كتاب : جمهرة أشعار العرب
المؤلف : أبو زيد القرشي

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا كتاب جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، الذين نزل القرآن بألسنتهم، واشتقت العربية من ألفاظهم، واتخذت الشواهد في معاني القرآن وغريب الحديث من أشعارهم، وأسندت الحكمة والآداب إليهم، تأليف أبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي. وذلك أنه لما لم يوجد أحدٌ من الشعراء بعدهم إلا مضطراً إلى الاختلاس من محاسن ألفاظهم، وهم إذ ذاك مكتفون عن سواهم بمعرفتهم، وبعد فهم فحول الشعر الذين خاضوا بحره، وبعد فيه شأوهم، واتخذوا له ديواناً كثرت فيه الفوائد عنهم، ولولا أن الكلام مشتركٌ، لكانوا قد حازوه دون غيرهم، فأخذنا من أشعارهم إذ كانوا هم الأصل، غرراً هي العيون من أشعارهم، وزمام ديوانهم. ونحن ذاكرون في كتابنا هذا ما جاءت به الأخبار المنقولة، والأشعار المحفوظة عنهم، وما وافق القرآن من ألفاظهم، وما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الشعر والشعراء، وما جاء عن أصحابه والتابعين من بعدهم، وما وصف به كل واحد منهم، وأول من قال الشعر، وما حفظ عن الجن، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
اللفظ المختلف ومجاز المعاني
فمن ذلك ما حدثنا به المفضل بن محمد الضبي يرفعه إلى عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: قدم نافع بن الأزرق الحروري إلى ابن عباس يسأله عن القرآن، فقال ابن عباس: يا نافع! القرآن كلام الله عز وجل؛ خاطب به العرب بلفظها، على لسان أفصحها؛ فمن زعم أن القرآن غير العربية فقد افترى، قال الله تعالى: " قرآناً عربياً غير ذي عوج " وقال تعالى: " بلسانٍ عربيٍ مبين " وقد علمنا أن اللسان لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: " وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم " وقد علمنا أن العجم ليسوا قومه، وأن قومه هذا الحي من العرب، وكذلك أنزل التوراة على موسى، عليه السلام، بلسان قومه بني إسرائيل؛ إذ كانت لسانهم الأعجمية، وكذلك أنزل الإنجيل على عيسى، عليه السلام، لا يشاكل لفظه لفظ التوراة، لاختلاف لسان قوم موسى وقوم عيسى.
وقد يقارب اللفظ اللفظ أو يوافقه، وأحدهما بالعربية والآخر بالفارسية أو غيرها، فمن ذلك الإستبرق بالعربية، وهو بالفارسية الإستبره، وهو الغليظ من الديباج. والفرند، وهو بالفارسية الفكرند. وكور وهو بالعربية حور. وسجين وهو موافق اللغتين جميعاً، وهو الشديد. وقد يداني الشيء الشيء وليس من جنسه، ولا ينسب إليه، ليعلم العامة قرب ما بينهما. وفي القرآن مثل ما في كلام العرب من اللفظ المختلف، ومجاز المعاني، فمن ذلك قول امرىء القيس بن حجر الكندي: الطويل
قِفا فاسألا الأطلالَ عن أُمّ مالكِ ... وهل تُخبِرُ الأطلالُ غيرَ التّهالُكِ
فقد علم أن الأطلال لا تجيب، إذا سئلت، وإنما معناه قفا فاسألا أهل الأطلال، وقال الله تعالى: " واسأل القرية التي كنا فيها " يعني أهل القرية، وقال الأنصاري: المنسرح
نَحنُ بما عندَنا وأنتَ بما ... عندَك راضٍ، والرّأيُ مُختلفُ
أراد نحن بما عندنا راضون، وأنت بما عندك راضٍ، فكف عن خبر الأول إذ كان في الآخر دليلٌ على معناه، وقال الله تعالى: " واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين " فكف عن خبر الأول لعلم المخاطب بأن الأول داخلٌ فيما دخل فيه الآخر من المعنى. وقال شداد بن معاوية العبسي أبو عنترة الوافر:
وَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنّي، فإنّي ... وَجِروَةَ لا تَرودُ ولا تُعار
ترك خبر نفسه وجعل الخبر لجروة، وقال الله عز وجل: " ومن يشاق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب " فكف عن خبر الرسول. وقال الربيع بن زياد العبسي: الطويل
فإن طِبْتُمُ نَفساً بمَقتَلِ مالكٍ، ... فنَفسي، لَعمري، لا تَطيبُ بذلكا
فأوقع لفظ الجمع على الواحد. وقال الله تعالى: " فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه " وقال النابغة: البسيط
قالت: ألا لَيتما هذا الحمامُ لَنا ... إلى حَمامَتِنا أو نِصفُهُ، فَقَدِ

فأدخل ما عاريةً لاتصال الكلام، وهي زائدةٌ، والمعنى: ألا ليت هذا الحمام لنا، وقال الله تعالى: " فبما رحمةٍ من الله لنت لهم " وقال الله تعالى: " إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها " فما في ذلك كله صلةٌ غير واقعةٍ لا أصل لها. وقال الشماخ بن ضرار التغلبي: الوافر
أَعايِشَ ما لِقَومِكِ لا أراهمْ ... يُضيعُونَ الهِجانَ مَعَ المُضيعِ
لا ههنا زائدة، والمعنى: ما لقومك أراهم. وقال تعالى: " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " لا ههنا زائدة، والمعنى: غير المغضوب عليهم والضالين.
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي: الوافر
وكلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ، ... لَعمرُ أبيكَ، إلاّ الفَرقدانِ
فجعل إلا بدلاً من الواو؛ والمعنى: والفرقدان كذلك، وقال الله تعالى: " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم " إلا ههنا لا أصل لها، والمعنى: واللمم، وقال تعالى: " فلولا كانت قريةٌ آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس " والمعنى: وقوم يونس، وقال خفاف بن ندبة السلمي: الطويل
فإنْ تَكُ خَيلي قد أُصِيبَ صَميمُها ... فعَمداً على عَيني تَيمّمْتُ مالِكَا
أقُولُ لَهُ، والرّمحُ يأطِرُ مَتنَهُ: ... تأمّل خِفافاً! إنّني أنا ذلِكَا
معناه: تأملني فأنا هو. وقال الله تعالى: " ألم. ذلك الكتاب " يعني هو هذا الكتاب، والعرب تخاطب الشاهد مخاطبة الغائب. قال امرؤ القيس بن حجر في موافقة اللفظ: مجزوء الكامل
وَتَبَرّجَتْ لتَرُوعَنا، ... فَوَجدتُ نَفسي لم تُرَعْ
وقال تعالى: " غير متبرجاتٍ بزينةٍ " والتبرج: هو أن تبدي المرأة زينتها، وقال امرؤ القيس بن حجر: الوافر
وماءٍ آسِنٍ برَكَتْ علَيهِ، ... كأنّ مُناخَها مُلقى لجامِ
الآسن: المتغير، قال تعالى: " فيها أنهارٌ من ماءٍ غي آسن " أي غير متغير، وقال امرؤ القيس بن حجب: الطويل
ألا زَعمتْ بَسباسةُ اليومَ أنّني ... كَبِرتُ، وأنْ لا يُحسن السِّرّ أمثالي
السر: النكاح، قال الله تعالى: " ولكن لا تواعدوهن سراً " وقال امرؤ القيس: الوافر
أرانا مُوضِعينَ لأمرِ غَيبٍ، ... ونُسحَرُ بالطّعامِ وبالشّرابِ
وقال تعالى: " ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة " والإيضاع ضرب من السير. وقال امرؤ القيس: الطويل
خَفَاهُنّ من أَنْفَاقِهِنّ، كَأنّمَا ... خَفَاهُنّ ودقٌ من عَشيٍ مُجَلِّبِ
خفاهن: أظهرهن، قال الله تعالى: " إن الساعة آتيةٌ أكاد أخفيها " أي أظهرها، وقال زهير بن أبي سلمى: البسيط
لئن حَلَلْتَ بجَوٍ في بَني أسَدٍ، ... في دينِ عمرٍو، وحالتْ بيننا فَدَكُ
في دين عمرو: يعني في طاعة عمرو، وقال الله تعالى: " ولا يدينون دين الحق " أي لا يطيعون. وقال زهير: البسيط
مُكَلَّلٍ بأُصولِ النّبتِ، تَنسِجُهُ ... ريحُ الجَنوبِ، لِضَاحي مائِهِ حُبُكُ
الحبك: الطرائق في الماء، قال الله تعالى: " والسماء ذات الحبك " أي الطرائق. وقال زهير أيضاً: الطويل
بأرضِ فَلاةٍ لا يُسَدّ وَصِيدُهَا، ... عليّ، ومَعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
والوصيد: الباب، قال الله جل وعلا: " وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد " أي بالباب، وقال: " إنها عليهم مؤصدةٌ " أي مغلقة. وقال زهير أيضاً: الطويل
ويُنغِضُ لي يوم الفِجارِ، وقد رأى ... خيولاً عَليها، كالأسودِ، ضَوارِي
ينغض: يرفع رأسه، قال الله تعالى: " فسينغضون إليك رؤوسهم " أي يرفعونها ويحركونها بالاستهزاء. وقال النابغة للنعمان بن المنذر: البسيط
إلاّ سلَيْمَانَ، إذ قالَ المَليكُ لَهُ: ... قُم في البرِيّةِ، فاحدُدْها عن الفَنَدِ
الفند الكذب، قال الله تعالى " لولا أن تفندون " أي تكذبون. وقال النابغة أيضاً: البسيط
تَلُوثُ، بعد افتضالِ البُرْدِ، مِئزَرَها ... لوثاً على مثلِ دِعصِ الرّملةِ الهاري
الهاري: المتهدم من الرمل، قال الله تعالى: " على شفا جرفٍ هارٍ " أي متهدم. وقال أعشى قيس، واسمه ميمون بن قيس: المتقارب
نحرتُ لهم مَوهِناً ناقَتي، ... وعامِرُنا مُدلهِمٌّ غَطِشْ

يعني: وقد هدأت العيون، وغطش مظلم، كقوله تعالى: " وأغطش ليلها " ، وقال الأعشى: الخفيف:
فَرعُ نَبعٍ يَهتَزّ في غُصُنِ المَجْ ... دِ، غزيرُ النّدى، شَديِدُ المِحَالِ
المحال: القوة، كقوله تعالى: " وهو شديد المحال " وقال الأعشى أيضاً: البسيط
تَقولُ بنيّ، وقد قَرّبتُ مُرتَحِلاً: ... يا رَبّ جَنّبْ أبي الأوصابَ والوَجَعا
علَيكِ مثلُ الذي صَلّيتِ، فاغتَمضي ... نَوماً، فإنّ لجَنبِ الحَيّ مُضطجعَا
الصلاة ههنا الدعاء، قال تعالى: " وصل عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم " . وقال الأعشى أيضاً الوافر
أَتَذكُرُ، بَعدَ أُمّتِكَ، النَّوارَا، ... وقد قُنّعتَ من شَيبٍ عِذارَا
الأمة: الحين، قال الله جل ذكره: " وادكر بعد أمةٍ " ، أي بعد حين. وقال الأعشى أيضاً: الرمل
وأتاني صاحبٌ ذو حَاجَةٍ، ... واجبُ الحَقّ، قريبٌ رَحِمُهْ
الرحم: القرابة، وهو قوله تعالى: " وأقرب رحماً " . وقال الأعشى: المتقارب
وبَيضاءَ كالنهِّيِ مَوضونَة، ... لها قَوْنَسٌ مثلُ جيبِ البَدنْ
وقال تعالى: " على سررٍ موضونةٍ " ، أي مشتبكة. وقال الأعشى: البسيط
كأَنّ مِشْيَتَها مِنْ بَيْتِ جارَتِها ... مَوْرُ السَّحَابةِ لا رَيثٌ ولا عَجَلُ
وقال الله تعالى: " يوم تمور السماء موراً " ، والمور الاستدارة والتحرك. وقال الأعشى: الطويل:
يَقولُ بِهَا ذُو مِرّةِ القومِ منهُمُ ... لِصَاحبِهِ إذْ خافَ منها المَهالِكَا
المرة: الحيلة، ويقال القوة، قال تعالى: " ذو مرةٍ فاستوى " . وقال الأعشى: الرمل
ساقَ شِعري لهمُ قافيَةً، ... وعلَيهِم صارَ شِعري دَمدَمه
دمدمة أي تدميراً، كقوله تعالى: " فدمدم عليهم ربهم بذنبهم " ، أي دمر. وقال الأعشى: الكامل
أم غابَ رَبُّكَ فاعترَتْكَ خَصَاصَةٌ ... فلَعَلّ رَبّكَ أنْ يؤوبَ مُؤيَّدا
الرب: السيد، قال الله تعالى: " ارجع إلى ربك " أي سيدك. وقال الأعشى أيضاً: السريع
أَقْنِ حَياءً أنتَ ضَيّعْتَهُ، ... مالكَ بَعدَ الجَهلِ من عاذِرِ
أقن: أي أرض، قال الله تعالى: " وأنه هو أغنى وأقنى " أي أرضى. وقال الأعشى: السريع
لَيَأتِيَنْهُ مَنْطِقٌ قاذِعٌ ... مُستَوسقٌ للمَسمَعِ الآثِرِ
الآثر: الراوية، قال الله تعالى: " سحرٌ يؤثر " ، أي يروى. وقال الأعشى: الطويل
بكأسٍ كعينِ الدّيكِ باكَرْتُ خِدرَها ... بفتيانِ صِدقٍ، والنّواقيسُ تُضرَبُ
الكأس: الخمر، وهو قوله تعالى: " بكأسٍ من معين " . وقال الأعشى: الكامل.
سُبُطاً تَبَارَى في الأعنّةِ بَينَها ... حتى تَفيءَ عَشيّةً أنفالُها
الأنفال: الغنائم، وهو قوله تعالى: " يسألونك عن الأنفال " وقال الأعشى: الكامل
وأراكَ تُحبَرُ إن دَنَتْ لَكَ دارُها، ... ويَعُودُ نَفسَك، إن نأتْكَ، سِقَامُها
تحبر: تسر وتكرم، وقال الله تعالى: " في روضةٍ يحبرون " . وقال الأعشى يذكر النعمان: المتقارب
وخَرّتْ تَميمٌ لأذقانِها، ... سجوداً لذي التاجِ في المَعمَعة
الأذقان: الوجوه، كقوله تعالى: " ويخرون للأذقان يبكون " . وقال لبيد ابن ربيعة العامري: المنسرح
يا عينُ هَلاّ بكَيتِ أربدَ إذْ ... قُمنا وقامَ الخُصومُ في كَبَدِ
يعني: في شدة، قال الله تعالى: " لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ " وقال لبيد: الرمل
إنّ تَقوَى رَبّنا خَيرُ نَفَلْ، ... وبإذنِ اللَّهِ رَيثي والعَجَلْ
النفل: الغنيمة، وهو ههنا ما يعطى المتقي من ثواب الله في الآخرة. وقال لبيد أيضاً: الطويل
وما النّاسُ لاّ عاملانِ، فعاملٌ ... يُتَبِّرُ ما يَبني، وآخَرُ رافِعُ
يتبر أي ينقص، قال الله تعالى: " متبرٌ ما هم فيه " . وقال لبيد: الطويل
نَحُلّ بلاداً، كلّها حُلَّ قَبلَها، ... ونَرجو الفَلاحَ بعدَ عادٍ وحِمْيَراٍ
الفلاح: البقاء، كقوله تعالى: " أولئك هم المفلحون " ، أي الباقون، وقال عمرو بن كلثوم: الوافر
ترَكنا الخَيلَ عاكفَةً عَلَيهِ، ... مُقَلَّدَةً أعنّتَها صُفُونَا

العاكف: المقيم، قال الله تعالى: " سواء العاكف فيه والباد " ، والصافن من الخيل هو الذي يرفع إحدى رجليه، ويضع طرف سنبكه على الأرض، قال الله تعالى: " إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد " وقال طرفة بن العبد البكري: الرمل
لا يُقالُ الفُحشُ في ناديهِمُ، ... لا وَلا يَبخَلُ منهُم مَن يُسَلْ
النادي: المجلس، وهو قوله تعالى: " وتأتون في ناديكم المنكر " ، وقال طرفة أيضاً: الطويل
جَماليّةٌ وجناءُ حَرْفٌ، تَخالُها ... بأنساعِها والرّحلِ صرحاً مُمَرَّدَا
الصرح؛ القصر، والممرد: ما عملته مردة الجن، وهو قوله تعالى: " صرحٌ ممردٌ من قوارير " ، وقال طرفة أيضاً: الرمل
وهمُ الحُكّامُ أربابُ النّدى، ... وسَراةُ النّاسِ في الأمرِ الشّجرِ
الشجر: الأمر الذي يختلف فيه، كقوله تعالى: " حتى يحكموك فيما شجر بينهم " . وقال طرفة يخاطب النعمان: الطويل
أبا مُنذرٍ أفنَيتَ، فاستَبقِ بَعضَنا، ... حَنانَيك! بعضُ الشرّ أهوَنُ من بعضِ
حنانيك: يعني رحمتك وهو قوله تعالى: " وحناناً من لدنا " ، أي رحمة. وقال عبيد بن الأبرص: البسيط
وقهوةٍ كنَجيعِ الجوفِ صافيَةٍ ... في بَيتِ مُنهَمِرِ الكَفّينِ مِفضالِ
المنهمر: السائل، وهو قوله تعالى: " بماءٍ منهمر " أي سائل. وقال عبيد أيضاً: البسيط
هذا، وحربٍ عَوانٍ قد نَهَضتُ لها ... حتى شَبَبتُ نَواحيها بإشعالِ
العوان: المتكاملة التامة السن، قال الله تعالى: " عوانٌ بين ذلك " ، وقال عبيد أيضاً: البسيط
تحتي مُسَوَّمَةٌ قَوداءُ عِجْلِزَةٌ ... كالسّهمِ أرسَلَه من كَفّهِ الغالي
مسومة: يعني معلمة، قال الله تعالى: " والخيل المسومة " ، يعني المعلمة. وقال عنترة بن عمرو: الكامل
وحَليلِ غانيةٍ ترَكتُ مُجَدَّلاً ... تَمكُو فَريصَتُهُ كشدْقِ الأعلَمِ
تمكو: تصفر، وهو كقوله تعالى: " إلا مكاءً وتصديةً " ، فالمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق. وقال عدي بن زيد: السريع
مُتّكِئاً تُقرَعُ أبوابُهُ، ... يَسعَى علَيهِ العبدُ بالكُوبِ
الكوب: هو الكوز الواسع الفم الذي لا علاقة له، قال الله تعالى: " بأكوابٍ وأباريق " . وقال عدي بن زيد: البسيط
عَفُّ المكاسبِ لا تُكدَآ حُشاشَتُه ... كالبَحرِ يُلحِقُ بالتّيّارِ أنهارَا
الإكداء: القلة والانقطاع، وهو قوله عز وجل: " وأعطى قليلاً وأكدى " . وقال أمية بن أبي الصلت: الوافر
وفيها لحمُ ساهرَةٍ وبحرٍ، ... وما فاهُوا به أبداً مُقيمُ
الساهرة: الفلاة، قال الله عز وجل: " فإذا هم بالساهرة " . وقال أمية بن أبي الصلت: الكامل
كيفَ الجحودُ، وإنّما خُلِق الفتى ... مِنْ طِينِ صَلصالٍ لَه فَخّارِ
الصلصال: ما تفرق من الحمأة فتكون له صلصة إذا وطيء وحرك، وهو قوله عز وجل: " خلق الإنسان من صلصالٍ كالفخار " . وقال أمية بن أبي الصلت: الخفيف
رَبِّ كُلاً حتَمتَهُ وارِدُ النّا ... ر كِتاباً حتَمتَهُ مَقضِيّا
الحتم: الواجب، قال الله تعالى: " حتماً مقضياً " . وقال أمية أيضاً: الخفيف
رَبِّ لا تحرِمَنّني جَنّةَ الخُل ... دِ، وكن رَبِّ بي رؤوفاً حفيّا
الحفي: اللطيف، وهو قوله تعالى: " إنه كان بي حفياً " ، أي لطيفاً. وقال أمية بن أبي الصت: الوافر
من اللاّماتِ لَستُ لها بأهلٍ، ... ولكنّ المُسيءَ هوَ المَليمُ
المليم: المذنب، وهو قوله تعالى: " فالتقمه الحوت وهو مليمٌ " ، أي مذنب. وقال أمية بن أبي الصلت: المتقارب
لَقيتَ المَهالِكَ في حَربِنا، ... وبَعدَ المَوالكِ لاقَيْتَ غيّا
غي: وادٍ في النار، قال الله تعالى: " فسوف يلقون غياً " . وقال أمية ابن أبي الصلت: الرمل
نَفَشَتْ فيهِ عِشاءً غنمٌ ... لرعاءٍ، ثمّ بَعدَ العَتَمَه
النفش: الرعي بالليل، قال الله تعالى: " إذ نفشت فيه غنم القوم " ، وقال أمية بن أبي الصلت: الطويل
مليكٌ على عرشِ السّماءِ مُهَيِمِنٌ ... لِعزّتهِ تَعنُو الوُجوهُ وتَسجُدُ

العاني: " الذليل الخاضع المهطع المقنع، قال الله تعالى: " وعنت الوجوه للحي القيوم " . والمهيمن: الشهيد، قال الله تعالى: " ومهيمناً عليه " ، أي شهيداً. وقال بشر بن أبي خازم: المتقارب
ويومُ النِّسارِ ويومُ الفِجا ... رِ كانَا عَذاباً وكانَا غَراما
الغرام: الانتقام، قال الله تعالى: " إن عذابها كان غراماً " ، وقيل ملازماً، ومنه الغريم، أي الملازم. وقال النمر بن تولب: المتقارب
إذا شاء طالعَ مَسجُورَةً ... ترى تحتَها النّبعَ والسّماسَما
المسجور: المتراكب من الماء، قال الله تعالى: " والبحر المسجور " ، أي المتراكب. وقال المرقش: الرمل
وقضَى ثَمّ أبونا آلهُ ... بقتالِ القَومِ والجُودِ مَعَا
قضى: أي أمر أهل بيته، قال الله تعالى: " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " ، أي أمر ألا تعبدوا سواه. وقال المتلمس الطويل
وكنّا إذا الجَبّارُ صَعّرَ خَدّهُ، ... أقَمنا له من مَيْلهِ فَتَقَوّمَا
قوله: صعر خده، أي أعرض واختال، قال الله تعالى: " ولا تصعر خدك للناس " ، أي لا تمل بوجهك كبراً وزهواً. وقال أبو ذؤيب الهذلي: الكامل
وعَلَيهِما مَسرودَتانِ قَضَاهُما ... داودُ أو صَنْعُ السّوابغِ تُبّعُ
قضاهما: أي أحكمهما، قال الله تعالى: " إذا قضى أمراً " ، أي أحكمه، وقال أبو ذؤيب أيضاً: الطويل
إذا لَسَعَتْهُ النّحْلُ لم يَرجُ لَسعَها ... وخالفَها في بيتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ
لم يرج: لم يخف، قال الله تعالى: " ما لكم لا ترجون لله وقاراً " ، أي لا تخافون. وقال أبو ذؤيب: الوافر
فراغَت، فالتَمَستُ به حَشاها، ... فَخَرَّ كأنّهُ خُوطٌ مَريجُ
المريج: المختلط، قال الله تعالى: " فهم في أمرٍ مريجٍ " ، أي مختلط. وقال المتمس: الرمل
أنتَ مَثْبُورٌ غويٌّ مترَفٌ، ... ذو غواياتٍ؛ ومَسرُورٌ بَطِر
المثبور: المفتون، قال الله تعالى: " وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً " ، يعني مفتوناً. وقال أبو قيس بن الأسلت. الرمل
رجمُوا بالغَيبِ، كيما يَعلموا ... من عَديدِ القومِن ما لا يُعلَمُ
الرجم: القذف، قال الله تعالى: " رجماً بالغيب " . وقال أحيحة بن الجلاح: الوافر
وما يَدري الفَقيرُ متى غِناهُ، ... وما يَدري الغنيُّ متى يُعِيلُ
يعيل: أي يفتقر، قال الله تعالى: " وإن خفتم عيلةً فسوف يغنيكم الله من فضله " . وقال حسان بن ثابت الأنصاري: الرمل
إنشُزُوا عَنّا، فأنتم مَعشَرٌ ... آلُ رِجسٍ وفجورٍ وأشَر
انشزوا: أي انهضوا، قال الله تعالى: " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " . وقال ابن أحمر: الكامل
وتَغَيّرَ القمرُ المُنيرُ لمَوتِهِ، ... والشّمسُ قد كادتْ عليهِ تأفُلُ
تأفل: تغيب، قال الله تعالى: " فلما أفلت " . وقال الشماخ بن ضرار: الوافر
ذعرتُ بهِ القطا، ونفيتُ عنهُ ... مَقامَ الذّئبِ كالرّجلِ اللّعينِ
اللعين: المطرود، قال الله تعالى: " ملعونين أينما ثقفوا أخذوا " ، أي مطرودين. وقال المنخل: الطويل
ودَيمومَةٍ قَفرٍ يَحارُ بها القَطا، ... سريتُ بها، والنّومُ لي غيرُ رائنِ
رائن: مغطٍّ، قال الله تعالى: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون " ، وقال نابغة بن جعدة: المتقارب
يُضيءُ كضَوءِ سِراجِ السّلي ... طِ لم يَجعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا
النحاس: الدخان، قال الله عز وجل: " يرسل عليكما شواظٌ من نارٍ ونحاسٍ فلا تنتصران " . وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: المتقارب
فبارَ أبو حَكَمٍ في الوَغَى، ... هناكَ، وأُسرَته الأرذلُونْ
البوار: الهلاك، قال الله عز وجل: " وأحلوا قومهم دار البوار " . وقال أبو بكر، رضي الله عنه: الرمل
عَزّرُوا الأمْلاَكَ في دَهرِهُمُ، ... وأطاعوا كلَّ كَذّابٍ أثِمْ
عزروا: أي عظموا قال الله تعالى: " وعزروه " ، أي عظموه. وقال عمر، رضي الله عنه: الرمل
يَكلأُ الخلقَ جَميعاً، إنّهُ ... كاليءُ الخلقِ، ورَزّاقُ الأُمَم
الكاليء: الحافظ، قال الله تعالى: " قل من يكلؤكم " . وقال عثمان ابن عفان، رضي الله عنه: الطويل

وأعلَمُ أنّ اللَّهَ لَيسَ كصنعِهِ ... صَنيعٌ ولا يخفَى على اللَّهِ مُلْحِدُ
الملحد: المائل، قال الله عز وجل: " إن الذين يلحدون في آياتنا " ، أي يميلون. وقال حمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنه: الطويل
وزُفّوا إلَينا في الحَديدِ، كأنّهم ... أُسُودُ عَرِينٍ ثَمّ عندَ المَبَارِكِ
الزف: المشي قدماً، قال الله تعالى: " فأقبلوا إليه يزفون " . وقال العباس، رضي الله عنه: الرمل
أنتَ نورٌ من عَزيزٍ راحِمٍ، ... تَقمَعُ الشِّركَ وعُبّادَ الوَثَنْ
نورٌ: أي هدى، قال الله عز وجل: " الله نور السموات والأرض " ، أي هداها. وقال الزبير بن العوام، رضي الله عنه: الرمل
يَخرُجُ الشَّطْءُ على وَجهِ الثّرَى، ... ومِنَ الأشجار أفنانُ الثّمَر
الشطء: النبت، قال الله تعالى: " كزرعٍ أخرج شطأه " . وقال عثمان بن مظعون، رضي الله عنه: الرمل
أهل حوبٍ وعيوبٍ جمةٍ ... ومعراتٍ بكسب المكتسب
المعرة: الإثم، قال الله تعالى: " فتصيبكم منهم معرةٌ " .
والأخبار في هذا لعمري تطول، والشواهد تكثر، غير أنا اقتصرنا من ذلك على معنى ما حكيناه في كتابنا هذا.

أول من قال الشعر
قال محمد: أخبرنا أبو عبد الله المفضل بن عبد الله المحبري قال: سألت أبي عن أول من قال الشعر، فأنشدني هذه الأبيات: الوافر
تَغَيّرَتِ البلادُ، ومَن علَيها، ... فَوَجهُ الأرضِ مُغبَرٌّ قَبِيْحُ
تغيّر كلُّ ذي لونٍ وطَعمٍ، ... وقلّ بَشاشَةَ الوَجهُ الصّبيحُ
بشاشة: منصوب على التمييز، والتقدير: وقل الوجه الصبيح بشاشةً؛ وحذف التنوين لالتقاء الساكنين: التنوين والألف واللام.
وَجَاوَرَنا عَدوٌّ لَيْسَ يَفنى، ... لَعِينٌ لا يَمُوتُ فَنَسْتَريحُ
أَهابِلُ! إن قُتِلْتَ، فإنّ قلبي ... عَليكَ اليَومَ مُكْتَئبٌ قَريحُ
ثم سمعت جماعةً من أهل العلم يؤثرون أن قائلها أبونا آدم، عليه السلام، حين قتل إبنه قابيل هابيل؛ فالله أعلم أكان ذلك أم لا.
وذكر أن إبليس عدو الله أجاب آدم، عليه السلام، بهذه الأبيات، فقال: الوافر
تَنَحَّ عنِ الجِنانِ وساكينها، ... ففي الفِردَوْسِ ضَاقَ بِكَ الفسيحُ
وَكُنْتَ بها وزَوْجَكَ في رَخاءٍ، ... وقلبُكَ من أذَى الدّنيا مَريحُ
فَما بَرِحَتْ مُكايَدتي ومَكري ... إلى أَنْ فاتَكَ الثّمَنُ الّربيحُ
ولَولا رَحَمةُ الرُّحَمنِ أَمْسَى ... بِكَفِّكَ مِنْ جِنانِ الخُلدِ ريحُ
وروي أن بعض الملائكة، عليهم السلام، قال هذا البيت: الوافر
لِدُوا للمَوتِ، وابنُوا للخَرابِ ... فَكُلُّكُمُ يَصيرُ إلى الذهابِ
قال المفضل: وقد قالت الأشعار العمالقة، وعاد، وثمود. قال معاوية ابن بكر بن الحبتر بن عتيك بن قرمة بن جلهمة بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، عليه السلام، وكان يومئذٍ سيد العمالقة، وقد قدم إليه قيل بن عير، وكانت عاد بعثوه ولقمان بن عاد وفداً معهما ليستسقوا لهم حين منعوا الغيث، فقال معاوية بن بكر: الوافر
أَلا يا قَيْلُ! وَيْحَكَ! قُمْ فَهَينمْ، ... لعَلَّ اللَّهَ يَصْبَحُنا غَمامَا
فَيَسْقي أَرْضَ عادٍ، إنَّ عاداً ... قَدَ اضْحَوا ما يُبينُونَ الكَلاَمَا
مِنَ العَطَشِ الشَّديدِ بأَرْضِ عادٍ ... فَقَدْ أَمْسَتْ نِساؤُهُمُ أَيامَى
وإنّ الوَحشَ تأْتيهِمْ جَهاراً، ... فَما تَخْشَى لِعَادِيٍّ سِهامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفدِ قَوْمٍ، ... ولا لُقُّوا التَّحِيَّةَ والسّلامَا
وقال مرثد بن سعد بن عفير، وكان من الوفد، وكان مسلماً من أصحاب هود، عليه السلام: الوافر
عَصَتْ عادٌ رَسولَهُمُ، فأَمْسَوا ... عطاشاً ما تَبُلُّهُمُ السَّماءُ
وَسُيِّرَ وَفْدُهم مِن بَعدِ شَهرٍ، ... فأَردَفَهُمْ مَعَ العَطَشِ العَماءُ
بِكُفرِهِمُ بِرَبِّهِمُ جَهاراً ... على آثارِ عادِهِمُ العَفاءُ

أخبرنا المفضل قال: أخبرني أبي عن جدي عن محمد بن إسحق عن محمد ابن عبد الله عن أبي سعيد الخزاعي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة قال: سمعت علياً، رضي الله عنه، يقول لرجلٍ من حضرموت. أرأيت كثيباً أحمر، تخالطه مدرة حمراء، ذات أراكٍ وسدرٍ كثير، بموضع كذا وكذا من ناحية حضرموت؟ قال: نعم، إنك لتنعته لي نعت من عاينه، هل رأيته؟ قال: لا، ولكني حدثت عنه. قال الحضرمي: ما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبر هود، عليه السلام، عند رأسه شجرةٌ تقطر دماً إما سلم وإما سدر، ثم أنشد: الوافر
عصَتْ عادٌ رَسولَهُمُ، فأمْسَوْا ... عِطاشاً ما تَبُلّهمُ السّماءُ
وفي مصداق ذلك يقول عباس بن مرداس السلمي: البسيط
في كُلِّ عامٍ لَنا وَفْدٌ نُسَيِّرُهُمْ، ... نَخْتارُهمْ حَسَباً مِنّا وأحلامَا
كانُوا كَوَفدِ بني عادٍ أضَلَّهُمُ ... قَيْلٌ، فأَتبَعَ عامٌ مِنْهُمُ عامَا
عادوا فلمْ يجدوا في دارِ قَوْمِهِمُ، ... إلاّ مغانيَهُمْ قَفْراً وآرامَا
ومن ذلك قول مبدع بن هرم من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح، عليه السلام، وكان من مسلمي ثمود، فقال يذكر الناقة وفصيلها: الوافر
وَلاذَ بِصَخْرَة مِنْ رأسِ رَضْوَىَ، ... بأعلى الشِّعْبِ مِنْ شَعَفٍ مُنيفِ
فَلاذَ بها لِكَيْلا يَعْقِرُوهُ، ... وَفي تَلْواذِهِ مَرُّ الحُتُوفِ
بِأَسْهُمِ مُصْدِعٍ، شُلَّتْ يَداهُ، ... تَشُقُّ شِعَأفَهُ شَقَّ الخَنيفِ
ثَكَلْتُمْ أُمَّهُ؛ وَعَقَرْتُمُوهُ، ... ولم يُنْظَرْ لَهْفُ اللّهيفِ
الخنيف: جنس من ثياب الكتان، وهي الخنف، واحدها خنيف. ومصدع: الذي رمى الناقة قبل أن يعقرها قدار.
وقال مبدع، حين أخذته الصيحة: نعوذ بالله من ذلك.
فكانَتْ صَيحَةً لم تُبْقِ شَيئاً ... بوادي الحِجرِ وانْتَسَفَتْ رِياحَا
فَخَرَّ لِصَوتِها أَجْيالُ رَضوَى، ... وَخَرَّبَتِ الأشاقِرَ والصِّفاحَا
وأدْرَكَتِ الوُحُوشَ فكَتَّفَتْها، ... ولم تَتْرُكْ لطائرِها جَنَاحَا
ونُجِّي صالحٌ في مُؤْمنيهِ، ... وطُحْطِحَ كُلُّ عاديٍّ فَطاحَا
قال: وأخبرني أبو العباس الوراق الكاتب عن أبي طلحة موسى بن عبد الله الخزاعي قال: حدثنا بكر بن سليمان عن محمد بن إسحاق قال: حدثني هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزي بن قصي بن كلاب أنه سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يخطب الناس على المنبر، ويذكر الناقة والذي عقرها. قال: فقام إليها رجلٌ أحمر، أزرق، عزيزٌ، منيعٌ في قومه مثل زمعة بن الأسود فعقرها.

النبي والشعر
ولم يزل النبي، صلى الله عليه وسلم، يعجبه الشعر، ويمدح به، فيثيب عليه، ويقول: هو ديوان العرب، وفي مصداق ذلك ما حدثنا به سنيد بن محمد الأزدي عن ابن الأعرابي عن مالك بن أنس عن هشام بن عروة عن أبيه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً.
وأخبرنا محمد بن عثمان قال: أخبرنا الحسن بن داود الجعفري عن ابن عائشة التيمي يرفع الحديث قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اللهم من هجاني فالعنه مكان كل هجاءٍ هجانية لعنةً. وعنه عن ابن عائشة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: الشعر كلامٌ من كلام العرب جزلٌ تتكلم به في نواديها وتسل به الضغائن بينها، قال ثم أنشد: المنسرح
قَلّدتُك الشِّعْرَ يا سلامةَ ذا ال ... إفضالِ، والشيءُ حَيثُما جُعِلا
والشِّعْرُ يَستَنزِلُ الكَريمَ، كما ... يُنْزِلُ رَعدُ السَّحابةِ السِّيَلا

قال: وأخبرنا محمد بن عثمان الجعفري عن عبد الرحمن بن محمد عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال: أتى حسان بن ثابت إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن أبا سفيان بن الحارث هجاك، وأسعده على ذلك نوفل بن الحارث وكفار قريش، أفتأذن لي أهجوهم يا رسول الله؟ فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: فكيف تصنع بي؟ فقال: أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين! قال له: اهجهم وروح القدس معك، واستعن بأبي بكر، فإنه علامة قريش بأنساب العرب، فقال حسان يهجو نوفل بن الحارث: الطويل
وإنّ وُلاةَ المَجدِ مِنْ آلِ هاشمٍ ... بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ، ووالدك العَبْدُ
وما وَلَدَتْ أَبْناءُ زُهرَةَ مِنْهُمُ ... صَممْيماً، ولم يلحقْ عَجائزَكَ المَجدُ
فأنتَ لئيمٌ نِيْطَ في آلِ هاشِمٍ، ... كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
قال: فلما أسلم أبو سفيان بن الحارث قال له النبي، صلى الله عليه وسلم: أنت مني وأنا منك، ولا سبيل إلى حسان.
وأخبرنا أبو العباس عن أبي طلحة عن بكر بن سليمان يرفع الحديث إلى عبد الله بن مسعود قال: بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، أن قوماً نالوا أبا بكر بألسنتهم، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! ليس أحدٌ منكم أمن علي في ذات يده ونفسه من أبي بكر، كلكم قال لي: كذبت، وقال لي أبو بكر: صدقت، فلو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت أبا بكرٍ خليلاً. ثم التفت إلى حسان فقال: هات ما قلت في وفي أبي بكر، فقال حسان: قلت يا رسول الله: البسيط
إذا تَذَكّرتَ شَجْواً مِنْ أَخٍ ثِقَةٍ، ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أبا بَكرٍ بما فَعَلا
التَّاليَ الثّانيَ المَحْمُود شِيْمَتُهُ، ... وأَوَّلُ النّاسِ طُرَّاً صَدَّقَ الرُّسُلا
والثّاني اثنَينِ في الغارِ المُنيفِ، وَقَدْ ... طافَ العدوُّ به إذْ صَعَّدَ الجَبَلا
وكانَ حِبَّ رَسولِ اللَّهِ، قد عَلِموا، ... مِنَ البَرِيَّةِ، لم يَعْدِلْ به رَجُلا
خَيرُ البَرِيَّةِ أتقاها وَأَرْأَفُها، ... بَعْدَ النّبيّ، وأوْفاها بما حَمَلا
فقال، صلى الله عليه وسلم: صدقت يا حسان، دعوا لي صاحبي! قالها ثلاثاً.
وعن الشعبي قال: لما بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن كعب بن زهير بن أبي سلمى هجاه ونال منه، أهدر دمه، فكتب إليه أخوه بجير بن زهير، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، يعلمه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد قتل بالمدينة كعب بن الأشرف، وكان قد شبب بأم الفضل بن العباس وأم حكيم بنت عبد المطلب، فملا بلغه كتاب أخيه ضاقت به الأرض ولم يدر فيما النجاة، فأتى أبا بكر، رضي الله عنه، فاستجاره، فقال: أكره أن أجير على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أهدر دمك، فأتى عمر، رضي الله عنه، فقال له مثل ذلك، فأتى علياً، رضي الله عنه، فقال: أدلك على أمرٍ تنجو به. قال: وما هو؟ قال: تصلي مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإذا انصرف فقم خلفه، وقل: يدك يا رسول الله أبايعك! فإنه سيناولك يده من خلفه، فخذ يده فاستجره، فإني أرجو أن يرحمك، ففعل، فلما ناوله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يده استجاره، وأنشد قصيدته التي يقول فيها: البسيط
وقالَ كلُّ خَليلٍ كنتُ آمُلُهُ: ... لا أُلهينّك إنّي عنكَ مَشغُولُ
فقُلتُ: خلّوا سَبيلي، لا أبا لكُمُ، ... فكلّ ما قَدّرَ الرّحمَنُ مَفعُولُ
أُنبِئتُ أنّ رسولَ اللَّه أوعَدَني، ... والعَفوُ عندَ رَسولِ اللَّهِ مأمولُ
فلما فرغ منها قال له النبي، صلى الله عليه وسلم: أذكر الأنصار! فقال: الكامل
مَنْ سَرّهُ كَرمُ الحَياةِ فلا يزَلْ ... في مِقنَبٍ مِنْ صالحي الأنصارِ
النّاظرينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ ... كالجَمْرِ غيرِ كَليلَةِ الأبصارِ
فالغُرُّ مِنْ غَسَّانَ في جُرْثُومَةٍ ... أَعْيَتْ مَحافِرها على المنْقارِ
صالوا علَينا يومَ بَدْرٍ صَولَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِها جميعُ نِزارِ
وهي طويلة.

