كتاب : بدائع البدائه
المؤلف : ابن ظافر الأزدي

بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
في بدائع بدائه الأجوبة
فمن ذلك ما أخبرني به الشيخ الفقيه الأجل أبو محمد عبد الخالق ابن زيدان
المسكي
وكتب لي بخطه قال: أملى على الشيخ العلامة أبو محمد بن برى - رحمه الله - قال: لقي عبيد بن الأبرص امرأ القيس، فقال له عبيد: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال: ألق ما أحببت؛ فقال عبيد:
ما حبة ميتة أحيت بميتها ... درداء ما أنبتت سنا وأضراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الشعيرة تسقى في سنابلها ... فأخرجت بعد طول المكث أكداسا
فقال عبيد:
ما السود والبيض والأسماء واحدة ... لا يستطيع لهن الناس تساسا
فقال امرؤ القيس:
تلك السحاب إذا الرحمن أرسلها ... روى بها من محول الأرض أيباسا
فقال عبيد:
ما مرتجاة على هول مراكبها ... يقطعن طول المدى سيراً وإمراسا
فقال امرؤ القيس:
تلك النجوم إذا حانت مطالعها ... شبهتها في سواد الليل أقباساً
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرضٍ لا أنيس بها ... تأتي سراعاً وما ترجعن أنكاساً
فقال امرؤ القيس:
تلك الرياح إذا هبت عواصفها ... كفى بأذيالها للترب كناساً
فقال عبيد:
ما الفاجعات جهاراً في علانيةٍ ... أشد من فيلقٍ مملوءة باساً
فقال امرؤ القيس:
تلك المنايا فما يبقين من أحدٍ ... يكفتن حمقى وما يبقين أكياساً
فقال عبيد:
ما السابقات سراع الطير في مهلٍ ... لا تستكين ولو ألجمتها فاساً
فقال امرؤ القيس:
تلك الجياد عليها القوم قد سبحوا ... كانوا لهن غداة الروع أحلاساً
فقال عبيد:
ما القاطعات لأرض الجو في طلقٍ ... قبل الصباح وما يسرين قرطاساً
فقال امرؤ القيس:
تلك الأماني تتركن الفتى ملكاً ... دون السماء ولم ترفع به راساً
فقال عبيد:
ما الحاكمون بلا سمعٍ ولا بصرٍ ... ولا لسانٍ فصيح يعجب الناسا
فقال امرؤ القيس:
تلك الموازين والرحمن أنزلها ... رب البرية بين الناس مقياساً
ومثل هذا وإن تفاوت ما بين الأعصار ولم يكن من باب الألغاز
ما ذكر أن الشريف أبا جعفر مسعود بن الحسن العباسي - وهو من ولد العباس - بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ويعرف بالبياضى - كان يتعشق قينةً ببغداد اسمها بدور، وتعرف بجارية بنت الملك، وفيها يقول:
شكا القلب ظلمته في الحشى ... إلي فأسكنت فيه بدورا
وكانت تنزل ببغداد في القطيعة، فاجتمع يوماً هو وأبو تراب هبة الله بن السريجي - وكان شاعراً - فقال بديهاً يخاطب الشريف:
أسلوت حب بدور أم تتجلد ... وسهرت ليلك أم جفونك ترقد؟
فقال الشريف بديهاً:
لا، بل هم ألفوا القطيعة مثلما ... ألفوا نزولهم بها فتبعدوا
فقال أبو تراب:
فإلام تصبر والفؤاد متيم ... ولظى اشتياقك في الحشى يتوقد!
فقال الشريف:
ما دام لي جلد فلست بجازعٍ ... إذ كان صبري في العواقب يحمد
فقال أبو تراب:
أحسنت، كتمان الهوى مستحسن ... لو كان ماء العين مما يجمد
فقال الشريف:
إن كان جفني فاضحي بدموعه ... أظهرت للجلساء أني أرمد
فقال أبو تراب:
فهب الدموع إذا جرت موهتها ... فيقال: لم أنفاسه تتصعد؟
فقال الشريف:
أمشي وأسرع كي يظنوا أنها ... من ذلك المشي السريع تولد
فقال أبو تراب:
هذا يجوز ومثله مستعمل ... لكن وجهك بالمحبة يشهد
فقال الشريف:
إن كان وجهي شاهداً بهوىً فما ... يدرى إلى من بالمحبة أقصد
فقال أبو تراب:
قد رجم الناس الظنون وأجمعوا ... أن التي ذكرت إليها المقصد
فقال الشريف:
لو يجمعون كما زعمت لما رووا ... لي في سواها ما نظمت وأنشدوا
فقال أبو تراب:
قد كان حبك غيرها متحققاً ... والأمر يحدث الهوى يتجدد
فقال الشريف:
حقت حبي غيرها وجعلتها ... مظنونةً، ذا كله لى جيد

فقال أبو التراب:
لو لم تقل ألفوا القطيعة جاز أن ... تنفى به بدر التمام وتجحد
فقال الشريف:
ما قلت لى جلد نفيت به الهوى ... عنى ولكن قلت: في تجلد
فقال أبو التراب:
فإلى متى هذا وطرف رقيبها ... مغضٍ وطيف خيالها متردد
فقال الشريف:
أنا دائباً أبغي الوصال فإن أبت ... منه على عاداتها فسأجهد
فقال أبو التراب:
اخضع وذل لمن تحب فليس في ... حكم الهوى أنف يشال ويعقد
فقال الشريف:
ذا لا يكون مع الحبيب وإنما ... مع ساقطٍ متحيلٍ يتعمد

أنبأني الشيخان
الأجل العلامة تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي والشيخ جمال الدين أبو القاسم عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل الأنصاري المعروف بابن الحرستاني قاضي دمشق الآن - أيدهما الله تعالى - إجازة، قالا: أخبرنا الشيخ الفقيه الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عساكر الدمشقي قراءة عليه - ونحن نسمع - قال: أخبرنا أبو السعادات أحمد بن أحمد بن عبد الواحد المتوكلي، أخبرنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو عبد الله بن أبي الفتح الفارسي، حدثنا محمد بن حميد الخراز، أخبرنا الصولي، حدثني أبو الفضل بل مخلد بن أبان، حدثنا إسحاق الموصلي، قال: حدثنا الأصمعي قال: أول ما تكلم به النابغة - يعني الذبياني - من الشعر، أنه حضر مع عمه عند رجل، وكان عمه يحب أن يحاضر به الناس، ويخاف أن يكون عيياً، فوضع الرجل كأساً في يده، وقال:
تطيب نفوسنا لولا قذاها ... ونحتمل الجليس على أذاها
فقال النابغة:
قذاها أن صاحبها بخيل ... يحاسب نفسه بكم اشتراها
ومن ذلك ما روى
أن جريراً دخل على الوليد بن عبد الملك وعنده عدي بن الرقاع العاملي - ولم يكن جرير رآه من قبل ذلك - فقال الوليد: أتعرف هذا يا جرير؟ فقال: لا يا أمير المؤمنين، فقال: هو ابن الرقاع، فقال جرير: شر الثياب الرقاع، فمن هو؟ قال: هو رجل من عاملة، فقال جرير: هو من الذين قال الله فيهم: " عاملة ناصبة تصلى ناراً حامية " . قال: ويلك يا ملعون! فأنشأ جرير يقول:
يقصر باع العاملي عن الندى ... ولكن أير العاملي طويل
فابتدر عدي فقال:
أأمك يا ذا أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول!
فقال جرير: امرؤ لم أدر كيف أقول. فوثب عدي فأكب على رجل الوليد يقبلها ويقول: أجرني منه يا أمير المؤمنين. فالتفت الوليد إلى جرير وقال: وتربة عبد الملك لئن هجوته لألجمنك ولأسرحن عليك ولأطيفنك بدمشق. فيعيرك الشعراء بذلك، فخرج جرير فصنع قصيدته التي أولها:
حي الهدملة من ذات المواعيس ... فالحنو أصبح قفراً غير مأنوس
افتخر فيها بنزار وعدد أيامهم، وهجا قحطان، وعرض بعدي ولم يسمه، فقال:
أقصر فإن نزاراً لا يفاخرهم ... فرع لئيم وأصل غير مغروس
وابن اللبون إذا مالز في قرنٍ ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
ومن ذلك ما رواه عوانة بن الحكم ويحيى بن عنبسة القرشي
قالا: اجتمع جرير والفرزدق عند بشر بن مروان، فقال لهما: إنكما قد تقارضتما الأشعار، وتطالبتما الآثار، وتقاولتما الفخار، وتهاجيتما؛ فأما الهجاء فلا حاجة لي فيه، ولكن جددا بين يدي فخراً، ودعا ما مضى، فقال الفرزدق:
نحن السنام والمناسم غيرنا ... ومن ذا يسوى بالسنام المناسما!
فقال جرير:
على مقعد الأستاه أنتم زعمتم ... وكل سنام تابع للغلاصم
فقال الفرزدق:
على محرثٍ للفرث أنتم زعمتم ... ألا إن فوق الغلصمات الجماجما
فقال جرير:
وأنبأتمونا أنكم هام قومكم ... ولا هام إلا تابع للخراطم
فقال الفرزدق:
فنحن الزمام القائد المقتدى به ... من الناس، ما زلنا فلسنا لهازما
فقال جرير:
فنحن بنو زيد قطعنا زمامها ... فتاهت كسارٍ طائش الرأس عارم
فقال بشر: يا جرير غلبته بقطعك الزمام وذهابك بالناقة. ثم أحسن جائزتهما، وفضل جريراً.
ومن ذلك ما ذكره ابن سلام في طبقات الشعراء

قال: اجتمع جرير والفرزدق والأخطل في مجلس عبد الملك، فأحضر بين يديه كيساً فيه خمسمائة دينار، وقال لهم: ليقل كل منكم بيتاً في مدح نفسه، فأيكم غلب فله الكيس، فبدر الفرزدق فقال:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجربى شفاء
فقال الأخطل:
فإن تك زق زاملةٍ فإني ... أنا الطاعون ليس له دواء
فقال جرير:
أنا الموت الذي آتى عليكم ... فليس لهاربٍ مني نجاء
فقال عبد الملك: خذ الكيس، فلعمري إن الموت أتى على كل شئ.

ومن ذلك ما روى
أن جريراً اجتمع مع الفرزدق في مجلس عبد الملك، فقال الفرزدق: النوار بنت مجاشع طالق ثلاثاً إن لم أقل بيتاً لا يستطيع ابن المراغة أن ينقضه أبداً، ولا يجد في الزيادة عليه مذهباً، فقال عبد الملك: ما هو؟ فقال:
فإني أنا الموت الذي هو واقع ... بنفسك فنظر كيف أنت مزاوله
وما أحد يا بن الأتان بوائلٍ ... من الموت إن الموت لاشك نائله
فأطرق جرير قليلاً ثم قال: أم حرزة طالق منه ثلاثاً إن لم أكن نقضته وزدت عليه. فقال عبد الملك: هات فقد - والله - طلق أحد كما لا محالة، فأنشد:
أنا البدر يعشى نور عينيك فالتمس ... بكفيك يا بن القين هل أنت نائله
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
فقال عبد الملك: فضلك - والله - يا أبا فراس، وطلق عليك. فقال الفرزدق: فما ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: وأيم الله لا تريم حتى تكتب إلى النوار بطلاقها. فتأنى ساعة، فزجره عبد الملك، فكتب بطلاقها وقال في ذلك:
ندمت ندامة الكسعي لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان لها على القدر الخيار
وقد أفضى الحال إلى ذكر خبر الكسعي الذي تمثل به الفرزدق في الندامة
إذ الحديث شجون، واللسان غير مسجون، وهو أنه خرج يرعى إبلاً له في واد فيه حمض وشوحط، فرأى قضيب شوحطٍ نابتاً في صخرة صماء ملساء، فقال: نعم منبت العود، في قرار الجلمود. ثم أخذ سقاءه فصب ما كان فيه من ماء في أصله، فشربه لشدة ظمئه، وجعل يتعاهده بالماء سنة حتى سبط العود وبسق واعتدل فقطعه، وجعل يقومه، ويقوم أوده حتى صلح، فبراه قوساً وهو يرتجز، ويقول:
أدعوك فاسمع يا إلهي جرسي يارب سددني لنحت قوسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... فإنها من لذتي لنفسي
أنحتها صفراء لون الورس ... صلداء ليست كقسى النكس
ثم يرى بقيته خمسة أسهم وهو يرتجز، ويقول:
هن لعمري خمسة حسان ... يلذ للرامي بها البنان
كأنما قومها ميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان ... أو يرمني بكيده الشيطان
ثم أخذ قوسه وأسهمه، وخرج إلى مكمن كان مورداً لحمرٍ في الوادي، فوارى شخصه حتى إذا وردت رمى عيراً منها بسهم، فمرق منه بعد أن أنقذه، وضرب صخرة فقدح منها ناراً، فظن أنه قد اخطأ، فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمن ... من نكد الجد معاً والحرمان
مالي رأيت السهم فوق الصفوان ... يرمي شراراً مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم وردت حمر أخرى فرمى عيراً فصنع سهمه كالأول وظنه أخطأ، فقال:
أعوذ بالرحمن من شر القدر ... أأخطأ السهم لإرهاف الوتر
أم ذاك من سوء احتيال ونظر ... وإنني عهدي لرام ذو ظفر
مطعم بالصيد في طول الدهر
ثم وردت حمر أخرى، فرمى عيراً منها بسهم ففعل سهمه كالأول، وظنه أخطأ فقال:
يا حسرتا للشؤم والجد النكد ... قد شفني القوت لأهلي والولد
والله ما خلقت في ذاك العمد ... لصعبتي من سبدٍ ولا لبد
أذهب بالحرمان مع طول الأمد
ثم وردت أخرى حمر أخرى، فصنع كالأول، فقال:
ما بال سهى يوقد الحباحبا ... وكنت أرجو أن يكون صائبا
إذ أمكن العير وأبدى جانباً ... وصار ظني فيه ظناً كاذبا

وخفت أن أرجع يومي خائبا ... إذ أفلتت أربعة ذواهبا
ثم وردت أخرى، فصنع كالأول، فقال:
أبعد خمسٍ قد حفظت عدها ... أحمل قوسي وأريد ردها!
أخزى الإله لينها وشدها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجى ما حييت رفدها ... قد أعذرت نفسي وأبلت جهدها
ثم خرج من مكمنه، فاعترضته صخرة، فضرب بالقوس عليها حتى كسرها، ثم قال: أبيت ليلتي، ثم آتي أهلي. فبات، فلما أصبح رأى خمسة حمرٍ مصرعة، ورأى أسهمه مضرجة بالدم، فندم على ما صنع، وعض على أنامله حتى قطعها وقال:
ندمت ندامةً لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقتلت نفسي
تبين لي سفاة الرأي مني ... لعمر الله حين كسرت قوسي
وقد كانت بمنزلة المفدى ... لدي وعند صبياني وعرسي
فلم أملك غداة رأيت حولي ... حمير الوحش أن ضرجت خمسي
وقد روى في طلاق الفرزدق غير هذا، وليس هذا موضع ذكره.

وروى الحاتمي في كتاب حلية المحاضرة وغيره
قال: خرج جرير والفرزدق من العراق طالبي الرصافة لهشام بن عبد الملك وقد مدحاه، فلما كانا ببعض الطريق نزل جرير ليبول، فتلفتت ناقة الفرزدق، فضربها بالسوط وقال:
علام تلفتين وأنت تحتي ... وخير الناس كلهم أمامي!
متى تردي الرصافة تستريحي ... من الأنساع والدبر الدوامي
ثم قال لرواتهما: الساعة يجئ ابن المراغة فأنشده البيتين، فينقضهما بأن يقول:
تلفت إنها تحت ابن قينٍ ... إلى الكيرين والفأس الكهام
متى ترد الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كل عام
فرجع جرير، فوجد القوم يضحكون، فقال: ما الخبر؟ فقال أحد الرواة: يا أبا حرزة، إن أخاك أبا فراس وقع له كيت وكيت وأنشده البيتين الأولين، فارتجل البيتين الآخرين، فعجب القوم من ذلك الاتفاق، وقالوا: والله يا أبا حرزة، لهكذا زعم أنك تقول، فقال: أو ما علمتم أن شيطاننا واحد!
وروى أن معن بن أوس المزني
كان قد قدم البصرة وجلس بالمربد ينشد الناس، فوقف عليه الفرزدق وقال: يا معن؛ من الذي يقول:
لعمرك ما مزينة رهط معنٍ ... بأخفاف يطأن ولا سنام
فقال معن: هو الذي يقول:
لعمرك ما تميم أهل فلجٍ ... بأرداف الملوك ولا كرام
فقال الفرزدق: حسبك، فإنما جربتك، فقال: قد جربت وأنت أعلم. فانصرف عنه الفرزدق.
وروى مثل هذا
أن خلف بن خليفة الشاعر كان قد سرق، فقطعت يده، فصنع كفاً وأصابع من جلود، واتفق أن مر بالفرزدق في بعض الأيام، فأراد العبث به، فقال: يا أبا فراس، من القائل:
هو القين وابن القين لاقين مثله ... لفطح المساحي أو لجدل الاداهم
فقال الفرزدق: هو الذي يقول:
هو اللص وابن اللص لا لص مثله ... لنقب جدارٍ أو لطر دراهم
فانصرف مخزياً.
وروى لنا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
أنه قال: كنت في مجلس عبد الملك والأخطل ينشده، إذ دخل الجحاف بن حكيم السلمي، فقطع الأخطل إنشاده، والتفت إليه وقال:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليمٍ وعامر!
قال: فنفض الجحاف يده في وجهه وقال:
نعم سوف ننكيهم بكل مهندٍ ... وننكى عميراً بالرماح الشواجر
وكان ذلك عقب مقتل عمير بن الحباب، م قال: لقد ظننت - يا بن النصرانية - أنك لا تجسر علي بهذا القول، ولو وجدتني أسيراً في يدك. فما برح الأخطل حتى حم، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه. فقال: هبك أجرتني منه يقظة، فمن يجيرني منه مناماً! فضحك عبد الملك.
قال علي بن ظافر: وجرى هذا القول يوم البشر على تغلب.
ومن ذلك ما رواه أبو عبيدة وابن عائشة
من سؤال عبد الملك ابن مروان عمر بن أبي ربيعة المخزومي عن مناقضته للفضل بن العباس اللهبى وغلبة الفضل عليه، فقال عمر: نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا جالس في المسجد الحرام في جماعة من قريش إذ دخل علينا الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، فوافقني وأنا أتمثل بهذا البيت:
وأصبح بطن مكة مقشعراً ... كأن الأرض ليس بها هشام

فأقبل علي، وقال: يا أخا بني مخزوم، إن بلدة نتج بها عبد المطلب، وبعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر بها بيت الله عز وجل لحقيقة بألا تقشعر لهشام، وإن أشعر من هذا البيت وأصدق قول الذي يقول:
إنما عبد منافٍ جوهر ... زين الجوهر عبد المطلب
فأقبلت عليه وقلت: يا أخا بني هاشم، وإن أشعر من صاحبك الذي يقول:
إن الدليل على الخيرات أجمعها ... أبناء مخزوم للخيرات مخزوم
فقال: أشعر والله من صاحبك الذي يقول:
جبريا أهدى لنا الخيرات أجمعها ... إذ أم هاشم لا أبناء مخزوم
فقلت في نفسي: غلبني والله، ثم حملني الطمع في انقطاعه على مخاطبتي، فقلت: بل أشعر منه الذي يقول:
أبناء مخزومٍ الحريق إذا ... حركت نيرانه ترى ضرما
يخرج منه الشرار مع لهبٍ ... من حاد عن حره فقد سلما
فوالله ما تلعثم إلى أن أقبل بوجهه وقال: أشعر من صاحبك يا أخا بني مخزوم الذي يقول:
هاشم بحر إذا همى وطمى ... أخمد حر الحريق واضطرما
واعلم وخير المقال أصدقه ... بأن من رام هاشماً هشما
فقال: يا أمير المؤمنين! فتمنيت والله أن الأرض ساخت بي، ثم تجلدت وقلت: يا أخا بني هاشم، أشعر من صاحبك الذي يقول:
أبناء مخزوم أنجم طلعت ... للناس تجلو بنورها الظلما
تجود بالنيل قبل تسأله ... جوداً هنيئاً وتضرب البهما
فأقبل على أسرع من البرق، وقال: أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول:
هاشم شمس بالسعد مطلعها ... إذا بدت أخفت النجوم معاً
اختار منها ربي النبي فمن ... قارعنا بعد أحمدٍ قرعا
فاسودت الدنيا في عيني، وأدبر بي، وانقطعت فلم أحر جواباً، فقلت: يا أخا بني هاشم، إن كنت تفخر علينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تسعنا مفاخرتك، فقال: كيف لا أم لك! والله لو كان منك لفخرت به علي، فقلت: صدقت وأستغفر الله، والله إنه لموضع الفخار صلى الله عليه وسلم. وداخلني السرور لقطعة الكلام، ولئلا ينالني عجز عن إجابته فأفتضح، ثم إنه ابتدأ المناقضة فأفكر هنيهة، ثم قال: قد قلت فلم أجد بداً من الاستماع فقلت: هات، فقال:
نحن الذين إذا سما لفخارهم ... ذو الفخر أقعده الزمان القعدد
فافخر بنا إن كنت يوماً فاخراً ... تلق الألى فخروا بفخرك أفردوا
قل يا بن مخزومٍ لكل مفاخرٍ ... منا المبارك ذو الرسالة أحمد
ماذا يقول ذوو الفخار هنا لكم ... هيهات ذلك، هل ينال الفرقد!
فحصرت وتبلدت، وقلت: لك عندي جواب فأنظرني، وأفكرت ملياً، ثم أنشأت أقول:
لا فخر إلا قد علاه محمد ... فإذا فخرت به فإني أشهد
أن قد فخرت وفقت كل مفاخرٍ ... وإليك في الشرف الرفيع المعمد
ولنا دعائم قد بناها أول ... في المكرمات جرى عليها المولد
من رامها حاشا النبي وأهله ... بالفخر غطمطه الخليج المزبد
دع ذا ورح لغناء خودٍ بضةٍ ... مما نطقت به وغنى معبد
مع فتيةٍ تندى بطون أكفهم ... جوداً إذا علج الحرون الأنكد
يتناولون سلافةً عانيةً ... لذت لشاربها وطاب المقعد
فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجابني بجوابٍ كان أشد على من الشعر، فقال: يا أخا بني مخزوم، أريك السها وتريني القمر! قال أبو عبد الله اليزيدي: يريد: أدلك على الأمر الغامض وأنت لم تبلغ أن ترى الأمر الواضح! وهو مثل ثم قال: تخرج من الفاخرة إلى شرب الخمر المحرمة. فقلت له: أما علمت - أصلحك الله - أن الله تعالى يقول في الشعراء: " وأنهم يقولون مالا يفعلون " ؟ فقال: قد صدقت، وقد استثنى الله - عز وجل قوماً منهم فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا

الصالحات وذكروا الله كثيراً " ، فإن كنت منهم فقد دخلت في الاستثناء واستحققت العقوبة بدعائك إليها، وإن لم تكن منهم فالشرك بالله - عز وجل - عليك أعظم من شرب الخمر. فقلت: أصلحك الله! لا أرى للمستجدي شيئاً أعظم من السكوت، فضحك وقال: أستغفر الله، ثم قام عني. فضحك عبد الملك حتى كاد يموت، ثم قال: يا بن أبي ربيعة، أما علمت أن لبني عبد مناف ألسنة لا تطاق! ثم قضى حوائج عمر وصرفه.
قال علي بن ظافر: وأحسب الحكاية مصنوعة؛ لأن أشعارها ضعيفة.

وروى ورقاء العامري
أن الحجاج قال لليلى الأخيلية لما وفدت عليه: إن شبابك قد هرم فولى، واضمحل أمرك وأمر توبة بن الحمير فأقسم عليك إلا ما صدقتني، هل كان بينكما ريبة قط، أو خاطبك في ذلك قط؟ فقالت: لا والله أيها الأمير، إلا أنه قال لي مرة كلمة فيها بعض الخضوع فقلت له:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
فلا والله ما سمعت بعدها منه نغمة فيها ريبة حتى فرق الموت بيننا. فقال لها الحجاج. فما كان منه بعد ذلك؟ فقالت: وجه صاحباً له إلى حاضرنا فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل، فاعل شرفاً، ثم اهتف بهذا البيت:
عفا الله عنها هل أبيتن ليلةً ... من الدهر لا يسري إلي خيالها!
فلما فعل الرجل ذلك، عرفت المعنى فقلت له:
وعنه عفا ربي وأحسن حفظه ... عزيز علينا حاجة لا ينالها
ومن ذلك ما روى أبو صالح الفزارى
قال: أقبل شقران مولى سلامان من البصرة بتمر قد امتاره، فلقيه ابن ميادة الرماح بن أبرد فقال ما هذا الذي معك؟ قال: تمر امترته لأهلي يقال له زب رباح، فقال ابن ميادة:
كأنك لم تقفل لأهلك مرةً ... إذا أنت لم تقفل بزب رباح
فقال شقران:
فإن كان هذا زبه فانطلق به ... إلى نسوةٍ سود الوجوه قباح
فغضب ابن ميادة، وانحنى عليه بالسوط يضربه، ثم انصرف معضبا.
وكان المغيرة بن حبناء يهاجي زياداً الأعجم العبقسيوكان بالمغيرة وضح
فقال فيه زياد يصف بياضه:
عجبت لأبيض الخصيين عبدٍ ... كأن عجانه الشعري العبور
فقيل له: يا أبا أمامة! لقد شرفته، ورفعت من قدره، إذ تقول كأن عجانه الشعرى، فقال: أو هكذا ظنكم! لأزيدنه شرفاً ورفعة، ثم صنع فيه من قطعة، فقال:
لاتبصر الدهر منهم حارثاً أبداً ... إلا وجدت على باب استه قمرا
واتفق أنهما اجتمعا يوماً بمجلس المهلب
فجرى بينهما مهاترة، فقال المغيرة لزياد:
أقول له وأنكر بعض ما بيألم تعرف رقاب بني تميم؟
فقال زياد:
بلى لعرفتهن مقصراتٍ ... جباه مذلةٍ وسبال لوم
فانقطع المغيرة.
ومن ذلك ما ذكره المدائني
قال: كان أرطاة بن سهية المرئى يهاجي الربيع بن قعنب، فاجتمعا يوماً للمهاترة والمناقضة، فقال أرطاة للربيع:
لقد رأيتك عرياناً ومؤتزراً ... فما دربت أأنثى أنت أم ذكر!
فقال الربيع:
لكن سهية تدري إذ أتيتكم ... على عريجاء لما انحلت الأزر
فانقطع ابن سهية.
ويروى إن صح وجود مجنون بني عامر
أنه لما تزوجت ليلى عظم ذلك عليه، واشتد همه وحزنه، وأراد ابن عمٍ له سفراً، وكان طريقه على منزل ليلى، فأتاه المجنون، وقال له: إذا مررت على منزل ليلى فارفع صوتك بهذا البيت قائلاً:
أما وجلال الله لو تذكرينني ... كذكريك ما نهنهت للعين مدمعا
فلما بلغ منزلها صنع ما سأله إياه، فخرجت ليلى إليه وقالت:
بلى وجلال الله ذكراً لو أنه ... تضمنه صلد الصفا لتصدعا
قال علي بن ظافرٍ: والصحيح أن هذين البيتين من قصيدة للصمة القشيري؛ ولكن نقلت هذه الحكاية من كتاب الأجوبة للقمى
روى الحسن بن صاعد السكوني
قال: حدثني حولان الأسدي قال: نزلنا على ماء يعرف بماء السيال، ونزل بجانب الماء حي آخر، فعلق رجل منا بامرأة من ذلك الحي، فلما أزمعنا الرحيل أخذ الرجل غلاماً منا فرواه هذا البيت وهو:
وما بين ذا الحيين أن يتفرقا ... من الدهر إلا ليلة وضحاها

حتى حفظه، وقال له: قم بإزاء ذلك البيت الذي فيه الجارية وردد هذا البيت، واحفظ ما يرد عليك، ففعل الغلام، وكانت الجارية جالسة وفي حجرها رأس أخ لها كبير تفليه، وأخ لها صغير يصلح شيئاً، فقالت:
لقد كان في عيشٍ رخى لو أنه ... حوى حاجةً في نفسه فقضاها
فقال أخوها الصغير:
أما سمع المفلى لا در دره ... رسالة صبٍ بالسلام نحاها
فقال الكبير:
لحى الله من يلحى المحب على الهوى ... ومن يمنع النفس اللجوج هواها
ثم دعا الرجل فزوجه إياها.

وحدث المدائني
قال: كان بين يحيى بن زياد الحارثي وحماد الراوية ومعلى بن هبيرة، ما يكون مثله بين الشعراء والرواة من المنافسة، وكان معلى يحب أن يطرح حماداً في لسان بعض الشعراء، قال حماد: فقال لي يوماً يحضره يحيى بن زياد: أتقول لأبي عطاء السندي: قل: زج وجرادة ومسجد بني شيطان؟ قال علي بن ظافر: وكان أبو عطاء يرتضخ لكنةً سندية يجعل فيها الجحيم زاياً، والشين سيناً، والطاء والضاد ذالاً، والعين همزة، والحاء هاء - قال: قال حماد: فقلت: ما تجعل لي على ذلك؟ قال: بغلتي بسرجها ولجامها. قلت: وعدلها على يدي يحيى بن زياد. ففعل، وأخذت عليه بالوفاء موثقاً، وجاء أبو عطاء فجلس لينا وقال: مرهباً مرهباً؛ هياكم الله! فرحبنا به، وعرضنا عليه العشاء فأبى، وقال: هل من نبيذ؟ فأحضرناه، فشرب حتى احمرت عيناه، فقلت له: يا أبا عطاء، طرح علينا رجل أبياتاً فيها لغز، ولست أقدر على إجابته، ففرج عني، فقال: هات، فقلت:
أبن لي إن سئلت أبا عطاءٍ ... يقيناً كيف علمك بالمعاني
فقال مسرعاً:
خبير آلم فاسأل تزدني ... بها دبا وآيات المثاني
فقلت:
فما اسم حديدةٍ في رأس رمح ... دوين الكعب ليست بالسنان؟ٍ
فقال:
هو الزز الذي إن بات ضيفاً ... لقلبك لم يزل لك أو لتان
فقلت:فرج الله عنك، تعني الزج
فما صفراء تدعى أم عوفٍ ... كأن رجيلتيها منجلان؟
فقال:
أردت زرادةً وأزن زناً ... بأنك ما قصدت سوى لساني
فقلت:فرج الله عنك، وأطال بقاءك؛ تريد جرادة وأظن ظناً ثم قلت:
أتعرف مسجداً لبني تميمٍ ... فويق الميل دون بني أبان؟
فقال:
بنو سيطان دون بني أبانٍ ... كقرب أبيك من أبد المدان
قال حماد: ورأيت عينيه قد احمرتا وعرفت الغضب في وجهه، فتخوفته فقلت: يا أبا عطاء، هذا مقام المستجير بك، ولك النصف مما أخذت، قال: فاصدقني، فأخبرته الخبر، فقال: أولى لك! قد سلمت وسلم لك جعلك، وانقلب يهجو معلى بن هبيرة، فأفحش.
وروى العسكري هذه الحكاية على غير هذا السياق، فذكر أن حماد الراوية وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان وبكر بن مصعب الزهري اجتمعوا فقالوا: لو بعثنا إلى أبي عطاء السندي - ولم يذكر السبب الذي من أجله اقترح حماد على ابي عطاء ما اقترح - وذكر البيت الثاني:
تزدني والقرآن بها عليمًابصيراً بالمقاطع والمباني
وذكر البيت الثالث:
فما اسم حديدةٍ في رأس رمحٍ ... دوين الصدر ليست بالسنان
وذكر البيت الثامن:
وذلك مسزداً أنساه قدماً ... بنو سيطان مأروف المكان
مدح بشار بن برد يعقوب بن داود وزير المهدي فلم يعبأ به وحرمه فوفد عليه
وطال مقامه ببابه وهو لا يأذن فأحس به في بعض الأيام
فرفع بشار صوته فأنشد:
طال الوقوف على رسوم المنزل
فأجابه يعقوب مسرعاً:
فإذا تشاء أبا معاذٍ فارحل
فرحل بشار، فهجاه بقوله فيه وفي المهدي:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الناي والعود
وهجا أخاه صالح بن داود
وكان قد ولى ولاية، فسقط به المنبر، فقال فيه من قطعة:
هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... أخاك، فضجت من أخيك المنابر
فلما اشتهر هجاؤه دخل يعقوب على المهدي فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا المشرك هجاك بما لا أستطيع أن أذكره؛ فلم يزل المهدي به حتى كتب له قوله:
خليفة يزنى بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان

أبدلنا الله غيره ... ودس موسى في حر الخيزران
فجر ذلك إلى قتل بشار بن برد.

وذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب القيان والمغنين
قال: كانت بالكوفة جارية مغنية يقال لها سعاد جارية السكوني، وكان مولاها من الظرفاء وفتيان طبقته، مروءة وحسن وعشرة ومساعدة، فحضرت سعاد في مجلسٍ فيه مطيع بن إياس وحماد عجرد، فقال مطيع:
قبليني سعاد بالله قبلهواسأليني بها فديتك نحله
فورب السماء لو قلت صل ... لوجهي جعلت وجهك قبله
فقالت الجارية لحماد: اكفينه: ياعم، فقال يجيبه بديهاً:
إن خلاً لها سواك وفيًا ... لا غدوراً بها ولا فيه مله
لايباع التقبيل بيعاً ولا ير ... شى ولا يجعل التعاشق عله
فقال له مطيع: هذا هجاء؛ وما أرادت الجارية هذا كله، ولقد اشتفيت مني على لسان غيرك؛ فقال الجارية - وكانت ظريفة بارعة: صدق؛ ما أردنا أن نسبه؛ فقال حماد:
أنا والله أشتهي مثلها من ... ك ببذل والبذل في ذاك حله
فأجيبي وأنعمي وخذي البذ ... ل وأطفي لعاشقٍ منك غله
قال: فرضي مطيع وخجلت الجارية. وقالت: أنا عائذة بكما من شركما فاكفيانيه، وخذا فيما جئتما له.
حدث المدائني
قال: كان عثمان بن شيبة مبخلاً، وكان حماد عجرد يهجوه، فجاء رجل كان يقول الشعر إلى حماد فقال له:
أعني من غناك ببيت شعرٍ ... على فقري لعثمان بن شيبه
فقال حماد مسرعاً:
فإنك إن رضيت به خليلا ... ملأت يديك من فقرٍ وخيبه
فقال الرجل: جزاك الله خيراً؛ فقد عرفتني من أخلاقه ما قطعني عنه، وصنت ماء وجهي عن بذله.
وروى إسماعيل بن يحيى اليزيدي عن أبيه
قال: كنت جالساً أكتب كتاباً، فنظر فيه سلم الخاسر، فقال:
أير يحيى أخط من كف يحيى ... إن يحيى بأيره لخطوط
قال: فقلت مسرعاً:
أم سلمٍ أدرى بذلك منه ... إنها تحت أيره لضروط
ولها تحته إذا ما علاها ... أزمل من وداقها وأطيط
ليت شعري ما بال سلم بن عمرٍو ... كاسف البال حين يذكر لوط!
لايصلي عليه حين نصلي ... بل له عند ذكره تثبيط
وذكر أبو مروان صاحب كتاب المقتبس في أبناء أهل الأندلس
أن أبا المخشي عاصم بن زيد بن يحيى بن يحيى بن حنظلة بن علقمة بن عدي بن زيد بن حماد العبادي، شاعر الأندلس في زمانه، كان خبيث اللسان، كثير الهجاء، وهو الذي قطع هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك ابن مروان لسانه؛ لأنه عرض به في قصيدة مدح بها أخاه أبا أيوب المعروف بالشامي، وكان بين الأخوين تباعد مفرط، والبيت الذي عرض فيه قوله:
وليس كمن إذا ماسيل عرفاً ... يقلب مقلةً فيها اعورار
وكان هشام في إحدى عينيه نكتة بياض كجد أبيه هشام بن عبد الملك. ثم اتفق لأبي المخشي أن مدح هشاماً ووفد عليه على ماردة، وهو يومئذٍ يتولى حربها لأبيه، فلما مثل بين يديه قال له: يا عاصم، إن النساء اللاتي هجوتهن لمعاداة أولادهن وهتكت أستارهن، قد دعون عليك، فاستجاب الله لهن، فبعث عليك مني من يدرك منك ثأرهن وينتقم لهن. ثم أمر به فقطع لسانه، ثم نبت بعد ذلك وتكلم به. وكان أبو المخشي هذا يسكن بوادي شوس، وكان بين وبين ابن هبيرة مهاجاة شديدة، فاجتمعا يوماً للمناقضة فيه، فقال له ابن هبيرة وعيره بأن نسبه إلى النصرانية لأجل أن آباءه كانوا نصارى بقوله:
أقلفتك التي قطعت بشوشٍ ... دعتك إلى هجائي وانتقالي!
الانتقال: الشم، فقال أبو المخشي مسرعاً:
سألت وعند أمك من ختاني ... جواب كان يغني عن سؤالي
فقطعه.
وعلى ذكر أبي المخشي وقطع لسانه، كان مالك رضوان الله عليه يفتي فيمن قطع لسان رجل عمداً بقطع لسانه من غير انتظار - ثم رجع لما انتهت إليه قصة أبي المخشي، وأنه نبت لسانه بعد أن قطع بمقدار سنة وأنه تكلم به، فقال: ينتظر سنة، فقد ثبت عندي أن رجلاً بالأندلس نبت لسانه بعد أن قطع في نحو هذه المدة.
ونقلت من خط الفقيه أبي محمد عبد الخالق المسكي
قال بشار لعنان:

عنان يا منيتي ويا سكني ... أما تريني أجول في سككك
حرمت منك الوفا معذبتي ... فعجلي بالسجل من صككك
إني ورب السماء مجتهد ... في حل ما قد عقدت من تككك
فقالت مجاويةً له:
لم يبق مما تقول قافية ... يقولها قائل سوى عككك
فقال:
بلى وإن شئت قلت فيشلة ... تسكن الهائجات من حككك
قال علي بن ظافر: عنا لم يدركها بشار، وإنما كان يشاغبها أبو نواس، ولهما في مثل هذا أخبار كثيرة وهذء القافية مما يعايا به.

