كتاب : الزهرة
المؤلف : ابن داود الأصبهاني

الباب الأول
من كثُرت لحظاته دامت حسراته
قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجّاً فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها وهي تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائداً ... لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لامرأةٍ من الأعراب:
أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى ... أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ
وكلهمُ قدْ خالهُ في فؤادهِ ... بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ في الشِّعرِ
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ ... ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى ... وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ
وقال آخر:
تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا ... منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ
ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ ... فيا عجباً للقاتلاتِ الضَّعائفِ
وللعينِ ملهًى في التلادِ ولمْ يقدْ ... هوَى النَّفس شيئاً كاقتيادِ الطَّرائفِ
وقال آخر:
وكمْ منْ فتًى جَلدٍ يقادُ لحينهِ ... بطرفٍ مريضِ النَّاظرَينِ كحيلِ
إذا ما الهوى منهُ تعزَّزَ جانبٌ ... فما شئتَ مِن مقتولةٍ وقتيلِ
وقال جرير بن عطية:
إنَّ العيونَ التي في طرفِها مرضٌ ... قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
وقال جميل بن معمر العذري:
رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى ... وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ
رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ ... ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي
أما معنى البيت الأول فقبيح أن يجعل في الغزل إن كان قصد في باطنه ما يتبين في ظاهره وقد زعم بعض أهل الأدب أن قوله رمى الله في عيني بثينة بالقذى إنَّما عنى به الرَّفيبَ وقوله. وفي الغرّ من أنيابها إنَّما عنى به سروات قومها والقوادح الحجارة وقد عرضتُ هذا القول على أبي العباس أحمد بن يحيى فأنكره وقال لم يعن ولم يرَ به بأساً العرب تقول قاتله الله فما أشجعه ولا تريد بذلك سوءاً.
وقال العديل بن الفرج العجلي:
يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى ... فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ
وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا ... حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ
فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ ... إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي
يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها ... ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:
سَمْعي وطرفي حليفَا أعلَى جسدي ... فكيفَ أصبرُ عنْ سمعي وعنْ بصري
لوْ طاوَعاني علَى أنْ لا أُطاوعَها ... إذاً لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري
وقال يزيد بن سويد الضبعي:
بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها ... كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ
ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها ... منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ
وأنشدني بعض الكلابيين:
يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ ... تَثني إليهِ أعنَّةَ الحدقِ
لي منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ ... نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ
لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ ... وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ
وقال آخر:
دعا قلبهُ يوماً هوًى فأجابهُ ... فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ
بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها ... تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ ... هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ
تُراسلُني باللَّحظِ عندَ لقائها ... فتخلسُ قلبي عندَ ذلكَ مِنْ صدري
وقال عمرو بن الأيهم:

ويومَ ارتحالِ الحيِّ راعتكَ روعةً ... فلمْ تنسَها مِنْ ذاكَ إلاَّ علَى ذكرِ
رمتكَ بعينيْ فرقدٍ ظلَّ يتَّقي ... شآبيبَ قطرٍ بينَ غُصنينِ مِنْ سدرِ
وقال آخر:
قلبي إلى ما ضرَّني داعِي ... يُكثرُ أسقامي وأوْجاعي
لقلَّ ما أبقَى علَى ما أَرى ... أُشكُ أنْ ينعانِيَ النَّاعِي
كيفَ احْتراسِي من عدوِّي إذا ... كانَ عدوِّي بينَ أضلاعِي
ما أقتلَ اليأْسَ لأهلِ الهوَى ... لا سيَّما مِنْ بعدِ إطماعِ
وقال الطرماح:
فلمَّا ادَّركناهنَّ أبدينَ للهوَى ... محاسنَ واسْتولينَ دونَ محاسنِ
ظعائنُ يستحدثنَ في كلِّ بلدةٍ ... رَهيناً ولا يُحسنَّ فكَّ الرَّهائنِ
وقال العجيف العقيلي:
خليليَّ ما صبرِي علَى الزَّفراتِ ... وما طاقَتي بالشَّوقِ والعبراتِ
تقطَّعُ نفسِي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... علَى إثرِ مَنْ قدْ فاتَها حسراتِ
سقَى ورعَى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى ... إذا قمنَ جنحَ اللَّيلِ مُنبهراتِ
دعونَ بحبَّاتِ القلوبِ فأقبلتْ ... إليهنَّ بالأهواءِ مُبتدراتِ
وأنشدني أحمد بن يحيى الشيباني أبو العباس النحوي:
إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتَى ... سقوطَ حصَى المرجانِ مِنْ سلكِ ناظمِ
رمينَ فأنفذنَ القلوبَ ولا ترَى ... دماً مائراً إلاَّ جوًى في الحيازمِ
وخبَّركِ الواشونَ ألاّ أُحبّكمْ ... بلَى وستورِ البيتِ ذاتِ المحارمِ
أصدُّ وما الصَّدُّ الذي تعلمينهُ ... بنا وبكمْ إلاَّ جزع العلاقمِ
حياءً وبُقيا أنْ تشيعَ نميمةٌ ... بنا وبكمْ أُفٍّ لأهلِ النَّمائمِ
أمَا إنَّه لوْ كانَ غيركِ أرقلتْ ... صعادُ القنا بالرَّاعفاتِ اللَّهاذمِ
ولكنْ وبيتِ اللهِ ما طلَّ مسلماً ... كغرِّ الثَّنايا واضحاتِ الملاغمِ
وإنَّ دماً لوْ تعلمينَ جنيتهِ ... علَى الحيِّ جانِي مثلهِ غيرُ نائمِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلمَّا تواقَفْنا وسلَّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أنْ تتقنَّعا
تبالَهْنَ بالعرفانِ لمَّا عرفنني ... وقلنَ امرؤٌ باغٍ أضلَّ وأوضعا
وقرَّبنَ أسبابَ الهوَى لمتيَّمٍ ... يقيسُ ذراعاً كلَّما قسنَ إصبعا
فقلتُ لمُطريهنَّ بالحسنِ إنَّما ... ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعاً فتنفعَا
وقال أيضاً:
وكمْ مِنْ قتيلٍ ما يُباءُ بهِ دمٌ ... ومِنْ غلقٍ رهناً إذا لفَّهُ مِنَى
ومن مالئٍ عينيهِ مِنْ شيءِ غيرهِ ... إذا راحَ نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمى
أوانسُ يسلبنَ الحليمَ فؤادهُ ... فيا طولَ ما شوقٍ ويا حسنَ مُجتلَى
مع اللَّيلِ قصراً قدْ أضرَّ بكفِّها ... ثلاثَ أسابيعٍ تعدُّ منَ الحصَى
فلمْ أرَى كالتَّجميرِ منظرَ ناظرٍ ... ولا كليالِي الحجِّ أفتنَّ ذا هوَى
وقال آخر:
بوارحُ رحنَ من برحٍ إلينا ... بأفئدةِ الرِّجالِ مبرِّحاتِ
رمينَ حصَى الجمارِ بخاضباتٍ ... وأفئدةَ الرِّجالِ بصائباتِ
وقال ذو الرمة:
فما ظبيةٌ ترعَى مساقطَ رملةٍ ... كسَا الواكفُ الغادي لها ورقاً خُضرا
بأحسنَ مِنْ ميٍّ عشيَّةَ حاولتْ ... لتجعلَ صدعاً في فؤادكَ أوْ عَقرا
بوجهٍ كقرنِ الشَّمسِ حرٍّ كأنَّما ... تهيجُ بهذا القلبِ لمحتهُ وقْرا
وعينٍ كأنَّ البابليَّيْنِ لبَّسا ... بقلبكَ منها يومَ لاقيتَها سِحرا
وقال كثير بن عبد الرحمن:
أصابكَ نبلُ الحاجبيَّةِ إنَّها ... إذا ما رمتْ لا يستبلُّ كليمُها
لقدْ غادرتْ في القلبِ منِّي أمانةً ... وللعينِ عبراتٌ سريعٌ سجومُها
فذُوقي بما أجنيتِ عيناً مشومةً ... عليَّ وقدْ يأتِي علَى العينِ شومُها
وقال آخر:
وتنالُ إذا نظرتْ إليكَ بطرفِها ... ما لا ينالُ بحدِّهِ النَّصلُ
وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهِها ... فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ
ولقلبِها حلمٌ تصدُّ بهِ ... عنْ ذي الهوَى ولطرفِها جهلُ
وقال حبيب بن أوس الطائي:
يا جفوناً سواهِداً أعدمتْها ... لذَّةَ النَّومِ والرُّقادِ جفونُ

إنَّ للهِ في العبادِ منايَا ... سلَّطتْها علَى القلوبِ عيونُ
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
دارَ الهوَى بعبادِ اللهِ كلّهمِ ... حتَّى إذا مرَّ بي مِنْ بينهمْ وقفَا
إنِّي لأعجبُ مِنْ قلبٍ يكلِّفكمْ ... ومَا يرَى منكمُ برّاً ولا لَطَفا
لولا شقاوةُ جدِّي ما عرفتكمُ ... إنَّ الشَّقيَّ الذي يشقَى بمنْ عرَفا
وأنشدني أبو طاهر أحمد بن بشر الدمشقي:
رمتْني وسِترُ اللهِ بيني وبينها ... عشيَّةَ أحجارِ الكَنَاسِ رميمُ
رميمُ الَّتي قالتْ لجاراتِ بيتها ... ضمنتُ لكمْ أنْ لا يزالَ يهيمُ
ألا ربَّ يومٍ لوْ رمتْني رَمَيْتها ... ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ
وبلغني أنَّ بثينة وعزَّة كانتا خاليتين تتحدثان إذ أقبل كثيِّر فقالت بثينة لعزَّة أتحبين أن أُبين لك إن كان كثيِّر فيما يظهره لك من المحبة غير صادق قالت نعم قالت: أدخلي الخباء فتوارت عزَّة ودنا كثيِّر حتَّى وقف على بثينة فسلم عليها فقالت له ما تركت فيك عزَّة مستمتَعاً لأحدٍ فقال كثيِّر والله لو أن عزَّة أمَة لوهبتها لكِ قالت له بثينة إن كنت صادقاً فاصنع في ذلك شعراً فأنشأ يقول:
رمتْني علَى فوتِ بثينةُ بعدَ ما ... تولَّى شبابِي وارْجحنَّ شبابُها
بعينينِ نجلاوينِ لوْ رقرقتْهُما ... لنوءِ الثُّريَّا لاستهلَّ سحابُها
فبادرت عزَّة فكشفت الحجاب وقالت يا فاسق قد سمعت البيتين قال لها فاسمعي الثالث قالت وما هو فأنشأ يقول:
ولكنَّما ترمينَ نفساً شقيَّةً ... لعزَّةَ منها صفوُها ولبابُها
وهذا الشعر وإن كان قبيحاً لمناسبته الخيانة والغدر فهو حسن من ثبات حدَّة الخاطر وسرعة الفكر.
وقال أبو عبادة البحتري:
نظرتْ قادرةً أنْ ينكفِي ... كلُّ قلبٍ في هواهَا بعلَقْ
قالَ بُطلاً وأفالَ الرَّأيَ مَنْ ... لمْ يقلْ إنَّ المنايا في الحدَقْ
كانَ يكفِي ميِّتاً مِنْ ظمإٍ ... فضلُ ما أوبقَ ميْتاً مِنْ غرَقْ
إنْ تكنْ محتسباً مَنْ قدْ ثوَى ... لحمامٍ فاحتسبْ مَنْ قدْ عشِقْ
وقال القطامي وهو أحسن ما قيل في معناه:
وفي الخدورِ غماماتٌ برقنَ لنا ... حتَّى تصيَّدننَا مِنْ كلِّ مُصطادِ
يقتُلْننا بحديثٍ ليسَ يعلمهُ ... مَنْ يتَّقينَ ولا مكتومهُ بادِ
فهنَّ يُبدينَ مِنْ قولٍ يُصبنَ بهِ ... مواقعَ الماءِ من ذِي الغلَّةِ الصَّادي
قد ذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوَى أنَّه يقع ابتداؤه من النظر والسَّماع ما في بعضه بلاغٌ ثمَّ نحن إن شاء الله ذاكرون ما في ذلك الأمر الَّذي أوقعه السماع والنظر ولمَ وقع وكيف وقع إذ قد صحَّ كونه عند العامَّة وخفيَ سببه على الخاصَّة أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
وفي مثل ذلك يقول طرفة بن العبد:
تعارفُ أرواحُ الرِّجالِ إذا التقَوْا ... فمنهمْ عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ
وإنَّ امرءاً لمْ يعفُ يوماً فكاهةً ... لمنْ لمْ يردْ سوءاً بها لجهولُ
وزعم بعضُ المتفلسفين أن الله جلَّ ثناؤه خلقَ كلَّ روحٍ مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة ثمَّ قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الَّذي فيه النصف الَّذي قطع من النصف الَّذي معه كان بينهما عشقٌ للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال النَّاس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم.
وقد قال جميل في ذلك:
تعلَّقُ رُوحي روحَها قبلَ خلقِنا ... ومِنْ بعدِ ما كنَّا نِطافاً وفي المهدِ
فزادَ كمَا زِدنا فأصبحَ نامِياً ... وليسَ إذا مُتنا بمُنتقضِ العهدِ
ولكنَّهُ باقٍ علَى كلِّ حالةٍ ... وزائرُنا في ظُلمةِ القبرِ واللَّحدِ
وفي نحوه يقول بعض أهل هذا العصر:
مَنْ كانَ يشجَى بحبٍّ ما لهُ سببٌ ... فإنَّ عندي لِما أشجَى بهِ سببُ
حُبِّيهِ طبعٌ لنفسِي لا يغيِّرهُ ... كرُّ اللَّيالِي ولا تُودي بهِ الحقبُ

إن كانَ لا بدَّ للعشَّاقِ من عطبٍ ... ففي هوَى مثلهِ يُستغنمُ العطبُ
وكتب بعض الظرفاء إلى أخ له إنِّي صادقت منك جوهر نفسي فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً وحُكي عن أفلاطون أنَّه قال ما أدري ما الهوَى غير أنِّي أعلم أنَّه جنون إلاهي لا محمود ولا مذموم.
وقد قال بعض الشعراء في مثله:
إنَّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ ... تُلقَى عليكَ وما لها سببُ
ولقد أحسن الحسين بن مطير في قوله:
قضَى اللهُ يا سمراءُ منِّي لكِ الهوَى ... بعزمٍ فلمْ أمنعْ ولمْ أُعطِهِ عمدا
وكلُّ أسيرٍ غيرُ مَنْ قدْ ملكتهِ ... مُرجًّى لقتلٍ أوْ لنعماءُ أوْ مُفدَى
وزعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب إما لاتفاق الأرواح فلا يجد المرء بدّاً من أن يحب صاحبه وإما للمنفعة وإما لحزن وفرح فأما اتفاق الأرواح فإنه يكون من كون الشَّمس والقمر في المولدين في برج واحد ويتناظران من تثليث أو تسديس نظر مودَّة فإنه إذا كان كذلك كانا صاحبا المولدين مطبوعين على مودَّة كل واحد منهما لصاحبه فأما اللذان تكون مودَّتهما لحزن أو لفرح فإنه من أن يكون طالع مولديهما برجاً واحداً ويتناظر طالعاهما من تثليث أو تسديس وأما اللذان مودتهما للمنفعة فإن ذلك من أن يكون بينهما سعادتاهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس فإن لك يدل على المولدين تكون منفعتهما من جهة واحدة وينتفع أحدهما بصاحبه فتجلب المنفعة بينهما الصداقة أو تكون مضرتهما من جهة واحدة فيتفقان على الحزن فيتوادان بذلك السبب ويُقوِّي ذلك كله نظر السعود في وقت المواليد ويضعفه نظر النحوس وقد ذكر بعض الشعراء الهوَى فقسمه على نحوٍ من هذا المعنى فقال:
ثلاثةُ أحبابٍ فحبُّ علاقةٍ ... وحبُّ تِملاقٍ وحبٌّ هوَ القتلُ

وزعم جالينوس أنَّ المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يُتفق فيه على طريق واحد والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق بين اثنين وقال بعض المتطببتن إنَّ العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص مكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدَّة القلق وكثرة الشَّهوة وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمنِّي ما لا يتمُّ حتَّى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربَّما قتل العاشق نفسه وربَّما مات غمّاً وربَّما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً وربَّما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنَّه قد مات فيقبرونه وهو حيٌّ وربَّما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضمُّ عليها القلب فلا ينفرج حتَّى يموت وربَّما ارتاح وتشوَّق للنَّظر أو رأى من يحبُّ فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحبُّ كيف يهرب ويستحيل لونه وإن كان الأمر يجري على ما ذكر فإنَّ زوال المكروه عمَّن هذه حاله لا سبيل إليه بتدبير الآدميين ولا شفاء له إلاَّ بلطف يقع له من رب العالمين وذلك أن المكروه العارض من سبب قائم منفرد بنفسه يتهيَّأ التَّلطُّف في إزالته بإزالة سببه فإذا وقع الشَّيئان وكل واحد منهما علَّة لصاحبه لم يكن إلى زوال واحدة منهما سبيل فإذا كانت السوداء سبباً لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سبباً لاحتراق الدم والصفراء وقلبها إلى تقوية السوداء كلما قويت قوَّت الفكر والفكر كلما قوي قوَّى السوداء وهذا هو الداء الَّذي يعجز عن معالجته الأطبَّاء وقد زعم بعض المتصوفين أن الله جل ثناؤه إنَّما امتحن النَّاس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه وليشق عليهم سخطه ويسرَّهم رضاؤه فيستدلّ بذلك على قدر طاعة الله عزَّ وجلّ إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئاً غير ممتنٍّ عليهم فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتَّبع رضاه والكلام في اعتبار ما حكيناه والإخبار عن جميعه بما يرضاه يكثر وربَّما استغني بالحكايات عن التَّصريح بالاختبارات ونحن إن شاء الله نذكر بعقب هذا الباب مبلغ الهوَى من قلوب ذوي الألباب ونصف مراتبه وتصرفه وازدياده وتمكنَّه ونخبَّر باقتداره على المقتدرين واستظهاره على المستظهرين وتلاعبه بقلوب المتفلسفين وتمالكه على خواطر المستسلمين.

الباب الثاني
العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ
قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.
وفي ذلك يقول محمد الوراق:
تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ ... هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.

وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ ... فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ
إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرّاً ... فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ
ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:
تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي ... فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ
ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنَّ امرءاً يهوِي إليكِ ودونهُ ... منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ ... وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ
ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقاً والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيماً وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئاً إلاَّ وجدته متكاملاً فيها.
وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:
وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي ... مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبّاً لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ ... إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ
وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهداً ... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ
ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلاً إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
أيا زاعماً أنِّي لهُ غيرُ خالصِ ... وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ
كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصاً ... تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ
فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ ... عليَّ وطالبني إذاً بالنَّقائصِ
سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ ... علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ
إلى أن أرَى شكلاً يصونُ مودَّتِي ... فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ
أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ ... رمانِي إذاً ربي بحتفٍ مُغافصِ
ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهاً والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالاً ولا يستوطن حالاً.
وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:
ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال ... بؤسَ بؤساً ولا النَّعيمَ نعيماً
والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.
وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:
أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جوارياً ... يرينَ لها فضلاً عليهنَّ بيِّنا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ ... أُحاذرُ أسماعاً عليها وأعيُنا
فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي ... إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا

وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَداً قانطَ الهوَى ... أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى ... فصادفَ قلبِي خالياً فتمكَّنا
ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفاً وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خالياً لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ ... ثمانونَ بلْ تسعونَ نفساً وأرجحُ
يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ ... ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ
وكانَ فؤادِي صاحياً قبلَ حبِّكمُ ... وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ ... فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذباً ... وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها ... إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ ... فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ
فالمحبَّة ما دامت لهواً ونظراً فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:
طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ ... فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ
هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ ... فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:
وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ ... فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ... فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ ... رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا ... وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ
وقال أبو دلف:
الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي ... والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ ... وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفرداً ... أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى ... جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ
وقال آخر:
ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ ... وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ
فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني ... أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ
وقال آخر:
الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهاً ... حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ
الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ ... يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى ... وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ
وقال النابغة الذبياني:
لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ ... يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها ... ولخالَهُ رشَداً وإنْ لمْ يرشدِ
أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائراً ... وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ ... وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ ... وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ
وقال آخر:
أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً ... لبئسَ إذاً راعِي المودَّةِ والوصلِ
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ ... لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي
وقال ماني:
مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى ... تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى
يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ ... يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى
يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتاً ... ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى
تحسبهُ مُستمعاً ناصتاً ... وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى
وقال غيره وهو مجنون بني عامر:

وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى ... ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي
وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي ... أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي
وقال آخر:
مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ ... إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ
الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ ... مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ
وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:
قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلاً ... أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ
فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني ... وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ
إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها ... إذاً حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ
فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صبابَتي ... وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ
أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:
مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي ... مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها
كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ ... وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها
وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:
مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني ... لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها
أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى ... مُقاربةً منها ونفسي تريدُها
وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله:
يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ ... حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ
مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ ... ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ
وهذا ضد قول أبي علي البصير:
لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ ... كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ
وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:
إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخراً ... هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا
لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ ... وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى
هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو:
فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو ... دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ
وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهاً ... فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ
وللمجنون ما هو أقبح منه:
فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها ... كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا
وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها ... تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا
وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:
يقولونَ صبراً يا زيدُ إذا نأتْ ... ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا
فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:
سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا ... أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا

قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئاً فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلاًّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:
إذا ما سألتُكَ وعْداً تُريحُ ... بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ ... فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ ... فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ
ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:
ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ ... لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً ... ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ
وأحسن الَّذي يقول:
وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى ... علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ ... فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ ... وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ ... تَعْساً لقلبي فبئسَ ما صنعا
وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:
خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها ... ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي
وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقراً إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريباً منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتاً من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:
عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى ... أحاديثاً لقومٍ بعدَ قومِ
وعروةُ ماتَ موتاً مُستريحاً ... وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ
وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضاً:
أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها ... أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا
وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها ... مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا
وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ ... فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا
وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:
ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ ... هامَ اشتياقاً إلى لُقيا مُعذِّبهِ
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ ... أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ

الباب الثالث
من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه
قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالاً بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّداً للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كرباً على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:
بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائماً ... فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ
وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:
خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني ... أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها ... فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها
وقال أيضاً:
وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً ... فأبرقُ مغشياً عليَّ مكانيا
وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما ... يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا

تُطيلينَ ليَّاني وأنتِ مليَّةٌ ... وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا
هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً ... وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقيا
وقال أيضاً:
تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى ... وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ
لياليَ ميٌّ موتةٌ ثمَّ نشرةٌ ... لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ
وقال آخر:
يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ ... فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها ... أَأُبرئُها من دائها أمْ أزيدها
ولقد أحسن الطائي حيث يقول:
أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ ... لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسادِ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:
دوائيَ مكروهي ودائي محبَّتي ... فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ
فلا كمدٌ يبلى ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ
وقال علي بن محمد العلوي:
كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها ... قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظرِ
ولَّى بأوطاري ولستُ أرى ... عيشاً يُهشُّ لهُ بلا وطرِ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
نازعني من طرفهِ الوَحْيا ... وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا
جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ ... أماتَ عن ذا وبِذا أحيى
وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع:
وأتاني مُفحمٌ بغرَّتهِ ... قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما
تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ ... فما قالَ لا ولا نعما
ثمَّ تولَّى بمُقلتيْ خجلٍ ... أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما
فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءاً ... من السُّقمِ فابتدا سقما
وقال آخر:
تأمَّلتُها مُغترَّةً فكأنَّما ... رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلعا
إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتُها ... من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا
وقال آخر:
تمنَّيتُ من أهوى فلمَّا لقيتُهُ ... بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِساناً ولا طرفا
فأغضيتُ إجلالاً لهُ ومهابةً ... وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه:
ولمَّا بدتْ بينَ الوُشاةِ كأنَّها ... عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقتلُ
أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحبي ... لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ
وقال آخر:
أيُّها النَّائمون حولي هنيئاً ... هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليّاً
منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظاً ... وليكنْ من جليسه سامريّاً
وقال مسلم بن الوليد:
أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْلي
فما حزَني أنِّي أموتُ صبابةً ... ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلي
أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبها ... دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي
أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندها ... مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والمطْلِ
وما نلتُ منها طائلاً غيرَ أنَّني ... بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي
بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ ... إليها تزيدُ القلبَ خبلاً علَى خبْلِ
وقال أيضاً:
عرفتُ بها الأشجانَ وهيَ خليَّةٌ ... من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ
أراها فأطوي للنَّصيحِ عداوةً ... وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ
فلا سيَّما العُذَّالَ فيها ملامهُمْ ... ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولي عذرُ
شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعاً بحبِّها ... متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ
ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلها ... فأذْكتْ غليلاً ما لديها بهِ خُبرُ
ولبعض أهل هذا العصر:
إذا كان اللِّقاءُ يزيدُ شوقاً ... وكان فراقُ من أهوى يشوقُ
فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تمادى ... عتابُكَ في الهوَى أبداً طريقُ
ومنْ يكُ ذا سقامٍ إنْ تداوى ... تزايدَ سُقمهُ فمتى يُفيقُ
وله أيضاً:
إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقاً ... تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ
وروَّاني بعينيهِ مُداماً ... تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ
فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقماً ... ونأيٌ لا يقومُ لهُ قِوامُ

فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ ... إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ
وله أيضاً:
أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بها ... فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي
فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعشهُ ... ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّاءِ
أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابتهِ ... بطبِّكمْ ودوائي عندكمْ دائي
وله أيضاً:
متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي ... إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي
فهيهاتَ ما هذا علَى ذا يقلع ... أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي
وقال آخر:
ومُختلسٍ باللَّحظِ ما لا ينالهُ ... قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتباعدِ
وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ ... إذا كانَ ممنوعاً سبيلَ المواردِ
وقال آخر:
خليليَّ أضحتْ حاجةٌ لأخيكُما ... بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُها
فكيفَ طِلابي حاجةً لا ينالُها ... بريدي ولا يجري إليَّ بريدُها
فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبدِ أن ترى ... حياضَ القِرى من دونها من يذودها
وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بالبُكا ... ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها
وقال مجنون بني عامر:
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوَى ... كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ
ألا زعمَتْ ليلى بأنْ لا أُحبُّها ... بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوترِ
إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبي لِذكرها ... كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ
وقال البحتري:
سقى الله أخلاقاً من الدَّهر رطبةً ... سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ
ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بعدما ... أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفرقُ
تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ
وقال جميل:
فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلها ... وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ
عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْتني ... وقتلي بما قالت هناكَ تُحاولُ
فقلتُ لها جودي فقالتْ مُجيبةً ... ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ هازلُ
لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنا بكمْ ... عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتطاولُ
والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل
وقال بشار بن برد:
مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى ... وفيها دواءٌ للعُيونِ وداءُ
عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عناءُ
وقال عبيد بني حسحاس:
تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثاً وأربعا ... وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانيا
يعُدنَ مريضاً هنَّ هيَّجنَ داءهُ ... ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا
وقال آخر:
كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قدْ رقدوا ... خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ
فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بهِ ... ولا ظفرتَ ولا نالتْ يديكَ يدُ
وقال آخر:
إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُرهمْ ... همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا
لا تطلُبنَّ حياةً عند غيرهم ... فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّاكا
فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول:
ولمَّا أبى إلاَّ جِماحاً فُؤادهُ ... ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل
تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّتي ... تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي
وضد الَّذي يقول:
تسلَّيتُ عن ذكرِ الحبيبِ بغيرهِ ... ومِلتُ إليهِ بالمودَّةِ والذِّكرِ
فما زادني إلاَّ اشتياقاً وحُرقةً ... إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صبري
وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكلْتها ... بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ
فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالباً ... سُلوّاً فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالجمرِ

وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.
وقال عبيد الراعي:
بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ ... وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا
خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا ... قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا
أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ ... علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا
وقال علي بن الجهم:
عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ ... جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمرِ
وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما ... تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري
فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري
وقال آخر:
وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضاً ... فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ
فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ ... فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ
وقال أبو صخر الهذلي:
وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها ... بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ
فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً ... فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ
وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ ... كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ
وقال آخر:
وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ ... بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها ... أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها
تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها ... وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها
أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل: )وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء( فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى: )قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ( فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.

الباب الرابع
ليس بلبيبٍ من لم يصف ما به لطبيبٍ
قال أنو شروان لبزرجمهر متى يكون العييُّ بليغاً فقال إذا وصف هوًى أو حبيباً وقيل لبعض أهل هذا العصر متى يكون البليغ عييّاً فقال إذا سئل عمَّا يتمنَّاه أو شكا ما به إلى من يهواه وقال:
ما يعلمُ الله أنِّي مذْ هويتكمُ ... أطيقُ إظهارَ ما ألقاهُ باللَّفظِ
كمْ قدْ تحفَّظتهُ حتَّى إذا نظرتْ ... عينِي إليكِ أزالتْ هَيْبتي حِفظِي
وقال بعض الأدباء في مثل ذلك:
أُفكِّرُ ما أقولُ إذا الْتقينا ... وأُحكمُ دائباً حُججَ المقالِ
فترتعدُ الفرائصُ حينَ تبدُو ... وأنطقُ حينَ أنطقُ بالمحالِ
وقال آخر:
أتيتُ معَ الحدَّاثِ ليلَى فلمْ أقلْ ... وأخليتُ فاستعجمتُ عندَ خلائِي
وجئتُ فلمْ أنطقْ وعدتُ فلمْ أحِرْ ... جواباً كلاَ اليومينِ يومُ عنائِي
فيا عجباً ما أشبهَ اليأْسَ بالغِنَى ... وإنْ لمْ يكونا عندنا بسواءِ
وهذا المعنى الَّذي ذكره ليس بمستنكر قد تمنع المحبّ هيبة المحبوب من النيل الَّذي هو اللُّطف من الشَّكوى محلاً في القلوب ألم تسمع الَّذي يقول:
محبٌّ قالَ مُكتتماً مُناهُ ... وأسعدهُ الحبيبُ علَى هواهُ

أضاعَ الخوفُ أنفسَ ما يُعانِي ... وما عذرَ المُضيعَ لما عَناهُ
فأصبحَ لا يلومُ بما جناهُ ... منَ التَّفريطِ إنساناً سواهُ
أسرَّ ندامةَ الكُسَعيِّ لمَّا ... رأتْ عيناهُ ما صنعتْ يداهُ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنِّي لأخشَى أنْ أموتَ فُجاءةً ... وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليكِ كمَا هيَا
وإنِّي ليُنْسيني لقاؤكِ كلَّما ... لقيتكِ يوماً أنِي أبثَّكِ ما بيَا
وقالُوا بهِ داءٌ عياءٌ أصابهُ ... وقدْ علمتْ نفسِي مكانَ دوائيَا
فهذا يخبرُ أنَّ لقاءها هو الَّذي يمنعهُ من شكوى ما يجده إلاَّ أنَّه يشفق من ضرره على نفسه ولا يُبقي بكتمانه على غيره على أنَّه قد قصَّر عنه كثير من أهل هذا العلم في قوله: إنَّ لقاءها يحدث في قلبه حالاً لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه إذ لو كان الهوَى قد استوفى منه حقَّه وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئاً ولا ينقصه.
كما قال يزيد بن الطثرية:
ولمَّا تناهَى الحبُّ في القلبِ وارداً ... أقامَ وسُدَّتْ بعدُ عنهُ مصادرهْ
فأيُّ طبيبٍ يُبرئُ الحبَّ بعدَما ... يسرُّ بهِ بطنُ الفؤادِ وظاهرهْ
وكما قال ذو الرمة:
ومَا زلتُ أطوي الشَّوقَ عنْ أمِّ خالدٍ ... وجاراتِها حتَّى كأنْ لا أُريدُها
فما زالَ يَنمِي حبُّ ميَّة عندنا ... ويزدادُ حتَّى لمْ نجدْ ما نزيدُها
ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:
إذا أزهدَتْني في الهوَى خِيفةُ الرَّدى ... جلتْ ليَ عنْ وجهٍ يُزهِّدُ في الزُّهدِ
فلا دمعَ ما لمْ يبدُ في إثرهِ دمٌ ... ولا وجدَ ما لمْ تعيَ عنْ صفةِ الوجدِ
وأحسن علي بن محمد العلوي الكوفي حيث يقول:
قالتْ عَييتَ عنِ الشَّكوى فقلتُ لها ... جهدُ الشَّكايةِ أنْ أعيَا عنِ الكلمِ
أشكُو إلى اللهِ قلباً لو كَحلتُ بهِ ... عينيكِ لاختضبتْ منْ حرِّهِ بدمِ
لا تُبرِمي فاقدَ الدُّنيا وبهجتَها ... وما يسرُّ بهِ منها بلا ولَمِ
على أنَّه من طلب لآدميٍّ مثله بما لم يطالب الله عباده فأخلق بأن يكون ظالماً وقد مدح الله تبارك وتعالى قوماً فقال: )الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قلوبهمْ وإذا تُليتْ عليهمْ آياتهُ زادتهمْ إيماناً( فلم يعبهم تعالى بأن كان ذكره بحضرتهم وظهراً عليهم ما لم يمكن قبل موجوداً منهم ومن أحسن ما قيل وأعرفُ من الشِّعر في هذا المعنى:
تفديكِ نفسِي لستُ أدرِي أيُّما ... أيَّامكمْ مِن أيِّها أشجاهَا
في حبِّكمْ شغلٌ لقلبِي شاغلٌ ... عن كلِّ نائبةٍ يخافَ رَداها
ومن جيد ما قيل في نحو الفصل الأول:
جعلتُكَ دنيائِي فإنْ أنتَ لم تجُدْ ... عليَّ بوصلٍ فالسَّلامُ علَى الدُّنيا
كتمتُكَ ما ألقَى لأنَّكَ مُهجتي ... أخافُ عليها أنْ تذوبَ منَ الشَّكوَى
ولبعض أهل هذا الزَّمان في هذا المعنى:
بحُرمةِ هذا الشَّهرِ لما نعَّشتَني ... بعفوكَ إنِّي قدْ عجزتُ عنِ العذرِ
فلوْ كنتَ تدرِي ما أُلاقِي منَ الهوَى ... لساءَكَ ما ألقَى فليتكَ لا تدرِي
لأشقَى بما ألقَى وتبقَى منعَّماً ... خليّاً ونارُ الشَّوقِ تُسعرُ في صدرِي
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير عن أبي العتاهية:
مَنْ لعبدٍ أذلَّهُ مولاهُ ... ما لهُ شافعٍ إليهِ سواهُ
يشتكي ما بهِ إليهِ ويخشَا ... هُ ويرجوهُ مثلَ ما يخشاهُ
وهذه حال منقوضة لأنَّ من منعه من شكوى ما يلقاه إشفاقه من موجدة من يهواه فإنما أبقى على نفسه ومن امتنع من ذلك إشفاقاً على قلب صاحبه فقد اعترض على وجده التَّصنُّع إذ فعل ما يقدر على تركه.
وقال آخر:
الجسمُ ينقصُ والسَّقامُ يزيدُ ... والدَّارُ دانيةٌ وأنتَ بعيدُ
أشكوكَ أمْ أشكُو إليكَ فإنَّهُ ... لا يستطيعُ سواهُما المجهودُ
وقال الحسن بن هانئ:
لا والَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ ... ما خانَ أحبابُنا وما تاهُوا
ما علمُوا بالَّذي يجنُّ لهمْ ... منْ طولِ شوقٍ ولا درَوْا ما هوَ
وللفتح بن خاقان:

قدرتُ علَى نفسِي فأزمعتَ قتلَها ... علَى غيرِ جدٍّ منكَ والنَّفسُ تذهبُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها ... ورودَ حياضِ الموتِ والطِّفلُ يلعبُ
وقال الحسين بن الضحاك:
أيَا مَنْ طرفهُ سحرُ ويَا مَن ريقهُ خمرُ ... تجاسرتُ فكاشفتُكَ لمَّا غلبَ الصَّبرُ
وما أحسنَ في مثلكَ إنْ ينهتكَ السِّترُ ... فإنْ عنَّفنِي النَّاسُ ففي وجهكَ لي عُذرُ
وقال أيضاً:
إنَّ منْ أطولِ ليلٍ أمداً ... ليلَ مشتاقٍ تَصابَى فكتمْ
ربَّ فظِّ القلبِ لا لِينَ لهُ ... لوْ رأَى ما بكَ منهُ لرحمْ
وقال أيضاً:
أُكاتمُ وجدِي وما ينكتمْ ... فمنْ لوْ شُكيتُ إليهِ رحِمْ
وإنِّي علَى حسنِ ظنِّي بهِ ... لأحذرُ إنْ بُحتُ أنْ يحتشمْ
وقدْ علمَ النَّاسُ أنِّي لهُ ... محبٌّ وأحسبهُ قدْ علمْ
ولِي عندَ رؤيتهِ نظرةٌ ... تُحقِّقُ ما ظنَّهُ المتَّهمْ
وقال المجنون:
فأنتَ الَّذي إنْ شئتَ أشقيتَ عيشِي ... وإنْ شئتَ بعدَ اللهِ أنعمتَ لياليَا
وأنتَ الَّذي ما مِنْ صديقٍ ولا عِدا ... رأَى نِضوَ ما أبقيتَ إلاَّ رثَا ليَا
وقال أبو نواس:
قالتْ ظَلومُ سَميَّةُ الظُّلمِ ... ما لِي رأيتكَ ناحلَ الجسمِ
يا مَنْ رمَى قلبِي فأقصدَهُ ... أنتَ الخبيرُ بموقعِ السَّهمِ
وقال أبو تمام:
واللهِ لوْ تلقَى الَّذي ألقَى ... لحرجتَ أنْ تتجاوزَ الحقَّا
بي فوقَ ما تلقَى بواحِدِها ... أمٌّ تراهُ لجنبهِ مُلقَى
وقال أبو صخر الهذلي:
بيدِ الَّذي شغفَ الفؤادَ بكمْ ... تفريجُ ما ألقَى منَ الهمِّ
ما في الحياةِ إذا هيبت لنا ... خيرٌ ولا للعيشِ مِن طعمِ
ولمَا بقيتِ لَتُبقينَّ جوًى ... بينَ الجوانحِ مُضرِعاً جسمي
فتيقَّنِي أنْ قدْ كلفتُ بكمْ ... ثمَّ اصنَعِي ما شئتِ عن علمِ
وقال خليفة بن روح الأسدي:
قِفي يا أُميمَ القلبِ نقرأ تحيَّةً ... ونشكو الهوَى ثمَّ اصنعي ما بدَا لكِ
فلوْ قلتِ طَأْ في النَّارِ أعلمُ أنَّه ... هوًى لكِ أو مُدنٍ لنا مِن وصالكِ
لقدَّمتُ رِجلي نحوَها فوطئْتُها ... هُدًى منكِ لي أو هفوةً مِن ضلالكِ
فلا تجْعَلِيني كامرئٍ إنْ وصلتهِ ... أشاعَ وإنْ صرَّمتهِ لمْ يُبالكِ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
قالتْ لقيتَ الَّذي لمْ يلقهُ أحدٌ ... قلتُ الدَّليلُ علَى ذاكَ الَّذي أجدُ
أودَعْتِني سقماً لا أستقلُّ بهِ ... فليسَ ينفدُ حتَّى ينفدَ الأبدُ
وقال مضرس بن بطر الهلالي:
وكادتْ بلادُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ ... بما رحُبتْ يوماً عليَّ تضيقُ
أذودُ سوادَ الطَّرفِ عنكِ وما لهُ ... إلى أحدٍ إلاَّ إليكِ طريقُ
ولوْ تعلَمينَ العلمَ أيقنتِ أنَّني ... وربِّ الهدايا المُشعَراتِ صديقُ
سلِي هلْ قلانِي مِن عشيرٍ صحِبتهُ ... وهلْ ذمَّ رَحْلي في الرِّفاقِ رفيقُ
وأنشدني آخر:
أمسيتُ لَعَّاباً وأمسَى الهوَى ... يلعبُ في رُوحي وجثمانِي
أُشفقُ إنْ بُحنا وإنْ لمْ أبحْ ... فالموتُ في سرِّي وإعلانِي
وأنشدني أبو الضياء لنفسه:
أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ ... واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ
لا ذقتَ ما ذاقهُ مَن أنتَ مالكهُ ... ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ
أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ ... والعينُ تُعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ
فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهما ... فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ
وقال أبو المنهال الأشجعي:
يا أُمَّ عمروٍ وخيرُ القولِ أصدقهُ ... أوْفي وأنتِ منَ المُوفينَ بالذِّممِ
أوْفِي وفاءَ كريمٍ ذِي محافظةٍ ... وإنْ أبَيتِ تقاضيْنَا إلى حكمِ
عدلٍ منَ النَّاسِ يُرضِي حينَ يبلغهُ ... أنْ كانَ حبلكِ أمسَى واهيَ الرِّممِ
فأعرَضَتْ ثمَّ قالتْ وهيَ لاهيةٌ ... بعدَ التَّغضُّبِ قولَ المؤسفِ الأطِمِ
إنْ تدعُ لي حكَماً عدلاً أُحكِّمهُ ... أنطِقْ لديهِ بلا عيٍّ ولا بكَمِ

منِّي بأرضكِ شجوٌ لستُ ناسيهِ ... لوْ بالحجازِ هوَى أيَّامكِ القدُمِ
وكتب عبد الله بن الدمينة إلى أمامة:
وأنتِ الَّتي كلَّفتِني دلَجَ السُّرَى ... وجونُ القطَا بالجَلْهتينِ جثومُ
وأنتِ الَّتي قطَّعتِ قلبِي حزازةً ... وفرَّقتِ قرحَ القلبِ فهوَ كليمُ
وأنتِ الَّتي أحفظتِ قومِي فكلُّهمْ ... بعيدُ الرِّضا دانِي الصُّدودِ كتومُ
وكتبت إليه:
وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَنِي ... وأشمتَّ بِي مَن كانَ فيكَ يلومُ
وأبرزْتَنِي للنَّاسِ ثمَّ تركْتَنِي ... لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سليمُ
فلوْ أنَّ قولاً يكلِمُ الجسمَ قدْ بدا ... بجسميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كلومُ
وكتب بعض أهل الأدب إلى أخ له من أهل هذا العصر:
سيِّدي أنتَ قدْ أسأْتَ بقولِي ... سيِّدي أنتَ فارضَ عبدَكَ عبْدا
لا تلقَّى الدُّعاءَ منِّي بنكرٍ ... فتُرى قاتلاً لنفسيَ عمدَا
فأجابه:
أنا بالرِّقِّ في الهوَى منكَ أولَى ... وأرَى ذاكَ يشهدُ اللهُ مجدَا
علمَ اللهُ أنَّني منكَ راضٍ ... أنْ ترانِي لعيدِ عبدِكَ عبدَا
وقال آخر:
يا مُوقدَ النَّارِ إلهاباً علَى كبدِي ... إليكَ أشكُو الَّذي بِي لا إلى أحدِ
إليكَ أشكُو الَّذي بِي مِن هواكَ فقدْ ... طلبتُ غيركَ للشَّكوَى فلم أجِدِ
وقال بعض الأعراب:
إذا لمتَها قالتْ عديمٌ وإنَّما ... صمتَّ فما جرَّبتَ جُوداً ولا بخلا
بلَى قلتُ هلْ ثمَّ انصرفتْ ولمْ تعدْ ... فتستنكِرَ الإعراضَ أوْ تعرفَ البذْلا
أمَّا هذه فقد قرعت صاحبها على تركه تقاضيها تقريعاً يُغري المغترّين بشكوى كل ما يجدونه وبالإلحاح على من يودُّونه في المطالبة بجميع ما يريدونه وهذه حال من تحكَّم على مواردها تحكَّمت عليه مصادرها فيندم حيث لا تنفعه الندامة وهرب إلى حيث لا تنفعه السلامة وكيف يتهيَّأ للنَّادم على إظهار ما في ضميره أن يخفيه بعد إظهاره وقد كان جديراً أن يظهر منه بغلبات الحال في وقت حرصه على أسراره والمحبوب كثيراً ما يُطمع محبُّه في نفسه هذا الإطماع أو نحوه ليطَّلع على حقيقة ما في ضميره وقلبه فإذا وثق بصحَّة الملك زالت عنه دواعي الشك فتراخى حينئذ عن الاستعطاف تراخي المالكين وحصلت للنَّاسي المُظهر ما في ضميره ذلَّة المملوكين ولم أجد فيما جريت إليه في هذا الفصل بأرزأ مني على من أظهر إلفه على ما يجد من المحبَّة وإنَّما جريت إلى عيب من يدعوه إلى إظهار ما في نفسه رجاء النَّوال من صاحبه ولعمري لقد قال حبيب بن أوس في هذا الباب ما يقرب من جهة الصواب وهو قوله:
يا سقيمَ الجفونِ غيرَ سقيمِ ... ومريبَ الألحاظِ غيرَ مريبِ
إنَّ قلبي لكمْ لكالكبدِ الحرَّ ... ى وقلبي لغيركمْ كالقلوبِ
لستُ أُدلي بحرمةٍ مستزيداً ... في ودادٍ منكمْ ولا في نصيبِ
غيرَ أنَّ العليلَ ليس بمذمو ... مٍ علَى شرحِ ما بهِ للطَّبيبِ
لوْ رأيْنَا التَّوكيدَ خطَّةَ عجزٍ ... ما شفعْنا الأذانَ بالتَّثويبِ
وهذا الَّذي وصف أيضاً من الحال غير مستوعب لحد الكمال وذلك أن الكامل في حاله هو الَّذي كان غرضه في إظهار إلفه على كل ما يُلقى به أن يجعله مشاركاً له في علم ضمائره ومتحكِّماً معه لا بل عليه في سرائره فلا يتحكَّم هو حينئذ على خليله في أمرٍ ولا يستظهر عليه بسرٍّ وكلُّ من زال عن هذه الحال فزائلٌ عن مرتبة الكمال.

الباب الخامس
إذا صحَّ الظفَرُ وقعتِ الغِيَرُ
أشعار هذا الباب من أولها إلى آخرها مضادَّة للأشعار الَّتي قبلها لأنَّ في أشعار الباب الماضي تحريضاً للمحبِّ على إظهار محبوبه على ما له في نفسه ولوماً لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه وأشعار هذا الباب إنَّما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان والعلَّة في هذا ما قدَّمنا ذكره من أنَّ المحبوب يستعطف محبَّه ليشرف على حقيقة ما في قلبه وليتمكَّن أيضاً هواه من نفسه فإذا وقع له اليقين استغنى عن التعرُّف وإذا حصل له الودُّ استغنى عن التَّألُّف فحينئذ يقع الغضب عن غير ذنب والإعراض من غير وجدٍ لسكون القلب الواثق واستظهار المعشوق على العاشق.

