كتاب : الزهرة
المؤلف : ابن داود الأصبهاني

ولو كان هذا الشاعر صرف همَّته إلى ذكر مكرمة عن نفسه هذا الصرف قد أبرَّ على كلّ من ذكرنا شعره.

الباب الرابع والسبعون
ذكر
من أظهر الجزع من الفقر
وقنع به، وافتخر بالصبر
قال حطَّان بن المعلَّى:
أنزلني الدَّهرُ علَى حكمهِ ... من شاهقٍ عالٍ إلى خفضِ
وغالني الدَّهرُ بوفرِ الغِنَى ... فليس لي مالٌ سوى عرضي
أبكاني الدَّهرُ ويا ربَّما ... أضحكني الدَّهرُ بما يُرضي
لولا بنيَّاتٌ كزغبِ القطا ... رُددنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكانَ لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطولِ والعَرضِ
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرضِ
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
والله لولا صبيةٌ صغار ... وجوههمْ كأنَّها أقمار
تجمعهمْ من العتيك دارٌ ... درادق ليس لهمْ دثار
باللَّيل إلاَّ أن تُشبّ نار ... لما رآني ملكٌ جبَّار
ببابهِ ما سطع النَّهار
وقال آخر:
لولا أُميمةُ لم أجْزع من العدمِ ... ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِندس الظّلمِ
وزادني رغبةً في العيش معرفتي ... ذلَّ اليتيمة يجْفوها ذوو الرَّحمِ
أحاذرُ الفقر يوماً أن يُلمّ بها ... فيكشفَ السترَ عن لحم علَى وضمِ
تهوى حياتي وأهوَى موتها شغفاً ... والموتُ أكرمُ نزَّالٍ علَى الحُرَمِ
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشَّام أُخرى كيف تلتقيانِ
سأُعملُ نصّ العيس حتَّى يكُفني ... غنَى المال يوماً أوْ غنَى الحدثانِ
وقال نهيك بن أُساف:
أَمّ نهيكٍ ارفعي الظنَّ صاعداً ... ولا تيأسي أنْ يُثريَ اليومَ بائسُ
سيكفيك سيري في البلادِ وبُغيتي ... وبعلُ الَّتي لم يحظ في البيتِ جالسُ
سأكسبُ ملاً أوْ تبيتنَّ ليلةً ... لصدركَ من وجدٍ عليَّ وساوسُ
ومَن يكسبِ المالَ المُمنَّعَ بالقنا ... يعشْ مثرياً أوْ يُودَ فيما يُمارسُ
وقال آخر:
فما طلب المعيشة بالتَّمنِّي ... ولكنْ القِ دلوك في الدّلاءِ
تجيءُ بملئها يوماً ويوماً ... تجيءُ بحمأةٍ وقليل ماءِ
وقال آخر:
فسرْ في بلادِ الله والتمسْ الغِنَى ... تعشْ ذا يسار أوْ تموتَ فتُعذرا
ولا ترضَ من عيشٍ بدونٍ ولا تنمْ ... وكيفَ ينامُ اللَّيل من كانَ مقترا
وأجود من هذه المعاني قول الآخر:
إذا ذهبت نفسي لدنيا أصبتُها ... فقد ذهبتْ نفسي وقد ذهب الثَّمنْ
لها تُطلبُ الدُّنيا فإن أنا بعتُها ... بشيءٍ من الدُّنيا فذلكمُ الغَبَنْ
قال محمود الوراق:
بَخلتُ وليس البخلُ منِّي سجيَّةً ... ولكنْ رأيتُ الفقرَ شرَّ سبيلِ
لَموتُ الفَتَى خيرٌ من البخلِ للفتَى ... وللبخلُ خيرٌ من سؤالِ بخيلِ
وأحسن من ذا قولاً وهو في ضدّ معناه الَّذي يقول:
إنَّ القناعةَ عزٌّ دائم وغنًى ... والذُّلُّ والفقرُ في ذي الحرص والطَّمعِ
لا يمنعنكَ من عَودٍ بعارفةٍ ... خوف الخصاصة أوْ كفران مُصطنعِ
فهؤلاء الذين وصفنا حالهم في صدر هذا الباب إنَّما دعاهم إلى بذل أنفسهم في طلب المال الخوف على عيالهم، ولم يريدوا بذلك مباهاة لغيرهم، ولا مكاثرة لهم بأموالهم فهم لعمري أعذر ممَّن بذل نفسه، واستعمل جاهه، وانصب جسمه في طلب ما لم تدفعه الضرورة إلى طلبه، ويكسب مالاً فقرنه إلى كسب كما قال امرؤ القيس، وهو من جيد كلامه، وهو من الأمثال السائرة من شعره وإن كان غير محمود المعنى في حقيقته:
فلو أن ما أسعى لأدنَى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلب قليلاً من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثَّلٍ ... وقد يُدرك المجدَ المؤثل أمثالي
وما المرءُ ما دامت حُشاشة نفسهِ ... بمُدرك أطراف الخطوب ولا آلِ
وكما قال أيضاً:
بكى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونَهُ ... وأيقنَ أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلتُ لهُ لا تبكِ عينكَ إنَّما ... نحاولُ مُلكاً أوْ نموتُ فنُعذرا
وكما قال يزيد بن خذاق:
ذريني أسير في البلادِ لعلَّني ... أُصيبُ غنًى فيه لذي الحقّ مَحْملُ

فإن نحنُ لم نملك دفاعاً لحادثٍ ... تلِمُّ به الأيَّام فالصَّبر أجملُ
أليسَ كثيراً أن تلمّ مُلمَّةٌ ... وليسَ علينا في الحقوقِ مُعوَّلُ
وكما قال أبو نواس:
تقول الَّتي من بيتها خفَّ مركبي ... يعزّ علينا أن نراكَ تَسيرُ
أما دون مصرٍ للفتَى متطلّبٌ ... بلَى إن أسباب الغِنَى لكثيرُ
فقلتُ لها واستعجلتْها بوادرٌ ... جرتْ فجرى في جَريهن عَبيرُ
ذريني أكثر حاسديك برحلةٍ ... إلى بلدٍ فيه الخصيبُ أميرُ
وقال آخر:
سأبغي الغِنَى إما جليسَ خليفةٍ ... نقومُ سواءً أوْ مخيفَ سبيلِ
لنخمسَ مالَ الله من كلِّ فاجرٍ ... وذي بِطنةٍ للطيّبات أكولِ
وكما قال الأحمر بن سالم:
مقِلٌّ رأى الإقلالَ عاراً فلم يزلْ ... يجوبُ بلادَ الله حتَّى تَمَوَّلا
ولم ينهَهُ عما أرادَ مهابة ... ولكنْ مضى قُدماً وما كانَ مُبْسلا
فلمَّا أفادَ المالَ جادَ بفضلِهِ ... علَى كلِّ مَن يرجو نداهُ مُؤمِّلا
فأعطى جزيلاً من أرادَ عطاءهُ ... وذو البخل مذموم يرى البخلَ أفضلا
قال أبو بكر: وإن هذه الأشعار لفي غاية من جزالة اللفظ، وتوسط من جودة المعنى، ولم نُعب قائليها، لأنهم أساؤوا فيها، وإنَّما أردنا منهم أن تكون رغبتهم في بذلها للمكاسب تأميلاً للرفعة بها في العواقب، إذْ قد استسلفوا مذلَّة السؤال، وليسوا على ثقة ممَّا أمَّلوه من علوّ الحال، ونحن الآن نذكر إن شاء الله من أثر القناعة والصبر، وتجشم مضاضة الإقتار والفقر.
أنشدني بعض أهل الأدب عن الرياشي لعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه:
دليلك أن الفقرَ خيرٌ من الغِنَى ... وأن القليلَ المال خيرٌ من المثري
لقاؤك مخلوقاً عصَى الله بالغنَى ... ولم ترَ مخلوقاً عصَى الله بالفقرِ
وأحسن الَّذي يقول:
ما اعتاضَ باذلُ وجههِ بسُؤالهِ ... عِوضاً ولو نالَ الغِنَى بسؤالِ
وإذا النَّوالُ مع السؤالِ وزنْتَهُ ... رجَحَ السؤالُ وخفَّ كلُّ نوالِ
وقال بشر الضبعي:
إذا قلَّ مالي لا ألومُ ذوي الغِنَى ... ولا يتحنَّى للحوادثِ جانبي
ولستُ إذا ما أحدثَ الدَّهر نكبة ... بأخضع ولاّج بيوت الأقاربِ
وقال أيضاً:
إذا قلَّ مالي أوْ أُصبتُ بنكبةٍ ... قَدحتُ حياتي عفَّةً وتكرُّما
وأعرضُ عن ذي المال حتَّى يُقال لي ... قد أحدث هذا نخوَةً وتبرُّما
وما بي جفاءٌ عن صديقٍ ولا أخٍ ... ولكنَّها حالٌ إذا كنتُ مُعدما
وقال ابن أذينة:
لقد علمت لو أن العلم ينفعني ... أن الَّذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعَى له فيُعنِّيني تَطَلُّبُهُ ... ولو قعدتُ أتاني لا يُغنيني
وقال آخر:
وإنْ صفحةُ المعروف ضنَّتْ بوجهه ... بدا لك من معروفنا وجهُهُ السَّهْلُ
وما زالَ مُذ كنَّا ملوكاً وسُوقةً ... يموت بنا جَوْرٌ ويحيا عَدْلُ
وقال آخر:
ملأتُ يَدي من الدُّنيا مراراً ... فما طَمعَ العواذلُ في اقتصادِي
ولا وجبت عليَّ زكاةُ مالٍ ... وهل تجبُ الزَّكاةُ علَى جَوادِ
وقال آخر:
لقد علمَ السَّاري طروقاً برحله ... وباغي النَّدَى ما اللّؤم لي بقرينِ
ومُختبطٍ يسعى إليَّ برحله ... فلم أفدْ منه صرمتي بيميني
فنفسك ولِّ اللومَ عاذل وانطحي ... برأسك أركانَ الصَّفا وذريني
وقال آخر:
وإنِّي امرؤ ما تستفيقُ دراهمي ... علَى الكفِّ إلاَّ عابرات سبيلِ
أحكّم فيها الحقّ حتَّى أذلّها ... إذا ذاد عنه الحقّ كلُّ بخيلِ
وقال أبو دلف:
إن نفساً كريمة تألف الصَّب ... ر إذا ما تغيَّرت حالاتي
لو دعتني إلى الدّناة حياتي ... يا ابن عيسى هانتْ عليَّ حياتي
إنَّما يُحمّدُ السَّجايا من الأح ... رار عند النَّوائب المُعضلاتِ
كلُّ حيٍّ يقوى علَى الصبر في السّ ... رِّ وصبرُ الكريم في النَّائباتِ
وأنشدني بعض أهل الأدب:
لا تكثري لم أُقصِّر وَيْك في الطَّلب ... أيّ البلاد وأيّ الأرض لم أجُبِ

هذا وفيَّ خِلالٌ كلُّها سببٌ ... إلى الغِنَى غيرَ أن الرزقَ لم يُجبِ
لا أتهم الله في رزقي فما صَرَفت ... عنِّي المكاسبَ إلاَّ حرفةُ الأدبِ
قال أبو العبر:
ليس لي مالٌ سوى كرمي ... فيه أمنٌ لي من العَدَم
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متَّهم
قَنعت نفسي بما رُزقتْ ... وتمطَّت في العُلى هممي
ولبستُ الصبر سابغةً ... فهي من قرني إلى قدمي
فإذا ما الدَّهر عاتبني ... لم يجدني كافرَ النّعم
وقال آخر:
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ ... فدعْهُ لأُخرى ليّنٌ لك بابُها
فإن قرابَ البَطن يكفيك مِلؤُهُ ... ويكفيك سوءاتِ الأمور اجتنابُها
وقال آخر:
الدَّهر لا يبقى علَى حالةٍ ... لكنَّه يُقبلُ أوْ يُدبرُ
فإن تلقاك بمكروهةٍ ... فاصْبر فإن الدَّهر لا يصبرُ
وقال بعض الكلابيين:
فإنِّي لصوانٌ لنفسي وإنَّني ... علَى الهول أحياناً بها لرَجومُ
وفرَّق بين الحيِّ بلوي مُشتّتٌ ... ومحتملٌ من ظاعن ومقيمُ
وأقحاط أقوام كأنَّ وليدها ... وإنْ كانَ حي الوالدين يتيمُ
قال بعض الأعراب:
إذا مِتُّ فابكيني بثنتين لا يُقَلْ ... كذبت وشرُّ الباكيات كذوبُها
بعفَّة نفسٍ حين يُذكر مَطمعٌ ... وعزَّتها إنْ كانَ أمرٌ يُريبُها
وإن قلتِ سِمْحٌ في النَّدَى لا تكذبي ... فأمَّا تُقى نفسي فربِّي حسيبُها
وأخبرني محمد بن الخطاب الكلابي أن فتى من الأعراب خطب ابنة عم له وكان معسراً، وأبى عمه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات:
يا هذه كم يكون اللّوم والفَندُ ... لا تعذلي رجلاً أثوابُهُ قِدَدُ
إن يمسِ منفرداً فالبدرُ منفردٌ ... واللَّيث منفردٌ والسَّيف منفردُ
أوْ كنتِ أنكرتِ طِمريه وقد خَلِقا ... فالبحر من فوقه الأقذار والزَّبَدُ
إنْ كانَ صرفُ الليالي رثَّ بزّته ... فبين ثوبيه منها ضيغم لُبَدُ
قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال لها: ما أُريد لك صداقاً غيرها، فدعاه فزوَّجه إيَّاها.

الباب الخامس والسبعون
ذكر
من افتخر لنفسه بالإغضاء عن خصمه
قال المتلمّس:
تحلَّمْ عن الأدنين واستبقِ منهُمُ ... ولن تستطيعَ الحلمَ حتَّى تحلَّما
وكنَّا إذا الجبار صعَّر خدَّه ... أقمنا له من مَيله فتقوَّما
فلو غيرُ أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلتُ لهم فوقَ العرانين ميسما
وهلْ كنت إلاَّ مثل قاطع كفّه ... بكفٍّ له أُخرى فأصبح أجذما
يداه أصابتْ هذه حتفَ هذه ... فلم تجدِ الأُخرى عليها مُقدَّما
فلمَّا أقاد الكفّ بالكفّ لم يكنْ ... له دركٌ في أن تَبينا فأحجما
فأطرقَ إطراق الشُّجاع ولو رأَى ... مَساغاً لنابيه الشُّجاعُ لصمّما
وقال آخر:
قومي هُمُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رَمَيْتُ أصابني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفوَنْ جَلَلاً ... ولئن ضربتُ لأُوهننْ عظمي
وقال آخر:
وذي خَطَل في القولِ يَحسب أنَّه ... مُصيبٌ فما يُلممْ به فهو قائله
عَبأت له حلماً وأكرمتُ غيرَهُ ... وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وقال وعلة بن الحرث الجرمي:
ما بالُ من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سَفَاهته كسرِي
أعودُ علَى ذي الجهل والذّنب منهمُ ... بحلمي ولو عاقبتُ غرَّقهم بحرِي
أناةً وحلماً وانتظاراً لهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضّرعَ الغمرِ
ألم تعلموا أنِّي تُخافُ غَرامتي ... وأنَّ قناتي لا تلينُ علَى الكسرِ
وقال ابن صريم الجرمي:
أردُّ الكتيبةَ مغلولةً ... وقد تركت ليَ أحسابَها
ولستُ إذا كنت في جانب ... أذمُّ العشيرة مُغتابها
ولكن أُطاوع ساداتها ... ولا أتعلَّمُ ألقابَها
وقال آخر:
وإنا لنعطي الضَّيم من لا نضيمُهُ ... يُقرُّ ونأبى نخوة المتظلّم
أناةً وحلماً ثمَّ كانَ لقاؤها ... رهيناً بيومٍ كاسف الشَّمس مظلم
وقال آخر:
إن كنتَ لا ترهبُ ذمِّي لما ... تعلمُ من صَفْحي عن الجاهلِ

فاخشَ سُكوتي إذْ أنا منصتٌ ... فيك لمسموعِ خنَا القائلِ
فسامعُ السُّوء مشيرٌ به ... ومُطعمُ المأكولِ كالآكلِ
مقالة السّوء إلى أهلِه ... أسرعُ من مُنحدرٍ سائلِ
ومن دعا النَّاس إلى ذمّه ... ذمُّوهُ بالحقِّ وبالباطلِ
وفي نحوه:
فإن أنا لم آمُرْ ولم أنْهَ قائلاً ... ضحكت له كيما يلجُّ ويستشري
وفي نحوه:
بني تميم ألا كفُّوا سفيهكُمُ ... إنَّ السَّفيه إذا لم يُنْهَ مأمور
وفي نحوه يقول عمار بن ياسر:
توخَّ من الطُّرق أوساطها ... وعَدِّ عن الجانبِ المشتبَه
وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبي ... ح كصون اللّسان عن اللّفظ به
فإنَّكَ عند استماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
قال لقيط بن زراة:
أغرَّكُمُ أنِّي بأحسن شيمةٍ ... بصير وأنِّي بالفواحش أخرقُ
وإنك قد شاتمتني فقهرتني ... هنيئاً مريئاً أنت بالشرِّ أحذقُ
وقال طرفة:
وكلام سيّئٍ قد وَقَرتْ ... أُذني عنه وما بي من صَمَم
فتصافحت لكيما لا يرى ... جاهلٌ أنِّي كما كانَ زَعَم
قال لبيد، وهذه تعرف للكميت:
ستذكرنا منكم نفوسٌ وأعين ... ذوارف لم تَضنن بدمع غُروبُها
وهل يعدُوَنْ بين الحبيب فراقُهُ ... نَعَمْ داءُ نفسٍ أن يبينَ حبيبُها
رأيتُ عذاب الماء أن حِيلَ دونها ... كفاك لما لا بدَّ منه شريبُها
وإن لم تكن إلاَّ الأسنَّة مركبٌ ... فلا رأي للمحمول إلاَّ ركوبُها
تعاتبني في النُّصح فهرُ بن مالكٍ ... ولم تدرِ ما يُخفي الضَّميرُ عيوبها
ولو ماتَ من نُصحٍ لقوم أخوهُمُ ... لقد لقيتني بالمنايا شعوبُها
أُطيِّبُ نفسي عن لؤي بن غالبٍ ... وهيهاتَ منِّي ثمَّ هيهاتَ طيبُها
أبوها أبي الأدنى وأُمِّي أُمُّها ... فمن أين رابتني وكيفَ أريبها
ألا بأبي فهرٌ وأُمي ومالك ... وإن كثُرتْ عندي وفيَّ ذنوبها
قال معاوية بن أبي سفيان:
إذا لم أعدْ بالحلم منّي عليكُم ... فمن ذا الَّذي بعْدي يُؤمَّلُ للحلم
خُذيها هنيئاً واذكري فعل ماجدٍ ... حباك علَى حرب العداوة بالسَّلم
ولبعض الأعراب:
وأغضي عن العوراء حتَّى يُقال لي ... بأذنيَ وقرٌ عندها حين أطرقُ
وعندي جوابٌ حاضرٌ لو أردتُهُ ... من الصّاب في فيه أمرُّ وأعلقُ
حياءً وإكراماً لعرضي أصونُهُ ... وما خيرُ عرضٍ لا يزال يُمزَّقُ
إذا بعتُ عرضي لم يُذمَّ مُهذَّباً ... وآخذُ مذموماً به اللؤمُ مُلصقُ
إذا بعتهُ منه أخذتُ ندامةً ... وخسرانَ بيعٍ إذْ علَى الكفِّ يُصفقُ
وقال آخر:
وإنِّي لأُعطي المالَ من ليسَ سائلاً ... وأصفحُ عن بادي السَّفاه سليمِ
وأحمي ذمامَ المرء أعلمُ أنَّني ... عليه بظهر الغيب غير كريمِ
وقال آخر:
فلو بي بدأتُمْ قبلَ من قد دعوتُمُ ... لفرَّجْتُها وحدي ولو بلغت جهدي
إذا المرءُ ذو القربى وذو الرّحم أجحفت ... به سُنَّةٌ سلَّت مصيبته حقدي
ولبعض الأعراب:
قومي إذا فرطت منهم بوادرهُمْ ... لا يقرعون عليها السنَّ من نَدمِ
منّا العفافُ ومنّا العفو عائدةً ... إنّا كذلك عوَّادون بالنعمِ
إنّا إذا ما قدرنا واستعيد لنا ... فالعفوُ فيما نرى أدني إلى الكرمِ
ولأبي هلال الأسدي:
دع عنك مولى السوء والدَّهر إنَّه ... سيكفيكهُ أيامهُ ونوائبُه
ويلقى عدوّاً من سواك يردُّهُ ... إليك فتلقاه وقد لانَ جانبُه
وقال آخر:
وتجزعُ نفسُ المرء من سَبِّ مُرَّةٍ ... فيسمعُ ألفاً مثلها ثمَّ يصبرُ
فلا تعذراني أن أُسيء فإنَّما ... شِرارُ الرّجال من يُسيء ويُعذرُ
وقال آخر:
يا أيُّهاذا الشاتمي ظالماً ... والظُّلمُ مردودٌ علَى الشَّاتمِ
أرحمُ من يبكي بشتمي ومن ... أولى بأن يُرحمَ من آثمِ
ولمحمود الورّاق:
إنِّي شكرتُ لظالمي ظُلمي ... وغفرتُ ذاك له علَى علمي
ورأيتهُ أسدى إليَّ يداً ... لمّا أبانَ بجهله حلمي

ما زال يظلمني وأنصفُه ... حتَّى بكيتُ له من الظُّلمِ
وقال آخر:
وليس يتمُّ الحلمُ للمرء راضياً ... إذا هو عند السُّخطِ لم يتحلَّمِ
كما لا يتمُّ الجودُ للمرء موسراً ... إذا هو عند العُسر لم يتجشَّمِ
وقال معن بن أوس المُزني:
لعمرُكَ ما أدري وإنِّي لأوْجَلُ ... علَى أيّنا تغدُو المنيَّةُ أوَّلُ
وإنِّي أخوكَ الدائمُ العهد لم أحُلْ ... إن آذاك خصمٌ أوْ نبا بك منزلُ
أُحاربُ من حاربتَ من ذي قرابةٍ ... وأحبسُ مالي إن غرمتَ فأعقلُ
وإن سُؤتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ ... ليُعْقِبَ يوماً منك آخرُ مقبلُ
ستقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيَّ كفّ تبدَّلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاكَ وجدتَهُ ... علَى طرف الهجران إنْ كانَ يعقلُ
ويركبُ حدّ السَّيف من أن تضيمَهُ ... إذا لم يكنْ عن شفرةِ السَّيف مَزْحَلُ
وفي النَّاسِ إن رثَّتْ حبالُكَ واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى مُتحوّلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيء لم تكدْ ... إليه بشيءٍ آخرَ الدَّهر تُقبلُ
وقال آخر:
بلاءٌ ليس يُشبههُ بلاء ... عداوةُ غير ذي حسبٍ ودينِ
يُبيحُكَ منهُ عِرْضاً لم يصنْهُ ... ويرتعُ منك في عِرض مَصونِ
وقال أبو الدّلف:
إذا نطق السفيه فلا تُجبْهُ ... فخير من إجابتهِ السُّكوتُ
سكتُ عن السفيه وظنَّ أنِّي ... عييتُ عن الجواب وما عَييتُ
سفيهُ القوم يشتمني فيحظى ... ولو دمَهُ سفكت لما حظيتُ
أنشدني البحتري لنفسه:
دعاني إلى قول الخنى واستماعه ... أبو نَهْشلٍ بعد المودَّة والحلفِ
وأخطرني للشّاتمين ولم أكُنْ ... لأُشتم إلاَّ بالتكذّب والعَرفِ
فما ثلموا مجدي ولا فتلوا يدي ... ولا ضعضعوا عزّي ولا زعزعوا كهفي
ولما تبارينا فررت من الخنى ... بأشياخِ صدق لم يفرّوا من الزحفِ
وإنَّ جديراً أن تبيت ركائبي ... بديمومةٍ تسفي بها الريح ما تسفي
وأجبُنُ عن تعريض عرضي لجاهلٍ ... وإن كنت في الإقدام أطعنُ في الصّفِّ
وإنِّي لئيمٌ إن تركتُ لأسرتي ... أوابدَ تبقى في القراطيسِ والصّحفِ
وقال آخر:
وإنِّي لأُقصي المرءَ عن غير بِغْضةٍ ... وأُدني أخا البغضاء منّي علَى عَمْدِ
ليُحدثَ ودّاً بعد بغْضاءَ أوْ أَرَى ... له مصرعاً يُردي به الله من يُردي
وقائل هذه الأبيات غير داخل في باب الصفح عن المجرمين بل هو داخل في باب انتظار الفرصة لمعاقبة المذنبين، وليس ذلك لعيب في كل الحالان إذْ في الأحوال ما يكون الصفح عن المجرم جرماً عظيماً، وفساداً كثيراً، لأن العقاب على ثلاثة أضرب، فعقاب يدخل في باب التشفي، وعقاب يدخل في باب التأديب، وعقاب يدخل في باب الحدود. وإنَّما يصلح الصفح فيما يدخل في باب التّشفي وحده. نحو ما قدمنا في صدر هذا الباب ذكره، ولا يصلح في النوعين المذكورين بعده. فأمَّا ترك العقاب الداخل في باب التأديب فداعٍ إلى فساد التدبير، وعائد بالضرر على المعفو عنه وفي نحو ذلك يقول أبو تمام:
كانت لكم أخلاقُهُ معسولةً ... فتركتموها وهي ملحٌ علقَمُ
فقسا لتزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقس أحياناً علَى من يرحمُ
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدمَّ المغترَّ يحبُسهُ الدمُ
وندمْتُم ولو استطاع علَى جوى ... أحشائكم لوقاكم أن تندموا
على أنَّه ينبغي للمعاقب التأديب ألا يزيد على مقدار الاستحقاق فيدخل في باب الظلم كما قال أشجع:
منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهُهُ وإن لم تعلم
لا يُصلحُ السلطانَ إلاَّ شدَّة ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
وأمَّا ترك العقاب الَّذي يدخل في باب الحدود فمعصية لله عز وجل، ومن أعظم الجهل طلب المكارم بالدخول في باب المحارم كما بلغنا عن عبد الملك بن مروان أنَّه أراد قطع يد رجل سرق فكتب إليه من الحبس:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوكَ أنْ تلقى مكاناً يَشينُها
ولا خير في الدُّنيا وكانت حبيبةً ... إذا ما شمالي فارقتها يمينُها

فأبى إلاَّ قطعها، فدخلت عليه أمُّه فقالت يا أمير المؤمنين: واحدي وكاسبي. فقال: بئس الكاسب كاسبُك، وهذا حدٌّ من حدود الله لا أُعطّله. فقالت: يا أمير المؤمنين: اجعله من الذنوب الَّتي يستغفر الله منها، فعفا عنه. وهذا الفعل لا يُسمى عفوا، لأن العفو إنَّما هو ترك المرء ماله وترك مال غيره ممَّا قد جُعل هو القيّم عليه باستيفائه. فهو بباب التصنيع والإثم أشبه منه بباب العفو والحلم.