وذكر محمد بن عثمان عن مطرف الكناني عن ابن دأب عن أبي لهذم العنبري عن الشعبي بإسناده قال: أنشد نابغة بني جعدة النبي، صلى الله عليه وسلم، هذا البيت: الطويل
بَلغنا السّما مَجداً وجُوداً وسُؤدداً، ... وإنّا لَنرجو فَوقَ ذلكَ مَظهَرَا
فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إلى أين، يا أبا ليلى؟ فقال: إلى الجنّة بك يا رسول الله! قال: نعم، إن شاء الله، فلما أنشده:
ولا خَيرَ في حِلْمٍِ إذا لم تكن لهُ ... بَوادِرُ تَحميْ صَفوَهُ أن يُكَدَّرَا
ولا خَيرَ في جَهْلٍ، إذا لم يكن لهُ ... حَليمٌ، إذا ما أَورَدَ الأمرَ أَصْدَرَا
قال له النبي: صلى الله عليه وسلم: لا فض الله فاك! فبنو جعدة يزعمون أنه كان إذا سقطت له سنٌ نبتت مكانها أخرى. وغيرهم يزعم أنه عاش ثلاثمائة عامٍ ولم تسقط له سنٌّ حتى مات: وبإسناده عن سعيد بن المسيب أنه قيل له: إن قبيصة بن ذؤيب يزعم أن الخليفة لا يناشد الأشعار. قال سعيد: ولم لا يناشد الخليفة، وقد نوشد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم قدم عليه عمرو بن سليم الخزاعي، وكانت خزاعة حلفاء له، فلما كانت الهدنة بينه وبين قريش أغاروا على حي من خزاعة يقال لهم بنو كعب، فقتلوا فيهم، وأخذوا أموالهم، فقدم عمرو على النبي، صلى الله عليه وسلم، مستنصراً فقال: الرجز
يا ربِّ! إنّي ناشِدٌ مُحَمَّدا ... حِلْفَ أَبينا وأَبيهِ الأتْلَدَا
نحنُ وَلَدناهم، فَكَانُوا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أَسْلَمْنا، فلَم نَنْزِع يَدَا
إنَّ قُريشاً أَخْلَفوكَ المَوعِدَا، ... ونَقَضُوا ميثاقَكَ المُؤكَّدَا
ونصبوا لي فيكَ داءً رَصَدَا ... وَبَيَّتونا بالوتير هُجَّدَا
وقتلونا رُكَّعاً وَسُجَّدَا ... وَزَعَموا أنْ لَسْتَ تدعو أَحَدَا
وهم أَذَلُّ وأَقَلُّ عَدَدَا، ... فانصرْ، هداك اللَّهُ، نَصْراً أَيِّدَا
وادعُ عِبادَ اللَّهِ يأْتُوا مَدَدا ... فيهم رَسُولُ اللَّهِ قد تجَرَّدَا
إنْ سِيمَ خَسفاً وَجهُهُ تَرَبَّدَا ... في فَيْلَقٍ كالبحرِ يجري مُزبِدَا
قال: فدمعت عينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونظر إلى سحابةٍ قد بعثها الله فقال: والذي بعثني بالحق نبياً إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب. وخرج بمن معه لنصرهم.
وعن ابن إسحق عن عبد الله بن الطفيل عن أبيه عن جده، أن قرة بن هبيرة ابن عامر بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية ابن بكر بن هوازن وفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبايعه وأسلم، فحباه وكساه بردين، وحمله على فرس، واستعمله على قومه، فقال قرة يذكر ذلك، ويذكر ناقته في قصيدة له طويلة: الطويل
حَبَاها رَسولُ اللَّهِ، إذ نزَلَتْ بهِ، ... وأمكَنَها من نائلٍ غيرِ مُفَندِ
فَما حَملَتْ من ناقَةٍ فوق رَحلِها ... أبرَّ وأوفَى ذِمّةً مِن مُحَمّدِ
وأكسىَ لبُردِ الحال قبل ابتذالِه، ... وأعطَى لرأسِ السّابِحِ المتجرّدِ

وأخبرنا المفضل عن أبيه عن جده عن محمد بن إسحق قال: قدم قيس ابن عاصم التميمي على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال يوماً، وهو عنده: أتدري يا رسول الله من أول من رجز؟ قال: لا! قال: أبوك مضر كان يسوق بأهله ليلة، فضرب يد عبدٍ له، فصاح: وايداه! فاستوثقت الإبل ونزلت، فرجز على ذلك. ثم قال: يا رسول الله! أتدري من أول صائحة صاحت؟ قال: لا! قال: أمك خندف كانت معها ضرة، فنحت عنها إبناً لها ليلاً، فجاءت فلم تجده، فكرهت أن تؤذيهم، فاعتزلت، فصاحت عليه. ثم قال: يا رسول الله! أتدري من أول من علم بك من العرب؟ قال: لا! قال: سفيان بن مجاشع الدارمي، وذلك أنه جنى جنايةً في قومه، فلحق بالشام، فكان يأتي حبراً بها وكان يحدثه فقال له: إن لك لغةً ما هي بلغة أهل البلد، فقال: أجل! أنا رجل من العرب، قال: من أيها؟ قال: من مضر! قال له الراهب: أفر أبشرك؟ قال: بلى! قال: فوالله إن هذا الذي ينتظر خروجه لمن مضر. قال: وما اسمه؟ قال: أنظر في كتبي! فنظر ورجع إليه فقال: إسمه محمد! فرجع سفيان وولد له غلامٌ فسماه محمداً. قال: فقالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لبعض من حضر: أنشدني كلمتك التي تقول فيها: الطويل
حَيِّ جَميعَ النّاسِ تَسْبِ عُقُولَهُمْ ... تَحِيَّتَكَ الأدنَى، فقد تَرفَعُ النَّغَل
فإن أظهَرُوا بِشراً فأَظْهِرْ جزاءَهُ، ... وإنْ سَتَروا عَنكَ القَبيحَ فلا تَسَلْ
فإنَّ الذي يُؤذيكَ منهم سَماعُهُ، ... وإنَّ الذي قد قيلَ خلفَكَ لم يُقَلْ
وأخبرنا المفضّل عن أبيه عن جده قال: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لابنه عبد الرحمن: يا بني! انسب نفسك تصل رحمك، واحفظ محاسن الشعر يحسن أدبك، فإن من لم يعرف نسبه لم يصل رحمه، ومن لم يحفظ محاسن الشعر لم يؤد حقاً ولم يقترف أدباً.
وعنه عن أشياخه قالوا: قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: إرووا من الشعر أعفه، ومن الحديث أحسنه، ومن النسب ما تواصلون عليه، وتعرفون به. فرب رحمٍ مجهولةٍ قد عرفت فوصلت، ومحاسن الشعر تدل على مكارم الأخلاق وتنهى عن مساويها.
قال المفضل وقد روي عن الشعبي أنه قال: لو أن رجلاً من أقصى حجرٍ بالشام صار إلى أقصى حجرٍ باليمن، فاستفاد حرفاً من العلم ما رأيت عمره ذهب باطلاً، إذا كان لذلك واعياً فهماً.
وروي عن المقنع أنه قال لابنه: يا بني! حبب إلى نفسك العلم حتى ترأمه، ويكون لهوك وسكوتك. والعلم علمان: علمٌ يدعوك إلى آخرتك فآثره على ما سواه، وعلمٌ لتزكية القلوب وجلائها وهو علم الأدب، فخذ بحظك منه.
وعن المقنع عن أبيه عن الأصمعي قال: دخلت البادية من ديار فهم، فقال لي رجلٌ منهم: ما أدخل القروي باديتنا؟ فقلت: طلب العلم، قال: عليك بالعلم، فإنه أنسٌ في السفر، وزينٌ في الحضر، وزيادةٌ في المروءة، وشرفٌ في النسب، وفي مثل هذا يقول الشاعر: الكامل
عِيُّ الشَّريفِ يَشِيْنُ مَنصِبَهُ، ... وابنُ اللَّئيمِ يَزْيْنُهُ الأدَبُ
وعنه عن أبيه عن الأصمعي قال: قدم رجلٌ من فزارة على الخليل بن أحمد وكان الفزاري عيياً، فسأل الخليل مسألةً فأبطأ في جوابها، فتضاحك الفزاري، فالتفت الخليل إلى بعض جلسائه فقال: الرجال أربعة: فرجل يدري ويدري أنه يدري، فذلك عالم فاعرفوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك غافلٌ فأيقظوه؛ ورجل يدري ولا يدري أنه يدري، فذلك غافلٌ فأيقظوه؛ ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فذلك مائق فاجتنبوه. ثم أنشأ الخليل يقول: الكامل
لو كنتَ تَعلَمُ ما أقولُ عذَرتَني ... أَوْ كنتُ أَجْهَلُ ما تقولُ عذَلتُكا
لَكِنْ جَهِلتَ مَقَالَتي فَعذَلْتَني ... وعلِمتُ أَنَّكَ مائقٌ فَعَذَرْتُكا
وأخبرنا أبو العباس عن موسى بن عبد الله قال: مر أبو عبيدة معمر بن المثنى برجلٍ ينشد شعراً، فطول فيه، فقال أبو عبيدة: أما أنت، فقد أتعبت نفسك بما لا يجدي عليك، وما كان أحسن أن تقصر من حفظك في هذا الشعر ما طال! ألم تعلم أن الشعر جوهرٌ لا ينفد معدنه فمنه الموجود المبذول، ومنه المعوز المصون، فعليك بالبحث عن مصونه يكثر أدبك، ودع الإسراع إلى مبذوله كيلا يشغل قلبك، ثم أنشد أبو عبيدة: الوافر

مصونُ الشّعرِ تحفَظُهُ فيكفي، ... وحَشوُ الشّعرِ يُورِثُك المَلالا
قال المفضل: ولم يبق أحدٌ من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا وقد قال الشعر وتمثل به. فمن ذلك قول أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، يرثي النبي، صلى الله عليه وسلم: الوافر
أَجِدَّكَ ما لعَينِكَ لا تَنامُ ... كأنَّ جُفُونَها فيها كِلامُ
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: الكامل
ما زِلْتُ مذْ وضَعوا فِراشَ مُحمَّدٍ ... كَيْما يُمرَّضَ خائفاً أتَوَجَّعُ
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الطويل
أَلا طَرَقَ النَّاعي بِلَيلٍ، فَراعَني ... وَأَرَّقَني لَمَّا استَقَرَّ مُنادِيَا
وقال عثمان بن عفان، رضي الله عنه: المتقارب
فيا عينِ أَبْكي ولا تَسْأَمي، ... وحُقَّ البُكاءُ على السَّيِّدِ

أي الشعراء أشعر
؟
قال: ثم اختلف الناس في الشعراء: أيهم أشعر وأذكى؟ فقال قوم: إمرؤ القيس. ورووا في ذلك أنه خرج وفدٌ من جهينة يريدون النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما قدموا عليه سألهم عن مسيرهم، فقالوا: يا رسول الله! لولا بيتان قالهما امرؤ القيس. لهلكنا! قال: وما ذلك؟ قالوا: خرجنا نريدك، حتى إذا كنا ببعض الطريق، إذا برجل على ناقة له مقبلٍ إلينا، فنظر إليه بعض القوم، فأعجبه سير الناقة، فتمثل ببيتين لامريء القيس وهما قوله: الطويل
ولمّا رَأَتْ أنّ الشّريعَةَ وِرْدُها ... وأَنَّ البَيَاضَ من فَرائصِها دامي
تَيَمَّمتِ العَينَ التي جَنبَ ضارِجٍ ... يُفيءُ عليها الظِلُّ عرْمَضُها الطامي
وقد كان ماؤنا نفد، فاستدللنا على العين بهذين البيتين فوردناها. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: أما إني لو أدركته لنفعته، وكأني أنظر إلى صفرته وبياض إبطيه وحموشة ساقيه، في يده لواء الشعراء يتدهدى بهم في النار.
قال: وذكر المفضل أن لبيد بن ربيعة مر بجلس بني نهد بالكوفة، وبيده عصا له يتوكأ عليها بعد ما كبر. فبعثوا خلفه غلاماً يسأله: من أشعر الناس؟ فقال: ذو القروح بن حجر الذي يقول:
وبُدّلْتُ قَرْحاً دامياً بَعْدَ صِحَّة ... فيا لَكِ نُعْمَى قد تَبَدّلْتِ أَبْؤُسَا
يعني امرأ القيس، فرجع إليهم الغلام وأخبرهم، قالوا: إرجع فاسأله: ثم من؟ فرجع فسأله: ثم من؟ قال: ثم ابن العنيزتين، يعني طرفة. قال: ثم من؟ قال: صاحب المحجن، يعني نفسه.
شياطين الشعراء
قال ابن المروزي: حدثني أبي قال: خرجت على بعير لي صعبٍ، يمر بي لا يملكني من أمر نفسي شيئاً، حتى مر على جماعة ظباءٍ في سفح جبل على قلته رجلٌ عليه أطمارٌ له، فلما رأتني الظباء هربت، فقال: ما أردت إلى ما صنعت؟ إنكم لتعرضون بمن لو شاء قدعكم عن ذلك، قال: فدخلني عليه من الغيظ ما لم أقدر أن أحمله، فقلت: إن تفعل بي ذلك لا أرضى لك، فضحك، ثم قال: إمض عافاك الله لبالك، قال: فجعلت أردد البعير في مراعي الظباء لأغضبه، فنهض وهو يقول: إنك لجليد القلب! ثم أتاني فصاح ببعيري صيحةً ضرب بجرانه الأرض، ووثبت عنه إلى الأرض، وعلمت أنه جان، فقلت: أيها الشيخ! إنك لأسوأ مني صنيعاً. فقال: بل أنت أظلم وألأم، بدأت بالظلم ثم لؤمت في تركك المضي، فقلت: أجل! عرفت خطئي. قال: فاذكر الله فقد رعناك، وبذكر الله تطمئن القلوب، فذكرت الله تعالى، ثم قلت دهشاً: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ فقال: نعم! أروي وأقول قولاً فائقاً مبرزاً. فقلت: فأرني من قولك ما أحببت، فأنشأ يقول: البسيط
طافَ الخيالُ علَينا لَيلةَ الوادي، ... من آلِ سَلمى ولم يُلمِمْ بميْعادِ
أنّى اهتَديتَ إلى مَن طالَ لَيلُهُمُ ... في سَبسبٍ ذاتِ دَكْدَاكٍ وأعقادِ
يُكَلِّفُونَ فَلاها كلَّ يَعْمَلَةٍ ... مثلَ المَهاةِ، إذا ما حَثَّها الحادي
أَبلِغْ أبا كَرَبٍ عنّي وأُسْرَتَهُ ... قولاً سَيَذهَبُ غَوراً بعدَ إنجادِ
لا أعرِفَنَّكَ بَعْدَ اليَومِ تَندُبُني ... وفي حَياتيَ ما زَوَّدْتَني زادي
أمَّا حِمامُكَ يوماً أنتَ مُدرِكُهُ ... لا حاضرٌ مُفلِتٌ منهُ، ولا بادِ

فلما فرغ من إنشاده قلت: لهذا الشعر أشهر في معد بن عدنان من ولد الفرس الأبلق في الدهم العراب هذا لعبيد بن الأبرص الأسدي، فقال: ومن عبيد لولا هبيد! فقلت: ومن هبيد؟ فأنشأ يقول: المتقارب
أنا ابنُ الصّلادِمِ أُدعى الهبيدَ، ... حبَوتُ القَوافيَ قَرْمَيْ أسَدْ
عَبيداً حَبَوتُ بمأْثُورَةٍ، ... وأَنْطَقْتُ بِشراً على غَيرِ كَدّ
ولاقَى بمُدرِكَ رَهطُ الكُمَيتِ ... مَلاذاً عَزيزاً ومَجداً وَجَدّ
مَنحاناهُمُ الشِّعرَ عن قُدرَةٍ ... فهَل تَشْكُرُ اليَومَ هذا مَعَدّ
فقلت: أما عن نفسك فقد أخبرتني، فأخبرني عن مدرك، فقال: هو مدرك بن واغم، صاحب الكميت، وهو ابن عمي، وكان الصلادم وواغم من أشعر الجن، ثم قال: لو أنك أصبت من لبنٍ عندنا؟ فقلت: هات، أريد آلأنس به، فذهب فأتاني بعسٍّ فيه لبن ظبي، فكرهته لزهومته فقلت: إليك، ومججت ما كان في فمي منه، فأخذه ثم قال: إمض راشداً مصاحباً! فوليت منصرفاً فصاح بي من خلفي: أما إنك لو كرعت في بطنك العس لأصبحت أشعر قومك. قال أبي: فندمت أن لا أكون كرعت عسه في جوفي على ما كان من زهومته، وأنشأت أقول في طريقي، الطويل
أسِفتُ على عُسِّ الهَبيدِ وشُربِهِ، ... لَقَدْ حَرَمَتْنيهِ صُرُوفُ المَقادِرِ
ولو أنَّني إذْ ذاك كنتُ شَرِبتُهُ ... لأصْبَحتُ في قَوميْ لَهم خيرَ شاعرِ
وعنه قال: قال مظعون بن مظعون بن مظعون الأعرابي: لما حدثني أبي بهذا الحديث عن نفسه لهجت به، وتعرضت لما كان أبي يتعرض له من ذلك، وأحببت، إذ علمت أن لشعراء العرب شياطين تنطق به على ألسنتها، أن أعرف ذلك، ورجوت أن ألقى هاذراً أو مدركاً اللذين ذكر الهبيد لأبي، وكنت أخرج في الفيافي ليلاً ونهاراً، تعرضاً لذلك، ولم أكن ألقى راكباً إلا ذاكرته شيئاً مما أنا فيه، فلا يزال الرجل يخبرني بما استدل على ما سمعت حتى جمعت من ذلك علماً حسناً، ثم كبرت سني وضعفت ولزمت زرود، فكنت إذا ورد علي الرجل سألته عن ذلك، فوالله إني ليلةً من ذلك لبقناء خيمةٍ لي إذ ورد علي رجلٌ من أهل الشام، فسلم ثم قال: هل من مبيتٍ؟ فقلت: أنزل بالرحب والسعة! قال: فنزل، فعقل بعيره ثم أتيته بعشاءٍ فتعشينا جميعاً، ثم صف قدميه يصلي حتى ذهبت هدأةٌ من الليل، وأنا وابناي أرويهما شعر النابغة، إذ أنفتل من صلاته، ثم أقبل بوجهه إلي فقال: ذكرتني بهذا الشعر أمراً أحدثك به، أصابني في طريقي هذا منذ ثلاث ليال. فأمرت ابني فأنصتا ثم قلت له: قل، فقال: بيننا أنا أسير في طريقي ببلقعةٍ من الأرض لا أنيس بها إذ رفعت لي نارٌ فدفعت إليها، فإذا بخيمةٍ، وإذ بفنائها شيخٌ كبير، ومعه صبيةٌ صغارٌ، فسلمت ثم أنخت راحلتي آنساً به تلك الساعة، فقلت: هل من مبيتٍ؟ قال: نعم في الرحب والسعة! ثم ألقى إلي طنفسة رحلٍ، فقعدت عليها، ثم قال: ممن الرجل؟ فقلت: حميريٌّ شامي، قال: نعم أهل الشرف القديم. ثم تحدثنا طويلاً إلى أن قلت: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ قال: نعم، سل عن أيها شئت! قلت: فأنشدني للنابغة! قال: أتحب أن أنشدك من شعري أنا؟ قلت: نعم! فاندفع ينشد لمرىء القيس والنابغة وعبيد ثم اندفع ينشد للأعشى، فقلت: لقد سمعت بهذا الشعر منذ زمانٍ طويلٍ. قال: للأعشى؟ قلت: نعم! قال: فأنا صاحبه. قلت: فما اسمك؟ قال: مسحلٌ السكران بن جندل، فعرفت أنه من الجن فبت ليلةً ألله بها عليمٌ ثم قلت له: من أشعر العرب؟ قال: إرو قول لافظ بن لاحظ وهيابٍ وهبيدٍ وهاذر بن ماهر، قلت: هذه أسماء لا أعرفها. قال: أجل! أما لافظٌ فصاحب امرىء القيس، وأما هبيد فصاحب عبيد بن الأبرص وبشر، وأما هاذرٌ فصاحب زياد الذبياني، وهو الذي استنبغه. ثم أسفر لي الصبح، فمضيت وتركته. قال الزرودي: فحسن لي حديث الشامي حديث أبي.

وذكر مطرف الكناني عن ابن دأبٍ قال: حدثني رجلٌ من أهل زرود ثقةٌ عن أبيه عن جده قال: خرجت في طلب لقاحٍ لي على فحلٍ كأنه فدن يمر بي يسبق الريح حتى دفعت إلى خيمةٍ، وإذا بفنائها شيخٌ كبيرٌ، فسلمت فلم يرد علي، فقال: من أين وإلى أين؟ فاستحمقته إذ بخل برد السلام، وأسرع إلى أمامي، فقال: أما من ههنا فنعم؛ وأما إلى ههنا، فوالله ما أراك تبهج بذلك، إلا أن يسهل عليك مداراة من ترد عليه! قلت: وكيف ذلك أيها الشيخ؟ قال: لأن الشكل غير شكلك، والزي غير زيك، فضرب قلبي أنه من الجن، وقلت: أتروي من أشعار العرب شيئاً؟ قال: نعم! وأقول، قلت: فأنشدني، كالمستهزىء به، فأنشدني قول امرىء القيس: الطويل
قفا نَبكِ من ذِكرَى حَبيبٍ ومَنزِلِ ... بسِقطِ اللّوَى بينَ الدَّخولِ فحَومَلِ
فلما فرغ قلت: لو ان امرأ القيس ينشر لردعك عن هذا الكلام! فقال: ماذا تقول؟ قلت: لامرىء القيس، قال: لست أول من كفر نعمةً أسداها! قلت: ألا تستحي أيها الشيخ، ألمثل امرىء القيس يقال هذا؟ قال: أنا والله منحته ما أعجبك منه! قلت: فما اسمك؟ قال: لافظ بن لاحظ. فقلت: إسمان منكران. قال: أجل! فاستحمقت نفسي له بعدما استحمقته لها، وأنست به لطول محاورتي إياه؛ وقد عرفت أنه من الجن، فقلت له: من أشعر العرب؟ فأنشأ يقول: الكامل
ذهَبَ ابنُ حُجرٍ بالقَريضِ وَقَوْلِه ... وَلَقَدْ أَجادَ فَما يُعابُ زيادُ
للَّهِ هاذِرٌ إذْ يَجُودُ بقَولِهِ، ... إنَّ ابنَ ماهرَ بَعْدَها لَجَوادُ
قلت: من هاذر؟ قال: صاحب زياد الذبياني، وهو أشعر الجن وأضنهم بشعره، فالعجب منه كيف سلسل لأخي ذبيان به، ولقد علم بنيةً لي قصيدةً له من فيه إلى أذنها ثم صرخ بها: أخرجي فدىً لك من ولدت حواء! فقلت له: ما أنصفت أيها الشيخ، فقال: ما قلت بأساً؛ ثم رجعت إلى نفسي، فعرفت ما أراد، فسكت ثم أنشدتني الجارية: الوافر
نأَتْ بسُعادَ عَنك نوىً شَطونُ ... فَبانَتْ والفُؤادُ بها حَزينُ
حتى أتت على قوله منها:
كذلكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ
قال: لو كان رأي قوم نوحٍ فيه كرأي هاذر ما أصابهم الغرق! فحفظت البيتين ثم نهض بي الفحل، فعدت إلى لقاحي.
وحدثنا سنيد عن حزام بن أرطاة عن أبي عبيد قال: حدثني أبو بكر المزني عن شيخٍ من أهل البصرة قال: خرجت على جملٍ لي حتى إذا كنت ببعض الطريق في ليلةٍ مقمرةٍ إذا شخصٌ مقبلٌ كهيئة الإنسان على ظهر ظليمٍ قد خطمه، فاستوحشت منه وحشةً شديدةً، فأقبل نحوي، وهو يقول في شدةٍ من صوته: السريع
هَلْ يُبْلِغَنِّيهم إلى الصّباحْ ... هِقْلٌ كأنَّ رأسَهُ جُمَّاحْ
فما زال يدنو حتى سكن روعي وأنست فقلت: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: الطويل
وما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلاَّ لِتَضْربي ... بسَهميكِ في أَعْشارِ قلبٍ مُقَتَّلِ
فعرفت أنه يريد امرأ القيس. قال: ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول: المتقارب
وَتَبْرُدُ بَرَدَ رِداءِ العَرو ... سِ في الصّيفِ رَقْرَقْتَ فيهِ العَبيرَا
وتَسخُنُ لَيلَةَ لا يَستَطيعُ ... نُباحاً بها الكَلبُ إلاّ هَريرَا
يريد الأعشى، ثم ذهب وأقبل، قلت: ثم من؟ قال: الذي يقول: الرمل
تَطرُدُ القُرَّ بحَرٍ صادِقٍ، ... وعَكِيكَ الصّيفِ إن جاءَ بِقُرّ
يريد طرفة. العكيك: الحر.

ويشيد هذه الأحاديث عندنا، في الجن وأخبارها وقولها الشعر على ألسن العرب، ما حدثنا به المفضل عن أبيه عن جده عن ابن إسحق عن مجاهد عن ابن عباس قال: وفد سواد بن قارب على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال عمر: يا سواد! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ما بقي من كهانتك؟ فغضب وامتلأ سحره ثم قال: يا أمير المؤمنين! ما أظنك استقبلت بهذا الكلام غيري؛ فلما رأى عمر الكراهية في وجهه قال: يا سواد! إن الذي كنا عليه من عبادة الأوثان أعظم من الكهانة، فحدثني بحديثٍ كنت أشتهي أن أسمعه منك! قال: نعم يا أمير المؤمنين! بينما أنا في إبلي بالسراة، وكان لي نجي من الجن، إذ أتاني في ليلة، وأنا كالنائم، فركضني برجله، ثم قال: قم يا سواد، فقد ظهر بتهامة نبيٌّ يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم. قلت: تنح عني، فإني ناعسٌ! فولى عني، وهو يقول: السريع
عَجِبْتُ للجِنِّ وتَبْكارِها، ... وشدِّها العِيسَ بأَكْوارِها
تَهوي إلى مكّةَ تَبغي الهُدَى، ... ما مُؤْمِنُو الجِنِّ كَكُفّارِها
فارحَلْ إلى الصّفوَةِ من هاشِمٍ ... بَينَ روابيها وأحْجارِها
ثم لما كان في الليلة الثانية أتاني فقال مثل ذلك القول، فقلت: تنح عني، فإني ناعسٌ! فولى عني، وهو يقول:
عَجِبتُ للجِنّ وتَطْرابها ... ورَحْلِها العيسَ بأقتابِها
تَهوي إلى مكَّةَ تَبغي الهُدَى، ... ما مُؤمنو الجنِّ كَكُذّابِها
فارحلْ إلى الصّفوَةِ من هاشِمٍ ... لَيسَ قُدَاماها كأَذنابِها
ثم أتاني في الليلة الثالثة، فقال مثل ذلك، فقلت: إني ناعسٌ، فولى عني، وهو يقول:
عَجِبتُ للجنّ وإيجاسِها ... وشَدِّها العيس بأحْلاسِها
تَهوي إلى مَكَّةَ تَبغي الهُدى ... ما مُؤْمنو الجنِّ كأَرْجاسِها
فارْحَلْ إلى الصّفوَةِ من هاشِمٍ ... واسْمُ بعَينَيكَ إلى رأْسِها
قال سواد: فلما أصبحت يا أمير المؤمنين، أرسلت لناقة من إبلي، فشددت عليها، وأتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، فأسلمت، وبايعت، وأنشأت أقول: الطويل
أَتاني نَجِيِّي بَعْدَ هَدْء وَرَقْدَةٍ، ... ولم يَكُ فيما قَدْ عَهِدْتُ بِكاذِبِ
ثلاثَ لَيالٍ قوْلُه كلَّ لَيلَةٍ: ... أَتاكَ رسولٌ من لؤيِّ بنِ غالبِ
فَشَمَّرْتُ عَنْ ذيلي الإزارَ، وَأَرْقَلَتْ ... بيَ الدِّعلبُ الوجناءُ عَبْرَ السّباسبِ
فأشهَدُ أنَّ اللَّهَ لا رَبَّ غَيرَه، ... وأنَّكَ مَأْمونٌ على كلِّ غائِبِ
وأنِّكَ أدنَى المُرسَليِنَ وَسيلَةً ... إلى اللَّهِ، يا ابنَ الأكرَمِينَ الأطايبِ
فَمُرْني بما أَحْبَبْتَ، يا خيرَ مُرْسَلٍ ... وإنْ كان فيما قلتُ شِيْبُ الذّوائبِ
وكنْ لي شفيعاً يومَ لا ذُو شَفاعَةٍ ... سِوَاكَ، بِمُغْنٍ عن سَوادِ بنِ قارِبِ
وأخبرني المفضل عن أبيه عن جده قال: أخبرني العلاء بن ميمون الآمدي عن أبيه قال: ركبت بحر الخزر أريد ناجورا حتى إذا ما كنت منها غير بعيد لجج مركبنا، فاستاقته ريح الشمال شهراً في اللجة، ثم انكسر بنا، فوقعت أنا ورجلٌ من قريشٍ إلى جزيرة في البحر ليس بها أنيس، فجعلنا نطوف، ونطمع في النجاة إذ أشرفنا على هوةٍ، وإذا بشيخٍ مستندٍ إلى شجرة عظيمة، فلما رآنا تحشحش، وأناف إلينا، ففزعنا منه، ثم دنونا منه، وقلنا: السلام عليك أيها الشيخ! قال: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فأنسنا به، فقال: ما خطبكما؟ فأخبرناه، فضحك وقال: ما وطىء هذا الموضع أحدٌ من ولد آدم قط، فمن أنتما؟ قلنا: من العرب! قال: بأبي وأمي العرب؛ فمن أيها؟ قلت: أما أنا فرجل من خزاعة، وأما صاحبي فمن قريش. قال: بأبي قريش وأحمدها! ثم قال: يا أخا خزاعة هل تدري من القائل: الطويل
كأنْ لم يَكُنْ بينَ الحَجُون إلى الصَّفَا ... أَنِيْسٌ، وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سامرُ
بلى! نَحْنُ كنَّا أَهلَها، فأبادَنا ... صُرُوفُ اللّيالي والجُدُودُ العَواثِرُ

قلت: نعم! ذلك الحرث بن مضاض الجرهمي. قال: ذلك مؤديها، وأنا قائلها في الحرب التي كانت بينكم، معشر خزاعة، وبين جرهم. يا أخا قريش! أولد عبد المطلب بن هاشم؟ قلت: أين يذهب بك، رحمك الله! فربا وعظم وقال: أرى زماناً قد تقارب إبانه، أفولد إبنه عبد الله؟ قلنا: وأين يذهب بك؟ إنك لتسألنا مسألة من كان في الموتى. قال: فتزايد ثم قال: فابنه محمد الهادي؟ قلت: هيهات! مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، منذ أربعين سنة! قال: فشهق حتى ظننا أن نفسه قد خرجت، وانخفض حتى صار كالفرخ، وأنشأ يقول: الكامل
ولَرُبَّ راجٍ حِيْلَ دونَ رَجائهِ ... وَمُؤمِّلٍ ذَهَبَتْ بِهِ الآمالُ
ثم جعل ينوح ويبكي حتى بل دمعه لحيته، فبكينا لبكائه، ثم قال: ويحكما! فمن ولي الأمر بعده؟ قلنا: أبو بكر الصديق، وهو رجل من خير أصحابه، قال: ثم من؟ قلنا: عمر بن الخطاب، قال: أفمن قومه؟ قلنا: نعم. قال: أما إن العرب لا تزال بخيرٍ ما فعلت ذلك. قلنا: أيها الشيخ قد سألتنا فأخبرناك، فأخبرنا من أنت وما شأنك؟ فقال: أنا السفاح بن الرقراق الجني لم أزل مؤمناً بالله وبرسله ومصدقاً، وكنت أعرف التوراة والإنجيل، وكنت أرجو أن أرى محمداً، صلى الله عليه وسلم، فلما تفرقت الجن وأطلقت الطوالق المقيدة من وقت سليمان، عليه السلام، إختبأت نفسي في هذه الجزيرة لعبادة الله تعالى وتوحيده وانتظار نبيه محمد، صلى الله عليه وسلم، وآليت على نفسي أن لا أبراح ههنا حتى أسمع بخروجه، ولقد تقاصرت أعمار الآدميين، وإنما صرت فيها منذ أربعمائة سنةٍ، وعبد منافٍ إذ ذاك غلامٌ يفعةٌ ما ظننت أنه ولد له ولد، وذلك أنا نجد علم الأحداث، ولا يعلم الآجال إلا الله تعالى، والخير بيده، وأما أنتما أيها الرجلان، فبينكما وبين الآدميين من الغامر مسيرة أكثر من سنة، ولكن خذا هذا العود، فاكتفلا به كالدابة إذا نام الناس، فإنه يؤديكما إلى بلدكما، واقرئا محمداً مني السلام، فإني طامع بجوار قبره. قال: ففعلنا ما أمرنا به، فأصبحنا في مصلى آمد.
وقد روي أن عبيد بن الأبرص خرج في ركبٍ فبينما هم يسيرون إذا بشجاع قد احترق جنباه من الرمضاء، فقال له بعض أصحابه: دونك الشجاع يا عبيد فاقتله! قال عبيد: هو إلى غير القتل أحوج، فأخذ إدواةً من ماءٍ، فصبها عليه، فانساب الشجاع ودخل في جحره، وسار القوم، فقضوا حوائجهم، ثم أقبلوا حتى صاروا إلى ذلك الموضع الذي فيه الشجاع، قال: فتأخر عبيد لقضاء حوائجه، فانلفت بكره، وقيل بل حسر عليه، فسار القوم، وبقي عبيد متحيراً، فإذا بهاتفٍ من عدوة الوادي، وهو يقول: الرجز
يا صاحبَ البكرِ المُضِلِّ مَرْكَبَهْ ... دونَكَ هذا البكرَ مِنَّا فاركبَه
ما دونَه من ذي الرّشادِ تَصحَبُه ... وبكْرُكَ الآخرُ أَيضاً تجنُبُه
حتى إذا اللّيلُ تَجَلّى غَيهَبُه ... فَحُطَّ عَنْهُ رَحلَهُ وسَيّبَه
إذا بَدَا الصّبحُ ولاحَ كَوكَبُه ... وقد حمدتَ عنهُ ذاكَ مَصحبَه
قال: فالتفت عبيد، فإذا هو ببكره، وبكرٍ إلى جنبه، فركبه، حتى إذا صار إلى دار قومه أرسل البكر، وأنشأ يقول: البسيط
يا صاحبَ البكرِ قَدْ أُنقِذْتَ من بَلَدٍ ... يَحارُ في حافَتَيها المُدلِجُ الهادِيْ
هَلاَّ أَبَنْتَ لَنا بالحَقّ نَعرفُهُ، ... مَن ذا الذي جادَ بالمَعروفِ في الوادي
إرجِعْ حميداً، فقَد أبلَغتَ مَأْمَنَنا ... بُوْرِكتَ من ذي سَنامٍ رائحٍ غادي
فأجابه هاتف يقول: البسيط
أنا الشّجاعُ الذي أَلفَيتَهُ رَمِضاً ... في رَملَةٍ ذاتِ دكداكٍ وأعقاد
فَجُدْتَ بالماءِ لمَّا ضَنَّ حَامِلُهُ، ... جُوداً عليَّ ولم تَبْخَل بإنجادي
هذا جَزاؤكَ منِّي لا أَمُنُّ بهِ، ... فارْجِعْ حميداً رعاكَ اللَّهُ من غادي
الخَيرُ أبقَى، وإنْ طالَ الزَّمانُ به، ... والشرُّ أَخبَثُ ما أَوْعَيتَ من زادِ

وذكر جماعةٌ من أهل العلم: أن الحرث بن ذي شداد الحميري كان ملكاً في الجاهلية الجهلاء، وهو أول من دخل أرض الأعاجم ودوخها، ثم إنه وضع يده، بقتل رؤساء قومه، ثم إنه خاف رجلاً منهم، فطلبه، فأعجزه، وهرب الرجل ترفعه أرضٌ وتخفضه أخرى، إذ جنه الليل، فاستضاف إلى كهفٍ في جبلٍ، فأخذته عينه، فإذا هو بآتٍ قد أتاه فقعد عند رأسه، وأنشأ يقول: المنسرح
ألدّهرُ يأتيكَ بالعَجائبِ إ ... نَّ الدّهرَ فيهِ لَدَيْكَ مُعتَبَرُ
بَينا تَرَى الشَّملَ فيهِ مُجتَمعاً ... فَرَّقَه من صُروفِه القَدَرُ
لا تَنفَعُ المَرءَ فيهِ حيلَتُهُ، ... ممّا سيَلقى يوماًن ولا الحَذَرُ
إنّي زَعيمٌ بقصّةٍ عجَبٍ ... عندي لمن يَستَزيدُها الخبَرُ
تأتي بتَصديِقها اللّيالي، وال ... أيّامُ، إنَّ القضاء يُنْتَظرُ
يكونُ في الإِنسِ مَرّةً رجلٌ ... ليسَ له في مُلوكِهِمْ خَطَرُ
مَولِدُه في قُرى ظواهرِ هم ... دانَ بتلكَ التي إسمُها خَمَرُ
يَقهَرُ أَصْحابَه على حَدَثِ ال ... سِّنِّ، ويُجْفى فيهمْ ويُحتَقَرُ
حتّى إذا أَمكَنَتهُ صولَتُهُ ... وليسَ يَدري بشأْنِهِ بشَرُ
أَصبحَ في هَتومٍ على وَجَلٍ، ... وَأَهلُهُ غافِلونَ ما شَعَرُوا
رأَوا غُلاماً بالأمسِ عندَهمُ ... أَزْرَى لَدَيهم جَهْلاً بهِ الصِّغَرُ
لم يَفقدِوهُ، لا دَرَّ دَرَّهُمُ، ... لو عَلِمُوا العلمَ فيهِ لا فتَخَرُوا
حتّى إذا أدْرَكَتْهُ رَوْعَتُهُ ... بينَ ثلاثٍ، وقَلبُهُ حَذِرُ
جاءتْ إليه الكُبرى بأَشقِيَةٍ ... شَتَّى، وفي بَعضِها دَمٌ كَدِرُ
قال لها: ذاكَ إذَنْ أَشْرَبُهُ؟ ... قالتْ لهُ: ذَرْهُ! قال: لا أَذَرُ
فَناوَلَتهُ، فَما توَرَّعَ عَنْ ... أَقْصاهُ حتّى أَهَارَهُ السّكُرُ
قالتْ لَهُ: هذه مَراكِبُنا، ... فاركبْ، وشرُّ المراكبِ الحُمُرُ
فنَهنَهتهُ الوُسطَى، فثارَ لها ... كأَنَّهُ اللَّيثُ هاجَهُ الذّعُر
فقالَ: حَقاً صَدَقْتِ، ثمَّ سما ... فوقَ ضَميرٍ قَدْ زانَهُ الضُّمُر
فَصَدَّ لما عَلاهُ مِنْ أَذَنٍ ... ومِنْ جِراحٍ مِنها بِهِ أَثَرُ
ثمّ أَتَتهُ الصُغرَى تُمَرِّضُهُ، ... فوقَ الحَشايا، ودَمْعُها دِرَرُ
فحالَ منها لمَضجَعٍ ضَجِراً، ... ولا تَساوى الوِطاءُ والوُعُرُ
كأَنَّ إذ ذاكَ بعدَ صَرعَته، مِنْ شِدَّةِ الجُهدِ تحتَهُ الإِبَرُ
فقُلنَ لمّا رأينَ صَرعَتَهُ: ... أَسعِدْ فأنتَ الذي لك الظّفَرُ
في كلِّ ما وجهةٍ تَوَجَّهُها، ... وأنتَ يَشقَى بِحَربِكَ البَشَرُ
وأنتَ للسَّيفِ واللّسانِ وللأب ... دانِ تَبدو كأنَّها الشّرَرُ
وأنتَ أنتَ المُهْرِيقُ كلّ دَمٍ ... إذا تَرامَى بشَخصِكَ السَّفَرُ
فارْشِدْ ولا تَسْكُنَنّ في خَمَرٍ ... ورِدْ ظَفاراً، فإنّها الظّفَرُ
فلَستَ تَلتَذُّ عيشَةً أبداً، ... وللأَعادي عَينٌ، ولا أَثَرُ
نحنُ مِنَ الجِنّ، يا أَبا كَرَبٍ ... يا تُبّعَ الخَيرِ هاجَنا الذّعُرُ
فيما بلَوناهُ فيكَ من تَلَفٍ، ... عن عَمْدِ عينٍ وأنتَ مُصطبرُ
ثمّ أتَى أَهلَهُ، فَأَخْبَرَهُمْ ... بِكُلِّ ما قَدْ رَأَى فما اعتَبَرُوا
فسارَ عَنهمْ، من بَعْدِ تاسِعَةٍ، ... نحوَ ظَفارٍ، وشأْنُهُ الفِكَرُ
فَحَلَّ فيها، والدّهرُ يَرفَعُهُ ... في عِظَمِ الشّأْنِ وهوَ يشتَهرُ

حتّى أتَتهُ مِنَ المَدينَةِ تَش ... كو الظّلم شَمطاءُ قَومُها غُدُرُ
أَدلَتْ إلَيهِ منهمْ ظُلامَتَها، ... ترجو بهِ ثَأْرَها، وتَنتَصرُ
فأَعْمَلَ الرأيَ في الذي طَلبتْ ... تلكَ، وكلُّ بذاكَ يأْتَمِرُ
فعَبّأ الجَيشَ، ثم سارَ بهِ ... مثلَ الدَّبا في البلادِ يَنتشِرُ
قد ملأ الخافقينِ عَسْكَرُهُ، ... كأنهُ الليلُ حينَ يَعْتَكِرُ
تأتَمُّ أَعداءَهُ كَتائِبُهُ، ... فليسَ يُبقي منهمْ، ولا يَذرُ
حتّى قضىَ منهُمُ لُبانَتَهُ، ... وفازَ بالنَّصْرِ ثَمَّ مَنْ نُصِرُوا
إنَّا وَجَدْنا هذا يكونُ مَعاً ... في عِلمِنا، والمَليكُ مُقتَدِرُ
والحمدُ للَّهِ والبَقاءُ لَهُ، ... كلٌّ إلى ذي الجَلالِ مُفتَقِرُ

خبر آخر:
وفي مصداق ما ذكرناه من أشعار الجن، وقولهم الشعر على ألسن العرب، قول الأعشى: الطويل
وما كنتُ شاحردا، ولكنْ حَسِبتُني ... إذا مِسحَلٌ يُسْدي ليَ القولَ أعلَق
شَريكانِ فيما بَينَنا مِن هَوادَةٍ، ... صَفِيَّانِ إنسيٌّ وجِنٌّ موَفَّقُ
يَقُولُ فلا أَعيَا بقَول يَقُولُهُ، ... كَفاني لا عَيٌّ، ولا هُوَ أخْرَقُ
خبر آخر:
ذكر أن رجلاً أتى الفرزدق فقال: إني قلت شعراً فانظره، قال: أنشد، فقال: البسيط
وَمِنْهُم عمرٌو المَحْمُودُ نائِلُهُ ... كأنَّما رَأْسُهُ طِينُ الخَواتيمِ
قال: فضحك الفرزدق ثم قال: يا ابن أخي! إن للشعر شيطانين يدعى أحدهما الهوبر والآخر الهوجل، فمن انفرد به الهوبر جاد شعره وصح كلامه، ومن انفرد به الهوجل فسد شعره، وإنهما قد اجتمعا لك في هذا البيت فكان معك الهوبر في أوله فأجدت، وخالطك الهوجل في آخره فأفسدت، وإن الشعر كان جملاً بازلاً عظيماً فنحر فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرته. ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا، فقال الجزار: يا هؤلاء! لم يبق إلا الفرث والدم، فأمروا لي به، فقلنا: هو لك، فأخذه ثم طبخه، ثم أكله ثم خريه، فشعرك هذا من خرء ذلك الجزار! فقال الفتى: فلا أقول بعده شعراً أبداً.
فصل آخر:
قيل لأبي عبيدة: هل قال الشعر أحدٌ قبل امرىء القيس؟ قال: نعم! قدم علينا رجالٌ من بادية بني جعفر بن كلاب فكنا نأتيهم، فنكتب عنهم، فقالوا: ممن ابن خدام؟ قلنا: ما سمعنا به! قالوا: بلى! قد سمعنا به ورجونا أن يكون عندكم منه علمٌ لأنكم أهل أمصارٍ، ولقد بكى في الدمن قبل امرىء القيس، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره حيث يقول: الكامل
عوجا خَليليّ الغداةَ لعَلّنا ... نَبكي الدّيارَ كما بكى ابنُ خِدامِ
باب صفة الذين قدموا زهيرا
ً
قال الذين قدموا زهيراً على امرىء القيس: هو أشعر العرب، وإنما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في امرىء القيس إنه يقدم بلواء الشعراء إلى النار لقدمه في الشعر. وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يقوله لقوله، عز وجل: وما علمناه الشعر وما ينبغي له. ولكن كان يعجبه. ولو كانت التقدمة بالتقدم في الشعر لقدم عليه ابن خدام الذي ذكره في شعره؛ وليس هنالك. وقول الفرزدق إن الشعر كان جملاً فنحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، فهذا مثلٌ ضربه، والسنام والكاهل أكثر نفعاً من الرأس، إذا كان منحوراً، ولو أنه ضرب المثل، وكان حياً، فأخذ رأسه لكان الرأس أفضل إذ لا بقاء للبدن إلا مع الرأس، وإنما أخذه ميتاً.
فصل آخر:
ذكره أبو عبيدة، وأخبرنا أبو عبد الرحمن الغساني عن شريك بن الأسود قال: كنا ليلةً في سمر بلال بن أبي بردة الأشعري، وهو يومئذ على البصرة، فقال: أخبروني بالسابق والمصلي من الشعراء من هما؟ قلنا: أخبرنا أنت أيها الأمير، وكان أعلم العرب بالشعر؛ فقال: السابق الذي سبق بالمدح فقال:
وما يكُ من خَيرٍ أَتَوْهُ فإنّما ... تَوارَثَهُ آباءُ آبائِهِمْ قَبْلُ
وأما المصلي، فهو الذي يقول: الطويل

ولَستُ بمُستَبقٍ لا تَلُمّهُ ... على شعثٍ، أيّ الرّجالِ المُهَذَّبُ؟

فصل آخر:
ذكر أبو عبيدة عن الشعبي يرفعه إلى عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما، قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في سفرٍ فبينا نحن نسير قال: ألا تزاملون؟ أنت يا فلانٌ زميل فلان، وأنت يا فلانٌ زميل فلان، وأنت يا ابن عباس زميلي؛ وكان لي محباً مقرباً، وكان كثيرٌ من الناس ينفسون علي لمكاني منه، قال: فسايرته ساعةً ثم ثنى رجله على رحله، ورفع عقيرته ينشد:
وما حَمَلَتْ مِنْ ناقةٍ فوقَ رَحْلِها ... أَبَرَّ وأَوْفَى ذِمَّةً من مُحَمّدِ
ثم وضع السوط على رحله، ثم قال: أستغفر الله العظيم، ثم عاد فأنشد حتى فرغ ثم قال: يا ابن عباس! ألا تنشدني لشاعر الشعراء! فقلت: يا أمير المؤمنين! ومن شاعر الشعراء؟ قال: زهير! قلت: لم صيرته شاعر الشعراء؟ قال: لأنه لا يعاظل بين الكلامين، ولا يتتبع وحشي الكلام، ولا يمدح أحداً بغير ما فيه. قال أبو عبيدة: صدق أمير المؤمنين، ولشعره ديباجةٌ إن شئت قلت شهدٌ إن مسسته ذاب، وإن شئت قلت صخرٌ لو رديت به الجبال لأزالها.
وحدثني محمد بن عثمان عن أبي مسمع عن ابن دأب قال: كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، جالساً في أصحابه يتذاكرون الشعر والشعراء، فيقول بعضهم: فلانٌ اشعر، ويقول آخر، بل فلانٌ أشعر؛ فقيل: إبن عباس بالباب! فقال عمر، رضي الله عنه: قد أتى من يحدث من أشعر الناس؛ فلما سلم وجلس قال له عمر: يا ابن عباس! من أشعر الناس؟ قال: زهير يا أمير المؤمنين! قال عمر: ولم ذلك؟ قال ابن عباس: لقوله يمدح هرماً وقومه بني مرة: البسيط
لو كان يَقْعُدُ فوقَ الشّمسِ من كَرمٍ ... قومٌ بأَوَّلِهم أو مَجْدِهِم قَعَدُوا
قَومٌ أَبوهُمْ سِنَانٌ حينَ تَنسُبُهم، ... كابُوا وطابَ مِنَ الأولادِ مَن وَلَدُوا
جِنٌّ إذا فَزِعُوا، إنسٌ إذا أَمِنُوا، ... مُرَزّؤونَ بَهاليلٌ إذا جهدُوا
مُحَسَّدونَ على ما كانَ مِنْ نِعَمٍ، ... لا يَنزِعُ اللَّهُ عَنهُم ما بِهِ حُسِدُوا
قال عمر: صدقت يا ابن عباس.
فصل من أخبار زهير
ذكر أبو عبيدة عن قتيبة بن شبيب بن العوام بن زهير عن آبائه الذين أدركوا بجيراً وكعباً إبني زهير قال: كان أبي من مترهبة العرب، وكان يقول: ولا أن تفندون لسجدت للذي يحيي هذه بعد موتها! قال: ثم إن زهيراً رأى قبل موته بسنةٍ في نومه كأنه رفع إلى السماء حتى كاد يمس السماء بيده، ثم انقطعت به الحبال، فدعا بنيه فقال: يا بني! رأيت كذا وكذا، وإنه سيكون بعدي أمرٌ يعلو من اتبعه ويفلح، فخذوا بحظكم منه، ثم لم يعش إلا يسيراً حتى هلك، فلم يحل الحول حتى بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وذكر عن الأصمعي قال: كفاك من الشعراء أربعة: زهير إذا طرب، والنابغة إذا رهب، والأعشى إذا غضب، وعنترة إذا كلب.
باب خبر الذين قدموا النابغة الذبياني
قالوا: هو أوضحهم معنىً، وأبعدهم غايةً، وأكثرهم فائدةً.
وأخبرنا ابن عثمان عن مطرف الكناني عن ابن دأب في حديث رفعه إلى عبد الملك بن مسلم: أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج: إنه لم يبق من لذة الدنيا شيءٌ إلا وقد أصبت منه، ولم يبق إلا مناقلة الحديث، وقبلك عامر الشعبي، فابعث به إلي يحدثني. فبعث الحجاج بالشعبي وأطراه في كتابه، فخرج الشعبي حتى صار بباب عبد الملك فقال للحاجب: إستأذن لي! فقال الحاجب: ومن أنت رحمك الله؟ قال: أنا عامر الشعبي، فنهض الحاجب وأجلسه على كرسيه، فلم يلبث الحاجب أن أدخله، قال الشعبي: فدخلت فإذا عبد الملك على كرسي، وإذا بين يديه رجلٌ أبيض الرأس واللحية على كرسي آخر، فسلمت، فرد السلام ثم أومأ بقضيبه فقعدت على يساره، ثم أقبل على رجل عنده، فقال: ويحك من أشعر الناس؟ قال: أنا يا امير المؤمنين! قال الشعبي: فأظلم ما بيني وبين عبد الملك من البيت، ولم أصبر أن قلت: من هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس؟ فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني، وقال: هذا الأخطل، قلت: بل أشعر منك يا أخطل الذي يقول: السريع
هذا غُلامٌ حَسَنٌ وَجْهُهُ ... مُستَقبلُ الخَيرِ سريعُ التّمامْ

للحَرَثِ الأكبرِ والحَرَثِ ال ... أعْرَجِ والأصغَرِ خَيرِ الأنامْ
ثمّ لهندٍ ولهندٍ، وقد ... أَسْرَعَ في الخَيراتِ مِنهم إمامْ
ستّةُ آباءٍ هُمُ ما هُمُ، ... أَكْرَمُ مَنْ يشرَبُ صَوبَ الغَمامْ
قال: فرددتها حتى حفظها عبد الملك، فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: هذا الشعبي! قال الأخطل: والإنجيل هذا ما استعذت بالله من شره! صدق والله: ألنابغة أشعر مني! فالتفت إلي عبد الملك فقال: ما تقول في النابغة يا شعبي؟ قال: قدمه عمر بن الخطاب في غير موضع على جميع الشعراء.