قال بشار بن برد:
أبكِي الَّذي أذاقُونِي مودَّتهمْ ... حتَّى إذا أيقَظُونِي للهوَى رقَدُوا
واسْتنهَضُوني فلمَّا قمتُ منتصباً ... بثقلِ ما حمَّلونِي ودَّهمْ قعدُوا
لأخرجنَّ من الدُّنيا وحبُّكمُ ... بينَ الجوانحِ لمْ يشعرْ بهِ أحدُ
ألقيتُ بينِي وبينَ الحزنِ معرفةً ... لا تنقضِي أبداً أوْ ينقضِي الأبدُ
وقال طلحة بن أبي بكر:
لا تُظهرنَّ مودَّةً لحبيبِ ... فترَى بعينيكَ منهُ كلَّ عجيبِ
أظهرتُ يوماً للحبيبِ مودَّتِي ... فأخذتُ منْ هجرانهِ بنصيبِ
وقال جميل بن معمر:
إذا قلتُ ما بِي يا بثينةُ قاتلِي ... منَ الحبِّ قالتْ ثابتٌ ويزيدُ
وإنْ قلتُ رُدِّي بعضَ عقلِي أعِشْ بهِ ... معَ النَّاسِ قالتْ ذاكَ منكَ بعيدُ
فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالباً ... ولا حبُّها فيما يبيدُ يَبيدُ
إذا فكَّرتْ قالتْ قدْ أدركتُ ودَّهُ ... وما ضرَّني بُخلِي ففيمَ أجودُ
يموتُ الهوَى منِّي إذا ما لقيتُها ... ويحيَى إذا فارقتُها فيعودُ
وقال ذو الرمة:
ولمَّا شكوتُ الحبَّ كيْما تُثيبَنِي ... بوجدِي قالتْ إنَّما أنتَ تمزحُ
دلالاً وإبعاداً عليَّ وقد أرَى ... ضميرَ الحشَى قدْ كادَ بالقلبِ ينزحُ
وقال آخر:
ولمَّا شكوتُ الحبَّ قالتْ أمَا ترَى ... مكانَ الثُّريَّا وهو منكَ بعيدُ
فقلتُ لها إنَّ الثُّريَّا وإنْ نأتْ ... يصوبُ مراراً نوْؤُها فيجودُ
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
شكوتُ إليها الحبَّ قالتْ كَذَبْتني ... ألستُ أرَى الأجلادَ منكَ كواسِيا
رُويدكَ حتَّى يبتلِي الشَّوقُ والهوَى ... عظامكَ حتَّى يرتجعنَ بَوادِيا
ويأخذكَ الوسواسُ مِنْ لوعةِ الهوَى ... وتخرسَ حتَّى لا تُجيبُ المنادِيا
وقال آخر:
أحينَ ملكْتِنِي أعرضتِ عنِّي ... كأنّي قد قتلتُ لكمْ قتيلا
فهلاَّ إذ هممتِ بصرمِ حبلِي ... جعلتِ إلى التَّصبُّرِ لي سبيلا
وقال آخر:
أطعَمَتْني فقلتُ أخذاً بكفِّي ... ثمَّ عادتْ مِنْ بعدِ ذاكَ بخُلفِ
زعمتْ أنَّها تريدُ عفافاً ... قلتُ ردِّي عليَّ قلبِي وعفِّي
وقال العباس بن الأحنف:
يا ويحَ مَن ختلَ الأحبَّةَ قلبهُ ... حتَّى إذا ظفِروا بهِ قتلوهُ
عزُّوا ومالَ بهِ الهوَى فأذلَّهُ ... إنَّ العزيزَ علَى الذَّليلِ يتيهُ
أُنظرْ إلى جسدٍ أضرَّ به الهوَى ... لولا تقلُّبُ طرفهِ دفنوهُ
مَنْ كانَ خِلواً مِنْ تباريحِ الهوَى ... فأنا الهوَى وحليفهُ وأخوهُ
وقال أيضاً:
أحرَمُ منكمْ بما أقولُ وقدْ ... نالَ بهِ العاشقونَ ما عشِقُوا
صرتُ كأنِّي ذُبالةٌ نُصبتْ ... تُضيءُ للنَّاسِ وهيَ تحترقُ
وأنشدنا أحمد بن يحيى الشيباني:
وما أنصفتْ ذَلفاءُ أمَّا دنوُّها ... فهجرٌ وأمَّا نأْيُها فيشوقُ
تباعدُ ممَّنْ واصلتْ وكأنَّها ... لآخرَ ممَّنْ لا تودُّ صديقُ
وقال آخر:
وما أنصفتْ أمَّا النِّساءُ فبغَّضتْ ... إلينا وأمَّا بالنَّوالِ فضنَّتِ
دعتْنِي بأسبابَ الهوَى فاتَّبعتُها ... حنيناً فلمَّا أقصدَتْنِي تولَّتِ
وقال المجنون:
أأدْنَيْتِني حتَّى إذا ما ملكتِنِي ... بقولٍ يُحلُّ العُصْمَ سهلَ الأباطحِ
تجافيتِ عنِّي حينَ لا لي حيلةٌ ... وخلَّفتِ ما خلَّفتِ بينَ الجوانحِ
وقال آخر:
دنتْ فعلَ ذِي ودٍّ فلمَّا تبعتُها ... تولَّتْ وأبقتْ حاجتِي في فؤادِيا
فإنْ قلتمُ إنَّا ظَلمنْا فلمْ نكنْ ... ظَلمنَا ولكنَّا أسأْنا التَّقاضيا
وقال ذو الرمة:
وتهجرهُ إلاَّ اختلاساً نهارَها ... وكمْ منْ محبٍّ رهبةَ العينِ هاجرِ
إذا خشِيتْ منهُ الصَّريمةُ أبرقتْ ... له برقَةً من خلَّبٍ غيرِ ماطرِ
وقال المجنون:
لعمرُ أبيهَا إنَّها لبخيلةٌ ... ومِنْ قولِ واشٍ إنَّها لغضوبُ
رَمَتْني عنْ قوسِ العداوةِ إنَّها ... إذا ما رأتْنِي مُعرضاً لخلُوبُ
وقال أبو ذهيل:

أبعدَ الَّذي قدْ لجَّ تتَّخذيننِي ... عدوّاً وقدْ جرَّعتنِي السُّمَّ مُنْقعا
وشفَّعتِ مَن ينعَى عليَّ ولمْ أكنْ ... لأُرجعَ من ينعَى عليكِ مُشفَّعا
فقالتْ وما همَّتْ برجعِ جوابِنا ... بلْ أنتَ أبيتَ الدَّهرَ إلاَّ تضرُّعا
فقلتُ لها ما كنتُ أوَّلَ ذِي هوًى ... تحمَّلَ حِملاً فادحاً فتوجَّعا
وقال آخر:
وقالتْ وصدَّتْ وجهَها لتغيظَنِي ... أبِالصَّدِّ تُجزَى أمْ علَى الذَّنبِ توصلُ
فقلتُ متى أذنبتُ قالتْ تريدهُ ... فقلتُ فلمْ أفعل فقالتْ ستفعلُ
فقلتُ وهلْ أُجزَى بذنبٍ لمْ آتهِ ... ولكنْ ظفرتمْ بالمحبِّينَ فاقْتُلوا
وقال آخر:
شكوتُ فقالتْ كلُّ هذا تبرُّماً ... بحبِّي أراحَ اللهُ قلبكَ مِن حبِّي
فلمَّا كتمتُ الحبَّ قالتْ لشدَّ مَا ... صبرتَ وما هذا بفعلِ شَجِي القلبِ
فشكوايَ تُؤذيها وعَتْبي يسوؤُها ... وتغضبُ مِن بعدِي وتنفرُ مِن قربِي
فيا قومِ هلْ منْ حيلةٍ تعرِفونَها ... أشِيروا بِها واستوجبُوا الأجرَ في الصَّبِّ
وأنشدني أعرابي بنجد:
ذكرتكِ إذا نامَ الخليُّ ولمْ أنمْ ... وإذْ أنتِ في شغلٍ بلهوكِ عنْ ذكرِي
وإذْ أنتِ تثنينَ الكَعابَ بقصرهِ ... وقلبِي لهُ لذعٌ أحرُّ منَ الجمرِ
فإنْ أنا لمْ أشكُو الهوَى قلتِ قدْ صحَا ... وإنْ بحتُ فيهِ خفتِ أنْ يعلَمُوا أمرِي
وليسَ خليلِي بالمُرجَّى ولا الَّذي ... إذا غبتُ عنهُ كانَ عوناً علَى الدَّهرِ
ولكنْ خليلِي مَن يصونُ مودَّتِي ... ويحفظُنِي إنْ كانَ مِن دونِ البحرِ
وأنشدني أحمد بن طاهر لنفسه:
ذهبتِ علَى صبٍّ شكَا ألمَ الهوَى ... كما ذهبتْ أرضٌ وَطئتِ ترابَها
وكانَ يُرجِّي نفعَ شكواهُ إذْ شكَا ... إليكِ فقدْ أمسَى يخافُ عقابَها
وقال المؤمل:
شكوتُ وجدِي إلى هندٍ فما اكترثتْ ... يا قلبَها أحديدٌ أنتَ أمْ حجرُ
إذا مرِضْنا أتيناكمْ نعودكمُ ... وتذنِبونَ فنأتيكمْ فنعتذرُ
وبلغني أنَّ عبد الملك بن مروان جلس يوماً للنظر في المظالم فرُفعت إليه قصةٌ منسوبة إلى عمرو بن حارث وكان فيها:
عَلِقتُ بأسبابِ المودَّةِ والهوَى ... فلمَّا حوتْ قلبِي ثنتْ بصدودِ
فلوْ شئتَ يا ذا العرشِ حينَ خلقْتَني ... شقِيّاً بمنْ أهواهُ غيرَ سعيدِ
عطفتْ عليَّ القلبَ منها برحمةٍ ... وإنْ كانَ قلباً مِنْ صفاً وحديدِ
فقلْ يا أميرَ المؤمنينَ فإنَّما ... تُحكَّمُ والأحكامُ ذاتُ حدودِ
فلمَّا قرأها عبد الملك قلبها ثمَّ وقَّع في ظهرِها:
أرَى الجَورَ منها ظاهراً يا ابنَ حارثٍ ... وما رأيُها فيما أتتْ برشيدِ
أمِنْ بعدِ ما صادتْ فؤادكَ واحتوت ... عليهِ ثنتْ وجهَ الهوَى بصدودِ
فإنْ هيَ لمْ ترحمْ بكاكَ ولا حنَتْ ... عليكَ فما منكَ الرَّدى ببعيدِ
سأَقضِي عليها أنْ تُجازِي بودِّها ... أخَا صبوةٍ جارتْ عليهِ وَدودِ
ولبعض أهل هذا العصر:
مَنْ لي بعطفِ أخٍ خلَّى الإخاءَ ورَا ... ظهرٍ ومِن ثمَّ مارَى الرُّوحَ في اللَّطَفِ
حتَّى يصيِّرَها إنْ خُيِّرتْ تلَفاً ... وفُرقةً منهُ لمْ تخترْ سوَى التَّلفِ
أغريتَ بيني وبينَ الدَّهرِ فاحتشدتْ ... بيَ الخطوبُ احتشادَ المُحنَقِ الأسِفِ
حتَّى إذا أنِسَتْ نفسِي بأنَّكَ لي ... واستعذبَتْ طيبَ ذاكَ المشربِ الأُنُفِ
أمْكنتَ منِّي اللَّيالي فانتصفنَ ومَنْ ... يُظلَمْ ويُمكنْ مِنَ الإنصافِ ينتصفِ
يا قلبُ وصفكَ يُغرِي مَن كلفتَ بهِ ... فاكْمِدْ بكتمانِ ما تلقَى ولا تصفِ
إنْ كنتَ لمْ تشجَ بالكتمانِ فاشجَ بهِ ... أوْ كنتَ لمْ تعترفْ بالصَّرمِ فاعترفِ
قلْ للَّيالي مَلَكتِ الحكمُ فاحتَكِمِي ... وللمصائبِ قدْ مُكِّنتِ فانتصفِي
وله أيضاً:
يا مُنيةَ القلبِ لوْ آمالهُ انفسحتْ ... وحظَّ نفسيَ مِنْ دينِي ودُنيائِي
قلْ لِي تناسيتَ أمْ أُنسيتَ أُلفَتَنا ... أيَّامَ رأْيكَ فينا غيرُ ذا الرَّائِي

كانتْ لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ ... فاستجمعَتْ مُذْ رأتكَ العينُ أهوائِي
فصارَ يحسدُنِي مَن كنتُ أحسدهُ ... وصرتُ مولَى الورَى مذْ صِرتَ مولائِي
حتَّى إذا استيأَسَ الحسَّادُ مِن دَرَكي ... وقلَّ أعدائيَ مذْ قلَلَتْ أكْفائِي
حَمَيتَ طعمَ الكرَى عينيَّ فاهتجرا ... فصارَ طِيبُ الكرَى مِن بعضِ أعدائِي
مَن خانَ هانَ وقلبِي رائدٌ أبداً ... مَيلاً إليكَ علَى هجرِي وإقصائِي
لا بدَّ لي منكَ فاصنعْ ما بدَا لكَ بي ... فقدْ قدرتَ علَى قتلِي وإحيائِي
وأنشدني محمد بن الخطاب:
علَّمتنِي الإصدارَ والإيرادا ... فارْفِقي بِي فقدْ ملكتِ القيادا
لا تقولِي إذا نأيتُ سلاَ عنَّ ... ا وإن زُرتكمْ أرادَ البعادا
علِّميني الدُّنوَّ منكِ إذا شئ ... تِ وعنكِ البعادَ ألْقَ الرَّشادا
وقال الأعشى:
دارٌ لقاتلةِ الغُرانقِ ما بِها ... إلاَّ الوحوشُ خلتْ لهُ وخلا لَها
ظلَّتْ تُسائلُ بالمتيَّمِ أهلهُ ... وهيَ الَّتي فعلتْ بهِ أفعالَها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
دارُ الَّتي صادتْ فؤادكَ إذْ رمتْ ... بالخَيفِ يومَ التفَّ أهلُ الموسمِ
فتجاهلتْ عمَّا بِنا ولقدْ رأتْ ... أنْ قدْ تخلَّلتِ الفؤادَ بأسهمِ
أرسلتُ جاريَتِي فقلتُ لها اذْهبِي ... فاشْكِي إليها ما لقيتُ وسلِّمِي
قولِي يقولُ تخوَّفِي في عاشقٍ ... صبٍّ بكمْ حتَّى المماتِ متيَّمِ
ويقولُ إنِّي قدْ علمتُ بأنَّكمْ ... أصبحتمُ يا بِشرُ أوجهَ ذِي دمِ
فتبسَّمتْ عُجباً وقالتْ قولةً ... إلاَّ فيُعْلِمَنا بما لمْ نعلمِ
عهدِي بهِ واللهُ يغفرُ ذنبهُ ... فيمَا بدَا لِي هوًى متقسِّمِ
قالتْ لها بلْ قدْ أردتِ بعادَهُ ... لمَّا علمتِ فإنْ بذلتِ فتمِّمِي
فهذا التَّجنّي والمباعدة أمتع من الإقرار والمواصلة لأن الوصل المتقدم لوقوع العلم إن كان عن مودّة صادقة لم يزده العلم بحقيقة الحال إلاَّ توكيداً وإن كان امتحاناً وتعرُّفاً لم تزده الثقة إلاَّ وفاء وتعطُّفاً وإن كان الَّذي تظهره الثقّة والإدلال نعمة لا يؤدى شكرها إذْ كان دليلاً على تمام الحال الَّتي قصدها ومنهم من يتظاهر عليه ثقلها فيضعف فؤاده عن حملها فتراه ينهى ويأمر بالكتمان ومن قنع بهذه الحال كان انتفاعه قليلاً وقلقه بتعرُّف حاله عند صاحبه طويلاً وليست تنال الرُّتب إلاَّ بالتَّجاسر ولا تصحّ العلى إلاَّ للمخاطر وربَّما نجَّت الجبان قناعته وأهلكت الشُّجاع جسارته بلغني أن فتًى من الأعراب يكنَّى امرء القيس هويَ فتاة من الحيّ فلمَّا وقفت على ما لها عنده هجرته فأشفى على التلف فلما بلغها ذلك جاءت فأخذت بعضادتي الباب وقالت كيف نجدك يا امرء القيس فأنشأ يقول:
دنتْ وظلالُ الموتِ بيني وبينها ... وأدلتْ بوصلٍ حينَ لا ينفعُ الوصلُ
ثمَّ لم يلبث إلاَّ يسيراً حتَّى مات فمن غلب عليه الجبن من مثل هذه الحال مال إلى التستُّر والكتمان ومن طمع في مثل ما ذكرنا من حسن المجازاة بالعدل والوصال مال إلى الإعلان وبلوغ الغاية في الوجهين جميعاً شديد والتَّوسُّط أقرب إلى السَّلامة لأن من لم تعلمه بما تنطوي له لم تلذَّ بما يبدو لك من وصله والهجر الَّذي يتولَّد عن الثّقة بالوداد خير من الوصال الَّذي يقع من غير اعتماد ومن أطلعته على كل ما تضمره له لم تجد سبيلاً إلى مكافاته على ما يتجدد لذلك من إحسانه هذا إذا سلمت من الدَّالة المؤدية إلى التلف فخير الأمور لمن أطاقه أن يظهر بعضاً ويخفي بعضاً ثمَّ يظهر الازدياد حالاً فحالاً على أن الحال إذا استغرقت صاحبها كان استعمال الاختيار فيها محالاً.
ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:
مَنْ كانَ يزعمُ أنْ سيكتمُ حبَّهُ ... حتَّى يشكِّكَ فيهِ فهوَ كذوبُ
الحبُّ أغلبُ للرِّجالِ بقهرهِ ... مِنْ أنْ يُرَى للسِّرِّ فيهِ نصيبُ
وإذا بدَا سرُّ اللَّبيبِ فإنَّهُ ... لمْ يبدُ إلاَّ وهوَ مغلوبُ
إنِّي لأُبغضُ عاشقاً مُتحفِّظاً ... لمْ تتَّهمهُ أعينٌ وقلوبُ

الباب السادس
التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِ

قد ذكرنا أن تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له في قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به فربَّما جهل المحبُّ على نفسه فتوهَّم أنَّ ذلك داخل في باب الخيانة والغدر فكافى عليه بالانحراف والهجر فيجني على نفسه ما لا يتلافاه العذر ولا يقاومه الصبر والحازم من صبر على مضاضة التَّدلُّل والتمس العزَّ في استشعار التَّذلُّل فحينئذ يتمكَّن من وداد محبوبه ويظفر من هواه بمطلوبه.
قال الحسن بن هانئ:
يا كثيرَ النَّوحِ في الدِّمنِ ... لا عليها بلْ على السَّكنِ
سُنَّةُ العشَّاقِ واحدةٌ ... فإذا أحببتَ فاسْتَكنِ
وقال معاذ ليلى:
عفَا اللهُ عنِي ليلَى وإنْ سفكتْ دمِي ... فإنِّي وإنْ لمْ تُجزِنِي غيرُ عاتبِ
عليها ولا مُبدٍ لليلَى شكايةً ... وقدْ يُشتكَى المُشكِي إلى كلِّ صاحبِ
يقولونَ تبْ عن حبِّ ليلَى وذكرِها ... وما خلتُنِي عنْ حبِّ ليلَى بتائبِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لستُ مِن ظالمَتِي منتصِفاً ... قبَّحَ اللهُ محبّاً يَنتصفْ
وفتاةٍ أنْ تغبْ شمسُ الضُّحى ... فهيَ للنَّاسِ منَ الشَّمسِ خلَفْ
أجمعَ النَّاسُ على تفضيلِها ... وهواهمْ في سِواها مُختلفْ
وقال المؤمل:
أمنْ فقدِ الحبيبِ عيناكَ تبكِي ... نعمْ فقدُ الحبيبِ أشدُّ فقدِ
بَرانِي الحبُّ حتَّى صرتُ عبداً ... فقدْ أمسيتُ أرحمُ كلَّ عبدِ
فأُقسمُ لو هممتِ بمدِّ قلبِي ... إلى جوفِ السَّعيرِ لقلتُ مُدِّي
وقال أبو الوليد عبيد الطائي:
منِّيَ وصلٌ ومنكَ هجرُ ... وفيَّ ذلٌّ وفيكَ كِبرُ
عذَّبني حبُّكَ المُعنِّي ... وغرَّني منكَ ما يغرُّ
قدْ كنتُ حرّاً وأنتَ عبدٌ ... فصرتُ عبداً وأنتَ حرُّ
يا ظالماً لي بغيرِ جرمٍ ... إليكَ مِنْ ظُلمكَ المفرُّ
أنتَ نَعيمي وأنتَ بؤسِي ... وقدْ يسوءُ الَّذي يسرُّ
وقال آخر:
تُسيءُ بنا هندٌ ونحسنُ جهدَنا ... فحتَّى متى هندٌ تُسيءُ ونُحسنُ
وأَجبنُ عنْ تقريعِ هندٍ بذنبِها ... ولوْ غيرُ هندٍ كانَ ما كنتُ أجبنُ
وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي قال أنشدني ماني لنفسه:
يزيدُنِي ما استزدتُ مِن صلتهْ ... وعنْ قليلٍ يعودُ في هبتهْ
لوْ حزتُ قطرَ السَّماءِ لانهملتْ ... عليَّ ظُلماً سماءُ مَوْجَدتهْ
كمْ زلَّةٍ منهُ قدْ ظفرتُ بها ... فقامَ حبِّي لهُ بمعذرتهْ
تُفنِي اللَّيالي وعيدَهُ وأنا ... قريبُ عهدٍ بسوءِ مملكتهْ
وقال أبو تمام الطائي:
ظنِّي بهِ حسَنٌ لولا تجنِّيهِ ... وأنَّهُ ليسَ يرعَى عهدَ حُبِّيهِ
عمَّتْ محاسنهُ عنِّي إساءتَهُ ... حتَّى لقدْ حسُنتْ عندِي مساويهِ
تاهتْ علَى صورةِ الأشياءِ صورتهُ ... حتَّى إذا خضعتْ تاهتْ علَى التِّيهِ
لمْ تجتمعْ فرقُ الحُسنِ الَّتي افترقتْ ... عنْ يوسفِ الحسنِ حتَّى استجمعتْ فيهِ
وقال آخر:
مُستقبلٌ بالَّذي يهوَى وإنْ كثرتْ ... منهُ الإساءةُ معذورٌ بما صنعَا
في وجههِ شافعٌ يمحُو إساءتَهُ ... منَ القلوبِ وجيهٌ حيثُ ما شفعَا
وأنشدني بعض إخواننا:
يا مَنْ أراهُ أحقَّ بِي منِّي ... إنْ غبتُ عنكَ فلمْ تغبْ عنِّي
أغفلْتَنِي لمَّا اعتللتُ ولمْ ... يكُ ذاكَ منكَ يدورُ في ظنِّي
وأمرُّ ما ذاقَ امرؤٌ فهِمٌ ... ما جاءهُ مِن موضعِ الأمنِ
كنْ كيفَ شئتَ فما منَحْتُكَهُ ... صفوٌ بلا كدرٍ ولا منِّ
وقال كثيِّر:
أسيئِي بنا أوْ أحسنِي لا مَلولةً ... لدينا ولا مقليَّةً إنْ تقلَّتِ
أصابَ الرَّدى مَن كانَ يهوَى لكِ الرَّدى ... وجُنَّ اللَّواتي قلنَ عزَّةُ جُنَّتِ
خليليَّ هذا رسمُ عزَّةَ فاعْقِلا ... قلوصَيْكُما ثمَّ ابْكِيا حيثُ حلَّتِ
وقال آخر:
إنَّ الهوانَ هو الهوَى نقضُ اسمهِ ... فإذا هويتَ فقدْ لقيتَ هوانَا
وإذا هويتَ فقدْ تعبَّدكَ الهوَى ... فاخضعْ لإلفكَ كائناً مَنْ كانا
وقال آخر:

صفحتُ برغمِي عنكَ صفحَ ضرورةٍ ... إليكَ وفي قلبِي ندوبٌ منَ العتبِ
خضعتُ وما ذنبِي إنَّما الحبُّ عزَّنِي ... فأَغضيتُ ضُعفاً عنْ معالجةِ الحبِّ
وما ذاكَ بِي فقرٌ إليكَ مُنازعٌ ... يُذلِّلُ منِّي كلَّ ممتنعٍ صعبِ
إلى اللهِ أشكُو أنَّ ودِّي مُضيَّعٌ ... وقلبِي جميعٌ عندَ مقتسمِ القلبِ
وقالت امرأة من الأعراب:
بنفسِي وأهلِي مَن لَوَ انِّي أتيتهُ ... علَى البحرِ فاستسقيتُهُ ما سقانِيَا
ومَن لوْ رأَى الأعداءَ ينتَضِلونَنِي ... لهمْ غرضاً يرمونَنِي لرَمانِيا
ومَن قدْ عصيتُ النَّاسَ فيهِ جماعةً ... وصرَّمتُ خُلاَّني لهُ وجفانِيَا
فيا أخويَّ اللائِمَيَّ علَى الهوَى ... أُعيذُكما باللهِ منْ مثلِ ما بِيَا
سألتُكُما باللهِ لِمَّا جعلتُما ... مكانَ الأذَى واللَّومِ أنْ ترثيا لِيَا
ولا تغْفَلا إنْ لامَنِي ثَمَّ لائمٌ ... ولو سخطَ الواشونَ أنْ تعذُرانِيا
فأُقسمُ لو خُيِّرتُ بينَ فراقهِ ... وبينَ أبِي اخترتُ أنْ لا أبا لِيَا
ثكلتُ أبي إنْ كنتُ ذُقتُ كريقهِ ... لشيءٍ ولا ماءً منَ المزنِ صافِيَا
وقال كثيّر:
وقائلةٍ دعْ وصلَ عزَّةَ واتَّبعْ ... مودَّةَ أُخرى وابلُها كيفَ تصنعُ
أراكَ عليها في المودَّةِ زارِياً ... وما نلتَ منْها طائلاً حيثُ تسمعُ
فقلتُ ذَريني بئسَ ما قلتِ إنَّني ... علَى البخلِ منها لا علَى الجودِ أتْبعُ
وقال البحتري:
أميلُ إليكَ عنْ ودٍّ قريبٍ ... فتُقصيني علَى النَّسبِ البعيدِ
فما ذنبي بأنْ كانَ ابنُ عمِّي ... سواكَ وكانَ عودُكَ غيرَ عودي
وفي عينيكَ ترجمةٌ أراها ... تدلُّ علَى الضَّغائنِ والحُقودِ
وأخلاقٍ عَهدْتُ اللِّينَ فيها ... غدتْ وكأنَّها زُبرُ الحديدِ
وقد عاقدْتَني بخلافِ هذا ... وقال الله أوْفوا بالعقودِ
وما ليَ قوَّةٌ تنهاكَ عنِّي ... ولا آوي إلى رُكنٍ شديدِ
سأرحلُ عاتباً ويكونُ عتبي ... علَى غيرِ التَّهدُّدِ والوعيدِ
وأحفظُ منكَ ما ضيَّعتَ منِّي ... علَى رَغمِ المُكاشحِ والحسودِ
هذا الكلام وإن كان فيه شيء من التَّواضع والاستكانة فإنَّ فيه ضرباً من الضَّجر الدَّاعي إلى الخيانة لأنَّ صاحبه لم يصبر على التَّذلُّل نفسه على ما صبر عليه من بدأنا بذكره.
وفي نحو هذا المعنى قول الآخر:
فإنْ يكُ هذا منكَ جدّاً فإنَّني ... مُداوي الَّذي بيني وبينكَ بالهجرِ
ومُنصرفٌ عنكَ انصرافَ ابنِ حرَّةٍ ... طوى ودَّهُ والطَّيُّ أبقى علَى النَّشرِ
وفي مثله يقول البحتري:
وكنتُ أرى أنَّ الصُّدودَ الَّذي مضى ... دلالٌ فما إنْ كانَ إلاَّ تجنُّبا
فوا أسفا حتَّامَ أسألُ مانِعاً ... وآمنُ خوَّاناً وأُعتبُ مُذنبا
سأثْني فؤادي عنكِ أو أتبعُ الهوَى ... إليكِ إنِ استعصى فؤادي أوْ أبى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في نحوه:
ما لي أُقرِّبُ منكَ نفسي جاهداً ... وأراكَ منِّي جاهداً تتباعدُ
قدَّمتَ دونَ أخيكَ من هو دونهُ ... وعندْتَ عنهُ وهوَ منكَ يُعاندُ
أيأستني بعدَ الرَّجاء فمنْ ترى ... يرجوكَ بعدي أوْ عليكَ يُحاسدُ
أمْ كيفَ يأملُ منكَ يوماً صالحاً ... أحدٌ ورأيكَ فيَّ رأيٌ فاسدُ
وقال ابن حازم في نحو ذلك:
لا ترضَ عيشاً علَى امتهان ... ولا تردْ وصلَ ذي امتنانِ
أشدُّ منْ عَيلةٍ وفقرٍ ... إغضاءُ حُرٍّ علَى هوانِ
إذا نبا منزلٌ بحُرٍّ ... فمنْ مكانٍ إلى مكانِ
وهؤلاء كلُّهم ومن جرى في هذا القول مجراهم إنَّما يتضاجرون على خلاَّنهم لثقلهم إيَّاهم عن عاداتهم ومنعهم إيَّاهم ما استعبدوه من مواصلاتهم لتغلُّب الحيرة على قلوبهم يحسبون أنَّ انحرافهم عن أحبابهم أقلُّ أذًى عليهم من الصبر لهم على محبَّاتهم ولو قد أنفذوا ما عزموا عليه من الفراق والهجر لشاهدوا ما يضطرُّهم إلى الرُّجوع بالصِّغر والتَّوسل إلى الصَّفح بالعذر ما لم يسمع الَّذي يقول:
مزحتَ بالهجرِ ولا علمَ لي ... أنَّكَ مُشتاقٌ إلى الهجرِ

فلا يضقْ عفوُكَ عن تائبٍ ... تضيقُ عنهُ سعةُ العُذرِ
وفي مثل ذلك يقول الآخر:
يا بيتَ خنساءَ الَّذي أتجنَّبُ ... ذهبَ الزَّمانُ وحبُّها لا يذهبُ
ما لي أحنُّ إذا جِمالكِ قرَّبتْ ... وأصدُّ عنكِ وأنتِ منِّي أقربُ
لله درُّكِ هلْ لديكِ مُعوَّلٌ ... لِمُكلَّفٍ أمْ هلْ لودِّكِ مطلبُ
وفي نحو ذلك يقول البحتري:
رحلتُ عنكَ رحيلَ المرء عن وطنهْ ... ورحلةَ السَّكنِ المشتاقِ عن سكنِهْ
فإنْ تحمَّلتُ صبراً عنكَ أوْ مُنيتْ ... نفسي به فهو صبرُ الطَّرفِ عن وسنِهْ
ولبعض الأعراب في مثل ذلك:
وإنِّي وإنْ لم آتِ ليلى وأهلها ... لَباكٍ علَى ليلى بُكا ذي التَّمائمِ
بُكاً ليسَ بالنَّزرِ القليلِ ودائمٌ ... كما الهجرُ من ليلى علَى الوصلِ دائمُ
هجرتُكِ أياماً بذي العُمرِ إنَّني ... علَى هجرِ أيامي بذي العُمرِ نادِمِ
فلمَّا مضتْ أيَّامُ ذي العمرِ وارتمى ... بيَ الهجرُ لامتني عليكِ اللَّوائمُ
وإنِّي وذاكَ الهجرُ لو تعلمينهُ ... كَمَاذيةٍ عن طفلها وهيَ رائمُ
ألمْ تعلمي أنِّي أهيمُ بذكركُمْ ... علَى حينِ لا يبقى علَى الوصلِ دائمُ
أظلُّ أُمنِّي النفسَ إيايَ خالياً ... كما يتمنَّى باردَ الماء صائمُ
ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:
لا بدَّ للعاشقِ من وقفةٍ ... تكونُ بينَ الوصلِ والصَّرْمِ
حتَّى إذا الهجرُ تمادى به ... راجعَ من يهوى علَى رغمِ
وأحسن أيضاً في قوله:
العاشقانِ كلاهما مُتعتِّبُ ... وكلاهما مُتذلِّلٌ مُتغضِّبُ
صدَّتْ مُراغمةً وصدَّ مُراغماً ... وكلاهما ممَّا يُعالجُ مُتعبُ
راجعْ أحبَّتكَ الذين هجرتهم ... إنَّ المُتيَّمَ قلَّ ما يتجنَّبُ
إنَّ الصُّدودَ إذا تمكَّنَ منكما ... دبَّ السُّلوُّ لهُ فعزَّ المطلبُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يا مُتُّ قبلكَ طالَ الحُزنُ والأسفُ ... وجاوزَ الشَّوقُ بي حدَّ الَّذي أصِفُ
قلبي إليكَ مع الهجرانِ مُنعطفٌ ... وأنتَ عنِّي رخيُّ البالِ مُنحرفُ
فإنْ تكنْ عن إخائي اليومَ مُنصرفاً ... فاللهُ يعلمُ ما لي عنكَ مُنصرفُ
هَبْني اعترفتُ بأنِّي لستُ ذا شغفٍ ... ألمْ يكنْ كمدي أن لستُ أنتصفُ
كمْ قد كذبتُ علَى قلبي فكذَّبني ... طولُ الحنينِ وعينٌ دمعها يكفُ
إن كنتَ يوماً مُقيلي زلَّةً سلفتْ ... فالآنَ من قبلِ أن يُغرى بيَ التَّلفُ
اللهَ اللهَ في نفسي فقدْ عطِبتْ ... وليسَ في قيلها من شُكرها خلفُ
قد ذلَّلَ الشَّوقُ قلبي فهوَ مُعترفٌ ... إنَّ التَّذلُّلَ في حكم الهوَى شرفُ
فاعملْ برأيكَ لا أدعوك مُعتدياً ... ولا أقولُ لشيءٍ قُلتهُ سرفُ

الباب السابع
من طالَ سرورهُ قصرتْ شهورهُ
من صبر على الامتحان لمن يهواه على مثل ما ذكرناه كان خليقاً أن يبلغ أقصى مُناه وأهل هذه الحال الذين يحمدون الهوَى ويشكرونه ويصفون لذاذته للذين لا يعرفونه ويزرون على عيشٍ من لم يتطعَّم مذاقه ولم يُتعبَّد باسترقاقه ألم تسمع الَّذي يقول:
إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوَى ... فكنْ حجراً من يابسِ الصَّخرِ جلْمدا
فما العيشُ إلاَّ ما تلذُّ وتشتهي ... وإنْ لامَ ذو الشَّنآنِ فيه وفنَّدا
تبعتُ الهوَى جُهدي فمن شاءَ لامني ... ومن شاء آسى في البُكاء وأسعدا
والكميت أنصف من هذا حيث يقول:
ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لمْ يعشقِ
الحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارةٌ ... سائلْ بذلك من تطعَّمَ أوْ ذُقِ
وقال القطامي:
ألا علِّلاني كلُّ حيٍّ مُعلَّلُ ... ولا تَعِداني الشَّرُّ والخيرُ مُقبلُ
فإنَّكما لا تدريانِ أما مضى ... من الدَّهر أمْ ما قد تأخَّرَ أطولُ
أنشد أبو تمام لنفسه:
أيُّ شيءٍ يكونُ أملحَ من صَ ... بٍّ أديبٍ متيَّمٍ بأديبِ
جازَ حُكمي في قلبهِ وهواهُ ... بعدما جازَ حُكمهُ في القلوبِ
كادَ أن يكتبَ الهوَى بينَ عينيهِ ... كتاباً هذا حبيبُ حبيبِ

غيرَ أنِّي لو كنتُ أعشقُ نفسي ... لتنغَّصْتُ عِشقها بالرَّقيبِ
فهؤلاءِ الذين قد سامحهم الدَّهر بصحابهم فاستطابوا المقام على حالهم ومن وصل إلى شيءٍ نفسه تقاصرت عليه الأيام وراصدته بمكروهات الشهور والأعوام.
قال جميل بن معمر:
يطولُ اليومُ لا ألقاكِ فيهِ ... وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
وقالوا لا يضرُّكَ نأيُ شهرٍ ... فقلتُ لِصاحبي فلمنْ يضيرُ
وقال آخر:
أقولُ لصاحبي والعيسُ تهوي ... بنا بينَ المُنيفةِ والضِّمارِ
تمتَّعْ من شميمِ عَرارِ نجدٍ ... فما بعدَ العشيَّةِ من عَرارِ
ألا يا حبَّذا نفحاتُ نجدٍ ... وريَّا روضهِ بعدَ القِطارِ
وأهلُكَ إذْ يحلُّ القومُ نجداً ... وأنتَ علَى زمانكَ غيرُ زاري
شهورٌ ينقضينَ وما علمنا ... بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ
وقال آخر:
لياليَ أعطيتُ الصَّبابةَ مِقْودي ... تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أدري
مضى لي زمانٌ لو أُخيَّرُ بينها ... وبينَ حياتي خالياً آخر الدَّهرِ
لقلتُ ذروني ساعةً وكلاهما ... علَى غفلةِ الواشينَ ثمَّ اقطعوا عمري
وقال أبو تمام لنفسه:
وفاتنِ الألحاظ والخدِّ ... مُعتدلِ القامةِ والقَدِّ
صيَّرني عبداً لهُ حسنهُ ... والطَّرفُ قد صيَّرهُ عبدي
وقال بعض بني قشير:
لوَ أنَّكَ شاهدتَ الصِّبى يا ابنَ بَوْزلٍ ... بجزعِ الغضا إذْ واجهتنا عياطلُهْ
لأبصرتَ عيشاً بعدَ سخطٍ من النَّوى ... وبعدَ تنائي الدَّارِ حلواً شمائلُهْ
وقال الطائي:
لو كنتَ عندي أمسِ وهو مُعانقي ... ومدامعي تجري علَى خدَّيْهِ
وقدِ ارتوتْ من عبرتي وجناتُهُ ... وتنزَّهتْ شفتايَ في شفتيهِ
لرأيتَ بكَّاءً يهونُ علَى الهوَى ... وتهونُ تخْليَّةُ الدُّموع عليهِ
ورأيتَ أحسنَ من بُكائيَ قولهُ ... هذا الفتَى مُتعنِّتٌ عينيهِ
وقال أيضاً:
ظنُّكَ فيما أُسرُّهُ حكمُ ... أرضى بهِ لي وطرفُكَ الفَهِمُ
فيمَ سُلوِّي وأنتَ بي كَلِفٌ ... ليسَ بهذا تُعاشرُ النِّعَمُ
كيفَ وعيني إليكَ مُسرعةٌ ... فيكَ وقلبي عليكَ مُتَّهمُ
أظهرتُ من لوعةِ الهوَى جزَعاً ... والصَّبرُ إلاَّ عن الهوَى كرمُ
وقال أيضاً:
نِعمُ اللهِ فيكَ لا أسألُ اللَّ ... هَ إليها نُعمَى سِوى أنْ تدُوما
ولَوَ انِّي فعلتُ كنتُ كمنْ تسْ ... ألهُ وهوَ قائمٌ أنْ يقُوما
وقال أيضاً:
أيَّامُنا مصقولةٌ أطرافُها ... بكَ واللَّيالي كلُّها أسحارُ
هِمَمي معلَّقةٌ عليكَ رِقابُها ... معلولةٌ إنَّ الوفاءَ إسارُ
ومودَّتي لكَ لا تُعارُ بلَى إذا ... ما كانَ تأْمُورُ الفؤادِ يُعارُ
والنَّاسُ غيركَ ما تغيّرُ حبوَتِي ... لِفراقهمْ هلْ أنجدُوا أو غارُوا
ولذاكَ شِعرِي فيكَ قدْ سمعُوا بهِ ... سَحرٌ وأشعارِي بهمْ إشعارُ
وقال علي بن محمد العلوي:
مِنْ قِصرِ اللَّيلِ إذا زُرتنِي ... أبكِي وتَبكينَ منَ الطُّولِ
عدوُّ عينيكِ وشانِيهما ... أصبحَ مشغولاً بمشغولِ
وقال أبو عبادة البحتري:
لوتْ بالسَّلامِ بناناً خضيباً ... ولحظاً يشوقُ الفؤادَ الطَّروبا
وزارتْ علَى عجلٍ فاكْتسَى ... لزَوْرتِها أبرقُ الحزنِ طِيبا
فكانَ العبيرُ بها واشياً ... وجرسُ الحليِّ عليها رقِيبا
ولمْ أنسَ ليلَتَنا في العناقِ ... ولفَّ الصِّبا بقَضيبٍ قضيبَا
كما أقبلتِ الرِّيحُ في مرِّها ... فَطوراً خُفوقاً وطوراً هُبوبا
وقال أيضاً:
تأبَى المنازلُ أنْ تُجيبَ ومِنْ جوًى ... يومَ الدِّيارِ دعوتُ غيرَ مُجيبِ
وقِصارِ أيَّامٍ بهِ شرَقَتْ لنا ... حسَناتُها مِنْ كاشحٍ ورقيبِ
سُقيَ الغَضا والنَّازِليهِ وإنْ همُ ... شبُّوهُ بينَ جوانِح وقلوبِ
وله أيضاً:
وأخٌ لبستُ العيشَ أخضرَ ناضراً ... بكريمِ عِشرتهِ وفضلِ إخائهِ
وضياءِ وجهٍ لوْ تأمَّلهُ امرؤٌ ... صادِي الجوانحِ لارْتَوى مِن مائهِ

فدعِ الهوَى أوْ متْ بدائكَ إنَّ مِنْ ... شأنِ المُتيَّمِ أنْ يموتَ بدائهِ
وله أيضاً:
ألنْتَ لي الأيَّامَ مِن بعدِ قسوةٍ ... وعاتبتَ لي دهرِي المسيءَ فأعتبا
وألبسْتَنِي النُّعمَى الَّتي غيَّرتْ أخِي ... عليَّ فأضحَى نازِحَ الودِّ أجنبَا
وقال آخر:
ولمَّا خلوْنا واطْمأنَّتْ بنا النَّوى ... وعادَ لنا العيشُ الَّذي كنتُ أعرفُ
أخذتُ بكفِّي كفَّها فوضعْتُها ... علَى كبدٍ من خِشيةِ البَيْنِ ترجفُ
قال محمد بن نصير:
لا أظلمُ اللَّيلَ ولا أدَّعِي ... أنَّ نجومَ اللَّيلِ ليستْ تغورُ
اللَّيلُ ما شاءتْ فإن لمْ تزرْ ... طالَ وإنْ زارتْ فلَيْلِي قصيرُ
وقال جميل:
تذكَّرَ منها القلبُ ما ليسَ ناسياً ... ملاحةَ قولٍ يومَ قالتْ ومعهدَا
فإن كنتَ تهوَى أوْ تُريدُ لقاءَنا ... علَى خلوةٍ فاضربْ لنا منكَ موعِدا
فقلتُ ولمْ أملكْ سوابقَ عبرةٍ ... أأحسنُ مِنْ هذا العشيَّةَ مَقعدا
فقالتْ أخافُ الكاشحينَ وأتَّقي ... عيوناً منَ الواشينَ حوليَ شُهَّدا
وقال خالد الكاتب:
عشيَّةَ حَيانِي بوردٍ كأنَّهُ ... خدودٌ أُضيفتْ بعضهنَّ إلى بعضِ
وولَّى وفِعلُ السُّكْرِ في لحظاتهِ ... كفعلِ نسيمِ الرِّيحِ بالغصنِ الغضِّ
وقال آخر:
وقصيرةِ الأيَّامِ ودَّ جليسُها ... لوْ نالَ مجلسَها بفقدِ حميمِ
بيضاءُ مِنْ بقرِ الجِواءِ كأنَّما ... حفن الحياةِ بها وداءُ سقيمِ
وقال عروة بن أذينة:
فذَّانِ يُعنيهما للبينِ فرقتهُ ... ولا يملاَّنِ طولَ الدَّهرِ ما اجتمعَا
مستقبلانِ نشاطاً مِنْ شبابِهِما ... إذا دعَا دعوةً داعِي الهوَى سمِعا
لا يعجبانِ بقولِ النَّاسِ عنْ عُرضٍ ... ويعجبانِ بِما قالا وما صنَعَا
وقال العرجي:
لَقيتُ بهِ سرَّ ينظرنَ موعدِي ... وقِدماً وفتْ منِّي لهنَّ المواعدُ
أمِنَّ العيونَ الرَّامقاتِ ولمْ يكنْ ... لهنَّ بهِ عينٌ سوَى الصُّبحِ رائدُ
فبتُّ صريعاً بينهنَّ كأنَّني ... أخُو سقمٍ تحنُو عليهِ العوائدُ
يفدِّينِي طوراً ويضمُمْنَ تارةً ... كما ضمَّ مولوداً إلى الصَّدرِ والدُ
لعمرِي إنْ أبدَيْنَ لي الودَّ إنَّني ... بهنَّ وإنْ أخفيتُ وجدي لواجدُ
وقال البحتري:
وأهيفُ مأخوذٍ منَ النَّفسِ شكلهُ ... ترَى العينُ ما تحتاجُ أجمعَ فيهِ
ولمْ تنسَ نفسِي ما سُقيتُ بكفِّهِ ... منَ الرَّاحِ إلاَّ ما سُقيتُ بفيهِ
أرَى غفلةَ الأيَّامِ إعطاءَ مانعٍ ... يُصيبكَ أحياناً وحلمَ سفيهِ
وقال آخر:
وليلٍ لم يقصِّرهُ رقادٌ ... وقصَّرهُ مُنادمةُ الحبيبِ
نعيمُ الحبِّ أورقَ فيهِ حتَّى ... تناوَلْنا جَناهُ مِنْ قريبِ
ومجلسِ لذَّةٍ لمْ نقوَ فيهِ ... علَى شكوَى ولا عذرِ الذُّنوبِ
فلمَّا لمْ نطقْ فيهِ كلاماً ... تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ
وأنشدتني ستيرة العصيبية:
بتْنا بأطيبَ ليلةٍ وألذِّها ... يا ليتَها وُصلتْ لنا بليالِ
حتَّى إذا ما اللَّيلُ أُشعلَ لونهُ ... بالصّبحِ أوْ أودَى علَى الإشغالِ
نادَى منادٍ بالصَّلاةِ فراعَنا ... ومضَى جميعُ اللَّيلِ غيرَ نوالِ
فنهضنَ مِنْ حذرِ العيونِ هوارباً ... نهْضَ الهِجانِ بدَكْدَكٍ مُنهالِ
ثمَّ اطَّلعنَ كأنَّهنَّ غمائمٌ ... زمنَ الرَّبيعِ هممْنَ باستهلالِ
حتَّى دفعنَ إلى فتًى جشَّمنهُ ... ردَّ الكرَى وتعسُّفَ الأهوالِ
وقال بعض أهل هذا العصر:
خليليَّ أغرانِي منَ الشَّوقِ والهوَى ... وأخلطُ مِنْ ماءِ الشَّاربينِ بالخمرِ
فصدرٌ علَى صدرٍ ونحرٌ علَى نحرٍ ... وخدٌّ علَى خدٍّ وثغرٌ علَى ثغرِ
يظلُّ حسودُ القومِ فينا مفكِّراً ... بخيْلٍ منِ المعشوقُ منَّا فلا يدرِي
وقال عمر بن أبي ربيعة:
وغضيضِ الطَّرفِ مِكسالِ الضُّحى ... أحورِ المقلةِ كالرِّيمِ الأغنْ
مرَّ بي في بقرٍ يحفُفْنهُ ... مثلَ ما حفَّ النَّصارى بالوثنْ