الباب السادس والسبعون
ذكر
الافتخار بالشجاعة والانتصار
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة: أن العباس بن الفضل حدثهم قال: حدثنا محمد بن عبد الله التميمي قال: حدثنا الحسين بن عبد الله. قال: حدثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت النَّبيّ صلى الله عليه فأنشدته قولي:
وإنّا لقومٌ لا نُعوّدُ خيلنا ... إذا ما التقينا أنْ نُحيدَ ونَنْفرا
وتُنكرُ يوم الرَّوع ألوانَ خيلنا ... من الطَّعن حتَّى نحسُبَ الجون أشقرا
فليس بمعروف لنا أنْ نردَّها ... صِحاحاً ولا مُستنكراً أن تُعقّرا
وقال عنترة:
لمّا رآني قد نزلتُ أُريدُهُ ... أبدى نواجذَهُ لغير تَبسُّمِ
فطعنتُهُ بالرُّمح ثمَّ علوتُهُ ... بمُهنَّدٍ صافي الحديدةِ مُخْذمِ
فشككتُ بالرمح الطويل ثيابَهُ ... ليس الكريمُ علَى القنا بمُحرَّمِ
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمُها ... قيل الفوارسِ ويك عنترَ أقدمِ
إذْ يتَّقونَ بي الأسنَّةَ لم أصحْ ... عنها ولكني تضايقَ مقدمِ
يدعون عنترَ والرّماحُ كأنها ... أشطانُ بئرٍ في لَبانِ الأدهمِ
وله أيضاً:
بكرتْ تخوّفي الحتوفَ كأنني ... أمسيتُ عن غرضِ الحُتوفِ بمعزلِ
فأجبتُها أنَّ المنيَّةَ منهلٌ ... لا بدَّ أنْ أُسْقى بذاك المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنِّي امرؤ سأموتُ إن لم أُقْتلِ
وقال خُفاف حين قتل مالك بن حُباب الشمخي معاوية بن عمرو السلمي:
إن تكُ خيلي قد أُصيبَ صميمها ... فعمداً علَى عيني تيمَّمت مالكا
وقفتُ علَى علوى وقد خام صُحبتي ... لأبني مجداً أوْ لأثأر هالكا
أقول له والرمحُ يأطُرُ متْنهُ ... تأمَّلْ خفافاً إنَّني أنا ذلكا
وقال العباس بن عبد المطلب:
أبا طالب لا ترضَ بالنصف منهُمُ ... وإنْ أنصفوا حتَّى تَعُقّ وتظْلَما
أبى قومنا أن يُنْصفونا فأنصفَتْ ... قواطعُ في أيماننا تقطرُ الدّما
إذا خالطت هام الرّجال رأيتها ... كبيضِ نعام في الوغى قد تحطَّما
تركناهمُ لا يستحلّونَ بعدنا ... لذي رحمٍ يوماً من النَّاس مَحْرما
وقال آخر:
إذا ظلمتْ حكّامُنا وولاتنا ... خصمناهُمُ بالمُرهفات الصّوارمِ
سيوف كأنَّ الموتَ حالف حدَّها ... مشطبةٌ تفري متون الجماجمِ
إذا ما انتضيناها ليومِ كريهةٍ ... ضربنا بها ما استمسكتْ في القوائمِ
وقال أبو سفيان بن الحارث:
نحن وردنا بطن سلعٍ عليكمُ ... بأسيافنا والخيل تدمى نُحورُها
تركنا بني النّجار تعوي كلابهم ... غداة تولت واستمرَّ مريرُها
ونحن تركنا الخزرجي مُجدّلاً ... تمجُّ حياة النَّفس منه زفيرُها
تركناهُ لما غادرَتْه رماحُنا ... ولم يبقَ منه غير عين يُديرها
وقال قيس بن الخطيم:
ثأرت عديّاً والخطيمَ فلم أُضِعْ ... وصيَّةَ أشياخٍ جُعلتُ إزاءها
طعنتُ ابن عبد القيس طعنةَ ثائرٍ ... لها نَفذٌ لولا الشَّعاعُ أضاءها
ملكتُ بها كفَّي فانهرتُ فَتْقها ... يُرى قائماً من دونها ما وراءها
يهونُ عليَّ أن تردَّ جراحُها ... عيونَ الأواسي إذْ حَمِدتُ بلاءها
وكنتُ امرءاً لا أسمعُ الدَّهرَ سُبَّةً ... أُسَبُّ بها إلاَّ كشفتُ غطاءها
مَتَى يأتِ هذا الدَّهرَ لا يُبقَ حاجةٌ ... لنفسيَ إلاَّ قد قضيت قضاءها
وذكروا أن معاوية ركب فرسه عازماً للهرب. قال: فذكرت أبياتاً لعمرو ابن الإطنابة فوقفت وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإجشامي علَى المكروه نفسي ... وضربي هامةَ البطلِ المشيحِ

وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أوْ تستريحي
وقال كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرْنَ بخطونا ... قُدُماً ونُلْحقها إذا لم تلحقِ
ما حلَّ بالأعداء مثل لقائنا ... يوم النجاح ويومنا بالخندقِ
وقال مالك بن عوف النصري:
وإذا شكا مُهري إليَّ حرارةً ... عند اختلاف الطعن قُلتُ له اقدم
إنِّي بنفسي في الحروب لتاجرُ ... تلك التجارةُ لا انتقادُ الدرهم
وقال ربيعة بن مقروم الضبّي:
ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ... بسليم أوظفةِ القوائم هيكل
ودَعَوا نزالِ فكنتُ أوّل نازلٍ ... وعلامَ أركبهُ إذا لم أنزل
وقال سعد بن ناشب:
سأغسلُ عنّي العارَ بالسيف جالبا ... عليَّ قضاء الله ما كان جالبا
وأذهلُ عن داري وأجعلُ هدمها ... لعرضيَ من نطق المذمة حاجبا
ويصغُر في عيني تلادي إذا انثنت ... يميني بإدراك الَّذي كنت طالبا
فإن تهدموا بالغدر داري فإنها ... تراثُ كريم ما يبالي العواقبا
أخي غمراتٍ لا يزيد علَى الَّذي ... يهمُّ به من مقطع الأمر صاحبا
إذا همّ لم تُردع عزيمةَ همه ... ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمهُ ... ونكّب عن ذكر العواقب جانبا
وقال أيضاً:
وإن أسيافنا بيضٌ مُهنَّدةٌ ... بتر لآثارها في هامهم جُددُ
وإن هويتم سللناها وقد غبَرتْ ... دهراً وهامُ بني بكر لها غُمدُ
وقال علي بن محمد العلوي:
وإنّا لتُصبحُ أسيافنا ... إذا ما انتصبنَ بيوم سفوك
منابرُهنَّ بطونُ الأكفِّ ... وإغمادُهنَّ رؤوس الملوك
وقال جعفر بن علبه الحارثي:
إذا ما ابْتَدرنا مأزقاً فرجت لنا ... بأيماننا بيضٌ جلتها الصَّياقلُ
لهمْ صدرُ سيفي يوم صحراء سحبلٍ ... ولي منهُ ما ضُمَّتْ عليه الأناملُ
ولم ندْرِ إن جضْنا من الموت جَيْضَةً ... مَتَى العُمرُ باقٍ والمدى متطاولُ
وقال أيضاً:
ولا يكشف الغمَّاء إلاَّ ابن حُرَّةٍ ... يرى غمرات الموت ثمَّ يزورها
نُقاسمهم أسيافنا شرَّ قسمةٍ ... ففينا غواشيها وفيهم صدورُها
وقال موسى بن جابر الحنفي:
ولما نأت عنّا العشيرةُ كلُّها ... أنخْنا فحالفنا السُّيوفَ علَى الدَّهرِ
فما أسْلمتنا عند يوم كريهةٍ ... ولا نحن أغضبنا الجُفونَ علَى وتْرِ
وقال أيضاً:
وإنّا لوقَّافون بالثغرةِ الَّتي ... يخاف رداها والنّفوس تطَلّعُ
وإنّا لنُعطي المشرفيَّة حقَّها ... فتقطع في أيماننا وتقطَّعُ
وقال الراعي:
وللحق فينا خصلتان فمنهما ... ذلولٌ وأخرى صعبةٌ للمظالم
وإنّا لقوم نشتري بنفوسنا ... ديار المنايا رغبةً في المكارم
وقال الراعي:
يمسي ضجيعَ خريدةٍ ومضاجعي ... عضبٌ رقيق الشَّفرتين حُسامُ
والحربُ حرفتنا وبئست حرفةٌ ... إلاَّ لمن هو في الوغى مقدامُ
نعري السيوف فلا تزال عريَّةً ... حتَّى تكون جفونهن إلهامُ
والموت يسبقنا إلى أعدائنا ... تهفو به الرّايات والأعلامُ
وقال آخر:
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجدْ ... لنفسي بقاءً مثل أن أتقدَّما
إذا المرء لم يخشَ المكاره أوشكتْ ... حبال الهوينى بالقنا أن تجذَّما
وقال آخر:
فلا توعدونا بالمناصل إننا ... حظينا وأدركنا المُنى بالمناصلِ
قديماً ضربنا الدَّارعين وأنتمُ ... مشاغيل في تصريف ماء الجداولِ
وقال معبد بن علقمة:
فقُل لزهير إنْ شتمتَ سَراتَنا ... فلسنا بشتَّامين للمُتَشتِّمِ
ولكنَّنا نأبى الظَّلامَ ونعتصي ... بكلِّ رقيق الشَّفرتين مُصمّمِ
وتجهلُ أيدينا ويحلمُ رأيُنا ... ونشتمُ بالأفعالِ لا بالتشتّمِ
وقال أبو عطاء السِّنْدي:
وفارس في غمار الموت مُنغمسٍ ... إذا تألَّى علَى مكروههِ صدقا
غشيتُهُ وهو في جأواء باسلةٍ ... عضباً أصابَ سوادَ القلب فانفلقا
بضربةٍ لم تكن منّي مخالسةً ... ولا تعجلتُها جبناً ولا فرقا
وقال آخر:

يقول أخي لا تنتضي السيفَ واغتنمْ ... من اللَّيث عنَّا بالطَّريق تعرُّضا
فقلتُ وقد سدَّ الطَّريق بوجهه ... وقابلني وجهاً من اللَّيث أعرضا
أموتُ وسيفي مُغْمدٌ في قرابه ... ويوجد بعدي مغمداً غير مُنتضى
فلم طال حملي نصله وقرابه ... إذا أنا لم أضرب به من تعرَّضا
وقال عبد العزيز بن أرطاة الكلابي:
فلم ولدتني أمُّ عمرو وشدّدتْ ... عليَّ حِذار الموت خيط التمائمِ
إذا أنا لم أخلف لها من رجالها ... رجالاً ولم أدفع ظلامة ظالمِ
قال علي بن يحيى الأميني:
لقد طال حملي الرمح حتَّى كأنه ... علَى فرسي غصن من الدوح نابتُ
يطول لساني في العشيرة مصلحاً ... علَى أنَّه يوم الكريهةِ صامتُ
أنشدني محمد بن الخطاب الكلابي:
دع الهَوَى والهجر في النَّار ... وكلَّ بكَّاءٍ علَى الدَّارِ
ما الفخر إلاَّ للكريم الوفي ... في جحفلٍ للموت جرّارِ
والنَّار لا العار فكنْ سيّداً ... فرَّ من العار إلى النّارِ
قال أبو الحسن يحيى بن عمر العلوي يوم قتل:
هوان الحياة وهول الممات ... وكُلاًّ أراه طعاماً وبيلا
فألاَّ يكن غير إحداهما ... فسيروا إلى الموت سيراً جميلا
ولا تهلكوا وبكم مِنَّةٌ ... كفى بالحوادثِ للمرءِ غولا
قال علي بن محمد العلوي:
إذا اللَّئيم مطَّ حاجبيه ... وذاد عن حريم درهميه
فأقذف عنان اللؤم في يديه ... وأغدُ إلى السَّيف وشفرتيه
فاستنزل الرزق بمضربيه ... إنْ قعدَ الدَّهرُ فقم عليه
ولعلي أيضاً:
قلبي نظيرُ الجبل الصعب ... وهمتي أوسعُ من قلبي
فاستخر الله وخذ مُرهفاً ... وافتك بأهل الشرق والغربِ
ولا تمت إن حضرت ميتةٌ ... حتَّى تميتَ السَّيف بالضّربِ

الباب السابع والسبعون
ذكر
ما للشعراء في التحذير والإغراء
حدثني إسماعيل بن إسحاق القاضي قال: حدثنا إبراهيم بن بشار قال: حدثنا سفيان بن عمر بن دينار، وأبو أيوب عن عكرمة وداود بن سابور وابن جريج عن مجاهد قالا: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلّم حلف من خزاعة فذكر صدراً من خبر فتح مكة فيه، ودخل النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم من كداء، وقال: اللهم اضرب على أسماعهم وعلى أبصارهم فلا يشعرون بنا حتَّى نهجم عليهم. فأنشأ حسان بن ثابت الأنصاري يقول:
عدمتم خيلنا إن لم تروها ... تثير النقع موعدُها كداءُ
تظلُّ جيادنا مُتمطراتٍ ... تُلطمهُنَّ بالخمر النّساءُ
قال سفيان: فلقد كانت المرأة تردُّ وجه الفرس بخمارها عن بابها.
قال عدي بن زيد العبادي يحرض ابنه على من حبسه:
ألا هبلتك أمُّك عمرو بعدي ... أتقعد لا تريم ولا تصولُ
ألم يحزُنكَ أن أباك عانٍ ... وأنتَ مُغيَّبٌ غالتك غولُ
تُغنيك ابنة القين بن جسرٍ ... وفي كلب وتُضحكك الشمولُ
فلو كنت الأسير ولا تكنه ... إذاً علمتْ معدٌّ ما أقولُ
فإن أهلك فقد أبليت قومي ... بلاءً كله حسنٌ جميلُ
وقال لقيط بن معبد الأيادي:
يا قومُ إن لكم من إرث والدكم ... مجداً قد أشفقت أن يودي وينقطعا
ما لي أراكم نياماً في بُلهنيةٍ ... وقد ترون شهابَ الحرب قد لمعا
ألا تخافون قوماً لا أبا لكم ... أمسوا لديكم كأرسال الدّبا شرعا
لا تجمعوا المال للأعداء إنهم ... إن يظهروا يحتووكم والتّلاد معا
ماذا يردُّ عليكم عزُّ أولكم ... إن ضاعَ آخره أوْ ذلَّ فاتضعا
قال أبو طالب:
خذوا حظّكم من سلمنا إن حربنا ... إذا ضرَّستنا الحرب نارٌ تسعَّرُ
وإنّا وإياكم علَى كل حالةٍ ... كمثلان بل أنتم إلى الصلح أفقرُ
وله أيضاً:
كذبتم وبيت الله يُقتل أحمدُ ... ولما نناضل دونه ونُقاتِلُ
ونُسلمه حتَّى نُصرّعَ حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائلُ
قال النابغة الجعدي:
فأبلغ عِقالاً إنَّ غاية داحسٍ ... بكفيك فاستأخر بها أو تقدَّمِ
تجيرُ علينا وائل بدمائنا ... كأنك ممَّا نال أشياعنا عمي

فإن كليباً كان أكثر ناظراً ... وأيسر جرماً منك ضُرّج بالدّمِ
رمى ضرع نابٍ فاستمر بطعنةٍ ... كحاشية البُرد اليماني المُسهمِ
وقال زُفر بن الحارث:
أفي الحكم إمّا بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأمَّا ابنُ الزبير فيُقتلُ
كذبتم وبيت الله لا تقتلونه ... ولما يكنْ يومٌ أغرُّ مُحَجَّلُ
ولمّا يكن للمشرفيّة فوقكم ... شعاع كقرن الشَّمس حين ترحّلُ
وقال الأشتر:
بقّيتُ وفري وانحرفت عن العلى ... ولقيت أضيافي بوجه عبوسِ
إن لم أشنّ علَى ابن حربٍ غارةً ... لم تخلُ يوماً من نهاب نفوسِ
خيلاً دِراكاً كالسعالى شزّباً ... تعدو ببيض في الكريهة شوسِ
حَمِيَ الحديد عليهمُ فكأنهم ... لمعانُ برقٍ أوْ بريق شموسِ
وقال الفضل بن العباس:
مهلاً بني عمّنا عن نحت أثلتنا ... مهلاً بني عمّنا مهلاً موالينا
الله يعلم أنّا لا نُحبُّكمُ ... ولا نلومكمُ ألاّ تحبّونا
وقال آخر:
لا تنصروا اللات إن الله مُهلكها ... وكيف ينصركم من ليس ينتصر
إن الرسول مَتَى يَحْلُلْ بساحتكم ... يظعن وليس بها من أهلها بشر
قال يزيد بن الحكم ليزيد بن المهلب:
أبا خالدٍ قد هجت حرباً مريرةً ... وقد شمّرت حربٌ عوان فشمّر
فإن بني مروان قد زال ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فأشعر
فقال: ما شعرت. فقال:
فعش ملكاً أوْ مت كريماً وإن تمتْ ... وسيفك مشهورٌ بكفِّك تُعْذَرِ
قال الأخطل:
بني أميَّةَ إنِّي ناصح لكمُ ... فلا يبيتنَّ فيكم آمناً زُفَرُ
مفترشاً كافتراش الكلب كلكله ... لشدة كائن فيها له جزرُ
قال عطيَّة الكلبي:
يا ثابتَ بن نعيم هل بكم ثور ... أم بعد عامك هذا تُطلبُ الإحنُ
كم من أخٍ لك أوْ مولى فجعتُ به ... من الوقيعةِ لم يُنشر له كفنُ
ومن يمانية بيضاء موجعةٍ ... ما إن يسوغ لها ماءٌ ولا لبنُ
أنائم أنت أم مغضٍ علَى مضضٍ ... كلا وأنت علَى الأحساب تُؤتمَنُ
قال مُحرز بن المكعبر:
أبلغ عديّاً حيث صارت بها النَّوى ... فليس لدهر الطالبين فناءُ
كسالى إذا لاقيتهم غير مَنْطِقٍ ... يُلهَّى به المحروب وهو عناءُ
وإنِّي لأرجوكم علَى بطء سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاءُ
أخبِّرُ من لاقيتُ إن قد وفيتمُ ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلاّ سعيتم سعي أسرة مازنٍ ... وهل كفلائي في الحروب سواءُ
لهمْ أذرُع بادٍ نواشر لحمها ... وبعض الرِّجال في الحروب غُثاءُ
كأنَّ دنانيراً علَى قسماتِهم ... وإن كان قد شفَّ الوجوه لقاءُ
قال أوس بن بكر:
عصانيَ قومي والرّشاد الَّذي به ... أمرتُ ومن يعصِ المحرّب يندم
فصبراً بني بكر علَى الموت إنَّني ... أَرَى عارضاً ينهلُّ بالموت والدّم
ولا تجزعوا ممَّا جنته أكفكم ... ولا تندموا ماذا يحين التندّم
أقيموا صدور الخيل للموت ساعةً ... وموتوا كراماً لا تبوؤا بمأثم
قال إسماعيل بن عبد الله أبو مريم يحذر بني أمية من بني العباس:
أَرَى خلل الرّماد وميض جمرٍ ... أحاذر أن يكون له ضَرامُ
فإن النّار بالعودين تذكى ... وإن الحرب أولها الكلامُ
فإن لم تطفئوها تجنِ حرباً ... مُشمّرة يشيب لها الغلامُ
نأيتم عن بلادٍ عزَّ فيها ... لئام النَّاس واهتضم الكرامُ
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أميَّة أم نيام
قال سديف يُحرّض المنصور:
اقصهم أيُّها الخليفة واقطع ... عنك بالسيف شأفة الأرجاسِ
خوفُها أظهر المودة منهم ... وبها منكم كحد المواسي
فلقد ساءني وساء سوائي ... قربهم من نمارقٍ وكراسي
قال أبو عاصم الأسلمي يحرّض بني العباس علَى بني أميّة:
إيّاكم أن يقول النَّاس قد قدروا ... عليهمُ ثمَّ ما ضرّوا ولا نفعوا
إياكم أن تلينوا عند ذُلِّهمُ ... فذلك الذل فيه الصّابُ والسلعُ
كانوا عُداةً فلما شبَّ جمعهم ... منّوا إليك بالأرحام الَّتي قطعوا

أليس في مائتي عام لكم عبرٌ ... يسقونكم جُرعاً من بعدها جُرَعُ
هيهات لا بدّ أن يوفوا بصاعِهمُ ... صاعاً وأن يحصدوا غير الَّذي زرعوا
وقال آخر:
لا تقبلوا عقلاً وأمّوا بغارةٍ ... إلى عبد شمسٍ بين دَوْمَة فالهضَبِ
وهزّوا صدور المشرفيّ كأنّما ... يقَعْنَ بهام القوم في حنظلٍ رطبِ
قال طريح بن إسماعيل:
لا تأمننَّ امرءاً أسلمت مهجته ... غيظاً وإنْ قلتَ أن الجرحَ يندملُ
واقبلْ جميل الَّذي يبدي وجازيه ... وليحرسنَّك من أفعاله الوجلُ
وقال آخر:
لا أصلح الله حالي إن أمرتكُمُ ... بالصلح حتَّى تُصيبوا آل شدّادِ
قوم أصابوكُم في غير مظلمةٍ ... إلاَّ لقيلٍ وقال الظّالم العادي
أوْ تجعلوا مضر الحمراء دونهُم ... أوْ تخرجوهم من أحداد وأحدادِ
حتَّى يُقالَ لوادٍ كان مسكنُهمْ ... قد كنت تُسْكَنُ حيناً أيها الوادي
وقال آخر:
ظلمتم فاصبروا للظُّلم إنّا ... سنصبر إنَّها الحسبُ الكريمُ
وشرُّ الجازعين إذا أصيبتْ ... قوادمُ ريشه الجزعُ الظلومُ
وكنّا قاعدين أقمتمونا ... علَى حقدٍ فقد قُمنا فقوموا
قال آخر:
أتظن يا إدريسُ أنك مفلتٌ ... كيدَ ابن أغلب أوْ يَقيكَ فرارُ
فليدركنَّك أوْ تحلّ ببلدةٍ ... لا يهتدي فيها إليك نهارُ
إن السيوف إذا انتضاها سُخطهُ ... طالت وتقصرُ دونها الأعمارُ
ملك كأن الموت يتبع قوله ... حتَّى يقالَ تطيعه الأقدارُ
قال آخر:
وأقدِمْ علَى الأمر الَّذي إن تُلاقِهِ ... يرحْكَ بموت أو يُدانيك من ظفرْ
فما قدّم الأقدام موتاً مؤخراً ... ولا يدفع التأخير ما قدّم الحذرْ
قال رويشد الطائي:
يا أيُّها الرَّاكب المُزجي مطيَّتَهُ ... سائل بني أسدٍ ما هذه الصوتُ
وقلْ لهمْ بادروا بالعذر والتمسوا ... أمراً ينجيكُمُ إنِّي أنا الموتُ
إنْ تُذنبوا ثمَّ لا يعتب سَراتِكمُ ... فما عليَّ بذنبٍ منكمُ فوتُ
قال البحتري:
نهيتك عن تعرّضٍ عرض حرٍّ ... فإن الذّم من شأنِ الذّميمِ
وقلت توَقَّ محتملاً بودي ... علَى الأضعانِ بالحلم الكريمِ
فما خرق السفيه وإن تعدّى ... بأبلغ فيك من رفق الحليمِ
مَتَى أخرجت ذا كرمٍ تخطّى ... إليك ببعض أخلاق اللئيمِ
وممَّا يدخل في باب التهاون بالتوعيد والاحتقار بالإنذار والتهدد ما بلغنا أن عبد الله بن العباس كان يتمثل إذا رأى عبد الله بن الزبير به:
أطلْ حمل الشناءة لي وبغضي ... بجهدك وانظرَنْ من ذا تضيرُ
فما بيديك خيرٌ أرتجيه ... وغيرُ صدودك الخطبُ الكبيرُ
إذا أبصرتني أعرضتَ عنّي ... كأنَّ الشَّمس من قلبي تدورُ
قال الأعشى في نحو ذلك:
يزيد بغض الطرف دوني كأنَّما ... زوى بين عينيه عليَّ المحاجمُ
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ... ولا تلقني إلاَّ وأنفك راغمُ
قال آخر:
وإذا قلتُ ويك للكلب وأخسأ ... لحظتني عيناك لحظة تُهمَه
أترى أنَّني حسبتك كلباً ... أنت عندي من أبعد النَّاس همه
وفي نحوه يقول جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ... أبشر بطول سلامة يا مِربعُ
وفي مثله:
أوْ كلّما طنَّ الذبابُ زجرتُهُ ... إن الذباب إذاً علَى كريمُ
وفي مثله:
نبئتُ كلباً هاب شتمي له ... يَنْبَحُني من موضع نائي
لو كنتَ من شيء هجوناك أوْ ... نثبت للسامع والرائي
فعَدِّ عن شتمي فإنِّي امرؤٌ ... حلَّمني قِلَّةُ أكفائي
قال آخر:
عادات طيٍ في بني أسدٍ ... ريِّ القنا وخضاب كل حسام
لا تكثرن جزعاً فإنِّي واثق ... برماحنا وعواقب الأيَّام
فلو لم نعرف قبيلة هذا القائل، ومقصده من غير شعره لم ندرِ أطيئ المهجوّون أم هم الممدحون، وكذلك الحال في بني أسد.
قال آخر:
وما لي ذنب عند قيس علمتهُ ... سوى أنَّني من رهط بكر بن وائل
من الوائليين الذين سيوفُهمْ ... مجرَّدةُ في كل حق وباطل
قال آخر:

رويدَ بني شيبانِ بعضَ وعيدكم ... تُلاقوا غداً خيلي علَى سَفَوانِ
تُلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا المتداني
تلاقوا جياداً تعرفوا كيف صبركم ... علَى ما جنت فيكم يدُ الحدثانِ
مقاديم وصَّالون في الرّوع خطوهُم ... بكل رقيق الشَّفرتين يمانِ
إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهُمُ ... لأيَّةِ حربِ أم بأي مكانِ
قال أبو علي البصير:
لعمرُ أبيكَ ما نُسبَ المُعَلَّى ... إلى كرمٍ وفي الدُّنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرَّتْ ... وصوَّحَ نبتُها رُعي الهشيمُ
وفي نحو ذلك:
خلت الديارُ فسدتُ غير مُسوّدِ ... ومن الشقاءِ تفردي بالسؤدد
قال الأخطل لشقيق بن ثور:
وما جذْعُ سوءٍ خرَّق السوس جوفه ... لما حمَّلتهُ وائلٌ بمُطيقِ
فقال شقيق: يا أبا مالك ما تُحسنْ أن تهجو، ولا تمدح. أردت أن تهجوني فمدحتني، وزدتني ما لم أطمع فيه من بني تغلب خاصة فجعلت وائل كلها.
قال مفروق بن عمرو الشيباني:
ولرُبَّ أبطال لقيت بمثلهم ... فسقيتُهم كأسَ الرَّدى وسُقيتُ
فلأطلبنَّ المجد غيرَ مُقصِّرٍ ... إن متُّ متُّ وإن حييتُ حييتُ
قال زُفر بن الحارث:
وكنّا حسبنا كلّ سوداء تمرةً ... لياليَ لاقينا جُذامَ وحمْيرا
فلما قرعنا النّبع بالنّبع بعضه ... ببعضٍ أبت عيدانهُ أن تكسَّرا
سقيناهمُ كأساً سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا علَى الموت أصبرا
قال عبد الوهاب بن الصّباح:
أراك في العُسر تجزيني وفي العَدمِ ... وفي الحديث من الأيَّام والقدمِ
وقست حالك في الفقر القديم بما ... أصبحت في ظلمه من واسع النعمِ
فما رأيتك في حال تكون بها ... أدنى إلى كل خير منك في العدمِ
فلا عدمت وإن لم تهوَ منزلةً ... تدنيكَ حالتها من صالح الشيمِ
وبلغنا أن الزبرقان بن بدر استعدى عمر بن الخطاب على الحطيئة فقال: إنَّه قد هجاني. قال: وما قال لك؟ قال:
دعْ المكارمَ لا ترحلْ لبغيتها ... واقعدْ فإنَّك أنت الطاعم الكاسي
فقال عمر: أما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً؟ قال: لا والله لولا الإسلام لأنكرتني. قال: ما أعلمه هجاك، ولكن أدعو ابن القُريعة. فلما جاءه حسّان. قال له عمر: أهجاه؟ قال: لا. ولكنه سلح عليه.. فقال عمر للحطيئة: لأحبسنَّك أوْ لتكفنَّ عن إعراض المسلمين. قال أمير المؤمنين: لكل مقامٍ مقال. قال: وإنك لتهددني فحبسه. فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخٍ ... زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعر مُظلمةٍ ... فارحم عليك سلامُ الله يا عمرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينهم ... من عرض داويّة يعمى لها الخبرُ
فلما قرأها عمر رقَّ له، فخلَّى سبيله. وبيت الحطيئة وإن كان غيره أشدَّ إفصاحاً بالهجاء منه فإن معه ما يوضّح عن مراد صاحبه ويزيل توهم المدح فيه وهو:
ما كان ذنب بغيضٍ أن رأى رجلاً ... ذا حاجةٍ عاش في مستوعر شاسِ
ملّوا قراه وهزَّته كلابهُم ... وجرَّحوه بأنيابٍ وأضراسِ
لما بدا لي منكم خبثُ أنفسكم ... ولم يكن لجراحي فيكم آسي
أزمعتُ يأساً مبيناً من نوالكمُ ... ولن ترى طارداً للحرِّ كالياسِ
وروي أن عمر بن الخطاب رحمه الله، أنَّه لما سمع قول النجاشي في بني العجلان:
إذا الله عادى أهل لؤمٍ ودقَّةٍ ... فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل
قُبيَّلَةٌ لا يغدرون بذمةٍ ... ولا يظلمون النَّاس حبةَ خردل
قال: يسرني أن ابن الخطاب كذلك، فلما سمع:
ولا يردون الماء إلاَّ عشيَّةً ... إذا صدر الوراد عن كل منهل
قال: ما أحبّ كل هذه الذلة.
ومع هذين البيتين ما يوضح أنَّها هجاء صحيح غير مشبه لشيء من المديح مع البيت الأول وهو قوله:
أولئك أخوال اليتيم وأسرةُ ... الهجين ورهط الخائن المتبدلِ
تعافُ الكلابُ الضاريات لُحومَهُمْ ... ويأكُلْنَ من كلب وعوف ونهشلِ
وما سمّي العجلان إلاَّ لقولِهمْ ... خُذْ القعب واحلُبْ أيها العبدُ واعجلِ
قال رجل من بني العنبر:

لو كنتُ من مازنٍ لم تستبِح إبلي ... بنو اللقيطة من ذُهل بن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشنٌ ... عند الحفيظة أنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيه لهمْ ... لم يرهبوه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهُم حين يندبُهمْ ... في النائبات علَى ما قال بُرهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ... ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربَّكَ لم يخلق لخشيته ... سواهمُ من جميع الناسِ إنسانا
قال آخر:
عند الملوك مصائر ومنافعُ ... وأَرَى البرامك لا تضرُّ وتنفع
وإذْ نكرتَ من امرئ أعرافَهُ ... وطباعهُ فانظر إلى ما يصنع
قال المُثلَّم بن رياح بن ظالم:
تصيحُ الرُّدينيات فينا وفيكمُ ... صياحَ بنات الماء أصبحْنَ جُوَّعا
خلطنا البيوت بالبيوت فأصبحوا ... بني عمّنا من يرمهم يرمنا معا
قال آخر:
بكُرهِ سراتنا يا آلَ عمرٍو ... نعاديكُمْ بمرهفةِ النصالِ
لها لونٌ من الهامات كابٍ ... وإن كانتْ تُحادثُ بالصّقالِ
نُعدِّيهنَّ يوم الرَّوع عنكمْ ... وإن كانتْ مُثلَّمةَ النِّصالِ
ونبكي حين نذكركم عليكم ... ونقتلكُمْ كأنّا لا نبالي
قال القتّال الكلابي:
نشدتُ زياداً والمقامة بيننا ... وذكرتهُ أرحام سعد وهيثمِ
فلما رأيتُ أنَّه غير مُنتهٍ ... أملت له كفّي بلدنٍ مقوَّمِ
فلما رأيت أنَّني قد قتلته ... ندمتُ عليه أيَّ ساعة مندمِ
قال قيس بن زهير:
شفيتُ النَّفس من حمل بن بدرٍ ... وسيفي من حُذيفةَ قد شفاني
فإنْ أكُ قد بردتُ بهم غليلي ... فلم أقطع بهم إلاَّ بناني
قال الشميذر الحارثي:
بني عمّنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغُمير القوافيا
فليس كمن كنتم تُصيبون سلمة ... فيقبلَ ضيمٌ أوْ يحكّم قاضيا
ولكنّ حكم السَّيف فيكم مُسلَّطٌ ... فيرضى إذا ما أصبح السَّيف راضيا
وقد ساءني ما جرَّت الحربُ بيننا ... بني عمّنا لو كان أمراً مُدانيا
فإن قُلتم أنّا ظلمنا فلم نكُنْ ... ظلمنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
قال البحتري:
أسأتُ لأخوالي ربيعة إذْ عفَتْ ... مصانعها منها وأقوتْ ربوعُها
بكُرهيَ إن كانت خلاءً ديارها ... ووحشاً مغانيها وشتى جميعها
إذا اقترفوا عن وقعة جَمَعتهمُ ... لأخرى دماءً ما يُطلُّ نجيعُها
تذمُّ الفتاةُ الرود شيمة زوجها ... إذا بات دون الثأر وهو ضجيعها
حميَّةَ شغب جاهليّ وعزَّةٍ ... كليبيّة أعيا الرِّجال خُضوعُها
وفرسان هيجاء تجيش صدورها ... بأحقادها حتَّى تضيق ذروعها
نُقتّل من وترٍ أعزَّ نفوسها ... عليها بأيدي ما تكاد تُطيعُها
إذا احتربت يوماً تعاصت دماؤها ... تذكّرت القربى ففاضتْ دموعُها
شواجرُ أرماحٍ تُقطَّعُ بينهم ... شواجر أرواحٍ كلومٍ قطوعُها
قال أيضاً:
فضلُ الخلائف بالخلافة واقفٌ ... في الرُّتبة العليا وفضلك أفضلُ
أوفيت عاشرهم فإن نُدبوا إلى ... كرم وإحسان فأنت الأولُ
فهذا إن شاء إنسانٌ يصير به إلى نهاية المدح، وشاء آخر أن يصرفه إلى غاية الذم، وجد كلُّ امرئ منهم مقالا. أي مديح أبلغ من أن يكون ماضي من الخلفاء دون الممدوح بهذا القول. وأي ذم أوكد حجةً على المرء من تشريفه على آبائه وأجداده والأخبار بأنه نجم من بينهم، مخالف في السؤدد لجماعتهم. وهذا النوع من الحلم غير مشاكل لما قدمناه في الباب المتقدم، لأن ذلك الحلم إنَّما وقع من فاعله رغبة منه في المكارم. وهذا الحلم إنَّما وقع احتقاراً للمخاصم، وكلاهما جميل من فاعله إذا كان ذلك يدل على كرم الطبع، وهذا يدل على جلالة القدر.