فصل آخر:
قال: خرج عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وببابه وفد غطفان، فقال: أي شعرائكم الذي يقول: الطويل
حلفتُ، فلم أتركُ لنَفسِكَ ريبةً ... وليسَ وَراءَ اللَّهِ للمَرءِ مَذهبُ
لَئِن كُنَتَ قد بُلّغتَ عنّي سعايةً ... لمُبلِغُكَ الواشي أغشُّ وأكذَبُ
ولَستَ بمُستَبقٍ أخاً لا تَلُمّهُ ... على شَعَثٍ، أيّ الرّجالِ المُهَذَّبُ
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، قال: فمن القائل: الطويل
خَطاطيفُ حُجْنٌ في حِبالٍ مَتينَةٍ، ... تَمُدُّ بها أيدٍ إلَيكَ نَوازِعُ
فإنّكَ كاللّيلِ الذي هوَ مُدْرِكي، ... وإن خَلْتَ أنّ المُنتأى عنكَ واسعُ
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين، قال: فمن القائل: الوافر
إلى ابنِ مُحَرِّقٍ أعمَلتُ نَفسي ... وراحلَتي، وقد هدأتْ عُيونُ
فألفَيتُ الأمانَةَ لم يَخُنْها ... كذلكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ
أتَيتُكَ عارِياً خَلَقِاً ثِيابي ... على خَوفٍ تُظَنّ بيَ الظّنونُ؟
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين! قال: فمن القائل: البسيط
إلاَّ سُلَيْمَانَ، إذْ قال المَليكُ له: ... قُم في البَرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَدِ
قالوا: النابغة يا أمير المؤمنين! قال: هو أشعر شعرائكم.
قال الشعبي: ثم أقبل عبد الملك على الأخطل، فقال: أتحب أن يكون لك شعر أحدٍ من العرب عوضاً عن شعرك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين، إلا أن رجلاً قال شعراً فيه أبياتٌ، وكان ما علمت والله مغدف القناع، قليل السماع، قصير الذراع، وددت أني قلتها، وهو القطامي: البسيط
لَيسَ الجَديدُ بهِ تبقى بَشاشَتُهُ ... إلاّ قليلاً، ولا ذو خُلّةٍ يَصِلُ
والعَيشُ لا عَيشَ إلاّ ما تَقَرُّ بهِ ... عَيْنٌ، ولا حالَةٌ إلاّ سَتنتقِلُ
والناس مَنْ يلقَ خيراً قائلونَ لهُ ... ما يشتهي وَلأُمِّ المُخْطيء الهَبَلُ
قَدْ يُدرِكُ المُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وقَدْ يكونُ معَ المُستعجِلِ الزُلَلُ
فصل آخر:
وذكر محمد بن عثمان عن أبي علقمة عن مفالج بن سليمان عن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن زيد عن عمر بن الخطاب عن حسان بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، أنه حدثه، أنه وفد على النعمان بن المنذر قال: فلما دخلت بلاده لقيني رجلٌ فسألني عن وجهي وما أقدمني، فأخبرته، فأنزلني، فإذا هو صائغٌ، فقال: مما أنت؟ فقلت: من أهل الحجاز، قال: كن خزرجياً! قلت: أنا خزرجي، قال: كن نجارياً! قلت: أنا نجاري! قال: كن حساناً! قلت: أنا حسان، قال: كنت أحب لقاءك، وأنا واصفٌ لك أمر هذا الرجل وما ينبغي لك أن تعمل به في أمره. إنك إذا لقيت حاجبه وانتسبت وأعلمته مقدمك أقام شهراً لا يرد عليك شيئاً، ثم يلقاك، فيقول: من أنت؟ وما أقدمك؟ ثم يمكث شهراً لا يرد عليك شيئاً، ثم يستأذن لك، فإذا دخلت على النعمان، فستجد عنده أناساً، فيستنشدونك؛ فلا تنشدهم حتى يأمرك، فإذا أمرك، فأنشده، فيستزيدك من عنده، فلا تزده حتى يستزيدك، هو، فإذا فعلت، هذا، فانتظر ثوابه وما عنده، فإن هذا ينبغي لك أن تعرفه من أمره.

قال حسان: فقدمت إلى الحاجب، فإذا الأمر على ما وصف لي، ثم دخلت على النعمان، ففعلت ما أمرني به الصائغ، فأنشدته شعري ثم خرجت من عنده، فأقمت أختلف إليه، فأجازني وأكرمني، وجعلت أخبر صاحبي بما صنع، فيقول: إنه لا يزال هكذا حتى يأتيه أبو أمامة، يعني النابغة، فإذا قدم، فلا حظ فيه لأحدٍ من الشعراء. قال: فأقمت كذلك إلى أن دخلت عليه ليلةً، فدعا بالعشاء، فأتي بطبيخٍ، فأكل منه بعض جلسائه، فامتلأ، فضحك بطالٌ كان يكون بباب النعمان، فغضب وقال: أبجليسي تضحك؟ أحرقوا صليفيه بالشمعة! فأحرق صليفاه. قال حسان: فوالله إني لجالسٌ عنده، إذا بصوتٍ خلف قبته، وكان يوماً ترد فيه النعم السود، ولم يكن للعرب نعم سود إلا للنعمان، فأقبل النابغة فاستأذن، فقدم، وهو يقول: السريع
أنامَ أَمْ يَسمعُ رَبُّ القُبَّه، ... يا أَوْهَبَ النّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه
ضَرَّابةٍ بالمِشفَرِ الأذبَّه، ... ذاتِ تَجافٍ في يَدَيها حَدْبَه
قال: أبو أمامة، أدخلوه! فأنشده قصيدته التي يقول فيها: الطويل
وَلَسْتَ بِمُسْتَبقٍ أَخاً لا تَلُمّهُ ... على شعَثٍ، أيُّ الرّجال المهذَّبُ
فأمر له بمائة ناقةٍ فيها رعاؤها ومطافيلها وكلابها من السود. قال حسان: فخرجت من عنده لا أدري أكنت له أحسد على شعره، أم على ما نال من جزيل عطائه، فرجعت إلى صاحبي، فقال: انصرف، فلا شيء لك عنده سوى ما أخذت.
وعنه في حديث رفعه إلى الوليد بن روح الجمحي قال: مكث النابغة دهراً لا يقول الشعر، ثم أمر بثيابه، فغسلت، وعصب حاجبيه على جبهته، فلما نظر إلى الناس أنشأ يقول: مجزوء الكامل
أَلَمرءُ يأْمُلُ أنْ يَعي ... شَ، وطولُ عَيْشٍ قَدْ يَضرّهْ
تَفنى بَشاشَتُهُ، ويَبْ ... قَى بعدَ حُلوِ العَيشِ مُرّهْ
وتَصَرَّمُ الأيّامُ، حتى ... لا يَرى شيئاً يَسرّهْ
كم شامتٍ بي إنْ هَلَكْ ... تُ، وقائِلٍ للَّهِ دَرَّهْ

فصل آخر عنه:
قال: لما قال النابغة: الكامل
أَمِنْ آلِ مَيَّةَ رائحٌ أَو مُغتَدي ... عَجْلانَ، ذا زادٍ، وغيرَ مَزَوَّدِ
وقوله في البيت الثاني:
زَعَمَ البَوارحُ أنّ رحلَتَنا غَداً، ... وبذاكَ خَرّرَنا الغرابُ الأسودُ
هابوه أن يقولوا له لحنت، أو أكفأت، فعمدوا إلى قينته، فقالوا: غنيه! فلما غنته بالخفض والرفع فطن وقال:
وبذاكَ تَنعابُ الغُرابِ الأسوَدِ
وكان بدء غضب النعمان عليه أن النعمان قال: يا زياد! صف لي المتجردة، ولا تغادر منها شيئاً، وكانت زوجة النعمان، وكانت أحسن نساء زمانها، وكان النعمان قصيراً، دميماً، أبرش، وكان ممن يجالسه ويسير معه رجلٌ آخر يقال له: المنخل، كان جميلاً، وكان النابغة عفيفاً، فقال له النعمان: صف لي المتجردة، فوصفها في الشعر الذي يقول فيه:
لو أَنَّها عَرَضَتْ لأَشْمَطَ راهبٍ، ... يدعو الإلَهَ، صَرورَةٍ، مُتَعَبِّدِ
لَصَبَا لَبَهجتِها وطِيْبِ حَديثها، ... ولَخَالَهُ رُشْداً، وإنْ لم يَرشُدِ
تَسعُ البلادُ إذا أتَيتُك زائراً، ... فإذا هجَرتُك ضاقَ عنّي مَقعدي
ثم وصف جميع محاسنها، فلما بلغ إلى المعنى قال:
وإذا لَمَسْتَ لَمَسْتَ أَجْثَمَ جاثِماً ... مُتَحَيِّزاً بمكانِهِ مِلءَ اليَدِ
وإذا طَعَنتَ طَعَنتَ في مُسْتَهدِفٍ ... ناتيْ المَجَسَّةِ بالعَبيرِ مُقَرمَدِ
وإذا نزعتَ نزعْتَ عن مُستَحصِفٍ ... نَزْعَ الحَزَوَّرِ بالرّشاءِ المُحْصَدِ
وتكادُ تَنزعُ جِلدَهُ عَن مَلّةٍ ... فيها لوافحُ كالحَريقِ الموقَدِ
قال: فلما سمع ذلك المنخل، وكان يغار عليها، قال: أيد الله الملك، ما يقول هذا إلا من جرب ورأى؛ فوقع ذلك في نفس النعمان وكان له أبوابٌ يقال له عصام، وكان صديقاً للنابغة، فأخبره الخبر، فهرب إلى ملوك غسان، وهم آل جفنة الذين يقول فيهم حسان بن ثابت: الكامل
للَّهِ دَرّ عصابَةٍ نادَمتُهُم ... يوماً بِجِلّقَ في الزّمانِ الأوّلِ

أبناءُ جَفْنَةَ حولَ قبرِ أَبيهِمُ ... عمرو بْنُ ماريةَ الكريمِ المُفضلِ
بيضُ الوُجوهِ كريمةٌ أحسابُهمْ ... شُمُّ الأنوفِ مِنَ الطّرازِ الأوّلِ
يُغْشَونَ حتى ما تهرُّ كلابُهُمْ ... لا يَسألونَ عن السّوادِ المُقبلِ
فأقام النابغة عندهم حتى صح للنعمان براءته، فأرسل إليه، ورضي عنه، ولعصام يقول النابغة: الرجز
نفسُ عِصامٍ سَوَّدَتْ عِصامَا ... وَعَلمَتْهُ الكَرَّ، والإقدامَا
وجَعَلَتْهُ مَلِكاً هُمامَا
وله فيه أيضاً: الوافر
أَلمْ أُقْسِمْ عَلَيكَ لتُخبِرَنّي: ... أَمَحْمولٌ على النّعشِ الهُمامُ
فإنّي لا أَلُومُ على دُخولٍ، ... ولكنْ ما وراءَكَ يا عِصامُ؟
فإن يَهلِكْ أبو قابوسَ يَهلِكْ ... رَبيعُ النّاسِ، والشَّهْرُ الحَرامُ
ونأخُذْ بعدَهُ بِذُنابِ عَيشٍ ... أَجَبِّ الظّهرِ، لَيسَ لهُ سَنامُ
تَمَخّضَتِ المَنُونُ له بيَومٍ ... أتَى، وَلِكُلِّ حامِلَةٍ تَمامُ
ولَيسَ بخابىءٍ لغَدٍ طَعاماً ... حِذارَ غَدٍ، لكلِّ غَدٍ طَعامُ
وكان النابغة قد أسن جداً فترك قول الشعر، فمات وهو لا يقوله.

باب خبر أعشى بكر بن وائل
قال الذين قدموا الأعشى: هو أمدحهم للملوك، وأوصفهم للخمر، وأغزرهم شعراً، وأحسنهم قريضاً.
وذكر الجهمي عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال: عليكم بشعر الأعشى، فإنه أشبه شيء بالبازي الذي يصطاد به، ما بين الكركي والعندليب، وهو عصفور صغير، ولعمري إنه أشعر القوم، ولكنه وضعته الحاجة بالسؤال.
وذكر ابن دأب: أن الأعشى خرج يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال شعراً حتى إذا كان ببعض الطريق نفرت به راحلته، فقتلته، ولا أنشد شعره الذي يقول فيه: الطويل
فآلَيتُ لا أرثي لها مِنْ كَلاَلَةٍ ... ولا مِنْ حَفاً حتَّى تلاقي مُحَمّدَا
متى ما تُناخي عند بابِ ابنِ هاشِمٍ ... تفوزي، وتلقَيْ من فواضِله يدَا
قال النبي، صلى الله عليه وسلم: كاد ينجو، ولما.
وأخبرنا المفضل عن علي بن طاهر الذهلي عن أبي عبيدة عن المجالد عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان لمؤدب أولاده: أدبهم برواية شعر الأعشى، فإن لكلامه عذوبةً، قاتله الله ما كان أعذب بحره، وأصلب صخره! فمن زعم أن أحداً من الشعراء أشعر من الأعشى، فليس يعرف الشعر.
وقيل لعلي بن طاهر: من أشعر الناس؟ قال: الذي يقول: المتقارب
وَتَبْردُ بَرْدَ رِداءِ العَرو ... سِ في الصّيفِ رَقْرَقَتْ فيه العبيرَا
وَتَسْخنُ لَيلةَ لا يَستَطيعُ ... نباحاً بها الكلبُ إلاّ هريرَا
وقال: يا ابن أخي من قدم على الأعشى أحداً فإنما يفعل ذلك بالميل، فهو أشعر شعراء الناس. ولما أنشد النبي، صلى الله عليه وسلم، قول الأعشى الذي نفر فيه عامر بن الطفيل وفضله على علقمة بن علاثة ويمدح عامراً: السريع
عَلقَمُ ما أَنْتَ إلى عامِرِ ... النّاقِمِ الأوْتارِ والواتِرِ
سُدْتَ بني الأحوصَ لم تَعْدُهم ... وعَامرٌ سادَ بني عامِرِ
وكان علقمة قد أسلم، وحسن إسلامه، وكان من المؤلفة قلوبهم، فنهى النبي، صلى الله عليه وسلم، عن إنشاد هذا الشعر حين أسلم علقمة، وحديث منافرتهما يطول.
باب خبر لبيد بن ربيعة
قال الذين قدموا لبيد بن ربيعة: هو أفضلهم في الجاهلية والإسلام، وأقلهم لغواً في شعره. وقد قيل عن عائشة، رضي الله عنها، إنها قالت: رحم الله لبيداً ما أشعره في قوله: الكامل
ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهِمْ، ... وبقيتُ في خَلَفٍ كجلدِ الأجرَبِ
لا يَنفَعون، ولا يُرَجّى خيرُهم، ... ويُعابُ قائلُهُمْ، وإنْ لم يَشْغَبِ
ثم قالت: كيف لو رأى لبيد خلفنا هذا! ويقول الشعبي: كيف لو رأت أم المؤمنين خلفنا هذا!
فصل آخر:

قال: وكان لبيد جواداً شريفاً في الجاهلية والإسلام، وكان قد آلى في الجاهلية أن يطعم ما هبت الصبا، ثم أدام ذلك في إسلامه. ونزل لبيد الكوفة، وأميرها الوليد بن عقبة، فبينا هو يخطب الناس، إذ هبت الصبا بين ناحية المشرق إلى الشمال فقال الوليد في خطبته على المنبر: قد علمتم حال أخيكم أبي عقيل، وما جعل على نفسه أن يطعم ما هبت الصبا، وقد هبت ريحها، فأعينوه! ثم انصرف الوليد، فبعث إليه بمائةٍ من الجزر واعتذر إليه فقال: الوافر
أرَى الجَزّارَ يَشْحَذُ شَفرَتيهِ ... إذا هَبّتْ رِياحُ أبي عَقيلِ
أشمُّ الأنفِ أَصْيَدُ عامريٌّ، ... طويلُ الباعِ كالسّيفِ الصّقيلِ
وفَى ابنُ الجَعفَريِّ بما نَواهُ، ... على العِلاَّتِ والمالِ القَليلِ
يُذَكّي الكُومَ ما هَبَّتْ عليهِ ... رِياحُ صَباً تجاوَبُ بالأصيلِ
فلما وصلت الهدية إلى لبيد قال له الرسول: هذه هدية ابن وهب، فشكره لبيد وقال: إني تركت الشعر منذ قرأت القرآن، وإني ما أعيا بجواب شاعر، ودعا ابنةً له خماسيةً فقال: أجيبيه عني، فقالت: الوافر
إذا هَبَّتْ رِياحُ أبي عقيلٍ، ... دَعَونا عندَ هَبّتِها الوَليدَا
أشَمَّ الأنفِ، أصْيَدَ عَبشَمِيّاً ... أعانَ على مُروءَتِهِ لَبيدَا
بأَمثالِ الهِضابِ، كأنَّ رَكباً ... عَليها من بَني حامٍ قُعُودَا
أبا وَهبٍ! جَزَاكَ اللَّهُ خَيراً ... نَحَرناها، وأطعَمنا الوُفُودَا
فَعُدْ! إنّ الكريمَ لهُ مَعَادٌ، ... وظنّي يابنَ أروى أن تَعُودا
فقال لبيد: أجبت وأحسنت لولا أنك سألت في شعرك. قالت إنه أمير، وليس بسوقة ولا بأس بسؤاله، ولو كان غيره ما سألناه! قال: أجل! إنه لعلى ما ذكرت.
قيل: وكان لبيد أحد المعمرين؛ يقال: إنه لم يمت حتى حرم عليه نكاح خمسمائة امرأةٍ من نساء بني عامر، وهو القائل لما بلغ تسعين حجة: الطويل
كأنّي وَقَدْ جاوَزتُ تِسْعينَ حجّةً ... خَلَعتُ بها عنِّي عِذارَ لجامي
رَمتني بناتُ الدَّهرِ من حيثُ لا أرَى ... فكَيفَ بمن يُرْمى، وليس برامي
ولو أنّني أُرمَى بِسَهْمٍ رأيتُها، ... ولكنَّني أُرمَى بغَيرِ سِهامِ
وقال حين بلغ عشرين ومائة: الكامل
وغَنِيتُ دَهراً قَبلَ مَجْرى داحسٍ، ... لو كانَ للنّفسِ اللَّجُوجِ خُلُودُ
وقال حين بلغ أربعين ومائة:
ولقد سئِمتُ منَ الحَياةِ وطولِها، ... وسؤالِ هذا النّاسِ: كيفَ لبيدُ؟
غَلَبَ الزّمانَ، وكانَ غَيرَ مُغَلَّب، ... دَهرٌ طَويلٌ دائمٌ مَمدُودُ
يومٌ إذا يأتي عليَّ، ولَيلَةٌ ... وكلاهُما بَعدَ انقضاهُ يَعُودُ
ثم أسلم، وحسن إسلامه، وجمع القرآن وترك قول الشعر.

فصل آخر من أخباره
ولما حضرته الوفاة قال لابنه: إن أباك قد توفي، فإذا قبض أبوك، فأغمضه واستقبل به القبلة، وسجه بثوبه، ولا تصح عليه صائحةٌ، ولا تبك عليه باكيةٌ، وانظر إلى جفنتي التي كنت أصنعها، فأجد صنعتها، ثم احملها إلى مسجدك لمن كان يغشاني عليها، فإذا سلم الإمام فقدمها إليهم، فإذا فرغوا فقل: احضروا جنازة أخيكم لبيد؛ ثم أنشأ يقول: مجزوء الكامل
فإذا دَفَنتَ أباكَ فاجْ ... عَلْ فَوقَهُ خَشَباً وطِينَا
وصَفائحاً صُمّاً، رَوَا ... سيها يُسَدّدنَ الغُضونا
لَيَقينَ حُرّ الوَجهِ مِنْ ... عَفَرِ الترابِ، ولن يَقينا
باب صفة عمرو بن كلثوم
قال الذين قدموا عمرو بن كلثوم: هو من قدماء الشعراء، وأعزهم نفساً، وأكثرهم امتناعاً، وأجودهم واحدة.
قال عيسى بن عمر: لله در عمرو بن كلثوم أي حلس شعر، ووعاء علم، لو أنه رغب فيما رغب فيه أصحابه من الشعراء، وإن واحدته لأجود سبعهم.

وذكر أبو عمرو بن العلاء: أن عمرو بن كلثوم لم يقل غير واحدته، ولولا أنه افتخر في واحدته وذكر مآثر قومه ما قالها؛ وقيل: إن عمرو بن كلثوم كان ينشد عمرو بن هند، وهو الثاني من ملوك الحيرة، فبينما هو ينشد في صفة جمل، إذ حالت الصفة إلى صفة ناقة، فقال طرفة: استنوق الجمل! والبيت الذي أنشده عمرو بن كلثوم: الطويل
وإنّي لأمضي الهَمَّ عِنْدَ احتضارِهِ ... بناجٍ علَيهِ الصّيعرِيّةُ مِيسَمُ
الصيعرية: سمة من سمات الإبل الإناث خاصة لا الذكور، فلذلك قال طرفة: استنوق الجمل! فقال عمرو: وما يدريك يا صبي؟ فتشاتما، فقال عمرو ابن هند: سبه يا طرفة، فقال قصيدته التي أولها: الرمل
أشَجَاكَ الرَّبعُ أم قِدَمُه ... أم سَوادٌ دارِسٌ حُممُه
حتى بلغ إلى قوله:
فإذا أَنتم وجَمعُكُمُ ... حَطبٌ للنّارِ تضطَرِمُه
فقال عمرو بن كلثوم يتوعد عمرو بن هند: الوافر
ألا لا يَجهَلَنْ أحَدٌ عَلَينا، ... فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهلينَا
بأيّ مَشيئَةٍ عمرو بن هندٍ، ... تُطيعُ بنا الوُشاةَ وتَزدَرينَا؟
وروي أن هذا الخبر كان بين طرفة والمتلمس، وأنه لا يجترىء على عمرو ابن كلثوم بمثل هذا لشدته في قومه.
وقال مطرف: بلغني عن عيس بن عمر، وأظن أني قد سمعته منه، أنه كان يقول: لو وضعت أشعار العرب في كفة وقصيدة عمرو بن كلثوم في كفة لمالت بأكثرها.

باب صفة طرفة بن العبد
قال الذين قدموا طرفة: هو أشعرهم إذ بلغ بحداثة سنه ما بلغ القوم في طول أعمارهم، وإنما بلغ عمره نيفاً وعشرين سنة، وقيل: لا بل عشرين سنة، فخب وركض معهم، وكان من حديثه أنه هجا عبد عمرو بن بشر بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة فقال: الطويل
فيا عَجَبَا من عَبدِ عمرٍو وَبَغْيِه، ... لقد رامَ ظُلمي عبدُ عمرو فأنعَما
ولا خَيرَ فيهِ غَيرَ أنّ له غِنىً، ... وأنّ له كَشحاً، إذا قامَ، أهضَمَا
وكان قد هجا عمرو بن هند الملك، وكان له يوم نعيم ويوم بؤس، فقال: الوافر
قَسَمتَ الدّهرَ من زَمَنٍ رَخيّ، ... كذاكَ الدّهْرُ يَقصدُ، أو يَجُورُ
لَنا يومٌ، وللكَرَوانِ يَومٌ، ... تَطيرُ البائساتُ، وما يَطيرُ
قال: فبينما عمرو بن هند قاعد، وعنده عبد عمرو، إذ نظر إلى خصر قميصه متخرقاً وكان من أجمل العرب، وكان صفياً له يداعبه، وقد سمع ما قال فيه طرفة، فضحك؛ وأنشده شعر طرفة، فقال: أيها الملك، قد هجاك بأشد من هذا. قال: وما هو؟ فأنشده قوله: فوقع في قلبه، وقال: يقول في مثل هذا؟ وكره العجلة عليه لمكان قومه، فكتب إلى عامله؛ وكان المتلمس، وهو عمرو ابن عبد المسيح، رجلاً مسناً مجرباً، وكان المتلمس أيضاً قد هجا عمراً، فأقبل المتلمس وطرفة على عمرو يتعرضان لمعروفه؛ فكتب لهما إلى عامل البحرين وهجر، وقال: إنطلقا إليه، فاقتضيا جوائزكما، فلما خرجا من عنده قال المتلمس: يا طرفة! إنك غلامٌ حديث السن، ولست تعرف ما أعرف، وكلانا قد هجاه، ولست آمن أن يكتب بما نكره، فتعال ننظر في كتبه! فقال طرفة: لم يكن ليقدم علي بمثل هذا، وعدل المتلمس إلى غلام عبادي من أهل الحيرة، فقال: إقرأ ما في هذه الصحيفة، فإذا فيها السوء فألقاها في النهر، وتبع طرفة يريد أن يرده، فلم يدركه.
وقدم طرفة على عامل البحرين، وهو ربيعة بن الحرث، وهو الذي كتب إليه في شأن طرفة والمتلمس، فقال المتلمس يذكر ما كان من أمره: الطويل
فألقَيتُها من حَيثُ كانَت فإنّني ... كذلكَ أقفُوا كلّ قِطٍ مُضَلَّلِ
رَضِيتُ لها بالماءِ لمّا رأيتُها ... يَجولُ بها التيّارُ في كلِّ جَدوَلِ
ومضى طرفة حتى إذا كان ببعض الطريق سنحت له ظباءٌ فيها تيسٌ وعقابٌ، فزجرها طرفة فقال: الطويل
لَعَمري لقَد مَرّتْ عَواطِسُ جَمّةٌ ... وَمَرّ، قُبَيلَ الصّبحِ، ظبيٌ مُصَمِّعُ
وعجزاءُ دفّتْ بالجَ،احِ كأنّها، ... معَ الصّبحِ، شيخٌ في بِجادٍ مُقَنَّعُ
فلَن تَمنَعي رِزقاً لعَبدٍِ يَنالُهُ، ... وهل يَعدُوَنْ بؤساكِ ما يُتَوَقّعُ؟
وقال المتلمس: الكامل

مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبراً، فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ
أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما، ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس
ومنها قوله:
ألقِ الصّحيفَةَ، لا أَبَا لَكَ، إنّهُ ... يُخشَى علَيكَ مِنَ الحِباءِ النِقْرِسُ
فلما قدم طرفة على عامل البحرين دفع إليه كتاب عمرو بن هند، فقرأه فقال: هل تعلم ما أمرت به؟ قال: نعم! أمرت أن تجيزني وتحسن إلي. فقال: يا طرفة! بيني وبينك خؤولةٌ أنا لها راعٍ حافظٌ. فاهرب في ليلتك هذه، فإني قد أمرت بقتلك، فاخرج قبل أن تصبح ويعلم بك الناس. فقال طرفة: إشتدت عليك جائزتي، فأردت أن أهرب وأجعل لعمرو بن هند علي سبيلاً! كلا والله لا أفعل ذلك أبداً! فلما أصبح أمر بحبسه، وجاءت بنو بكر، فقالوا: ما أقدم طرفة؟ فقرأ عليهم كتاب الملك ثم حبس طرفة ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند: فقرأ عليهم كتاب الملك ثم حبس طرفة ولم يقتله، وكتب إلى عمرو بن هند: أن ابعث إلى عملك من تريد، فإني غير قاتله؛ فبعث عمرو بن هند رجلاً من تغلب، فاستعمله على البحرين، فقتل طرفة، وقتل ربيعة بن الحرث، وقدمهما وقرأ عليهما عهده، فلبث أياماً، واجتمعت بكر بن وائل فهمت بالتغلبي. وقتل طرفة رجلٌ من الحواثر يقال له أبو رشية، وقبره اليوم معروفٌ بهجر، بأرضٍ لبني قيس بن ثعلبة، وودته الحواثر إلى أبيه لما كان من قتل صاحبهم إياه، بعثوا بالإبل حسبةً. ويروى أن طرفة قال قبل صلبه: الطويل
فمَن مُبلِغٌ أحياءَ بكرِ بنِ وائلِ ... بأَنّ ابنَ عبدٍ راكبٌ غيرُ راجلِ
على ناقةٍ لم يركبِ الفَحلُ ظَهَرَها ... مُشَذَّبةٍ أَطرافُها بالمَناجِلِ
وقال أيضاً: الطويل
لعَمرُك! ما تدري الطّوارقُ بالحَصَى، ... ولا زاجراتُ الطّيرِ ما اللَّهُ فاعِلُ
وقال المتلمس يحرض أقوام طرفة: الكامل
أَبُنيَ فُلانَةَ لم تكن عاداتُكُم ... أخْذَ الدّنيّةِ قبلَ خِطّةِ مَعضَدِ
وقالت أخت طرفة، وهي الخرنق، تهجو عبد عمرو، حين أنشد الملك شعر أخيها طرفة بن العبد: الوافر
ألا ثَكِلَتكَ أُمُّكَ عبدَ عمرٍو، ... أبا النّخبَاتِ واخيَتَ المُلُوكَا
هُمُ رَكَلُوكَ للوَرِكَينِ رَكْلاً، ... ولو سألُوكَ أعطَيتَ البُرُوكا
فيَومُكَ عندَ زانيَةٍ هَلُوكٍ، ... كظِلِّ الرّجعِ مِزْهَرُها ضَحوكا
ورثته أخته بقولها: الطويل
نَعِمنا بهِ خَمساً وعشرينَ حِجَّةً ... فلمّا تَوَفَّاها استَوى سيِّداً فَخمَا
فُجِعْنا بهِ لمّا استَتَمَّ تَمامَهُ، ... على خَيرِ حالٍ، لا وَليداً ولا قَحما
ومضى المتلمس هارباً إلى الشام، فكتب فيه عمرو بن هند إلى عماله بنواحي الريف، يأمرهم أن يأخذوا المتلمس إن قدروا عليه يمتار طعاماً، أو يدخل الريف، فقال المتلمس يحرض قومه: البسيط
يا آلَ بكرٍ! أَلا للَّهِ دَرُّكُمُ، ... طالَ الثّواءُ وثوبُ العجزِ ملبوسُ
وقال أيضاً: الكامل
إنَّ العراقَ وأَهلَهُ كانُوا الهَوَى، ... فإذا نآنا ودُّهُمْ، فَلْيَبْعُدُوا
وقال أيضاً: الخفيف
أَيُّها السّائلي، فإنّي غَريبٌ، ... نازحٌ عن مَحَلّتي، وصَميمي
وقال أيضاً: الطويل
أَلا أَبْلِغا أَفْنَاءَ سَعدِ بنِ مالكٍ ... رسالةَ مَن قد صارَ في الغَورِ جانبُهْ
وقال أيضاً: الكامل
أَطَردْتَني حَذْرَ الهجاءِ ولا ... واللاّتِ والأنْصَابِ لا تَئِل
وقال أيضاً يهجو عمرو بن هند: البسيط
قُولا لعمرو بنِ هِنْدٍ، غَيرَ مُتّئِبٍ: ... يا أَخْنَسَ الأنفِ والأضراسُ كالعَدَسِ
مَلْكُ النّهارِ، وأنتَ، اللّيلَ، مُومِسَةٌ ... ماءُ الرَّجالِ على فَخذيكَ كالغَرَسِ
لو كُنْتَ كَلبَ قُنَيْصٍ كُنْتَ ذا جُدَدٍ ... تكونُ إربَتُهُ في آخرِ المَرَسِ
يَعوي حَريصاً بقَولِ القانصاتِ لهُ: ... قُبِّحْتَ ذا وَجهِ أنفٍ ثمّ مُنْتَكِسِ
وقال يهجوه: الطويل

كأَنَّ ثَناياهُ إذا افتَرَّ ضاحكاً، ... رؤوسُ جُرادٍ في أُرَيْنٍ تُخَشخِشُ

باب ذكر طقبات من سمينا منهم
قال أبو عبيدة: أشعر الناس أهل الوبر خاصة، وهم امرؤ القيس، وزهير والنابغة، فإن قال قائل: إن امرأ القيس ليس من أهل نجد، فلعمري! إن هذه الديار التي ذكرها في شعره ديار بني أسد بن خزيمة.
وفي الطبقة الثانية الأعشى، ولبيد، وطرفة.
وقيل: إن الفرزدق قال: امرؤ القيس أشعر الناس؛ وقال جرير: النابغة أشعر الناس؛ وقال الأخطل: الأعشى أشعر الناس؛ وقال ابن أحمر: زهير أشعر الناس؛ وقال ذو الرمة: لبيد أشعر الناس؛ وقال ابن مقبل: طرفة أشعر الناس؛ وقال الكميت: عمرو بن كلثوم أشعر الناس؛ والقول عندنا ما قال أبو عبيدة: امرؤ القيس ثم زهير والنابغة والأعشى ولبيد وعمرو وطرفة.
وقال المفضل: هؤلاء أصحاب السبع الطوال التي تسميها العرب السموط، فمن قال: إن السبع لغيرهم، فقد خالف ما أجمع عليه أهل العلم والمعرفة، وقد أدركنا أكثر أهل العلم يقولون: إن بعدهن سبعاً ما هن بدونهن، ولقد تلا أصحابهن أصحاب الأوائل، فما قصروا، وهن المجمهرات، لعبيد بن الأبرص، وعنترة بن عمرو، وعدي بن زيد، وبشر بن أبي خازم، وأمية بن أبي الصلت، وخداش بن زهير، والنمر بن تولب.
وأما منتقيات العرب: فهن للمسيب بن علس، والمرقش، والمتلمس، وعروة بن الورد، والمهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، والمتنخل بن عويمر.
وأما المذهبات: فللأوس والخزرج خاصة، وهن لحسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، ومالك بن العجلان، وقيس بن الخطيم، وأحيحة بن الجلاح، وأبي قيس بن الأسلت، وعمرو بن امرىء القيس.
وعيون المراثي سبع: لأبي ذؤيب الهذلي، وعلقمة بن ذي جدن الحميري، ومحمد بن كعب الغنوي، والأعشى الباهلي، وأبي زبيد الطائي، ومالك بن الريب النهشلي، ومتمم بن نويرة اليربوعي.
وأما مشوبات العرب، وهن اللاتي شابهن الكفر والإسلام، فلنابغة بني جعدة، وكعب بن زهير، والقطامي، والحطيئة، والشماخ، وعمرو بن أحمر، وابن مقبل.
وأما الملحمات السبع فهن: للفرزدق، وجرير، والأخطل، وعبيد الراعي، وذي الرمة والكميت بن زيد، والطرماح بن حكيم.
قال المفضل: فهذه التسع والأربعون قصيدةً عيون أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، وأنفس شعر كل رجل منهم.
وذكر أبو عبيدة في الطبقة الثالثة من الشعراء: المرقش، وكعب بن زهير، والحطيئة، وخداش بن زهير، ودريد بن الصمة، وعنترة، وعروة بن الورد، والنمر بن تولب، والشماخ بن ضرار، وعمرو بن أحمر.
قال المفضل: هؤلاء فحول شعراء أهل نجد الذين ذموا ومدحوا، وذهبوا في الشعر كل مذهبٍ، فأما أهل الحجاز، فإنهم الغالب عليهم الغزل.
وذكر أبو عبيدة: أن الناس أجمعوا على أن أشعر أهل الإسلام: الفرزدق، وجرير، والأخطل، وذلك لأنهم أعطوا حظاً في الشعر لم يعطه أحدٌ في الإسلام، مدحوا قوماً فرفعوههم، وذموا قوماً فوضعوهم، وهجاهم قومٌ فردوا عليهم، فأفحموهم، وهجاهم آخرون، فرغبوا بأنفسهم عن جوابهم وعن الرد عليهم، فأسقطوهم، وهؤلاء شعراء أهل الإسلام، وهم أشعر الناس بعد حسان بن ثابت لأنه لا يشاكل شاعر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدٌ.
وذكر عن أبي عبيدة قال: قيل لجرير: كيف شعر الفرزدق؟ قال: كذب من قال إنه أشعر من الفرزدق! قيل: فكيف شعرك؟ قال: أنا مدينة الشعر! قيل: كيف قول الراعي؟ قال: شاعر ما خليته وإبله وديمومته! يريد راعي الإبل؛ قيل: كيف شعر الأخطل؟ قال: أرمانا للأعراض! قيل: كيف شعر ذي الرمة؟ قال: نقط عروسٍ وبعر ظباء! وأما جرير فأعزنا بيتاً، وأما الفرزدق فأفخرنا بيتاً.
وقال أبو عبيدة: فتح الشعر بامرىء القيس، وختم بذي الرمة، رواه أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء. وعنه: عن مسلم عن أبي بكر المديني قال: جاء رجل من بني نهشل إلى الفرزدق، وهو بالبصرة، فقال: يا أبا فراس! هل أحد اليوم يرمي معك؟ قال: والله ما أعلم نابحاً إلا وقد انحجر، ولا ناهساً إلا وقد أسكت، إلا أبياتاً جاءت من غلام بالمروة. قال: وما هي؟ قال قوله: الطويل
فإنْ لم تكنْ في الشّرقِ والغربِ حاجتي ... تَشاءمتُ أو حَوّلتُ وَجهي يَمانيَا
فُردِي جِمالَ الحيّ، ثمّ تَحَمَّلي ... فما لكِ فيهم من مُقامٍ، ولا لِيَا

فإنّي لَمغرورٌ أُعَلَّلُ بالمُنى، ... لياليَ أدعو أنّ مالَكَ مالِيَا
بأيّ سِنانٍ تَطعنُ القَومَ، بعدما ... نزَعْتَ سِناناً من قَناتِكَ ماضِيَا
بأيّ نِجادٍ تَحمِلُ السّيفَ، بعدما ... قَطَعْتَ القُوى من مَحملٍ كان باقيَا
لِساني وسَيفي صارِمانِ كلاهما ... ولَلْسَّيفُ أشوى وَقعةً من لسانِيَا
فقيل: من هو؟ قال: أخو بني يربوع.
وقال أبو عبيدة: قيل للأخطل: أنت أشعر أم الفرزدق؟ قال: أنا، غير أن الفرزدق قال أبياتاً ما استطعت أن أكافئه عليها: الكامل
يا ابنَ المَراغة! والهِجانُ إذا التَقَتْ ... أَعنَاقُها وتَمَاحَ:َ الخصمانِ
كانَ الهَزيلُ يَقُودُ كُلَّ طِمِرَّةٍ ... دَهْمَاءَ مُقْرَبَةٍ وكُلَّ حِصانِ
يا ابنَ المَراغَةِ! إنَّ تَغلِبَ وائلٍ ... رَفَعُوا عِناني فوقَ كلِّ عِنانِ
ما ضَرّ تَغْلِبَ وائلٍ أَهَجَوْتَهَا، ... أم بُلْتَ حَيثُ تَناطَحَ البَحرانِ
إنّ الأراقِمَ لَن يَنالَ قَدْيِمَهَا ... كَلْبٌ عَوَى مُتَهَتِّمُ الأسنانِ
وقيل للفرزدق: أنت أشعر أم الأخطل؟ قال: أنا! غير أن الأخطل قال أبياتاً ما استطعت أن أكافئه عليها، وهي قوله: الكامل
وَلَقدْ شَدَدْتَ على المَراغةِ سرجَها ... حَتّى نَزَعْتَ، وأنتَ غيرُ مَجيدِ
وَعَصَرْتَ نُطفَتَها لِتُدرِكَ دارِماً، ... هَيهاتَ من أملٍ علَيكَ بَعيدِ
وإذا تَعاظَمَتِ الأُمُورُ لدارِمٍ ... طَأْطَأْتَ رَأْسَكَ عنْ قَبائلَ صِيْدِ
وإذا عَدَدْتَ بيوتَ قومِكَ لم تجدْ ... بَيتاً كَبَيْتِ عُطارِدٍ ولَبيدِ
بَيتٌ تَزِلُّ العُصُمُ عن قُذُفاتِهِ ... في شاهِقٍ ذي مَنْعَةٍ، مَحمُودِ
وذكر محمد بن عثمان عن علي بن طاهر الهذلي قال: كنت عند عمرو بن عبيد أكتب الحديث، وكان فيمن حضر المجلس عيسى بن عمر الثقفي، وقد ذكر الشعر والشعراء أيهم أشعر؟ فقلت أنا: أشعر الناس الأعشى، قال عيسى: وكيف ذلك؟ فجعلت أنشد محاسن شعره الذي يفضل به، وهو منصتٌ، فلما فرغت قال: يا ناعس! أشعر الناس الأخطل حيث يقول: الطويل
وَنَجّى ابنَ بَدْرٍ ركضَةٌ من رِماحنا، ... وَلَيِّنَةُ الأَعْطافِ مُلْهَبَةُ الحُضْرِ
كأنّ بقايا عُذْرِها وخُزامِها، ... أَداوَى تَسِحُّ المَاءَ من خَرزٍ وَفْرِ
الوفر: الجديدة: قال: البسيط
وَفْرَاءُ غَرفيَّةٌ أَثْأَى خَوارِزَها ... مُشَلشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بينَها الكُتبُ
الكتب: الخرز. والمشلشل: كثير القطران.
يُشيرُ إلَيها والرّماحُ تَنُوشُهُ: ... فِدىً لكِ أُمّي إنْ دَأبْتِ إلى العصرِ
ثم قال: لله دره كيف ينتحل شعره.

طعام عبد الملك والأعرابي

وذكر عوانة بن الحكم: أن عبد الملك بن مروان صنع طعاماً، فأكثر، وأطاب ودعا الناس، فأكلوا، فقال بعضهم: ما أطيب هذا الطعام وما أكثره، وما أظن أحداً أكل أطيب منه. فقال أعرابي من ناحية القوم: أما أكثر، فلا! وأما أطيب فقد أكلت أطيب منه. فطفقوا يضحكون، فأشار إليه عبد الملك، فدنا منه، فقال: ما أنت لما تقول بحقيقٍ. قال: بلى، يا أمير المؤمنين؛ بينا أنا بهجر في ترابٍ أحمر في أقصاها حجراً إذ توفي أبي وترك كلا وعيالاً ونساء ونخلاً، وفي النخل نخلةٌ لم ير الناظرون مثلها، كأخفاف الرباع ولم ير تمرٌ قط أغلظ لحماً ولا أصغر نوىً، ولا أحلى حلاوةً منها. وكانت أتانٌ وحشيةٌ قد ألفت تلك النخلة، فتثبت برجليها، وترفع يديها وتعطو بفيها، وكادت تنفذ ما فيها، فانطلقت بقوسي وكنانتي وأسهمي وزندي، وأنا أظنني أرجع من ساعتي، فمكثت يوماً وليلة، حتى إذا كان السحر، أقبلت فرميتها فأصبتها، ثم عمدت إلى سرتها، فأبرزتها، ثم عمدت إلى حطبٍ جزلٍ فجمعته، وإلى رضفٍ فوضعته، وإلى زندي فأوريته، ثم ألقيت سرتها في ذلك الحطب ثم أدركني النوم فنمت، فلم يوقظني إلا حر الشمس، فانطلقت فكشفتها وألقيت عليها من رطب تلك النخلة من مجزعه ومنقطه فسمعت لها أطيطاً كتداعي قطاً وغطيطا، ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة والتمرة، فقال عبد الملك: لقد أكلت طيباً، فمن أنت؟ قال: أنا رجل جانبتني صأصأة اليمن، وعنعنة تميم وأسد، وكشكشة ربيعة، وتأنيث كنانة.
العنعنة: إبدال العين من الهمزة في مثل قول ذي الرمة: البسيط
أَعِنْ تَوَسّمت من خَرقاءَ منزلَةً، ... ماءُ الصّبابةِ مِنْ عَينَيك مَسْجُومُ
والكشكشة: إبدال الشين المعجمة من الكاف نحو: عليش وبش في موضع عليك وبك.
قال عبد الملك: فمن أنت؟ قال: أنا رجلٌ من أخوالك بني عذرة، قال عبد الملك: أولئك من أفصح العرب، فهل لك من معرفةٍ بالشعر؟ قال: سل عما بدا لك يا أمير المؤمنين، قال: أي بيتٍ قالت العرب أمدح؟ قال: قول الشاعر: الوافر
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايا، ... وَأَنْدَى العالَمِيْنَ بطونَ راحِ؟
قال: وكان جرير في القوم، فتحرك ورفع رأسه. قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أفخر؟ قال قوله: الوافر
إذا غضِبْتْ عليْكَ بَنو تَميمٍ ... وَجَدْتَ النّاسَ كلَّهُمُ غِضَابَا
فتحرك جرير وتطاول. ثم قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أهجى؟ قال قوله: الوافر
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُميرٍ ... فلا كَعباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا
فتحرك جرير. قال عبد الملك: فأي بيتٍ قالت العرب أحسن تشبيهاً؟ قال قوله: الطويل
سَرَى لَهُمُ لَيلٌ كأَنَّ نجُومَهُ ... قَناديلُ فيهنّ الذُّبالُ المُفتَّلُ
قال: فقال جرير: أصلح الله شأن أمير المؤمنين، جائزتي لأخي عذرة؛ قال عبد الملك: ومثلها معها. قال: وكانت جائزة جرير عند الخلفاء أربعة آلافٍ وما يتبعها من كسوةٍ. فخرج الأعرابي وفي يده اليمنى ثمانية آلافٍ وفي يده اليسرى رزمة ثياب.

فصل آخر:
ذكر أن الفرزدق لما ضرب بين يدي سليمان بن عبد الملك بن مروان الضربة في الأسير فرعشت يده وكان راوية جرير بالباب، فقال: أنت هو؟ فقال: نعم! وقد رأيتك إذ ضربت؛ قال: أتدري ما يقول صاحبك إذا بلغه ما كان؟ كأني به قد قال: الطويل
بسيفِ أبي رَغْوانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضَرَبْتَ ولم تَضرِبْ بسيفِ ابن ظالمِ
أبو رغوان: جد الفرزدق، وهو مجاشع أيضاً. وابن ظالم: رجل من نزار كان شجاعاً.
ضَرَبْتَ بِهِ عنْدَ الإمامِ فَأُرْعَشَتْ ... يداكَ وقَالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ
قال: فمضى راوية جرير إلى اليمامة فسألهم عن جرير، فأخبره خبر الفرزدق وأنشده البيتين. فقال له جرير: أفتدري ما يجيبني به؟ قال: لا. قال: كأني به قد قال:
وَهَلْ ضَرْبَةُ الرّوميّ جاعِلَةٌ لكُمْ ... أباً غَيْرَ كَلْبٍ أو أباً مثل دارمِ
ولا نَقْتلُ الأسرَى ولكنْ نفكُّهُمْ ... إذا أَثْقَلَ الأعناقَ حَمْلُ المَغَارِمِ
كذاكَ سيوفُ الهندِ تَنبو ظُباتُها ... وتَقطَعُ أحياناً مَناطَ التّمائِمِ

قال: فرد الفرزدق على جرير جوابه، كما قال أيضاً. قال: وبلغ ذلك سليمان بن عبد الملك فقال: ما أحسب شيطانهما إلا واحداً.
هذا ما صحت به الرواية عن الشعراء وأخبارهم.

