للعمومة ما قد سلف
وجد لي بالصّفح عن زلّتي ... فبالفضل يأخذ أهل الشرف
فقال لها الأمين: أحسنت يا صبية، ما اسمك ؟ قالت: هدية.
قال: أفأنت كاسمك، أم عارية ؟ قال: أنا كاسمي، وبه سماني آنفاً، لما أهداني إلى أمير المؤمنين.
فسر بها الأمين، وبعث إلى إبراهيم، فأحضره، ورضي عنه، وأمر له بخمسين ألف دينار.
وال مستعطف خير من وال مستأنفووقف أحمد بن عروة بين يدي المأمون، لما عزله عن الأهواز، فقال له: أخربت البلاد، وقتلت العباد، لأفعلن بك وأصنعن.
فقال: يا أمير المؤمنين، ما تحب أن يفعله الله بك إذا وقفت بين يديه، وقد قرعك بذنوبك ؟.
قال: العفو، والصفح.
قال: فافعل بعبدك، ما تحب أن يفعله الله بك.
قال: قد فعلت، ارجع إلى عملك، فول مستعطف، خير من وال مستأنف.
والله يحب المحسنينروي أن غلاماً للحسن بن علي عليهما السلام، جنى جناية توجب العقاب، فقال: اضربوه.
فقال: يا مولاي، والكاظمين الغيظ، قال: خلوا عنه، قال: يا مولاي، والعافين عن الناس.
قال: قد عفوت عنك.
قال: والله يحب المحسنين.
قال: أنت حر لوجه الله تعالى، ولك ضعف ما كنت أعطيك.
عبد الملك بن مروان يسقط حداً من حدود الله تعالى
حكى الأصمعي، قال: أتي عبد الملك بن مروان، برجل قد قامت عليه البينة بسرقة يقطع في مثلها، فأمر بقطع يده.
فأنشأ الرجل يقول:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوك من عار عليها يشينها
فلا خير في الدّنيا ولا في نعيمها ... إذا ما شمال فارقتها يمينها
فقال: هذا حد من حدود الله تعالى، ولا بد من إقامته عليك.
فقالت أم له كبيرة السن: يا أمير المؤمنين، كادي، وكاسبي، وابني، وواحدي، فهبه لي.
فقال لها: بئس الكاد كادك، وبئس الكاسب كاسبك، لا بد من إقامة حدود الله عز وجل.
فقالت: يا أمير المؤمنين، اجعله من ذنوبك التي تستغفر الله منها.
فقال: خلوه، فأطلق.
ومن العناء رياضة الهرموذكر ابن عبدوس في كتاب الوزراء، أن عاملاً للمنصور على فلسطين كتب إليه: أن بعض أهلها وثب عليه، واستغوى جماعة منهم، وعاث في العمل.
فكتب إليه المنصور: أن قيده، وأنفذه إلي، فأنفذه.

فلما مثل بين يديه، قال المنصور: أنت المتوثب على عامل أمير المؤمنين، لأبرين لحمك من عظمك، وكان شيخاً كبيراً، ضئيل الصوت، فقال:
أتروض عرسك بعدما هرمت ... ومن العناء رياضة الهرم
فلم يفهم المنصور ما قال، فقال: ما يقول يا ربيع ؟ قال: إنه يقول:
العبد عبدكم والمال مالكم ... فهل عذابك عنّي اليوم مصروف
قال: يا ربيع قد عفوت عنه، خلوا سبيله، وأحسن إليه.

أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام بني العباس
أخبرني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن موسى، قال: حدثني محمد بن موسى بن حمزة، قال: أخبرني الفضل بن الربيع، قال: رأيت مروان بن أبي حفصة، وقد دخل على المهدي، بعد وفاة معن بن زائدة، في جماعة من الشعراء منهم سلم الخاسر، وغيره، فأنشده مديحاً فيه.
فقال له: من أنت ؟ قال: شاعرك يا أمير المؤمنين، وعبدك، مروان بن أبي حفصة.
فقال له المهدي: ألست القائل في معن بن زائدة:
أقمنا باليمامة بعد معن ... مقاماً لا نريد به زوالا
وقلنا أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النوال فلا نوالا
فقد ذهب النوال كما زعمت، فلم جئت تطلب نوالنا ؟ لا شيء لك عندنا، جروا برجله، فجروا برجله حتى أخرج.
فلما كان في العام المقبل، تلطف حتى دخل مع الشعراء، وإنما كانت الشعراء، تدخل على الخلفاء في كل عام مرة، فمثل بين يديه، فأنشد، رابع أو خامس شاعر، قصيدته التي أولها:
طرقتك زائرة فحيّ خيالها ... بيضاء تخلط بالجمال دلالها
قادت فؤادك فاستقاد ومثلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
قال: فأنصت المهدي يستمع منه، إلى أن بلغ منها إلى قوله:
هل تطمسون من المساء نجومها ... بأكفّكم أو تسترون هلالها
أو تجحدون مقالة عن ربّه ... جبريل بلّغها النبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها
قال: فرأيت المهدي، وقد زحف من صدر مصلاه، حتى صار على البساط، إعجاباً منه بما سمع.
ثم قال: كم بيت هي ؟ قال: مائة بيت.
فأمر له بمائة ألف درهم، فكانت أول مائة ألف أعطيها شاعر في أيام بني العباس.
ومضت الأيام، ولي هارون الخلافة، فرأيت مروان وقد دخل في جملة الشعراء، فأنشده قصيدة امتدحه بها.
فقال له: من أنت ؟ قال: عبدك، وشاعرك، مروان بن أبي حفصة.
فقال: ألست القائل في معن ؟ وأنشده البيتين اللذين أنشدهما المهدي.
ثم قال: خذوا بيده فأخرجوه، فلا شيء له عندنا، فأخرج أقبح إخراج.
فلما كان بعد أيام، تلطف حتى دخل، فأنشده:
لعمرك ما أنسى غداة المحصّب ... إشارة سلمى بالبنان المخضّب
وقد صدر الحجّاج إلاّ أقلّهم ... مصادر شتّى موكباً بعد موكب
قال: فأعجبته القصيدة، فقال: كم هي ؟ قال: سبعون بيتاً، فأمر له بعدد أبياتها ألوفاً.
فصار ذلك رسماً له عندهم إلى أن مات.
الرشيد يرضى عن العتابي الشاعرأخبرني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: غضب الرشيد على العتابي، وحجبه، فدخل سراً مع المتظلمين، بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد أدبني الناس لك، ولنفسي فيك، وردني ابتلاؤهم إلى شكرك، وما مع ذكرك قناعة بأحد غيرك، ولعمري لنعم الصائن كنت لنفسي، لو أعانني الصبر عليك، ولذلك أقول:
أخضني المقام الغمر إن كان غرّني ... سنا خلّب أو زلّت القدمان
أتتركني جدب المعيشة مقتراً ... وكفّاك من ماء النّدى يكفان
وتجعلني سهم المطامع بعدما ... بللت يميني بالنّدى ولساني
قال: فرضي عنه، وخلع عليه، وأمر له بجائزة سنية، فما رأيت العتابي أنشط منه في ذلك اليوم، ولا أفرح، ولا أبسط لساناً منه يومئذ.
قال أبو الفرج الأصبهاني: في البيتين الأولين غناء لمخارق، ثاني ثقيل بالوسطى، وقيل إن فيه للواثق ثاني ثقيل آخر.
المأمون يصفح عن دعبل الخزاعي الشاعر ويصله

قرىء على أبي بكر الصولي، سنة خمس وثلاثين وثلثمائة، بالبصرة، وأنا أسمع: حدثكم هرون بن عبد الله المهلبي، سنة ثمانين ومائتين، قال: لما هجا دعبل، المأمون، قال لهم: أسمعوني ما قال، فأنشدوه هذين البيتين من أبيات، وهما:
إنّي من القوم الّذين سيوفهم ... قتلت أخاك وشرّفتك بمقعد
شادوا بذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد.
فقال المأمون: قبحه الله، ما أبهته، متى كنت خامل الذكر، وفي حجر الخلافة ربيت، وبدرها غذيت، خليفة، وأخو خليفة، وابن خليفة.
ثم جد في طلب دعبل، حتى ظفر به، فلم يشك أحد في أنه قاتله.
فلما دخل عليه، قال له: يا دعبل، واستنقذوك من الحضيض الأوهد.
فقال: يا أمير المؤمنين، قد عفوت عمن هو أعظم مني جرماً.
فقال: صدقت، لا بأس عليك، أنشدني مدارس آيات.
فقال: أنشدها وأنا آمن ؟ قال: نعم.
فأنشده إياها، فجعل المأمون يبكي، لما بلغ قوله:
بنات زياد في القصور مصونة ... وبنت رسول الله في الفلوات
ثم وصله وأمنه.

المأمون يهب عمرو بن مسعدة ستة آلاف ألف درهم فيهبها عمرو لأحد أتباعه
قرىء على أبي بكر الصولي، وأنا أسمع، في كتابه كتاب الوزراء، حدثكم أحمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعد بن يعقوب النصراني، قال: أمر المأمون محمد بن يزداد، وأحمد بن أبي خالد، أن يناظرا عمرو ابن مسعدة، في مال الأهواز، فناظراه، فتحصل عليه ستة عشر ألف ألف درهم، فأعلما المأمون بذلك.
فقال: اقبلا منه كل حجة، وكل تعلق، وكل ادعاء.
فقالا: قد فعلنا.
فقال: عودا. فعادا، فتعلق عمرو بن مسعدة بأشياء لا أصل لها، فسقط من المال عشرة آلاف ألف درهم، وبقي ستة آلاف ألف درهم واجبة عليه، لا حجة له فيها، وأخذ خطه بذلك.
فأحضر المأمون عمراً، بعد خروجهما، فقال له: هذه رقعتك ؟ قال: نعم.
قال: وهذا المال واجب عليك ؟ قال: نعم.
قال: خذ رقعتك، فقد وهبته لك.
فقال: أما إذ تفضل أمير المؤمنين علي به، فإنه واجب على أحمد بن عروة، وأشهدك أني قد وهبته له.
فاغتاظ المأمون، وخرج عمرو وقد عرف غيظ المأمون، وعلم خطأه في عمله، فلجأ إلى أحمد بن أبي خالد، فأعلمه بذلك، وكان يختصه.
فقال: لا عليك، ودخل إلى المأمون.
فلما رآه المأمون، قال: ألا تعجب يا أحمد من عمرو، وهبنا له ستة آلاف ألف درهم، بعد أن تجاوزنا له عن أضعافها، فوهبها بين يدي لأحمد بن عروة، كأنه أراد أن يباريني، ويصغر معروفي ؟ فقال له أحمد: أو قد فعل ذلك يا أمير المؤمنين ؟ فقال: نعم.
قال: لو لم يفعل هذا، لوجب أن يسقط حاله.
قال: وكيف ؟ قال: لأنه لو استأثر به على أحمد بن عروة، وأخذ أحمد بأداء هذا المال، لكان قد أخرجه من معروفك صفراً، ولما كانت نعمتك على عمرو، نعمة على أحمد، وهما خادماك، فكان الأجمل أن يتضاعف معروفك عندهما، فقصد عمرو ذلك، فصار المال تفضلاً منك على عمرو، وعلى أحمد بن عروة، ومع ذلك، فأنت سيد عمرو لا يعرف سيداً غيرك، وعمرو سيد أحمد، فاقتدى في أمر أحمد بما فعلت في أمره، وأراد أيضاً أن ينتشر في ملوك الأمم، أن خادماً من خدمك اتسع قلبه لهبة هذا المال، من فضل إحسانك إليه، فيزيد في جلالة الدولة، وجلالة قيمتها، فيكسر ذلك الأعداء الذين يكاثرونك.
فسري عن المأمون، وزال ما بقلبه على عمرو.
المأمون يصفح عن الفضل بن الربيعوقرىء على أبي بكر الصولي، بالبصرة، وأنا أسمع، في كتاب الوزراء، خبر فيه ذكر الفضل بن الربيع، وظفر المأمون به، وعفوه عنه، وقرىء بعقبه: حدثكم عون بن محمد، قال: حدثنا سعيد بن هريم، قال: لما ظفر المأمون بالفضل بن الربيع، ومثل بين يديه، قال له: يا فضل، أكان من حقي عليك، وحق آبائي، ونعمتهم عندك، وعند أبيك، أن تثلبني، وتشتمني، وتحرض على دمي ؟ أتحب أن أفعل بك مع القدرة، ما أردته بي ؟.
فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين، إن عذري يحقدك إذا كان واضحاً جميلاً، فكيف إذا عفته العيوب، وقبحته الذنوب، فلا يضيق عني من عفوك ما وسع غيري منه، فأنت - والله - يا أمير المؤمنين، كما قال الشاعر:
صفوح عن الإجرام حتّى كأنّه ... من العفو لم يعرف من النّاس مجرماً

وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلماً
قال الصولي: والشعر للحسن بن رجاء.

جعفر بن محمد بن الأشعث يهدئ من غضب الرشيد
غضب الرشيد على جعفر بن محمد بن الأشعث، غضباً شديداً، من كلام جرى بينهما، فخاف جعفر أن يستفزه الغضب، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما تغضب لله عز وجل، فلا تغضب له بما لا يغضب به لنفسه، فانعطف له الرشيد.
بين هشام بن عبد الملك وإبراهيم بن أبي عبلةأحضر هشام بن عبد الملك، إبراهيم بن أبي عبلة، الذي تقلد ديوان الخاتم لمروان بن محمد، فقال له: إنا قد عرفناك صغيراً، وخبرناك كبيراً، وأريد أن أخلطك بحاشيتي، وقد وليتك خراج مصر، فاخرج إليها.
فأبى إبراهيم عليه، وقال له: ليس الخراج من عملي، ولا لي به معرفة.
فغضب هشام عليه غضباً شديداً، حتى خاف إبراهيم بادرته، فقال له: يا أمير المؤمنين أتأذن لي في الكلام.
فقال: قل.
قال: إن الله تعالى، قال: إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، فوالله ما أكرهها، ولا غضب عليها في إبائها، ولقد ذم الإنسان لما قبلها.
فقال له هشام: أبيت إلا رفقاً، وأعفاه، ورضي عنه.
صاحب ديوان الخراج يسرق توقيع الخليفة من يد الرسولاستسلف موسى بن عبد الملك من بيت مال الخاصة، مالاً، إلى أجل قريب، وضمن للمتوكل أن يرده في الأجل.
فجاء الأجل ولم يحمل المال، فغضب المتوكل من مدافعته، وقال لعبيد الله ابن يحيى بن خاقان، وقع إليه عني برد المال اليوم، وضيق عليه في المطالبة، وأنفذ التوقيع مع عتاب بن عتاب، ومره أن يطالبه، فإن أخر أداء المال، طالبه، وضربه بالمقارع في ديوان الخراج بحضرة الناس، وأن لا يرفع عنه المقارع، حتى يصحح المال.
فبادر بعض الخدم إلى موسى، فأخبره بذلك، فجلس ينظر في وجوه يرد منها المال.
وصار إليه عتاب بالتوقيع مختوماً، وكان يوماً شديد الحر، وقد انتصف النهار، وموسى في خيش، في حجرة من ديوانه، وفيه مروحة، يتناولها فراشان يروحانه، فدخل عتاب، وفي يد موسى كتاب طويل يقرأه، فجلس، وأكب موسى على الكتاب يتشاغل به عن خطاب عتاب، وأصاب عتاب برد المروحة والخيش، فنام واستثقل.
وكان عتاب قد أخرج التوقيع حين جلس، فوضعه على دواة موسى، فغمز موسى بعض غلمانه فأخذ الكتاب فغيبه.
وما زال عتاب ينام مرة وينتبه أخرى، وموسى يعمل، إلى أن انقضت الهاجرة، وقد توجه لموسى بعض المال، وأنفذ أصحابه لقبضه.
فقال له عتاب: انظر فيما جئنا له.
قال: قل أصلحك الله فيم جئت ؟ قال: فيما تضمن التوقيع.
قال: وأي توقيع ؟ قال: الذي أوصلته إليك من أمير المؤمنين.
قال: متى ؟ قال: الساعة وضعته على الدواة.
فقال له: قد نمت نومات، وأظن أنك رأيت في نومك شيئاً.
فطلب عتاب التوقيع، فلم يجده، فقال: سرق والله التوقيع، يا أصحاب الأخبار، اكتبوا.
فقال موسى: يا أصحاب الأخبار، اكتبوا، كذب فيما ادعاه، ما أوصل إلي توقيعاً، وأنتم حاضرون، فهل رأيتموه أوصل إلي توقيعاً ؟ قم فانظر لعلك يا أبا محمد ضيعت التوقيع في طريقك.
فانصرف عتاب إلى عبيد الله فأخبره بذلك.
فدخل عبيد الله إلى المتوكل، فحدثه، فضحك، وقال: أحضروا موسى الساعة، فحضر.
فقال له المتوكل: يا موسى، سرقت التوقيع من عتاب ؟ قال: إي والله يا سيدي خمنت أن فيه مكروهاً، ونام عتاب من قبل أن يوصله إلي، فأمرت من سرقه، وقد أعددت نصف المال، والساعة أحمله إلى صاحب بيت مال الخاصة، وأحمل الباقي بعد خمسة أيام، وأتبع ذلك بتضرع.
فأنفذ المتوكل معه من قبض منه ذلك، وانصرف وقد رضي عنه.
صاحب الشرطة لا يصلح أن يكون نديماً للخليفة
دعا الواثق إسحاق بن إبراهيم المصعبي إلى منادمته، فامتنع، فتلاحيا في ذلك، إلى أن تغير الواثق على إسحاق بن إبراهيم، فأمر بحجبه عنه.
فكتب إليه إسحاق: يا أمير المؤمنين، لو أطلقتني الحشمة التي عقد بها لساني عن الانبساط لتغيره علي، لقلت: ما لي فيما عقده علي قلب أمير المؤمنين ذنب، إذ كان يوقيني من امتهان العامة إياي.
فرمى الواثق كتابه إلى ابن أبي دؤاد.

فقال له ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين، ما على من كانت هذه همته فيما يرد على أمير المؤمنين عيب، وهو يجد من إسحاق عوضاً في المنادمة، ولا يجد منه عوضاً في شرطته.
فرضي عنه الواثق، وأعفاه من المنادمة، ومنع من حجبه، وأجراه على رسمه، وعاد إلى ما كان عليه.

الرشيد يرضى عن نصر بن مالك
لما عزل الرشيد نصر بن مالك، بسعي البرامكة، أمره أن يلزم بيته، ولا يخرج منه، فكتب إلى الرشيد: قد قبضني سوء رأي أمير المؤمنين في، عن الاعتذار بحجة، أو نشر دلالة تنبىء بخلاف ما قرفت به عنده، فما أهتدي إلى وجه طلب الاعتذار، وما يجرأني على الإبانة عما لا أعلمه إلا حسن رأيه أعزه الله، واطلاعه على قلقي بضميره، فإني عبد نعمته، وغذي إحسانه، إن أسبغا علي، وفي شكري لهما، وإن أزيلا عني، اعتضت منهما الرجوع إلى الحرمة، ولزوم فائدة يتطول بها علي، من تطول على أمير المؤمنين برد ميراثه من الخلافة عليه.
فوقع الرشيد على ظهر رقعته: نصر بن مالك، أولى من ردت عليه النعمة، إذ كان معترفاً بسمتها، وبالغاً بالشكر حق قيمتها، فما شكرني أحد من أوليائي كشكره، فليهنه ما أوليناه من رأينا، ومنحناه من برنا. وأظهر الرضا عنه، وولاه ولاية أخرجه إليها.
بين الحجاج ويوسف بن عبد الله بن عثمانذكر أبو الحسن المدائني في كتابه، عن ابن أبي عقبة، عن أبيه، قال: لما أمن الحجاج الناس، أتاه يوسف بن عبد الله بن عثمان، وكان عبد الملك ابن مروان قد كتب له أماناً.
فقال له الحجاج: ثكلتك أمك.
قال: وأبي مع أمي.
قال: أين ألقتك الأرض بعدي ؟ قال: ما قمت مقاماً، منذ لم ترني، أوسع من مقام قمته الساعة، إن الله استعملك علينا، فأبينا، فأبى علينا، فعفا عنه.
فقال الفرزدق في ذلك:
ولو لم ينل حبل الخليفة يوسفاً ... لمجّ نجيعاً من دم الجوف أحمر
بين زياد وأحد قعدة الخوارجوذكر المدائني في كتابه، قال: أرسل زياد إلى رجل من قعدة الخوارج، من بني تميم، فاستدعاه، فأتاه خائفاً.
فقال له زياد: ما منعك من إتياني ؟ فقال له: قدمت علينا، فقلت: لا أعدكم خيراً ولا شراً إلا وفيت به وأنجزته، وقلت: من كف يده ولسانه لم أعرض له، فكففت يدي ولساني، وجلست في بيتي، فأمر له بصلة، فخرج والناس لا يشكون في أنه يقتله.
فقالوا له: ما قال لك الأمير ؟ فقال: ما كلكم أستطيع أن أخبره بما كان بيننا، ولكني وصلت إلى رجل لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، فرزق الله منه خيراً.
الحجاج يحبس رجلاً لأنه شكا إليه أخاه محمداً عامل اليمن
وذكر المدائني في كتابه، قال: قدم رجل من أهل اليمن، على الحجاج، يشكو أخاه، محمد بن يوسف، فصادف الحجاج على المنبر، فقام إليه، فشكا أخاه محمداً، فأمر به الحجاج فحبس.
فلما نزل عن المنبر، استدعاه وهو متغيظ عليه، فقال له: ما جرأك على أن ترفع على أخي ؟ فقال له: أنا بالله، أعز من أخيك بك.
فقال الحجاج: خلوا سبيله.
الحجاج يأمر بتعذيب آزاد مردوذكر المدائني في كتابه، عن أبي المضرحي، وقد وجدته أنا، في غير موضع، عن المدائني، بما يقرب من هذه العبارة: أخبرني محمد بن الحسن ابن المظفر، قال: أخبرني الحرمي، عن الزبير، قال: أمر الحجاج محمد بن المنتشر بن الأجدع الهمداني، ابن أخي مسروق، أن يعذب آزاد مرد بن الفرند، فأخذه محمد.
فقال له آزاد مرد: أرى لك يا محمد، شرفاً، وديناً، وإنا من أهل بيت لا نعطي على الذل شيئاً، فارفق بي، واستأن فيّ.
فقال: أفعل.
فرفهه محمد، وأكرمه، فكان يؤدي إليه، في كل جمعة، ثلثمائة ألف درهم.
فغضب الحجاج، وأمر معد، صاحب العذاب، أن يأخذه من محمد، فأخذه معد من محمد، فعذبه، ودق يديه ورجليه، فلم يعطه شيئاً.
فقال محمد: فإني لأسير، بعد ثلاثة أيام، إذا به معترضاً على بغل، مدقوق اليد والرجل.
فصاح بي: يا محمد.
فكرهت أن آتيه، فيبلغ الحجاج، فأقع معه في مكروه، ثم تذممت أن لا أدنو منه، فدنوت.
فقلت: حاجتك ؟ فقال: إنك وليت مني مثل هذا، فأحسنت، ولي عند فلان مائة ألف درهم، فخذها منه برسالتي إليه.
فقلت: والله، لا أخذت منك شيئاً، وأنت على هذه الحال.

فقال: أما إذ أبيت، فاستمع مني، أحدثك حديثاً سمعته من أهل دينك، عن نبيك، سمعتهم يقولون، إنه قال: إذا أراد الله تعالى بالعباد خيراً، أمطرهم المطر في أوانه، واستعمل عليهم خيارهم، وجعل المال في سمحائهم، وإذا أراد بهم شراً، أمطرهم المطر في غير أوانه واستعمل عليهم شرارهم، ومول بخلاءهم، ثم مضى.
وأتيت منزلي، فما وضعت ثيابي حتى أتاني رسول الحجاج، وقد بلغه ما جرى. فخفته خوفاً شديداً، ووقعت في أمر عظيم، فأتيته وقد اخترط سيفه، وهو في حجره منتضى. فقال لي: ادن.
فقلت: ما بي دنو، وفي حجر الأمير السيف.
فضحك، وقال: ما قال لك الخبيث ؟ فقلت له: والله ما غششتك منذ استنصحتني، ولا خنتك منذ ائتمنتني، ولا كذبتك مذ صدقتني، وأخبرته بما قال.
فلما أردت ذكر الرجل الذي عنده المال، صرف وجهه عني، وقال: لا تسمه، لقد سمع عدو الله الأحاديث، انصرف راشداً.
فانصرفت آمناً، وقد زال خوفي.

قسوة الحجاج وظلمه
كان الحجاج بن يوسف الثقفي، قد جمع خلالاً قبيحة، ظاهرة، وباطنة، من دمامة الصورة، وقبح المنظر، وقساوة القلب، وشراسة الأخلاق، وغلظ الطبع، وقلة الدين، والإقدام على انتهاك حرمة الله تعالى، حتى حاصر مكة، وهدم الكعبة، ورماها بالمنجنيق، والنفط، والنار، وأباح الحرم، وسفك، وهتك، وقتل في مدة ولايته ألف ألف وستمائة ألف مسلم، ومات في حبوسه ثمانية عشر ألف إنسان، وكان لا يرجو عفو الله، ولا يتوقع خيره، وكأنه قد ضرب بينه وبين الرحمة والرأفة، بسور من فظاظة، وغلاظة، وقسوة العقد الفريد للملك السعيد 118.
وقد أوردنا في ترجمة الحجاج، في حاشية القصة 67، العاهات التي ابتلي بها، فأدت به إلى السادية، ولذلك، فقد كان يتفنن في ابتكار أنواع العذاب، ويتلذذ بمشاهدة ضحاياه عند تعذيبهم، وكان يعذب بعضهم ويقتلهم بيده.
فقد جيء له بابن القرية، فأمر به، فأمسكه رجال أربعة، حتى لا يستطيع حراكاً، ثم وضع الحجاج حربة في ثندوءته، ودفعها، حتى خالطت جوفه، ثم خضخضها، وأخرجها، فأتبعها دم أسود، فقال الحجاج: هكذا تشخب أوداج الإبل، وفحص ابن القرية برجله، وشخص ببصره، وجعل الحجاج ينظر إليه، حتى قضى الأخبار الطوال 222، 223.
وأمر بأحد أسراه، فشد عليه القصب الفارسي، ثم سل عنه، حتى شرح بدنه، ثم نضح بالخل والملح، حتى مات الكامل للمبرد 2 - 207.
وجيء إليه بمحمد بن سعد بن أبي وقاص أسيراً، فظل يضرب رأسه بعصا كانت في يده، حتى أدماه، ثم أطمعه في أن يطلقه، وأطرق ملياً، كأنه يفكر، ثم قال لرجل من أهل الشام: اضرب لي مفرق رأسه، فضربه، فمال نصفه ها هنا، ونصفه ها هنا الطبري 6 - 379 والإمامة والسياسة 2 - 41 و 42.
وحبس إبراهيم بن يزيد التيمي الزاهد، ومنع عنه الطعام، ثم أرسل عليه الكلاب تنهشه، حتى مات اللباب 1 - 190، ولما مات، رمى بجثته في الخندق، ولم يجرأ أحد أن يدفنه، حتى مزقته الكلاب البصائر والذخائر م 3 ق 1 ص 304.
وفي معركة الزاوية، إحدى المعارك مع ابن الأشعث، قتل الحجاج أحد عشر ألفاً، بالخديعة والمكر، فقد أمر مناديه: فصاح: لا أمان لفلان بن فلان، وسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، وحضروا، فأمر بهم فقتلوا ابن الأثير 4 - 469.
ولما دخل البصرة، دخل الجامع، وجلس على المنبر، وأمر جنده بأخذ الأبواب وقال لهم: إذا رأيتموني وضعت عمامتي عن رأسي، فضعوا سيوفكم، ثم بدأ خطبته، فحصبه الناس، فخلع عممته، ووضعها على ركبتيه، فجعلت السيوف، تبري الرقاب وسالت الدماء إلى أبواب المسجد، وإلى السكك الإمامة والسياسة 2 - 25 و 26.
وكان صغيراً في تصرفاته، حبس مالك بن أسماء بن خارجة، وضيق عليه كل أحواله، حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه، بالرماد والملح، قال: لا، هات ماء السجن، فأتي به، وقد خلط بالملح والرماد، فسقيه الأغاني 17 - 231.
وقبض على يزيد بن المهلب وعذبه، فكان يزيد يصبر على العذاب، فقيل له: إنه رمي بنشابة، فثبت أصلها في ساقه، فلا يمسها شيء إلا صاح، فأمر أن يعذب بذلك، وأن يدهق ساقه، فلما فعل به ذلك، صاح، وسمعته أخته هند، وكانت عند الحجاج، فصاحت، فطلقها الحجاج وفيات الأعيان 6 - 291.
وبقدر ما كان الحجاج، قاسياً، متغطرساً على الناس، كان ذليلاً أمام عبد الملك بن مروان، كتب إليه مرة: إن خليفة الله في أرضه، أكرم من رسوله إليهم.

وبلغه أن عبد الملك، عطس يوماً، فشمته أصحابه، فرد عليهم، ودعا لهم، فكتب إليه: بلغني ما كان من عطاس أمير المؤمنين، ومن تشميت أصحابه له، ورده عليهم، فيا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزاً عظيماً العقد الفريد 5 - 53، راجع ترجمة الحجاج في حاشية القصة 67، وبحثاً عن سياسته المالية المخربة في حاشية القصة 182.

المأمون يرضى عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي
حدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، والحسين بن يحيى، عن حماد بن إسحاق الموصلي، عن أبيه، قال أبو الفرج، وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، عن أبيه، عن إسحاق، قال: أقام المأمون بعد دخوله بغداد عشرين شهراً، ولم يسمع حرفاً من الأغاني، ثم كان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد أول مرة، ثم واظب على السماع متستراً، متشبهاً بالرشيد في أول أمره، فأقام المأمون كذلك أربع سنين، ثم ظهر للندماء والمغنين.
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وكان حين أحب السماع، سأل عني، فجرحت بحضرته، وقال الطاعن علي: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلفاء، ما بقى هذا من التيه شيئاً إلا استعمله.
فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه فيّ، فأضر ذلك بي، حتى جاءني علويه يوماً، فقال لي: أتأذن لي في ذكرك بحضرة المأمون، فإنا قد دعينا اليوم.
فقلت: لا، ولكن غنه بهذا الشعر، فإنه يبعثه على أن يسألك لمن هو ؟ فإذا سألك انفتح لك ما تريده، وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء.
قال: هات، فألقيت عليه لحني في شعري:
يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتّى لا حيام به ... مشرّد عن طريق الماء مطرود
قال أبو الفرج الأصبهاني: والغناء فيه لإسحاق الموصلي، رمل بالوسطى، عنه، وعن عمرو بن بانة.
رجع الحديث، قال: فمضى علويه، فلما استقر به المجلس، غناه بالشعر، الذي أمره به إسحاق.
فقال المأمون: ويلك يا علويه، لمن هذا الشعر ؟.
فقال: يا سيدي لعبد من عبيدك، جفوته، واطرحته، من غير ذنب.
فقال: إسحاق تعني ؟ قال: نعم.
فقال: يحضر الساعة.
قال إسحاق: فجاءني رسول المأمون، فصرت إليه، فلما دخلت إليه استدناني، فدنوت منه، فرفع يديه إلي مادهما، فانكببت عليه، فاحتضنني بيديه، وأظهر من بري وإكرامي، ما لو أظهره صديق مؤانس لصديق، لسر به.
وقد ذكر القاضي أبو الحسين هذا الخبر، في كتابه بغير إسناد، وبأقل من هذا الشرح، والمعنى متقارب.
/الباب الخامس
من خرج من حبس أو أسر
أواعتقال إلى سراح وسلامة وصلاح حال
رسول الله يمن على هوازن
ويطلق له أسراهم ويرد عليهم ما غنم منهم
حدثنا الأمير أبو بكر محمد بن بدر، قال: حدثنا الأمير أبو النجم بدر الكبير المعروف بالحمامي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله العبسي الجشمي من قواد فلسطين، قال: حدثنا أبو عمر زياد بن طارق، قال: قال لي ابن الرماحي، وكانت قد أتت عليه عشرون ومائة سنة، وهو يصعد يلقط التين، قال: سمعت أبا جرول زهير بن صرد الجشمي، يقول: أسرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ويوم هوازن، وذهب يفرق السبي، فقمت، فأنشدته:
امنن علينا رسول اللّه في كرم ... فإنّك المرء نرجوه وننتظر
امنن على بيضة، قد عاقها قدر ... مفرّق شملها في دارها غير
أبقت لنا الحرب هيّافاً على حزن ... على قلوبهم الغمّاء والغمر
إن لم تداركهم نعماء تنشرها ... يا أرجح النّاس حلماً حين يختبر
امنن على نسوة قد كنت ترضعها ... إذ فوك يملؤه من محضها الدرر
إذ أنت طفل صغير كنت ترضعها ... وإذ يريبك ما تأتي وما تذر
لا تجعلنّا كمن شالت نعامته ... واستبق منّا فإنّا معشر زهر
إنّا لنشكر للنعماء إذ كفرت ... وعندنا بعد هذا اليوم مدّخر
يا خير من مرحت كمت الجياد به ... عند الهياج إذا ما استوقد الشرر
فألبس العفو من قد كنت ترضعه ... من أمّهاتك إنّ العفو مشتهر

إنّا نؤمّل عفواً منك تلبسه ... هذي البريّة إذ تعفو وتنتصر
عفواً عفا اللّه عمّا أنت راهبه ... يوم القيامة إذ يهدى لك الظفر
قال: فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الشعر، قال: ما كان لي ولبني عبد المطلب، فهو لكم.
فقالت قريش: ما كان لنا فهو لله ولرسوله.
وقالت الأنصار: ما كان لنا فه لله ولرسوله.
فأطلقهم جميعاً.
وحدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المعروف بالأثرم، المقرىء الخياط البغدادي، بالبصرة، قال: حدثنا أبو عمر أحمد بن عبد الجبار العطاردي، قال: حدثنا يونس بن بكير الشيباني، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين، فلما أصاب من هوازن ما أصاب من أموالهم وسباياهم، أدركته هوازن بالجعرانة، وقد أسلموا.
فقالوا: يا رسول الله، لنا أهل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا من الله عليك.
وقام خطيبهم زهير بن صرد فقال: يا رسول الله، إن ما في الحظائر من النساء، خالاتك، وعماتك، وحواضنك اللاتي تكفلنك، ولو أنا مالحنا ابن أبي شمر، أو النعمان بن المنذر، ثم أصابنا مثل الذي أصابنا منك، رجونا عائدتهما، وعطفهما، وأنشد أبياتاً قالها.
وذكر من الأبيات ثمانية، فقال في الأول: وندخر، وقال في الثاني: ممزق، وقال في الثالث، نهافاً، وقال في السادس: نعامتهم، وقال في السابع: إنا لنشكر آلاء وإن كفرت.

الوزير القاسم يعتقل ثلاثة أمراء عباسيين
أخبرنا أبو بكر الصولي، قال: كان القاسم بن عبيد الله، قد تقدم عند وفاة المعتضد، إلى صاحب الشرطة مؤنس الخازن، أن يوجه إلى قصي بن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد، وعبد الله بن المعتز، فيحبسهم في دار، ويوكل بهم، ففعل ذلك، وكانوا محبوسين خائفين، إلى أن قدم المكتفي بغداد فعرف خبرهم، فأمر بإطلاقهم، ووصل كل واحد منهم بألف دينار.
قال: فحدثني عبد الله بن المعتز، قال: سهرت في الليلة التي في صبيحتها دخل المكتفي إلى بغداد، فلم أنم، خوفاً على نفسي، وقلقاً لوروده، فمرت بي في السحر طير، فصاحت، فتمنيت أن أكون مخلى مثلها، لما جرى علي من النكبات.
ثم فكرت في نعم الله تعالى علي، وما خاره لي من الإسلام والقرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أؤمله من البقاء الدائم في الآخرة فقلت:
يا نفس صبراً لعلّ الخير عقباك ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرّت بنا سحراً طيرٌ فقلت لها: ... طوباك يا ليتني إيّاك طوباك
لكن هو الدّهر فالقيه على حذر ... فربّ مثلك ينزو تحت أشراك
البحتري وأبو معشر يؤصلان عند المعتز أصلاً
حدثني علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، قال: حدثني أبو القاسم سليمان ابن الحسن بن مخلد، قال: لما أنفذ أبي إلى مصر، اجتذبت أبا عبادة البحتري، وأبا معشر المنجم، وكنت آنس بهما في وحدتي، وملازمتي البيت، فكانا أكثر الأوقات عندي، يحادثاني ويعاشراني.
فحدثاني يوماً: إنهما أضاقا إضاقة شديدة، وكانا مصطحبين، فعن لهما أن يلقيا المعتز بالله، وهو محبوس، فيتوددان إليه ويؤصلان عنده أصلاً، فتوصلا إليه، حتى لقياه في حبسه.
قال البحتري: فأنشدته أبياتي التي كنت قلتها في محمد بن يوسف الثغري، لما حبس، وخاطبت بها المعتز، كأني عملتها له في الحال، وهي:
جعلت فداك الدّهر ليس بمنفكّ ... من الحادث المشكّو والنّازل المشكي
وما هذه الأيّام إلاّ منازل ... فمن منزلٍ رحب ومن منزلٍ ضنّك
وقد هذّبتك الحادثات وإنّما ... صفا الذّهب الإبريز قبلك بالسّبك
أمّا في رسول اللّه يوسف أسوة ... لمثلك محبوساً على الظلم والإفك
أقام جميل الصبر في السّجن برهة ... فآل به الصّبر الجميل إلى الملك
على أنّه قد ضيم في حبسك العلى ... وأصبح عزّ الدّين في قبضة الشرك
قال: فأخذ الرقعة التي فيها الأبيات، فدفعها إلى خادم كان واقفاً على رأسه، وقال له: احتفظ بهذه الرقعة، فإن فرج الله عني، فأذكرني بها، لأقضي حق هذا الرجل الحر.