راعَنِي منظرهُ لمَّا بدَا ... ربَّما ارتاعَ بالشَّيءِ الحسنْ
قلتُ مَنْ هذا فقالت بعضُ مَنْ ... فتنَ اللهُ بهِ فيمنْ فتنْ
بعضُ مَن كانَ سَتيراً زمناً ... ثمَّ أضحَى فهواكمْ قد محنْ
قلتُ حقّاً قلتِ قالتْ قولةً ... أورثتْ في القلبِ همّاً وحزنْ
قلتُ يا سيِّدتِي عذَّبتِني ... قالتِ اللهمَّ عذِّبني إذنْ
أما هذه المخاطبة فقلَّما يقع ألطف منها لفظاً ولا أجلّ منها موقعاً ولو لم يصبر المحبُّ علَى امتحان إلفه إلاَّ بسمع مثل هذا من لفظه لكان ذلك حظّاً جزيلاً ودركاً جليلاً فكيف وحال الصَّفاء إذا ابتدأت بين المتحابَّين بالمشاكلة الطبيعية ثمَّ اتَّصلت بالحراسة عن الأخلاق الدَّنيئة ثمَّ عذبت بالرّعايات الاختياريَّة بلغت بهما الحال إلى حيث انقطعت بهم دونه الآمال وعلى أنَّ الحزم لمن سومح بالوصال ألا يرسل نفسه كلَّ الإرسال فإنَّ ذلك ربَّما دعا المحبوب إلى الملال وإن كان مقيماً على رعاية الحال.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
عليكَ بإقلالِ الزِّيارةِ إنَّها ... تكونُ إذا دامتْ إلى الهجرِ مسلكَا
فإنِّي رأيتُ القطرَ يُسأمُ دائماً ... ويُسألُ بالأيدي إذا هوَ أمسكَا

الباب الثامن
مَن كانَ ظريفاً فليكنْ عفيفاً
قال أبو بكر بن داود وحدثني أبي قال حدثنا سويد بن سعيد الحدثانيّ قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى الفتات عن مجاهد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: مَن عشق فعفَّ فكتمه فمات فهو شهيد ولو لم تكن عفَّة المتحابَّين عن الأدناس وتحاميهما ما ينكر في عرف كافة النَّاس محرَّماً في الشرائع ولا مستقبحاً في الطَّبائع لكان الواجب على كلِّ واحد منهما تركه إبقاء ودّه عند صاحبه وإبقاء على ودِّ صاحبه عنده.
أنشدني أحمد بن يحيى عن زبير عن محمد بن إسحاق عن مؤمل بن طالوت من أهل وادي القرى عن حمزة بن أبي ضيغم:
وبتْنا خلافَ الحيِّ لا نحنُ منهمُ ... ولا نحنُ بالأعداءِ مُختلطانِ
وبتْنا يقينَا ساقطَ الطَّلِّ والنَّدى ... منَ اللَّيلِ بردَا يمنةٍ عَطرانِ
نذودُ بذكرِ اللهِ عنَّا غوَى الصِّبى ... إذا كادَ قلبانَا بِنا يرِدانِ
ونصدرُ عن ريِّ العفافِ وربَّما ... سُقينا عليكِ النَّفسَ بالرَّشَفانِ
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
ويومٍ كإبهامِ الحُبارَى لهوتهُ ... بقعمةَ والواشونَ فيهِ تحرِّفُ
بِلا حرجٍ إلاَّ كلامَ مودَّةٍ ... علينا رَقيبانِ التُّقى والتَّعفُّفُ
إذا ما تهمَّمنا صددْنا نفوسَنا ... كما صدَّ مِنْ بعدِ التَّهمُّمِ يوسفُ
وقال العباس بن الأحنف:
أتأذنونَ لصبٍّ في زيارتكمْ ... فعندكمْ شهواتُ السَّمعِ والبصرِ
لا يُضمرُ السُّوءَ إنْ طالَ الجلوسُ بهِ ... عفُّ الضَّميرِ ولكنْ فاسقُ النَّظرِ
وأحسن من هذا قول عمر:
نظرتُ إليها بالمحصَّبِ مِنْ منًى ... ولِي نظرٌ لولا التَّحرُّجُ عارمُ
فقلتُ أشمسٌ أمْ مصابيحُ بيعةٍ ... بدتْ لكَ خلفَ السِّجفِ أمْ أنتَ حالمُ
بعيدةُ مهوَى القرطِ إمَّا لنوفلٍ ... أبوها وإمَّا عبدُ شمسٍ وهاشمُ
طلبْنا الصِّبَى حتَّى إذا ما أصبْنهُ ... نزعْنا وهنَّ المسلماتُ الكرائمُ
ولبعض أهل هذا العصر:
أمولايَ لمْ تبعدْ عليكَ مطالبي ... ولمْ تخشَ إنْ فكَّرتَ فيَّ فواتِي
أمولايَ لا أينَ المفرُّ منَ الهوَى ... فقلْ لي لمَ بادرتَ بالنَّقماتِ
أَأُنسيتَ عهدَيْنا بوادٍ معظَّمٍ ... وليسَ بذِي زرعٍ سوَى الحسناتِ
وأنتَ حرامٌ حرمةَ الحجِّ والهوَى ... علَى العينِ إلاَّ هفوةُ اللَّحظاتِ
أخنتُكَ كانَ العفوُ أولَى بذِي الهوَى ... أمُ ابْلغتَ زوراً لِم شفيتَ وُشاتِي
قال وبلغني عن الأصمعي أنَّه قال بينا أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجاريةٍ متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول:
لنْ يقبلَ اللهُ مِنْ معشوقةٍ عملاً ... يوماً ووامِقُها غضبانُ مهجورُ
وكيفَ يأْجرُها في قتلِ عاشِقها ... لكنَّ عاشقَها في ذاكَ مأْجورُ

قال فقلت لها يرحمك الله أفي مثل هذا الموضع تنشدين هذا فقالت إليك عنِّي يا عراقيُّ لا رهقك فقلت لها وما الحب فقالت هيهات جل والله عن أن يُحصى وخفي عن أن يُرى فهو كامن ككمون النار في حجرها إن قدحته ورى وإن تركته توارى ثمَّ أنشأت تقول:
إنسٌ غرائرُ ما هممنَ بريبةٍ ... كظباءِ مكَّةَ صيدهنَّ حرامُ
يُحسبنَ من لِينِ الحديثِ فواسقاً ... ويصدُّهنَّ عنِ الخنا الإسلامُ
وقال أبو صخر الهذلي:
ولَليلةٌ منها تعودُ لنَا ... في غيرِ ما رفثٍ ولا إثمِ
أهوَى إلى نفسِي ولو نزحتْ ... ممَّا ملكتُ ومِنْ بنِي سهمِ
وقال آخر:
فلمَّا التقيْنَا قالتِ الحكمَ فاحتكمْ ... سوَى خصلةٍ هيهاتَ منكِ مرامُها
فقلتُ معاذَ اللهِ مِنْ تلكَ خصلةً ... تموتُ ويبقَى وزرُها وإثامُها
فبتُّ أُثنِّيها عليَّ كأنَّها ... منَ النَّومِ سكرَى وارفاتٌ عظامُها
وقال مسعر بن كدام:
تفنَى اللَّذاذةُ ممَّنْ نالَ صفوتَها ... منَ الحرامِ ويبقَى الإثمُ والعارُ
تبقَى عواقبُ سوءٍ في مغبَّتِها ... لا خيرَ في لذَّةٍ مِنْ بعدِها النَّارُ
وقال جرير:
كانتْ إذا أخذتْ لعِيدٍ زينةً ... هشَّ الفؤادُ وليسَ فيها مطمَعُ
تركتْ حوائمَ صادِياتٍ هيَّماً ... مُنعَ الشِّفاءُ وطابَ هذا المشرعُ
وقال عبيد الرَّاعي:
نقاربُ أفنانَ الصِّبى ويردُّنا ... حياءٌ إذا كدْنا نلجُّ فنجمحُ
حرائرُ ما يَدرينَ ما سوءُ شيمةٍ ... ويتركنَ ما يُلحَى عليهِ ويفضحُ
وقال ذو الرمة:
أرَينَ الَّذي استودعنَ سوداءَ قلبهِ ... هوًى مثلَ شكٍّ بالرِّماحِ النَّواجمِ
أُولئكَ آجالُ الفتَى إنْ أردنهُ ... بقتلٍ وأسبابُ السَّقامِ المُلازمِ
يقاربنَ حتَّى يطمعَ التَّابعُ الصِّبى ... وتهتزَّ أحشاءُ القلوبِ الحوائمِ
إذا قالَ يا قدْ حلَّ دَينِي قضينَهُ ... أمانيَّ عندَ الزَّاهراتِ العوائمِ
وقال أيضاً:
وإنَّا لنرضَى حينَ نشكُو بخلوةٍ ... إليهنَّ حاجاتِ النُّفوسِ بلا بذلِ
وما الفقرُ أزرَى عندهنَّ بوصلِنا ... ولكنْ جرتْ أخلاقُهنَّ علَى البُخلِ
وأنشدني أعرابي ببلاد نجد:
وقدْ كنتُ ودَّعتُ النَّقا ليلةَ النَّقا ... بما ليسَ يُبلي ثوبَ جِدَّتهِ الدَّهرُ
وما نلتُ شيئاً غيرَ أنَّكَ قلتَ لِي ... سأرْعاكَ فاحْفظنِي فديتُكَ يا بدرُ
سبتْكَ بوجهٍ كالصَّحيفةِ واضحٍ ... وفي مقلتَيْ وَسْنانَ في طرفهِ فترُ
وفي مضحكٍ عذبٍ كأنَّ رضابهُ ... نُوارُ أقاحيٍّ يدجِّنُها القَطرُ
وما ليَ علمٌ غيرَ أنِّي أظنُّهُ ... وما ليَ هلمٌ غيرَ ظنِّي ولا خبرُ
وقال آخر:
فما نطفةٌ مِنْ ماءِ مزنٍ تنسَّمتْ ... رياحٌ لأعلَى مَتنهِ فهوَ قارسُ
بأطيبَ مِنْ فيها وما ذقتُ طعمهُ ... ولكنَّني فيما ترَى العينُ فارسُ
وأنشدني أحمد بن يحيى النحوي لزينب بنت فروة:
وما طعمُ ماءٍ أيُّ ماءٍ تقولهُ ... تحدَّرَ مِنْ غرٍّ طوالِ الذَّوائبِ
بمنعرجٍ أوْ بطنِ وادٍ تحدَّثتْ ... عليهِ رياحُ الصَّيفِ مِنْ كلِّ جانبِ
نفتْ جِريةُ الماءِ القذَى عنْ متونهِ ... فما إنْ ترَى فيهِ مُعاباً لعائبِ
بأطيبَ ممَّنْ يقصرُ الطَّرفُ دونهُ ... تُقَى اللهِ واستحياءُ بعضِ العواقبِ
وقال العديس الكناني:
جزَى اللهُ الوُشاةَ جزاءَ سوءٍ ... فإنَّهمُ بنا قدْ يولَعونا
ولوْ لمْ نخشَ إلاَّ النَّاسَ كانُوا ... علينا في الإساءةِ هيِّنينا
ولكنَّا نخافُ اللهَ حقّاً ... ونخشَى اللهَ إسلاماً ودِينا
ونَسْتحيي ونرعَى غيبَ جُمْلٍ ... ونحنُ علَى المودَّةِ مُنطوينا
وقال آخر:
وأقصُرُ طرفِي دونَ جُمْلٍ كرامةً ... بجُملٍ وللطَّرفِ الَّذي أنا قاصرُهْ
سقَى اللهُ بيتاً لستُ آتِي أهلهِ ... وقلبِيَ في البيتِ الَّذي أنا هاجرُهْ
وقال آخر:
تضوَّعَ مسكاً بطنُ نعمانَ إذْ مشتْ ... بهِ زينبٌ في نسوةٍ عطِراتِ
خرجنَ بفجٍّ رائحاتٍ عشيَّةً ... يلبِّينَ للرَّحمانِ مُعتمراتِ

يُغطِّينَ أطرافَ البنانِ منَ التُّقى ... ويخرجنَ بالأسحارِ مُجتمراتِ
ولمَّا رأتْ نكثَ النُّميرِيِّ أعرضتْ ... وكنَّ مِنَ انْ يَلقيْنَهُ حذِراتِ
وقال الحسن بن هانئ:
أحسنُ مِنْ زحفِ قبيلتينِ ... ومِنْ تَلاقِي كتيبتينِ
ومِنْ نزالٍ بمرهفاتٍ ... بينَ مغاويرِ عسكرَيْنِ
فمانِ قدْ أُعمِلا رِضاعاً ... ومصَّ ريقٍ بشِفَّتينِ
لمْ يُطعمَا الغمضَ مِنْ نَفارٍ ... مُحادثَيْنِ مُلازمَينِ
حتَّى إذا الصُّبحُ لاحَ قامَا ... علَى وضوءٍ مُصلِّيينِ
وقال آخر:
فما أنسَ ممَّا قدْ رأيتُ وفاتنِي ... بهِ الدَّهرُ ممَّا كنتُ أُعطَى وأُرزقُ
فلنْ أنسَ مسراهَا وسِرباً سرتْ بهِ ... بغورِ النَّقا كادتْ لهُ الأرضُ تُشرقُ
إلى موعدٍ منَّا ومنهنَّ شاقَنا ... إليهِ الأعادِي والهوَى المتشوَّقُ
فبتنَ جُنوحاً يشتكينَ ونشتكِي ... إليهنَّ لمْ يهبطْ لنا الأرضَ مرفقُ
عفائفُ لا يدنونَ منَّا لريبةٍ ... ولا نحنُ مكروهاً منَ الأمرِ نرهقُ
فلمَّا رأينَ الصُّبحَ لاحَ وصوَّتتْ ... كرائمُ طيرٍ لمْ تكنْ قبلُ تنطقُ
فمَا برحتْ حتَّى وددتُ بأنَّني ... بما في فؤادِي منَ دمِ الجوفِ أشرقُ
وأعلنَتِ الشَّكوَى حَصانُ غريرةٌ ... تجودُ بماضِي دمعِها ثمَّ تشهقُ
يظلُّ الغيورُ أرغمَ اللهُ أنفهُ ... علَى مُلتقانَا قائماً يتحنَّقُ
وقال آخر:
ألا يا شفاءَ النَّفسِ لمْ تسعفِ النَّوى ... وتُحيي فؤاداً لا تنامُ سرائرُهْ
أثِيبِي فتًى حقَّقتِ قولَ عدوِّهِ ... عليهِ وقلَّتْ في الصَّديقِ معاذرُهْ
أُحبُّكِ يا سلمى علَى غيرِ ريبةٍ ... وما خيرُ حبٍّ لا تعفُّ سرائرُهْ
ولبعض أهل هذا العصر:
لا تُلزمَنِّي في رعيِ الهوَى سرفاً ... وما أُوفِّيهِ إلاَّ دونَ ما يجبُ
لو كنتَ شاهدَنا والدَّارُ جامعةٌ ... والشَّملُ ملتئمٌ والودُّ مُقتربُ
لا بلْ مساواةُ ودِّي ودَّهُ بهوًى ... كأنَّهُ نسبٌ بلْ دونهُ النَّسبُ
مُستأنسينَ بما تُخفِي ضمائرُنا ... علَى العفافِ ورعيِ الودِّ نصطحبُ
فإنْ محَا الشَّوقَ فرطَ الأُنسِ أوحشَنا ... أُنسُ العواذلِ إنْ جدُّوا وإنْ لعبوا
فما نُدافعُ بالهجرانِ فهوَ علَى ... أنْ لا يزولَ هوَانَا مُشفقٌ حدِبُ
عاينتَ منزلةً في الظَّرفِ عاليةً ... ورتبةً قصَّرتْ عن شأْوِها الرُّتبُ
في عفَّةٍ نتحامَى أنْ يلمَّ بها ... سوءُ الظُّنونِ وأنْ تغتالَها الرِّيبُ
وقال آخر:
فلا بخلٌ فيُؤْيِسَ منكَ بخلٌ ... ولا جودٌ فينفعَ منكَ جودُ
شكوْنا ما علمتَ فما وليتمْ ... وباعدْنا فما نفعَ الصُّدودُ
ونُحسدُ أنْ نزوركمُ ونرضَى ... بدونِ البذلِ لوْ رضيَ الحسودُ
وقال آخر:
ويخشَوْنَ في ليلَى عليَّ ولمْ أنلْ ... معَ العذلِ مِنْ ليلَى حراماً ولا حِلاَّ
سوَى أنْ محا لوْ تشاءُ أقلَّها ... ولوْ تبتَغِي ظلاًّ لكانَ لها ظلاَّ
ألا حبَّذا أطلالُ ليلَى علَى البِلى ... ومَا بذلتْ لي مِنْ نوالٍ وإنْ قلاَّ
وما يتمادَى العهدُ إلاَّ تجدَّدتْ ... مودَّتها عندِي وإنْ زعمتْ أنْ لا
ولعمري إنَّ هذا من نفيس الكلام قد جمع لفظاً فصيحاً ومعنًى صحيحاً غير أنَّه لم يخبر بالعلَّة الَّتي من أجلها لم ينل حراماً ولا حلالاً فيُقضى له على حسب ذلك لأنَّ من منعه من إتيان المنكر عجزه عنه لم يشكر وإنَّما يُستطرف ممَّن قدر على ما يهواه فتعفَّف.
كما قال مسلم بن الوليد:
وما ذمِّيَ الأيَّامَ أنْ لستُ حامداً ... لعهدِ لياليها الَّتي سلفتْ قبلُ
ألا ربَّ يومٍ صادقِ العيشِ نلتهُ ... بها وندامايَ العفافةُ والبذلُ
وقال بعض أهل هذا العصر:
يا متُّ قبلكَ قدْ واللهِ برَّحَ بِي ... شوقِي إليكَ فهلْ لِي فيكَ مِنْ حظِّ
قلبي يغارُ علَى عينِي إذا نظرتْ ... بُقيا عليكَ فَعَا أُرْوَى منَ اللَّحظِ

فهذا يخبر أن صاحبه ونفاسته في صدره منعاه من الاستمتاع بالنظر إلى شخصه وأكسباه الغيرة له على نفسه وله أيضاً في باب التعظيم إلفه والتقديم له على نفسه كلام إن لم يقبح من باب الإفراط والتكثير لم يسهل من باب التساهل والتقصير وهو:
جُعلتُ فداكَ إنْ صلُحتْ فداءً ... لنفسكَ نفسُ مثلِي أوْ وِقاءا
وكيفَ يجوزُ أنْ تفديكَ نفسِي ... وليسَ محلُّ نفسَيْنا سواءَ
وبلغني أن أعرابياً خلا بصاحبته فقيل له ما كان بينكما فقال ما زال القمر يزيّنها فلما غاب زيّنته فوضعت كفِّي على كفِّها فقالت مَهْ لا تُفسد فقلت والله ما يرانا إلاَّ الكواكب فقالت ويحك وأين مكوكبُها قال فارْفضضتُ والله عرقاً ولم أعد وبلغني أن العباس بن سهل الساعدي دخل على جميل وقد احتضر فقال له جميل بلِّغنا أتظنّ رجلاً عاش في الإسلام لم يزنِ ولم يسرق ولم يسفك دماً حراماً ناجياً من هول يوم القيامة قال العباس فقلت أي والله فمن ذلك قال إنِّي لأرجو أن تكونه قال فتبسَّمت وقلت أبعد إتيانك بثينة عشرين سنة فقال إنِّي في آخر يوم من أيام الدُّنيا وأول يومٍ من أيام الآخرة فلا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم إن كنتُ حدَّثت نفسي بحرامٍ منها قطُّ عمَّا وراء ذلك قال ثمَّ مات من يومه.