أخبار امرىء القيس
وعن ابن دأب في حديث الفرزدق وغيره قال: كان من حديث امرىء القيس أنه لما ترعرع علق النساء وأكثر في الذكر لهن، والميل إليهن، فكره ذلك أبوه حجر، فقال: كيف أصنع به؟ فقالوا: اجعله في رعاء إبلك حتى يكون في أتعب عملٍ. فأرسله في الإبل، فخرج بها يرعاها يومه، ثم آواها مع الليل وجعل ينيخها ويقول: يا حبذا طويلة الأقراب، غزيرة الحلاب، كريمة الصحاب. يا حبذا شداد الأوراك عراض الأحناك طوال الأسماك. ثم بات ليلته يدور إلى متحدثه، حيث كان يتحدث. فقال أبوه: ما شغلته بشيء. قيل له: فارسله في الخيل. فأرسله في خيله فمكث فيها يومه حتى آواها مع الليل. فدنا أبوه حجر يسمع فإذا هو يقول: يا حبذا إناثها نساء، وذكورها ظباء، عدةً وسناء. نعم الصحاب راجلاً وراكباً، تدرك طالباً، وتفوت هارباً. قال أبوه: والله ما صنعت شيئاً. فبات ليلته يدور حواليها. قيل له: اجعله في الضأن. فمكث يومه فيها حتى إذا أمسى أراحها فجاءت أمامه وجاء خلفها، فلما بلغت المراح ودنا أبوه يسمع، فإذا هو يقول: أخزاها الله، وقد أخزاها، من باعها خير ممن اشتراها، لا ترفع إذا ارتفعت ولا تروى إذا شربت، أخزاها الله لا تهتدي طريقاً، ولا تعرف صديقاً، أخزاها الله لا تطيع راعياً، ولا تسمع داعياً. ثم سقط ليلته لا يتحرك، فلما أصبح قال أبوه: أخرج بها. فمضى حتى بعد عن الحي وأشرف على الوادي فحثا في وجهها التراب، فارتدت، وجعل يقول: حجرٌ في حجر حجر، لا مدر هبهاب، لحم وإهاب، للطير والذئاب. فلما رأى أبوه ذلك منه وكان يرغب به عن النساء والشعر وأبى أن يدع ذلك، فأخرجه عنه، فخرج مراغماً لأبيه، فكان يسير في العرب يطلب الصيد والغزل، حتى قتل أبوه حجر، قتله عوف بن ربيعة بن عامر بن سوار بن مالك بن ثعلبة ابن دودان بن أسد بن خزيمة، فرجع امرؤ القيس إلى قومه، وله حديث يطول.
فصل آخر:
قال الفرزدق: إن امرأ القيس صحب عمه شرحبيل قتيل الكلاب، وكان شرحبيل مسترضعاً في بني دارم، فلحق بعمه فلذلك حفظ الفرزدق أخباره، والله أعلم.
فصل آخر:
قال الفرزدق: أصابنا بالبصرة مطرٌ جودٌ ليلاً، فلما أصبحت ركبت بغلةً لي حتى انتهيت إلى المربد، وإذا آثار دوابٍ قد خرجن، فظننت أنهم قد خرجوا يتنزهون، وخليق أن يكون معهم طعامٌ وشرابٌ، فاتبعت آثارهم حتى أتيت إلى بغالٍ عليها رحالٌ جنب الغدير فأسرعت السير فإذا في الغدير نسوةٌ مستنقعات، فقلت: لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل. قال: ثم انصرفت فنادينني: يا صاحب البغلة إرجع نسألك. فأقبلت إليهن، فقعدن في الماء إلى حلوقهن وقلن: بالله إلا ما حدثتنا بيوم دارة جلجل. فقلت:

حدثني جدي وهو شيخٌ وأنا غلامٌ يومئذٍ حافظٌ لما أسمع أن امرأ القيس كان مولعاً بابنة عمٍ له، يقال لها فاطمة، وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها، حتى كان يوم الغدير، وذلك أن الحي احتملوا وقدموا الرجال وخلفوا النساء والخدم والعسفاء والثقل. فلما رأى لك امرؤ القيس تخلف عن قومه في غيابة من الأرض حتى مرت به النساء. وإذا فتياتٌ وفيهن إبنة عمه، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فاغتسلنا وذهب عنا بعض ما نجد من الكلال. فقالت إحداهن: نعم! فنزلن فنحين ثيابهن، ثم تجردن فدخلن الغدير. قال: فأتاهن امرؤ القيس مخاتلاً فأخذ ثيابهن، ثم جمعها وقعد عليها وقال: والله لا أعطي واحدةً منكن ثوبها حتى تخرج كما هي فتكون هي التي تأخذه؛ فأبين لك عليه، حتى ارتفع النهار وتذامرن بينهن وخشين أن يقصرن دون المنزل الذي يردن، فخرجت إحداهن فوضع لها ثيابها ناحية، فمشت إليها حتى لبستها، ثم تتابعن على ذلك، حتى بقيت إبنة عمه، فناشدته الله أن يطرح إليها ثيابها، فقال: لا والله أو تخرجي، فخرجت فنظر إليها مقبلةً ومدبرةً، فوضع لها ثيابها ناحية، فلبستها، ثم أقبلن عليه فقلن: فضحتنا وحبستنا وأجعتنا. قال: فإن نحرت لكن ناقتي أتأكلن منها؟ قلن: نعم! فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وجمع الخدم حطباً وأججوا ناراً عظيمة، فجعل يقطع من سنامها وكبدها وأطايبها ويرمي به في الجمر، وهن يأكلن ويأكل معهن ويشب من فضلة خمر كانت معهن ويغنيهن وينبذ إلى الخدم من ذلك الكباب حتى شبعوا. فلما رأى ذلك، وأراد الرحيل، قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله. فتقسمن متاع راحلته. وبقيت إبنة عمه لم تحمل شيئاً، فحملته على غارب بعيرها، وكان يجنح إليها فيدخل رأسه في حجرها ويقبلها، فإذا امتنعت عليه أمال هودجها، فتقول: يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل. قال: فما زال كذلك حتى جنه الليل ثم راح إلى أهله فقال: وهذه القصيدة أول ما افتككنا من أشعارهم التسع والأربعين.

المعلقات
معلقة امرىء القيس.
معلقة زهير بن أبي سلمى معلقة نابغة بني ذبيان.
معلقة أعشى بكر بن وائل معلقة لبيد بن ربيعة معلقة عمرو بن كلثوم معلقة طرفة بن العبد معلقة عنترة
معلقة امرىء القيس الطويل
قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكرَى حبيبٍ ومنزِلِ ... بِسِقطِ اللِّوى، بينَ الدَّخُولِ، فحَوْمَلِ
فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعفُ رَسْمُها ... لَما نَسجَتْها مِن جَنُوبٍ وشَمألِ
رخاءً تَسُحُّ الرّيحُ في جَنَباتِها ... كَساها الصَّبا سَحْقَ المُلاءِ المُذَيّلِ
تَرَى بَعَرَ الآرامِ في عَرصَاتِها ... وَقيعانِها، كأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
كأنّي غَداةَ البَينِ، يَومَ تَحَمَّلُوا ... لدَى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
وُقُوفاً بها صَحْبي عَليَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقولونَ: لا تَهلِكْ أَسىً، وتجَمَّلِ
فَدَعْ عَنكَ شَيئاً قَد مَضَى لسَبيلِهِ ... ولكِنْ على ما غالكَ اليَوْمَ أقبِلِ
وقَفْتُ بها حتّى إذا ما تَرَدَّدَتْ ... عمايَةُ مَحزونٍ بشوقٍ مُوَكَّلٍ
وإنّ شِفائي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَةٌ ... فهل عَنْدَ رَسْمٍ دارِسٍ من مُعَوَّلِ
كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبلَها، ... وَجارَتِها أُمِّ الرَّبابِ بِمَأْسَلِ
إذا قامَتَا تَضَوَّعَ المِسْكُ مِنْهُما، ... نَسيمَ الصَّبا جاءَتْ بِرَيَّا القَرَنْفُلِ
فَفَاضَتْ دُموعُ العَينِ منِّي صَبابةً ... على النَّحْرِ حتَّى بَلَّ دَمعيَ مِحمَلي
أَلا رُبَّ يَومٍ لي مِنَ البِيضِ صالحٍ، ... ولا سِيّما يومٍ بِدَارِةِ جُلْجُلِ
وَيومَ عَقَرْتُ للعَذَارَى مَطِيَّتي، ... فَيا عَجَباً مِنْ رَحْلِها المتَحَمَّلِ
ويا عَجَباً مِنْ حَلّها بَعدَ رَحْلِها! ... ويَا عَجَباً للجازِرِ المُتَبَذّلِ
فظَلّ العَذَارَى يَرتَمِيْنَ بلَحْمِهَا ... وشَحْمٍ كهُدَّابِ الدِّمَقْسِ المُفَتَّلِ

تُدارُ علينَا بالسّدِيفِ صِحافُها ... ويُؤتَى إلينا بالعَبيطِ المُثَمَّلِ
ويَومَ دَخَلتُ الخِدْرَ، خِدْرَ عُنَيزَةٍ ... فقالتْ: لَكَ الوَيلاتُ إنَّكَ مُرْجِلي
تَقولُ، وَقَدْ مالَ الغَبِيْطُ بنا مَعاً: ... عَقَرْتَ بَعيرِي، يا امَرأ القيسِ، فانْزِلِ
فقُلتُ لها: سِيري وأَرْخي زِمامَهُ، ... ولا تُبعِديني مِنْ جَنَأكِ المُعَلَّلِ
دَعي البَكرَ لا تَرثي لهُ من رِدافِنا، ... وهاتي أذِيقينَا جَنَاةَ القَرَنْفُلِ
بِثَغرٍ كَمِثلِ الأُقحُوانِ مُنَوِّرٍ ... نَقيِّ الثّنايا أشنَبٍ غَير أثْعَلِ
فمِثلِكِ حُبْلى قدْ طَرَقتُ ومُرْضِعٍ، ... فألهَيْتُها عنْ ذي تمائِمَ مُغْيَلِ
إذا ما بكَى من خَلفِها انصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَتَحتي شِقُّها لم يُحَوَّلِ
ويَوْماً على ظَهْرِ الكَثيبِ تَعَذَّرَتْ ... عَليّ، وآلَتْ حَلْفَةً لم تُحَلَّلِ
أفاطِمَ، مَهْلاً، بَعْضَ هذا التَّدَلُّلِ، ... وإن كُنْتِ قد أَزْمَعتِ صَرْميَ فاجْملي
أَغَرَّكِ منّي أنّ حُبَّكِ قاتلي، ... وأنَّكِ مَهما تأْمُري القَلبَ يَفعَلِ
وأنّكِ قَسّمتِ الفُؤادَ، فنِصفُهُ ... قَتيلٌ، ونِصفٌ بالحَديدِ مُكَبَّلِ
فإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكَ منّي خَليقَةٌ، ... فَسُلِّي ثِيابي منْ ثيابِكِ تَنْسُلِ
وما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلاّ لتَضْرِبي ... بِسَهْمَيكِ في أَعْشَارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ
وبَيضَةِ خِدْرٍ لا يُرامُ خِباؤُها، ... تَمَتَّعْتُ مِن لَهوٍ بها، غَيرَ مُعجَلِ
تَجاوَزْتُ أَحْرَاساً إلَيها ومَعشَراً ... عليَّ حِرَاصاً لو يُسِرُّونَ مَقتَلي
إذا ما الثُّرَيّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْ ... تَعَرُّضَ أَثناءِ الوِشاحِ المُفصَّلِ
فَجِئْتُ، وقد نَضَّتْ لنَوْمٍ ثِيابَهَا ... لَدَ السِّترِ إلاّ لِبْسَةَ المُتَفَضِّلِ
فَقالَتْ: يَمينََ اللَّهِ ما لَكَ حِيْلَةٌ ... وما إنْ أَرَى عَنكَ الغَوَايةَ تَنْجَلي
خَرَجْتُ بها أَمشي تَجُرُّ وَرَاءَنا ... على أثَرَينا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ
فلَمَّا أَجَزْنا ساحَةَ الحَيِّ وانتَحَتْ ... بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي حِقافٍ عقَنقَلِ
هَصَرْتُ بفَودَيْ رأْسِها فَتَمايَلَتْ ... عليَّ هَضِيْمَ الكَشْحِ رَيَّا المُخَلخَلِ
مُهَفهَفَةٌ بَيضاءُ، غَيرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
كَبِكْرِ المُقاناةِ البَياضِ بِصُفْرَةٍ، ... غَذاها نَميرُ المَاءِ غَيرُ المُحَلَّلِ
تَصُدّ وتُبدي عَنْ أَسِيْلٍ وَتَتّقي ... بناظِرَةٍ منْ وَحشِ وَجرَةَ مُطْفِلِ
وَجِيْدٍ كَجِيْدِ الرِّيمِ ليسَ بِفاحِشٍ، ... إذا هيَ نَصَّتْهُ، ولا بمُعَطَّلِ
وفَرْعٍ يَزينُ المَتنَ أَسْوَدَ فاحِمٍ ... أَثيثٍ كَقِنْوِ النّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدائِرُهُ مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلاَ ... تُضِلُّ المدارَى في مُثَنّىً ومُرْسَلِ
وكَشْحٍ لَطيفٍ كالجَديْلِ مُخَصَّرٍ، ... وَسَاقٍ كأُنْبوبِ السَّقيِّ المُذَلَّلِ
وتُضحي، فُتِيْتُ المِسكِ فوقَ فِراشِها ... نَؤُومُ الضُّحَى لم تَنتَطِقْ عن تَفَضُّلِ
وتَعطُو برَخْصٍ غيرِ شَنَئْنٍ كأنَّهُ ... أَساريعُ ظَبيٍ أو مَسَاويكُ إسْحِلِ
تُضيءُ الظّلامَ بالعِشاءِ كأَنَّها ... مَنارَةُ مُمْسَى رَاهبٍ مُتَبَتِّلِ
إلى مِثلِها يَرنُو الحَليمُ صَبابَةً ... إذا ما اسبَكَرَّتْ بينَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ

تَسَلَّتْ عَماياتُ الرِّجالِ عنِ الصِّبَا ... ولَيسَ فؤاديْ عنْ هَواها بمُنسَلِ
ألا رُبَّ خَصْمٍ فيكِ أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصيحٍ على تَعذالِهِ غَيرِ مُؤتَلِ
ولَيلٍ كَمَوجِ البَحْرِ أَرْخَى سُدولَهُ ... عَليّ بأَنْواعِ الهُمُومِ ليَبتَلي
فَقُلْتُ لَهُ لمّا تَمَطَّى بِجَوْزِهِ ... وَأَرْدَفَ أَعْجازاً ونَاءَ بكَلْكَلِ
أَلا أَيُّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلِ ... بِصُبْحٍ، وما الإصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَيا لَكَ مِنْ لَيْلٍ كَأَنَّ نُجُومَهُ ... بِكُلِّ مُغَارِ الفَتْلِ شُدّتْ بِيَذْبُلِ
كأنّ الثُّرَيّا عُلّقَتْ في مَصابِها ... بأمراسِ كَتّانٍ إلى صُمّ جَنْدَلِ
وقِرْبَةِ أَقْوامٍ جَعَلْتُ عِصامَها ... على كاهِلٍ مِنِّي ذَلُولٍ مرَحَّلِ
وَوَادٍ كَجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطعْتُهُ ... بِهِ الذّئبُ يَعوي كالخَليعِ المُعَيَّلِ
فَقُلْتُ لَهُ لمّا عَوَى: إنَّ شَأْنَنا ... قَليلُ الغنى إنْ كنتَ لَمّا تَمَوَّلِ
كِلانا إذا ما نالَ شَيْئاً أَفَاتَهُ، ... وَمَنْ يَحْتَرِثْ حَرْثي وَحَرْثَك يَهْزِلِ
وقد أغتَدي والطّيرُ في وُكُناتِها ... بمُنجَردِ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعاًكَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ
كُمَيتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عن حاذِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ
على العَقْبِ جَيَّاشٍ كأَنَّ اهْتِزامَهُ ... إذا جاشَ فيهِ حَمْيُهُ غَلْيُ مِرْجَلِ
مِسَحٍّ إذا ما السَّابِحَاتُ على الوَنَى ... أَثَرْنَ غُبَاراً بالكَدِيدِ المُرَكَّلِ
يُزِلُّ الغُلامَ الخِفَّ عَنْ صَهَواتِهِ، ... ويُلْوي بأَثوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ
دَريرٍ كَخُذْرُوفِ الوَليدِ أَمَرَّهُ ... تَتابُعُ كَفَّيْهِ بِخَيْطٍ مُوَصَّلِ
لَهُ أَيْطَلا ظَبْيٍ وَساقَا نَعَامَةٍ، ... وإرْخَاءُ سِرْحانٍ وتَقْرِيبُ تَتْفُلِ
ضَليعٍ إذا استدبَرْتَهُ سَدَّ فَرجَهُ ... بِضَافٍ فُوَيقَ الأرضِ لَيسَ بِأَعْزَلِ
كأنّ سَراتَهُ لدَى البَيتِ قَائماً ... مَداكُ عَرُوسٍ أَوْ صَلايَةُ حَنْظَلِ
كأنّ دِماءَ الهادِيَاتِ بِنَحْرِهِ ... عُصارَةُ حِنَّاءٍ بِشَيْبٍ مُرَجَّلِ
فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ ... عَذَارَى دَوَارٍ في مُلاءٍ مُذَيَّلِ
فَأَدْبَرْنَ كَالجِزْعِ المُفَصَّلِ بَيْنَهُ ... بِجِيْدٍ مُعَمٍ في العَشِيرَةِ مُخَوَلِ
فأَلْحَقَنَا بالهَادياتِ وَدُونَهُ ... جواحِرُها في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ
فَعَادَى عِداءً بَيْنَ ثَوْرٍ ونَعْجَةٍ ... دِرَاكاً ولَمْ يَنْضَحْ بِمَاءٍ فَيُغْسَلِ
فظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ ما بَيْنَ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شِواءٍ أَوْ قَديرٍ مُعَجَّلِ
وَرُحْنا يَكاد الطَّرْفُ يَقْصُرُ دُونَهُ ... متى ما تَرَقَّ العَيْنُ فِيهِ تَسَفَّلِ
فَبَاتَ عَلَيْهِ سَرْجُهُ وَلِجَامُهُ ... وَبَاتَ بِعَيْنيَ قَائِماً غَيْرَ مُرْسَلِ
أَصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيكَ وَمِيْضَهُ ... كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبيٍ مُكَلَّلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ، أَوْ مَصَابيحُ رَاهبٍ ... أَهَانَ السَّليِطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّلِ
قَعَدْتُ وأَصْحَابِي لَهُ بَيْنَ ضَارِجٍ ... وبَيْنَ العُذَيْبِ، بُعْدَ ما مُتَأَمَّلي

على قَطَنٍ بِالشَّيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ ... وأَيْسَرُهُ على السِّتَارِ فَيَذْبُلِ
فَأَضْحَى يَسُحُّ حَوْلَ كُتَيْفَةٍ ... يَكُبُّ على الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبُلِ
وَمَرَّ على القَنَانِ مِنْ نَفَيَانِهِ ... فَأَنْزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِن كلّ مَوئِلِ
وَتَيْمَاءَ لَمْ يَتْرُكْ بِهَا جِذْعَ نَخْلَةٍوَلاَ أُطُماً إلاّ مَشِيْداً بِجَنْدَلِ
كأَنَّ ثَبِيراً في عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أُنَاسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيمِرِ غُدْوَةً ... مِنَ السَّيلِ والغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبِيْطِ بَعَاعَهُ ... نُزُولَ اليَمَانيْ ذي العِيَابِ المُحَمَّلِ
كَأنَّ مَكَاكِيَّ الجِواءِ غُدَيَّةً ... صُبِحْنَ سُلافاً مِن رَحيقٍ مُفَلْفَلِ
كَأَنَّ السِّباعَ فيهِ غَرْقَى عَشِيَّةً ... بِأَرْجَائِهِ القُصْوَى أَنَابِيْشُ عُنْصُلِ

معلقة زهير الطويل
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكلّمِ ... بِحَوْمَانَةِ الدّرَاجِ فالمُتَثَلَّمِ
دِيَارٌ لها بالرَّقْمَتَينِ كَأَنَّها ... مَرَاجِيْعُ وَشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ
بِهَا العِينُ والآرامُ يَمْشِينَ خِلفَةً ... وَأَطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ
وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشرينَ حِجَّةًفَلأْيَاً عَرَفْتُ الدّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ
أَثافيَّ سُفْعاً في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ ... وَنْؤياً كَجِذْمِ الحَوضِ لم يَتَثَلَّمِ
فَلَمّا عَرَفْتُ الدّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَا:أَلاَ انْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ واسْلَمِ
تَبَصَّرْ خَليلي هَلْ تَرَى مِنْ ظَعَائِنٍتَحَمَّلْنَ بالعَلياءِ مِنْ فَوْقِ جُرْثُمِ
جَعَلْنَ القَنَانَ عَنْ يَمينٍ وحَزْنَهُ ... وَكَمْ بالقَنانِ مِنْ مُحِلٍ وَمُحْرِمِ
عَلَوْنَ بِأَنْماطٍ عِتاقٍ وَكِلَّةٍ ... وِرَادٍ حَواشِيهَا مُشاكِهَةِ الدّمِ
ظَهَرْنَ مِنَ السُّوبانِ ثمّ جَزَعْنَهُ ... عَلى كلِّ قَينيٍ قَشيبٍ ومُفْأَمِ
وَوَرّكْنَ في السّوبانِ يَعلُونَ مَتْنَهُ ... عَلَيهِنَّ دَلُّ النَّاعِمِ المُتَنَعّمِ
بَكَرْنَ بُكُوراً واستَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ وَوادي الرسِّ كاليَدِ للفَمِ
وَفيهِنَّ مَلْهىً لِلَّطيفِ وَمَنظَرٌ ... أَنيْقٌ لِعَينْ النَّاظِرِ المُتَوَسِّمِ
كَأَنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كلِّ مَنْزِلٍ ... نَزَلْنَ بِهِ حَبُّ الفَنَا لم يُحَطَّمِ
فَلَمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ ... وَضَعْنَ عِصيَّ الحاضِرِ المُتَخَيِّمِ
تُذَكّرُني الأحلامَ لَيْلَى وَمَنْ تُطِفْ ... عَلَيْهِ خَيَالاَتُ الأحِبَّةِ يَحْلُمِ
سَعَى سَاعِيَا غَيْظِ بْنِ مُرّةَ بَعْدَمَا ... تَبَزَّلَ ما بَيْنَ العَشِيرةِ بِالدَّمِ
فَأَقْسَمْتُ بِالبيْتِ الذي طَافَ حَوْلَهُ ... رِجَالٌ بَنَوْهُ مِنْ قُرَيْشٍ وجُرْهُمِ
يَميناً لَنِعْمَ السَّيدَانِ وُجِدْتُمَا ... عَلَى كُلِّ حَالٍ مِنْ سَحيْلٍ وَمُبْرَمِ
تَدَارَكْتُما عَبْساً وذُبْيَانَ بَعْدَما ... تَفَانَوْا وَدَقّوا بَيْنَهم عِطرَ مَنْشَمِ
وَقَد قُلتُما إنْ نُدرِكِ السّلمَ واسِعاً ... بِمَالٍ وَمَعْرُوْفٍ مِنَ الأمرِ نَسْلَمِ
فَأَصْبَحْتُمَا مِنْها على خَيرِ مَوْطِنٍ ... بَعيدَيْنِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ
عَظِيْمَينْ في عُليا مَعَدٍ هُدِيْتُمَا،وَمَنْ يَسْتَبحْ كَنزاً مِنَ المَجْدِ يَعْظُمِ
وَأَصْبَحَ يُحْدَى فيهِمُ مِنْ تِلادِكُمْ ... مَغَانِمُ شَتَّى مِنْ إفالٍ مُزَنَّمِ

تُعَفّى الكُلُومُ بالمئينَ وَأَصْبَحَتْ ... يُنَجِّمُها مَنْ لَيْسَ فيِهَا بمُجْرِمِ
يُنَجِّمُها قَومٌ لِقَوْمٍ غَرَامَةً ... وَلَمْ يُهَرْيِقوا بَيْنَهُمْ مِلءَ مِحْجَمِ
أَلاَ أَبْلِغِ الأَحْلافَ عَنِّي رِسَالةًوَذُبْيَانَ: هَلْ أَقْسَمْتُمُ كُلَّ مُقْسَمِ
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللَّهَ ما في صُدُورِكُمْلِيَخْفَى وَمَهْمَا يُكْتَمِ اللَّهُ يَعْلَمِ
يُؤخَّرْ فَيُوضَعْ في كِتابٍ فَيُدَّخَرْ ... لِيَوْمِ الحِسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ
وَمَا الحَرْبُ إلاّ ما عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
متى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً، ... وَتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فَتَضْرَمِ
فَتَعْركُكُمْ عَرْكَ الرِّحَى بِثِفَالِهاوَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كَلُّهُمْكَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
فَتُغْلِلْ لَكُمْ ما لا تُغِلُّ لأهْلِهَا ... قُرىً بِالعِراقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ
لَحَيٍ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النّاسَ أَمْرُهُمْ، ... إذا طَرَقَتْ إحدى اللّيالي بِمُعْظَمٍ
كِرامٍ فَلا ذُو الضِّغْنِ يُدْرِكُ تَبْلَهُ،وَلاَ الجارِمُ الجَاني عَلَيْهِمْ بِمُسْلَمِ
رعَوا ما رَعَوا مِنْ ظِمئهِم ثُمَّ أَصْدَروا ... إلى كَلأٍ مُسْتَوبَلٍ مُتَوَخِّمِ
لَعَمْري لَنِعْمَ الحيُّ جَرَّ عَلَيْهِمُ ... بما لا يُؤاتِيهِمْ حُصَيْنُ بْنُ ضَمْضَمِ
وكانَ طَوَى كَشحاً على مُسْتَكِنَّةٍ ... فَلاَ أَبْدَاهَا وَلَمْ يَتَجَمْجَمِ
وَقَالَ: سَأَقضِي حَاجَتي ثُمَّ أَتَقَّي ... عَدُوِّي بِأَلْفٍ مِنْ وَرائيَ مُلْجَمِ
فَشَدَّ وَلَمْ يَنْظُرْ بُيُوتاً كَثِيرَةًلَدَى حَيْثُ أَلْقَتْ رَحْلَهَا أُمُّ قَشْعَمِ
لَدَى أَسَدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أَظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ
جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمْ يُعَاقِبْ بِظُلْمِهِ ... سَريعاً وإلاّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يَظْلِمِ
لَعَمْرُكَ مَا جَرَّتْ عَلَيْهِمْ رِمَاحُهُمْدَمَ ابنِ نَهَيْكٍ أَوْ قَتِيلِ المُثَلَّمِ
ولا شَارَكَتْ في الحَربِ في دَمِ نَوْفلٍ ... ولا وَهَبٍ فيها ولا ابنِ المُخَزَّمِ
فَكُلاً أَراهُمْ أَصْبَحُوا يَعْقِلوُنَهُ ... صَحَيحَاتِ مالٍ طَالِعاتٍ بِمَحْرِمِ
تُسَاقُ إلى قومٍ لِقَوْمٍ غَرَامَةً ... عُلالَةَ أَلْفٍ بَعْدَ أَلْفٍ مُصَتَّمِ
ومَنْ يَعصِ أَطْرَافَ الزِّجاجِ، فإنَّهُ ... يُطيعُ العَوَالي رُكِّبَتْ كُلَّ لَهْذَمِ
وَمَنْ يُوفِ لا يُذْمَمُ وَمَنْ يُفْضِ قَلْبُهإلى مُطْمَئِنِّ البِرِّ لا يَتَجَمْجَمِ
وَمَنْ هابَ أَسبابَ المَنايا يَنَلْنَهُ، ... وَلَو رَامَ أَسْبَابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ، فَيَبْخَلْ بِفَضلِهِعلى قَوْمِهِ يُسْتَغْنَ عَنْهُ وَيُذْمَمِ
وَمَنْ لا يَزَلْ يَسْتَرْحِلُ النّاسَ نَفْسَهُ،وَلاَ يُعْفِها يوماً من الذُّلّ يَنْدَمِ
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسَبْ عَدُوّاً صَدِيْقَهُوَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفْسَه لا يُكَرَّمِ
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاَحِهِيُهَدَّمْ وَمَنْ لاَ يَظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ
وَمَنْ لَم يُصانِعْ في أُمُورٍ كَثيرَةٍ ... يُضَرَّسْ بِأَنْيَابٍ وَيُوْطَأْ بِمَنْسِمِ
وَمَنْ يَجْعَلِ المَعروفَ في غَيرِ أَهْلِهِيَكُنْ حَمْدُهُ ذَمَّاً عَليْهِ وَيَنْدَمِ
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امرِىءٍ مِنْ خَليْقَةٍوإنْ خَالَها تَخْفَى على النَّاسِ تُعلَمِ
وكَائِنْ تَرَى مِنْ صامِتٍ لكَ مُعْجِبٍ ... زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ في التَّكَلُّمِ

لِسانُ الفَتى نِصْفٌ وَنِصفٌ فُؤادُهُ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاّ صُورَةُ اللّحمِ والدّمِ
وَإنَّ سَفاهَ الشَّيْخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ، ... وإنَّ الفَتى بَعْدَ السَّفاهَةِ يَحْلُمِ
سَئِمْتُ تَكَالِيْفَ الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لا أَبَا لكَ يَسْأَمِ
وأَعْلَمُ مَا في اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ ... وَلَكِنَّني عَنْ عِلمِ ما في غَدٍ عَمِ
رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشواءَ مَنْ تُصِبْتُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِىءْ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ
سأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمُوَمَنْ يُكْثِرِ التِّسْآلَ يَوماً سَيُحْرَمِ

معلقة النابغة الذبياني البسيط
عُوجُوا فحَيّوا لِنُعْمٍ دِمْنَةَ الدَّارِ، ... مَاذَا تُحَيَّونَ مِنْ نُؤْيٍ وأَحْجَارِ؟
أَقْوَى وَأَفْقَرَ مِنْ نُعْمٍ، وَغَيَّرَهُهُوْجُ الرِّياحِ بِهَابيْ التُّربِ مَوَّارِ
وَقَفْتُ فيها، سَراةَ اليَومِ، أَسْأَلُها ... عَنْ آلِ نُعْمٍ، أَمُوناً، عَبْرَ أَسْفَارِ
فَاسْتَعْجَمَتْ دَارُ نُعْمٍ ما تُكَلِّمُنا،والدَّارُ لَوْ كَلَّمَتْنَا ذاتُ أَخْبَارِ
فَمَا وَجَدْتُ بها شَيئاً أَلُوذُ بِهِ، ... إلاّ الثُّمَامَ وإلاّ مَوْقِدَ النَّارِ
وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْماً لاَهِيَيْنِ بها،وَالدَّهْرُ والعَيْشُ لَمْ يَهْمُمْ بِإِمْرارِ
أَيَّامَ تُخْبِرُني نُعْمٌ وأُخْبِرُها ... ما أَكْتُمُ النَّاسَ مِنْ حاجي وأَسْرارِي
لَوْلاَ حَبَائِلُ مِنْ نُعْم عَلِقْتُ بها ... لأقْصَرَ القَلْبُ عَنْهَا أَيَّ إقْصارِ
فإنْ أَفاقَ لَقَدْ طَالَتْ عَمَايَتُهُ، ... وَالمَرءُ يُخْلِقُ طَوراً بَعْدَ أطْوَارِ
نُبِّئْتُ نُعْماً على الهِجْرَانِ عَاتِبَةً،سَقْياً وَرَعْيَاً لِذَاك العَاتِبِ الزَّارِي
رَأَيْتُ نُعْماً وَأَصْحابي على عَجَلٍ، ... والعَيْسُ لِلْبَيْنِ قَدْ شُدَّتْ بِأَكْوَارِ
فَرِيعَ قَلْبِي، وكَانَتْ نَظْرَةٌ عَرَضَتْ ... حَيْناً، وتَوْفيقَ أَقْدارٍ لأقْدَارِ
بَيْضَاءُ كَالشَّمْسِ وَافَتْ يَوْمَ أَسْعَدِهَالَمْ تُؤْذِ أَهْلاً وَلَمْ تُفْحِشْ على جارِ
تَلُوثُ بَعْدَ افْتِضَالِ البُرْدِ مِئْزَرَهَالَوْثاً على مَثَلِ دِعْصِ الرَّملَةِ الهَارِي
والطِّيبُ يَزْدَادُ طِيْباً أَنْ يَكُونَ بِهَافي جِيْدِ وَاضِحَةِ الخَدَّينِ مِعْطَارِ
تَسْقِي الضَّجيعَ، إذا اسْتَسْقى، بذي أَشرٍ،عَذْبِ المَذاقةِ، بَعْدَ النَّومِ، مِخْمَارِ
كَأَنَّ مَشْمُولَةً صِرْفاً بِرِيْقَتِهَامِنْ بَعْدِ رَقْدَتِهَا، أَوْ شَهْدَ مُشْتَارِ
أَقُولُ والنَّجْمُ قَدْ مَالَتْ أَوَاخِرُهُ ... إلى المَغِيبِ: تَثَبّتْ نَظرَةً حَارِ
أَلْمَحةٌ مِنْ سَنَا بَرْقٍ رَأَى بَصَري،أَمْ وَجْهُ نُعْمٍ بَدَا لي، أَمْ سَنَأ نَارِ
بَلْ وَجْهُ نُعْمٍ بَدَا، واللّيلُ مُعْتَكِرٌ،فَلاَحَ مِنْ بَيْنِ أَثْوَابٍ وَأَسْتَارِ
إنَّ الحُمُولَ التي رَاحَتْ مُهَجِّرَةً، ... يَتْبَعَنَ كلَّ سَفِيهِ الرَّأيِ مِغْيارِ
نَواعِمٌ مِثْلُ بَيْضَاتٍ بِمَحْنِيَةٍ، ... يَحْفِزْنَ مِنْهُ ظَليماً في نَقاً هَارِ
إذا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَني، ... وإنْ تَغَرَّبْتُ عَنْهَا أُمِّ عَمَّارِ
وَمَهْمَهٍ نازِحٍ تَعْويْ الذِّئَابُ بِهِ، ... نائي المِياهِ عَنِ الوُرَّادِ، مِقْفارِ
جَاوَزْتُهُ بِعَلَنْدَاةٍ مُنَاقِلَةٍ، ... وَعْرَ الطَّريقِ على الإِحْزانِ، مِضْمَارِ
تَجْتَابُ أَرْضاً إلى أَرْضٍ بِذِي زَجَلٍ ... ماضٍ على الهَوْلِ، هادٍ غيرِ مِحْيَارِ
إذا الرِّكابُ وَنَتْ عَنْهَا رَكَائِبُها، ... تَشَذَّرَتْ بِبَعِيدِ الفَتْر خَطَّارِ
كَأَنَّما الرَّحْلُ مِنْهَا فَوْقَ ذِي جُدَدٍ، ... ذَبِّ الرِّيادِ إلى الأشْباحِ نَظَّارِ

مُطَرَّدٌ أُفرِدَتْ عَنْهُ حَلاَئِلُهُ، ... مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ أَوْ مِنْ وَحْشِ ذي قارِ
مُجَرَّسٌ، وَحَدٌ، جأْبٌ، أَطاعَ لَهُ ... نَباتُ غَيْثٍ مِنَ الوَسْميِّ مِبْكَارِ
سَراتُهُ ما خَلاَ لَبَانَهُ لَهَقٌ، ... وفي القَوَائِمِ مِثْلُ الوَشْمِ بِالقَارِ
باتتْ لَهُ لَيلَةٌ شَهْبَاءُ تَسْفَعُهُ ... بِحَاصِبٍ ذَاتِ إشْعانٍ وإمْطَارِ
وباتَ ضَيفاً لأْرطاةٍ، وأَلْجَأَهُ، ... مَعَ الظَّلاَمِ، إلَيها وابِلٌ سَارِ
حتى إذا ما انْجَلَتْ ظَلْماءُ لَيْلَتِهِ، ... وأَسْفَرَ الصّبحُ عَنْهُ أَيَّ إسْفَارِ
أَهْوَى لَهُ قَانِصٌ يَسْعَى بِأَكْلُبِهِ، ... عَارِي الأشَاجِعِ، مِنْ قُنَّاصِ أَنْمارِ
مُحَالِفُ الصَّيْدِ، هَبَّابشٌ، لَهُ لَحَمٌ، ... ما إنْ عَلَيْهِ ثِيابٌ غَيْرُ أَطْمَارِ
يَسْعَى بِغُضْفٍ بَرَاها فَهْيَ طَاوِيَةٌ، ... طُولُ ارْتِحَالٍ بِهَا مِنْهُ وَتَسْيَارِ
حتى إذا الثَّورُ، بَعْدَ النَّفرِ، أَمْكَنَهُ،أَشْلَى، وَأَرْسَلَ غُضْفاً كُلُّها ضَارِ
فَكَرَّ مَحْمِيَّةً مِنْ أَنْ يَفِرَّ كَمَا ... كَرَّ المحامي حِفاظاً، خَشْيَةَ العارِ
فَشَكّ بالرَّوْقِ مِنهُ صَدْرَ أَوَّلِها، ... شَكَّ المُشَاعِبِ أَعْشاراً بأَعْشارِ
ثُمَّ أَنْثَنَآ بَعْدُ للِثَّاني، فَأَقْصَدَهُبذَاتِ ثَغْرٍ، بَعِيدِ القَعْرِ، نَعَّارِ
وَأَثْبَتَ الثَّالِثَ الباقي بِنَافِذَةٍ، ... مِنْ بَاسِلٍ، عالمٍ بالطَّعْنِ، كَرّارِ
وظَلَّ في سَبْعَةٍ منها لَحِقْنَ بِهِ ... يَكُرُّ بالرَّوقِ فيها كَرَّ إسْوارِ
حتّى إذا ما قَضَى مِنْها لُبانَتَهُ، ... وَعَادَ فيها بإقْبالٍ وإدْبارِ
إنْقَضَّ كالكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ مُنصَلِتاً ... يَهْوي، ويَخلِطُ تَقْريباً بإحضارِ
فَذَاكَ شِبْهُ قَلُوصيَ، إذ أَضَرَّ بها ... طُولُ السُّرَى والسُّرَى مِنْ بَعْدِ أسفارِ
لَقَدْ نَهَيْتُ بَني ذُبْيَانَ عَنْ أُقُرٍ، ... وَعَنْ تَرُبُّعِهِمْ في كلِّ أَصْفَارِ
فَقُلْتُ: يَا قَوْمُ إنَّ اللَّيْثَ مُنْقَبِضٌ ... على بَراثِنِهِ لِوَثْبَةِ الضَّارِي
لاَ أَعْرِفَنْ رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا، ... كَأَنَّهُنَّ نِعاجٌ حَوْلَ دَوَّارِ
يَنْظُرْنَ شَزْراً إلى مَنْ جَاءَ عَنْ عُرُضٍ،بِأَوْجُهٍ مُنْكِراتِ الرِّقِّ أَحْرَارِ
خَلْفَ العَضارِيْطِ لا يُوقَيْنَ فَاحِشَةً ... مُسْتَمسِكَاتٍ بِأَقْتَابٍ وَأَكْوَارِ
يُذْرِينَ دَمْعَاً على الأَشْفَارِ مُنْحَدِراً،يَأْمُلْنَ رِحْلَةَ حِصْنٍ وابنِ سَيَّارِ
إمَّا عُصِيتُ، فإنِّي غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... مِنِّي اللِّصابُ، فَجَنْبَا حَرَّةِ النَّارِ
إذْ أَضَعُ البَيْتَ في سَودَاءَ مُظْلِمَةٍ، ... تُقَيّدُ العَيرَ، لا يَسْري بها السَّارِي
تُدافِعُ النَّاسَ عَنَّا، حينَ نَرْكَبُها، ... مِنَ المَظَالِمِ تُدْعى أُمَّ صَبَّارِ
ساقَ الرُّفَيْدَاتِ مِنْ جَوْشٍ وَمِنْ خَرَدٍ ... وَمَاشَ مِنْ رَهْطِ رِبْعيٍّ وَحَجَّارِ
قَرْمَيْ قُضَاعَةَ حَلاَّ حَوْلَ حجْرَتِهِ ... مَدَّا عَلَيْهِ بِسُلاَّفٍ وأَنْفَارِ
حتّى استَقَلّ بِجَمْعٍ لا كِفَاءَ لَهُ ... يَنْفِيْ الوُحُوشَ عَنِ الصَّحْراءِ جرَّارِ
لا يَخْفِضُ الرِّزَّ عَنْ أَرْضٍ أَلمَّ بِهَا ... ولا يَضِلُّ على مِصْبَاحِهِ السَّارِي
وَعَيَّرَتْني بَنُو ذُبْيَانَ خَشْيَتَهُ، ... وَهَلْ عَليَّ بأَنْ أَخْشاكَ مِنْ عَارِ؟

معلقة الأعشى الخفيف
مَا بُكَاءُ الكَبِيرِ بِالأَطْلاَلِ، ... وَسُؤَالِي وَمَا تَرُدَّ سُؤالي؟

دِمْنَةٌ قَفْرَةٌ تَعَاوَرَهَا الصَّيْ ... فُ بِريْحَيْنِ مِنْ صَباص وَشَمالِ
لاَتَ هُنّا ذِكْرَى جُبَيرَةَ، أَوْ مَنْ ... جاءَ مِنْهَا بِطَائِفِ الأَهْوَالِ
حَلَّ أَهْلي بَطْنَ الغُمَيْسِ، فَبادَو ... لى، وَحَلَّتْ عُلوِيّةً بالسِّخالِ
تَرْتَعي السَّفْحَ، فالكَثِيْبَ، فَذَاقَأ ... رٍ، فروض الغَضا، فَذَاتَ الرِّئَالِ
رُبَّ خَرْقٍ مِنْ دونِها يُخْرِسُ السَّفْ ... رَ، ومِيلٍ يُفضي إلى أَمْيالِ
وَسِقَاءٍ يُوْكَى على تَأَقِ المَلْ ... ءِ، وَسَيْرٍ، ومُسْتَقَى أَوْشَالِ
وَادِّلاَجٍ بَعْدَ الهُدوءِ، وَتَهْجي ... رٍ، وَقُفٍّ، وَسَبْسَبٍ، وَرِمَالِ
وَقَليبٍ أَجْنٍ كَأَنَّ، مِنْ الرِّي ... شِ بِأَرْجَائِهِ، سُقُوطَ النِّصالِ
فَلَئِنْ شَطَّ بِيَ المَزَارُ لَقَدْ أُض ... حي قَليلَ الهُمُومِ، نَاعِمَ بَالِ
إذْ هِيَ الهَمُّ والحَدِيثُ، وإذْ تَعْ ... صي إليَّ الأمِيرَ ذا الأقْوَالِ
ظَبْيَةٌ مِنْ ظِباءِ وَجْرَةَ أَدْمَا ... ءُ تَسُفُّ الكَبَاثَ تَحْتَ الهَدَالِ
حُرَّةٌ طَفْلَةُ الأَنَامِلِ، تَرْت ... بُّ سُخاماً تَكُفُّهُ بِخِلاَلِ
وكَأَنَّ السُّمُوطَ عاكِفَةُ السِّلْ ... كِ بِعِطْفَيْ وِشَاحِ أُمِّ غَزَالِ
وَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةٌ بِمَاءٍ زُلاَلِ
بَاكَرَتْهَا الأَغْرَابُ في سِنَةِ النّو ... مِ فَتَجْرِي خِلالَ شَوْكِ السَّيالِ
فَاذْهَبِي مَا إلَيْكِ أَدْرَكَنِي الحِلْ ... مُ عَدَاني عَنْ هَيجِكم أَشْغالي
وَعَسِيرٍ أَدْمَاءَ حَادِرَةِ العَيْ ... نِ خَنُوفٍ عَيْرَانَةٍ شِمْلاَلِ
مِنْ سَرَاةِ الِهجَانِ صَلَّبَها العُضُّ ... وَرَعْيُ الحِمَى، وَطُولُ الحِيالِ
لمْ تَعَطَّفْ على حُوَارٍ، وَلَمْ يَقْ ... طَعْ عُبَيْدٌ عُرُوقَها مِنْ خُمالِ
قد تَعَلَّلْتُها، على نَكَظِ المَيْ ... طِ، وَقَدْ خَبَّ لاَمِعَاتُ الآلِ
فَوْقَ دَيْمُومَةٍ تُخَيَّلُ لِلْسَّفْ ... رِ قِفَاراً إلاَّ مِنَ الآجالِ
وإذا ما الظِّلاَلُ خَيفَتْ وكان الشُّرْ ... بُ خِمْساً يَرجَوْنَهُ عن ضلالِ
واستُحِثَّ المُغَيِّرُونَ من الرَّكْ ... بِ، وكانَ النِّطافُ ما في الغَزالي
مَرِحَتْ حُرَّةًن كَقَنْطَرَةِ الرّوم ... يِّ، تَفْريْ الهَجِيرَ بِالإِرْقَالِ
تَقَطَعُ الأَمْعَزَ المُكَوْكِبَ وَخْداً، ... بِنواجٍ سَرِيعَةِ الإيْغالِ
عَنْتَريسٌ، تَعْدو، إذا حُرِّكَ السَّوْ ... طْ، كَعَدْوِ المُصَلْصِلِ الجَوَّالِ
لاَحَهُ الصَّيْفُ، والطِّرادُ، وإشْفا ... قٌ عَلَى صَعْدَةٍ كَقَوْسِ الضَّالِ
مُلْمِعٌ، والِهُ الفُؤَادِ إلى جَحْ ... شٍ فَلاهُ عَنْهَا، فَبِئْسَ الفَالي
ذو أَذَاةٍ على الخَلِيطِ، خَبِيثُ النّف ... سِ، يَرمي عَدُوَّهُ بالنُّسالِ
غادَرَ الوَ؛شَ في الغُبَارِ، وعادا ... ها حَثيثاً، لِصُوّةِ الأَدْحَالِ
ذَاكَ شَبّهْتُ نَاقَتي عن يَمينِ الرَّع ... نِ بَعْدَ الكَلاَلِ والإِعْمَالِ
وَتَرَاهَا تَشْكُو إليّ، وقد صَا ... رَتْ طَلِيحاً تُحْذَى صُدورَ النِّعالِ
نَقَبَ الخُفُّ لِلسُّرَى، فَتَرَى الأنْ ... ساعَ مِنْ حِلِّ سَاعَةٍ وارْتِحَالِ
أَثَّرَتْ في جَآجيءٍ كإرانِ المَيْ ... تِ عُولينَ فَوْقَ عُوجٍ رِسَالِ