وقال لي أبو معشر: وقد كنت أنا أخذت مولده، ووقت عقد له العهد، ووقت عقدت البيعة للمستعين بالخلافة، فنظرت في ذلك، وصححت الحكم للمعتز بالخلافة بعد فتنة تجري وحروب، وحكمت على المستعين بالقتل، فسلمت ذلك إلى المعتز، وانصرفنا.
وضرب الزمان ضربه، وصح الحكم بأسره.
قال أبو معشر: فدخلت أنا والبحتري جميعاً إلى المعتز، وهو خليفة، بعد خلع المستعين وتغريقه، فقال لي: لم أنسك، وقد صح حكمك، وقد أجريت لك في كل شهر مائة دينار، وثلاثين ديناراً نزلاً، وجعلتك رئيس المنجمين في دار الخلافة، وأمرت لك عاجلاً بإطلاق ألف دينار صلة، فقبضت ذلك كله في يومي.
وقال لي البحتري: وتقدمت أنا، فأنشدت المعتز قصيدة مدحته بها، وهنأته بالخلافة، وهجوت المستعين، أولها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبه ... ويبعد عنّا في الهوى من نقاربه
فلما بلغت فيها إلى قولي، والمعتز يستمع:
فكيف رأيت الحقّ قرّ قراره ... وكيف رأيت الظلم آلت عواقبه
ولم يكن المغترّ باللّه إذ سرى ... ليعجز والمعتزّ باللّه طالبه
رمى بالقضيب عنوة وهو صاغر ... وعرّي من برد النّبي مناكبه
وقد سرّني أن قيل وجّه غادياً ... إلى الشّرق تحدّى سفنه وركائبه
إلى واسط حيث الدجاج ولم تكن ... لتنشب إلاّ في الدجاج مخالبه
فاستعادني هذه الأبيات مراراً، فأعدتها عليه، فدعا الخادم الذي كان معه الحبس، وطلب منه الرقعة التي كنت أنشدته الشعر الذي كان فيها، في حبسه، فأحضره إياها بعينها.
فقال: قد أمرت لك بكل بيت منها بألف دينار، وكانت ستة أبيات، فأخذت ستة آلاف دينار.
ثم قال لي: كأني بك، وقد بادرت، فاشتريت منها جارية، وغلاماً، وفرساً، وأتلفت المال، لا تفعل، فإن لك فيما تستأنفه معنا من أيامك، ومع وزرائنا وأسبابنا، إذا عرفوا موضعك عندنا، غناء عن ذلك، ولكن افعل بهذا المال كما فعل ابن قيس الرقيات بالمال الذي أعطاه عبد الله بن جعفر، واشترى به ضيعة، فاشتر أنت أيضاً به ضيعة تنتفع بغلتها، ويبقى عليك وعلى ولدك أصلها.
فقلت: السمع والطاعة، وخرجت فاشتريت بالمال ضيعة جليلة بمنبج، ثم ارتفعت حالي معه وزادت.

أبو سعيد الثغري يعتقل ويعذب
قال مؤلف هذا الكتاب: وللبحتري في هذه الأبيات الكافية، خبر آخر حسن، نذكره لأنه أيضاً يدخل في هذا الباب، أخبرني أبو بكر الصولي إجازة، ونقلته من خطه، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم القنوي، قال: طولب أبو سعيد الثغري، بمال، بعد غزواته المشهورة، وسلم إلى أبي الحسين النصراني الجهبذ ليستخرج منه المال، فجعل يعذبه فشق ذلك على المسلمين، وقالوا: يأخذ بثأر النصرانية.
فقال البحتري:
يا ضيعة الدنيا وضيعة أهلها ... والمسلمين وضيعة الإسلام
طلبت ذحول الشرك في دار الهدى ... بين المداد وألسن الأقلام
هذا ابن يوسف في يدي أعدائه ... يجزى على الأيّام بالأيّام
نامت بنو العبّاس عنه ولم تكن ... عنه أميّة لو رعت بنيام
فقرىء هذا الشعر على المتوكل، فأمر بإطلاق أبي سعيد، وتوليت، وأمر بإحضار قائل الأبيات، فأحضر البحتري، واتصل به، فكان أول شعر أنشده، قوله في أبي سعيد:
جعلت فداك الدّهر ليس بمنفكّ
وذكر الأبيات، إلا أنه قال في البيت الثالث، بدل الحادثات: النائبات، وقال في البيت الذي أوله:
على أنّه قد ضيم في حبسك العلى ... وأضحى بك الإسلام في قبضة الشّرك
البحتري يهنىء إبراهيم بن المدبرومن محاسن شعر البحتري الذي يتعلق بهذا الباب، وإن كان تعلقاً ضعيفاً، إلا أن الشيء بالشيء يذكر، ولا سيما إذا قاربه، ما أخبرنيه الصولي، إجازة، قال: ذكر إبراهيم بن المدبر، يوماً، البحتري، فقال: ما رأيت أتم طبعاً منه، ولا أحضر خاطراً، فقد مدحني حين تخلصت من الأسر، يعني أسر صاحب الزنج بالبصرة وذكر الضربة التي في وجهي، وتخلصني، ومدح المأسور شيء ما راعاه قبله أحد.
قال الصولي: والأبيات من قصيدة أولها:
قد كان طيفك مرّةً يغرى بي
قال فيها:
لو أنّه استام النّجاة لنفسه ... وجد النّجاة رخيصة الأسباب

ومبينة شهد المنازل رسمها ... والخيل تكبو في العجاج الكابي
كانت بوجهك دون عرضك درأة ... إنّ الوجوه تصان بالأحساب
ولئن أسرت فما الإسار على امرىء ... لم يأل صدقاً في اللقاء بعاب
نام المضلّل عن سراك ولم يخف ... حرس الرّقيب وقسوة البوّاب
ورأى بأنّ الباب مذهبك الّذي ... يخشى وهمّك كان غير الباب
قال ذلك لأنه نقب نقباً، وخرج منه.
فركبتها هولاً متى تخبر بها ... يقل الجبان أنيت غير صواب
ما راعهم إلاّ امتراقك مصلتاً ... عن مثل يرد الأرقم المنساب
تحمي أغيلمة وطائشة الخطى ... تصل التلفّت خشية الطلاّب
قال ذلك لأنه أخرج معه من الحبس امرأة، وأخرج ابن أخيه
ما زال يوم ندى بطولك زاهراً ... حتّى أضفت إليه يوم ضراب
ذكر من البأس استعدت إلى الّذي ... أُعطيت في الأخلاق والآداب
وروى غير الصولي، في البيت الذي قبل هذا الآخر:
لم ترض يوم ندى بطولك...
يمنع ابن أبي سبرة علناً ويجيزه سراً
حدثنا أحمد بن عبد الله الوراق، من كتاب نسب قريش للزبير بن بكار، قال: حدثنا أحمد بن سليمان الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: أخبرني عمي مصعب بن عبد الله، وحدثني سعيد بن عمرو، جاء بهما الزبير خبرني مفردين فيهما تكرير وزيادة في أحدهما على الآخر، وأنا هنا أجمع بينهما، وأجعلهما سياقة واحدة، وأسقط التكرير، قال: كان أبو بكر محمد بن أبي سبرة بن أبي ريم بن عبد العزى بن أبي قيس ابن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن نصر بن مالك بن النضر بن كنانة عاملاً لرياح بن عثمان، على مسعاة أسد وطيىء.
فلما خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام جاء بما صدق من المال إليه، ومبلغه أربعة وعشرون ألف دينار، فدفع ذلك إليه، فكانت قوة لمحمد.
فلما قتل عيسى بن موسى محمداً بالمدينة، قيل لأبي بكر: اهرب، قال: ليس مثلي يهرب، فأخذ أسيراً، فطرح في حبس المدينة، ولم يحدث عيسى بن موسى في أمره شيئاً غير حبسه، فأمر المنصور بتقييده، فقيد.
فقدم المدينة بعدما شخص عيسى بن موسى، عبد الله بن الربيع المدني ومعه جند، فعاثوا في المدينة وأفسدوا، فوثب عليه سودان المدينة والرعاع، فقتلوا جنده، وطردوهم، وانتهبوهم، وانتهبوا عبد الله بن الربيع، فخرج حتى نزل ببئر المطلب، يريد العراق، على خمسة أميال من المدينة.
وكبس السودان السجن، فأخرجوا أبا بكر.
وقال سعيد: فأخرج القرشيون أبا بكر، فحملوه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهى عن معصية أمير المؤمنين، وحث على طاعته.
وقيل له: صل بالناس.
فقال: إن الأسير لا يؤم، ورجع إلى محبسه.
فلما ولى المنصور، جعفر بن سليمان، على المدينة، قال له: بيننا وبين أبي بكر رحم، وقد أساء وأحسن، فإذا قدمت المدينة، فأطلقه، وأحسن جواره.
وقال سعيد: فأمره بإطلاق ابن أبي سبرة، وأوصاه به، وقال: إن كان قد أساء فقد أحسن.
فأطلقه جعفر.
فسأل جعفر أن يكتب له بوصاة إلى معن بن زائدة، وهو إذ ذاك على اليمن، فكتب له بوصاة إليه.
فلقي الرابحي، فقال: هل لك في الخروج معي إلى العمرة ؟ فقال: أما والله، ما أخرجني من منزلي إلا طلب شيء لأهلي، فما تركت عندهم شيئاً، فأمر له ابن أبي سبرة بنفقة أنفذها إلى عياله، وخرج معه.
فلما قضيا عمرتهما، قال للرابحي: هل لك أن نأتي معن بن زائدة ؟ قال: نعم.
فأمر له بنفقة أنفذها إلى عياله، وأخرجه معه، حتى قدما على معن بن زائدة.
فدخل عليه ابن أبي سبرة وحده، فدفع إليه كتاب جعفر بالرضا عنه، فلما قرأه، قال: كان جعفر أقدر على صلتك مني، انصرف، فليس لك عندي شيء، فانصرف مغموماً.
فلما انتصف النهار، أرسل إليه، فجاءه، فقال له: يا ابن أبي سبرة ما حملك على أن قدمت علي، وأمير المؤمنين عليك واجد ؟ ثم سأله: كم دينك ؟ قال: أربعة آلاف دينار.
فأعطاه أربعة آلاف دينار، وأعطاه ألفي دينار أخرى، وقال: أصلح بهذه أمرك.
فانصرف إلى منزله، فأخبر الرابحي، بما صنع معن معه، فراح الرابحي إلى معن، فأنشده:

الرابحيّ يقول في مدح ... لأبي الوليد أخي النّدى الغمر
ملك بصنعاء الملوك له ... ما بين بيت اللّه والشحر
لو جاودته الرّيح مرسلة ... لجرى بجود فوق ما تجري
حملت به أمّ مباركة ... وكأنّها بالحمل لا تدري
فقال له معن: فكان ماذا ويحك ؟ فقال:
حتّى إذا ما تمّ تاسعها ... ولدته مولد ليلة القدر
فقال له معن: ثم ماذا ويحك ؟ فقال:
فأتت به بيضاً أسرّته ... يرجى لحمل نوائب الدّهر
مسح القوابل وجهه فبدا ... كالبدر بل أبهى من البدر
فنذرن حين رأين غرّته ... إن عاش أن يوفين بالنّذر
للّه صوماً شكر أنعمه ... واللّه أهل الحمد والشّكر
فقال له معن: ثم ماذا ؟ فقال:
فنشا بحمد اللّه حين نشا ... حسن المروءة نابه الذّكر
فقال معن: ثم ماذا ؟ فقال:
حتّى إذا ما طرّ شاربه ... خضع الملوك لسيّدٍ بهر
فإذا وهى ثغر يقال له: ... يا معن أنت سداد ذا الثغر
فقال معن: أنا أبو الوليد، أعطوه ألف دينار.
فأخذها ورجع إلى ابن أبي سبرة، فخرجا جميعاً إلى مكة.
فقال ابن أبي سبرة: أما الأربعة آلاف دينار، فلقضاء ديني، وأما الألفان الفاضلة، فلك منها ألف.
قال الرابحي: قد أعطاني ألف دينار، وهي تجزيني، فلا تضيق على نفسك، في الألفي الدينار.
فقال له: أقسمت عليك لتأخذنها، فأخذها، وأنفق عليه، حتى أتى المدينة.
ونمى الخبر إلى المنصور، فكتب إلى معن: ما حملك على أن أعطيت ابن أبي سبرة ما أعطيته، وقد علمت ما صنع ؟ فكتب إليه معن: إن جعفر بن سليمان كتب إلي يوصيني به، ولم أظن أن جعفراً يكتب في رجل لم يرض عنه أمير المؤمنين.
فكتب المنصور إلى جعفر، يبكته بذلك.
فكتب إليه جعفر: أنت، يا أمير المؤمنين أوصيتني به، ولم يكن في استيصائي به شيء أيسر من كتاب وصاة إلى معن.
بال في ثيابه خوفاً منه ثم بال على قبره
وجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطبي، عن أبي طالب الجعفري، أنه سمع رجلاً يحدث عن محمد بن الفضل الجرجرائي في وزارته للمعتصم، قال: كنت أتولى ضياع عجيف، بكسكر، فرفع علي أني خنته، وأخربت الضياع، فأنفذ إلي من قيدني، وأدخلت عليه في داره بسر من رأى، على تلك الحال، فإذا هو يطوف على صناع فيها.
فلما نظر إلي شتمني، وقال: أخربت الضياع، ونهبت الارتفاع، والله لأقتلنك، هاتوا السياط.
فأحضرت، وشلحت للضرب.
فلما رأيت ذلك، ذهب علي أمري، وبلت على ساقي.
فرآني كاتبه، فقال لعجيف: أعز الله الأمير، أنت مشغول القلب بهذا البناء، وضرب هذا وقتله في أيدينا، ليس يفوت، فتأمر بحبسه، وانظر في أمره، فإن كانت الرفيعة صحيحة، فليس يفوتك عقابه، وإن كانت باطلة، لم تتعجل الإثم، وتنقطع عما أنت مهتم به.
فأمر بي إلى الحبس، فمكثت فيه أياماً.
وغزا أمير المؤمنين المعتصم، عمورية، وكان من أمر عجيف ما كان، فقتله، واتصل الخبر بكاتبه، فأطلقني.
فخرجت من الحبس، وما أهتدي إلى حبة فضة، فما فوقها.
فقصدت صاحب الديوان بسر من رأى، وكان صديقي، فلما رآني سر بإطلاقي وتوجع لي من سوء حالي، وعرض علي مالاً.
فقلت: بل تتفضل بتصريفي في شيء أستتر بجاريه.
فقلدني عملاً بنواحي ديار ربيعة، فافترضت من التجار لما سمعوا بخبر ولايتي، ما تحملت به إلى العمل، وخرجت.
وكان في ضياع عملي، ضيعة تعرف بكراثا، فنزلت بها في بعض طوافي بالعمل، وحصلت في دار منها، فلما كان السحر، وجدت المستحم ضيقاً غير نظيف، فخرجت من الدار إلى تل في الصحراء، فجلست أبول عليه.
فخرج إلي صاحب الدار، فقال لي: أتدري على أي شيء تبول ؟ قلت: على تل تراب.
فضحك، وقال: هذا قبر رجل يعرف بعجيف، قائد من قواد السلطان، كان قد سخط عليه، وحمله معه مقيداً، فلما بلغ إلى ها هنا قتل، فطرح في هذا المكان تحت حائط، فلما انصرف العسكر، طرحنا عليه الحائط، لنواريه من الكلاب، فهو - والله - تحت هذا التل التراب.
فعجبت من بولي خوفاً منه، ومن بولي على قبره.

لقاء بين الجد الرومي النصراني والحفيد العربي المسلم

وروى ابن دريد عن أبي حاتم، عن أبي معمر، عن رجل من أهل الكوفة، قال: كنا مع مسلمة بن عبد الملك، ببلاد الروم، فسبا سبايا كثيرة، وأقام ببعض المنازل، فعرض السبي على السيف، فقتل خلقاً، حتى عرض عليه شيخ كبير ضعيف، فأمر بقتله.
فقال له: ما حاجتك إلى قتل شيخ مثلي ؟ إن تركتني حياً، جئتك بأسيرين من المسلمين شابين.
قال له: ومن لي بذلك ؟ قال: إني إذا وعدت وفيت.
قال: لست أثق بك.
فقال له: دعني حتى أطوف في عسكرك، لعلي أعرف من يتكفل بي إلى أن أمضي وأعود أجيء بالأسيرين.
فوكل به من يطوف به، وأمره بالاحتفاظ به، فما زال الشيخ يطوف، ويتصفح الوجوه، حتى مر بفتى من بني كلاب، قائماً يحس فرسه.
فقال له: يا فتى، اضمني للأمير، وقص عليه قصته.
فقال: أفعل، وجاء الفتى إلى مسلمة، فضمنه، فأطلقه مسلمة.
فلما مضى، قال للفتى: أتعرفه ؟ قال: لا، والله.
قال: فلم ضمنته ؟ قال: رأيته يتصفح الوجوه، فاختارني من بينهم، فكرهت أن أخلف ظنه فيّ.
فلما كان من الغد، عاد الشيخ، ومعه أسيران شابان من المسلمين، فسلمهما إلى مسلمة، وقال: إن رأى الأمير أن يأذن لهذا الفتى أن يصير معي إلى حصني لأكافئه على فعله.
فقال مسلمة للفتى الكلابي: إن شئت فامض معه.
فلما صار إلى حصنه، قال له: يا فتى، تعلم - والله - أنك ابني قال له: وكيف أكون ابنك، وأنا رجل من العرب مسلم، وأنت رجل من الروم نصراني.
فقال له: أخبرني عن أمك، ما هي ؟ قال: رومية.
قال: فإني أصفها لك، فبالله إن صدقت، إلا صدقتني.
قال: أفعل.
فأقبل الرومي، يصف أم الفتى، ما خرم من صفتها شيئاً.
فقال له الفتى: هي كذلك، فكيف عرفت أني ابنها ؟ قال: بالشبه، وتعارف الأرواح، وصدق الفراسة.
ثم أخرج إليه امرأة، فلما رآها الفتى لم يشك فيها أنها أمه، لتقارب الشبه، وخرجت معها عجوز كأنها هي، فأقبلتا تقبلان رأس الفتى، ويديه، وتترشفانه.
فقال له: هذه جدتك، وهذه خالتك.
ثم اطلع من حصنه، فدعا بشباب في الصحراء، فأقبلوا، بكلمهم بالرومية، فأقبلوا يقبلون رأس الفتى ويديه، فقال: هؤلاء أخوالك، وبنو خالاتك، وبنو عم والدتك.
ثم أخرج إليه حلياً كثيراً، وثياباً فاخرةً، وقال: هذا لوالدتك منذ سبيت، فخذه معك، وادفعه إليها، فإنها ستعرفه، ثم أعطاه لنفسه مالاً كثيراً، وثياباً، وحلياً، وحمله على عدة دواب، وألحقه بعسكر مسلمة، وانصرف.
وأقبل الفتى قافلاً حتى دخل إلى منزله فأقبل يخرج الشيء بعد الشيء مما عرفه الشيخ أنه لأمه، وتراه أمه، فتبكي، فيقول لها: قد وهبته لك.
فلما كثر عليها، قالت له: يا بني، أسألك بالله، من أي بلد صارت إليكم هذه الثياب، وهل تصف لي أهل هذا الحصن الذي كان فيه هذا ؟ فوصف لها الفتى صفة البلد والحصن، ووصف لها أمها وأختها، والرجال الذين رآهم، وهي تبكي وتقلق.
فقال لها: ما يبكيك ؟ فقالت: الشيخ والله والدي، والعجوز أمي، وتلك أختي.
فقص عليها الخبر، وأخرج بقية ما كان أنفذه معه أبوها إليها، فدفعه إليها.

يحتال لإخراج أحد أصحابه من الحبس
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق التنوخي، قال: كان إسماعيل الصفار البصري، أحد شيوخ المعتزلة الأجلاد، وكان الناس - إذ ذاك - يتشددون على المعتزلة، وينالونهم بالمكاره.
فتقلد البصرة نزار بن محمد الضبي، فرفع إليه عن رجل أنه معتزلي، فحبسه، فاستغاث الرجل بإسماعيل، فكلم غير واحد من رؤساء البلد، أن يكلم نزاراً فيه، فتجنبوا ذلك بسبب المذهب، فبات إسماعيل قلقاً.
ثم بكر من غد، فطاف على كل معتزلي بالبصرة، وقال لهم: إن تم هذا عليكم هلتكم متفرقين، وحبستم، وأتي على أموالكم ونفوسكم، فاقبلوا مني، واجتمعوا، وتدبروا برأيي، فإن الرجل يتخلص وتعزون.
فقالوا: لا نخالف عليك.
فوعدهم ليوم بعينه، ووعد معهم كل من يعرفه من العوام، وأصحاب المذاهب ممن يتبع قصاص المعتزلة، ومن يميل إليهم.
فلما كان ذلك اليوم، اجتمع له منهم أكثر من ألف رجل، فصار بهم إلى نزار، واستأذن عليه، فأذن له ولهم.

فقال: أعز الله الأمير، بلغنا أنك حبست فلاناً، لأنه قال: إن القرآن مخلوق، وقد جئناك، وكلنا نقول: إن القرآن مخلوق، وخلفنا ألوف يقولون كما نقول، فإما حبستنا جميعاً، وإما أطلقت صاحبنا، وإذا كان السلطان - أطال الله بقاءه - قد ترك المحنة، وقد أقر الناس على مذاهبهم، فلم نؤاخذ نحن بمذهبنا، من بين سائر المقالات ؟ فنظر نزار فإذا فتنة تثور، لم يؤذن له فيها، ولم يدر ما تجر، فأطلق الرجل، وسلمه إليهم.
فشكره إسماعيل، وانصرف والجماعة.

شامي عظيم الجاه من بقايا بني أمية
وجدت في كتاب أبي الفرج المخزومي الحنطبي، عن أبي أمية الهشامي، عن أبي سليمان داود بن الفضل العبدي، قال: أخبرني أبي، عن محمد بن الحسن بن بشر الأدمي، قال: حدثني منارة، خادم الخلفاء، قال: رفع إلى هارون الرشيد، أن رجلاً بدمشق، من بقايا بني أمية، عظيم الجاه واسع الدنيا، كثير المال والأملاك، مطاعاً في البلد، له جماعة أولاد ومماليك وموالي، يركبون الخيل، ويحملون السلام، ويغزون الروم، وأنه سمح جواد، كثير البذل والضيافة، وأنه لا يؤمن منه فتق لا يمكن رتقه، فعظم ذلك على الرشيد.
قال منارة: وكان وقوف الرشيد على هذا وهو بالكوفة، في بعض خرجاته إلى الحج سنة ست وثمانين ومائة، وقد عاد من الموسم، وقد بايع للأمين ثم المأمون ثم المؤتمن.
فدعاني وهو خال، فقال لي: دعوتك لأمر أهمني وقد منعني النوم، فانظر كيف تكون ؟ ثم قص علي خبر الأموي.
وقال: أخرج الساعة، فقد أعددت لك الجمازات، وأزحت علتك في الزاد والنفقة والآلات، وضممت إليك مائة غلام، فاسلك البرية، وهذا كتابي إلى أمير دمشق، وهذه قيود، فادخل، وابدأ بالرجل، فإن سمع وأطاع، فقيده، وجئني به وإلا فتوكل به أنت ومن معك حتى لا يهرب، وأنفذ الكتاب إلى أمير دمشق، ليركب في جيشه فيقبض عليه، وتجيئني به، وقد أجلتك لذهابك ستاً، ولعودك ستاً، ويوماً لمقامك، وهذا محمل، تجعله - إذا قيدته - في شقه، وتجلس أنت في الشق الآخر، ولا تكل حفظه إلى غيرك، حتى تأتيني به في اليوم الثالث عشر من خروجك، وإذا دخلت داره فتفقدها، وجميع ما فيها، وأهله، وولده، وحاشيته، وغلمانه، وقدر النعمة، والحال، والمحل، واحفظ ما يقوله الرجل حرفاً بحرف، بجميع ألفاظه، منذ وقوع طرفك عليه، إلى أن تأتيني به، وإياك أن يشذ عليك شيء من أمره، انطلق مصاحباً.
قال منارة: فودعته وخرجت، فركبنا الإبل، وطوينا المنازل، أسير الليل والنهار، ولا أنزل إلا للجمع بين الصلاتين، والبول، وتنفيس الناس قليلاً.
إلى أن دخلت دمشق في أول الليلة السابعة، وأبواب البلد مغلقة، فكرهت طرقها، فنمت بظاهر البلد، إلى أن فتح بابه في الغد، فدخلت على هيأتي، حتى أتيت باب دار الرجل، وعليه صفف عظيمة، وحاشية كثيرة، فلم أستأذن، ودخلت بغير أذن.
فلما رأى القوم ذلك، سألوا بعض أصحابي عني، فقالوا لهم: هذا منارة، رسول أمير المؤمنين إلى صاحبكم، فأمسكوا.
فلما صرت في صحن الدار، نزلت، ودخلت مجلساً، رأيت فيه قوماً جلوساً، فظننت أن الرجل فيهم، فقاموا إلي، ورحبوا بي، وأكرموني.
فقلت: أفيكم فلان ؟ قالوا: لا، نحن أولاده، وهو في الحمام، فقلت: استعجلوه.
فمضى بعضهم يستعجله، وأنا أتفقد الدار، والأحوال، والحاشية، فوجدت الدار قد ماجت بأهلها موجاً شديداً.
فلم أزل كذلك، حتى خرج الرجل، بعد أن أطال، واستربت به، واشتد قلقي وخوفي من أن يتوارى.
إلى أن رأيت شيخاً قد أقبل بزي الحمام، يمشي في الصحن، وحوله جماعة كهول، وأحداث، وصبيان، هم أولاده، وغلمان كثيرة، فعلمت أنه الرجل.
فجاء حتى جلس، وسلم علي سلاماً خفيفاً، وسألني عن أمير المؤمنين، واستقامة أمر حضرته، فأخبرته بما وجب.
فما انقضى كلامه حتى جاؤوه بأطباق الفاكهة، فقال لي: تقدم يا منارة فكل معنا.
فقلت: ما بي إلى ذلك حاجة.
فلم يعاودني، وأقبل يأكل هو والحاضرون معه، ثم غسل يديه، ودعا بالطعام، فجاؤوه بمائدة حسنة جميلة، لم أر مثلها إلا للخليفة، فقال: تقدم يا منارة فساعدنا على الأكل، لا يزيد على أن يدعوني باسمي، كما يدعوني الخليفة.
فامتنعت، فلم يعاودني، وأكل هو وأولاده، وكانوا تسعة، عددتهم، وجماعة كثيرة من أصحابه، وحاشيته، وجماعة من أولاده وأولاد أولاده.

فتأملت أكله في نفسه، فرأيته أكل الملوك، ووجدت جأشه رابطاً، وذلك الاضطراب الذي كان في داره قد سكن، ووجدته لا يرفع من بين يديه شيء، كان على المائدة، إلا وهب.
وقد كان غلمانه، لما نزلت الدار، أخذوا جمالي، وجميع غلماني، فعدلوا بهم إلى دار له، فما أطاقوا ممانعتهم، وبقيت وحدي، ليس ين يدي إلا خمسة أو ستة غلمان وقوف على رأسي.
فقلت في نفسي: هذا جبار عنيد، فإن امتنع علي من الشخوص، لم أطق إشخاصه بنفسي، ولا بمن معي، ولا حفظه إلى أن يلحقني أمير البلد، وجزعت جزعاً شديداً، ورابني منه استخفافه بي، وتهاونه بأمري، وأن يدعوني باسمي، وقلة اكتراثه بامتناعي من الأكل والشرب، ولا يسألني عما جئت له، ويأكل مطمئناً.
وأنا أفكر في ذلك، إذ فرغ من طعامه، وغسل يديه، واستدعى بالبخور، فتبخر، وقام إلى الصلاة، فصلى الظهر صلاة حسنة، وأكثر من الدعاء والابتهال.
فلما انفتل من محرابه، أقبل علي، وقال: ما أقدمك يا منارة ؟ فقلت: أمر لك من أمير المؤمنين، وأخرجت الكتاب، فدفعته إليه، ففضه، وقرأه، فلما استتم قراءته، دعا أولاده، وحاشيته، فاجتمعوا، فلم أشك أنه يريد أن يوقع بي.
فلما تكاملوا، ابتدأ فحلف أيماناً غليظةً، فيها الطلاق، والعتاق، والحج، والصدقة، والوقف، والحبس، إن اجتمع اثنان منهم في موضع، وأن يتفرقوا، ويدخلوا منازلهم، ولا يظهر منهم أحد، إلى أن ينكشف له أمر يعمل عليه.
ثم قال: هذا كتاب أمير المؤمنين يأمرني بالمصير إلى بابه، ولست أقيم بعد نظري فيه لحظة واحدة.
وقال لغلمانه، وأولاده: استوصوا بمن ورائي من الحرم خيراً، وما بي حاجة أن يصحبني غلام، هات أقيادك يا منارة.
فدعوت بها، وكانت في سفط، فأحضر حداداً، ومد ساقيه، فقيدته، وأمرت غلماني بحمله حتى حصل في المحمل، وركبت في الشق الآخر، وسرت من وقتي، ولم ألق أمير البلد، ولا غيره.
وسرت بالرجل، ليس معه أحد، إلى أن صرنا بظاهر دمشق، فابتدأ يحدثني بانبساط، حتى انتهينا إلى بستان حسن في الغوطة، فقال: ترى هذا ؟ فقلت: نعم.
قال: هو لي، وفيه من غرائب الأشجار كيت وكيت، ثم انتهى إلى آخر، فقال مثل ذلك، ثم انتهى إلى مزارع حسان، وقرى سرية، فأقبل يقول: هذا لي، ويصف كل شيء فيها.
فاشتد غيظي منه، فقلت له: هل علمت أني شديد التعجب منك ؟ قال: ولم ؟ قلت: ألست تعلم أن أمير المؤمنين قد أهمه أمرك، حتى أرسل إليك من انتزعك من بين أهلك، وولدك، ومالك، وأخرجك عن جميع حالك، وحيداً، فريداً، مقيداً، لا تدري ما يصير إليه أمرك، ولا كيف تكون، وأنت مع هذا، فارغ القلب، تصف بساتينك وضياعك، هذا وقد رأيتك، وقد جئت، وأنت لا تعلم فيم جئت، وأنت ساكن القلب، قليل الفكر، وقد كنت عندي شيخاً عاقلاً.
فقال مجيباً لي: إنا لله وإنا إليه راجعون، أخطأت فراستي فيك يا منارة، قدرتك رجلاً كامل العقل، وأنك ما حللت من الخلفاء هذا المحل، إلا بعد أن عرفوك بذلك، فإذا عقلك وكلامك يشبه كلام العوام وعقلهم، فالله المستعان.
أما قولك في أمير المؤمنين، وإزعاجه لي من داري، وإخراجه إياي إلى بابه على هذه الصورة، فأنا على ثقة بالله عز وجل، الذي بيده ناصية أمير المؤمنين، فلا يملك معه لنفسه، ولا لغيره، ضراً ولا نفعاً، إلا بإذن الله ومشيئته، ولا ذنب لي عند أمير المؤمنين أخافه، وبعد، فإذا عرف أمير المؤمنين أمري، وعلم سلامة جانبي، وصلاح ناحيتي، وأن الأعداء والحسدة، رموني عنده بما لست في طريقه، وتقولوا علي الأباطيل الكاذبة، لم يستحل دمي، وتحرج من أذاي وإزعاجي، فردني مكرماً، أو أقامني ببابه معظماً، وإن كان سبق في قضاء الله تعالى، أنه يبدر إلي ببادرة سوء، وقد حضر أجلي، وحان سفك دمي على يده، فلو اجتهدت الملائكة والأنبياء وأهل السموات والأرض، على صرف ذلك عني، ما استطاعوا، فلم أتعجل الهم، وأتسلف الفكرة والغم، فيما قد فرغ الله منه، وأنا حسن الظن بالله الذي خلق ورزق، وأحيا وأمات وفطر وجبل، وأحسن وأجمل، وأين الصبر والرضا، والتفويض والتسليم إلى من يملك الدنيا والآخرة وكنت أحسب أنك تعرف هذا، فإذ قد عرفت مبلغ فهمك، فإني لا أكلمك بكلمة، حتى تفرق بيننا حضرة أمير المؤمنين.

ثم أعرض عني، فما سمعت له لفظة بغير القرآن والتسبيح، أو طلب ماء أو حاجة تجري مجراه، حتى شارفنا الكوفة في اليوم الثالث عشر بعد الظهر، فإذا النجب قد استقبلتنا على فراسخ من الكوفة، يتجسسون خبري.
فلما رأوني رجعوا بخبري إلى أمير المؤمنين، فانتهيت إلى الباب آخر النهار، فدخلت على الرشيد، فقبلت الأرض، ووقفت بين يديه.
فقال: هات ما عندك، وإياك أن تغفل منه لفظة واحدة.
فسقت إليه الحديث من أوله، حتى انتهيت إلى ذكر الفاكهة والطعام والغسل والطهور والبخور، وما حدثت به نفسي من امتناعه مني، والغضب يظهر في وجهه ويتزايد، حتى انتهيت إلى فراغ الأموي من الصلاة، وانفتاله، وسؤاله عن سبب مقدمي، ودفعي الكتاب إليه، ومبادرته إلى إحضار ولده وأسبابه، ويمينه أن لا يتبعه أحد منهم، وصرفه إياهم، ومد رجليه حتى قيدته، فما زال وجه الرشيد يسفر.
فلما انتهيت إلى ما خاطبني به في المحمل، عند توبيخي إياه، قال: صدق والله، ما هذا إلا رجل محسود على النعمة، مكذوب عليه، ولقد آذيناه، ولعمري لقد أزعجناه، وروعناه، وروعنا أهله، فبادر بنزع قيوده عنه، وائتني به. فخرجت، فنزعت قيوده، وأدخلته على الرشيد، فما هو إلا أن رآه، حتى رأيت ماء الحياء يدور في وجه الرشيد، ودنا الأموي، فسلم بالخلافة، ووقف، فرد عليه الرشيد رداً جميلاً، وأمره بالجلوس، فجلس.
وأقبل عليه الرشيد، ثم قال له: إنه بلغنا عنك فضل همة، وأمور، أحببنا معها أن نراك، ونسمع كلامك، ونحسن إليك، فاذكر حوائجك.
فأجاب الأموي جواباً جميلاً، وشكر، ودعا ثم قال: أما حاجتي، فما لي إلا حاجة واحدة.
فقال: مقضية، فما هي ؟ قال: يا أمير المؤمنين، تردني إلى بلدي، وأهلي، وولدي.
فقال: نحن نفعل ذلك، ولكن سل ما تحتاج إليه من صلاح جاهك ومعاشك، فإن مثلك لا يخلو أن يحتاج إلى شيء من هذا.
فقال: عمال أمير المؤمنين منصفون، وقد استغنيت بعدله عن مسألته، وأموري منتظمة، وأحوالي مستقيمة، وكذلك أمور أهل بلدي بالعدل الشامل في دولة أمير المؤمنين.
فقال له الرشيد: انصرف محفوظاً إلى بلدك، واكتب إلينا بأمر إن عرض لك، فودعه الأموي.
فلما ولى خارجاً، قال لي الرشيد: يا منارة، احمله من وقتك، وسر به راجعاً كما أتيت به، حتى إذا أوصلته إلى المجلس الذي أخذته منه، فارجع وخله.
ففعلت ذلك.

ابن الفرات يتحدث عن اعتقاله وتعذيبه
حدثني علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، ويعرف هشام بأبي قيراط، قال: كنت حاضراً مع أبي رحمه الله، في مجلس أبي الحسن بن الفرات، في شهر ربيع الأول سنة خمس وثلثمائة، في وزارته الثانية، فسمعته يتحدث، قال: دخل علي أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة الأنباري، في محبسي بدار المقتدر، فطالبني بكتب خطي بثلاثة عشر ألف ألف دينار.
فقلت: والله، ما جرى قدر هذا المال، على يدي للسلطان، في طول وزارتي، فكيف أصادر على مثله ؟ فقال: قد حلفت بالطلاق أنه لا بد من أنك تكتب خطك بذلك، فكتبت ثلاثة عشر ألف ألف، من غير ما أذكر ما هي، أو ضماناً فيها.
قال: فاكتب ديناراً، لتبريني من يميني.
فكتبت ديناراً، ثم ضربت عليه، وأكلت الرقعة، وقلت له: قد برئت من يمينك، ولا سبيل لك إلى غير هذا مني.
فاجتهد بي، فلم أجبه إلى شيء، فحبسني.
فلما كان من الغد، دخل إلى الحبس، ومعه أم موسى، فطالبني بذلك، وأسرف في سبي وشتمي، ورماني بالزنا.
فحلفت بالطلاق، والعتاق، والأيمان المغلظة، أني ما دخلت في محظور من هذا الجنس، من نيف وثلاثين سنة، وسمته أن يحلف بمثل تلك اليمين أن غلامه القائم على رأسه، لم يأته في ليلته تلك، فأنكرت أم موسى هذا الحال، وغطت وجهها حياء منه.
فقال ابن ثوابة: إن هذا إنما تبطره الأموال التي وراءه، ومثله في ذلك، كمثل المزين مع كسرى، والحجام مع الحجاج، فتستأمرين السادة، في إنزال المكروه به، حتى يذعن بالأموال.
قال أبو الحسين: ويعني بالسادة: المقتدر، ووالدته، وخالته خاطف، ودستنبويه أم ولد المعتضد، لأنهم كانوا - إذ ذاك - يدبرون الأمور، لحداثة سن المقتدر.
قال ابن الفرات: فمضت أم موسى، ثم عادت، فقالت لابن ثوابة: السادة يقولون لك: صدقت فيما ذكرت، ويدك مطلقة فيه.