كان بمصر رجل زجلي كثير الوسخ
قذر الجلد والثوب، لا تكاد تفارقه قفة فيها كراريس، يعرف بالمفشراتي، ويلقب أديب القفة، وكان يصنع مقامات مضحكة فيها غرائب وعجائب، يزعم أنه يضاهي بها مقامات الحريري، وكان يقول: أنا موازنه في كل شيء حتى في اسمه ولقبه، هو أبو القاسم محمد، وأنا القاسم أبو محمد وهو ابن علي وانا ابن علي وهو الجريرى وانا الجريرى وهو البصري، ويجعل هذا من أوضح البراهين وأقوى الأدلة على مساواته في كل قصيدة. ومما أنشدنيه لنفسه - وأنا أذكره على سبيل الإطراف، فلقد كان عجيب الشأن - قوله:
يا سابحاً في بركك ... وصائداً في شبكك
لا تحقرن ككتي ... فككتي كككتك
والككة: مركب من مراكب صعيد مصر ليس فيها مسمار.
وروى أن أبا نواس خرج يوماً وهو مخمور إلى الكناسة
فاستقبله أعرابي ومعه غنم فقال أبو نواس :
أيا صاحب الذود اللواتي تسوقها ... بكم ذلك الكبش الذي قد تقدما؟
فقال الأعرابي:
أبيعكه إن كنت تبغى شراءه ... ولم تك مزاحاً بعشرين درهما
فقال أبو نواس:
أخذت هداك الله رجعى جوانبا ... فأحسن إلينا إن أردت تكرما
فقال الأعرابي:
أحط من العشرين خمساً لأنني ... أراك ظريفاً أخرجنها مسلما
فقيل للأعرابي: أتدري من يكلمك منذ اليوم؟ فقال: لا، فقيل: أبو نواس؛ فرجع فلحقه، وحلف بصدقه غنمه إن لم يقبله.
وروى أنه مر أعرابي ومعه نعجة وكبش وجمل صغير
فقال أبو نواس لمن معه: ما رأيكم في تخجيله؟ فقالوا له: افعل، فقال
بكم النعجة التي ... خلفها الكبش والجمل؟
فقال الأعرابي:
بثلاثين درهماً ... جدداً أيها الأجل
وروى أنه دخل على عنان، فكتب رقعة وناولها إياها
فإذا فيها:
ماذا تقولين فيمن ... يريد منك نظيره؟
فكتبت تحتها عجلةً:
إياي تعنى بهذا! ... عليك فاجلد عميره
ثم ناولته الرقعة، فكتب تحتها عجلاً:
أريد هذا وأخشى ... على يدي منك غيره
فخجلت، وقالت: تعست وتعس من يغار عليك!
وروى الجماز أنه دخل عليها قبل تعارفهما
فأنشد:
إن لي أيراً خبيثاً ... عارم الرأس فلوتا
لو رأى الحر ببحرٍ ... عاد للغلمة حوتا
أو رآه فوق جو ... لنزى حتى يموتا
أو رآه جوف بيتٍ ... صار فيه عنكبوتا
فقالت ارتجالا:
زوجوا هذا بألفٍ ... وأظن الألف قوتا
إنني أخشى عليه ... إن تمادى أن يموتا
بادروا ما حل بالمسكين خوفاً أن يفوتا
قبل أن ينعكس الحا ... ل فلا يأتي ويوتى
فعجب الحاضرون منهما؛ واستظرف كل منهما صاحبه، ودامت صحبتهما بعد ذلك.
وروى المدائني
قال: اجتمع أبو نواس وإسماعيل بن نوبخت وأبو الشمقمق في بيت أذين - قال علي بن ظافر: هو عبد الله الجماز - فبينما هم عنده ؛ إذ جاء أبو العتاهية يسأل عن ابن أذين - وكان بينه وبين أبي الشمقمق شر، فخبئوه من أبي العتاهية في بيت، ودخل أبو العتاهية، فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث، فظنه جارية، فقال لابن أذين: متى استطرفت هذه؟ فقال: قريباً يا أبا إسحاق، فقل فيها شيئاً، فمد أبو العتاهية يده إلى الغلام، وقال:
مددت كفي نحوكم سائلاً ... ماذا تردون على السائل؟
فصاح أبو الشمقمق من داخل البيت قائلاً:
يرد في كفك ذا فيشةٍ ... تشفي جوىً في استك من داخل

فقام أبو العتاهية مغضباً، وهو يطلب الباب، ويقول: أبو الشمقمق والله! وضحك القوم حتى كادوا يهلكون!

وذكر الخالديان
في كتاب أخبار مسلم بن الوليد هذه الحكاية، وذكرها غيرهما بأبسط مما ذكراها، فكتبناها بلفظ الأكثر.
قال دعبل بن علي الخزاعي: بينما أنا بباب الكرخ، إذ أنا بفتاة تسمى قرة، معروفة بظرفٍ وجمالٍ وشعر وأدب وغناء، وقد اجتازت، فتعرضت لها وقلت:
دموع عيني لها انبساط ... ونوم عيني به انقباض
فقالت:
وذا قليل لمن دهته ... بسحرها الأعين المراض
فقلت:
فهل لمولاى عطف قلبٍ ... أو للذي في الحشى انقراض؟
فقالت مسرعة من غير تلبث:
إن كنت تبغي الوصال منا ... فالوصل في ديننا قراض
قال دعبل: فلا أعلم أني خاطبت جارية تقطع الأنفاس بعذوبة ألفاظها، وتختلس الأرواح ببلاغة منطقها، وتذهل الألباب برخيم نغمها؛ مع تلاعة جيد، ورشاقة قد، وكمال عقل، وبراعة شكل، واعتدال خلق، قبلها. فحار والله البصر، وذهل اللب، وجل الخطب، وتلجلج اللسان، وتعلقت الرجلان، وما ظنك بالحلفاء أدنيت من النيران! ثم ثاب إلى عقلي، وراجعني حلمي، وذكرت قول بشار:
لا يؤنسك من مخبأةٍ ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرةٍ ... والصعب يمكن بعدما جمحا
هذا لمن حاول ما دون الطمع فيه اليأس منه، فكيف بمن وعد دون المسألة، وبذل قبل الطلبة! فنقلتها من تلك القافية، وقلت:
أترى الزمان يسرنا بتلاق ... ويضم مشتاقا إلى مشتاق!
فقلت مسرعة:
ما للزمان تقول فيه وإنما ... أنت الزمان فسرنا بتلاق
قال دعبل: فاستتبعتها - وذلك في زمن إملاقي - فقلت: ليس لي إلا بيت مسلم بن الوليد صريع الغواني؛ فصرت إلى بابه، فاستوقفتها وناديته، فقلت: أحمل إليك الخير؛ معي وجه مليح، تقل له الدنيا بما فيها؛ مع ما أنا فيه من ضيقة وعسر، فقال: والله لقد شكوت ما كدت أبادرك بشكواه! إيت بها.
فلما دخلت قال: والله ما أملك سوى هذا المنديل؛ فقلت: هو البغية، ناولنيه، فقال: خذه، لابارك لك الرحمن فيه! فأخذته فبعته بدينار وكسر، واشتريت به لحماً وخبزاً ونبيذاً، ثم صرت إليهما، فإذا هما يتساقطان حديثاً كأنه الدر، فقال: ما صنعت؟ فأخبرته، فقال كيف يصلح طعام وشراب وجلوس، مع وجه مليح بعير نقل ولا ريحان ولا طيب! اذهب فألطف بتما ما كنت في أوله.
قال: فخرجت، فاضطربت في ذلك حتى أتيت به؛ فألفيت باب الدار مفتوحاً، فدخلت فلم أر لهما، ولا لشيءٍ مما كنت جئت به أثراً. فأسقطت في يدي، وقلت: أرى صاحب الربع أخذهما، وبقيت متلهفاً حائراً، أرجم الظن، وأجيل الفكر سائر يومي؛ فلما أمسيت قلت في نفسي: أفلا أدور في البيت لعل الطلب يوقعني على أثرٍ! ففعلت، ووقعت على سرداب، وإذا بهما قد نزلا فيه، وأنزلا معهما ما احتاجا إليه؛ فلما أحسست بهما، دليت رأسي، ثم صحت: مسلم! ثلاثا، فكان من إجابته أن غرد بصوته، وقال:
بت في درعها وبات رفيقي ... جنب القلب طاهر الأطراف
قال دعبل فقلت: ويلك! من يقول هذا؟ قال:
من له في حر أمه ألف قرنٍ ... قد أنافت على علو مناف
قال: فضحكا ثم سكتا، واستجلبت كلامهما، فلم يجيباني بشيء، وباتا في لذتهما، وبت ليلة يقصر عمر الدنيا عن ساعة منها طولاً وغما وهما، حتى أصبحت ولم أكد.
فخرج إلى مسلم، وهي معه، فجعلت أشتمه وأفتري عليه، فلما أكثرت قال: يا أحمق، منزلي دخلت، ومنديلي بعت، ودراهمي أنفقت، فعلى من تثرب يا قواد! فقلت: مهما كذبت علي، فما كذبت في الحمق والقيادة. وانصرفت وتركتهما.
وذكر صاحب كتاب نجباء الأنباء
أن الرشيد اطلع من مستشرفٍ له على قصره، فرأى ولده عبد الله المأمون يكتب على حائط وهو صغير، فقال للخادم: انطلق حتى تنظر ماذا يكتب عبد الله، واحرص على ألا يفطن لك، فذهب الخادم فتسلل حتى قام من خلفه، وهو مقبل على الحائط، فنظر وعاد إلى الرشيد، فأخبره أنه كتب:
قل لابن حمزة ما ترى ... في زيرياجٍ محكمه؟

قال الخادم: إني تسللت عليه، حتى قمت من خلفه وهو لا يعلم لغلبة الفكر عليه، فقال له الرشيد، ارجع فسله عما يكتب، فسيقول لك: إني مفكر في التتميم على هذا البيت، فقل له: اكتب تحته:
قال ابن حمزة يا بني هزلت مجترئاً فمه
فانطلق الخادم إلى الرشيد فكان ما ظنه الرشيد، ففعل الغلام ما أمره به، فأطرق المأمون قليلا؛ ثم قال، لو لا أنك مأمور لم تنج من يدي.
فرجع الخادم إلى الرشيد فأخبره فقال: نجوت. ثم دعا على بن حمزة الكسائي وقال له: من اين علم عبد الله أن الخادم مأمور؟ فقال الكسائي: علمه من قوله: هزلت مجترئاً فمه، إذ كان الخادم لا يقدر على مخاطبته بذلك إلا عن أمر.

وذكر أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في كتاب الوزراء
قال: ذكر أبو الفضل بن عبد الحميد في كتابه، أن الأحول المحرر، شخص مع محمد بن يزداد عند شخوص المأمون إلى دمشق، وأنه شكا يوماً إلى أبي هارون خليفة محمد بن يزداد الوحدة والغربة وقلة ذات اليد، وسأله في أن يسأل له ابن يزداد أن يكلم المأمون في أمره فيبره بشيء. ففعل أبو هارون ذلك، ورأى محمد بن يزداد من المأمون طيب نفس، فكلمه له وعطفه عليه، فقال له المأمون: أنا أعرف الناس به، إنه لا يزال بخير ما لم يكن معه شيء، فإذا رزق فوق القوت بذرة أفسده ذلك، ولكن قد أمرنا له - لشفاعتك - بأربعة آلاف درهم. فدعا ابن يزداد بالأحول؛ فعرفه بما جرى ونهاه عن الفساد، وأمر له بالمال؛ فلما قبضه ابتاع غلاماً بمائة دينار، واشترى سيفاً ومتاعاً، أسرف فيما معه، حتى لم يبق معه شيء. فلما رأى الغلام ذلك أخذ كل ما كان في بيته وهرب، فبقي عرياناً بأسوأ حال، فجاء إلى أبي هارون خليفة محمد بن يزداد فأخبره، فأخذ أبو هارون نصف طومار فكتب في آخره:
فر الغلام فطار قلب الأحول ... وأنا الشفيع وأنت خير مؤمل
ثم ختمه وقال له: امض إلى محمد بن يزداد، فمضى وأوصله إليه. فلما رآه محمد قال له: ما في كتابك؟ قال: لا أدري، قال: وهذا من حمقك، تحمل كتاباً لا تدري ما فيه! ثم فضه فلم ير شيئاً، فجعل ينشره وهو يضحك حتى انتهى إلى آخره، فوقف على البيت، فكتب تحته:
لو لا تعبث أحولٍ بغلامه ... كان الغلام ربيطةً في المنزل
ثم ختمه، وناوله إياه، وأمره أن يرده إلى خليفته. فقال: الله الله في، جعلني الله فداك! ارحمني من الحالة التي قد صرت إليها. فرق له ووعده أن يكلم المأمون، فكلمه وشرح له الحال، ووصف له ضعف عقل الأحول ووهى عقدته، فأمر المأمون بإحضاره؛ فلما مثل بين يديه، قال له: يا عدو الله! تأخذ مالي وتشتري به غلاماً حتى يفر منك! فارتاع لذلك وتلجلج لسانه، فقال: جعلني الله فداك! ما فعلت، فقال: ضع يدك على رأسي واحلف أنك لم تفعل، فارتاع، وجعل ابن يزداد يأخذ بيده لذلك، والمأمون يضحك ويشير إليه أن ينحيها، ثم أمر بإجراء رزق واسع له كل شهر، ووصله مرة بعد مرة حتى أغناه الله، لأنه كان يعجبه خطه.
أنبأنا الفقيه الحافظ التقى أبو محمد عبد الخالق المسكي إجازة أنبأنا
الحافظ السلفي إجازة أنبأنا أبو محمد جعفر بن أحمد السراج اللغوي وابن بعلان الكبير
قالا: أنبأنا أبو نصر عبيد الله بن سعيد السجستاني الحافظ، قال: أخبرنا النجيرمي أبو يعقوب، حدثنا المهلبي، قال: لما حضرت المأمون الوفاة، جلست عند رأسه جارية كان بها مشغوفاً، وقد أخذته غشية، فجعلت تبكيه، وأنشأت تقول:
يا ملكاً لست بناسيه ... وليتني بالنفس أفديه
فأفاق من غشيته، ونظر إليها، وأنشأ يقول:
باكيتي من جزعٍ أقصرى ... قد غلق الرهن بما فيه
ومن حسن الجواب بالشعر بديها
ً
ما روى طماس قال: جاء ابن دنقش الحاجب إلى دار محمد بن عبد الملك الزيات يستدعيه، وقد كان المعتصم طلبه، فدخل المجلس ليلبس ثيابه، فرأى ابن دنقش في صحن الدار غلاماً، له روقة؛ فقال - وهو يظن أن محمد بن عبد الله لا يسمعه:
وعلى اللواط فلا تلومن كاتباً ... إن اللواط سجية الكتاب
فقال محمد مسرعاً:
وكما اللواط سجية الكتاب ... فكذا الحلاق سجية الحجاب
فاستحيا ابن دنقش، واعتذر بأن هذا شيء جرى على لسانه من غير قصد، فقال له محمد بن عبد الملك: إنما يحسن الاعتذار، إذا لم يقع قصاص.
وذكر الصولي في كتاب الوزراء
قال: حدثنا محمد بن موسى اليزيدي قال: دخل الحسن بن وهب على محمد بن عبد الملك وهو في بستان، وأقبل غلام لمحمد بن عبد الملك، حسن الوجه، فقال للحسن: أجز:
كيف ترى هذا الغلام الذي ... أقبل يحكي البدر في المطلع
فقال الحسن:
لا تسألني يا أبا جعفرٍ ... عن مثله في مثل ذا الموضع
فقال أبو الجهم أحمد بن سيف وكان حاضراً:
أتيت والله بها جملةًوخيمة المربع والمرتع
فقال الحسن يعرض بأبي الجهم:
إذا ما حامت العقبان يوماً ... تسترت الجوارح بالغياض
فقال أبو الجهم يجيبه:
ألم يخفق فؤادك يا بن وهبٍ ... لذكري دون رميك في عراضي
وهل ثبتت عقاب في مكان ... إذا نسر تحامل في انقضاض!
فأقسم عليها محمد بأن يمسكا، وأقبل يردد بيت الحسن الذي أوله: لا تسألني فقال: الحسن:
نعم وإن أحببت يا سيدي ... فسرت ما أجملته فاسمع
فقال محمد:
إن كنت تهواه فخذه فقد ... جدت لك الآن به فاقطع
فقال الحسن:
إن كنت تهوى الصدق فأذن لهيخرج إذا حان خروجي معي
قال: اخرج معه يا غلام، فأنت له.
وروى علي بن الجهم
قال: كنت يوماً عند فضل الشاعرة فلحظتها لحظة رابتها، فقالت:
يا رب رامٍ حسنٍ تعرضه ... يرمي ولا أشعر أني غرضه
فقلت:
أي فتى لحظك ليس يمرضه ... وأي عهدٍ محكمٍ لا ينقضه!
فضحكت وقالت: خذ في غير هذا الحديث.
وكان أبو الفضل بن المضاء أحد أمراء بني الأغلب يخضب
فأنشده يوماً أبو شراحيل شريح بن عبد الله بن غانم بن العاص يعرض به:
لعمرك ما الخضاب إذا تولى ... شباب المرء إلا كالسراب
فقال يعقوب يجيبه بديهاً:
فلا تعجل رويدك عن قريبٍ ... كأنك بالمشيب وبالخضاب
وذكر الصولي في كتاب الوزراء حدثني محمد بن العلاء السجزي
قال: دخل أبو ناضرة إلى عبيد الله بن سليمان، فقال:
أيظعن في جملة الظاعنين ... غداً أم يقيم أبو ناضرة؟
فقال الوزير:
يقيم يقيم على رغمه ... وتحلق لحيته الوافرة
فقال عبيد الله بن الفرج، كاتب سر عبد الله سراً:
ويصفع من غير ما حشمةٍ ... وتؤتى حليلته الفاجرة
وذكر أبو عبد الله التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة
قال: حدثني محمد بن الحسن البصري، قال: حدثني الهمداني الشاعر، قال: قصدت ابن الشملغاني في ما درايا، فأنشدته قصيدةً قد مدحته بها، وتأنقت فيها، وجودتها؛ فلم يحفل بها. فسكنت أغاديه كل يوم، وأحضر مجلسه إلى يتقوض الناس؛ فلا أرى للثواب طريقاً. فحضرته يوماً، وقد احتشد مجلسه، فقام شاعر؛ فأنشد نونية، إلى أن بلغ فيها إلى بيت هو:
فليت الأرض كانت مادرايا ... وليت الناس آل الشلمغاني
فعن لي في هذا الوقت هذا البيت، فقمت إليه مسرعاً:
إذا كانت بطون الأرض كنفاً ... وكل الناس أولاد الزواني
فضحك، وأمرني بالجلوس، وقال: نحن أحوجناك لهذا، وأمر لي بجائزة سنية، فأخذتها وانصرفت.
وكان أبو عمر أحمد بن عبد ربه صديقاً لمحمد بن يحيى بن القلفاظ الشاعر
ثم فسد ما بينهما وتهاجيا؛ وكان سبب الفساد بينهما أن ابن عبد ربه مر يوماً، وكان في مشيته اضطراب؛ فقال: يا أبا عمر؛ ما علمت أنك آدر إلا اليوم لما رأيت مشيتك، فقال له ابن عبد ربه: كذبتك عرسك أبا محمد! فعز على القلفاظ كلامه، وقال له: أتتعرض للحرم! والله لأرينك كيف الهجاء! ثم صنع قصيدة أولها:
يا عرس أحمد إني مزمع سفرا ... فودعيني سراً من أبي عمرا
ثم تهاجيا بعد ذلك. وكان القلفاظ يلقبه بطلاس، لأنه كان أطلس لا لحية له؛ ويسمى كتابع العقد حبل القوم؛ فاتفق اجتماعهما مرة عند بعض الوزراء، فقال الوزير للقلفاظ: كيف حالك اليوم مع أبي عمر؟ فقال مرتجلاً:
حال لي طلاس عن رائه ... وكنت في قعدد أبنائه
فبادره ابن عبد ربه، فقال:
إن كنت في قعدد أبنائه ... فقد سقى أمك من مائه
فانقطع القلفاظ خجلاً.
أنبأنا الشيخ النبيه الفقيه أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي عن الفقيه
أبي القاسم مخلوف بن علي القيرواني عن أبي عبد الله محمد بن أبي نصر بن عبد الله الحميدي
قال: أخبرني أبو محمد علي بن أحمد الفقيه بن حزم، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن محمد بن أبي الحسن، قال: وجدت بخط أبي قال: أمرنا الحاكم المستنصر بالله بمقابلة كتاب العين للخليل بن أحمد مع أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي وابني سعيد في دار الملك التي بقصر قرطبة، وأحضر من الكتاب نسخاً كثيرة، في جملتها نسخة القاضي منذر بن سعيد التي رواها بمصر عن ابن ولاد، فمر لنا صدر من الكتاب بالمقابلة، فدخل علينا المستنصر في بعض الأيام فسألنا عن النسخ، فقلنا له: إن نسخة القاضي التي كتبها بخطه محرفة، وأريناه مواضع مغيرة وأبياتاً مكسورة، وأسمعناه ألفاظاً مصحفة ولغات مبدلة. فعجب من ذلك وسأل أبا علي، فقال له نحو ذلك، واتصل المجلس بالقاضي، فكتب إلى المستنصر رقعة فيها:
جزى الله الخليل الخير عنا ... بأفضل ما جزى فهو المجازي
وما خطأ الخليل سوى المغيلي ... وعضروطين في دار الطراز
فصار القوم زرية كل زارٍ ... وسخرية وهزأة كل هازٍ
فلما دخلنا على المستنصر قال لنا: أما القاضي فقد هجاكم، وناولنا الرقعة بخط القاضي - وكانت تحت شيء بين يديه - فقرأناها وقلنا: يا مولانا نحن نجل مجلسك الكريم عن انتقاص أحدٍ فيه، لا سيما مثل القاضي في سنه ومنصبه، فإن أحب مولانا أن يقف على حقيقة ما استدركناه فليحضره وليحضره الأستاذ أبا علي، ثم نتكلم على كل كلمة استدركناها عليه؛ فقال: قد ابتدأكم والبادي أظلم، وليس على من انتصر لوم، قال أبي: فمددت يدي إلى الدواة وكتبت بين يديه:
هلم فقد دعوت إلى البراز ... وقد ناجزت قرناً ذا نجاز
ولا تمش الضراء فقد أثرت ال ... أسود الغلب تخطو باحتفاز
وأصحر للقاء تكن صريعاً ... بماضي الحد مصقولٍ جراز
رويت عن الخليل الوهم جهراً ... لجهلك بالحقيقة والمجاز
دعوت له بخيرٍ ثم أخنت ... يداك على مفاخره العزاز
تهدمها وتجعل ما علاها ... أسافلها ستجزيك الجوازي
جزى الله الإمام العدل عنا ... جزاء الخير فهو له مجازي
به وريت زناد العلم قدماً ... وشرف طالبيه باعتزاز
وجلى عن كتاب العين دجناً ... وإظلاماً بنورٍ ذي امتياز
بأستاذ اللغات أبي علي ... وأخدانٍ بناحية الطراز
بهم صح الكتاب وصيروه ... من التصحيف في ظل احتراز
قال الحميدي: وأسقطنا نحن منها أبياتاً تجاوز الحد فيها. قال: ثم أنشدتها المستنصر بالله، فضحك وقال: قد انتصرت وزدت، وأمر بها فختمت ثم وجه بها إلى القاضي فلم تسمع له بعد كلمة.
أنبأنا الفقيه أبو محمد عبد الخالق المسكي
قال: نزلت من قرافة مصر أودع الشيخ الأجل أبي الحسين بن جبير، فقال لي: كنت على المجيء إليك. فقلت: همة سيدنا هي التي أتت بي، فسألني عن القرافة فقلت: هي موضع يصلح للخير وللشر، من طلب شيئاً وجده. فقال: خذ هذه الحكاية، قال لي بعض مشايخنا عن ابن الفرضي: كنت في موضع يتفرج فيه، وبت به، ثم أقبلت باكراً منه، فلقيني بعد من يقرأ علي، فقال:
من أين أقبلت يا من لا نظير له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك
فأجبته مسرعاً:
من موضع تعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا
قال بديع الزمان الهمذاني
كنت عند الصاحب كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد يوماً، وقد دخل عليه شاعر من شعراء العجم، فأنشده قصيدةً يفضل فيها قومه على العرب، وهي:
غنينا بالطبول عن الطلول ... وعن عنسٍ عذافرةٍ ذمول
وأذهلني عقار عن عقارٍ ... ففي است أم القضاة مع العذول
فلست بتاركٍ إيوان كسرى ... لتوضح أو لحومل فالدخول
وضبٍ بالفلا ساعٍ وذئبٍ ... بها يعوي وليث وسط غيل

يسلون السيوف لرأس ضب ... حراشاً بالغداة والأصيل
إذا ذبحوا فذلك يوم عيدٍ ... وإن نحروا ففي عرسٍ جليل
أما لو لم يكن للفرس إلا ... نجار الصاحب القرم النبيل
لكان لهم بذلك خير فخرٍ ... وجيلهم بذلك خير جيل
فلما وصل إلى هذا الموضع من إنشاده، قال له الصاحب: قدك. ثم اشرأب ينظر إلى الزوايا وأهل المجلس - وكنت جالساً في زاوية من البهو فلم يرني - فقال أين أبو الفضل؟ فقمت وقبلت الأرض وقلت: أمرك! قال: أجب عن ثلاثتك، قلت: وما هي؟ قال: أدبك، ونسبك، ومذهبك. فأقبلت على الشاعر فقلت: لا فسحة للقول ولا راحة للطبع إلا السرد كما تسمع. ثم أنشأت أقول:
أراك على شفا خطرٍ مهول ... بما أودعت لفظك من فضول
تريد على مكارمنا دليلا ... متى احتاج النهار إلى دليل!
ألسنا الضاربين الجزى عليكم ... وإن الجزي أولى بالذليل
متى قرع المنابر فارسي ... متى عرف الأغر من الحجول!
متى عرفت وأنت بها زعيمأكف الفرس أعراف الخيول!
فخرت بملء ما ضغتيك هجراً ... على قحطان والبيت الأصيل
وتفخر أن مأكولا ولبساً ... وذلك فخر ربات الحجول
ففاخرهن في خد أسيلٍ ... وفرعٍ في مفارقها رسيل
وأمجد من أبيك إذا تزيا ... عراة كالليوث على الخيول
قال: فلما أتممت إنشادي التفت إليه الصاحب، وقال له: كيف رأيت؟ قال: لو سمعت به ما صدقت. قال: فإذن جائزتك جوازك؛ إن رأيتك بعدها ضربت عنقك. ثم قال: لا أرى أحداً يفضل العجم على العرب إلا وفيه عرق من المجوسية ينزع إليها.

قال العميد أبو الحسن علي بن الحسن بن أبي الطيب الباخرزي في كتابه
المعروف بدمية القصر وعصرة أهل العصر
جرى بين القاضي أبي سعيد علي بن عبد الله الناصحي وبين الحاكم أبي سعد دوست مبادهة، قال له القاضي:
وما وصل الكتاب إلي حتى ... أجبت إلى الذي استدعاه مني
فقال أبو سعد:
جزاك الله عن مولاك خيراً ... وخفف ثقل هذا الشكر عني
فقال القاضي:
وأولى الشيخ عزاً مستفاداً ... وحقق فيه مأمولي وظني
فقال أبو سعد:
وكم لك نعمة من غير ذكرٍ ... وكم لك منة من غير من
وكان حسان بن عجل الكلبي المعروف بعرقلة أعور
وكان يجلس على حانوت خياط بدمشق يعرف بأبي الحسين الأعرج، وكان له طبع في قول الشعر، فقال له عرقلة يوماً يداعبه:
ألا قل للرقيع أبي حسينٍ ... أراني الله عينك مثل عيني
فقال الأعرج مجاوباً له:
ألا قل لابن كلبٍ لا ابن عجلٍ ... أراني الله رجلك مثل رجلي
فخجل عرقلة من قوله وانصرف.
الباب الثاني
في بدائع بدائه الإجازة
الإجازة أن ينظم الشاعر على شعر غيره في معناه ما يكون به تمامه وكماله. وقد يكون بين متعاصرين وغير متعاصرين؛ وهي مشتقة من الإجازة في السقي، يقال: أجاز فلان فلاناً إذا سقاه أو سقى له، فكأنهم شبهوا عمل الشاعر المجيز لعمل الشاعر المجاز شعره، بسقي الشخص للشخص، قال يعقوب بن السكيت: يقال للذي يرد الماء: مستجيز، وأنشد:
وقالوا فقيم قيم الماء فاستجز ... عبادة إن المستجيز على قتر
قال أبو علي حسن بن رشيق مولى الأزد: ويجوز أن يكون من أجزت عن فلان الكأس إذا صرفتها عنه - دون أن يشربها - إلى من يليه، وكأنهم شبهوا الشاعر لما تعدى إتمام شعره بمجيز الكأس، قال أبو نواس:
وقلت لساقيها أجزها فلم يكن ... لينهى أمير المؤمنين وأشربا
فجوزها عني عصاراً ترى لها ... على الشرف الأعلى شعاعاً مطنبا
وقد ذكرنا أن الإجازة تكون بين عصرين وغير عصرين، ونحن الآن نجعلها لك في فصلين، ونذكر ما ورد في كل فصل من الأخبار على ترتيب الأعصار، وهو شرطنا في هذا الكتاب.
الفصل الأول
في إجازة الشاعر لمعاصره
فمن هذا القسم ما تكون الإجازة فيه بقسيم لقسيم
كما روى الزبير بن بكار قال: استنشد عبد الله بن عباس - رضوان الله عليه - عمر بن أبي ربيعة فأنشده:

تشط غداً دار جيراننا
فبدره ابن عباسٍ، فقال:
وللدار بعد غدٍ أبعد
فقال له عمر: كذلك قلت، أصلحك الله! أفسمعته؟ قال: لا، ولكن كذلك ينبغي أن يكون.

وروى عمران بن عبد العزيز الزهري
أن عمر بن أبي ربيعة شبب بزينب بنت موسى، أخت قدامة بن موسى الجمحي، وكان سبب تشبيبه بها أن ابن أبي عتيق ذكرها له، فأطنب في وصفها بالحسن والجمال، فصنع فيها قصيدته التي أولها:
يا خليلي من ملامٍ دعاني ... وألما الغداة بالأظعان
فبلغ ذلك ابن أبي عتيق. فلامه في ذكرها، فقال له:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي ... إن عندي عتيق ما قد كفاني
لا تلمني فأنت زينتها لي
فبدره ابن أبي عتيق فقال:
أنت مثل الشيطان للإنسان
فقال عمر: هكذا ورب الكعبة قلته، فقال ابن أبي عتيق: إن شيطانك - ورب العزة - ربما ألم بي، فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجد عندك من طاعته، فيصيب مني وأصيب منه.
ومن ذلك ما روى أبو عبيدة
أن راكباً أقبل من اليمامة، فمر بالفرزدق وهو جالس، فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من اليمامة. فقال: هل أحدث ابن المراغة بعدي من شيء؟ قال: نعم، قال: هات، فأنشد:
هاج الهوى بفؤادك المهتاج
فقال الفرزدق:
فانظر بتوضح باكر الأحداج
فأنشد الرجل:
هذا هوى شغف الفؤاد مبرح
فقال الفرزدق:
ونوى تقاذف غير ذات خلاج
فأنشد الرجل:
إن الغراب بما كرهت لمولع
فقال الفرزدق:
بنوى الأحبة دائم التشحاج
فقال الرجل: هكذا والله قال، أفسمعتها من غيري؟ قال: لا، ولكن هكذا ينبغي أن يقال، أوما علمت أن شيطاننا واحد! ثم قال: أمدح بها الحجاج؟ قال: نعم. قال: إياه أراد.
ومن ذلك ما اخبرنا الفقيه أبو محمد عبد الخالق المسكي
أخبرنا أبو طاهر السلفي إجازة، أنبأنا أبو صادق مرثد بن يحيى بن القاسم المديني، قال: كتبت إلى القاضي أبو الحسين علي بن محمد بن صخر الأزدي أن أبا القاسم عمر بن محمد بن سيف أذن لهم في الرواية عنه، أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام قال: قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لابن عبد الأعلى: أتمم هذا البيت وأنت أشعر العرب:
نروح ونغدو كل يومٍ وليلةٍ
فقال مجيباً:
وعما قليلٍ لا نروح ولا نغدو
ومن ذلك ما روى سلمة النميري
قال: حضرت مجلس هشام بن عبد الملك، وبين يديه جرير والفرزدق والأخطل، فأحضرت بين يدي هشام ناقة، فقال متمثلاً:
أنيخها ما بدا لي، ثم أرحلها
أيكم أتمه كما أريد فهي له، فبدر جرير فقال:
كأنها نقنق تعدو بصحراء
فقال: لم تصنع شيئاً، فقال الفرزدق:
كأنها كاسر بالدو فتخاء
فقال: ولا أنت، فقال الأخطل:
ترخى المشافر واللحيين إرخاء
فقال: اركبها لا حملك الله!
ومن ذلك ما روي أن بعض الشعراء قال لأبي العتاهية أجز
برد الماء وطابا
فقال أبو العتاهية:
حبذا الماء شرابا
ومن ذلك ما روي عن دعبل بن علي الخزاعي
أنه قال: كنت أنا ومحمد بن وهيب نسمر عند معقل بن عيسى بن إدريس العجلي، أخي أبي دلف، فطلعت الثريا ليلةً، فقال:
أما ترون الثريا
فبدر محمد بن وهيب، فقال:
كأنها عقد ريا
ومن ذلك ما روى محمد بن إسحاق
عن أبيه قال: قلت:
وصف الصد لمن أهوى فصد
ثم أجبلت، فمكثت عدة ليالٍ لا أقدر على تمامه، فدخل علي عبد الله بن عمار التيمي، فرآني مفكراً، فقال لي: ما قصتك؟ فأخبرته، فقال في الحال:
وبدا يمزح بالهجر فجد
قال إسحاق: ثم تممتها بعد فقلت:
ما له يعدل عني وجهه ... وهو لا يعدله عندي أحد!
ومن ذلك ما روى محمد بن داود بن الجراح
قال: كان أبو تمام حبيب بن أوس الطائي عند الحسن بن وهب، فدخل عليهما أبو نهشل بن حميد، فلما رآه أبو تمام، قال:
أعضك الله أبا نهشل
ثم قال للحسن: أجز فقال:
بخد ريمٍ أبيضٍ أكحل
ثم قال: أجز يا أبا نهشل، فقال:
يطمع في الوصل فإن رمته ... صار مع العيوق في منزل
وهذا أيضاً فيه إجازة بيت ببيت.
ومن ذلك ما روي أن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن الحكم
بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام ابن عبد الملك بن مروان وهو المنعوت بين ملوك الأندلس بالأمير
صنع في بعض غزواته قسيماً، وهو:
نرى الشيء مما يتقى فنهابه
ثم أرتج عليه - وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائباً - فأحضر بعض قواده محمد بن سعيد الزجالي، وكان يكتب له، فأنشده القسيم، فقال:
ومالا نرى مما يقي الله أكثر
فاستحسنه وأجازه وحمله استحسانه على أن استوزره
ومن ذلك ما روى النميري
قال: دخل أبي على المعتز بالله - وكان من جلسائه - فوقع بين الجلساء تنازع، فنهاهم حتى أضجروه؛ قال النميري: فقال له أبي:
عادتك الصفح، والذنوب لنا
فقال المعتز:
كذاك فعل العبيد الملك
قال القاضي الفقيه جمال الدين
سمع الناس يذكرون حكايةً لا أتقلد صحتها، وهي أن أبا تمام لقي ديك الجن وهو طفل يلعب، ويدعي قول الشعر، فقال: إن كنت شاعراً كما تقول، فأجز:
فرقوا بين من أحب وبيني
فقال: أبعد أم أقرب؟ فقال أبو تمام بعد، فقال:
مثل بعد السماك والفرقدين
فقال له: قرب، فقال:
مثل مابين حاجبي وعيني
وذكر عبيد الله بن أحمد بن طاهر في تاريخه الذي ذيل به كتاب أبيه
قال: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن المنجم، أنه أول ما قال الشعر: حضر أبو الصقر إسماعيل بن بلبل عند أبيه في مجلس فيه أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن ووالدي أحمد بن أبي طاهر وجماعة من أهل الأدب، فاستنشدني أبو الصقر شيئاً من شعري، فأنشدته، فاستنكره أبو الصقر، ثم قال: أريد أن أمتحنك في شيء تجيزه، فقلت له: ذلك لك، ففكر، ثم قال:
أنت غلام شاعر خبيث
فقلت من غير تلبث:
أنت امرؤ بجوده يغيث
يعجل ما يعطي ولا يريث
لك القديم ولك الحديث
فقال أبو عبد الله بن أبي فنن: اذهب يا غلام، فأنت أشعر الأولين والآخرين، ثم حضرت المائدة، وحضر عليها كباب رشيدي، فقال ابن أبي فنن:
كباب رشيدي إذا ما رأيته
ثم قال: أجز، فقلت:
وإن كنت شبعاناً قرمت إلى الأكل
ثم قال ابن أبي فنن: ما سمعت أحسن من هذا، ما لهذا الصدر عجز أولى به من هذا.
وهذه الحكاية صدرها من باب الأجوبة وآخرها من هذا الباب.
وذكر الرئيس هلال بن المحسن بن الصابي في كتاب الوزراء والكتاب
قال: حدث أبو الفرج الأصفهاني قال: سكر الوزير المهلبي ليلة، ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري؛ فقال له: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سراً؛ فاهجني الساعة جهراً؛ فقلت: الله في أيها الوزير، إن كنت قد ثقلت عليك، فمرني فلا أعود أجيبك أبداً، وإن كنت تريد قتلي فبالسيف أهون؛ فقال: دع هذا، فلا بد أن تهجوني - وكنت قد سكرت - فقلت:
أير بغلٍ مكوكب
فبدر فقال:
في حرام المهلبي
هات مصراعاً آخر، فقلت: الطلاق لازم لي، إن زدت على هذا كلمة.
وروى عبد الجبار بن حمديس الصقلي
قال: صنع عبد الجليل ابن وهبون المرسي الشاعر نزهة بوادي إشبيلية، فأقمنا فيه يومنا، فلما دنت الشمس للغروب هب نسيم ضعيف غضن وجه الماء، فقلت للجماعة: أجيزوا:
حاكت الريح من الماء زرد
فأجازه كل بما تيسر له، فقال لي أبو تمام غالب بن رباح الحجام: كيف قلت يا أبا محمد؟ فأعدت القسيم له، فقال:
أي درعٍ لقتالٍ لو جمد
فحفظ القسيمان، ونسى ما عداهما.
قال علي بن ظافر: وقد أنبأني الفقيه أبو محمد المسكي إجازة
قال: كتب إلى الحافظ السلفي، أنشدني أبو الفضل أحمد بن عبد الكريم بن مقاتل المقري الصنهاجي بالإسكندرية: قال: أخبرني أبو محمد بن حمديس قال: كنا مع المعتمد بن عباد بحمص الأندلس، فمر على أضاة، قد راح عليها الصبا، فأثبت على وجهه الماء مثل الزرد، فقال:
نسج الريح على الماء زرد
وطلب الإجازة من شعرائه فلم يجبه أحد، فقلت أنا:
أي درع لقتالٍ لو جمد
فاستحسن ذلك مني؛ وكنت وقت الإنشاد رابعاً فجعلني ثانياً، وأمر لي بجائزة سنية.
قال علي بن ظافر: والحكاية الأولى منصوصة في ديوان ابن حمديس الذي دونه لنفسه، وهو موجود في أيدي الناس.
والحكاية الثانية رويناها من هذا الطريق، وقد نقله ابن حمديس إلى غير هذا الموصوف فقال:

نثر الجو على الترب برد ... أي در لنحور لو جمد
فتناقض المعنى بقوله: البرد، وقوله: لو جمد؛ إذ ليس البرد إلا ما جمده البرد، اللهم إلا أن يريد بقوله: لو جمد: لو دام جموده، فيصح ويبعد عن التحقيق.
ومثل هذا قول المعتمد بن عباد يصف فوارة:
ولربما سلت لنا من مائها ... سيفاً وكان عن النواظر مغمدا
طبعته لجياً فذابت صفحة ... منه ولو جمدت لكان مهندا
قال علي بن ظافر: وقد أخذت أنا هذا المعنى، فقلت أصف روضاً:
فلو دام ذاك النبت كان زبرجداً ... ولو جمدت أنهاره كن بلورا
وهذا المعنى مأخوذ عن قول علي بن التونسي الإيادي من قصيدته الطائية المشهورة:
ألؤلؤ قطر هذا الجو أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
وهذا المعنى كثير للقدماء، قال: قال علي بن الرومي من قطعة في العنب الرازقي:
لو أنه يبقى على الدهور ... قرط آذان الحسان الحور

أنبأنا الشيخان
الأجل العلامة أبو اليمن تاج الدين الكندي، والشيخ الفقيه جمال الدين بن الحرستاني إجازة، عن الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر سماعاً، قال: أنبأنا أبو الفرج غيث بن علي الصوري؛ حدثني أبي، قال: سمعت بكار بن علي الرياحي بدمشق يقول: لما وصل عبد المحسن الصوري إلى هنا، جاءني المجدي الشاعر فعرفني به وقال: هل لك في أن نمضي إليه ونسلم عليه! فأجبت وقمت معه؛ حتى أتينا إلى منزله، وكان ينزل دائماً إذا قدم في سوق القمح، وكان بين يديه دكان قطان، وفيها رجل أعمى، فوقفت به عجوز كبيرة، فكلمها بشيء وهي منصتة له، فقال المجدي في الحال:
منصتة تسمع ما يقول
فقال عبد المحسن في الحال:
كالخلد لما قابلته الغول
فقال له المجدي: أحسنت والله يا أبا محمد! أتيت بتشبيهين في نصف بيت. أعيذك بالله!
قال علي بن ظافر
وأخبرني من أثق به - هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي اليحصبي القرموني الزجال بما معناه، قال: ركب المعتمد على الله أبو القاسم بن عباد للتنزه بظاهر إشبيلية في جماعة من ندمائه وخواص شعرائه، فلما أبعد أخذ في المسابقة بالخيول، فجاء فرسه بين البساتين سابقاً، فرأى شجرة تين قد أينعت وأزهرت، وبرزت منها ثمرة قد بلغت وانتهت، فسدد إليها عصا كانت في يده، فأصابها، وثبتت في أعلاها، فأطربه ما رأى من حسنها وثباتها، والتفت ليخبر من لحقه من أصحابه، فرأى ابن جاخ الصباغ أول لا حق به، فقال: أجز:
كأنها فوق العصا
فأجاب مسرعاً:
هامة زنجي عصى
فزاد طربه وسروره بحسن ارتجاله، وأمر له بجائزة سنية.
قال علي بن ظافر
وأخبرني أيضا
ً أن سبب اشتهار ابن جاخ هذا، أن الوزير أبا بكر بن عمار كان كثير الوفادة على ملوك الأندلس، لا يستقر ببلد، ولا يستفزه عن وطره وطن، وكان كثير التطلب لما يصدر من أرباب المهن من الأدب الحسن، فبلغه خبر ابن جاخ هذا قبل اشتهاره، فمر على حانوته وهو آخذ في صناعة صباغته، والنيل قد جر على مده ذيلاً، وأعاد نهاره ليلاً، فأراد أن يعلم سرعة خاطره، فأخرج زنده ويده بيضاء من غير سوء، وأشار إلى يده فقال:
كم بين زندٍ وزند
فقال:
ما بين وصلٍ وصد
فعجب من سرعة ارتجاله مع مضيه في عمله واستعجاله، وجذب يضبعه، وبالغ في الإحسان إليه غاية وسعه.
وأخبرني أيضاً
أنه دخل سرقسطة، فبلغه خبر يحيى القصاب السرقسطي، فمر عليه ولحم خرفانه بين يديه، فأشار ابن عمار إلى اللحم، وقال:
لحم سباط الخرفان مهزول
فقال:
يقول للمفلسين: مه زولوا
وأخبرني الشيخ الأجل الفقيه الزاهد أبو عبد الله محمد القرطبي أيده الله
قال
قال أبو محمد عبد المؤمن بن علي صاحب قرطبة والمغرب يوماً في مجلسه، وقد عوفي من مرضه:
الحمد لله رب العالمين على
ثم طلب إجازته من أهل المجلس، فلم يجبه أحد، فقال أبو العباس ابن حيوس:
برء الإمام الذي في الآمنين علا
قال لي الحافظ ذو النسبتين أبو الخطاب عمر بن دحية: صنع شيخنا قاضي الجماعة أبو العباس بن مضاء إجازة له:
برء الإمام الذي في الناس قد عدلا
ثم عمل فيها أبياتاً
وأخبرني الأجل شهاب الدين يعقوب ابن أخت الوزير الصدر الكبير نجم الدين
أبي الفتح يوسف بن المجاور أدام الله عزه
قال أخبرني البهاء الحسن بن علي بن محمد الخراساني المعروف بابن الساعاتي قال: سايرت الفقيه مرتضى الدين نصر الشيرازي - رحمه الله تعالى - فجرى في الحديث ما أوجب أن قال:
إن هذي النفوس للموت تسعى
واستجازني، فقلت:
فإذا قيل مات لم يك بدعا
وأخبرني القاضي الموفق بهاء الدين أبو علي بن الديباجي الكاتب قال
أنشدني القاضي السعيد أبو القاسم بن سناء الملك رحمه الله تعالى:
إذا مت مهجوراً فلا عاش عاشق
قال: وقد أعياني إتمامه على هذا النمط من الجناس، فقلت:
ولا طار للأحباب بعدي طارق
فقال: إنما مرادي أن يكون الجناس متصلاً مثل الأول فقلت:
وبعدي للأحباب لا طار طارق
قال علي بن ظافر
سايرت في بعض أسفاري سنة ثلاث وستمائة ابن الحرستاني، وأنا عائد من ميا فارقين إلى ماردين، وكان الشتاء كلباً، والبرد قوياً، والوحل شديداً، فلقينا في تلك العقاب عشاً، فقال:
عقاب في ثناياها عقاب
واستجازني، فقلت للوقت: فما هي بالعذاب بل العذاب
قال علي بن ظافر
وبتنا ليلة بالقرافة، فرأى بعض أصحابنا الزهرة، وقد قارنت المشتري، وهما مشرقان في حندس الظلماء، فأفرط في استحسانها، فقال أبو الفضل الوجيه جعفر بن جعفر الحموي:
مقارن الزهرة والمشتري
فقلت: كالزج واللهذم في السمهري فأفرط الجماعة في استحسانه، ثم وقع لي أن أشبههما بلهذمٍ من ذهب وزجٍ من فضة لاصفرار الزهرة وشدة بياض المشتري، فقلت:
أما ترى المشتري وقد قارن الز ... هرة يبغي دنو مقترب
كصعدةٍ زجها ولهذمها ... ذاك لجين، وذا من الذهب
قال علي بن ظافر
اجتمعت أنا والقاضي الأعز أبو الحسن علي ابن المؤيد العساني - رحمه الله - يوماً بالرصد، فرأينا شعاع الأصيل فوق بياض الماء، فقلت له: أجز:
أذكت الشمس على الماء لهب
فقال:
فكست فضته منها ذهب
وقلت له يوما أجز
طار نسيم الروض من وكر الزهر
فقال: وجاء مبلول الجناح بالمطر
وذكر أبو علي الحسن بن رشيق في كتاب الأنموذج حكاية مطبوعة
قال: جلست في دكان أبي لقمان الصفار - وكان يتهم في شعره - مع جماعة من الشعراء، وأبو لقمان والدركادوا الشاعر يلعبان بالشطرنج، ونحن نضحك لما يجري بينهما من غريب المهاترة، فقال الدركادوا: أجز يا أبا لقمان:
حيتان حبك في طنجير بلوائي
فقال أبو لقمان:
وفحم وجهك في كانون أحشائي
فقال له أحمد بن إبراهيم الكموني: أحسنت يا أبا لقمان، قسيمك خير من قسيمه؛ فزهي أبو لقمان وقال: أدافع في بديع الشعر، وهذا شعري في الهتف.
وإنما لم أورد هذه الحكاية مرتبة في نظام الحكايات المتقدمة على ترتيب الأعصار والأزمنة، إذ كان حقها أن تكون بين الحكايات المنسوبة إلى أبي الفرج والمهلبي والمنسوبة إلى ابن حمديس؛ لأنها ليست من بدائع البدائه، ولم أر إخلاء الكتاب منها لما فيها من الحلاوة.
ومن الإجازة إجازة قسيم بقسيم وبيت
كما يروى لنا أن الرشيد هارون - رحمه الله تعالى - صنع قسيما وهو:
الملك لله وحده
ثم أرتج عليه، فقال: استدعوا من بالباب من الشعراء، فدخل عليه جماعة منهم الجماز، فقال أجيزوا - وأنشدهم القسيم - فبدر الجماز فقال:
وللخليفة بعده
فقال له الرشيد: زد، فقال:
وللمحب إذا ما ... حبيبه بات عنده
فقال له الرشيد: أحسنت ولم تعد ما في نفسي؛ وأجازه بعشرة آلاف درهم.
وذكرعبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد
قال: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال: استزارني أحمد بن سعيد الدمشقي وأنا صغير، وسأل أبي أبا الحسن الإذن لي في المسير إليه، وأخبره أن أحمد بن أبي طاهر وأبا طالب بن مسلمة وعلي بن مهدي وجماعة من أهل العلم والأدب عنده؛ فأذن له فصرت إليه، فصادفت عنده أبا الحسن جحظة فلما أردنا القيام إلى صفة في داره للأكل لبس الجماعة نعالهم، وبقي جحظة بغير نعلٍ، فسمعته يقول:
يا قوم من لي بنعل
فقلت:
في بيت تصحيف نعل
فضحكت الجماعة وغضب الدمشقي؛ فقلت:

وليس ذا قول جد ... لكنه قول هزل
فضحك، وتعجب القوم من بديهتي.

قال علي بن ظافر
صنع المتوكل علي بن الأفطس صاحب بطليوس من بلاد الأندلس قسيما، وهو:
الشعر خطة خسف
وأرتج عليه، فاستدعى أبا محمد عبد المجيد بن عبدون، أحد وزراء دولته وخواص حضرته، فاستجازه إياه، فقال:
لكل طالب عرف
للشيخ عيبة عيبٍ ... وللفتى ظرف ظرف
وقد أنبأني الشيخ الأجل الحافظ العلامة ذو النسبتين أبو الخطاب عمر بن الحسن بن دحية الكلبي إجازة عن الأستاذ المفيد أبي بكر محمد بن خير بقراءته عليه، عن الحافظ أبي القاسم خلف بن يوسف الشنتريني - عرف بابن الأبرش - عن أبي الحسن بن بسام في كتاب الذخيرة؛ أن قائل القسيم الأول الأستاذ أبو الوليد ضابط، وأن عبد المجيد أجازه ارتجالا، وهو ابن ثلاث عشرة سنة.
وبهذا الإسناد قال ابن بسام
ذكر أبو علي الحسين بن الغليظ المالقي، قال: قلت يوماً للأديب أبي عبد الله بن السراج المالقي ونحن على جرية ماء، أجز:
شربنا على ماء كأن خريره
فقال مبادراً:
بكاء محب بان عنه حبيبه
فمن كان مشغوفاً كئيباً بإلفه ... فإني مشغوف به وكئيبه
وبه أيضاًما ذكر ابن بسام في كتاب الذخيرة قال
اجتمع ابن عبادة وعبد الله ابن القابلة السبتي بالمرية فنظر إلى غلام وسيم يسبح في البحر، وقد تعلق بسكان بعض المراكب، فقال: ابن عبادة: أجز:
انظر إلى البدر الذي لاح لك
فقال ابن القابلة:
في وسط اللجة تحت الحلك
قد جعل الماء سماءً له ... وصير الفلك مكان الفلك
قال علي بن ظافر: وكل ما أسنده إلى ابن بسام فبهذا الإسناد.
ومنها إجازة قسيم بقسيم وأكثر من بيت
أنبأني الشيخان تاج الدين أبو اليمن الكندي وجمال الدين بن الخراساني عن الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر سماعاً عليه، أخبرنا أبو بكر بن المرزوقي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن أحمد بن الحسين بن عبد العزيز العسكري، أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن الصلت المحبر، حدثنا أبو الفرج الأصبهاني، أخبرني جعفر بن قدامة، حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: دخلت يوماً على نبت جارية مخفرانة - وكانت حسنة الوجه والغناء - فقلت لها: قد قلت مصراعاً فأجيزيه، فقالت لي: قل، فقلت:
يا نبت حسنك يعشي بهجة القمر
فقالت:
قد كاد حسنك أن يبتزني بصري
ثم وقفت أفكر، فسبقتني، فقالت:
وطيب نشرك مثل المسك قد نسمت ... ريا الرياض عليه في دجى السحر
فزاد فكري، فبادرتني، فقالت:
فهل لنا منك حظ في مواصلةٍ ... أو لا فإني راضٍ منك بالنظر
فقمت عنها خجلاً، ثم عرضت بعد ذلك على المعتمد؛ فاشتراها بمشورة علي بن يحيى بثلاثين ألفاً.
وذكر أحمد بن الطيب، عن بعض الكتاب، أنها عرضت بعد ذلك على المعتمد فامتحنها في الغناء، فرضي بما ظهر منها، وكان أول ما غنته لحناً غريباً - والشعر في المعتمد - فقالت:
سنةً وشهراً قابلا بسعود
فطرب المعتمد وتبرك بغنائها. ثم قال لأحمد بن حمدون: قارضها، فقال:
وهبت نفسي للهوى
فقالت:
فجار لما أن ملك
فقال:
فصرت عبداً خاضعاً
فقالت:
يسلك بي حيث سلك
فأمر المعتمد بابتياعها، فاشتريت بثلاثين ألفاً.
وبالإسناد المتقدم عن ابن بسام قال
روى أبو عامر بن شهيد قال: لما قدم زهير الصقلي حضرة قرطبة من المرية، وجه أبو جعفر بن عباس وزيره إلى لمة من أصحابنا، منهم ابن برد وأبو بكر المرواني وابن الحناط والطبني فحضروا، فسألهم عني وقال: وجهوا إليه، فوافاني رسوله مع دابة بسرج محلى، فسرت إليه ودخلت المجلس - وأبو جعفر غائب - فتحرك المجلس لدخولي، وقاموا جميعاً إلي، حتى طلع أبو جعفر علينا ساحباً ذيلاً لم أر أحداً سحبه قبله، وهو يترنم. فسلمت عليه سلام من يعرف قدر الرجال، فرد رداً لطيفاً، فعلمت أن في أنفه نعرة لا يخرج إلا بسعوط الكلام، ولا تراض إلا بمستحصد النظام، ورأيت أصحابي يصيخون إلى ترنمه. فقال لي ابن الحناط - وكان كثير الإنحاء علي، جالباً في المحافل ما يسوء الأولياء إلي - : الوزير حضره قسيم، وهو يسألنا إجازته، فعلمت أني المراد، فاستنشدته فأنشد:

مرض الجفون ولثغة في المنطق
فقلت لمن حضر: لا تجهدوا نفوسكم؛ فما المراد غيري، ثم أخذت الدواة فكتبت:
سببان جرا عشق من لم يعشق
من لي بألثغ لا يزال حديثه ... يذكي على الأكباد جمرة محرق
ينبي فينبو في الكلام لسانه ... فكأنه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها ... ولو أنها كتبت له في مهرق
ثم قمت عنهم، فلم يلبثوا أن وردوا علي، وأخبروني أن أبا جعفر لم يرض بما جئت به من البديهة، وسألوني أن أحمل مكاوي الهجاء على حقارة - وزعموا أن إدريس بن اليماني هجاه فأحسن، فقلت:
أبو جعفر كاتب شاعر ... مليح سنى الخط حلو الخطابة
تملأ شحماً ولحماً وما ... يليق تملؤه بالكتابة
له عرق ليس ماء الجباه ... ولكنه رشح ماء الجنابة
جرى الماء في سفله جرى لينٍ ... فأحدث في العلو منه صلابة
قال علي بن ظافر: وأحسب أن الذي هجاه به إدريس وأفحش فيه قوله، وقد كان وفد عليه بالمربة وامتدحه بقصيدة، فلم يحفل به، فأنفذ إليه عند خروجه منها يقول:
إيهٍ أبا جعفر المرجى ... ما بال طيري خلاف طيرك!
أهديت رقراقة المعاني ... لم أهد أمثالها لغيرك
فلم تمرها ولم تمرني ... ولم تمرها بفضل ميرك
فصار شعري لديك بكراً ... قد يئست من فلاح أيرك

وذكر العميد أبو الحسين علي بن الحسن بن أبي الطيب الباخرزي
في كتابه: دمية القصر وعصرة العصر قال: حدثني الأديب يعقوب بن أحمد، قال: أنشدت بحضرة أبي كامل مفرج بن دغفل الطائي:
صهل الكميت فقلت مالك تصهل
فغيره بعض الحاضرين فقال:
نعب الغراب فقلت مالك تنعب
فقال أبو كامل بديهاً:
أنأى أليفك أم لحالٍ ترهب
أم بت تخبرنا بفرقة جيرةٍ ... قد آن في شعبان أن يتشعبوا
عزموا على ترك النفوس ورابهم ... ماء يسيل على لظى يتلهب
وأنبأني الشيخ الفقيه النبيه أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي وقال
أنبأني الفقيه أبو القاسم مخلوف بن علي القيرواني عن أبي عبد الله محمد بن سعيد السرقطي، عن عبد الحافظ أبي عبد الله محمد بن عمر الأشبوني، قال: قصد ابن جاخ الشاعر فخر الدولة أبا عمرو عباد بن محمد بن عباد، فلما وصل إليه، قال: أجز:
إذا مررت بركب العيس حييها
فقال ابن جاخ في الحال:
يا ناقتي فعسى أحبابنا فيها
ثم زاد فقال:
يا ناق عوجي على الأطلال عل بها ... منهم غريباً يراني كيف أبكيها
أم كيف أرفض طيب العيش بعدهم ... أم كيف أسكب دمعاً في مغانيها
إني لأكتم أشواقي وأسترها ... جهدي ولكن دموع العين تبديها
وذكر الوزير أبو بكر بن اللبانة الداني في كتاب سقيط الدرر ولقيط الزهر
صنع المعتمد على الله بن عباد - رحمه الله تعالى - قسيماً في القبة المعروفة بسعد السعود فوق المجلس المعروف بالزاهي، وهو:
سعد السعود يتيه فوق الزاهي
ثم استجاز الحاضرين فعجزوا، فصنع ولد عبد الله الرشيد:
وكلاهما في الحسن متناه
ومن اغتدى سكناً لمثل محمدٍ ... قد جل في العليا عن الأشباه
لا زال يخلد فيهما ما شاءه ... ودهت عداه من الخطوب دواه
وكذلك ما روى أن القاضي الفقيه أبا الحسن علي بن القاسم ابن محمد بن عشرة
أحد رؤساء المغرب الأوسط تنزه مع جماعة من أصحابه منهم محمد بن عيسى بن سوار الأشبوني، ورجل يسمى بأبي موسى، خفيف الروح، ثقيل الجسم، فجعل يعبث بالحاضرين بأبيات من الشعر يصنعها فيهم، فصنع القاضي أبو الحسن معابثاً له:
وشاعرٍ أثقل من جسمه
ثم استجاز ابن سوار فقال:
تأتني معانيه على حكمه
يهجو ولا يهجى فهل عندكم ... ظلامة تعدي على ظلمه؟
لسانه في هجوه حية ... منية الحية في سمه
أما أبو موسى ففي كفه ... عصا ابنه والسحر في نظمه
يصيب سر المرء في رميه ... كأنما العالم في علمه
وأخبرني القاضي الأعز بن المؤيد المقدم ذكره رحمه الله قال

أخبرني الشيخ أبو الحسن على بن عمر المفسر الأندلسي، قال: كتب أبو بكر البلنسي إلى الأديب أبي بحر صفوان ابن إدريس هذين البيتين يستجيزه القسم الأخير منهما، وهما:
خليلي أبا بحرٍ وما قرقف اللمىبأعذب من قولي: خليلي أبا بحر
أجز غير مأمور قسيماً نظمته ... تأمل على بحر المياه حلى الزهر
فأجازه بقوله:
كعهدك بالخضراء والأنجم الزهر
وقد ضحكت للياسمين مباسم ... سروراً بآداب الوزير أبي بكر
وأصغت من الآس النضير مسامع ... لتسمع ما تتلوه من سور الشعر
قال: وهذان الرجلان من الفضلاء في عصرنا هذا.

ومنها إجازة بيت ببيت
فمن ذلك ما روى يونس بن حبيب، قال: لما بنى يوسف بن زياد داره بالساحة صنع طعاماً، ودعا أصحابه فدخلوا الحمام المعروف بحمام فيل، ثم خرجوا فتغدوا عنده، وركبوا المهاليج والمقاريف والبغال، واجتازوا بحارثة بن بدر الغداني وأبي الأسود، وهما جالسان، فقال أبو الأسود:
لعمرو أبيك ما حمام كسرى ... على الثلثين من حمام فيل
فقال حارثة:
ولا إيجافنا خلف الموالي ... بسنتنا على عهد الرسول
وروى حبيب بن نصر المهلبي قال
سافر يزيد بن معاوية بالأخطل، فاشتاق يزيد أهله، فقال:
بكى كل ذي شجوٍ من الشام شاقه ... تهام فأنى يلتقي الشجيان!
وقال: أجز يا أخطل، فقال:
يغور الذي بالشام أو ينجد الذي ... بغور تهاماتٍ فيلتقيان
وروى عمر بن عبد الله العتكي عن الرقاشي
عن أبي عبيدة، قال: كان حارثة بن بدر بدير كوار يتنزه فقال:
ألم تر أن حارثة بن بدر ... أقام بدير أبلق من كوارا
ثم قال للجند الذين كانوا معه: من أجاز هذا البيت فله حكمه، فقال رجل منهم: على أن تجعل لي الأمان من غضبك، وتجعلني رسولك إلى البصرة، وتطلب لي النفل من الأمير. قال: ذلك لك، ثم ردد عليه البيت، فقال:
مقيم يشرب الصهباء صرفاً ... إذا ما قلت تصرعه استدرارا
فقال له حارثة: لك شرطك؛ ولو كنت قلت لنا قولاً تسرنا لسررناك.
وروى أبو روح الراسبي قال
لما ولي خالد بن عبد الله القسري مالك بن المنذر شرطة البصرة قال الفرزدق:
يبغض فينا شرطة المصر أنني ... رأيت عليها مالكاً أثر الكلبي
قال: فقال مالك: علي به، فبلغه فقال:
أقول لنفسي إذ تغص بريقها ... ألا ليت شعري مالها عند مالك!
قال: فسمع قوله حائك يطلع من طرازه، وقال:
لها عنده أن يرجع الله ريقها ... إليها وتنجو من عظيم المهالك
قال الفرزدق: هذا أشعر الناس، أو ليعودن مجنوناً يصيح به الصبيان، فكان كما قال:
وروي أن عبد العزيز بن عمر عبد العزيز رحمه الله
خرج وهو أمير المدينة ومعه عبد الله بن الحسن، فنزلوا تحت سرحة وتغدوا، وأخذ عبد الله حجراً، وكتب به على ساق السرحة يقول:
خبرينا خصصت بالغيث يا سر ... ح بصدقٍ فالصدق فيه شفاء
فأخذ عبد العزيز الحجر، وكتب تحته:
هل يموت المحب من ألم الحب ... ويشفى من الحبيب اللقاء!
ثم ركبوا دوابهم، ومضوا غير بعيد، فإذا السماء قد أقبلت عليهم، فرجعوا مسرعين إلى السرحة، فأضافوا تحت ما كتبوا:
إن جهلاً سؤالك السرح عما ... ليس يوماً به عليك خفاء
ليس للعاشق المحب من العش ... ق سوى لذة الوصال دواء
فعجبوا وانصرفوا.
حدث المدائني قال
وهب نصر بن سيار لأبي عطاء السندي جارية، فبات معها، فلما أصبح غدا على نصر، فقال له: كيف كانت ليلتك معها؟ قال: كان بيني وبينها ما شرد منامي، وقضى مرامي، قال: فهل قلت من ذلك شعراً؟ قال: نعم، وأنشد:
إن النكاح وإن هزلت لصالح ... خلفاً لعينك من لذيذ المرقد
فقال نصر:
ذاك الشقاء فلا تظنن غيره ... ليس المجرب مثل من لم يشهد
وروى زحر بن حصن، قال
خرجنا من مكة مع المنصور في زمان صائف، فلما كان بزبالة ركب نجيباً، والشمس تلعب بين عينيه، وعليه جبة وشى، فالتفت إلينا وقال: إني قائل بيتاً، فمن أجازه فله جبتي هذه، قلنا: يقول أمير المؤمنين، فأنشد:

وهاجرةٍ نصبت لها جبيني ... يقطع حرها ظهر العظاية
فبدر بشار، فقال:
وقفت لها القلوص ففاض دمعي ... على خدي وأقصر واعظايه
فخرج له عن الجبة، ثم لقيته، فذكر أنه باعها بخمسمائة دينار.
وقد ذكرها الصولي في كتاب الأوراق على غير هذا السياق.

وروى أن رسول علية بنت المهدي أو عائشة بنت الرشيد
خرج يوماً إلى الشعراء، فقال: تقرئكم سيدتي السلام، وتقول: من أجاز هذا البيت منكم، فله مائة دينار، فقالوا: وما هو؟ فأنشد:
أنيلي نوالاً وجودي لنا ... فقد بلغت نفسي الترقوة
فبدرهم مسلم بن الوليد الصريع فقال:
وإني لكالدلو في حبكم ... هويت إذا انقطعت عرقوه
فخرجت له المائة دينار.
وروى محمد بن حسن الحاتمي عن أبي العيناء عن العتبي
قال: دخل يحيى بن خالد بستان داره، ومعه جاريته دنانير، فرأى بهجة الورد على شعره، فقال: أجيزي:
الورد أحسن منظراً ... فتمتعوا باللحظ منه
فقالت مسرعة:
فإذا انقضت أيامه ... ورد الخدود ينوب عنه
فاستحسن ذلك منها، وأمر لها بمال جزيل، بعد أن قبل خدها.
وروى الحسين بن الضحاك قال
كنت أمشي مع أبي العتاهية فمررنا بمقبرة، فإذا امرأة تبكي ولداً لها، فقال أبو العتاهية:
فما تنفك باكيةً بعينٍ ... غزير دمعها كمد حشاها
أجز يا حسين، فقلت:
تنادي حفرةً أعيت جواباً ... فقد ولهت وصم بها صداها
وروى أن أبا نواس دخل على عنان جارية الناطفي في بعض أيام الربيع فقال
أجيزي:
كل يومٍ عن أقحوانٍ جديدٍ ... تضحك الأرض من بكاء السماء
فقالت مسرعةً:
فهو كالوشي من ثياب عروسٍ ... جلبتها التجار من صنعاء
قال علي بن ظافر، والبيت الأول أظنه لابن مطير من قصيدة؛ إلا أنه منسوب في الموضع الذي نقلت منه إلى أبي نواس، فأوردته كما وجدته.
وروي أنه دخل عليها يوماً وهي تبكي، وقد كان مولاها ضربها فقال
بكت عنان فجرى دمعها ... كلؤلؤ ينسل من خيطه
فقالت:
فليت من يضربها ظالماً ... تجف يمناه على سوطه
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني هذه الحكاية عن مروان بن أبي حفصة، وانه الذي استجازها البيت الأول.
وروى محمد بن الأشعث قال
قال دعبل بن علي الخزاعي: مررت أنا ورزين العروضي بقوم من بني مخزوم، فلم يقرونا فقلت فيهم:
عصابة من بني مخزوم بت بهم ... بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ثم قلت لرزين: أجز: فقال:
في مضغ أعراضهم من خبزهم عوض ... بنو النفاق وآباء الملاعين
قال ابن الأشعث: وكان هذا أقوى الأسباب في مهاجاته لأبي سعيد المخزومي.
وروي لنا أن العباس بن الأحنف
دخل على الذلفاء جارية ابن طرخان فقال لها: أجيزي:
أهدى له أصحابه أترجةً ... فبكى وأشفق من عيافة زاجر
فقالت ارتجالاً:
خاف التلون في الوداد لأنها ... لونان باطنها خلاف الظاهر
فجن استحساناً، وحلف لها - وكانت تعزه - إن ادعته ما دخل دارها. فتركته له فاستلحقه.
وذكر ابن القمي في كتاب النباهة قال
دخل أبو السمراء على نخاس، فسمع بكاء من داخل البيت وقائلة تقول:
وكنا كزوجٍ من قطاً في مفازةٍ ... لدى خفض عيشٍ مونق معجبٍ رغد
أصابهما ريب الزمان فأفردا ... ولم نر شيئاً قط أوحش من فرد
فقال للنخاس: أخرجها، فقال: إن صاحبها مات، وهي شعثة مغبرة.
قال: فخرجت فقال لها: قولي في معنى هذا، قالت: أي معنى؟ قال: في معنى هذين البيتين اللذين تمثلت بهما، فقالت:
وكنا كغضى بانةٍ وسط روضةٍ ... نشم جنى الجنات في عيشة رغد
فأفرد هذا الغصن من ذاك قاطع ... فيا فردةً باتت تحن إلى فرد!
فكتب الأمير أبو السمراء عبد الله بن طاهر بخبرها، فكتب: إن أجازت هذا البيت فاشترها، وهو:
بعيد وصلٍ بديع صد ... جعلته في الهوى ملاذا
فقالت مسرعةً:
فعاتبوه فزاد شوقاً ... فمات عشقاً، فكان ماذا؟
فاشتراها أبو السمراء، فماتت من الغد.
وروى إبراهيم بن محمد اليزيدي، قال

كنت عند المأمون يوماً وبحضرته عريب، فقالت لي - على سبيل الولع والعبث - ياسعلوس - وكانت جواري المأمون يلقبنني بها عبثاً - فقلت:
فقل لعريب لا تكوني مسعلسه ... وكوني كتتريفٍ وكوني كمؤنسه
قال: فبدرني المأمون فارتجل:
فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شك أن ذا منك وسوسه
فقالت له: كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول وعجبت من ذهن المأمون وجودة طبعه.

وأنبأنا الفقيه أبو محمد عبد الخالق المسكي عن السلفي قال
أنبأنا أبو محمد جعفر بن أحمد السراج اللغوي وابن بغلان الكبير، قالا: أنبأنا أبو نصر عبد الله بن سعيد السجستاني الحافظ، قال: أخبرنا أبو يعقوب النجيرمي، حدثنا ابن سيف، قال: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عم أبي أحمد بن محمد اليزيدي، قال - واللفظ من رواية أخرى قريب من لفظ هذا الإسناد - قال: دعا المعتصم أخاه المأمون ذات يوم إلى داره، فأتاه فأجلسه في بيت على سقفه جامات، فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم، وكان أحسن تركي على وجه الأرض، وكان المعتصم أوجد خلق الله به، فصاح المأمون لأحمد بن محمد اليزيدي، فقال انظر ويلك إلى ضوء الشمس على وجه سيما، أرأيت أحسن من هذا قط! وقد قلت:
قد طلعت شمس على شمس ... فزالت الوحشة بالأنس
فأجز يا أحمد، فقال أحمد:
قد كنت أشنا الشمس من قبل ذا ... فصرت أرتاح إلى الشمس
قال: ففطن المعتصم، فعض شفته لأحمد، فقال أحمد للمأمون: والله يا أمير المؤمنين، إن لم يعلم الأمير حقيقة الأمر منك لأقعن معه فيما أكره. فدعاه المأمون فأخبره الخبر، فضحك المعتصم، فقال له المأمون: أكثر يا أخي في غلمانك مثله، إنما استحسنت شيئاً فجرى ما سمعت لا غير.
وقد وقعت لنا هذه الحكاية بإسنادٍ أخصر من هذا عن ابن سيف، هو مذكور في إجازة قسيم بقسيم.
وحكى صاحب كتاب المقتبس أن الأمير عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام صاحب
الأندلس
خرج في بعض أسفاره، فطرقه خيال جاريته طروب أم ولده عبد الله، وكانت أعظم حظاياه عنده وأرفعهن لديه، لا يزال كلفاً بها هائماً بحبها، فانتبه وهو يقول:
شاقك من قرطبة الساري ... في الليل لم يدر به الداري
ثم انتبه عبد الله بن الشمر نديمه، فاستجازه كمال البيت، فقال:
زار فحيا في ظلام الدجى ... أحبب به من زائرٍ سار
وذكر الصولي في كتاب الأوراق برواية تنتهي إلى جعفر بن محمد بن عبد
الواحد الهاشمي قال
دخلت على المتوكل على الله لما توفيت أمه معزياً، فقال: يا جعفر، إني ربما قلت البيت الواحد، فإذا جاوزته توقفت وقد قلت:
تذكرت لما فرق الدهر بيننا ... فعزيت نفسي بالنبي محمد
قال: فأجازه بعض من حضر المجلس، فقال:
وقلنا لها إن المنايا سبيلنا ... فمن لم يمت في يومه مات في غد
قال الصولي: فظننا أن جعفر بن محمد بن عبد الواحد قائل البيت.
قال مروان بن الجنوب
دخلت على المتوكل، فرمى إلي برقعةٍ فيها بيت شعر، وهو:
أدرت الهوى حتى إذا صار كالرحى ... جعلت محل القلب في موضع القطب
وتحت البيت: أجز يا مروان، فكتبت تحته:
فلما جعلت القلب تحت رحى الهوى ... ندمت وصار القلب في موضعٍ صعب
وذكر يزيد بن محمد المهلبي، قال
كان ابن المعتز يشرب يوماً في بستان مملوء بالنمام وشقائق النعمان، فدخل عليه يونس بن بغا، وعليه قباء أخضر، فقال ابن المعتز لما رآه ارتجالا:
شبهت حمرة خده في ثوبه ... بشقائق النعمان في النمام
ثم قال: أجيزو، فبدر بنان المغني - وكان ربما عبث بالبيت بعد البيت - فقال:
والقد منه وقد بدا في قرطقٍ ... بالغصن في لين وحسن قوام
فطرب ابن المعتز، وقال له: إن فيه الآن، فصنع فيه لحناً.
وذكر عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر في تاريخه قال
حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن المنجم، قال: صرت إلى أبي زيد عمر بن شبة، فقال لي: قد قلت بيتاً تعذر على ثان له، فأحب أن تجيزه، فقلت: وما هو؟ قال:
كبرت وغالتني خطوب تتابعت ... ومن يصحب الأيام لابد يهرم
فقلت:

ومن يصحب الأيام تنقص خطوبها ... قواه، ويجهل بعض ما كان يعلم
فأعجب به، وحدث الناس بما بيننا، فكتبوه عنه.