الباب الثامن والسبعون
ذكر
ما جاء في صفات البحر والفلوات
قال:
ألا هل للهموم من انفراجِ ... وهل لي من ركوبِ البحر ناجِ
أكُلَّ عشية زوراء تهوي ... بنا في مُظلم الغمرات ساجي

كأنَّ قواذفَ التيار منها ... نعاجٌ ترتمين إلى نعاجِ
يشُقُّ الماء كلكلها مُلِحّاً ... علَى سحِّ من الملح الأجاجِ
قال أعرابيّ أغراه الأسود بن بلال في البحر:
أقول وقد راح السفين مُلجَّماً ... وقد بعدت بعد التقرّبِ صورُ
وقد عصفت للموج ريح اضطرابه ... وللبحر من تحت السفين هديرُ
ألا ليت أنِّي والعطاء صعالك ... وحظي حظوظ في الزمام وكورُ
فلله رأيٌ قادني لسفينةٍ ... وأخضر موّار السراب يمورُ
ترى متنه سهلاً إذا الريح أقلعت ... وإن عصفَتْ فالسهل منه وعورُ
فيابن بلالٍ للضلال دعوتني ... وما كان مثلي في الضلال يسيرُ
لئن وقعت رجلاي في الأرض مرة ... وكان لأصحاب السفين كرورُ
وسُلّمت من موج كأن متونه ... حراءٌ بدت أركانه وثبيرُ
ليعرض اسمي عند ذي العرض خلفة ... وذلك إن حاض الإياب يسيرُ
وقال أبو الشيص:
وبحر يحار الطرف فيه قطعتهُ ... بمهنوءةٍ في غير عرّ ولا حربْ
مُقيلةٍ لا تشتكي الأين والوجا ... ولا تشتكي عضَّ النُسوع ولا الدأبْ
يشقُّ حبابَ الماء سُرعةُ جريها ... إذا ما تفرّى عن مناكبها الحبَبْ
إذا اعتلجت والريح في بطن لجةٍ ... رأيت عجاج الموت من خوفها يثبْ
ترامى بها الخُلجانُ من كل جانبٍ ... إلى متن مُغبرِّ المسافة منجذب
قال أحمد بن أبي طاهر:
إلى أبي أحمد أعملتُ راحلتي ... لا تشتكي الأين من حلٍّ ولا رحلِ
تسري بمُلتطم الأمواج تحسبُه ... من هوله جبلاً يعلو علَى جبلِ
كأن راكبها إذْ جدَّ مُرْتحلاً ... بالسير منها مقيمٌ غيرُ مرتحلِ
لجامُها في يد النوتيِّ من دُبُرٍ ... مُقوّم زَيْغُها والميلُ من قُبلِ
ما زال سائقها يجري علَى مهلٍ ... جرياً يفوتُ اجتهادَ الخيل والإبلِ
حتَّى تناهت إلى حيثُ انتهى شرف ... الدُّنيا وأشرف باغيها علَى الأمل
وله أيضاً:
مخضرمة الجنبين صادقة السُّرى ... يُراقب فيها الركب من لا يراقبُهْ
تكادُ نفوسُ القوم تجري بجريها ... إذا غالبت من موجها ما تغالبُه
نصفُّ حُبابَ الماءِ عن جنباتها ... إذا البحر جاشت بالسفين غواربه
قال أبو بكر: هذه بُلغة فيما جاء في الشعر من صفات المراكب والبحار، ولم نمل في ذلك إلى الإطالة لئلا يضيق الباب عما يحتاج إليه وإلى ذكره من صفات المفاوز، لأن شعر العرب بصفات البوادي والقفار أحذق منهم بوصف البحار والسفائن. إذْ بالفلوات يولدون، وفي طرقها يسلكون ثمَّ نحن الآن مبتدئون بإتمام الباب بما يُحضر من صفات البوادي والفلوات يتهيأ ذلك إذا لم نتجاوز العدد الَّذي شرطناه إلاَّ قليلاً من كثير، ومن كان مقصده في هذا الباب التذكرة قنع بالسير.
قال المتلمس الضبعي:
كم دونَ ميَّة من داويّة قَذفٍ ... ومن فلاة بها تُستودعُ العيسُ
ومن ذُرى علمٍ ناءٍ مسافتهُ ... كأنهُ في حَبابِ الماء مَغْموسُ
جاوزتهُ بأمونٍ ذات مَعْجمةٍ ... تنجو بكلكلها والرأسُ معكوسُ
وقال امرؤ القيس:
وداويّة لا يُهتدى لفلاتها ... بعرفان أعلام ولا ضوء كوكبِ
تلافيتها والبومُ يدعو بها الصدى ... وقد أُلبستْ إفراطها ثنيَ غيهبِ
بمجفرةٍ جسرٍ كأن قتودَها ... علَى أبلقِ الكشحين ليس بمغربِ
وله أيضاً:
فدعها وسلِّ الهمَّ عنك بجسرةٍ ... ذمولٍ إذا صام النَّهارُ وهجّرا
تُقطَّعُ غيطاناً كأن متونها ... إذا أظهرت تُكسى مُلاءً منشرا
قال الأعشى:
رُبَّ خرق من دونها يُخرسُ السَّف ... رُ وميلٍ يُفضي إلى أميالِ
وسقاءٍ يوَلي علَى تأقِ المل ... ءِ وسيرٍ ومُستقى أوشالِ
وادّلاجٍ بعد المنام وتهجي ... رٍ وقُفٍّ وسبسب ورمالِ
وقليب آجنٍ كأنَّ من الري ... شِ بأرجائهِ سقوط نِصالِ
قد تعاللتُها علَى نَكظِ المي ... طِ وقد خَبَّ لامعات الآلِ
فوق ديمومةٍ تميّلُ بالسف ... ر قفار إلاَّ من الآجالِ
وإذا ما الضلال خيف وكان ال ... ورَدُ خِمساً يرجونه عن ليالِ

واستحثَّ المغيرون من القو ... مِ وكان النطافُ ما في العزالي
مرحَتْ حرَّةٌ كقنطرة الرُّوم ... يِّ تَفْري الهجيرَ بالإرقالِ
تقطع الأمعز المكوكبَ وخداً ... بنواجٍ سريعة الإيغالِ
وله أيضاً:
وجَزور أيْسارٍ دعوتُ إلى النَّدَى ... ونياط مُقْفرةٍ أخافُ ضِلالَها
يهماء مقفرةٍ رفعتُ لعرضها ... طرفي لأقدرَ بينها أميالها
بجُلالةٍ سُرُحٍ كأن بغَرْزِها ... هِرّاً إذا انتعلَ المطيُّ ظِلالَها
وله أيضاً:
ويهماءَ قَفْرٍ تخرجُ العينُ وسطها ... وتلقى بها بيضَ النَّعام ترائكا
يقولُ بها ذو قوَّة القوم إذْ دنا ... لصاحبه إذْ خاف منها المهالكا
لك الويلُ أفش الطرف بالعين حولنا ... علَى حذرٍ واستبقِ ما في سقائكا
وخرق مخوفٍ قد قطعتُ بجسرةٍ ... إذا الجبس أعيي أن يرومَ المسالكا
قال المرار الفقعسي:
إذا نظر القوم ما ميلُها ... رأى القومُ دويَّةً كالسَّماءِ
كأن قلوب أدلائها ... معلَّقة بقرون الظِّباءِ
يظلّ الشجاع الشديد الجنان ... محافظةً معصماً بالدُّعاءِ
إذا هو أنكر أسماءها ... وغنّى وحقّ له بالغناءِ
وخلَّى الركابَ وأهوالها ... وأسلمهن بتيهٍ مواءِ
له نظرتان فمرفوعة ... وأخرى تلاحظ ما في السقاءِ
وثالثة بعد طول الصُّ ... مات إليَّ وفي صوته كالبكاءِ
فقلتُ التزم عند ظهر القعود ... جزى الله مثلك شرُّ الجزاءِ
قال الرّاعي:
وكم جشمنا إليكم من مُؤدِّيةٍ ... كأنَّ أعلامها في آلها القَزَعُ
حمّاء غبراء يخشى المدلجون بها ... زيغ الهُداة بأرض أهلها شِيَعُ
فإن تجودوا فقد حاولت جودكم ... وإنْ تضنوا فلا لوم ولا قذعُ
قال ذو الرُّمَّة:
كم دون ميَّة من خرقٍ ومن عَلَمٍ ... كأنه لامع عريانُ مسلوبُ
ومن مُلمعة غبراء مظلمةٍ ... سرابُها بالشِّعاف الغُبْر معصوبُ
كأنَّ حرباءها في كلّ هاجرةٍ ... ذو شيبةٍ من رجال الهند مصلوبُ
قال ابن هرمة:
وهاجرة تنجي عن الصب جاره ... قطعتُ حشاها بالمغربدة الصهبِ
إليك ومسودُّ من اللَّيل دامسٌ ... إذا انتزع النوم العميِّ من الركبِ
وممَّا يشاكل هذا في وصف غلبة النوم على السفار قول أبي نواس:
قوم تساقوا علَى الأكوار بينهم ... كأسَ الكرى فانتشى المشفيّ والساقي
كأنَّ هامهمُ والنَّوم واضعها ... علَى المناكب لم يعقد بأعناقِ
قال عمر بن أبي ربيعة:
وماءٍ بموماة دليل أنيسه ... بسابس لم يحدث بها الصيف محضرُ
به مبتنى للعنكبوت كأنَّه ... علَى شرف الأرحام خامٌ مُنشّرُ
وردت وما أدري وما بعد موردي ... من اللَّيل أوْ ما قد مضى منه أكثرُ
وطافت به مُقلاةُ أرضٍ كأنها ... إذا التفتت مجنونة حين تنظرُ
تنازعُني حرصاً علَى الماء رأسها ... ومن دون ما تهوى قليبٌ مُعوّرُ
محاولة للورد لولا زمامُها ... وجذبي لها كادت مراراً تكسَّرُ
فلما رأيت الصبر منها وأنَّني ... ببلدة أرض ليس فيها مُقصَّرُ
قصرتُ لها من جانب الحوض مستقى ... صغيراً كقيد الشبر بل هو أصغر
ولا دلو إلاَّ القعب كان رشاؤه ... إلى الماء نسعٌ والجديل المضفرُ
فسافت دماً عافت وما صدّ شربُها ... عن الريّ مطروق من الماء أكدرُ
قال:
نأتْ دار ليلَى فشط المزا ... رُ فعيناك لا تطعمان الكرى
وأضحت ببغداد في منزلٍ ... له شُرفاتٌ دوين السّما
ومن دونها بلدٌ نازحٌ ... يجيب بها البوم رجع الصدى
ومن منهل آجن ماؤه ... شدى لا يُعاج به قد طمى
وكم دون بيتك من صفصف ... ومن أسد خادر في وغى
ومن حنشِ لا يجيب الرُّقا ... ة أرقشَ ذي حِمَّةٍ كالرّشا

الباب التاسع والسبعون
ذكر
ما يختار من القول في صفات الإبل والخيل
أنشدني عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري لزهير بن أبي سلمى:
كأنَّ الرَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ ... من الظِّلمانِ جُؤجؤه هواءُ

أصكّ مُصلَّم الأذنينِ أجنًى ... له بالسِّيِّ تنوم وآءُ
أذلكَ أم أقبُّ البطن جأبٌ ... عليه من عقيقته عِفاءُ
وقال القطامي:
يمشين رهواً فلا الإعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور علَى الإعجاز تتكلُ
فهُنَّ معتدلات والحصى رمضٌ ... والريح ساكنةٌ والظل معتدلُ
يتبعن سامية العينين يحسبُها ... مجنونة وترى ما لا ترى الإبلُ
وقال كعب بن زهير:
حرف أخوها أبوها من مُهجَّنةٍ ... وعمُّها خالُها قَوْداء شِمْليلُ
تحفي التراب بأظلاف ثمانيةٍ ... بأربع وقعها في الأرض تحليلُ
ولخلف الأحمر يصف الفرس:
رحبُ الفروج كأن قنطرةً ... حيث التقى في الصُّلب أضلعُهُ
مستقبل وجه الشمال لها ... زجلٌ علَى روقيه تقرعُهُ
وكأنما جهِدت أليَّتُهُ ... ألا تمسَّ الأرض أربعُهُ
وهذا مأخوذ من قول الأعشى:
ما زلت أرمُقهمْ وآملُهمْ ... حتَّى أجدّوا السير فامتنعوا
بجلالةٍ أُجدٍ مُداخلةٍ ... ما إن تكادُ خفافها تقعُ
وللحطيئة:
ترى بين لحييها إذا ما ترغَّمتْ ... لُعاباً كبيت العنكبوت المُمدَّدِ
وتشربُ في القعب الصَّغير وإن تُقد ... بمشفرها يوماً إلى اللَّيل تنقدِ
وإن نظرتْ يوماً بمؤخر عينها ... إلى عَلَم بالغور قالتْ لهُ ابعدِ
وللشماخ:
فَسَلِّ الهمَّ عنك بذات لوثٍ ... عذافرةٍ مُضبَّرةٍ أمون
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
فلعمري ما أنصفها ولا أحسن صحبتها إذ جعل مكافأتها على تبليغها إيَّاه لمنيته أن يفجعها بمهجتها. ولعمري لأحسن منه قول الحسن بن هانئ حيث يقول:
أقولُ لناقتي إذْ بلَّغتني ... لقد أصبحت عندي باليمينِ
فلم أجعلك للغربان نهباً ... ولم أقلْ اشرقي بدم الوتين
قال الراعي:
وذات هِبابٍ صموت السُّرى ... بأعطافها العرقُ الأصفرُ
وهي إذا قام في غرزها ... كمثل السَّفينة أوْ أوقرُ
قال ذو الرمة:
تُصغي إذا شدَّها بالرَّحل جانحةً ... حتَّى إذا ما استوى في غَرْزها تَبَبُ
يعلو الحُزون بها عمداً ليتبعَها ... شبهَ الضّرار فما يُزري بها التعبُ
لشامة بن الغدير:
كأنَّ يديها إذا أرقلتْ ... وقد جُرْنَ ثمَّ اهتدينَ السَّبيلا
يدا سابحٍ خرَّ في غمرةٍ ... قد أدركه الموت إلاَّ قليلا
ولآخر:
إذا بركتْ خوَّتْ علَى ثَفَناتها ... مجافيةً صُلباً كقنطرةِ الجسرِ
كأنَّ يديها حين تجري صُفُورها ... طريدان والرجلان طالبتا وترِ
تجوبُ بها الظّلماء عَين كأنَّها ... زجاجةُ شرْبٍ غيرُ ملأى ولا صفرِ
تناسى طلاب السَّامريَّة إذْ نأتْ ... بأسحج مرقال الضحى قلق الضفْرِ
ومن جيد ما قيل في جياد الخيل قول أبي دؤاد:
وقد أغتدي في بياض الصَّبا ... ح وإعجاز ليلٍ موليِّ الذَّنَبْ
بطرف ينازعني مرسناً ... سلوف المقادة مَحض النَّسبْ
إذا قيد قحّم من قاده ... وولَّى علابيُّهُ واجلعبْ
كظهر الردينيّ بين الأكف جر ... ى في الأنابيب ثم اضطربْ
ومن المختار قول امرئ القيس:
مكرٍّ مفرٍّ مقبلٍ مُدبرٍ معاً ... كجلمود صخرٍ حطَّه السيلُ من علِ
كُميت يزلُّ اللِّبدُ عن حال متنه ... كما زلَّت الصَّفواء بالمتنزّلِ
علَى الذّيل جياش كأنَّ اهتزامَهُ ... إذا جاشَ فيه حميمُهُ غَليُ مِرجلِ
مِسَحٍّ إذا ما السابحات علَى الونى ... أثرْنَ الغبارَ بالكديد المُركلِ
يزل الغلام الخف عن صهواته ... ويلوي بأثواب العنيف المثقلِ
دَريرٍ كخذروف الوليد أمرّهُ ... تتابع كفَّيه بخيط مُوَصّلِ
له أيطلا ظبي وساقا نعامةٍ ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفلِ
ضليع إذا استدبرته سدّ فرجةً ... بضاف فويق الأرض ليس بأعزلِ
كأنَّ سراته لدى البيتِ قائماً ... مداك عروس أوْ صراية حنظلِ
كأنَّ دماء الهاديات بنحرِهِ ... عصارة حِنَّاءٍ بشيبٍ مرجَّلِ
قال أُبي بن أبي سلمى بن ربيعة بن ريَّان:

سبوحٌ إذا اعترمت في العنا ... ن مَروحٌ ململة كالحَجَرْ
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنَّه لم يطرْ
قال الرقاد بن المنذر الضبِّيّ:
إذا المُهرة الشَّقراء أركبُ ظهرُها ... فشبَّ الإله الحربَ بين القبائلِ
وأوقد ناراً بينهم بضرامها ... لها وَهَجٌ للمصطلي غيرُ طائلِ
فدًى لفتًى ألقى إليَّ برأسها ... تلادي وأهلي من طريف وجامِلِ
قال أبو البيداء الأعرابي أوْ خلف أوْ ابن جهم المازني:
ألم ترني أغتدي في الصَّبا ... ح بأجردَ كالسِّيد عبلِ الشّوى
كأنَّ بمنكبه إذْ جَرَى ... جناحاً يقلِّبُهُ في الهَوَى
طويل الذّراعين أطمى الكعو ... ب ناتي الحماتين عاري النسا
له كَفَلٌ أيّد مشرفٌ ... وأعمدةٌ لا تشكَّى الوجى
له تسعة طُلنَ من بعد أن ... قصُرْنَ له تسعة في الشّوى
يعني عنقه وخديه وبطنه وذراعيه وفخذيه وذنبه، هذه كلها يستحب طولها وممَّا يستحب قصره أربعة: أرساغه ووظيفا يديه وعسيبه وساقاه.
وسبع عَرينَ وسبع كُسين ... وخمسٌ رِواء وخمس ظِما
سبعة عرين: الخدَّان والجبهة والوجه والقوائم، وسبع كسين: الفخذان وحماتاه ووركاه وحصيرا جنبه.
وسبعٌ غِلاظ وسبع رقا ... ق وصهوةُ عَيْرٍ ومتنٌ خَظَا
وسبعٌ بعُدنَ وسبعٌ قرب ... ن منَّا فما فيه عيبٌ يُرى
دقيق الثَّمان عريض الثَّما ... ن شديد الصّفاق شديد المَطَا
الثمان الدقاق: عرقوباه وقلبه ومنكباه، وأذناه. والثمان العراض: الجبهة والمحزم والصدر والصهوة والفخذان والوظيفان.
وفيه من الطَّير خمس فمن ... رأى فرساً مثله يُقتنى
غرابان فوق قطاة له ... ونسرُ ويعسوبه قد بدا
جعلنا له من خيار اللّقا ... حِ خمساً مجاليج كوم الذرى
ويؤثر بالزَّاد دون العيا ... لِ فكلّ مسير به يقتفى
فقاظ صنيعاً فلمَّا شتا ... أخذناه بالقَوْد حتَّى انطوى
قال أُنيف بن جبلة الضبّي:
أما إذا استقبلته فكأنه ... في العين جذع من أُوالَ مُشذَّبُ
وإذا عرضت له استوت أقيادُهُ ... وكأنه مُسْتَدْبرٌ مُتصوِّبُ
ولعلي بن جبلة:
وأذعرُ الربرب عن أطفاله ... بأعوجيٍّ دُلفي المُنْتَهبْ
كأنه من مرحِ العدو به ... مُستنفرٌ لروعةٍ أوْ مُلْتهبْ
مطرَّدٌ يرتج من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريحٌ فاضطربْ
تحسبهُ أقعدَ في استقبالهِ ... حتَّى إذا استدبرته قلتُ أكبْ
وهو علَى إرهافه وطيِّه ... يقصر عنه المحزمان واللببْ
تقول فيه جنبٌ إذا انتحى ... وهو كمتن القدح ما فيه جَنَبْ
يخطو علَى عُوج تناهبن الثَّرى ... لم تتواكل عن شظى ولا عَصَبْ
تحسبها بائنة إذا خطتْ ... كأنَّما وظيفُهُ علَى نكبْ
يرتابهُ الصّيد فَرادينا به ... أوابدَ الوحشِ فأجدى واكتسبْ
ينحط في الحربِ يباري ظلّه ... ويعرق الأحقب في شوط الخببْ
إذا تبطَّنا به صَدَّفَه ... وإنْ بطنّى فوقه العين كذبْ
لا يبلغ الجهدَ به راكبه ... ويبلغ الرُّمحَ به حيث طلبْ
قال آخر:
في كلِّ منبت شَعرةٍ من جسمه ... خطٌّ ينمّقهُ الحسامُ المخذم
ما يدرك الأبصار أدنى جريه ... حتَّى يفوت الرُّمح وهو مُقدَّم
وكأنَّما عقد النُّجوم بطرفِهِ ... وكأنَّه بعُرَى المجرَّةِ مُلجم
وللبحتري:
وأغرَّني الزَّمنُ البهيمُ مُحجَّلٌ ... قد رحتُ منه علَى أغرَّ مُحجَّل
كالهيكل المبني إلاَّ أنَّه ... في الحسنِ جاء كصورةٍ في هيكلِ
تتوهمُ الجوزاء في أرساغِهِ ... والبدر غُرَّة وجهه المُتهلل
هزج الصَّهيل كأنَّ في نغماتِهِ ... نبرات معبد في الثَّقيل الأوَّل
ملأ العيون فإن بدا أعطيتَه ... نظر المحبِّ إلى الحبيبِ المقبلِ
وقال أيضاً:
وعريض أعلى المتن لو علّيتهُ ... بالزِّئبق المُنهال لم يترجرجِ
جذلان تحسده الجياد إذا مشى ... عَبَّا بأحسن حلَّةٍ لم تنسجِ
خفيت مواقع وطئه فلو أنَّه ... يجري برملةِ عالجٍ لم يُرهجِ
وله أيضاً:

أما الجواد فقد بلونا يومُهُ ... وكفى بيومٍ مخبراً عن عامه
جارى الجياد فطار عن أوهامه ... سبقاً وكادَ يطيرُ عن أوهامه
جذلان تلطمه جوانب غرَّةٍ ... جاءت مجيءَ البدر عند تمامه
واسودَّ ثمَّ صَفَت لعيني ناظرٍ ... جنباتُهُ وأضاءَ في إظلامه
يختال في استعراضه ويكبُّ في ... استدباره ويشبُّ في استقدامه
فكأنَّ فارسَهُ وراء قذاله ... ردف فلست تراه من قُدَّامه
لانتْ معاطفه فخيّل أنَّه ... للخيزران مناشب بعظامه
وكأنَّ صهلته إذا استغلى بها ... رعدٌ تقعقع في ازدحام غمامه

الباب الثمانون
ذكر
الوحوش الَّتي تصاد والجوارح الَّتي تصطاد
قال امرؤ القيس:
وقد أغتدي والطَّير في وكراتها ... لغيثٍ من الوسميِّ رائده خالِ
تحاماه أطراف الرِّماح تحامياً ... وجاد عليه كلَّ أسحم هطَّالِ
بعجلزةٍ قد أترز الغزو لحمَهَا ... كُميت كأنَّها هراوةُ منوالِ
ذعرتْ بها سرباً نقيّاً جلوده ... وأكرعه وشي البرود من الخالِ
فخرَّ لروقيه وأمضيتُ مقدماً ... طوال القرى والرّوق أخنسُ ذيالِ
وعاديت منه بين ثور ونعجةٍ ... وكانَ عداء الوحش منِّي علَى بالِ
كأنِّي بفتخاء الجناحين لِقْوَةً ... طلوب من العقبان طأطأت شملالِ
كأنَّ قلوب الطَّير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُنّاب والحشف البالي
وله أيضاً:
فعنَّ لنا سرب كأنَّ نعاجَهُ ... عذارى دُوار في مُلاءٍ مُذيَّلِ
فأدبرنَ كالجزع المفصَّل بينَهُ ... بجيد مُعَمٍّ في العشيرةِ مخوَل
فألحقه بالهاديات ودونه ... جواحرها في صرَّةٍ لم تزيَّلِ
فعادى عِداءً بين ثور ونعجةٍ ... دِراكاً ولم يُنضحْ بماء فيغسلِ
فظلَّ طهاة اللَّحم من بين مُنضجٍ ... صفيفٍ شِواءٍ أوْ قديرٍ معجَّلِ
ورُحنا يكاد الطَّرف يقصرُ دونه ... مَتَى ما ترقُّ العين فيه تَسَهَّلِ
فباتَ عليه سرجُهُ ولجامهُ ... وباتَ بعيني قائماً غير مرسلِ
قال الأخطل:
هل تعرف اليوم من ماويَّةَ الطللا ... تحملت أنْسهُ منه وما احتملا
فما به غيرُ موشيّ أكارِعُهُ ... إذا أحسَّ بشخص نابئٍ مثلا
ما زالَ في حِقْفِ أرطاةٍ يلوذُ بها ... إذا أحسَّ مسيلاً تحته انتقلا
كأنَّما القطر مرجانٌ يُساقطه ... إذا علا الرَّوق والمتنين والكفلا
يُشلي سلوقيَّةً غضفاً إذا اندفعتْ ... حاكى جَديلةَ في الآثارِ أو ثُعلا
مُكَلبين إذا اصطادوا كأنَّهم ... يسقونها بدماءِ الأيِّد العَسَلا
فانصاعَ كالكوكب الدُّريّ جرَّدهُ ... غيث تقسّع عنه طالما هطلا
كأنَّهنَّ وقد سُربلنَ من عَلَقٍ ... يَغشينَ مُوقدَ نارٍ يقذفُ الشُّعلا
إذا أتاهنَّ مظلومٌ عكفنَ به ... عكف الفوارسِ خافوا الدَّارع البطلا
قال أبو البيداء الأعرابي:
مطوَّقةٍ كُسيتْ زينةً ... بدعوةِ نوحٍ لها إذ دعَا
فلم أرَ باكيةً مثلَها ... تُبكِّي ودمعتُها لا تُرى
أضلَّتْ فُريخاً فطافتْ به ... وقد علِقتهُ حبالُ الرَّدى
فلمَّا بدا اليأسُ منهُ بكتْ ... عليهِ وماذا يردُّ البُكا
وقدْ صادهُ ضرمٌ مُلجمٌ ... خفوقُ الجناحِ حثيثُ النَّجا
وحتَّ بمخلبهِ قارتاً ... على خطمهِ منْ دماءِ القطَا
فآنسن سربَ قطَا قاربٍ ... جبَى منهلٍ لم تهجه الدَّلى
وصعَّدَ في الجوِّ ثم اسْتدا ... رَ طار حثيثاً إذا ما انْصمى
يُبارينَ ورداً فلمْ يرعو ... ينَ على ما تذكرَ أو ما دنا
بهِ رفقةٌ من قطاً واردٍ ... وأُخرى صوادرَ عنهُ رِوا
فملأنَ أسقيةً لم تُشدْ ... بخرزٍ وقد شُدَّ منها العرَا
فأقعصَ منهنَّ كدريَّةً ... ومزَّقَ حيزومَها والحشَى
فطار وغادر أشباهها ... تطيرُ الحتوف بها والضّنا
قال أبو نواس:
سودُ المآقي صفرُ الحمالق ... كأنَّما يصْفرن في ملاعق
صرصرة الأقلام في المهارق ... غاديتها قبل الصَّباح الفائق
وقال أيضاً:

أنعَتُ كلباً أهلُهُ في كدِّه ... قد سعِدَتْ حدودهمْ بجدّه
فكلُّ خير عندهم من عندهِ ... يظلّ مولاه له كعبده
يبيت أدنى صاحب من مَهده ... وإن غدا جلَّله ببردِه
تلذُّ منه العين حسن قدّه ... يا لك من كلبٍ نسيج وحدِه
وقال أيضاً:
لمَّا تبدَّى الصُّبحُ من حجابِهِ ... كطلعة الأشمط من جلبابه
هِجْنا بكلبٍ طالَ ما هجنا به ... ينتسفُ المِقودَ من جذَّابه
تراهُ في الحُضرِ إذا ماها به ... يكادُ أن يخرجَ من إهابه
وقال أيضاً:
قد أغتدي والصُّبحُ مشهورُ ... قد طلعتْ منهُ التَّباشيرُ
بمخطفِ الأيطل في خطمه ... طوى وفي شدقيه تأخيرُ
كأنَّه سهمٌ إلى غايةٍ ... أوْ كوكبٌ في الأرضِ محدودرُ
رُحنا به تنفخ أعطافه ... وهو بما أولاه مشكورُ
وقال أيضاً:
قد أغتدي في فلقِ الصَّباحِ ... بمُصعمٍ يرجُرُ في سراحِ
مؤيّد بالنَّصرِ والنَّجاحِ ... فهو كميشٌ ذرب السّلاحِ
يفتِرُ عن مثل شَبَا الرِّماحِ ... يطيرُ في الجوِّ بلا جناحِ
قال أيضاً:
قد أغتدي والشَّمسُ في حجابها ... مستورةً لم تبدُ من جلبابها
بفهدةٍ بورك في حلاَّبها ... شقياً لها وللَّذي غَدَا بها
كأنَّما النمرةُ في أقرابها ... رقم ديابح علَى أثوابها
فخطفت الكشحين في اضطرابها ... كأنَّها القناةُ في انتصابها
والحيَّة الرَّقطاء في انسكابها ... وسرعة العقاب في انسيابها
فأبصرتُ من حيث يَممنا بها ... عُفْر الظِّباء وهي في أسرابها
فأقبلت تمرحُ في جذابها ... حتَّى إذا ما أكثرت رمى بها
فلو ترى الفهدة في التهابها ... في نأيها عنهنَّ واقترابها
تكاد أن تخرج من إهابها ... فالويل منهنَّ لمن يصلى بها
قال أيضاً:
وقانصٍ محتفزٍ دميم ... كُدْريّ لونٍ أغبرٍ شيتمِ
فلا عن الحيلة بالسؤوم ... أسرع من لحظةِ طرف بومِ
فلا عن الحيلة بالسؤوم ... أسمع من ذي لبدة صميمِ
إذا اجتلا عالية النميم ... كأنَّما يُلهب من جحيمِ