وكنت في دار ضيقة، في حر شديد فأمر بكشف البواري حتى صرت في الشمس، ونحي الحصير من تحتي، وأغلق أبواب البيوت، حتى حصلت في الصحن، ثم قيدني بقيد ثقيل، وألبسني جبة صوف قد نقعت في ماء الأكارع، وغلني بغل، وأقفل باب الحجرة وانصرف، فأشرفت على التلف.
وعددت على نفسي ذنوبي، فوجدتني قد عوملت بما عاملت به الناس، من المصادرة، ونهب المنازل، وقبض الضياع، وتسليم الناس إلى أعدائهم، وحبسهم، وتقييدهم، وإلباسهم جباب الصوف، وهتك حريمهم، وإقامتهم في الشموس، وإفرادهم في الحبوس.
ثم قلت: ما غللت أحداً، فكيف غللت ؟ ثم تذكرت أن النرسي، كاتب الطائي، كان سلمه إلي عبيد الله بن سليمان، لمال عليه، فسلمته إلى الحسن، المعروف بالمعلوف، المستخرج، وكان عسوفاً، وأمرته بتقييده، وتعذيبه، ومطالبته بمال ذكرته له، فألط به، فأمرت به أن يغل، ثم تحوبت بعد أن غل مقدار ساعتين من النهار، فأمرت بأخذ الغل عنه.
فلما جازت الساعتان، تذكرت شيئاً آخر، وهو أنه لما قرب سبكرى من الجبل، مع رسول صاحب خراسان، مأسوراً، كتبت إلى بعض عمال المشرق، بمطالبته بأمواله وودائعه، فكتب إلي بإلطاطه، فكتبت بأن يغل، وكنت أتغدى، فلما غسلت يدي، تندمت، وتحوبت، فكتبت بأن يحل الغل عنه إن كان قد غل، فوصل الكتاب الأول فغل، ووصل الكتاب الثاني بعد ساعتين، فحل عنه، على ما كتبت به.
فلما مضت أربع ساعات، إذا بصوت غلمان مجتازين في الممر الذي فيه الحجرة التي أنا محبوس فيها، فقال لي الخدم الموكلون بي: هذا بدر الحرمي وهو لك صنيعة.
فاستغثت به، وصحت: يا أبا الخير، الله، الله، فيّ، لي عليك حقوق، وقد ترى حالي، الموت أسهل مما أنا فيه، فتخاطب السادة في أمري، وتذكرهم حرمتي، وخدمتي في تثبيت دولتهم، إذ خذلهم الناس، وافتتاحي البلدان المنغلقة وإثارتي الأموال المنكسرة، فإن كان ذنبي يوجب القتل، فالسيف أروح لي، فرجع، فدخل إليهم، فخاطبهم ورققهم، ولم يبرح حتى أمروا بأخذ حديدي، وإدخالي الحمام، وأخذ شعري، وتغيير لباسي، وتسليمي إلى زيدان، وترفيهي.
فجاءني بذلك، وقال: يقولون لك، لن ترى بعدها بأساً، وأقمت عند زيدان، إلى أن رددت إلى هذا المجلس.

ماء الأكارع

الكراع، في الدواب ما دون الكعب، وفي الإنسان، ما دون الركبة من مقدم الساق، ويطلق الكراع كذلك، على مستدق الساق من ذوات الظلف، وفي بغداد، يكنون عن النساء، بقولهم: أمهات كراع، وربما كان ذلك، لدقة ساق المرأة ورقته، وماء الكراع: الماء الذي يطبخ به الكراع، وهو طعام يستطيبه العرب قديماً وحديثاً، وقد روي عن النبي صلوات الله عليه، أنه قال: لو دعيت إلى كراع لأجبت، والكراع يؤكل في جميع البلاد العربية، ويسمى في مصر: كوارع، وفي الشام: مقادم، وفي لبنان: غمي، محرف: غنمة، بالإمالة، وأما في بغداد، فيسمى: باجه، بالباء والجيم الفارسيتين، والكلمة فارسية، بمعنى كراع الماشية المعجم الذهبي، والبغداديون يتأنقون في صنع الباجه، وهي عندهم تشتمل على الكراع، والرأس، واللسان، والكرش، وهم يقطعون الكرش قطعاً، ويحشون كل قطعة بمخلوط من الأرز واللحم واللوز والتوابل، ثم يخيطونها، ويسمونها: كيبايات، مفردها: كيبايه، وفي بغداد دكاكين عديدة، عمل أصحابها مقصور على صنع الباجه، ويسمى صاحبها: باجه جي، وجي، فارسية تفيد النسبة، ويقصد الناس هذه الدكاكين، ويأكلون الباجه في داخل الدكان، وقد استعد صاحبه لذلك، بمناضد، وصواني، وصحون، وكراسي، ومغاسل، ومناديل، والمتعارف أن يكون بجانب كل باجه جي، طرشجي، أي بائع الطرشي، والطرشي، هو الكبيس، أصل الكلمة فارسية، ترش بمعنى الحامض، أو ما فيه خل، وإذا طلب القاصد الباجه، أحضر له الطرشجي المجاور، كأساً من الطرشي، يشتمل على أنواع الكبيس، كالشلغم اللفت، والباذنجان، والخيار، وثوم العجم، وأنواع أخرى يطول ذكرها، وأهل الكرخ من بغداد، أكثر رغبة في الباجة، وإقبالاً عليها، وكان في الكرخ عدد كبير من الباججية، أشهرهم: ابن طوبان، وبجواره طرشجي، يعرف بحنانش، وكان الناس يقصدونهما من أطراف بغداد، وفي السنة 1929 - 1930، عندما كنت كاتباً في مجلس النواب العراقي، وكان المجلس في جانب الكرخ، في البناء الذي شاده مدحت باشا رحمه الله، على شاطىء دجلة، واتخذه مستشفى، كنت أنا وأصحابي من الكتاب، مولعين بباجة ابن طوبان، وطرشي حنانش، أما في أيامنا هذه فقد انتقل سوق الباجة، إلى جانب الرصافة، فاتخذ لها أصحابها دكاكين في منطقة الشيخ عمر، وضعفت شهرة ابن طوبان، وحنانش، وجميع باججية الكرخ.

كتاب ابن ثوابة باستيزار ابن الفرات
وحدثني أبو محمد القاسم بن هشام بن أبي قيراط، أن أباه حدثه، أنه سمع أبا الحسن بن الفرات..... فذكر نحو هذا الحديث، إلا أنه زاد: أن ابن الفرات لما خرج من هذه الشدائد الهائلة، إلى الوزارة الثانية، أمر أبا الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة، صحب ديوان الرسائل، أن يكتب عن المقتدر بالله، إلى أصاحب الأرطراف، برده إياه إلى الوزارة، فكتب إلى جميعهم كتاباً بنسخة واحدة، ما سمعوا في معناه أحسن منه، فأعطانيه أبي، وأمرني بحفظه، وتلاه علي القاسم، فحفظت منه فصلاً، وهو: لما لم يجد أمير المؤمنين بداً منه، ولم يكن بالملك غنى عنه، انتضاه أمير المؤمنين من غمده، فعاود ما عرف من حده، ودبر الأمور كأن لم يخل منها، وأمضاها كأن لم يزل عنها، إذ كان الحول القلب، المحنك المدرب، العالم بدرة المال كيف تحلب، ووجوهه من أين تطلب، وكان الكتاب على اختلاف طبقاتهم، وتباين مرتباتهم، يقفون عنده إذا استبقوا، وينتهون إليه إذا احتكموا، وكان هذا الاسم حقاً من حقوقه، استعير منه، ثم رد إليه.
خرج من حبس المقتدر ونصب مستشاراً لوزير ابن مقلة
حدثني علي بن هشام أبي قيراط الكاتب، من حفظه، وكتبت بإملائه، قال: تطاول الحبس بأبي الحسن علي بن عيسى في دار المقتدر، حتى أيس منه، فلما اجتمع أبو الهيجاء، ونازوك، والطبقة الذين تجمعوا وخلعوا المقتدر وأجلسوا القاهر، وحصلوا المقتدر في دار مؤنس، كسرت الحبوس، ونهب بعض دار المقتدر، فأفلت علي بن عيسى من الموضع الذي كان فيه محبوساً، فخر، فاستتر تلك الأيام الثلاثة التي كان فيها المقتدر محبوساً عند مؤنس، والقاهر متسم بالخلافة.

فلما جاءت الرجالة، بغير مراسلة من المقتدر لهم، ولا حيلة منه في أمر نفسه، وإنما كان بصنع طريف، وسوء تدبير نازوك في خطابهم بما كرهوا، فثاروا، وقتلوا أبا الهيجاء، ونازوك، وكبسوا دار مؤنس، وأخذوا المقتدر من يده، وأعادوه للخلافة، وردوا القاهر إلى دار ابن طاهر، وظهر ابن مقلة، وكان وزير المقتدر، وكان قد استتر.
قال: فحدثني أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري، وأبو عبد اله محمد بن إسماعيل زنجي الكاتب، وأبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروذباري، صاحب الفضل بن جعفر، قالوا: كنا في دار مؤنس، والناس يهنونه، وعلي ابن عيسى مستتر، فلم يشعر إلا وقد جاء علي بن عيسى بطيلسان، وأحفى المأسلة أن يرد إلى الحبس، خوفاً من عواقب الاستتار، وأن يولد عليه أكثر من الحبس.
فتلقاه مؤنس أحسن لقاء وأجمله، واستصوب رأيه في الظهور، وراسل المقتدر في الحال، فعاد الجواب من المقتدر، بأجمل قول وأحسنه، وأنه قد رد إلى علي بن عيسى الإشراف على ابن مقلة، والاجتماع معه على سائر أمور المملكة، وأمر أن يصل بوصوله، وأن لا ينفرد ابن مقلة بتدبير أمر دونه، وأفرد علي بن عيسى بالمظالم، من غير أن يكون لابن مقلة فيها نظر.
فقال له مؤنس: ليس يجوز مع هذا أن تلبس الطيلسان، وعليك أن تتلقى هذا الإنعام بالشكر.
فانصرف علي بن عيسى، وعاد عشياً وعليه دراعة، وجلس في دار مؤنس، منتظراً مجيء الوزير ابن مقلة، إلى أن جاء، فاجتمعا يتفاوضان في أمور الأموال والأعمال.
فقال له ابن مقلة: إن أبا بكر محمد بن علي المادرائي يطيعك، وهو من أكبر صنائعك، فاكتب إليه بحمل مال.
فقال علي بن عيسى: إن مصر مع الاضطراب الواقع، ستفور ناراً، لكثرة الجيش بها، وعظم مال صلة البيعة، والوجه أن يكتب الوزير أعزه الله.
فقال مؤنس لابن مقلة: افعل ما أشار به أبو الحسن.
فقال: رضي الله عنه يحسن أن أكتب في شيء من هذا، وهذا الشيخ حاضر.
فقال أبو الحسن: فأنا أكتب بخطي عنك، إلى محمد بن علي، فإنك أنت الوزير، وكلنا أعوانك وأتباعك، فسر بذلك ابن مقلة جداً، وصارت له عند الناس جميعاً منزلة.
ودعا علي بن عيسى بثلث قرطاس، وكتب فيه، في الحال، بغير نسخة، كتاباً نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، أعزك الله، وأطال بقاك، وأكرمك، وأتم نعمته عليك، وزاد في إحسانه إليك، قد عود الله أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - في تصاريف أحواله، ومعقبات أعماله، وعند الخطوب إذا ألمت، والحوادث إذا أظلت، أن لا يخليه من نظر يتيحه له، ونعم يجددها عنده، ومنح يضاعفها لديه، لما يعرفه من صفاء نيته، وخلوص طويته، وحسن سريرته، لسائر رعيته، عادة في الصلاح والإصلاح، هو - عز وجل - متممها، وموزع الشكر عليها، وكان جماعة من الأولياء، وجمهور الرجال والأصفياء، عدلوا عن طريق السلامة، وزالوا عن مذهب الاستقامة، وحادوا ما توالى عليهم من النعمة، ووصل إليهم من الإحسان في طول المدة، وحملهم الحين المتاح لأمثالهم، وما قرب الله من آجالهم، على الخروج عن مدينة السلام، بغير تدبير ولا نظام، والمطالبة بما لا يستحقون من الأرزاق، على سبيل السطوة والاقتدار، غير مفكرين في ذميم المذاهب، ووخيم العواقب، مترددين في بغيهم، متسكعين في جهلهم وغيهم، وأمير المؤمنين - أدام الله عزه - يعدهم بنظره الذي لا يخلفه، والعطاء الذي لا يؤخره، ويتوخاهم بالموعظة الحسنة، وينهاهم عن الأفعال القبيحة المنكرة، وهم يأبون ما يدعوهم إليه، ويسرفون في التحكم والبغي عليه، إلى أن أداهم الجهل والطغيان، والتمرد والعصيان، إلى إحضارهم دار المملكة من لقبوه بالخلافة يوماً واحداً، ثم صرف عنها، وأمير المؤمنين - أيده الله تعالى - يعمل فكره ورويته في حل نظامهم، وحسم مواد اجتماعهم، وتشتيت كلمتهم، وتفريق جماعتهم، حتى يتمكن منهم تمكناً يفت في أعضادهم، ويوهن من عنادهم، ثم يعفو عمن يرى العفو عنه، ويوقع القصاص على من يوجب الحق القصاص منه، فلم تكن إلا وقعة من الوقعات، وساعة من الساعات، حتى أخلف الله آمالهم، وأكذب أطماعهم وبدد شملهم، وخيب سعيهم، وأكبى زندهم، وانفضوا بعد أن استلحم من كان مضرماً للفتنة، وملهباً للنائرة، وعاد أمير المؤمنين - أيده الله - على الباقين بالصفح الشامل، والإنعام الكامل، وتغمد هفوتهم، وأقال عثرهم، وأحسن صلتهم، واستأنف أفضل الأحوال بهم، وعادت الأمور كما كانت، وتكشفت الخطوب وزالت، وخلصت النيات وصلحت، وهدأت الرعية وسكنت، وقد تكفل الله - عز وجل - بنصر أمير المؤمنين، وتشييد أركان عزه، والله يحق الحق، ويبطل الباطل، ولو كره المجرمون، فأجر أعمالك - أعزك الله - على أجمل ما تجريها عليه، وأحسن سيرتك فيها، مستعملاً فيها أجد الجد، وأبلغ الشتمير، حتى تسهل صعابها، وتدر أحلابها، وتجري على أحسن مجاريها، وأجمل تأتيها، واحذر أن ترخص لنفسك في تأخير الحمل، فتخرج إلى التأنيف والعذل، وبادر الجواب عن هاذ الكتاب، لأعرضه على أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - فإنه يتوكفه، ويراعيه، ويتشوفه، والدعاء له، وكتب يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة سبع عشرة وثلثمائة.

دار مؤنس

كانت دار مؤنس على شاطىء دجلة، مجاورة لدار الخلافة رسوم الدار الخلافة 136 وكان الجسر بحضرتها المنتظم 7 - 171 وكانت بسوق الثلاثاء المنتظم 6 - 206 والتكملة 110 وهو سوق البزازين معجم البلدان 3 - 193 ومن دار مؤنس اقتطعت المدرسة النظامية التكملة 148 وكانت في وسط سوق الثلاثاء ابن بطوطة 175 واقتطعت كذلك المدرسة المستنصرية، وكانت في آخر سوق الثلاثاء ابن بطوطة 175، ويبدو من هذه الدلالات أن دار مؤنس كانت واقعة على دجلة شمالي دار الخلافة، يفصلها عنها السوق الذي ينزل من دجلة من قهوة الشط ماراً بخان دلة والممتد إلى الشورجة، أما طرفها الثاني فقد كان مطلاً على الجرس، وقد كان في موضعه الذي هو فيه الآن، ولا يستغرب أن تكون دار مؤنس بهذه السعة، فقد كان القائد العام للجيش، وكانت سلطته تزيد على سلطة الخليفة، وكانت داره تشتمل على كتابه وعماله وحرسه وغلمانه مع دوابهم وما يقتضي إعداده لإيوائهم وإطعامهم، وأصبحت هذه الدار من بعد مقتل مؤنس، مقراً للحكام المتسلطين على بغداد، فنزلها ابن رائق لما أصبح أميراً للأمراء في السنة 324، ونزلها من بعده بجكم في السنة 326 التكملة 110 ونزلها من بعدهما أبو الحسين البريدي لما استولى على بغداد في السنة 330 في عهد المتقي التكملة 127 كما نزلها توزون لما نصب أميراً للأمراء في السنة 331 التكملة 134 وأقام بها من بعده سيف الدولة الحمداني في السنة 331 التكملة 134 وأقام بها كذلك معز الدولة البويهي لما استولى على بغداد في السنة 334 التكملة 148 إلى أن بنى داره بالشماسية فانتقل إليها في السنة 350 قبل أن يتم بناءها تجارب الأمم 2 - 183 والتكملة 179، وبعد أن تركها معز الدولة، أصبحت مقراً للأمراء من أولاده التكملة 214، إن المدرسة المستنصرية ما تزال ماثلة تحدد لنا الجانب الشمالي من دار مؤنس، أما المدرسة النظامية وسوقها الملاصق لها، فيبدو أنها كانت على قطعة الأرض المستطيلة المنتظمة التي يحدها من الشرق سوق الجوخجية باعة الجوخ ومن الغرب سوق المصبغة، ومن الشمال: سوق اليمنجية، وهم صناع الأحذية الحمراء الصرارة المسماة باليمنيات، مفردها: يمني، ومن الجنوب: السوق النازل من دجلة، من قهوة الشط، ماراً بخان دلة، والممتد إلى سوق العطارين، وعلى هذا فإن المدرسة النظامية التي كانت الأمثال تضرب بحسنها ابن بطوطة 175 لم يبق منها الآن إلا قطعة صغيرة من الأرض، بين الدكاكين، لعلها لا تزيد في المساحة على حجرة واحدة من حجراتها الماضية، اتخذت كتاباً للصبيان، كان فيه مؤدب يعلمهم الكتابة وقراءة القرآن اسمه الملا أحمد، لم أدركه، وأدركت ولده الملا إبراهيم، توفي، وخلفه أخوه الملا مسلم، ولما مات أغلق بابها، وظلت سنين مهجورة، ثم أقدم بعض البزازين من أصحاب الدكاكين المحيطة بهذه القطعة، ففتحوا بابها، ورموا شعثها، وفرشوها بالحصر والبواري، وجهزوها بالماء والنور، واتخذوها مصلى لأهل سوقهم.
أقول: ورد في البحث ذكر سوق اليمنجية: نسبة إلى اليمني، وهو حذاء أحمر صرار، ينسب إلى اليمن، معروف من القديم بهذا الاسم، وقد أدركت هذا السوق، وجميع دكاكينه عامرة ببائعي هذا الصنف من الأحذية، أما الآن فقد انقرض هذا الصنف، ولم يبق من بائعيه أحد، وحل محلهم في السواق الخياطون والسقطيون، ولمحمد بن دانيال الموصلي في وصف اليمني فوات الوفيات 2 - 384:
من اليمنيّات التي حرّ وجهها ... يفوق صقالاً صفحة الصارم الهندي
ومن عجبي أنّي إذا ما وطئتها ... تئنّ أنيناً دونه أنّة الوجد
ولم أر وجهاً قبلها كلّ ساعة ... على التراب ألقاها معفّرة الخدّ

من مكارم القاضي أحمد بن أبي دؤاد
سيد العرب أحمد بن أبي دؤاد
أخبرني محمد بن الحسن، قال: أخبرني أبو بكر الصولي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن خلاد، قال: رفع بعض العمال إلى المعتصم، وكان يلي الخراج بموضع يلي فيه خالد بن يزيد الحرب، أن خالد بن يزيد اقتطع الأموال واحتجن بعضها.
فغضب المعتصم، وحلف ليأخذن أموال خالد، ويعاقبه.
فلجأ خالد إلى أحمد بن أبي دؤاد القاضي، فاحتال حتى جمع بينه وبين خصمه، فلم تقم على خالد حجة.
فعرف ابن أبي دؤاد المعتصم ذلك، وشفع إليه في خالد، فلم يشفعه.

وأحضر خالداً، وأحضر آلات العقوبة، وقد كان قبل ذلك، قبض أمواله، وضياعه، وصرفه عن العمل.
وحضر ابن أبي دؤاد المجلس، فجلس دون الناس.
فقال له المعتصم: ارتفع إلى مكانك.
فقال: يا أمير المؤمنين، ما أستحق إلا دون هذا المجلس.
قال: وكيف ؟ قال: الناس يزعمون أن ليس محلي محل من شفع في رجل قرف بما لم يصح عليه فلم يشفع.
قال: ارتفع إلى موضعك.
قال: مشفعاً أو غير مشفع ؟ قال: مشفعاً، قد وهبت لك خالداً، ورضيت عنه.
قال: الناس لا يعلمون بهذا.
قال: وقد رددت عليه العمالة، والضياع، والأموال التي له.
قال: ويشرفه أمير المؤمنين بخلع تظهر للعامة.
فأمر أن تفك قيوده ويخلع عليه، ففعل به ذلك، ورد إلى حضرته.
فقال ابن أبي دؤاد: قد استحق هو وأصحابه رزق ستة أشهر، فإن رأى أمير المؤمنين، أن يجعلها صلة له.
قال: لتحمل معه.
فخرج خالد، والناس منتظرون الإيقاع به، فلما رأوه على تلك الحال، سروا، وصاح به رجل: الحمد لله على خلاصك يا سيد العرب.
فقال: مه، سيد العرب - والله - ابن أبي دؤاد، الذي طوقني هذه المكرمة التي لا تنفك من عنقي أبداً لا أنا.
وفي هذه القضية، يقول أبو تمام الطائي:
يا سائلي عن خالد وفعاله ... رد فاغترف علماً بغير رشاء
قد كان خطب عاثر فأقاله ... رأي الخليفة كوكب الخلفاء
فخرجت منه كالشّهاب ولم تزل ... مذ كنت خرّاجاً من الغمّاء
ما سرّني بخروجه من حجّة ... ما بين أندلس إلى صنعاء

إطلاق الكتاب من حبس الواثق
حدثني علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى، يتحدث، قال: سمعت عبيد الله بن سليمان بن وهب، يقول: حدثني أبي، قال: كنت وأبو العباس أحمد بن الخصيب، مع خلق من العمال والكتاب، معتقلين في يدي محمد بن عبد الملك الزيات، في آخر وزارته للواثق، تطالب ببقايا مصادراتنا، ونحن آيس ما كنا من الفرج، إذ اشتدت علة الواثق، وحجب ستة أيام عن الناس، فدخل عليه أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد القاضي.
فقال له الواثق: يا أبا عبد الله - وكان يكنيه - ذهبت مني الدنيا والآخرة.
قال: كلا يا أمير المؤمنين.
قال: بلى، أما الدنيا، فقد ذهبت مني بما ترى من حضور الموت وذهبت مني الآخرة، بما أسلفت من عمل القبيح، فهل عندك من دواء ؟.
قال: نعم يا أمير المؤمنين، قد غرك محمد بن عبد الملك الزيات في الكتاب والعمال، وملأ بهم الحبوس، ولم يحصل من جهتهم على كبير شيء، وهم عدد كثير، ووراءهم ألف يد ترفع إلى الله تعالى بالدعاء عليك، فتأمر بإطلاقهم، لترتفع تلك الأيدي بالدعاء لك، فلعل الله أن يهب لك العافية، وعلى كل حال، فأنت محتاج إلى أن تقل خصومك.
فقال: نعم ما أشرت به، وقع عني إليه بإطلاقهم.
فقال: إن رأى خطي، عاند ولج، ولكن يغتنم أمير المؤمنين الثواب، ويتساند، ويحمل على نفسه، ويوقع بخطه.
فوقع الواثق، بخط مضطرب إلى ابن الزيات بإطلاقهم، وإطلاق كل من في الحبوس، من غير استئمار ولا مراجعة.
فقال ابن أبي دؤاد: يتقدم أمير المؤمنين إلى إيتاخ أن يمضي بالتوقيع، ولا يدعه يعمل شيئاً، أو يطلقهم، وأن يحول بينه وبين الوصول إليك، أو كتب رقعة، أو اشتغاله بشيء البتة، إلا بعد إطلاقهم، وإن لقيه في الطريق أنزله عن دابته، وأجلسه على غاشيته في الطريق، حتى يفرغ من ذلك.
فتوجه إيتاخ، فلقي ابن الزيات راكباً يريد دار الخليفة.
فقال له: تنزل عن دابتك، وتجلس على غاشيتك.
فارتاع وظن أنه قد وقع به الحال، فنزل، وجلس على غاشيته، فأوصل إليه التوقيع، فامتنع، وقال: إذا أطلقت هؤلاء فمن أين أنفق الأموال، وأقيم الأنزال ؟ فقال له: لا بد من ذلك.
فقال: أركب إليه وأستأذنه.
فقال: ما إلى ذلك سبيل.
قال: فدعني أكاتبه.
قال: ولا هذا.
قال: فما تركه يبرح من موضعه، حتى وقع بإطلاق الناس.
فصار إيتاخ إلينا، ونحن في الحبس، آيس ما كنا من الفرج، وقد بلغنا شدة علة الواثق، وأن قد أرجف لابنه بالخلافة، وكان صبياً، فخفنا أن يتم ذلك، فيجعل ابن الزيات الصبي شبحاً، ويتولى التدبير فيتلفنا، وقد امتنعنا لفرط الغم من الأكل.

فلما دخل علينا إيتاخ، لم نشك أنه قد حضر لبلية، فأطلقنا، وعرفنا الصورة، فدعونا للخليفة، ولأحمد بن أبي دؤاد، وانصرفنا إلى منازلنا لحظة، ثم خرجنا فوقفنا لأبي عبد الله بن أبي دؤاد على الطريق، ننتظر عوده من دار الخليفة عشياً.
فحين رأيناه ترجلنا له، فقال: لا تفعلوا، وأكبر ذلك، ومنعنا من الترجل، فلم نمتنع، ودعونا له وشكرناه.
فوقف حتى ركبنا وسايرناه، وأخذ يخبرنا بالخبر، ونحن نشكره، وهو يستصغر ما فعل، ويقول: هذا أقل حقوقكم، وكان الذي لقيه أنا وأحمد بن الخصيب.
وقال لنا: ستعلمان ما أفعله مستأنفاً.
ثم رجع ابن أبي دؤاد إلى دار الخليفة عشياً، فقال له الواثق: قد تبركت برأيك يا أبا عبد الله، ووجدت خفة من العلة، ونشطت للأكل، فأكلت وزن خمسة دراهم خبزاً بصدر دراج.
فقال له أبو عبد الله: يا أمير المؤمنين، تلك الأيدي التي كانت تدعو عليك غدوة، صارت تدعو لك عشية، ويدعو لك بسببهم خلق كثير من رعيتك، إلا أنهم قد صاروا إلى دور خراب، وأحوال قبيحة، بلا فرش، ولا كسوة، ولا دواب، ولا ضياع، موتى جوعاً وهزالاً.
قال: فما ترى ؟ قال: في الخزائن والاصطبلات بقيا ما أخذ منهم، فلو أمرت أن ينظر في ذلك، فكل من وجد له شيء باق من هذا رد عليه، وأطلقت لهم ضياعهم، لعاشوا، وخف الألم، وتضاعف الدعاء، وقويت العافية.
قال: فوقع عني بذلك، فوقع عنه أحمد بن أبي دؤاد.
فما شعرنا من الغد، إلا وقد رجعت علينا نعمتنا، ومات الواثق بعد ثلاثة أيام.
وفرج الله عنا بابن أبي دؤاد، وبقيت له هذه المكرمة العظيمة في أعناقنا.
وقد ذكر محمد بن عبدوس، هذا الخبر، في كتاب الوزراء، عن محمد بن داود بن الجراح، عن عبيد الله بن سليمان، بما يقرب من هذه الالفاظ، والمعنى واحد، إلا أنه لم يذكر أنه كان معهم في الحبس أحمد بن الخصيب.

انقاذ أبي دلف من موت محقق
حدثني أبي رضي الله عنه، في المذاكرة، بإسناد لست أقوم عليه، لأني لم أكتبه في الحال، قال: كان ابتداء العداوة بين أبي عبد الله أحمد بن أبي دؤاد، وبين الإفشين، أن الإفشين كان أغرى المعتصم بأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، لعداوة كانت بينهما، فسلمه إليه المعتصم، فأجمع على قتله من يومه ذاك.
وبلغ الخبر أبا دلف، فارتحل إلى ابن أبي دؤاد، فاستجار به، وعرفه ما قد أشرف عليه.
فجاء ابن أبي دؤاد إلى المعصم ليسأله عن أمره، فوجده نائماً، فكره أن يقيمه وينبهه، وخاف أن يشرع الإفشين في قتل أبي دلف، فجاء إلى الإفشين فقال له: يقول لك أمير المؤمنين، بلغني أنك تريد أن تحدث على القاسم بن عيسى حادثة، ووالله لئن فعلت لأقتلنك، ولم يكن المعتصم أرسله، ولا قال له شيئاً.
فرهب الإفشين أن يقتل أبا دلف.
وعاد ابن أبي دؤاد إلى المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس الكذاب من أصلح بين الناس، فقال خيراً، ومنى خيراً، وقد أديت عنك رسالة أحييت بها أهل بيت من المسلمين، وكففت بها أسياف خلق من العرب، بلغني أن الإفشين عزم على قتل القاسم بن عيسى العجلي، فأديت إليه عنك رسالة هي كذا وكذا، فحقنت دم الرجل، ونعشت عياله، وكففت عنك عصيان عجل ومن يتبعها ممن يتعصب له فيتفق عليك من ذلك ما تغتم به، والرجل في يده مشف على القتل.
فقال له المعتصم: قد أحسنت.
ووجه الإفشين إلى ابن أبي دؤاد: لا تأتيني، ولا تقربني.
فقال للرسول: أتؤدي عني كما أديت إلي ؟ قال: قل.
قال: قل له: ما آتيك تعززاً من ذلة، ولا تكثراً من قلة، وإنما أنت رجل ساعدك زمان، ورفعك سلطان، فإن جئتك فله، وإن تأخرت عنك فلنفسك.
أخبرني القاضي أبو طالب محمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثنا محمد بن خلف، وكيع القاضي، قال: أخبرنا موسى بن جعفر، أخو لعس الكاتب، قال: كان أحمد بن أبي دؤاد حين ولي المعتصم الخلافة، عادى الإفشين وحرض عليه المعتصم، وذكر حديثاً طويلاً، ليس هذا موضعه.

ثم قال فيه: وكان سبب العداوة بين أحمد بن أبي دؤاد، وبين الإفشين، أن الإفشين أراد قتل أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي، فاستجار بابن أبي دؤاد، ثم ذكر نحواً مما ذكرته عن أبي رضي الله عنه، إلا أنه لم يقل في خبره أن ابن أبي دؤاد جاء إلى المعتصم فوجده نائماً، ثم عاد فوجده قد انتبه، وقال في آخر حديثه: وإنما أنت رجل رفعتك دولة، فإن جئت فلها، وإن قعدت فعنك.
وأخبرني أبو الفرج المعروف بالأصبهاني، قال: قال أحمد بن أبي طاهر: كان أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي، في جملة من كان مع الإفشين خيذر بن كاوس لما خرج لمحاربة بابك، ثم تنكر له، فوجه من جاءه به ليقتله.
وبلغ المعتصم الخبر، فبعث إليه بأحمد بن أبي دؤاد، وقال له: أدركه، وما أراك تدركه، واحتل في خلاصه منه كيف شئت.
قال أحمد: فمضيت ركضاً، حتى وافيته، فإذا أبو دلف واقف بين يديه، وقد أخذ بيده غلامان له تركيان، فرميت بنفسي على البساط، وكنت إذا جئته دعا لي بمصلى.
فقال: سبحان الله، ما حملك على هذا ؟ قلت: أنت أجلستني هذا المجلس، ثم كلمته في القاسم بن عيسى، وسألته فيه، وخضعت له، فجعل لا يزداد إلا غلظة.
فلما رأيت ذلك منه، قلت، هذا عبد، وقد أغرقت في الرقة معه فلم تنفع، وليس إلا أخذه بالرهبة.
فقمت، وقلت: كم تراك قدرت في نفسك تقتل أولياء أمير المؤمنين واحداً بعد واحد، وتخالف أمره في قائد بعد قائد ؟ قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين، فما تقول ؟ فقل، وذل، حتى لصق بالأرض، وبان لي الاضطراب فيه.
فلما رأيت ذلك، نهضت إلى أبي دلف، فأخذت بيده، وقلت: قد أخذته بأمر أمير المؤمنين.
فقال: لا تفعل، يا أبا عبد الله.
فقلت: قد فعلت، وأخرجت القاسم، وحملته على دابة، ووافيت المعتصم.
فلما بصر بي، قال: بك يا أبا عبد الله وريت زنادي، ثم سرد علي خبري مع الإفشين، حديثاً ما أخطأ فيه حرفاً.
ثم سألني: هل هو كما قال ؟ فأخبرته أنه لم يخطىء حرفاً واحداً.
وأخبرني أبو علي محمد بن الحسن بن المظفر، المعروف بالحاتمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني جدك المظفر بن الحسن، قال: حدثني أبو العباس ابن الفرات قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن ثوابة، قال: كان الإفشين نقم على أبي دلف العجلي، وهو مضموم إليه في حرب بابك، أشياء، فلما ظفر بابك، وقدم سر من رأى، شكاه إلى المعتصم، وسأله ليأمره به، ففعل، ثم سأله أن يطلق يده عليه، فلم يفعل، وكان أحمد بن أبي دؤاد متعصباً لأبي دلف، يقول للمعتصم: إن الإفشين ظالم له، وإنما نقم عليه نصيحته في محاربة بابك، وجده فيها، ودفعه ما كان الإفشين يذهب إليه من مطاولة الأيام، وإنفاق الأموال، وانبساط اليد في الأعمال، وتركه متابعته على ذلك.
فألح الإفشين على المعتصم بالله في إطلاق يده عليه، وكان للإفشين قدر جليل عند المعتصم، يدخل عليه بغير إذن.
قال أبو إسحاق، وأنبأنا أبو عبد الله بن أبي دؤاد، قال: دخلت على المعتصم يوماً، فقال: يا أبا عبد الله، لم يدعني اليوم أبو الحسن الإفشين حتى أطلقت يده على القاسم بن عيسى.
فقمت من بين يديه، وما أبصر شيئاً خوفاً على أبي دلف، ودخلني أمر عظيم، وخرجت فركبت دابتي، وسرت أشيد سير من الجوسق إلى دار الإفشين بقرب المطيرة، أؤمل أن أدرك أبا دلف قبل أن يحدث الإفشين عليه حادثة.
فلما وقفت ببابه، كرهت أن أستأذن فيعلم أني قد حضرت بسبب أبي دلف، فيعجل عليه، فدخلت على دابتي إلى الموضع الذي كنت أنزل فيه، وأوهمت حاجبه أني قد جئت برسالة المعتصم، ثم نزلت، فرفع الستر، فدخلت، فوجدت الإفشين في موضعه، وأبو دلف مقيد بالحديد بين يديه في نطع، وهو يقرعه، ويخاطبه بأشد غضب وأعظم مخاطبة.
فحين قربت منه أمسك، فسلمت، وأخذت مجلسي، ثم قلت للإفشين: قد عرفت حرمتي بأمير المؤمنين، وخدمتي إياه، وموضعي عنده، وموقعي من رأيه، وتفرده بالصنيعة عندي والإحسان، وعلمت مع ذلك ميلي إليك، ومحبتي لك، وقد رغبت إليك فيما يرغب فيه مثلي إلى مثلك، ممن رفع الله قدره، وأجل خطره، وأعلى همته.
فقال: كل ما قلت كما قلت، وكل ما أردت فهو مبذول لك، خلا هذا الجالس، فإني لا أشفعك فيه.