أنبأني الفقيه النبيه
أبو الحسن بن المقدسي عن أبي القاسم مخلوف بن علي القيرواني عن أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد السرقسطي، عن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر بن عبد الله الحميدي، قال: حدثني أبو محمد علي بن أحمد، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن عبد الأعلى بن هاشم القاضي المعروف بابن الغليظ، أن صهيب بن منيع - قال علي بن ظافر: وكان قاضياً ببعض بلاد الأندلس، ومات بها في أيام الناصر عبد الرحمن، سنة ثمان وعشرين وثلثمائة - كان نقش خاتمه:
يا عليماً كل غيب ... كن رؤفاً بصهيب
وأنه كان يشرب النبيذ - لعله كان يذهب مذهب أهل العراق - فشرب مرة عند الحاجب موسى بن حدير - وكان من عظماء الدولة الأموية - فسكر ونام، فأمر موسى باختلاس خاتمه، وأحضر نقاشاً، فنقش تحت البيت المذكور:
واستر العيب عليه ... إن فيه كل عيب
ورد الخاتم عليه، وختم به زماناً حتى فطن له.
وأنبأني الشيخان
الأجل العلامة تاج الدين أبو اليمن الكندي، والفقيه جمال الدين بن الحرستاني عن الشيخ الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر سماعاً، أخبرنا أبو النجم بدر الدين عبد الله السنجي، أخبرنا أبو البكر الخبيب، أنبأنا علي بن أبي علي المعدل، حدثني أبي حدثني عبد العزيز بن أبي بكر المحرف العلاف الشاعر - وكان أحد ندماء المعتضد - قال: كنت ليلة في دار المعتضد، وقد أطلنا الجلوس بحضرته، ثم نهضنا إلى مجلسنا في حجرةٍ كانت مرسومة بالندماء. فلما أخذنا مضاجعنا، وهدأت العيون، أحسسنا بفتح الأبواب وتفتيح الأقفال بسرعة، فارتاعت الجماعة لذلك، وجلسنا في فرشنا، فدخل إلينا خادم من خدم المعتضد، فقال لنا: إن أمير المؤمنين يقول لكم: أرقت الليلة بعد انصرافكم، فعلمت هذا البيت:
ولما انتبهنا للخيال الذي سرى ... إذ الدار قفر والمزار بعيد
وقد أرتج علي إتمامه فأجيزوه، ومن أجازه بما يوافق غرضي أجزلت عطيته - وفي الجماعة كل شاعر مجيد مذكور، وأديب فاضل مشهور - فأفحمت الجماعة، أطالوا التفكير، فقلت مبتدراً:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي ... لعل خيالاً طارقاً سيعود
فرجع الخادم إليه بهذا الجواب، ثم عاد، فقال: أمير المؤمنين يقول لك: أحسنت وما قصرت، وقد وقع بيتك الموقع الذي أريده، وقد أمرت لك بجائزة وها هي، فأخذتها، فازداد غيظ الجماعة مني.
وقال يزيد بن أبي اليسر الرياضي في كتابه الأمثال
دخل رحمون الفارسي على أبي وهو مريض، فقال له: كيف أصبحت؟ فقال:
يكاد جسمي من نحول الضنى ... تحمله أنفاس عوادي
فقال رحمون: هل ترى أن أزيد عليه يا أبا اليسر؟ فقال: نعم، فقال: رحمون:
لم يبق إلا الروح في مهجةٍ ... يروح أو يغدو بها الغادي
أنبأني القاضي الفقيه الإمام نبيه الدين أبو الحسن بن علي ابن المفضل
المقدسي رحمه الله قال
أخبرني الشيخ الفقيه أبو القاسم علي بن مهدي بن قلنبا الإسكندري، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الجبار ابن سلامة الهذلي قال: أخبرنا أبو القاسم علي بن جعفر بن علي الصقلي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسن التميمي، قال: أخبرنا أبو محمد إسماعيل ابن محمد النيسابوري، قال: أخبرنا أبو منصور الثعالبي في كتاب اليتيمة؛ أن الصاحب بن عباد اتهم بعض المرد في مجلسه بسرقة بعض كتبه، فقال:
سرقت يا ظبي كتبي ... ألحقت كتبي بقلبي
وأمر أبا محمد الحسن بن أحمد البروجردي بإجازته، فقال:
فلو فعلت جميلاً ... رددت قلبي وكتبي
وكل ما أسنده إلى اليتيمة فبهذا الإسناد.
وذكر الرئيس هلال بن الصابي أن الصاحب بن عباد قال
أرسل إلي الأستاذ الرئيس أبو الفضل بن العميد، يستدعيني في وقت لم تجر عادته باستدعائي في مثله، فتهيأت للمضي، فجاءني رسول ثانٍ، فركبت فلقيني ثالث يستحثني، فارتبت وارتعت، فلما دخلت عليه قال: قلت بيتاً ثم أعييت عن إتمامه، وهو:
وجاءوا بظبي كمثل الغزال ... يناك على الرسم في مثله
فقلت في الحال:

فأدخلت بعضي في بعضه ... فياليت كلي في كله
فجعل يكثر التعجب مني، ثم انصرفت.

وأنبأنا العماد أبو حامد الأصفهاني، قال
ذكر السمعاني في تاريخه، قال: سمعت أبا المظفر منصور بن محمد بن سعيد بن مسعود المسعودي المروزي في مذاكرتي إياه يقول: دخلت على العزيز الخشاب - وشبل الدولة عنده حاضر - فقال العزيز: قلت اليوم بيتاً - وأنشده:
صفو دن العمر في عصر الصبا ... وزمان الشيب دردي محيل
وقال لشبل الدولة: أجز، فقال مبادراً:
والذي يطلب صفواً بعده ... إنما يطلب شيئاً مستحيل
أخبرني الشيخ أبو عبد الله بن علي اليحصبي القرموني قال
سمعت أبا بكر اليكي الشاعر - وهو بجامع عدوة القرويين بفاس - يحكى لأبي ولجماعة معه، قال: خرجت من فاس قاصداً تلمسان، فدخلت في بعض الخانات ، وكانت ليلة مطيرة جداً، فأنزلني صاحب الخان في بيتٍ مفرد، وأوقد لي قنديلاً، فبينما أنا جالس، وإذا برجل قد فتح الباب، ودخل علي وعلى وجهه سلهامة قد سترته، فجلس وقد عرفني ولم أعرفه، فسألته عن صناعته، فقال: أنا شاعر، فقلت له كالمستهزئ به: أجز - وضربت بعيني إلى شيءٍ أصفه، فلم أجد غير القنديل فقلت:
وقنديلٍ كأن الضوء فيه ... محيا من أحب إذا تجلى
فقال في الحال:
أشار إلى الدجى بلسان أفعى ... فشمر زيله هرباً وولى
فجننت استحساناً لما أتى، فكشف السلهامة عن وجهه، فإذا هو أبو العباس البني الشاعر فقال: كيف ترى هذا الكهن وما فجأك منه! وبتنا بأطيب ليلة، فلما قام الركب للسفر سار هو إلى فاس، وسرت أنا إلى تلمسان.
وأخبرني القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك رحمه الله
قال: أخبرني الشريف الجليل الوافد من العراق على الدولة المصرية، قال: اجتمعت في بعض الأيام بأمين الدولة أبي الحسن هبة الله ابن صاعد - قال علي بن ظافر: هو المعروف بابن التلميذ وإنما أمه من بنات التلميذ فعرف بذلك - قال: فأخذنا في ذم الدهر وإخنائه على أهل الفضل، وإذا بكلاب الصيد التي برسم الخليفة قد أبرزت في جلال الوشي والديباج، فحرك ذلك ماكناً نتجاذب أهدابه في ذم الدهر، فقلت:
من كان يكسو الكلب وش ... ياً ثم يقنع لي بجلدي
واستجزته فقال:
الكلب خير عنده ... مني وخير منه عتدي
وأخبرني الأجل بهاء الدين بن الساعاتي المقدم ذكره
قال: حضرت مجلس سماعٍ عند بعض الرؤساء، فغنى مغن قبيح النغمة، سيء الضرب، فقال بعض الحاضرين:
من منصفي ممن إذا ... ما ناح نحت لقبح نغمة
واستجازني، فقلت:
هو خارج وقت الغنا ... ء وداخل في رحم أمه
وأخبرني الفقيه أبو ثابت بن حسن الكربوني بالإسكندرية
قال: حضرت أنا والأديب عبد المنعم بن صالح الجزيري صاحبنا ببعض الأماكن، ورجل يقرأ المقامات التي صنفها الحريري على رجل آخر، وهما يصحفان فيها، فقال عبد المنعم:
ياأيها الثور البهيم الذي ... يقرأ المقامات على الثور
ثم استجازني، فقلت:
دع المقامات لأربابها ... وعد إلى النافات والدور
قال علي بن ظافر
حضر عندي وأنا برأس العين في خدمة الملك الأشرف - أدام الله أيامه - الأديب الموفق علي بن محمد البغدادي الساكن بها والفقيه بهاء الدين بن كساء الشاعران، وعندنا رجل يعرف بالضياء بن الزراد - مصري معروف - وكانوا يمجنون، فعمل ابن كساء بديهةً وقال:
رأيت الضياء وفي دبره ... قمد كزند البعير الشديد
ثم استجاز الموفق، فقال في الحال:
كأن جهنم في دبره ... تقول لآتيه: هل من مزيد!
ثم صنع الموفق فيه بديهاً:
زمان الضياء رعاه الإله عيد ولكن به يرتزق
فطوراً بأعلاه رمى القبق ... وطوراً بأدناه طعن الحلق
بنا وبه أعظم الحالتين ... فمنه البغاء ومنا الشبق
فلو جمعتنا به خلوة ... لقد قيل وافق شن طبق
وهذا المعنى الذي فيه ذكر الحلق والقبق معنى مطبوع؛ إلا أنه لم يحسن نظمه، وقد نظمته أنا على سبيل التجريب للخاطر، فقلت:
لقد عيد الترك في ذا الرقيع ... وعاطوه باللعب أكواسه

بنيك يقطع أعفاجه ... وصفعٍ يزعزع أضراسه
فكم جعلوا حلقة دبره ... وكم جعلوا قلبقاً راسه
وقلت أيضاً في المعنى:
أصبح عيداً للترك من هو كالمأتم في عين من رأى خلقه
وفوه بالنيك تارةً وبمر ... الصفع أخرى من لعبهم حقه
إن قر فالطعن بالأيور وإن ... فر أجادت نعالهم رشقه
فللسراميز رأسه قبق ... وللفياشي خناره حلقه

قال علي بن ظافر
كان يصحبني وأنا في خدمة الأشرف - أبقاه الله - رجل كاتب حسن الخط من أهل العلم والخبرة، هاجر إلى دمشق، يقال له جمال الدين علي بن أبي طالب، فلما رأيت ما عليه الأحوال من الاختلال، وقويت في نفسي شهوة الانفصال؛ كنت ليلي ونهاري مكباً على الدعاء بتسهيل ذلك وتعجيله، وتيسير ما أرجوه منه؛ وأقمت على هذا مدة طويلة، بحيث كان الأمر مشهوراً عند كل أحد من الحاشية، فأخبرني أنه بات مشغول القلب بما يسمعه مني في ذلك؛ فرأى كأنه في جامع دمشق تحت النسر، وإلى جانبه شيخ؛ وكأنهم ينتظرون الصلاة، وإذا برجل شاب قد أقبل من الباب الغربي، فقال له الشيخ: يا أبا العباس، أجز:
إن ابن ظافر سوف يظ ... فر بالذي يرجوه عاجل
فقال:
ظفرت عداه بخيبةٍ ... وغدا لما قد شاء نائل
فسررت بذلك، فلم يكن شيء أسرع من عود الملك الأشرف - أبقاه الله - من دمشق، وانفصالي من خدمته على الوجه الجميل، وكان ذلك - والله - أعظم ظفرٍ، وأرفق قدر، ولو لم يكن في إلا الرجوع إلى الباب الذي منه درجت، وفي خدمته تخرجت؛ والوطن الذي هو أول أرضٍ مس ثراها جلدي، وعلقت فيها تمائمي، فالله تعالى يحقق الرجاء ويكمل الأمل، بمنه وطوله.
وكنت أنا وابن المؤيد يوماً عائدين إلى مصر
فثار قتام شديد، ترب وجه الأرض، وأقذى عين الشمس، فقال:
وقتامٍ إذا رآه بصير ... عاد مما يقذيه مثل الضرير
ثم استجازني فقلت:
رد ثوبي مصندلاً بعدما كا ... ن شديد النقاء كالكافور
واجتمعت يوماً بالأجل شهاب الدين ابن أخت الوزير نجم الدين العزيزي رحمه الله
فأنشدني لنفسه في غلام رآه في الحمام مؤتزراً بإزارٍ أخضر:
ومرتج ردفٍ أزروه بأخضرٍ ... كما ماج ماء قد تردى بطحلب
واستجازني، فقلت:
يخيل لي مرآه نعمان أطلعت ... قضيباً على حقفٍ ليبرين معشب
قال القاضي الفقيه جمال الدين: وهاتان حكايتان قرأتهما في بعض المجاميع، ولم أعرف رواتهما، فأستدل بهم على عصرهم، فلذلك أفردتها ها هنا، ولم أضعهما في نظام الحكايات المرتبة على ترتيب الأعصار، خوفاً من نقد منتقد:
إحداهما: قال أبو سليمان الواسطي
مر بنا موسوس كان يؤثر عنه أدب، والسماء مغيمة، فتعرضت له وقلت:
أرى يومنا يوماً تكامل حسنه ... ويوشك أن اليوم لا شك ماطر
وقلت له: أجز؛ فوقف وقال:
وقد سترت فيه السحائب شمسه ... كما سترت ورد الخدود المعاجر
والأخرى قال أبو علي
اجتمعنا في بعض الأيام جماعة من أهل الأدب؛ وخرجنا إلى منتزه، فوقفنا في ظل قصر لنستريح، فوقعت علينا منه وقعة فيها: أجيزوا هذا لبيت:
ولي مقلة عهدها بالكرى ... بعيد وبالدمع عهد قريب
فكتبت تحته:
يحار إذا مر فيها المنام ... كما حار في الحي ضيف غريب
ثم صرفنا الرقعة مع بواب القصر، فأخرج إلينا سفرة فيها طعام كثير وأشياء فيها عون لنا على نزهتنا.
قال علي بن ظافر: وأحسب أن أبا علي هذا، الحاتمي، فإن صح الحديث، فينبغي أن يكون بعد حكاية الصاحب بن عباد رحمه الله تعالى.
ومن إجازة بيت ببيت ما يكون الشاعر قد عمل بيتا
ً
واستجاز له أولاً، أو عمل بيتين وأراد إبدال أحدهما أو الاختبار فيه، مثل ما أنبأنا به العماد أبو جعفر الأصبهاني، قال: أخبرني الأمير الأجل نجم الدين بن مصال، أن شاباً يعرف بأحمد الآبي من أهل الإسكندرية سافر إلى الشيخ الأجل أبي بكر أحمد بن محمد العيذبي التميمي الكاتب فاضل اليمن ورئيسه، وانتفع من جانبه، وأن أحمد ذكر عنه أنه عمل أبياتاً يهنئ فيها الداعي بطهور أولاده، من جملتها قوله:

كذبالة المصباح يقضى قطعها ... عند الخمود لها بقوة ناره
قال: فقال الأديب العيذبي: يصلح أن يكون لهذا البيت توطئه من قبله، فقال:
أخذ من العضو الشريف قضى له التأ ... ثير فيه بمقتضى آثاره

قال العماد
ونقلت من مجموع أبي المعالي الكتبي لأبي القاسم الهمداني:
تعيرني وخط الشيب بعارضي ... ولولا الحجول البيض لم تحسن الدهم
حنى الشيب ظهري واستمرت عزيمتي ... ولولا انحناء القوس لم ينفذ السهم
قال: فنظمت المعنى، وقلت:
يفيد العقل اليقظ التغابي ... ليدرك في الغني حظ الغبي
فلم تصب السهام على اعتدال ... بها لولا اعوجاج في القسي
قال: وأنشدتها للأمير مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، فصنع في الحال بدل الأول من البيتين وهو:
أرى أن الحليم به افتقار ... إلى جهل الفتى الغر الغبي
قال بن ظافر
وبالإسناد المتقدم عن أبي الحسن على ابن بسام الشنتريني مما أورده في كتاب الذخيرة ما هذا معناه، واللفظ لي: أن المعتمد على الله أبا القاسم محمد بن عباد صاحب إشبيلية وغرب الأندلس جلس يوماً للشرب، وذلك في وقت مطر أجرى كل وهدةٍ نهرا؛ وحلى جيد كل غصن من الزهر جوهراً، وبين يديه ساقية تخجل الزهر بطيب العرف والريا، وتقابل بدر وجهها بشهاب الكاس في راحة الثريا، فاتفق أن لعب البرق بحسامه، وأجال سوطه المذهب ليسوق به ركاب ركامه، فارتاعت لخطفته، وذعرت من خيفته، فقال بديهاً:
روعها البرق وفي كفها ... برق من القهوة لماع
عجبت منها وهي شمس الضحى ... كيف من الأنوار ترتاع!
وحين صنعهما أطربه معناهما وهزه، وحركه استحسانهما واستفزه، فاستدعى عبد الجليل بن وهبون المرسي، وأنشده البيت الأول، فقال عبد الجليل:
ولن ترى أعجب من آنسٍ ... من مثل ما يمسك يرتاع
فاستحسنه، وأمر له بجائزة. وبيته أحسن من بيت المعتمد عندي.
وأخبرنا القاضي السعيد أبو القاسم هبة الله بن سناء الملك رحمه الله بما
هذا معناه
قال: تذاكرنا في بعض الأيام بديوان الإنشاء، فأفضى بنا الحديث إلى ذكر الناشي الأصغر وقوله في وردة:
ووردة في بنان معطار ... حيا بها في خفي إسرار
كأنها وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار
فقلت: تشبيه الصفرة بالدينار فيه بعض تقصير، وعليه نقد خفي لا يدركه إلا الناقد البصير، وهو كون الصفرة في رأى العين أصغر من الدينار، ولو قال:
كمثل وجنة خودٍ ... قد نقطت برباع
لكان أخصر وأحسن؛ فاستحسنته الجماعة، فقال السديد هبة الله بن سراج منشئ الديوان: يا قوم، أنا أجيزه ببيتٍ أول، ثم صنع جارياً على عادته في التجنيس:
ووردةٍ نالت الحس ... ن إذ زهت في الرباع
وأخبرني صاحبنا الفقيه أبو الفضل جعفر الحموي
قال: مر بي في بعض الأيام يهودي يعرف بأبي الخير، أقبح الناس صورة، وأشدهم تنافر خلقة، قصير القامة، طويل اللحية، بارز الأنف، فحين رأيته وقع لي بيت على شبه الارتجال؛ وهو:
لحية طولها ذراع، وأنف ... طول شبر، وقامة طول إصبع
ثم أرتج على؛ فمر بي الأديب فاضل بن راحبي الله المنبوز بمداد، فأنشدته إياه، فقال: أعمل له أولاً؟ فقلت: إن شئت؛ فقال:
ما رأينا ولا سمعنا بشخصٍ ... كأبي الخير في الخلائق أجمع
ومن ذلك ما أخبرني الفقيه أبو محمد الخالق بن زيدان المسكي المقدم ذكره
قال: أخبرني صاحبنا الأديب أبو الحسن علي ابن خروف القرطبي - المقدم ذكره في هذا الكتاب - قال: رأيت في المنام منشداً ينشدني:
إذا كنت في الدنيا حليف تكبرٍ ... فإنك في الأخرى أقل من الذر
قال: فانتبهت وقد حفظته، فأجزته بقولي:
تنزه عن الدنيا وكن متواضعاً ... عفيفاً ولا تسحب ذيولاً من الكبر
ومنها إجازة بيت بأكثر من بيت
فمن ذلك ما رواه أبو الفرج الأصبهاني في أخبار بشار بن برد، وهو ن المهدي أشرف يوماً من أعلى القصر، فرأى جارية من جواريه تغتسل، فحين رأته استترت منه فقال:
نظرت من القصر عيني ... نظراً وافق حيني

ثم ارتج عليه، فأمر بإحضار من يجيزه، فأحضر بشار، فأنشده البيت فقال:
سترت لما رأتني ... دونه بالراحتين
فضلت منه فضول ... تحت طي المكنتين
فقال المهدي: قبحك الله! أكنت ثالثنا؟ ثم قال: ثم ماذا؟ فقال:
فتمنيت وقلبي ... للهوى في زفرتين
أنني كنت عليه ... ساعةً أو ساعتين
فضحك المهدي، وأمر له بجائزة، فقال له: يا أمير المؤمنين! أقنعت في مثل هذه الصفة بساعة أو ساعتين؟ قال: فبم ويحك! قال: سنة أو سنتين! فضحك وقال: أخرج عني قبحك الله!
ومثله ما روى من أن الرشيد أنشد الأصمعي بيتاً وهو
ليتني عقدك أو يا ليتني ... تكة موشية من تككك
واستجاره فقال:
امنحيني الوصل يا سيدتي ... واطمعيني عسلاً من عككك
ما على قومك أو ما ضرهم ... لو وقفنا ساعة في سككك
وقد تقدم قريب منهما في باب المجاوبة.

قال يزيد بن أبي يسر الرياضي في كتابه الأمثال
سمعت سيبويه يقول: دخل عبد الله بن طاهر الرى سحراً، فسمع قمرية تنوح فقال: لله در الهلالي حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح!
وكان معه عوف بن محلم الشاعر، فقال له: أجز هذا البيت، فقال:
وأرقني بالليل صوت حمامةٍ ... فنحت وذو الشوق القديم ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعةً ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
أنبأني الشيخان
الأجل العلامة تاج الدين الكندي وابن الحرستاني إجازة عن أبي القاسم بن عساكر سماعاً منه، أخبرنا أبو بكر المرزوقي، أنبأنا أبو منصور العكبري، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد الصلت المحبر، حدثنا أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني، حدثني علي بن صالح، عن أحمد بن أبي طاهر، حدثه أنه ألقى على فضل الشاعرة
علم الجمال تركتني ... في الحب أشهر من علم
فقالت:
وأبحتني يا سيدي ... سقماً يزيد على السقم
وتركتني غرضاً فدي ... تك للعواذل والتهم
وذكر أبو العباس المروزي
قال: صنع المتوكل بيتاً وطالب فضل الشاعرة أن تجيزه وهو:
لاذ بها يشتكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا
فصنعت بديهة:
ولم يزل ضارعاً إليها ... تهطل أجفانه رذاذا
فعاتبوه فزاد شوقاً ... فمات عشقاً فكان ماذا
فطرب المتوكل وقال: أحسنت - وحياتي - يافضل، وأمر لها بمائتي دينار، وأمر عريب فغنت به.
قال علي بن ظافر: وقد ذكرنا البيت الأخير من بيتي فضل في حكاية أبي السمراء في إجازة بيت ببيت، إلا أن هذه الحكاية أثبت رواية من تلك، وهي من رواية أبي الفرج في الأغاني.
وبالإسناد المتقدم ذكر الثعالبي في كتاب اليتيمة
قال: جلس سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان يوماً مع جماعة من خواص كتابه وأصحابه، فقال: أيكم يجيز قولي:
لك جسمي تعله ... فدمي لم تحله
وليس لها إلا سيدي - يعني ابن عمه أبا فراس بن أبي العلاء بن حمدان - فارتجل أبو فراس:
لك من قلبي المكا ... ن فلم لاتحله
ولئن كنت مالكاً ... فلك الأمر كله
فاستحسنهما ووهب له ضيعة منبج، تغل ألفي دينار في كل سنة.
141 - وذكر القاضي أبو علي التنوخي في كتاب النشوار قال: أنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد الضروي لنفسه بالأهواز يقول:
إذا حمد الناس الزمان ذممنه ... ومن كان فوق الدهر لايحمد الدهرا
وزعم أنه حاول أن يضيف إليه شيئاً فتعذر عليه مدة طويلة، وضجر منه وتركه مفرداً، وكان عنده أبو القاسم المصيصي المؤدب، فسمع القول، فعمل في الحال إجازة له، وأنشدها لنفسه:
وإن أوسعتني النائبات مكارهاً ... ثبت ولم أجزع وأوسعتها صبرا
إذا ليل خطبٍ سد طرق مذاهبي ... لجأت إلى عزمي فأطلع لي فجرا
وبالإسناد المتقدم ذكر ابن بسام في كتاب الذخيرة

أن المعتمد بن عباد جلس يوماً في بعض دور الحرم، فمر عليه بعض حظاياه في غلالة لايكاد يفرق بينها وبين جسمها، وذوائب تبدي إياة الشمس في مدلهما، فسكب عليها إناء ماء ورد كان بين يديه، فامتزج الكل ليناً واسترسالاً، وطيباً وجمالاً، وأدركت المعتمد أريحية الطرب، ومادت بعطفيه راح الأدب، فقال:
وهويت سالبة النفوس عزيزةً ... تختال بيت أسنةٍ وبواتر
وتعذر عليه المقال، فال لبعض الخدم القائمين على رأسه: سر أبي الوليد النحلي، وخذه بإجازة هذا البيت ولا تفارقه حتى يفرغ، فأضاف إليه لأول وقوع الرقعة بين يديه:
راقت محاسنها ورق أديمها ... فتكاد تبصر باطناً من ظاهر
وتمايلت كالغصن بلله الندى ... يختال في ورق الشباب الناضر
تبدى بماء الورد مسبل شعرها ... كالطل يسقط من جناح الطائر
تزهى برونقها وحسن جمالها ... زهو المؤيد بالثناء العاطر
ملك تضاءلت الملوك لقدره ... وعنا له صرف الزمان الجائر
وإذا لمحت جبينه ويمينه ... أبصرت بدراً فوق بحرٍ زاخرٍ
فلما قرأها المعتمد استحضره وقال له: أحسنت، أو كنت معنا؟ فأجابه النحلي بكلام معناه: ياقاتل المحل، أو ماتلوت: " وأوحى ربك إلى النحل " !
ومن ذلك،بالإسناد المتقدم أيضاً لكتاب الذخيرة ما رورى ابن بسام
أن المعتمد أيضاً أمر بصنع غزال وهلال من ذهب، فصيغا، فجاء وزنهما سبعمائة مثقال، فأهدى الغزال للسيدة ابنة مجاهد، والهلال لابنه الرشيد، فوقع له أن قال:
بعثنا بالغزال إلى الغزال ... وللشمس المنيرة بالهلال
واصطبح، وحضر الرشيد فدخل عليه، وجاء الندمان والجلساء، وفيهم أبو القاسم بن مرزقان، فحكى لهم المعتمد البيت، وأمر بإجازته، فبدر ابن مرزقان فقال:
فذا سكني أسكنه فؤادي ... وذا نحلي أقلده المعالي
شغلت بذا وذا خلدي ونفسي ... ولكني بذاك رخى بال
زففت إلى يديه زمام ملكي محلى بالصوارم والعوالي
فقام يقر عيني في مضاءٍ ... ويسلك مسلكي في كل حال
فدمنا للعلاء ودام فينا ... فإنا للسماح وللنزال

وذكر أبو الفتح بن خاقان في كتاب القلائد
قال: خرجت من إشبيلية لوداع كبير من المرابطين، فوجدت معه الوزير أبا محمد ابن مالك، فلما انصرفنا عدنا متسايرين، فمررنا بمرجٍ حسن النبات، بديع النوار، فبادر مملوك من مماليكه وضيء الوجه إلى زهرةٍ بديعة، فقطفها، وأتاه بها لتعجبه من حسنها، فاقترح على أن أصفه: فقلت:
وبدرٍ بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رائق النور كوكب
فقال مجيزاً له:
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
ويحسد منه الغصن أي مهفهفٍ ... يحئ على مثل الكثيب ويذهب
قال علي بن ظافر
ومن هذا القسم ما تكون الإجازة لبيت بأبيات تجعل قبله أو بعده وقبله كما أنبأني العماد أبو حامد قال: قال عمارة اليمني الشاعر في كتابه في شعراء اليمن: إن الفقيه أبا العباس أحمد بن محمد الآبي حدثه، قال: أذكر ليلة وأنا أمشي مع الأديب أبي بكر العدني على ساحل عدن، وقد تشاغلت عن الحديث معه، فقال لي: في أي شيء أنت تفكر؟ فقلت: في بيت عملته، وهو:
وأنظر البدر مرتاحاً لرؤيته ... لعل طرف الذي أهواه ينظره
فقال: لمن هذا البيت؟ فقلت: لي، فأنشد مرتجلاً:
يا راقد الليل بالإسكندرية لي ... من يسهر الليل وجداً حين أسهره
ألاحظ النوم تذكاراً لطلعته ... وإن جرى دمع أجفاني تذكره
قال علي بن ظافر
اتفق أن خرجنا للقاء القاضي الفاضل، فرأيت في الموكب رجلا أسود اللون، وعليه جبة حمراء، فأنكرته ولم أعرفه، ولقيت القاضي الأسعد أبا المكارم أسعد بن الخطير أطال الله بقاءه، فقلت له: من هذا الأسود الذي كأنه فحمة من دم حجامة؟ فقال لي:
كأنه ناظر طرفٍ أرمد
فقلت: يصلح أن يكون قبله:
وأسود في ثوبه المورد
وبعده:
أو مثل خالٍ فوق خد أمرد

ثم لقيت بعد ذلك القاضي السعيد بن سناء الملك - رحمه الله تعالى - فأنشدته إياهما، وكتمته الأول، وقلت: قد صنعت لهما أولاً، فاصنع أنت أيضاً، وقصدت بذلك اختبار القافية وتمكنها؛ إذ كل خاطر إنما يبادر إليها، فقال:
وأسود في ملبسٍ مورد
فعجبت من توارد الخاطرين لما كانت القافية متمكنة غير مستدعاة ولا مجتلبة، إلا أن قوله: في ملبس أحسن من قولي: في ثوبه.

قال علي بن ظافر
وخرجت أنا وشهاب الدين يعقوب ابن أخت ابن المجاور ونحن بالإسكندرية أيام حلول الملك العزيز - رحمه الله - بها، إلى جزيرتها المباركة لزيارة قبر صاحبنا القاضي الأعز أبو الحسن علي بن المؤيد المردد ذكره في هذا الكتاب؛ وقد كان توفي أغبط ما كان بالحياة، وأبعد ما كان من تخوف الوفاة، وغصن شبابه رطيب، والزمان على منبر فضله خطيب، فلما نزلنا بفناء قبره، وأسبلنا سيل المدامع لذكره، أنشدني شهاب الدين بيتين صنعهما في الطريق، وهما:
أيا قبر الأعز سقيت غيثاً ... كجود يديه أو دمعي عليه
فلا وإخائه الصافي وداداً ... وددت الموت من شوقي إليه
فقال: إن بين الأول والثاني فرجة، تريد بيتاً ليسدها، فلعلك أن تسعدني، فقلت:
وحلت جانبيك مروج زهر ... تحاكي طيب أوقاتي لديه
ومنه إجازة بيت وقسيم بقسيم
كما روى إسحاق الجصاص، قال: صنع زهير بن أبي سلمى بيتاً وقسيماً، وهما:
تراك الأرض إما مت خفاً ... وتحيا إن حييت بها ثقيلا
نزلت بمستقر العز منها
ثم أكدى، فمر به النابغة الذبياني فقال له: أجز يا أبا أمامة، وأنشده فأكدى لنابغة، وأقبل كعب بن زهير، وإنه لغلام، فقال له أبوه: أجز يا بني، فقال: وما أجيز؟ فأنشده فقال:
وتمنع جانبيها أن يزولا
فضمه زهير إليه وقال له: أنت ابني حقاً
ومن ذلك، ما رواه إسحاق الموصلي
قال: ولد للفضل بن يحيى بن خالد مولود، فدخل عليه أبو النضير عمر بن عبد الملك ولم يكن علم الخبر، فلما مثل بين يديه ورأى الناس يهنئونه نثراً ونظماً وقف وأنشد ارتجالاً:
ويفرح بالمولود من آل برمكٍ ... بغاة الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله
ثم أرتج عليه، فلم يدر ما يقول، فقال الفضل يلقنه:
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
فاستحسن الناس بديهته، وأمر لأبي النضير بصلة.
أنبأني الشيخ الفقيه النبيه أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي
قال: أنبأني الفقيه أبو القاسم مخلوف بن علي القيرواني، عن أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد السرقسطي عن أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي، قال: أخبرني أبو زكريا يحيى بن علي الأنصاري فيما أظن، وقد كتبت منه - قال: أخبرني عمر بن الصيرفي المقري، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله عن أبيه، أنه سمع أبا عمرو الكلبي قال: كنت جالساً عند أبي عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه، فأتاه من بعض إخوانه طبق فيه أنابيب من قصب السكر، وكتاب معه، فحول ابن عبد ربه الكتاب، وجاوبه بديهة وكتب في الجواب:
بعثت يا سيدي حلو الأنابيب ... عذب المذاقة مخضر الجلابيب
كأنما العسل الماذي شيب به
قال الكلبي: ثم توقف، فقال: يا كلبي، أجز هذا البيت فإني لا أجد له تماماً، فقلت:
لا بل يزيد على المازي في الطيب
فقال: أحسنت يا كلبي، ثم أخذ القلم وأراد أن يكتبه على ما قلت، ثم كره الاستعارة فأطرق قليلاً ثم قال:
أو ريق محبوبةٍ جادت لمحبوب
قال الكلبي: فقمنا وقبلنا رأسه سروراً منا بقوله.
وأخبرني القاضي السعيد ابن سناء الملك
قال: صنعت:
قد كان لي منديل كم ساذجٍ ... ما جاز مسح يدي به في مذهبي
فاعتضت عنه بخد من أحببته
وأرتج علي، فلم أستطع أكمل البيت، فاستجزت القاضي تاج الدين ابن الجراح، فقال:
فمسحت في منديل كم مذهب
ومنه إجازة بيتين ببيت
فمن ذلك ما روى لنا أن أبا دلامة زيد بن الجون مولى بني أسد دعا السيد الحميري إلى منزله، فبكت ابنة له، فحملها على عاتقه، فبالت عليه فوضعها مغضباً، وقال:
بللت علي لا حييت ثوبيفبال عليك شيطان رجيم
فما ولدتك مريم أم عيسى ... ولا رباك لقمان الحكيم

ثم استجاز السيد الحميري، فقال:
ولكن قد تضمك أم سوءٍ ... إلى لباتها وأب لئيم
فضحك أبو دلامة وقال: عليك لعنة الله؛ ما دعاك إلى هذا كله! ثم حلف لا ينازعه بيتاً بعدها، فقال له السيد: يكون الهرب من جهتك لا من جهتي.
وقد روى أبو الفرج هذه الحكاية بإسناد ينتهي إلى علي بن إسماعيل؛ قال: كنت أسقي أبا دلامة والسيد...ولم يذكر سوى البيت الثاني من بيتي أبي دلامة.
ورواها أبو الفرج أيضاً بإسناد ينتهي إلى الهيثم بن عدي، وأنها كانت بين أبي دلامة وأبي عطاء السندي، وأن أبا عطاء أجاز بيته بأن قال:
صدقت أبا دلامة لم تلدها ... مطهرة ولا فحل كريم
ولكن قد حوتها أم سوءٍ ... إلى لباتها وأب لئيم
وعلى هذه الرواية تدخل في باب المجاوبة.

وذكر ابن رشيق في كتاب الأنموذج
قال: اجتمعت بأبي حديدة الشاعر يوماً وأنا سكران، فسألني عن حال المكان الذي كنت فيه، فوصفته له، وأفضت بي صفته إلى ذكر غلام كان ساقياً، فقلت في عرض الكلام ولم أرد الوزن:
فشربتها من راحتي ... ه كأنها من وجنتيه
وكأنها في فعلها ... تحكي الذي في ناظريه
وقلت له: أجز، فقال:
وشممت وردة خده ... نظراً ونرجس مقلتيه
فقلت له: أحسنت في شمك بالنظر؛ كما سمع أبو الطيب بالبصر حيث يقول:
كالخط يملأ مسمعي من أبصرا
واجتمع أبو عبد الله بن شرف الجذامي يوماً بأبي علي بن رشيق فوصف له منزلاً ضيقاً كان فيه، ثم صنع في صفته
فقال:
ومنزلٍ قبح من منزلٍ ... النتن والظلمة والضيق
كأنني في وسطه فيشة ... ألوطه والعرق الريق
وكان ابن شرف أعور أصلع، فقال: ابن رشيق يداعبه على طريق الإجازة:
وأنت أيضاً أعور أصلع ... فوافق التشبيه تحقيق
ولو قال ابن شرف: كأنني في وسطه فيشة في فقحة... لكان أوضح في تشبيه المنزل.
قال علي بن ظافر
وأخبرني القاضي الأعز بن المؤيد رحمه الله، بما هذا معناه: أنه كان عند أبي المعالي بن الشماس كاتب القاضي الأسد ابن مماتي في ليلة اصطلى فيها بالجمر، من كئوس الخمر، واجتلى بها النجوم الزهر، من مجتنى نجوم الزهر؛ قال: فأفضت في ذمها، وذكر عظيم إثمها، ثم ندمت على ما فرط، واعتذرت اعتذار من فرط، فقلت:
شربتم قهوةً وشربت ماءً ... فأغناني اللجين عن النضار
ومن بانت أحبته وساروا ... تعلل بالتشاغل بالديار
ثم استجزته فقال:
وكنت نظيركم بالشم منها ... ولكني سلمت من الخمار
قال علي بن ظافر
بتنا ليلةً على المقياس عند مبالغة النيل في نقصه واحتراقه، وانفراجه عما لم يزل مستوراً من أرصفه وانفراقه، والمراكب قد انتظمت في لبته، ور كدت بالإرساء فوق لجته، وأحاطت به إحاطة المحيط بنقطته، وسفهاء الرياح تعبث بها حتى كادت تذهب بورقها، وأجسادها قد لبست لفقد الماء حداد قارها وهي في أوكارها، من المراسي مزمومة، وأجنحة قلوعها لعارض الليل مضمومة، فقلت بديهاً:
أو ما ترى المقياس قد حفت به ... سود المراكب فوق ظهر اللجة
يسمو وقد حفت به كقلادةٍ ... سبحيةٍ في لبةٍ فضية
واستجزت القاضي الأعز بن المؤيد - رحمه الله - فقال:
وكأنه حصن عليه عسكر ... للزنج لف بنوده للحملة
ومنه إجازة بيتين بأكثر من بيت كما روى العباس ابن الفضل بن الربيع
قال: غضب الرشيد على جارية له، فحلف لا يدخل إليها، ثم ندم فقال:
صد عني إذ رآني مفتن ... وأطال الصد لما أن فطن
كان مملوكي فأضحى مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم قال لجعفر بن يحيى: اطلب لي من يزيد في هذين البيتين؛ فقال: ليس لهما إلا أبو العتاهية - وكان محبوسا - فبعثوا إليه، فكتب إلى الرشيد:
يا بن عم النبي سمعاً وطاعةً ... قد خلعنا الكساء والدراعة
ورجعنا إلى الصناعة لما ... كان سخط الإمام ترك الصناعة
فأمر بإطلاقه وصلته، فقال: الآن طاب القول؛ ثم قال يجيزهما:
عزة الحب أرته ذلتي ... في هواه وله وجه حسن

فلهذا صرت مملوكاً له ... ولهذا شاع ما بي وعلن
فقال الرشيد: أحسنت والله وأصبت ما في نفسي، وأضعف صلته.
وذكرها الصولي في الأوراق بقريب من هذا، وأنه كتب إليه لما أمر بالإجازة يقول:
ضعف المسكين عن تلك المحن ... لهلاك الروح منه والبدن
ولقد كلفت شيئاً عجباً ... زاد في النكبة واستوفى المحن
قيل فرحنا وأبى فرح ... أن يوافيني في بيت الحزن
ولم يذكر العينية: وأما يزيد بن محمد المهلبي فإنه روى البيتين اللذين هما على قافية العين لموصولين بالهاء لإسحاق الموصلي، وذلك أنه كتب بهما إلى المأمون، وكان قد ترك الغناء والمنادمة فسجنه.