لاَ تَشَكَّيْ إليّ مِنْ أَلمِ النِّس ... عِ وَلاَ مِن حَفىً، ولا من كلالِ
لا تَشكَّيْ إليّ، وانْتَجِعِي الأسْ ... وَدَ أَهْلَ النَّدَى، شديدُ المِحالِ
فَرْعُ نَبْعٍ يَهْتَزُّ في غُصُنِ المَجْ ... دِ، غَزيرُ النَّدى شديدُ المِحالِ
عِنْدَهُ البِرُّ والتُّقَى وأَسَى الشَّقِّ، ... وَحَمْلٌ للمُعْضلاَتِ الثّقالِ
وَصِلاَتُ الأرحامِ، قد عَلِمَ النّا ... سُ وَفَكُّ الأسْرَى من الأَغْلاَلِ
وَهَوَانُ النّفْسِ الكَريمَةِ للذّكْ ... رِ إذا ما الْتَقَتْ صُدُورُ العَوَالي
أنْتَ خَيرٌ من أَلْفِ أَلْفٍ مِن القَوْ ... مِ، إذا ما كَبَتْ وُجُوهُ الرِّجالِ
وَوَفاءٌ، إذا أَجَرْتَ، فَمَا غُرَّ ... تْ حِبَالٌ وَصَلْتَهَا بِحِبَالِ
وَعَطَاءٌ، إذا سُئِلْتَ، إذ العِذْ ... رَةُ فِينَا عَطِيّةُ البُخّالِ
أَرْيَحِيٌّ، صَلْتٌ، يَظَلُّ لَهُ القَوْ ... مُ وُقُوفاً قِيَامَهُمْ لِلهِلاَلِ
إنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَاماً، وإنْ يُع ... طِ جَزِيلاً فإنّهُ لا يُبالي
يَهَبُ الجِلّةَ الجَراجِرَ كَالبُس ... تانِ، تَحْنُو لدَرْدَقٍ أطفالِ
والبَغَايَا يَرْكُضنَ أَكْسِيَةَ الإض ... رِيجِ وَالشّرعَبيَّ ذا الأذْيالِ
وَالمَكَاكيكَ والصِّحافَ مِنَ الفِضَّ ... ةِ وَالضّامزاتِ تَحْتَ الرِّحالِ
وجِياداً كأَنّها قُضبُ الشَّوْ ... حَطِ يَحْمِلْنَ بِزّة الأبْطَالِ
وَدُرُوعاً مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ في الحَرْ ... بِ، وُسُوقاً يُحْمَلْنَ فَوْقَ الجمَالِ
مُشَعَرَاتٍ مِنَ الرّمادِ مِنَ الكَرّ ... ةِ، دُونَ النّدَى، ودُونَ الطِّلالِ
لَمْ يُنَشَّرْنَ للصَّديِقِ، ولَكِنْ ... لِقِتَالِ العَدوِّ يَوْمَ القِتَالِ
كُلَّ يَوْمٍ يَسُوقُ خَيلاً إلى خَيْ ... لٍ دِرَاكاً غَدَاةَ غِبِّ الصِّيالِ
لامرىءٍ يَجْمَعُ الأدَاةَ لِرَيْبِ الدّ ... هْرِ، لاَ مُسْنِدٍ، ولاَ زثمَّالِ
هُوَ دَانَ الرَّبَابَ، إذْ كَرِهُوا الدِّيْ ... نَ دِرَاكاً بِغَزْوَةٍ، واحْتِيَالِ
فَخْمَةٌ، يَرْجَعُ المُضافُ إلَيْها، ... وَرِعالٌ، مَوْصُولَةٌ بِرِعَالِ
تُخْرِجُ الشّيْخَ من بَنِيهِ وَتُلْوِي ... بِسَوامِ المِعْزَابَةِ المِحْلاَلِ
ثمّ دَانَتْ بَعْدُ الرِّبابُ، وَكَانَتْ ... كَعَذَابٍ عُقُوبَةُ الأقيالِ
عَنّ يَمينٍ وَطُولِ حَبْسٍ، وَتجمي ... عِ شتاتٍ وَرِحْلَةٍ، واحتِمَالِ
مِنْ نَواصي دَوْدَانَ، إذْ حَضرَ البأْ ... سُ، وذُبْيَانَ والهِجَانِ العَوالي
ثُمّ وَاصَلْتَ غَزْوَةً بِرَبيعٍ، ... حِينَ صَرّفْتَ حالةً عن حالِ
رُبَّ رَفدٍ هَرَقَتْهُ، ذَلكَ اليَو ... مَ، وَأَسْرَى من مَعْشَرٍ ضلاّلِ
وَشُيُوخٍ حَرْبَى بِشَطّيْ أَرِيكٍ، ... وَنِساءٍ كَأَنّهُنّ السَّعالي
وَشَريكَينِ في كَثيرٍ مِنَ المَا ... لِ، وكَانَا مُحَالِفَيْ إقلالِ
قَسَمَا الطّارِفَ التّليدَ منَ الغُن ... مِ فآبَا كِلاهُمَا ذو مَالِ
رُبَّ حَيٍ سَقَيْتَهُم جُرَعَ المَوْ ... ت وحيٍ سَقَيْتَهمْ بِسِجالِ
وَلَقَدْ شُنّتِ الحُرُوبُ، فَمَا غُمّرْ ... تَ منها، إذْ قَلَّصَتْ عَنْ حِيالِ
هَؤُلاءِ ثمّ هَولَئكَ أَعْطَيْ ... تَ نِعالاً مَحْذُوّةً بِمِثَالِ

وَأَرَى مَنْ عَصَاكَ أَصْبَحَ مَحْرُو ... باً وَكَعْبُ الذي يُطِيعُكَ عالي
وَبِمثْلِ الذي جَمَعْتَ مِنَ العُدَّ ... ةِ تُنْفى حُكُومَةُ الجُهّالِ
جُندُكَ الطّارِفُ التّلِيدُ مِنَ الغّا ... راتِ، أَهْلُ الهِبَاتِ وَالآكالِ
غَيْرَ مِيلٍ، وَلا عَوَاوِيرَ في الهَي ... جَا، ولا عُزَّلٍ، وَلا أَكْفالِ
لِلعِدَا عِنْدَكَ البَوارُ، وَمَن وَا ... لَيْتَ لَمْ يُعْرَ عَقْدُهُ باغْتِيالِ
لَنْ يَزالوا كَذَلِكُمْ، ثُمّ لاَ زِلْ ... تَ لَهُمْ خَالِداً خُلُودَ الجِبَالِ
فَلَئِنْ لاَحَ في المَفَارِقِ شَيْبٌ، ... يآلَ بَكْرٍ وَأَنْكَرتني الفَوالي
فَلَقَدْ كُنْتُ في الشَّبابِ أُبَارِي، ... حِينَ أَعْدو مَعَ الطِّماحِ، ظِلالي
أُبغِض الخائِنَ الكَذُوبَ وأُبْدي ... وَصلَ حَبلِ العَمَيْثَلِ الوَصّالِ
وَلَقَدْ أَستَبي الفَتَاةَ، فَتَعْصي ... كلَّ واشٍ يُريدُ صَرْمَ حِبَالي
لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذَاكَ تَلْهُو بِغَيْرِي، ... لاَ ولاَ لهْوُهَا حَديثُ الرّجالِ
ثمّ أَذْهلْتُ عَقْلَها، رُبّما يَذْ ... هَلُ عَقْلُ الفَتَاةِ شِبْهِ الهِلاَلِ
وَلَقَدْ أَغْتَدي إذا صَقَعَ الدّي ... كُ بِمُهْرٍ مُشَذَّبٍ جَوّالِ
أَعْوَجيٍ، تَنْمِيهِ عُوذٌ صَفَايا ... وَمَعَ العُوذِ قِلّةُ الإغْفالِ
مُدْمَجٌ سابغُ الضّلوعِ طَويلُ الشّ ... خصِ عَبْلُ الشَّوى مُمَرُّ الأعَالي
وَقِيَامي عَلَيْهِ غَيْرَ مُضيعٍ ... قَائماً بالغُدُوّ والآصَالِ
فَجَلَ الصّونُ وَالمَضامِيرَ عن سِي ... دٍ جَرَى بَيْنَ صَفْصَفٍ وَرِمَالِ
يَمْلأُ العَيْنَ عَادِياً وَمَقُوداً، ... وَمُعَرّىً، وصَافِناً في الجِلاَلِ
فَعَدَوْنَا بِمُهْرِنا، إذْ غَدَوْنَا ... قَارِنِيهِ بِبَازِلٍ ذَيَّالِ
مُسْتَخَفّاً على القِيادِ، ذَفيفاً، ... تَمّ حُسناً؛ فصارَ كَالتّمثالِ
فإذا نَحْنُ بالوُحُوشِ تُرَاعِي ... صَوْبَ غَيثٍ مُجَلْجِلٍ هَطّالِ
فَحَملْنا غُلامَنا، ثمّ قُلنا ... هَاجِرِ الصّوْتَ، غَيْرَ أَمْرِ احتيالِ
فَجَرَى بالغُلامِ شِبْهَ حَريقٍ ... في يَبيسٍ، تَذْرُوهُ رِيحُ الشَّمالِ
بَيْنَ عَيْرٍ، ومُلمعٍ، وَنُحُوض، ... ونَعَامٍ يَرِدْنَ حَوْلَ الرّئَالِ
لَمْ يَكُنْ غَيْرُ لَمْحةِ الطّرْفِ حتى ... كَبَّ تِسْعاً، يَعْتَامُها كَالمُغالي
وَظَلِيمَيْن، ثُمّ أَيَّهْتُ بِالمُهْ ... رِ أُنادي: فداكَ عَمّي وَخَالي
وَظَلَلْنا ما بَيْنَ شاوٍ، وذِي قِدْ ... رٍ، وَسَاقٍ، ومُسْمِعٍ مِحْفَالِ
في شَبابٍ يُسْقَوْنَ مِنْ مَاءِ كَرْمٍ، ... عَاقِدينَ البُروُدَ فَوْقَ العَوَالي
ذَاكَ عَيْشٌ شَهِدْتُهُ ثمّ وَلّى؛ ... كُلُّ عَيْشٍ مَصِيرُهُ للزَّوَالِ

معلقة لبيد الكامل
عَفَتِ الدِّيَارُ مَحَلُّها فَمُقَامُها ... بِمنىً تَأَبّدَ غَوْلُها فَرِجَامُهَا
فَمَدَافِعُ الرّيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها ... خَلَقاً كما ضمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعْدَ عَهْدِ أَنِيسِها، ... حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلاَلُها وَحَرامُهَا
رُزِقَتْ مَرَابِيعَ النّجومِ، وَصَابَها ... وَدْقُ الرّواعِدِ، جَوْدُهَا فَرِهَامُها
مِنْ كُلِّ سَارِيَةٍ وَغَادٍ مُدْجِنٍ، ... وَعَشِيّةٍ مُتَجَاوِبٍ إرْزَامُهَا

فَعَلا فُرُوعِ الأيْهقانِ، وَأَطْفَلَتْ ... بِالجَلْهَتَينِ ظِباؤُها وَنَعَامُهَا
وَالعِينُ سَاكِنَةٌ على أطلائِها ... عُوذاً، تَأَجُّلُ بالفَضاءِ بِهَامُهَا
وَجَلاَ السّيولُ عَنِ الطّلُولِ كَأَنّها ... زُبُرٌ تُجدّ مُتُونَها أَقْلامُهَا
أَوْ رَجْعُ واشِمَةٍ أُسِفُّ نؤورُها ... كِفَفاً، تَعَرّض فَوْقَهُنَّ وِشَامُهَا
فَوَقَفْتُ أَسْأَلُهَا، وَكَيفَ سُؤَالُنا ... صُمّاً خَوَالِدَ ما يَبينُ كَلامُهَا
عَرِيَتْ، وكَانَ بِهَا الجَميعُ، فأَبْكَرُوا ... مِنْهَا، وغُودِرَ نُؤْيُها وثُمَامُهَا
شَاقَتْكَ ظُعْنُ الحَيّ، حِينَ تَحمّلوا، ... فَتَكَنّسُوا قُطُناً تَصِرّ خِيَامُها
مِنْ كُلّ مَحْفُوفٍ، يُظِلُّ عِصيَّهُ ... زَوْجٌ عَلَيْهِ كِلّةٌ وَقِرَامُهَا
زَجَلاً، كأنّ نِعاجَ تُوضحَ فَوْقَهَا ... وَظِبَاءَ وَجْرَةَ عُطَّفاً آرامُهَا
حُفِزَتْ وَزَايَلَها السّرَابُ كَأَنّها ... أَجزَاعُ بِيشَةَ أَثْلُها وَرِضامُهَا
بَلْ مَا تَذَكّرُ مِنْ نَوَارَ، وَقَدْ نَأَتْ، ... وَتَقطّعتْ أَسْبابُهَا وَرِمَامُهَا
مُرِّيّةٌ، حَلَّتْ بِفَيْدَ، وَجَاوَرَتْ ... أَهْلَ الحِجَازِ، فَأَيْنَ مِنْكَ مَرَامُها
بِمَشَارِقِ الجَبَلَيْنِ، أَوْ بِمُحَجَّرٍ، ... فَتَضمَّنَتْهَا فَرْدَةٌ، فَرُخَامُهَا
فَصُوَائِقٌ، إنْ أَيْمَنَتْ، فَمَظِنَّةٌ ... مِنْهَا، وِحافُ القَهْرِ أَو طِلخَامُهَا
فاقطَعْ لُبانَةَ مَنْ تَعَرّض وَصْلُهُ، ... وَلَشَرُّ وَاصِلِ خُلّةٍ صَرَّامُهَا
واحْبُ المُجَامِلَ بِالجَزِيلِ، وَصَرْمُهُ ... باقٍ، إذا ظَلَعَتْ وَزَاغَ قِوَامُهَا
بِطَليحِ أَسْفَارٍ، تَرَكْنَ بَقيّةً ... منها، وأَحْنَقَ صُلْبُهَا وَسَنَامُهَا
فإذا تَغَالىَ لَحْمُهَا، وَتَحَسَّرَتْ، ... وَتَقَطَّعَتْ بَعْدَ الكَلاَلِ خِدَامُهَا
فَلَها هِبابٌ في الزِّمامِ، كَأَنّها ... صَهْبَاءُ مَعَ الجَنُوبِ جَهَامُهَا
أَوْ مَلمِعٌ وَسَقَتْ لأحْقَبَ لاَحَهُ ... طَرْدُ الفُحُولِ، وَضرْبُهَا، وَكِدَامُهَا
يَعْلُو بها حُدْبَ الإِكَامِ مُسَحَّجٌ، ... قَدْ رَابَهُ عِصْيَانُهَا وَوِحَامُهَا
بأَحِزَّةِ الثَّلبُوتِ يَرْبأُ فَوْقَهَا ... قَفْرَ المَراقِبِ خَوْفُها آرامُهَا
حَتى إذا سَلَخَا جُمَادَى سِتّةً، ... جَزْءاً، فَطَالَ صِيَامُهُ وَصِيَامُهَا
رَجَعَا بِأَمْرِهِما إلى ذي مِرَّةٍ، ... حَصِدٍ، وَنُجْحُ صَرِيمَةٍ إبرامُهَا
وَرَمَى دَوَابِرَهَا السَّفَا، وَتَهَيّجَتْ ... رِيحُ المَصايِفِ سَوْمُهَا وَسِهَامُهَا
فَتَنَازَعَا سَبِطاً يَطِيرُ ظِلاَلُهُ، ... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يُشَبّ ضرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجٍ ... كَدُخَانِ نارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
فَمَضى، وَقَدَّمَهضا، وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ، إذا هِيَ عَرَّدَتْ، إقْدَامُهَا
فَتَوسطَا عُرْض السَّريّ، وَصَدَّعَا ... مَسْجُورَةً مُتَجَاوِراً قُلاّمُهَا
مَحْفُوفَةًَ وَسْطَ اليَراعِ يُظِلُّها ... مِنْهَا مُصَرَّعُ غَابَةٍ وَقِيامُهَا
أَفَتِلْكَ؟ أَمْ وَحْشِيّةٌ مَسْبُوعَةٌ؟ ... خَذَلَتْ؛ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا
خَنْسَاءُ ضيّعَتِ الفَرِيرَ، فَلَمْ يَرِمْ، ... عُرْض الشّقَائِقِ، طَوْفُهَا وَبُغَامُهَا

لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ، تَنَازَعَ شِلْوَهُ ... غُبْسٌ كَوَاسِبُ مَا يُمَنّ طَعَامُهَا
صَادَفْنَ مِنْهَا غِرّةً، فَأَصَبْنَهَا؛ ... إنّ المَنَايا لا تَطيِشُ سِهَامُهَا
بَاتَتْ، وَأَسْبَلَ وَاكِفٌ مِن دِيمَةٍ، ... يُرَوي الخَمَائِلَ، دَائِماً تَسْجَامُهَا
تَجْتَافُ أَصْلاً قَالِصاً، مُتَنَبِّذاً، ... بِعُجُوبِ أَنقاءٍ، يَميلُ هُيَامُهَا
يَعْلُو طَرِيقَةَ مَتْنِها مُواتِراً، ... في لَيْلَةٍ كَفَرَ النّجُومَ غَمَامُهَا
وَتُضيءُ في وَجْهِ الظّلامِ مُنيرَةً، ... كَجُمَانَةِ البَحْريّ سُلَّ نِظَامُهَا
حَتى إذا انْحَسَرَ الظّلامُ، وَأَسْفَرَتْ ... بَكَرَتْ تَزِلُّ عَنِ الثَّرَى أَزْلاَمُهَا
عَلِهَتْ تَبَلَّدُ في نِهاءِ صَعَائِدٍ ... سَبْعاً تُؤاماً كَاملاً أَيّامُهَا
حتَى إذا يَئِسَتْ، وأسْحَقَ حَالِقٌ، ... لَمْ يُبْلِهِ إرْضاعُها وَفِطَامُهَا
وَتَسَمْعَتْ رِزَّ الأنيسِ، فَرَاعَها ... عَنْ ظَهْرِ غَيبٍ، والأنيسُ سَقَامُهَا
فَعَدَتْ، كِلا الفَرجَينِ تَحْسِبُ أَنّه ... مَوْلى المَخَافَةِ، خَلْفُها وَأَمَامُهَا
حَتى إذا يَئِسَ الرَّّماةُ، وأَرْسَلُوا ... غُضفاً دَوَاجِنَ، قَافِلاً أَعْصَامُهَا
فَلَحِقْنَ، واعْتَكَرَتْ لَها مَدَرِيّةٌ ... كالسَّمْهَرِيّةِ حَدُّها وَتَمَامُهَا
لِتَذُودَهُنّ، وَأَيقَنَتْ إنْ لَمْ تَذُذْأَنْ قَدْ أُحَمَّ مَعَ الحُتُوفِ حِمَامُهَا
فتَقَصّدَتْ منها كَسابِ، فضرِّجتْ ... بِدَمٍ، وَغُودِرَ في المَكَرّ سُخَامُهَا
فَبِتِلكَ إذْ رَقَصَ اللّوامِعُ بِالضّحى، ... وَاجْتَابَ أَرْديَةَ السّرابِ إكامُهَا
أقْضي اللُّبانَةَ، لا أُفَرّطُ رِيبَةً، ... أَوْ أَنْ يَلُومَ بِحَاجَةٍ لُوّامُهَا
أَوَلَمْ تَكُنْ تَدري نَوارُ بِأَنّني ... وَصّالُ عَقْدِ حَبَائلٍ، جَذّامُهَا؟
تَرّاكُ أَمكِنَةٍ، إذا لَمْ أَرْضها، ... أَو يَرْتَبِطْ بَعْض النّفوسِ حِمَامُهَا
بَلْ أَنْتِ لاَ تَدْرِينَ كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ ... طَلْقٍ لَذِيذٍ لَهْوهَا وَنِدَامُهَا
قَدْ بِتُّ سَامِرَها، وغَايَةَ تَاجِرٍ ... وَافَيْتُ، إذ رُفِعَتْ، وَعزّ مُدَامُهَا
أُغلي السِّباءَ بِكُلّ أَدْكَنَ عَاتِقٍ، ... أَوْ جَونَةٍ قُدحَتْ وَفُضّ خِتَامُهَا
لِصَبُوحِ صَافَيةٍ، وَجَذْبِ كَرِينَةٍ ... بِمُوتَّرٍ تَأُتَالُهُ إبْهَامُهَا
بَاكَرْتُ حَاجَتَهَا الدّجاجَ بِسُحْرَةٍ، ... لأُعَلّ منها حِينَ هَبّ نِيَامُهَا
وَغَدَاةِ رِيحٍ قَدْ وَزَعتُ، وَقِرّةٍ ... إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشَّمالِ زِمَامُهَا
وَلَقَدْ حَمَيتُ الخَيْلَ تَحْمِلُ شِكّتي، ... فُرْطٌ وِشاحي، إذ غَدَوْتُ، لِجَامُهَا
فَعَلَوْتُ مُرْتَقَباً على ذي هَبْوَةٍ، ... حَرِجٍ إلى أَعلامِهِنّ قَتَامُهَا
حَتى إذا أَلْقَتْ يَداً في كافِرٍ، ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثّغُورِ ظَلامُهَا
أَسْهَلْتُ وانْتَصَبَتْ كَجِذْعِ مُنَيفَةٍ ... جَرْدَاءَ يَحْصَرُ دُونَهَا جُرّامُهَا
رَفَّعْتُها طَرَدَ النَعامِ، وَفَوْقَهُ ... حَتّى إذا سَخِنَتْ وَخَفّ عِظَامُهَا
قَلِقَتْ رِحَالَتُها، وَأَسْبَلَ نَحْرُها، ... وابْتَلّ مِنْ زَبَدِ الحَمِيمِ حِزَامُهَا
تَرْقَى وَتَطْعَنُ في العِنَانِ، وَتَنْتَحي ... وِرْدَ الحمامَةِ، إذْ أَجَدَّ حَمَامُهَا
وَكَثِيرَةٍ غُرْبَاؤها مَجْهُولَةٍ؛ ... تُرْجَى نَوَافِلُها، وَيُخْشَى ذَامُهَا

غُلْبٌ تَشَذَّرُ بالذُّحُولِ كَأَنَّها ... جِنُّ البَدِيّ، رَوَاسِياً أَقْدَامُهَا
أَنْكَرْتُ بَاطِلَها، وبُؤتُ بِحَقّها ... يَوماً، ولم يَفْخَرْ عَليّ كِرَامُهَا
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ لَحَتْفِها ... بِمَغَالِقٍ مُتَشابِهٍ أَعْلاَمُهَا
أَدْعُو بِهِنَّ لِعَاقِرٍ أَوْ مُطفِلٍ ... بُذِلَتْ لِجيرانِ الجَميعِ لِحَامُهَا
فالضّيفُ والجارُ الغَريبُ، كأنما ... هَبَطا تَبَالَةَ، مُخَصِباً أَهْضامُهَا
تَأْوي إلى الأطنَابِ كلُّ رَذّيةٍ، ... مِثْلِ البَليّةِ، قَالِصٍ أَهْدَامُهَا
وَيُكَلَّلُونَ، إذا الرياحُ تَنَاوَحَتْ، ... خُلُجاً، تُمَدّ شَوَارِعاً أَيْتَامُهَا
إنَّا إذا التْقَتِ المَجَامِعُ لَمْ يَزَلْ ... مِنّا لِزَازُ عَظِيمةٍ، جَشّامُهَا
وَمُقَسِّمٌ يُعْطي العَشيرةَ حَقَّها، ... وَمُغَذْمِرٌ لِحُقُوقِها، هَضَّامُهَا
فَضلاً، وذو كَرَمٍ يُعِينُ على النّدى، ... سَمْحٌ كَسُوبُ رَغائبٍ غَنّامُهَا
مِنْ مَعشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آباؤُهُمْ، ... ولِكُلّ قَوْمٍ سُنّةٌ، وَإمَامُهَا
إنْ يَفْزَعُوا تُلْقَ المَغَافِرُ عِنْدَهُم، ... والسِّنُّ تَلْمَعُ كَالكَواكبِ لاَمُهَا
لا يَطبَعُونَ، ولا يَبُورُ فِعَالُهُمْ، ... إذْ لاَ تَميلُ معَ الهَوَى أَحْلاَمُهَا
فَبَنَوْا لَنا بَيتاً رَفيعاً سَمْكُهُ، ... فَسَمَا إلَيهِ كَهْلُها وغُلامُهَا
فاقنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ، فإنّما ... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنا عَلاّمُهَا
وإذا الأمانَةُ قُسّمتْ في مَعْشَرٍ ... أَوْفَى بِأَعْظَمِ حَظِّنا قَسَّامُهَا
فَهُمُ السُّعاةُ، إذا العَشيرَةُ أُفظِعَتْ؛ ... وَهُمُ فَوارِسُها، وَهُمْ حُكّامُهَا
وهُمُ رَبِيعٌ للمُجاوِرِ فيهِمُ، ... والمُرْمِلاتِ، إذا تَطَاوَلَ عَامُهَا
وَهُمُ العَشِيرَةُ أَنْ يُبَطَّىء حاسِدٌ، ... أَوْ أَنْ يَميِلَ مَعَ العَدُوِّ لِئَامُهَا

معلقة عمرو بن كلثوم الوافر
أَلاَ هُبّي بِصَحْنِكِ، فَاصبَحينا، ... وَلاَ تُبقي خُمُورَ الأندَرِينَا
مُشَعْشَعَةً، كَأَنَّ الحُصَّ فيها، ... إذا ما الماءُ خَالطَهَا سَخينَا
تَجُورُ بذي اللُّبانَةِ عَن هَواهُ، ... إذا ما ذاقَها، حتى يَليِنَا
تَرَى اللَّحِزَ الشّحِيحَ، إذا أُمِرَّتْ ... عَلَيْهِ، لِمَالِهِ فيها مُهِينَا
كَأَنَّ الشُّهبَ في الآذان منه ... إذا قرعوا بحافتها الجبينَا
صَدَدتِ الكأسَ عَنّا، أُمَّ عَمرٍن، ... وكانَ الكأسُ مَجراها اليَمِينَا
وَمَا شَرّ الثّلاثَةِ أُمَّ عَمرٍو ... بصاحبِكِ الذي لا تَصبَحينَا
وَكَأْسٍ قد شَرِبتُ ببَعلَبَكٍ، ... وَأُخْرَى في دِمَشْقَ، وقاصرِينَا
إذا صَمدَتْ حُمَيَّاها أَرِيباً ... مِنَ الفِتيانِ، خِلتَ بهِ جُنُونا
فَمَا بَرِحَتْ مَجالَ الشَّرْبِ حتى ... تَغالَوها، وقالُوا قد رَوِينَا
وَإنّا غَداً، وإنَّ اليَوْمَ رَهْنٌ، ... وَبَعْدَ غَدٍ بِمَا لا تَعْلَمِينَا
قِفي قَبْلَ التّفَرّقِ، يا ظَعيناً، ... نُخَبّركِ اليَقينَ وَتُخْبِرِينَا
بِيَوْمِ كَرِيهَةٍ ضرْباً وَطَعْنَاً، ... أَقَرَّ بِهِ مَوالِيكِ العُيُونَا
قِفي نَسْأَلْكِ هَلْ أَحْدَثتِ صَرْماً، ... لِوَشْكِ البَيْنِ أَمْ خُنْتِ الأمِينَا
أَفي لَيْلٍ يُعاتِبُني أَبُوها، ... وَإخْوَتُهَا وهُمْ لي ظَالِمُونَا

تُرِيكَ، إذا دَخَلَتَ على خَلاَءٍ، ... وَقَدْ أَمِنَتْ عُيُونَ الكاشِحينَا
ذِراعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بِكْرٍ، ... تَرَبَّعَتِ الأَجَارِعَ والمُتُونَا
وَثَدْياً مِثْلَ حُقِّ العاجِ رَخْصاً ... حَصَاناً من أَكُفّ اللامِسِينَا
وَنَحْراً مِثْلَ ضوْءِ البَدْرِ وَافَى ... بِأَتمامٍ أَنَاساً، مُدْلَجينَا
وَمَتَنَيْ لَدْنَةٍ طَالَتْ وَنَالَتْ ... رَوادِفُهَا، تَنُوءُ بِمَا يَليِنَا
وَمَأْكَمَةً يَضيقُ البابُ عَنْهَا، ... وَكَشْحاً قد جُنِنْتث بِهِ جُنُونَا
وسَالِفَتَيْ رُخامٍ، أَوْ بِلَنْطٍ، ... يَرِنُّ خَشَاشُ حَلْيِهِما رَنينَا
تَذَكّرْتُ الصِّبا، واشْتَقْتُ لمّا ... رَأَيتُ حُمُولَها أُصُلاً حُدِينَا
وَأَعرَضتِ اليَمَامَةُ واشْمَخَرّتْ ... كَأَسيافٍ بِأَيدي مُصلِتينَا
فَمَا وَجَدَتْ كَوَجدي أُمُّ سَقبٍ ... أَضلَّتْهُ، فَرَجَّعَتِ الحَنينَا
ولا شَمطاءُ لم يَتْرُكْ شَقاها ... لَها مِنْ تِسْعَةٍ إلاّ
جَنِينَا
أَبا هِندٍ، فَلا تَعْجَلْ عَلَينا، ... وَأَنْظِرْنا نُخَبّرْكَ اليَقينَا
بِأَنّا نُورِدُ الرّاياتِ بِيضاً، ... ونُصْدِرُهنّ حُمراً قَد رَوِينَا
فإنَّ الضِّغنَ بَعْدَ الضّغنِ يَفْشُو ... عَلَيْكَ، وَيُخرجُ الدَّاءَ الدَّفينَا
وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ، طِوالٍ، ... عَصَينا المَلْكَ فيها أَنْ نَدينَا
وَسَيِّدِ مَعْشرٍ قَدْ تَوّجُوهُ ... بتاجِ المُلكِ يَحمي المُحجَرِينَا
تَرَكنا الخَيلَ عاكِفَةً عَليْهِ، ... مُقَلَّدَةً أَعِنّتَها صُفُونَا
وَقَدْ هَرّتْ كِلابُ الحَيّ مِنّا، ... وَشَذَّبْنا قَتَادَةَ مَنْ يَليِنَا
وَأَنْزَلنا البُيُوتَ بذي طُلُوحٍ، ... إلى الشّاماتِ نَنفي المُوعِدينَا
نَعُمّ أُناَسَنا، وَنَعِفُّ عَنهم، ... وَنَحمِلُ عَنْهُمُ ما حَمَّلُونَا
وَرِثنا المَجدَ، قد عَلِمتْ مَعَدٌّ، ... نُطاعِنُ دُونَهُ حتى يَبِينَا
ونحنُن إذا عِمادُ الحَربِ خَرّتْ ... على الأحفاض، نَمنَعُ مَن يَلينا
نُطاعِنُ ما تَراخَى النّاسُ عنّا، ... ونَضرِبُ بالسّيوفِ، إذا غُشينَا
بسُمرٍ مِنْ قَنَا الخطيّ لُدْنٍ، ... ذَوابِلَ، أَو بِبِيض يَعْتَليِنَا
نَشُقّ بها رُؤوسَ القَومِ شَقّاً، ... ونَخْتَلِبُ الرّقابَ فَيَخْتَلِينَا
تَخَالُ جَماجِمَ الأبطالِ مِنْهُمْ ... وُسُوقاً بالأماعِزِ يَرْتَمِينَا
نَجُذّ رُؤوسَهُم، في غَيرِ وِترٍ، ... ولا يَدرُونَ ماذا يَتّقُونَا
كَأَنَّ ثِيابَنا مِنّا وَمِنْهُم ... خُضبْنَ بأُرْجُوانٍ أَو طُلِينَا
كَأَنَّ سُيُوفَنا فِينَا وَفِيهِمْ ... مَخَاريقٌ بِأَيْدي لاعِبِينَا
إذا ما عَيَّ بالإِسنافِ حَيٌّ ... مِنَ الهَوْلِ المُشَبّهِ أَنْ يَكُونَا
نَصَبنا مِثلَ رَهْوَةَ ذاتَ حَدٍ ... مُحافَظَةًَ وَكُنّا السّابِقِينَا
بِفِتيانٍ يَرَوْنَ القَتْلَ مَجداً ... وَشِيبٍ في الحُرُوبِ مُجَرَّبِينَا
يُدَهدُونَ الرّؤوس كَمَا تُدَهدي ... حَزاوِرَةٌ بِأَبْطَحِها الكُرِينَا
حُدَيّا النّاسِ كُلّهِمِ جَميعاً ... مُقارَعَةً بَنِيهِمْ عَنْ بَنِينَا
فَأَمّا يَوْمَ خَشَيتَنا عَلَيْهِمْ، ... فَتُصبِحُ خَيْلُنا عُصَباً ثُبِينَا

وأَمّا يَوْمَ لا نَخْشَى عَلَيْهِمْ ... فَنُمعِنُ غَارَةً، مُتَلبِّبينَا
بِرأْسٍ مِن بَني جُشَمِ بنِ بكرٍ ... نَدُقُّ بِهِ السّهُولَةَ والحُزُونَا
بِأَيِّ مَشيئَةٍ عَمرَو بنَ هِنْدٍ ... نَكُونُ لِقَيْلكُمْ فيها قَطينَا
بأَيِّ مَشيئَةٍ عَمَرو بنَ هِنْدٍ ... تُطيعُ بِنا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِينَا
تُهَدّدُ،َا وتُوعِدُنا، رُوَيداً، ... متى كنّا لأُمِّكَ مَقتَوِينَا؟!
وَإنَّ قَنَاتَنا يا عَمُرو أَعْيَتْ ... على الأعداءِ قَبْلَكَ أَنْ تَلِينَا
إذا عَضّ الثِّقافُ بها اشمأزَّتْ ... وَوَلَّتْهُ عَشَوْزَنَةًَ زَبُونَا
عَشَوْزَنَةً إذا غُمِزَتْ أَرَنَّتْ ... تَشُجُّ قَفَا المُثَقَّفِ وَالجَبِينَا
فَهَل حُدّثتَ عَن جُشمِ بنِ بكرٍ ... بِنَقصٍ في الخُطُوبِ الأوّلِينَا
وَرِثنا مَجدَ عَلْقَمَةَ بنِ سَيفٍ، ... أَبَاحَ لَنا حُصُونَ المَجدِ دِينَا
وَرِثْتُ مُهَلهَلاً، والخَيرَ منهُ، ... زُهَيراً، نِعمَ ذُخرُ الذَّاخِرينَا
وَعَتَّاباً وكُلْثُوماً جَميعاً ... بِهِمْ نِلْنَا تُراثَ الأكْرَمِينَا
وذا البُرَةِ الذي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... بهِ نُحمَى، ونَحمي المُحْجَزِينَا
ومِنّا قِبْلَا السّاعي كُلَيْبٌ، ... فأَيُّ المَجدِ إلاّ قَد وَلِينَا؟
متى تُعقَد قَرينَتُنا بِحَبلٍ، ... تَجُذِّ الحبلَ أو تَقِصِ القرِينَا
ونُوجَدُ نَحْنُ أَمْنَعَهُمْ ذِماراً، ... وَأَوْفَاهُمْ، إذا عَقَدُوا يَمينَا
وَنَحْنُ غَداةَ أُوقِدَ في خَزازَى ... رَفَدْنَا فَوقَ رِفْدِ الرّافِدينَا
ونحنٌُ الحابِسونَ لِذي أُراطٍ، ... تَسِفُّ الجِلّةَ الخُورَ الدَّرِينَا
فكُنّا الأيْمَنينَ إذا أَلتَقَينَا، ... وكانَ الأيسَرينَ بَنُوا أَبِينَا
فَصالُوا صَوْلَةً فيمَنْ يَليهِمْ، ... وصُلنا صَوْلَةً فِيمَنْ يَلينَا
فآبُوا بالنِّهابِ وبالسّبَايَا، ... وأُبْنَا بالمُلُوكِ مُصَفَّدِينَا
إلَيْكُمْ يا بَني بَكرٍ إليكُم، ... أَلَّما تَعلَمُوا مِنّا اليَقينَا
أَلّما تَعَلَمُوا منّا ومِنْكُمْ ... كَتَائِبَ يَطّعِنَّ وَيَرْتَمِينَا
نَقُودُ الخَيْلَ داميَةً كِلاها ... إلى الأعداءِ لاحِقَةً بُطُونَا
عَلَينا البَيْض واليَلَبُ اليَماني، ... وأَسيافٌ يَقُمْنَ وَيَنحَنِينَا
علَينا كُلُّ سابِغَةٍ دِلاصٍ، ... تَرَى تحتَ النّجادِ لها غُضونَا
إذا وُضعَتْ عَنِ الأبطالِ يوماً ... رَأَيتَ لها جُلُودَ القَوْمِ جُونَا
كَأنَّ مُتُونَهُنّ مُتُونُ غُدرٍ، ... تُصَفّقُها الرّياحُ إذا جَرينَا
وَتَحمِلُنا غَداةَ الرَّوْعِ جُرْدٌ ... عُرِفنَ لَنَا نَقائِذَ وافْتُلينَا
وَرَدْنَ دَوارِعاً وَخَرَجْنَ شُعثاً ... كَأَمْثَالِ الرّصائِعِ قَد بَلينَا
ورِثناهُنّ عَن آبَاءِ صِدْقٍ ... وَنُورِثُها إذا مِتْنَا بَنِينَا
وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُن غيرَ فَخْرٍ، ... إذا قُبَبٌ بِأَبْطَحِهَا بُنِينَا
بِأَنَّا العاصِمُونَ، إذا أُطِعنا، ... وَأَنَّا الغارِمُونَ، إذا عُصِينَا
وَأَنَّا المُنْعِمُونَ، إذا قَدَرْنَا، ... وَأَنّا المُهْلِكُونَ، إذا أُتِينَا
وَأَنّا الحاكِمُونَ بما أَرَدْنا، ... وأَنّا النّازِلونَ بِحَيْثُ شَينَا
وَأَنّا التّارِكُونَ لِمَا سَخِطنا، ... وَأَنّا الآخِذُونَ لِمَا هَوِينَا

وَأَنّا الطّالِبونَ، إذا نَقَمنا، ... وأَنّا الضّارِبُونَ، إذا ابتُلينَا
وأَنّا النّازِلُونَ بِكُلّ ثَغْرٍ ... يَخَافُ النّازِلُونَ بِهِ المَنُونَا
وَنشْرَبُ، إنْ وَرَدْنا، الماءَ صَفواً، ... وَيَشْرَبُ غَيْرُنا كَدَراً وطِينَا
أَلا سائلْ بَني الطّمَّاحِ عَنّا، ... وَدُعمِيّاً فَكَيْفَ وَجَدْتُمُونَا؟
نَزَلْتُمْ مَنزِلَ الأضيافِ مِنَّا، ... فَعَجَّلنا القِرَى أَنْ تَشتِمُونَا
قَرَيناكُمْ، فَعَجَّلْنا قِراكُمْ، ... قُبَيلَ الصُّبحِ مِرْدادةً طَحُونَا
متى نَنقُلْ إلى قومٍ رَحَانَا، ... يكونوا في اللِّقاءِ لَهَا طَحِينَا
يَكُونُ ثِفالُها شَرْقيَّ نَجْدٍ، ... ولهُوَتُها قُضاعَةَ أَجْمعِينَا
على آثارِنا بِيض حِسَانٌ ... نُحاذِرُ أَنْ تُفارِقَ، أَو تَهُونَا
ظَعائنُ مِنْ بَني جُشَمِ بنِ بكرٍ ... خَلَطَنَ لِميسَمٍ حَسَباً ودِينَا
أَخَذْنَ على فَوارِسِهنّ عَهداً ... إذا لاقَوا فَوارِسَ مُعلِمِينَا
لَيَسْتَلِبُنَّ أَبداناً وَبِيضاً، ... وَأَسْرَى في الحَديدِ مُقَرَّنينَا
إذا ما رُحْنَ يَمْشِينَ الهُوَيْنَى، ... كَما اضطَرَبَتْ مُتُونُ الشّارِبينَا
يَقُتْنَ جِيادَنا، وَيَقُلْنَ لَستُمْ ... بُعُولَتَنا إذا لَمْ تَمْنَعُونَا
إذا لَمْ نَحْمِهِنَّ، فَلا بَقينَا ... لِشَيءٍ بَعْدَهنّ، وَلا حَيِينَا
وما مَنَع الظَّعائنَ مِثلُ ضرْبٍ ... تَرَى منهُ السَّواعِدَ كالقُلِينَا
إذا ما المَلْكُ سامَ النَّاسَ خَسفاً ... أَبَينا أَنْ نُقِرَّ الخَسَفَ فينَا
أَلا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا، ... فَنَجهَلَ فوقَ جَهلِ الجاهِلينَا
وَنَعدو حَيْثُ لا يُعْدَى عَلَينا، ... ونَضرِبُ بالمَواسي مَنْ يَلينَا
أَلا لا يَحْسَبِ الأعداءُ أَنَّا ... تَضعضعنا، وأَنَّا قَد فَنِينَا
تَرانا بارِزِينَ، وكلُّ حيٍ ... قَدِ اتَّخَذَوا مَخَافَتَنا قَرِينَا
كَأَنّا، والسّيُوفُ مُسَلَّلاتٌ، ... وَلَدْنا النّاسَ طُرّاً أَجمَعِينَا
مَلأْنا البَرَّ حتى ضاقَ عَنّا، ... كَذاك البَحرَ نَملَؤهُ سَفِينَا
إذا بَلَغَ الفِطَامَ لَنا رَضيعٌ، ... تَخِرُّ لَهُ الجَبابرُ ساجِدينَا
لَنَا الدُّنيا، وَمَنْ أَضحَى عَلَيها، ... ونَبطِشُ حينَ نَبطِشُ قَادِرِينَأ
تَنادَى المُصعَبانِ وآلُ بَكْرٍ، ... ونادَوا يا لَكِندَةَ أَجْمَعِينَا
فإنْ نَغْلِبْ، فغَلاَّبُونَ قِدْماً، ... وَإنْ نُغلَبْ، فَغَيْرُ مُغَلَّبينَا

معلقة طرفة لابن العبد الطويل
لِخَولَةَ أَطْلاَلٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ، ... تَلُوُح كباقي الوَشْمِ في ظاهرِ اليَدِ
وُقُوفاً بها صَحبي عَليّ مَطِيَّهُمْ، ... يَقُولونَ لا تَهلِكْ أَسىً وَتَجلّدِ
كَأَنَّ حُدُوجَ المالِكيّةِ غُدوَةً، ... خَلايا سَفينٍ بالنّواصِفِ مِنْ دَدِ
عَدَوْلِيّةٍ أو مِنْ سَفِينِ ابنِ يامِنٍ ... يَجورُ بها المَلاّحُ طَوْراً وَيَهْتَدي
يَشُقّ حَبابَ الماءِ حَيزُومُها بِهَا ... كما قَسَمَ التُّرْبَ المُفائِلُ باليَدِ
وفي الحَيّ أَحْوَى يَنفُضُ المَرْدَ شادنٌ ... مُظاهِرُ سِمطَيْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدِ
خَذُولٌ تُراعي رَبْرَباً بِخَميلَةٍ ... تَنَاوَلُ أَطْرَافَ البَريرِ وَتَرْتَدِي

وَتَبسِمُ عَنْ أَلْمى كَأَنَّ مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرّملِ، دِعصٍ لهُ نَدِ
سَقَتْهُ إياهُ الشّمسَ إلاّ لِثاتِهِ ... أُسِفّ، ولم تَكْدِمْ عَلَيهِ بِإِثْمِدِ
وَوَجهٌ كَأَنَّ الشّمسَ حَلَّتْ رِدَاءَها ... عَلَيْهِ، نَقيُّ اللِّونِ لَمْ يَتَخَدّدِ
وَإنيّ لأُمضِي الهَمّ عِنْدَ احْتِضارِهِ، ... بِهَوجَاءَ مِرقالٍ تَرُوحُ وَتَغْتَدِي
أَمُونٍ كأَلواحِ الإِرَانِ نَسَأْتُها ... على لاحِبٍ، كَأَنّهُ ظَهْرُ بُرْجُدِ
جَمالِيَّةٍ، وَجَناءَ تَرءدي كَأَنَّها ... سَفَنَّجَةٌ تَبري لأَزْعَرَ أَرْبَدِ
تُباري عِتاقاً ناجِياتٍ، وَأَتبَعَتْ ... وظيفاً وَظيفاً فَوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
تَرَبّعَتِ القُفَّينِ في الشَّوْلِ تَرتَعي ... حَدائِقَ مَوليِّ الأسِرّةِ أَغْيَدِ
تَريعُ إلى صَوتِ المُهيبِ، وَتَتَّقي ... بذي خُصَلٍ رَوْعَاتِ أَكْلَفَ مُلْبِدِ
كَأَنّ جَنَاحَيْ مَضْرَحيّ تَكَنّفَا ... حِفافَيْهِ شُكّا في العَسيبِ بِمسْرَدِ
فَطَوراً بهِ خَلفَ الزَّمِيلِ، وتارَةً ... على حَشَفٍ كالشَّنّ ذاوٍ مُجَدَّدِ
لها فَخِذانِ أُكْملَ النَّحضُ فِيهِما، ... كأَنّهُما بابا مُنيفٍ مُمَرَّدِ
وطَيُّ مَحالٍ كالحَنيّ خُلُوفُهُ، ... وأجْرِنَةٌ لُزّتْ بدأيٍ مُنَضَّدِ
كَأَنّ كِناسَيْ ضَالَةٍ يَكْنُفانِها، ... وَأَطْرَ قِسيٍ تَحْتَ صُلبٍ مُؤَيَّدِ
لَهَا مِرْفَقَانِ أَفْتَلانِ كَأَنَّها ... تَمُرُّ بِسَلْمَيْ دالِجٍ مُتَشَدِّدِ
كَقَنْطَرَةِ الرّوميّ أَقْسَمَ رَبُّها، ... لَتُكْتَنَفَنْ حتى تُشَادَ بِقَرْمَدِ
صُهابيّةُ العُثْنُونِ، مُوجَدَةُ القَرَا، ... بَعيدَةُ وَخْدِ الرِّجلِ، مَوّارَةُ اليَدِ
جَنُوحٌ دِفاقٌ عَنْدَلٌ ثُمّ أُفْرِعَتْ ... لَهَا كَتِفاها في مُعالىً مُصَعَّدِ
أُمِرّتْ يَداها فَتلَ شَزْرٍ وأُجنِحَتْ ... لَهَأ عَضُداها في سَقيفٍ مُسَنَّدِ
كأَنّ عُلُوبَ النِّسْعِ في دَأياتِها، ... مَوارِدُ مِنْ خَلقاءَ في ظَهرِ قَرْدَدِ
تَلاقَى، وأَحياناً تَبينُ، كأنّها ... بَنائِقُ غُرٌّ في قَميصٍ مُقَدَّدِ
وَأَتْلَعُ نَهَّاضٌ، إذا صَعّدَتْ بِهِ، ... كسُكّانِ بُوصيّ، بدِجلَةَ مُصعِدِ
وجُمجُمَةٌ مِثلُ العَلاةِ، كَأنّما ... وَعَى المُلتَقَى منها إلى حَرْفِ مِبرَدِ
وَخَدٌّ كَقِرْطَاسِ الشّامي ومِشفَرٌ ... كَسِبتِ اليَماني قَدُّهُ لمْ يُجَرَّدِ
وعَينانِ كالمَاوِيّتَينِ، استَكَنَّتَا ... بكَهْفَيْ حِجَاجَيْ صَخْرَةٍ قَلتِ مَوْرِدِ
طَحُوران عُوّارَ القَذَى، فَتراهُما ... كَمَكحُولَتَيْ مَذعورَةٍ أُمِّ فَرْقَدِ
وصادِقَتا سَمعِ التّوجّسِ بالسُّرَى، ... لِهَمْسٍ خَفيٍ، أَوْ لِصَوْتٍ مُنَدِّدِ
مُؤْلَّلَتانِ، تَعرِفُ العِتْقَ فيهِما، ... كَسَامِعَتيْ شاةٍ بِحَوْمَلَ مُفرَدِ
وَأَرْوَعُ نَبّاضٌ، أَحَذُّ، مُلَملَمٌ، ... كَمِرْداةِ صَخْرٍ في صَفيحٍ مُصَمَّدِ
وإن شِئْتُ سامَى واسطَ الكُورِ رأسُها ... وعامَتْ بضَبيعَيها نَجاءَ الخَفَيْدَدِ
وإن شئتُ لم تُرْقِلْ وإن شِئْتُ أَرْقَلَتْ ... مَخَافَةَ مَلوِيٍ مِنَ القَدّ مُحَصَدِ
وَأَعلَمُ مَخرُوطٌ مِنَ الأنفِ مَارِنٌ، ... عَتيقٌ متى تَرْجُم به الأرضَ تَزْدَدِ