فقلت: ما جئتك إلا في أمره، ولا ألتمس منك غيره، ولولا شدة غضبك، وما تتوعده به من القتل، لكان في جميل عفوك ما يغني عن كلامك، ولكني لما عرفت غيظك، وما تنقمه عليه، احتجت - مع موقعه مني - إلى كلمة في أمره، واستيهاب عظيم جرمه، إذ كان مثلك في جلالتك إنما يسأل جلائل الأمور.
فقال: يا أبا عبد الله، هذا رجل طلب دمي، ولم تقنعه إزالة نعمتي، ولا سبيل إلى تشفيعك فيه، ولكن هذا بيت مالي، وهذه ضياعي، وكل ما أملك بين يديك، فخذ من ذلك كله ما أردت.
فقلت: بارك الله لك في أموالك وثمرك، لم آتك في هذا، وإنما أتيتك في مكرمة يبقى لك فضلها، وحسن أحدوثتها، وتعتقد بها منة في عنقي، ولا أزال مرتهناً في شكرها.
فقال: ما عندي في هذا شيء البتة.
فقلت له: القاسم بن عيسى فارس العرب وشريفها، فاستبقه، وأنعم عليه، فإن لم تره لهذا أهلاً، فهبه للعرب كلها، وأنت تعلم أن ملوك العجم لم تزل تفضل على ملوك العرب، ومن ذلك ما كان من كسرى إلى النعمان حتى ملكه، وأنت الآن بقية العجم وشريفها، والقاسم شريف العرب، فكن اليوم شريفاً من العجم أنعم على شريف من العرب، وعفا عنه.
فقال: ما عندي في هذا جواب إلا ما سمعت، وتنكر، وتبينت الشر في وجهه.
فقلت في نفسي: أنصرف، وأدع هذا يقتل أبا دلف ؟ لا والله، ولكن أمثل بين يديه قائماً، وأكلمه، فلعله أن يستحي، فقمت، وتوهمني أريد الانصراف، فتحفز لي.
فقلت: لست أريد الانصراف، وإنما مثلت بين يديك قائماً، صابراً، راغباً، ضارعاً، سائلاً، مستوهباً هذا الرجل منك.
فكان جوابه أغلظ.
فتحيرت، وقلت في نفسي: أنكب على رأسه، فأقبله. فدخلني من ذلك أنف شديد، وقلت في نفسي: أقبل راس هذا الأقلف ؟ لا يكون هذا أبداً.
ثم راجعتني الشفقة على أبي دلف، فقبلت رأسه، وضرعت إليه، فلم يجبني، فأخذني ما قدم وما حدث.
فجلست، وقلت له: يا أبا الحسن، قد طلبت منك، وضرعت إليك، ووضعت خدي لك، ومثلت بين يديك، وقبلت رأسك، فشفعني، واصرفني شاكراً، فهو أجمل بك.
فقال: لا والله، ما عندي غير الذي قلته لك.
فقلت له: أنا رسول أمير المؤمنين إليك، وهو يقول لك: لا تحدث في القاسم بن عيسى حدثاً، فإنك إن قتلته قتلت به.
قال: أمير المؤمنين يقول هذا بعد أن أطلق يدي عليه ؟ قلت: نعم، أنا رسوله إليك بما قلته لك، فإن كنت في الطاعة فاسمع وأطع، وإن كنت قد خلعت، فقل: لا طاعة، ونفضت في وجهه يدي، ونهضت.
فاضطرب حتى لم يقدر أن يدعو لي بدابتي.
وركبت، فأغذذت السير إلى المعتصم، لأخبره الخبر، وبما اضطررت إليه من تأدية رسالته، لأني علمت أنه لم يقل لي ما قله، إلا وهو يحب استبقاء أبي دلف.
فانتهيت إلى الجوسق في وقت حار، والحجاب جميعاً نيام، والدار خالية، فدخلت حتى انتهيت إلى ستر الدار التي فيها المعتصم، فجلست، وقلت: إن جاء الإفشين دخلت معه وتكلمت، وإن سأل الوصول، أخبرت أمير المؤمنين الخبر كله.
فبينا أنا كذلك، إذ خرج خادم من وراء الستر، فعرفته، ثم دخل وخرج فقال: ادخل.
فدخلت، وقلت: يا أمير المؤمنين، أما لي حرمة ؟ أما لي ذمام ؟ أما لي حق ؟ أما في فضل أمير المؤمنين علي، ونعمته عيدي، ما تجب رعايته ؟ فقال: ما لك يا أبا عبد الله ؟ ما قصتك ؟ اجلس، فجلست.
ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قلت لي اليوم في القاسم بن عيسى قولاً علمت معه أنك أردت استبقاءه وحقن دمه، فمضيت من فوري إلى أبي الحسن الإفشين، ثم قصصت عليه القصة إلى موضع الرسالة التي أديتها عنه إليه، وهو في كل ذلك يتغيظ، ويفتل سباله، حتى إذا أردت أن أعرفه الرسالة التي أديتها عنه، قطع، وقال: يمضي قاضي، وصنيعتي أحمد بن أبي دؤاد إلى خيذر، فيخضع له، ويقف بين يديه، ويقبل رأسه، فلا يشفعه ؟ قتلني الله إن لم أقتله، يكررها.
فما استوفى كلامه، حتى رفع الستر ودخل الإفشين، فلقيه بأكبر البر والإكرام، وأجلسه بقربه، وقال: في هذا الوقت الحار يا أبا الحسن ؟ فقال: يا أمير المؤمنين، رجل قد عرفت ما نالني منه، وأنه طلب دمي، وقد أطلقت يدي عليه، يجيئني هذا، ويقول لي إنك بعثت إلي تأمرني أن لا أحدث فيه حدثاً، وأني إن قتلته قتلت به.؟ قال: فغضب، وقال: أنا أرسلته إليك، فلا تحدث على القاسم بن عيسى حدثاً.

فنهض الإفشين مغضباً يدمدم، واتبعته لأتلافاه، فصاح بي المعتصم: ارجع يا أبا عبد الله، فرجعت، وقلت: يا أمير المؤمنين، إنه كان بقي شيء ما جرى مني قطعتني بكلامك عن ذكره لك.
قال: تعني الرسالة ؟ قلت: نعم.
قال: قد فهمتها، والقاسم يوافيك العشية، فاحذر أن تفوه بشيء مما جرى.
ومضى الإفشين، فأطلق القاسم، وخلع عليه، وحمله، فجاءني القاسم من العشية.
وما أخبرت بالحديث حتى قتل الإفشين ومات المعتصم.

الصريفيني الكاتب يعلم العمال حسن الصرف
حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى، وأبا الحسن الإيادي الكاتب، يقولان: إنهما سمعا عبيد الله بن سليمان، يقول: كنت بحضرة أبي، في ديوان الخراج بسر من رأى، وهو يتولاه - إذ ذاك - إذ دخل علينا أحمد بن خالد الصريفيني الكاتب، فقام له أبي قائماً في مجلسه، وأقعده في صدره، وتشاغل به، ولم ينظر في عمل حتى نهض، ثم قام معه، وأمر غلمانه بالخروج بين يديه.
فاستعظمت أنا، وكل من في الديوان ذلك، لأن رسم أصحاب الدواوين، صغارهم وكبارهم، أن لا يقوموا في الديوان لأحد من خلق الله عز وجل، ممن يدخل إليهم.
وتبين ذلك أبي في وجهي، فقال لي: يا بني، إذا خلونا، فسلني عن السبب فيما عملته مع هذا الرجل.
قال: وكان أبي يأكل في الديوان، وينام فيه، ويعمل عشياً.
فلما جلسنا نأكل، لم أذكره، إلى أن رأيت الطعام قد كاد ينقضي، فقال لي: يا بني شغلك الطعام عن إذكاري بما قلت لك أن تذكرني به ؟.
فقلت: لا، ولكن أردت أن يكون ذلك على خلوة.
فقال: يا بني، هذا وقت خلوة، ثم قال: أليس قد أنكرت، أنت والحاضرون، قيامي لأحمد بن خالد، في دخوله وخروجه، وما عاملته به ؟.
فقلت: بلى.
قال: كان هذا يتقلد مصر، فصرفته عنها، وقد كانت طالت مدته فيها، فتتبعته، فوطئت آثار رجل لم أجد أجمل منه آثاراً، ولا أعف عن أموال السلطان والرعية، ولا رأيت رعية لعامل أشكر من رعيته له.
وكان الحسين الخادم المعروف بعرق الموت صاحب البريد بمصر، من أصدق الناس له، وكان مع هذا من أبغض الناس، وأشدهم اضطراباً في أخلاقه، فلم أتعلق عليه بحجة.
ووجدته قد أخر رفع الحساب لسنة متقدمة ولسنته التي هو فيها، ولم يستتمها لصرفي له عنها، ولم ينفذه إلى الديوان، فسمته أن يحط من الدخل، وأن يزيد في النفقات والأرزاق، ويكسر من البقايا، في كل سنة مائة ألف دينار، لآخذها لنفسي، فامتنع من ذلك، فأغلظت له، وتوعدته ونزلت معه إلى مائة ألف واحدة للسنتين، وحلفت بأيمان مؤكدة، أني لا أقنع منه بأقل منها.
فأقام على امتناعه، وقال: أنا لا أخون لنفسي، فكيف أخون لغيري، وأزيل ما قام به جاهي من العفاف ؟ فقيدته وحبسته، فلم يجب، وأقام مقيداً في الحبس شهوراً.
وكتب عرق الموت، صاحب البريد، إلى المتوكل يضرب علي ويحلف أن أموال مصر لا تفي بنفقتي ومؤونتي، ويصف أحمد بن خالد، ويذكر ميل الرعية إليه، وعفته.
فبينا أنا ذات يوم على المائدة آكل، إذ وردت علي رقعة أحمد بن خالد، يسألني استدعاءه لمهم يلقيه إلي، فلم أشك أنه قد غرض بالقيد والحبس، وقد عزم على الاستجابة لمرادي.
فلما غسلت يدي دعوته، فاستخلاني، فأخليته، فقال: أما آن لك يا سيدي أن ترق لي مما أنا فيه، من غير ذنب أذنبته إليك، ولا جرم، ولا قديم ذحل، ولا عداوة.
فقلت: أنت اخترت لنفسك هذا، ولو أجبتني إلى ما قد سمعت يميني عليه، لتخلصت، فاستجب لما أريد منك.
فأخذ يستعطفني، فجاءني ضد ما قدرته فيه، وغاظني، فشتمته، وقلت: هذا الأمر المهم الذي ذكرت في رقعتك أنك تريد أن تلقيه إلي هو أن تستعطفني، وتسخر مني، وتخدعني.
فقال: يا سيدي، فليس عندك الآن غير هذا ؟ فقلت: لا.
فقال: إذا كان ليس غير هذا، فاقرأ يا سيدي هذا.
وأخرج إلي كتاباً لطيفاً مختوماً في ربع قرطاس، ففضضته، فإذا هو بخط المتوكل الذي أعرفه، إلي، بالانصراف، وتسليم ما أتولاه إلى أحمد بن خالد، والخروج إليه مما يلزمني، ورفع الحساب إليه، والامتثال لأمره.
فورد علي ذلك أقبح مورد، لقرب عهد الرجل بشتمي له، وأنه في الحال تحت مكارهي وحديدي، فأمسكت مبهوتاً.

ولم ألبث أن دخل أمير البلد في أصحابه وغلمانه، فوكل بداري، وجميع ما أملكه، وبأصحابي، وغلماني، وجهابذتي، وكتابي، وجعلت أزحف من الصدر، حتى صرت بين يدي أحمد بن خالد وهو في قيوده.
فدعا أمير البلد بحداد، ففك قيوده، فمددت رجلي، ليوضع فيهما القيد، فقال لي: يا أبا أيوب، ضم أقدامك ووثب قائماً، وقال لي: يا أبا أيوب: أنت قريب عهد بعمالة هذا البلد، ولا منزل لك فيه، ولا صديق، ومعك حرم وحاشية كبيرة، وليس تسعك إلا هذه الدار - وكانت دار العمالة - وأنا أجد عدة مواضع، وليس لي كبير حاشية، ومن نكبة خرجت، فأقم بمكانك.
وخرج، وصرف التوكيل عني، وعن الدار، وأخذ كتابي وأسبابي إليه.
فلما انصرف، قلت لغلماني: هذا الذي نراه في النوم، انظروا من وكل بنا ؟ فقالوا: ما وكل بنا أحد.
فعجبت من ذلك عجباً شديداً، وما صليت العصر حتى عاد إلي جميع من حمله معه من المتصرفين والكتاب والجهابذة، وقالوا: أخذ خطوطنا برفع الحساب، وأمرنا بالملازمة، وأطلقنا، فازداد عجبي.
فلما كان من الغد، باكرني مسلماً، ورحت إليه في عشية ذلك اليوم مسلماً عليه.
فأقمت على ذلك ثلاثين يوماً، يغدو إلي، وأروح إليه، وربما غدوت أنا، وراح هو، وهداياه وألطافه تأتيني في كل يوم من الفاكهة، والثلج، والحيوان، والحلوى.
فلما كان بعد ثلاثين يوماً، جاءني، فقال لي: قد عشقت مصر يا أبا أيوب، والله ما هي طيبة الهواء. ولا عذبة الماء، وإنما تطيب بالولاية والاكتساب، ولو دخلت إلى سر من رأى، لما أقمت إلا شهراً حتى تتقلد أجل الأعمال.
فقلت له: والله، ما أقمت إلا توقعاً لأمرك في الخروج.
فقال: أعطني خط كاتبك، بأن عليه القيام بالحساب، وأخرج في حفظ الله، فأحضرت كاتبي، وأخذ خطه كما أراد، وتسلمه، وقال: اخرج في أي وقت شئت.
فخرجت من غد، فخرج هو وأمير البلد وخاصته، ووجوه أهله، فشيعوني إلى ظاهر البلد، وقال لي: تقيم في أول منزل على خمسة فراسخ، إلى أن أزيح علة قائد يصحبك إلى الرملة، فإن الطريق فاسد.
فاستوحشت من ذلك، وقلت: هذا إنما غرني حتى أخرج كل ما أملكه، فيتمكن منه في ظاهر البلد، فيقبضه، ثم يردني إلى الحبس والتوكيل والمطالبة، ويحتج علي بكاتب يذكر أنه ورد عليه ثانياً.
فخرجت، وأقمت بالمرحلة التي أمر بها، مستسلماً، متوقعاً للشر، إلى أن رأيت أوائل عسكر مقبل من مصر.
فقلت: لعله القائد الذي يريد أن يصحبني، أو لعله الذي يريد أن يقبض علي به، فأمرت غلماني بمعرفة الخبر.
فقالوا: قد جاء أحمد بن خالد العامل بنفسه.
فلم أشك إلا أن البلاء قد ورد بوروده، فخرجت من مضربي، فلقيته وسلمت عليه، فلما جلس، قال: أخلونا، فلم أشك أنه للقبض علي، فطار عقلي، فقام من كان عندي، ولم يبق غيري وغيره.
فقال: أعلم أن أيامك لم تطل بمصر، ولا حظيت بكبير فائدة، وذلك الباب الذي سألتنيه في ولايتك فلم استجب إليه، إنما أخرت الإذن لك في الانصراف من أول الأمر إلى الآن، لأني تشاغلت بالفراغ لك منه، وقد حططت من الارتفاع، وزدت في النفقات، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار، تكون للسنتين ثلاثين ألف دينار، وهو يقرب ولا يظهر، ويكون أيسر مما أردته مني ذلك الوقت، وقد تشاغلت به حتى جمعته لك، وهذا المال على البغال قد جئتك به، فتقدم إلى من يتسلمه.
فتقدمت بقبضه، وقبلت يده، وقلت: والله، قد فعلت يا سيدي ما لم تفعله البرامكة، فأنكر ذلك، وتقبض منه، وقبل يدي.
وقال: ها هنا شيء آخر أريد أن تقبله.
فقلت: وما هو ؟ قال: خمسة آلاف دينار قد استحققتها من أرزاقي، فامتنعت من ذلك، وقلت: فيما تفضلت به كفاية.
ثم قال: وها هنا ألطاف من هدايا مصر، أحببت أن أصحبك إياها، فإنك تمضي إلى كتاب الدواوين ورؤساء الحضرة، فيقولون لك: وليت مصر، فأين نصيبنا من هداياها ؟ ولم تطل أيامك، فتعد لهم ذلك، وقد جمعت لك منه ما يشتمل عليه هذا الثبت.
وأخرج إلي درجاً فيه ثبت جامع لكل شيء في الدنيا حسن طريف، جليل القدر، من ثياب دبيقي، وقصب، وخدم، وبغال، ودواب، وحمير، وفرش، وطيب، وجوهر، حتى أقلام ومداد، ما يكون قيمته مالاً كثيراً.
فأمرت بتسلمه، وزدت في شكره.

فقال لي: يا سيدي، أنا مغرى بحب الفرش، وقد استعمل لي فرش بيت أرمني، وهو عشر مصليات بمخادها، ومساندها، ومساورها، ومطارحها، وبسطها، وهو مذهب، بطرز مذهبة، قد قام علي بخمسة آلاف دينار، على شدة احتياطي، وقد أهديته لك، فإن أهديته للوزير عبدك، وإن أهديته للخليفة ملكته به، وإن أبقيته لنفسك وتجملت به، كان أحب إلي.
قال: وحمله، فما رأيت مثله قط، ولا سمحت نفسي بإهدائه إلى أحد، ولا استعماله، وما ابتذلت منه شيئاً غير هذا الصدر ومسنده ومساوره، يوم إعذارك، أفتلومني على أن أقوم لهذا الرجل، يا بني ؟ فقلت: لا والله يا أبت، ولا على ما هو أكثر من القيام، لو كان مستطاعاً.
فكان أبي بعد ذلك، إذا صرف رجلاً، عامله بكل جميل، ويقول: علمنا أحمد بن خالد، حسن الصرف، أحسن الله جزاءه.

الخليفة المعتضد يتخبر على وزيره
حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن علي بن موسى الكاتب، الذي كان زوج ابنة أبي محمد المهلبي، وخليفته على الوزارة، وكان جده محدثاً، قال: حدثني شيوخ الكتاب: أن القاسم بن عبيد الله الوزير، لما انفرد بالوزارة بعد موت أبيه، كان يحب الشرب، واللعب، ويخاف أن يتصل ذلك بالمعتضد، فيستنقصه، وينسبه إلى الصبيانية، والتهوك في اللذات، والتشاغل عن الأعمال، وكان لا يشرب إلا في الأحايين، على أخفى وأستر ما يمكنه.
وأنه خلا يوماً مع جواريه، ولبس من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كثيرة، وشرب، ولعب، من نصف النهار إلى نصف الليل، ونام بقية ليلته، وبكر إلى المعتضد على رسمه للخدمة، فما أنكر شيئاً.
وبكر في اليوم الثاني، فحين وقعت عين المعتضد عليه، قال له: يا قاسم، ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك، وألبستنا معك من ثيابك المصبغات.
قال: فقبل الأرض، وورى عن الصدق، وأظهر الشكر على هذا البسط، وخرج وقد كاد أن يتلف غماً لوقوف المعتضد على هذا السر، وكيف رقى إليه، وأنه إذا لم يخف عليه هذا القدر من أمره، فكيف تخفى عليه مرافقه، فجاء إلى داره كئيباً.
وكان له في داره صاحب خبر جلد يرفع إليه الأمور، فأحضره، وعرفه ما جرى بينه وبين المعتضد، وقال له: ابحث لي عمن أخرج هذا الخبر، فإن فعلت، زدت في رزقك وأجزتك بكذا وكذا، وإن لم تخرجه، نفيتك إلى عمان، وحلف له على الأمرين.
فخرج صاحب الخبر من حضرته متحيراً كئيباً، لا يدري ما يعمل في يومه ذلك، مفكراً كيف يجتهد ويحتال، فما وقع له رأي يعمل عليه.
قال صاحب الخبر: فلما كان من الغد، بكرت إلى دار القاسم، زيادة بكور على ما جرى به رسمي، لفرط قلقي وسهري تلك الليلة، ومحبتي للبحث.
فجئت، ولم يفتح باب دار القاسم بعد، فجلست، فإذا برجل زمن يزحف، في ثياب المكدين، ومه مخلاة، كما تكون مع المكدين.
فلما جاء إلى الباب، جلس إلى أن فتح، فسابقني إلى الدخول، فولع به البوابون، وقالوا له: أي شيء خبرك يا فلان ؟، وصفعوه، ومازحوه، ومازحهم، وطايبهم، وشتموه، وشتمهم، وجلس في الدهليز.
فقال: الوزير يركب اليوم ؟ قالوا: نعم، الساعة يركب.
قال: وأي وقت نام البارحة ؟ قالوا: وقت كذا وكذا.
قالوا: وقت كذا وكذا.
فلما رأيته يسأل عن هذا، خمنت عليه أنه صاحب خبر، فأصغيت إليه، ولم أره أني حافل بأمره وهو يسأل، إلى أن لم يبق شيئاً يجوز أن يعمله البوابون، عمن وصل إلى الوزير، ومن لم يصل، ومتى خرجوا، إلا سألهم عنه، وحدثوه هم، أحاديث أخر، على سبيل الفضول.
ثم زحف فدخل إلى حيث أصحاب الستور، فأخذ معهم في مثل ذلك، وأخذوا معه في مثله.
ثم زحف فدخل إلى دار العامة.
فقلت لأصحاب الستور: من هذا ؟ فقالوا: رجل زمن فقير أبله طيب، يدخل الدار يتصدق ويتطايب، فيهب له الغلمان والمتصرفون.

فتبعته إلى أن دخل المطبخ، فسأل عما أكل الوزير، ومن كان معه على المائدة، وكل واحد يخبره بشيء، ثم خرج يزحف، حتى دخل حجرة الشراب، فلم يزل يبحث عن كل شيء، فيحدث به، ثم خرج إلى خزانة الكسوة، فكانت صورته كذلك، ثم جاء إلى مجلس الكتاب في الديوان، فتصدق، وأقبل يسمع ما يجري، ويسأل الصبي بعد الصبي، والحدث بعد الحدث، عن الشيء بعد الشيء، ويستخبر الخبر، في كل موضع من تلك المواضع، ويستقيه، ويخلط الجد بالمزح والتطايب بكلامه، والأخبار تنجز إليه، وتتساقط عليه، والقطع والزلات تجيئه، وهو يملأ المخلاة، فلما فرغ من هذا، أقبل راجعاً يريد الباب.
إلى هنا باتفاق الروايتين، ثم قال أحدهما في حديثه فلما بلغ الباب، قبضت عليه، وأدخلته بيتاً، وأقفلت عليه، وجلست على بابه، فلما خلا الوزير أعلمته به، فقال: أحضرني الرجل.
وقال الآخر: فلما بلغ الباب تبعته، فخرج حتى جاء إلى موضع من الخلد، فدخل إليه، فوقفت أنتظره، فإذا هو بعد ساعة، قد خرج شاباً بثياب حسان، ماشياً، بغير قلبة، فتبعته حتى جاء إلى دار بقرب دار الخادم الموكل بحفظ دار ابن طاهر، فدخلها.
فسألت عنها، فقالوا: هذه دار فلان الهاشمي، رجل متجمل.
فرصدته إلى وقت المغرب: فجاء خادم من دار ابن طاهر، فدق الباب، فكلمه من خوخة له، ففتح له ورمي إليه برقعة لطيفة، فأخذها الخادم وانصرف.
فجئت، فطلبت من الوزير غلماناً، فسلم إلي ما طلبت، فبكرت في السحر إلى الدار التي في الخلد، فإذا بالرجل قد جاء بزيه الذي دخل به داره بقرب دار ابن طاهر، فكبسته في الموضع، فإذا هو قد نزع تلك الثياب، ولبس ثياب المكدين التي رأيتها عليه أولاً.
فحملته، وغطيت وجهه، وكتمت أمره، حتى أدخلته دار القاسم، ودخلت إليه، فقصصت عليه الخبر.
اتفقت الآن الروايتان فلما فرغ القاسم من شغله، استدعاه، فقال له: اصدقني عن أمرك، أو لا ترى ضوء الدنيا، ولا تخرج من هذه الحجرة - والله - أبداً.
قال: وتؤمنني ؟ قال: أنت آمن، فنهض لا قلبة به.
فتحير القاسم، وقال له: خبرك ؟ فقال: أنا فلان الهاشمي، وأنا رجل متجمل، وأنا أتخبر عليك للمعتضد، منذ كذا وكذا، وأنزل في درب يعقوب، بقرب دار ابن طاهر، ويجري علي المعتضد في كل شهر خمسين ديناراً، فأخرج كل يوم من بيتي، بالزي الذي لا ينكره جيراني فأدخل داراً في الخلد، بيدي منها بيت بأجرة، فيظن أهلها أني منهم، ولا ينكرون تغيير الزي.
فأخرج من هناك بهذه الثياب، وأتزامن من الموضع وألبس لحية فوق لحيتي، مخالفة للون لحيتي، حتى إذا لقيني في الطريق - بالاتفاق - بعض من يعرفني، أنكرني.
فأمشي زحفاً من الخلد إلى دارك، فأعمل جميع ما حكاه صاحب خبرك، وأستقي أخبارك من غلمانك، وهم لا يعرفون غرضي فيخرجون إلي من الأسرار - بالاسترسال - ما لو بذل لهم فيه الأموال ما خرجوا به.
ثم أخرج فأجيء إلى موضعي من الخلد، فأغير ثيابي، وأعطي ذلك الذي اجتمع لي في المخلاة للمكدين، وألبس ثيابي التي يعرفني بها جيراني، وأعود إلى منزلي، فآكل، وأشرب، وألعب، بقية يومي.
فإذا كان المغرب جاءني خادم من خدم دار ابن طاهر، مندوب لهذا، فأرمي إليه من روزنة لي، رقعة فيها خبر ذلك اليوم، ولا أفتح له بابي.
فإذا كان بعد تسعة وعشرين يوماً، جاءني الخادم، فأنزل إليه، فأعطيه رقعة ذلك اليوم، ويعطيني جاري ذلك الشهر.
ولولا أني لم أر صاحب خبرك، ولا فطنت له، لما تم علي هذا، ولو كنت لحظته لحظة واحدة، ما خفي علي أنه صاحب خبر، ولكنت أرجع من الموضع الذي أراه فيه، فلا يعرف خبري، وبعد ذلك، فإنما تم علي هذا، لأن أجلي قد حضر، فالله، الله، في دمي.
فقال له: اصدقني عما رفعته إلى المعتضد عني، فحدثه بأشياء رفعها، منها خبر الثياب المصبغة.
قال: فحبسه القاسم أياماً، وأخفى أمره، وأنفذني إلى منزله، وقال: راع أمرهم، وأنظر ما يجري.
فمضيت إلى داره التي وصفها بدرب يعقوب، فجلست إلى المغرب، فجاء الخادم، فصاح به.
فقال له الجارية: ما رجع اليوم، وهذه لم تكن عادته قط، وقد - والله - أشفقنا أن يكون قد حدث عليه حادث لا نعرفه، وقامت قيامتنا، فانصرف الخادم، وانصرفت.
وعدت أيضاً المغرب من الغد، وجاء الخادم، فقالوا له: قد - والله - أيسنا منه، ولا نشك في أنه قد هلك، والمأتم قد أقيم عليه في منزل أبيه وعمومته.

فانصرف الخادم، وجئت إلى القاسم بالخبر.
فلما كان من الغد، ركب القاسم إلى المعتضد، فحين رآه استدناه، وساره، وقال له: يا قاسم، بحياتي، أطلق الهاشمي المتزامن، وأحسن إليه، وأنت آمن بعدها أن أنصب عليك صاحب خبر، ووالله لئن حدثت به حادثة، لا عرفت في دمه غيرك.
فقبل الأرض، وتلجلج، وانصرف، فعاد إلى منزله، وحمد الله إذ لم يعجل عليه بسوء، وأخبرنا الخبر، وجاء بالهاشمي، فخلع عليه، ووصله بمال له قدر، وصرفه.
وانقطعت أخباره عن المعتضد.

الوزير عبيد الله بن سليمان
حدثني أبو القاسم علي بن شهران، المتكلم، القاص، من أهالي عسكر مكرم، بها، قال: أخبرني أبو الحسين الخصيبي، ابن بنت ابنا لمدبر، ببغداد، قال: قال لي أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح: جلس عبيد الله بن سليمان، يوماً، للمظالم، في دار المعتضد، وهو وزير، فتقدم إليه عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، يتظلم من أحمد بن إسرائيل بسبب الضيعة المعروفة بتاصيت، فنظر في أمره، وقال له: أنت عمر بن محمد ؟ قال: نعم.
قال: وأين كنت ؟، فقص عليه أمره وخبره.
فقال له: أنت ابن سكران ؟ فقال: نعم.
قال: فلما كان عشية يومنا ذلك، خلا، وكنت أنا وابناه بين يديه، فتحدث، وقال: سبحان الله، ما أعجب ما كنت فيه اليوم، فلم نسأله عن ذلك إجلالاً له.
فقال: قال لي أبو أيوب رحمه الله إنه كان في أيام الواثق، في تلك الملازمة والبلاء والضرب ولبس الصوف والقيد، وإنه حمل إلى محمد ابن عبد الملك الزيات ليناظره ويرده إلى محبسه.
فوضع بين يديه على تلك الحال، فجعل يناظره، والحسن بن وهب، كاتبه حينئذ، فربما تكلم بالكلمة يرققه بها عليه، وربما أمسك، ومحمد دائب في الغلظة على أبي أيوب، والتشفي منه، إذ مر بعض الخدم بصبي يحمله، متزين، مخضوب وعليه لبوس مثله من أولاد الملوك.
فقال محمد للخادم: هاته، فقربه إليه، فقبله، وترشفه، وضمه إليه، وجعل يلاعبه، فحانت منه التفاتة إلى أبي أيوب، فإذا دمعته قد سبقته، وهو يمسحها بالجبة الصوف التي كانت عليه.
فقال له محمد: ما الذي أبكاك ؟ فقال: خير، أصلحك الله.
فقال: والله، لا تبرح، أو تخبرني بالأمر على حقيقته.
فلما رأى ذلك أبو علي الحسن بن وهب، قال له: أنا أصدقك، إنه لما رأى عمر، متعك الله به، وجعلنا جميعاً فداه، ذكر ابناً له في مثل سنه.
قال: وما اسمه ؟ قال: عبيد الله.
قال: وكانا ولدا في شهر واحد.
فالتفت إليه كالهازىء، فقال له: أتراه يقدر أن يكون ابنه هذا وزيراً.
قال الحسن: فلما أمر بحله إلى محبسه، التفت إلي، وقال: لولا أن هذا الأمر من أمور السلطان الذي لا سبيل إلى التقصير في مثله، لما سؤتك فيه، ولو أعانني على نفسه لخلصته.
فقال له الحسن: والله، ما رأيته منذ حبس، فإن رأيت أن تأمر بالعدول به إلى بعض المجالس، والإذن في القيام إليه، والخلوة به، لأشير عليه بامتثال أمرك.
فقال: افعل.
فقمت إلى أبي أيوب، وتعانقنا، وبكينا طويلاً.
فقال لي: قبل كل شيء، رأيت أعجب من بغيه علي، وقوله بالتطانز والهزء: أتراه يقدر أن ابنه هذا يكون وزيراً، فكيف يأمن أن يكون هذا ؟ والله إني لأرجو أن يبلغ الله ابن الوزارة، ويتقدم إليه عمر متظلماً.
فلما كان اليوم، تقدم إلي عمر متظلماً، وما كنت رأيته قبل ذلك، ولا عرفت له خبراً.
ووقع إلي هذا الخبر، من وجه آخر، فحدثني به أبو الحسن أحمد بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن الفتح المعروف بالمطوق، مناولةً، من كتابه: كتاب مناقب الوزراء، ومحاسن أخبارهم، قال: حدثني أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن عمر بن حفص الكاتب، عن أبيه، أبي القاسم عبد الله، أو عن أبي القاسم ميمون بن إبراهيم بن يزيد - الشك من المطوق - قال: كنا في مجلس أبي القاسم عبيد الله بن سليمان، وهو وزير، في يوم من أيام جلوسه للمظالم، فوقعت بيده قصة، فقرأها، وتوقف ساعة كالمفكر، ثم قال: عمر بن محمد بن عبد الملك، فأدخل إليه.
فقال: أنت عمر ؟ قال: نعم، أعز الله الوزير، أنا عمر بن محمد بن عبد الملك.
فتوقف أياض ساعة، ثم قام إلى خلوته، ولم يطل، وعاد إلى موضعه، فوقع له بجار، ونزل، وصلة، ولم يزل مفكراً، إلى أن تقوض الناس، وخلا المجلس ممن يحتشم.

فقال لنا: وقفتم على خبر هذا الرجل ؟ قلنا: وقفنا على ما كان من أمر الوزير ببره، ولم نقف على السبب.
فقال: أخبركم بحديثه، حدثني أبو أيوب رحمه الله، قال: كنت في يد محمد بن عبد الملك الزيات، يطالبني، وأنا منكوب، وكان يحضرني في كل يوم، بغير سبب، ولا مطالبة، إلا ليكيدني، وأنا في قيودي، وعلي جبة صوف، وكان أخي الحسن يكتب بين يديه، ولم يكن يتهيأ له شيء في أمري، إلا أنه كان إذا رآني مقبلاً استقبلني فإذا رجعت إلى موضعي، شيعني، إذ أقبل في يوم من الأيام خادم لمحمد، ومعه ابن له صغير، فوثب كل من في المجلس، إلى الصبي، يقبلونه، ويدعون له سواي، فإني كنت مشغولاً بنفسي، فلم أتحرك، وأخذ الصبي، وضمه إليه وقال لي: يا سليمان لم لم تفعل بهذا الصبي، ما فعله من في المجلس ؟ فقلت: شغلني ما أنا فيه.
فقال: لا، ولكنك لم تطق ذلك عداوة لأبيه وله، وكأني بك، وقد ذكرت عبيد الله، وأملت فيه الآمال، والله، لا رأيت شيئاً مما تؤمله فيه، وأسرف بعد ذلك في الإسماع، فعلمت أنه قد بغى، ووثقت بجميل عادة الله تعالى، وأنه سيبلغني ما آمله فيك عناداً لبغيه.
قال: ولم تمض إلا مدة يسيرة، حتى سخط المتوكل على محمد بن عبد الملك، وقلدني مناظرته، وإحصاء متاعه، فوافيت داره، فرأيت ذلك الخادم بعينه، ومعه ذلك الصبي يبكي.
فقلت: ما خبر هذا الصبي يبكي ؟.
فقيل: قد منع من كل ماله، وأدخل في الإحصاء.
فقلت: لا بأس عليه، وسلمت إليه جميع ما كان باسمه.
فينبغي، يا بني، إن تهيأت لك حال، ورأيت الصبي عمر بن محمد بن عبد الملك، أن تحسن إليه، وأن تقابل نعمة الله فيه وفيك، بما يجب لها.
فلما رأيته هذا الوقت، ذكرت ما قاله أبي، فامتثلت ما أشار به، وأنا أتقدم بعد الذي فعلت به، إلى أبي الحسين بتصريفه.
وكانت لعمر حركة قويت بها حاله عند أبي الحسين، إلى أن استخلفه في دار أبي النجم بدر، وبين يديه.
حدثني أبو الحسين علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، قال: حدثني أبو علي بن مقلة، قال: حدثني محمد بن سعيد الديناري.
قال أبو الحسين، وحدثني أبو عبد الله زنجي، قال: حدثني أبو العباس ابن الفرات، قال: وحدثني أبو عبد الله الباقطائي، قالوا كلهم: كنا بحضرة عبيد الله بن سليمان، أول وزارته للمعتضد، وقد حضر رجل رث الهيأة، بثياب غلاظ، فعرض عليه رقعة، وكان جالساً للمظالم، فقرأها قراءة متأمل لها، مفكراً، متعجباً، ثم قال: نعم، وكرامة - ثلاث مرات - أفعل ما قال أبي، لا ما قال أبوك، وكرر هذا القول ثلاث مرات.
ثم قال له: عد إلي وقت العصر، لأنظر في أمرك.
وقال لبدر العدامي حاجبه: إذا حضر، فأوصله إلي.
ثم قال: إذا خلونا، فذكروني خبر هذا، لأحدثكم بحديث عجيب، وأتم المجلس.
ثم قام، واستراح، ودعانا للطعام، فلما حضرنا، وأكلنا أكثر الأكل، قال: ما أراكم أذكرتموني حديث صاحب الرقعة ؟ فقلنا: أنسينا.
قال: حدثني أبي، قال: كنت في محبس محمد بن عبد الملك، في أيام الواثق، لما صادرني عن كتابة إيتاخ، على أربعمائة ألف دينار، وقد أديت منها مائتين ألف ونيفاً وأربعين ألفاً فأحضرني يوماً، وطالبني بالباقي، وجد بي، وأرهقني، ولم يرض مني إلى أن أجبت إلى أن أؤدي خمسين ألف دينار، قاطعة للمصادرة، على أن يطلق ضياعي.
قال: ونحن في ذلك، ولم يأخذ خطي بعد، إذ خرج إليه خادم من دار الحرم برقعة، فقرأها، ونهض، وكان بحضرته أخي أبو علي الحسن بن وهب، وهو غالب على أمره، إلا أنه يخافه أن يكلمه في أمري.
فلما قام الوزير، رمى إلي أخي برقعة لطيفة، فوقعت في حجري، فإذا فيها: جاءني الخبر الساعة من دارك، أن قد رزقت ابناً، خلقاً سوياً، وهو جسم بغير اسم، فما تحب أن يسمى ويكنى ؟ فقلت: عبيد الله، أبو القاسم.
فكتب بذلك في الحال إلى منزلي.
قال: وتداخلني سرور بذلك، وقوة نفس، وحدثت نفسي، بأنك تعيش، وتبلغ، وأنتفع بك.
قال: وعاد محمد إلى مجلسه، وأعاد خطابي، فلم أستجب له، إلى ما كنت أجبت إليه، وأخذت أدافع.
فقال لي: يا أبا أيوب، ما الذي ورد عليك بعدي ؟ أرى عينيك ووجهك، بخلاف ما فارقتك عليه منذ ساعة.
فقلت: ما ورد علي شيء.
فقال: والله، لئن لم تصدقني، لأفعلن بك، ولأصنعن.
فقلت: ما عندي ما أصدق عنه.

فأقبل على أخي، فقال له: أخبرني ما شأنه ؟ فخافه أخي فصدقه عن الصورة، فسكن.
ثم قال: أتعرف لأي شيء قمت أنا ؟.
قلت: لا.
قال: كوتبت بأن ولداً ذكراً سوياً قد ولد لي، فدخلت، ورأيته، وسميته باسم أبي، وكنيته بأبي مروان.
قال سليمان: فقمت إليه، فهنأته، وقبلت يديه، ورجليه، وقلت: أيها الوزير، هذا يوم مبارك، وقد رزقنا الله جميعاً، ولدين، فارحمني، وارع لي حق سالف خدمتي لك، واجعل ابني موسوماً بخدمة ابنك، يسلم معه في المكتب، يتعلم معه، وينشوان في دولتك، فيكون كاتباً له، فحملته الكزازة، والقسوة التي فيه، على أن قال: يا أبا أيوب، أعلي تجوز ولي تستفز وتخاتل ؟ قد حدثتك نفسك، أن ابنك هذا سيبلغ المبالغ، ويؤهل للوزارة، ورجوت فيّ نوائب الزمان، وقلت: أرجو أن يحتاج ابنه إلى ابني، حتى يطلب منه الإحسان والفضل، وأنا استحلفك بالله، وأحرج عليك، إن بلغ ابنك هذه المنزلة، إلا وصيته، إن جاءه ابني لشيء من هذا، أن لا يحسن إليه.
قال: فأعظمت هذا الخطاب، وتنصلت، واعتذرت، ووقع في قلبي، في الحال، أن هذا غاية البغي، وأن الله - سبحانه وتعالى - سيحوج ابنه إلى ابني، ويتحقق ما قاله، فما مضت مديدة، حتى فرج الله عني.
ثم قال لي: يا بني، إن رفعك الزمان، ووضع ابنه، حتى يحتاج إليك، فأحسن إليه.
قال: وضرب الدهر ضربه، فما عرفت لأبي مروان خبراً، حتى رأيته اليوم فكان ما شاهدتم، ثم أمر بطلب أبي مروان، فأحضر، فوهب له مالاً، وخلع عليه، وحمله، وقلده ديوان البريد والخرائط.
قال أبو الحسن: فما زال يتقلده منذ ذلك الوقت، إلى آخر وزارة ابن الفرات الثالثة، فإنه مات فيها، وقد تقلده ثلاثين سنة أو أكثر.
وكان يكتب عبيد الله، أول ما كاتبه، بعد تقليده الديوان، عبد الوزير وخادمه، عبد الملك بن محمد، فأراد عبيد الله أن يتكرم عليه، فقال له: أنت ابن وزير، وما أحب أن تتعبد لي، فاكتب اسمك فقط على الكتب.
فقال: لا تسمح نفسي بذلك، ولكن أكتب: عبد الملك بن محمد، عبد الوزير وخادمه.
فقال: افعل، فكتب ذلك، فصارت عاد له يكتب بها إلى جميع الوزراء من بعده، إلى أن مات في وزارة ابن الفرات الثالثة، فصار كالمترتب عليهم بما عامله به من ذلك عبيد الله، وغلب عليه أن عرف بأبي مروان الخرائطي، ونسي نسبه إلى ابن الزيات، إلا من كان يعرفه من الكتاب وغيرهم، أخبرني بذلك جماعة من الشيوخ.