الباب الحادي والثمانون
ذكر
ما جاء في الشعر من صفات الخمر

قال أبو بكر: قد أكثر الشعراء المتقدمون والمتأخرون في مدح الخمر وذمها، وفي وصف طيبها ورقتها، ولم يقل أحد في ذمها ولا في مدحها إلاَّ دون ما تستحقه هي في هذه الدَّار من الذم في الغاية، وهي في الدَّار الآخرة من المدح في النهاية، فأمَّا فضلها في تلك الدَّار فيغني عن الإطناب فيه ما ذكره الله جل وعلا في كتابه من تحبيب الجنة بها، وبما شاكلها إلى أوليائه، وأمَّا ذمها في هذه الدَّار فإنها توقع العداوة والبغضاء، وتدعو إلى الإثم والفحشاء، وتشغل عن أداء المفترضات، وتجرئ عن ارتكاب المحرمات. ولو لم يكن في ذمها غير نهي الله جل وعز عن شربها لكان مغنياً عن غيره. فكيف وقد بين الله جل وعلا من قبيح أفعالها ما يدعو ذوو التمييز، وإن لم تكن محرمة إلى اجتنابها فلعل بعض الخلفاء أن يغلب على عقله سكرة الأهواء. فيقول كيف تكون محرمة مذمومة وممدوحة، وعينها واحدة، ولم تأتي الشريعة بتحريمها. فيقال له: الخمر المذمومة في هذه الدَّار غير الخمر الممدوحة في تلك الدار، لأن أصحاب تلك الدَّار لا يصدعون عنها، ولا ينزفون منها، وتلك لا توقع العداوة والبغضاء، ولا تصدُّ عن ذكر الله وعن فرضه. وهذه الخمر تفعل جميع ذلك، فلهذه العلل صارت الخمر في الدُّنيا مذمومة، وفي الآخرة ممدوحة. ولقد أحسن نصيب في قوله، وقد سامه بعض بني مروان شربها فقال: يا أمير المؤمنين. إنَّه لم يدنني منك جمالي، ولا نسبي، وإنَّما أدناني منك عقلي ولساني. فنشدتك الله أن تدخل عليَّ ما يسلبنيهما فأعفاه حينئذ من شربها. وممَّا في الخمر من المقابح الَّتي يعتدّ بها من لا يفهم من المدائح أنَّها تنفي الأحزان، وتشجّع الجبان، وتسهّل على البخلاء الدّخول في جملة الأسخياء. ولو لم يكن في الخمر عيب غير هذا لكفى، لأن الَّذي توجبه الخمر من هذا الفعل إنَّما هو بزوال التمييز، ونقصان العقل، فإن جاء في تلك العمرات فعل يشبه أفعال السادات لم يكن فاعله محموداً، ولا كان ذلك الفعل إليه منسوباً، لأنه يندم عليه، ويعتذر منه بأن عقله لو كان حاضراً لنهاه عنه، وإن جاء في تلك الحال ما يخرج عن حدّ الاعتدال، وكان ذلك ممَّا يتعذّر تلافيه، ويصعب طريق العذر فيه، كما أنَّها تشجّع الجبناء، وتسمّح البخلاء، فإنها تسفّه الحلماء، وتسخّف العقلاء، وقد كان صنف من القدماء يتركون الخمر والزنا تكرُّماً، وإن لم يكن ذلك في ملّتهم محرّماً. ولقد أحسن زهير حيث يقول:
غدوتُ عليه غُدوةً فوجدتهُ ... قعوداً لديه بالصَّريم عواذلهْ
يُفدّينه طوراً وطوراً يلُمْنهُ ... وأعيا فما يدرين أين مخاتلهْ
فاعرض منه عن كريم مُرزءٍ ... غلوبٍ علَى الأمرِ الَّذي هو فاعلهْ
أخي ثقةٍ لا تهلك الخمر ماله ... ولكنَّه قد يهلك المال نائلهْ
فهذا أحسن من قول طرفة:
أُسدُ غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كلَّ أمونٍ وطمرْ
ثمَّ راحوا عَبَقُ المسك بهم ... يُلحفون الأرض هُدَّاب الأزرْ
وفي هذا النحو يقول حسان بن ثابت:
نوليها الملامة والمنايا ... إذا ما كانَ مغْثٌ أوْ لحاءُ
ونشربُها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما يُنهنها اللّقاءُ
وهذا قبيح كله لأنهم صيروا سبب السماحة والشجاعة زوال التمييز والمعرفة. وصاحب هذه الحال والمجنون سواءٌ بمنزلة، لأنه يأتي الشيء بغير معرفة، وأمثل من هذا قول عنترة:
فإذا شربت فإنَّني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يُكلمِ
وإذا صحوتُ فما أقصّر عن ندى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي
وأحسن من هذا قول البحتري:
وما زلتُ خلاًّ للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدوراً يستحثون أنجما
تكرَّمتُ من قبل الكؤوس عليهمُ ... فما اسطعن أن يُحدثن فيك تكرّما
ولسنا مع ما ذكرنا من عيبها ندع أن نذكر طرفاً من الأشعار المستحسنة في وصفها فإنها وإن لم تكن موضعاً للمدح لما قدمناه من ذمها، فقد يحسن المصيب في وصفها ضرباً من الإحسان، إما لحسن تشبيه، أوْ لمعنى يخترعه ويعرف به كما قال الأعشى:
وكأسٍ شربتُ علَى لذّةٍ ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم النَّاس أنِّي امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
قال أبو نواس:

دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الدّاءُ
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسَّها حجرٌ مسَّتهُ سرّاءُ
قال الأعشى:
إذا قلتُ غنّي الشَّرب قامت بمزهرٍ ... يكادُ إذا دارت به الكف ينطقُ
وساق إذا شئنا كميشٌ بمسعر ... وصفراء مرنان إذا ما تصعَّقُ
تريك القذى من دونها وهي فوقه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطقُ
وقال آخر:
وصرعة مخمور دفعت بقرقفٍ ... وقد صرعتني قبل ذلك قُرقفُ
فقام يداوي صرعتي متعطفاً ... وكنت عليه قبلها أتعطَّفُ
نموت ونحيا تارة بعد تارةٍ ... وتخلفنا أيدي المدام وتتلفُ
إذا ما تسلَّفنا من الكأس سكرةً ... تقاضى الكرى منّا الَّذي نتسلَّفُ
وقال:
وكأس يكون الماء حين يَمُسُّها ... قذًى ثمَّ يعلوه بجثمان طائر
إذا دبَّ فيها الماء قارن صعبُهُ ... جموحاً عليه سهلة في الحناجر
قال مسلم:
سلْ ليلة الخيف هل قصَّرتُ آخرها ... بالراح قرب نسيم الخُرّد الغيدِ
شججتها بلُعاب المُزْنِ فاعتدلت ... نسجين من بين محلول ومعقودِ
قال أبو نواس:
قامت بإبريقها واللَّيل معتكرٌ ... فلاح من وجهها في البيت لألاءُ
فأفرغت من فم الإبريق صافيةً ... كأنَّما أخذُها للعين إغفاءُ
رقَّت من الماء حتَّى ما يلائمها ... لطافة وجفا عن شكلها الماءُ
فلو مزجت بها نوراً لمازجها ... حتَّى تولد أنوارٌ وأضواءُ
وقد أكثر الشعراء في تفضيل رقة الخمر على رقة الماء، وليس الأمر على ما يقدرونه، وذلك أنَّ الخمر متولّدة من جوهر الماء، ومحال أن يكون جزء من الشَّيء أرقّ من كلّ شيء. ولن يكون بعضه أرقّ من بعض، والعلَّة الَّتي دعت إلى توهُّم الخمر أنَّها أرقّ من الماء هي أن الماء إذا صُبَّ عليها تكدَّر صفاؤه، ونقصت رقتها، وذلك لأن الماء لا يتهيّأ للآدميين تخليصه من الكدورة الحالَّة به، والأجسام الممازجة له، وإن جهدوا بقوتهم في تصفيته كما تصفَّى أعواد الكرم في اجتذابها إيَّاه إلى ثمارها بلطيف قواها الَّتي ركّبها الله عز وجل بحكمته فيها، فهي بتلك اللّطافة تجتذب صفوة، وتجفو عن رقَّة مسالكها كدره، فيخلص لها الماء وحده، فإذا مزجت بعد ذلك بالماء الممزوج بغيره تبين أن الأوَّل أصفى منه.
قال أبو نواس:
يا شقيق النَّفس من حكم ... نمت عن عيني ولم أنمِ
فاسقني البكر الَّتي اختمرت ... بخمار الشَّيْب في الرّحم
مع شبابٍ سادةٍ نُجُبٍ ... أخذوا اللذّات عن أممِ
فتمشَّت في مفاصلهم ... كتمشِّي البُرء في السّقمِ
وقال أيضاً:
لا تبك ليلَى ولا تطرب إلى هندِ ... واشرب علَى الوردِ من حمراء كالوردِ
كأساً إذا انحدرتْ من حلقِ شاربها ... أغنتك حمرتها في العينِ والخدِّ
فالخمر ياقوتة والكأس لؤلؤة ... من كفّ لؤلؤة ممشوقة القدِّ
تسقيك من عينها خمراً ومن يدها ... خمراً فما لك من سكرين من بُدِّ
لي نشوتان وللنّدمان واحدةٌ ... شيء خُصصتُ به من بينهم وحدِي
قال أيضاً:
اسقني يا ابن أُذين ... من سُلافِ الزرجُون
عُتّقت في الدنّ حتَّى ... هي في رقة ديني
ولعمري لقد بالغ في الصفة، وإن دينه لفي نهاية الرقة، ولقد أحسن في قوله:
وليس للهمّ إلاَّ شربُ صافيةٍ ... كأنَّها دمعةٌ من عين مهجور
وإنَّما تكامل صفاء دمع المهجور لأنه لا يكتحل، فدمعه صرف غير متكدر. وقال في نحو ذلك الحسين بن الضحاك:
حتَّى إذا أسندت في البيت واحتضرتْ ... عند الشّروق ببسَّامين أكفاءِ
فُضَّت خواتمها في نعت واصفها ... عن مثل رقرقة في جفن مَرْهاءِ
وقال:
ما زلتُ أشربُ روح الدنّ في لُطف ... وأستقي دمَه من جوف مجروح
حتَّى صدرتُ ولي روحان في جَسَد ... والدنُّ مُطّرح جسم بلا روح
وقال الطائي:
أفيكم فتًى حيّ فيخبرني عنِّي ... بما شَربت مشروبة الرَّاح من ذهني
تُورِّدُ روح المرء من كلِّ وجهةٍ ... وتدخل فيه كيف شاءتْ بلا أذنِ
قال إسحاق الموصلي:

وصافيةٍ تغشي العيون رقيقةٍ ... رهينةِ عام في الدّنانِ وعامِ
أدرنا بها الكأس الرّويّة موهناً ... من اللَّيل حتَّى انجاب كلّ ظلامِ
فما ذرَّ قرن الشَّمس حتَّى كأنَّنا ... من العيِّ نحكي أحمد بن هشامِ
وقال آخر:
ما العيشُ إلاَّ في جنون الصِّبا ... فإن تولَّى فجنون المُدام
راحٌ إذا ما الشَّيخ والى بها ... خمساً تردَّى برداءِ الغُلام
قال آخر:
كأنَّ أباريقَ المُدام لديهم ... ظِباءٌ بأعلى الرّقمتينِ قيامُ
وقد شربوا حتَّى كأنَّ رقابَهم ... من اللّين لم يُخلق لهنَّ عِظام
وقال آخر:
وصفراء قبلَ المزج بيضاء بعده ... كأنَّ شُعاع الشَّمس يلقاكَ دونَها
ترى العين تستعفيك من لمعانها ... وتحسِرُ حتَّى ما تقِلُّ جُفونها
وقال أبو نواس:
ترى حيث ما كانت من البيتِ مشرقاً ... وما لم تكن فيه من البيتِ مَغربا
إذا عَبَّ فيها شارب الخمر خلتَهُ ... يُقبِّل في داجٍ من اللَّيل كوكبا
قال ديك الجن:
فاصرف بوجهك صرف الماء يومك ذا ... حتَّى تُرى قائماً منها ومنصرفا
فقام مختلفاً كالظّبي مُلتفتاً ... والبدرِ مُطّلعاً والغصنِ منعطفا
رقَّت غلالةُ خدَّيه فلو رُميا ... باللَّحظ أوْ بالمُنى همَّا بأن يَكفا
كأنَّ قافاً أُديرت فوق وجْنته ... واختطّ كاتبُها من فوقها ألفا
فاستلَّ راحاً كبيض رافقت جُحفاً ... خلائقاً أوْ كنار صادفت سَعَفا
صفراء أو قلَّ ما اصفرَّت فأنت ترى ... ذوباً من التبر رصُّوا فوقه صدفا
ولم أزلْ من ثلاثٍ واثنتين ومن ... خمس وعشرٍ وما استعلى وما لطفا
وأمتري ودق سمطي لؤلؤ بردٍ ... عذبٍ وأرشفُ ثغراً قطُّ ما رشفا
حتَّى حسبت أنوشروان من خَوَلي ... وخلتُ أنَّ نديمي عاشرُ الخلفا
قال الأخطل:
إذا ما نديمي علَّني ثمَّ علَّني ... ثلاث زجاجات لهنَّ هديرُ
خرجتُ أجرُّ الذَّيل حتَّى كأنَّني ... عليك أميرَ المؤمنين أميرُ
قال الطائي:
صبَّحتُهُ بسلافةٍ صبَّحتُها ... بسلافةِ الخلطاءِ والنُّدماءِ
بمدامة تغدو المنى لكؤوسها ... خَوَلاً علَى السَّرَّاءِ والضّرَّاءِ
راحٌ إذا ما الرَّاحُ كانَ مطيُّها ... كانتْ مطايا الشَّوقِ في الأحشاءِ
صعُبتْ وراض المزج سيئَ خلقها ... فتعلمت من حُسن خَلق الماءِ
خرقاءُ يلعبُ بالعقول حَبَابُها ... كتلاعب الأفعال بالأسماءِ
وضعيفة فإذا أصابت فرصةً ... قتلت كذلك قدرةُ الضعفاءِ
جَهمِيَّة الأوصافِ إلاَّ أنَّهم ... قد لقَّبوها جوهرَ الأشياءِ
وقال البحتري:
فاشربْ على زهرِ الرياضِ يشوبهُ ... زهرُ الخدودِ وزهرةُ الصهباءِ
من قهوةٍ تُنسي الهمومَ وتبعث ال ... شوقَ الذي قد ضلَّ في الأحشاءِ
يخفي الزجاجةَ لونُها فكأنَّها ... في الكفِّ قائمةٌ بغيرِ إناءِ
يُسقيكها رشأ يكودُ يروِّها ... سُكري بفترة مقلة حوراءِ
يسعى بها وبمثلها مَن طرفُهُ ... عَوْداً وإبداءً علَى النُّدماءِ
قال أبو نواس:
تخيرتْ والنجوم وقفٌ ... لم يتمكن بها المدارُ
حتَّى إذا غابَ كلُّ ذامٍ ... وخُلِّص السَّرّ والنجارُ
آلت إلى جوهرٍ كطيفٍ ... عيانُ موجوده ضمارُ
لا ينزلُ اللَّيل حيثُ حلَّت ... فدهرُ شُرَّابها نهارُ
حتَّى لو استودعت سراراً ... لم يخف في ضوئها السِّرارُ
كأنَّ في كأسِها سراباً ... يجلبهُ المهمهُ القفارُ
قال البحتري:
لنا في الدَّهر آمال طوالٌ ... نُرجِّيها وأعمارٌ قصارُ
وأهون بالخطوب علَى خليعٍ ... علَى اللّذَّاتِ ليس لهُ عِذارُ
فأخَّر يومَهُ سكرٌ تجلَّى ... غيابته وأوَّله خمارُ
ويومٌ بالمطيرة أمطرتنا ... سماءٌ صوبُ وابلها عقارُ
أقمنا أكلنا أكل استلابٍ ... هناك وشُربُنا شربُ بدارُ
تنازعنا المُدامة وهي صرف ... وأعجلنا الطوابخ وهي نارُ
ولم يك ذاك سخفاً غير أنِّي ... رأيت الشّرب سُخفهمُ الوقارُ

رضينا من مخارق وابن خير ... بصوت الأثل إذْ متعَ النهارُ
تزعزعه الشّمال وقد توافى ... علَى أنفاسها قطر صغارُ
غداة دُجُنّةٍ للغيث فيها ... خلال الرَّوض حجٌّ واعتمارُ
كأنَّ الرِّيح والمطر المناجي ... خواطرها عتابٌ واعتذارُ

الباب الثاني والثمانون
ذكر
آداب المجالسات وحسن المنادات
حدَّثنا العباس بن أحمد الدوري قال: حدَّثنا يحيى بن معين قال: حدَّثنا حجاج بن محمد الأعور قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي زياد عن هشام بن عروة قال: رأيت ربيعة بن عباد وهو يحدث أبي، وأبي يسأله قال: إن ابن عفان رضي الله عنه كان أغزانا في غزوة، فمررنا فيها على معاوية، وقد كان وجد علينا في شيء بلغه من أمرنا في غزاتنا تلك، فدخلنا إليه، فجعلنا نعتذر إليه، ونكذِّب ما بلغه، وجعل يوافقنا على بعض ذلك، ويؤنبنا فيه، ثمَّ قام رجل فقال: أصلح الله الأمير، إنا مكذوبٌ علينا، فلينظر الأمير في أمرنا، فإن كنَّا أبرياء غفر لنا ذلك، وإن كان لنا ذنب عفاه عنَّا. فقال معاوية: فكذاك إذاً، ثمَّ قال الرَّجُل: إن كنتُ لم أذنب فلا تظلمنَّني، وإن كنت ذا ذنبٍ فسوف أتوب، ثمَّ أقبل في وجوه القوم حيث جلس معاوية فقال:
ولا تنس قربان الأمير شفاعةً ... لكلِّ امرئ فيما أفادَ نصيبُ
قال: فقبل منَّا معاوية، وصنع إلينا معروفاً.
ومن جيد ما قيل في حسن المساعدة قول دريد بن الصمة وقد أغار وأخوه في نفر من قومهم على نِعمٍ لقيس، فاستاقوها، فلمَّا كانوا في بعض الطريق، ترك عبد الله بن الصمة فقال له أخوه دريد: ليس هذا منزلنا، إن قيساً غير نائمة عن أموالها. فقال: والله لا أبرح حتَّى آكل وأعلف وأشرب، فبينا هم كذلك إذْ رأوا غبرة، فقالوا لرقيبهم: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كالعقبان، عليها فوارس كالصبيان، فقال: تلك فزارة ولا بأس. ثمَّ رأوا غبرة فقالوا: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كأنَّ قوائمها تنقلع من الصخر، قال: تلك عبس والموت. فلم يلبثوا أن خالطتهم الخيل، فصاح صائح: أودى فارس، فنظروا فإذا هو عبد الله بن الصمة، فقال دريد في ذلك شعراً طويلاً، قد ذكرنا طرفاً منه في بعض أبواب المراثي، ومع ذلك يقول في مساعدته أخاه على الرَّأي الَّذي لا يرضاه:
أمرتهُمُ أمري بمُنقطع اللِّوى ... فلم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى ... ضلالتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِي
وهل أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ ... غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ
قال آخر:
أخوك الَّذي إن قمت بالسَّيف عامداً ... لتضربَهُ لم يستغشّك في غدِ
ولو جئتَ تبغي كفَّه لتبينَها ... لبادَرَ إشفاقاً عليك من الرَّدي
يرى أنَّه في الودِّ وانٍ مقصرٌ ... علَى أنَّه قد زادَ فيه علَى الجهدِ
وفيما بلغنا أن العباس بن عبد المطلب أوصى ابنه عبد الله حين اصطفاه عمر بن الخطاب أن قال له: يا بني. إن هذا الرَّجل قد قدَّمك على غيرك، فاحفظ عنِّي ثلاثاً: لا تُجري عليك كذباً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تفشينَّ له سرّاً.
ومن جيد ما قيل في السِّرّ قول النابغة:
لعمرُك إن وشاة الرِّجا ... لِ لا يتركونَ أديماً صَحيحا
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإن لكلّ نَصيح نصيحا
قال آخر:
وفتيان صدق لستُ أطلِعُ بعضَهم ... علَى سرِّ بعض غير أنِّي جماعُها
يبيتونَ شتَّى في البلادِ وسرّهم ... إلى صخرةٍ صمَّاء أعيا انصداعها
قال آخر:
سأكتمه سرِّي وأحفظُ سرَّه ... ولا غرَّني أنِّي عليه كريمُ
حلين فينسى أوْ جهول يضيعُه ... وما الناسُ إلاَّ جاهل وحليمُ
قال آخر:
لا تسألي النَّاس ما مالي وما ورقي ... وسائلي الناسَ ما وقعي وما خُلُقي
أُعطي السّنانَ غداة الرَّوع حصَّتهُ ... وعامل الرُّمح أرويه من العَلَقِ
وأطعن الطَّعنة النَّجلاء عن عُرُضٍ ... وأحفظُ السرَّ فيه ضَرْبة العُنُقِ
قال قيس بن الخطيم:
وإن ضيَّعَ الأقوامُ سرّاً فإنَّني ... كتومٌ لأسرارِ العَشير أمين
يكونُ لهم عندي إذا ما ضمنتُهُ ... مكانٌ بسَوداء الفؤاد كمين

سَلي مَن نديمي في النّدامَى ومألفي ... ومنْ هو لي عند الصَّفاء خدين
قال آخر:
خير إخوانك المشاركُ في المرّ ... وأين الشَّريك في المرِّ أينا
ذاك مثل العقبان إن مسَّه النَّ ... ارُ جلاه لغلامٍ وازداد زينا
لا يني شاهداً بسرّك ما ... دمت وإن غبتَ كانَ أُذْناً وعَيْنا
وقال:
وكنت إذا الصديق أراد غيظي ... وأشرقني علَى حَنَق بريقي
غَفَرت ذنوبَهُ وكظمتُ غيظي ... مخافة أن أكونَ بلا صديقِ
وقال آخر:
وأخوك الَّذي إن سرَّك الآمر سرّهُ ... وإن نابَ أمرٌ ظلَّ وهو حزينُ
يُقرِّب من قرَّبت من ذي مودَّة ... ويُقصي الَّذي أقصيتهُ ويُهينُ
وقال آخر:
عليَّ لإخواني رقيبٌ من الصّفا ... تبيد الليالي وهو ليس يبيدُ
يُذكرنيهم في مغيب ومسهدِ ... فسيَّان منهم غائب وشهيدُ
وإنِّي لأستحيي أخي أن أبرَّهُ ... قريباً وأن أجفوه وهو بعيدُ
قال إبراهيم ابن العباس:
أميلُ مع الصديق علَى ابن أُمِّي ... وأحذر للصَّديق من الشَّقيقِ
وإنْ أبصرتني حرّاً مطاعاً ... فإنَّك واجدي عبدَ الصَّديقِ
أُفرِّق بين معروفي ومَنِّي ... وأجمع بين مالي والحقوقِ
وقال الصلتان العبدي:
إذا ما أخي يوماً تولَّى بودِّه ... وأنكرتُ منه بعض ما كنتُ أعرفُ
عطفت عليه بالمودَّة إنَّني ... علَى مدبر الإخوانِ بالبرِّ أعطفُ
ولستُ وإنْ ولَّى بودّ علَى الَّذي ... بذلتُ له من صفو ودِّي آسفُ
فأغفرُ منه ذنبَهُ لاصطناعِهِ ... وأسترُ منه بعض ما يتكشفُ
فإغضاؤك العينين عن عيب صاحبٍ ... لعمرك أبقى للإخاء وأشرفُ
قال الطائي:
ذو الودِّ منِّي وذو القُربى بمنزلةٍ ... وأخوتي أسوةٌ عندي وإخواني
عصابة جاورت آدابَهم أدبي ... فهم وإنْ فُرِّقوا في الأرض جيراني
أرواحنا في مكانٍ واحدٍ وغدتْ ... أبدانُنا بشآمٍ أوْ خراسانِ
قال معن بن أوس المزني:
إذا أنتَ لم تنصفْ أخاكَ وجدتَهُ ... علَى طَرَف الهِجران إنْ كانَ يعقلُ
وتركبُ حدَّ السَّيف من أن تضمهُ ... إذا لم يكن عن شفرةِ السَّيف معدلُ
ستُقطع في الدُّنيا إذا ما قطعتني ... يمينُك فانظرْ أيَّ كفٍّ تبدّلُ
قال أبو نهشل حميد بن عبد الحميد الطوسي:
عدلتُ عن الرحاب إلى المضيق ... وزرتُ البيت من غير الطَّريقِ
وتظلم عند طاعتك الموالي ... وليس الظلم من فعل الصديقِ
تجود بفضل عفوك للأقاصي ... وتمنعه من الخلّ الشَّفيقِ
وتحملني وأنت شقيق نفسي ... علَى هول الصَّواعق والحريقِ
وتعرضُ حاجتي فتُعدُّ فيها ... شفيعاً غير منطقك الرَّقيقِ
تقدمُ سوءَ ظنّك بي وتنسَى ... محافظتي علَى وَجب الحقوقِ
أما والرَّاقصات بذات عرق ... وربّ الرُّكن والبيتِ العتيقِ
لقد أطلعتَ لي تُهماً أراها ... ستحملني علَى مضض العقوقِ
وأحسبُ ها هنا عتباً وسخطاً ... ولست لسخط عبدك بالمطيقِ
قال محمد بن حازم:
مَن يخبرك بسبٍّ عن أخٍ ... فهو الشَّاتمُ لا مَن شَتَمك
ذاك أمرٌ لم يواجهك به ... إنَّما اللَّومُ علَى مَن أعلَمَك
إن ذا اللؤمِ إذا أكرمتَهُ ... حسب الإكرام حقّاً لزمك
قال آخر:
إذا كنت لا يُرضيك عن من تودُّهُ ... سوى جمع ما تهوى فأنت المُفنَّدُ
خذ العفو ممَّن قد رضيت إخاءَهُ ... وحسبك منه أن يصُحَّ التَّودُّدُ
قال آخر:
فيَّ انقباضٌ وحشمةٌ فإذا ... لاقيتُ أهلَ الوفاءِ والكرمِ
أرسلتُ نفسي على سجيَّتها ... وقلتُ ما شئتُ غيرَ محتشمِ
قال آخر:
خذي العفو منِّي تستديمي مودَّتي ... ولا تنطقي في سورتي حينَ أغضَبُ
فإنِّي رأيتُ الحبّ في القلبِ والأذَى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهبُ
قال الحسين بن مطير:
ونفسك أكرم عن نفوس كثيرة ... فما بك نفس بعدها تستعيرها
وما الجود عن فقر الرِّجال ولا الغِنَى ... ولكنَّه خيمُ الرِّجال وخيرها
قال زهير:

وليس لمن يركب الهول بغيةٌ ... وليس لأمرٍ حطَّهُ الله حاملُ
إذا أنت لم تعرض عن الجهلِ والخنا ... أصبت حليماً أوْ أصابك جاهلُ
قال عدي بن زيد:
كفى زاجراً للمرء أيَّام دهره ... تروح له بالواعظات وتغتدي
فنفسك فاحفظها من الغيّ والرَّدَى ... مَتَى تغوها تغو الَّذي بك يقتدي
وإن كانت النعماء عندك لامرئٍ ... كفاك بها فاحدُ المطالب وازددِ
وللبَخلة الأولى لمن كانَ باخلاً ... أعفُّ ومن يبخل يُلَمْ ويزهَّدِ
إذا ما امرؤ لم يرجُ منك هوادةً ... فلا ترجُها منه ولا دفع مشهدِ
وعَدِّ سواهُ القوم واعلم بأنَّه ... مَتَى ما يبُنْ في اليومِ يصرمك في الغدِ
إذا أنت فاكهتَ الرِّجال فلا تَلَعْ ... وقلْ مثل ما قالوا ولا تتزيَّدِ
عن المرءِ لا تسأل وابصر قرينه ... فإنَّ القرين بالمقارن يقتدي
وظلم ذوي القُربى أشدُّ مضاضة ... علَى المرءِ من وقع الحسامِ المُهنَّدِ
وفي كثرة الأيدي عن الظّلم زاجرٌ ... إذا حضرتْ أيدي الرِّجال المُشهّدِ
قال آخر:
إذا أنتَ أعطيتَ القليلَ فلا تكن ... ل مستقلاً عن طريقِ التجبّرِ
ولا من طريق المنِّ مستكثراً لما ... فعلت وأنت المرءُ غير مُقصّرِ
وعُد للَّذي أوليته العُرف مرَّةً ... بعائد فضلٍ منك غير مكدَّرِ
ولا تستعض منه ثناءً فترجعا ... سواءٌ ويبقَى الفضل كالمتحيّرِ
قال آخر:
دار الصُّديق إذا استشاط تغيّظاً ... فالغيظ يُخرجُ كامن الأحقادِ
ولربَّما كانَ التغضّبُ باحثاً ... لمثالب الآباء والأجدادِ
قال سعيد بن وهب:
لا خير في الشّرب إلاَّ مع أخي ثقةٍ ... إن سُرَّ غنَّى وإن غنيته طربا
يعطيك صمتاً إذا حدثته وإذا ما ... شربتَ حيّاً وإن خالطته شَرِبا
قال آخر:
أَرَى للخمر حقّاً لا أراه ... لغير الرَّاح إلاَّ للنَّديم
هو القطب الَّذي دارتْ عليه ... رحى اللَّذّات في الزَّمن القديم
قال آخر:
ألم تعلمي يا سلمُ أنِّي موكلٌ ... بما سرَّ ندمانيّ في العسرِ واليُسر
وأنيَ لم أبسط لساني ولا يدي ... لوجه نديمي حين فنَّدني سكري
قال آخر:
ليس من شأنه إذا دارت ال ... كأسُ فأزرى إدمانها بالحُلُومِ
قول ما يسخط النَّديم وإن ... أسخطَهُ عند ذاك قول النَّديمِ
قال آخر:
ورضيع راضعتُ في كبر السَّ ... نِّ وأضحَى أخاً لديَّ مُطاعا
لم يكن بيننا رضاعٌ ولكن ... صيَّرت بيننا المُدام رضاعا
قال يحيى بن زياد:
ولستُ له في فضلة الكأسِ قائلاً ... لأصرفَهُ عنها تحسُّ وقد آبى
ولكن أحييه وأكرمُ وجهَهُ ... وأشربُ ما أبقى وأسقيه ما اشتهى
قال حميد بن عبد الحميد الطوسي لبعض من استأذن عليه وهو في النبيذ:
إن كنت ترضَى بالسّواءِ وبالَّتي ... تدع الصَّحيح من الرِّجال سقيما
فادخلْ علَى حجرِ الحداق ترَى لها ... فضلاً أبانَ خلائقاً وجُسوما
مُتفضِّلينَ مقددين قد أسندوا ... زقّاً أمقّ وبَربَطاً مختوما
قال آخر:
أُعيذك من رَكبةٍ بالعشيّ ... تحطُّ وتهدمُ قدر النَّبيلِ
فإما رجعت بذلِّ الحجا ... ب وإما حللتَ محلَّ الثَّقيلِ

الباب الخامس والثمانون
ذكر
ما قيل في ذم الإخوان وشكاية الزَّمان
حدَّثنا محمد بن سلمة الواسطي قال: حدَّثنا يزيد بن هارون ومحمد بن حرب قالا: حدَّثنا إبراهيم بن سعد عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عروة عن عائشة قال: كانت عائشة من أفصح النَّاس وأقولهم لشعر لبيد. قالت: قال لبيد في الجاهلية:
ذهبَ الَّذين يُعاش في أكنافهم ... وبقيتُ في خَلَفٍ كجلد الأجربِ
يتأكَّلون ملاذةً وخيانةً ... ويُعاب قائلهم وإن لم يَشغبِ
قالت عائشة: وكيف بلبيد لو أدرك زماننا هذا، قال عروة: فكيف بعائشة لو أدركت ما نحن فيه اليوم. قال هشام: كيف بأبي لو أدرك ما نحن فيه اليوم.