الباب التاسع
ليسَ منَ الظَّرفِ امتهانُ الحبيبِ بالوصفِ
من سامحته الأيام لمحابِّه ورُزق حسن الوفاء والمساعدة من أحبابه ما يجب عليه في حدود الظَّرف دون ما يجب عليه من رعاية حقوق الإلف أن يقابل نعم الله عليه بما يوجب المزيد فيها لديه فإن لم يفعل ذلك فلا ينبغي له أن يتعرض لأسباب المهالك وليعلم أنَّ وصف ما في صاحبه من الخصال المرتضاة مُغرٍى بمن علمها بالمشاركة له في هواه ولقد أحسن الَّذي يقول:
ولستُ بواصفٍ أبداً خليلاً ... أُعرِّضهُ لأهواءِ الرِّجالِ
وما بالي أشوِّقُ عينَ غيرِي ... إليهِ ودونهُ سترُ الحِجالِ
كأنِّي آمنُ الشٌّركاءَ فيهِ ... وآمنُ فيهِ أحداثَ الرِّمالِ
وأحسن أيضاً الَّذي يقول:
أصونُكَ أنْ أدلَّ عليكَ وهماً ... لأنَّ الظَّنَّ مِفتاحُ الغيوبِ
وما قصر علي بن محمد العلوي حيث يقول:
ربَّما سرَّنِي صدودكَ عنِّي ... وتنائيكَ وامتِناعُكَ منِّي
ذاكَ ألاَّ أكونُ مفتاحَ غيرِي ... وإذا ما خلوتُ كنتَ التَّمنِّي
وإذ قد دللنا على قبح وصف الخليل بما فيه من الخَلق والخُلق الجميل فلا حاجة بنا إلى دلالة على قبح الوصف لما حمل عليه نفسه من المسامحة بصاحبه والمسارعة إلى بلوغ محبَّته فإنَّ المحبوب ربما دعته الرأفة بمحبِّه أو الإشفاق عليه إلى أن يحمل نفسه على ما لا يوجبه حقُّ الهوَى عليه وعلى ما لم يوصله صاحبه منه وأن يدعه أليه تحقُّقاً بالرِّعاية لمن يهواه وتظرُّفاً بالسّياسة له إلى أكثر ما يتمنَّاه وإن لم يقع ذلك إلاَّ بالحمل على النَّفس والغضِّ منها فإذا كان وصف الخِلقة الَّتي لا يتهيَّأ نقلها ولا يعاب بها صاحبها ليس بجميل كان وصف الخلائق الَّتي قد سومح فيها أحرى أن يكون غير جميل.
ولعمري لقد أحسن جميل بن عبد الله بن معمر العذري حيث يقول:
هلِ الحائمُ العطشانُ مُسقًى بشُربةٍ ... منَ المزنِ تروِي ما بهِ فتُريحُ
فقالتْ فنخشَى إنْ سقيناكَ شربةً ... تُخبِّرُ أعدائِي بها فتبوحُ
إذنْ فأَباحتْني المنايا وقادَنِي ... إلى أجلِي عضبُ السِّلاحِ سفوحُ
لبئسَ إذنْ مأوَى الكريمةِ سرُّها ... وإنِّي إذنْ مِنْ حبِّكمْ لصحيحُ
أما قوله لبئس مأوى الكريمة سرُّها فكلام حسن وأهله وإنِّي إذاً من حبِّكم لصحيح فكلام قبيح أتراه إن صحا من حبِّها خبَّر النَّاس بسرِّها حتَّى يجعل عليه في كتمانه إيَّاه أنَّه مغرم بها. بلغني أن رجلاً قام بحضرة معاوية فقال: قبَّح الله المجوس بلغني أن أحدهم يتزوج بأُمِّه والله لو أُعطيت عشرة آلاف درهم أن أفعل ذلك ما فعلته، فلمَّا انصرف قال معاوية: ما له أسخن الله عينه أترى لو زيد على ذلك كان يفعل، ولكن يُتلقَّى هذا الكلام من جميلٍ باليدين ويحمل على الرأس والعينين إذا سمع كلام الشيخ امرئ القيس:
فلمَّا دنوتُ تسدَّيتُها ... فثوباً نسيتُ وثوباً أجُرْ

ولمْ يرَنا كالئٌ كاشحٌ ... ولمْ يُفشَ منَّا لِذا البيتِ سِرْ
وقدْ رابَنِي قولُها يا هناهُ ... ويحكَ ألحقتَ شرّاً بشرْ
فما أدري من أي أمريه أعجب أمن خشية في نفسه أم من جهله بأمره يفرح بأن لم يرهم كاشحٌ ولم يفش لهم في البيت سرُّ وما عسى الكاشح لو رآهم إن كان يصنع بهم هل كان يستطيع أن يشيِّع عليهم إلاَّ بعض تشييعهم على أنفسهم.
ولعمري قد أحسن الَّذي يقول:
ما يبلغُ الأعداءُ مِنْ جاهلٍ ... ما يبلغُ الجاهلُ مِنْ نفسهِ
فأما هذا النحو من الشِّعر فلست أنشط لذكره لا من شِعر امرئ القيس ولا من شعر غيره فهو فعل خارج عن حدِّ الدِّيانة والمروءة وما خرج عن حدِّ هذين البابين تعدَّى عيبه من فاعله إلى ناشره ومستحسنه وأما ما ذكرناه في الباب الثامن من وصف اجتماع المحبّ مع محبوبه ومُسامحته له فيما يحور محبوبه فهو لعمري معيب ممَّن حكاه عن نفسه وعن صاحبه إلاَّ أنَّه عيبٌ لا ينهتك ستر المودَّة بمثله فمن أجل ذلك سامحنا بذكره وإن كانت مرتبة الكمال موجبة لغيره وكذلك نتساهل إن شاء الله في ذكر بعض ما وصفه المحبُّون من صور المحبوبين وإن كان فيه بعض الهجنة بهم فإنَّ فيه بعض المنفعة لغيرهم.
قال ذو الرمة:
لها بشرٌ مثلُ الحريرِ ومنطقٌ ... رخيمُ الحواشِي لا هُراءٌ ولا نزرُ
وعينانِ قالَ اللهُ كُونا فكانَتَا ... فعُولانِ بالألبابِ ما تفعلُ الخمرُ
وقال معن بن أوس:
ظعائنُ مِنْ أوسٍ ونُعمانَ كالدُّمى ... حواضرَ لمْ يُجزينَ عمّاً ولا بعْلا
أوانسُ يركضنَ المُروطَ كأنَّما ... يطأْنَ إذا استوسقنَ في جدَدٍ وَحْلا
وقال ابن مرداس:
وأهوتْ لتَنْتاشَ الرِّواقَ فلمْ تقمْ ... إليهِ ولكنْ طأْطأَتهُ الولائدُ
قليلةُ لحمِ النَّاظرينِ يَزِينُها ... شبابٌ ومخفوضٌ منَ العيشِ باردُ
تناهَى إلى لهوِ الحديثِ كأنَّها ... أخُو سقمٍ قدْ أسلمتْهُ العوائدُ
ترى القُرطَ منها في فِناهُ كأنَّهُ ... بمهلكةٍ لولا العُرَى والمعاقدُ
وقال قيس بن الحطيم:
ولمْ أرَها إلاَّ ثلاثاً علَى منًى ... وعهدِي بها عذراءُ ذاتُ ذوائبِ
تبدَّتْ لنا كالشَّمسِ تحتَ غمامةٍ ... بدَا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجبِ
وقال محمد بن إبراهيم الأسدي:
وأصبحَ ما رجَّيتُ مِنْ أُمِّ واصل ... يُقطَّعُ إلاَّ حاجةً سأقولُها
رَقودُ الضُّحى مِبْسامةٌ لا يهمُّها ... صروفُ النَّوى تظعانُها وحُلولها
إذا ضحكتْ لمْ تنبسطْ وتبسَّمتْ ... حياءً ويكْفيها منَ الحلفِ قيلُها
وقال الضحاك بن عقيل العامري:
بأشنبَ صافٍ تعرفُ النَّفسُ أنَّه ... وإنْ لمْ يذقْ حُمشُ اللِّثاثِ عِذابُ
وكفٍّ كقِنوانِ النَّقا لا يضيرُها ... إذا أُبرزتْ أنْ لا يكونَ خضابُ
ومَتْنانِ يزدادانِ ليناً إذا مشتْ ... كما اهتزَّ مِنْ ماءِ السيولِ جَنابُ
وقال محمد بن بشير الخارجي:
وترَى مدامِعها تُرقرقُ مُقلةً ... سوداءَ ترغبُ عنْ سوادِ الأثمَدِ
خوْدٌ إذا كثُرَ الحديثُ تعوَّذتْ ... بحِمى الحياءِ وإنْ تكلَّمْ تقصُدِ
وقال الركاض الزبيدي:
وما أَثِرتْ حبِّي علَى نومةِ الضُّحى ... لها مهنةً يوماً ولا باكرتْ طعمَا
ولا أنْمَأَتْ يوماً حديثاً لجارةٍ ... تُعذِّرُ مِنْ إنمائهِ بعدَ ما يُنمَى
وقال صخر بن الجعد المحازي:
بنفسِي وأهلِي مَنْ إذا عرَّضوا لهُ ... ببعضِ الأذَى لمْ يدرِ كيفَ يُجيبُ
ولمْ يعتذرْ عذرَ البرِيِّ ولمْ تزلْ ... بهِ سكتةٌ حتَّى يقالَ مُريبُ
لقدْ ظلموا ذاتَ الوشاحِ ولمْ يكنْ ... لنا مِنْ هوَى ذاتِ الوشاحِ نصيبُ
سُقيتُ دمَ الحيَّاتِ إنْ كنتُ بعدَها ... محبّاً ولوْ عُنِّفتهُ لَحبيبُ
وقال سويد بن أبي كاهل:
حرَّةٌ تجلو شَتيتاً واضحاً ... كشعاعِ البرقِ في الغيمِ سطعْ
تمنحُ المرآةَ لوناً حسناً ... مثلَ قرنِ الشَّمسِ في الضَّحوِ طلعْ
وقال إبراهيم النظام:
هوَ البدرُ إلاَّ أنَّ فيهِ رقائقاً ... منَ الحسنِ ليستْ في هلالٍ ولا بدرِ

وينظرُ في الوجهِ القبيحِ بحسنهِ ... فيكسوهُ حسناً باقياً آخرَ الدَّهرِ
وله أيضاً:
رقَّ فلوْ بُزَّتْ سرابيلهُ ... عُلِّقهُ الجوُّ منَ اللُّطفِ
يجرحهُ اللَّحظُ بتكرارهِ ... ويشتكِي الإيماءَ بالكفِّ
وله أيضاً:
نسَّى المحاسنَ في أجناسِ نُوريِّ ... صافي الضَّرائبِ رُوحيِّي
تمَّت علَى أبهَى الصِّفاتِ فلمْ ... يُطلقْ لنا عنْ حدِّ كَيْفِيِ
أبدعهُ الخالقُ واختارهُ ... مِنْ مازجِ الأنوارِ عُلويِّ
فكلُّ مَنْ أغرقَ في وصفهِ ... أصبحَ منسوباً إلى العِيِّ
وهذا البيت لا يتهيَّأ لأحد أن يتخطَّاه ولا يأتي بأجود من معناه وقد قال جرير في هذا النحو فأحسن غير أنَّه حلَّ آخر كلامه ما عقد فإذا ضُمَّ بعضه إلى بعض فسد.
قال جرير:
ما استوصفَ النَّاسُ مِنْ شيءٍ يروقهمُ ... إلاَّ ترَى أُمَّ عمرٍو فوقَ ما وصفُوا
كأنَّها مُزنةٌ غرَّاءَ رائحةٌ ... أوْ درَّةٌ لا يُوارِي لونَها الصَّدفُ
وقال علي بن العباس الرومي:
بأبي حسنُ وجهكَ اليوسُفِيِّ ... يا كفِيَّ الهوَى وفوقَ الكَفِيِّ
فيهِ وردٌ ونرجسٌ وعجيبٌ ... اجتماعُ الرَّبيعِ والخَرْفِيِّ
وقال حبيب بن أوس:
لمْ أنسَها وصروفُ البينِ تظلمُها ... ولا مُعوَّلَ إلاَّ الواكفُ السَّربُ
أدنتْ نقاباً علَى الخدَّينِ وانتسبتْ ... للنَّاظرينَ بقدٍّ ليسَ ينتقبُ
وقال ذو الرمة:
أسيلةُ مجرَى الدَّمعِ هيفاءُ طفلةٌ ... رَداحٌ كإيماضِ البروقِ ابتسامُها
كأنَّ علَى فيها وما ذقتُ طعمهُ ... زجاجةُ خمرٍ ضاقَ عنها مُدامُها
وقال أبو دلف العجلي:
نفسِي الَّتي لمْ أزلْ بالحبِّ أعرفُها ... تحيَّرتْ دونَ مَنْ أهوَى أمانيها
شمسٌ بدت لكَ في أثوابِ جاريةٍ ... الشَّمسُ تُشبهُها والبدرُ يحكيها
أطنبتُ مجتهداً في وصفِها فلقدْ ... أفنَى جميعَ صفاتِي بعضُ ما فيها
وقال امرؤ القيس:
كأنَّ المُدامَ وصوبَ الغمامِ ... وريحَ الخُزامى ونشرَ القُطرْ
يُعلُّ بهِ بردُ أنيابِها ... إذا طربَ الطائرُ المستحرْ
وقال يزيد بن الطثرية:
كأنَّ مدامةً مِنْ خمرِ دنٍّ ... تُصبُّ علَى ثناياها طُروقا
ألذُّ النَّاسِ في الدُّنيا حديثاً ... وأطيبهُ بُعيدَ النَّومِ ريقَا
جُعلتُ لكِ الفداءَ منَ المنايا ... وإنْ كلَّفتِني ما لنْ أُطيقا
وقال امرؤ القيس بن حجر:
خليليَّ مرَّا بي علَى أُمِّ جندبٍ ... لتقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المعذَّبِ
ألمْ ترَياني كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لمْ تطيَّبِ
وهذا معنًى لم يسبقه إليهِ أحدٌ قبله ولم يلحقه فيه مَن بعده وإنَّه لحسن اللفظ مستوفي المعنى.
وقال أبو تمام:
كالخُوطِ في القدِّ والغزالةِ في البه ... جةِ وابنِ الغزالِ في غَيَدِهْ
وما حكاهُ ولا نعيمَ لهُ ... في جِيدهِ لِمْ حكاهُ في جَيَدِهْ
ولأبي تمام أيضاً:
متصرِّفٌ في الطَّرفِ باطنُ صدرِها ... مُتفنِّنٌ في الحسنِ ظاهرُ صدرِها
تُعطيكَ منطقَها فتعلمُ أنَّه ... لحنٌ عذوبتهُ تمرُّ بثغرِها
وأظنُّ حبلَ وصالِها لمحبِّها ... أوهَى وأضعفَ قوَّةً مِنْ خصرِها
وقال علي بن محمد العلوي الكوفي:
وهيفاءَ تلحظُ عنْ شادنٍ ... وتبسِمُ عنْ زهرِ الأُقحوانْ
وكالغصنِ بانَ وجدلِ العِنانِ ... وميادةِ القُضُبِ الخيزرانْ
ترَى الشَّمسَ والبدرَ معناهُما ... بها واحداً وهُما معنَيانْ
وقال آخر:
إذا احتجبتْ لم يكفكَ البدرُ فقدَها ... وتكفيكَ ضوءَ البدرِ إن حجبَ البدرُ
وحسبكَ مِنْ خمرٍ بقربكَ ريقُها ... وواللهِ مِنْ ريقِها حسبكَ الخمرُ
وقال آخر:
هيَ الخمرُ حسناً وهيَ كالخمرِ ريقُها ... ورقَّةُ ذاكَ اللَّونِ في رقَّةِ الخمرِ
فقدْ جُمعتْ فيها خمورٌ ثلاثةٌ ... وفي واحدٍ سكْرٌ يزيدُ علَى السُّكْرِ
وقال آخر:
وفي الغصنِ بيضاءُ العوارضِ طفلةٌ ... مُبتلَّةٌ يُصبِي الحليمَ ابتسامُها

إذا سُمتَها التَّقبيلَ صدَّتْ وأعرضتْ ... صُدودَ شَموسِ الخيلِ ضلَّ لجامُها
وعضَّتْ علَى إبهامِها حينَ أومأَتْ ... أخافُ العيونَ أنْ تهبَّ نِيامُها
وقال الأحمر الطائي:
أُلامُ علَى ليلَى ولوْ أنَّ هامَتي ... تداوَى بليلَى بعدَ يأسٍ لبلَّتِ
بذِي أشَرٍ تجرِي بهِ الرَّاحُ أنهلتْ ... أخاكَ بهِ بعدَ العشاءِ وعلَّتِ
وتبسِمُ إيماضَ الغمامةِ إنْ سمتْ ... إليها عيونُ النَّاسِ حينَ استهلَّتِ
وقال حسان بن ثابت:
يا لقومِي هلْ يَقْثُلُ المرءَ مثلِي ... واهنُ البطشِ والعظامِ سؤومُ
شأنُها العطرُ والفراشُ ويعلُو ... ها لُجينٌ ولؤلؤٌ منظومُ
لوْ يدبُّ الحولِيُّ مِنْ ولدِ الذَّ ... رِّ عليها لأندبتْها الكلومُ
وهذا سرف شديد وهو مع ذلك مأخوذ من قول امرئ القيس:
منَ القاصراتِ الطَّرفِ لوْ أنَّ مُحولاً ... منَ الذَّرِّ فوقَ اللِّيتِ منها لأثَّرا
ولبعض أهل هذا العصر:
نظرتُ إليهِ نظرةَ مستهامٍ ... فأثَّرَ ناظرِي في وجنتيهِ
فلاحظَني وقدْ أثبتُّ وجداً ... فأثَّرَ في الفؤادِ بمُقلتيهِ
وقال آخر:
فيكَ لِي فتْنَتانِ لحظٌ ولفظٌ ... وَعَظانِي لوْ كانَ ينفعُ وعظُ
لكَ وجهٌ كأنَّه رقَّةُ الماءِ ... وقلبٌ كأنَّه الصَّخرُ فظُّ
أنتَ حظِّي فما يضرُّكَ لو كا ... نَ لمنْ أنتَ حظُّهُ منكَ حظُّ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
ألَمعُ برقٍ سرَى أمْ ضوءُ مصباحِ ... أمِ ابتسامَتُها بالمنظرِ الضَّاحِي
يا بؤسَ نفسٍ عليها جِدَّ آسفةٍ ... وشجوَ قلبٍ إليها جِدَّ مُرتاحِ
تهتزُّ مثلَ اهتزازِ الغصنِ أتعبهُ ... مُرورُ غيثٍ منَ الوسميِّ سحَّاحِ
أرسلتِ شُغلينِ مِنْ لفظٍ محاسنهُ ... تروي الضَّجيعَ ولحظٍ يُسكرُ الصَّاحِي
أُثني عليكِ بأنِّي لمْ أخفْ أحداً ... يلحِي عليكِ وماذا يزعمُ اللاَّحِي
ولقد أنصف غاية الإنصاف الَّذي يقول:
فما الشَّمسُ يومَ الدَّجنِ وافتْ فأشرقتْ ... ولا البدرُ وافَى أسعداً ليلةَ البدرِ
بأحسنَ منها بلْ تزيدُ ملاحةً ... علَى ذاكَ أوْ رأْيُ المحبِّ فلا أدرِي
ومختار ما قالته الشعراء في وصف الخلق والأخلاق أكثر من أن تتضمنه الأوراق وفيما ذكرنا منه بلاغٌ وعلى كل حال وصف الخلائق والأفعال اسهل من وصف الخِلقة بالجمال وكلاهما داخلٌ في معنى الدلالة على الشركة في الأحباب حسب ما تقدم ذِكرنا في صدر هذا الكتاب.

الباب العاشر
سوءُ الظَّنِّ مِنْ شدَّةِ الضَّنِّ
قال الزبير بن بكار: قال جميل بن معمر: ما رأيت مصعباً يختال بالبلاط إلاَّ عرف على بثينة وهي بالحباب وبينهما مسيرة ثلاثٍ.
وقال العباس بن الأحنف:
لم ألقَ ذا شجنٍ يبوحُ بحبِّهِ ... إلاَّ ظننتُكِ ذلك المحبوبا
حذراً عليكِ وإنَّني بكِ واثقٌ ... ألا ينالَ سوايَ منكِ نصيبا
ولبعض أهل هذا العصر:
أيا أملي هلْ في وفائكَ مطمعٌ ... فأطلبَهُ أمْ قد تناهتْ أواخرُهْ
فإنْ يكُ ما قد خفتَ حقّاً فلا تعدْ ... فلن يستوي مُوفي الفؤادِ وعاذرُهْ
وإلاَّ فلا تعتبْ عليَّ فإنَّهُ ... إذا ظنَّ قلبُ المرءِ ساءتْ خواطرُهْ
وله أيضاً:
قسمتُ عليكَ الدَّهر نصفاً تعتُّبا ... لِفعلكَ في الماضي ونصفاً ترقُّبا
إذا استيقنَتْ نفسي بأنْ لستَ عاذراً ... ليَ الظَّنَّ والإشفاقَ إلاَّ تريُّبا
فقدْ والَّذي لو شاءَ غلَّبَ واحداً ... فروَّحَ قلباً آمناً مُتهيِّبا
شككتُ فلا أدري لِفرطِ مودَّتي ... يبريكَ أمرَضني يُرينيكَ مُذنبا
ولو كانَ قصدي منكَ وصلاً أنا لهُ ... لقد كنتَ لي أندى جناباً وأخصبا
لوَ ادنوا لأقللْتُ العتابَ ولم أزدْ ... علَى أن تراني في امتداحكَ مُطنبا
ولكنَّ بي ظنّاً أبى أنْ يُقيمني ... لديكَ بما لا أرتضيهِ مُصوَّبا
وله أيضاً:
لقدْ جمعتْ أهوايَ بعدَ شَتاتها ... صفاتُكَ فانقادَ الهوَى لكَ أجمعُ
سوى خصلةٍ ذكري رهينٌ بذِكرها ... فقلبيَ منها ما حييتُ مروَّعُ

وحاشاكَ منها غيرَ أنَّ أخا الهوَى ... بذكر الَّذي يخشى من الغدْرِ مولعُ
وقال بشار بن برد:
كأنَّ فؤادَهُ كرةٌ تنزَّى ... حذارَ البينِ لو نفعَ الحذارُ
يُروِّعنا السِّرارُ بكلِّ شيءٍ ... مخافةَ أن يكونَ بهِ السِّرارُ
وقال آخر:
وقدْ خفتُ حتَّى لو تطيرُ حمامةٌ ... رقيباً علينا أوْ طليعةَ معشرِ
فإنْ قيلَ خيراً قلتُ هذا خديعةٌ ... وإن قيلَ شرّاً قلتُ حقٌّ فشمِّرِ
وقال آخر:
تركتني الوُشاةُ نُصبَ المشيرينَ ... وأُحدوثةً بكلِّ مكانِ
لا أرى خاليَيْنِ للسِّرِّ إلاَّ ... قلتُ ما يخلُوانِ إلاَّ لِشاني
قال أبو بكر واتصل بي أن ديك الجن قدم من سفر له فوجد جاريته وقد كان يهواها عبد أخيه تسأله عن خبره لإبطاءةٍ كان عيَّنها فقتلها وقتل أمها وقال في ذلك:
يا مُهجةً طلعَ الحِمامُ عليها ... وجنى لها ثمرَ الرَّدى بيديْها
حكَّمتُ سيفي في مجالِ خِناقها ... ومدامعي تجري علَى خدَّيْها
روَّيتُ من دمها الثَّرى ولَطالَ ما ... روَّى الهوَى شفتيَّ من شفتيها
فوحقِّ نعليها وما وطئَ الحصى ... شيءٌ أعزُّ عليَّ من نعليها
ما كانَ قتلِيها لأنِّي لم أكنْ ... أبكي إذا سقطَ الذُّبابُ عليها
لكنْ بخلتُ علَى العيونِ بلحظها ... وأنفتُ من نظرِ العُداةِ إليها
وله أيضاً فيها:
أشفقْتُ أن يردَ الزمانُ بغدرهِ ... أو أُبتلى بعدَ الوصالِ بهجرهِ
قمرٌ أنا استخلصْتُهُ من دُجنةٍ ... لبليَّتي وجلبتهُ من خِدرهِ
فقتلتهُ وبهِ عليَّ كرامةٌ ... ملءُ الحشا ولهُ الفؤادُ بأسرهِ
عهدي بهِ ميتاً كأحسنِ نائمٍ ... والدَّمعُ يجرحُ مُقلتي في نحرهِ
لو كانَ يدري الميتُ ماذا بعدهُ ... بالحيِّ منهُ بكى لهُ في قبرهِ
غُصصُ الزَّمانِ تفيظُ منها روحهُ ... وتكادُ تنزعُ قلبهُ من صدرهِ
وله أيضاً فيها:
ليتني لم أكنْ لِعطفكِ ملتُ ... وإلى ذلك الوصالِ وصلتُ
فالَّذي منِّي اشتملتِ عليهِ ... ألِعارٍ ما قد عليهِ اشتملتُ
قالَ ذو الجهلِ لمْ جهلتَ ولا أعْ ... لمُ أنِّي حلمتُ حتَّى جهلتُ
لائمٌ لي بجهلهِ ولماذا ... أنا وحدي أحببتُ ثمَّ قتلتُ
سوفَ آسى طولَ الحياةِ وأبكيكِ ... علَى ما فعلتِ لا ما فعلتُ
وهذا وإن سلم من أن يكون مغلوباً على عقله فظنُّه الظنَّ الَّذي لا غاية بعده وذلك أنَّه قد أيس من حبيبه بقتله له وهو غير نادم على فعله بل مصوِّبٌ له وراجع باللَّوم على نفسه فيما أتاه من الغدر.
وقال آخر:
يتعاتبانِ ويشكُوانِ هواهُما ... بمدامعٍ جلَّتْ عن الهملانِ
يتهاجرانِ بسوء ظنٍّ في الهوَى ... ويقلُّ صبرُهما فيصطلحانِ
وقال آخر:
عجلتُ علَى الصَّديقِ بسوءِ ظنٍّ ... وعتبِ أُمورهِ في كلِّ فنِّ
وأُقسمُ صادقاً ما خنتُ عهداً ... ولستُ بخائنٍ ما لم تخنِّي
وما كانَ الَّذي استوحشتَ منِّي ... علَى المعنى الَّذي بُلِّغتَ عنِّي
وكنتُ إذا أتيتكَ كنتَ حسبي ... فلمْ يكُ فيَّ فضلٌ للتَّمنِّي
فهلاَّ إذ عتبتَ بحثتَ عنِّي ... ولمْ تُمضِ الحكومةَ بالتَّجنِّي
وقال البحتري:
أعظمُ الرُّزءِ أنْ تُقدَّمَ قبلي ... ومنَ الرُّزْءِ أنْ تؤخَّرَ بعدي
حذراً أن تكونَ إلفاً لغيري ... إذْ تفرَّدتُ بالهوى فيكَ وحدي
وقال بشار:
نصباً لِعينكَ لا ترى حسناً ... إلاَّ رأيتَ بهِ لها شَبها
إنِّي لأُشفقُ أن أُقدِّمها ... قبلي وأكرهُ أن أُؤخِّرَها
وقال ماني:
جعلتُ عنانَ ودِّي في يديْكا ... فلمْ أرَ ذاكَ ينفعُني لَديكا
وقدْ والله ضقتُ فليتَ ربِّي ... قضى أجلي عليَّ ولا عليكا
فلمْ أرَ عاشقاً لكَ قطُّ مثلي ... أغارُ عليكَ من نظري إليكا
وقال:
وما في الأرضِ أشقى من محبٍّ ... وإن وجدَ الهوَى عذبَ المذاقِ
تراهُ باكياً في كلِّ حينٍ ... مخافةَ فُرقةٍ أوْ لاشتياقِ
فيبكي إن نأوا شوقاً إليهمْ ... ويبكي إنْ دنَوا خوفَ الفِراقِ