أسد كالح وكبش ناطح وكلب نابح
وجدت في بعض الكتب، بغير أسانيد: أن عبيد الله بن زياد، لما بنى داره البيضاء بالبصرة، بعد قتل الحسين عليه السلام، صور على بابها رؤساً مقطعة، وصور في دهليزها، أسداً، وكبشاً، وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح.
فمر بالباب أعرابي، فرأى ذلك، فقال: أما إن صاحبها لا يسكنها إلا ليلة واحدة لا تتم.
فرفع الخبر إلى ابن زياد، فأمر بالأعرابي، فضرب، وحبس.
فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير، إلى قيس بن السكون، ووجوه أهل البصرة، في أخذ البيعة له، ودعا الناس إلى طاعته، فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب عليه من ليلتهم، فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم، فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد، فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين بني تميم بسببه، حتى أخرجوه، فألحقوه بالشام، وكسر الحبس، فخرج الأعرابي.
ولم يعد ابن زياد إلى داره، وقتل في وقعة الخازر.
عبيد الله بن زياد

عبيد الله بن زياد 28 - 67: والي العراقين لمعاوية بن أبي سفيان، ولولده يزيد من بعده، وكانت أمه مرجانة جارية ولدته على فراش زياد، ثم تركها لمولى له أعجمي، اسمه شيرويه الأسواري، فنشأ عبيد الله في بيت الأسواري، فشب يرتضخ لكنة فارسية البيان والتبيين 1 - 53 و 54 و 2 - 167 وكان الحسن البصري يسميه: الشاب المترف الفاسق، وقال فيه: ما رأينا شراً من ابن زياد أنساب الأشراف 5 - 83 و 86، وقال الأعمش فيه: كان مملوءاً شراً ونغلاً أنساب الأشراف 5 - 83، وكان شديد القسوة في معاملة الناس، يتلذذ بتعذيب ضحاياه بيده، جيء إليه بسيد من سادات العراق، فأدناه منه، ثم ضرب وجهه بقضيب كان في يده، حتى كسر أنفه، وشق حاجبيه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه مروج الذهب 2 - 44 وغضب على رجل، تمثل بآية من القرآن، فأمر أن يبنى عليه ركن من أركان قصره المحاسن والمساوىء 2 - 165، وكان يقتل النساء في مجلسه، ويتشفى بمشاهدتهن يعذبن، وتقطع أطرافهن بلاغات النساء 134 وأنساب الأشراف 5 - 89، فعاش مكروهاً عند أهل العراق الإمامة والسياسة 2 - 16 سطر 13، ومروج الذهب 2 - 43 مهيناً عند أهل الحجاز الأغاني 18 - 272 و 282، وشر ما صنع قتله الإمام الشهيد الحسين بن علي بن أبي طالب، في كربلاء، ولما مات يزيد بن معاوية، أغرى بعض البصريين أن يبايعوه، ثم جبن عن مواجهة الناس، فاستتر، ثم هرب إلى الشام، وعاد إلى العراق صحبة جيش، فحاربه إبراهيم بن مالك الأشتر، قائد جيش المختار بن أبي عبيد الثقفي، رأس المطالبين بثأر الحسين، فسقط قتيلاً في المعركة، فقال فيه الشاعر: معجم البلدان 2 - 903
إنّ الذي عاش ختّاراً بذمته ... ومات عبداً، قتيل اللّه بالزاب
أقول لما أتاني ثمّ مصرعه ... لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي
العبد للعبد لا أصل ولا ورق ... ألوت به ذات أظفار وأنياب
ما شقّ جيب ولا ناحتك نائحة ... ولا بكتك جياد عند أسلاب
إنّ المنايا إذا حاولن طاغية ... ولجن من دون أستار وأبواب
وكان عبيد الله بن زياد من الأكلة، كان يأكل جدياً، أو عناقاً يتخير له في كل يوم، فيأتي عليه، وأكر مرة عشر بطات وزبيلاً من عنب، ثم عاد فأكل عشر بطات، وزبيلاً من عنب، وجدياً أنساب الأشراف 5 - 86 وكان يأكل بعد الشبع أربع جرادق أصبهانية، وجبنةً، ورطلاً عسلاً معجم الأدباء 6 - 95، قال عبيد الله، لقيس بن عباد: ما تقول فيّ، وفي الحسين ؟ قال: اعفني، عافاك الله، قال: لا بد أن تقول، قال: يجيء أبوه يوم القيامة، فيشفع له، ويجيء أبوك، فيشفع لك، فقال عبيد الله: قد علمت غشك، وخبثك، لأضعن يوماً أكثرك شعراً بالأرض العقد الفريد 2 - 175، راجع ترجمة عبيد الله المفصلة في أنساب الأشراف 3 - 77 - 123، وراجع كذلك صبح الأغشى 1 - 414 و 425 و 455 والأغاني 18 - 204، 277، 286، 287 ومعجم الأدباء 2 - 903 ورسائل الجاحظ ص 18.
القرمطي يبعث رسولاً إلى المعتضد
حدثني القاضي أبو الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، قال: سمعت العباس بن عمرو الغنوي، يقول: لما أسرني أبو سعيد الجنابي القرمطي، وكسر العسكر الذي كان أنفذه المعتضد معي لقتاله، وحصلت في يده أسيراً، أيست من الحياة.
فإني يوماً على تلك الصورة، إذ جاءني رسوله، فأخذ قيودي، وغير ثيابي، وأدخلني إليه، فسلمت، وجلست.
فقال لي: أتدري لم استدعيتك ؟ قلت: لا.
قال: أنت رجل عربي، ومن المحال أن أستودعك أمانة فتخفرها، ولا سيما مع مني عليك بنفسك.
فقلت: هو ذاك.
فقال: إني فكرت، فإذا لا طائل في قتلك، وأنا في نفسي رسالة إلى المعتضد، لا يجوز أن يؤديها غيرك، فرأيت إطلاقك، وتحميلك إياها، فإن حلفت لي أنك تؤديها، سيرتك إليه.
فحلفت له.

فقال: تقول له: يا هذا لم تخرق هيبتك، وتقتل رجالك، وتطمع أعداءك في نفسك، وتتعبها في طلبي، وإنفاذ الجيوش إلي، وإنما أنا رجل مقيم في فلاة، لا زرع فيها ولا ضرع، ولا غلة، ولا بلد، وقد رضيت لنفسي بخشونة العيش، والأمن على المهجة، والعز بأطراف الرماح، وما اغتصبتك بلداً كان في يدك، ولا أزلت سلطانك عن عمل جليل، ومع هذا، فوالله لو أنفذت إلي جيشك كله، ما جاز أن تظفر بي، ولا تنالني، لأني رجل نشأت في هذا القشف، واعتدته أنا ورجالي، ولا مشقة علينا فيه، ونحن في أوطاننا مستريحون، وأنت تنفذ جيشك من الخيول والثلج، والريحان والند، فيجيئون من المسافة البعيدة، والطريق الشاسع، وقد قتله السفر قبل قتالنا، وإنما غرضهم أن يبلوا عذراً في مواقفتنا ساعة، ثم يهربون، وإن ثبتوا فإن ما يلحقهم من وعثاء السفر وشدة الجهد، أكبر أعواننا عليهم، فما هو إلا أن أحقق عليهم حتى ينهزمون، وإن استراحوا، فأقاموا، وكانوا عدداً لا قبل لنا به، فيهزمونا، لا يقدر جيشك على أكثر من هذا، فأنهزم عنهم مقدار عشرين فرسخاً، وأجول في الصحراء شهراً، ثم أكبسهم على غرة، فأقتلهم، وإن لم يستو لي هذا، وكانوا متحرزين، فما يمكنهم الطواف خلفي في البراري والصحاري، ثم لا يحملهم البلد في المقام، ولا الزاد، إن كانوا كثيرين، فإن انصرف الجمهور منهم، وبقي الأقل، فهم قتلى سيوفي، في أول يوم ينصرف الجيش، ويبقى من يتخلف، هذا إن سلموا من وباء هذا البلد، ورداءة مائه وهوائه الذي لا طاقة لهم به، لأنهم نشأوا في ضده، وربوا في غيره، ولا عادة لأجسامهم بالصبر عليه، ففكر في هذا، وانظر، هل يفي تعبك، وتغريك بجيشك وعسكرك، وإنفاقك الأموال، وتجهيزك الرجال، وتكلفك هذه الأخطار، وتحملك هذه المشاق، بطلبي، وأنا مع هذا خالي الذرع منها، سليم النفس والأصحاب من جميعها، وهيبتك تنخرق في الأطراف عند ملوكها، كلما جرى عليك من هذا شيء، ثم لا تظفر من بلدي بطائل، ولا تصل منه إلى مال ولا حال، فإن اخترت بعد هذا محاربتي، فاستخر الله عز وجل وأنفذ من شئت، وإن أمسكت، فذاك إليك.
قال: ثم جهزني، وأنفذني مع عشرة من أصحابه إلى الكوفة، فسرت منها إلى الحضرة.
ودخلت على المعتضد، فتعجب من سلامتي، وقال: ما خبرك ؟ فقلت: شيء أذكره سراً لأمير المؤمنين.
فتشوف إليه، وخلا بي، فقصصت عليه القصة بأسرها، فرأيته يتمعط في جلده غيظاً، حتى ظننت أنه سيسير إليه بنفسه.
وخرجت من بين يديه، فما رأيته ذكره بعد ذلك بحرف.

كفى بالأجل حارسا
ً
حدثني أبو محمد يحيى بن محمد بن سليمان بن فهد الأزدي الموصلي، قال: حدثني بعض المواصلة، من ثقات أهل الموصل: أن فاطمة بنت أحمد بن علي الهزارمردي الكردي، زوجة ناصر الدولة، أم أبي تغلب ابنه، اتهمت عاملاً كان لها، يقال له ابن أبي قبيصة، من أهل الموصل، بخيانة في مالها، فقبضت عليه، وحبسته في قلعتها.
ثم رأت أن تقتله، فكتبت إلى المتوكل بالقلعة، بقتله، فورد عليه الكتاب، وكان لا يحسن أن يقرأ ولا أن يكتب، وليس عنده من يقرأ ويكتب، إلا ابن أبي قبيصة، فدفع الموكل به الكتاب إليه وقال له: اقرأه علي.
فلما رأى فيه الأمر بقتله. قرأ الكتاب بأسره، إلا حديث القتل، ورد الكتاب عليه.
قال ابن أبي قبيصة: ففكرت، وقلت أنا مقتول، ولا آمن أن يرد كتاب آخر في هذا المعنى، ويتفق حضور من يقرأ ويكتب غيري فينفذ فيّ الأمر، وسبيلي أن أحتال بحيلة، فإن تمت سلمت، وإن لم تتم، فليس يلحقني أكثر من القتل الذي أنا حاصل فيه.
قال: فتأملت القلعة، فإذا فيها موضع يمكنني أن أطرح نفسي منه إلى أسفلها، إلا أن بينه وبين الأرض أكثر من ثلاثة آلاف ذراع، وفيه صخر لا يجوز أن يسلم معه من يقع عليه.
قال: فلم أجسر، ثم ولد لي الفكر أن تأملت الثلج قد سقط عدة ليال، وقد غطى تلك الصخور، وصار فوقها منه أمر عظيم، يجوز إن سقطت عليه وكان في أجلي تأخير، أن تنكسر يدي أو رجلي وأسلم.

قال: وكنت مقيداً، فقمت لما نام الناس، وطرحت نفسي من الموضع، قائماً على رجلي، فحين حصلت في الهواء، ندمت وأقبلت أستغفر الله، وأتشهد، وأغمضت عيني حتى لا أرى كيف أموت، وجمعت رجلي بعض الجمع لأني كنت سمعت قديماً أن من اتفق له أن يسقط قائماً من مكان عال، إذا جمع رجليه، ثم أرسلهما إذا بقي بينه وبين الأرض ذراع أو أكثر قليلاً، فإنه يسلم، وتنكسر حدة السقطة، ويصير كأنه بمنزلة من سقط من ذراعين.
قال: ففعلت ذلك، فلما سقطت إلى الأرض، ذهب عني أمري، وزال عقلي، ثم ثاب إلي عقلي، فلم أجد ما كان ينبغي أن يلحقني من ألم السقطة من ذلك المكان، فأقبلت أجس أعضائي شيئاً فشيئاً، فأجدها سالمة، وقمت وقعدت، وحركت يدي ورجلي، فوجدت ذلك سليماً كله، فحمدت الله تعالى على هذه الحال.
وأخذت صخرة، وكان الحديد الذي في رجلي قد صار كالزجاج لشدة البرد، قال: فضربته ضرباً شديداً، فانكسر، وطن الجبل حتى ظننت أن سيسمعه من في القلعة لعظمه، فيتنبهون على صوته، فسلم الله عز وجل من هذا أيضاً، وقطعت تكتي، فشددت بعضها القيد على ساقي، وقمت أمشي في الثلج.
فمشيت طويلاً، ثم خفت أن يرى أثري من غد في الثلج على المحجة، فيطلبوني، ويتبعوني، فلا أفوتهم، فعدلت عن المحجة، إلى نهر يقال له: الخابور، فلما صرت على شاطئه، نزلت في الماء إلى ركبتي، وأقبلت أمشي كذلك فرسخاً، حتى انقطع أثري، وخفي مكان رجلي، ثم خرجت لما كادت أطرافي تسقط من البرد، فمشيت على شاطئه، ثم عدت أمشي فيه، وربما حصلت في موضع لا أقدر على المشي فيه، لأنه يكون جرفاً، فأسبح.
فأمشي على ذلك أربع فراسخ، حتى حصلت في خيم فيها قوم، فأنكروني، وهموا بي، فإذا هم أكراد، فقصصت عليهم قصتي، واستجرت بهم، فرحموني وغطوني، وأوقدوا بين يدي ناراً، وأطعموني، وستروني، وانتهى الطلب من غد إليهم، فما أعطوا خبري أحداً.
الطلب، سيروني، فدخلت الموصل مستتراً.
الدولة ببغداد - إذ ذاك - فانحدرت إليه، فأخبرته بخبري كله، فعصمني من زوجته، وأحسن إلي، وصرفني.

يرتجع من مال مصادرته مائة ألف دينار
حدثني أبو علي بن أبي عبد الله الحسين بن عبد الله المعروف بابن الجصاص الجوهري، قال: سمعت أبي يحدث، قال: لما نكبني المقتدر، وأخذ مني تلك الأموال العظيمة، أصبحت يوماً في الحبس آيس ما كنت من الفرج.
فأتاني خادم، فقال: البشري.
فقلت: ما الخبر ؟ قال: قم، فقد أطلقت.
فقمت معه، فاجتاز بي في بعض الطرق في دار الخلافة، يريد إخراجي إلى دار السيدة، لتكون هي التي تطلقني، لأنها هي التي شفعت فيّ، فوقعت عيني في جوازي على أعدال خيش لي أعرفها، وكان مبلغها مائة عدل.
فقلت للخادم: أليس هذا من الخيش الذي حمل من داري ؟ قال: بلى.
فتأملته، فإذا هو بشده وعلاماته، وكانت هذه الأعدال قد حملت إلي من مصر، وفي كل عدل منها ألف دينار، من مال كان لي بمصر، كتبت بحمله، فخافوا عليه من الطريق، فجعلوه في أعدال الخيش، لأنها مما لا يكاد يحمله اللصوص، لو وقعوا عليه، فلا يفطنون لما فيه، فوصلت سالمة، ولاستغنائي عن المال، لم أخرجه من الأعدال، وتركته بحاله في بيت من داري، واقفلت عليه، وتوخيت أيضاً بذلك ستر حديثه، فتركته شهوراً على حاله لأنقله في وقت آخر كما أريد.
وكبست، فأخذ الخيش في جملة ما أخذ من داري، ولخسته عندهم تهاونوا به، ولم يعرف أحد ما فيه، فطرح في تلك الدار.
فلما رأيته بشده، طمعت في خلاصه، والحيلة في ارتجاعه فسكت.
فلما كان بعد أيام من خروجي، راسلت السيدة، ورققتها، وشكوت حالي إليها، وسألتها أن تدفع إلي ذلك الخيش، لأنه لا قدر له عندهم، وأنا أنتفع بثمنه.
قال: فاستحمقتني، وقالت: أي شيء قدر الخيش ؟ ردوه عليه، فسلم إلي بأسره.
ففتحته، وأخذت منه المائة ألف دينار، ما ضاع لي منها دينار واحد، وأخذت من الخيش ما أحتاج إليه، وبعت باقيه بجملة وافرة.
فقلت في نفسي: قد بقيت لي بقية إقبال جيدة.
قد ينتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغيرحدثني علي بن هشام، قال: سمعت حامد بن العباس، يقول: ربما انتفع الإنسان في نكبته بالرجل الصغير، أكثر من منفعته بالكبير، فمن ذلك: أن إسماعيل بن بلبل، لما حبسني، جعلني في يد بواب كان يخدمه قديماً.

قال: وكان رجلاً حراً، فأحسنت إليه، وبررته، وكنت أعتمد على عناية أبي العباس بن الفرات بي، وكان ذلك البواب، لقديم خدمته لإسماعيل، يدخل إلى مجالسه الخاصة، ويقف بين يديه، ولا ينكر عليه ذلك، لسالف خدمته.
فصار إلي في بعض الليالي، فقال: قد حرد الوزير على ابن الفرات بسببك، وقال له: ما يكسر المال على حامد غيرك، ولا بد من الجد في مطالبته بباقي مصادرته، وسيدعوك الوزير في غد إلى حضرته ويهددك.
فشغل ذلك قلبي، فقلت له: هل عندك من رأي ؟ قال: نعم، تكتب رقعة إلى رجل من معامليك تعرف شحه وضيق نفسه، تلتمس منه لعيالك ألف درهم، يقرضك إياها، وتلتمس منه أن يجيبك على ظهر رقعتك، لترجع إليك، فإنه لشحه، يردك بعذر، وتحتفظ بالرقعة، فإذا طالبك الوزير أخرجتها له على غير موطأة، وقلت له: قد أفضت حالي إلى هذا، فلعل ذلك ينفعك.
قال: ففعلت ما قاله، وجاءني الجواب بالرد كما خمنا، فشددت الرقعة معي. فلما كان من الغد، أخرجني الوزير، وطالبني، فأخرجت الرقعة، وأقرأته إياها، ورققته، وتكلمت بما أمكن، فاستحيا، وكان ذلك سبب خفة أمري، وزوال محنتي.
فلما تقلدت في أيام عبيد الله بن سليمان ما تقلدت، سألت عن البواب، فاجتذبته إلى خدمتي، وكنت أجري عليه خمسين ديناراً في كل شهر، وهو باق إلى الآن.

أبو العتاهية يحبس لامتناعه عن قول الشعر
أخبرني أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، قال: حدثني عمي الحسن ابن محمد، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني محمد ابن أبي العتاهية، قال حدثني أبي، قال: لما امتنعت من قول الشعر، وتركته، أمر المهدي بحبسي في سجن الجرائم، فأخرجت من بين يديه إلى الحبس.
فلما أدخلته دهشت، وذهل عقلي، ورأيت منظراً هالني.
فرميت بطرفي أطلب موضعاً آوي فيه، أو رجلاً آنس بمجالسته، فإذا أنا بكهل حسن السمت نظيف الثوب، تبين عليه سيماء الخير، فقصدته، فجلست إليه من غير أن أسلم عليه، أو أسأله عن شيء من أمره، لما أنا فيه من الجزع والحيرة.
فمكثت كذلك ملياً، وأنا مطرق مفكر في حالي، فأنشد الرجل:
تعوّدت مسّ الضرّ حتى ألفته ... وأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيّرني يأسي من النّاس واثقاً ... بحسن صنيع اللّه من حيث لا أدري
قال: فاستحسنت البيتين، وتبركت بهما، وثاب إلي عقلي، فأقبلت على الرجل، فقلت له: تفضل، أعزك الله، بإعادة هذين البيتين.
فقال لي: ويحك يا إسماعيل - ولم يكنني - ما أسوأ أدبك، وأقل عقلك ومروءتك، دخلت، فلم تسلم علي تسليم المسلم على المسلم، ولا توجعت لي توجع المبتلى للمبتلى، ولا سألتني مسألة الوارد على المقيم، حتى إذا سمعت مني بيتين من الشعر الذي لم يجعل الله فيك فضلاً ولا أدباً، ولا جعل لك معاشاً غيره، لم تتذكر ما سلف منك فتتلافاه، ولا اعتذرت مما قدمته، وفرطت فيه من الحق، حتى استنشدتني مبتدئاً، كأن بيننا أنساً قديماً، أو معرفة سالفة، أو صحبة تبسط المنقبض.
فقلت له: تعذرني متفضلاً، فإن دون ما أنا فيه ما يدهش.
فقال: وفي أي شيء أنت ؟ أنت إنما تركت قول الشعر الذي كان به قوام جاهك عندهم، وسببك إليهم، فحبسوك حتى تقوله، وأنت لا بد أن تقوله، فتطلق، وأنا يدعى بي الساعة، فأطالب بإحضار عيسى بن زيد، وهو ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن دللت عليه، لقيت الله عز وجل بدمه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، خصمي فيه، وإن لم أفعل، قتلت، فأنا أولى بالدهش والحيرة منك، وأنت ترى احتسابي وصبري.
فقلت: يكفيك الله عز وجل، وأطرقت خجلاً منه.
فقال لي: لا أجمع عليك التوبيخ والمنع، اسمع البيتين واحفظهما، فأعادهما علي مراراً حتى حفظتهما.
ثم دعي به وبي، فلما قمنا، قلت له: من أنت أعزك الله ؟ قال: أنا حاضر، صاحب عيسى بن زيد.
فأدخلنا على المهدي، فلما وقفنا بين يديه، قال له: أين عيسى بن زيد ؟ قال: ما يدريني أين عيسى بن زيد، طلبته، وأخفته، فهرب منك في البلاد، وأخذتني، فحبستني، فمن أين أقف على موضع هارب منك وأنا محبوس ؟ قال له: فأين كان متوارياً، ومتى آخر عهدك به، وعند من لقيته ؟ قال: ما لقيته منذ توارى، ولا أعرف عنه خبراً.
قال: والله، لتدلني عليه، أو لأضربن عنقك الساعة.

فقال: اصنع ما بدا لك، أنا أدلك على ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتقتله، وألقى الله عز وجل، ورسوله، وهما مطالبنا لي بدمه ؟، والله لو كان بين جلدي، وثوبي، ما كشفت عنه.
فقال: اضربوا عنقه.
فقدم، فضربت عنقه من ساعته.
ثم دعاني، فقال: أتقول الشعر، أو ألحقك به ؟ فقلت: بل أقول الشعر.
قال: أطلقوه.
قال محمد بن القاسم بن مهرويه: والبيتان اللذان سمعهما أبو العتاهية، من حاضر، هما في شعره الآن.
قال القاضي أبو علي: وأنشدني بعض أصحابنا، بيتاً آخر، زيادة:
إذا أنا لم أقنع من الدّهر بالّذي ... تكرّهت منه طال عتبي على الدّهر
ووجد على مسطرة علي بن أحمد، رحمه الله تعالى، بيت رابع لهذا، وهو:
ووسّع صدري للأذى كثرة الأذى ... وقد كنت أحياناً يضيق به صدري

الفيض بن أبي صالح ومروءته
وجدت في كتاب أعطانيه أبو الحسين عبد العزيز بن إبراهيم، ابن حاجب النعمان، وهو يومئذ كاتب الوزير المهلبي، على ديوان السواد، وذكر أنه نسخه من كتاب أعطاه إياه أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، وكان فيه إصلاحات بخط أبي الحسين بن ما بنداد: قال أبو الحسن علي بن الحسين ابن عبد الأعلى الإسكافي: كان داود، كاتب أم جعفر، قد حبس وكيلاً لها، وجب لها عليه في حسابه مائتا ألف درهم، فكتب الرجل إلى عيسى بن فلان، وإلى سهل بن الصباح، وكانا صديقين له، يسألهما الركوب إلى داود في أمره، فركبا إليه.
فلقيها الفيض بن أبي صالح، فسألهما عن خبرهما، فأخبراه، فقال لهما: أتحبان أن أكون معكما.
قالا: نعم.
فصاروا إلى داود، فكلموه في إطلاق الرجل، فقال: أكتب إلى أم جعفر، فكتب إليها، يعلمها خبر القوم وحضورهم، ومسألتهم إطلاق الوكيل.
فوقعت في الرقعة أن يعرفهم ما وجب لها عليه من المال، ويعلمهم أنه لا سبيل إلى إطلاقه دون أداء المال.
قال: فأقرأهم التوقيع، فقال عيسى وسهل بن الصباح: قد قضينا حق الرجل، وقد أبت أم جعفر أن تطلقه إلا بالمال، فقوموا ننصرف.
فقال لهما الفيض بن أبي صالح: كأنا إنما جئنا لنؤكد حبس الرجل.
قالا له: فماذا نصنع ؟ قال: نؤدي المال عنه.
قال: ثم أخذ الدواة، فكتب إلى وكيله في حمل المال عن الرجل كتاباً دفعه إلى داود كاتب أم جعفر، وقال: قد أزحنا علتك في المال، فادفع إلينا صاحبنا.
قال: لا سبيل إلى ذلك، حتى أعرفها الخبر.
قال: فكتب إليها بالخبر، فوقعت في رقعته: أنا أولى بهذه المكرمة من الفيض بن أبي صالح، فاردد عليه كتابه بالمال، وادفع إليه الرجل، وقل له لا يعاود مثل ما كان منه.
قال: ولم يكن الفيض يعرف الرجل، وإنما ساعد عيسى وسهلاً على الكلام في أمره.
كيف تخلص أعشى همدان من أسر الديلمأخبرني أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، قال: أخبرني الحسن ابن علي، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، عن محمد بن معاوية الأسدي، عن ابن كناسة.
وحدثني مسعود بن بشر، عن أبي عبيدة، والأصمعي.
ووافق روايتهم الهيثم بن عدي، عن حماد الراوية، قال: كان أعشى همدان، أبو المصبح، ممن أغزاه الحجاج بلد الديلم، ونواحي دستبى، فأسر، فلم يزل أسيراً في أيدي الديلم مدة.
ثم إن بنتاً للعلج الذي كان أسره، رأته، فهويته، فصارت إليه ليلاً، وأمكنته من نفسها، فأصبح، وقد واقعها ثماني مرات.
فقالت له الديلمية: يا معشر المسلمين، هكذا تفعلون بنسائكم ؟ فقال لها: هكذا نفعل كلنا بنسائنا.
فقال له: بهذا العمل نصرتم، أفرأيت إن خلصتك، أن تصطفيني لنفسك ؟ فقال لها: نعم، وعاهدها.
فلما كان الليل، حلت قيوده، وأخذت به طريقاً تعرفه، حتى خلصته.
فقال شاعر من أسراء المسلمين:
ومن كان يفديه من الأسر ماله ... فهمدان تفديها الغداة أيورها
وقال الأعشى، يذكر ما لحقه من أسر الديلم له:
لمن الظعائن سيرهنّ تزحّف ... عوم السفين إذا تقاعس مجذف
وذكر أبو الفرج الأصبهاني القصيدة، وهي طويلة، اخترت منها ما تعلق بالفرج بعد الشدة، وهو قوله:
أصبحت رهناً للعداة مكبّلاً ... أمسي وأصبح في الأداهم أرسف
ولقد أراني قبل ذلك ناعماً ... جذلان آبى أن أضام وآنف

واستنكرت ساقي الوثاق وساعدي ... وأنا امرؤ بادي الأشاجع أعجف
وأصابني قوم وكنت أصيبهم ... فالآن أصبر للزمان وأعرف
وإذا تصبك من الحوادث نكبة ... فاصبر لها فلعلّها تتكشّف
ويروى: فكل مصيبة ستكشف.

يحتال للخلاص من حبس نجاح بن سلمة
وذكر ابن عبدوس في أخبار الوزراء: أن نجاح بن سلمة، حبس إبراهيم بن المدبر مكايدة لأخيه، وذلك في أيام المتوكل.
فلما طال حبس إبراهيم، ولم يجد حيلة في الخلاص، عمل أبياتاً، وأنفذها إلى المسدود الطنبوري، وسأله أن يعمل فيه لحناً، ويغني بها المتوكل، فإذا سأل عن قائلها، عرفه أنها له.
ففعل المسدود ذلك، وسأله المتوكل، فقال: لعبدك إبراهيم بن المدبر، فذكره، وأمر بإطلاقه.
والأبيات هي:
بأبي من بات عندي ... طارقاً من غير وعد
بات يشكو ألم الشو ... ق وأشكو فرط وجدي
وتجنّى فبكى فان ... هلّ درٌّ فوق ورد
فيدٌ تحت يدٍ طو ... راً وخدٌّ فوق خدّ
يهب أحد أتباعه خمسة آلاف ألف درهموذكر أيضاً أن إسحاق بن سعد، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن عيسى المروروذي صاحب يحيى بن خاقان، عنه، قال: كان المأمون ألزمني خمسة آلاف ألف درهم، فأعلمته أني لا أملك إلا سبعمائة ألف درهم، وحلفت له على ذلك، بأيمان مغلظة، اجتهدت فيها، فلم يقبل مني، وحبسني عند أحمد بن هشام، وكان بيني وبينه شر قد اشتهر وعرف، وكان يتقلد الحرس.
فقال أحمد للموكلين بي: احفظوه، واحذروا أن يسم نفسه.
ففطن المأمون لمراده، فقال: لا يأكل يحيى بن خاقان، ولا يشرب إلا ما يؤتى به من منزله.
قال: فأقمت على ذلك مدة، فوجه إلي الحسن بن سهل بألف ألف درهم، ووجه إلي فرج الرخجي بألف ألف درهم، ووجه إلي حميد الطوسي بألف ألف درهم، وأضفت ذلك إلى ما كان عندي، واضطربت حتى جمعت خمسة آلاف ألف درهم.
فلما اجتمعت، كتبت إلى المأمون بحضور المال الذي ألزمني إياه، فأمر بإحضاري، فدخلت إليه وبين يديه أحمد بن أبي خالد، وعمرو بن مسعدة، وعلي بن هشام.
فلما رآني، قال لي: أولم تخبرني وتحلف لي أنك لا تملك إلا سبعمائة ألف درهم، فمن أين لك هذا المال ؟ فصدقته عن أمره، وقصصت القصة عليه.
فأطرق طويلاً، ثم قال لي: قد وهبته لك.
فقال له الحضور: أتهب له خمسة آلاف ألف، وليس في بيت المال درهم واحد، وأنت محتاج إلى ما دون ذلك بكثير ؟ فلو أخذته منه قرضاً، فإذا جاءك مال رددته عليه.
فقال لهم: أنا على المال أقدر من يحيى، وقد وهبته له.
فرددت إلى القوم ما كانوا حملوه، وتخلصت.
يتنازل لأحد أتباعه عن عشرة آلاف ألف درهمقال محمد بن عبدوس في كتابه أخبار الوزراء: ذكر الفضل بن مروان، أن محمد بن يزداد سعى إلى المأمون بعمرو بن بهنوى.
فقال له المأمون: يا فضل، خذ عمراً إليك، وقيده، وضيق عليه، ليصدق عما صار إليه من مال الفيء، فقد اختان مالاً عظيماً، وطالبه به.
فقلت: نعم، وأمرت بإحضار عمرو، فأحضر، فأخليت له حجرة في داري، وأقمت له ما يصلحه، وتشاغلت عنه بأمور السلطان، في يومي وفي الغد.
فلما كان في اليوم الثالث، أرسل إلي عمرو يسألني الدخول عليه، فدخلت، فأخرج إلي رقعة، قد أثبت فيها كل ما يملكه من الدور، والضياع، والعقار، والأموال، والفرش، والكسوة، والجوهر، والقماش، والكراع، وما يجوز بيعه من الرقيق، وكان قيمة ذلك عشرون ألف ألف درهم، وسألني أن أوصل رقعته إلى المأمون، وأعلمه أن عمراً قد جعله من ذلك كله في حل وسعة.
فقلت له: مهلاً، فإن أمير المؤمنين أكبر قدراً من أن يسلبك مالك كله، ونعمتك عن آخرها.
فقال عمرو: إنه لكما وصفت، في كرمه، ولكن الساعي لا ينام عني ولا عنك، وقد بلغني ما أمرت به في أمري من الغلظة، وما عاملتني بضد ذلك، وقد طبت نفساً بأن أشتري عدل أمير المؤمنين في أمري، ورضاه عني، بجميع مالي.
فلم أزل أنزله، حتى وافقته على عشرة آلاف ألف درهم، وقلت له: هذا شطر مالك، وهو صالح للفريقين، وأخذت خطه بالتزام ذلك صلحاً عن جميع ما جرى على يده.
وصرت إلى المأمون فوجدت محمد بن يزداد وقد سبقني إليه وهو يكلمه، فلما رآني قطع الكلام وخرج.
فقال لي المأمون: يا فضل.

قلت: لبيك يا أمير المؤمنين.
قال: ما هذه الجرأة منك علينا ؟.
قلت: يا أمير المؤمنين، أنا عبد طاعتك وغرسك.
فقال: أمرتك بالتضييق على النبطي عمرو بن بهنوى، فقابلت أمري بالضد، ووسعت عليه، وأقمت له الأنزال.
فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن عمراً يطالب بأموال عظيمة، ولم آمن أن أجعل محبسه في بعض الدواوين فيبذل مالاً يرغب في مثله، فيتخلص، فجعلت محبسه في داري، وأشرفت على طعامه وشرابه، لأحرس لك نفسه، فإن كثيراً من الناس خانوا السلطان، وتمتعوا بالأموال، ثم طولبوا بها، فاحتيل عليهم أن يتلفوا، ويفوز بالأموال غيرهم.
قال الفضل: وإنما أردت بذلك تسكين غضب المأمون علي، ولم أعرض الرقعة عليه، ولا أعلمته ما جرى بيني وبين عمرو، لأني لم آمن سورته في ذلك الوقت، لاشتداد غضبه.
فقال لي: سلم عمراً إلى محمد بن يزداد، قال: فوجهت من ساعتي، من سلم عمراً إلى محمد بن يزداد، فلم يزل يعذبه بأنواع العذاب، ليبذل له شيئاً، فلم يفعل.
فلما رأى أصحابه وعماله، ما قد ناله، جمعوا له بينهم ثلاثة آلاف ألف درهم، وسألوا عمراً أن يبذلها لمحمد بن يزداد، فبذلها، فصار محمد إلى المأمون متبجحاً بها، فأوصل الخط بها إلى المأمون، وأنا واقف.
فقال المأمون: يا فضل، ألم أعلمك، أن غيرك أقوم بأمورنا منك، وأطوع لما نأمره به ؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أرجو أن أكون في حال استبطاء أمير المؤمنين أعزه الله، أبلغ في طاعته من غيري.
فقال المأمون: هذه رقعة عمرو بن بهنوى بثلاثة آلاف ألف درهم.
فقلت، وما اجترأت عليه قط، جرأتي عليه في ذلك اليوم، فإني خرجت إلى إضبارة كانت مع غلامي، فأخذت الرقعة منها مسرعاً، وقلت: والله، لأعلمن أمير المؤمنين، أني مع رفقي، أبلغ في حياطة أمواله من غيري مع غلظته، وأريته رقعة عمرو التي كان كتبها لي، وحدثته بحديثه عن آخره.
فلما تبين المأمون الخطين، وعلم أنهما جميعاً خط عمرو، قال: ما أدري أيكما أكرم، عمرو حين شكر برك، وطاب نفساً بالخروج عن ملكه بهذا السبب، أم أنت، ومحافظتك على أهل النعم، وسترك عليه في ذلك الوقت، والله، لا كنتما يا نبطيان، أكرم مني.
ودفع الرقعة التي أخذها محمد بن يزداد من عمرو إلي، وأمرني بتخريقها، وتخريق الأولة، وأنفذ من سلم عمراً من محبسه إلي، وأمرني بإطلاقه.
فخرجت من بين يديه، وفعلت ذلك من وقتي.

أبو عمر القاضي يشيب في ليلة واحدة
حدث أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن الحارث بن عياش الخرزي البغدادي، وكان خليفة أبي رحمه الله على القضاء بسوق الأهواز، المشهور الذي كان صاهر أبا عمر القاضي، قال: حدثني القاضي أبو عمر رحمه الله، قال: لما جرى في أمر ابن المعتز ما جرى، حبست وما في لحيتي طاقة بيضاء، وحبس معي أبو المثنى القاضي ومحمد بن داود الجراح في دار واحدة، في ثلاثة أبيات متلاصقة، وكان بيتي في الوسط.
وكنا آيسين من الحياة، فكنت، إذا جننا الليل، حدثت أبا المثنى تارة، ومحمد بن داود تارة، وحدثاني من وراء الأبواب، ويوصي كل منا إلى صاحبه، ونحن نتوقع القتل ساعة بساعة.
فلما كان ذات ليلة، وقد غلقت الأبواب، ونام الموكلون بنا، ونحن نتحدث في بيوتنا، إذ حسسنا بصوت الأقفال تفتح، فارتعنا، ورجع كل واحد منا إلى صدر بيته.
فما شعرنا إلا وقد فتح الباب عن محمد بن داود، فأخرج، وأضجع ليذبح، فقال: يا قوم، ذبحاً كما تذبح الشاة، أين المصادرات، أين أنتم عن أموالي أفتدي بها نفسي ؟ علي كذا وكذا.
قال: فما التفتوا إلى كلامه، وذبحوه، وأنا أراه من شق الباب، وقد أضاء الصحن، وصار كأنه نهار من كثرة الشموع، واحتزوا رأسه، وأخرجوه معهم، وجروا جثته، فطرحت في بئر الدار، وغلقت الأبواب، وانصرفوا.
قال: فأيقنت بالقتل، وأقبلت على الصلاة، والدعاء، والبكاء.
فما مضت إلا ساعات يسيرة، حتى سمعت أصوات الأقفال تفتح، فعاودني الجزع، وإذا هم قد جاؤوا إلى بيت أبي المثنى القاضي، ففتحوه، وأخرجوه، وقالوا له: يقول لك أمير المؤمنين، يا عدو الله، يا فاسق، بم استحللت نكث بيعتي، وخلع طاعتي ؟ فقال: لأني علمت، أنه لا يصلح للإمامة.
فقالوا له: إن أمير المؤمنين، قد أمرنا باستتابتك من هذا الكفر، فإن تبت رددناك إلى محبسك، وإلا قتلناك.
فقال: أعوذ بالله من الكفر، ما أتيت ما يوجب الكفر.