حدَّثنا أبو البحتري عبد الله بن محمد بن شاكر قال: حدَّثنا محمد بن جعفر الأحمر قال: كنَّا يوماً عند أبي نُعيم فتذاكرنا حديث عائشة حيثُ ذكرت شعر لبيد:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم
قال: فأنشدنا أبو نُعيم:
ذهب الناسُ فاستقلُّوا وصرنا ... خَلَفاً في أراذل النسناسِ
في أُناسٍ تعدُّهمْ في عديد ... فإذا فُتشوا فليسَ بناسِ
كلَّما جئتُ أبتغي النَّيل منهمْ ... بدروني قبل السُّؤال بياسِ
وبكوا لي حتَّى تمنَّيت أنِّي ... مُفلت عند ذاك رأسٌ براسِ
قال آخر:
ذهبَ الرِّجالُ المُقتدى بفعالهمْ ... والمُنكّرون لكلِّ أمرٍ مُنكر
وبقيتُ في خَلف يزين بعضَهم ... بعضاً ليدفع معورٌ عن مِعْور
ولطفيل بن أسود المحاربي:
أشاقك ربعٌ بالسّتار قديمُ ... أقامَ وما مَن حلَّ فيه مُقيمُ
لإقحاط أعوامٍ كأنَّ وليدَها ... وإن كانَ حيّ الوالدين يتيمُ
قال آخر:
أخٌ بيني وبين الدَّهر ... صاحب أيِّنا غَلَبا
صديقي ما استقامَ فإنْ ... نبا دهرٌ عليَّ نبا
وثبتُ علَى الزَّمان بهِ ... فعادَ بهِ وقدْ وثبا
ولو عادَ الزَّمان أخاً ... لعادَ بهِ أخاً حَدِبا
قال ابن طوعة الفزاري:
فلو أنَّ قومي أكرموني وأتأقُوا ... سجالاً بها أسقي الَّذين أُساجلُ
كَفَفتُ الأذى ما عشتُ عن حلمائهم ... وناضلتُ عن أحسابهم مَنْ يناضلُ
ولكنَّ قومي عَزّهم سفهاؤهم ... عن الأمرِ حتَّى ليسَ للأمرِ حاملُ
تُظوهرَ بالعُدوان واختيل بالغِنَى ... وشوركَ في الرَّأي الرِّجالُ الأماثلُ
قال آخر:
إنِّي ابتليتُ بمعشر ... نَوْكى أخفُّهمُ ثقيلُ
قومٌ إذا جالستَهم ... صَدِئت لقربهم العُقولُ
قومٌ حضورٌ غُيّبُ الأذ ... هان ليس لها قبولُ
لا يفهمون حديثهم ... ويحلُّ عنهم ما أقولُ
فهم كثيرٌ بي وأع ... لمُ أنَّني بهم قليلُ
قال عمرو بن قميئة:
رمتني بناتُ الدَّهر من حيث لا أَرَى ... فكيف بمن يُرمى وليس يرامِ
فلو أنَّها نبلٌ إذاً لاتَّقَيْتها ... ولكنّما أُرمى بغير سهامِ
وأفنى وما أفني من الدَّهر ليلةً ... ولم يُغنِ ما أفنيتُ سلك نظامِ
وأهلكني تأميلُ يومٍ وليلةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ
وللبحتري:
لنا في كلِّ يوم أصدقاء ... تعود عِدًى وحالاتُ تجولُ
وما فقدُ الجميل لقرب عهْدٍ ... فيسأل عنه بل نُسيَ الجميلُ
ولإبراهيم بن العباس:
وكنتَ أخي بإخاءِ الزما ... ن فلما نَبا صرتَ حرباً عوانا
وكنتُ أعدُّك للنّائبا ... ت فقد صرتُ أطلب منه الأمانا
وكنتُ أذمُّ إليك الزما ... ن فقد صرت أحمد فيك الزَّمانا
وقال إبراهيم بن العباس أيضاً:
أخٌ كنت أوى منه عند ادّكاره ... إلى ظلِّ أيام من العزِّ باذخِ
جَرتْ نُوَبُ الأيَّام بيني وبينه ... فأقلعن منّا عن ظلوم وصارخِ
فإنِّي وإعدادي لدهري محمداً ... كملتمسٍ إطفاء نارٍ بنافخِ
وذكر لنا عن نُعيم بن حماد أنَّه قال: بلغنا أن سهماً وجد على عهد تُبَّع مُلقًى في وادٍ مكتوب عليه بيتان من شعر، فترجم فإذا هو:
ألا هل إلى أبيات شيخٍ بذي اللِّوى ... لوى الرمل فاصدقني النُّفوس تعادُ
بلادٌ بها كنّا وكنّا نحلُّها ... إذا النَّاس ناس والبلاد بلادُ
قال فنظرنا، فإذا السهم منذ سقط إلى أن وجد ألف عام.
قال إبراهيم بن العباس:
نِعْمَ الزَّمانُ زماني ... الشأن في الخُلاّنِ
ممَّن رمانيَ لمّا ... رأى الزَّمان رماني
ومن ذخرت لنفسي ... فعادَ ذخرَ الزَّمانِ
وقيل لي خذ أماناً ... من أعظم الحدثانِ
لما التمستُ أماناً ... إلاَّ من الإخوانِ
وأنشدنا أبو طاهر الدمشقي:
إذا مجلس الأنصار خفّ من أهله ... وأقفر من أهل الصفاءِ المُثلَّمُ
فما النَّاس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدَّار بالدار الَّتي كنت تعلمُ
ولآخر:
جرت رحمٌ بيني وبين منازلٍ ... سواءً كما يستنزلُ الدَّين طالبُهْ

فربَّيتُه حتَّى إذا كان شيظماً ... يكادُ يساوي غارب الفحل غاربُهْ
تعمَّدَ حقي ظالماً ولوى يدي ... لوى يده الله الَّذي هو غالبُهْ
قال علي بن جبلة:
جمعتُ له جمع امرئ ذي مودَّةٍ ... وحُطتُ عليه الودّ من كل جانب
وأصفيته منّي هوًى لا يشوبُه ... خلافٌ ولا يبليه طولُ التجارب
فلما زهاه الفضل وامتدَّ شأوه ... وأصبح في الإخوان جمّ ......
رماني بسهم كنت قبل أريشه ... وودَّع منّي صاحباً أيَّ صاحب
قال أبو هشام:
لولا القديمُ وحرمةٌ مرعيَّةٌ ... لقطعتُ ما بيني وبين هشام
لا حرمة الأدب القديم يصونُها ... وأراه يدفع حرمةَ الإسلام
فكأنما كانت مودّتنا له ... وإخاؤنا حلماً من الأحلام
قال آخر:
تعالى الله ما قرَّب ... بعض النَّاس من بعضِ
قال آخر:
همومُ أناسٍ في أمور كثيرةٍ ... وهمّي من الدُّنيا خليل مساعدُ
نكونُ كروحٍ بين جسمين فُرّقا ... فجسماً هما جسمان والروح واحدُ
وقال آخر:
رَبِّ قد ملَّني من كنتُ أحسبُهُ ... إن مُتُّ ماتَ معي صبراً وإسعادا
فراحةً بخلاصٍ أوْ بعاجلةٍ ... من المنايا نغير العمر إنفادا
أنشدني أحمد بن أبي طاهر:
وصديقٍ لا عيب فيه إذا ... فُتّشَ إلاَّ اغتيابُهُ للصديق
إن يلاحظْكَ فالشفيق وإن ... غبتَ فسبعٌ عليك غيرُ شفيق
قال آخر:
يا صاح في قلبه البغضاء راكدةً ... فالنَّفس تكتمها والعين تُبديها
والعين تُعرف في عيني مُحدِّثِها ... إن كان من حزبها أوْ من أعاديها
قال آخر:
إنِّي وإن بني بكرٍ علَى خُلقٍ ... عما قليل أراه سوف ينكشفُ
يُزمِّلون جَنين الضِّغن بينهم ... والضّغنُ أشوهُ أوْ في وجهه كلفُ
إن كاتموا بالقِلى عمّت عيونهُمُ ... والعين تُظهر ما في القلب أوْ تَصِفُ
قال آخر:
تخذْتُكم درعاً وتُرساً لتدفعوا ... نبالَ العِدى عنّي فكنتم نِصالَها
وقد كنت أرجو منكمُ خيرَ ناصرٍ ... علَى حين خِذلان اليمين شِمالَها
فإن أنتم لم تحفظوا لمودتي ... ذِماماً فكونوا لا عليها ولا لها
قِفوا وقفة المعذور عنّي بمعزلٍ ... وخلُّوا نِبالي والعِدى ونبالها
قال آخر:
ألا أيُّها الدَّهر الَّذي قد مللته ... لتخليطه هلاّ مللت حياتي
فقدْ وجلال الله حُيِّيْتَ دائباً ... إليَّ علَى حبِّ الحياة وفاتي
قال آخر:
كُسالى إذا لاقيتهم غير منطق ... يُعَلُّ بها المحزون وهو عناءُ
وإنِّي لأرجوكم علَى بطئ سعيكم ... كما في بطون الحاملات رجاءُ
أخبّر من لاقيت إنْ قد وفيتُمُ ... ولو شئت قال المخبرون أساءوا
فهلاّ سعيتم أسرة مازنٍ ... وهل كلُّ حي في الوفاء سواءُ
قال آخر:
من الأخلاّء من أمست مودته ... مع الزَّمان إذا ما خافَ أوْ عتبا
إذا وترْتَ امرءاً فاحذرْ عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنبا
قال آخر:
ومواربٍ يخفي ضغائنه ... حسن الثياب وعرضهُ خَلِق
فتوقَ خلة كل ذي مَلقٍ ... متلونٍ وانظر بمن تثِق
قال آخر:
لكل امرئ شكل من النَّاس مثله ... فأكثرهمْ شكلاً أقلُّهمُ عقلا
وكلُّ أناس آلفون لشكلهمْ ... فأكثرهم عقلاً أقلُّهمُ شكلا
لأنَّ الكثير العقل ليس بواحدٍ ... له في شريح حين تعقده عدلا
وكلُّ سفيهٍ طائش إن فقدتَهُ ... وجدت له في كل ناحيةٍ مثلا
قال آخر:
وصاحب كان لي وكنتُ له ... أشفق من والدٍ علَى ولدِ
كنا كساقٍ سعت بنا قدم ... أو كذراعٍ نيطت إلى عَضُدِ
حتَّى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفدٍ يد الأسدِ
قال آخر:
فأنت أخي ما لم تكن لي حاجةٌ ... فإن أعرضت أيقنت أن لا أخا ليا
فلا زاد ما بيني وبينك بعدما ... عرفتُك في الحاجات إلاَّ تنائيا
فعين الرّضا عن كلّ عيبٍ كليلةٌ ... ولكن عيب السخط تبدي المساويا

وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً وأجوده معنًى، وأنَّه لسهل المأخذ قريب من الحق وقد ذكرنا في هذا الباب والَّذي قبله من مدح الزمان، وذمه، ومساوئ الإخوان ومحاسنهم، ومن وصف وفائهم وتغيّرهم ما يدل ذوي الخواطر الصحيحة على أن الفريقين جميعاً معاً غير مصيبين للحقيقة إذْ الزَّمان لم يعر من سداد وفساد، ولم يخل من أهل وفاءٍ ورعاية، ومن أهل غدر وخيانة. فمن سامحه الزَّمان بما يهواه ويثبت له الإخوان على الخلق الَّذي يرضاه، مدح زمانه، وحمد إخوانه. ومن جرى عليه الأمر بخلاف ذلك، صرف الأمر فيه إلى فساد الزمان، وغدر الإخوان، على أن منهم من يذم إخوانه، ويعذر زمانه. ألم تسمع الَّذي يقول:
أَرَى حُلَلاً تُصانُ علَى رجالٍ ... وأعراضاً تُهان فلا تُصانُ
يقولون الزَّمان به فسادٌ ... وهم فسدوا وما فسد الزَّمان
قال آخر:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناسُ
فلا يغرنك أضغانٌ مُزَمَّلةٌ ... قد يضربُ الدّبر الرّامي بإحلاسُ
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيَهُ ... لا يذهب العرف بين الله والنَّاس
وأنصف من هؤلاء كلهم الَّذي يقول:
وأعيب العيب بعد الشرك تعرفه ... في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب النَّاس تبصرُهُ ... فيهم وليس ترى العيب الَّذي فيها
يا عائب النَّاس قد أصبحت متهماً ... إذْ عِبْتَ منهم أموراً أنت آتيها
كالمُلبسِ النَّاس من عُري وعورته ... للناس باديةٌ ما إن يواريها

الباب السادس والثمانون
ذكر
من ارتجل شعرا
ً
لم يقدم له قبل ذلك فكرا
ً
حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني حفص بن الأروع الطائي قال: كنتُ أسيرُ في بلاط طي، فرأيت جاريةً تسوق أعنزاً لها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحبُّ إليك، فقالت:
أحبُّ بلاد الله ما بين منعجٍ ... إليَّ وسلمى أن يصوبَ سحابُها
بلادٌ بها حلّ الشَّباب تمائمي ... وأطيبُ أرضٍ مسَّ جلدي ترابها
وأنشدتني أمُّ الجحاف الطائية ببلاط طي:
بلادٌ بها أدركت جدي ووالدي ... وأطيب أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها
وذكر أن جميلاً وكثيّراً وعمر بن أبي ربيعة اجتمعوا يوماً عند عبد الملك ابن مروان، فأوقرت ناقة ورقاء، ثمَّ قال: ليقلْ كلُّ واحدٍ منكم أبياتاً في الغزل، فأيّكم كان قوله أحسن فهي له، قال جميل:
حلفت يميناً يا بُثينةُ صادقاً ... فإن كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
حلفتُ لها والبُدن تدمى نحورها ... لقد شقيت نفسي بها وعنيتُ
ولو أن جلداً غير جلدك مسَّني ... وباشرني تحت اللّحاف شريتُ
ولو أن داعي الموت يدعو جنازتي ... بمنطقكم في الناطقين حييتُ
وقال كثيّر:
بأبي وأمّي أنت من معشوقةٍ ... فطِنَ العدو لها فغُيِّر حالُها
وسعى إليَّ بعيب غرّة نسوةٌ ... جعل الإله خدودهنَّ نِعالُها
ولو أن عزّة خاصمت شمس الضُّحى ... في الحسن عند موفّق لقضى لها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ألا ليتَ أنِّي حين تدنو جنازتي ... شممتُ الَّذي ما بين عينيك والفمِ
وليت طهوري كان ريقُك كلُّهُ ... وليت حنوطي من مشاشك والدّمُ
وليت سُلَيْمَى في المنام ضجيعتي ... أعانقُها في جنَّةٍ أوْ جهنّمِ
فقال عبد الملك: يا صاحب جهنّم دونك الناقة بما عليها، وذكروا أن عبد الملك ابن مروان جمع بين جرير والفرزدق، وأمر بناقة فأوقرت، وقال: أيكما أقام الناقة ببيت من شعر فهي له. فقال الفرزدق:
أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها ... كأنها نقنقٌ يهوى بصحراءِ
فلم تقم الناقة فقال جرير:
أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها ... ترخي المشافر واللحيين إرخاءُ
وزجر الناقة بآخر البيت، فوثبت، فدفعها عبد الملك إليه.
واجتمعا أيضاً فقال جرير:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجرب الشفاءُ
فقال الفرزدق:
فإن تكُ أنت قطراناً فإنِّي ... أنا الطّاعون ليس له دواءُ
فقال جرير:
أنا الموت الَّذي لا بدَّ منه ... وليس لهارب منه نجاءُ

وحدثني أبو طالب الدمشقي بإسناد ذكره: أن الفرزدق وجريراً اصطحبا، فعطف جرير ناقته ليبول، وتخلَّف، وحنَّت ناقة الفرزدق فقال:
علام تَلفتين وأنت تحتي ... وخير النَّاس كلهم أمامي
مَتَى تأتي الرصافة تستريحي ... من الأدلاج والدُّبر الدوامي
ثمَّ قال: كأنك يا ابن المراغة قد تسمع بهذين البيتين فقال:
تلفّتُ إنَّها من تحت قَيْن ... برأس الكير والفأس الكهامِ
مَتَى تأتي الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كلَّ عامِ
فلحقهم جرير فقال: الروية يا أبا حَرْزة، ما سمعت ما قال أخوك أبو فراس فأنشده البيتين، فأطرق جرير ثمَّ جاء بالبيتين فقال راويتهما لعنكما الله من شيطانين يعلم كل واحد منكما ما في نفس صاحبه.
وبلغني أن الفرزدق مرَّ وهو شاربٌ بامرأة فتعقل في سراويله، فالتفتت المرأة إلى أخرى فقالت: انظري هذا الشيخ، كيف يتعقل في سراويله، فالتفت إليهما فقال:
وأنت لو باكرت مشمولةً ... صهباءَ مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك عُقّالةٌ ... وقد بدا هَنْكِ من المئزر
وبلغني عن بعض أهل الأدب أنَّه قال: كنتُ عند عُمارة، فدخل ابن عتبة فقال: ألا أعجبكم، قلنا: بلى، قال: أنَّه مرَّت بي الساعة امرأة وكانت مُنتقبة، فلما دنت منّي حدرت خمارها لأنظر إليها فرأيتها فاستبشعت خلقتها، فقطبت وجهي فقالت: يا شيخ، ألا يعجبك الملاح، قلت: بلى، ثمَّ قلت:
ويعجبني الملاحُ وكلُّ دلّ ... ولكن لا أراك من الملاحِ
ولكن المليحةَ مثل بدرٍ ... إذا سفرت وأنتِ من القباحِ
فخجلت وانصرفت. وذكر أن الحجاج جلس للمعزين لما مات ابنه وأخوه، وكان بين موتهما جمعة، ووضع بين يديه مرآة، وولَّى النَّاس ظهره، وقعد في مجلسه فكان ينظر إلى ما يصنعون، فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج ضحك، فلما رأى الحجاج ذلك منه، قال: أتضحك، وقد هلك المحمدان، فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن جزع الحجاج ما من مُصيبةٍ ... تكون لمحزون أجلَّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... خليله إذْ باتا جميعاً فودّعا
أخاً كان أغنى أعين الأرض كلها ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
سمّيا نبي الله سمّاهما به ... أبٌ لم يكن عند النوائب أخضعا
قال إسحاق الموصلي: كان قتادة بن معرب اليشكري وزياد الأعجم عند المغيرة بن المهلب، فتهاجيا، فأمر المغيرة فوجي عنق قتادة ومُزقت عليه ثيابه:
لعمرك ما الديباج خرّقتَ وحدَه ... ولكنما خرَّقت جلد المُهلَّب
فما شان عرض المرء غيرُ قصيدةٍ ... يُسار بها في كلِّ شرق ومغرب
وإنَّ يدي رهْنٌ لكم بقصيدةٍ ... تكون عليكم كالحريق المُهلَّب
وكان عبد الله بن العباس يمر في بعض الطريق وهو معتمد على بعض ولده فلقيه قوم فلحظوه فأنشأ ابنه يقول:
نظروا إليك بأعين محمرّةٍ ... نظر التيوس إلى شفار الجازرِ
خزر العيون منكسي أبصارهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهرِ
أحياؤهم عارٌ علَى موتاهم ... والميتون فضيحة للغابرِ
وبلغني عن عنان جارية الناطفي أن مولاها ضربها فبكت، وحضرها بعض الشعراء فقال:
بكت عنان فجرى دمعُها ... كلؤلؤ ينسل من خيطه
فقالت من وقتها:
كذاك من يضربها ظالماً ... تجفُّ يُمناه علَى سَوْطه
وحدثني محمد بن الخطاب الكلابي، قال: حدثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قدم علينا أعرابيّ فجالسناه فقال: دعا القتال الكلابي رجل يدعى أبا سفيان إلى وليمة فانتظره من غده فلم يأتِ رسوله فأنشأ القتال يقول:
وإن أبا سفيان ليس بمولمٍ ... بخير فهابي فقرة من حوارك
قال فقلت: أتحب أن أزيدك بيتاً، قال: نعم، فأنشدته:
فبيتك خيرٌ من بيوت كثيرةٍ ... وقدرك خيرٌ من وليمة جارك
فقال الأعرابي: والله لقد أتيت بها بعد ما تعرف الورد، وأنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يُلام الملوك على اصطفائهم لك، وإدنائهم إياك، ولو كان الشَّباب يشترى لاشتريته لك بثمن.

وقف أعرابيّ على الحسين بن علي رضوان الله عليه في المسجد الحرام وحوله حلقة فقال لبعض جلسائه: من هذا الرجل، فقال: الحسين بن علي، فقال إياه أردتُ، فقال: وما تصنع به يا أعرابيّ فقال: بلغني أنهم أهل بيت حكمة، وأنهم يتكلمون فيعربون في كلامهم وإنِّي قد قطعت بوادي وقفاراً، وأودية، وجئت لأطارحهُ الكلام، وأسأله عن عويص العربية فقال له: إن كنت جئت لهذا فابدأ بذلك الشاب، وأومأ بيده إلى الحسين بن علي، فوقف عليه الأعرابي، فسلَّم، فرد السلام ثمَّ قال: ما حاجتك يا أعرابي، فقال: إنِّي قد جئتك من الهرقل والجُعلل والأيتم والهيهم فتبسم الحسين وقال: يا أعرابيّ لقد تكلمت بكلام لا يعقله إلاَّ العالمون. قال الأعرابي: وأقول أكثر من هذا فهل أنت مُجيبي على قدر ذلك فقال الحسين: قل ما شئت، فإنِّي مجيبك عنه، فقال الأعرابي: أنا بدوي، وأكثر مقالاتي الشعر، وهو ديوان العرب، فقال له الحسين: قل ما شئت فإنِّي مجيبك عنه فأنشأ الأعرابي يقول:
هفا قلبيَ للّهو ... وقد ودَّع شَرخيه
وقد كان أنيق ال ... غصن جرّاري ذيليه
عُلالات ولذاتٌ ... فيا سقيا لعصريه
فلما عمَّمَ الشيبُ ... من الرأس بطاقيه
وأمسي قد عنا ... ني منذُ تجداد خضابيه
تسلَّيت عن اللّهو ... وألقيت بُعاعيه
وفي الدَّهر أعاجيبٌ ... لمن يلبس حاليه
فلم يعلم ذوو رأي ... أصيل فيه رأييه
لألفى عبرةً منه ... له في كرّ يوميه
فقال الحسين: قد قلتَ فأحسنت، فاسمع منّي فقال:
فما رَبْعٌ شجاني ق ... د محا آيات رسميه
ومور حرجف تترى ... علَى تلبيد نُؤييه
رأى مثعنجر الود ... ق يجودُ من خلاليْه
وقد أحمد برقاه ... فلا ذمَّ لرعديه
وقد جلجل رعداه ... فلا ذم لبرقيه
ثجيج الرعد ثجّاجٌ ... إذا أرخى نطاقيه
فأضحى دارساً قفراً ... ليبنونة أهليه
فقال الأعرابي: تالله ما رأيت كاليوم مثل هذا الغلام، وأغرب منه كلاماً، ولا أذرب منه لساناً، ولا أفصح منه منطقاً، فالتفت إليه الحسين فقال: يا أعرابيّ:
هذا غلام كرَّم الرح ... من بالتطهير جدَّيه
كساه القمر القمقام ... من نور سنائيه
ولو أعذر طمّاحٌ ... فضحنا عن عذاريه
وقد أرضيت عن شعري ... وقوَّمت عَروضيه
فقال الأعرابي: بارك الله فيكما، فوالله لقد أتيتكما وأنا مُبغضٌ لكما، وانصرفت وأنا محب لكما، راضٍ عنكما، فجزاكما الله عنِّي خيراً ثمَّ انصرف.
وبلغني أن الحارث بن حلزةً اليشكري اعتمد على سيَّة قوسه حتَّى نفذت في كفه، وهو لا يشعر بذلك، لاشتغال فكره، حتَّى فرغ من ارتجال القصيدة الَّتي يقول فيها:
آذنتنا ببينها أسماءُ ... ربّ ثاوٍ يُملُّ منه الثّواءُ
بعد عهدٍ لها ببرقة شما ... ء فأدنى ديارها الخلصاءُ
لا أَرَى من عهدت فيها فأبكي ... أهل ودّي وما يردُّ البكاءُ
أوقدت نارها بجنبي حر ... ورات فأيهات منها الصبّاءُ
غير أنِّي قد أستعين علَى ال ... همِّ إذا خفَّ بالثويِّ النَّجاءُ
وتعاليت فاستعنت بجلمود أم ... ور فيها لناجٍ نجاءُ
أتلاقي بها الهواجر إذْ ك ... ل ابن همٍّ بليَّةٌ عمياءُ
وفعلنا بكم كما قدر الله ... وما أن للحائنين دماءُ
وزعمتم أن كل من ضرب ال ... عير موالٍ لها وأنَّى الولاءُ
مثلهم يخرج الجموع من ال ... غلاق لا رأفة ولا إبقاءُ
وثمانون من تميم بأيديهم ... رماحٌ صدورهنَّ القضاءُ
لا يقيم العزيز بالبلد السوء ... ولا ينفع الخليَّ الخلاءُ
جمعوا أمرهم بليلٍ فلمّا ... أصبحوا أصبحت لهو غوغاءُ
فحملناهم بطعنٍ كما تنهز ... في جُمة الطوي الدِّلاءُ
وثنيناهم بضرب كما يخرج ... من خربة المزاد الماءُ
ورقدنا ببيت غسان فالمنذر ... كرهاً إذْ لا تكال الدماءُ
مثلهم تخرج النصيحة لل ... قوم فلاةٌ من دونها أفلاءُ
إذْ رفعنا الجمال من سعف البحر ... ين سيراً حتَّى تناهى القضاءُ
وهزمنا جموع أم قطامٍ ... وله فارسية خضراءُ

ثمَّ ملنا علَى تميم فأحرمنا ... وفينا من كل حيٍّ إماءُ
وأكلنا بذلك النَّاس حتَّى ... ملك المنذر بن ماء السَّماءُ
ملك أضلع البرية ما يو ... جد فيه لما لديه كفاءُ
أيها الشانئ المرقش عنّا ... عند عمرٍو فما له إبقاءُ
لا تهنّا بما فرشت فإنّا ... طال ما قد وشى بنا الأعداءُ
فبقينا علَى الشناءة تنمي ... نا حدود أعزة قعساءُ
في أبيات عدة من هذه القصيدة فيها تمام الباب، تركناها لشهرتها.
وهذه القصيدة وإن كانت من السبع الجارية على ألسن الصبيان والمبتدئين، فلم يمنع ذلك من ذكرنا للأدباء والمتأدبين، وإنَّما غرضنا من هذا الباب أن نذكر ما ارتجل من الأشعار الَّتي لم تجرِ رياضتها في الادِّكار، فإذا أضربنا عن ذكرها، وهي من خير ما ذكرناه، كان غلطاً في التأليف، وهجنة على صاحب التصنيف، وعلى أنّا لم نرسم منها إلاَّ قليلاً من كثير، ولم ندع ما تركناه منها رغبةً عنها، غير أن الباب لا يسعه. ولعلي بن جبلة قصيدة ارتجلها بحضرة أبي دلف من وقته، وذلك أنَّه دخل عليه في الشعراء، ولم يكن أعدَّ له من نحو ما أعدوه، وهي الَّتي يقول فيها:
ريعت لمنشور علَى مفرقةٍ ... ذُمّ لها عهد الصبا حين انتسب
أشرقن في أسود أزرين به ... كان دُجاه لهوى البيض سبب
فنازل لم يبتهج بقربه ... وذاهبٌ ألقى جوًى حين ذهب
كان الشَّبابُ لمَّة أبهى بها ... وصاحباً حرّاً عزيز المصطحب
إذْ أنا أُجري سادراً في غيِّه ... لا أعتب الدَّهر إذا الدَّهر عتب
أبعد شأو اللَّهو في أترابه ... وأقصدُ الخَوْدَ وراء المحتجب
ثمَّ انقضى ذاك كأنْ لم تُغنِه ... وكل مغنى فإلى يوم عطب
فحمّل الدَّهر ابن عيسى قاسماً ... ينهضْ به أبلج فرَّاج الكُرَب
تكادُ تُبدي الأرض ما تضمره ... إذا تداعت خيله هلاّ وهب
ويستهلُّ أملاً وخيفةً ... بينهما إذا استهلّ أوْ خطب
يا زهرة الدُّنيا ويا باب النَّدَى ... ويا مجير الرّعب من يوم الرهب
خذها امتحاناً من مليء بالثنا ... لكنه غيرُ مليءٍ بالنشب
وفي هذه القصيدة أبيات في وصف الفرس مقدمة على أكثر ما في نحوها، وقد ذكرناها في بابها، فكرهنا إعادتها. وعلي بن جبلة هذا هو المعروف بالعكوك، وهو جيد الذكر، مُستعذب الشعر، حسن البديهة والروية.
وبلغني أن أبا دلف قال له: إنَّما تحسن أن تمدح، ولا تحسن أن تهجو. فقال له: الهجاء هدم، والمدح بناء، ومن يُحسن البناء، يُحسن الهدم، فلم يقبل القاسم ذلك منه فقال:
أبا دُلفٍ يا أكذبَ النَّاس كلهم ... سواي فإنِّي في مديحك أكذُب
فقال له: ويلك، أسمع هذا منك، قال: لا، قال: فلا تسمعه أحداً.