فتسخنُ عينهُ عندَ التَّنائي ... وتسخنُ عينهُ عندَ التَّلاقِ
وهذه المكاره كلُّها أثمار تلك الملاذّ الَّتي قبلها وذلك أن من هويَ إنساناً فإنما قصاره حين يهواه أن يعيد نظره إليه فيروى من شخصه ويستمتع من لفظه فإذا تهيَّأ ذلك له ازداد وجده به أضعافاً على ما كان في قلبه ثمَّ تدعوه نفسه بعد ذلك إلى كثرة التَّلاقي والمواصلة وتنبسط للمسائلة والمشاورة وهو في كل هذه الأحوال مشغول بحظوظ نفسه غير فارغ معها لصبابة غيره بل يحبُّ أن يكون إلفه سمحاً بالمواصلة لمن علم أنَّه يودُّه ليكون ذلك سبباً له إلى مواصلته وتسهيلاً له السَّبيل إلى معاشرته فإذا تمكَّن ودُّه من نفس محبوبه فاستشعر الوفاء له ودفع قياده إليه فلم يعترض شيء من أمره عليه لكسبه ذلك ضنّاً به وصيانة له.
وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:
إذا ازدادَ رعياً للهوى زِدْتهُ هوًى ... وضنِّي به مقدارَ هذين يضعُفُ
قفوه أمني زائدٌ في تخوُّفي ... ولا حظَّ لي في أن يزولَ التَّخوُّفُ
فلا يتشاغلْ عاذلٌ بنصيحتي ... فمثلي علَى إرشادهِ لا يوقَّفُ
ولا يرْثِ لي في ذلَّتي وتواضُعي ... فإنِّي بهذا الذُّلِّ أزهى وأشرفُ
فما ظنُّك بترادف حالين كلُّ واحدة منهما سبب لصاحبتها متى يكون انقضاؤهما أم كيف يتوهَّم زوالهما لا سيَّما وإحداهما قد كانت قوَّتها في نفسها منميةً لها قبل أن تبتدئ الأخرى في معونتها فإذا انتهت الحال إلى حيث وصفنا فرغ المحبُّ حينئذ من المطالبة بحظوظ نفسه وتشاغل بالمطالبة بحقوق إلفه فأنف له من معاشرة غيره بل صانه وأشفق عليه من مخالطته هواه وعاد إلى ما كان يحسب له به مكرمةً من برِّه به فجعله عليه هُجنة وأوهم نفسه أنَّ ذلك الَّذي ناله غيره ممنوع من كلِّ من سأله ألم تسمع الَّذي يقول:
فلا تُكثري قولاً منحتكِ وُدَّنا ... فقولُكِ هذا في الفؤادِ مُريبُ
تَعُدِّينَ ما أوليتني منكِ نائلاً ... وللقابسِ العجلانِ فيكِ نصيبُ
وفي نحو هذا المعنى يقول الآخر:
تمتَّعْ بها ما ساعفَتْكَ ولا تكنْ ... عليكَ شجاً تُؤذيكَ حينَ تبينُ
وإنْ هي أعطتكَ اللِّيانَ فإنَّها ... لآخرَ من خُلاَّنها ستلينُ
فحينئذٍ يظنُّ المحبُّ ما لا يخشاه ويتمنَّى ما لا يهواه ويفسد عليه أمر دينه ودنياه وهذه حال الوله الَّذي ذكرناه.
وقال بعض الأدباء في نحو ذلك:
يُسيءُ من كثرةِ الظَّنِّ الظُّنونَ بها ... حتَّى يظنَّ ظنوناً ليسَ يخشاها
ومرتبة العشق الَّتي هي في هذا الطَّريق إلى هذه المرتبة توجب على المحب طاعة المحبوب في كلِّ ما أحبَّه حتَّى لا يعصيَ له أمراً ولا يُقبِّح له فعلاً.
وفي مثل ذلك يقول بعضهم:
كلُّ شيءٍ منكَ في عيني حسنْ ... ونصيبي منكَ همٌّ وحَزنْ
ويقول الآخر:
صممتُ عنِ الأصواتِ من غيرِ وقرةٍ ... وإنِّي لأدنى صوتها لَسميعُ
شفيعي إليها قلبُها إنْ تعتَّبتْ ... وقلبي لها فيما عتبتُ شفيعُ
وقد ظفرَتْ منِّي بسمعٍ وطاعةٍ ... وكلُّ مُحبٍّ سامعٌ ومُطيعُ
ويقول الآخر:
يقرُّ بعيني ما يقرُّ بعينِها ... وأحسنُ شيءٍ ما بهِ العينُ قرَّتِ
كأنِّي أنادي صخرةً حين أعرضتْ ... من الصم لو تمشي بها العصم زلتِ
صفُوحاً فما تلقاكَ إلاَّ بخيلةً ... فمَنْ ملَّ منها ذلكَ الوصلَ ملَّتِ
وبلغني عن الحسن بن سهل الكاتب أنَّه قال: أما أنا فإذا أحببت إنساناً نظرت إلى فعله ففعلت مثله فإنه إن أبغضني أبغض نفسه فإذا ابتدأ أهل العشق يرتفعون عن هذه الحال تكشَّف لهم عوار هذه الأفعال حالاً بعد حالٍ.
ففي مثل ذلك يقول أبو عبادة البحتري:
يُريِّبُني الشَّيءُ تأتِي بهِ ... وأُكبرُ قدركَ أنْ أستَريبا
وأكرهُ أنْ أتمادَى علَى ... سبيلِ اغترارٍ فألقَى شَعوبا
ولا بدَّ مِنْ لومةٍ أنتَحي ... عليكَ بها مُخطئاً أوْ مُصيبَا
سأصبرُ حتَّى أُلاقِي رضاكَ ... إمَّا بعيداً وإمَّا قريبَا
أُراقبُ رأيكَ حتَّى يصحَّ ... وانظُرُ عطفكَ حتَّى يثُوبا
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
بدأْتَ بموعدٍ ورجعتَ عنهُ ... وكنتُ أعدُّ وعدكَ مِنْ عطائكْ

ولمْ تزلِ الخواطرُ عنكَ تُنبِي ... بأنَّكَ لا تدومُ علَى وفائكْ
فلوْ كانت عهودكَ لم تُغيَّرْ ... ولمْ يبدُ التَّكدُّرُ في صفائكْ
وفَيتَ بما ابتدأْتَ بهِ ولكنْ ... أظنُّكَ قدْ ندمتَ علَى ابتدائكْ
فإنْ تكُ قدْ ندمتَ علَى اصطِفائي ... فإنِّي ما ندمتُ علَى اصطفائكْ
وإنْ تكُ لمْ تخُنْ فلأيِّ شيءٍ ... تغيَّرَ ما عهِدْنا مِنْ إخائكْ
وله أيضاً في نحو ذلك:
أَمِنتُ عليكَ صرفَ الدَّهرِ حتَّى ... أناخَ بغدرهِ ما لمْ أُحاذرْ
وجسَّرنِي وفاؤكَ لي إلى أنْ ... أذاقَنِي الرَّدى غبُّ التَّجاسرْ
فجئتُكَ شاكراً وأقلُّ حقِّي ... إذا أحسنتَ أنْ ألقاكَ عاذرْ
وحسبكَ رتبةً لكَ مِنْ صديقٍ ... أتاكَ بعاتبٍ في زيِّ شاكرْ
ولغيره في نحوه أيضاً:
وكذَّبتُ طرفِي عنكِ والطَّرفُ صادقٌ ... وأسمعتُ أُذنِي منكِ ما ليسَ يُسمعُ
فلا كمَدٌ يَبلَى ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطمعُ
ولمْ أسكنِ الأرضَ الَّتي تسكُنينَها ... لئلاّ يقولُوا صابرٌ ليسَ يجزعُ
وربَّما ضعف الخارج عن حال العشق الَّتي توجب طاعة المحبوب على المحب إلى حالة الوله التي توجب الاعتراض عليه لفرط الميل منه إليهِ فيرجع من قريبٍ وينقاد صاغراً إلى كلِّ ما يريده المحبوب.
وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:
عَلامَ وقدْ أذبتَ القلبَ شوقاً ... تصدُّ وقدْ عزمتَ علَى ارتِحالِ
ولمْ أكُ قبلَ ذاكَ أتيتُ ذنباً ... سِوى أنِّي نهيتُكَ عنْ خصالِ
أردتُ بذاكَ أنْ تُدعَى رشيداً ... إذا افتضحَ المعارفُ بالمقالِ
وألاَّ تُبتلَى بدنيءِ قومٍ ... فيكثرَ فيكَ مِنْ قيلٍ وقالِ
فيسمعهُ المصادقُ والمُعادِي ... فتندمَ عندَ مُفتخرِ الرِّجالِ
وما كلٌّ يصدِّقُ فيكَ قولِي ... فكنتَ تكونُ فوقَ ذُرى المعالِي
فصنْ نفساً عليَّ أعزَّ منِّي ... وقاكَ السُّوءَ أهلِي ثمَّ مالِي
وأيقنْ أنَّني لمْ آتِ ذنباً ... ودونكَ ما هويتُ منَ الفعالِ
تجدْنِي راضياً بهواكَ طوْعاً ... لأمركَ في الحرامِ وفي الحلالِ
فواللهِ العظيمِ لَوَ انَّ قلبِي ... عصاكَ هممتُ عنهُ بانتقالِ
أقِلْني تدَّخرْ في الحشرِ أجراً ... إذا احتاجَ المُقيلُ إلى المقالِ
والعاشق ما دامت حال العشق مالكة يتوهَّم ألاّ غاية بعدها ولا رتبة فوقها ويرى أن اعتراض المحب على محبوبه إنَّما هو من نقض حاله في قلبه وليس الأمر بحيث علِيَ بل هو بضده.
ولقد أحسن علي بن الرومي وقوله:
يا أخِي أينَ ريعُ ذاكَ الإخاء ... أينَ ما كانَ بينَنَا مِنْ صفاءِ
أنتَ عَيني وليسَ مِنْ حقِّ عَيْني ... طبقُ أجفانها علَى الأقذاءِ

الباب الحادي عشر
مَنْ وفَى الحبيبُ هانَ عليهِ الرَّقيبُ
وإنَّما يغلظ أمر الرقيب على من يمتحن بمفارقة الحبيب فأما من غلبه الفراق وملكه الإشفاق وأذاع سره الاشتياق قلَّ اكتراثه بمن يرتقبه بل سهل عليه ألاّ يعاين من يحبّه إذا وثق بقربه منه وأمن من إعراضه عنه وربَّما كانت غيبة الحبيب أيسر من حضوره مع الرقيب وهذا شيء تختلف فيه الآراء علَى حسب غلبات الأهواء.
قال ابن الدمينة:
يقولونَ قصِّرْ عنْ هواها فقدْ وعتْ ... ضغائنَ شبَّانٌ عليكَ وشيبُ
وما إنْ تُبالِي سخطَ مَنْ لا تحبُّهُ ... إذا نصحتْ ممَّن تحبُّ جُيوبُ
وقال أبو تمام الطائي:
ما شئتَ مِنْ منطقٍ أديبِ ... فيهِ ومِنْ منظرٍ أرِيبِ
لمَّا رأى رقبةَ الأعادِي ... علَى معنًّى بهِ كئيبِ
جرَّدَ لِي مِنْ هواهُ نُصحاً ... صارَ رقيباً علَى الرَّقيبِ
وقال أيضاً:
مِنْ قطعِ ألفاظهِ توصيلُ مهلكَتِي ... ووصلِ ألحاظهِ تقطيعُ أنفاسِي
رُزقتُ رقَّةَ قلبٍ منهُ نغَّصها ... مُنغِّصٌ مِنْ رقيبٍ قلبهُ قاسِي
وقال بعض الفصحاء:
طَلْحٌ ولكنَّا نرَى الح ... يَّاتِ رُقطاً في خِلالهْ
يمنعْنَنا أنْ نستظلَّ ... منَ الهواجرِ في ظلالهْ
وقال الأخطل:

وليسَ القذَى بالعودِ يسقطُ في الإنَا ... ولا بذبابٍ خطبهُ أيسرُ الأمرِ
ولكنَّ شخصاً لا نسرُّ بقربهِ ... رمتْنا بهِ الأزمانُ مِنْ حيثُ لا ندرِي
وأنشد أعرابي بالبادية:
أحقّاً عبادَ اللهِ أنْ لستُ وارداً ... مياهَ الحِمَى إلاَّ عليَّ رقيبُ
ولا آتياً وحدِي ولا بجماعةٍ ... منَ النَّاسِ إلاَّ قيلَ ذاكَ مريبُ
أحبُّ ظباءَ الواديَيْنِ وإنَّني ... لمُشتهرٌ بالواديينِ غريبُ
أُميمُ احْفظِي عهدَ الهوَى لا يزُلْ لنا ... عنِ النَّأيِ والهجرانِ منكِ نصيبُ
ألا يا أُميمَ القلبِ دامَ لكِ الغِنا ... أمَا ساعةٌ إلاَّ عليكِ رقيبُ
وقال آخر:
صغيرٌ يصيرُ بالا كثير مجرب ... أوْ آخر يرمي بالظُّنونِ أرِيبُ
وقال آخر:
وإنِّي لآتِي البيتَ أُبغضُ أهلهُ ... وأُكثرُ هجرَ البيتِ وهوَ حبيبُ
تطيبُ لي الدُّنيا مراراً وإنَّها ... لتخبثُ حتَّى ما تكادُ تطيبُ
وأُعرضُ عنْ أشياءَ منكِ تُريبُنِي ... وأُدعى إلى ما نابكُمْ فأُجيبُ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
حَبيبي حبيبٌ يكتمُ النَّاسَ أنَّهُ ... لنا حينَ ترمينا العيونُ حَبيبُ
يُباعدُني في المُلتقَى وفؤادهُ ... وإنْ هوَ أبدَى لي البعادَ قريبُ
ويُعرضُ عنِّي والهوَى منهُ مقبلٌ ... إذا خافَ عيناً أو أشارَ رقيبُ
فتخرسُ منَّا ألسنٌ حينَ نلتقِي ... وتنطقُ منَّا أعينٌ وقلوبُ
وله أيضاً:
إذا ما التقيْنَا والوُشاةُ بمجلسٍ ... فليسَ لنا رسلٌ سِوَى الطَّرفِ بالطَّرفِ
فإنْ غفلَ الواشونَ فزتُ بنظرةٍ ... وإنْ نظرُوا نحوِي نظرتُ إلى السَّقفِ
أُسارقُ مولاها السُّرورَ بقربِها ... وأهجر أحياناً وفي هجرهمْ حتفِي
وقال آخر:
إذا غفِلوا عنَّا نطقْنا بأعينٍ ... مِراضٍ وإنْ خِفنا نظرْنا إلى الأرضِ
شكَا بعضُنا لمَّا التقينَا تستُّراً ... بأبصارِنا ما في النُّفوسِ إلى بعضِ
وقال مسلم بن الوليد:
جعلْنا علاماتِ المودَّةِ بينَنا ... دقائقَ لحظٍ هنَّ أخفَى منَ السِّحرِ
فأعرفُ منها الوصلَ في لينِ طرفِها ... وأعرفُ منها الهجرَ بالنَّظرِ الشزرِ
وأنشدنا ابن أبي طاهر لأبي تمام:
أزورُ محمَّداً وإذا التقَيْنا ... تكلَّمتِ الضَّمائرُ في الصُّدورِ
فأرجعُ لمْ ألُمهُ ولمْ يلُمنِي ... وقدْ فهمَ الضَّميرُ منَ الضَّميرِ
وقال آخر:
إذا نحنُ خفْنا الكاشحينَ فلمْ نطقْ ... كلاماً تكلَّمنا بأعيُننا سرَّا
فنقضِي ولمْ يُعلمْ بِنا كلَّ حاجةٍ ... ولمْ نظهرِ الشَّكوى ولمْ نهتكِ السِّترا
ولو قذفتْ أحشاؤُنا ما تضمَّنتْ ... منَ الوجدِ والبلوَى إذنْ قذفتْ جمرا
صاحبُ هذا الشِّعر البائس مغترٌّ بالزَّمان جاهل بصروف الأيام يتبرَّم بالرَّقيب مع مشاهدة الحبيب وهو لا يعلم أن هذه الحال تتقاصر عنها الآمال وتنقطع دونها الآجال ولكن من لم ينكبه الفراق ولا الهجر ولم يعترض إلى الخيانة والغدر حسب أن الرَّقيب هو منتهى كيد الدَّهر وظنَّ أنَّه قد امتُحن بما لا يقوم له الصَّبر.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
لَئنْ كانَ الرَّقيبُ بلاءَ قومٍ ... فما عندي أجلُّ من الرَّقيبِ
حجابُ الإلفِ أيسرُ من نواهُ ... وهجرُ الخلِّ خيرٌ للأديبِ
ولا وأبيكَ ما عاينتُ شيئاً ... أشدَّ من الفِراقِ علَى القلوبِ
وقال آخر:
أشارتْ بعينيها إشارةَ خائفٍ ... حذارِ عيونِ الكاشحينَ فسلَّمتْ
فردَّ عليها الطَّرْفُ منِّي سلامَها ... وأوْما إليها أسكُني فتبسَّمتْ
وأومَتْ إلى طرفي يقولُ لِطَرفها ... بنا فوقَ ما تلقى فأشجتْ وتيَّمتْ
فلوْ سئلتْ ألحاظُنا عن قلوبنا ... إذنْ لاشتكتْ ممَّا بها وتبرَّمتْ
وما هكذا إلاَّ عيونُ ذوي الهوَى ... إذا خافتِ الأعداءَ يوماً تكلَّمتْ
وقال آخر:
وقفنا فلولا أنَّنا راعَنا الهوَى ... لهتَّكنا عندَ الرَّقيبِ نحيبُ
وفي دونِ ما نلقاهُ من ألمِ الهوَى ... تُشقُّ جيوبٌ بل تُشقُّ قلوبُ

ولمَّا نظرنا بالرَّقيبِ ولحظهِ ... ولحظي علَى لحظِ الرَّقيبِ رقيبُ
صدَدْنا وكلٌّ قد طوى تحتَ صدرهِ ... فؤاداً له بين الضُّلوعِ وجيبُ
وقال آخر:
إذا ما التقينا والوُشاةُ بمجلسٍ ... فألسُننا حربٌ وأعينُنا سِلْمُ
وتحتَ مجاري الصَّدرِ منَّا مودَّةٌ ... تطَّلَعُ سرّاً حيثُ لا يذهبُ الوهمُ
وأنشد ابن أبي طاهر:
إذا خِفنا من الرُّقباءِ عيناً ... تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ
وفي غمزِ الحواجبِ مُستراحٌ ... لِحاجاتِ المُحبِّ إلى الحبيبِ
وقال آخر:
ومُراقَبينِ يُكاتمانِ هواهُما ... جعلا الصُّدورَ لما تجنُّ قُبورا
يتلاحظانِ تلاحظاً فكأنَّما ... يتناسخانِ منَ الجُفونِ سُطورا
وأنشد ابن أبي طاهر:
عرفتْ بالسَّلامِ عينَ الرَّقيبِ ... وأشارتْ بلحظِ طرفٍ مُريبِ
وشكتْ لوعةَ النَّوى بجُفونٍ ... أعربتْ عن لسانِ قلبٍ كئيبِ
رُبَّ طرفٍ يكونُ أفصحَ من لفْ ... ظٍ وأبدى لِمُضمَراتِ القلوبِ
وقال آخر:
وإذا التقينا والعيونُ روامقٌ ... صمَتِ اللِّسانُ وطرفُها يتكلَّمُ
تشكو فأفهَمُ ما تقولُ بطرفِها ... ويردُّ طرفي مثلَ ذاكَ فتفهمُ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
كتبتُ إلى الحبيبِ بكسْرِ عيني ... كتاباً ليسَ يقرأُهُ سواهُ
فأخبرني تورُّدُ وجنتيهِ ... وكسرُ جفونهِ أنْ قد قراهُ
وأنشدني أيضاً لنفسه:
لقدْ عرَّضَ بالحبِّ ... كما عرَّضتُ بالحُبِّ
وكانتْ أعينٌ رُسلاً ... مكانَ الرُّسلِ بالكتبِ
عيونٌ تنقلُ الأسرارَ ... من قلبٍ إلى قلبِ
وقال آخر:
إذا نظرتْ طرفي تكلَّمَ طرفُها ... وجاوبَهُ طرفي ونحنُ سُكوتُ
فكمْ نظرةٍ منها تُخبِّرُ بالرِّضا ... وأخرى لها نفسي تكادُ تموتُ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
ومُلاحظٍ سرقَ السَّلامَ بطرفهِ ... حذرَ العُيونِ ورِقْبةً للحارسِ
راجعتُهُ بلسانِ طرفٍ ناطقٍ ... يُخفي البيانَ علَى الرَّقيبِ الجالسِ
فتكلَّمتْ منَّا الضَّمائرُ بالَّذي ... نُخفي وفازَ مُجالسٌ بمُجالسِ
وقال الطرماح:
كأنْ لم يرُعْكَ الظَّاعنونَ ببينِهمْ ... بلى إنَّ بينَ الظَّاعنينَ نزوعُ
يُراقبْنَ أبصارَ الغيارى بأعينٍ ... حواذِرَ ما تجري لهنَّ دموعُ
وقال آخر:
أشارتْ بطرفِ العينِ خيفةَ أهلِها ... إشارةَ محزونٍ ولم تتكلَّمِ
فأيقنْتُ أنَّ الطَّرفَ قد قالَ مرحباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المتيَّمِ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
ألاحظُها خوفَ المُراقبِ لحظةً ... فأشكو بطرفي ما بقلبي منَ الوجدِ
فتفهمُهُ عن لحظِ عيني بقلبِها ... فتومي بطرفِ العينِ أنِّي علَى العهدِ
وله أيضاً:
تُحدِّثنا الأبصارُ ما في قلوبِنا ... فنغنى بها عمَّا يُردَّدُ في الكتبِ
علاماتُنا مكتوبةٌ في جِباهنا ... حبيبانِ موقوفانِ في سُبلِ الحُبِّ
وقال آخر:
بنانُ يدٍ تُشيرُ إلى بنانٍ ... تُجاوبُنا وما يتكلَّمانِ
جرى الإيماءُ بينهُما رسولاً ... فأعربَ وحيَهُ المُتناجيانَ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
يُكلِّمُها طرفي فتومي بطرفِها ... فتُخبرُ عمَّا في الضَّميرِ منَ الوجدِ
فإنْ نظر الواشونَ صدَّتْ وأعرضتْ ... وإنْ غفِلوا قالتْ ألستُ علَى العهدِ
وقال بعض الأعراب:
فلمَّا ادَّركْنا راعهُنَّ مُنادياً ... كما راعَ خيلاً من لجامٍ صلاصِلُهْ
فنازعْنَنا وحياً خفيّاً كأنَّهُ ... جنى المُجتني الرِّيحانِ أمرعَ حاصلُهْ
بوحيٍ لوَ انَّ العُصمَ تسمعُ رجْعهُ ... لقُضْقضَ من أعلى إبانٍ حوافلُهْ
وأنشدنا ابن أبي طاهر:
ومنِّي ومنها اثنانِ قلبٌ ومُقلةٌ ... مريضانِ مغبوطٌ وآخرُ يرحَمُ
وطرفي لها عمَّا بقلبي من الهوَى ... إذا لم أُطقْ شكوى إليها مُترجِمُ
وقال آخر:
يكلِّمُ طرفي طرفَها حينَ نلتقي ... وإن كانَ فينا للعتابِ صدودُ
فإنْ نحنُ صرنا للفراقِ تلاحظتْ ... لنا بهوانا أعينٌ وخدودُ