قال: وأخذ يتهوس معهم بهذا الكلام وشبهه، ولا يرجع عنه.
فلما أيسوا منه، مضى بعضهم وعاد، فظننت أنه يستثبت في الاستئذان، قال: ثم أضجعوه، فذبحوه، وأنا أراه، وحملوا رأسه، وطرحوا جثته في البئر.
قال: فذهب علي أمري، وأقبلت على البكاء، والدعاء، والتضرع إلى الله جل وعز.
فلما كان وجه السحر، وقد سمعت صوت الدبادب، وإذا صوت الأقفال، فقلت: لم يبق غيري، وأنا مقتول، فاستسلمت، وفتحوا الأبواب عني، وأقاموني إلى الصحن، وقالوا: يقول لك أمير المؤمنين، يا فاعل، يا صانع، ما حملك على نكث بيعتي ؟.
فقلت: الخطأ، وشقوة الجد، وأنا تائب إلى الله عز وجل من هذا الذنب.
قال: وأقبلت أتكلم بهذا وشبهه، فمضى بعضهم، وعاد فقال: أجب، ثم أسر إلي، فقال: لا بأس عليك، فقد تكلم فيك الوزير - يعنون ابن الفرات - وأنت مسلم إليه، فسكنت قليلاً، وجاؤوني بخفي، وطيلساني، وعمامتي، فلبست ذلك، وأخرجت، فجيء بي إلى الدار التي كانت برسم ابن الفرات في دار الخليفة، فلما رآني، يخاطبني بعظم جنايتي وخطأي، وأنا أقر بذلك، وأستقيل، وأتنصل.
ثم قال لي: قد وهب لي أمير المؤمنين ذنبك، وابتعت منه جرمك بمائة ألف دينار، ألزمتك إياها.
فقلت: أيها الوزير، ما رأيت بعضها قط مجتمعاً.
فغمزني بأن أسكت، وجذبني قوم من وجوه الكتاب، كانوا ورائي، فسكتوني، فعلمت أن الوزير ابن الفرات، أراد تخليصي، وحقن دمي.
فقلت: علي كل ما يأمر الوزير أعزه الله.
فقال: احملوه إلى داري.
قال: فأخذت، وحملت إلى داره، فقرر أمري على مائة ألف دينار، على أن أؤدي منها النصف عاجلاً، ويصبر النصف في حكم الباطل على رسم المصادرات.
فلما صرت في دار ابن الفرات، وسع علي في المطعم، والمشرب، والملبس، وأدخلت الحمام، ورفهت، وأكرمت.
فرأيت، لما خرجت من الحمام، وجهي في المرآة، فإذا طاقات شعر قد ابيضت في مقدم لحيتي، فإذا أنا قد شبت في تلك الليلة الواحدة.
قال: وأديت من المال نيفاً وثلاثين ألف دينار، ثم نظر لي ابن الفرات بالباقي وصرفني إلى منزلي، وتخلص دمي.
وأقمت في بيتي سنين، وبابي مسدود، لا أرى أحداً، إلا في الشاذ، وتوفرت على دراسة الفقه، والنظر في العلم، إلى أن من الله بالفرج، فكشف ما بي، وأخرجت من بيتي إلى ولاية الأعمال.
قضى ليلته معلقاً في بادهنج
ويشبه هذا الحديث، ويقاربه، وإن لم يكن في الحقيقة من باب من خرج من حبس، إلا أنه من أخبار الفرج في الجملة، ما حدثني به أبو علي الحسن بن محمد بن علي بن موسى الأنباري الكاتب، صهر أبي محمد المهلبي الوزير، قال: سمعت دلويه، كاتب صافي الحرمي، يتحدث، قال: كان في دار المقتدر بالله، عريف على بعض الفراشين، يخدمني وصافياً إذا أقمنا في دار الخليفة، ففقدته في الدار، وظننته عليلاً، فلما كان بعد شهور، رأيته في بعض الطرق، بزي التجار، وقد شاب.
فقلت: فلان ؟ قال: نعم، عبدك يا سيدي.
فقلت: ما هذا الشيب في هذه الشهور اليسيرة، وما هذا الزي ؟ وأين كنت ؟ فلجلج.
فقلت لغلماني: احملوه إلى داري، وقلت: حدثني حديثك.
فقال: على أن لي الأمان والكتمان.
فقلت: نعم.
فقال: كان الرسم الذي تعرفه على كل عريف في الدار من الفراشين، أن يدخل يوماً من الأيام، هو ومن معه في عرافته، إلى دور الحرم، لرش الخيول التي فيها.
فبلغت النوبة إلي، في يوم كنت فيه مخموراً، فدخلت، ومعي رجالي، إلى دار فلانة - وذكر حظية جليلة من حظايا المقتدر بالله - لرش الخيش.
فلعظم ما كنت فيه من الخمار، ما رششت قربتي، ولم أخرج بخروج الرجال، وقلت لهم: امضوا، فهاتوا قربكم لإتمام الرش، فإذ رششتموها فأنبهوني، فإني نائم هنا.
ودخلت خلف الخيش، إلى باب بادهنج تخرج منه ريح طيبة، فنمت، وغلب علي النوم، إلى أن جاء الفراشون، وفرغوا من رش الخيش، وخرجوا، ولم ينبهوني.
وتمادى بي النوم، فما انتبهت إلا بحركة في الخيش، فقمت، فإذا أنا قد أمسيت، وإذا صوت نساء في الخيش، فعلمت أني مقتول إن أحس بي، وتحيرت فلم أدر ما أعمل، فدخلت البادهنج، وكان ضيقاً، فجعلت رجلي على حائطي البادهنج وتسلقت فيه، ووقفت معلقاً، أترقب أن يفطن لي، فأقتل.
وإذا بنسوة فراشات يكنسن الخيش، فلما فرغن من ذلك فرشنه، وعبي فيه مجلس الشراب.

ولم يكن بأسرع من أن جاء المقتدر بالله، وعدة جواري، فجلس وجلسن، وأخذ الجواري في الغناء، وأنا أسمع ذلك كله، وروحي تكاد تخرج، فإذا أعييت، نزلت فجلست في أرض البادهنج، فإذا استرحت، وخفت أن يفطن بي، عدت فتسلقت، إلى أن مضت قطعة من الليل، ثم عن للمقتدر أن جذب إليه حظيته التي هي صاحبة تلك الدار، فانصرف باقي الجواري، وخلا الموضع، فواقع المقتدر بالله الجارية، وأنا أسمع حركتهما وكلامهما، ثم ناما في مكانهما، ولا سبيل لي إلى النوم لحظة واحدة، لما أقاسي من الخوف.
ففكرت في أن أخرج وأصعد إلى بعض السطوح، ثم علمت أني إن فعلت ذلك، تعجلت القتل، ولم يجز أن أنجو.
فلم تزل حالي تلك إلى أن انتبه المقتدر بالله في السحر، وخرج من الموضع.
فلما كان من غد نصف النهار، جاء عريف آخر من الفراشين، ومعه رجاله، فرشوا الخيش، فخرجت فاختلطت بهم.
فقالوا: أيش تعمل ها هنا ؟ فأومأت إليهم بالسكوت، وقلت: الله، الله، في دمي، فإن حديثي طويل، فتذمموا أن يفضحوني.
وقال بعضهم: ما بال لحيتك قد شابت ؟ فقلت: لا أعلم، وأخذت ماء من قربة بعضهم، فرطبت به قربتي، وخرجت بخروجهم.
فلما صرت في موضع من دار الخليفة، وقعت مغشياً علي، وركبتني حمى عظيمة وذهب عقلي، فحملني الفراشون إلى منزلي، وأنا لا أعقل، فأقمت مبرسماً مدة طويلة.
وقد كنت عاهدت الله تعالى، وأنا في البادهنج، إن هو خلصني، أن لا أخدم أحداً أبداً، ولا أشرب النبيذ، وأقلعت عن أشياء تبت منها.
فلما تفضل الله تعالى بالعافية، وفيت بالنذر، وبعت أشياء كانت لي، وضممتها إلى دراهم كانت عندي، ولزمت دكاناً لحميي أتعلم فيه التجارة معه، وأتجر، وتركت الدار، فما عدت إليها إلى الآن، ولا أعود أبداً إلى خدمة الناس، ولا أنقض ما تبت منه.
قال: ورأيت لحيته وقد كثر فيها الشيب.

ابن الفرات يصفح عمن أساء إليه
حدثني أبو الحسين علي بن هشام، قال: كان أبو الحسن بن الفرات، لما ولي الوزارة الأولى، وجد سليمان بن الحسن يتقلد مجلس المقابلة في ديوان الخاصة، من قبل علي بن عيسى، والديوان كله - إذ ذاك - إلى علي بن عيسى، فقلد أبو الحسن بن الفرات، سليمان، الديوان بأسره فأقام يتقلده نحو سنتين.
فقام ليلة في دار ابن الفرات يصلي المغرب، فسقطت من كمه رقعة، فرآها بعض من حضر، فأخذها، ولم يفطن لها سليمان، وقرأها، فوجدها سعاية، بخطه، بابن الفرات وأسبابه، إلى المقتدر بالله، وسعياً لابن عبد الحميد، كاتب السيدة، في الوزارة، فتقرب بها إلى ابن الفرات، فقبض على سليمان في الوقت، وأنفذه في زورق مطبق إلى واسط، فحبسه بها، وصادره، وعذبه، فكان في العذاب دهراً، وأيس منه.
فبلغ ابن الفرات، أن أم سليمان بن الحسن قد ماتت ببغداد، وأنها كانت تتمنى رؤيته قبل موتها، فاغتم لذلك، وتذكر المودة بينه وبين أبيه الحسن ابن مخلد، فبدأ، وكتب إليه بخطه كتاباً أقرأنيه سليمان بن الحسن بعد سنين كثيرة من تلك الحال، فحفظته، ونسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، ميزت - أكرمك الله - بين حقك وجرمك، فوجدت الحق يوفي على الجرم، وتذكرت من سالف حرمتك، في المنازل التي فيها ربيت، وبين أهلها غذيت، ما ثناني إليك، وعطفني عليك، وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت، فثق - أكرمك الله - بذلك، وأسكن إليه، وعول في صلاح ما اختل من أمرك عليه، وأعلم أني أراعي فيك، حقوق أبيك، التي تقوم بتوكيد السبب، مقام اللحمة والنسب، وتسهل ما عظم من جنايتك، وتقلل ما كثر من إساءتك، ولن أدع مراعاتها، والمحافظة عليها بمشيئة الله تعالى، وقد قلدتك أعمال دستميسان لسنة ثمان وتسعين ومائتين، وبقايا ما قبلها، وكتبت إلى أحمد بن محمد بن حبش، بحمل عشرة آلاف درهم إليك، فتقلد هذه الأعمال، وأثر فيها أثراً جميلاً يبين عن كفايتك ويؤدي إلى ما أبغيه من زيادتك، إن شاء الله تعالى.
قال أبو الحسين: أحمد بن حبش هذا، كان وكيل ابن الفرات في ضياعه بواسط.
أراد أن يسير بسيرة الحجاج فقتلوهوجدت في بعض الكتب: أن عمر بن عبد العزيز، ولى محمد بن يزيد، مولى الأنصار، إفريقية، فكان حسن السيرة فيها، فلما مات عمر بن عبد العزيز، وولي يزيد بن عبد الملك الأمر، صرفه، وولى يزيد ابن أبي مسلم كاتب الحجاج ابن يوسف.

فلما ورد يزيد إفريقية، حبس محمد بن يزيد، وتسلط عليه، وطالبه بأموال لم تكن عنده.
ثم إن يزيد بن أبي مسلم أجمع أن يصنع بأهل إفريقيه، مثل ما صنع الحجاج بن يوسف بأهل العراق، في رده من من الله عليه بالإسلام، إلى بلده ورستاقه، وأخذهم بالخراج، فبلغ ذلك أهل إفريقية، فتراسلوا في قتله، وتساعوا فيه سراً حتى تم لهم أمرهم، فوثبوا عليه وهو يصلي، فقتلوه وقد سجد، وجاؤوا إلى حبسه، فأخرجوا محمد بن يزيد، فردوه إلى الإمارة، وكتبوا إلى يزيد بن عبد الملك: إنا لم نخلع يداً من طاعة، ولكن يزيد بن أبي مسلم سامنا ما لا يرضى به الله عز وجل، ولا المسلمون، من كيت وكيت، فقتلناه، وولينا محمد بن يزيد، ووصفوا جميل سيرته.
فكتب إليهم يزيد: إني لم أرض ما صنع يزيد بن أبي مسلم، وقد أمرت محمداً عليكم.
وقد مضى هذا الخبر بروايات غير هذه الرواية، وسياقة غير هذه السياقة، فيما تقدم من هذا الكتاب.

سياسة الحجاج المخربة
تشير الفقرة 5 إلى لون من ألوان السياسة المخربة التي اتبعها الحجاج خلال مدة حكمه، تلك السياسة التي كانت من أهم الأسباب التي أدت إلى سقوط دولة بني مروان السيادة العربية، فان فلوتن 44 وخربت العراق تخريباً تاماً.
فقد فرض على أهل الإسلام الذين سكنوا الأمصار، ممن كان أصله من السواد، من أهل الذمة فأسلم، بالعراق، أن ردهم إلى قراهم ورساتيقهم، ووضع الجزية على رقابهم على نحو ما كانت تؤخذ منهم على كفرهم وفيات الأعيان 6 - 311 إذ أن هؤلاء لما أسلموا، كتب عمال الحجاج إليه، بأن الخراج قد انكسر، وأن أهل الذمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار، فأمر بإخراج أهل القرى إلى قراهم، وأن تؤخذ منهم الجزية، على نحو ما كانت تؤخذ منهم وهم كفار ابن الأثير 4 - 464 و 5 - 101.
فاجتمع إلى ابن الأشعث، أهل الكوفة، وأهل البصرة، والقراء، وأهل الثغور، والمسالح، وتضافروا على حرب الحجاج ابن الأثير 4 - 469 وكان من جملتهم كتيبة تضم حملة القرآن، وتسمى كتيبة القراء ابن الأثير 4 - 472.
ولما ثار أهل العراق على الحجاج، واحتشدوا لحربه، استنجد بعبد الملك، فأمده بجند من أهل الشام بلاغات النساء 125 فأنزلهم في بيوت أهل الكوفة، وهو أول من أنزل الجند في بيوت الناس ابن الأثير 4 - 482.
ولما قتل ابن الأشعث، قال الحجاج: الآن فرغت لأهل السواد، فعمد إلى رؤسائهم، وأهل بيوتاتهم من الدهاقين، فقتلهم صبراً، وجعل كلما قتل من الدهاقين رجلاً، أخذ أمواله، وأضر بمن بقي منهم إضراراً شديداً، فخربت الأرض أدب الكتاب للصولي 2 - 220.
وانبثقت في زمن الحجاج، بثوق، أغرقت الأراضي، فلم يعن الحجاج بسدها، مضارة للدهاقين، لأنه كان اتهمهم بممالأة ابن الأشعث حين خرج عليه فتوح البلدان 291.
وكانت عاقبة هذه السياسة الخرقاء، أن جباية سواد العراق، وكانت على عهد الخليفة عمر بن الخطاب مائة ألف ألف وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، نزلت في عهد الحجاج إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط، ثم ارتفعت في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى مائة ألف ألف وأربعة وعشرين ألف ألف درهم أحسن التقاسيم للمقدسي 133 فقال عمر بن عبد العزيز: لعن الله الحجاج، فإنه ما كان يصلح للدنيا، ولا للآخرة، فإن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، جبى العراق، بالعدل والنصفة، مائة ألف ألف، وثمانية وعشرين ألف ألف درهم، وجباه الحجاج مع عسفه وجبروته ثمانية عشر ألف ألف درهم فقط، قال عمر: وها أنا قد رجع إلي على خرابه، فجبيته مائة ألف ألف درهم وأربعة وعشرين ألف ألف درهم، بالعدل والنصفة معجم البلدان 3 - 178.
ومما يدل على عقلية الحجاج الفاسدة، أنه لما خرب السواد من جراء إفراطه في الظلم وفي سوء الجباية، تخيل أن الانقطاع عن الزراعة، إنما كان لقلة الماشية التي تعين الفلاحين على حرث الأرض، فأصدر أمره بتحريم ذبح البقر، فقال الشاعر: الأغاني 16 - 378
شكونا إليه خراب السواد ... فحرّم فينا لحوم البقر
فكنّا كمن قال من قبلنا ... أريها السها وتريني القمر

وقد سمى الناس سليمان بن عبد الملك، مفتاح الخير، لنه أذهب عنهم سنة الحجاج، وأخلى السجون، وأطلق الأسرى وفيات الأعيان 2 - 240، ولما تولى يزيد بن المهلب العراق، نظر في نفسه، وقال: إن العراق قد أخربها الحجاج، وأنا اليوم رجاء أهل العراق، ومتى أخذت الناس بالخراج، وعذبتهم عليه، صرت مثل الحجاج، أدخل على الناس الخراب، وأعيد عليهم تلك السجون التي قد عافاهم الله منها، وفيات الأعيان 6 - 296 و 297، ولما خرج يزيد بن المهلب، بالعراق، بايعه الناس، على كتاب الله، وسنة نبيه، وأن لا تعاد عليهم سيرة الفاسق الحجاج وفيات الأعيان 6 - 304.
وليس الحجاج هو الملوم وحده على سياسته المخربة، فإن عبد الملك بن مروان الذي سلطه على العراق، هو الملوم الأول على ذلك، فالحجاج سيئة من سيئات عبد الملك واسطة السلوك 209، ويحق لعبد الملك أن يحذر من الله تعالى لأن من يكن الحجاج بعض سيئاته، يعلم أي شيء يقدم عليه ابن الأثير 4 - 521.
وقد كان عبد الملك مطلعاً تمام الاطلاع على سياسة الحجاج المخربة، وقد كتب إليه مرة يقول: إن رأيك الذي يسول لك أن الناس عبيد العصا، هو الذي أخرج رجالات العرب إلى الوثوب عليك، وإذا أحرجت العامة بعنف السياسة، كانوا أوشك وثوباً عليك عند الفرصة، ثم لا يلتفتون إلى ضلال الداعي، ولا هداه، إذا رجوا بذلك إدراك الثأر منك، وقد ولي العراق قبلك ساسة، وهم يومئذ أحمى أنوفاً، وأقرب من عمياء الجاهلية، وكانوا عليهم أصلح منك عليهم العقد الفريد 5 - 45.
وظلت سيرة الحجاج في الظلم والعسف، تدور مع التاريخ، ويتذاكرها الناس خلفاً عن سلف، حتى حيكت حولها الروايات، ورتبت بشأنها القصص، فذكروا أن أعرابياً سأله الحجاج: كيف سيرة أميركم الحجاج ؟ فقال: غشوم ظلوم، لا حياه الله، ولا بياه، فقال له: لو شكوتموه إلى أمير المؤمنين، فقال الأعرابي: هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله الملح والنوادر للحصري 15.
وذكروا أن رجلاً رأى في منامه الحجاج بن يوسف، فقال له: ما حالك ؟ فقال: ما أنت وذاك، لا أم لك، فقال: سفيه في الدنيا، سفيه في الآخرة المحاسن والمساوىء 2 - 14.
راجع ترجمة الحجاج في حاشية القصة 67 من هذا الكتاب، وبحثاً عن ساديته في حاشية القصة 149 من الكتاب، وراجع بقية أخبار الحجاج في الطبري 6 - 202 و 320 و 380 - 388 و 481 و 482 و 488 و 8 - 69 وابن الأثير 1 - 481 و 4 - 359 و 434 و 462 و 504 و 5 - 37 و 51 والأغاني 6 - 67 و 68 و 145 و 192، 201 و 206 و 246 و 8 - 75 والعقد الفريد 2 - 174 و 175 و 324 و 354 و 3 - 477 و 4 - 119 و 5 - 37 و 38، 46، 47، 48، 55، 57، 59 والعيون والحدائق 19 والبيان والتبيين 1 - 21 و 22، 193 و 2 - 29، 84 وشذرات الذهب 1 - 106 - 108 ومروج الذهب 2 - 112، 194، ولطائف المعارف 141 والإمامة والسياسة 2 - 47 و 48 وتاريخ اليعقوبي 2 - 274، 291، 295 والامتاع والمؤانسة 3 - 178 و 182 والمحاسن والمساوىء 1 - 100، 220 والمعارف لابن قتيبة 548 والفهرست 202 وتاريخ الخلفاء 179.

فتنة تثور ببغداد فتفرج عن بريء محبوس
حدثني البهلول بن محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، قال: حدثني أبو علي، الوكيل على أبواب القضاة ببغداد، ويعرف بالناقد، قال: كنت أقيم خبر المحبسين في المطبق بمدينة السلام، في أيام المقتدر بالله، فرأيت في المطبق رجلاً مغلولاً، على ظهره لبنة من حديد، فيها ستون رطلاً، فسألته عن قصته، فقال: أنا والله مظلوم.
فقلت له: كيف كان أمرك ؟ قال: كنت ليلة من الليالي، في دعوة صديق لي بسوق يحيى، فخرجت من عنده مغلساً، وفي الوقت فضل وأنا لا أعلم، فلما صرت في قطعة من الشارع، فإذا مشاعل الطائف، فرهبته، ولم أدر ما أعمل، فرأيت شريجة مشوشة، ففتحتها، ودخلت، ورددتهما كما كانت، وقمت في الدكان، ليجوز الطائف وأخرج.
وبلغ الطائف الموضع، فرأى الشريجة مشوشة، فقال: فتشوا هذا الدكان.
فدخلت الرجالة بمشعل، رأيت ضوئه رجلاً في أرض الدكان مذبوحاً، على صدره سكين، فجزعت.
فرأى الرجالة ذلك الرجل، ورأوني قائماً، فلم يشكوا في أني القاتل.
فأخذني صاحب الشرطة فحبسني، ثم عرضت فضربت ضرباً شديداً، وعوقبت أصنافاً من العقوبات، وأنا أنكر، وعندهم أني أتجلد، وهم يزيدونني.

فاجتمع أهلي، وكانت لهم شعب بأسباب السلطان، فتكلموا فيّ واستشهدوا خلقاً كثيراً على سيرتي، فبعد شدائد ألوان، أعفيت من القتل، ونقلت إلى المطبق وثقلت بهذا الحديد، وتركت على هذه الصورة، منذ ست عشرة سنة.
قال: فاستعظمت محنته، وبهت من حديثه، فقال: ما لك، والله ما آيس مع هذا من فضل الله عز وجل، فإن من ساعة إلى ساعة فرجاً.
قال: فوالله، ما خرج كلامه من فيه، حتى ارتفعت ضجة عظيمة، وكسر الحبس، ووصلت العامة إلى المطبق ومطاميره وأخرجوا كل من هناك، وخرج الرجل في جملتهم.
وانصرفت وأنا أريد منزلي، وإذا نازوك قد قتل، والفتنة قد ثارت، وفرج الله عن الرجل، وعن جميع أهل الحبوس.

الصدفة تنجي عامل كوثى من القتل
وبلغني عن رجل من أهل كوثى، قال: كان يتقلد بلدنا رجل عامل من قبل أبي الحسن بن الفرات، في بعض وزاراته، فافتتح الخراج واشتد في المطالبة.
وكان في أطراف البلد قوم من العرب قد زرعوا من الأرض ما لا يتجاسر الأكرة على زراعته، وكان العمال يسامحونهم ببعض ما يجب عليهم من الخراج.
فطالبهم هذا العامل بالخراج على التمام أسوة بالأكرة، وأحضر أحدهم فحقق عليه المطالبة، وهو ممتنع، فأمر بصفعه، فصفع حتى أدى الخراج، وانصرف، فشكا إلى بني عمه، فتوافقوا على كبس العامل ليلاً، وقتله، وراسلوا في ذلك غيرهم من العرب، واتعدوا لليلة بعينها.
فلما كان اليوم الذي تليه تلك الليلة، ورد إلى الناحية عامل آخر، صارفاً للأول، فقبض عليه، وصفعه، وضربه بالمقارع، وأخذ خطه بمال، وقيده، وأمر بأن يحمل إلى قرية أخرى على فراسخ من البلد، فحبس فيها، ووكل به عشرة من الرجالة، وسيره مرة ماشياً، ومرة على حمار من حمير الشوك، فكاد مما لحقه أن يتلف، وحصل في تلك القرية.
وكان له غلام قد رباه، وهو خصيص به، عارف بجميع أموره، فهرب عند ورود الصارف، فلما كان من الغد، لم يشعر المصروف المحبوس إلا بغلامه الذي رباه قد دخل عليه، وكان مجيئه إليه أشد عليه من جميع ما لحقه إشفاقاً على الغلام، وعلى نفسه مما يعرفه الغلام، أن يكون قد دل عليه.
فقال له: ويحك، وقعت في أيديهم ؟ فقال له الغلام: من هم ؟ هات رجلك حتى أكسر قيودك، وتقوم فتدخل بغداد.
فقال له: وأين الرجالة الموكلون بي ؟ فقال: يا مولاي قد فرج الله عز وجل عنك، وهربت الرجالة.
قال: فما السبب ؟ قال: إن الأعراب الذين كنت صفعت منهم واحداً، وطالبتهم بالخراج، كبسوا البارحة دار العمالة، وعنهم أنك أنت العامل، وكانوا قد عملوا على قتلك، ولم يكن عندهم خبر صرفك، ولا خبر ورود هذا العامل، فقتلوه على أنه أنت، وقد هرب أصحابه، وأهل البلد كافة، فقم حتى نمشي إلى بغداد، لا يبلغهم خبر كونك هنا، فيقصدوك، ويقتلونك.
فكسر القيد، وقام هو وغلامه، يمشيان على غير جادة، إلى أن بعدا، ودخلا قرية، واستأجرا منها ما ركبا إلى بغداد.
ولقي المصروف الوزير، وشنع على المقتول، وقال: قد أفسد الناحية، وأثار فتنة مع العرب، فأقره الوزير على الناحية، وضم إليه جيشاً.
فعاد إلى كوثى، وتحصن بالجيش، وساس أمره مع العرب، إلى أن صالحهم، وحط لهم من الخراج عما كان طالبهم به، وأجرى أمرهم على رسومهم، وسكنوا إليه وسكن إليهم، وزال خوفه واستقام له أمر عمله.
الأمين يغاضب عمه إبراهيم بن المهدي ثم يرضى عنهأخبرني أبو الفرج الأموي، المعروف بالأصبهاني، قال: أخبرني عمي الحسن بن محمد، قال: أنبأنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني هبة الله ابن إبراهيم بن المهدي، عن أبيه، قال: غضب علي الأمين في بعض هناته، فسلمني إلى كوثر الخادم، فحبسني في سرداب، وأغلقه علي، فمكثت فيه ليلتي.
فلما أصبحت، إذا أنا بشيخ قد خرج علي من زاوية السرداب، فدفع إلي وسطاً، فأكلت، ثم أخرج إلي قنينة شراب، فشربت، وقال غنّ لي:
لي مدّة لا بدّ أبلغها ... فإذا انقضت أيّامها متّ
لو ساورتني الأسد ضارية ... لغلبتها ما لم يجي الوقت
فغنيته، وسمعني كوثر، فصار إلى محمد الأمين، فقال له: قد جن عمك، هو جالس يغني بكيت وكيت.
فأمر بإحضاري، فحضرت، وأخبرته بالقصة، فرضي عني، وأمر لي بسبعمائة ألف درهم.
يتخلصون من المحنة بأيسر الأسباب

أخبرني محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أنبأنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد، قال: أخبرني النوري الصوفي، قال: لما كانت المحنة، ورميت أنا وجماعة من الصوفية بالكفر، أخذنا، فأودعنا المطبق أياماً، ثم عرضنا على ابن الشاه، وكان الوالي، وأغري بسفك دمائنا، فعمل على ذلك، وأخرجنا للمسائلة، وترديد العذاب، وإمراره علينا قبل القتل، وكنا تعاقدنا أن لا نتكلم حتى يكفينا صاحب الأمر.
فقال للرقام: أنت القائل: إن قولي بسم الله، لجة من نور ؟ قال: فسكت، على العقد.
وحضر من ذوي الأقدار والمنزلة من استعطف ابن الشاه علينا، وأشار عليه بالتوقف في أمرنا، والزيادة في استيضاح ما قرفنا به.
فقال ابن الشاه للرقام: أنت صوفي، ولعلك تأولت قولك بسم الله نوراً، وقولك الحمد لله، بعد فراغك، نوراً.
فصاح الرقام صيحة عظيمة: لحنت أيها الأمير.
قال النوري: فوالله لقد أضحكني على ما بي.
فقال له الأمير: قد صرت تنظر في النحو بعدي، حتى صرت تعرف اللحن من الصواب ؟.
فقال له: حاشاك أيها الأمير من اللحن الذي هو الخطأ، وإنما عنيت بقولي لحنت، أي فطنت، بمعنى الصوفية.
فقال ابن الشاه: في الدنيا أحد يرمي مثل هذا وأضرابه بالزندقة ؟ وأمر بتخلية سبيلنا.
فتخلصنا مما كنا فيه، ومما نحاذره، وكفينا بأضعف الأسباب وأيسرها.

عبد الله بن طاهر يطلق الطوسي من حبسه
حبس عبد الله بن طاهر، محمد بن أسلم الطوسي، فكتب إليه بعض إخوانه يعزيه عن مكانه.
فأجابه: كتبت إلي تعزيني، وإنما كان يجب أن تهنيني، أريت العجائب، وعرضت علي المصائب، إني رأيت الله تعالى يتحبب إلى من يؤذيه، فكيف من يؤذى فيه، إني نزلت بيتاً سقطت فيه عني فروض وحقوق، منها الجمعة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعيادة المريض، وقضاء حقوق الإخوان، وما نزلت بيتاً خيراً لي في ديني منه.
فأخبر بذلك ابن طاهر، فقال: نحن في حاجة إلى ابن أسلم، أطلقوه.
فأفرج عنه.
المأمون يغضب على فرج الرخجي ثم يرضى عنه ويقلده فارس والأهوازوكان المأمون قد غضب على فرج الرخجي، فكلمه عبد الله بن طاهر، ومسرور الخادم، في إطلاقه.
قال فرج: فبت ليلتي، فأتاني آت في منامي، فقال لي:
لمّا أتى فرجاً من ربّه فرج ... جئنا إلى فرجٍ نبغي به الفرجا
فلما كان من الغد، لم أشعر إلا واللواء قد عقد لي على ولاية فارس والأهواز، وأطلق لي خمسمائة ألف درهم معونة.
فإذا أبو الينبغي الشاعر على الباب، وقد كتب هذا البيت في رقعة.
فقلت له: متى قلته ؟ قال لي: البارحة، في الوقت الذي رضي عنك فيه.
فأمرت له بعشرة آلاف درهم.
محبوس يتحدث عن هلاك الحجاجقال عمارة بن عقبة، من آل سلمى بن المهير، حدثني ملازم بن حرام الحنفي، عن عمه ملازم بن قريب الحنفي، قال: كنت في حبس الحجاج بسبب الحرورية، فحبس معنا رجل، فأقام حيناً لا نسمعه يتكلم بكلمة.
حتى كان اليوم الذي مات الحجاج في الليلة التي تليه، أقبل غراب في عشية ذلك اليوم، فوقع على حائط السجن، فنعق.
فقال له الرجل: ومن يقدر على ما تقدر عليه يا غراب ؟ ثم نعق الثانية، فقال: مثلك من بشر بخير، يا غراب.
ونعق الثالثة، فقال له: من فيك إلى السماء يا غراب.
فقلنا له: ما سمعناك تكلمت منذ حبست إلى الساعة، فما دعاك إلى ما قلت ؟ فقال: إنه نعق الأولى فقال: وقعت على سترة الحجاج.
فقلت: ومن يقدر على ما تقدر عليه ؟ ثم قال في الثانية: إن الحجاج وجع.
فقلت: مثلك من بشر بخير.
ثم نعق الثالثة، فقال: الليلة يموت الحجاج.
فقلت: من فيك إلى السماء.
ثم قال: إن انبلج الصبح قبل أن أخرج، فليس علي بأس، وإن دعيت قبل الصبح، فستضرب عنقي، ثم تلبثون ثلاثاً لا يدخل عليكم أحد، ثم يستدعى بكم في اليوم الرابع فتطالبون بالكفلاء، فمن وجد له كفيلاً، خلي سبيله، ومن لم يوجد له كفيل، فله ويل طويل.
فلما دخل الليل سمعنا الصراخ على الحجاج، وأخذ الرجل قبل الصبح فضرب عنقه، ثم لم يدخل علينا أحد ثلاثة أيام.
فلما كان في اليوم الرابع استدعينا، فطلب منا الكفلاء، حتى صار الأمر إلي، فلم يكن لي كفيل.
فمكثت طويلاً حتى خفت أن أرد إلى الحبس، فتقدم رجل فضمنني.
فقلت له: من أنت يا عبد الله، حتى أشكرك.
فقال: اذهب، فلست بمسؤول عنك أبداً.

فانطلقت.

يحسن إلى كاتب بغا الكبير على غير معرفة منه له
وقال علي بن الحسين بن عبد الأعلى الإسكافي: كنت أكتب لبغا الكبير، فصرفني، ونكبني، وأخذ مالي وضياعي، وحبسني بعد ذلك، وتهددني، ونالني منه كل مكروه.
فإني لفي حبسه، إذ سمعت حركة، فسألت عنها، فقيل لي: قد وافى إسحاق بن إبراهيم الطاهري، صاحب الشرطة.
فقلت: إنما حضر لعقوبتي، فطارت نفسي جزعاً.
فلم ألبث أن دعيت، فحملت إليه في قيودي، وعلي ثياب في نهاية الوسخ، فأدخلت عليه كالميت لما بي ولعظيم الخوف، فلما وقعت عين إسحاق علي، تبسم، فسكنت نفسي.
فقال لي بغا: إن أخي أبا العباس - يعني عبد الله بن طاهر - كتب إلي يشفع في أمرك، وقد شفعته، وأزلت عنك المطالبة، ورضيت عنك، ورددت عليك ضياعك، فانصرف إلى منزلك.
فبكيت بكاء شديداً، لعظم ما ورد على قلبي من السرور، ففكت قيودي، وغيرت حالي، وانصرفت.
فبت ليلتي، وبكرت في السحر إلى إسحاق لأشكره، وأسأله عما أوجب ما جرى، لأنه شيء ما طمعت فيه، ولا كانت لي وسيلة إلى أبي العباس ولا إسحاق، فلقيته، وشكرته، ودعوت له ولأبي العباس، وسألته عن سبب ذلك.
فقال: ورد علي كتاب الأمير أبي العباس يقول: قد كانت كتب أبي موسى بغا ترد علي بمخاطبات توجب الأنس والخلطة، وتلزم الشكر والمنة، ثم تغيرت، فبحثت عن السبب، فعلمت أن ذلك الكاتب صرف، وأنه منكوب، وحق لمن أحسن عشرتنا، ووكد المحبة بيننا وبين إخواننا، حتى بان لنا موقعه، وعرفنا موضعه لما صرف، أن نرعى حقه، فصر - أبقاك الله - إلى أخي أبي موسى، وسله في أمر كاتبه المصروف، عني، واستصفحه عما في نفسه منه، واستطلقه، وسله رده إلى كتبته، وإن كان ما يطالبه به مما لا ينزل عنه، فأده عنه من مالنا، كائناً ما كان.
فلقيته، ففعل ما رأيت، وأنا أعاود الخطاب في استكتابك، وقد أمر لك الأمير بكذا وكذا، من المال، فخذه.
فأخذته، وشكرته، ودعوت للأميرين، وانصرفت.
فما مضت إلا أيام، حتى ردني إسحاق إلى كتابة بغا بشفاعة أبي العباس، ورجعت حالي ونعمتي.
كيف تخلص عمر بن هبيرة من السجنحدثني علي بن أبي الطيب، قال: حدثنا ابن الجراح، قال: حدثنا ابن أبي الدنيا، قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا سليمان ابن زياد، قال: كان عمر بن هبيرة، والياً على العراق، ولاه يزيد بن عبد الملك، فلما مات يزيد بن عبد الملك، واستخلف هشام، قال عمر بن هبيرة، سيولي هشام العراق، أحد الرجلين، سعيداً الحرشي، أو خالد بن عبد الله القسري، فإن ولى ابن النصرانية، خالداً، فهو البلاء.
فولى هشام خالداً العراق، فدخل واسطاً، وقد أذن عمر بالصلاة، وقد تهيأ، واعتم، وبيده المرآة يسوي عمامته، إذ قيل له: هذا خالد قد دخل.
فقال عمر: هكذا تقوم الساعة، تأتي بغتة.
فتقدم خالد، وأخذ عمر بن هبيرة، فقيده، وألبسه مدرعة صوف، فقال له: يا خالد، بئس ما سننت على أهل العراق، أما تخاف أن تصرف فتبتلى بمثل هذا ؟ فلما طال حبسه، جاء مواليه، واكتروا داراً بجانب الحبس، ثم نقبوا منها سرباً إلى الحبس، واكتروا داراً إلى جانب سور المدينة، مدينة واسط، فلما جاءت الليلة التي أرادوا أن يخرجوه فيها من الحبس، وقد أفضى النقب إلى الحبس، فأخرج في السرب، ثم خرج من الدار يمشي، حتى بلغ الدار التي إلى جانب السور، وقد نقب في السور نقب إلى خارج المدينة، وقد هيأت له خيل، فركب وسار، وعلم به بعد ما أصبحوا، وقد كان أظهر علة قبل ذلك ليمسكوا عن تفقده في كل وقت.
فأتبعه خالد، سعيد الحرشي، فلحقه، وبينه وبين الفرات شيء يسير، فتعصب له وتركه.
فقال الفرزدق في ذلك:
ولمّا رأيت الأرض قد سدّ ظهرها ... ولم يبق إلاّ بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس بعدما ... ثوى في ثلاثٍ مظلماتٍ ففرّجا
خرجت ولم يمنن عليك سفاهة ... سوى زائد التقريب من آل أعوجا
فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة ... وما سار سارٍ مثلها حين أدلجا
قال سليمان بن أبي شيخ: فحدثني ابن أبي خيرة، عن أبي الحبحاب، قال: حدثني خازم، مولى ابن هبيرة، قال:

كنت مع عمر بن هبيرة حين هرب من السجن، فسرنا حتى بلغنا دمشق، بعد العتمة، فأتى مسلمة بن عبد الملك، فأجاره، وأنزله معه في بيته، وصلى مسلمة خلف هشام الصبح.
فلما دخل هشام داره، استأذن عليه مسلمة، فأذن له، فدخل.
فقال له هشام: يا أبا سعيد، أظن ابن هبيرة قد طرقك الليلة.
قال: أجل يا أمير المؤمنين، وقد أجرته، فهبه لي.
قال: قد وهبته لك.