الباب السابع والثمانون
ذكر
الشعر الَّذي يستظرف لخروجه عن حد ما يعرف
هذا شعرٌ لا يعجم منه شيء البتَّة.
احمد إلهك واعلم ما دعاك له ... وسارع الدَّهر واعمل أوْ دع العملا
المرءُ للأمل الممدود مأكله ... والله مدَّ لأهل المدة الأملا
عدّ العداوة للإسلام وارم له ... دار المهالك واعمد مُعمداً سهلا
واعدل لدى الحكم عدلاً لا مردَّ له ... ودم دوام هُداة كلهم عدلا
ومثله:
أسلُ هماً وأحمد الله ودَعْ ... كل ما أوردَ همّاً وأرح
ودع الحرص لأهل الحرص لا ... عدّ للحرص ولا أهل المرح
وعدو عاد سلماً مُصلحاً ... صلْ ودعْ ما كرَّ دهر أوْ رمح
واسمحْ الدَّهر واكرمْ مسلماً ... حصَّل السرّ له كل المدح
طمع المرء حِمامٌ مُهلكٌ ... كلما أطعمه أمرٌ ألَح
أصلح الله لك المال من ال ... حالِ ما أصلحه الله صلح
ومثله:
ارعَ الوداد لأهل ودِّك كلّهم ... وأودهم رأس الصلاح مُحَدّدُ
واحملْ لأهل الود كلّ مُلمَّةٍ ... واعمل كما عمل الودود الأسعدُ
والله مورد ما أرادَ محلَّهُ ... ملك له كرم العلا والسؤددُ
ملك هو المحمود طهَّر ملكه ... كرم وحلم وهو عالٍ أوحدُ
ولبعض أهل هذا العصر:
لو سامح الدَّهر أوْ لو ساعد العمرُ ... لم أرعَ عهداً سواك الدَّهر يا عُمرُ

أصدر هموماً أطال الورد موردها ... لولا مواردها لم أدرِ ما السَّهرُ
وهذا شعر يعجم كله:
غشيت جفني قذًى في بيت ضيف بني ... شيخٍ فشيبني تشبيبُ نبتينِ
يشفني بين ظبي ينثني غنجاً ... غذى بخفض غذى تفنين شيخينِ
ظبيٌ غضيض نظيف ينثني خَنثٌ ... يفتنُّ في جبتي خزٍ بخفين
ومثله:
خضبتُ شيبي بشبٍّ ... في بيت بنت شبيبِ
وزينتني غضيضٌ ... بثني خزٍّ قشيبِ
ومثله:
في بيت ذي نشبٍ فتنتُ بزينب ... فبقيت في شغفٍ فضنتْ زينب
زينبْ بذي شنبٍ يضيء فشفّني ... فجننتُ في شغفي فزينب تغضبُ
وهذا شعر تعجم صدور أبياته، ولا تعجم أعجازها:
يُبيتُني في شغفٍ شفّني ... صدوده أحور حلو الكلام
تبيتُ في بثِّ شجى تبتغي ... مرام وصلٍ ساهر للمرام
ضنَّت بشيئين ببينٍ شجى ... وهامل سحّ كسحِّ الرّهام
بين خفيٌ قذفت زينب ... أسرارها ما صاح داعٍ حمام
وهذا شعر تعجم منه كلمة ولا تعجم منه كلمة:
ظبيٌ له غنجٌ ودِلُّ شجى ... مطوّح بين هموم تشيب
يبيتُ معموداً ببثٍّ له ... في الصدر تشفيفٌ وهمُّ يذيب
تضيَّفتْ رحلك في مدرع ... ثني ومُرط ذي احمرار قشيب
فبتُّ مسروراً بضيفٍ له ... غنجٌ وملح ذي دلال خضيب
وهذا شعر يعجم منه حرف ولا يعجم منه حرف:
ريمٌ يُميسُ شويدنٌ ... ليلي إذا يدنو قصيرْ
قد زانه ضعفُ أخلَّ به ... فليس به نكير
ومثله:
قد فاز عندي رجلٌ قد يرى ... دجاجة يا فوز مشويّه
ومثله:
يَهيمُ بقلبك شوق سَنحْ ... فلجّ لشوقكِ غربٌ سَفحْ
وهذا شعر يعجم منه حرفان، ولا يعجم منه حرفان:
مرَّ زيد وغزال بي إلى شهرين مَرْ ... فتعرفناه فيما يزدرينا من خطر
وهذا شعر تعجم منه ثلاثة أحرف ولا تعجم منه ثلاثة أحرف:
ما رُزينا كعبُ شيئا كان في ... دار زنباع اختيار ويقف
وهذا شعر أوائل أبياته مثل قوافيه منقلبة:
رازَ بالهجران صبري ... ظالماً بالهجر زار
راع قلبي فهو ساهٍ ... من رداء الحب عار
راش بالهجران نبلاً ... فرماني حين شار
راح باللَّوم فقُلنا ... بعض هذا اللّوم حار
وهذا شعر يُقرأ من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله:
أُراهنَّ نادمْنَه ليلَ لهوٍ ... وهل ليلهُنَّ مُدانٍ نهارا
ومثله:
هارون حمَّالٌ لأعبائِهِ ... هيَّابُ عالٍ لامح نوره
وهذا بيت قد جمع الحروف كلها:
صف خلق خَودٍ كمثل الشَّمس إذْ بزغتْ ... يحظى الضجيعُ بها نجلاء معطار
ومثله:
هلاّ سكنت بذي ضغثٍ فقد رَغموا ... شخصتَ تطلبُ ظبياً راح مجتازا
ومثله:
اصبرْ علَى حفظ خضرٍ واستشر فَطِناً ... وزُجَّ همّك في بغداذ مُنثملا
وهذا شعر ليس فيه حرف منفرد:
كنتُ في مجلس عيش ... منعم ثمَّ مُقيم
فيه قصفٌ معجبٌ ... ثم بخفض ابن حكيم
وفيما ليس منه حرف موصول لبعض أهل هذا العصر:
أزورُ زرزوراً زواراً ورد ... زوراً وزرزوراً إذا سارا
أراد زاداً وأَرَى زاده ... أراده داود إذا زارا
دع زورةً إن زرت زارت إذا ... واردع إذا أزرت إزرارا
هذا شعر إن شئت جعلته قصيدة، وإن شئت جعلته ثلاث قصائد:
يا فتى الجود والنَّدا ... يا عمادي يا ابنَ ليثِ يا ذا الجناب المريعِ
أنجزن منك موعدا ... لا تكن صاحب ريثِ فداك كلّ الجميعِ
ولقد قال لي النَّدا ... أنت يا ذا الجود غيث معاً لحسن الصنيعِ
اعتمد لي محمدا ... حين تكدي كلّ غيث أعنيك يا ابن الربيعِ
وهذا شعر مُضمَّنٌ بعضه ببعض وإن أدرجته كان كلاماً:
يا ذا الَّذي في الحبِّ يلحى أما ... والله لو حمَّلت منه كما
حملت من حب رخيم لما ... لمت علَى الحب فدعني وما
أطلبُ أنِّي لست أدري لما ... قُتلتُ إلاَّ أنَّني بينما
أنا ببعض القصر في بعض ما ... أطلبُ في قصرهم إذْ رمى
قلبي غزال بسهام فما ... أخطأ بالسهم ولكنما

عيناه سهمان له كلما ... أراد قتلي بهما تسلما
وهذه أبيات تصلح أن تكون كل كلمة منها متقدمة لصواحبها، وهذا مثالها:
علَى الفضل من الجود علاماتٌ مبيناتُ
مبينات علامات من الجود علَى الفضل
من الجود علَى الفضل مبينات علامات
علامات مبينات علَى الفضل من الجود
بسعود لا بنحس خير طير ليزيد
خير طير ليزيد بسعود لا بنحس
لا بنحس خير طير ليزيد بسعود
ليزيد بسعود لا بنحس خير طير
وكتب بعض أهل هذا العصر إلى أخ له رسالة في حشو كلامها بيتين من شعر قد بينّا حروف الشعر ليسهل استخراجه: بسم الله الرحمن الرحيم أطال الله بقاك وأدام عزك ونعماك وجعلني من المحذور دونك يا سيدي جُعلتُ فداك لا ترضى لأخيك بل لعبدك أن يبقى أبداً على حال قد أيست منه أولياءه وأشمتّ به أعداءه. وبعد ذا فأنا معترف بذنبي وحق مؤثر الإقرار على الإنكار، وأن لا يعاقب لذنب جناه، ولو عرفت ما تنكره لم أعذر والله ما تأمره فيّ كلما يعود عليَّ ضرره فضلاً عما يعود عليَّ نفعه، فقد برّح والله بي هجرك، وأنا لا أكون لعفوك أهلاً لكثرة جناياتي، فأضفه إلى قديم صفحك عن إساءتي هذا نالني على أنِّي والله ما أسخطك قطّ إلاَّ مبتغياً رضاك ولا أظهرت الجفاء إلاَّ وأنا ملتمسٌ منه موافقة هواك، وقد أزال إعراضك اصطباري، وأفنى تجنبك اعتذاري، فلا ضرر الآن عما كان، فقد - وعزيز حياتك - عيل والصبر، فما لفظي إلاَّ بذكرك، ولا أجزع إلاَّ من هجرك، فانظر لعبدك الصبر والجلدا، ضعف من أن يقوم بجفائك أوْ يعتاض بها وصلك. فاصفح جُعلتُ فداك عن عبدك، فإنَّه أولى بك والسلام.
وهذا شعر فيه اسم يستخرج من أوائل الأبيات:
آهٌ من البارق الَّذي لمعا ... لم يدرِ ماذا بمهجتي صنعا
حكّم فيها البلى فها أنذا ... مكتئبٌ ما أفارق الجزعا
مذ لاح لي في السحاب أذكرني ... توريد خدٍّ من الجبا لمعا
دلَّ علَى كنهه كذي فِطنٍ ... تفريقُه فانتهره مجتمعا
وقال:
فآخر الترس له أول ... وثالث الدرع له آخرُ
وخامس الساعد ثانٍ له ... ورابع السَّيف له دابر
وهذا بيت فيه أحد عشر صاداً:
صافِ الصديقَ وأصفه صفوَ الصَّفا ... واخصص صديقك بالصداقة تخصصِ
وهذا بيت فيه إحدى عشرة حاءً:
تنحنحَ رَوْحٌ حين حاد بحاجب ... وزحزح روح حاجياً فتزحزحا
وبلغني أن رجلاً أنشد الرياشي أوْ غيره:
ما للنَّوى جُدّ النَّوى قطع النَّوى ... بالبين بين ميامني وشمالي
فقال: هو لعمري بيت حسن، غير أنَّه لو طرح بين يدي الشاة لأكلته، لأن فيه كَيْلجة نوى.
وهذه أبيات مرجعة:
يا بدني للفراق مُت كمداً ... مُتْ كمداً للفراق يا بدني
فارقني من هويت واحزنا ... واحزنا من هويت فارقني
كلمني بالشهيق من جَزَعٍ ... من جزع بالشهيق كلَّمني
عانقني كالقضيب معتدلاً ... معتدلاً كالقضيب عانقني
تتركني كالغريب يا سكني ... يا سكني كالغريب تتركني
يحفظني الله فيك قلت له ... قلت له الله فيك يحفظني
وبلغني أن محمداً بن زبيدة قال لأبي نواس: قد أكثرت عليَّ وأنا مُلق عليك شيئاً، فنفيت من هارون، لئن لم تجزه لأقتلنك وأستريح.. قال: وما هو يا أمير المؤمنين، قال: قل شعراً بلا قافية فقال:
ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك مَهْ حكاية قبله
فأشارت بمعصم ثمَّ قالت ... من بعيد خلاف قولي ماه حكاية لا
فتنفست ساعة ثمَّ إنِّي ... قلت للبغل عند ذلك راه حكاية عد
وهذا شعر فيه بالزنجية: حدثني أبو الحسن محمد بن الخطاب الكلابي، عن محمد بن مزرّع البصري، قال: مررت ببطن مكة، ومعي صاحب لي، فرأيت على ركيّة ينشد شعراً بعضه أعجمي، وبعضه عربي، فقلت: يا أسود ما تقول؟ فأنشد:
ألا يا لائمي في حب ريم ... أفق من بعض لومك لا اهتديتا
أتأمرني بهجري بعض نفسي ... معاذ الله أفعل ما اشتهيتا
أحبُّ لحبها الثقلين طُرّاً ... وبكعة والبلين ودمعَ ليتا
فكائن والبكان ودوّعينا ... وشكعة والندفت وعرريتا

فقلت يا حبشي ما هذه الأسماء، قال: دِمنٌ لنا بالحبشة كنا نعتادها لنزهتنا. قال: قلت أحسبك كَلِفاً، قال: نعم، قلت: بمن، قال: بمن إن وقفت رأيته، قال: فطلعتْ سوداء على عُنقها جرَّة، فمتح لها فيها، وقال: ها هي، قال: قلت: أراك عاقلاً فما تصنع ها هنا. قال: أنا وقفت على قبر فلان وقد سمّاه، وهو يعرف بعض الملوك، أرشُّ عليه الماء، فأنا أبرّدُ من فوق، وربُّك يسخن من أسفل، أرأيت أحمق من هؤلاء يغالبون ربهم.
وهذا شعر فيه بالفارسية:
وقائل قال لي فأفحمني ... يا هائم القلب ما ترى رشدك
قلبك هذا كم أنت تاركه ... عند الَّذي ليس قلبه عَتَدك
يا كور شنيئم وكور دل وشوح ... روي بُنا اندكا تدك
وهذا شعر فيه بالرومية وهو لأبي نواس:
حبَّذا قولها وقد لحظتني ... من وراء السرير بو سانيس
قلت ما قول أيِّ شيئ ... ين والأعز شك فإنَّني قاقوسي
فإذا ما فعلت ذاك فعندي ... لقطينا نعم ومليار يس

الباب الثامن والثمانون
ذكر
ما جاء من الأشعار محتملاً للهجاء والافتخار
أخبرنا الحارث بن أسامة عن زيد بن هارون قال: أخبرنا عبد الملك بن قدامة قال عمر بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: كانت أم عبد الله بن عمرو بن العاص وأمه ريطة بنت منبه بن الحجاج وكانت تلطف برسول الله صلى الله عليه وسلّم، فأتاها ذات يوم فقال لها كيف أنتِ يا أم عبد الله قالت بخير وعبد الله رجل قد ترك الدُّنيا فقال له أبوه يوم صفين اخرج فقاتل فقال يا أبتي كيف تأمرني أن أخرج فأقاتل وكان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما قد سمعت. فقال: نشدتك الله أتعلم أن آخر ما كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم إليك أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال: أطع عمرو بن العاص، قال فإنِّي آمرك أن تقاتل فخرج فقاتل فلما وضعت الحرب أوزارها أنشأ عمرو بن العاص يقول فذكر أبياتاً بعدها، وقال عبد الله بن عمر:
ولو شهدت جمل مقامي ومشهدي ... بصفّين يوما شاب منها الذوائب
وعشية جا أهلُ العراق كأنهم ... سحاب ربيع رفّعته الجنائب
وجئناهم تردى كأن خيولنا ... من البحر مدٌّ موجه متراكب
فدارت رحانا فاستدارت رحاهم ... شداة النهار ما تزل المناكب
إذا قلت قد ولّوا سراعا بدت لنا ... كتائب منهم وارجحنّت كتائب
فقالوا لنا إنّا نرى أن تبايعوا ... عليّاً فقالوا بل نرى أن نضارب
قال أبو بكر قائل هذا الشعر قد أجاد تأليفه وأحكم ترصيفه غير أنَّه لم يعلمنا بقوله أقصد إلى ذم أعدائه أم مدحهم وكذلك لم يتبين أمر الضَّيف الذين هو منهم لأنه لم يحرز ذماً ولا مدحاً لهم ولغيرهم وقال:
فلم أرَ حيّاً صابروا مثل صبرنا ... ولا كافحوا مثل الذين نكافحُ
إذا شئت لاقاني كميٌّ مدججٌ ... علَى أعوجي بالطعان مسامحُ
وأقبل صفّانا وفي عارضيهما ... جنيّ تُرى فيه البروق اللوامحُ
إذا أقبلوا في السابغات حسبتهم ... سيولاً إذا جاشت بهنَّ الأباطحُ
كأن القنا الخطِّي فينا وفيهمُ ... شواطن بئرٍ هيجتها المواتحُ
وثم فرقنا بالرّماح ولم يكن ... هنالك في جمع الفريقين رامحُ
ودرنا كما دارت علَى قطبها الرحى ... ودارت علَى هام الرِّجال الصفائحُ
فقلت عيون حين دارت رحاهُمُ ... لما قطرت من خشية الموت طامح
وقال زفر بن الحارث:
وكُنّا حسبْنا كلَّ بيضاءَ شحمةً ... ليالي لاقينا جُذامَ وحمْيَرا
فلما قرعنا النَّبْعَ بالنَّبع بعضهُ ... ببعضٍ أبتْ عيدانهُ أن تكسَّرا
سقيناهمُ كأساً سقونا بمثلها ... ولكنهمْ كانوا علَى الموت أصبرا
وبلغنا أن الزبرقان بن بدر استعدى عمر بن الخطاب على الحطيئة فقال أنَّه هجاني. قال وما قال لك؟ قال: قال:
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها ... واقعدْ فإنك أنتَ الطاعِمُ الكاسي

قال له عمر: ما ترضى أن تكون طاعماً كاسياً. قال له: والله لولا الإسلام لأنكرتني، قال ما أعلمه هجاك ولكن ادع ابن الفريعة بعني حساناً. فلما جاءه حسان قال له عمر أهجاه قال لا يا أمير المؤمنين ولكنه سلح عليه. قال فقال عمر للحطيئة: لأحسبنَّك أوْ لتكفنَّ عن أعراض المسلمين قال يا أمير المؤمنين لكل مقام مقال. قال وإنك لتهددني فحبسه فلما حبسه كتب إليه:
ماذا تقول لأفراخٍ بذي مرخٍ ... زُغب الشوارب لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبهُمْ في قعْرِ مُظْلمةٍ ... فارحمْ عليك سلامُ الله يا عمرُ
نفسي فداؤك كم بيني وبينهمُ ... من عرض داوية يعمى بها الخبرُ
قال: فلما قرأها عمر رقَّ له وخلَّى سبيله. وبيت الحطيئة وإن كان غيره أشدّ إيضاحاً بالهجاء منه، فإن معه ما يوضح عن مراد صاحبه ويزيل توهم المديح فيه عن سامعه وهو:
ما كان ذنبُ بَغيضٍ لا أبا لكمُ ... في يابس جاء يحدو آخر النَّاس
ملّوا قِراهُ وهرَّتْهُ كلابهمُ ... وقطَّعوهُ بأنيابٍ وأضراسِ
لمّا بدا ليَ منكمْ خبثُ أنفسكم ... ولم يكنْ لجراحي منكمُ آسي
أزمعتُ يأساً مُبيناً من نوالكمُ ... ولن ترى طارداً للمرءِ كالياسِ
ويُرى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع:
وقبيلةٍ لا يغدرون بجارهم ... ولا يظلمون النَّاس حبة جرولِ
قال وما تستوي أن ابن الخطاب كذلك فلما سمع:
ولا يردون الماء إلاَّ عشيّةً ... إذا صدروا الورّاد عن كل منهلِ
قال ما أحبّ كل هذه الذلة، ومع هذين البيتين ما يوضح على أنهما هجاء صحيح غير مشبَّه بشيء من المديح وهو:
أولئك أخوال اللئيم وأسرة ال ... هجين ورهط الخائن المتبدّلِ
إذا الله عادى أهل لؤم وشرّةٍ ... فعادى بني القعقاع رهط ابن مقبلِ
وقال رجلٌ من بني العنبر:
لو كنت من مازنٍ لم تستبحْ إبلي ... بنو اللَّقيطة من ذُهْلِ بنِ شَيْبانا
إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشنٌ ... عند الحفيظةِ إنْ ذو لوثةٍ لانا
قومٌ إذا الشرّ أبدى ناجذيهِ لهمْ ... طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهُم حين يندبُهمْ ... في النائبات علَى ما قال بُرهانا
لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ... ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإنْ هانا
يجزونَ من ظلمِ أهل الظُّلم مغفرةً ... ومن إساءةِ أهلِ السُّوء إحسانا
كأن ربَّكَ لم يخلقْ بخشيتهِ ... سواهُمُ من جميع الناسِ إنسانا
وقال البحتري:
فضلُ الخلائفِ في الخلائف واقفٌ ... في الرُّتبة العُليا وفضلُك أفضلُ
أوفيتَ عاشرهمْ فإن يدنوا إلى ... كرم وإحسانٍ فأنتَ الأولُ
فهذا إن شاء إنسانٌ يصير به إلى غاية المدح، وإن شاء آخر أن يصرفه إلى غاية الذم، وجد كلُّ امرئ منهم مقالا. أي مدح أبلغ من أن يكون كل ما دين من الخلفاء دون الممدوح بهذا القول. وأي ذنب أوكد حجةً على المرء من تشريفه على آبائه وأجداده والأخيار بأنه نجم من بينهم، مخالفاً لسؤددهم كما قال لجماعتهم.
وقال آخر:
عادات طيٍّ في بني أسدٍ ... ريِّ القنا وخضاب كل حسام
لا تكثري جزعاً فإنِّي واثق ... يوم جنا وعواقب الأيَّام
فمن لم يعرف قبيلة هذا القائل، ومقصده من غير شعره لم يدرِ أطيئ المهجوّون أم هم الممدحون، وذلك الحال في بني أسد أيضاً. وقال أبو علي البصير:
لعمرُ أبيكَ ما نُسبَ المُعَلَّى ... إلى كرمٍ وفي الدُّنيا كريمُ
ولكنَّ البلادَ إذا اقشعرَّتْ ... وصوَّحَ نبتُها رُعي الهشيمُ
قال آخر:
رويدَ بني شيبانَ بعضَ وعيدكمْ ... تُلاقوا غداً خَيلي علَى صَفَوانِ
تُلاقوا جياداً لا تحيدُ عن الوغى ... إذا الخيل جالت في القنا مُتدانِ
تُلاقوهُمُ فتعرفوا كيف صبرهُمُ ... إذا ما جنت منه يدُ الحدثانِ
مقاديمُ وصَّالون في الرّوع خطوهُم ... بكلِّ رقيق الشَّفرتين يمانِ
إذا استُنجدوا لم يسألوا من دعاهُمُ ... لأيَّةِ حربِ أم بأي مكانِ
وفي نحو ذلك قال الأخطل لشقيق بن ثور:
خلتْ الديارُ فسدتَ غير مُسوّدٍ ... ومن العناءِ تفردي بالسؤدد
وقال آخر:

وما جذْعُ سوءٍ خرَّق السُّوس جوفه ... لما حمَّلتهُ وائلٌ بمُطيقِ
فقال شقيق: يا أبا مالك: ما تُحسنْ أن تهجو، ولا تمدح، أردت أن تهجوني، فجعلت وائلاً كلها تحملني أمرها فسكت.

الباب التاسع والثمانون
ذكر
ما جاء في الشعر من معنى مستور
لا يفهمه سامعه إلاَّ بتفسير.
قال الشاعر:
ومستخذل يدعو الصباح وقد رأى ... عرانين مشهور من الصبح أبلقا
إلى غير هيجا أصبحت غير أنَّه ... دجا فوقه ليل التمام فأطرقا
وقال آخر:
أبا زُرارة لا تبعد فكلُّ فتى ... يوماً رهين صفيحات وأعوادِ
إنِّي وإياكم حتَّى يُصاب به ... منكم ثمانيةٌ في ثوب حدَّادِ
هذا من الحداد، يقال أحدت المرأة، وحدّت المعنى واحد. قال يزيد ابن خذّاق:
وإذا أضاء لك الطَّريق وأنهجت ... منه المسالك والهدى يعدي
أنهجت: بيَّنت. وأنهج الثوب: أخلق، ويعدي: يعين، ومنه أعداني السلطان على فلان، أي أعانني عليه. يقول: أضاء الطَّريق وبيَّنه لك، يعمل على أمرك، ويدلك على قصدك.
وقال القطامي:
زمان الجاهلية كلّ حي ... أبَوْنا من فصيلتهم لِماعا
لماع: طرائق. الواحد: لمعة. والفصيلة: فخذ الرَّجُل الَّذي هو منها. وقال جُعيل الفهمي الهمداني:
وربعيٍّ نحرتُ علَى حوارٍ ... بحمد ثلاثة من بعد حَيْن
فراحوا حامدين ورحن بُحّاً ... ولم أحفل بهزهزة الحنين
الربعي: الَّذي ولدته الناقة في الربيع، وثلاث: يعني نوقاً كان يرتضع ولد الناقة منهن وثلاثة أضياف، فراحوا حامدين، وراح النوق بُحّاً من شدة الحنين لفقد ولد الناقة.
وقال آخر:
لما نزلنا حاضر المدينه ... بعد سباق عُصبة مُبينة
صرنا إلى جارية مكينه ... ذات سرورٍ عينُها سخينه
فباكرتها جفنة بطينه ... لحم جزور عندها سمينه
الجارية: عين ماء تجري، ومكينة من الأرض، ذات سرور: تُسر واردها، وسخينة: ماؤها، وسمينة: مسمونة بالسمن.
وقال آخر:
لقد حزّمت راحلتي غدواً ... لأحملها وتحملني وزادي
فما عدّيت دونك عيث وادٍ ... فأخطى في لياليه اعتيادي
حزمت وزممت بمعنى، وراحلته: بغلته، فحملها وتحمله وإياه من موضع قريب فلم يعتد بطول سفره.
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
ليَهنئ تُراثي لأمري غير ذلَّةٍ ... صنابر أُحدانٌ لهنَّ حفيفُ
سريعاتُ موتٍ ريّثاتُ إفاقةٍ ... إذا ما حُملنَ حملهُن خفيف
قال: أراد سهاماً، صنابر: دقاقاً، وأحدان: أفراد. سريعات موت: يمتن من رمي بهن، لا يُفيق، منهن سريعاً، وحملهن خفيف علَى من يحملهن.
وقال آخر في مثل ذلك:
فما شيء يزيد علَى ذراعٍ ... له في الرأس أجنحة ثلاثُ
يطير بها وليس هناك روح ... فتركبه الذكورة والإناثُ
إذا أرسلته ولَّى سريعاً ... وليس به إذا سقط انبعاثُ
وقال آخر:
وداويَّةٍ جرداء جدّاء خيمت ... بهاء هبوب الصيف من كل جانب
أنخت بها الوجناء من غير فترةٍ ... ليثنين عبداً بين آتٍ وذاهب
جرداء: لا ينبت قمحها، وجداء: لا ماء فيها، والوجناء في قول الأصمعي: الناقة الغليظة شبهت بالوجين، وهو الغليظ من الأرض، وفي قول أبي عمرو، وهي غليظة الوجين لا يثنين ركعتين، وآتين اللَّيل والنهار.
وقال الثمال بن قطيف:
وقد أخرجت من دوركم ذات أعين ... مُطوَّقة الأعناق مُلس الحقائب
مخرَّقة الآذان نهلٌ وجوهها ... حسان المجال ليّنات المضارب
فروع الشّوى صفر الصياصي كأنها ... شيوخ من الأعراب حمر العصائب
يعني الديكة.
وقال آخر:
أبصرتُ جاريةً في بطنها رجلٌ ... في فخذه جمل في ظهره قتب
الجارية: السفينة، في بطنها رجل، في فخذه جمل. يعني في قبيلته، في ظهر الجمل قتب.
وقال آخر:
وسربُ ملاح قد رأيتُ وجوهَهُ ... أناثٍ أدانيه ذكوراً أواخره
وسرب ملاح: يعني الثغر. وإناث أدانيه: يعني الثنيين والنابين والناجذين مؤنثان: وما خلف ذلك مذكر.
وقال مسكين بن علي الحنظلي:
أصبحتْ عاذلتي مُعْتلَّةً ... قرمتْ بل هي وحمى للصخبْ

أصبحت تتفل في شحم الذُّرى ... وتعد اللوم داراً يُنتهبْ
لا تلمْها إنَّها من نسوةٍ ... ملحُها موضوعة فوق الركبْ
الوحمى: الَّتي تشتهي شيئاً، فشبه شهوتها للصخب بذلك، وتتفل في شحم الذرى، أي تعود الإبل. وتعد اللوم درّاً: أي تحرص عليه كما تحرص على نهب الدر، وملحها موضوعة فوق الركب، حكي عن ابن الأعرابي عن الأصمعي أنَّه قال: إنَّها زنجية، والملح: السمن قال: سمنها في عجيزتها، ويقال: ملح الغلام وحلم: إذا سمن بمعنى واحد.
ومنه قول أوس:
إلى سنةٍ جرذانها لم تَحَلَّم
وقال آخر:
ربّ شيخ رأيته صار كلباً ... ثمَّ من ساعتين صار غزالا
رب ثورٍ رأيت في حُجر نملٍ ... وقطاة تحمل الأثقالا
صار غزالاً من قول الله عز وجل فصُرن إليك، أي فاضممهنَّ إليك، يقول: ضمَّ إليه كلباً ثمَّ ضم إليه غزالاً في ساعتين، وثور: دابة، شبه القرادة، رآه في حجر نمل. وقطاة: يعني الَّتي مع القتب تشبه البكرة وتشد عليها الحبال.
وقال آخر:
أكلت دجاجتين وديكتان ... كما أكل المفضل ديكتان
يريد دجاج تين وديك تين المرأتين أيضاً كما قال المفضل ديك تان من التناء.
وقال آخر:
شربنا فأدلجنا وكانت ركابنا ... يسرن بنا في غير برِّ ولا بحر
مطايا يُقرّبن البعيد وإنَّما ... يقربن أشلاء الكريم من القبر
وقال آخر:
فما مقبلات مُديبرات ...... ... مفرقة الأسماء واللونُ واحدُ
يصادف في إعراضهنَّ حلاوة ... ومنهن مُرّات وسخن وباردُ
يصف الأيَّام في إعراضهن من المكروه والمحبوب.
وأنشدني أحمد بن يحيى في صفة البرغوث:
يُؤرقني حدبٌ صغار أذلةٌ ... وإن الَّذي يؤذيهُ لذليلُ
إذا ما قتلناهن أضعفن كثرة ... علينا ولا يُنْعى لهن قتيلُ
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز:
حُمّلت أمراً عظيماً فاصطبرتَ له ... وقُمتَ فيه بأمر الله يا عُمرا
فالشَّمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجومَ اللَّيل والقمرا
يعني الشَّمس ليست بكاسفة نجوم اللَّيل ولا القمر وقد تبكي عليك بين فعل الشَّمس ومفعولها.
وقال آخر:
ألا لا تصل لاتصل ... حرامٌ عليك فلا تفعلِ
فإن المصلي إلى ربه ... من النَّار في الدرك الأسفلِ
الصلا: الدرك ومنه للفرس الَّذي يجيء تالي السابق المصلى فكأنه ينهاه عن إتيان جاريته في الدبر في مصلاها وليس هذا في النَّار المصلي.
وقال آخر:
إنَّني شيخ كبير ... كافر بالله سيري
أنت ربي وإلهي ... رازق الطفل الصغير
كافر: مغطى بالله. سيري: ابتدأه.