وذكر محمد بن جرير الطبري في تاريخه الكبير
قال: خرج كوثر خادم الأمين لينظر الحرب أيام محاصرة طاهر بن الحسين وهزيمة ابن أعين لبغداد، فأصابه سهم غرب فجرحه، فدخل على الأمين وهو يبكي لألم الجراحة، فلم يتمالك الأمين أن جعل يمسح عنه الدم ويقول:
ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناسٍ أوجعوه
ثم ارتج عليه، فاستدعى الفضل بن الربيع، وأمره بإحضار شاعر يجيز البيتين، فاستدعى لذلك عبد الله بن محمد بن أيوب التيمي، وأنشدهما له فقال:
ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
من رأى الناس له الف ... ضل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه
فأمر الأمين له بوقر ثلاثة أبغل دراهم؛ فلما ولى المأمون الخلافة واستقر الأمر له توسل إليه عبد الله بالحسن بن سهل، فلما دخل عليه، قال: ألست القائل:
ما لمن أهوى شبيه
فقال: بل أنا القائل:
نصر المأمون عبد الل ... ه لما ظلموه
نقضوا العهد الذي كا ... نوا قديماً أكدوه
لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه
وأنشده في مدحه قصيدة أولها:
جزعت ابن تيم أن علاك مشيب ... وبان شباب والشباب حبيب
فأمره له بعشرة آلاف درهم.
وذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب القيان والمغنين
أن المأمون قال يوماً لمتيم الهاشمية، جارية على بن هشام: أجيزي:
تعالى تكون الكتب بيني وبينكم ... ملاحظة نومي بها ونشير
فعندي من الكتب المشومة حيرة ... وعندي من شؤم الرسول أمور
فقالت:
جعلت كتابي عبرةً مستهلةً ... ففي الخد من ماء الجفون سطور
ورسلي لحاجاتي وهن كثيرة ... إليك إشارات بها وزفير
أنبأني الشيخان
الشيخ الأجل العلامة تاج الدين أبو اليمن الكندي، والشيخ الأجل الفقيه جمال الدين بن الحرستاني إجازة، قالا: أخبرنا الإمام الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن أحمد ابن الحسين، أخبرنا أحمد بن محمد بن الصلت، حدثنا أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، أخبرني حعفر بن قدامة، قال: اشترى أبو عبادة جاريته سلمى اليمانية، من نخاس مكي قدم بها عليه، فلما جاءه بها أراد أن يمتحنها، فأنشده:
من لمحب أحب في صغره ... فصار أحدوثةً على كبره
من نظرٍ شفه فأرقه ... وكان مبد هواه من نظره
ثم قال لها: أجيزي، فقالت مجيبة غير متوقفة:
لولا التمني لمات من كمدٍ ... مر الليالي يزيد في فكره
ما إن له مسعد فيسعده ... بالليل في طوله وفي قصره
الجسم يبلى فلا حراك به ... والروح فيما أرى على أثره
أنبأني الفقيه أبو محمد عبد الخالق المسكي، عن الحافظ السلفي إجازة

قال: أنبأنا أبو محمد جعفر بن السراج اللغوي وابن بعلان الكبير، قالا: حدثنا أبو نصر عبد الله بن سعيد السجستاني الحافظ، قال: أخبرنا أبو يعقوب النجيرمي، حدثنا أبو الحسين المهلبي عن أبي الفوارس، عن يعقوب ابن السكيت، قال: عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الحج، فخرجت جارية إليه شاعرة، فبكت لما رأت آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله:
دمعة كاللؤلؤ الرط ... ب من الطرف الكحيل
هطلت في ساعة البي ... ن على الخد الأسيل
فقالت الجارية:
حين هم القمر الزا ... هر عنا بالأفول
إنما يفتضح العش ... اق في وقت الرحيل

قال علي بن ظافر
ذكر ابن رشيق في كتاب الأنموذج ما معناه، قال: خرج أبو العباس بن حديدة القيرواني في جماعة من رفقائه طالباً للتنزه، فحلوا بروضةٍ قد سفرت عن وجنات الشقيق، وأطلعت في زبرجد الأرض الخضراء نجوماً من عقيق، والجو قد أفرط في تعبيسه، ونثر لغيظه جميع ما كان من لؤلؤ القطر في كيسه، فقال ابن حديدة:
أو ما ترى الغيث المعرس باكياً ... يذري الدموع على رياض شقيق
فكأن قطر دموعه من فوقها ... در تبدد في بساط عقيق
قال: وأنشدنيهما، فأجزتهما بأن قلت:
فاجمع إلى شكليهما بزجاجةٍ ... شكلين من حببٍ وصفو رحيق
فكأنما انتصرا لعبرة عاشق ... مهراقةٍ في وجنتي معشوق
وبالإسناد المتقدم عن ابن بسام
قال في كتاب الذخيرة - ورواه الفتح بن خاقان في كتاب قلائد العقيان - قال: ذكر أبو إسحاق بن خفاجة الحريري الأندلسي قال: اجتمعت مع عبد الجليل بن وهبون المرسي، ونحن نريد المرية أيام مقام العدو بحصن بلبيط، فبتنا بلزقه نتجاذب أذيال المذاكرة إلى أن قام السفر في السحر، للسرى والسفر، وقد شهروا سلاحهم، وأظهروا عددهم لقربهم من العدو، فظهر من عبد الجليل الجزع، والارتياع والهلع، مما ألجأني إلى تسكينه بإنشاد عجائب الأشعار، وإيراد غرائب الأخبار، وهو لا يفهم ما أورده، ولا يعقل معاني ما أسرده، فمررنا في الطريق بمشهدين متقابلين، وعليهما رأسان منصوبان فقلت:
ألا رب رأسٍ لا تزاور بينه ... وبين أخيه والمزار قريب
أناف به صلد الصفا فهو منبر ... وقام أعلاه فهو خطيب
ثم استجزته باستطالةٍ فقال:
يقول حذار الإغترار فطالما ... أناخ قتيل بي وفر سليب
وينشدنا إنا غريبان ها هنا ... وكل غريب للغريب نسيب
فإن لم يزره صاحب أو خليله ... فقد زاره نسر هناك وذيب
وها هو أما منظراً فهو ضاحك ... إليك وأما نصبه فكئيب
قال أبو إسحاق: فما أتم إنشاده حتى طلعت سرية العدو فأوقعت بالركب، فأناخ قتيلاً، وبحوت مسلوباً، فعجبت من هذا الاتفاق.
قال وصنع يوماً الأعز أبو الحسن بن المؤيد رحمه الله تعالى بديهاً في مغنٍ
مغن صوته يحكيه في حسن وفي لين
يغنيني فيغنيني ... ويحيا إذ يحييني
واستجاز شهاب الدين يعقوب ابن أخت الوزير نجم الدين بن المجاور فقال:
ويسقيني سلاف الرا ... ح من فيه فيشفيني
تعجلت به أجري ... ولم أعطف على ديني
ومنه إجازة أبيات ببيت
كما أنبأني الشيخان تاج الدين أبو اليمن زيد بن حسن الكندي وجمال الدين الحرستاني إجازة عن الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر، قال: أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد، أخبرنا أبو الفرج سهل بن بشر، أخبرنا أبو الحسين علي بن عبد الله الهمداني إجازة، أخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن خيران، أخبرنا ابن الأنباري، قال: دخل الزبير بن بكار على أمير المؤمنين المعتز بالله وهو محموم، فقال له: يا أبا عبد الله إني قد قلت في ليلتي هذه أبياتاً، وقد أعيا على إجازة بعضها، وأنشدني:
إني عرفت علاج الجسم من وجعي ... وما عرفت علاج الحب والجزع
جزعت للحب، والحمى صبرت لها ... إني لأعجب من صبري ومن جزعي
من كان يشغله عن حبه وجع ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي
فقال أبو عبد الله:

وما أمل حبيبي، ليتني أبداً ... مع الحبيب، ويا ليت الحبيب معي
فأمر له على هذا البيت بألف دينار.

وبهذا الإسناد عن الإمام الحافظ ابن عساكر
قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحسن بن أحمد الملحي لفظاً - وكتبه لي بخطه - قال: حدثني السابق أبو اليمن محمد بن الخضر المعري، قال: اجتمعت بأبي عبد الله ابن الخياط - يعني الشاعر الدمشقي بطرابلس - وكنت أنا وهو نجلس في دكان عطار نصراني، يعرف بأبي المفضل، فيه ذكاء ومحبة للأدب، فخرجنا يوماً إلى ظاهر البلد، فاخترنا موضعاً نجلس فيه على غدير هناك، فقال ابن الخياط بديهياً:
أو ما ترى قلق الغدير كأنه ... يبدو لعينك منه حلى مناطق
مترقرق لعب الشعاع بمائه ... فتراه يخفق مثل قلب العاشق
فإذا نظرت إليه راقك لمعه ... وعللت طرفك من سراب صادق
ولم يفتح الله على السابق ولا بلفظة، فقال العطار:
قد كنت أرجو أن تكون مصلياً ... حتى رأيتك سابقاً للسابق
فاستحسنا ما أتى به العطار، وجعلناه من مأثور الأخبار.
قال أبو عبد الله: وكان السابق لا يحفظ من شعره بيتاً واحداً، وأبو عبد الله بن الخياط بخلافه، يحفظ شعره منذ عمله إلى أن مات.
ومنه إجازة أكثر من بيت بأكثر من بيت
فمن ذلك ما ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة من حكاية أبي الفرج الببغاء في دير مران، ووصفها بأن قال: وهي وإن كان فيها بعض طول، فالبديع غير مملول؛ وكل ما أرويه وأسنده إلى اليتيمة في هذا الكتاب فهو مما أجازه لي القاضي الفقيه نبيه الدين أبو الحسن علي بن المفضل المقدسي - رحمه الله تعالى - قال: أخبرنا الشيخ الفقيه أبو القاسم علي بن مهدي الإسكندري، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن سلامة الهذلي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن الحسن التميمي، قال: أخبرنا أبو محمد إسماعيل بن محمد النيسابوري، قال: أخبرنا أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي - وقد تقدم ذكر هذا الإسناد - قال الثعالبي: قال أبو الفرج واللفظ له: تأخرت عند سيف الدولة بدمشق مكرهاً، وقد سار عنها في بعض وقائعه، وكان الخطر شديداً على من أراد اللحوق به من أصحابه، حتى إن ذلك كان يؤدي إلى الهب وطول الاعتقال، فاضطررت إلى إعمال الحيلة والسلامة بخدمة من بها من رؤساء الدولة الإخشيدية، وكانت سني في ذلك الوقت عشرين سنة، وكان انقطاعي منهم إلى أبي بكر علي بن صالح الروذباري لتقدمه في الرياسة، ومكانه من الفضل والصناعة فأحسن تقبلي وبالغ في الإحسان إلي وحصلت تحت الضرورة والمقام، فتوفرت على قصد البقاع المستحسنة، والمتنزهات المطروقة، تسلياً وتعللا، فلما كان في بعض الأيام، عملت على قصد دير مران - وهذا الدير مشهور الموقع في الجلالة وحسن المنظر - فاستصحبت بعض من كنت آنس به، وتقدمت بحمل ما يصلحنا، وتوجهت نحوه، فلما حصلنا تحته أخذنا في شأننا. وقد كنت اخترت من رهبانه لعشرتنا من توسمت فيه رقة الطبع، وسجاحة النفس، حسبما جرى به الرسم والعادة في غشيان الأغمار، وطروق الديرة من التظرف بعشرة أهلها والأنسة بسكانها، ولم تزل الأقداح دائرة بين مطرب الغناء ومزاهر المذاكرة إلى أن فض اللهو ختامه، ولوح السكر لصحبي أعلامه، فحانت مني التفاتة إلى بعض الرهبان، فوجدته إلى خطابي متوثباً، ولنظري إليه مترقباً، فلما أخذته عيني أكب يزعجني بخفى الرمز ووحي الإيماء، فاستوحشت لذلك وأنكرته، ونهضت عجلاً واستحضرته، فأدرج لي رقعة مختومة، وقال لي: قد لزمك فرض الأمانة فيما تتضمنه هذه الرقعة وسقط ذمام كاتبها في سترها بك عني، ففضضها فإذا فيها مكتوب بأحسن خط وأملحه وأقواه وأوضحه: بسم الله الحمن الرحيم. لم أزل فيما تؤديه هذه الرقعة - يا مولاي - بين حزم يحث على الانقباض عنك؛ وحسن ظن يحض على التسامح بنفيس الحظ منك، إلى أن استنزلتني الرغبة فيك على حكم الثقة بك من غير خبرة، فرفعت سجف الحشمة، وأطعت في الانبساط أوامر الأنسة، وانتهزت في التوصل إلى مودتك فأنت الفرصة. والمسماح منك - جعلني الله فداك - زورة أرتجع بها ما اغتصبتنيه الأيام من المسرة، مهنأة بالإنفراد إلا من غلامك، الذي هو مادة مسرتك.

وما ذاك عن خلق بضيق بطارقٍ ... ولكن لأخذي باحتياطٍ على حالي
فإن صادف ما خطبته منك أيدك الله قبولا ولديك نفاقاً فمنية غفل الدهر عنها، إذ فارق مذهبه فيما أهداه إلى منها، وإن جرى على رسمه في المضايقة فيما أوثره وأهواه، وأترقبه من قربك وأتمناه، فذمام المروءة يلزمك رد هذه الرقعة وسترها وتناسيها، واطراح ذكرها إن شاء الله تعالى. وإذا بأبيات تتلو الخطاب وهي:
ياعامر العمر بالفتوة وال ... قصف وحث الكئوس والطرب
هل لك في صاحبٍ تناسب في ال ... غربة أخلاقه وفي الأدب
أوحشه الدهر فاستراح إلى ... قربك مستنصراً على النوب
فإن تقبلت ما أتاك به ... لم تشب الظن فيك بالكذب
وإن أبي الدهر دون رغبته ... فكن كمن لم يقل ولم يجب
قال أبو الفرج: فورد على ما حيرني، واسترد ما أخذه الشراب من تمييزي، وحصل لي في الجملة أن أغلب الأوصاف على صاحبها في الكتابة خطا وترسلاً ونظماً، وشاهدته بالفراسة من ألفاظه، وحمدت أخلاقه قبل الاختبار من رقعته، فقلت للراهب: ويحك! من هذا؟ وكيف السبيل إلى لقائه؟ فقال: أما ذكر حاله فإليه إذا اجتمعنا، وأما السبيل إلى لقائه فسهل إن شئت، قلت: دلني، قال: تظهر فتوراً، وتنصب عذراً تفارق به أصحابك منصرفاً؛ فإذا صرت بباب الدير عدلت بك إلى باب صغير تدخل منه. فرددت الرقعة عليه وقلت: أدفعها إليه ليتمكن أنسه بي وسكونه إلي، ثم عرفته أن التوفر على إعمال الحيلة المبادرة إلى حضرته على ما آثره من التفرد أولى من التشاغل بإصدار جواب وقطع وقت بكتابته.
ومضى الراهب وعدت إلى أصحابي بغير النشاط الذي ذهبت به؛ فأنكروا ذلك مني، فاعتذرت إليهم بشيء عرض لي، واستدعيت ما أركبه، وتقدمت إلى من كان معي من الخدم بالتوفر على خدمتهم؛ وقد كنا عولنا على المبيت، فأجمعوا على تعجيل السكر والانصراف، وخرجت من باب الدير ومعي صبي صغير كنت آنس به وبخدمته، وتقدمت إلى الشاكري برد الدابة وستر خبري ومباكرتي. وتلقاني الراهب، فعدل بي إلى طريق في مضيق، وأدخلني الدير من طريق غامض، وصار بي إلى باب قلايةٍ يتميز عما يجاوره من الأبواب نظافةً وحسناً، فقرعه بحركات مختلفة كالعلامة بينهما، فابتدرنا منه غلام كأن البدر ركب على أزراره: مهفهف الكشح مخطفه، معتدل القوام أهيفه، تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته.
في غلالة تم على ما تستر، وتجفو مع رقتها عما يظهر، وعلى رأسه مجلسية، فصمته فبهر عقلي، واستوقف نظري، ثم أجفل كالظبي المذعور، وتلوته والراهب إلى صحن القلاية، فإذا أنا ببيت فضي الحيطان، رخامي الأركان، يضم طارمة خيش مفروشة بحصير مستعمل، فوثب إلينا منه فتى مقتبل الشبيه، حسن الصورة، ظاهر النبل والهيئة، متزى من اللباس بزي غلامه، فلقيني حافياً يعثر في سراويله، واعتقني، ثم قال: إنما استخدمت هذا الغلام في تلقيك يا سيدي لأجعل ما لعلك استحسنته من صورته، مصانعاً لما يرد عليك من مشاهدتي.
فاستحسنت اختصاره الطريق إلى بسطى، وارتجاله إلى النادرة على نفسه حرصاً على تأنيسي. وأفاض في شكري على المسارعة إلى امتثال أمره، مكدود بمن كان معك، والتمكن من الأنس بك لا يتم إلا براحتك.
وقد كان الأمر على ما ذكر، فاستلقيت يسيراً ثم نهضت، فخدمت في حالتي النوم واليقظة الخدمة التي عهدتها في دار الملوك وجلة الرؤساء. ثم جاءنا خادم لم أر أحسن وجهاً، ولا أتم سواداً منه، يضم ما يتخذ للعشاء مما خف ولطف، فقال: يا سيدي العشاء مني للحاجة، ومنك للمؤانسة. فنلنا شيئاً.

وأقبل الليل وطلع القمر، ففتحت مناظر ذلك البيت إلى فضاءٍ أدى إلينا محاسن الغوطة، وحبانا بذخائر رياضها من المنظر الجناني، والنسيم العطري، وجاءنا الراهب من الأشربة بما وقع اتفاقنا عليه، واقتعدنا غارب اللذة، وجرينا في ميدان المفاوضة، وأخذ يناهبني نوادر الأخبار وملح الأشعار، ويخلط ذلك من المرح بأظرفه، ومن التودد بألطفه، فلما توسطنا الشرب التفت إلى غلامه وقال: يا مترف، إن مولاك لم يدخر عنا ممكناً من السرور بحضرته فينبغي لنا ألا ندخر ممكناً من تمام مسرته. فامتقع وجه الغلام حياء وخفراً، فأقسم عليه بحياته، وأنا لا أعلم ما يريد، فمضى ثم عاد يحمل طنبوراً، وجلس فقال لي: تأذن لي يا سيدي في خدمتك؟ فهممت بتقبيل يديه، لما داخلني من عظم المسرة بذلك، فأصلح الغلام الطنبور، وضرب وغنى يقول:
يا مالكى وهو ملكي ... وسالبي ثوب نسكي
نزه يقين الهوى في ... ك عن تعرض شك
لولاك ما بت أبكي ... إلى الصباح وأبكي
فنظر إلى الغلام وتبسم، فعلمت أن الشعر له، وكدت - والله - أن أطير طرباً وفرحاً لملاحة خلقه وجودة ضربه، وعذوبة منطقه، وتكامل حسنه. فاستدعيت كيزاناً، فأحضر الغلام عدة قطع من البلور وجيد الجام المحكم فشربت سروراً بوجهه، وشرب بمثل ما شربت به. ثم قال: أنا - والله - يا سيدي أحب ترفيهك، ألا أقطعك عما أنت متوفر عليه، ولكن حيث عرف الاسم والنسب والصناعة واللقب، فلا بد أن تسم ليلتنا هذه بشيء يكون لها طرازاً، ولذكرها علماً. فجذبت الدواة وكتبت ارتجالاً، وقد أخذ الشراب مني:
وليلة أوسعتني ... لهواً وحسناً وأنسا
ما زلت ألثم بدراً ... بها، وأشرب شمسا
إذ أطاع الدير سعداً ... لم يبق مذآب نحسا
فصار للروح مني ... روحاً وللنفس نفسا
فطرب لقولي: ألثم بدراً وأشرب شمسا، وجذب غلامه فقبله، وقال: لم أجهل يا سيدي ما يجب لك من التوقير، وإنما اعتمدت تصديقك فيما ذكرته، فبحياتي إلا فعلت مثل ذلك بغلامك، فاتبعت آثاره خوفاً من احتشامه، ثم أخذ الأبيات وجعل يرددها، ثم أخذ الدواة وكتب إجازة لها:
ولم أكن لغريمي ... والله أبذل فلسا
لو ارتضى لي غريمي ... بدير مران حبسا
فقلت له: إذاً - والله - ما كان أحد يؤدي حقاً ولا باطلا.
وداعبته في هذا المعنى بما حضرني، وعرفت في الجملة أنه مستتر من دين قد ركبه، فقال لي: يا سيدي، قد خرج لك أكثر الحديث، فإن عذرت وإلا ذكرت لك القصة. فآثرت مراده في كتمان أمره. فقلت يا سيدي! كل ما لا يتعرف بك نكرة، وقد أغنت المشاهدة عن الاعتذار، ونابت الخبرة عن الاستخبار، وجعل يشرب وينتخب من غير إكراه ولا إبطاء، إلى أن رأيت الشراب قد دب فيه، وأكب على محادثة غلامه والفطنة تثنيه في الوقت بعد الوقت، فأظهرت السكر وحاولت النوم، وجاء الغلام ببرذعة ففرشها بإزاء برذعته، فنهضت إليها، فقام وتفقد أمري بنفسه، فقلت له: إن لي مذهباً في تقريب غلامي مني، واعتمدت في ذلك تسهيل ما يختاره من غلامه في هذه الحال، فتبسم وقال لي بسكره: وجمع الله لك المسرة كما جمعه لي بك. وأظهرت النوم، وعاد يحادث غلامه بأعذب لفظ وأحلى معاتبة، ويخلط ذلك بمواعيد تدل على سعة حال وانبساط يد، وغلامه تارة يقبل يده وتارة يقبل فمه.
وغلبني عيناي إلى أن أيقظني هواء السحر، فانتبهت وهما متعانقان مما عليهما من اللباس فأوردت توديعه، وكرهت إنباهه وإزعاجه، فخرجت، فلقيني الخادم يريد إيقاظه وتعريفه انصرافي، فأقسمت عليه ألا يفعل، ووجدت غلامي قد بكر بما أركبه كما كنت أمرته، فركبت منصرفاً، وعازماً على العودة إليه والتوفر على مواصلته، وأخذ الحظ من معاشرته، ومتوهماً أن ماكنت فيه منام لطيبه، وقرب آخره من أوله.
واعترضتني أسباب أدت إلى اللحاق بسيف الدولة، فسرت على أتم حسرة لما فاتني من معاودة لقائه، وقلت في ذلك:
ويومٍ كأن الدهر سامحنا به ... فصار اسمه ما بيننا هبة الدهر
جرت فيه أفراس الصبا بارتياحنا ... إلى دير مران المعظم والعمر
بحيث هواء الغوطتين معطر ال ... نسيم بأنفاس الرياحين والزهر

فمن روضة بالحسن ترفد روضةً ... ومن نهرٍ بالفيض يجري إلى نهر
وفي الهيكل المعمور منه افترعتها ... وصحبي حلالاً بعد توفية المهر
ونزهت عن غير الدنانير قدرها ... فما زلت منها اشرب التبر بالتبر
وحل لنا ما كان منها محرماً ... وهل يحظر المحظور في بلد الكفر!
فأهدت لي الأيام منها مودةً ... دعتني إلى ستر فلبيت في ستر
أتى من شريف الطبع أصدق رغبة ... يخاطبني عن معدن النظم والنثر
فلاقيت ملء العين نبلاً وهمةً ... محلى السجايا بالطلاقة والبشر
وكان جوابي طاعةً لا مقالةً ... ومن ذا لايستجيب إلى اليسر!
وأحشمني بالود حتى ظننته ... يريد اختداعي عن حياتي ولا أدري
ونزه عن غيري الصفاء اجتماعنا ... فكنت وإياه كقلبين في صدر
وشاء سرور أن يلينا بثالث ... فلاطفنا بالبدر أو بأخي البدر
بمعطٍ عيوناً ما اشتهت من جماله ... ومضنٍ قلوباً بالتجنب والهجر
جنينا جنى الورد في غير وقته ... وزهر الربا من ورد خديه والثغر
وقابلنا من وجهه وشرابه ... بشمسين في جنحي دجا الليل والشعر
وغنى فصار السمع كالطرف آخذاً ... بأوفر حظ من محاسنه الزهر
وأمتعنا من وجنتيه بمثل ما ... تمزج كفاه من الماء والخمر
سرور شكرنا منة الصحو إذ دعا ... إليه، ولم نشكر به منة السكر
كأن الليالي نمن عنه فعندما ... تنبهن نكبن الوفاء إلى الغدر
مضى فكأني كنت منه مهوماً ... يحدث عن طيف الخيال الذي يسري
وهل يحصل الإنسان من كل ما به ... تسامحه الأيام إلا عن الذكر!
ولم أزل على أتم قلق، وأعظم حسرة وأشد أسف، على ما سلبته من عظيم النعمة بفراق الفتى؛ لاسيما ولم أحصل منه على حقيقة علم، ولا نص خبر؛ يؤديان إلى الطمع في لقائه إلى أن عاد سيف الدولة إلى دمشق، وأنا في جملته؛ فما بدأت بشئ قبل مصيري إلى الراهب، وقد كنت حفظت اسمه فخرج إلي مرعوباً؛ وهو لا يعلم ما السبب.
فلما رآني استطار فرحاً، وأقسم لا يكلمني إلا بعد النزول والمقام عنده يرمى ذلك؛ فلما جلسنا للمحادثة قال لي: أراك لا تسألني عن صاحبك! قلت: والله ما لي فكر ينصرف عنه، ولا أسف يتجاوز ما حزته منه، ولا سررت بعودي إلى هذا البلد إلا من أجله، ولذلك بدأت بقصدك، فاذكر لي خبره.
فقال أما الآن فنعم؛ هذا فتى من المارداتيين، جليل القدر، عظيم النعمة، كان قد ضمن من سلطانه بمصر ضياعاً بمال عظيم، فخاس به ضمانه لقعود السعر عنه، وأشرف على الخروج من نعمته، فاستتر. ولما اشتد البحث عنه خرج مستخفياً إلى أن ورد دمشق بزي تاجر، وكان استتاره عند بعض إخوانه ممن لي به ارتباط، فإني كنت عنده يوماً إذ ظهر لي وقال لصديقه: إني أريد الانتقال إلى هذا الراهب إن كان مأموناً إذ ظهر لي وقال لصديقه مذهبي، وأظهرت له السرور بما رغب فيه من الأنس بي، وأنا لا أعرفه؛ غير أن صديقي قد أمرني بخدمته.
فلما حصل في قلايتي واصل الصوم، فلما كان بعد أيام، جاءنا الرسول من عند صديقنا، ومعه الغلام والخادم وقد لحقا به، ومعهما سفاتج، وعليهما ثياب رثة، فلما نظر إلى الغلام والخادم قال: يا راهب قد حل الفطر، وجاء العيد. ووثب إلى الغلام فاعتنقه، وجعل يقبل عينيه ويبكي، ثم وقف على السفاتج، فأنفذها مع رقعة إلى صديقه.

فلما كان بعد يومين حمل إليه ألفى دينار وما يحتاج إليه من فرش وملبوس؛ ولم يزل مكبا على ما رأيت إلى أن ورد عليه البغال والآلات السنية الحسنة من مصر، وكتب إليه أهله باجتماعهم بصاحب مصر وتعريفهم إياه الحال في بعده عن وطنه لضيق ذات يده عما يطالب به والتوقيع بحطيطة المال فلما أعمل المسير قال لغلامه: سلم جميع مابقى معك من النفقة إلى الراهب ليصرفه في مصالح الدير إلى أن نواصل تفقده في مستقرنا، وسار وماله حسرة غيرك، ولا أسف إلا عليك، يقطع الأوقات بذكرك؛ ولا يشرب إلا على ما يغنيه الغلام من شعرك، وهو الآن بمصر على أحسن الأحوال وأجملها ما يخل بتفقدي، ولا يغب بري.
قال أبو الفرج: فتعجلت بعد السلوة بما عرفت من حقيقة خبره، وأتممت يومي عند الراهب، وكان آخر العهد به.
قال علي بن ظافر: أقسم بالله إن هذه الحكاية - وإن طالت - لحقيقة أن تكتب بالمقل السود، على صفحات الخدود؛ ولقد أزرت بمرأى العقود بين الترائب والنهود؛ فرحم الله أبا الفرج وصاحبه؛ فلقد استحقا منا بهذه الحكاية حمداً وشكراً، وأبقيا لهما في الظرفاء ذكراً، ولقد بلغ من طربي بها، وارتياحي عند قراءتها، ما أنى أوسع هذا الفتى المارداني دعاءً وترحيماً، وأتبع ذكره صلاة عليه وتسليماً، حتى أني أكثر قصد ترب الماردانيين بالزيارة والدعاء؛ أملا أن يكون في جملتهم وطمعا أن يكون مدفونا معهم وما أنا وإياهم إلا كما قال خالد بن يزيد:
أحب بني العوام من أجل حبها ... ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
وهذه غاية جهدي، مع تربة دائرة ورمةٍ بالية، فرحمة الله كلما غرب نجم وطلع، ونبت نجم وأينع، بحرمة محمد صلى الله عليه وسلم!

أنبأني العماد أبو حامد، أخبرني علي الحسن بن سعد الشاتاني
قال لي نجم الدين بن الشهرزوري قاضي الموصل؛ دخل إلى شاب من أهل بغداد فأنشدني هذه الأبيات:
في نهر عيسى والهواء معنبر ... والماء فضي القميص صقيل
والطير إما هاتف بقرينه ... أو نادب يشكو الفراق ثكول
والدهر كالليل البهيم وأنتم ... غرر تضئ ظلامه وحجول
واستاجازني فقلت:
والغصن مهزوز القوام كأنما ... هبت عليه من الشمال شمول
وكأنما السرو التحفن بسندسٍ ... ورقصن فارتفعت لهن ذيول
قال علي بن ظافر
واتفقت لي وللقاضي الأجل شهاب الدين يعقوب سفرة إلى البيت المقدس للتبرك بما هناك من البقاع المقدسة، والمشاهد المعظمة، وأجداث الأنبياء المباركة الطيبة؛ فلما جد بنا المسير، وسهل من فراق الأهل والأوطان العسير، وقطعت المطايا بنا الربا والوهاد، ولم يسمع إلا هيد وهاد، صنع الشهاب:
يا رب كالشهاب المحرق
قدحته من زند عودٍ أورق
يسير في الخرق مسير الأخرق
فهل رأت عيناك عدو النقنق
حتى إذا ماافتر ثغر المشرق
ثم استجازني فقلت:
ولاح في الجو احمرار الشفق
كالخمر صبت في زجاجٍ أزرق
بدا على الآل قطار الأينق
كمثل سطرٍ في بياض مهرق
أو كالمدارى في مشيب المفرق
كم بازلٍ في بحره كالزورق
أو كهلالٍ مشرقٍ في زبرق
وهذه أيضاً حكاية بديعة، تشتمل على نوعي الإجازة
القديم والعصري، قصدت بإيرادها في هذا الموضع أن تكون دهليزاً للخروج من القسم الأول، والدخول في القسم الثاني لما بينهما من الاشتراك فيها:

روى من طرق مختلفة كتبت أكملها وأتمها، أن الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر ارتاح منادمة من بعد عهده بمنادمته، أو من لم يره، وحضره صاحبه الحسن بن محمد بن طالوت - وكان أخص الناس به - فقال له: لابد لنا في يومنا هذا من ثالث، نطيب بمعاشرته، ونلتذ بصحبته ومؤانسته، فمن ترى أن يكون طاهر الأعرق، غير دنس الأخلاق؟ فأعمل فكره، وأمعن نظره، وقال: أيها الأمير؛ قد خطر ببالي رجل ليست علينا في مجالسته كلفة، قد خلا من إبرام المجالسة، وبرئ من ثقل المؤانسة، خفيف الوقفة إذا أحببت، سريع الوثبة إذا أمرت، قال: ومن ذاك؟ قال: ماني الموسوس، قال: أحسنت والله. فتقدم إلى أصحاب الأرباع بطلبه، فما كان أسرع من أن اقتنصه صاحب ربع الكرخ، فصار به إلى باب الأمير فأدخل الحمام، وأخذ من شعره، وألبس ثياباً نظافاً، ثم أدخل عليه، فقال: السلام عليك أيها الأمير؛ فقال: وعليك السلام يا ماني، ألم يأن أن تزورنا على حين توقان منا إليك، ومنازعة قلوبنا نحوك! فقال ماني: الشوق شديد والمزار بعيد، والحجاب عتيد والبواب فظ، ولو سهل الإذن لسهلت علينا الزيارة، قال: لقد ألطفت في الاستئذان، فلا تمنع في أي وقت جئت من ليل أو نهار! ثم أذن له فجلس، ثم دعا بالطعام فأكل، ثم غسل يده وأخذ مجلسه، وكان محمد قد تشوق إلى السماع من تنوسة جارية ابنة المهدي، فأحضرت، فكان أول ما غنت:
ولست بناس إذ غدوا فتحملوا ... دموعي على الأحباب من شدة الوجد
وقولي وقد زالت بليلٍ حمولهم ... بواكر تخدى: لا يكن آخر العهد
فقال ماني: أحسنت والله، بحق رأس الأمير إلا ما زدت فيه:
أقمت أناجي الفكر والدمع حائر ... بمقلة موقوفٍ على الجهد والصد
ولم يعدني هذا الأمير بعزه ... على ظالم قد لج في الهجر والصد
فاندفعت تغنيه، فرق محمد عبد الله له وقال: أعاشق أنت يا ماني؟ قال: فاستحيا، وغمزه ابن طالوت لئلا يبوح له بشئ فيسقط من عينه، فقال: بل هلع مطرب أعز الله الأمير، وشوق كان كامناً فظهر، وهل بعد المشيب من صبوة! ثم اقترح محمد على تنوسة هذا الصوت من شعر أبي العتاهية:
حجبوها عن الرياح لأني ... قلت يا ريح بلغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب هان ولكن ... منعوها يوم الرحيل الكلاما!
فغنته، فطرب محمد، فقال ماني: ما على قائل هذا الشعر لو زاد فيه:
فتنفست ثم قلت لطيفي: ... آه لو زرت طيفها إلماما
خصها بالسلام سراً وإلا ... منعوها لشقوتي أن تناما
فكان أبعث للصبابة بين الأحشاء، وألطف تغلغلاً على كبد الظمآن من زلال الماء، مع حسن تأليف نظامه، وانتهائه إلى غاية تمامه.
قال محمد: أحسنت والله يا ماني، ثم أمر تنوسة بإلحاقها هذين البيتين من شعر أبي نواس:
يا خليلي ساعة لا تريما ... وعلى ذي صبابةٍ فأقيما
ما مررنا بدار زينب إلا ... فضح الدمع سرها المكتوما
فاستحسنه محمد، فقال ماني: لولا رهبة التعدي لأضفت إلى هذي البيتين بيتين لا يردان على سمع ذي لب إلا صدر استحسانه لهما، فقال محمد: الرغبة فيما تأتي به حائلة دون كل رهبة؛ فهات ما عندك، فقال:
ظبية كالغزال لو تلحظ الصخ ... ر بطرفٍ لغادرته هشيماً
وإذا ما تبسمت خلت ما تب ... دى من الثغر لؤلؤاً منظوما
فقال محمد: أحسنت والله، فأجز هذا الشعر:
لم تطب اللذات إلا لمن ... طابت له لذة تنوسة
غنت بصوتٍ أطلقت عبرة ... كانت بحسن الصبر محبوسة
فقال ماني:
وكيف صبر النفس عن غادةٍ ... تظلمها إن قلت: طاووسة
وجرت إن شبهتها بانةً ... في جنة الفردوس مغروسة
ثم سكت، فقال محمد: فأعد لي وصفك لها، فقال:
وغير عدلٍ إن قرنا بها ... جوهرةً في التاج ملموسة
جلت عن الوصف فما فكرة ... تلحقها بالنعت محسوسة
فقالت تنوسة: وجب علينا يا ماني شكرك، فساعدك دهرك، وعطف عليك إلفك، وقارنك سرورك، وفارقك محذورك، والله تعالى يديم لنا السرور ببقاء من بقائه اجتمع شملنا، وطاب يومنا، فأنشأ يقول:

ليس لي إلف فيقطعني ... فارقت نفسي الأباطيل
أنا موصول بنعمة من ... حبله بالحمد موصول
أنا مشمول بمنة من ... منه في الخلق مبذول
أنا مغبوط زورة من ... ربعه بالمجد مأهول
فأومأ إليه ابن طالوت بالقيام، فنهض وهو يقول:
ملك عز النظير له ... زانه الغر البهاليل
طاهري في مركبه ... عرفه للناس مبذول
دم من يشقى بصارمه ... مع هبوب الريح مطلول
فقال محمد: وجب جزاؤك، لشكرك على غير نعمة سلفت منا إليك. ثم أقبل على ابن طالوت فقال: يا هذا، ليست خساسة ثوب المرء واتضاع المنظر ونبو العين بمذهبةٍ جوهر الأدب المركب فيه، ولله در صالح بن عبد القدوس حيث يقول:
لايعجبنك من يصون ثيابه ... حذر الغبار وعرضه مبذول
فلربما افتقر الفتى فرأيته ... وسخ الثياب وعرضه مغسول
قال ابن طالوت: فما رأيت أحداً أحضر دهناً منه، إذ تقول له الجارية: عطف عليك إلفك، فينفيها بقوله:
ليس لي إلف فيقطعني
قال: ولم يزل مجريا عليه رزقاً سنياً إلى أن مات.