كيف تخلص قيسبة بن كلثوم من أسره
أخبرني أبو الفرج القرشي، المعروف بالأصبهاني، قال: ذكر ابن الكلبي عن أبيه، قال: خرج قيسبة بن كلثوم السكوني، وكان ملكاً، يريد الحج، وكانت العرب تحج في الجاهلية، فلا يعرض بعضها لبعض.
فمر ببني عامر بن عقيل، فوثبوا عليه، وأسروه، وأخذوا ماله، وكل ما كان معه، وألقوه في القد، فمكث فيه ثلاث سنين، وشاع في اليمن، أن الجن استطارته.
فبينما هو في يوم شديد البرد، في بيت عجوز منهم، آيس من الفرج، إذ قال لها: أتأذنين لي أن آتي الأكمة، فأتشرق عليها ؟ فقد أضر بي البرد.
فقالت له: نعم، وكانت عليه جبة حبرة، لم يترك عليه غيرها.
فمشى في قيوده حتى صعد الأكمة، ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمن، وتغشاه عبرة، فبكى، ثم رفع طرفه إلى السماء، فقال: اللهم فاطر السماء، فرج لي مما أصبحت فيه.
فبينما هو كذلك، إذ عرض له راكب يسير، فأشار إليه أن أقبل، فأقبل عليه الراكب، فقال له: ما حاجتك ؟ قال: أين تريد ؟ قال: أريد اليمن.
قال: ومن أنت ؟ قال: أبو الطمحان القيني، فاستعبر قيسبة.
فقال أبو الطمحان: من أنت ؟ فإني أرى عليك سيما الخير ولباس الملوك، وأنت بدار ليس فيها ملك.
فقال: أنا قيسبة بن كلثوم السكوني، خرجت عام كذا وكذا حاجاً، فوثب علي أهل هذا الحي، وصنعوا بي مات ترى وكشف له عن أغلاله وقيوده، فاستعبر له أبو الطمحان.
فقال له قيسبة: هل لك في مائة ناقة حمراء ؟ قال: ما أحوجني إلى ذلك.
قال: أنخ، فأناخ.
ثم قال: أمعك سكين ؟ قال: نعم.
قال: ارفع لي عن رحلك، فرفع له عن رحله، حتى بدا خشب مؤخر الرحل.
فكتب عليه بالمسند، وليس يكتب به غير أهل اليمن:
بلّغن كندة الملوك جميعاً ... حيث سارت بالأكرمين الجمال
أن ردوا الخيل بالخميس عجالاً ... واصدروا عنه والروايا ثقال
هزئت جارتي وقالت عجيباً ... إذا رأتني في جيدي الأغلال
إن تريني عاري العظام أسيراً ... قد براني تضعضع واختلال
فلقد أقدم الكتيبة بالسي ... ف عليّ السلاح والسربال
وكتب تحت الشعر إلى أخيه، أن يدفع لأبي الطمحان مائة ناقة حمراء، ثم قال له: أقرىء هذا قومي، فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء.
فخرج تسير به ناقه، حتى أتى حضرموت فتشاغل بما ورد له، ونسي أمر قيسبة، حتى فرغ من حوائجه.
ثم سمع نسوة من عجائز اليمن، يتذاكرن قيسبة، ويبكين، فذكر أمره، فأتى أخاه الجون بن مالك، وهو أخوه لأبيه وأمه، فقال له: يا هذا، أنا أدلك على قيسبة، وقد جعل لي مائة ناقة حمراء.
فقال: هي لك.
فكشف له عن الرحل، فلما قرأه الجون بن مالك، أمر له بمائة ناقة حمراء.
ثم أتى قيس بن معدي كرب الكندي، أبا الأشعث بن قيس، فقال له: يا هذا إن أخي في بني عامر بن عقيل أسيراً، فسر معي بقومك لنخلصه.
فقال له قيس: تسير تحت لوائي، حتى أطلب ثأرك وأنجدك، وإلا فامض راشداً.
فقال له الجون: مس السماء أيسر من ذلك، وأهون علي مما جئت به.
فجئت السكون ثم فاءوا، ورجعوا، وقالوا له: وما عليك من هذا ؟ هو ابن عمك، ويطلب لك بثأرك، فأنعم له بذلك.
وسار قيس، وسار معه الجون تحت لوائه، وكندة والسكون معه، فهو أول يوم اجتمعت فيه السكون وكندة لقيس وبه أدرك الشرف، فسار حتى أوقع ببني عامر بن عقيل، فقتل منهم مقتلةً عظيمةً، واستنقذ قيسبة، فقال في ذلك سلامة بن صبيح الكندي:
لا تشتمونا إذ جلبنا لكم ... ألفي كميت كلّها سلهبه
نحن أبلنا الخيل في أرضكم ... حتّى ثأرنا منكم قيسبه
واعترضت من دونها مذحج ... فصادفوا من خيلنا مشغبه
جاءه الفرج من حيث لم يحتسبحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف الأزرق الكاتب، إبن يعقوب بن إسحاق بن البهلول التنوخي قال:

كنت، وأنا حدث، أتعلم في ديوان زمام السواد، بين يدي كاتب فيه، يقال له أبو الحسن علي بن الفتح، ويعرف بالمطوق، عاش إلى بعد سنة عشرين وثلثمائة، وأخرج إلينا كتاباً قد عمله في أخبار الوزراء، منذ وفاة عبيد الله بن خاقان، إلى آخر أيام القاهر بالله، أو بعدها - الشك من أبي الحسن أحمد بن يوسف - وسماه: كتاب مناقب الوزراء ومحاسن أخبارهم، فقرأ علينا بعضه، وأخبرنا بالباقي مناولة.
قال مؤلف هذا الكتاب: وأعطاني أبو الحسن أحمد بن يوسف، هذا الكتاب، مناولة، فوجدت فيه: أن القاسم بن عبيد الله اعتقل أبا العباس أحمد بن محمد بن بسطام في داره أياماً، لأشياء كانت في نفسه عليه، وأراد أن يوقع به فلم يزل ابن بسطام، يداريه، ويلطف به، إلى أن أطلقه، وقلده آمد، وما يتصل بها من الأعمال، وأخرجه إليها، وفي نفسه ما فيها، ثم ندم على ذلك، فوجه إليه في آخر أيام وزارته بقائد يقال له علي بن حبش، ابن أخي قوصرة، ووكله به، فكان يأمر وينهى في عمله، وهو موكل به في داره، خائف على نفسه، لما ظهر من إقدام القاسم على القتل.
قال ابن بسطام: فأنا أخوف ما كنت على حالي ونفسي، وليس عندي خبر، حتى ورد علي كتاب عنوانه: لأبي العباس أطال الله بقاءه، من العباس بن الحسن.
فلما رأيت العنوان ناقص الدعاء، علمت أن القاسم بن عبيد الله قد مات، وأن العباس بن الحسن قد تقلد الوزارة، فلم أتمالك نفسي فرحاً وسروراً بالسلامة في نفسي، وزوال الخوف مني.
وقرأت الكتاب، فإذا هو بصحة الخبر، ويأمرني بالخروج إلى مصر، وتقلد الأمانة على الحسين بن أحمد المادرائي.
قال علي بن الفتح: فخرج ابن بسطام إلى مصر، ولم يزل يتقلد الأمانة على الحسين بن أحمد إلى أن تقلد علي بن محمد بن الفرات الوزارة، فقلده مصر وأعمالها، قال: فلم يزل بها إلى أن مات.

العلوي الصوفي يحتال للخلاص من سجن المعتصم
حدثنا أبو محمد عبد الرحمن الوراق المعروف بالصيرفي، ابن أبي العباس محمد بن أحمد الأثرم، المقرىء البغدادي، بالبصرة، في المحرم سنة خمس وأربعين وثلثمائة، بكتاب المبيضة، لأبي العباس أحمد بن عبد الله بن عمار، في خبر العلوي الصوفي، الخارج بالجوزجان، على المعتصم، وهو محمد بن القاسم بن علي بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكان عبد الله بن طاهر حاربه، وأسره، وبعث به إلى المعتصم، وهو ببغداد، قال: حدثنا أبو العباس بن عمار، قال: حدثنا أبو الحسن النوفلي، وهو علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: حدثت أن المعتصم أمر أن يبنى حبس في بستان موسى، كان القيم به مسرور مولى الرشيد.
قال: وكنت أرى أعلى هذا البناء من دجلة إذا ركبتها، إذ كان كالبئر العظيمة، قد حفرت إلى الماء، أو قريب منه، ثم بني فيها بناء على هيأة المنارة، مجوف من باطنه، وهو من داخله مدرج، قد حفر فيه، في مواضع من التدريج، مستراحات، وبني في كل مستراح شبيهاً بالبيت، يجلس فيه رجل واحد، كأنه على مقداره، يكون مكبوباً على وجهه، لا يمكنه أن يجلس فيه، ولا يمد رجليه، فلما قدم محمد، حبس في بيت في أسفل ذلك الحبس، فلما استقر فيه أصابه من الجهد لضيقه، وظلمته، ومن البرد أمر عظيم، لنداوة، الموضع ورطوبته، فكاد أن يتلف من ساعته.
فتكلم بكلام دقيق سمعه من كان في أعالي البئر ممن وكل بالموضع، فقال: إن كان أمير المؤمنين يريد قتلي، فالساعة أموت، وإن لم يكن يريد قتلي فقد أشفيت عليه.
فأخبر المعتصم بذلك، فقال: ما أريد قتله، وأمر بإخراجه.
فأخرج وقد زال عقله، وأغمي عليه، فطرح في الشمس، وطرحت عليه اللحف، وأمر بحبسه في بيت كان قد بني في البستان، فوقه غرفة، وكان في البيت خلاء إلى الغرفة التي فوقه، وفي الغرفة أيضاً خلاء آخر إلى سطحها، فلم يزل محبوساً فيه حتى تهيأ له الخروج في ليلة الفطر سنة تسع عشرة ومائتين.
قال: فحدثني علي بن الحسين بن عمر بن علي بن الحسين، وهو ابن عم أبيه، قال: أصبحت يوم الفطر، وأنا أتهيأ للركوب إلى المصلى، فأنا أشد منطقتي في وسطي، وقد لبست ثيابي أبادر الركوب إلى المصلى. فما راعني إلا محمد بن القاسم، قد دخل إلى منزلي، فملأني رعباً وذعراً.
وقلت له: كيف تخلصت ؟.

فقال: أنا أدبر أمري في التخلص منذ حبست، ووصف لي الخلاء الذي كان في البيت الذي حبس فيه إلى الغرفة التي فوقه، والخلاء الذي كان في الغرفة إلى سطحها.
قال: وأدخل معي يوم حبست، لبد، فكان وطائي وفراشي.
قال: وكنت أرى بغرش، وهي قرية من قرى خراسان، حبالاً تعمل من لبود، وتضفر كما يفعل بالسيور، فتجيء أحكم شيء، فسولت لي نفسي أن أعمل من اللبد الذي تحتي حبلاً وكان على باب البيت، قوم موكلون بي يحفظونني لا يدخل علي أحد منهم، إنما يكلموني من خلف الباب ويناولوني من تحته ما أتقوت به.
فقلت لهم: إن أظفاري قد طالت جداً، وقد احتجت إلى مقراض، فجاءني رجل يميل إلى مذهب الزيدية، بمقراض أحد جانبيه منقوش كأنه مبرد.
وقلت لهم: إن في هذا البيت فاراً قد آذوني، ويقذرونني إذا قربوا مني، فاقطعوا لي جريدة من النخل أطردهم بها.
فقطعوا لي من بعض نخل البستان، جريدة، فرموا بها إليه، وكنت لا أزال أضرب بها في البيت، أريهم أني أطرد الفار، وأسمعهم صوتها أياماً، ثم قشرت الخوص عنها، وقطعتها على مقدار ما ظننت أنه يعترض في ذلك الخلاء إذا رميت بها، فضممت ما قطعته منها بعضه إلى بعض، وقصصت اللبد، وفتلت منه حبلاً، على ما كنت يعمل بغرش، ثم شددت ما قطعته من الجريدة في رأس الحبل، ثم رميت به في الكوة، وعالجته مراراً حتى اعترض فيها، ثم اعتمدت عليها وصعدت إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى السطح، ففعلت ذلك مراراً، في أيام كثيرة، وتمكنت من الحركة لأني بردت بجانب المقراض إحدى حلقتي القيد، ولم يمكنني أن أبرد الأخرى، فكنت إذا أردت الحركة، شددت القيد مع ساقي، وأتحرك، وقد صرت مطلقاً.
فلما كان في هذه الليلة وقد شغل الناس بالعيد وانصرف من كان على الباب من الموكلين، فلم أحس منهم أحداً إلا شيخاً واحداً كنت أسمع كلامه وحركته، وأطلع فأراه.
فصعدت بين العشائين إلى الغرفة، ومن الغرفة إلى السطح، فأشرفت، فإذا المعتصم يفطر والناس بين يديه، والشموع تزهر، فرجعت.
فلما كان في جوف الليل صعدت والناس نيام، ونزلت إلى البستان، فإذا فيه قائد ومعه جماعة، فصاح بي بعضهم: من أنت ؟ قلت: مديني من أصحاب الحمام، وكان في البستان منهم جماعة يشرفون على أمر الحمام.
فقال لي: إلى أين تخرج الساعة، إطرح نفسك حتى تصبح، وتفتح الأبواب، فطرحت نفسي بينهم، حتى فتح باب البستان في الغلس، وقد تحرك الناس. فصرت إلى دجلة لأعبر، فوجدت الشيخ الذي كان بقي من الموكلين بي يريد العبور، فنزلت لأعبر، فطلب مني الملاح قطعة، فقلت له: ما معي شيء، أنا رجل غريب ضعيف الحال.
فقال لي الشيخ: اعبر، فأنا أعطيه عنك، وأعطاه الشيخ عني قطعة، وعبرت حتى جئتك.
قال علي بن الحسين: فقلت له: والله، ما منزلي لك بموضع، فاخرج عني من ساعتك، ولا تقم فيه لحظة، وركبت إلى المصلى.
فصار إلى منزل رجل من الشيعة، فأخفاه.

حسن سيرته كانت سبب اعتقاله
وحدثنا أبو محمد الأثرم، في كتاب المبيضة، قال: حدثنا أبو العباس ابن عمار، قال: حدثني هشام بن أحمد بن الأشهب البغوي، قال: حدثني أبو عبد الله جعفر بن محمد بن إسماعيل، قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم ابن رباح الجوهري، قال: حدثني المفضل بن حماد الكوفي، من أصحاب الحسن بن صالح بن حي، بوفاة عيسى بن زيد بن علي، بالكوفة، وكيف ستر ذلك عنا لمهدي، فذكر حديثاً طويلاً، قال فيه: لما تواترت الأخبار على الرشيد، بحسن طريقة أحمد بن عيسى بن زيد، وميل الناس إليه، أمر بحمله، فحمل إلى بغداد، ومعه القاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، وهو والد محمد بن القاسم الصوفي الخارج بخراسان في أيام المعتصم، فحبسا عند الفضل بن الربيع، فكانا في حبسه في داره الشارعة على دجلة، قرب رأس الجسر، بمشرعة الصخر.
وكان حسن الصنيع إليهما، يؤتيان بمائدة كمائدته التي توضع بين يديه، ويواصلان من الحلوى، والفاكهة، والثلج في الصيف، بمثل ما يكون على مائدته، فإذا أكلا، رفعت من بين أيديهما، ووضعت بين أيدي الموكلين بهما.

فأكلا يوماً من الأيام، ورفعت المائدة فجعلت بين يدي الموكلين بهما، فأكلوا، وأكثروا، ودخل وقت القائلة فناموا، فخرج أحمد بن عيسى إلى حب في ناحية الدهليز، فرأى القوم نياماً، فغرف من الحب، بالكوز الذي معه، ثم رجع، فقال للقاسم: يا هذا اعلم أني قد رأيت فرصة بينة، وهؤلاء نيام، والباب غير مقفل، لم يحكموا - كما كانوا يفعلون - إغلاقه، فاخرج بنا.
فقال له القاسم: أنشدك الله، فإنك تعلم، أنا في عافية من كثير مما فيه أهل الحبوس، والفضل محسن إلينا.
فقال له أحمد: دعني منك، واعلم أن العلامة بيني وبينك، أن أغرف من الحب، فإن تحرك القوم رجعت إليك، وكانت علتي ظاهرة بسبب الكوز، وإن لم يتحركوا، فأنا - والله - خارج، وتاركك بموضعك، واعلم أنك لا تسلم بعدي.
ثم خرج، فغرف من الحب بالكوز، ثم طرحه من قامته، قال: وكان أطول مني ومنك، فما تحرك أحد منهم، ثم انثنى علي، وقال: قد رأيت ما استطهرت به لك ولنفسي، وأنا - والله - خارج، ثم مضى، واتبعه القاسم، ففتحا الباب، وخرجا، فقالا: لا نجتمع في طريق، ولكن موعدنا، موضع كذا.
فلما جازا العتبة بخمسين ذراعاً، لقيهما غلام للفضل بن الربيع، مدني، أعرف بهما من أنفسهما، فبهت الغلام لما رآهما، فأومأ إليه أحمد، بكمه، كالآمر بغضب: تنح، فما ملك الغلام نفسه أو تنحى، ثم كان عزمه أن يستقيم في طريقه ذاك، فلما لي من الغلام بما لي، عدل عن تلك الطريق، وسار في طريق أخرى للاستظهار على الغلام، وأسرع حتى نجا... وذكر بقية الحديث.

الكوز
إناء من الفخار، شائع الاستعمال في بغداد، يشبه الإبريق، إلا أنه من دون البلبلة، أي القناة الصغيرة التي يصب منها الماء، وتسميه العامة: تنكه، بالكاف الفارسية، معربة عن الفارسية: تنك، أي الكوز، والفخار الذي يجهز لتصفية الماء وشربه ببغداد، على أشكال مختلفة، فالزير، ويسمونه الحب، وهي فصيحة، يصب فيه الماء الكدر، فيقطر الماء الصافي من أسفله إلى إناء من الفخار، يسمونه: بواقة، تلفظ القاف كافاً فارسية على طريقة البغداديين، والكلمة فصيحة، من باق: أي سرق، كأنها تسرق الماء من الحب، نقطة نقطة، فإذا امتلأت البواقة، صب ماؤها في الجرة ليبرد، ومنها إلى الكوز حيث يكون معداً للشرب، فإما أن يشرب من الكوز، أو يصب في كأس يسمى شربة الغيث المسجم في شرح لامية العجم 2 - 261، أو حبانة، يختلف اسمه باختلاف شكله، وصانعو الفخار يجتهدون في اختيار التراب المناسب لصنعه، ويغالون فيه، إذ ليس كل تراب صالحاً ليكون فخاراً جيداً، فإن وجدوا التراب المناسب، سلطوا عليه الماء، وأجادوا مرسه بأيديهم، كيلا يبقى فيه أي أثر للمواد المالحة، حتى أن بعضهم كان يرمي بخاتمه في الطين، ويطلب من عماله أن يبحثوا عنه، وأن يعيدوه إليه، فيكلفهم هذا البحث، أن يمرسوا بأصابعهم كل حفنة من الطين، فإذا تم تنظيفه، وتخميره، صنع على مختلف الأشكال، وأودع في موقد يشوى فيه، وهاذ الموقد يسميه البغداديون: الكورة، فصيحة وهواسم المحجرة من الطين، فإذا تم شيه، أصبح صالحاً للاستعمال، واستعمال الكوز، إذا كان جيد الطين، حسن الصنع، من طيبات الدنيا، وخاصة إذا رش عليه، قبل استعماله، قطرات من ماء الورد، فإن شرب الماء في الكوز، يكسبه طعماً لذيذاً، لا يقدره إلا من ذاقه، ومما يعبث على الأسف أن استعمال الكوز، يكاد أن ينقرض، لشيوع الكهرباء والثلاجات، قال أبو إسحاق الصابي يتشوق إلى شرب ماء الكوز ببغداد معجم البلدان 1 - 648:
لهف، نفس على المقام ببغدا ... د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الذميمة نسقى ... شرّ سقيا من مائها الأترجّي
أصفر منكرٌ ثقيل غليظٌ ... خاثر مثل حقنة القولنج
كيف نرضى بشربه وبخيرٍ ... منه في كنف أرضنا نستنجي
محمد الحمداني يحل محل أخيه في إمارة الموصل

ومن طريف ما شاهدناه في هذا الباب: أن أبا تغلب، فضل الله، عدة الدولة، بن ناصر الدولة أبي أحمد، استوحش من أخيه محمد، بعد موت أبيهما، فقبض عليه، واستصفى ماله، وقبض عقاره وضياعه، ونعمته، وثقله بالحديد، وأنفذه إلى القلعة المعروفة بأردمشت، وهي مشهورة حصينة، من أعماله الموصل، فحبسه بها في مطمورة، ووكل بحفظه عجوزاً يثق بها، جلدة ضابطة، يقال لها: نازبانو وأمرها أن لا توصل إليه أحداً، ولا تعرفه خيراً، وأن تخفي موضعه عن جميع شحنة القلعة وحفظتها، ففعلت ذلك.
فأقام على حاله تلك نحو ثمان سنين.
ثم اتفق أن انحدر أبو تغلب معاوناً لعز الدولة أبي منصور بختيار بن معز الدولة أبي الحسين، ومعهما العساكر، يقصدان بغداد لمحاربة عضد الدولة، وتاج الملة أبي شجاع، وخرج للقائهما، فكانت بينهم الواقعة العظيمة بقصر الجص، وقتل فيها عز الدولة بختيار، وانهزم أبو تغلب، فدخل الموصل، وخاف من تخلص أخيه محمد، فكتب إلى غلام له، كانت القلعة مسلمة إليه يقال له: طاشتم، أن يمكن صالح بن بانويه، رئيس الأكراد، - وكان كالشريك لطاشتم في حفظ القلعة - من أخيه محمد بن ناصر الدولة، ليمضي فيه ما أمره به، وكتب إلى صالح، يأمره بقتل محمد، فمكن طاشتم صالحاً منه.
فلما أراد الدخول على محمد، ليقتله، منعت نازبانو من ذلك، وقالت: لا أمكن منه، إلا بكتاب يرد علي من أبي تغلب.
وشارف عضد الدولة الموصل، وأجفل عنها أبو تغلب، وكردته العساكر، فاشتد عليه الطلب، وورد عليه كتاب من القلعة بما قالت نازبانو، فإلى أن يجيب عنه، أحاط عساكر عضد الدولة بالقلعة، ونازلوها، فانقطع ما بين أبي تغلب وبينها، فلم يصل إليها كتاب، وفتحها عضد الدولة بعد شهور، بأن واطأه صالح، بالقبض على طاشتم، وكتب إليه يعرفه بما عمله، ويستأمره فيما يعمله.
وكان لمحمد خصي أسود مملوك، يلي أمر داره، اسمه ناصح، وكان بعد القبض على محمد، قد وقع إلى عضد الدولة، وهو بفارس، فصار من وجوه خدمه، وحضر معه وقعة قصر الجص، فلما ورد خبر فتح القلعة، أذكره ناصح بوعد كان له عليه في إطلاق مولاه محمد، إذا فتح القلعة، فكتب بأن يطلب محمد في القلعة، فإن وجد حياً، أطلق، وأنفذ به إليه مكرماً.
فحين دخل صالح، ومعه من صعد إلى القلعة من أصحاب عضد الدولة، إلى محمد في محبسه، جزع جزعاً شديداً، ولم يشك أنهم يريدون قتله، بأمر أبي تغلب، فأخذ يتضرع، ويقول: ما يدعو أخي إلى قتلي.
فقال له صالح: لا خوف عليك إنما أمرنا الملك أن نطلقك، وتمضي إليه مكرماً، فقد ملك هذه البلاد.
فقال: أغلب ملك الروم على هذه النواحي، وفتح القلعة ؟ قالوا: لا، ولكن الملك عضد الدولة.
قال: الذي كان بشيراز ؟ قالوا: نعم، وقد جاء إلى بغداد.
قال: وأين بختيار ؟ قالوا: قتل.
قال: وأبو تغلب ؟ قالوا: انهزم ودخل إلى بلاد الروم.
قال: وأين عضد الدولة ؟ قالوا: بالموصل، وهوذا نحملك إليه مكرماً.
فسجد حينئذ، وبكى بكاءً شديداً، ثم حمد الله، فأرادوا فك قيوده فقال: لا أمكن من ذلك، إلا أن يشاهد حالي الملك.
فحمل إلى الموصل إلى عضد الدولة، فرأيته وقعد أصعد به مقيداً من المعبر الذي عبر فيه دجلة، إلى دار أبي تغلب التي نزل بها عضد الدولة بالموصل، وكنت أنا - إذ ذاك - أتقلدها له وجميع ما فتحه مما كان في يد أبي تغلب مضافاً إلى حلوان، وقطعة من طريق خراسان، فرأيت محمداً يمشي في قيوده، حتى دخل إليه فقبل الأرض بين يدي عضد الدولة، ودعا له، وشكره، فأخرج إلى حجرة من الدار، فأخذ حديده، وحمل على فرس فاره بمركب ذهب، وقيد بين يديه خمس دواب بمراكب فضلة مذهبة، وخمس بجلالها، وثلاثون بغلاً محملة مالاً صامتاً، ومن صنوف الثياب الفاخرة، والفرش السري، والطيب، والآلات المرتفعة القدر، ونقل إلى دار قد فرغت له، وفرشت بفرش حسن، وملئت بما يحتاج إليه من الصفر، والآلات، والعلوفات، والحيوان، والحلوى، وأطعمة نقلت إليه من المطبخ، وأنبذة، وغير ذلك.
ثم أقطعه بعد أيام، إقطاعاً بثلثمائة ألف درهم، وولاه إمارة بلده وأعماله، وجميع ما كان يتولاه أبو تغلب.

طريق خراسان

طريق خراسان، هو المحجة، أو الطريق السلطاني بين الحضرة بغداد، وبين خراسان، ومن جملة أعماله: البندنيجين، وبراز الروز الوزراء 187 ويعقوبا ابن الأثير 11 - 215، فالبندنبجين: بلدة مشهورة في طرف النهروان من ناحية الجبل، من أعمال بغداد، أصلها وندنيكان، وعربت، فأصبحت بندنيجين معجم البلدان 1 - 745 أقول: وقد خفف الاسم المعرب، فأصبح الآن: مندلي، وهي بلدة على حدود العراق الشرقية، وقد وليت القضاء بها في السنة 1934، وأهلها طيبون، وهم خليط من الأكراد، والتركمان، والعرب، وأرضها عظيمة الخصب، تكثر فيها الأرطاب والحمضيات، تمرها من أفخر تمور العراق، لا سيما المسمى الميرحاج، وأزرق الأزرق، وبرتقالها لا مثيل له، رقيق القشرة، قوي العطر، كثير الماء، قليل النوى، لذيذ الطعم جداً، وتكثر فيها الزنابير، لكثرة التمور، وفيها الجرار المشهور، وهو نوع من العقارب، أصفر اللون، سمي بالجرار، لأنه يجر ذنبه على الأرض وراءه، ويقال أن لدغته قتالة، ويوجد منه في الأهواز المسالك والممالك للأصطخري 64 ويوجد منه أيضاً في شهرزور نهاية الأرب 10 - 148، والجرار كثير في مندلي، وقد كلفت خادمي، مرة، أن يحضر لي جراراً لأراه، فقال: هل تريده ذكراً أو أنثى، يريد أنه متوفر إلى درجة أن له أن يختار وينتقي ما يريد منها، أما براز الروز، فقد ذكر ياقوت في معجمه 1 - 534 أنها من طساسيج السواد ببغداد، من الجانب الشرقي من أستان شاه قباذ، وكان للمعتضد به أبنية جليلة، أقول: اسمها الآن: بلدروز، وهي ناحية تابعة لمندلي، أرضها عظيمة الخصوبة، وقد زرتها أكثر من مرة، عندما كنت قاضياً في مندلي، لأنها تابعة لها، وكانت في العهد العثماني من الأملاك السنية، أي من أملاك السلطان عبد الحميد العثماني، إختارها لخصوبة أرضها، وتنازل عنها لمتمول يوناني، فأقام بها قصراً، ونصب لإدارتها موظفين عدة، يقومون بزراعتها، واستيفاء ارتفاعها، وموقع براز الروز، من أطيب المواقع، وهواؤها عذب لطيف رائق.

أسرة الروم في أيام معاوية وأطلقوه في أيام عبد الملك
روى حميد، كاتب إبراهيم بن المهدي، أن إبراهيم حدثه، أن مخلداً الطبري، كاتب المهدي على ديوان السر، حدثه، أن سالماً مولى هشام بن عبد الملك، وكاتبه على ديوان الرسائل، أخبره، أنه كان في ديوان عبد الملك يتعلم كما يتعلم الأحداث في الدواوين، إذ ورد كتاب صاحب بريد الثغور الشامية، على عبد الملك، يخبره فيه أن خيلاً من الروم تراءت للمسلمين، فنفروا إليها، ثم عادوا ومعهم رجل كان قد أسر في أيام معاوية بن أبي سفيان، فذكر أن الروم لما تواقفوا مع المسلمين، أخبروهم أنهم لم يأتوا لحرب، وإنما جاؤوا بهذا المسلم ليسلموه إلى المسلمين، لأن عظيم الروم أمرهم بذلك.
وذكر صاحب البريد، أن النافرين ذكروا، أنهم سألوا المسلم عما قال الروم، فوافق قوله قولهم، وذكر أن الروم قد أحسنوا إليه، فانصرفوا عنهم، وإني سألته عن سبب مخرجه، فذكر أنه لا يخبر بذلك أحداً دون أمير المؤمنين.
فأمر عبد الملك بإشخاص المسلم إليه، فأشخص إلى دمشق.
فلما دخل على عبد الملك، قال له: من أنت ؟ قال: قتات بن رزين اللخمي.
قال مؤلف هذا الكتاب، كذا كان في الأصل الذي نقلت منه: قتات، وأظنه خطأ، لأن المشهور قباث بن رزين اللخمي، وقد روى الحديث عن علي بن رباح اللخمي، عن عقبة بن عامر الجهني، أو لعله غيره والله أعلم.
رجع الحديث: أسكن فسطاط مصر في الموضع المعروف بالحمراء، أسرت في زمن معاوية، وطاغية الروم - إذ ذاك - توما بن مرزوق.
فقال له عبد الملك: فكيف كان فعله بكم ؟ قال: لم أجد أحداً أشد عداوة للإسلام وأهله منه، إلا أنه كان حليماً، فكان المسلمون في أيامه أحسن أحوالاً منهم في أيام غيره، إلى أن أفضى الأمر إلى ابنه ليون، فقال - في أول ما ملك - إن الأسرى إذا طال أسرهم في بلد، أنسوا به، ولو كان على غاية الرداءة، وليس شيء أنكأ لقلوبهم من نقلهم من بلد إلى بلد، فأمر باثني عشر قدحاً، فكتب على رأس كل قدح اسم بطريق من بطارقة البلدان، ويضرب بالقداح في كل سنة أبع مرات، فمن خرج اسمه في القدح الأول، حول إليه المسلمون، فاحتبسهم عنده شهراً، ثم إلى الثاني، ثم إلى الثالث، ثم تعاد القداح بعد ذلك.

فكنا لا نصير عند أحد من البطارقة، إلا قال لنا: احمدوا الله حيث لم يبتلكم ببطريق البرجان، فنا نرتاع لذكره، ونحمد ربنا إذ لم يبتلنا به، فمكثنا على ذلك سنين.
ثم ضربت القداح، فخرج الأول والثاني لبطريقين، والثالث لبطريق البرجان، فمر بنا في الشهرين غم كبير، نترقب المكروه.
ثم انقضى الشهران، فحملنا إليه، فرأينا على بابه من الجمع خلاف ما كنا نعاين، ورأينا من زبانيته من الغلظة خلاف ما كنا نرى، ثم وصلنا إليه، فتبين لنا من فظاظته وغلظته، ما أيقنا معه بالهلكة، ثم دعا بالحدادين، فأمر بتقييد المسلمين بأمثال ما كان يقيدهم به غيره، فلم يزل الحديد يعمل في رجل واحد واحد، حتى صار الحداد إلي، فنظرت إلى وجه البطريق فرأيته قد نظر إلي نظراً بخلاف العين التي كان ينظر بها إلى غيري، ثم كلمني بلسان عربي، فسألني عن اسمي ونسبي ومسكني، بمثل ما سألني عنه أمير المؤمنين، فصدقته عما سألني عنه.
ثم قال لي: كيف حفظك لكتابكم ؟ فأعملته أني حافظ.
قال: اقرأ آل عمران، فقرأت منها خمسين آية.
فقال: إنك لقارىء فصيح، ثم سألني عن روايتي للشعر، فأعلمته أني راوية.
فاستنشدني لجماعة من الشعراء، فقال: إنك لحسن الرواية.
ثم قال لخليفته: إني قد ومقت هذا الرجل، فلا تحدده.
ثم قال: وليس من الإنصاف أن أسوءه في أصحابه ففك الحديد عن جماعتهم، وأحسن مثواهم، ولا تقصر في قراهم.
ثم دعا صاحب مطبخه، فقال له: لست أطعم طعاماً، ما دام هذا العربي عندي، إلا معه، فاحذر أن تدخل مطبخي ما لا يحل للمسلمين أكله، وأن تجعل الخمر في شيء من طبيخك، ثم دعا بمائدته، واستدناني حتى قعدت إلى جانبه.
فقلت له: فدتك نفسي وبأبي أنت، أحب أن تخبرني من أي العرب أنت ؟ فضحك وقال: لست أعرف لمسألتك جواباً، لأني لست عربياً فأجيبك على سؤالك.
فقلت له: مع هذه الفصاحة بالعربية ؟ فقال: إن كان العلم باللسان ينقل الإنسان من جنسه إلى جنس من حفظ لسانه، فأنت إذاً رومي، فإن فصاحتك بلسان الروم، ليست بدون فصاحتي بلسان العرب، فعلى قياس قولك ينبغي أن تكون رومياً، وأكون أنا عربياً.
فصدقت قوله: وأقمت عنده خمس عشرة ليلة، لم أكن منذ خلقت، في نعمة، أكبر منها.
فلما كانت ليلة ست عشرة، فكرت أن الشهر قد مضى نصفه، وأن الليالي تقربني من الانتقال إلى غيره، فبت مغموماً.
وصار رسوله إلي، في اليوم السادس عشر، يدعوني إلى طعامه، فلما حضر الطعام بين أيدينا، رأى أكلي مقصراً عما كان يعهد، فضحك، ثم قال لي: أحسبك يا عربي، لما مضى نصف الشهر، فكرت في أن الأيام تقربك من الانتقال عني إلى غيري ممن لا يعاملك بمثل معاملتي، ولا يكون عيشك معه مثل عيشك معي، فسهرت، واعتراك لذلك غم غير طعامك، فأعلمته أنه قد صدق.
فقال: ما أنا إن لم أحسن الاختيار لصديقي بحر، وقد أمنك الله مما حذرت، ولم ألبث في اليوم الذي وصلت إلي فيه، حتى سألت الملك، فصيرك عندي، ما كنت في أرض الروم، فلست تنقل عن يدي، ولا تخرج منها إلا إلى بلدك، وأرجو أن يسبب الله ذلك على يدي، فطابت نفسي، ولم أزل مقيماً عنده، إلى أن انقضى الشهر.
فلما انقضى، ضرب بالقداح، فخرج الأول، والثاني، والثالث، لبطارقة غير الذي نحن عنده، فحول أصحابي، وبقيت وحدي.
وتغديت في ذلك اليوم مع البطريق، وكان من عادتي أن أنصرف من عنده بعد غدائي إلى إخواني من المسلمين، فنتحدث، ونأنس، ونقرأ القرآن، ونجمع الصلوات، ونتذاكر الفرائض، ويسمع بعضنا من بعض ما حفظ من العلم وغيره، فانصرفت ذلك اليوم بعد غدائي إلى الموضع الذي كنت أصير إليه وفيه المسلمون، فلم أر فيه أحداً إلا الكفرة، فضاق صدري ضيقاً تمنيت معه أني كنت مع أصحابي، فبت بليلة صعبة لم أطعم فيها الغمض، وأصبحت أكسف خلق الله بالاً، وأسوأهم حالاً.
وصار إلي الرسول في وقت الغداء، فصرت إليه، فتبين الغم في أسرة وجهي، ومددت يدي إلى الطعام، فرأى مد يدي إليه، خلاف الذي كان يعرف، فضحك، ثم قال: أحسبك اغتممت لفراق أصحابك ؟ فأعلمته أنه صدق، وسألته: هل عنده حيلة في ردهم إلى يده.