الباب التسعون
ذكر
المعاني الظاهرة والأمثال السائرة
قال طرفة بن العبد:
ستبدي لك الأيَّام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ
فيقال أن النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يتمثل بقوله: ويأتيك من لم تزود بالأخبار. وروي عن ابن عباس أنَّه قال: " ويأتيك بالأخبار من لم تزود " كلمة نبي، وحكى لنا أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يتمثل:
تنفك تسمع ما بقيت بهالك حتَّى تكونه
والمرء قد يرجو الرجاء مغيّباً والموتُ دونه
العباس بن محمد بن عثمان بن محمد قال: كان عمر ينشد هذا البيت:
قد طفق النَّاس تعلوهم أكارعهم ... وعتّق الطَّير تعلوه العصافير
وحكي عن عثمان رضي الله عنه أنَّه تمثل:
فلو كنت مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلاَّ فأدركني وإلاَّ أمزَّق
عن ابن سيرين عن عبيدة أنَّه قال: إن علي بن أبي طالب عليه السلام إذا أعطى فرأى ابن ملجم قال:
أريدُ حياته ويُريدُ قتلي ... عذيركَ من خَيلك من مُراد
وبلغني أن الحسين بن علي عليهما السلام دخل على معاوية وهو عليل فتشدد معاوية وجلس وأنشأ يتمثل ببيت له:
وتجلدي للشامتين أُريهمُ ... أنِّي لريب الدَّهر لا أتضعضعُ
ويروى أن يزيد بن معاوية تمثل يوم الحرَّة بقول ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شَهدوا ... جزعَ الخزرج من وَقْع الأسَل
وبلغني أن عبد الملك بن مروان تمثل:
أظنّ صروف الدَّهر بيني وبينكم ... سَتحملهُم منِّي علَى مَركب وعرِ

وإنِّي وإيَّاهم كمن نبَّه القطا ... ولو لم ينبه باتت الطَّير لا تسري
عن عروة عن عائشة قالت: وعك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين قدموا المدينة وعكاً شديداً قالت: فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلّم في زيارة أبي ومولاه بلال وعامر بن فُهيرة قالت: فدخلت على أبي بكر فذكرت الحديث ثمَّ قالت: أتيت بلالاً فوجدته يهذي وهو يقول:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بفخٍّ وحولي أذخرٌ وجليل
وهل أرِدنَ يوماً مياه تجنَّة ... وهل يبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيل
اللهم العن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام كما أخرجونا من مكة. فرجعت إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم بالذي رأيت فقال: " اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حبَّبت إلينا مكة وبارك لنا فيها كما باركت لنا في مكة وبارك لنا في صاعنا ومدنا وانقل وباءنا عنا إلى مهيعة " .
وقال زهير:
ومن يغتربْ يحسب عدوّاً صديقَه ... ومن لا يكرّمْ نفسه لم يُكرَّمِ
ومن يجعلِ المعروفَ من دونِ عِرضه ... يَفِرْه ومن لا يتَّقي الشّتم يُشتَمِ
ومن لا يذدْ عن حوضه بسلاحه ... يُهدّمْ ومن لا يظلم النَّاس لا يظلمِ
ويقال أن عمرو بن معد يكرب كان يُعد من الشجعان فلما قال:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
عُدَّ حينئذٍ من الشعراء.
وقال آخر:
أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيَّامي وحُسن بلائيا
وقد ينبت الدُّنيا عن دمِن الثَّرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا
قال القطامي:
قد يُدركُ المتأنِّي بعضَ حاجته ... وقد يكونُ مع المستعجل الزّلَلُ
والنَّاس من يلقَ خيراً قائلونَ لهُ ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهَبَلُ
وذكر أن بعض البصريين ممَّن لم يعرف بقول الشاعر ولا روايته سمع ليلة من الليالي يُنشد:
يا راقد اللَّيل مسروراً بأوَّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارك
فلمَّا أصبح وجده قد أصيب، لا يعرف سببه، ولا من أصابه.
وقال آخر:
من لم يخف صولة الليالي ... أثر في وجهه الغبارُ
من لم يُؤدِّبْهُ والداه ... أدَّبَهُ اللَّيلُ والنهارُ
وقال الخليل بن أحمد:
عش ما بَدَا لك قصرُك الموت ... لا مهربٌ منه ولا فوْتُ
ولربّ محمود صنائعه ... أودى فماتَ الذّكر والصَّوتُ
وقال سعيد بن حميد:
أحسنت ظنَّك بالأيَّام إذْ حسنتْ ... ولم تخف شرّ ما يأتي به القدرُ
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وحين تصفو اللَّيالي تحدث الغيرُ
وقال آخر:
من تحلَّى بغير ما هو فيه ... فضحته شواهد الامتحانِ
وأخو العلم تعرف العين منه ... حركات من غير لفظ لسانِ
وقال ربيعة الرقي:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أوْ لام الصديق فأكثرا
فسرْ في بلادِ الله والتمس الغِنَى ... تعشْ ذا فساد أوْ تموتَ فتُعذرا

الباب الحادي والتسعون
ذكر
ما اشتبهت معانيه واتفقت أعجازه وقوافيه
قال أبو بكر: قد جاء في شعر شعراء الجاهلية والإسلام ما يوافق بعضها بعضاً فمنها ما يتفق في المعنى دون اللفظ ومنها ما يتفق في المعنى واللفظ، فمن ذلك ما يقوي أسباب التهمة فيكاد العالم يقنع بأن المتأخر قد سرقه من المتقدم، مثل ما وقع في شعر امرئ القيس من شعر أبي دؤاد الإيادي فتقع التهمة قوية بامرئ القيس لا رواية أبي دؤاد، وكذلك يقوي التهمة بزهير فيما وقع من شعر مشبهاً لشعر أوس بن حجر، لأنه روايته، والإسلاميون أيضاً كذلك تتأكد التهمة على الرَّجُل إذا كان رواية لرجل فوجد في شعره ما يشبه شعره ككثيّر وجميل ومن جرى مجراهما ممَّن يكون الباب بتسميته. ومن لم يكن رواية شاعر بعينه إلا أنَّه علامةٌ، وبالرواية مشهور، لم يعذر محرماً لا يعرف الأخبار ولا يروي الأشعار، ونحن نقدم في هذا الباب ما يشاكل ترجمته ثمَّ نعود على ما تبقى من السرقات بعد ذلك فنذكره بعد الفراغ إن شاء الله، وقال امرؤ القيس:
فقالت ولن يُبخل عليك ويُعتللْ ... يسؤْكَ وإن يُكشف غرامُك تدْربِ
وهذا يشاكل قول طرفة بن العبد:

أجدّك إن ضنَّتْ عليك بودها ... جزعت وإن يُكشف غرامُك تدْربِ
ولست أتعجل القضاء بينهما لأن عمراً واحداً يجمعهما فلسنا نعلم أيهما أشعر من صاحبه وقال امرؤ القيس:
كبكر المقنّاة البياض بصُفرةٍ ... غَذاها نميرُ الماءِ غيرَ مُحلّل
وهذا يشبه قول طفيل الغنوي:
هجان المقاناة البياض بصفرة ... عقيلةُ جوِّ عازبٍ لم يُحلَّل
وهذا والأول سواء لأنهما كانا في عصر واحد. وقال زهير بن أبي سُلمى:
لدى أسدٍ شاكي السلاح مقاذفٍ ... له لِبَدٌ أظفارهُ لم تُقلَّم
وهذا مأخوذ من قول أوس بن حجر:
لَعمرك إنِّي والأخاليف هؤلاء ... لفي حِقبةٍ أظفارُها لم تُقلَّم
وقال زهير:
فلما عرفتُ الدَّار قلتُ لربعها ... ألا أنعمْ صباحاً أيها الربعُ واسلمِ
وهذا يشبه قول المسيب بن علس:
ألا أنعم صباحاً أيها الربع واسلم ... تحيَّة محزون وإن لم تكلَّم
وهما جميعاً متهمان بقول امرئ القيس:
ألا أنعِم صباحاً أيها الربعُ وانْطقِ ... وحدثْ حديث الحيّ إن شئت واصدقِ
وقال سالم بن وابصة:
ترى الوفود من الآفاقِ قد حفلوا ... والمبتغون إلى أبوابه طُرُقا
وقال النابغة الجعدي:
حتَّى إذا أغلَقَت وخالَفَها ... مُتسرْبل أدماً علَى الصَّدرِ
فأصابَ غرَّتها ولو شعرتْ ... حَدَبت عليه بضيق وَعْرِ
حتَّى تحدَّرَ من منازلها ... أُصُلاً بسبع ضوائنٍ وُفْرِ
وهذا مأخوذ من قول المسيب بن علس:
وغَدَت بمَسرفِها وخالَفَها ... مُتسربلٌ أدَماً علَى الصَّدرِ
فأصابَ ما حَذَرت ولو علِمت ... حَدَبت عليه بضيق وَعرِ
حتَّى تحدَّرَ من عوازبه ... أصلاً بسيح ضوائنٍ وُفرِ
وقال النابغة الجعدي:
ومَولى جفت عنه المَوالي كأنَّما ... إلى النَّاس مطليٌّ به القارُ أجرَبُ
وهذا مأخوذ من قول النابغة الذبياني:
فلا تتْركني بالوَعيد كأنَّني ... إلى النَّاس مطليٌّ به القارُ أجرَبُ
وقال الأخطل:
غرَّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارِضُها ... كأنَّها أحول العينين مكحولُ
وهذا مأخوذ من قول الأعشى:
غرَّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عواضُها ... يمشي الهُوَينى كما تمشي الوجى الوجل
قال أبو بكر: قد ذكرنا من الأشعار فيما سلف من هذا الباب ما استُعير له كلام من غيره واخترع له كلام في نفسه على ترتيب، وقال بشار:
العبدُ يُقرعُ بالعصا ... والحُرُّ تكفيه الملامَة
وهذا مأخوذ من قول الصلتان الفهمي:
العبدُ يُقرعُ بالعصا ... والحُرُّ تكفيه الإشارة
قال أبو بكر: وبلغنا أن الفرزدق مر بجميل وهو ينشد:
ترى النَّاس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النَّاس وقَفوا
فقال الفرزدق: أنت لا تحتاج إلى هذا البيت وأنا محتاج إليه لأني أهجو الرِّجال وأمدحهم فاتركه لي فتركه له وهذا من أحسن أفعال الفرزدق المحكية عنه لأنه إنَّما استوهب هذا البيت ولم يغضب عليه والهبة على كل حال خير من السرقة. وبلغني عن ابن سلام عن كرد بن البصري أن عريفهم عوف بن ثعلبة علق على الفرزدق فقال: يا عدو الله سرقتنا قول صاحبنا الأعلم العبدي حيث يقول:
إذا اغبرَّ آفاقُ السَّماءِ وكشَّفتْ ... كسورَ بيوتِ الحيِّ حمراء حَرجفُ
وجاءَ قريعُ الشَّولِ قبلَ إفالها ... رفيقاً وكانت خلفهُ وهي وقَّفُ
وباشرَ راعيها الصَّقيع كأنَّه ... علَى سَرواتِ النّيب قطنٌ مُندَّفُ
وقاتلَ كلبُ الحيِّ عن نارِ أهلهِ ... ليربضَ فيها والصّلا متكرّفُ
وبلغني أن الفرزدق وقف علَى الشمردل اليربوعي وهو ينشد:
وما بين من لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غير خَزّ الحلاقِمِ
فقال الفرزدق: لتتركنه أوْ أتركن عرضك فقال: خذه لا بارك الله فيك فأخذه وتبع الفرزدق:
لو أن جميع النَّاس كانوا بتِلْعَةٍ ... وجئتُ بجدي ظالم وابن ظالِمِ
لظلَّتْ رقاب النَّاس خاضعةً له ... سجوداً علَى أقدامنا بالجماجِمِ
فقال الفرزدق: وددت بأني سبقت إلى هذين البيتين، قيل له: كيف تقول:
بجدي دارم وابن دارم
أدخلهما بعد موته

الباب الثاني والتسعون

ذكر
ما اتفقت قوافيه واتفقت حدوده ومعانيه
قال امرؤ القيس بن حجر الكندي:
وقد أغتدي والطيرُ في وكَراتها ... بمنجردِ قيدِ الأوابدِ هيكَلِ
وله أيضاً:
وقد أغتدي والطيرُ في وكَراتها ... لغيثٍ من الوسميِّ رائدهُ خالِ
وهذا المعنى مأخوذ من قول أبي دؤاد الإيادي:
وقد أغتدي والطيرُ في وكناتِها ... بمُنجردٍ حافِ السبيبِ عتيقِ
وقال امرؤ القيس:
عيناك دَمعُهما سجالُ ... كأنَّ شأنيهما أوشالُ
أوْ جدول في ظلالِ نخلٍ ... للماءِ من تحتهِ مَجَالُ
وهكذا قول عبيد بن الأبرص:
عيناك دَمعُهما سروبُ ... كأنَّ شأنيهما شعيبُ
أو جدولٍ في ظلالِ نخلٍ ... للماءِ من تحتهِ قسيبُ
وقال امرؤ القيس:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مَطَّهُمْ ... يقولون لا تهلك أسًى وتجمَّلِ
وهذا كقول طرفة:
وقوفاً بها صحبي عليَّ مَطَّهُمْ ... يقولون لا تهلك أسًى وتَجَلَّدِ
وقال زهير:
تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائنٍ ... تحمَّلنَ بالعلياءِ من فوقِ جُرْثمِ
عَلَوْنَ بأنماطٍ عِتاقٍ وكِلّةٍ ... ورادِ الحواشي لونُها لونَ عَندمِ
وهذا مأخوذ من قول امرئ القيس:
تبصَّر خليلي هل ترى من ظعائنٍ ... ملكنا صَحيّاً بين حَزْميْ شَعَبْعَبِ
عَلَوْنَ بإنطاكيَّةَ فوقَ عِقمَةٍ ... كجَرْمةِ نخلٍ أوْ كجنَّةِ يثربِ
وقال طرفة:
فلولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفَتَى ... وجَدِّك لم أحفل مَتَى قامَ عُوَّدي
فمنهنَّ سبقي العاذلاتِ بشَربةٍ ... كُميتٍ مَتَى ما تُمْلَ بالماء تُزبِدِ
وقال الحطيئة:
نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعيّ لمَّا ... شربتُ وصابني سَهم بن عمرو
وهذا مأخوذ من قول عدي بن أوس لعدي بن زيد العبادي:
نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعيّ لمَّا ... رأتْ عيناه ما فَعَلتْ يداهُ
وقد أخذه الفرزدق وقال:
نَدِمتُ نَدامةَ الكُسَعيّ لمَّا ... غَدَتْ منِّي مُطلَّقةً نوارُ
وبيت الكُسعيّ هذا الَّذي ضربت به الأمثال:
نَدِمتُ نَدامةً لو أنَّ نفسي ... تُطاوعني إذاً لقتلتُ خمسي
وقال كثيّر:
قامتْ تودِّعُنا والعينُ ساكنةٌ ... كأنَّ إنسانها في لجَّةٍ غرِقُ
ثمَّ استدلَّت علَى أرجاء مُقلتها ... مُبادر خلساتِ الطَّرف تستبقُ
كأنَّه حين جدَّ الماقيانِ بهِ ... درٌّ تسلَّل من أسلاكه نَسَقُ
وهذا مأخوذ من قول جميل:
قامتْ تودِّعُنا والعينُ ساكبةٌ ... إنسانُها بقَضيض الدَّمع مُكتحلُ
ثمَّ استدار علَى أرجاء ساحته ... حتَّى تبادرَ منها دمعُها الهمِلُ
كأنَّه حين جد الماقيانِ به ... درٌّ تقطَّع منه السّلك مُنسجلُ
وقال علي بن أبي عاصية السلمي:
إليك بمدحتي يا خير آل ... رسول الله من ولد الرِّجالِ
ستأتيك المَدائح من رجالٍ ... كما بلغَت إلى العَرضِ النّبال
وهذا مأخوذ من قول أبي المعافى:
إليك بمدحتي يا خير آل ... رسول الله من ولد النِّساء
ستأتيك المَدائح من رجالٍ ... وما كفٌّ أصابعها سواء
الباب الثالث والتسعون
ذكر
ما استعارته الشعراء من القرآن
وما نقلته إلى أشعارها من سائر المعاني فأول فصل نذكره من ذلك ما استعاره الرَّجل من شعر شاعر غيره.
قال أبو دؤاد الإيادي:
وهادٍ تقدَّمَ لا عيبَ فيه ... كالجذعِ شُذِّبَ عنه الكَرَبْ
فأخذه امرؤ القيس:
له جُوجُوء حَشر كأنَّ لجامَهُ ... تعالى به في رأس جِذْع مُشذَّبِ
وقال أبو زياد:
ترى جارنا آمناً وسطَنَا ... يروحُ بعقدٍ قَويّ السببْ
إذا ما عقدنا لهُ ذمَّةً ... شددنا العناج وعَقدُ الكربْ
فأخذه الحطيئة:
قومٌ إذا عقدوا عقداً لجارهم ... شدُّوا العناج وشدُّوا فوقه الكَرَبا
وقال طرفة:
إذا القوم قالوا من فتًى خلتُ أنَّني ... عُنيتُ فلمْ أنكَل ولم أتبلَّد
فأخذه الراعي فقال:
إذا ما قيلَ أينَ حُماة ثغرٍ ... فنحنُ بدعوةَ الداعي عَنينا
فأخذه بشامة بن حرى:

لو كانَ في الألفِ منهُم واحدٌ ... فدعوا من فارسٌ خالهم إيَّاه يَعنونا
قال امرؤ القيس:
يُضيء الفراشَ وجهها لضَجيعِها ... كمِصباح زيتٍ في قناديلِ ذُبَّالِ
فأخذه النابغة فقال:
وتخالُها في البيتِ إذ فاجأتَها ... قد كانَ مَحجوباً سراجَ المُوقدِ
ولم يصنع النابغة في هذه السرقة قليلاً ولا كثيراً إلاَّ أنَّه لم يزد في المعنى ولا نقص فليست له فضيلة الاختصار ولا فضيلة التوكيد بل عليه فضيلة السابق على المسبوق وعليه تبديل لفظ مستحسن إلى لفظ مستحسن.
وقال امرؤ القيس:
سأكسبُ مالاً أوْ تقوم نوائحٌ ... يقُل بها قَطر الدُّموع على قَبرِي
وقال عمرو بن قميئة:
ودعوتُ ربِّي بالسَّلامة جاهداً ... ليُعينني فإذا السَّلامةُ داءُ
فأخذه حميد بن ثور:
أرَى بَصَري قد رابني بعد صحَّةٍ ... وحسبُك داءً أن تَصِحَّ وتسْلَما
وقال علقمة بن عبدة:
يجود بنفسٍ لا يُجادُ بمثلها ... فأنت بها يوم اللقاء خَصيبُ
فأخذه مسلم بن الوليد:
يجود بالنَّفس إذْ ضن الجواد بها ... والجود بالنَّفس أقصى غاية الجود
قال الأحوص:
إنِّي إذا افتخر الرِّجال رأيتني ... كالشَّمس لا تَخْفى بكُل مكانِ
فأخذه ابن هرمة:
إذا خفي القومُ الكرامُ رأيتني ... مُقارنَ شمس في المجرَّةِ أو بدْرِ

الفصل الثاني ما استعاره الشعراء من الأمثال الجارية على ألسن البلغاء
ومن الأمثال السائرة
قولهم من عَزَّ بَزَّ وللخنساء في نحو ذلك:
كأن لم يكونوا حِمًى يُتَّقى ... إذْ النَّاسُ إذْ ذاكَ من عَزَّ بَزّا
ومنها قولهم: يداك أوْكَتا وفوك نفخ. أخذه الكميت فقال:
قه لجواب ما قُلتم وأوكت ... أكفكمُ علَى ما تنفخونا
ومنها قولهم مكره أخوك لا بطل أخذه الكميت فقال:
لم يدر إلاَّ ارتجال الظنّ واصفهُ ... أمُكرهٌ هو في الهيجاء أوْ بطلُ
الفصل الثالث ما استعانت به الشعراء من كلام الله تعالى
قال الله عز وجل )إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض( فأدخلته الخنساء فقالت:
أبعدَ ابن عمرو من آل الشّريد ... حلَّتْ به الأرضُ أثقالها
فخر الشّوامِخُ من فَقْدِه ... وزُلزلتِ الأرضُ زلزالها
وقال الله عز وجل )أولى لك فأولى( فأخذته الخنساء في هذه القصيدة:
هممتُ بنفسي بعضَ الهُموم ... فأوْلى لنفسيَ أولى لها
وقال جلّ ثناؤه )بل عجبت ويسخرون( فأخذ الكميت هذا المعنى:
يَعيبونني من جُبنِهم وضلالِهم ... علَى حُبكم بل يسخرون وأعجبُ
وقال جلّ ثناؤه )فخرج منها خائفاً يترقب( فأخذه الكميت فقال:
ألم تَرني من حُبِّ آل محمد ... أروح وأغدو خائفاً أترقّبُ
وقال الله عز وجل )أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها( فأخذه الكميت فقال:
ألم يتدبَّر آيه فتدله ... علَى ترك ما يأتي أم القلبُ مُقفل
وقال الله عز وجل )يحسبون كل صيحة عليهم وهم العدو( فأخذه جرير فقال:
لا زلتَ تحسِبُ كل شيءٍ بعدهم ... خَيْلاً تكرُّ عليهم ورجالا
الباب الرابع والتسعون
ذكر
الخطأ في القول والأوزان
دون الخطأ في الإعراب والمعاني
فمن عيوب الشعراء المساندة والأكفاء والمزاحفة والأقواء والتضمين والإيطاء والخرم. فأمَّا المساندة فهي اختلاف الإعراب في أرداف القوافي مثل قول عمرو بن كلثوم:
إذا وضعت علَى الأبطالِ يوماً ... رأيتَ لها جلودَ القوم جُونا
كأنَّ غُضونهنَّ متونُ غدْرٍ ... تُصفِّقُها الرِّياح إذا جَرينا
فحرك الردف من البيت الأول وسكنه في البيت الثاني، وسبيل هذا الشعر أن يشاكل أرداف قوافيه في الإعراب ولا يضر أن يكون بعض أردافه ياءً وبعضها واواً ولا يجوز الألف بحال. وقال منصور النمري:
ما كانَ ولى أحمدُ والياً ... علَى عليٍّ فتولوا عليه
هل في رسول الله من أسوة ... له يقتدي القوم بما سنَّ فيه
وزعم قوم أن الإجارة أن تكون القوافي مقيدة فتختلف الأرداف كقول امرئ القيس:
لا وأبيك ابنةَ العامريِّ ... لا يدَّعي القومُ أنِّي أفِرْ

تميمُ بنُ مُرٍّ وأشياعُها ... وكندةَ حولي جميعاً صُبُرْ
أفلا ترى أن الفاء الَّتي هي تردف قافية البيت الأول مكسورة والفاء الَّتي هي ردف قافية البيت مرفوعة فلو اتفقت هذه الأرداف كان أحسن لأن الحركة بالحركة أشبه من الحركة بالسكون وإذا اختلفت فالعيب في اختلافهما أيسر في اختلاف ما ذكرنا قبلها.
وأمَّا الإكفاء فمن العلماء من يقول هو اختلاف القوافي وذلك أبعد ممَّا قبله من الصواب وأولى بالترك والاجتناب لأن ما قبح اختلاف إعرابه تضاعف القبح في اختلاف ألفاظه، وأنشدتني الهمدانية أعرابية رأيتها بالبادية:
ألا ليت شعري عنك يا منتهى المُنى ... إذا بنتُ بالأعداءِ خُزراً عُيونها
أترعَينَ لي عهداً كما أنا حافظ ... لعَهدك أم خان الثُّريَّا رقيبُها
وقال آخر يصف الجراد:
أباح الحمى هندٌ إن نَفَلت به ... يمانيةً زُرق بَعيد مسيرُها
إذا ارتحلت عن منزل غادَرَت به ... رَدَايا نعاج بالتُّراب ظعينُها
وهذا هو مختلف القوافي لأن ياء القافية إنَّما هي الحرف الَّذي يلحقه الإعراب، فالإعراب ربما كان ياء وربما كان واواً فلا تغترر بحرف تراه آخر البيت فربما بين القافية وبين آخر البيت حرف وربما كان من الشعر ما يحتاج قافية كل بيت منه إلى أربعة أحرف لوازم لا بد منها وإلاَّ لم يكن شعراً، فمن ذلك قول لبيد:
عَفَت الدِّيار محلها فمقامها ... بمنًى تأبَّدَ غولها فرجامها
فالألف الَّتي قبل الميم ردف القافية والردف إذا كان ألفاً لم يصلح أن ينوب غيرها كما إذا كان الردف ياءً أو واواً نابت عنها صاحبتها، والميم هي القافية لأن الإعراب يقع ولا بد من الألف الأخير وإلاَّ جاء بعض القوافي مذكراً وبعضها مؤنثاً وبعضها مضموماً وهذا لا يصلح بحال فكذلك لم يجز أن يكون في هذه الأبيات الَّتي ذكرناها ما يأتي قبل الهاء منه راء ولا يأتي قبلها منه ذال من قبل إن ما قيل الهاء هو حرف القافية ولا بد للشاعر من لزوم الميم، وقد جاء في الشعر ما هو أقبح من هذا كله فذلك أن هذه الأنواع الَّتي ذكرناها إنَّما هي عيوب يفهمها من يعلمها ويديرها والَّذي نحن إن شاء الله ذاكروه نفسه على عينة كل من سمعه:
قُبِّحتِ من سالفة ومن صُدُغْ ... كأنَّها كُشْيَةُ ضَبّ في صُقُعْ
وقال آخر:
يا رب جعد فيهم لو تدرين ... يضربُ ضَرب السّبط المقاديمِ
وبلغني عن الخليل بن أحمد أنَّه كان يسمي هذا إجازة وإذا صفح عن هؤلاء الفصحاء المطبوعين فما معنى إنكاره على من حدث من المتكلفين.
وبلغني أن رجلاً جاء إلى دعبل بن علي ليلاً فقال له: قد صنعتُ شعراً لم يتقدمني فيه أحد إلاَّ النابغة وأمثاله ولا تحسنن أن تقول مثله قال هو فأنشده:
إنَّ ذا الحُبّ سَقم ... ليس يُنهيه القَرار
ونَجَا من كانَ لا يع ... شق من ذُل المخازي
قال دعبل: فقلت له ويحك قافية البيت الأول راء وقافية البيت الثاني زاي، قال: فقال لا تتعظ فيفطنوا، قال: فقلت له فالأول مرفوع القافية والثاني مخفوض القافية. قال: فقال لي انظر إلى حمقه أنا آمره لا ينقط وهو يشكل.
وأمَّا المزاحفة فمثل قول امرئ القيس الكندي:
وتَعرف فيه من أبيهِ شَمائلاً ... ومن خالِهِ ومن يَزيد ومن حُجُرْ
سماحةَ ذا وبرَّ ذا ووفاءَ ذا ... ونائلَ ذا إذا صَحَا وإذا سكرْ
وهذان البيتان يقول كثير من الرواة أن امرأ القيس لم يقل خيراً منهما ولا قال أحد مثلها في معناهما، فأمَّا الأول منهما ففي المصراع الثاني فيه نقصان، وأمَّا البيت الثاني فمصراعاهما ناقصان. وقال زهير:
من الأكرمين منصباً وضَريبةً ... إذا ما شَتَا تأوي إليه الأراملُ
إذا نهبُوا نهباً يكونُ عَطاؤهُ ... صَفايا المَخاض والعِشارُ المطافِلُ
وقال زهير أيضاً:
مَتَى يشتجر قومٌ يقُلْ سَرَواتهم ... هُمُ بيننا فهُمُ رِضاً وهُمُ عدلُ
فرحتُ بما أخبرت عن نسبيكُما ... وكانا امرأينِ كلُّ شأنهما يعلو
وأمَّا الإقواء فزعم أبو عمرو انه اختلاف الإعراب في القوافي. قال النابغة الذبياني:
زَعم البوارح أن رحلتنا غداً ... وبذاك خبرنا الغرابُ الأسودُ

لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً بهِ ... إذْ كانَ تفريقُ الأحبَّة في غدِ
فيقال أنَّه لم يعلم، حتَّى غُنِّي بحضرته فوقف حينئذ على عيبه، قال النابغة أيضاً:
قالتْ بنو عامر خالوا بني أسدٍ ... يا بؤسَ للحربِ ضرَّاراً لأقوامِ
وفي هذه القصيدة يقول:
تبدو كواكبُهُ والشَّمسُ طالعةٌ ... لا النّور نورٌ ولا الإظلامُ إظلامُ
وقال بشر بن أبي حازم:
ألا ظعنتْ لنيَّتها أرامُ ... وكلّ وصال غانيةٍ رِمام
وفي هذه القصيدة يقول:
وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فسُقناهم إلى البلدِ الشَّآمي
وإنَّما يتساهل في اختلاف إعراب القوافي إذا كان بعضها مرفوعاً وبعضها مخفوضاً، فأمَّا النصب فلا يصلح معه غيره البتَّة لا في شعر جاهلي ولا غيره، وأمَّا قول جرير:
برئتُ إلى عرينةَ من عَرينِ
فهذا إنَّما بناه على الوقف ولو أعربه لفسد الشعر فاختار أن ينقص من عروضه حرفاً لا يضرّه على أن يتم العروض فيفسد شعره. وقد زعم غير أبي عمرو أن اللحن في القوافي إنَّما هو الإكفاء والإقواء هو نقصان حرف من فاضلة البيت وإنَّما سميت الإقواء لأنه نقص من عروضه قوّة. ويقال: أقوى فلان الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وأمَّا التضمين فهو أن يكون محتاجاً إلى ثانية فلا يفهم معناه حتَّى يسمع ما يليه.
قال بشر بن أبي حازم:
فسائلْ تميماً وأشياعَها ... وسائل هَوازنَ عنَّا إذا ما
لقيناهُمُ كيفَ نَقضيهُمُ ... كما تستخفُّ الجنوبُ الجهَاما
وقال شبيب:
ألم تراني أدركتني حفيظتي ... فدافعتُ عن أنسابِ مُرَّةَ بعدما
تناسى الجديد إن الحياء وشمرت ... فصول الثياب فاختلَين المجذَّما
وفي ذلك يقول الآخر وهو الشعر الجاري على ألسن الخاصة والعامة:
اشدُدْ حيازيمك للموت ... فإنَّ الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حلَّ بناديكا
فزاد في الوزن " اشدد " وهي كلمة فيها أربعة حروف لا تحتاج عروض الشعر إلى واحد منها.
قالت الخنساء:
قذًى بعينك أمْ بالعينِ عُوَّارُ ... أم أوحشت إذْ خلتْ من أهلها الدَّارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وقد ثُكلتْ ... ودونهُ من جديد التُّرب أسفارُ
فزادت في البيت الأول الهاء لا تحتاج العروض إليها.