القسم الثاني ما تكون الإجازة فيه لشعر قديم فمنه إجازة بيت ببيت
كما روى إسحاق الموصلي، قال أبو المجيب شداد بن عقبة: دعا رجل من الحي - يقال له أبو سفيان - رجلا من حيه اسمه القتال الكلابي إلى وليمة، فجلس القتال ينتظر رسوله، ولا يأكل حتى ارتفع النهار، وكانت عند امرأته فقرة من حوار؛ فلما يئس قال:
فإن أبا سفيان ليس بمولمٍ ... فقومي فهاتي فقرةً من حوارك
قال إسحاق، فقلت له: ثم ماذا؟ قال: لم يأت بعده بشئ؛ إنما أرسله يتيماً، فقلت: أفلا أزيدك إليه بيتاً آخر ليس بدونه؟ قال: بلى، فقلت:
فبيتك خير من بيوتٍ كثيرة ... وقدرك خير من وليمة جارك
فقال: بأبي أنت وأمي! والله لقد أرسلته مثلا وما انتظرت به العرب وإنك لبز طراز، ما رأيت في العراق مثله، وما يلام الخليفة على أن يدنيك ويؤثرك ويتملح بك؛ ولو كان السباب يشتري لابتعته لك بإحدى يدي، ويمنى عيني؛ على أن فيك بحمد الله منه بقيةً تسر الودود، وترغم الحسود.
هذا من رواية الأصبهاني تتصل بعمر بن شبة وحماد عن إسحاق. وفي رواية له تتصل بالأخفش ويزد المهلبي، أن إسحاق قال: أخبرني أبو زياد الكلابي، قال: أولم جار لي...، وذكر الحكاية. والبيت الأول فيها لأبي زياد؛ فعلى هذا تكون من إجازة بيت عصري ببيت.
ومن ذلك ما روى أحمد بن أبي فنن
قال : دخل أبو نواس على الذلفاء جارية ابن طرخان، ودخل على إثره مروان بن أبي حفصة، فرفعه مولاها عنه، فغضب، وقال: أجيزي لجرير:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا
فقالت - وكانت تشبب بالرشيد:
هيجت بالبيت الذي أنشدتني ... حبا بقلبي للإمام دفينا
فقام أبو نواس عند ذلك، وخرج وهو ينشد:
عجباً من حماقة الذلفاء ... تتشهى فياشل الخلفاء
قال ابن أبي فنن: فأجزت أنا قول أبي نواس، وأكثر الناس يروونه له:
لو تشهيت غيره كان أولى ... من أيور الدناة والضعفاء
إن أدنى الأمور عندي منالاً ... شهوات الأكفاء للأكفاء
وروى أحمد بن معاوية
قال: قال لي رجل: تصفحت كتباً، فوجدت فيها بيتاً جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجد، فقال لي صديقي: عليك بعنان جارية الناطفي، فجئها فقلت: أجيزي:
فما زال يشكو الحب حتى رأيته ... تنفس في أحشائه وتكلما
فلم تلبث أن قالت:
ويبكى فأبكى رحمةً لبكائه ... إذا ما بكى دمعاً بكيت له دما
وروى العباس بن رستم
قال: دخلت مع أبان اللاحقي على عنان في خيشها، فقال:
العيش في الصيف خيش
فقالت مسرعة:
إذ لا قتال وجيش
قال: فأنشدتها لجرير:
ظللت أواري صاحبي صبابتي ... وقد علقتني من هواك علوق
فقالت:
إذا أغفل الخوف اللسان تكلمت ... بأسراره عين عليه نطوق
وذكر الجهشياري في كتاب الوزراء والكتاب

حدث محمد بن الفضل الهاشمي قال: حدث أحمد بن سلمة الكاتب، أنه قال لعياش بن القاسم: اجتمعت مع عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف في مجلس فيه قينة، فغنت:
أناس مضوا كانوا إذا ذكر الألي ... مضوا قبلهم صلوا عليهم وسلموا
فقال عمرو: هو - والله - حسن، إلا أنه مفرد، فأضيفوا إليه بيتاً آخر، فإنه أحسن له وأطول للقافية، وأطوع للغناء فيه، فقال أحمد بديهاً:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وتقدموا
فغنت بهما المغنية، فطربوا وشربوا عليهما بقية يومهم.

وروى علي بن الحسن الباخرزي في كتاب دمية القصر
أن أبا جعفر محمد بن إبراهيم المعدني، معدن زوزن؛ رأى على جدارٍ بيتاً مكتوباً:
لكل شئ من فقده عوض ... وما لفقد الشباب من عوض
وليس في الدهر من شدائده ... أشد من فاقةٍ على مرض
وذكر أحمد بن أبي طاهر قال
ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة:
ومستفتح باب البلاء بنظرةٍ ... تزود منها قلبه حسرة الدهر
فقالت مسرعة:
فوالله ما ندري: أتدري بما جنت ... على قلبه أم أهلكته ولا تدري!
وروى الفضل بن العباس الهاشمي عنها وعن بنان الشاعرة
قالت: توكأ المتوكل على يدي ويد فضل وقال: أجيزا قول الشاعر:
تعلمت أسباب الرضا خوف سخطه ... وعلمه حبي له كيف يغضب
فقالت فضل:
يصد وأدنو بالمودة جاهداً ... ويبعد عني بالوصال وأقرب
فقلت أنا:
وعندي له العتبى على كل حالةٍ ... فما منه لي بد ولا عنه مذهب
قال علي بن ظافر
أنشدني أبو القاسم الصيرفي في قول عبد الله ابن السمط:
حار طرف تأملك ... ملك أنت أم ملك!
فقلت بديهاً:
بل تعاليت رتبةً ... فلك الأرض والفلك
وأخبرني بهاء الدين بن الساعاتي المقدم ذكره
قال: غنى مغنٍ في مجلس كنت به حاضراً:
يا بدر عذالي عليك كثيرة ... والمسعدون على هواك قليل
فأجزته بديهاً فقلت:
في الصبر عن هذا القوام ولينه ... قصر وفي شرح الصبابة طول
وأخبرني الأديب أبو القاسم العداس المنبوز بالراوية
قال: قصد الشيخ أبو الخير سلامة الأنباري الضرير النحوي تعجيزي بين يدي الشيخ العلامة أبي محمد بن بري، لسرٍ كان بيني وبينه، فقال لي: إن كنت شاعراً كما تزعم فأجز:
أدرجت في أثناء نسيانكم ... حتى كأني ألف الوصل
فقلت بديهاً:
وكنت عين الفعل في قربكم ... فصرت لام الجر في الفعل
قال علي بن ظافر
أنشدني بعض أصحابنا هذا البيت من شعر ابن منير، وسألني إجازته:
يجل عن التشبيه في الحسن وجهه ... فبدر الدجى من حسنه يتعجب
فقلت في قصيدةٍ اقتضاها سؤاله:
ومن كان بدر التم يعجب أن رأى ... محاسنه بالبدر كيف يلقب
ومنه ما تكون الإجازة فيه لبيت بأكثر من بيت
روى أبو الفرج في كتاب القيان والمغنين أن بذلاً الكبيرة جارية عبد الله بن موسى الهادي غنت بين يدي المأمون:
ألا لا أرى شيئاً ألذ من الوعد ... ومن أملٍ فيه وإن كان لا يجدي
فصنع المأمون بيتين بديهاً وقال: زيديهما فيه:
ومن غفلة الواشي إذا ما لقيته ... ومن زورتي أبياتها خالياً وحدي
ومن ضحكةٍ في الملتقى ثم سكتةٍ ... وكلتاهما عندي ألذ من الشهد
وبالإسناد المتقدم ذكر ابن بسام في الذخيرة
قال: غنى يوماً بيت يدي العالي الإدريسي بمالقة ببيت لعبد الله بن المعتز:
هل ترين البدر يختال ... إن غدت للسير أجمال
فأمر الفقيه أبا محمد غانم بن الوليد المالقي بإجازته، فقال بديهاً:
إنما العالي إمام هدى ... جلبت في عصره الخال
ملك إقبال دولته ... لذوي الأفهام إقبال
قل لمن أكدت مطالبه ... راحتاه الجاه والمال
وأخبرني أبو الحسن بن الساعاتي المقدم ذكره
قال: غنى مغن في بعض المجالس:
أسفي على بان القدود ... ريان أثمر بالنهود

وكان عندنا بالمجلس رجل كبير الأنف، يتطايب، وكان ينعت بالسديد، فأردت العبث به، فقلت بديهاً:
يا مانعي صفو الوصا ... ل وما نحى كدر الصدود
ما ضاقت الدنيا علي وقد حوت أنف السديد

وغنى بعض القوالين يوما
سلام على من لست أرجو وصاله ... وغير الصبا مالي إليه رسول
فأجابه الشهاب بن المجاور بديهاً بقوله:
يراجعني عن خده وهو عاطر ... ويرجع عن عطفيه وهو بليل
وما كنت لولا هجره بمروعٍ ... ولو صدني عنه قناً ونصول
أناهٍ فإني لا أصيخ للائمٍ ... ولو أن حد المشرفي عذول
سأصبر لايدري هواي فينثني ... ولا أنا أرجو عطفه فأقول
وأخبرني القاضي الموفق بهاء الدين أبو علي الديباجي كاتب الدست الشريف
قال: أنشدنا مولانا السلطان الملك الكامل - خلد الله ملكه - قول الشاعر:
ترحل من حياتي في يديه ... فيا أسفي ويا شوقي إليه!
واستجاز الجماعة، فقلت:
ومن هذا يكون عليه مثلي ... وهذي الريح أخشاها عليه
وقال الأمير الأجل الكبير صلاح الدين أدام الله توفيقه:
ألا يا ليته إن كان يأتي ... حياتي ثم موتي في يديه
ومنه ما تكون الإجازة فيه لأكثر من بيت؛ ذكر أبو العتاهية
قال: حبسني الرشيد لتركي الشعر، وغلقت على الأبواب، فبقيت دهشا كما يدهش مثلي لتلك الحال، فإذا رجل جالس في جانب السجن، وهو مقيد، فجعلت أنظر إليه ساعة، فتمثل بقوله:
تعودت مر الصبر حتى ألفته ... فأسلمني حسن العزاء إلى الصبر
وصيرني يأسى من الناس راجياً ... لحسن صنيع الله من حيث لا أدري
فقلت له: أعد - أعزك الله - هذين البيتين، فقال لي: ويلك يا أبا العتاهية! ما أسوأ أدبك وأقل عقلك! دخلت على السجن، فما سلمت تسليم المسلم على المسلم، ولا سألت مسألة الحر للحر، ولا توجعت توجع المبتلى للمبتلى، حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضيلة فيك سواه، لم تصبر عن استعادتهما، ولم تقدم قبل مسألتك عنهما عذراً لنفسك في طلبهما! فقلت: يا أخي، إني دهشت من هذه الحال، فلا تعذلني واعذرني متفضلاً فقال: أنا والله بالدهش والحيرة أولى منك؛ لأنك حبست على أن تقول الشعر الذي به ارتفعت وبلغت ما بلغت، وإذا قلته أمنت؛ وأنا حبست على أن أدل على ابن رسول صلى الله عليه وسلم؛ ليقتل أو أقتل دونه! والله لا أدل عليه أبداً، والساعة يدعى بي فأقتل، فأينا أحق بالدهش! فقلت: أنت والله أولى، سلمك الله وكفاك، ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك، فقال: إذاً لا أبخل عليك؛ ثم أعاد على البيتين؛ حتى حفظهما، وأجزتهما بقولي:
إذا أنا لم أقبل من الدهر كل ما ... تكرهت منه طال عتبي على الدهر
ثم سألته عن اسمه؛ فقال: أنا أبو حاضرة داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد. قال: فلم نلبث إلا قليلاً حتى سمعنا صوت الأقفال، فقام فسكب عليه ماءً من جرة كانت عنده، ولبس ثوباً نظيفاً، ودخل الحرس ومعهم الشموع، فأخرجونا جميعاً. وقدم قبلي إلى الرشيد، فسأله عن أحمد بن عيسى، فقال: لا تسألني عنه، وافعل ما بدا لك؛ فلو أنه تحت ثوبي ما كشفت عنه.
فأمر به، فضربت عنقه، ثم قال: أظنك يا إسماعيل ارتعت! فقلت: دون ما رأيت تسيل منه النفوس؛ فقال: ردوه إلى محبسه، فردوني.
وذكر ابن عبد ربه في كتاب العقد
قال: صنع أبو دلف القاسم بن إسماعيل العجلي.
أنا أبو دلف البادي بقافية ... جوابها يعجز الداهي من الغيظ
من زاد فيها له رحلي وراحلتي ... وخاتمي والمدى فيها إلى القيظ
فظن أنه لا ثالث لهاتين القافيتين، فصنعت:
قد زدت فيها ولو أمسى أبو دلفٍ ... والنفس قد أشرفت منه على الفيظ
قال علي بن ظافر: تذاكرنا بهذه القطعة فقال بعض الحاضرين: لم يبق رابعه، فصنعت:
أزيد فيها ولو ماتا بغيظهما ... ما ألقت النمل أحياناً من البيظ
وذلك أن كل بيض لطائر أو حيوان فبالضاد إلا بيظ النمل فإنه بالظاء؛ وكل ما يفيض من إناء وغيره فبالضاد إلا فيظ النفس، فإنه بالظاء.
ثم صنع القاضي الأعز بن المؤيد رحمه الله بعد ذلك بديهاً:

ذو الحزم لا يتعدى في فعائله ... ما دام للناس تكوين من البيظ
والبيظ ها هنا: ماء الرجل.
ثم صنع شهاب الدين ابن أخت الوزير نجم الدين - رحمه الله:
يا سادتي في القوافي قل ما تركوا ... كماتح البئر لم يترك سوى البيط
حازت قوافيكم الظاآت أجمعها ... كمثل ما حيز مح البيظ بالبيظ
لكن مواعيد باديكم أبي دلف ... لا صدق فيها كمثل الآل والبيظ
البيظ في القافية الأولى: بقية الماء في نقرة البئر، وهي الحفرة التي يبقى فيها الماء بعد نزحها، وفي القافية الثانية: قشرة البيض الرقيقة فوق المح وهو الغرقئ، قال زهير:
كأن البيظ لفعه قناعاً ... على الهامات كرات الدهور
وفي القافية الثانية خيال وجه الإنسان في السيف، قال عبيد:
كأن وجوه نسل بني نمير ... مثال البيظ في السيف اليماني
قالوا: وجميعها بالظاء، ولست على يقين من صحة ذلك، وأظن أن صاحب العقد قد وهم في كون قائل البيتين أبا دلف المجلى، فإن أبا دلف أفضل وأفصح وأعلم وأشرف من أن يقع في مثل هذا، وأظن قائلهما أبا دلف هاشم بن محمد الخزاعي الوالي، كان بالبصرة للمقتدر بالله سنة خمس وثلثمائة وهذا كله إنما وقع في المختصرات، وأما الأمهات فلم تذكر فيها إلا القوافي الثلاث الأول

وبالإسناد المتقدم ذكره
ذكر صاحب اليتيمة أن الصاحب أمر أبا محمد الحسن بن محمد البروجردي بإجازة هذين البيتين:
يا نسيم الريح من بلدي ... خبري بالله كيف هم
ليس لي صبر ولا جلد ... ليت شعري كيف صبرهم!
فقال:
ولسان الدمع يشهد لي ... وهو ممن ليس يتهم
وأنبأني الفقيه أبو الحسن بن المقدسي إجازة
قال: أنبأني الشيخ أبو القاسم مخلوف بن علي القيرواني، عن أبي عبد الله محمد بن أبي سعيد السرقسطي عن الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر بن عبد الله الحميدي، قال: أخبرني أبو الوليد الحسين بن محمد الكاتب المعروف بابن الفراء، قال: حضرت عند عمي وعنده أبو عمر القسطلي - يعني ابن دراج - وأبو عبد الله المتيطي، فغنى المتيطي:
مروع منك كل يوم ... محتمل فيك كل لوم
يا غايتي في المنى وسؤلي ... ملكت رقي بغير سوم
فأعجبنا بهذين البيتين، فقال أبو عمر: أنا أضيف إليهما ثالثاً لا يتأخر عنهما، ثم قال:
تركت قلبي بغير صبرٍ ... فيك وعيني بغير نوم
وذكر ابن بسام في كتاب الذخيرة
أن المعتمد بن عباد غنى بين يديه يقول ابن المعتز:
وحمارةٍ من بنات المجوس ... ترى الزق في بيتها سائلا
وزنا لها ذهباً جامداً ... فكالت لنا ذهباً سائلا
فأجازهما بديهاً بقوله:
وقلنا خذي جوهراً ثابتاً ... فقالت خذوا عرضاً زائلا
ونقلت من خط عبد الجليل بن عبد المحسن الكتامي الشاعر الأسيوطي
قال: غنى لنا يوماً بعض القوالين هذين البيتين، وهما لأبي العلاء الأسدي من شعراء اليتيمة:
لا لعمري ما أنصفوا حين بانوا ... حلفوا لي ألا يخونوا فخانوا
شتتوا بالفراق شمل اتصالي ... جمع الله شملهم أين كانوا
قال: فأجزتهما بقولي بديهاً:
أنا ممن يدبن في الرجعة الآ ... ن تراهم بمذهب الصب دانوا
قال علي بن ظافر
ومما هو من هذا الباب إلا أن الإجازة فيه لسد فرجة بين البيتين ما ذكره صاحب المقتبس من أن أبا الحسن زرياباً المغني مولى المهدي المرواني غنى يوماً بين يدي الأمير عبد الرحمن الداخل ملك الأندلس بهذين البيتين:
قالت ظلوم سمية الظلم: ... مالي رأيتك ناحل الجسم!
يا من رمى قلبي فأقصده ... أنت الخبير بموقع السهم
فقال عبد الرحمن: هذان البيتان منقطعان، فلو كان بينهما ما يوصلهما لكان أبدع، فقال عبد الحمن بن قزمان بديها:
فأجبتها والدمع منحدر ... مثل الجمان هوى من النظم
فاستحسنه وأمر له بجائزة.
ومما يجري مجرى الطرف

ما أخبرني به الأديب أبو القاسم ابن نفطويه، أنه جلس أيام اشتغاله على الشيخ الأستاذ العلامة أبي محمد بن بري مع جماعة من تلامذته، فتذاكروا ما يعانيه الشيخ من بلادة بعض طلبته - وهو رجل كرهت ذكره مع فرط اعتنائه بتعليمه وشدة عنائه في تفهيمه - فأنشد أحدهم قول أبي العباس المبرد:
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصب إلى الصب
لو قرأ النحو على الرب ... ما زاده إلا عمى القلب
قال: فقلت ارتجالا:
قد عذب الله به شيخنا ... في هذه الدنيا بلا ذنب
فضحك الجماعة واستطرفوا البيت.

ومنه ما تكون الإجازة فيه بأكثر من بيت لأكثر من بيت
فمن ذلك ما ذكره إسحاق الموصلي قال: أنشدني شداد بن عقبة لجميل:
بثين سليني بعض مالي فإنه ... يبين عند المال كل بخيل
وإني وتكراري الزيارة نحوكملبين يدي هجربثينطويل
قال: فقلت لشداد: أفلا أزيدك فيهما؟ قال: بلى، فقلت مسرعاً:
ألا ليت شعري هل تقولين بعدنا ... إذ نحن أجمعنا غداً لرحيل:
ألا ليت أياماً مضين رواجع ... وليت النوى قد ساعفت بجميل!
فقال: أحسنت - والله - إن لهو الشعر الضائع، فقلت: وكيف؟ قال: نفيته عن نفسك بتسميتك جميلاً فيه، ولم يلق برتبة شعر جميل، فضاع بينكما جميعاً.
أنبأني الشيخان: الأجل العلامة تاج الدين الكندي والفقيه جمال الدين بن
الحرستاني إجازة
قالا: أخبرنا الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي سماعاً عليه، قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي، عن أبي القاسم التنوخي، أخبرني أبو عبد الله محمد بن عثمان الخرقي الفارقي الحنبلي التميمي قال: كنت بالرملة سنة ثلثمائة وخمس وستين، وقد ورد إليها القرمطي أبو علي القصير الثياب، فاستدناني منه، وقربني إلى خدمته، فكنت ليلة عنده إذ حضر الفراشون بالشموع، فقال لأبي نصر بن كشاجم - وكان كاتبه - : يا أبا نصر، ما يحضرك في صفة هذه الشموع؟ فقال: إنما نحضر مجلس السيد لنسمع كلامه، ونستفيد من أدبه، فقال أبو علي في الحال بديهاً:
ومجدولةٍ مثل صدر القتاة ... تعرت وباطنها مكتس
لها مقلة هي روح لها ... وتاج على الرأس كالبرنس
إذا غازلتها الصبا حركت ... لساناً من الذهب الأملس
وإن رنقت لنعاسٍ عرا ... وقطعت من الرأس لم تنعس
وتنتج في وقت تلقيحها ... ضياءً يجلي دجا الحندس
فنحن من النور في أسعدٍ ... وتلك من النار في أنحس
تكيد الظلام وما كادها ... فتفنى وتفنيه في مجلس
فقام أبو نصر بن كشاجم، وقبل الأرض بين يديه، وسأله أن يأذن له في إجازة الأبيات فأذن له فقال:
وليلتنا هذه ليلة ... تشاكل أشكال إقليدس
فيا ربة العود غني لنا ... ويا حامل الكأس لا تجلس
فتقدم بأن يخلع عليه، وحملت إليه صلة سنية، وإلى كل من الحاضرين.
وأخبرني الأمير شمس الدولة عبد الرحمن بن محمد بن ورشد بن علي بن منقذ بن
نصر بن منقذ رحمه الله تعالى
قال: جرت بيني وبين القاضي المهذب أبي محمد الحسن بن علي بن الزبير مفاوضة في قول الشعر بديهاً، وذلك في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة بدار الوزارة بالقاهرة؛ قال: كنت في مبدأ عمري أملي الشعر إملاء - كالمحفوظ - على من يكتبه، فربما سبقته بالإملاء ول أتوقف. فجعلت أتعجب من قوله تعجباً يظهر منه الاستعباد، فقال: وكأنك تستصعب هذا! إنما الصعب أن تقترح على الشاعر العمل في معنى مخصوص على قافية شاذة في وزن معين، وإن أردت أن تقف على حقيقة ما قلته ليزول عنك الشك وتدركه بالرؤية لا بالرواية، فأنشدني ما أعمل لك عليه، قال: فأنشدته من شعر الحماسة:
فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها ... لقاء عدو أو وعيد أمير
فلن يمنعوا عيني من دائم البكا ... ولن يظهروا ما قد أجن ضميري
فأنشد مبادراً كأنه يحفظ ما ينشده:
صبرت على جور الزمان وصرفه ... وإن كنت يوم البين غير صبور
وإن الذي يبغى اعتلاقاً بودها ... لمستمسك منها بحبل غرور

أرى الناس قد فكوا العناة تحرجاً ... فهل لك يوماً في فكاك أسير!
إذا أظلمت أيامنا من صدودكم ... جلوتم بدوراً في ظلام شعور
ولم أر فيمن أستعين به سوى ... عذولٍ فمن لي فيكم بعذير
وإن ظباء الوحش تحسب منكم ... بحسن نفورٍ عندها ونحور
وما كنت ممن يصبح الحب قادراً ... عليه ولكن ذاك فعل قدير
قال الأمير: فجننت استحساناً لما أتى به وتعجباً من سرعته؛ فقال: أنشدني غير هذا لئلا تقول إنه محفوظ لي، تحرجاً من ذلك، فأبى إلا أن أنشد فأنشده:
وما فارقت لبني عن تقالٍ ... ولكن شقوة بلغت مداها
فاسترسل مع آخر إنشادي قائلاً:
وكل مني النفوس إلى انقطاعٍ ... إذا بلغت لعمرك منتهاها
أناديها وليس تجيب قولي ... كأني قد دعوت بها سواها
سألقى دونها نبل الأعادي ... وأرمي منهم من قد رماها
وأصبر للتجني كل يومٍ ... وما أنا الصبور على قلاها
سلاها حين مال القلب عنها ... ولم يعلق سواها، هل سلاها!
ومن هذا الذي عني حماها ... على قربٍ ولم يدخل حماها
وضنت بالسلام على بخلاً ... وقد ضمنت لطارقها قراها
وعين حل فيها السحر لما ... أحلت في نواظرها قذاها
غدا الإعراض حظ مؤمليها ... وأمسى اليأس غاية من رجاها
أود ومهجتي في راحتيها ... مدى الأيام لو جعلت فداها
قال الأمير: وحين انتهى إلى هذا الحد، ورأيت شدة تجمعه وفرط تحفزه، وما يعانيه في إحضار ذهنه، قطعته إشفاقاً عليه.
ومما وقع من هذا الباب وكانت الإجازة في وسط الشعر صلةً لمعنى منقطع
ما أخبرني به الشيخ أبو عبد الله محمد بن علي القرموني، قال: أنشد والدي الشيخ أبو الحسن علي بن محمد اليحصبي القرموني قول ابن الرومي:
شهر الصيام مبارك ... ما لم يكن في شهر آب
خفت العذاب فصمته ... فوقعت في نفس العذاب
فقال: هذان البيتان منقطعان، ويحتاجان إلى ما يصل بينهما. فقال بديهاً:
اليوم فيه كأنه ... من طوله يوم الحساب
والليل فيه كأنه ... ليل التواصل والعتاب

الباب الثالث
في بدائع بدائه التمليط
التمليط هو أن يجتمع شاعران فصاعداً على تجريد أفكارهم، وتجريب خواطرهم في العمل في معنى واحد.
وأما اشتقاقه فذكر ابن رشيقٍ أنه من أحد شيئين؛ إما أن يكون من الملاطين؛ وهما جانبا السنام في مرد الكتفين؛ قال جرير:
ظللن حوالي خدر أسماء وانتحى ... بأسماء موار الملاطين أروح
فكأن كل قسيم أو بيت ملاط، أي جانب من البيت أو القطعة.
والآخر أن يكون من الملاط، وهو الطين يدخل في البناء، ويملط به الحائط تمليطاً، أي يدخل بين اللبن حتى يصير شيئاً واحداً.
وأما الملط؛ وهو الذي لا يبالي ما صنع، والأملط؛ وهو الذي لا شعر له في جسده؛ فليس لاشتقاقه منهما وجه.
قال علي بن ظافر: فمن التمليط ما يكون بين شاعرين؛ ومنه ما يكون بين شعراء، ومنه ما يكون بقسيمٍ لقسيمٍ، ومنه ما يكون بيت لبيت، ومنه ما يكون ببيتين لبيتين.
والفرق بينه وبين الإجازة أن التمليط يتفق فيه الشعراء قبل العمل على العمل، أو يندبون لذلك، وتتكرر منهم المناوبة؛ وهذا ليس من شروط الإجازة.
فمما وقع من التمليط بين شاعرين بقسيم لقسيم وهذا النوع يسمى المماتنة

ما أنبأني به الشيخان تاج الدين الكندي وجمال الدين الحرستاني إجازة عن الإمام الحافظ أبي القاسم علي بن الحسن بن عساكر الدمشقي، قال أخبرنا محمد بن طاووس، أخبرنا عاصم بن الحسن، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا الحسن بن صفوان، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثني أبو عدنان البصري، حدثني الصامت بن مخبل اليشكري سنة إحدى وتسعين ومائة؛ وأخبرني به أبو عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء، قال: أقبل امرؤ القيس حتى لقي التوءم اليشكري - وكان اسمه الحارث بن قتادة، ويكنى أبا شريح فقال امرؤ القيس: إن كنت شاعراً كما تقول فملط أنصاف ما أقول، فقال امرؤ القيس:
أحار ترى بريقاً هب وهناً
فقال التوءم:
كنار مجوس تستعر استعارا
فقال امرؤ القيس:
أرقت له ونام أبو شريح
فقال التوءم:
إذا ما قلت قد هدأ استطارا
فقال امرؤ القيس:
كأن حنينه والرعد فيه
فقال التوءم:
عشار وله لاقت عشارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يترك ببطن الأرض ظبياً
فقال التوءم:
ولم يترك بجلهتها حمارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أن دنا لقفاً أضاحٍ
فقال التوءم:
وهت أعجاز ريقه فحارا
فقال امرؤ القيس: لا أتعنت على أحد بعد ذلك بالشعر، فقيل إنه عز على ابن حجرٍ مماتنته ومساواته له، وآلى ألا ينازع شاعراً أبداً. وكان أبو عبيدة يقول: هي محمولة عليه.

وروى ابن الكلبي عن أبيه
قال: حدثني شيخ من بني زياد بن عبد المدان - وكان عالماً بقومه - قال: نشأ غلام من بني جنب يقال له رفاعة، ويقال له المحترش، فنبغ في الشعر وماتن شعراء قومه حتى أبر عليهم، فلما وثق من نفسه بذلك قال لأبيه: لأخرجن في قبائل اليمن، فإن وجدت أحداً يماتنني رجعت إلى بلادي، وإن لم أصادف من يماتنني تقريت قبائل العرب. فنزل بصرم من بني فهد والحي خلوف، فأتى حجرة عن جنب الحواء، فإذا عجوز حيزبون قد أقبلت معتمة تتوكأ على محجن فقالت: عم ظلاماً، فقال: نعم ظلامك، فقالت: ممن الرجل؟ قال: فقلت: من مذجج، قالت: من أيهم؟ قلت: من جنب. قالت: أضيف أنت؟ فقلت: نعم، قالت: فلا حملك الله، ما عدوت أن بخلتنا، وأسأت أحدوثتنا. ثم أثارت ناقتي وكنتها في خبائها، وأمرت وليدة لها فجاءت بعتودٍ يمرح في إهابه سمناً ومدية، وقالت: اذبح أيها الرجل. واعتجنت وامتلت وطبخت، وقربت طعاماً، وجلست أنا وهي والوليدة: فلما تعشينا قالت: ما رمى بك إلى هذه البلاد؟ فأخبرتها خبري، فضحكت وقالت: بت فسأجيئك غداً بعشر خرائد تماتنك دون الرجال، فإن غلبت فارجع إلى بلادك، واعلم أنك ترمي من مرام، فبت فلما أصبحنا إذا العجوز قد أقبلت، ومعها ثلاث فتيات كالمهرات، فابتدرن إلى الحجرة، وأقبلت العجوز فحيتني، وسألتني عن مبيتي، ثم أومأت إلى إحداهن، فأقبلت كالعيدانة يميلها الصبا، فقالت: أنت المتحدي بالمماتنة؟ فقلت: نعم، فقالت: قل أسمع، فقلت:
سوام تداءت سومها وعجافها
فقالت:
حوامل أثقالٍ تنوء فترزح
فقلت:
إذا أيهت في حجرتيها رعاؤها
فقالت:
سمت فرق منها شوامر لقح
فقلت:
نواء تداعى بالجنين عشارها
فقالت:
فتبرح ناراُ أو تبيت فتسنح
فقلت:
إذا وصلت أرضاً سقتها بدرها
فقالت:
أفاويق رسل محصنة لا تضيح
فقلت:
إذا انسفحت أخلافها خلت ما جرى
فقالت:
على الأرض منه لجة تتضحضح
فقلت: أمطلقة أم ذات بعل؟ فقالت:
عقال لعمر الله لو شئت بتهشرادى ولكن التكرم أجدر
فقمت إلى راحلتي، فقالت العجوز: رويت أم أحلب لك أخرى؟ فقلت: أروتني الأولى، فقالت: الحق الآن بأرضك.
فخرجت أريد لرجوع إلى قومي، فأبى بي اللجاج إلا قصد ما خرجت إليه، فدفعت إلى صرم من جرم، فإذا صبيان على غدير يرتجزون، فدعوت غلاماً منهم من أبشرهم. فقلت: يا غلام! هل في صرمكم من يماتنني؟ فإني قد برزت على شعراء العرب، فقال: أنا. فقلت: أنت أيها الفصيل! فقال: قل ودع عنك ما لا يجدي، فقلت:
أوابد كالجزع الظفاري أربع
فقال:
حماهن جون الطرتين مولع
فقلت:
يرود بهن الروض في الأمن جاره
فقال:
وأحلى لهن المنتضى والمودع
فقلت:
فلما اشتكت أمات قردانه السفا
فقال:
وحب على البيد السفير الممذع
فقلت:

وشبت على الأكابد نار من الصدى فقال:
تظل لنا بين الحيازيم تسفع
فقلت: أولى لك! وامتطيت راحلتي، حتى دفعت إلى شيخ يرعى غنيماتٍ له، فاستقريته، فقام مبادراً إلى قعب له، فاحتلب ما كان في ضروعهن، ثم جاءني به، فشربت، فلما اطمأننت قال: ما رمى بك إلى هذا القطر؟ فأخبرته، وكتمت ما لاقيت. فكشر وصاح بغلمةٍ يرعون قريباً منه، فأقبل غلام منهم، فقال: ادع عشرقة. فما لبث أن أقبلت جويرية عجفاء كأنها وبيلة خيسفوج، حتى وقفت بين يديه. فقال: إن ابن عمك هذا خرج من بلاده يتحدى بالمماتنة، فهل عندك شيء؟ فقالت: قل أيها المتحدي - وإنها لتقلب عينيها كعيني الأرقم - فقلت:
فما بسرة زرقاء في ظل صخرةٍ
فقالت:
ذخيرة غراء الذرى جونة النضد
فقلت:
نفى سيلان الريح عن متنها القذى
فقالت:
وذادت غصون الأيك عن متنها الوقد
فقلت:
سياب مجاج أخلص الدبر أريه
فقالت:
بصهباء صرفٍ جيب عن صفوها الزبد
فتركت ما قصدت له، وملت إلى وجهة أخرى ووصفت ناقة، فضحكت وقالت: أغوصت، فقلت:
إذا انشنج الحرباء في رأس عوده
فقالت:
وألجأ أم الحسل في مائها الصخد
فقلت:
أثارت بموماتين تحت حجاجها
فقالت:
حوانك أشباهٍ كرانية الجلد
قال: فرحت وآليت ألا أماتن أحداً ما عشت.
تفسير ما في الكلام والشعر العتود: الجذع من الغنم أو فوق ذلك.
والعيدانة: النخلة الطويلة، قال الشاعر:
وإذا مشين مشين غير جوارب ... هز الجنوب نواعم العيدان
والشوامر: التي قد شالت بأذيالها، أي رفعها.
والنواء: السمان، الواحدة ناوية، قال الشاعر:
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
والبارح: الذي يمر ومياسره عن مياسرك، والسامح: الذي يمر وميامنه عن ميامنك، وأهل نجد يتيامنون بالسامح، ويتشاءمون بالبارح، وأهل الحجاز يخالفونهم في ذلك.
وأفاويق: جمع فواق، ويمكن أن يكون جمع فيقة، وهي السكتة بين المطرتين، والسكتة بين الحلبتين، قال:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس لو رضعا
والضيح: اللبن الذي صب فيه ماء، وكذلك المذق، قال الراجز:
فامتضحا وسقياني ضيحاً ... فقد كفيت صاحبي الميحا
وانسفحت: انصبت، وبه سمي السفاح التغلبي؛ لأنه سفح ماء أصحابه وقال: لا ماء لكم دون الكلاب. قال:
وأخوهما السفاح ظمأ خيله ... حتى وردن جبا الكلاب نهالا
الجبا: الماء بعينه، والجبا: الحوض أيضاً.
والضحضاح: الماء القليل يضطرب على وجه الأرض.
والخيسفوج: القطوف والخشب اليابس.

ومن ذلك ما رواه أبو عزبة
قال: أقبل النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع، فلحق الربيع بن أبي الحقيق نازلاً من أطمه، فلما أشرفا على السوق سمعا الضجة، وكانت سوقاً عظيمة، فحاصت بالنابغة ناقته. فقال:
كادت تهلل من الأصوات راحلتي
ثم قال: يا ربيع أجز. فقال:
والنفر منها إذا ما أوجست حلق
فقال: ما رأيت كاليوم شعراً! ثم قال: أجز:
لو لا أنهنهها بالزجر لاجتذبت
فقال:
متى الزمام وإني راكب لبق
فقال النابغة:
قد ملت الحبس في الآطام واشتعفت
فقال:
إلى مناهلها لو أنها طلق
فقال النابغة: يا ربيع أنت أشعر الناس.
ومن ذلك ما رواه إبراهيم بن المدبر
عن إبراهيم بن العباس الصولي، قال: وحدثني به دعبل أيضاً - وكانا متفقين - قال: كنا نطلب جميعاً بالشعر، فخرجنا سنة وكانت محلاً، فابتدأت أقول في المطلب ابن عبد الله:
أمطلب أنت مستعذب
فقال دعبل:
لسمر المنايا ومستقبل
فقلت:
فإن أشف منك تكن سبة
فقال دعبل: وإن أعف عنك فما تفعل
وقد ذكر الصولي في كتاب الوزراء
قال: حدثني محمد بن يحيى، قال: قدم أعرابي اسمه عتبة يقول الشعر، وكان ظريفاً من الأعراب، فضمه الحسن بن وهب إليه، فاجتمع الحسن يوماً وإبراهيم بن العباس، فقال لهما عتبة هذا: إن كنتما تقولان الشعر بالعجلة، فاهجواني، فقال الحسن:
لمن طلل في رأس عتبة مقمل
فقال إبراهيم:
عفته رياح الصفع تعلو وتسفل
فقال الحسن:
شكا ما يلاقيه من الصفع رأسه
فقال إبراهيم:

تناوبه منه جنوب وشمأل
فقال الأعرابي: والله لئن لم تمسكا لأخرجن من البلد.