إذا أَقْبَلَتْ قالُوا تَأخّرَ رَحْلُها ... وإنْ أَدْبَرَتْ قالُوا تَقَدّمَ فاشْدُدِ
وتُضْحي الجبَالُ الغُبْرُ خَلفي كَأنّها ... منَ البُعْدِ حُفّتْ بالمُلاءِ المُعَضَّدِ
وَتَشْرَبُ بالقَعْبِ الصّغِيرِ وإنْ تُقَدْ ... بِمشْفَرِهَا يَوْماً إلى اللّيلِ تَنْقَدِ
على مِثلِها أَمضي، إذا قالَ صاحبي ... أَلا لَيتَني أَفديكَ مِنها وَأَفْتَدِي
وجاشَتْ إلَيهِ النَّفسُ خَوْفاً وَخَالَهُ ... مُصاباً ولو أَمسىَ على غَيرِ مَرْصَدِ
إذا القومُ قالوا مَن فتىً؟ خِلتُ أَنَّني ... عُنيتُ، فَلَمْ أَكْسَلْ ولم أَتَبَلَّدِ
أَحَلْتُ عَلَيْهَا بالقَطِيعِ، فأَجْذَمَتْ ... وَقَدْ خَبَّ آلُ الأمعَزِ المُتَوقَّدِ
فَذَالَتْ كما ذَالَتْ وَلِيدَةُ مَجْلِسٍ، ... تُرِي رَبَّها أَذْيَالَ سَحْلٍ مُمَدَّدِ
ولَسْتُ بِحَلاَّلِ التّلاعِ مَخَافَةً، ... ولكِنْ متى يَسترْفِدِ القومُ أَرفِدِ
وإنْ تَبغني في حَلَقَةِ القَوْمِ تَلْقَني، ... وإنْ تَقتَنِصْني في الحَوانيتِ تَصطدِ
متى تأتِين أُصْبَحْكَ كَأْساً رَوِيّةً، ... وإنْ كنتَ عَنْهَا غانِياً فاغنَ وازْدَدِ
وإنْ يَلتَقِ الحَيُّ الجَميعُ تُلاقِني ... إلى ذِرْوَةِ البَيتِ الرَّفيِعِ المُصمَّدِ
نَدامايَ بِيضٌ كَالنُّجومِ، وَقَينَةٌ ... تَرُوحُ عَلَينا بَيْنَ بُرْدٍ وَمُجسَدِ
إذا رَجَّعَتْ في صَوتِهَا خِلْتَ صَوْتَها ... تَجَاوُبَ أَظْآرٍ على رُبَعٍ رَدِ
إذا نحنُ قُلْنا أَسْمِعينا انْبَرَتْ لَنا ... على رِسْلِها مَطْرُوقَةً لم تَشَدَّدِ
رَحيبٌ قِطابُ الجَيبِ منها رَفيقَةٌ، ... لِجَسّ النّدامَى، بَضّةُ المُتَجَرَّدِ
وما زالَ تَشرابي الخُمُورَ ولَذّتي، ... وبَيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلَدِي
إلى أَنْ تَحامَتني العَشِيرةُ كلُّها ... وأُفرِدْتُ إفرادَ البَعيرِ المُعَبَّدِ
رأيتُ بَني غَبراءَ لا يُنكِرُونَني ... ولا أَهْلُ هذاكَ الطِّرافِ المُمَدَّدِ
ألا أيّهذا اللاّئِمي أحْضُرَ الوَغَى، ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذاتِ هل أنتَ مُخلدِي
فإنْ كُنْتَ لا تَسْطيعُ دَفعَ مَنيَّتي، ... فَدَعْني أُبادِرُهَا بِمَا مَلَكَتْ يَدِي
فَلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشَةِ الفَتى ... وَجَدِّكَ لم أَحْفِلْ متى قامَ عُوَّدي
فَمِنْهُنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَرْبَةٍ، ... كُمَيتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وَكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحَنَّباً، ... كَسِيْدِ الغَضا نبَّهْتَهُ المُتَوَرِّدِ
وَتقصِيرُ يوم الدَّجنُ مُعُجِبٌ ... بِبَهكَنَةٍ تَحْتَ الطُرافِ المُعَمَّدِ
كَأَنّ البُرِينَ والدَّماليجَ عُلّقَتْ ... على عُشَرٍ، أَو خِرْوَعٍ لم يُخَضَّدِ
فَذَرْنِي أُرَوِّ هامَتي في حَياتِها، ... مَخَافَةَ شِرْبٍ في الحَياةِ مُصَرِّدِ
كَرِيمٌ يُرَوِّي نَفْسَهُ في حَياتِهِ،سَتَعْلَمُ إنَّ مُتَناً غَداً أَيُّنَا الصَّدِي
أَرَى قَبْرَ نَحَّامٍ بَخِيلٍ بَخيلٍ بِمَالِهِ،كَقَبْرِ عَوِيٍ في البِطَالَةِ مُفْسِدِ
تَرَى جُثوَتَينِ مِنْ تُرابٍ، عَلَيهِما ... صَفايحُ صُمٌّ مِنْ صَفيحٍ مُنَضَّدِ
أرى المَوتَ يَعتامُ الكِرامَ ويَصطَفي ... عَقيلَةَ مالِ الفاحِشِ المُتَشَدِّدِ
أَرَى المَوْتَ أعْدَادَ النّفوسِ ولا أَرَى ... بعيداً غداً ما أَقْرَبَ اليَوْمَ من غَدِ
أَرى الدَّهرَ كَنزاً ناقصاً كلَّ لَيلَةٍ، ... وما تَنْقُصِ الأيَّامُ والدَّهرُ يَنفَدِ

لَعَمرُكَ! إنَّ المَوتَ ما أَخطأَ الفتى، ... لكالطِّوَلِ المُرْخَى وثِنياهُ باليَدِ
إذا شاءَ يَوْماً قادَهُ بِزِمامِهِ ... ومَنْ يَكُ في حَبْلِ المَنيّةِ يَنْقَدِ
فَما لي أراني وابنَ عَمّيَ مالِكاً، ... متى أَدْنُ منهُ يَنْأَ عَني ويَبْعُدِ؟
يَلُومُ وما أدري عَلامَ يَلُومُني، ... كما لامَني في الحَيِّ قُرْطُ بنُ معبَدِ
وَأَيأَسَني مِنْ كلِّ خَيرٍ طَلَبتُهُ، ... كأَنّا وَضَعناهُ إلى رَمْسِ مُلْحَدِ
على غَيرِ ذَنْبٍ قُلتُهُ غَيرَ أَنَّني ... نَشَدْتُ فلَم أُغفِلْ حَمُولَةَ مَعبَدِ
وَقَرّبْتُ بالقُرْبَى، وَجَدِّكَ إنّني ... مَتى يَكُ أَمْرٌ للنّكيثَةِ أَشْهَدِ
وإنْ أُدْعَ في الجُلّى من حُماتِها ... وإنْ يَأْتِكَ الأعداءُ بالجَهدِ أَجهَدِ
وإنْ يَقذِفوا بالقَذِعِ عِرْضَك أَسْقِهِمْ ... بكأسِ حِياضِ المَوتِ قبلَ التّهدّدِ
بلا حَدَثٍ أَحْدَثتُهُ، وكَمُحْدِثٍ ... هِجائي وقَذْفي بالشّكاةِ ومُطرَدِي
فَلَوْ كانَ مَولايَ امرأً هُوَ غَيرُهُ، ... لَفَرّجَ كَرْبي أَوْ لأنظَرني غَدِي
ولكِنَّ مَولايَ امرُؤٌ هُوَ خانِقي، ... على الشّكرِ والتّسآلِ أَو أَنا مُفتَدِي
وظُلمُ ذَوي القُرْبَى أَشَدّ مَضاضَةً ... على المَرءِ مِنْ وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
فَذَرْني وخُلقي إنّني لكَ شَاكِرٌ، ... وَلَو حَلَّ بَيتي نائياً عِندَ ضَرْغَدِ
فَلَوْ شَاءَ رَبيّ كنتُ قَيسَ بنَ خالِدٍ ... ولو شاءَ رَبيّ كنتُ عَمرَو بنَ مَرْثدٍ
فأُلفيتُ ذا مالٍ كَثيرٍ وعادَني ... بَنُونَ كِرامٌ سادَةٌ لِمُسَوَّدِ
أَنا الرَّجلُ الضَّربُ الذي تَعرِفُونَهُ، ... خَشاشٌ كَرَأسِ الحَيّةِ المُتَوَقِّدِ
فآلَيتُ لا يَنفَكُّ كَشحي بِطانَةً، ... لِعَضْبِ رَقيقِ الشّفرتَينِ مُهَنّدِ
حُسامٍ! إذا ما قُمتُ مُنتَصِراً بهِ، ... كَفَى العَودَ منهُ البَدءُ ليس بِمعضَدِ
أخي ثِقَةٍ لا يَنثَني عَنْ ضَريبَةٍ ... إذا قيلَ مَهلاً قالَ حاجزُهُ: قَدِي
إذا ابْتَدَرَ القَوْمُ السّلاحَ وَجَدْتني ... مَنيعاً إذا بَلَّتْ بِقائِمِهِ يَدي
وبَرْكٍ هُجُودٍ قد أَثَارَتْ مَخَافتي ... بَوَاديهَا أَمشي بعَضْبٍ مُجَرَّدِ
فَمَرّتْ كَهاةٌ ذاتُ خَيفٍ جُلالَةٌ ... عَقيلَةُ شَيخٍ كالوَبِيلِ يَلَنْدَدِ
يَقُولُ، وقَد تَرَّ الوَظيفُ وساقُها: ... أَلَستَ تَرى أن قَدْ أَتَيْتَ بمُؤيِدِ
وقال: أَلا ماذا تَرَونَ بشارِبٍ، ... شَديدٍ عَلينا بَغيُهُ مُتَعمِّدِ
وقال: ذَرُوهُ إنّما نَفعُها لَهُ، ... وإلاّ تَرُدُّوا قاصيَ البَرْكِ يَزْدَدِ
فَظَلَّ الإِماءُ يَمتَلِلْنَ حُوارَها، ... ويُسعَى عَلَينا بالسَّدِيفِ المُسَرْهَدِ
فإنْ مُتُّ فانعَيني بما أنا أهلُهُ، ... وشُقِّي عَليَّ الجَيبَ يا ابنَةَ مَعبَدِ
ولا تَجعَليني كامرىءٍ لَيسَ هَمُّهُ ... كَهَمِّي ولا يُغني غَنائي ومَشهَدِي
بَطِيءٍ عَنِ الجُلَّى، سَريعٍ إلى الخَنا، ... ذَليلٍ بأَجْمَاعِ الرِّجالِ مُلَهَّدِ
فَلَوْ كنتُ وَإلاً في الرِّجالِ لضَّرني ... عَداوَةُ ذي الأصحابِ والمُتوَحِّدِ
ولكِنْ نَفَى عَنِّي الأعادي جَراءتي ... عَلَيهم وإقدامي وصِدْقي ومَحتدي
لَعَمرُكَ ماأَمْري عليَّ بغُمَّةٍ ... نَهاري، ولا لَيلي عَليَّ بِسَرْمَدِ

ويَومٍ حَبَستُ النَّفسَ عندَ عِراكِهِ ... حِفاظاً على عَوراتِهِ والتَّهَدُّدِ
على مَوطِنٍ يَخشَى الفتى عندَهُ الرَّدى ... مَتى تَعترِكْ فيهِ الفَرائصُ تُرْعَدِ
أَرى الموتَ لا يرعى على ذي جلالةٍ ... وإنْ كان في الدُّنيا عزيزاً بِمقْعَدِ
وأَصفَرَ مَضبُوحٍ نَظَرتُ حِوارَهُ ... على النَّارِ واستوْدَعتُه كَفَّ مُجمِدِ
ستُبدي لكَ الأيّامُ ما كنتَ جاهِلاً، ... وَيَأْتيكَ بالأخبارِ مَنْ لَمْ تُزَوَّدِ
ويأتيكَ بالأنباءِ مَنْ لَمْ تَبِعْ لَهُ ... بَتاتاً ولم تَضرِبْ لهُ وَقتَ مَوعِدِ
لَعَمرُكَ ما الأيّامُ إلاّ مُعارَةٌ، ... فما اسْطَعْتَ مِن مَعرُوفِها فَتَزوّدِ
ولا خيرَ في خيرٍ تَرَى الشَّرَّ دُوْنَهُ ... ولا نائلٌ يأْتيكَ بَعْدَ التَّلدُّدِ
عَنِ المَرْءِ لا تَسْأَلْ وَأَبصِرْ قَرينَهُ ... فإنَّ القَرينَ بالمُقارِنِ مُقتَدِ
لَعَمرُكَ ما أَدري وإنّي لَواجِلٌ ... أَفي اليَومِ إقْدامُ المَنيّةِ أَمْ غَدِ
فإنْ تَكُ خَلفي لا يَفُتها سَوادِيا، ... وإنْ تَكُ قُدّامي أَجِدْها بِمَرْصَدِ
إذا أَنتَ لم تَنفَعْ بوُدِّكَ أَهْلَهُ، ... ولم تَنْكِ بالبُؤسىَ عَدوَّكَ، فابْعَدِ

عنترة بن شداد الكامل
هَلْ غَادَرَ الشّعراءُ مِنْ مُتَرَدَّمِ؟ ... أَمْ هَلْ عَرَفتَ الدّارَ بَعدَ تَوَهّمِ؟
إلاّ رواكِدَ بَيْنَهُنّ خَصائِصٌ ... وبَقيّةٌ مِنْ نُؤيِها المُجْرَنْثِمِ
دارٌ لآِنِسَةٍ غَضيضٍ طَرْفُها ... طَوْعِ العِنانِ لَذيذَةِ المُتَبَسِّمِ
يا دارَ عَبلَةَ بالجِواءِ تَكَلّمي، ... وَعِمي صَباحاً دارَ عبلةَ واسلَمي
فَوقَفتُ فيها ناقَتي وكأَنّها ... فَدَنٌ لأقضِيَ حاجَةَ المُتَلوِّمِ
وتَحُلّ عَبلةُ بالجواءِ، وأَهْلُنا ... بالحَزْنِ فالصَّمّانِ فَالمُتَثَلَّمِ
وَتَظلّ عَبْلَةُ في الخُزُوزِ تَجُرّها ... وَأَظَلّ في حَلَقِ الحَديدِ المُبْهَمِ
حُييّتَ مِنْ طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ ... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمّ الهَيثَمِ
حَلّتْ بأرْضِ الزّائرينَ، فأَصْبَحَتْ ... عَسِراً عليّ طِلابُكِ ابنةَ مَخْرَمِ
عُلِّقْتُها عَرَضاً وأقتُلُ قَوْمَها ... زَعْماً لَعَمرُ أبيكَ لَيْسَ بِمَزْعَمِ
وَلَقَدْ نَزَلتِ، فلا تَظُنّي غَيرَهُ، ... منّي بِمَنزِلَةِ المُحَبِّ المُكرَمِ
أنّي عَداني أَنْ أَزورَكِ فاعْلَمي ... ما قَدْ عَلِمتِ وبعضَ ما لم تَعْلَمي
حالَتْ رِماحُ بَني بَإيضٍ دونَكُمْ ... وزوت جوابي الحْرب مَنْ لم يُجرِمِ
يا عَبْلَ لَوْ أَبْصَرْتِني لرأيتني ... في الحربِ أُقدِمُ كالهزْبرِ الضّيغمِ
كَيفَ المَزارُ وقد تَرَبّعَ أهلُها ... بعُنَيزَتَينِ، وأهلُنا بالغَيلَمِ
إن كُنتِ أَزْمعتِ الفِراقَ، فإنّما ... زُمّتْ رِكابُكُمُ بِلَيْلٍ مُظلمِ
ما راعَني، إلاّ حَمُولَةُ أهلِها ... وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمخِمِ
فيها اثنَتانِ وأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً، ... سُوداًَ كخافيَةِ الغُرابِ الأسْحَمِ
فصِغارُها مثْلُ الدّبَى وكِبارُها ... مثل الضّفادعِ في غَديرٍ مُفْعَمِ
ولقد نَظَرْتُ غَداةَ فارَقَ أَهْلُها ... نَظَرَ المُحِبّ بِطرْفِ عَيْنَيْ مُغرَمِ
وأُحبّ لوْ أُسقيكِ غيرَ تَمَلّقٍ ... واللَّهُ مِنْ سَقَمٍ أَصَابكِ من دَمِ
إذْ تَستَبيكَ بذي غُرُوبٍ واضحٍ، ... عَذْبٍ مُقَبَّلُهُ، لَذيذِ المَطعَمِ

وكأنّ فارَةَ تاجِرٍ بقَسيمَةٍ، ... سَبَقَتْ عَوارِضَها إليَكَ من الفَمِ
أو رَوضَا أُنُفاً تَضَمّنَ نَبتَها ... غَيثٌ قليلُ الدِّمنِ، لَيسَ بمعَلَمِ
نَظرَتْ إلَيْهِ بِمُقْلَةٍ مَكْحُولَةٍ ... نَظَرَ المَليلِ بطَرْفِهِ المُتَقَسِّمِ
وبحاجِبٍ كالنُّونِ زَيَّنَ وَجْهَهَا ... وبناهِدٍ حَسَنٍ وكَشحٍ أَهْضَمِ
ولقد مَرَرْتُ بدارِ عَبْلَةَ بَعدَمَا ... لَعِبَ الرَّبيعُ برَبْعِها المُتَوسّمِ
جادَتْ عَلَيهِ كلُّ بِكْرٍ حُرّةٍ ... فَتَركنَ كلّ قَرارَةٍ كالدّرْهَمِ
سَحّاً وتَسكاباً، فكُلَّ عَشِيّةٍ ... يَجري عليها المَاءُ لَمْ يَتَصَرّمِ
خَلا الذُّبابُ بها، فَلَيسَ ببارِحٍ، ... غَرِداً كَفعلِ الشّارِبِ المُتَرَنَّمِ
هَزِجاً يَحُكُّ ذِراعَهُ بذِراعِهِ، ... قَدْحَ المُكِبِّ على الزّنَادِ الأجْذَمِ
تُمسي وتُصبِحُ فَوقَ ظَهرِ حَشِيّةٍ ... وَأَبيتُ فَوقَ سَراةِ أَدْهَمَ مُلجَمِ
وحَشيّتي سَرْجٌ على عَبْلِ الشَّوَى ... نَهدٍ مَراكِلُهُ، نَبيلِ المَحْزِمِ
هَلْ تُبلِغَنّي دارَها شَدَنِيَّةٌ، ... لُعِنَتْ بِمَحْرُومِ الشّرابِ مُصَرَّمِ
خَطّارَةٌ غِبَّ السُّرَى، زَيّافَةٌ، ... تَطِسُ الإِكَامَ بذاتِ خُفٍ مِيثَمِ
وكأنّما أقِصُ الإِكامَ عَشِيّةً ... بقَريبِ بَينض المَنسِمَينِ مُصَلَّمِ
تَأْوِي لَهُ قُلُصُ النّعامِ كما أَوَتْ ... حِزَقٌ يَمانيةٌ لأَعْجَمَ طِمْطِمِ
يَتبَعنَ قُلّةَ رأسِهِ، وكأنّهُ ... حِدْجٌ على نَعشٍ لهنّ مُخَيَّمِ
صَعْلٍ يَعُودُ بذي العُشَيرَةِ بَيضَهُ، ... كالعَبدِ ذي الفَرْوِ الطّويلِ الأصلَمِ
شَرِبَتْ بِمَاءِ الدُّحرُضَينِ فأَصْبَحَتْ ... زَوْراءَ تَنْفِرُ عَنْ حِياضِ الدَّيْلَمِ
وكَأنما تَنْأَى بِجَانِبِ دَفّها ال ... وَحشيّ مِنْ هَزِجِ العَشيّ مُؤوَّمِ
هِرٍّ جَنيبٍ كلّما عَطَفَتْ لَهُ ... غَضبَى اتّقاها باليَدَينِ وبالفَمِ
أَبْقَى لها طُولُ السّفارِ مُقَرْمَداً، ... سَنَداً، ومِثلَ دَعائِمِ المُتَخَيِّمِ
بَرَكَتْ على ماءِ الرِّداعِ كَأنما ... بَرَكتْ على قَصَبٍ أَجَشَّ مُهَضَّمِ
وكأَنّ رُبّاً أو كُحَيلاً مُعقَداً ... حِشَّ الوَقُودُ بِهِ جَوانِبَ قُمقُمِ
يَنباعُ مِنْ ذِفَري غَضُوبٍ جَسرَةٍ، ... زَيّافَةٍ، مِثلَ الفَنيقِ المُكَدَمِ
إنْ تُغدِفي دثوني القِنَاعَ، فَأنّني ... سَهلٌ مُخَالَقَتي، إذا لَمْ أُظْلَمِ
أثني عَليّ بِمَا عَلِمتِ، فإنّني ... طَبٌّ بِأَخْذِ الفارِسِ المُستَلْئِمِ
فإذا ظُلِمتُ فإنَّ ظثلمَيَ باسِلٌ ... مُرٌّ مَذَاقَتُهُ كَطَعْمِ العَلْقَمِ
وَلَقَدْ أَبِيتُ على الطّوَى وأَظَلُّهُ ... حَتّى أَنَالَ بِهِ لَذيِذَ المَطْعَمِ
وَلَقَدْ شَرِبْتُ مِنَ المُدَامَةِ بَعْدَمَا ... رَكَدَ الهَواجِرُ بِالمَشُوفِ المُعَلَمِ
بِزُجاجَةٍ صَفْرَاءَ ذاتِ أسِرَّةٍ، ... قُرِنَتْ بِأَزْهَرَ في الشِّمالِ مُفَدَّمِ
فإذا شَرِبْتُ فإنّني مُسْتَهلِكٌ ... مالي وعِرضِي وافِرٌ لَمْ يُكَلَمِ
وإذا صَحَوْتُ فَمَا أُقَصِّرُ عن نَدىً ... وكَمَا عَلِمْتِ شَمائِلي وَتَكَرُّمي
وحَليلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلاً، ... تَمكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ
سَبَقَتْ يَدايَ لَهُ بِعَاجِلِ ضَرْبَةٍ ... وَرَشاشِ نافِذَةٍ كَلَونِ العَنْدَمِ

هَلاّ سَأَلْتِ الخَيْلَ يا ابنَةَ مالِكٍ ... إنْ كُنْتِ جاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمي
لا تَسْأليني واسألي في صُحْبَتي ... يَمْلأْ يَدَيْكِ تَعَفُّفي وتكَُّمي
إذْ لا أزالُ على رِحَالَةِ سابِحٍ، ... نَهدٍ، تعاوَرُهُ الكُماةُ مُكَلَّمِ
طَوراً يُجَرَّدُ للطَعانِ وتارَةً ... يَأْوي إلى حَصِدِ القِسيّ عَرَمْرَمِ
يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقيعَةَ أنّني ... أَغشَى الوَغَى، وأَعفُّ عندَ المَغنَمِ
ومُدَحَّجٍ كَرهَ الكُماةُ نِزالَهُ، ... لا مُمعِنٍ، هَرَباً ولا مُستَسْلِمِ
جَادَتْ يَدايَ لَهُ بِعَأجِلِ طَعْنَةٍ ... بِمُثَقَّفٍ صَدْقٍ الكُعُوبِ مُقَوَّمِ
بِرَحِيبَةِ الفَرغَينِ يَهْدي جَرْسُها ... باللّيلِ مُعتَسَّ الذّئابِ الضُّرَّمِ
فشَكَكْتُ بالرّمْحِ الأصَمّ ثِيابَهُ، ... لَيْسَ الكَريمُ على القَنَا بِمُحَرَّمِ
فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السِّباعِ يَنُشَنهُ، ... ما بَيْنَ قُلّةِ رَأْسِهِ والمِعْصَمِ
ومِشَكِّ سابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَها ... بالسّيْفِ عن حامي الحَقِيقَةِ مُعَلِمِ
رَبِذٍ يَداهُ بالقِداحِ، إذا شَتَا، ... هَتّاكِ غَايَاتِ التِّجَارِ مُلَوَّمِ
لَمّا رَآني قَدْ نَزَلْتُ أُرِيدُهُ، ... أَبدَى نَواجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسّمِ
فَطَعَنْتُهُ بالرّمْحِ، ثمّ عَلَوْتُهُ ... بِمُهَنَّدٍ صافي الحَديدةِ، مِخذَمِ
عَهدي بِهِ مَدَّ النّهارِ، كَأنّما ... خُضِبَ البَنانُ ورأَسُهُ بالعِظِلِمِ
بَطَلٍ كأنّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ، ... يُحذَى نِعالَ السِّبتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ
وَلَقَد ذَكَرْتُكِ والرّمَاحُ نَواهِلٌ، ... مِنّي وبِيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دَمي
فَوَدِدْتُ تَقبيلَ السّيُوفِ لأنّها ... لَمَعَتْ كَبَارِقِ ثَغْرِكِ المُتَبَسِّمِ
يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لهُ ... حَرُمَتْ عَليّ، وَلَيْتَها لم تَحْرُمِ
فَبَعَثْتُ جَاريتي فقُلْتُ لها اذهبي ... فَجَسّسي أَخبارَها ليَ واعلَمي
قالَتْ: رَأَيْتُ مِنَ الأعادي غِرّةً، ... والشّاةُ مُمكِنَةٌ لِمَنْ هُوَ مُرْتَمِ
وكَأنّما التَفَتَتْ بِجيدِ جَدَايَةٍ، ... رَشَأٍ مِنَ الغِزْلاَنِ، حُرٍ أَرْثَمِ
نُبّئْتُ عَمْراً غيرَ شاكِرِ نِعْمَتي ... والكُفرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ المُنْعِمِ
ولَقَدْ حَفِظْتُ وَصَاةَ عَمّي بالضّحى ... إذ تَقلِصُ الشّفتَانِ عن وَضَحِ الفَمِ
في حَوْمَةِ المَوتِ التي لا تَشتكي ... غَمراتِها الأبطالُ غيرَ تَغمغُمِ
إذْ يتّقُونَ بيَ الأسِنّةَ لَمْ أَخِمْ ... عَنْهَا ولكنّي تَضايَقَ مُقَدَمي
لَمّا سَمِعْتُ نِداءَ مُرّةَ قَدْ عَلاَ، ... وابْنَيْ رَبِيعَةَ في الغُبَارِ الأُتَمِ
ومُحَلِّمٌ يَسْعَوْنَ تَحْتَ لِوائِهِمْ ... والمَوْتُ تَحْتَ لِواءِ آلِ مُحَلِّمِ
أيْقَنْتُ أَنْ سَيكُونُ عِنْدَ لِقَائِهِمْ ... ضَرْبٌ يَطيرُ عنِ الفِراخِ الجُثَّمِ
لَمّا رأَيْتُ القَوْمَ أَقْبَلَ جَمعُهُمْ ... يَتَذامَرُونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مُذَمَّمِ
يَدْعُونَ عَنْتَرَ، والرّمَاحُ كأنّها ... أَشْطانُ بِئْرٍ في لَبَانِ الأدْهَمِ
كَيْفَ التّقَدّمُ والرّمَاحُ كَأَنّها ... بَرْقٌ تَلألأ في السّحَابِ الأرْكَمِ
كَيْفَ التّقَدّمُ والسّيوفُ كَأَنّها ... غَوغا جَرادٍ في كَثيبٍ أَهْيَمِ

فإذا اشْتَكَى وَقْعَ القَنا بِلَبَانِهِ ... أَدْنَيْتُهُ مِنْ سَلِّ عَضْبٍ مَخْذَمِ
ما زِلْتُ أَرْميهِم بِغُرّةِ وَجْهِهِ ... ولَبَانِهِ حتى تَسَرْبَلَ بالدّمِ
فازْوَرّ مِنْ وَقْعِ القَنَا بلَبَانِهِ ... وشَكَا إليّ بِعَبْرَةٍ وتَحمْحُمِ
لو كانَ يَدْرِي ما المُحَاوَرَةُ اشْتَكَى ... ولَكانَ لو عَلِمَ الكَلامَ مُكَلّمي
آسَيْتُهُ في كُلّ أمْرٍ نَابَنَا ... هَلْ بَعْدَ أَسْوَةِ صاحبٍ من مذممِ
فَتَركْتُ سَيّدَهُمْ لأِوَّلِ طَعْنَةٍ ... يَكْبُو صَريعاً لليَدَيْنِ وللفَمِ
ركّبتُ فيه صَعْدَةً هِنْدِيَّةً ... سَحْمَاءَ تَلْمَعُ ذاتَ حَدٍّ لَهْذَمِ
والخَيْلُ تَقْتَحِمُ الغُبَارَ عَوَابِساً، ... من بَيْنِ شَيْظَمَةٍ، وأَجْرَدَ شَيْظَمِ
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسي وأَبْرَأ سُقمَها، ... قِيْلُ الفَوارِسِ: وَيكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ
ذُلُلٌ رِكابي حَيْثُ شِئْتُ مُشايعي ... قَلبي، وَأَحفِزُهُ بِأَمْرٍ مُبْرَمِ
وَلَقدْ خَشِيتُ بِأَنْ أمُوتَ، ولم تَكُنْ ... للحَرْبِ دائرةٌ على ابنَيْ ضَمضَيم
الشّاتِمَيْ عِرْضِي، ولم أشتِمْهُمَا، ... والنّاذِرَيْنِ إذا لم أَلْقَهُما دَمي
أُسْدٌ عَلَيَّ وفي العَدُوّ أَذِلّةٌ ... هذا لَعَمرُكَ فِعْلُ مولى الأَشْأَمِ
إنْ يَفْعَلاَ فَلَقَدْ تَرَكْتُ أَباهُما ... جَزَرَ السّباعِ، وكلِّ نَسْرٍ قَشعَمِ
ولقَد تَرَكْتُ المُهْرَ يَدْمَى نَحْرُهُ ... حَتى اتّقَتْني الخَيلُ بابني حذْلِمِ
إذْ يُتَّقَى عمرو وَأُذْعِنُ غَدْوَةً ... حَذَرَ الأسِنّةِ إذْ شَرَعْنَ لِدَلْهَمِ
يَحمي كَتيبَته ويَسعَى خَلفَهَا ... يَفري عَواقِبَها كَلَدْغِ الأَرْقَمِ
ولقد كَشَفْتُ الخِدْرَ عنْ مَرْبوبَةٍ ... ولقد رَقَدْتُ على نَواشِرِ مِعصَمِ
ولَرُبَّ يَوْمٍ قد لَهَوْتُ وَلَيْلَةٍ ... بِمسَوّر ذي بارِقَينِ مُسَوّمِ

المجمهرات
مجمهرة عبيد بن الأبرص مجمهرة عدي بن زيد.
مجمهرة بشر بن أبي خازم.
مجمهرة أمية بن أبي الصلت مجمهرة خداش بن زهير مجمهرة النمر بن تولب
مجمهرة عبيد بن الأبرص
أَقْفَر منْ أَهْلِهِ مَلْحُوبُ ... فالقُطَّبِيّاتُ فالذَّنُوبُ
فَرَاكِسٌ فَثُعَيْلِباتٌ ... فَذاتُ فِرْقَينْ فالقَليبُ
فعَرْدَةٌ، فَقَفَا حِبِرٍ، ... لَيْسَ بِهَا مِنْهُمُ عَرِيبُ
وبُدّلَتْ مِنْ أَهْلِها وُحوشاً ... وغَيّرَتْ حَالَها الخُطُوبُ
أرضٌ تَوَارَثُها شَعُوبُ ... وكلّ مَن حَلّها مَحرُوبُ
إمّا قَتيلٌ وإمّا هَالِكٌ، ... والشّيبُ شَينٌ لمن يَشيبُ
عَيْنَاكَ دَمْعُهُما سَرُوبُ ... كأنّ شَانَيْهِما شَعيبُ
واهِيَةٌ أو مَعينٌ مُمعِنٌ ... مِن هَضَبَةٍ دونَها لُهُوبُ
أو فَلَجٌ مَّا ببَطنِ وادٍ ... للماءِ مِنْ تَحتِهِ قَسيبُ
أو جَدْوَلٌ في ظِلالِ نَخلٍ ... للماءِ مِن تَحتِهِ سُكوبُ
تَصبُو وأنّى لكَ التّصابي؟ ... أنّى؟ وقَد راعَك المَشيبُ
إنْ يَكُ حُوّلَ منها أهلُها، ... فَلا بَدِيٌّ ولا عَجِيبُ
أو يَكُ قد أقفَرَ منها جَوّها ... وعادَها المَحلُ والجُدُوبُ
فكلّ ذي نِعْمَةٍ مَخْلُوسٌ ... وكلّ ذي أملٍ مَكذُوبُ
وكلّ ذي إبِلٍ مَوْرُوثٌ، ... وكلّ ذي سَلَبٍ مَسْلُوبُ

وكلّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوبُ، ... وغائِبُ المَوْتِ لا يَؤُوبُ
أَعَاقِرٌ مِثْلُ ذاتِ رِحْمٍ؟ ... أو غانمٌ مِثْلُ مَنْ يَخيِبُ
مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ... وسَائِلُ اللَّهِ لا يَخيبُ
باللَّهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْرٍ، ... والقَوْلُ في بَعْضِهِ تَلغيبُ
واللَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، ... عَلاّمُ ما أخفَتِ القُلُوبُ
أَفْلَحَ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ يُبْلَغُ بال ... ضَّعفِ وقد يُخدَعُ الأرِيبُ
لا يَعظُ النّاسُ من لا يعظُ ال ... دَّهْرُ، ولا يَنْفَعُ التَّلِبيْبُ
إلاّ سَجِيّاتِ ما القُلُوبِ، ... وكَمْ يَصِيرَنّ شانئاً حَبِيبُ
ساعِدْ بِأَرْضٍ إذا كنتَ بها ... ولا تَقُلْ إنّني غَريبُ
قد يُوصَلُ النّازِحُ النّائي وقد ... يُقْطَعُ ذو السُّهْمَةِ القَريبُ
والمَرْءُ ما عاشَ في تكذيبٍ، ... طُولُ الحَياةِ لَهُ تَعْذِيبُ
بَلْ رُبّ ماءٍ وَرَدْتُ آجِنٍ ... سَبِيلُهُ خَائِفٌ جَدِيبُ
رِيشُ الحَمَامِ على أَرجائِهِ ... للقَلبِ مِن خَوفِهِ وَجيبُ
قَطَعْتُهُ غُدْوَةً مُشيحاً، ... وصاحبي بادِنٌ خَبُوبُ
عَيرانَةٌ مُؤجَدٌ فَقَارُها ... كَأَنّ حَارِكَها كَثيبٌ
أَخْلَفَ ما بَازِلاً سَدِيسُها ... لا حِقَّةٌ هيْ، ولا نَيُوبُ
كَأَنَّها مِنْ حَمِيرِ عاناتٍ، ... جَوْنٌ بِصَفْحَتِهِ نُدُوبُ
أو شَبَبٌ يَرْتَعي الرُّخامَى، ... تَلُفّهُ شَمْأَلٌ هَبُوبُ
فذاكَ عَصْرٌ، وقد أراني ... تَحْمِلُني نَهْدَةٌ سُرْحُوبُ
مُضَبَّرٌ خَلْقُها تَضبيراً، ... يَنْشَقُّ عَنْ وَجْهِها السّبيبُ
زَيْتِيّةٌ نائِمٌ عُرُوقُها ... وَلَيّنٌ أَسْرُها رَطِيبُ
كَأَنّها لِقُوَةٌ طَلُوبُ ... تَخِرّ في وَكْرِها القُلُوبُ
باتَتْ على إِرَمٍ عَذُوباً ... كَأَنّها شَيْخَةٌ رَقُوبُ
فأَصْبَحَتْ في غَدَاةِ قِرّةٍ ... يَسْقُطُ عن رِيشِها الضّرِيبُ
فأبصَرَتْ ثَعْلَباً سَريعاً ... ودونَهُ سَبْسَبٌ جَدِيبُ
فَنَفَضَتْ رِيشَهَا وَوَلّتْ، ... فَذَاكَ مِنْ نَهْضَةٍ قَريبُ
فاشتالَ وارْتَاعَ من حَسيسٍ ... وَفِعْلَهُ يَفْعَلُ المَذْؤُوبُ
فَنَهَضَتْ نَحْوَهُ حَثِيثَةً، ... وَحَرَدَتْ حَرْدَهُ تَسيبُ
فَدَبّ مِنْ رَأْيِها دَبيباً، ... والعَيْنُ حِمْلاَقُها مَقْلُوبُ
فأَدْرَكَتْهُ، فَطَرّحَتْهُ ... والصّيدُ من تحتِها مَكْرُوبُ
فَجَدّلَتْهُ فَطَرّحَتْهُ ... فَكَدّحَتْ وَجْهَه الحَبوبُ
فَعَاوَدَتْهُ فَرَفّعَتْهُ ... فَأَرْسَلتْهُ وَهُوَ مَكْرُوبُ
يَضغُو ومِخْلَبُها في دَفّهِ ... لا بُدّ حَيْزُومُه مَنْقُوبُ

مجمهرة عدي بن زيد الطويل
أَتَعْرِفُ رَسْمَ الدّارِ مِنْ أُمّ مَعْبَدِ؟نَعَم! وَرَمَاكَ الشّوْقُ قَبْلَ التّجلُّدِ
ظَلَلْتُ بها أسفي الغَرامَ كَأنّما ... سَقتني النّدامَى شَرْبَةً لم تُصَرَّدِ
فَيا لكَ مِنْ شَوْقٍ وطَائِفِ عبرَةٍ، ... كَستْ جَيْبَ سِربالي إلى غيرِ مُسعِدِيّ
وعاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلٍ تَلُومُني، ... فلَمّا غَلتْ في اللّومِ قُلتُ لها اقصِدِي

أَعَاذِلُ إنّ اللّومَ في غَيرِ كُنْهِهِ ... عليَّ ثَنَى مِنْ غَيّكِ المُتَرَدِّدِ
أَعَاذِلُ إنّ الجَهْلَ من لَذّةِ الفتى، ... وإنّ المَنَايَا للرّجَالِ بِمَرْصَدِ
أَعَاذِلُ ما أَدْنَى الرّشَادَ من الفتى ... وأَبْعَدَهُ مِنْهُ إذا لم يُسَدَّدِ
أَعَاذِلُ مَنْ تُكْتَبْ لَهُ النّارُ يَلْقَهاكِفاحاً، ومن يُكْتَبْ لَهُ الفوزُ يَسْعَدِ
أَعَاذِلُ قد لاقَيْتُ ما يَزَعُ الفتى، ... وطَابَقْتُ في الحِجْلَيْنِ مَشيَ المُقَيَّدِ
أَعَاذِلُ ما يُدْرِيكِ أَنَّ مَنِيّتي ... إلى ساعةٍ في اليَوْمِ أَوْ في ضُحى الغَدِ
ذَرِيني فإنّي إنّما ليَ ما مضَى ... أَمَاميَ من مالي إذا خَفّ عُوّدِي
وحُمّتْ لِميقاتي إليّ مَنيّتي، ... وغُودِرَتُ إنْ وُسِّدْتُ أَوْ لَمْ أُوَسَّدِ
وللوارِثِ الباقي من المالِ فاتْرُكي ... عِتابي فإنّي مُصلِحٌ غَيرُ مُفْسِدِ
أَعَاذِلُ مَن لا يُصْلِحِ النّفْسَ خَالياًعَنِ الحَيّ لاَ يَرْشُدْ لِقَوْلِ المُفَنَّدِ
كَفَى زَاجراً للمَرءِ أَيّامُ دَهْرِهِ، ... تَرُوحُ لَهُ بالوَاعِظَاتِ وَتَغْتَدِي
بُلِيتُ وَأَبْلَيْتُ الرّجَالَ فَأصْبَحَتْسِنُونَ طوالٌ قد أتتْ قَبْلَ بُؤسيَ وأسعُدِ
فَنَفْسَكَ فاحْفَظها عنِ الغَيّ والرّدى ... متى تُغوِها يَغْوَ الذي بِكَ يَقْتَدِي
وإنْ كَانَتِ النّعماءُ عِنْدَكَ لامرِىءٍ ... فَمِثلاً بها فاجْزِ المُطالبَ وازْدَدِ
إذا ما امرُؤٌ لم يَرْجُ منكَ هَوَادَةً ... فَلاَ تَرْجُها منه ولا دَفعَ مَشْهَدِ
وَعَدِّ سواهُ القوْلَ واعْلَمْ بأنّهُ ... متى لا يَبِن في اليَوْم يَصْرِمُكَ في الغد
عَنِ المَرءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلّ قَرِينٍ بالمُقَارِنِ يَقْتَدِي
إذا أنتَ فاكَهْتَ الرّجالَ فلا تُلِعْ ... وقُلْ مِثلَ ما قالوا، ولا تَتَزَيّدِ
إذا أنتَ طالَبْتَ الرّجَالَ نَوَالُهمْ، ... فَعِفَّ، ولا تأتي بجَهْدٍ فَتُنكَدِ
سَتُدْرِكُ من ذي الفُحشِ حقّكَ كُلّه ... بِحِلْمِكَ في رِفْقٍ، وَلَمّا تَشَدَّدِ
وَسائِسُ أمرٍ لَمْ يَسُسْهُ أَبٌ لَهُ، ... وَرَائِمُ أَسبابِ الذي لمْ يُعَوَّدِ
ووارِثُ مَجْدٍ لَمْ يَنَلْهُ، وماجِدٌ ... أَصَابَ بِمَجْدٍ طَارِفٍ غَيْرِ مُتْلَدِ
وَرَاجي أُمُورٍ جَمّةٍ لَنْ يَنَالَها، ... سَتُشعِبُهُ عَنْهَا شَعُوبٌ لِمُلْحَدِ
فَلاَ تُقَصّرَنْ عن سَعي مَن قد وَرِثتَه ... وَمَا اسْتَطعْتَ من خَيرٍ لنفسكَ فازْدَدِ
وبالعدلِ فانطِقْ إن نطَقتَ، ولا تَلُمْ ... وذا الذّمّ فاذمُمهُ، وذا الحمدِ فاحمَدِ
ولا تَلْحِ إلاّ مَنْ أَلامَ ولا تَلُمْ ... وبالبَذْلِ من شَكوَى صَديقِكَ فافتَدِ
عَسَى سائلٌ ذو حاجَةٍ إن مَنَعْتَهُ ... مِنَ اليَوْمِ سُؤالاً أن يُيَسَّرَ في غَدِ
وللخَلقِ إذلالٌ لِمَنْ كَانَ باخِلاً ... ضَنيناً وَمَنْ يَبْخَلْ يُذَلّ ويُزْهَدِ
وللبَخلَةِ الأُولَى لِمَن كانَ بَاخِلاً ... أُعفُ، ومَ،ْ يَبْخَلْ يُلَمْ وَيُزْهَدِ
وأبدَتْ ليَ الأيّامُ والدّهْرُ أَنّهُ ... وَلَوْ حَبّ، مَن لا يُصلحِ المالَ يُفْسِدِ
ولاقَيْتُ لَذّاتِ الغِنَى وأصابَني ... قَوارِعُ مَنْ يَصْبِر عَلَيها يَجْلُدِ
إذا ما تُكُرّهَتِ الخَليقَةُ لامرِىءٍ ... فلا تَغشَها، واخلِدْ سِواها بِمَخْلَدِ
وَمَنْ لَمْ يَكُن ذا ناصرٍ عِنْدَ حَقّهِ ... يُغَلَّبْ عَلَيْهِ ذو النّصِيرِ، ويُضهَدِ

وفي كثرَةِ الأيدي عن الظُّلمِ زاجرٌ ... إذا حَضَرَتْ أيد الرّجالِ بمَشْهَدِ
وللأمرُ ذو المَيْسُورِ خَيْرٌ، مَغَبّةً ... مِنَ الأمرِ ذي المَعْسُورَةِ المُتَرَدَّدِ
سأكْسِبُ مَجْداً أو تَقُومَ، نَوَائِحٌ ... عَلَيّ بِلَيْلٍِ، نادِباتي وعُوّدِي
يَنُحْنَ على مَيتٍ، وأُعْلِنُ رَنّةً ... تُؤرّقُ عَيْنَيْ كلّ باكٍ ومُسْعَدِ