الباب الخامس والتسعون
ذكر
من استدل بأشعاره على سوء اختياره
أول ما نذكره إن شاء الله في هذا الباب ما جاء في الشعر من معنى قبيح ولفظ غير عذب ولا فصيح.
قال امرؤ القيس:
إذا لم تكن إبلٌ فمعْزَى ... كأنَّ قرونَ جلَّتها العصيُّ
إذا ما قامَ حالبُها أرَنَّتْ ... كأنَّ الحيَّ بينهُم نَعيُّ
فيملأُ بيتنا أقِطاً وسَمْناً ... وحسبكَ من غنًى شبَعٌ ورِيُّ
وإن هذه لقناعة تدل على ضعة ورقاعة، لأن من اقتصر ورضي من المطالب بما يملأ به بطنه وأضرب عن المكارم صفحاً، فقد دل على نقصان همَّةٍ وإيضاع رتبة، وإن الشاعر ليهجو عدوه بما مدح هذا به نفسه فيكون بالغاً في ذمّه.
قال حسان بن ثابت:
إنِّي رأيتُ من المكارمِ حسبكُمُ ... أن تلبسوا خَزّ الثيابِ وتُشبعوا
فإذا تذوكرت المكارِم مرَّةً ... في مجلسٍ أنتم بهِ فتقنَّعُوا
على أن حسان بن ثابت لم يبلغ به في هجائه ما بلغه امرؤ القيس بنفسه في افتخاره لأن امرأ القيس قنع بالشبع والرِّي وحساناً هجاهم باقتصارهم على خزّ الثياب مع الطعام والشراب.
وقال امرؤ القيس:
فللزَجر أُلهوبٌ وللساق دِرةٌ ... وللسَّوطِ منهُ وقْعُ أخرج مُهذب
وهذا ممَّا يعاب على قائله لأنه يدل على استحثاث شديد وذلك إما لعجز الفارس وإما لنقصان نفس الفرس.
وقال امرؤ القيس:
وأركبُ في الرَّوع خيفانةً ... كسا وجهها سَعفٌ مُنتشرْ
لها ذنَبٌ مثل ذَيْل العَرو ... س تسدُّ به فرجَها من دُبُرْ
وهذا ممَّا يعاب عليه لأن كثرة شعر الناصية معدود في عيوب الخيل فكان السكوت عن ذكره أولى من الافتخار لها به. والذنب لا يسدّ الفرج إلاَّ من دبر وكان هذا حشو في الكلام لا عيب في ذكره.
وبلغني أن رجلاً جاء إلى بعض العلماء فقال له: إنِّي صنعتُ شعراً فأريد عرضه عليك فقال: هاته. فأنشأ يقول:

إن جسمي سلّ من غيرِ مرض ... وفؤادي لجوى الحزن غرض
فقال: أحسنت ثمَّ ماذا؟ قال:
كجراب كانَ فيه جُبن ... دخل الفأر عليه فقرض
فازداد عقله واستضحك من شعره. وأنشدني بعض النحويين قال: أنشدني رجل لنفسه:
وجاريةٍ روميَّةٍ صقلبيّة ... معتّقة ممَّا تعتَّق بابلُ
له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاءُ سرحان وتقريب تتفل
وقد ذكرنا في هذين الفصلين طرفاً من سوء الاختيار في نظم المعاني والألفاظ في الأشعار، ونحن - إن شاء الله - نذكر الآن في هذا الفصل الثالث طرفاً من الشعر الجيد الصنعة، الملحق بقائله ضرباً من الضعة فمن ذلك قول الفرزدق:
دفعنَ إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهنَّ اصحّ من بيض النّعام
فبتنَ علَى اليدين مُصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الختام
وبلغني أن عبد الملك قال له: لآخذنَّك باعترافك بالزنا على نفسك فقال: يا أمير المؤمنين يمنعك من ذلك أنه كتاب الله قال: وما هي؟ قال: والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فصفح عنه.
وقال آخر:
وإنِّي لأستحيي من الله أن أَرَى ... أجرّرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ
وأن أسأل المرء اللَّئيم بعيرَهُ ... وبعران ربِّي في البلادِ كثيرُ
عوى الذِّئب فاستأنستُ للذئب إذْ عوَى ... وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ
يرى اللهُ أنِّي للأنيسِ لشانئ ... وتُبغضهمْ لي مقلةٌ وضميرُ
وقال براقة الهمداني:
مَتَى تجمع القلب الذّكيّ وصارماً ... وأنفاً جميعاً تجتنبك المظالمُ
ومن يكسب المالَ الممنَّع بالقنا ... يعش ماجداً أوْ تخترمه المخارمُ
كأنَّ حَريماً إذْ رجا أن يردَّها ... ويذهبَ مالي يا ابنة القين حالمُ
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دامَ للسَّيف قائمُ

الباب السادس والتسعون
ذكر
تشبيهات ما بقي من الموصوفات
وقد ذكرنا من صفات البحار والفلوات والخمور وآلات الصيد وسائر الدواب فيما قدمناه من الأبواب ما في بعضه بلاغة للمتأدبين، وكفاية للمفتشين، ونحن الآن نذكر - إن شاء الله - ضروباً من التشبيهات لأنواع من الموصوفات التي لو أفردنا كل موصوف منها في باب لما احتمله عدد أبواب الكتاب ولدخلنا في باب التطويل والإكثار إن لم نعجز عنه ما نحفظه من الشعار وسيستبين كل - إن شاء الله - في جران العود وحدها أن لو أفرد كل مشبه فيها بباب لم يصلح بناؤه على ترتيب هذا الكتاب.
قال امرؤ القيس:
ديمةٌ هطلاءُ فيها وَطَفٌ ... طبقُ الأرض تحرَّى وتَدُرْ
وترى الشَّجراءَ من رَيّقها ... كرؤوسٍ قُطِّعتْ فيها الخُمُرْ
ساعةً ثمَّ انتحاها وابلٌ ... ساقطُ الأكتافِ واهٍ مُنهمرْ
وقال عبيد بن الأبرص وتروى لأوس بن حجر:
دانٍ مسفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبهُ ... يكادُ يدفعهُ منْ قامَ بالرَّاحِ
فمنْ بنجوتهِ كمنْ بعقوتهِ ... والمستكنُّ كمنْ يمشي بقرواحِ
كأنَّ فيه إذا ما الرعد فجَّرهُ ... دهماً مطافيل قد همَّتْ بأرشاحِ
وقال ذو الرمة:
وهاجرة حرّها واقدٌ ... نصبت لحاجتها حاجبي
تلوذ من الشَّمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالبِ
وتسجدُ للشَّمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرَّاهبِ
وقال آخر:
يوم من الزّمهرير مقرور ... عليه جيبُ الضَّباب مزرورُ
كأنَّما حشو جوِّه إبرٌ ... وروضةٌ حشوها قواريرُ
وشمسُهُ حُرَّةٌ مُخدَّرةٌ ... ليسَ لها من ضيائِهِ نورُ
وقال جران العوْد النميري:
ذكرتُ الصِّبا فانهلَّتْ العينُ تذرفُ ... وراجعكَ الشَّوقُ الذي كنتَ تعرفُ
وكانَ فؤادي قد صحا ثمَّ هاجني ... حمائمُ ورقٌ بالمدينةِ هتَّفُ
لحقنَا وقد كانَ اللُّغامُ كأنَّهُ ... بلحي المهارى والخراطيمِ كرسفُ
وما ألحقتنا العيسُ حتَّى تناضلتْ ... بنا وتلانا الأخرُ المتخلِّفُ
وكانَ الهجانُ الأرحبيُّ كأنهُ ... تراكبهِ جونٌ من الجهدِ أكلفُ
وفي الحيِّ ميلاءُ الخمارِ كأنَّها ... مهاةٌ بهجلٍ من أديمَ تعطَّفُ

شموسُ الصِّبا والأنسِ محفوظةُ الحشا ... قتولُ الهَوَى لو كانتِ الدَّارُ تسعفُ
كأنَّ ثناياها العذابَ وريقهَا ... ونشوةَ فيها خالطتْهنَّ قرْقفُ
تهيمُ جليدَ القومِ حتَّى كأنّهُ ... دوًى يئستْ منهُ العوائدُ مدنفُ
وقالت لنا والعيسُ صعْرٌ من البُرى ... وأخفافها بالجندلِ الصُّمِّ تقذفُ
حُمدتَ لنا حتَّى تمنَّاكَ بعضُنا ... وأنتَ امرؤٌ يعروكَ حمدٌ وتُعرفُ
وفيكَ إذا لاقيتنا عجرفيَّةٌ ... مراراً ولا نسْتيعُ من يتعجرفُ
تميلُ بكَ الدنيا ويغلبكَ الهوى ... كما مالَ خوَّارُ القنا المتقصِّفُِ
فموعدكَ الشَّطُّ الذي بينَ أهلنا ... وأهلك حتَّى تسمع الديك يهتفُ
وتكفيكَ آثار لنا حين نلتقي ... ذيولٌ نُعفِّيها بهنَّ ومطرفُ
ومسحبُ ريطٍ فوقَ ذاكَ ويُمنةٍ ... تسوقُ الحصا منها حواشي رفرفُ
فتُصبحُ لم يُشعرْ بنا غير أنَّنا ... على كلِّ ظنٍّ يحلفونَ وتحلفُ
فبتنا قعوداً والقلوبُ كأنَّها ... قطا شُرَّع إلا شراكِ مما تخوَّفُ
ولمَّا رأينَ الصُّبحَ بادرنَ ضوءهُ ... دبيبَ قطا البطحاءِ أو هنَّ أقطفُ
وأدركنَ أعجازاً من اللَّيلِ بعدما ... أقامَ الصَّلاةِ العابدُ المتحنِّفُ
وما أُبنَ حتَّى قلنَ يا ليتَ أنَّنا ... ترابٌ وليتَ الأرضَ بالناسِ تخسفُ
فإن ننجُ من هذي ولم يشعروا بنا ... فقد كانَ بعضُ الخيرِ يدنو فيُصرفُ
وقال عبد بني الحسحاس:
كأنّ الثُّريَّا علِّقتْ فوقَ نحرها ... وجمرَ الغضا هبَّت لهُ الرِّيحُ ذاكيا
وجيدٍ كجيدِ الرِّيم ليسَ بعاطلٍ ... من الدُّرِّ والياقوتِ والشَّذرِ حاليا
فأقبلن يحفظن الجنان كأنَّما ... قتلن قتيلاً أوْ أتينَ الدَّواهيا
وأصبحنَ صرعى في البيوتِ كأنَّما ... شربنَ مُداماً ما يُجبنَ المناديا
وقال الحسين بن مطير:
أينَ إخواننا علَى الأحساءِ ... أين جيرانُنا علَى الدَّهناءِ
فارقونا والأرضُ مُلبسَةٌ نَوْ ... رَ الأقاحي تُجادُ بالأنْواءِ
كلّ يومٍ عن أقحوانٍ جديدٍ ... تضحك الأرضُ من بكاءِ السَّماءِ
وقال البحتري:
يا مَن رأى البركة الحسناءَ رؤيتَها ... والآنساتِ إذا لاحتْ مَغانيها
كأنَّما الفضَّةُ البيضاءُ سائلةً ... من السَّبائك تجري في مَجاريها
فحاجب الشَّمس أحياناً يُضاحكها ... ورَيِّقُ الغيثِ أحياناً يُباكيها
إذا النجومُ تراءَتْ في جوانبها ... ليلاً حسِبتَ سماءً رُكِّبتْ فيها
كأنَّها حين لجَّتْ في تدفُّقها ... يدُ الخليفةِ لما سالَ واديها

الباب السابع والتسعون
ذكر
ما لا يصلح أن يعرى منه الكتاب ولا يحتمل
الشعبي قال: أرسل مروان إلى أيمن بن خريم ألا تُعيننا على ما نحن فيه؟ قال: إن أبي وعمي شهدا بدراً وإنهما عهدا إليَّ أن لا أُقاتل أحداً شهد أن لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسول الله، فإن أنت حبيتني ببراءة من النَّار قاتلت معك. قال: لا حاجة لنا في معونتك فخرج وهو يقول:
فلستُ بقاتلٍ رجُلَّ يصلِّي ... علَى سُلطان آخرَ من قريش
لهُ سُلطانه وعليَّ إثمي ... معاذ الله من سفهٍ ومن طيش
محمد بن إسحاق عن من حدَّثه قال: كان أبو عزَّة عمرو بن عبد الله الجمحي أُسر يوم بدر فقال للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: يا محمد إنَّه ذو بنات وحاجة وليس بمكة أحد يعرفني وقد عرفت حاجتي فحقن رسول الله صلى الله عليه وسلّم دمه فأعتقه وخلَّى سبيله، وعاهده أن لا يعين عليه بيد ولا لسان، فامتدح نبي الله صلى الله عليه وسلّم حين عفا عنه فقال:
ألا أبلغا عنِّي الرَّسول محمَّداً ... بأنَّك حقّ والحليم رشيدُ
فإنَّ الَّذي حاربته لمحارَبٌ ... وإنَّ الَّذي سالمته لسعيدُ
قال ابن المبارك ورادني غيره:
ولم أنسَ منك العفو يوم أسرتني ... ولكن حتَّى ما يبين شديد
وبلغني أن راكباً من البصرة مرَّ بجرير فقال له جرير: ما وراءك؟ قال: ورائي موت الفرزدق. وكان كل واحدٍ من جرير والفرزدق قد جعل على نفسه أن يهجو صاحبه إن مات قبله فقال جرير:

مات الفرزدق بعدما جدَّعتُهُ ... ليت الفرزدق كانَ عاشَ قليلا
ثمَّ قال: والله لا أزيد عليه شيئاً. فأنشأ يقول:
فُجعنا بحمال الديات ابن غالبٍ ... وحامي تميمٍ عِرضَها والمُراجمِ
بكيناك حِدثان الفراقِ وإنَّما ... بكيناكَ إذْ نابتْ أمور العظائمِ
فلا حمَلَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيّ الرَّواسمِ
وقال أيضاً:
فلا حمَلَتْ بعد الفرزدق حُرَّةٌ ... ولا ذاتُ بعلٍ من نفاس تعلَّتِ
هو الواحد المحمود والرَّاتق الَّذي ... إذا النَّعلُ يوماً بالعشيرةِ زلَّتِ
ثمَّ قال: إنَّه والله ما تصاول فحلان فمات أحدهما إلاَّ كان الآخر سريع اللحاق، فما لبث جرير إلاَّ يسيراً حتَّى هلك.
وبلغني أن خالد بن عبد الله القسري عرض سجنه فعرض عليه يزيد البلخي فقال له: يزيد. قال: لبيك أيها الأمير، قال: محبوسٌ أنت. قال: نعم. قال: في أي شيء؟ قال: في تهمة. قال: تعود إلى ما اتهمت به إن أطلقتك؟ قال: لا فأطلقه، وكان عاشقاً لجارية من جواري الحيّ. فأخذوه أولياء الجارية ليلاً فقدموه إلى خالد وقالوا: سارق. فقال: أسرقت يا يزيد وبالأمس أطلقتك؟ قال: نعم أيها الأمير، وكره أن يصرح بالقصة فتفضح صاحبته وينالها أهلها ببعض ما تكره، فقال خالد لأولياء الجارية: أحضروا رجال الحيّ حتَّى تقطع يده بحضرتهم. فكتب أخو يزيد إلى خالد شعراً:
أخالدَ قد والله وطِّئتَ غَشوةً ... وما العاشق المسكين فينا بسارقِ
أقرَّ بما لم يأته العبد إنَّه ... رأى القطيع خيراً من فضيحة عاتقِ
ولولا الَّذي قد خفت من قطع كفِّه ... لألفيت في أمرِ الهَوَى غير ناطقِ
إذا بدت الغايات في السّبق للعلى ... فأنت ابن عبد الله أوَّل سابقِ
وبعث بالكتاب إلى خالد، فلما قرأ الأبيات أحضر أولياء الجارية فقال: زوّجوا يزيداً فتاتكم. قالوا: ظهر عليه ما ظهر فلا. فقال: لتزوجونه طائعين أوْ كارهين. فزوجوه ونفذ خالد المهر من عنده وجمع بينهما.

الباب الثامن والتسعون
ذكر
ما للنساء من المختار في جميع صنوف الأشعار
أنشدني بعض أهل الأدب لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليهما:
قد كنتُ ذات حميّةٍ ما عشتَ لي ... أمشي البراحَ وأنتَ كنت جناحي
فاليوم أخضعُ للضعيفِ وأتقي ... منه وأدفعُ ظالمي بالراحِ
وإذا دعت قمريَّة شجناً لها ... ليلاً علَى فننٍ بكيت صباحي
وأنشدني أيضاً لها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها:
قد كانَ بعدَكَ أنباءٌ وهَنْبَثَةٌ ... لو كنتَ شاهدَها لم تكثرِ الخُطَبُ
إنَّا فقدناكَ فقدَ الأرض وابلَها ... فاحتل لقومك فأشهدهم ولا تغب
أبدى رجال لنا فحوَى صدورهم ... لما حجبت وحالتْ دونك الكثبُ
تجهمتنا رجالٌ فاستخفَّ بنا ... مذْ غبت عنَّا وكلّ الخير قد غصبوا
سيعلم المتولّي ظلم حامينا ... يوم القيامة أنِّي كيف أنقلبُ
وقالت أسماء بنت أبي بكر في قتل ابنها عبد الله بن الزبير:
ليس لله محرمٌ بعد قومٍ ... قتلوا بين زمزمٍ والمقامِ
قتلتهم جفاة عل ولحم ... وصلا وحميرٍ وجذامِ
وتزوج رجل من همدان ابنة عمٍّ له، فلم يلبث أن ضرب عليه التعب إلى أذربيجان فأصاب بها خيراً، فاستعاد بها جارية وفرساً، فسمَّى الفرس الورد والجارية حبابة ثمَّ قفل، فأتاه ابن عم له فقال: ما يمنعك من القفول؟ فقال: أخشى ابنة عمي أن تحول بيني وبين هذه الجارية وقد هويتها، وأنشأ يقول:
ألا لا أُبالي اليوم ما فعلتْ هندُ ... إذا بقيت عندي حبابة والورد
شديد نياط المنكبين إذا جرَى ... وبيضاء مثل الرِّيم زيَّنها العقد
فهذا لأيَّام الهياج وهذه ... بموضع حاجاتي إذا انصرف الجند
فبلغها الشعر فكتبت إليه:
لعمري لئن شطَّت بعثمان داره ... وأضحَى غنيّاً بالحبابة والوردِ
ألا فأقره منَّا السَّلام وقلْ لهُ ... غنينا بفتان غطارفة مردِ
إذا شاءَ منهم ناشئ مدَّ كفَّه ... إلى كفلٍ ريَّان لو كعثب نهدِ
إذا رجع الجند الَّذي أنتَ فيهم ... وزادكَ ربّ النَّاس بُعداً علَى بعدِ

فلما وصلت أبياتها إليه باع الجارية، وأقبل مسرعاً فوجدها معتكفة في مسجدها وصلاتها فقال: يا هند فعلت ما قلن. قالت: الله أجلّ في عيني وأعظم من أن أرتكب المأثم ولكنه كيف وجدت طعم الغيرة فإنك عطتني فعطتك.

الباب التاسع والتسعون
ذكر
ما سمع من الأشعار ولم يظهر قائله للأبصار
أبو جعفر محمد بن علي قال: دخل سواد بن قارب السدوسي على عمر بن الخطاب فقال: نشدتك الله يا سواد هل تحسن اليوم من كهانتك شيئاً؟ فقال: سبحان الله والله ما استقبلتَ أحداً من جلسائك بمثل الَّذي استقبلتني به. فقال: سبحان الله يا سواد ما كنَّا فيه من شركنا أعظم ما كنت عليه من كهانتك، والله يا سواد لقد بلغني عنك حديث إنَّه لعجب قال: أي والله لعجب من العجب. قال: فحدثنيه. قال: كنت كاهناً في الجاهلية، فبينا أنا ذات ليلة إذ أتاني نجيّ فضربني برجله وقال: يا سواد اسمع اسمع أقلْ لك. قلت: هات. فقال:
عجبتُ للجنّ وأنجاسها ... ورحلها العيس بأحلاسها
نبغ إلى مكَّة نبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل أرجاسها
فارحل إلى الصّفوة من هاشمٍ ... واسمُ بعينيك إلى رأسها
قال: فنمت ولم أحفل بقوله شيئاً، فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: يا سواد بن قارب اسمع أقل لك قلت: هات فقال:
عجبت للجنّ وتطلابها ... ورحلها العيس بأقتابها
تهوى إلى مكَّة تبغي الهدى ... ما صادف الجنّ ككذَّابها
قال: فحرَّك قوله منِّي شيئاً، ونمت فلمَّا كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: يا سواد أتفعل أم لا؟ قال: قلت ولم ذاك؟ قال: قد ظهر بمكة بنيّ يدعو إلى عبادة ربه فالحق به اسمع ما أقول. قال: قلت: هات. قال:
عجبت للجنّ وأخبارها ... ورحلها العيس بأكوارها
تهوى إلى مكَّة تبغي الهدى ... ما مؤمنوها مثل كفَّارها
فارحل إلى الصّفوة من هاشمٍ ... بين روابيها وأحجارها
قال: فعلمت أن الله عز وجل قد أراد بي خيراً فقمت إلى بردةٍ لي ففتقتها ووضعت رجلي في عرر ركاب الناقة ثمَّ أقبلت إلى النَّبيّ صلى الله عليه وسلّم، فعرض علي الإسلام فأسلمت وأخبرته بالخبر فقال: " إذا اجتمع النَّاس فأخبرهم " ، فلما اجتمع النَّاس قمت فقلت:
أتاني نجيُّ بعد هدْءٍ ورَقدةٍ ... ولم يكُ فيما قد تلوت بكاذبِ
ثلاث ليالٍ قَوله كلّ ليلةٍ ... أتاك رسولٌ من لُؤي بن غالبِ
فشمَّرت عن ذَيْلي الإزار وأدلجت ... بي الذعلبُ الوجناءُ غُبر السَّباسبِ
فأعلم أنَّ الله لا ربَّ غيرهُ ... وأنَّكُ مأمون علَى كلِّ غائبِ
وأنَّك أدنَى المرسلينَ وسيلةً ... إلى الله يا ابن الأكرمين الأطايبِ
فمُرْنا بما يأتيك يا خير مرسلٍ ... وإنْ كانَ فيما حال شيب الذوائبِ
فكن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعةٍ ... سواك بمغنٍ عن سواد بن قاربِ
قال: فسُرَّ المسلمون بذلك. فقال عمر: هل تحسنن اليوم منها شيئاً؟ قال: أما مذ علمني الله القرآن فلا. وفي حديث أم معبد الطويل أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين خرج من مكة مهاجراً إلى المدينة فذكر كلاماً كثيراً فيه، فأصبح صوت بمكة عال، يسمعون ولا يدرون من قائله وهو يقول:
جزَى اللهُ ربّ النَّاس خير جزائهِ ... رَفيقين حلاَّ خيْمتي أُمِّ معبدِ
هُما نزلاها بالهُدى واهتدتْ به ... فقد فازَ من أمسى رفيق محمَّدِ
فيا لقصيٍّ ما زوَى الله عنكُمُ ... به من فعالٍ لا يُجازى وسؤددِ
ليهنئ بني كعب مقامٌ فتاتهم ... ومقعدُها للمؤمنينَ بمرْصَدِ
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها ... فإنَّكُم إن تسألوا الشاة تشهدِ
فلما سمع حسان بهتاف الهاتف قال يجاوبه:
لقد خابَ قومٌ زالَ عنهم نبيُّهمْ ... وقُدِّسَ من يَسري إليهم ويغتدي
ترحَّلَ عن قوم فضلَّت عُقولهمْ ... وحلَّ على قومٍ بنورٍ مجدّدِ
هَداهُمْ به بعدَ الضَّلالةِ ربُّهم ... وأرشدهمْ من يتْبع الحقّ يرشدِ
نبيٌّ يرَى نا لا يرَى النَّاسُ حولَهُ ... ويتلو كتابَ الله في كلِّ مسجدِ
وذكر عن ابن عيينة عن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس قال: لما قتل هابيل قابيل قال آدم عليه السلام:

تغيَّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرٌّ قبيحُ
تغيَّر كلّ ذي طعمٍ ولونٍ ... وقلَّ بشاشةَ الوجه المليحُ
فأجابه إبليس لعنه الله:
تنحّ عن البلادِ وساكنيها ... ففي الخلدِ ضاقَ بك الفسيح
وكنتَ بها وزوجكَ في رجاءٍ ... وكنتَ من أذَى الدُّنيا مريح
فما انفكَّت مكايَدَتي ومكري ... إلى أنْ فاتَكَ الثَّمن الرَّبيح
قال: بكت الجنّ على عمر ثلاثة أيام يسمع النَّاس أصواتهنّ في طرقات المدينة وقالت:
ليبكي على الإسلامِ مننْ كانَ باكياً ... فقد أوشكوا هلكاً وما قدم العهدِ
وأدبرتِ الدُّنيا وأدبَرَ أهلُها ... وقدْ ملَّها من كانَ يؤمن بالوعدِ
ونظر رجلٌ فإذا هاتفٌ يقول:
كذاكَ الزَّمان وتكراره ... ومرّ اللَّيالي وطول القدم
يشيب الصَّغير ويفني الكبير ... وينأى الشَّباب ويبدي الهرم

الباب المائة وهو الخاتمة
ذكر
ما جاء في الأراجيز من المختار مفرداً على جملة الأشعار
عن البراء بن عازب قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم حفر الخندق ينقل معنا التّراب وهو يقول:
والله لولا اللهُ ما اهْتَدَينا ... ولا تَصَدَّقنا ولا صلَّينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا ... وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
عن رجاء قال: قلت للبراء: يا أبا عمارة أوليتم عن النَّبيّ صلى الله عليه وآله يوم حُنين. قال: أما أنا فاشهد أن رسول الله صلى الله عليه لم يتول يومئذٍ ولكن هوازن لما رشقتنا بالنبل ولى سرعان النَّاس ولقد سمعته يقول:
أنا النَّبيّ لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبد المطَّلبْ
الأسود بن قيس قال: سمعت جندباً قال: بينا رسول الله عليه السلام يمشي إذ أُصيب إصبعه فدميت:
هلْ أنتِ إلاَّ إصبعٌ دميتِ ... وفي سبيلِ الله ما لقيت
وقالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه قال: قال حسان:
هجوت محمَّداً برّاً تقيّاً ... رسول الله شيمتُه الوفاءُ
فإنْ أعرضتُمُ عنَّا اعْتمرنا ... وكانَ الفتح وانكشفَ الغطاءُ
وإلاَّ فاصبروا لجلاد يومٍ ... يُعِزُّ الله فيهِ منْ يشاءُ
ومنْ يهجو رسول الله منكم ... ويمدح وينصره سواءُ
أتهجوهُ ولستَ له بكُفْؤٍ ... فشرّكما لخيركما الفِداءُ
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: " إن من الشِّعر لحكماً وإنَّ من البيان لسحراً " .
هذا آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين وصلواته على خير خلقه أجمعين سيدنا وسيد الأوَّلين والآخرين محمَّد النَّبيّ وآله الطَّاهرين.
وافق فراغه يوم الثلاثاء خامس عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وتسعين.

أقسام الكتاب
1 2 3 4