وذكر الصابي في كتاب الوزراء والكتاب
قال: روى أبو الفتح منصور بن محمد بن المقتدر الأصفهاني، قال: كان أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر من وجوه أهل أصفهان وأعيانهم ورؤسائهم؛ فحدثني أنه رأى في منامه قائلاً يقول له: لم لم ترث الصاحب بن عباد، مع فضلك وشعرك؟ فقلت: ألجمتني كثرة فضائله، فلم أدر بما أبدأ منها! وخفت أن أقصر، وقد ظن بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقول، قلت: قل، قال:
ثوى الجود والكافي معاً في حفيرةٍ
فقلت:
ليأنس كل منهما بأخيه
فقال:
هما اصطحبا حيين ثم تعانقا
فقلت: ضجيعين في قبر بباب دريه فقال:
إذا ارتحل الثاوون عن مستقرهم
فقلت:
أقاما إلى يوم القيامة فيه
وباب دريه، المحلة التي فيها تربته، وهي ما يستقبل المسافر من أصفهان إذا توجه من الري.
ومن ذلك
ما أخبرنا به أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في كتابه المسمى الحديقة قال: أخبرني محمد بن حبيب القلانسي الشاعر، قال: حضرنا ليلة بمجلس السلطان أبي يحيى تميم بن المعز بن باديس، فالتفت حميد بن سعيد الشاعر إلى مملوكين من مماليكه قد جمعا بين رأسيهما متناجين، فقال لي: ملط:
انظر إلى اللمتين قد حكتا
فقلت:
جنحي ظلامٍ على صباحين
فقال:
فاعجب لغصنين كلما انعطفا
فقلت:
ماسا من اللين في وشاحين
فقال:
ظبيان يحمى حماها أسد
فقلت:
لولا كانا لنا متاحين
فقال:
فلو تدانيت منهما لدنت
فقلت:
مني في الحين أسهم الحين
ومن ذلك
ما روى أن المعتمد بن عباد ركب في يوم قاصداً الجامع، والوزير أبو بكر بن عمار يسايره، فسمع أذان المؤذن، فقال المعتمد:
هذا المؤذن قد بدا بأذانه
فقال ابن عمار:
يرجو بذاك العفو من رحمانه
فقال المعتمد:
طوبى له من شاهدٍ بحقيقةٍ
فقال ابن عمار:
إن كان عقد ضميره كلسانه
أخبرني الفقيه الأجل السعيد أبو الحسن علي بن عبد الوهاب بن خليف
بالإسكندرية
قال: أخبرني الأديب المعروف بابن رزين، قال: أخبرني عبد الجبار بن حمديس الصقلي، قال: أقمت بإشبيلية لما قدمتها وافداً على المعتمد بن عباد مدةً لا يلتفت إلى، ولا يعبأ بي، حتى قنطت لخيبتي، مع فرط تعبي، وهممت بالنكوص على عقبي؛ فإني لكذلك ليلةً من الليالي في منزلي، إذ أتاني غلام، ومعه شمعة ومركوب، فقال لي: أجب السلطان، فركبت من فوري ودخلت عليه، فأجلسني على مرتبةٍ فنل، وقال لي: افتح الطاق الذي يليك، ففتحته فإذا بكور زجاج على بعد، والنار تلوح من بابيه، وواقده يفتحها تارةً، ويسدهما أخرى، ثم أدام سد أحدهما وفتح الآخر، فحين تأملتهما قال لي: ملط:
انظرهما في الظلام قد نجما
فقلت:
كما رنا في الدجنة الأسد
فقال:
يفتح عينيه ثم يطبقها
فقلت:
فعل امرئ في جفونه رمد
فقال:
فابتزه الدهر نور واحدةٍ
فقلت:
وهل نجا من صروفه أحد!
فاستحسن ذلك، وأمر لي بجائزة سنية، وألزمني خدمته.
وأخبرني رجل من التجار بمصر يعرف بأبي الفضل ابن فتوح المصري
قال: سكنت بدار في الخطة المعروفة بدويرة خلف، فرأيت جميع جدران المنزل مكتوبةً بأخبار بديعة، وأشعار مستحسنة السبك، ووجدت في جملتها: لما دخلت بجاية عند عبوري، اجتزت في بعض الأيام بصديق لي من المعلمين وهو في مكتبه، وصبيانه قد حفوا به، فأحضر صبياً منهم، وقال لي: اختبره فإنه يقول الشعر الجيد، فقلت له: أجز:
وشادنٍ ذي شطاط
فقال:
حجي له ورباطي
فقلت:
موكل بضميري
فقال:
معلق بنياطي
فعجبت من سرعة بديهته مع صغر سنه، ثم تمادى الأمر، فاشتهر بقول الشعر، فنمي إلى السلطان تميم بن المعز أنه هجاه، وأنه قال فيه:
بلد مظلم وملك ظلوم ... وهما فيح حمةً وتميم
هو فيها كمالك والمقيمو ... ن بها المجرمون وهي الجحيم
فاستحضره السلطان، واستخبره عما قال فيه، فأنكره وقال: إنما قلت:
عرجا بي فذا مناخ كريم ... هذه حمنة وهذا تميم
هذه الجنة التي وعد الل ... ه وهذا صراطه المستقيم

فاستظرفه تميم واستلطفه وأكرمه ثم صرفه.
قال المخبر بهذه الحكاية: ثم تقصيت عن المنزل، فقيا لي: إنه كان منزل أبي الصلت حين قدومه إلى مصر.
قرأت في بعض المجاميع أن شاعراً من أهل تنس من بلاد إفريقية
قصد المعتمد على الله بن عباد؛ وهو بسبته أيام جوازه للقاء أمير المؤمنين ابن تاشفين للاستنجاد به، فوصف له، فحضر، فأنشده، فقال: هذا يصلح لمنادمتنا الليلة، وأمر بإمساكه، فسقى، وجرى في المجلس حديث فرس أدهم كان مشهوراً بالأندلس، وعزيز المحل عند المعتمد.
واتفق أن الرجل سكر ونام، فخرج منه ريح بصوت شديد؛ فقال المعتمد ارتجالاً:
فيا عجباً من ضعيف القوى ... تزلزلت الأرض من ضرطته
ثم قال لندمائه: لا يشعره أحد بما جرى، واستيقظ الرجل فقال كالمعتذر من نومه: إن هذا النوم سلطان؛ فقال بعض الندماء الحاضرين: صدقت، قد سمعنا طبله؛ فجعل الرجل يقول: رأيت في منامي كأن السلطان أعزه الله قد حملني على فرس أدهم؛ من صفته كذا ومن صفته كذا؛ فقال المعتمد: صدقت، قد سمعنا تحتك صهيله، ثم قال المعتمد: قولوا في هذا شيئاً؛ فقال بعض الحاضرين:
وضرطةٍ كالجرس
فقال المعتمد:
أو كصهيل الفرس
فقال الشاعر: أفلتها صاحبنا فقال المعتمد:
عند انصرام الغلس
فقال الشاعر:
سمعتها من سبتةٍ
فقال المعتمد:
وأصلها من تنس

وأخبرني الأديب أبو عبد الله محمد التوزورى
قال: حدثني الشيخ الباغاني النحوي قال: تذاكرت مع الشيخ الزاهد اليشكري رضي الله عنه أمر أبي الهيثم الشاعر، فقال: اجتمعت به ليلةً، وكان نديمنا فيها فتى رامياً وضئ الوجه، فقلت له مستخبراً قريحته، وسالكاً به من التصنع غير مذهب: أجز ما أقول:
نشبت نشائب حب هذا الناشب
فقال:
بحشىً حشاه نار وجدٍ غالب
فقلت:
تصمى رمايته القلوب كأنما
فقال:
يرمى الورى عن قوس ذاك الحاجب
قال الشيخ أبو الفضل: فقلت: إنما تظهر القرائح في التشبيه، ونظرت إلى السماء، فإذا الجوزاء متوسطة، فقلت:
وكأنما الجوزاء في وسط السما
فقال:
در تنائر من قلادة كاعب
قال الشيخ أبو الفضل: ومررت به يوماً وهو مطرق يفكر، فقلت:
أراك تصنع شعرا
فقال:
نعم لحبي بدرا
فقلت:
قد حار وصفي فيه
فقال:
فتركي الوصف أخرى
فقلت:
هذا على أن شعرى
فقال:
من عاصف الريح أجرى
وأخبرني العماد أبو حامد
قال: روى السمعاني في تاريخه عن محمد بن علي بن أحمد بن جعفر بن الحسين البندنيجي أنه قال: سمعت والدي يقول: سمعت عم والدي أبا سعيد ن عقيل بن الحسين يقول: أتاني آت في المنام، فقال: هل لك أن تمصرع وأتمم، أو تتمم وأمصرع؟ فقلت: لا، بل أمصرع وتتمم. فقال لي: ياعيار، هربت من القافية، ولكن قل، فقلت:
هل عندكم رحمة يرجو عواطفها
فقال:
صب تشكت إلى الشكوى جوارحه
فقلت:
أغلقتم كل باب في مودته
فقال:
وفي يدى ظبيكم كانت مفاتحه
فقلت:
ما أمسكت قلبه إذ لم يطر جزعاً
فقال:
من فرط حر الجوي إلا جوانحه
ثم استيقظت.
وأخبرني القاضي الأعز أبو الحسن علي بن المؤيد رحمه الله
قال: أخبرني والدي، قال: كان الصالح طلائع بن رزيك الوزير لا يزال يحضر مجلسه في ليالي الجمع جلساؤه وبعض أمرائه لسماع قراءة مسلم والبخاري وأمثالهما من كتب الحديث، وكان الذي يقرأ رجلاً أبخر، فلعهدي به، وقد حضر المجلس مع الأمير على بن الزبير والقاضي الجليس أبي محمد عبد العزيز ابن الحباب وقد أمال وجهه إلى القاضي المهذب بن الزبير، وقال له:
وأبخر قلت: لاتجلس بجنبي
فقال الأمير:
إذا قابلت بالليل البخاري
فقال الجليس: ولم؟ فبدره المهذب فقال:
فقلت وقد سئلت بلا احتشامٍ:لأنك دائماً من فيك خارى
قال علي بن ظافر
أخبرني أيضاً هو وشهاب الدين يعقوب المقدم ذكره بما هذا معناه: قالا: جلسنا في الأيام لاجتناء زهر المحادثة، واقتناء دور المنافقة، فسمعنا صوت شبابة تذكر الأشيب الهرم زمان الشبيبة، وتحرك من الخرف الهم غزله وتشبيبه، وصوتها أشجى من أنين المشتاق لفرط الأشواق، وأرق من نوح العشاق عند عزم الفريق على الفراق؛ فقال شهاب الدين:

وشبابةٍ شبت لظى الشوق في قلبي
فقال الأعز:
تذكرني عهد الصبابة والحب
فقال شهاب الدين:
حبتني على بعدٍ بترجيعها الهوى
فقال الأعز:
فأحيت فؤادي المسهام على قرب

وأخبرني الشهاب قلب
انفردت ببوصير يوماً بالفقيه رضى الدين أبي إسحاق بن عبد الباري رحمه الله، وكنا خرجنا إليها في خدمة الوزير نجم الدين رحمه الله - وكان قد مضى إليها متنزهاً؛ فجلس إلينا غلام من أولاد بعض الرؤساء الذين كانوا في خدمته، حسن الوجه، ثم انصرف، فقال الرضى:
لله يوم مضى ببوصير
فقلت:
والعيش صفو بغير تكدير
فقال:
نديمنا فيه شادن غنج
فقلت: مكتحل جفنه بتفتير
قال علي بن ظافر
ووجدت يوماً بالجامع الأنور بالقاهرة لانتظار الجمعة، وكان يجلس بالقرب من مكاننا صبي وضئ، نهب وجهه وشعره من البدر نوره، ومن الليل ديجوره، واغتصب طرفه وعطفه من الظبي كحله، ومن الغصن تميله، ينعت بالشمس، فتأخر حضوره يوماً، فتعاطينا القول في غيبته، فقلت:
أفدي الذي غاب فغاب السرور
فقال الشهاب:
واتسع الهم بضيق الصدور
فقلت:
وأظلم الأنوار من بعده
فقال الشهاب:
وليس بعد الشمس للأفق نور
واتفق لي أني اجتمعت مع القاضي أبي الحسن بن النبيه ومعنا جماعة من شعراء
مصر
فأنشدهم قول مؤيد الدين الطفرائي في الهلال:
قوموا إلي لذاتكم يا نيام ... وأترعوا الكأس بصفو المدام
هذا هلال العيد قد جاءنا ... بمنجل يحصد شهر الصيام
فقال المذكور: لو شبهه بمنجل ذهب يحصد نرجس النجوم لكان أولى، ثم قال نظماً:
انظر إلى حسن هلالٍ بدا
فقلت:
يذهب من أنواره حندسا
فقال:
كمنجلٍ قد صيغ من عسجدٍ
قلت:
يحصد من شهب الدجى نرجسا
ثم زدت على هذا المعنى زيادتين بديعتين، يدركهما الناقد البصير، فقلت:
أما ترى الهلال يخفى أنجم ... الأفق بنور وجهه الوسيم
كمنجل من ذهبٍ يحصد من ... روض الظلام نرجس النجوم
ثم ولدت منه معنىً آخر ذكرته بعد هاتين القطعتين في كتاب التنبيهات وعجائب التشبيهات.
ومن التمليط الواقع بين شاعرين ببيت لبيت ويسمى هذا النوع الإنفاذ
ما ذكره أبو الفرج برواية تتصل بحماد الراوية، قال: تحرك كعب بن زهير يقول الشعر، فنهاه زهير مخافة أن يكون لم يستمكن شعره، فيروى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك فيغلبه، فلما طال عليه أخذه فحبسه، ثم قال: والذي أحلف به لا يبلغني أنك قلت بيتاً إلا نكلت بك؛ فبلغه أنه يقول، فضربه ضرباً مبرحاً، ثم أطلقه وسرحه في بهمة وهو غليم صغير فانطلق فزعاً، ثم روح عشيةً، وهو يرتجز:
كأنما أحدو ببهمي عيراً ... من القرى موقرة شعيرا
فغضب زهير، فركب ناقته وأردفه، وهو يريد أن يعنته ليعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير حين برز من الحي منشداً:
وإني لتعديني على الهم جسرة ... تخب بوصالٍ صرومٍ وتعنق
ثم ضرب كعباً، وقال: أجز يا لكع، فقال:
كبنيانة القرئى موضع رحلها ... وآثار نسعيها من الدف أبلق
فقال زهير:
على لاحبٍ مثل المجرة خلته ... إذا ما علا نشزاً من الأرض مهرق
ثم ضربه وقال أجز، فقال:
منير هداه ليله كنهاره ... جميع إذا يعلو الحزونة أفرق
قال: ثم بدأ زهير في وصف النعام، وترك حركة القاف يتعسفه بذلك ليعلم ما عنده، فقال:
وظل بوعساء الكثيب كأنه ... خباء على صقبي بوانٍ مروق
بوان عمود من أعمدة البيت، فقال كعب:
تراخى به حب الضحاء وقد أرى ... سماوة قشراء الوظيفين عوهق
فقال زهير:
تحن إلى مثل الحبابير جثمٍ ... لدى منتجٍ من قيضها المتفلق
الحبابير: جمع حبارى ويجمع أيضاً على حباريات، فقال كعب:
تحطم عنها قيضها عن خراطمٍ ... وعن حدقٍ كالنبخ لم يتفتق
النبخ: الجدري؛ شبه عيون أولاد النعام به.
قال: فأخذ زهير بيده وقال: قد أذنت لك في قول الشعر يا بني؛ فلما نزل وانتهى إلى أهله قال قصيدته وهو صغير يومئذ، وهي أول شعر روي له:

أبيت فلا أهجو الصديق ومن يبع ... بعرض أبيه في المعاشر ينفق

ومن ذلك ما أنبأني به الشيخان
الشيخ الأجل العلامة تاج الدين الكندي، والشيخ الفقيه جمال الدين الحرستاني، قالا: أخبرنا الشيخ الحافظ أبو القاسم بن عساكر سماعاً عليه، أخبرنا أبو العز بن باديس، أخبرنا أبو يعلى بن الفراء، أنبأنا أبو القاسم إسماعيل بن سعيد بن المعدل بن سويد، أنبأنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، أنبأنا دعبل بن ذكوان، أخبرنا الثوري، عن الأصمعي، عن ابن أبي طرفة، قال: جلس حسان بن ثابت ليلةً ومعه ابنته ليلى، فجعل يريد شعراً يقوله، فقال:
متاريك أدبار الأمور إذا اعترت ... تركنا الفروع واجتثثنا أصولها
ثم أجعل يريد الزيادة فلم يقدر، فقالت له ابنته: كأنك قد أجبلت! قال: نعم، قالت: أفأجيز عنك؟ قال: نعم، فقالت:
مقاويل بالمعروف خرس عن الخنا ... كرام يعاطون العشيرة سولها
فحمي حسان، فقال:
وقافية مثل السنان رزينةٍ ... تناولت من جو السماء نزولها
فقالت:
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ... ويعجز عن أمثالها أن يقولها
فقال: والله لا قلت بيت شعر ما دمت حية. قالت: أو أؤمنك؟ قال: فذاك، قالت: فأنت آمن أن أقول بيت شعر ما بقيت!
وروى عقيل بن خالد عن ابن شهاب
أن مروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير اجتمعا ذات يوم في حجرة عائشة - رضي الله تعالى عنها - والحجاب بينهما وبينها، يحدثانها ويسألانها، فجرى الحديث بين مروان وابن الزبير ساعةً وعائشة تسمع، فقال مروان:
فمن يشأ الرحمن يخفض بقدره ... وليس لمن لم يرفع الله رافع
فقال ابن الزبير:
ففوض إلى اله الأمور إذا اعترت ... وبالله لا بالأقربين أدافع
فقال مروان:
وداو ضمير القلب بالبر والتقى ... فلا يستوي قلبان: قاسٍ وخاشع
فقال ابن الزبير:
ولا يستوي عبدان، هذا مكذب ... عتل لأرحام العشيرة قاطع
فقال مروان:
وعبد يجافي جنبة عن فراشه ... يبيت يناجي ربه وهو خاشع
فقال ابن الزبير:
وللخير أهل يعرفون بهديهم ... إذا اجتمعت عند الخطوب المجامع
فقال مروان:
وللشر أهل يعرفون بشكلهم ... تشير إليهم بالفجور الأصابع
فسكت ابن الزبير ولم يجب، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا عبد الله، مالك لم تجب صاحبك! فوالله ما سمعت تجادل رجلين تجادلاً في نحو ما تجادلتما فيه، أعجب إلى من تجادلكما؛ فقال ابن الزبير: إني خفت عوار القول فكففت، فقالت عائشة رضي الله عنها: أما إن لمروان إرثاً في الشعر ليس لك من قبل صفوان بن المحرث الكناني - وكانت أم مروان آمنة بنت علقمة بن صفوان.
وروى أبو عبد الله الجماز
قال: كنت أنا وأبو نواس جالسين عند باب عثمان، إذ مر بنا أحمد بن عبد الوهاب الثقفي - وهو غلام حسن - فقال له أبو نواس: قبلني قبلة، فقال: لا، حتى تقول في شيئاً، فقال:
حبك يا أحمد أضناني ... يا قمراً في زي إنسان
فقبله، فقلت: وأنا فما شأني؟ فقال: حتى تقول في، فقلت:
بذلت للأول ما يشتهي ... فجد أبا العباس للثاني
فقبلني، فقال أبو نواس: وهذا بيت يكون عندك ديناً، وأنشد:
يا وردةً أعجلها قاطف ... مرت بنا في باب عثمان
وذكر الأصبهاني في كتاب الأغاني
قال: دخل أبو نواس على عنان جارية الناطفي وهي تبكي، وقد كان سيدها ضربها، فأومأ إليه الناطفي أن يحركها بشئ، فقال:
عنان لو جدت يا مناي بما ... آمل لم تقطر السماء دما
فقالت مسرعة:
فإن تمادى ولا تماديت في ... منعك أصبح بقفرةٍ رمما
فقال:
علقت من لو أتى على أنفس ال ... باقين والغابرين ما رحما
فقالت:
لو نظرت عينها إلى حجرٍ ... ولد فيه فتورها سقما
قال أبو الفرج
وقرأت في بعض الكتب: دخل بعض الشعراء على عنان، فقال لها مولاها: عانتيه، فقالت:
سقياً لبغداد لا أرى بلداً ... يسكنه الساكنون يشبهها
فقال:
كأنها فضة مموهة ... أخلص تمويهها مموهها
فقالت:

أمن وخفض ولا كبهجتها ... أرغد أرضٍ عيشاً وأرفهها
فانقطع.

وذكر الصولي في كتاب الوزراء
قال: قال علي بن يحيى المنجم: كنت عند أبي الصقر إسماعيل بن بلبل، فقال:
حمد يتيه علينا ... بشكله وبقده
فقلت:
جزاؤه كلما تا ... ه أن يهان بصده
فقال:
وقد ملا الأرض طراً ... بتيهه وببرده
فقلت:
يا رب فامنن علينا ... قبل الممات بفقده
وذكر محمد بن أيوب الغرناطي في كتاب فرحة الأنفس في أخبار الأندلس
أن الناصر عبد الرحمن بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، جلس في جماعة من خواصه، ومعهم أبو القاسم لب، وكان يعده للمجون والتطايب، فقال له: اهج عبد الملك بن جهور؛ أحد وزرائه، فقال: أخافه، فقال لعبد الملك، فاهجه أنت، فقال: أخاف على عرضي منه، فقال: أهجوه أنا وأنت؛ ثم صنع:
لب أبو القاسم ذو لحيةٍ ... طويلة في طولها ميل
فقال عبد الملك:
وعرضها ميلان إن كسرت ... والعقل مأفون ومخبول
فقال الناصر للب: اهجه فقد هجاك، فقال بديهاً:
قال أمين الله في عصرنا ... لي لحية أزرى بها الطول
وابن جهيرٍ قال قول الذي ... مأكوله القرضيل والفول
لو لا حيائي من إمام الهدى ... نخست بالمنخس شو...
ثم سكت، فقال الناصر: هات تمام البيت. فامتنع، فقال له: قولو يعني تمام البيت؛ قالها الناصر مسترسلاً غير متحفظ من زيادة الواو وإبدال الهاء واواً؛ إذ صوابه قله على حكم المشي مع الطبع والراحة من التكلف. فقال لب: يا مولانا! أنت هجوته. ففطن الناصر والحاضرون، وضحكوا وأمر له بجائزة.
القرضيل: شوك له ورق عريض تأكله البقر، وشو: اسم ذكر الرجل بالرومية. وقولو: اسم للاست. فكأنه قال: لو لا حيائي من إمام الهدى نخست بالمنخس - الذي هو الذكر - استه.
قال علي بن ظافر
أخبرني من أثق به، وهو الشيخ أبو عبد الله محمد بن القرموني بما معناه: اجتمع الوزير أبو بكر بن القبطرنة، والأستاذ أبو العباس بن سارة في يوم جلا ذهب برقه، وأذاب ورق ودقه، والأرض قد ضحكت لتعبيس السماء، واهتزت وربت عند نزول الماء، فترافدا في صفتها، فقال ابن سارة:
هذي البسيطة كاعب أبرادها ... حلل الربيع وحليها النوار
فقال ابن القبطرنة:
وكأن هذا الجو فيها عاشق ... قد شفه التعذيب والإضرار
فقال ابن سارة:
فإذا شكا فالبرق قلب خافق ... وإذا بكى فدموعه الأمطار
فقال ابن القبطرنة:
من أجل ذلة ذا وعزة هذه ... يبكي الغمام وتضحك الأزهار
قال علي بن ظافر
وأخبرني أبو يحيى بن أحمد الستولي بما معناه: أخبرني كل من الأديب أبي عبد الله المتيطي، وأبي العباس أحمد ابن خمير أنهما اجتمعا بمنار سبتة في بعض العشايا، والشمس قد آذنت بالرواح، ونثرت زعفرانها على مسك البطاح، فقال ابن خمير:
عشيتنا وقد لبست ردائي ... شحوبٍ للتفرق والوداع
فقال المتيطي:
فيا شمس الأصيل أراك تشكو ... كشكوائي، أطبعك من طباعي!
فقال ابن خمير:
فلا تجزع لعل الدهر يوماً ... يجود على التفرق باجتماع
قال علي بن ظافر
وقال لي الستولي ما معناه: وأخبراني أيضاً أنهما مرا على صبي نجار ينجر أخشاب سفينة، كأن البدر يبسم عن محياه، والزهر ينسم عن رياه، وهو يبذل من أخشابه ما كان مصوناً، ويعاقبها بالقطع لسرقتها حركات أعطافه حين كان غصوناً، فتجاريا القول فيه؛ فقال المتيطي:
ورب ظبيٍ غريرٍ ... يروع بالهجر روعي
فقال ابن خمير:
ذلت له الخشب طوعاً ... كذلتي وخضوعي
فقال المتيطي:
فقلت: حبي، ماذا ... تبغي بهذا الصنيع؟
فقال ابن خمير:
فقال أنشي سفيناً ... لرحلتي ونزوعي
فقال المتيطي:
فقلت: دونك فاجعل ... سفينةً من ضلوعي
فقال ابن خمير:
شراعها من فؤادي ... وبحرها من دموعي
قال علي بن ظافر

وأخبرني القاضي أبو المكارم أسعد بن الخطير المقدم ذكره، قال: اجتمعت مع الوجيه أبي الحسن علي بن الذروي رضي الله تعالى عنه، ومعنا رجل سيء الخلق، كثير الضجر والحنق، ذو صدرٍ يضيق عن مثقال الذرة، ويتسع عنه اتساع الأفق لسم الإبرة، فترافدنا في ذمة، فقال ابن الذروى:
لو كان سرمك مثل صدرك ضيقةً ... طال اشتياق حتاره للفيشل
فقلت:
ولكنت أول من يقال بأنه ... بغاء إلا أنه لم يدخل

وأخبرني الأديب عبد المنعم بن صالح الجزيري
قال: اجتمع عندي ابن المنجم والوجيه أبو الحسن بن الذروي، والفقيه الأديب أبو الفضل المنبوز بطيري، وجلسوا للحديث، فدخل علينا أبو الربيع سليمان بن تنين الطحان، وذكر أنه رأى رجلاً مصلوباً بأعلى الجسر، وطعن بعد صلبه، فقال الوجيه ابن الذروي: يا أصحابنا، اصنعوا في هذا شيئاً، فقال ابن المنجم: إنما يصنع فيه من يتهم بأنه لا يشعر، وليس ها هنا من يتهم إلا الشيخ أبو الفضل والشيخ أبو الربيع، فليصنعا بيتين على حرف الذال على سبيل المرافدة؛ ليثبت لهما ما ادعياه من قول الشعر، فصنع طيري في الحال:
ومفجعٍ تخذ الجذوع مطيةً ... فتقطعت لركوبها أفخاذه
وأطال أبو الربيع التفكر وافتضح في تمادي التأمل، فدس إليه ابن المنجم رقعة صغيرة فيها:
وبدا لسن الرمح فيه نفاذة ... أخنى على أفلاذه فولاذه
وناولها له بحيث فطنت الجماعة وتغافلوا، وخفى الأمر على طيري لسوء بصره، فقال: بيتي خير من هذا البيت؛ وأكثر الصياح والجلبة، فقال له ابن الذروي: دع عنك هذا القول، ألست القائل في بيتك: تخذ الجذوع... فهذا صلب على جذع أو مائة! وقلت: أفخاذه، فله فخذان أو عشرة! وأوحى إليه بالقصة. فأقصر عن الكلام، ثم التفت ابن الذروي إلى سليمان وقال له: قد ثبت اليوم عملك للشعر. فانصرف، وقد ألزموه بعمل دعوة سروراً بذلك.
وأخبرني الأديب أبو القاسم عبد الرحمن العداس
قال: اجتمع في منزلي أبو الفضل جعفر المنبوز بشلعلع، والمهذب وابن سعدان الدمشقي، فأنشدنا ابن سعدان قصيدتين مفرطتي الطول، وقال: صنعتهما وبيضهما وحملتهما للممدوحين في يومي هذا. وكان الظهر لم يؤذن به بعد، فرددنا عليه قوله، فأخذ يدعي قوة الارتجال وسرعة البديهة، فقال له جعفر: هذا مكان يمكن فيه إقامة البينة من كل مدع، ثم أطرق وقال:
ولقد قطعت اليوم مغصصٍ ... بمهذبين محلق ومقصص
وقال له: اصنع على هذا البيت والزم الصادين. فقال ابن سعدان: هذا ينبغي أن يقوله صاحب المنزل؛ وصدق، لأن جعفراً عنى بقوله: محلق نفسه وعنى بقوله: مقصص ابن سعدان، لأنه كان يفرط في قص لحيته، فقال له جعفر: قل، فلم يصنع شيئاً، فقلت أنا:
وطفقت أغتنم السرور كأنما ... قد فزت من لذاته بتلصص
ثم استدعينا منه القول فما أمكن، وكأنما يبس، أو اعتراه الخرس، فقال المهذب:
فكأنما أسقيتها من خاتمٍ ... ورقٍ بياقوت المدام مفصص
ثم استدعيناه فلم يقل شيئاً، فقلت: أنا أصنع عنك، وقلت - وقد نزلت عن تكرير الصاد - :
أشنى المفند في المدام فدامةً ... وأحب كل مسامحٍ ومرخص
وانقضى المجلس ولم يصنع شيئاً.
قال علي بن ظافر
وكتب إلى القاضي الأعز ابن المؤيد من الإسكندرية - ولفظ الخبر له - قال: تسايرت أنا والقاضي المخلص أبو العباس أحمد بن يحيى بن عوف بشاطئ خليج الإسكندرية من جهة القنطرة المعروفة بقنطرة السواري، وقد رقصت أشجاره على غناء أطياره، وملأ لها ساقي الغمام كئوس جلناره، فبينما نحن نتناشد من نفيس رقيق الأشعار، ونتعاطى من كئوس رحيق الأخبار، ونتعجب من سماء ذلك الماء كيف خلت من البدور، ومن نجوم تلك الأزهار مع طلوع شمس النهار كيف لا تغور؛ إذا بجوارٍ هناك جوار، وبدور من قبل السواري سوار، فقلت:
لله أي بدورٍ ... من السواري سوار!
فقال المخلص:
من كل هيفاء خرسا ال ... وشاح خرسا السوار
فقلت:
لاحت فجلت وحلت ... قلبي وعقد اصطباري
فقال:
تنوب فرعاً ووجهاً ... عن الدجى والنهار
فقلت:
فناظرها وقلبي ... ما بين راضٍ وضار
فقال:

وخدها وفؤادي ... من جلنارٍ ونار
فقلت:
تحكى الغزالة في به ... جةٍ وحسن منار
فقال:
والظبي في حسن جيدٍ ... ومقلةٍ ونفار

قال علي بن ظافر
وأخبرني شهاب الدين يعقوب ابن أخت الوزير نجم الدين المقدم ذكره بما معناه: جلسنا على بركة في منظرة السيد الصاحب بالجزيرة، وقد ألقى عليها ورداً أحمر ملأ بكثرة نجومه فسحة سمائها، ونقبت حمرة خدوده صفحة مائها، وأهدى رمدة إلى مقلتها الزرقاء فصح سرورنا بدائها؛ فقال رضى الدين إسحاق بن عب الباري:
وبركةٍ صادقة الصفاء
فقلت:
بريئةٍ من دنس الأقذاء
فقال:
نقب فيها الورد وجه الماء
فقلت: فأبصرت من مقلةٍ رمداء
وأخبرني أيضا
ً
هو والشريف فخر الدين أبو البركات العباس بن عبد الله العباسي الحلبي أنهما كانا مجتمعين، فمر عليهما صبي من أبناء السواديين يسوق بقراً - وكان وضئ الوجه، حسن القد - فتعاطينا القول في صفته، فقال الشهاب:
بنفسي غزالاً يسوق البقر ... ويقتل عمداً نفوس البشر
فقال الشريف:
بدا فبدا الغصن فوق الكثيب ... وبدر الدجى في ظلام الشعر
فقال الشهاب:
تقل الغزالة عن وجهه ... ويصغر تشبيهه بالقمر
فقال الشريف
شكوت إليه غرامي به ... فأعرض عني دلالاً ومر
فقال الشهاب:
حلا لي لما انثنى قده ... ولكنه لحياتي أمر
قال علي بن ظافر
كنت في بعض العشايا بالقرافة، أنا والأعز بن المؤيد المقدم ذكره - رحمه الله - في منزل قد انعطفت قدود أشجاره، وابتسمت ثغور أزهاره، وذاب كافور مائه على عنبر طينه، ومدت بكاسات الجلنار بنان غصونه، والنسيم قد خفت فاعتل، وسقط رداؤه في الماء فابتل، ووهت قواه فضعف عن السير، واشتد مرضه حتى ناحت عليه نوائح طير، فاقترح علينا أصحاب لنا كانوا معنا أن نصنع في صفة تلك العشية على هذه القافية، فقال الأعز:
جاء النسيم إلى الغصون رسولا ... ومشى يجر على الرياض ذيولا
فقلت:
نشوان يعثر في الخمائل عابثاً ... بالزهر مبلول الرداء عليلا
فقال:
فتمايلت قاماتها فكأنما ... شربت بكاسات الشمائل شمولا
فقلت:
فكأنه قد هز رايات له ... خضراً وسل من المياه نصولا
فقال:
قد أطلعت من زهرها غرراً ومن ... جاري المياه يسوقها تحجيلا
فقلت:
تحكى العرائس في القلائد للثرى ... لبست خلاخل فضةٍ وحجولا
فقال:
ضحكت مباسم زهرها ولطالما ... بكيت بدمع الهاطلات طويلا
فقلت:
وبدا عليها الجلنار كأنه ... وجنات خودٍ سمتها التقبيلا
فقال:
سلت عليهن البروق صوارماً ... فكسونها منه دماً مطلولا
فقلت:
وتناظرت أطيارها فيه وقد ... أكثرن قالاً في الهديل وقيلا
قال علي بن ظافر
ومررت أنا وهو رحمه الله يوماً بدولاب يئن أنين ثكالى فقدت أطفالها، والنواعج أضلت آفالها، ويبكي بكاء صب آلمه هواه، وصارمه من يهواه، وفرق البين بينه وبين محبوبه فراقاً لا يرجى انقطاعه، ولا يمكن استرداد ما سلبه منه ولا استرجاعه، فقلبه قد ملأته أوجاعه، وجفنه قد ضاق مجراه عن دمعه فتفتحت به أضلاعه، فقلت:
وساقيةٍ تئن أنين ثكلى ... شكت بأنينها حر الأوار
فقال:
تحن ولا تزال تطوف عجلى ... كرازمةٍ تحن إلى حوار
فقلت:
غدت تحكي محباً ذا انتحابٍ ... يطوف باكياً في رسم دار
فقال:
حكت فلكاً لجلب اللهو دارت ... عليه من قوادسه دراري
وبصرنا بساقية تتلوى تلوي الأفعوان
وتخفق خفقات قلب الجبان، والزهر قد نظم بلبتها عقودا فوق أثوابها الممسكة، والنسيم يكسوها ويلبسها غلائل مفركة، فقلت:
أساقية أم أرقم فر هارباً
فقال:
أم الريح قد هزت من الماء قاضبا
فقلت:
حصىً مثل در الثغر أجرى زلاله ... رضاباً وأبدى نبته النضر شاربا
فقال:
يوشحها زهر الرياض قلائداً ... ويلبسها مر الرياح جلاببا
واجتمعت أنا وشهاب الدين يوما
ً

فتعاطينا القول في صبيٍ ينعت بالشمس، قد مضى ذكره، فقال:
وشمسٍ متى أشرقت يكسها الحيا ... شقيقاً ويلبسني الهوى حلة الورس
فقلت:
يلوح فأبكى حين أنظر وجهه ... وبالقسر يبكي من يحدق للشمس

قال علي بن ظافر
واجتمعنا بالقرافة في ليلة وقد عم السرور الأرض بسحابه، وغمرها بفائض انسكابه، فأنبتت نواحيها زاهي جلنار، من شعل النار، في غصونٍ مائساتٍ، كحبال القرقيسات، وكشف بها النور سجف الظلماء، ونقل طرف الليل إلى الشية الشقراء، عن الشية الدهماء، وزهت الأرض بشهب النيران على جو السماء، فترافدنا القول، فقلت:
أنعت ليلا مدلهما أقتما
فقال:
أشعل بالنار وكان أدهما
فقلت:
أضحى من الحسن منيراً مظلما
فقال:
كاثرت النيران فيه الأنجما
فقلت:
فلم نكد نعرف أرضاً من سما
قال علي بن ظافر
واجتمعنا يوماً على أن نتغزل في غلام رأيناه كأن الشمس من أزراره أشرقت، وكأن النار من وجناته أنارت وما أحرقت، ذي تخيلانٍ قد انبثت دهم خيلها في محياه، وتفرقت لاقتناص فرسان القلوب التي كسرها هواه، وقد حفت وجناته بالشقيق، ولففت فصوص السبج بالعقيق، فقال:
بي رشأ أصداغه كالأوراق
بل غصن من وشيه في أوراق
بل قمر من شعره في أغساق
فقلت:
أجفانه مثل جسوم العشاق
وقرطه مثل القلوب خفاق
يرمقنا شرراً فينفى الأرماق
فقال:
في خده ماء الجمال رقراق
عجبت منه شيم ذو إحراق
يريك خيلاناً حيال الأحداق
قال علي بن ظافر
واجتمعنا بالجامع، فرأينا غلاماً مائس العطف، ذابل الطرف، قد عانق أفعوان شعره غصن قده، وطابق بين مبيض وجهه ومسوده، فقلت فيه:
يارب ظبى عطر الأنفاس
يسكن قلبي بدل الكناس
وجنته تزهر كالنبراس
وشعره في قده المياس
مثل لواء لبني العباس
فقال: لو شبهته بعلم الخطيب، لا سيما إذا ذكرت حلوله بالجامع، ثم صنع فقال:
يا رب غصنٍ أهيفٍ رطيب
أنبته الحسن على كثيب
قام مقام الخاشع المنيب
يفتك في الجامع بالقلوب
وقده في شعره الغربيب
يميس مثل علم الخطيب
ثم قال: زد عليه فقلنا:
وشادنٍ ساجي اللحاظ أحور
فقال:
أبيض يحكيه قوام الأسمر
فقلت:
وقده تحت أثيث الشعر
فقال:
من فوق ردفٍ كالكثيب الأعفر
فقلت:
كعلم الخطيب فوق المنبر
قال علي بن ظافر
ولما أعرس ابن الأمير إياس المصري الأسدي بابنة الأمير سيف الدين أيار كوخ مقدم الأسدية، احتفل الأمراء والأجناد، وبلغوا في الحشد غاية الاجتهاد، وأبرزوا من ضروب آلات الحرب ما يفوق الوصف، ويروق الطرف، وظهرت من مرد المماليك بدور سماء الغبار، وغصون من زغفهم في غدران ومن سيوفهم بين أنهار، يسبون النواظر، بالقدود النواضر، ويستملكون الخواطر، بالثغور العواطر، فكانت أوقات ذلك الزفاف مشهورة مشهودة، وأيامه في أيام الأعياد المعدومة النظير معدودة، فخرجت أنا والشهاب لننظر ذلك الاحتشاد، ونتأمل تلك الظباء الظاهرة بزي الآساد، فقال:
نقبوا بالغبار وجه ذكاء ... ثم نابوا عن حسنها بالبهاء
فقلت:
وأرونا من سحر أعينهم منهم شموساً للنقع في ظلماء
فقال:
طاولوا بالنقا السماء اقتداراً ... وتبدوا من زغفهم في سماء
فقلت:
كل بدرٍ يسير تحت ثريا ... مغفرٍ خلف كوكب السمراء
فقال:
مل سكنى البروج فاعتاض عنها ... بسروجٍ على متونٍ ظباء
فقلت:
ما تثنى في الدرع إلا أرانا ... غصناً مائساً بجدول ماء
قال علي بن ظافر

واتفق أن مضى السلطان الملك الأشرف أبقاه الله - في أوائل خدمتي له وأواخر سنة ثمان وستمائة إلى مدينة نصيبين، وضرب خيمته على تل بين بساتينها يعرف بتل أبي نواس، وهو تل مشرف في غاية العلو، مستدير الشكل أحسن استدارة، قد استقبل جرية نهر الهرماس، حتى إذا وصل النهر إليه، تفرق حواليه، وتلوى تلوى الحيات من جانبيه، والبساتين محيطة به قد ملأت أكثر مرمى البصر، وهو في نفسه قد تأزر بالأعشاب، واكتسى بغرائب الأزهار، التي أدناها شقائق النعمان، وباسم الأقحوان. وكنت أنا مقيماً بالبلد لتدبير أحوالها، وتزجية وجوه أموالها، وأنا أتكرر إليه. وإنما نقطع المسافة إلى الخيام في جنات ذات أنهار، وظلال تمنع الحرور وتأذن للنسيم والأنوار، فعن لي أن قلت في بعض خرجاتنا ونحن سائرون على ظهور دوابنا:
اجلس بتل أبي نواس ... ما بين باطيةٍ وكاس
وابتع سروراً باعه ... منك الزمان بلا مكاس
في ظل غيثٍ ذي ارتجا ... زٍ بالرواعد وارتجاس
واستدعيت من شهاب الدين المذكور المساعدة وهو يسايرني، فقال:
تل تطلع مشرفاً ... بين المزارع والغراس
بالنهر منتطق على ... زهرٍ كموشى اللباس
من قاس ربوة جلقٍ ... بذاره أخطأ في القياس
فقلت:
أضربته بعصاك يا ... موسى فأصبح ذا نبجاس
فالماء يفرى المحل سي ... ف منه مكفوف الدياس
والقضب أمثال القنا ... والورد أمثال التراس
فقال:
والثم خدود الورد في ... ه فتحتها أصداغ آس
وابن اصطباحك إن أرد ... ت من الغبوق على أساس
فقلت:
واسمع غناءً كالغنى ... قد جاء من بعد الإياس
شدواً إذا أدوى القلو ... ب أسىً فمنه لهن آس
فقال:
لاتقتنع بالكاس واب ... غ الري من جام وكاس
واكرع فما حق المدا ... مة أن تراك وأنت حاسي
فقلت:
خذها لها إن ساورت ... عقل الفتى أي افتراس
واترك على الأعراب ما اخ ... تاروه من لبن العساس
فقال:
من كف ظبي لين ال ... أعطاف صلد القلب قاسي
ظبي ولكن القلوب ... ب تكنه بدل الكناس
فقلت:
يحنى بلا سكرٍ ويك ... سر جفنه لا من نعاس
يهوى ويذكر وهو سا ... ل للذي يهواه ناسي
ثم شغلنا بالوصول، واستدعاني السلطان فدخلت إليه، فعمل الشهاب تمامها وأنا عنده، وكتبها على هذه الصورة وأنفذها إلى:
سهل الخلائق رطبها ... صعب الشكيمة والمراس
لا يستجيب ولا يطي ... ع ولا يجود ولا يواسي
ما بين ندمانٍ ظرا ... فٍ حين تخبر كياس
واشرب برأس التل لا ... تحفل بغمدانٍ براس
واهنأ بدولة سيف ذي ... يزنٍ ودولة ذي نواس
فلقد فضلتهما بمج ... دٍ شامخٍ وندى وباس
ورواق ملكٍ ثابت ال ... أركان سامي الفخر راس
فالعمر ما تم السرو ... ر به كقول أبي فراس
لا زال يخدمك الزما ... ن ومن حواه من أناس

واتفق يوما
ً
وقد اجتمعنا بثغر الإسكندرية أيام حلول السلطان الملك العزيز به إلى جزيرة الثغر لزيارة قبر أخينا الأعز بن المؤيد - رحمه الله - وقد كان توفي أغبط ما كان بالحياة، وأيأس ما كان من الوفاة، وغصن شبابه رطيب، والزمان بالثناء على فضله الخطير خطيب، فلما حللنا بفناء قبره، وأرسلنا سيل المدامع لذكره، قال الشهاب:
أيا قبر الأعز سقيت غيثاً ... كجود يديه أو دمعي عليه
وقلت:
وحلت جانبيك مروج زهرٍ ... تحاكي طيب أوقاتي لديه
فقال الشهاب:
لفقد إخائه الصافي وداداً ... وددت الموت من شوق إليه
ومن التمليط الواقع بين ثلاثة من الشعراء مما كان بقسيم لقسيم:
روى المدائني
قال: خطب أويس القرني رضي الله عنه أم الشماخ ومزرد وجزء، بني ضرار، وحضر إليهم، فقال الشماخ:
نبئتها ناكحةً أويسا

فقال مزرد: يهدي إليها أعنزاً وتيسا فقال جزء: حمقا ترى ذاك بها أم كيسا فقال أويس: لعن الله من يكون رابعكم.
وما أحسب أويساً رضي الله عنه خطب امرأة قط، ولعله غيره، أو في الرواية وهم.