فقال: إن الملك لم ير أن ينقل أصحابك من يدي إلى يد غيري إلا ليغمهم بما يفعل، ومن المحال أن يدع تدبيره في الاضرار بهم، لميلي إليك ومحبتي لك، وليس عندي في هذا الباب حيلة، فسألته أن يسأل الملك إخراجي عن يده، وضمى إلى أصحابي أكون معهم حيث كانوا.
فقال: ولا في هذا أيضاً حيلة، لأني لا أستجيز أن أنقلك من سعة إلى ضيق، ومن كرامة إلى هوان، ومن نعمة إلى شقاء.
فلما قال ذلك، تبين في الانكسار وغلبة الغم، فقال لي: بلغ بك الغم إلى النهاية ؟ فأخبرته: أنه قد بلغ بي الغم، أن اخترت الموت على الحياة، لعلمي أنه لا راحة لي بغيره.
فقال لي: إن كنت صادقاً، فقد دنا فرجك.
فسألته عما دله على ذلك، فقال لي: إني وقعت في نكبات أشد هولاً مما أنت فيه، وكان عاقبتها الفرج.
وأعلمني أن بطرقة بلده لم تزل في آبائه يتوارثونها، وأن عددهم كان كثيراً، ولم يبق غير أبيه وعمه، وكانت البطرقة إلى عمه دون أبيه، فأبطأ على أبيه وعمه الولد، فبذلا للمتطببين، الكثير من الأموال لعلاجهما بما يصلح الرجال للنساء، إلى أبن بطل العم، ويئس من الانتشار، فصرف بعض الأطباء عنايته إلى معالجة أبي البطريق، فعلقت أمه به.
فلما علم العم أنه قد علقت أمه به، جمع عدة من الحبالى، من ألسنة مختلفة، منها العربي، والرومي، والافرنجي، والصقلابي، والخزري، وغير ذلك، فوضعن في داره.
فلما وضعت البطريق أمه، أمر بتصيير أولئك النساء كلهن معه، وتقدم إلى كل واحدة منهن، ألا تكلمه إلا بلسانها.
فلم تستتم له أربع سنين، حتى تكلم بكل الألسنة التي لأمهاته اللاتي أرضعنه.
ثم أمر بتصيير ملاعبيه ومؤدبيه من جميع أجناس النساء اللواتي ربينه، فكانوا يعلمونه الكتابة، وقراءة كتبهم فلم تمر عليه تسع سنين، حتى عرف ذلك كله.
ثم أمر عمه أن يضم إليه جماعة من الفرسان يعلمونه الثقافة والمناولة، وجميع ما يتعلمه الفرسان، وتقدم بمنعه من سكنى المنازل، وأمر أن ينزل في المضارب، وأن يمنع من أكل اللحم إلا ما يصيده طائر يحمله على يديه، أو كلب يسعى بين يديه، أو صيد بسهمه، فكانت تلك حاله حتى استوفى عشر سنين، ثم مات عمه، وولي أبوه البطرقة بعد عمه، وأمره بالقدوم عليه، فلما رآه، ورأى فهمه، وأدبه، وشمائله، اشتد عجبه به، فسمح له بما لم تكن الملوك تسمح به لأولادها، وأعد له المضارب والفساطيط الديباج، وضم إليه جماعة كثيفة من الفرسان، ووسع على الجميع في كل ما يحتاجون إليه، ورده إلى سكنى المضارب، وأخذه بالاستبعاد عن منازل أبيه.
قال البطريق: فلما تمت لي خمس عشرة سنة، ركبت يوماً لارتياد مكان أكون فيه، فبصرت بغدير ماء قدرت طوله ألف ذراع وعرضه ما بين ثلثمائة ذراع إلى أربعمائة ذراع، فأمرت بضرب مضاربي عليه، وتوجهت إلى الصيد، فرزقت منه في ذلك اليوم، ما لم أطمع في مثله كثرة، ونزلت في بعض المضارب فأمرت الطباخين، فطبخوا لي ما اشتهيت من الطعام، ثم نصبت المائدة بين يدي.
فإني لأنظر إلى الطبيخ يغرف، إذ سمعت ضجة عظيمة، فما فهمت خبرها حتى رأيت رؤوس أصحابي تتساقط عن أبدانهم، فتنحيت عن مكاني الذي كنت فيه، وخلعت الثياب التي كانت علي، ولبست ثياب بعض عبيدي، ثم ضربت ببصري يمنة ويسرة، فلم أر حولي إلا مقتولاً، وإذا فاعل ذلك بأصحابي منسر من مناسر البرجان.
ثم أسرت كما يؤسر العبيد، واحتل جميع ما كان معنا، من مضرب وغيره، وصاروا بي إلى ملك البرجان.
فلما رآني، ولم يكن له ولد ذكر، أمر بالتوسعة علي، وأن أكون واقفاً عند رأسه، وسماني ابنه.
وكان للملك بنت، وكان بها مغرماً، وكان قد علمها الفروسية، ومساورة الفرسان، ومساهمتهم ومراكضتهم.
فقال - وأنا حاضر - لجماعة من بطارقته: من منكم يتوجه إلى ملك الروم فيجيئني بكاتب من بلده، ليعلم ابنتي الكتابة.
فأعلمته أن رسوله لا يأتيه بأكتب مني.
فأمرني أن أكتب بين يديه، فكتبت، فاستحسن خطي، وقرنه بكتب كانت ترد عليه من والدي، فرأى خطي أجود منها، فدفع إليه ابنته، وأمرني أن أعلمها الكتابة، فهويتها، وهويتني.
فمكثت معي حتى استوفت ثلاث عشرة سنة، ثم عدت إلي يوماً وهي باكية، فقلت لها: ما يبكيك يا سيدتي ؟ فقالت: دعني، يحق لي البكاء، فسألتها عن السبب.

فقالت: كنت جالسة بين يدي أبي وأمي في هذه الليلة، فغلبتني عيني، فنمت، فسمعت أبي يقول لأمي: أرى ثديي ابنتك قد تفلكا، وأرى هذا الرومي قد غلظ كلامه، وليس ينبغي أن يجتمعا بعد هذا الوقت، فإذا جلست غداً معه، فابعثي إليهما من يفرق بينهما، حتى لا يراها، ولا تراه.
قال البطريق: ومن سنة البرجان، أن يكون الرجل يخطب لابنته زوجاً، حتى يزوجها، ولا يخطب لها إلا من تختاره البنت.
قال البطريق: فقلت لابنة الملك، إذا سألك أبوك، من تحبين أن أخطب لك من الرجال، فقولي: لست أريد إلا هذا الرومي.
فغضبت، وقالت: كيف يجوز أن أسأل أبي أن يزوجني بعبد ؟ قال: فقلت لها: ما جعلني الله عبداً، وأنا ابن ملك، وأبي ملك الروم.
قال البطريق: وأهل البرجان، يسمون البطريق الرومي الذي يتولى حد برجان: ملك الروم.
فسألتني: هل أخبرتها بحق ؟ فأعملتها أنه حق.
فما انقضى كلامنا، حتى جاء رسول الملك، ففرقوا بيننا، ولم يمض بعد ذلك، إلا ثلاثة أيام حتى دعاني الملك، فدخلت عليه، فرأيت أمارات الشر مستحكمة في وجهه.
فقال لي: يا شقي، ما حملك على الكذب في نسبك ؟ وأنا أحكم على من انتسب إلى غير أبيه بالقتل.
فقلت له: ما انتسبت إلى غير أبي.
فقال لي: أتقول إنك ابن ملك الروم ؟ فأعلمته أني أقول ذلك، ودعوته إلى الكشف عنه.
فقال: لست أحتاج إلى كشف أمرك برسول أرسله ليعرف خبرك، ولكن لي أشياء أمتحنك بها، فأعرف صدقك من كذبك، فدعوته إلى كشفها بما شاء.
فدعا بدابة، ولبد، وسرج، ولجام، فأمرني بتناول الدابة، فأخذت الدابة من يد السائس، ثم أمرني بأخذ اللبد، فأخذته، ثم أمرني بإلقائه على الدابة، ففعلت ما أمرني به، ثم أمرني بتناول السرج، فأخذته، ثم أمرني بشد الحزام، والثفر، واللبب، وأخذ اللجام وإلجام الدابة، ففعلت ذلك، ثم أمرني بركوب الدابة، فركبت، وأمرني بالسير فسرت، وأمرني بالإقبال والإدبار، ففعلت، ثم أمرني بالنزول، فنزلت.
فقال، عند ذلك: أشهد أنه ابن ملك الروم، لأنه أخذ الدابة أخذ ملك، وعمل سائر الأشياء مثلما تعمله الملوك، فاشهدوا أني قد زوجته ابنتي.
فلما قالوا شهدنا، قال: لا تشهدوا.
فلما سمعت قوله: لا تشهدوا، تخوفت أن يأتي على نفسي.
ثم قال لي: لم أتوقف عن الشهادة رغبة عنك، ولكنا لنا شرط لا نقدر أن نخالفه، ولم نأمن أن تضطر إليه، فنحملك على شرطنا، وهو ما لم نخبرك به، ونوقفك عليه، فنكون قد ظلمناك، أو ندع لك سنة بلدنا، فنكون قد فارقنا سنتنا، إن سنتنا يا رومي، أن لا نفرق بين الزوجين إذا مات أحدهما، فإن مات الرجل قبل المرأة، نومناها معه في نعشه، وحملناهما معاً، حتى ننزلهما إلى بئر هي مأوى موتانا، وجعلنا معهما طعاماً وشراباً لثلاثة أيام، ثم أنزلناهما إلى البئر، فإذا صارا إلى قرارها سيبنا الحبال عليهما، وكذلك إن ماتت المرأة قبل الرجل، جعلناها في سريرها، وجعلنا زوجها معها، وصيرناهما جميعاً في البئر، فإن رضيك بهذه السنة فبارك الله لك في زوجك، وإن لم ترض أقلناك، فلسنا نزوجك، ولا تستقيم لنا على خلاف سنتنا، فأحوجتني الصبابة بها، أن قلت: قد رضيت بهذه السنة.
فأمر بتجهيزها وتسليمها إلي، وجمع بيننا، فأقمت معها أربعين يوماً، لا نرى إلا أنا قد فزنا بملك الدنيا.
ثم اعتلت علة كانت معها غشية، لم يشك كل من رآها إلا أنها قبضت، فجهزت بأفخر ثيابها، وجهزت معها بمثل ذلك، وحملنا على نعش واحد، وركب الملك، وأهل المملكة، فشيعونا حتى وافوا بنا شفير البئر، ثم شدوا أسافل السرير بالحبال، وجعلوا معنا في النعش طعاماً وشراباً لثلاثة أيام، ثم حطونا حتى صرنا إلى قرارة البئر.
ثم أرخيت علينا الحبال، فسقط حبل منها على وجه الجارية، فأزال الوجع ما كان بها من الغشي، فانتبهت، فلما انتبهت، رأيت أن الدنيا قد جمعت لي.
واستمرت عيني على الظلمة، فرأيت في الموضع الذي أنا فيه، من الخبز اليابس والخمر ما له دهر كثير، فأخذنا نتغذى به جميعاً.
وكنا لا نعدم في يوم من الأيام، إلا النادر، سريراً يدلى فيه زوجان، أحدهما ميت، والآخر حي، فإن كان النازل رجلاً حياً، توليت أنا قتله، لئلا يكون مع زوجتي غيري، وكذلك إن كانت الحية امرأة، تولت زوجتي قتلها، لئلا يكون مع زوجها غيرها.

فمكثنا في البئر هذه الحال أكثر من سنة، ثم دلي في البئر دلو، فعلمت أن مدلي الدلو غير برجاني، وأنه لا يدخل ذلك الموضع غير برجاني، إلا رومي، ووقع لي أن أقدم الجارية قبلي، لتتخلص، ثم تعرفهم حالي، فيردوا الدلو إلي، فأصعد.
فحملت بنت الملك فجعلتها في الدلو بكسوتها، وحليها، وجواهرها، واجتذب القوم الدلو، فخرجت إليهم الجارية.
فإذا القوم مماليك لأبي، ولم ينتبهوا للسؤال عني، وهابتهم الجارية، أن تقول لهم شيئاً، وقد كانوا رأوا ما فيه أمي وأبي وما غلب عليهما من الحزن لفقدي، فصاروا إليهما بالجارية ليتسلون بها، فسرا بها، وسكنا إليها.
واستمرت الهبية لهما بالجارية، فحصلت شر محصل.
وقد كان لوالدي صديق، له أدب وحكمة، وعلم بالتصوير، صور لهما صورتي في خشبة، وزورقها، وجعلها في بيت، وقال لأبوي: إذا ذكرتما ابنكما، واشتد غمكما، فادخلا فانظرا إلى هذه الصورة، فإنكما ستبكيان بكاء كثيراً يعقبكما سلوة.
فلما صارت الجارية إلى أبوي، ورأتهما يدخلان ذلك البيت كثيراً، ويخرجان، وقد بكيا، استقفتهما يوماً، وهما داخلان، فبصرت بالصورة، فلما رأتها لطمت وجهها، ونتفت شعرها، ومزقت ثيابها.
فسألاها عن السبب فيما صنعت بنفسها، فقالت: هذه صورة زوجي، فسألاها عن اسمه، واسم أبيه وأمه، فأسمتهم جميعاً.
فقالا لها: فأين زوجك ؟ قالت: في البئر التي أخرجت منها، فركب أبي وأمي في أكثر أهل البلد، ومعهم الغلمان الذين أخرجوا الجارية من البئر، حتى وافوا البئر، فدلوا الدلو، وكنت قد سللت سيفي الذي كان أنزل معي من غمده، وجعلت ذبابه بين ثديي لأتكىء عليه، فأخرجه من ظهري، فأستريح من الدنيا، لغلبة الغم علي، فوثبت، فقعدت في الدلو، واجتذبوني حتى خرجت، فوجدت أبي، وأمي، وامرأتي، على شفير البئر، وقد أحضروا لي الدواب لأركب وأنصرف إلى بلادي، وكان أبي قد صار ملك تلك البلاد، فلم أطعهما، وأعلمتهما أن الأصوب البعثة إلى أبي الجارية، وأمها، حتى يريا ابنتهما مثلما رأيتماني.
ففعلا ذلك، ووجها إلى أبي الجارية، وهو صاحب البرجا، فخرج في أهل مملكته، حتى عاينها، وأقاموا عرساً جديداً، وحدثت مهادنة بين الروم والبرجان جرت فيها أيمان مؤكدة أن لا يعدو أحدها على صاحبه ثلاثين سنة، وصار القوم إلى بلادهم، وصرنا إلى منازلنا.
قال: ومات أبي، فورثت البطرقة عنه، ورزقت من بنت ملك البرجان الولد، وأنت يا عربي، فإن كان الغم قد بلغ منك إلى ما ذكرت فقد جاءك الفرج.
فما انقضى كلام البطريق، حتى دخل عليه رسول ملك الروم يدعوه، فمضى إليه، ثم عاد إلي، فقال: يا عربي، قد جاءك الفرج، كنت عند الملك، وقد جرى ذكر العرب، ورمتهم البطارقة عن قوس واحدة، فذكروا أنهم لا عقول لهم ولا آداب، وأن قهرهم الروم بالغلبة والاتفاق، لا بحسن التدبير.
فأعلمت الملك أن الأمر بخلاف ما قالوا، فإن للعرب آداباً، وأذهاناً، وتدبيراً جيداً.
فقال لي الملك: أنت لمحبتك لضيفك العربي تفرط في إعطاء العرب ما ليس لها، وتصفها بما ليس فيها.
فقلت: إن رأى الملك أن يأذن في إحضار هذا العربي، ليجمع بينه وبين هؤلاء المتكلمين، ليعرف فضيلته، فأمرني بحملك إليه.
فقلت: بئس ما صنعت بي، لأني أخاف إن غلبتني أصحابه أن يستخف بي، وإن غلبتهم أن يضطغن علي.
فقال: هذه صفة العامة، والملوك على خلافها، وأنا أخبرك أنك إن غلبتهم جللت في عين الملك، وكنت عنده بمكان يقضي لك فيه حاجة، وإن غلبوك سره غلبة أهل دينه لك، فأوجب لك أيضاً بذاك ذماماً، وإن أقل ما يرى أن يقضي لك حاجة، فإن غلبت أو غلبت فسله إخراجك من بلده، وردك إلى بلادك، فإنه سوف يفعل ذلك.
قال قباث: فلما دخلت على الملك، استدناني، وقربني، وأكرمني، وقال لي: ناظر هؤلاء البطارقة.
فأعلمته، أني لا أرضى لنفسي بمناظرتهم، وأني لا أناظر إلا البطريق الأكبر، فأمر بإحضاره.
فلما دخل، سلمت عليه، وقلت له: مرحباً أيها الشيخ الكبير القدر.
ثم قلت له: يا شيخ، كيف أنت ؟ قال: في عافية.
قلت: فكيف أحوالك كلها ؟ قال: كما تحب.
فقلت له: فكيف ابنك ؟ فتضاحكت البطارقة كلها، وقالوا: زعم البطريق يعنون الذي هو صديقي أن هذا أديب، وأن له عقلاً، وهو لا يعلم بجهله، أن الله تعالى قد صان هذا البطريق عن أن يكون له ابن.
فقلت: كأنكم ترفعونه عن أن يكون له ابن ؟

قالوا: إي والله، إنا لنرفعه، إذ كان الله رفعه عن ذلك.
فقلت: واعجباً، أيجل عبد من عبيد الله، أن يكون له ابن، ولا يجل الله تعالى، وهو خالق الخلائق كلها، عن أن يكون له ابن.
قال: فنخر البطريق نخرةً أفزعتني، ثم قال: أيها الملك، أخرج هذا الساعة من بلدك، لا يفسد عليك أهله.
فدعا الملك بالفرسان، فضمني إليهم، وأحضر لي دواب البريد، وأمر بحملي عليها، وتسليمي إلى من يلقانا في أرض الإسلام من المسلمين، فسلموني إلى من تسلمني من أهل الثغر.
ثم ذكر حديثاً لعبد الملك، مع الرجل، لا يتعلق بهذا الباب فأذكره، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

استنقذ المذحجيين من أسر بني مازن
وذكر القاضي أبو الحسين في كتابه الفرج بعد الشدة، قال: بلغني أن عمرو بن معدي كرب الزبيدي، قال: خرجت في خيل من بني زبيد، أريد غطفان، فبينما أنا أسير، وقد انفردت عن أصحابي، إذ سمعت صوت رجل ينشد شعراً، فحفظت منه قوله:
أما من فتى لا يخاف العطب ... يبلّغ عمرو بن معدي كرب
بأنّنا ننوّط في مازنٍ ... بأرجلنا اليوم نوط القرب
فإن هو لم يأتنا عاجلاً ... فيكشف عنّا ظلام الكرب
وإلاّ استغثنا بعبد المدان ... وعبد المدان لها إن طلب
قال: فعلمت أنه أسير في بني مازن بن صعصعة، فقلت لخيلي: قفوا حتى آتيكم، فاقتحمت على القوم وحدي، فإذا هم يصطلون.
فقلت: أنا أبو ثور، أين أسرى بني مذحج ؟.
فنادى الأسرى من الرجال، وبادر القوم إلي يطلبوني، فلم أزل أقاتلهم وأقتل منهم حتى استعفوني، وقالوا: إننا والله لنعلم، أنك لم تأتنا وحدك إلا وأنت لا تبالي بنا، فلك الأسرى فاكفف عنا خيلك.
فنزلت، وأطلقت بعضهم، وقلت: ليحل بعضكم بعضاً، وليركب كل واحد منكم ما وجد من الخيل، وأقبلت خيل فركبوها.
فقلت للأسرى: هل علمتم بموضعي، حين أنشدتم ما سمعت.
قالوا: لا والله، وما أصبحنا يوماً، منذ حبسنا، آيس من الفرج من يومنا هذا، فلذلك أقول:
ألم ترني إذ ضمّني البلد الفقر ... سمعت نداءً يصدع القلب يا عمرو
أغثنا فإنّا عصبة مذحجّيةٌ ... نناط على وفر وليس لنا وفر
فقلت لخيلي أنطروني فإنّني ... سريع إليكم حين ينصدع الفجر
وأقحمت مهري حين صادفت غرّةً ... على الطفّ حتّى قيل قد قتل المهر
فأنجيت أسرى مذحج من هوازن ... ولم ينجهم إلاّ السكينة والصّبر
ونادوا جميعاً حلّ منا وثاقنا ... أخا البطش ضارباً عنهم فتر
يزيد وعمر والحصين ومالكٌ ... ووهبٌ وسفيان وسابعهم وبر
تكلّفنا يا عمرو ما ليس عندنا ... هوازن فانظر ما الّذي فعل الدّهر
قال مؤلف هذا الكتاب: أنشدنا أبو الفرج الأصبهاني البيتين الأولين، أولهما: ألم تر لما ضمني البلد القفر. وفي الثاني: نراد على وتر وليس لنا وفر، قال: فيهما خفيف رمل بالوسطى لمحمد بن الحارث بن بسخنر عن عمرو، قال: وذكر أنه لابن بانه وفيهما ثاني ثقيل عن..
أخبرني بهذا الخبر، محمد بن الحسن بن المظفر، قال: أخبرني أبو القاسم الزينبي، قال: أخبرنا أبو خليفة الجمحي، عن محمد بن سلام، وذكر نحوه.
الباب السادس
من فارق شدة إلى رخاء
بعد بشرى منام لم يشب صدق تأويله بكذب الأحلام
ما عرض المعتضد في أيامه للعلويين ولا آذاهم ولا قتل منهم أحدا
ً
أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا محمد بن يحيى ابن أبي عباد الحسني، قال: رأى المعتضد، وهو في حبس أبيه، كأن شيخاً جالساً على دجلة، يمد يده إلى مائها فيصير في يده تجف دجلة، ثم يرده من يده، فتعود دجلة كما كانت.
قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا علي بن أبي طالب عليه السلام.
فقمت إليه، وسلمت عليه، فقال لي: يا أحمد، إن هذا الأمر صائر إليك، فلا تتعرض لولدي، وصنهم، ولا تؤذهم.
فقلت: السمع والطاعة لك يا أمير المؤمنين.

وحدثني أبي رحمه الله بهذا الحديث، على أتم من هذا، بإسناد ذكره عن إبن حمدون النديم، قال: حدثني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمدون، أو قال: حدثني من قال حدثني أبو محمد - أنا أشك - لأني لم أكتبه، وإنما حفظته في المذاكرة، ولعل الألفاظ تزيد أو تنقص، قال: قال لي المعتضد بالله وهو خليفة: لما قدم أبي، وهو عليل العلة التي مات فيها، وأنا في حبسه، ازداد خوفي على نفسي، ولم أشك في أن إسماعيل بن بلبل، سيحمله على قتلي، أو يحتال بحيلة يسفك بها دمي، إذا وجد أبي قد ثقل، وأيس منه.
فنمت ليلة من تلك الليالي، وأنا من الخوف على أمر عظيم، وقد صليت صلاة كثيرة ودعوت الله عز وجل، فرأيت في منامي كأنني قد خرجت إلى شاطىء دجلة، فرأيت رجلاً جالساً على الشاطىء، يدخل يده في الماء، فيقبض عليه، فتقف دجلة، ولا يخرج من تحت يده قطرة من الماء، حتى يجف ما تحت يده، ويتزايد الماء فوق يده ويقف كالطود العظيم، ثم يخرج يده من الماء فيجري، يفعل ذلك مراراً، فهالني ما رأيت.
فدنوت منه، وسلمت عليه، وقلت له: من أنت يا عبد الله الصالح ؟ فقال: أنا علي بن أبي طالب.
فقلت: يا أمير المؤمنين، ادع الله لي.
فقال: إن هذا الأمر صائر إليك، فاعتضد بالله، واحفظني في ولدي، فانتبهت وكأني أسمع كلامه لسرعة المنام.
فوثقت بأنني أتقلد الخلافة، وقويت نفسي، وزال خوفي، فقلت لغلام لم يكن معي في الحبس غيره، إذا أصبحنا فامض فابتع لي خاتماً، وانقش على فصه أحمد المعتضد بالله، وجئني به.
فمضى، وفعل، وأتاني به، فلبسته، وقلت: إذا وليت الخلافة، جعلت لقبي المعتضد بالله.
ثم أخذت أقطع ضيق صدري في الحبس، بتصفح أحوال الدنيا، والفكر في تدبير عمارة الخراب منها، ووجه فتح المنغلق، وتعيين العمال للنواحي، والأمراء في البلاد.
ثم أخذت رقعة، فكتبت، بدر: الحاجب، عبيد الله بن سليمان؛ الوزير، فلان: أمير البلد الفلاني، فلان؛ عامل البلد الفلاني؛ فلان: للديوان الفلاني، إلى أن أتيت على ما في نفسي من ذلك، ثم دفعتها للغلام، وقلت له: احتفظ بهذه، فإن دمي ودمك مرتهنان بما فيها، فحفظها.
فما مضى إلا أيام يسيرة، حتى لحقت الموفق غشية، لم يشك الغلمان معها أنه قد مات، فأخرجوني، فأتوا بي إلى بيت فيه الموفق، فلما رأيته علمت أنه غير ميت، فجلست عنده، وأخذت يده أقبلها وأترشفها، فأفاق، فلما رآني أفعل ذلك، أظهر التقبل لي، وأومأ إلى الغلمان، أن قد أحسنتم فيما فعلتم.
ثم مات الموفق في ليله تلك، ووليت مكانه، فابتدأت بتقرير الأمور، على ما كنت قررته في الرقعة، ثم وليت الخلافة، فأمضيت بقايا تلك التدبيرات كلها.
قال لي أبي: قال لي ابن حمدون: ما عرض المعتضد في أيامه للعلويين، ولا آذاهم، ولا قتل منهم أحداً.

سليمان بن وهب يتفاءل بمنام رآه وهو محبوس
حدثني علي بن هشام بن عبد الله الكاتب، قال: حدثنا أبو الحسين عبد الواحد بن محمد الخصيبي، ابن بنت ابن المدبر، قال: حدثني أبو الفضل ميمون بن هارون بن مخلد بن أبان الكاتب - قال علي بن هشام: وميمون هذا، هو جد أبي الحسين بن ميمون الأفطس، كاتب المتقي في أيام أبيه، ووزيره لما استخلف - قال: كانت بيني وبين أبي أيوب سليمان بن وهب، مودة وكيدة، فلما تسهلت محنته بعد قتل إيتاخ، صرت إليه وهو محبوس مقيد، إلا أنه مرفه في الكسوة، وكبر الدار، والفرش، وحسن الخدمة، وقد صلحت حاله بالإضافة إلى ما كان عليه أول نكبته من الضرب والتضييق.
فحدثني: أنه رأى في ليلته تلك، في منامه، كأن قائلاً يقول له:
اصبر وربّ البيت لا يقتادها ... أحد سواك وحظّك الموفور
قال: فصرت إلى أخيه أبي علي الحسن بن وهب، فحدثته بذلك، فسر به، وكان كالمستتر الممتنع عن لقاء السلطان، فعمل شعراً ضمنه البيت، وسألني إيصاله إلى أخيه أبي أيوب سليمان، فأخذته، وأدخلته إليه، وهو:
الدّمع من عيني أخيك غزير ... في ليله ونهاره محدور
بأبي وأمّي خطوك المقصور ... أمقيّد، ومصفّد، وأسير ؟
وزادني غيره، في غير هذه الرواية:
ماذا بقلب أخيك مذ فارقته ... ليكاد من شوق إليك يطير
فكأنّما هو قرحة مقروفة ... منها البلابل والهموم تثور

فكرٌ يجول بها الضّمير كأنّما ... يذكو بها حول الشغاف سعير
وجوى دخيلٌ ليس يعلم كنهه ... ممّا يلاقيه أخ وعشير
فيظّنه أخدانه متسلّياً ... والبثّ في أحشائه مستور
رجع إلى الرواية الأولى:
ما كنت أحسبني أعيش ومهجتي ... تحت الخطوب تدور حيث تدور
قلقاً، فإنّك بالعزاء جدير ... وعلى النوائب منذ كنت صبور
عثرات مثلك في الزّمان كثيرة ... ولهنّ بعد مثابة وحبور
إن تمس في حلق الحديد فحشوها ... منك السماحة والنّدى والخير
والفصل للشبهات رأيك ثاقبٌ ... فيه يضيء سداده وينير
وزادني غيره أيضاً:
وتحمّل العبء الثقيل بثقله ... منك المجرّب عزمه المخبور
رجع إلى الرواية الأولى:
فاصبر وربّ البيت لا يقتادها ... أحد سواك وحظّك الموفور
واللّه مرجوّ لكربتنا معاً ... وعلى الّذي نرجوه من قدير
قال: فما مضت إلا أيام يسيرة، حتى أطلق سليمان بن وهب، ثم انتهى بعد سنين إلى الوزارة.
وذكر هذا الخبر محمد بن عبدوس في كتابه: كتاب الوزراء، على قريب من هذا، إلا أنه أتى من الشعر ببيتين فقط.

لم يقصد النهابة دار الحسن بن مخلد لأنه كان متعطلا
ً
حدثني علي بن هشام، قال: حدثني أبو الفرج محمد بن جعفر بن حفص الكاتب، قال: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن سليمان، قال: كان أبو محمد الحسن بن مخلد، أول من رفعني، واستخلفني على ديوان الضياع، فكنت أخلفه عليه، إلى أن ولي شجاع بن القاسم الوزارة، مع كتبة أوتامش في أيام المستعين، فاشتد جزع أبي محمد منه.
فسألته عن سبب ذلك، فقال: هذا رجل حمار، لا يغار على صناعته، وهو مع هذا من أشد الناس حيلة وشراً، وهو يعرف كبر نفسي، وصغر نفسه، وقد بدأ بأبي جعفر أحمد بن إسرائيل، فصرفه عن ديوان الخراج، ونكبه، ونفاه إلى أنطاكية، ولست آمن أن يجعلني في أثره.
قال: فما مضى إلا أسبوع، حتى ظهر أن أبا موسى عيسى بن فرخان شاه القنائي الكاتب قد سعى مع شجاع في تقلد ديوان الضياع، ثم تقلده صارفاً للحسن بن مخلد، وخلع عليه، فازداد جزع الحسن، وأغلق بابه، وقطع الركوب.
فبينما أنا عنده في بعض العشيات، إذ أتت رقعة من شجاع، يستدعيه، ويؤكد عليه في البدار، فارتاع، ونهض، وتعلق قلبي به، فقعدت أنتظر، إلى أن عاد وهو مغموم مكروب.
فقلت: ما خبرك ؟ قال: قد فرغ شجاع من التدبير علي، وذلك أنه قد صح عندي بعد افتراقنا، أن أوتامش قال البارحة لبعض خواصه: قد ثقلنا على شجاع، وحملناه ما لا يطيق من كتبتي والوزارة، وتركنا هذا الشيخ الحسن بن مخلد، متعطلاً، ولا بد أن يفرج له شجاع عن كتبتي، أو الوزارة، لأقلده أحدها، فلما بلغ ذلك شجاعاً، أنفذ إلي في الوقت.
فلما لقيته الساعة، قال لي: يا أبا محمد، أنت شيخي، ورئيسي، وأنت اصطنعتني، وأنا معترف بالحق لك، وآخر ما لك عندي من الإنعام أن قلدتني عمالة همذان، فانتقلت منها إلى هذه المرتبة، والأمير يحذرك الحذر كله وقد أقام على أنه لا بد من نكبتك وإفقارك، فللحال التي بيننا، ما أقمت على الامتناع عليه من هذا، وسألته في أمرك، وبعد أن جرت خطوب، تقرر أن لا تجاوره، وتشخص إلى بغداد، ورضيته بذلك، وصرفت عنك النكبة، وقد أمرني بإخراجك من ساعتك، وما زلت معه حتى استنظرته لك ثلاثة أيام، أولها يومنا هذا، فاعمل على هذا، وأنك تمضي إلى بلد الأمر والنهي فيه إلى أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر، وهو صديقك، ويخدمك الناس كلهم، ولا تخدم أحداً، وتقرب من ضيعتك.
فأظهرت له الشكر، وضمنت له الخروج، وأنا خائف منه أن يدعني حتى أخرج آلتي وحرمي ثم يقبض على ذلك كله، وينكبني.
فقلت: الوجه أن تفرق جميع مالك وحرمك والأمتعة والدواب، وتودعه ثقاتك، وإخوانك، من وجوه قواد الأتراك وكتابهم، وتطرح الثقل الذي لا قيمة له من خيش وستائر وأسرة وآلة المطبخ في الزواريق، وتجلس في الحراقة العجائز اللواتي لا تفكر فيهن، ليظن أنهن الحرم، وتجتهد أن يكون خروجك ظاهراً، ولا تكاشف بالاستتار، بل على سبيل توق ومراوغة، فإذا حصلت ببغداد، دبرت أمرك حينئذ بما ترى.
فقال: هذا رأي صحيح، وأخذ يصلح أمره على هذا.

فلما كان في ليلة اليوم الثالث، لم أنم أكثر الليل، فكراً فيه، وغماً بأمره، ثم نمت لما غلبتني عيني، فرأيت في السحر كأن قائلاً يقول لي: لا تغتم، فقد ركب الأتراك من أصحاب وصيف وبغا، إلى أوتامش وكاتبه شجاع، وقد هجموا عليهما، وقتلوهما، واسترحتم منهما.
فانتبهت مروعاً، ووجدت الوقت حين انفجار الصبح، فصليت، وركبت إلى الحسن بن مخلد، فدخلت إليه من باب له غامض، لأنه كان قد أغلق أبوابه المعروفة، فسألته عن خبره.
فقال: هذا آخر الأجل، وقد خفت أن يعاجلني شجاع بالقبض علي، وقد أغلقت أبوابي، واستظهرت بغلمان يراعون رسله، فإن جاؤوا ورأوا أمارات الشر منهم، خرجت من هذا الباب الغامض، وأن يسألوا عن شجاع، فإن كان في داره قالوا لمن جاء يطلبني إنه في دار الأمير، وإن كان في دار الأمير، قالوا للرسل إنه في دار شجاع، مدافعة عني حتى أهرب.
قال: فقصصت عليه الرؤيا، فتضاحك، وقال: ما ظننتك بهذه الغفلة، نحن في اليقظة على ما ترى، كيف يصح لنا خبرك في منامك ؟ هذا إنما نمت وأنت تتمنى خلاصي، فرأيت ذلك في منامك.
فخرجت من عنده أريد داري، فلقيني جماعة في الطريق، فعرفوني أن الأتراك قد ركبوا بالسلاح، فعدت إلى منزلي، وأغلقت بابي، ووصيت عيالي بحفظ الدار، ثم عدت، فدخلت إلى الحسن، فأخبرته بالخبر، فأمر بمراعاة الأمر.
فما زلنا نتعرف الأخبار، ساعة بساعة، إلى أن جاء الناس فعرفونا أن الأتراك قتلوا شجاعاً، ثم دخل رجل، فقال: أنا رأيت الساعة رأس أوتامش، وصح الخبر بقتلهما جميعاً.
ونهبت سامراء كلها، فما أفلت أحد من النهب أحسن من إفلات الحسن ابن مخلد، لأن ماله كله كان قد حصل عند القواد وكتابهم، فلم يضع منه شيء، وكان متعطلاً، فلم يقصد النهابة داره، وما أمسينا إلا في أتم سرور وفرح، لأنه فرج عنا بما لم يكن في حسابنا.
اتخذ من رؤيا ادعى أنه رآها سبباً للتخلص من حبس سيف الدولة
حدثني أبو الفرج المخزومي، المعروف بالببغاء الشاعر، قال: كان بحلب بزاز يعرف بأبي العباس بن الموصول، اعتقله سيف الدولة، بخراج كان عليه، مدة، وكان الرجل حاذقاً بالتعبير للرؤيا.
فلما كان في بعض الأيام، كنت بحضرة سيف الدولة، وقد وصلت إليه رقعة البزاز، يسأله فيها حضور مجلسه، فأمر بإحضاره.
وقال: لأي شيء سألت الحضور ؟ فقال: لعلمي أنه لا بد أن يطلقني الأمير سيف الدولة من الاعتقال، في هذا اليوم.
قال: ومن أين علمت ذلك ؟ قال: إني رأيت البارحة في منامي، في آخر الليل، رجلاً قد سلم إلي مشطاً، وقال لي: سرح لحيتك، ففعلت ذلك، فتأولت التسريح، سراحاً من شدة واعتقال، ولكون المنام في آخر الليل، حكمت أن تأويله يصح سريعاً، ووثقت بذلك، فجعلت الطريق إليه مسألة الحضور، لأستعطف الأمير.
فقال له: أحسنت التأويل، والأمر على ما ذكرت، وقد أطلقتك، وسوغتك خراجك في هذه السنة.
فخرج الرجل يشكره ويدعو له.

خراساني يودع بدرة من المال لدى أبي حسان الزيادي فيسارع إلى إنفاقها
أخبرني القاضي أبو طالب محمد بن أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، فيما أجاز لي روايته عنه، بعدما سمعته منه، قال: حدثنا محمد بن خلف وكيع القاضي قال: حدثني أبو سهل الرازي القاضي، قال: حدثنا أبو حسان الزيادي القاضي، قال: جاءني رجل من أهل خراسان فأودعني بدرة دراهم، فأخذتها مضمونة، وكنت مضيقاً، فأسرعت في إنفاقها، وكان قد عزم المودع على الحج، ثم بدا له، فعاد يطلبها، فاغتممت، وقلت له: تعود إلي من غد.
ثم فزعت إلى الله تعالى، وركبت بغلتي في الغلس، وأنا لا أدري إلى أين أتوجه، وعبرت الجسر وأخذت نحو المخرم، وما في نفسي أحد أقصده، فاستقبلني رجل راكب، فقال: إليك بعثت.
فقلت: من بعثك ؟ فقال: دينار بن عبد الله، فأتيته وهو جالس.
فقال لي: ما حالك ؟ قلت: وما ذاك ؟ فقال: ما نمت الليلة إلا أتاني آت، فقال: أدرك أبا حسان.
فحدثته بحديثي، فدعا بعشرين ألف درهم، فدفعها إلي، فرجعت، فصليت في مسجدي الغداة، وجاء الرجل، فدفعت إليه ماله، وأنفقت الباقي.
أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7