مجمهرة بشر بن أبي خازم الكامل
لمَنِ الدّيَارُ غَشَيْتَها بالأنْعُمِ ... تَغْدو مَعضالِمُها كَلَوْنِ الأرْقَمِ
لَعِبَتْ بِهَا رِيحُ الصَّبا فَتَنَكّرَتْ ... إلاّ بَقِيّةُ نُؤْيِهَا المُتَهَدِّمِ
دارٌ لِبَيضَاءِ العَوَارِضِ طَفْلَةٍ ... مَهْضُومَةِ الكَشْحَينِ رَيّا المِعْصَمِ
سَمِعَتْ بِنَا قوْلَ الوُشَاةِ فَأَصْبَحَتْ ... صَرَمَتْ حِبَالَكَ في الخَليطِ المُشِئمِ
فظَلَلَتَ من فَرطِ الصّبابةِ والهَوَى ... طَرِباً فُؤادُكَ مِثْلُ فِعْلِ الأهيَمِ
لولا تَسَلّي الهَمّ عَنْكِ بِجَسْرَةٍ ... عَيْرَانَةٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُكَدَمِ
زَيّافَةٍ بالرّحْلِ صادِقَةِ السُّرَى ... خَطّارَةٍ تَنْفِي الحَصَى بِمُثَلَّمِ
سَائِلْ تَمِيماً في الحُرُوبِ وعامِراً ... وهَلِ المُجَرِّبُ مِثْلُ مَنْ لَمْ يَعْلَمِ؟
غَضِبَتْ تَميمٌ أَنْ تُقَتَّلَ عَامِرٌ ... يَوْمَ النِّسارِ، فَأَعْتَبُوا بالصّيْلَمِ
إنَّا إذا نَعَرُوا الحُرُوبَ بِنَعْرَةٍ ... تُشْفَى صُدُورُهُمُ بِرَأْسِ مُصَدَّمِ
نَعْلُو الفَوارِسَ بِالسّيوفِ وَنَعْتَزِي، ... والخَيْلُ مُشْعَلَةُ النّحُورِ مِنَ الدّمِ
يَخْرُجْنَ مِنْ خَلَلِ العَجَاجِ عَوابِساً ... خَبَبَ السِّبَاعِ بِكُلّ أَكْلَفَ ضَيْغَمِ
مِنْ كُلّ مُسْتَرخي النِّجادِ، مُنازِلٍ، ... يَسْمُو إلى الأقرانِ غَيْرَ مُقَلَّمِ
فَهَزَمْنَ جَمْعَهُمُ وأُفْلِتَ حَاجِبٌ ... تَحْتَ العَجَاجَةِ في الغُبَارِ الأُقْتَمِ
وعلى عِقَابِهِمُ المَذَلّةُ أَصْبَحَتْ ... نُبِذَتْ بِأَفْصَحَ ذي مَخَالِبَ جَهْضَمِ
أُقْصِدْنَ حَجْراً قَبْلَ ذلكَ والقَنَا ... شُرَعٌ إلَيْهِ، وقد أَكَبَّ على الفَمِ
يَنْوِي مُحَأوَلَةَ القِيَامِ، وقد مَضَتْ ... فيهِ مَخَارِصُ كلِّ لَدْنٍ لَهْذَمِ
وَبَنُو نَمِيرٍ قَدْ لَقِينَا مِنْهُمُ ... خَيْلاً تَضُبّ لِثَاتُها للمَغْنَمِ
فَدَهَمْنَهُمْ دَهْماً بِكُلّ طِمِرّةٍ ... وَمُقَطِّعٍ حَلَقَ الرِّحالَةِ مِرْجَمِ
وَلَقَدْ خَبَطْنَ بَني كِلابٍ خَبْطَةً ... أَلْحَقْنَهُمْ بِدَعَائِمِ المُتَخَيِّمِ
وسَلَقْنَ كَعْبَاً قَبْلَ ذَلِكَ سَلْقَةً ... بِقَناً تَعَاوَرُهُ الأكُفّ مُقَوَّمِ
حتى سَقَيْنَاهُمْ بِكَأْسٍ مُرّةٍ ... مَكْرُوهَةٍ، حَسَواتُها كَالعَلْقَمِ
قُلْ للمُثَلَّمِ وابنِ هِنْدٍ بَعْدَهُ: ... إن كُنْتَ رَائِمَ عِزّنَا فاسْتَقْدِمِ
تَلْقَ الذِي لاَقَى العَدُوُّ، وَتُصْبَحُ ... كأساً، صُبَابَتُهَا كَطَعْمِ العَلْقَمِ
نَحبُو الكَتِيبَةَ حِينَ تَفْتَرِشُ القَنَا ... طَعْنَاً كإلهابِ الحَرِيقِ المُضْرَمِ
وَلَقَدْ حَبَوْنَا عَامِراً مِنْ خَلْفِهِ، ... يَوْمَ النِّسارِ، بِطَعْنَةٍ لَمْ تُكَلَمِ
مَرَّ السِّنانُ على أَسْتِهِ فَتَرَى بِها ... مِنْ هَتْكِهِ ضَجماً كَشِدْقِ الأعْلَمِ
مِنّا بِشِجْنَةَ والذُّبَابِ فَوَارِسٌ ... وَعَتَائِدٌ مِثْلُ السّوَادِ المُظْلِمِ
وَبِضَرْغَدٍ وَعَلى السّدِيرَةِ حَاضِرٌ، ... وَبِذِي أَمَرّ حَريمُهُمْ لَمْ يُقْسَمِ
مجمهرة أمية بن أبي الصلت الوافر
عَرَفْتُ الدّارَ قَدْ أَقْوَتْ سِنِينا ... لِزَيْنَبَ إذْ تَحِلّ بِهَا قَطِينَا
وَأَذْرَتْها جَوافِلُ مُعصِفَأتٌ ... كَمَا تُذري المُلَمْلِمَةُ الطّحِينَا
وَسَافَرَتِ الرّيَاحُ بِهنّ عُصْراً ... بأذيالٍ يَرُحْنَ وَيَغْتَدِينَا
فَأَبْقَيْنَ الطّلُولَ مُخَبَّياتٍ ... ثَلاثاً، كالحَمَائِمِ، قَدْ بَلِينا
وَأَرِيّاً لِعَهْدٍ مُرْتَداتٍ ... أَطَلْنَ بِهَا الصُّفُونَ، إذا افتُلِينَا
فإمّا تَسْأَلي عَني، لُبَيْنَى، ... وَعَنْ نَسْبَي أُخَبِّرْكِ اليَقِينَا
ثِقي أنّي النّبيهُ أباً وأُمّاً، ... وأجداداً سَمَوْا في الأقْدَمِينَا
لأفصىَ عِصْمَةِ الأفصىَ قَسيٍ، ... على أفصَى بِنِ دُعْمِيّ بُنِينَا
ودُعْميٌّ بِهِ يُكَنَى إيَادٌ ... إلَيْهِ تَنسبي كَيْ تَعْلَمِينَا
وَرِثْنَا المَجدَ عَنْ كُبَرَا نِزارٍ، ... فَأَوْرَثْنا مَآثِرَنَا البَنِينَا
وَكُنّا حَيْثُما عَلِمَتْ مَعَدٌّ ... أَقَمْنَا حَيْثُ سَارُوا هَارِبِينَا
تَنُوحُ، وَقَدْ تَوَلّتْ مُدْبِرَاتٍ ... تَخَالُ سَوَادَ أَيْكَتِها عَرِينَا
فَأَلْقَيْنَا بِساحَتِها حُلُولاً ... حُلُولاً للإقامَةِ ما بَقِينَا
فَأَنْبَتْنَا خَضَارِمَ نَاضِراتٍ، ... يَكُونُ نَتَاجُها عِنَباً وَتِينَا
وَأَرْصَدْنَا لِرَيْبِ الدّهرِ جُرداً، ... لهاميماً وَمَاذِيّاً حَصِينَا
وَخَطّيّاً كأَشْطَانِ الرّكَايَا، ... وأسيافاً يَقُمْنَ وَيَنْحَنِينَا
وَفِتْيَاناً يَرَوْنَ القَتْلَ مَجداً ... وَشِيباً في الحُرُوبِ مُجَرَّبِينَا
تُخَبِّرُكَ القَبَائِلُ مِنْ مَعَدٍ ... إذا عَدّوا سِعَايَةَ أوّلِينَا
بأنّا النّازِلُونَ بِكُلِّ ثَغْرٍ، ... وأَنّا الضّارِبُونَ إذا التَقَيْنَا
وأنّا المَانِعونَ إذا أَرَدْنا ... وأنّا المُقْبِلُونَ إذا دُعينا
وأنّا الحامِلُونَ، إذا أَنَاخَتْ ... خُطُوبٌ في العَشيرَةِ تَبْتَلِينَا
وأنّا الرّافِعُونَ على مَعَدٍ ... أَكُفّاً في المَكَارِمِ ما بَقِينَا
أَكُفّاً في المَكَارِمِ قَدّمَتْها ... قرونٌ أَوْرَثَتْ مِنّا قُرُونَا
نُشَِّدُ بِالمَخَافَةِ مَنْ أَتَانَا، ... ويُعْطِينَا المَقَادَةَ مَنْ يَليِنَا
إذا ما المَوتُ غَلّسَ بالمَنَايا، ... وذَبّلَتِ المُهَنَّدَةُ الجُفُونَا
وَأَلْقَيْنَا الرّماحَ، وكانَ ضَرْبٌ ... يَكبُبّ على الوُجُوهِ الدّارِعِينَا
نَفَوْا عن أرْضِهِمْ عَدْنَانَ طُرّاً ... وَكَانُوا بالرَّبَابَةِ قَاطِنِينَا
وَهُمْ قَتَلُوا السَّبيّ أَبَا رِغالٍ ... بِنَخْلَةَ حِينَ إذْ وَسَقَ الوَطِينَا
وَرَدّوا خَيْلَ تُبّعَ في قَديدٍ، ... وساروا للعِراقِ مُشَرِّقِينَا
وبُدّلَتِ المَسَاكِنَ مِن إيادٍ ... كِنانَةُ بَعْدَمَا كَانُوا القَطِينَا
نَسِيرُ بِمَعْشَرٍ: قَوْمٌ لِقَوْمٍ ... وَنَدْخُلُ دارَ قَوْمٍ آخَرِينَا
مجمهرة خداش بن زهير الطويل
أَمِنْ رَسْمِ أَطْلاَلٍ بِتُوضِحَ كَالسّطْرِ ... فَمَاشِنَ مِن شَعْرٍ فَرابيةَ الجَفْرِ
إلى النّخْلِ فالعَرجَينِ حَوْلَ سُوَيقَةٍ ... تَأْنَسُ في الأُدمِ الجَوَازيءِ والعُفْرِ؟

قِفارٍ، وقد تَرعَى بها أُمُّ رَافِعٍ ... مَذَانِبَها بَيْنَ الأسِلّةِ والصّخْرِ
وإذْ هِيَ خَودٌ كالوَذِيلَةِ بادِنٌ، ... أسيلَةُ ما يَبدو من الجَيْبِ والنَّحْرِ
كَمُغْزِلَةٍ تَغذو بِحَوْمَلَ شادِناً، ... ضَئِيلَ البُغَامِ غَيْرَ طِفلٍ ولا جأرِ
طَبَاها مِنَ النّاناتِ، أو صَهَواتِها ... مَدَافعُ جُوفا، فالنّواصِفِ، فالحَتَرِ
إذا الشّمسُ كَانَتْ رَتْوَةً من حِجابِها ... تَقَتها بأطرافِ الأراكِ وبالسِّدْرِ
فَيَأ رَاكِباً إمّا عَرَضْتَ فَبَلّغَنْ ... عَقِيلاً، إذا لاَقَيْتَها، وأَبَا بَكْرِ
بِأَنّكُمُ مِنْ خَيْرِ قَوْمٍ لِقَومِكُمْ، ... على أنّ قَولاً في المَجَالِسِ كالهُجَرِ
دَعُوا جَانِباً أنّا سَنَنْزِلُ جَانباً ... لَكُم واسِعاً، بَيْنَ اليَمَامَةِ والقَهْرِ
كَأَنّكُمُ خَبَرْتُمُ أو عَلِمْتُمُ ... مَوَاليَ مِمّنْ لاَ يَنَامُ، ولا يَسرِي
كَذَبْتُمُ، وَبَيْتِ اللَّهِ، حتى تُعالجوا ... قَوادِمَ حَربٍ لا تلِينُ ولا تَمري
وَنَرْكَبُ خَيْلاً لا هَوادَةَ بَيْنَها، ... وَنَعْصي الرّماحَ بالضيّاطِرَةِ الحُمر
فَلَسنا بِوَقّافِينَ، عُصلٍ رِمَاحُنا، ... وَلَسْنَا بِصَدّافِينَ عن غايةِ التَّجْرِ
وإنَّا لِمَنْ قَوْمٍ كِرامٍ أَعِزّةٍ، ... إذا لَحقَتْ خَيْلٌ بِفُرْسَانِها تَجْري
وَنَحْنُ إذا ما الخَيْلُ أَدْرَكَ رَكْضُهَا، ... لَبِسنا لها جِلَدَ الأسَاوِدِ والنَّمْرِ
لَعَمري لَقَدْ أُخْبِثْتُمَا حِينَ قُلْتُما:لَنَا العِزُّ والمَوْلَى، فأَسرَعْتُما نَفْرِي
أَبي فارُِ الضّحياءِ عَمرُو بنُ عَامِرٍأَبَى الذّمَّ واخْتَارَ الوَفَاءَ على الغَدْرِ
وإنّي لأشقَى النّاسِ، إن كُنتُ غَارِماً، ... لِعَاقِبَةٍ، قَتلى خُزَيْمَةَ والخَضْرِ
أُكَلَّفُ قَتْلي مَعْشَرٍ لَسْتُ مِنْهُمُ؟! ... ولا أنا مَوْلاَهُم ولا نَصْرُهم نَصْرِي
يَقُولُونَ دَعْ مَوْلاَكَ نَأْكُلْهُ بَاطِلاً؛ودعْ عَنْكَ ما جرّتْ بُجَيْلَةُ مِنْ عُسْر
أُكَلَّفُ قتلي العِيصِن عيصِ شَواحِطٍ، ... وذلك أمرٌ لا يُثَفّي لَكُم قَدْرِي
وقَتلي أَجَرّتْها فَوَارِسُ ناشِبٍ، ... بأزْ،ُم، خُرصانِ الرُّدَيْنيّةِ السُّمْرِ
فَيَا أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا! ... إليكُم! إليكُم! لا سَبيلَ إلى جَسْرِ

مجمهرة النمر بن تولب الطويل
تأَبّدَ مِنْ أطلالِ عَمْرةَ مَأْسَلُ، ... وَقَدْ أَقْفَرَتْ مِنْهَا شِراءٌ فَيَذْبُلُ
فَبُرْقَةُ أَرْمَامٍ فَجَنْبَا مُتَالِعٍ ... فَوَادي سَلَيْلٍ فالنَّديُّ فَأَنْجَلُ
ومِنْهَا بِأَعْرَاضِ المَحَاضرِ دُمَيَةٌ، ... ومِنْهَا بِوادي المُسَلَهِمّةِ مَنْزِلُ
أَنَاةٌ، عَلَيْهَا لُؤلُؤٌ وَزَبَرْجَدٌ ... وَنَظْمٌ كَأَجْوَازِ الَجرادِ مُفَصَّلُ
يُرَبِّبُهَا التّرعيبُ والمَحضُ خِلفَةً، ... وَمِسْكٌ وَكَافُورٌ وَلُبْنَى تُؤكّلُ
يُشَنّ عَلَيْهَا الزّعْفَرانُ كَأَنّهُ ... دَمٌ قَارِتٌ تُعلَى بِهِ ثمّ تُغسَلُ
سَواءٌ عَلَيْهَا الشّيْخُ، لمْ تَدرِ ما الصِّبا، ... إذا ما رأتهُ، والأَلوفُ المُقَتَّلُ
وكم دونها من رُكنِ طَودٍ وَمَهْمَهٍ، ... وماءٍ على أطرافِهِ الذّئبُ يَعْسِلُ
وَدَسّتْ رَسُولاً مِنْ بَعيدٍ بآيَةٍ، ... بِأَنْ جُسُهمُ واسأَلْهُمُ ما تَمَوّلُوا
فَحَيّيتُ مِنْ شَحْطٍ بِخَيْرٍ حَدِيثِنا، ... ولا يَأْمَنُ الأيّامَ إلاّ مُضَلَّلُ

لَعَمْري! لقد أنكَرْتُ نَفْسي ورابَني ... معَ الشّيْبِ أبدالي التي أَتَبَدَّلُ
فُضُولٌ أَرَاهَا في أَدِيميَ بَعْدمَا ... يَكُونُ كَفَافُ اللّحْمِ، أَو هُوَ أَفْضَلُ
كَأَنّ مِخَطّاً في يَدَيْ حَارِثِيّة ... صَنَاعٍ عَلَتْ مِنّي بِهِ الجَلَدَ من علُ
وَقَوْلي، إذا ما غابَ يوماً بَعِيرُهُمْ: ... يُلاَقُونَهُ حتى يَؤُوبَ المُنَخَّلُ
وأُضحي، ولم يَذْهَبْ بَعِيري غُرْبَةً، ... وَأَشوي الذي أشوي ولا أَتَحَلّلُ
وَظَلعي ولم أُكْسَرْ، وإنّ ظَعِينَتي ... تَلُفُّ بَنِيها في البِجَادِ، وأُعْزَلُ
وَدَهْرِي، فَيَكفيني القَلِيلُ، وإنّني ... أؤوبُ، إذا ما أُبْتُ، لا أتَعَلَّلُ
وَكُنْتُ صَفيَّ النّفسِ لا شيءَ دُونَهُ، ... وَقَدْ صِرْتُ مِنْ إقْصَا حَبيبَي أَذْهُلُ
بَطيءٌ عَنِ الدّاعي، فَلَسْتُ بِآخِذٍ ... إلَيْهِ سِلاحي مثلَ ما كُنْتُ أَفْعَلُ
تَدَارَكَ ما قَبْلَ الشّبابِ وَبَعْدَهُ ... حَوَادِثًُ أَيّامٍ تَضُرّ، وَأَغْفُلُ
يَوَدّ الفَتَى بَعْدَ اعْتِدَالٍ وَصِحّةٍ ... يَنُوءُ إذا رامَ القِيَامَ، وَيَحْمِلُ
يَوَدّ الفتى طُولَ السّلامَةِ والغِنَى، ... فَكيْفَ تُرى طُولُ السّلاَمَةِ يَفْعَلُ؟
دَعَاني الغَوَاني عَمّهُنّ، وخِلتُني ... ليَ اسمٌ، فَمَا أُدْعَى بِهِ وَهُوَ أَوّلُ
وقد كُنْتُ لا تَشوي سِهَاميَ رَمْيَةً، ... فَقَدْ جَعَلَتْ تَشوي سِهامي وَتَنْصِلُ
رَأَتْ أُمُّنا كَيصاً يُلَفِّفُ وَطْبَهُ ... إلى الأُنُسِ البادِينَ، وَهُوَ مُزَمَّلُ
فَلَمّا رَأَتْهُ أُمُّنا هَانَ وَجْدُها، ... وَقَالتْ: أَبوكم هَكَذا كانَ يَفْعَلُ
وَثَارَتْ إلَينا بالصعِيدِ، كَأنّما ... يُجَلِّلُها من نافِضِ الوَرْدِ أَفْكَلُ
وقالتْ: فُلانٌ قد أَعَاشَ عِيَالَهُ ... وَأَوْدَى عِيالٌ آخَرُونَ فَهُزِّلُوا
أَلَمْ يَكُ وِلْدَانٌ أَعَانُوا وَمَجْلِسٌ؟ ... فَنَخزَى إذا كُنّا نَحِلُّ وَنَحْمِلُ
لَنَا فُرَسٌ من صَالِحِ الخَيْلِ نَبْتَغي ... عَلَيها عَطَاءَ اللَّهِ، واللَّهُ يَنْحَلُ
يَرُدّ عَلَيْنَا العِيرَ مِنْ بَعْدِ إلْفِهِ، ... بِقَرْقَرَةٍ، والنَّقْعُ لا يَتَزَيّلُ
وَحُمرٌ تَرَاها بالفِنَاءِ كَأَنّها ... ذُرَى كُثُبٍ، قد مَسّها الطّلّ، تهطُلُ
عَلَيْهَا مِنَ الدَّهنا عَتيقٌ وَمَوْرَةٌ، ... من الحَزْنِ، كلٌّ بِالمَرَاتِعِ يَأْكُلُ
فَقَدْ سَمِنَتْ حَتى تَظَاهَرَ نَيُّهَا، ... فَلَيْسَ عَلَيْهَا بالرّوادِفِ مِحْمَلُ
إذا وَرَدَتْ مَاءً، وإنْ كَانَ صَافياً، ... حَدَتْهُ على دَلْوٍ تُعَلّ وَتُنْهَلُ
فَفِي جِسْمِ راعيها هُزالٌ وشُحْبَةٌ، ... وضُرٌّ، وما مِنْ قِلّةِ اللّحْمِ يَهْزُلُ
فَلاَ الجارَةُ الدّنْيَا لها تَلْحَينَّها؛ ... ولا الضّيْفُ عَنْهَا إن أناخَ مُحَوَّلُ
إذا هُتِكَتْ أَطْنَابُ بَيْتٍ، وَأَهْلُهُ ... بِمُعْظَمِها، لم يُورَدِ المَاءَ، أُقْبِلُ
عَلَيْهِنّ، يَوْمَ الوِردِ، حَقّ وَذِمّةٌ، ... وَهُنّ غَدَاةَ الغِبّ عِنْدَكِ حُفّلُ
وَأَقْمَعْنَا فيها الوِطَابَ وَحَوْلَنا ... بُيُوتٌ عَلَيْهَا كُلُّها فُوهُ مُقفَلُ

المنتقيات
المسيب بن علس المرقش المتلمس عروة بن الورد مهلهل بن ربيعة

دريد بن الصمة المتنخل الهذلي

المسيب بن علس الكامل
بَكَرَتْ لِتُحْزِنَ عَاشِقاً طَفْلُ ... وَتَبَاعَدَتْ، وَتَجَذّمَ الوَصْلُ
أَوَ كُلَّما اخْتَلَفَتْ نَوىً، وَتَفَرقوا ... لِفُؤادِهِ مِنْ أجْلِهِمْ تَبْلُ
وإذا تُكَلِّمُنَا تَرَى عَجَباً، ... بَرَداً تَرَقْرَقَ فَوْقَهُ طَحْلُ
وَلَقَدْ أَرَى ظُعُناً أُخَيَّلُها ... تُحْدَى، كَأَنّ زُهَاءَها نَخْلُ
في الآلِ يَرْفَعُها وَيَخْفِضُهَا ... رَيْعٌ كَأَنّ مُتُونَهُ سُحْلُ
عُقماً وَرُقْماً، ثُمّ أَرْدَفَهُ، ... كِلَلٌ على أَطرافِها الخَمْلُ
وَلَقَدْ رَأَيْتُ الفاعِلينَ وَفِعْلَهُمْ ... فَلِذي الرّقِيبَةِ مالكٍ فَضْلُ
كَفّاهُ مُتْلِفَةٌ، ومُخَلِفَةٌ، ... وَعَطاؤُهُ مُسْتَغْرِقٌ جَزْلُ
يَهَبُ الجِيَادَ كَأَنّها عُسُبٌ ... جُرْداً أَطَالَ نَسِيْلَهَا البَقْلُ
وَالضّامِراتُ كَأَنَّها بَقَرٌ، ... تَقْرُو دكادِكَ بَيْنَها الرّمْلُ
والدُّهْمُ كَالعِبْدَانِ آزَرَها ... وَسَطَ الآشاءِ مُكَمَّمٌ جَعْلُ
وَإذا الشَّمالُ حَدَتْ قَلاَئِصَها ... رَتْكاً، فَلَيْسَ لِمضالِكٍ مِثْلُ
للضّيْفِ والجارِ القَرِيبِ وللطّفْ ... لِ التّريكِ، كأنّهُ رَألُ
وَلَقَدْ تَنَاوَلَني بِنَائِلَةٍ، ... فَأصَابَني مِنْ مَالِهِ سَجْلُ
مُتَبَعِّجُ التَّيَّارِ ذو حَدَبٍ، ... مُغْرَوْرِبٌ، تَيّارُهُ يَعْلُو
فَلأَشْكُرَنّ فُضُولَ نِعْمَتِهِ، ... حَتّى أَمُوتَ وَفَضْلُهُ الفَضْلُ
المرقش الأشغر الطويل
أَمِنْ رَسْمِ دَارٍ ماءُ عَيْنِكَ يَسْفَحُ،غَدَا، مِنْ مُقامٍ، أَهْلُهُ، وَتَرَوّحُوا
تُزَجِّي بِهِ خُنْسُ الظّبَاءِ سِخَالَها، ... جَآذِرُها بالجَوّ وَرْدٌ وأَصْبَحُ
أَمِنْ بِنْتِ عَجْلاَنَ الخَيَالُ المُطَوِّحُ، ... أَلمّ وَرَحْلي سَاقِطٌ مُتَزَحْزِحُ
فَلَمّا انْتَبَهنا للخَيالِ وَرَاعَني، ... إذا هُو رَحلي، والفَلاةُ تَوَضَّحُ
وَلَكِنّهُ زُورٌ يُوَقِّظُ نَائِماً، ... وَيُحَدِثُ أشجاناً لِقَلْبِكَ تَجْرَحُ
بِكُلّ مَبِيتٍ يَعْتَرِينا وَمَنْزِلٍ، ... فَلَو أَنّها إذْ تُدْلِجُ اللّيلَ تُصْبِحُ
فَوَلّتْ وَقَدْ بَثّتْ تَبَارِيحَ ما تَرَى،وَوَجدي بها، إذا تُحدِرُ الدَّمْعَ، أَبْرَحُ
وَمَا قَهْوَةٌ صَهْبَاءُ، كَالمِسْكِ رِيحُها، ... تُعَلُّ على النّاجُودِ طَوراً وَتُنزَحُ
ثَوَتْ في سَوَاءِ الدّنِّ عِشْرِينَ حِجّة ... يُطانُ عَلَيْهَا قَرْمَدٌ، وَتُرَوَّحُ
سَبَاهَا رِجَالٌ مُدْمِنُونَ، تَوَاعَدُوا ... بِجيلانَ يُدنيها إلى السوقِ مُرْبِحُ
بِأَطْيَبَ من فيها إذا جِئْتُ طَارِقاً، ... مِنَ اللّيلِ، بل فُوها ألَذّ وَأَنْضَحُ
غَدَوْنَا بِضَافٍ كَالعَسِيبِ مُجَلَّلٍ، ... طَوَيْنَاهُ حَتى عَادَ، وهُوَ مُلَوَّحُ
أَسِيلٌ نَبِيلٌ لَيْسَ فِيهِ مَعَابَةٌ، ... كُمَيْتٌ كَلَوْنِ الصِّرَفِ أَرْجَلُ أَقْرَحُ
عَلَى مِثْلِهِ تَأْتي النّديَّ مُخَايِلاً ... وَتَعْبُرُ سِرّاً أَيَّ أَمْرَيْكَ أَفْلَحُ
وَتَسْبِقُ مَطْرُوداً، وَتَلْحَقُ طَارِداً، ... وَتَخْرُجُ من فَمّ المَضِيقِ وَتَجْرَحُ
تَرَاهُ بِشِكّاتِ المُدَجَّجِ، بَعْدَما ... تَقَطّعث أَقْرَانُ المُغِيرَةِ، يَجْمَحُ
يَجِمُّ جُمومَ الحْسِيِ جاشَ مَضِيقُهُ ... وَجَرّدَهُ مِنْ تَحْتُ غِيْلٌ وَأَبْطُحُ

شَهِدْتُ بِهِ عَنْ غَارَةٍ مُسْبَطرّةٍ، ... يُطَاعِنُ بَعْضُ القَوْمِ والبِعْضُ طُوِّحوا

المتلمس البسيط
كم دُونَ مَيّةَ مِنْ مُسْتَعْمَلٍ قَذِفٍ ... وَمِنْ فَلاَةٍ بِهَا تُسْتَودَعُ العِيسُ
وَمِنْ ذُرَى عَلَمٍ طَامٍ مَنَاهِلُهُ، ... كَأنّهُ في حَبَابِ الماءِ مَغْمُوسُ
جَاوَزْتُهُ بِأَمُونٍ ذَاتِ مُعْجَمَةٍ، ... تَهْوِي بِكَلْكَلِهَا، والرّأسُ مَعْكُوسُ
يا آلَ بَكْرٍ أَلاَ للَّهِ أُمّكُمُ، ... طالَ الثَّواءُ وثوبُ العَجْزِ مَلْبُوسُ
أَغْنَيْتُ شَاتي، فَأَغْنُوا اليَوْمَ تَيسَكُمُواسْتَحمقوا في مِراسِ الحَرْبِ أَوْ كِيسُوا
إنّ العِلاَفَ وَمَنْ باللّوذِ مِنْ حَضَنٍ، ... لَمّا رَأُوا أَنّهُ دِينٌ خَلاَبِيسُ
شَدّوا الجِمَالَ بِأَكْوَارٍ على عَجَلٍ، ... وَالظّلمُ يُنْكِرُهُ القَوْمُ المَكَاييسُ
كُونُوا كَسَامةَ، إذ شُعفٌ مَنَازِلُهُ ... ثُمّ اسْتَمَرّتْ بِهِ البُزلُ القَنَاعِيسُ
حَلَّتْ قُلُوصي بها، واللّيلُ مُطّرِقٌ ... بَعْدَ الهُدُوءِ، فَشَاقَتْها النّواقِيسُ
مَعْقُولَةٌ يَنْظِرُ التّشْرِيقَ رَاكِبُهَا، ... كَأَنّها، من هوىً للرّمْلِ، مَسْلُوسُ
وقد أَضَاءَ سُهَيْلٌ بَعْدَمَا هَجَعُوا، ... كَأَنّهُ ضَرَمٌ بِالكَفّ مَقْبُوسُ
إنّي طَرِبْتُ وَلمْ تَلْحَى على طَرَبٍ؟ ... وَدَوّنَ الفَرْءَ أَمْراتٌ أَمَالِيسُ
حَنَّتْ إلى النّخْلَةِ القُصْوَى، فقُلْتُ لها:حُجْرٌ، حَرَامٌ أَلاَ تِلْكَ الدّهَارِيسُ
أُمّي شَآميّةً، إذْ لا عِرَاقَ لَنَا، ... قَوماً نَوَدُّهُمُ، إذْ قَومُنا شُوسُ
لَنْ تُسْلَكي سُبُلَ البَوْبَاةِ مُنْجِدَةً ... ما عاشَ عَمْرٌو، وما عُمّرْتَ قَابُوسُ
لَوْ كَانَ مِنْ آلِ وَهْبٍ بَيْنَنَا عُصَبٌ، ... ومن نَذيرٍ، ومِن عَوفٍ مَحَامِيسُ
أَوْدَى بِهمْ مَنْ يُراديني، وأَعْلَمُهم ... جُودَ الأكُفّ إذا ما أشْعَرَ البُوسُ
يا حارِ! إنّي لَمِنْ قَوْمٍ أَولي حَسَبٍ ... لا يَجْهَلُونَ، إذا طاشَ الضّغابِيسُ
آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدّهْرَ أَطْعَمُهُ، ... والحَبُّ يَأْكُلُهُ في القريةِ السُّوسُ
عروة بن الورد الطويل
أَقِلّي عليّ اللّوْمَ يا ابنَةَ مُنْذِرِ ... ونامي، فإن لم تَشْتَهِي النّوْمَ فاسْهَرِي
ذَرِيني وَنَفْسي، أُمّ حَسّانَ، إنّني ... بها قبلُ أن لا أملِكَ الأمرَ مُشْتَرِي
ذَريِني أُطَوّفْ في البِلاَدِ لَعَلّني ... أُخَلّيكِ أو أُغنيكِ عن سوءِ محضرِي
فإنْ فَازَ سَهْمٌ للمَنِيّةِ لَمْ أَكُنْ ... جَزوعاً، وهل عن ذاكَ من مُتَأَخِّرِ
وَإنْ فَازَ سَهْمي كفَّكم عن مَقَاعِدٍ ... لَكُمْ خَلْفَ أَدْبَارِ البُيُوتِ وَمَنْظَرِ
تَقُولُ لَكَ الوَيْلاتُ هَلْ أَنْتَ تَارِكٌ ... ضُبُوءاً بِرَجْلٍ تَارَةً وَبِمُنْسِرِ
وَمُسْتَسبِتٌ في مالكَ العامَ، إنّني ... أَرَاكَ على أقتادِ صَرْمَاءَ مُذكِرِ
فَجُوعٌ بِهَا للصّالِحينَ، مَزِلَّةٌ، ... مَخُوْفٌ رَدَاهَا أَنْ تُصيبَكَ فاحْذَرِ
أَبَى الخَفْضَ مَنْ يَغْشَاكَ من ذِي قَرَابةٍ،وَمِنْ كُلّ سَوْداءِ المَحَاجِرِ تَعْتَرِي
لَحَا اللَّهُ صُعلوكاً إذا جَنّ لَيْلُهُ، ... مُصَافي المُشَاشِ آلِفاً كُلَّ مَجْزَرِ
يَعُدّ الغِنى، مِنْ نَفْسِهِ، كلَّ لَيْلَةٍ، ... أَصَابَ قِرَاها من صَديقٍ مُيَسَّرِ
يَنَامُ عِشَاءً، ثُمّ يُصْبِحُ نَاعِساً، ... يَحُثّ الحَصَا عن جَنْبِهِ المُتَعَفِّرِ
يُعِينُ نِسَاءَ الحَيّ ما يَسْتَعِنَّهُ، ... وَيُمْسي طَليحاً كَالبَعِيرِ المُحَسَّرِ

وَلَكِنّ صُعْلُوكاً، صَفِيحَةُ وَجْهِهِ ... كَضَوْءِ شِهَابِ القَابِسِ المُتَنَوِّرِ
مُطِلاً على أَعْدَائِهِ يَزْجُرُونَهُ ... بِساحَتِهِمْ، زَجْرَ المَنِيحِ المُشَهَّرِ
إذَا بَعُدُوا لا يَاْمَنُونَ اقْتِرابَهُ، ... تَشَوُّفَ أَهْلِ الغائِبِ المُتَنَظَّرِ
فَذَلِكَ إنْ يَلْقَ المَنِيّةَ يَلْقَهَا ... حَمِيداً، وإنْ يَسْتَغْنِ يَوْماً فَأَجْدِرِ
فَيَوْماً على نَجْدٍ وَغَارَاتِ أَهْلِهَا ... وَيَوْماً بِأَرْضٍ ذَاتِ شَثٍ وَعَرْعَرِ

المهلهل بن ربيعة السريع
جَارَتْ بَنُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَعْدِلُوا، ... وَالمَرْءُ قَدْ يَعْرِفُ قَصْدَ الطّريقْ
حَلّتْ رِكَابُ البَغْيِ في وائلٍ، ... في رَهْطِ جَسّاسٍ، ثِقالِ الوُسُوقْ
يَا أَيّها الجَاني على قَوْمِهِ ... جِنَايَةً لَيْسَ لَها بالمُطِيقْ
جِنَايَةً لم يَدْرِ ما كُنْهُهَا ... جَانٍ، وَلَمْ يُصْبِحْ لَهَا بالخَليِقْ
كَقَاذِفٍ يَوْماً بِأجْرَامِهِ ... في هُوَّةٍ، لَيْسَ لها من طَريْقْ
مَنْ شَاءَ وَلّى النّفْسَ فِي مَهْمَةٍ ... ضَنْكٍ، ولكن مَنْ لَهُ بِالمَضِيقْ
إنّ رُكُوبَ البَحْرِ، مَا لَمْ يَكُنْ ... ذا مَصْدَرٍ، مِنْ مُهْلِكَاتِ الغريقْ
لَيْسَ امرُءٌ لَمْ يَعْدُ في بَغْيِهِ، ... غَدَا بِهِ تَخْرِيقُ رِيحٍ خَرِيقْ
كَمَنْ تَعَدّى بَغْيُهُ قَوْمَهُ، ... طَارَ إلى رَبّ اللِّواءِ الخَفوق
إلى رَئِيسِ النّاسِ والمُرْتَجَى، ... لَعُقْدَةِ الشّدِّ، وَرَتْقِ الفُتُوقْ
مَنْ عَرَفَتْ يَوماً حَزازٌ لَهُ ... عَليا مَعَدٍ عند أَخْذِ الحُقوقْ
إذْ أَقْبَلَتْ حِمْيَرٌ، في جَمْعِها، ... وَمَذْحِجٌ كَالعَارِضِ المُسْتَحيقْ
وَجَمْعُ هَمَدَانَ لَهُ لَجْبَةٌ، ... وَرَايَةٌ تَهْوِي هُويّ الأنوقْ
تَلْمَعُ لَمْعَ الطّيْرِ رَايَاتُهُ ... على أَواذي لُجِّ بَحْرٍ عَميقْ
فَاحْتَلَّ أَوْزَارَهُمُ أَزْرُهُ ... بَرَأْيِ مَحْمُودٍ عَلَيْهِمْ شَفِيقْ
وَقَدْ عَلَتْهُمْ للِّقَا هَبْوَةٌ ... ذَاتُ هِياجٍ، كَلَهيبِ الحَرِيقْ
فَقَلّدَ الأمرَ بَنُو هَاجِرٍ ... مِنْهُمْ رَئيساً، كالحُسَامِ البريقْ
مُضطَلِعاً بالأمْرِ، يَسْمُو لَهُ ... في يَوْمِ لا يَنْسَاغُ حَلْقٌ بِرِيقْ
ذَاكَ، وَقَدْ عَنّ لَهُمْ عَارِضٌ ... كَجُنْحِ لَيْلٍ في سَماءٍ بَرُوقْ
فَانْفَرَجَتْ عَنْ وَجْهِهِ مُسْفِراً ... مُنْبَلِجاً مِثْلَ انْبِلاجِ الشّرُوقْ
فَذَأكَ لا يُوفي بِهش غَيْرُهُ، ... وَلَيْسَ يُلْقَى مِثْلُهُ في فَرِيقْ
قُلْ لِبَني ذُهْلٍ يَرُدّونَهُ، ... أَو يَصْبِرُوا للصّيْلَمِ الخَنفَقيقْ
فَقَدْ تَرَوَّوْا من دَمٍ مُحْرِمٍ، ... وانْتَهَكوا حُرْمَتَهُ من عُقُوقْ
واسْتَسعَرُوا مِنْ حَرْبِنَا مَأْتَماً ... أَثَابَهُمْ نَيرانَ حَرْبٍ عَقُوقْ
لاَ يَرْقَأُ الدّهْرَ لَهَا عَاتِكٌ ... إلاّ عَلَى أَنْفَاسِ نَجْلا تَفُوقْ
تَنْفَرِجُ الظّلماءُ عَنْ وَجْهِهِ ... كَاللّيلِ وَلّى عن صَدِيعٍ أَنيقْ
تُحمِّلُ الرّاكِبَ مِنْهَا على ... سِيساءَ حِدْبيرٍ مِنَ الشَّرِّ نُوقْ
إنَّ امرأً ضَرّجتُمُ ثَوْبَهُ، ... بِعاتِكٍ من دَمِهِ كَالخُلُوقْ
سَيّدُ ساداتٍ، إذا ضَمّهُمْ ... مُعْظَمُ أَمْرٍ يَوْمَ بُؤسٍ وَضِيقْ
لَمْ يَكُ كالسّيّدِ في قَوْمِهِ، ... بَلْ مَلِكٌ دينَ لَهُ بالحُقُوقْ

إنْ نَحْنُ لَمْ نَثْأَرُ بِهِ، فَاشْحَذُوا ... شِفَأرَكُمْ، مِنّا، لَ؛َزِّ الحُلُوق
ذَبحاً كَذَبْحِ الشّاةِ لا تَتّقي ... ذابِحَها، إلاّ بِشَخْبِ العُرُوقْ
أصْبَحَ مَا بَيْنَ بَني وائِلٍ، ... مُنْقَطِعَ الحَبْلِ بَعِيدَ الصّديقْ
غَداً نُساقي، فاعْلَموا، بَيْنَنا، ... رِمَاحَنا من قانيءٍ كَالرّحيقْ
بِكُلّ مِغْوارِ الضُّحَى، فَاتِكٍ ... شَمَرْدَلٍ مِنْ فَوْقِ طِرْفٍ عَتِيقْ
سَعَاليَ يَحْمِلْنَ مِنْ تَغْلِبٍ ... فِتْيَأنَ صِدْقٍ، كَلُيُوثِ الطّرِيقْ
لَيْسَ أَخُوكُمْ تَارِكاً وِتْرَهُ، ... وَلَيْسَ على تَطْلاَبِكُمْ بِالمُفيقْ

دريد بن الصمة الطويل
أَرَثَّ جَدِيدُ الحَبْلِ مِنْ أُمِّ مَعْبَدِلِعَاقِبَةٍ، أَمْ أَخْلَفَتْ كُلَّ مَوْعِدِ
وَبَاتَتْ وَلَمْ أَحْمَدْ لِكُلّ نَوَالِها،وَلَم تَرْجُ فينا رِدّةَ الْيَوْمِ أَوْ غَدِ
كأَنّ حَمُولَ الْحَيّ، إذ مَتَعَ الضّحَى، ... بِنَاصِيَةِ الشَّحْنَاءِ، عُصْبَةُ مِذْوَدِ
أَوْ الأثَابُ العَمُّ المُحَرَّمُ سُوقُهُ، ... بِكَابَةَ لم يُخْبَطْ، وَلَمْ يُتَبَعَضَدِ
نَصَحْتُ لِعَارِضٍ وَأَصْحَابِ عَارِضٍ ... وَرَهْطِ بني السّوْدَاءِ، وَالقَوْمُ شُهّدِي
فَقُلْتُ لهم: ظُنّوا بِأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ، ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسيّ المُسَرَّدِ
فَلَمّا عَصَوْني كُنْتُ مِنْهُم وَقَدْ أَرَى ... غَوَايَتَهُمْ؛ وأَنّني غيرُ مُهْتَدِي
أَمَرْتُهُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَىفَلَمْ يَسْتَبينوا النّصْحَ إلاّ ضُحَى الغَدِ
وهَلْ أَنَا إلاّ مِنْ غَزِيّةِ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ وإنْ تَرْشُدْ غَزِيّةُ أَرْشُدِ
تَنَادُوا، فَقَالُوا: أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِساً،فَقُلْتُ: أَعَبْدُ اللَّهِ ذَلِكُمُ الرّدي؟
فَجِئْتُ إليهِ، والرّمَاحُ تَنُوشُهُ، ... كَوَقْعِ الصّيَاصي في النّسِيجِ المُمَدَّدِ
وَكُنْتُ كَذَاتِ البَوّ رِيْعَتْ، فَأَقْبَلَتْإلى جَلَدٍ مِنْ مَسْكِ سَقْبٍ مُقَدَّدِ
فَطَاعَنْتُ عَنْهُ الخَيْلَ، حَتَى تَنَفّسَتْوَحَتّى عَلاَنِي حَالِكُ اللّوْنِ أَسْوَدِي
قِتَالَ امْرِىءٍ آسىَ أَخَاهُ بِنَفْسِهِ، ... وَيَعْلَمُ أنّ المَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
فَإنْ يَكُ عَبْدُ اللَّهِ خَلّى مَكَانَهُ، ... فَمَا كَانَ وَقّافاً، ولا طائِشَ اليَدِ
كَمِيشُ الإِزَارِ، خَارِجٌ نِصْفُ سَاقَهُ، ... بَعيدٌ مِنَ الآفاتِ طَلاّعُ أَنْجُدِ
قَلِيلُ التّشَكّي للمُصِيبَاتِ، حَافِظٌ، ... مِنَ اليَوْمِ، أَعْقَابَ الأحَادِيثِ في غَدِ
تَرَاهُ خَميصَ البَطْنِ والزّادُ حَاضرٌ، ... عَتِيدٌ، ويغدو في القميصِ المُقَدَّدِ
وَإنْ مَسّهُ الإقْوَاءُ والجَهْدُ زَادَهُ ... سَماحاً، وَإتلافاً لِمَا كَانَ في اليَدِ
صَبَا ما صَبَا، حتى عَلاَ الشّيبُ رَأْسَهُ، ... فَلَمّا عَلاَهُ قالَ للباطِلِ: ابْعُدِ
وَطَيّبَ نَفْسي أَنّني لم أَقُلْ لَهُ ... كَذَبْتَ، وَلَمْ أَبْخَلْ بِمَا مَلَكَتْ يَدي
المتنخل بن عويمر الهذلي الوافر
عَرَفْتُ بِأَجْدَثٍِ فَنِعَافِ عِرْقٍ ... عَلاَمَاتٍ كَتَحْبِيرِ النِّمَاطِ
كَوَشْمِ المِعْصَمِ المُغْتَالِ عُلَّتْ ... رَوَاهِشُهُ بِوَشْمٍ مُسْتَشَاطِ
وَمَا أَنْتَ الغَدَاةَ وَذِكْرُ سَلْمَى، ... وَأَضْحَى الرّأْسُ مِنْكَ إلى اشْمِطاطِ
كَأَنّ على مَفَارِقِهِ نَسِيلاً ... مِنَ الكَتّانِ تُنْزَعُ بِالمِشَاطِ
فَإمّا تُعْرِضَنّ، سَلِيمُ، عَنّي، ... وَتَنْزَعْكَ الوُشَاةُ أُولو النِّياطِ
فَحُورٌ قَدْ لَهَوْتُ بِهِنّ حِيناً، ... نَوَاعِمُ في المُرُوطِ، وفي الرِّيَاطِ

لَهَوْتُ بِهنّ، إذْ مَلْقىً مَلِيحٌ، ... وإذ أنا في المَخْيَلَةِ والنّشَاطِ
يُقَالُ لَهُنّ، مِنْ كَرَمٍ وَعِتْقٍ: ... ظِبَاءُ تَبَالَةَ الأُدْمُ العَوَاطي
أَبِيتُ على مَعَارِيَ فاخِراتٍ، ... بِهِنّ مُلَوَّبٌ كَدَمِ العِبَاطِ
تَمَشّى بَيْنَنَا نَاجُودُ خَمْرٍ، ... مَعَ الحِرْضِ الضَّياطِرَةِ، القِطَاطِ
رَكُودٌ في الإِناءِ لَهَا حُمَيّاً، ... تَلَذّ لأخْذِهَا الأيْدِي السَّواطِي
مُشَعْشَعَةٌ كَعَيْنِ الدِّيكِ، فِيهَا ... حُمَيّاهَا مِنَ الصُّهُبِ الخِمَاطِ
وَوَجْهٍ قد جَلَوْتِ، أُمَيْمَ، صافٍ ... أَسِيلٍ، غَيْرِ جَهْمٍ ذي حِطَاطِ
فَلاَ وَأَبِيكِ يُؤْذِي الحَيَّ ضَيْفِي، ... هُدُوءاً بِالمَسَاءَةِ والذِّعاطِ
سَأَبْدَؤُهُمْ بِمَشْمَعَةٍ، وأَثني ... بِجُهْدِي من طَعَامٍ أَوْ بِسَاطِ
إذا مَا الحَرْجَفُ النَّكْبَاءُ تَرْمِي ... بُيُوتَ الحيِّ بِالوَرَقِ السِّقاطِ
فَأُعْطِيَ، غَيْرَ مُزْوَرٍ، تِلادي، ... إذا التَطَّتْ لِذِي بُخْلٍ لَطاطِ
وَأَحْفَظُ مَنْصِبي وَأَصُونُ عِرْضِي، ... وَبَعْضُ القَوْمِ لَيْسَ بِذِي احْتِياطِ
وَأَكْسُو الحُلّةَ الشَّوْكَاءَ خِدْني، ... وَبَعْضُ القَوْمِ في حُزْنٍ وَرَاطِ
فَهَذَا، ثُمّ قَدْ عَلِموا مَكَاني، ... إذا قَالَ الرّقِيبُ ألا يَعَاطِ
وَعَادِيَةٌ، وَزَعتُ، لَهَا حَفيفٌ، ... حَفِيفُ مُزَبِّدِ الأعْرَافِ عاطي
لَقَيْتُهُمُ بِمِثْلِهِمُ، فأَمْسَوا ... بِهِمْ شَيْنٌ مِنَ الضَّرْبِ الخِلاط
فَأُبْنَا والسيوفُ مُفَلَّلاتٌ، ... بِهنّ لَفَائِفُ الشَّعَرِ السِّباطِ
بِضَرْبٍ في الجَمَاجِمِ ذي فُرُوجٍ ... وَطَعنٍ مِثْلِ تَقْطَاطِ الرِّهاطِ
وَمَاءٍ، قد وَرَدْتُ، أُمَيْمَ، طَامٍ ... على أَرْجَائِهِ زَجَلُ القِطَاطِ
فَبِتُّ أُنَهْنِهُ السِّرْحَانَ عَنْهُ؛ ... كِلاَنَأ وَارِدٌ حَرّانُ قَاطِي
قَليلٌ وِرْدُهُ إلاّ سِباعاً، ... تُخَطّي المَشْيَ كَالنَّبْلِ المِراطِ
كَأَنّ وَغَى الخَمُوشِ بِجَانِبَيْهِ، ... وَغَى رَكْبٍ، أُمَيْمَ، أَولي زِيَاطِ
كَأَنّ مَزَاحِفَ الحَيّاتِ فِيهِ، ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ، آثارُ السِّياطِ
شَرِبْتُ بِجَمّْهِ وَصَدَرْتُ عَنْهُ، ... وَأَبْيَضُ صَارِمٌ ذَكَرٌ إباطيّ
كَلَوْنِ المِلْحِ ضَرْبَتُهُ هَبِيرٌ، ... يُتِرُّ العَظْمَ، سَقَّاطٌ، سُراطي
بِهِ أَحْمَي المُضَافَ إذا دَعاني ... وَنَفْسي سَاعَةَ الفَزَعِ الفِلاطِ
وَصَفْراءُ البِرايةِ فَرَعُ قانٍ، ... كَوَقْفِ العاجِ عَاتِكَةُ اللِّياطِ
شَفَعْتُ بِهَا مَعَابِلَ مُرْهَفَاتٍ، ... مُسَالاتِ الأغِرّةِ، كَالقِراطِ
كَأَوْبِ النّحلِ غَامِضَةٍ، وَلَيْسَتْ ... بِمُرْهَفَةِ النِّصالِ، ولا سَلاطِ
وَمَرْقَبَةٍ نَمَيْتُ إلى ذُراها، ... تُزِلّ دَوَارِجَ الحَجَلِ القَواطي
وَخَرْقٍ تَعزِفُ الجِنّانُ فيه، ... بَعيدِ الجَوْفِ، أَغْبَرَ ذي انخراطِ
كَأَنّ على صحاصِحِهِ رِياطاً ... مُنَشَّرَةً، نُزِعْنَ عَنِ الخِياطِ
أَجَزْتُ بِفِتْيَةٍ بِيضٍ خِفافٍ، ... كَأَنّهُمُ تُمِلُّهُمُ سِماطي
فآبُوا بالسّيوفِ بِهَا فُلُولٌ، ... كَأَمْثَالِ العِصيّ من الحَمَاطِ