ومن ذلك ما رواه أبو الفرج الأصفهاني عن رجاله
وتتصل روايته بالحرمازي؛ قال: نزل شبيب بن البرصاء المري وأرطأة بن زفر وعويف القوافي برجلٍ من أشجع، كثير المال يسمى علقمة، فأتاهم بشربة لبن ممذوقة، ولم يذبح لهم؛ فلما رأوا ذلك منه قاموا إلى مطيهم ورواحلهم فركبوها، ثم قالوا تعالوا حتى نهجو هذا الكلب، فقال شبيب:
أفي حدثان الدهر أم في قديمه ... تعلمت ألا تقري الضيف علقما
فقال أرطاة:
لبثنا طويلاً ثم جاء بمذقةٍ ... كماء السلا في جانب القعب أثلما
فقال عويف:
فلما رأينا أنه شر منزلٍ ... رمينا بهن الليل حتى تصرما
وروي أيضاً أن عقيل بن علفة المري
خرج هو وابناه جثامة وعلفة وابنته الجرباء حتى أتو بنتاً له ناكحاً في بني مروان بالشام آمت. ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعدٍ وربما ... على عرضٍ ناطحنه بالجماجم
إذا هبطت أرضاً يموت غرابها ... بها عطشاً أعطينهم بالخزائم
ثم قال: أجز يا علفة، فقال:
إذا علم غادرنه بتنوفةٍ ... تذارعن بالأيدي لآخر طاسم
ثم قال: أجز يا جثامة، فقال:
وأصبحن بالموماة يحملن فتيةً ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال: أجيزي يا جرباء، فقالت: وأنا آمنة؟ قال: نعم، فقالت:
كأن الكرى سقاهم صرخديةً ... عقاراً تمشت في المطا والقوائم
فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة! لولا الأمان لضربت بالسيف ما تحت قرطيك، أما وجدت من الكلام غير هذا! فقال جثامة: وهل أساءت؟ إنما أجازت، وليس غيري وغيرك! فرماه عقيل بسهم، فأصاب ساقه والرحل، ثم شد عليها، وقال: لو لا يعيرني بنو مرة بعد اليوم ما ذقت الحياة. ثم خرج متوجهاً إلى أهله. ثم نحر عند جثامة جزوراً وتركه وقصد قومه، وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون أتيت عليك. فلما قدموا على أهل أبير وهم بنو القين ندم عقيل على ما فعله بجثامة، فقال لهم: هل لكم في جزورٍ انكسرت؟ قالوا نعم، قال: الزموا إثر هذه الرواحل حتى تجدوا الجزور. فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة، فوجدوه وقد أنزفه الدم، فحملوه واقتسموا الجزور، وأنزلوه عليهم، وعالجوه حتى برأ، وألحقوه بقومه، فلما احتملوه وقرب الحي تغنى جثامة بقوله:
أيعذر لاهينا ويلحين في الصبا ... وما هن والفتيان الاشقائق
فقال له القوم: إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفاً، وقد عاودت ما يكرهه، فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته، لا يلحقك منه شر وعر.
فقال: إنها خطرة خطرت، والراكب إذا سار يترنم.
وقد ذكر ابن قتيبة في كتاب الأشربة هذه الحكاية على غير هذه الصفة، وذكر لعقيل البيت الأول من بيتيه، وجعل بدل علفة أخاه عملس، وأنشد له البيت الأول أيضاً من بيتيه، ثم ذكر أنه أنحى على ابنته الجرباء يضربها بالسوط، فلما رأى ذلك بنوه وثبوا عليه، فشلوا فخذه بسهم، فقال:
إن بني زملوني بالدم ... من يلق آساد الرجال يكلم
شنشنة أعرفها من أخزم
وذكر أبو الفرج هذا الرجز في حكاية أخرى تتصل بزيد ابن عياش التغلبي
والربيع بن نمير
قال: غدا عقيل بن علفة على أفراس له عند بيوته، فأطلقها، ثم رجع فوجد بنيه وأمهم مجتمعين، فشد بسيف، فحاد عنه، وتغنى بقوله:
قفي يا بنة المري نسألك ما الذي ... تريدين فيما كنت منيتنا قبل
نخبرك إن لم تنجزي الوعد أننا ... ذواخله لم يبق بينهما وصل
فإن شئت كان الصرم ما هبت الصبا ... وإن شئت لا يفنى التكارم والبذل
فقال عقيل: يا بن اللخناء، متى منتك نفسك هذا! وشد عليه بالسيف - وكان عملس أخاه لأمه، فحال بينه وبينه - فشد على عملس بالسيف، فرماه علفة بسهم، فأصاب ركبته، فسقط عقيل، وجعل يتمعك في دمه، ويزمجر بالرجز المقدم. وبعده:

من يلق أبطال الرجال يكلم ... ومن يكن ذا أودٍ يقوم
قال المدائني: وأخزم فحل لرجل كان منجباً، فضرب في إبل رجل آخر، ولا يعلم صاحبه، فرأى بعد ذلك من نسله جملاً، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم، فأرسلت مثلاً.
قال علي بن ظافر: ذكر الحريري في تفسير بعض مقاماته، أن أخزم جد حاتم الطائي، وأن جده الأدنى سعدا ضربه له مثلا، لما رأى منه تخلقه بأخلاقه وآثاره، والشنشنة: الشبه.
والصحيح ما ذكره أبو الفرج، وهذه الفعلة من علفة كانت سبب تفريق عقيل أولاده وطردهم عنه، وكانوا يقصدون أذاه بإنشاد الغزل بحضرة أخواتهم، لأنه كان مفرط الغيرة مبالغاً في الظنة، شديد الرقاعة، وهم من شياطين العرب.

وذكر أبو الفرج محمد بن إسحاق المعروف بالوراق بن يعقوب النديم في كتاب
الفهرست قال
صار جناد وإسحاق الجصاص إلى أبي عرار العجلي أحد رواة اللغة، فقال له جناد: اسمع شيئاً قلته، وأجزه، قال: قل، فقال جناد:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى دير هندٍ كيف خطت مقابره
فقال إسحاق:
تري عجباً مما قضى الله فيهم ... رهائن حتفٍ أوجبته مقادره
فقال أبو عرار:
بيوت ترى أثقالها فوق أهلها ... ومجمع زورٍ لا يكلم زائره
وذكر محمد بن سنان
مما رواه أبو الفرج، أن مطيع ابن إياس وحماد عجرد ويحيى بن زياد خرجوا في سفر، فلما نزلوا ببعض القرى عرفوا، فأنزلوا منزلاً، وأتوا بطعام وشراب، وبينما هم يشربون في صحن الدار، إذ أشرفت بنت دهقان من سطحٍ لها بوجهٍ مشرق رائق، فقال مطيع لحماد: ما عندك يا حماد؟، فقال حماد: خذ فيما شئت، فقال مطيع:
ألا يا بأبي النا ... ظر من بينهم نحوي
فقال حماد: ألا يا ليت فوق الحقو منها لاصقاً حقوي فقال مطيع:
وأن البضع يا حما ... د منها شوبك المروي
فقال يحيى بن زياد:
ويا سقياً لسطح أش ... رقت من بينهم حذوي
وروى محمد بن خلف المرزباني
عن بعض شعراء الكوفة، قال: قال لي محمد بن كناسة: قد اشتهت دنانير - يعني جاريته المشهورة جمالاً وأدباً - أن تنظر إلى الحيرة، فهل لك أن تساعدنا؟ - وكان الزمان ربيعاً - فقلت: نعم، فقال: تقدمنا لنلحق بك، فقصدت الخورنق وجلست في بعض المواضع المعشبة، وإذا به قد أقبل على بغلة ومعه دنانير على حمار فأخذ غلامه دابتيهما، فنزلا، وجلسنا وقد ستر بعض وجهها مني، فقلت أداعبها - وكان محمد يأنس بي، ويسكن إلي - : إنما تسترين وجهك عن شيخ، فقالت: طماح عين، قال: فضحكنا، ثم أخذنا ننظر إلى رياض الحيرة وبقاعها، ونتذكر ما مضى لها من الزمان، ونستحسن حمرة الشقائق على ائتلاف تلك الأنوار والألوان وطيب روائح النوار، فأخذ محمد عوداً وكتب على الأرض:
الآن حين تزين القطر ... أنجاده ووهاده العفر
ثم قال لدنانير: أجيزيه فقالت:
بسط الربيع بها الرياض كما ... بسطت ثياب في الثرى خضر
فقلت: أحسنت والله، فقال: أجز، فكتبت تحتهما:
برية في البحر نابتة ... يجبى إليها البر والبحر
فكتبت:
وسرى الفرات على مياسرها ... وجرى على أيمانها النهر
وبدا الخورنق في مطالعها ... فرداً يلوح كأنه الفجر
كانت منازل للملوك ولم ... يعمل بها لمملك قبر
وقد ذكر أبو الفرج هذه الحكاية، ورواها عن عبيد الله بن الحسين، وعزا جميع أبياتها لابن كناسة.
قال الأصمعي
ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد إلا مرة واحدة، دخلت عليه أنا وأبو حفص الشطرنجي، فقال: استبقا إلى بيت، فمن أصاب غرضي، فله عشرة آلاف درهم، قال: فأشفقت ومنعتني هيبته، وبدر الشطرنجي بجراءة العميان، فقال:
كلما دارت الزجاجة زادت ... ه اشتياقاً وحرقةً فبكاك
فاستحسنه وأجازه، فزالت عني الهيبة، فقلت:
لم ينلك الرجاء أن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال: لله درك! لك عشرون ألفاً، ثم أطرق ورفع رأسه، وقال: أنا - والله - أشعر منكما، وأنشد:
فتمنيت أن يغشيني الل ... ه نعاساً لعل عيني تراك!
وقد أنبأني التقي أبو محمد عبد الخالق المسكي

عن أبي طاهر السلفي، قال: أنبأنا أبو محمد جعفر بن السراج وابن يعلان الكبير قالا: أنبأنا أبو نصر عبد الله بن سعيد السجستاني الحافظ، عن أبي يعقوب النجيرمي قال: حدثنا الأزدي عن ابن دريد عن أبي حاتم، عن الأصمعي، قال: دخلت على الرشيد، وعنده أبو حفص الأعمى المعروف بالشطرنجي، فقال: استبقا إلى آخره، فوقع في نفسي أنه يريد جارية الناطفي، فهبته وبدرني أبو حفص، فقال:
مجلس ينسب السرور إليه ... لمحب ريحانه ذكراك
فقال: قد قاربت، ولك العشرة، وتهيبته، فقال: كلما دارت الزجاجة ... وذكر باقي الحكاية بنحو ما في الأولى.

وحدث رزين العروضي
قال: أصبحت مخموراً فتفكرت فيمن آنس به، فذكرت عنان، فاستأذنت عليها، فإذا عندها أعرابي. فقالت: يا عم، قد أتاني الله بك على فاقة، إن هذا الأعرابي قصدني، فقال: قد بلغني أنك شاعرة، فقولي حتى أجيز، وقد أرتج علي، فقلت:
لقد قل العزاء وعيل صبري ... عشية عيسهم للبين زمت
فقال الأعرابي:
نظرت إلى أوائلهن صبحاً ... وقد رفعت لها حدج فحنت
فقالت عنان:
كتمت هواهم في الصدر مني ... ولكن الدموع علي نمت
فقال الأعرابي: أنت أشعرنا، ولو لا أنك حرمة لقبلتك.
قال وروى محمد بن عيسى بن عبد الرحمن
قال: خرج إبراهيم بن عباس الصولي ودعبل بن علي الخزاعي وأخوه رزين، في نظراء من أهل الأدب رجالة إلى بعض البساتين في خلافة المأمون، وذلك في زمن خمول إبراهيم، فلقوا جماعةً من أهل السواد من حمال الشوك، فأعطوهم شيئاً وركبوا حميرهم، فأنشأ إبراهيم يقول:
أعيضت من حمول الشو ... ك أحمالاً من الحرف
نشاوى لا من الصهبا ... ء بل من شدة الضعف
فقال رزين:
فلو كنتم على ذاك ... تميلون إلى قصف
تساوت حالكم فيه ... ولم تبقوا على خسف
فقال دعبل:
وإذ فات الذي فات ... فكونوا من أولى الظرف
ومروا نقصف اليوم ... فإني بائع خفي
فانصرفوا عنه، وباع خفه، وأنفق ثمنه عليهم.
وذكر يزيد بن أبي اليسر الرياضي في كتابه الأمثال
الذي جمعه للمعز بن تميم صاحب القاهرة، قال: أخبرني سيبويه قال: اجتمع محمد بن مقبل ومحمد بن مجمع وأبو نصر الأشعثي في بستان لابن مقبل، وفي البستان نرجس تميس به الريح، فقال ابن مقبل:
شموس وأقمار من الزهر طلع ... لذي اللهو في أكنافها متمتع
فقال محمد بن مجمع:
تجاذب أعلاها الرياح فتنثني ... فيلم بعض بعضها ثم يرجع
فقال الأشعثي:
كأن عليها من مجاحة ظلها ... لآلئ إلا أنها هي ألمع
ويحدرها عنها الصبا فكأنها ... دموع براها البين والبين يفجع
وذكر عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر في تاريخ بغداد
قال: اجتمع عند أبي الحسن علي بن يحيى بن المنجم أحمد بن أبي طاهر وأبو هفان عبد الله بن أحمد العبدي وأبو يوسف يعقوب بن يزيد، على نبيذ فقال أبو هفان بديهاً يمدح علياً:
وقائلٍ إذ رأى عزمي على الطلب ... أتهت أم نلت ما ترجو من الأدب
إن ابن يحيى علياً قد تكفل بي ... وصان عرضي كصون الدين والحسب
فابتدر التمار فقال:
تذكى لزواره نار منورة ... على يفاعٍ ولا تذكى على صبب
من فارس الخيل في أبيات مملكةٍ ... وفي الأكارم من جرثومة النسب
فقال أحمد بن أبي طاهر:
له خلائق لم تطبع على طبعٍ ... ونائل وصلت أسبابه سببي
كالغيث يعطيك بعد الري نائله ... وليس يعطيك ما يعطيك عن طلب
ومنه قال اجتمع عند أحمد بن أبي طاهر أبو الضياء القيني وأبو سليمان
النابلسي الضرير في أيام أبي الصقر على نبيذ
فقال أحمد بن أبي طاهر:
كأنما التف بريحانه ... ثوب من النرجس مشقوق
فقال القيني:
أو روضة خضراء نوارها ... بالمزن مصبوح ومغبوق
فقال النابلسي:
له نسيم بيننا ساطع ... كأنه بالمسك مفتوق
كأنه يا بن أبي طاهرٍ ... من طيب أخلاقك مخلوق
وذكر أبو حفص عمر بن علي المطوعي

في كتاب درك الغرر ودرج الدرر في محاسن نظم الأمير أبي الفضل الميكالي، قال: سمعت الأمير أبا الفضل يقول: سمعت أبا القاسم الكرخي يقول: كنت ليلة عند الصاحب بن عباد، ومعنا أبو العباس الضبي، وقد وقف على رءوسنا غلام كأنه فلقة قمر، فقال الصاحب مرتجلاً:
أين ذاك الظبي أينه
فقال أبو العباس الضبي:
شادن في زي قينة
فقال الصاحب:
بلسان الدمع تشكو ... أبداً عيناي عينيه
فقال أبو القاسم:
لي دين في هواه ... ليته أنجز دينه
فزاد الأمير أبو الفضل عند إنشاد أبي القاسم فقال:
لا قضى الله ببينٍ ... أبداً بيني وبينه

وأخبرت أن الأمير أبا الفتح بن أبي حصينة السلمي وأبا محمد عبد الله بن
محمد بن سعد الخفاجي الحلبي
اجتمعنا عند الأمير سديد الملك أبي الحسين علي بن المقلد بن نصر بن منقذ الكناني، فتفاوضوا في فنون الأدب، فقال ابن أبي حصينة:
قمر إن غاب عن بصري
فقال الخفاجي:
ففؤادي حد مطلعه
فقال ابن أبي حصينة:
لست أنسى أدمعي ولهاً
فقال الخفاجي:
خلطت في فيض أدمعه
فقال سديد الملك:
قلت زرني قال مبتسماً ... طمع في غير موضعه
قال علي بن ظافر
أخبرني من أثق به بما معناه، قال: خرج الوزير أبو بكر بن عمار والوزير أبو الوليد بن زيدون، ومعهما الوزير ابن خلدون من إشبيلية إلى منظرةٍ لبني عباد بموضع يقال له الغيث، تحف به مروج مشرقة الأنوار، منتسمة النجود والأغوار، مبتسمة عن ثغور النوار، في زمن ربيع سقت السحب الأرض فيه بوسميها ووليها، وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها وأرداف الربا قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النور قلائده حول لباتها ومجامر الزهر تعطر أردية النسيم عند هباتها، وهناك من البهار ما يزري بمداهن النضار ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان، وقد نووا الانفراد باللهو والطرب، والتنزه في روضتي النبات والأدب، وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم ليأتيهم بشراب يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجه، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه، وجلسوا لانتظاره، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركض فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمعل الشراب الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه، ومضى على غلوائه راكضاً، حتى خفى عن العين خائضاً، وحين وصل الوزراء إليه، تأسفوا عليه، وأقاضوا في ذكر الزمن وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات على توام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات، فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفة ... ونأمن والمنون لنا مخيفة
وقال ابن خلدون:
وفي يومٍ وما أدراك يوم ... مضى قمعا لنا ومضى خليفه
وقال ابن عمار:
هما فخارتا راحٍ وروحٍ ... تكسرتا فشقفات وجيفه
وأخبرني الشريف فخر الدين أبو البركات العباس بن عبد الله المقدم ذكره
قال: أخبرني الشيخ تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي، قال: أخبرني بن الدهان القرطبي، قال: مضيت أنا وأبو الفضل البغدادي وابن صلاح إلى دار أمين الدولة أبي الحسن هبة الله بن صاعد، ابن التلميذ، فأساء لنا حاجبه قنبر، وأفرط في منعنا من الدخول إليه، فقال أبو الفضل:
قد بلينا في دار أس ... عد خلقٍ بمدبر
فقلت:
بقصيرٍ مطولٍ ... مستطيلٍ مقصر
فقال ابن الصلاح:
كم تقولون قنبر! ... قطعوا رأس قنبر
ثم أذن لنا، فدخلنا نضحك، فسألنا عن سبب ضحكنا فأخبرناه بالسبب، فقال: أنشدوني الأبيات جملة أميز لكم قول كل واحد منكم، فأنشدناه الأول، فقال: هذا لأبي الفضل لأنه شاعركم، ثم أنشدناه الثاني، فقال: هذا لك لأن فيه شيئاً من ألفاظ المهندسين، وأنت رجل مهندس، ثم قال: والثالث لابن الصلاح لأنه مخضرم.
قال علي بن ظافر

مضيت أنا وشهاب الدين المقدم ذكره والقاضي الأعز بن المؤيد - رحمه الله - في جماعة من أصحابنا إلى الدير المعروف بالقصير، إيثاراً لنظر تلك الآثار، فلما تنزهنا في حسن منظره، وقضينا الوطر من نظره، تعاطينا القول فيه جريا على عادة الخلعاء والبلغاء، وظرفاء الأدباء ومجان الشعراء، الذين نبذوا الوقار بالعراء، فقطعوا طريق الأعمار، بطروق الأغمار، وضيعوا العين والعقار في تحصيل العين والعقار، فقال الشهاب:
سقى الله يومي بدار القصير ... قصير العزالى طويل الذيول
محل إذا لاح لي لم أقف ... بصحبي على حوملٍ فالدخول
فقلت:
فكم فيه من قمرٍ في دجىً ... على غصنٍ في كثيب مهيل
بلحظٍ صحيحٍ وطرف سقيمٍ ... وروحٍ خفيفٍ وردف ثقيل
فقال الأعز:
قطعت به العيش مع فتيةٍ ... صباح الوجوه كرام الأصول
بكل كريم قصير المرا ... ء حاز المعالي بباعٍ طويل
فقال الشهاب:
إذا فمه سل سيف المدام ... فكم من سليبٍ وكم من قتيل
فقال الأعز:
وكم من خليعٍ كريم الفعال ... يجدد بالجود غيظ البخيل
فقلت:
نوافيه ذا ذهب جامدٍ ... فيفنيه في ذائب للشمول
ثم صنع الشهاب فيه على غير هذا الروي والوزن، فقال:
على عمر القصير قصرت عمري ... وصنت خلاعتي وأزلت وقري
فقال الأعز:
ولم أسمع لعمري قول زيدٍ ... إذا ما لامني أو قول عمرو
فقلت:
ظفرنا فيه من شفةٍ وكأسٍ ... بمشروبين من ريقٍ وخمر
فقال الشهاب:
ودافعنا يقين الدين فيه ... بمظنونين من خمرٍ وخصر
فقال الأعز:
كسوت به كئوس البيض حمراً ... من القمص اشتريناها بصفر
فقلت:
وظلت بمارق للهو أتلو ... بهز البيض فيه عناق سمر

قال علي بن ظافر
وجلسنا يوماً في روضٍ قد ماست قدوده، واخضرت بروده، وخجل ورده من عيون نرجسه فاحمرت خدوده، والروض يهدي إلى الآفاق طيب عرفه، والنسيم يركض في ميادين الأزهار بطرفه، فقلت:
بعث النسيم إلى الرياض رسولا ... يوحي إليه بكرةً وأصيلا
فقال الأعز:
يدعو إلى شرب المدام فليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا
فقال الشهاب:
ياويلتا ذهب الشباب فليتني ... لم أتخذ فيه العفاف خليلا
ومما روي في مثل هذا إلا أنه روي عن قوم مجاهيل
فأخرنا ذكره، حتى انتهى الترتيب، ولم نر إخلاء الكتاب من ذكره؛ لأنه يجري مجرى الملح، ما روي أن ثلاثة من الكتاب خرجوا إلى متنزه، فبينما هم يأكلون طعاما كان معهم، إذا بمتطفل جلس إليهم، وابتدأ في تلقف ما في الطبق مما بين أيديهم، فقالوا له: هل عرفت منا أحداً؟ قال نعم، هذا - وأشار إلى الطعام - فتعاطوا صفتهم، فقال أحدهم:
لم أر مثل جذبه ومطه
فقال الآخر:
والأكل من دجاجه وبطه
فقال الثالث:
كأن جالينوس تحت إبطه
فقال: أما نحن فوصفنا من شدة أكله ما عايناه، فما معنى كون جالينوس من تحت إبطه؟ فقال: يلقمه جوارش الكمون لئلا يتخم.
ومن التمليط الواقع بين أربعة شعراء:
ما روى الأصبهاني بسندٍ يتصل بإسحاق الموصلي عن رجاله
أن عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزوميين وأبا ربيعة المصطلقي ورجلاً من بني مخزوم - وهو ابن أخت الحارث - خرجوا يشيعون بعض خلفاء بني أمية، فلما انصرفوا نزلوا بسرف، فلاح لهم برق، فقال الحارث: كلنا شعراء، فهلموا نصف البرق، فقال أبو ربيعة:
أرقت لبرق في دجى الليل لامعٍ ... جرى من سناه ذو الربا فمتالع
فقال الحارث:
أرقت له ليل التمام ودونه ... مهامه موماة وأرض بلاقع
فقال ابن أخته:
يضيء عضاه الشوك حتى كأنه ... مصابيح أو فجر من الصبح ساطع
فقال عمر بن أبي ربيعة:
أيا رب لا آلو المودة جاهداً ... لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع
ثم قال: مالي وللبرق والشوك!
وأنبأني الفقيه التقي عبد الخالق المسكي

عن السلفي قال: أنبأنا أبو محمد جعفر بن أحمد السراج اللغوي وابن يعلان الكبير، قالا: أنبأنا أبو نصر عبد الله بن سعيد السجستاني الحافظ، قال: أخبرني أبو يعقوب يوسف بن يعقوب النجيرمي قال: ذكر أبو بكر الصولي أنه وجد بخط ابن خرداذبة، أن أبا نواس ومسلم بن الوليد الصريع والحسين بن الضحاك الخليع والعباس بن الأحنف خرجوا إلى متنزه، ومعهم يحيى بن معاذ، فأدركتهم صلاة المغرب، فقدموا ابن معاذ للصلاة، فنسي الحمد، وأرتج عليه في " قل هو الله أحد " فقطعوا الصلاة، ثم تعاطوا القول فيه، فقال أبو نواس:
أكثر يحيى غلطا ... في قل هو الله أحد
فقال مسلم بن الوليد:
قام طويلاً ساهياً ... حتى إذا أعيا سجد
فقال العباس بن الأحنف:
يزحر في محرابه ... زحير حبلى بولد
فقال الحسين بن الضحاك الخليع:
كأنما لسانه ... شد بحبلٍ من مسد
قال ابن رشيق في كتاب العمدة: وأخبرني بهذه الحكاية بعض أصحابنا، فقلت: وما على أحدٍ لو قال:
ونسي الحمد فما ... مرت له على خلد
وسمع هذه الحكاية أيضاً العباس بن الحطيئة، فقال:
ورام شيئا غير ذا ... يقرؤه فما وجد

وذكر أبو الفرج
قال: أولم محمد بن خالدفدعا أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهل بن عبد الحميد وعبيد الله بن عمرو العتبي والحكم ابن قنبر، وأخر عنهم الغداء، ثم جاء فوقف وقال: ما لكم أعزكم الله! ألكم حاجة؟ يمازحهم، فقال أبان:
حاجتنا فاعجل علينا بها ... من الحشاوي كل طردين
وقال الحكم:
ومن خبيصٍ قد حكى عاشقاً ... صفرته زينت بتلوين
فقال العقبى:
وأتبعوا ذاك بأبيةٍ ... فإنكم أصحاب أبين
فقال سهل:
دعنا من الشعر وأوصافه ... واعجل علينا بالأخاوين
فأمر بإحضار الغداء وخلع عليهم ووصلهم.
ومن ذلك ما أنبأنا به العماد أبو محمد الأصبهاني
قال: حدثني صديقي النجيب محمد بن مسعود القسام بأصفهان، قال: حضرت مجلس مؤيد الدين أبي علي محمد بن اسبهسلار رئيس جرباذقان، وعنده شمس الدين احمد بن شداد الغزنوي ومجد الدين إسماعيل بن أحمد اليماني، فأحضر بين يديه ورد أحمر، فابتدر الغزنوي فقال:
الورد فاح كأنه ... خلق الأمير أبي علي
فقلت:
أوصيته بين الأنا ... م وذكره في المحفل
فقال اليماني:
فاحمر من خجلٍ ومن ... فضحته دعوى يخجل
فقال مؤيد الدين:
في عمره كعدوه ... في عزفه مثل الولي
فنظم به ورد الثنا ... وانثر عليه من عل
وأخبرني القاضي الموفق بهاء الدين أبو علي الديباجي
قال: كنا بالعسكر المنصور الكاملي - أعزه الله - على العباسة، وعندي في خيمتي القاضي السعيد أبو القاسم بن سناء الملك - رحمه الله - والمهذب ابن الخيمي، وأقبل بعض الشعراء من أصحابنا على أكديش، وتحته على السرج خرج مشقوق، فتعاطينا العمل فيه، فقال ابن سناء الملك - رحمه اله - :
بط خراج خرجه ... عن قربوس سرجه
فقال المهذب ابن الخيمي:
لا ترجه لصالحٍ ... يأتى ولكن أرجه
فقلت:
فإنما آفته ... من بطنه وفرجه
وأقول: قد بقى عليهم من تمام المعنى والقوافي أن يقول أحدهم:
فهو كذا في دخله ... يفكر لا في خرجه
ومن التمليط الواقع بين خمسة ما ذكره الثعالبي في كتاب اليتيمة بالإسناد المتقدم
أن الأستاذ الرئيس أبا الفضل بن العميد
جلس يوماً وعنده أبو محمد بن هندو وأبو الحسين بن فارس صاحب مجمل اللغة، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي، فجاءه بعض الخدم بأترجة فقال لهم: تعالوا نتجاذب أذيال وصفها، فقالوا: إن رأى سيدنا أن يبدأنا نفعل، فقال:
وأترجةٍ فيها طبائع أربع
فقال أبو هندو:
وفيها فنون اللهو والشرب أجمع
فقال ابن فارس:
يشبهها الرائي سبيكة عسجدٍ
فقال البديهي:
على أنها من فأرة المسك أضوع
فقال الطبري:
وما أصفر منها اللون للعشق والهوى ... ولكن أراها للمحبين تجمع
وعلى ذكر هذه الحكاية ذكر القزويني في كتاب الروضة

قال أبو الفرج - وذكر هذه الحكاية وما قال فيها الرئيس أبو الفضل وعمه أبو محمد بن هندو وعيرهم: كان الوزراء والصدور في ذلك الزمان من ذكرنا وشرحنا ووصفنا، وصرنا الآن إلى الزمان الخرف الهم، للذي لا فضل في أهله ولا إفضال، وأنموذجة ذلك أي حضرت ضيافة وزير الري أبي العلاء اللنكي، منصرفي من العراق، وقد احتشد لي ليريني فضل عظمته في الوزارة بعد ما رأيت حاله الأولى، وحضر معي الوزير أبو العلاء بن حسوك، فلما صرنا إلى مجلس الأنس، ودارت الكئوس، وأخذت منه الخمر، وقد كان انتهى إليه حكاية الرئيس أبي الفضل بن العميد مع عمي، فدعا بدواة ودرج، وكتب حتى عرق جبينه، ولطخ الدرج بكثرة ما سود، ثم تبادل أترجة وقلبها، يعلمنا أنه عمل فيها شيئاً، ثم قال:
كأنها لون فتىً عاشقٍ ... من برده قد لبس المخملا
فالتفت إلى أبو العلاء بن حسوك وقال لي سراً: لابد من إجازة هذا البيت بما يشاكل سخنة عين الوزراء، ولو عزلني عن عملي وقطع ضياعي، ثم أقبل عليه كأنه يصل كلامه فقال:
أو لون حاجي من خرسان ومن ... إسهاله قد ركب المحملا
فتوهم الوزير أنه جد، فأخذ يحرك رأسه مستحسناً لهذه الإجازة، ومتعجباً من سرعة البديهة، وملكني وأبا العلاء الضحك حتى تهتكنا، ونبه على سخريتنا منه، فظهرت منه حركات العربدة، فانصرفنا إشفاقاً من حال مكروهةٍ تجرى علينا.

الباب الرابع
في بدائع بدائه الاجتماع
على العمل في مقصود واحد من شاعرين فصاعدا
ً
وقد يكون اجتماعهما لشيئين: أحدهما، أن يكون ذلك لأمر ملك أو وزير، واقتراح رئيس أو كبير، وسؤال صديق أو رفيق.
والثاني أن يقصد تبين فضلهما إن كانا متوافقين، أو يقصد أحدهما تعجيز صاحبه إن كانا متنازعين أو متدافعين. أو يقصد أحدهما تعجيز صاحبه إن كانا متنازعين أو متدافعين.
ويقع ما يصدر عنهما أيضاً على وجهين: أحدهما أن يكونا فيما نظما متباعدي الغرضين مختلفي المقصدين، وهو الأكثر. والثاني أن يتفقا على معنىً واحدٍ وهو الأقل، ربما اشتركا في كثير من الألفاظ واتفقا في القافية، وهذا إنما يكون عند اشتراكهما في جودة طبع وصفاء ذهن، وحدة خاطر، وقوة فكر واتقاد قريحة. وبالجملة أن يكونا واردين على شريعة واحدة.
وها أنا اذكر ما مر بي من الأخبار على هذين الوجهين في فصلين، وأبدأ بما وقع الاتفاق فيه فأقول:
لفصل الأول
فيما وقع الاتفاق فيه
قال علي بن ظافر
أكثر ما يقع هذا الاتفاق الغريب والتوارد العجيب، إذا ضيق المقترح على الشاعرين بأن يعين الوزن والقافية.
ذكر أبو عبد الله بن شرف القيرواني في كتاب أبكار الأفكار، قال: استدعاني المعز بن باديس يوماً واستدعى أبا علي الحسن بن رشيق الأزدي - وكنا شاعري حضرته وملازمي ديوانه - فقال: أحب أن تصنعا بين يدي قطعتين في صفة الموز على قافية الغين، فصنعنا حالا من غير أن يقف أحدنا على ما صنعه الآخر، فكان الذي صنعته:
يا حبذا الموز وإسعاده ... من قبل أن يمضغه الماضع
لأن إلى أن لا مجس له ... فالفم ملآن به فارغ
سيان قلنا مأكل طيب ... فيه و إلا مشرب سائغ
والذي صنعه ابن رشيق:
موز سريع أكله ... من قبل مضغ الماضغ
مأكلة لآكلٍ ... ومشرب لسائغ
فالفم من لينٍ به ... ملآن مثل فارغ
يخال وهو بالغ ... للحلق غير بالغ
فأمرنا للوقت أن نصنع على حرف الذال، فعملنا ولم ير أحدنا صاحبه ما عمل، فكان ما عملته:
هل لك في موز إذا ... ذقناه قلنا حبذا
فيه شراب وغذا ... يريك كالماء القذى
لو مات من تلذذا ... به لقيل ذا بذا
وما عمله ابن رشيق:
لله موز لذيذ ... يعيذه المستعيذ
فواكه وشراب ... به يداوي الوقيذ
ترى القذى العين فيه ... كما يريها النبيذ
قال ابن شرف: فأنت ترى هذا الاتفاق لما كانت القافية واحدة والقصد واحداً، ولقد قال من حضر ذلك اليوم: ما ندري مم نتعجب، أمن سرعة البديهة أم من غرابة القافية، أم من حسن الاتفاق!
قال أبو عبد الله بن شرف
أقسام الكتاب
1 2