المذهبات
حسان بن ثابت الأنصاري عبد الله بن رواحة مالك بن عجلان قيس بن الخطيم الأوسي أُحيحة بن الجلاح أبو قيس بن الأسلت عمرو بن امرىء القيس
حسان بن ثابت الأنصاري الطويل

لَعَمْرُ أَبِيكَ الخَيْرِ حَقّاً لَمَا نَبا ... عَلَيَّ لِسَاني في الخُطُوبِ ولا يَدِي
لِسَاني وسَيْفي صَارِمَانِ كِلاَهُمَا، ... وَيَبْلُغُ، ما لاَ يَبْلُغُ السّيفُ، مِذْوَدِي
وإنْ نَالَني مالٌ كَثيرٌ أَجُدْ بِهِ، ... وَإنْ يُهْتَصَرْ عَودي على الجُهْدِ يَجْمُدِ
فلا المالُ يُنْسِيني حَيَائي وَلاَ وَاقِعاتُ الدّهرِ يَفْلُلْنَ مِبْردي
أُكَثِّرُ أهلي مِنْ عِيالٍ سِوَاهُمُ، ... وَأَطوِي على الماءِ القَراحِ المُبَرَّدِ
وَأُعمِلُ ذاتَ اللّوثِ حتى أَرُدّها، ... مُبَدَّدَةً أَحْلاسُها لم تُشَدَّدِ
تَرَى أَثَرَ الأنْسَاعِ فيها كَأنّها ... مَوَارِدُ مَاءٍ، مُلْتَقَاها بِفَدْفَدِ
أُكَلّفُهَا أَنْ تُدْلِجَ اللّيْلَ كُلَّهُ، ... تَرُوحُ إلى دارِ ابنِ سَلْمَى وَتَغْتَدي
فَأَلْفَيْتُهُ فَيْضاً كَثيراً فُضُولُهُ،جَواداً مَتَى يُذكَرْ لَهُ الحَمْدُ يَزْدَدِ
وَإنّي لَمُزْجٍ للمَطيّ على الوَجَى، ... وَإنيّ لَتَرّاكٌ لِمَا لَمْ أُعَوَّدِ
وَإنيّ لَقَوّالٌ، لَدَى البَيْتِ، مَرْحَباً ... وَأَهلاً، إذا ما ريعَ من كلّ مَرْضَدِ
وَإنيّ لَيَدْعُونِي النّدَى، فَأُجيبُهُ، ... وَأَضْرِبُ بَيْضَ العَارِضِ المُتَوَقِّدِ
فَلاَ تَعْجَلَنْ يَا قَيْسُ، وارْبَعْ، فَإنّما ... قُصاراكَ أَنْ تُلْقَى بِكُلِّ مُهَنّدِ
حُسَامٌ وَأَرماحٌ بِأَيدي أَعِزَّةٍ، ... مَتى تَرَهُمْ، يَا ابنَ الخطيمِ، تَبَلَّدِ
أُسودٍ لها الأشبالُ تَحمي عَرينَها، ... مَداعِيسُ بالخَطّيّ في كلّ مَشْهَدِ
فَقَدْ ذَاقَتِ الأوْسُ القِتَالَ، وَطُرِّدَتْوَأَنْتَ لدى الكُنَّاتِ في كلِّ مَطْرَدِ
فَغَنِّ لَدَى الأبياتِ حُوراً كَوَاعِباً، ... وَحَجِّرْ مَآقيكَ الحِسَانَ بِإثْمِدِ
نَفَتْكُمْ عَنِ العَلْيَاءِ أُمٌّ ذَمِيمَةٌ،وَزَندٌ متى تُقدَحْ بِهِ النّارُ يَصْلَدِ

عبد الله بن رواحة الوافر
تَذَكّرَ بَعْدَمَا شَطّتْ نُجودَا، ... وَكَانَتْ تَيّمَتْ قَلبي وَلِيدَا
كَذِي داءٍ غَدَا في النّاسِ يمشي، ... وَيَكْتُمُ داءَهُ زَمَناً عَمِيدَا
تَصَيَّدُ عَوْرَةَ الفِتْيَانِ حتى ... تَصِيدَهُمُ، وَتَشْنَا أَن تَصِيدَا
فَقَدْ صَادَتْ فؤادَكَ يَوْمَ أَبْدَتْ ... أَسيلاً خَدَّها، صَلْتاً، وَجِيدَا
تُزَيِّنُ مَعْقِدَ اللّبّاتِ منها، ... شُنوفٌ في القَلائِدِ، والفَرِيدَا
فإنْ تَضْنُنْ عَلَيْكَ بِمَا لَدَيْهَا، ... وَتَقْلِبْ وَصْلَ نَائِلِها، جَدِيدَا
لَعَمْرُكَ ما يُوَافِقُني خَلِيلٌ، ... إذا ما كانَ ذَا خُلْفٍ كَنُودَا
وَقَدْ عَلِمَ القَبَائِلُ، غَيْرَ فَخْرٍ، ... إذا لم تُلْفَ ماثِلَةً رَكُودَا
بِأَنّا تَخْرُجُ الشّتَواتُ مِنّا ... إذا ما استحكمتْ، حَسَباً وجُودَا
قَدُورٌ تَغْرَقُ الأوصالُ فيها، ... خَضيبٌ لَوْنُها بِيضاً وَسُودَا
مَتَى ما تَأْتِ يَثْرِبَ، أَو تَزُرْها ... تَجدْنا نَحْنُ أَكْرَمَهَا وُجُودَا
وَأَغْلظَها على الأعداءِ رُكْناً، ... وَأَلْيَنَها لباغي الخَيْرِ عُودَا
وَأَخْطَبَهَا، إذا اجْتَمَعُوا لأَمِرٍ، ... وَأَقْصَدَهَا، وَأَوْفَاهَا عُهُودَا
إذا نُدْعَى لثأْرٍ أو لجارٍ، ... فَنَحْنُ الأكثَرُونَ بها عَدِيدَا
مَتَى مَا تَدْعُ في جَشْمِ بنِ عَوْفٍ ... تَجِدْنِي لا أَغَمَّ، ولا وحيدَا
وَحَوْلِي جَمْعُ سَاعِدَةَ بنِ عَمرٍو، ... وَتَيْمُ اللاّتِ قَدْ لِبِسوا الحَدِيدَا
زَعَمْتُمْ أنما نِلْتُمْ مُلوكاً، ... وَنَزْعُمُ أنما نِلْنَا عَبِيدَا

وَمَا نَبْغِي مِنَ الأحْلاَفِ وَتَراً، ... وَقَدْ نِلْنَا المُسَوَّدَ والمَسُودَا
وَكَانَ نِساءكُمْ في كلّ دارٍ، ... يُهَرِّشنَ المَعَاصِمَ والخُدُودَا
تَرَكْنَا جُحَجَبَى كَبَنَاتِ فَقْعٍ، ... وَغَوْغَا في مَجَالِسِها قُعُودَا
وَرَهْطَ أَبي أُمَيّةَ قَدْ أَبَحْنَا، ... وَأَوْسَ اللَّهِ أَتْبَعَنَا ثَمُودَا
وَكُنْتُمْ تَدّعُونَ يَهُود مالاً ... أَلاَنَ وَجَدْتُمُ فِيهَا يَهُودَا
وَقَدْ رَدّوا الغَنَائِمَ في طَرِيفٍ ... وَنَحَّامٍ وَرَهْطِ أَبِي يَزِيدَا

مالك بن عجلان المنسرح
إنّ سَمِيراً أَرَى عَشِيرَتَهُ، ... قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ، وَقَدْ أَنِفُوا
إنْ يَكُنِ الظّنُّ صَادِقاً بِبَني النّجّا ... رِ لا يُطْعِمُوا الذي عَلَفُوا
لَنْ يُسَلِمُونَا لِمَعْشَرٍ أَبَداً، ... مَا كَانَ مِنْهُمْ بِبَطْنِهَا شَرَفُ
لَكِنْ مَوَاليّ قَدْ بَدَا لَهُمُ ... رَأْيٌ سِوَى ما لَدَيّ، أَوْ ضَعُفُوا
إمّا يَخيِمُونَ في اللِّقاءِ، وإم ... ا وِدُّهم في الصّدِيقِ مُضْطَعَفُ
بَيْنَ بَني جُحَجَبَى، وبَيْنَ بَنِي ... زيدٍ، فَأَنّي لجاريَ التَّلَفُ؟
لاَ نَقْبَلُ الدّهْرَ دُونَ سُنّتِنا ... فينا، ولا دونَ ذاكَ مُنْصَرَفُ
إنْ لاَ يُؤَدّوا الذي يُقَالُ لَهُمْ ... في جَارِنَا، يُقْتَلُوا وَيُخْتَطَفُوا
مَا مِثْلَنَا يُحْتَدَى بِسَفْكِ دَمٍ، ... ما كانَ فِينَا السّيوفُ، والزُّغَفُ
وَالبِيضُ يَغْشَى العُيُونَ لأْلُؤها، ... مُلساً، وَفِينَا الرِّماحُ والجُحَفُ
نَحْنُ بَنُو الحَرْبِ حِينَ تَشْتَجِرُ ال ... حَرْبُ، إذا ما يَهَابُهَا الكُشَفُ
أَبْنَاءُ حَرْبِ الحُرُوبِ ضَرّسَنا ... أَبْكَارُها، والعَوَأنُ والشُّرُفُ
ما مثلُ قَوْمِي قومٌ، إذا غَضِبُوا، ... عِنْدَ قِرَاعِ الحُرُوبِ، تَنْصَرِفُ
يَمْشُونَ مَشْيَ الأُسُودِ في رَهْجِ ال ... موْتِ إلَيْهِ، وَكُلّهُمْ لَهَفُ
مَا قَصّرَ المَجْدُ دُونَ مَحْتِدِنَا، ... بل لَمْ يَزَلْ في بُيوتِنَا يَكِفُ
أَبْلِغْ بني جُحجَبَى، فقد لَقِحَتْ ... حَرْبٌ عَوانٌ، فهل لَكُمْ سَدَفُ
يَمْشُونَ فيها، إذا لَقَيْتَهُمُ، ... خَوادِراً، والرّمَاحُ تَخْتَلِفُ
إنّ سَمِيراً عَبْدٌ بَغَى بَطَراً، ... فَأَدْرَكَتْهُ المَنِيّةُ التَّلِفُ
قد فَرّقَ اللَّهُ بَيْنَ أَمْرِكُمُ، ... في كُلّ صَرْفٍن فَكَيْفَ يأْتَلِفُ
نَمْنَعُ ما عِنْدَنَأ بِهِزَّتِنا، ... زالضّيْمَ نَأْبَى، وكُلُّنا أَنِفُ
قيس بن الخطيم الأوسي الطويل
أَتَعْرِفُ رَسْماً، كالطِّرازِ المَذهَبِ، ... لَعَمْرَةَ وَحْشاً، غَيْرَ مَوْقِفِ رَاكِبِ
تَبَدّتْ لَنَا كالشّمْسِ تَحْتَ غَمَامَةٍ، ... بَدَا حَاجِبٌ مِنْهَا، وَضَنَّتْ بِحَاجِبِ
دِيارَ التي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنىً، ... تَحِلُّ بِهَا، لولا نَجَاءُ النّجَائِبِ
وَلَمْ أَرَها، إلاّ ثَلاثاً على مِنىً، ... وَعَهْدِي بِهَا عَذْرَاءَ ذاتَ ذَوَائِبِ
وَمِثْلَكِ قَد أَصْبَيْتُ لَيْسَتْ بِكَنَّةٍ ... وَلاَ جَارَةٍ فينا، حَلِيلَةِ صَاحِبِ
دَعَوْتُ بَني عَوْفٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ، ... فَلَمّا أَبَوا، سامحتُ في حَرْبِ حَاطِبِ
وَكُنْتُ أَمرأً لا أَبْعَثُ الحَرْبَ ظالِماً،فَلَمّا أبَوْا أَشْعَلْتُ من كلّ جَانِبِ
أَرِبْتُ بِدَفْعِ الحَرْبِ لَمّا رَأَيْتُها،عن الدّفْعِ، لا تَزْدَادُ غَيْرَ تَقَارُبِ

إذا لم يَكُن عَنْ غَايَةِ الحَرْبِ مِدْفَعٌ،فَأَهْلاً بِهَا، إذْ لَمْ تَزَلْ في المَراحِبِ
فَلَمّا رَأَيْتُ الحَرْبَ حَرْباً تَجَرّدَتْ،لَبِسْتُ مَعَ البُرْدَيْنِ ثَوْبَ المُحارِبِ
مُضَاعِفَةً يَغْشَى الأنَامِلَ رَيْعُها، ... كَأَنّ قَتِيريها عُيُونُ الجَنَادِبِ
وَسَامَحَ فِيهَا الكاهِنَانِ وَمَالِكٌ، ... وَثَعْلَبَةُ الأخْيَارِ، رَهْطُ القَبَاقِبِ
رِجَالٌ مَتَى يُدْعَوا إلى الحَرْبِ، يُرْقِلوا ... إلَيْهَا، كإرقالِ الجمَالِ المَصَاعِبِ
إذَا فَزِعوا مَدّوا إليّ قَوَاحِزاً، ... كَمَوْجِ الأتيِّ المُزْبِدِ المُتَرَاكِبِ
تَرَى قِصَدَ المُرّانِ فيها كَأَنّها ... تَذَرُّعُ خُرْصَانٍ بِأَيْدِي الشّواطِبِ
وَمِنّا الذي آلَى ثَلاَيِينَ حِجّةً ... عَن الخَمْرِ، حتى زَارَكُمْ بِالكَتَائِبِ
وَلَمّا هَبَطْنَا السَّهْلَ قَالَ أَمِيرُنَا:حَرامٌ عَلَيْنَا الخَمْرُ ما لم نُضَارِبِ
فَتَابَعَهُ مِنّا رِجالٌ أَعِزَّةٌ، ... فَمَا رَجَعُوا حتى أُحِلّتْ لِشَارِبِ
رَمَيْنَا بِهَا الآطامَ حَوْلَ مُزَاحِمٍ، ... قَوَانِسُ أُولى بَيْضِها كَالكَوَاكِبِ
لَوْ انّكَ تُلْقِي حَنْظَلاً فَوْقَ بَيْضِناتَدَحْرَجَ عَنْ ذَي سَامِهِ المُتَقَارِبِ
إذا مَا فَرَرْنَا كَانَ أَسْوا فِرارِنا ... صُدودَ الخُدُودِ، وازْوِرار المَنَاكِبِ
صُدُودَ الخُدُودِ، والقَنَا مُتَشَاجِرٌ، ... وَلا تَبْرَحُ الأُقدامُ عِنْدَ التّضَارُبِ
فَهَلاّ لَدَى الحَرْبِ العَوَانِ صَبِرْتُمُلَوَقْعَتِنَا، والمَوْتُ صَعْبُ المَرَاكِبِ
طَرَرْنَاكُمُ بِالبِيضِ حَتّى لأَنْتُمُ ... أذَلُّ مَنْ السُّقبانِ بَيْنَ الحَلاَئِبِ
لَقِيتكُمُ يَوْمَ الخَنَادِقِ حَاسِراً، ... كَأَنّ يَدَي بالسّيْفِ مِخْرَاقُ لاَعِبِ
وَيَوْمَ بُعَاثٍ أَسْلَمْتَنَا سُيُوفُنا ... إلى حَسَبٍ في جَذْمِ غَسّانَ ثَاقِبِ
يُجَرِّدنَ بِيضاً كُلَّ يَوْمِ كَرِيهَةٍ، ... ويَغْمِدْنَ حُمْراً خَاضِباتِ المَضَارِبِ
أَطَاعَتْ بَنُو عَوْفٍ أَميراً نَهَاهُمُ ... عنِ السّلْمِ، حتى كانَ أَوّلَ واجِبِ
قَتَلْنَاكُمُ يَوْمَ الفَجَارِ وَقَبْلَهُ، ... وَيَوْمُ بُعاثٍ كَانَ يَوْمَ التّغَالُبِ
صَبَحْنَاكُمُ بَيْضَاءَ يَبْرُقُ بَيْضُها، ... تُبِينَ خَلاَخِيلَ النّساءِ الهَوَارِبِ
أَتَتْ عُصْبَةٌ لِلأْوسِ تَخْطُرُ بالقَنَا، ... كَمَشْيِ الأسودِ في رَشَاشِ الأهَاضِبِ
رَضِيتُ لِعَوْفٍ أَنْ تَقُولَ نِسَاؤهُمْوَيَهْزَأْنَ مِنْهُمْ: لَيْتَنَا لَمْ نُحَارِبِ
فَلَوْلاَ ذُرَى الآكامِ، قَدْ تَعْلَمُونَهُ،وَتَرْكُ الفَضَا شُورِكْتُمُ في الكَوَاعِبِ
أَصَابَ صَرِيحَ القَوْمِ غَرْبُ سُيُوفِنَا،وَغَادَرْنَ أَبْنَاءَ الإِماءِ الحَوَاطِبِ
وَأُبنا إلى أَبْنَائِنَا وَنِسائِنا، ... وما مَنْ تَرَكْنَا، في بُعاثٍ، بِآيِبِ
فَلَيْتَ سُوَيداً راءَ مَنْ خَرّ مِنْهُمُ، ... وَمَنْ فَرّ، إذ نَحدوهُمُ كَالحَلائِبِ

أحيحة بن الجلاح الوافر
صَحَوْتُ عَنْ الصّبَا، والدّهْرُ غُوْلُ، ... وَنَفْسُ المَرْءِ، آوِنةً، قَتُولُ
وَلَو أَنّي أَشَاءُ نَعِمْتُ حَالاً، ... وَبَاكَرَني صَبُوحٌ، أَوْ نَشِيلُ
وَلاَعَبَني على الأنْمَاطِ لُعْسٌ، ... على أفواهِهِنّ الزّنْجَبيلُ
وَلَكِنّي جَعَلْتُ إزايَ مَالي، ... فَأُقْلِلُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَو أُنِيلُ
فَهَلْ مِنْ كَاهِنٍ أَوْ ذِي إلَهٍ، ... إذا ما حَانَ مِنْ رَبٍ أُفُولُ
يُراهِنُني فَيَرهَنُني بَنِيهِ، ... وأَرهَنُهُ بَنيَّ بِمَا أقُولُ

وَمَا يَدْرِي الفَقيرُ مَتَى غِنَاهُ، ... وَمَا يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ
وَمَا تَدْرِي، وَإنْ أَلْقَحْتَ شَوْلاً، ... أَتَلْقَحُ بَعْدَ ذلكَ أَمْ تَحِيلُ
وَمَا تَدْرِي وَإنْ أَجْمَعْتَ أَمْراً، ... بِأَيّ الأرْضِ يُدْرِكُكَ المَقِيلُ
لَعَمْرُ أَبِيكَ مَا يُغْنِي مُقَامي ... مِنَ الفِتْيَانِ أَنْجِيَةٌ حُفُولُ
يَرُومُ، وَلاَ يُقَلِّصُ مُشْمَعِلاً، ... عَنِ العَوْرَاءِ مَضْجَعُهُ الفَصيلُ
تَبُوعٌ للحَلِيلَةِ حَيْثُ كَانَتْ، ... كَمَا يَعْتَادُ لِقِحَتَهُ الفَصيلُ
إذا ما بِتُّ أَعْصُبُهَا، فَبَاتَتْ ... عَلَيّ، مَكَانَها، الحُمّى النَّسُولُ
لَعَلّ عِصَابَها يَأْتِيكَ حَرْباً، ... وَيَأتِيهِمْ بِعَوْرَتِكَ الدّلِيلُ
وَقَد أَعْدَدْتُ للحَدَثَانِ حِصناً، ... لَوَ انّ المَرْءَ تَنْفَعُهُ العُقُولُ
طَوِيلَ الرّأسِ أَبْيَضَ مُشْمَخِرّاً، ... يَلُوحُ كَأنّهُ سَيْفٌ صَقِيلُ
جَلاَهُ القَيْنُ ثَمّتَ لَمْ تَشِنْهُ ... بِشَائِنَةٍ، ولا فِيهِ فُلُولُ
هُنَالِكَ لاَ يُشَاكِلُني لَئِيمٌ، ... لَهُ حَسَبٌ أَلَفُّ، ولا دَخِيلُ
وقد عَلِمَتْ بَنُو عَمْرٍو بِأَنّي ... مِنَ السَّرَوَاتِ أَعْدِلُ مَا يَميلُ
وَمَا مِنْ إخْوَةٍ كَثُرُوا وَطَابُوا ... بِنَاشِئَةٍ، لأُمّهِمُ الهَبُولُ
سَتَثْكُلُ، أَوْ يُفَارِقُهَا بَنُوهَا، ... سَرِيعاً، أَوْ يَهِمّ بِهِمْ قَبِيلُ

أبو قيس بن الأسلت السريع
قالتْ، وَلَمْ تَقْصِدْ لِقَوْلِ الخَنَا: ... مَهْلاً! فَقَدْ أَبْلَغْتِ أَسْمَاعي
أَنْكَرْتُهُ حَتّى تَوَسّمْتُهُ ... وَالحَرْبُ غُولٌ، ذَاتُ أَوْجَاعِ
مَنْ يَذُقِ الحَرْبَ يَجِدْ طَعْمَها ... مُرّاً، وَتَحْبِسْهُ بِجَعجاعِ
قَدْ حَصّتِ البَيْضَةُ رَأْسي، فَمَا ... أَطْعَمُ نَوْماً غَيْرَ تَهْجَاعِ
أَسْعَى عَلى جُلّ بَني مَالِكٍ، ... كلُّ امرىءٍ في شأْنِهِ سَاعِ
بَيْنَ يَدَيْ فَضْفَاضَةٍ فَخْمَةٍ ... ذَاتِ عَرَانينَ وَدَفّاعِ
أَعْدَدْتُ لِلْهَيْجَاءِ مَوْضُونَةً، ... مُتَرَصّةً كالنّهْيِ بِالقَاعِ
أَخْفُرُهَا عَنّي رَوْنَقٍ، ... أَبْيَضَ مِثْلَ المِلْحِ قَطّاعِ
صَدْقٍ حُسَامٍ، وَادِقٌ حَدُّهُ ... وَمَجنإٍ أَسْمَرَ فَزّاعِ
لاَ نَأْلَمُ القَتْلَ، وَنَجْزِي به ال ... أَعداءَ كَيْلَ الصّاعِ بِالصّاعِ
كَأنّنَا أُسْدٌ لَدَى أَشْبُلٍ ... يَنْتَهتْنَ في غِيْلٍ وَأَجْزَاعِ
ثُمّ الْتَقَيْنَا، وَلَنا غَابَةٌ ... مِنْ بَيْنِ جَمْعٍ غير جُمّاعِ
والكَيْسُ والقُوّةُ خَيْرٌ مِنَ ... الإِشْفَاقِ، والفَكّةِ، والهاعِ
لَيْسَ قَطَا مِثْل قُطَيّ ولا ال ... مَرْعِيّ في الأقْوَامِ كَالرّاعي
فَسَائِلِ الأحْلاَفَ، إذْ قَلّصَتْ، ... ما كانَ إبطائي وإسراعي
هَلْ أَبْذُلُ المَالَ على حُبّهِ ... فِيكُمْ، وآتي دَعْوَةَ الدّاعي
وَأَضْرِبُ القَوْنَسَ بِالسّيْفِ في ال ... هَيْجَاءِ لم يَقْصُرْ بِهِ باعي
فَتِلْكَ أَفْعَالي، وقد أَقْطَعُ ال ... خَرْقَ، عَلى أَدْمَاءَ هِلْوَاعِ
ذَاتِ شَقَاشِقٍ جَمَالِيّةٍ، ... زِينَتْ بِحِيريٍ وَأَقْطَاعِ
تَمْطُو على الزّجْرِ، وَتَنْجُو ... مِنَ السَّوْطِ، أَمُونٌ، غَيْرُ مِظْلاَعِ

أَقْضِي بِهَا الحاجاتِ، إنّ الفتى ... رَهْنٌ لِذي لَوْنَيْنِ خَدّاعِ

عمرو بن امرىء القيس المنسرح
يا مالُ، والسّيّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ... يُبْطِرُهُ بَعْضُ رَأْيِهِ السَّرِفُ
خَالَفْتَ فيِ الرّأْيِ كُلَّ ذِي فَخَرٍ، ... والحَقُّ، يَا مَالُ، غَيْرُ مَا تَصِفُ
لاَ يُرْفَعُ العَبْدُ فَوْقَ سُنّتِهِ، ... والحَقُّ يُوفَى بِهِ، وَيُعْتَرَفُ
إنّ بُحَيراً عَبْدٌ لِغَيْرِكُمُ، ... يا مالُ، والحَقُّ عِنْدَهُ، فَقِفُوا
أُوتِيتُ فِيهِ الوَفَاءَ مُعْتَرِفاً ... بالحَقّ فِيهِ لَكُمْ، فَلا تَكِفُوا
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا، وأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ، والرّأْيُ مُخْتَلِفُ
نحنُ المَكيثُونَ حَيْثُ يَحمَدُنا ال ... مُكثُ، وَنَحْنُ المَصَالِتُ الأُنُفُ
وَالحافظو عَورَةِ العَشِيرَةِ لا ... يأتِيهِمُ، من وَرَائِهِمْ، وَكَفُ
واللَّهِ لا يَزْدَهي كَتِيبَتَنَا ... أُسدُ عَرينٍ، مَقِيلُها غُرَفُ
إذا مَشَيْنَا في الفَارِسيِّ كَمَا ... تَمْشي جِمالٌ مَصَاعِبٌ، قُطُفُ
نَمْشي إلى المَوْتِ مِنْ خَفَائِظِنا، ... مَشْياً ذَرِيعاً، وَحُكْمُنَا نَصَفُ
إنّ سَمِيراً أَبَتْ عَشِيرَتُهُ ... أَنْ يَعْرِفُوا فَوْقَ مَا بِهِ نُطِفُوا
أَوْ تَصْدُر الخَيْلُ، وَهِيَ حَامِلَةٌ، ... تَحْتَ صُوَاهَا جَمَاجِمٌ جُفُفُ
أَوْ تَجْرَعُوا الغَيْظَ مَا بَدَا لَكُمُ، ... فَهَارِشوا الحَرْبِ حَيْثُ تَنْصَرِفُ
إنّي لأُنمِي، إذا انْتَمَيْتُ، إلى ... غُرٍ كِرامٍ، وَقَوْمُنا شَرَفُ
بِيضٌ جِعَادٌ، كَأَنَّ أَعْيُنَهُمْ ... يُكْحِلُها في المَلاَحِمِ السَّدَفُ
المراثي
أبو ذؤيب الهذلي محمد بن كعب الغنوي أعشى باهلة علقمة ذو جدن الحميري أبو زبيد الطائي متمم بن نويرة اليربوعي مالك بن الريب التميمي
أبو ذؤيب الهذلي الكامل
أَمِنَ المَنُونِ وَرَيبِها تَتَوَجّعُ؟ ... والدّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
قَالَتْ أُمَيْمَةُ: ما لِجِسْمِكَ شَاحِباًمُنْذُ ابْتُذِلْتُ وَمِثْلُ مَالِكَ يَنْفَعُ
أَمْ مَا لِجِسْمِكَ لاَ يُلاَئِمُ مَضْجَعاً ... إلاّ أَقَضّ عَلَيْكَ ذَاكَ المَضْجَعُ
فَأَجَبْتُها: أَمّا لِجِسْمِي إنّهُ ... أَوْدَى بَنيّ مِنَ البِلاَدِ، فَوَدّعُوا
أَوْدَى بَنيّ، فَأَعْقَبُوني حَسْرَةً، ... بَعْدَ الرُّقادِن وَعَبْرَةً مَا تُقْلِعُ
سَبَقُوا هَوَيَّ، وأَعْنَقوا لِهَوَاهُمُ ... فَتَخَرِّموا، ولكلّ جَنْبٍ مَصْرَعُ
فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ، ... وَإخالُ أَنّي لاَحِقٌ مُسْتَتْبِعُ
وَلَقَدْ حَرَصْتُ بِأَنْ أُدافِعَ عَنْهُمُ، ... وَإذا المَنِيّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ
وإذا المَنِيّةُ أَنْشَبَتْ أَظْفَارَها، ... أَلْفَيْتَ كُلَّ تَمِيمَةٍ لا تَنْفَعُ
فَالعَيْنُ بَعْدَهُمُ كَأَنّ جُفُونَها ... سُمِلَتْ لِشَوكٍ فَهِيَ عُورٌ تَدْمَعُ
وَتَجَلُّدِي للشّامِتِينَ أُرِيهمُ ... أَنّي لِرَيبِ الدّهْرِ لاَ أَتَضَعْضَعُ
حتى كَأَنّي لِلْحَوادِثِ مَرْوَةٌ، ... بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ
لاَبُدّ مِنْ تَلَفٍ مُقيمٍ، فانْتَظِرْ ... أَبِأَرْضِ قَوْمِكَ أَمْ بِأُخْرَى المَضْجَعُ
وَلَقَدْ أَرَى أنّ البُكَاءَ سَفَاهَةٌ، ... وَلَسَوْفَ يُولَعُ بِالبُكَا مَنْ يُفْجَعُ

وَليَأْتِيَنّ عَلَيْكَ يَوْمٌ مَرّةً ... يُبْكَى عَلَيْكَ مُقَنَّعاً لا تَسْمَعُ
وَالنّفْسُ رَاغِبَةٌ إذا رَغّبْتَها، ... وإذا تُرَدُّ إلى قَلِيلٍ تَقْنَعُ
كَمْ مِنْ جَمِيعي الشّمل ملتئمي الهوى ... كَانُوا بِعَيْشٍ نَاعِمٍ، فَتَصَدّعُوا
فَلَئِنْ بِهِمْ فَجَعَ الزّمَانُ وَرَيْبُهُ، ... إنّي بِأَهْلِ مَوَدّتي لَمُفَجَّعُ
وَالدّهْرُ لا يُبقي على حَدَثَانِهِ، ... جَوْنَ السَّرَاةِ له جَدَائدُ أَرْبَعُ
صَخْبُ الشّوَارِبِ، لا يَزَالُ كَأَنّهُ ... عَبْدٌ لآلِ أَبي رَبيعَةَ مُسْبَعُ
أَكَلَ الجَمِيمَ، وَطَاوَعَتْهُ سَمْحَجٌ ... مِثْلٌ القَنَاةِ، وَأَزْعَلَتْهُ الأمْرُعُ
بِقَرَارِ قِيعَانٍ سَقَاهَا صَائِفٌ، ... واهٍ، فَأَثْجَمَ بُرْهَةً لاَ يُقْلِعُ
فَمَكَثْنَ حِيناً يَعْتَلِجْنَ بِرَوْضِهِ، ... فَيَجِدُّ حِيناً في العِلاَجِ وَيَشْمَعُ
حتى إذا جَزَرَتْ مِيَاهُ رُزُونِهِ ... وَبأَيّ حَزِّ مَلاَوَةٍ يَتَقَطّعُ
ذَكَرَ الوُرُودَ بِهَا، وَسَاوَمَ أَمْرَهُ ... سَوْماً، وَأَقْبَلَ حَيْنَهُ يَتَتَبّعُ
فَاحْتَثّهُنّ مِنَ السَّوَاءِ، وَمَاؤُهُ ... بَثْرٌ، وَعَانَدَهُ طَرِيقٌ مَهْيَعُ
فَكَأَنّهُنّ رَبَابَةٌ، وَكَأنّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى القَدَاحِ وَيَصْدَعُ
وَكَأَنّها بالجِزْعِ جِزْعِ يَنَابِعٍ، ... وَأُولاتِ ذي الحَرَجَاتِ نَهبٌ مُجْمَعُ
وَكَأنّمَا هُوَ مِدْوَسٌ مُتَقَلِّبٌ ... في الكَفّ، إلاّ أَنّهُ هُوَ أَضْلَعُ
فَوَرَدْنَ والعَيُّوقُ مَجْلِسَ رَابيء الضُّ ... رَبَاءِ فَوْقَ النّجْمِ لاَ يَتَتَلّعُ
فَشَرَعْنَ في حَجَراتِ عَذْبٍ بَارِدٍ ... حَصِبِ البِطَاحِ تَسيخُ فِيهِ الأكْرُعُ
فَشَرِبْنَ ثُمّ سَمِعْنَ حِسّاً دُونَهُ ... شَرَفُ الحِجَابِ، وَرَيْبَ قَرْعٍ يُقْرَعُ
وَهَمَاهِماً مِنْ قَانِصٍ مُتَلَبِّبٍ، ... في كَفّهِ جَشءٌ أَجَشُّ وأَقْطَعُ
فَنَكَرْنَهُ فَنَفَرْنَ، وَامْتَرَسَتْ بِهِ ... عَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ
فَرَمَى، فَأَنْفَذَ مِنْ نَحُوصٍ عَائِطٍ، ... سَهْماً، فَخَرّ وَرِيشُهُ مُتَصَمِّعُ
وَبَدَأ لَهُ أَقْرَابُ هَذَا رَائغاً ... عَجِلاً، فَعَيّثَ في الكِنانَةِ يُرْجِعُ
فَرَمَى فَأَلْحَقَ صَاعِدِيّاً مِطْحَراً ... بِالكَشْحِ، مُشْتَمِلاً عَلَيْهِ الأضْلُعُ
فَأَبَدّهُنّ حُتُوفَهُنّ، فَظالِعٌ ... بِذَمَائِهِ، أَوْ سَاقِطٌ مُتَجَعْجِعُ
يَعْثُرْنَ في عَلَقِ النَّجِيعِ كَأنّمَا ... كُسِيَتْ بُرُودَ بَني يَزِيدَ الأذْرُعُ
وَالدَّهْرُ لاَ يَبْقى عَلَى حَدَثَانِهِ ... شَبَبٌ أَفَزَّتْهُ الكِلاَبُ مُرَوَّعُ
شَعَفَ الضّرَاءُ الدّاجِنَاتُ فُؤَادَهُ، ... فَإذَا يَرَى الصّبْحَ المُصَدَّقَ يَفْزَعُ
يَرْمِي بِعَيْنَيْهِ الغُيُوبَ وَطَرْفُهُ ... مُغْضٍ، يُصَدِّقُ طَرْفُهُ مَا يَسْمَعُ
وَيَلُوذُ بِالأرْطَى، إذَا مَا شَفَّهُ ... قَطْرٌ، وَرَاحَتْهُ بَلِيلٌ زَعْزَعُ
فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ ... أُولى سَوابِقِهَا قَرِيباً تُوزَعُ
فانْصَاعَ مِنْ حَذَرٍ، فَسَدّ فُرُوجَهُ ... غُضْفٌ ضَوارٍ وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
فَنَحَا لَهَا بِمُذَلَّقَيْنِ، كَأنّما ... بِهمَا مِنَ النُّضْجِ المُجَزَّعِ أَيْدَعُ

يَنْهَشْنَهُ، ويَذُودُهُنّ، وَيَحْتَمي ... عَبْلُ الشَّوَى بِالطُّرَّتَينِ مُوَلَّعُ
حَتّى إذا ارْتَدّتْ وَأَقْصَدَ عُصْبَةً ... مِنْهَا، وَقَامَ سَوِيدُها يَتَصَرَّعُ
وَكَأَنّ سَفُّودَيْنِ لَمّا يُقْتِرَا ... عَجِلا له بِشِواءِ شَرْبٍ يُنْزَعُ
فَرَمَى لِيُنْقِذَ فَذَّهَا، فَأَصَابَهُ ... سَهْمٌ، فَأَنْفَذَ طُرّتَيْهِ المَنْزَعُ
فَكَبا كَمَا يَكْبُو فَنِيقٌ تَارِزٌ، ... بِالخَبْتِ، إلاّ أنّهُ هُوَ أَبْرَعُ
وَالدَّهْرُ لاَ يَبْقَى على حَدَثَانِهِ ... مُسْتَشْعِرٌ حَلَقَ الحَدِيدِ مُقَنَّعُ
حَمِيَتْ عَلَيْهِ الدِّرْعُ، حَتّى وَجْهُهُمِنْ حَرِّهَا، يَوْمَ الكَرِيهَةِ، أَسْفَعُ
تَعْدُو بِهِ خَوْصَاءُ يَقْصِمُ جَرْيُها ... حَلَقَ الرِّحالَةِ فَهِيَ رِخْوٌ تَمْزَعُ
قُصِرَ الصَّبُوحُ لَهَا فَشُرِّجَ لَحْمُهابِالنَّيِّ فَهِيَ تَثُوخُ فِيهَا الإِصْبَعُ
تَأْبَى بِدِرَّتها، إذا ما اسْتُغْضِبَتْ، ... إلاّ الحَمِيمَ، فإنّهُ يَتَبَضّعُ
مُتَفَلِّقٌ أَنْسَاؤُهَا عَنْ قَانىءٍ، ... كَالقُرْطِ صاوٍ غُبْرُهُ لاَ يُرْضَعُ
بَيْنَا تُعَانِقُهُ الكُمَاةُ، وَرَوْغُهُ ... يَوْماً، أُتِيحَ لَهُ جَريءٌ سَلْفَعُ
يَعْدوُ بِهش عَوْجُ اللَّبانِ كَأَنّهُ ... صَدَعٌ، سَلِيمٌ عَطْفُهُ، لا يَظْلَعُ
فَتَنَازَلا، وَتَواقَفَتْ خَيْلاَهُما، ... وَكِلاَهُمَا بَطَلُ اللّقاءِ، مُخَدَّعُ
يَتَحَامَيَانِ المَجْدَ، كُلٌّ وَاثِقٌ ... بِبَلاَئِهِ، فَاليَوْمُ يَوْمٌ أَشْنَعُ
فَكِلاَهُمَا مُتَوشَّحٌ ذَا رَوْنَقٍ، ... عَضْباً، إذَا مَسَّ الأيَابِسَ يَقْطَعُ
وَكِلاهُمَا في كَفّهِ يَزَنَيّةٌ ... فِيهَا سِنَانٌ كَالمَنَارَةِ أَصْلَعُ
وَعَليْهِمَا مَاذِيّتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ، أَوْ صَنَعُ السّوَابِغِ تُبّعُ
فَتَخَالسَا نَفْسَيْهِمَا بِنَوافِذٍ، ... كَنَوَافِذِ العُبُطّ التي لا تُرقَعُ
وَكِلاَهُما قَدْ عَاشَ عِيْشَةَ مَاجِدٍ، ... وَجَنَى العُلَى، لَوْ أنّ شَيئاً يَنْفَعُ
فَعَفَتْ ذُيُولُ الرِّيحِ بَعْدُ عَلَيْهِما، ... والدَّهْرُ يَحْصُدُ رَيْبَهُ ما يُزْرَعُ

محمد بن كعب الغنوي الطويل
تَقُولُ ابْنَةُ العَبْسيِّ: قَدْ شِبْتَ بَعْدَنا،وَكُلُّ امرىءٍ بَعْدَ الشّبَابِ يَشِيبُ
وَمَا الشَّيْبُ إلاّ غَائِبٌ كَانَ جَائِياً، ... وَمَا القَوْلُ إلاّ مُخطىءٌ وَمُصيبُ
تَقُولُ سُلَيْمَى: مَا لِجسْمِكَ شَاحباً، ... كَأَنّكَ يَحْمِيكَ الشّرَابَ طَبِيبُ
فَقُلْتُ، وَلمَ أَعِيَ الجَوَابَ، وَلم أَبُحْ،وَلِلْدَّهْرِ في الصُّمِّ الصِّلابِ نَصِيبُ
تَتَابَعَ أَحْدَاثٌ تَخَرّمْنَ إخْوَتي، ... فَشَيّبْنَ رَأْسي، والخُطُوبُ تُشِيبُ
لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتْ أَصَابَتْ مَنِيّةٌ ... أَخِي، وَالمَنَايَا لِلرّجَالِ شَعُوبُ
لَقَدْ كَانَ أَمّا حِلْمُهُ فَمُرَوِّحٌ ... عَلَيْهِ، وَأَمّْا جَهْلُهُ فَعَزِيبُ
أَخِي ما أَخِي لا فاحِشٌ عِنْدَ بَيْتِهِ، ... وَلاَ وَرَعٌ عِنْدَ اللِّقاءِ هَيُوْبُ
أَخي كانَ يَكْفِيني، وَكَانَ يُعِينَني ... على نَائِبَاتِ الدَّهْرِ، حِينَ تَنُوبُ
حَلِيمٌ، إذا ما سَوْرَةُ الجَهْلِ أَطْلَقَتْحُبَى الشّيْبِ، للنّفْسِ اللَّجُوجِ غَلُوبُ
هُوَ العَسَلُ الماذيّ لِيناً وَنَائِلاً، ... وَلَيْثٌ، إذا يَلْقَى العُدَاةَ، غَضُوبُ
هَوَتْ أُمُّهُ، مَاذَا تَضَمَّنَ قَبْرُهُ ... مِنَ المَجْدِ، وَالمَعْرِوفِ حِينَ يُثِيبُ

أَخُو سَنَواتٍ يَعْلَمُ الضَّيْفُ أَنَّهُ ... سَيَكْثُرُ مَا في قِدْرِهِ، وَيَطِيبُ
حَبِيبٌ إلى الزُّوَّارِ غِشْيَانُ بَيْتِهِ، ... جَميلُ المُحَيَّا، شَبَّ وَهُوَ أَدِيبُ
كَأَنّ بُيُوتَ الحَيّ، مَا لمْ يَكُنْ بِهَا، ... بَسِابِسُ قَفْرٍ، مَا بِهِنَّ عَرِيبُ
كَعَاليَةِ الرُّمْحِ الرُّدَيّنيّ لَمْ يَكُنْ،إذا ابْتَدَرَ الخَيْلَ الرّجِالُ، يَخِيبُ
إذا قَصَّرَتْ أَيْدِي الرِّجالِ عَنِ العُلَى،تَنَاوَلَ أَقْصَى المَكْرُمَاتِ، كَسُوبُ
جَمُوعُ خِلالِ الخَيْرِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ، ... إذا حَالَ مَكْرُوهٌ بِهِنّ ذَهُوبُ
مُغِيثٌ، مُفِيدُ الفائداتِ، مُعَوَّدٌ ... لِفِعْلِ النّدَى وَالمَكرُمَاتِ، نَدُوبُ
وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلى النَّدى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْ عِنْدَ النِّداءِ مُجِيبُ
فَقُلْتُ ادْعُ أُخْرَى وارْفَعِ الصّوْتَ ثَانياً،لَعَلّ أَبَا المِغْوَارِ مِنْكَ قَرِيبُ
يُجِبَكَ، كَمَا قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، إنَّهُ ... بِأَمْثَالِها رَحْبُ الذّرَاعِ، أَرِيبُ
أَتَاكَ سَرِيعاً واسْتَجَابَ إلى النّدَى، ... كَذَلِكَ، قَبْلَ اليَوْمِ كَانَ يُجِيبُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ يَدْعُو السَّوابِحَ مَرَّةًبِذي لَجَبٍ، تَحْتَ الرِّمَاحِ، مُهِيبُ
فَتىً أَرْيَحيٌّ كَانَ يَهْتَزَّ للنَّدَى، ... كَمَأ اهْتَزَّ مِنْ مَاءِ الحَدِيدِ قَضيبُ
فَتىً مَا يُبالي أَنْ يَكُونَ بِجِسْمِهِ، ... إذا نَالَ خَلاّتِ الكِرَامِ، شُحُوبُ
إذا ما تَرَاءاهُ الرِّجَالُ تَحَفَّظُوا،فَلَمْ يَنْطِقُوا العَوْرَاءَ، وَهُوَ قَرِيبُ
عَلَى خَيْرِ مَا كَانَ الرِّجَالُ خِلاَلُهُ، ... وَمَا الخَيْرُ إلاّ قِسْمَةٌ وَنَصِيبُ
حَلِيفُ النَّدَى يَدْعُو النَّدَى، فَيُجِيبُهُسَريعاً، وَيَدْعُوهُ النَّدى، فَيُجِيبُ
غَيَاثٌ لِعانٍ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُعِينُهُ، ... وَمُخْتَبِطٍ يَغْشَى الدُّخَانَ غَرِيبُ
عَظِيمُ رَمَادِ النّارِ رَحْبٌ فِنَاؤُهُ، ... إلى سَنَدٍ، لَمْ تَجْتَنِحْهُ عُيُوبُ
يَبِيتُ النّدى، يَا أُمَّ عَمرٍو، ضَجيعَهُ، ... إذا لم يَكُنْ في المُنْقَيَاتِ حَلُوبُ
حَلِيمٌ، إذا ما الحِلْمُ زَيَّنَ أَهْلَهُ،مَعَ الحِلْمِ، في عَيْنِ العَدُوِّ، مَهِيبُ
مَعَنّىً، إذا عَادَى الرِّجَالَ عَدَاوَةً، ... بَعِيدٌ، إذا عَادَى الرِّجَالُ، قَرِيبُ
غَنِينَا بِخَيْرٍ حِقْبَةً ثُمّ جَلَّحَتْ ... عَلَيْنَا التي كُلَّ الأَنَامِ تُصِيبُ
فَأَبْقَتْ قَلِيلاً ذَاهِباً، وَتَجَهَّزَتْ ... لآخَرَ، وَالرّاجِي الحَيَاةَ كَذُوبُ
وَأَعْلَمُ أَنَّ الباقيَ الحَيَّ مِنْهُمُ ... إلى أَجَلٍ، أَقْصَى مَدَاهُ قَرِيبُ
لَقَدْ أَفْسَدَ المَوْتُ الحَيَاةَ، وَقَدْ أَتَى ... على يَوْمِهِ عِلْقٌ عَليَّ حَبِيبُ
فَإنْ تَكُنِ الأيَّامُ أَحْسَنَّ مَرَّةً ... إليّ، فَقَدْ عَادَتْ لَهُنّ ذُنُوبُ
جَمَعْنَ النَّوى حَتّى إذا اجْتَمَعَ الهَوَى،صَدَعْنَ العَصَا، حَتّى القَنَاةُ شَعُوبُ
أَتَى دُونَ حُلوِ العَيْشِ حَتّى أَمَرَّهُ ... نُكُوبٌ على آثارِهنّ نُكُوبُ
كَأَنّ أَبَا المِغْوَارِ لَمْ يُوفِ مَرقباً؛ ... إذا رَبَا القَوْمَ الغُزَاةَ رَقِيبُ
وَلَمْ يَدْعُ فِتْياناً كِراماً لِمَيْسِرٍ، ... إذا اشْتَدّ من ريحِ الشّتَاءِ هُبُوبُ
فَإنْ غَابَ مِنْهُمْ غَائِبٌ، أَوْ تَخَاذَلوا،كَفَى ذَاكَ مِنْهُم، والجَنَابُ خَصِيبُ
كَأَنَّ أَبَا المِغْوَارِ ذا المَجْدِ لَم تَجُبْبِهِ البِيدَ عَنْسٌ بِالفَلاَةِ، خَبُوبُ
عَلاَةٌ، تَرَى فِيهَا، إذا حُطَّ رَحْلُها، ... نُدُوباً على آثارِهِنَّ نُدُوبُ

أقسام الكتاب
1 2