فنحنُ كأنَّا بالقلوبِ وذِكرها ... إذا ما افترقنا حاضرونَ شهودُ
وقال الراعي:
يُناجيننا والطَّرفُ دونَ حديثنا ... ويقضينَ حاجاتٍ وهُنَّ موازِحُ
فلمَّا تفرَّقنا شجيْنَ بعَبرةٍ ... وزوَّدننا شوقاً وهُنَّ فواضحُ
فويلُ امِّها من خلَّةٍ لوْ تنكَّرتْ ... لأعدائنا أوْ صالحتْ منْ تُصالحُ
وقال آخر:
قفي أخبريني ثمَّ حُكمكِ واجبٌ ... عليَّ إذا خبَّرتِ ما أنا سائلُ
متى أنا ناجٍ يا قتولُ فأوْمأتْ ... بطرفٍ كفى رجعَ الَّذي أنا قائلُ
وقال آخر:
ألا حبَّذا الدَّهْنا وطيبُ تُرابها ... وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلَ هامُها
ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى ... إلى نفرٍ وحيُ العُيونِ كلامُها
وأنشدني الفضل بن أبي طاهر:
إشارةُ أفواهٍ وغمزُ حواجبٍ ... وتكسيرُ أجفانٍ وكفٌّ تُسلِّمُ
وألسنُنا معقودةٌ عنْ شَكاتنا ... وأبصارُنا عنها الصَّباباتِ تفهمُ
وقال ابن الوليد عبيد الطائي:
يتبسَّمنَ من وراءِ حواشي الرَّيْ ... طِ عن بردِ أُقحوانِ الثُّغورِ
ويُساقطنَ والرَّقيبُ قريبٌ ... لحظاتٍ يُعلنَّ سرَّ الضَّميرِ
ضعُفَ الدَّهرُ عن هواها وما الدَّهْ ... رُ علَى كلِّ دولةٍ بقديرِ
ليسَ في العاشقينَ أنقصُ حظّاً ... في التَّصابي من واصلٍ مهجورِ
أمَّا هذا الكلام فكلام متغطرس علَى الأيام وقد كان يقال عند الثِّقة بالأيَّام تُحذر الغِيَر.
وقال إبراهيم النظّام:
ونشكو بالعيونِ إذا التقينا ... فنفهمُهُ ويعلمُ ما أردْتُ
أقولُ بمُقلتي أنْ متُّ شوقاً ... فيوحي طرفهُ أنْ قدْ علمْتُ

الباب الثاني عشر
من مُنع من كثير الوصال قنع بقليل النَّوال
قال ذو الرمّة:
ألِمَّا بميٍّ قبلَ أنْ تطرحَ النَّوى ... بنا مطرحاً أوْ قبلَ بينٍ يُزيلُها
ولو لمْ يكنْ إلاَّ معرَّسُ ساعةٍ ... قليلاً فإنِّي نافعٌ لي قليلُها
خليليَّ عُدَّا حاجتي من هواكُما ... ومن ذا يُداوي النَّفسَ إلاَّ خليلُها
وقال أيضاً:
وإنِّي ليُرضيني قليلُ نوالكُمْ ... وإن كنتُ لا أرضى لكمْ بقليلِ
بحُرمةِ ما قد كانَ بيني وبينكمْ ... منَ الوُدِّ ألاَّ عُدتمُ بجميلِ
وقال جميل:
ويقُلنَ إنَّكَ قدْ رضيتَ بباطلٍ ... منها فهلْ لكَ في اعتزالِ الباطلِ
ولَباطلٌ ممَّنْ أحبُّ حديثَهُ ... أشهى إليَّ منَ البغيضِ الباذلِ
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها ... بالجدِّ تخلطُهُ بقولِ الهازلِ
فأجبتُها بالقولِ بعدَ تستُّرٍ ... حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقدرِ قُلامةٍ ... فضلٌ وصلْتُكِ أوْ أتتكِ رسائلي
أما هذا فقد دلَّنا بغاية جهده على شدَّة تمكُّنها من قلبه وأخبرنا مع ذلك في شعره أنَّه لو تهيَّأ خلاص شيء من حبِّه من يدها لصرفه إلى غيرها وهذه حال لا تُرضي أهل الوفاء ولا يستعملها أهل الصَّفاء.
وقال آخر:
وإنِّي لأرضى منكِ يا ليلُ بالَّذي ... لوُ اخبرَهُ الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ
بلى وبأنْ لا أستطيعَ وبالمُنى ... وبالوعدِ حتَّى يسأمَ الوعدَ آملُهْ
وبالنَّظرةِ العَجلى وبالحولِ تنقضي ... أواخرهُ لا تلتقي وأوائلُهْ
هذه لَعمري قناعة شديدة تدلُّ على أن وراءها ذلَّة وكيدة لأن من يتهيَّأ له من يهواه لا يقنع بأن لا يراه وبأن يعده وعده إلاَّ يطالبه بوفائه ولعمري إنَّ هذه الحال تقرُّ عين المعادي وتسخن عين الموالي إلاَّ أنَّه وإن كان قد بالغ في القناعة فإنه قد التمس التعلُّل بالوعد وبتأميل اللقاء على البعد ومن قنع بترك اللقاء وأقام على حال الوفاء كان أتمَّ حالاً.
كما قال أبو دلف العجلي:
إنِّي وإنْ كنتُ لا أراكَ ولا ... أطمعُ في ذاكَ سائرَ الأبدِ
لَقانعٌ بالسَّلامِ يبلُغني ... أشفي غليلاً به منَ الكمدِ
وأدفعُ الهمَّ بالسُّرورِ إذا ... أيقنتُ أنَّا جارانِ في بلدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
أأيَّامَ هذا الدهرِ كمْ تعنفينَ بي ... كأنْ لم ترى قبلي مُعنًّى ولا بعدي

نوالاً كرجعِ الطَّرفِ أعجلَهُ القذى ... وضنّاً كضنِّ الجفنِ بالأعيُنِ الرُّمدِ
فمنْ يكُ مشتاقاً إلى نُجحِ موعدٍ ... فها أنا مشتاقٌ إلى خلفِ الوعدِ
فلا خُلفَ إلاَّ بعدَ توكيدِ موعدٍ ... ولا وعدَ إلاَّ عن صفاءٍ منَ الوُدِّ
وقد قذفتْ نفسي أجلَّ حُظوظها ... لديكَ وفقدُ الحظِّ جُزوءٌ منَ الفقدِ
وقال آخر:
أوَجْدٌ علَى وجدٍ وأنتِ بخيلةٌ ... وقد زعموا أنْ لا يحبَّ بخيلُ
بلى والَّذي حجَّ المُلبُّونَ بيتَهُ ... ويُشفى الجوى بالنَّيلِ وهو قليلُ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أن أرى من مكانهِ ... ذُرى عُقُداتِ الأبرَقِ المُتقاودِ
وأنْ أرِدَ الماءَ الَّذي وردتْ بهِ ... سُليمى إذا ملَّ السُّرى كلُّ واحدِ
فأُلصقُ أحشائي بِبَردِ ترابهِ ... وإنْ كانَ مخلوطاً بسُمِّ الأساودِ
وقال آخر:
يقرُّ بعيني أن أرى كفَّةَ الغضا ... إذا ما بدتْ يوماً لعيني قِلالُها
ولستُ وإنْ أحببتُ من يسكنُ الغضا ... بأوَّلِ راجٍ حاجةً لا ينالُها
وقال جميل:
قد ماتَ قبلي أخو فهدٍ وصاحبُهُ ... مُرقِّشٌ واشتفى من عُروةَ الكمدُ
إنِّي لأحسبُ أوْ قد كدتُ أعلمُهُ ... أنْ سوفَ توردُني الحوضَ الَّذي وردوا
فما يضرُّ امرءاً أمسى وأنتِ لهُ ... أنْ لا يكونَ من الدُّنيا لهُ سندُ
وقال أيضاً:
يُكذِّبُ أقوالَ الوشاةِ صدودُها ... ويجتازُها عنِّي كأنْ لا أريدُها
وتحتَ مجاري الدَّمعِ منَّا مودَّةٌ ... تُلاحظُ سرّاً لا يُنادى وليدُها
رفعتُ عن الدُّنيا المنى غيرَ وُدِّها ... فما أسألُ الدُّنيا ولا أستزيدُها
وقال أيضاً:
منَ الخفِراتِ البيضِ أُخلِصَ لونُها ... تُلاحي عدوّاً لم تجدْ ما يعيبُها
فما مُزنةٌ بينَ السِّماكَيْنِ أوْ مضتْ ... منَ النُّورِ ثمَّ استعرضَتْها حبوبُها
بأحسنَ منها يومَ قالتْ وعندنا ... من النَّاسِ أوباشٌ يُخافُ شغوبُها
تعايَيْتَ فاستغنيتَ عنَّا بغيرنا ... إلى يومِ يلقى كلَّ نفسٍ حسيبُها
وددْتُ ولا تُغني الوَدادةُ أنَّها ... نصيبي منَ الدُّنيا وأنِّي نصيبُها
وقال آخر:
هلِ الله عافٍ عنْ ذُنوبٍ تسلَّفتْ ... أمِ الله إنْ لمْ يعفُ عنها يُعيدُها
وكُنَّا إذا دانتْ بذلفاءَ نيَّةٌ ... رضينا بدُنيانا فما نستزيدها
وقال أيضاً:
عاتبةٌ لم أغنَ عن وصلها ... يقتلُ في أجفانها السِّحرُ
إن نظرتْ قلتُ بها ذلَّةٌ ... أوْ خطرتْ قلتُ بها كِبرُ
أصبحتُ لا أطمعُ في وصلها ... حسبيَ أن يبقى ليَ الهجرُ
وقال آخر:
صدودكَ عنِّي إذْ أسأتُ يسرُّني ... ولم أرَ قبلي عاشقاً سُرَّ بالصَّدِّ
سُررتُ بهِ أنِّي تيقَّنتُ أنَّما ... دعاكَ إليهِ رغبةٌ منكَ في ودِّي
ولو كنتَ فيَّ زاهداً لم تبالِ بي ... ولكنَّما عتبُ المحبِّ منَ الوجدِ
فيا فرحةً لي إذْ رأيتُكَ عاتباً ... عليَّ لذنبٍ كانَ منِّي بلا عمدِ
وقال البحتري:
أخٌ ليَ لم تتَّصلْ نِسبتي ... بقُربى أبيه ولا أمِّهِ
تنكَّرَ حتَّى لأنكرْتُهُ ... خلا أنَّني عارفٌ باسمهِ
وما ليَ منهُ سوى رِقَّةٍ ... يُراحُ بها الشِّعرُ من فهمهِ
كذا المسكُ ما فيه مُستَمْ ... تَعٌ لمُتَّخذيهِ سوى شمِّهِ
وقال إبراهيم بن العباس:
منِّي الصِّبرُ ومنكَ اله ... جرُ فابلغْ بي مداكا
بعُدتْ همَّةُ عينٍ ... طمعتْ في أن تراكا
أوَ ما حظٌّ لعينٍ ... أن ترى من قد يراكا
أو ترى من قد رأى من ... قد رأى من قدْ رآكا
وقال بعض الأعراب:
أيا جبليْ نُعمانَ قلبي إليكُما ... مسرٌّ هوى مُستأنسٌ بلِقاكُما
كتمتُ جميعَ النَّاسِ وجدي عليكُما ... وأضمرتُ في الأحشاءِ منِّي هواكُما
دعا لكما قلبي الحنينُ وإنَّهُ ... ليُؤنسُ عيني أن ترى من يراكُما
وقال بعض الأعراب:
وإنَّ الَّذي أرضى بهِ من نوالِها ... عليها وإنْ ضنَّتْ بهِ ليَسيرُ

سلامٌ بعينٍ أوْ سلامٌ بحاجبٍ ... إذا ما بهِ لمْ تدرِ كيفَ تُشيرُ
وقال الأحوص بن محمد:
وقد جئتُ الطَّبيبَ لسُقمِ نفسي ... ليَشفيها الطَّبيبُ فما شفاها
وكنتُ إذا سمعتُ بأرضِ سُعدَي ... شفاني من سقامي أنْ أراها
فمنْ هذا الطَّبيبُ لسُقمِ نفسي ... سوى سُعدَي إذا شحطتْ نواها
وقال أيضاً:
أملامُ هلْ لمُتيَّمٍ تنويلُ ... أم قد صرمْتِ وغالَ ودَّكِ غولُ
لا تصرميني منْ دلالكِ إنَّهُ ... حسنٌ لديَّ وإنْ بخلتِ جميلُ
وقال البحتري:
ويحسنُ دلُّها والموتُ فيهِ ... وقد يُستحسنُ السَّيفُ الصَّقيلُ
أقولُ أزيدُ من سقَمٍ فؤادي ... وهلْ يزدادُ من قتلٍ قتيلُ
وقال آخر:
إنَّ الَّتي زعمتْ فؤادكَ ملَّها ... خُلِقتْ هواكَ كما خُلقْتَ هوًى لها
حجبتْ تحيَّتها فقلتُ لصاحبي ... ما كانَ أكثرَها لنا وأقلَّها
ولبعض أهل هذا العصر:
فإنْ تكنِ القلوبُ إذنْ تُجازَى ... وأسلُكْ في الهوَى سَنناً سويَّا
فما لِي أهوَى الثَّقَلينِ جمعاً ... عليكَ وأنتَ أكرمهمْ علَيَّا
عمرتُ سنينَ أسْتحفِي التَّصافِي ... ولا أرضَى منَ الوصلِ الرَّضيَّا
فلمْ تُقلعْ صروفُ الدَّهرِ حتَّى ... حُبستُ عنَ أنْ أجِي أوْ أنْ أُحيَّا
تبغَّضْ ما استطعتَ وعشْ سليماً ... فأنتَ أحبُّ مخلوقٍ إليَّا
وقال أبو صخر الهذلي:
ويقرُّ عينِي وهيَ نازحةٌ ... ما لا يقرُّ يَمينَ ذِي الحلمِ
إنِّي أرَى وأظنُّ أنْ سترَى ... وضحَ النَّهارِ وعاليَ النَّجمِ
وهذه لعمري قناعة مفرطة في بابها وإن كانت مقصِّرة عن حال التَّمام لأن صاحب هذه الحال يستجلب بُعداً لنفسه نسيم الوصال وما قصَّر عن هذا النحو الَّذي يقول:
أتانِي عنكِ سبُّكِ لِي فسُبِّي ... أليسَ جرَى بفيكِ اسمِي فحسْبي
فسُبِّي ما بدَا لكِ أنْ تسبِّي ... فما ذا كلُّهُ إلاَّ لحبِّي
وقال آخر في هذا المعنى فما قصّر:
تعاللْتِ كيْ أُشجى وما بكِ علَّةٌ ... تُريدينَ قتلِي قدْ ظفرتِ بذلكِ
لئنْ ساءنِي أنْ نِلتِي بمساءةٍ ... لقدْ سرَّنِي أنِّي خطرتُ ببالكِ
وأنشدني أحمد بن يحيى أبو العباس:
يا أيُّها الرَّاكبُ الغادِي لطيَّتهِ ... عرِّجْ أُنبِّكَ عنْ بعضِ الَّذي أجدُ
ما عالجَ النَّاسُ مِنْ وجدٍ ألمَّ بهمْ ... إلاَّ وجدتُ بهِ فوقَ الَّذي وجدُوا
حسبِي رضاهُ وأنِّي في مسرَّتهِ ... وودِّهِ آخرَ الأيَّامِ أجتهدُ
ولعمري لقد أحسن الَّذي يقول ويقال أنَّه لأبي داود:
لا تنِلْني الرِّضا ولا تهوَ غيرِي ... فكفانِي بذاكَ نيلاً ورِفْقا
غايَتي أنْ أراكَ حيّاً وأُضحِي ... آمناً أنْ تُعيرَ طرفكَ خلقَا
ثمَّ لا أستزيدُ منكَ ولا أطْ ... لبُ نيلاً ولوْ تقطَّعتُ عشقَا
ولبعض أهل هذا العصر في مثله:
أمرتَ ألاَّ أتشكَّى الهوَى ... وفعلُ ما تهواهُ مفروضُ
فلستُ أعدُو حدَّ ما قلتهُ ... حسبِي منَ التَّصريحِ تعريضُ
وكلُّ هذه الأحوال ناقصة عن حدِّ التَّمام على عجب أصحابها بها وافتخارهم بذكرها وتوهُّمهم أن قد تهيَّأ لهم على أنفسهم ما لم يتهيَّأ لغيرهم من صبرها لأحبابهم على الحظِّ اليسير من نوالهم وأتمُّ من هؤلاء في الحال وأحسن صبراً على قليل النوال بل على ترك جميعه من رضي من النَّيل بسلامة محبوبه وكان ذلك نهاية مطلوبه.
وفي مثل ذلك يقول بعض أهل هذا العصر:
إلاَّ تكنْ في الهوَى أرويتَ مِنْ ظمإٍ ... ولا فككتَ منَ الأغلالِ مأسورا
لقد ذللتُ علَى محضِ الهوَى لكَ لا ... لأجلِ ما كانَ مرجوّاً ومدخورا
فحسبُ نفسِي عَناً علمِي بوضِعِها ... منَ الهوَى وحسبُ أنْ كنتُ معذورَا
فأينَ أذهبُ بلْ ماذا أُريدُ منَ ال ... أيَّامِ أروِي عليها الإفكَ والزُّورا
وأنتَ ذاكَ وقلبِي ذا الَّذي ملكَتْ ... هواهُ نسُفْكَ إكراهاً وتخْييرا
لمْ يهوكَ القلبُ إنْ أظهرتَ أنتَ لهُ ... برّاً فيسلاكَ إذْ أظهرتَ تقصيرَا

ولمْ يكنْ باختيارٍ لي فأتركهُ ... ولا اضطرارٍ أتاهُ القلبُ مَقهورا
لكنَّهُ مِنْ أمورِ اللهِ ممتنعٌ ... في الوصفِ قدَّرهُ الرَّحمانُ تقديرَا
لنْ يُضبطَ العقلَ إلاَّ ما يدبِّرُهُ ... ولنْ ترَى في الهوَى بالعقلِ تدبيرَا
كنْ مُحسناً أوْ مُسيئاً وابقَ لي أبداً ... تكنْ لديَّ علَى الحالينِ مشكورَا

الباب الثالث عشر
مَنْ حُجبَ منَ الأحبابِ تذلَّل للحجَّابِ
أصل الحجاب يكون من جهتين إمَّا أن يقع من المحبوب اختياراً وإمَّا أن يوقعه غيره به اضطراراً فأمَّا الاضطرار فقسم واحد وهو صون المحبوب عن المحجوب وأما الاختيار فينقسم على ضروب فربَّما كان امتحاناً للمحبِّ من المحبوب وربَّما كان خوفاً عليه من الرَّقيب وربَّما كان استدعاءً للزيادة في الحال وربَّما كان إشفاقاً على النَّفس من العذَّال وتصوُّناً عن قبيح المقال وربَّما كان على جهة الضَّجر والملال وهذا هو شرُّ الأحوال وفي كل ذلك قد قالت الشُّعراء ونحن إن شاء الله نذكر من ذلك بعض ما يتهيَّأ على حسب ما يحتمله العدد الَّذي شرطناه.
وأنشدني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر:
حجابٌ فإنْ تبدُو فللدَّمعِ جولةٌ ... يكونُ لهُ مِنْ دونِ رؤيَتِها سِترا
فإنْ غاضَ دمعُ العينِ أقبلَ كاشحٌ ... يردُّ جفونَ العينِ قدْ مُلئتْ ذُعرا
ومَنْ يشترِي منِّي حياتِي بمِيتَةٍ ... أبعهُ حياةً يشترِي بعدَها قبرَا
ومَنْ يشترِي عَيْني بعينٍ صحيحةٍ ... أزدهُ علَى عَيْنيَّ قلباً أبى الصَّبرا
وقال عبد الله بن طاهر:
إنْ يمنَعُوني ممرِّي نحوَ بابكمُ ... فسوفَ أنظرُ مِنْ بُعدٍ إلى الدَّارِ
لا يقدِرونَ علَى منْعِي وإنْ جهدوا ... إذا مررتُ وتسليمِي بإضمارِ
ما ضرَّ جيرانكمْ واللهُ يكلأُهمْ ... لولا شقائِي إقبالِي وإدْبارِي
وقال قيس بن ذريح:
فإنْ يحجبُوها أو يحلْ دونَ وصلِها ... مقالةُ واشٍ أوْ وعيدُ أميرِ
فلنْ يحجبُوا عينيَّ مِنْ دائمِ البُكا ... ولنْ يُذهبُوا ما قدْ أجنَّ ضميرِي
وقال بعض الأعراب:
فإنْ يمنعُوا ليلَى وحسنَ حديثِها ... فلنْ يمنعُوا منِّي البُكا والقوافِيا
فهلاَّ منعتمْ إذْ منعتمْ كلامَها ... خيالاً يُوافينا علَى النَّأيِ هادِيا
وقال آخر:
لِي إلى الرِّيحِ حاجةٌ إنْ قضتْها ... كنتُ للرِّيحِ ما حَييتُ غُلاما
حجبُوها عنِ الرِّياحِ لأنِّي ... قلتُ للرِّيحِ بلِّغيها السَّلاما
وقال البحتري:
ويكفِي الفتَى مِنْ نُصحهِ ووفائهِ ... تمنِّيهِ أنْ يُردَى ويسلمَ صاحبُهْ
فلا تحسَبا ترْكِي الزِّيارةَ جفوةً ... ولا سوءَ جاذَبَتْني جواذبُهْ
ومَنْ لِي بإذنٍ حينَ أعدُو إليكُما ... ودونكُما البرجُ المطلُّ وحاجبُهْ
وقال آخر:
خليليَّ ليسَ الهجرُ أنْ تشحطَ النَّوى ... بإلفينِ دهراً ثمَّ يلتقيانِ
ولكنَّما الهِجرانَ أنْ تجمعَ النَّوى ... وأُحصرَ عمَّنْ قد أرَى ويَرانِي
وقال البحتري:
فكمْ جئتُ طوعَ الشَّوقِ مِنْ بعدِ غايةٍ ... إلى غيرِ مشتاقٍ وما ردَّنِي بشرُ
وما بالهُ يأْبَى دخولِي وقدْ أرَى ... خُروجِيَ مِنْ أبوابهِ ويدِي صفرُ
وقال أيضاً:
إذا أتيتكَ إجلالاً وتكرمةً ... رجعتُ أحملُ برّاً غيرَ مقبولِ
فإنْ أردْتكَ عرَّضتُ الرَّسولَ لِمَا ... يُخشَى منَ الرَّدِّ واستأذنتُ مِنْ ميلِ
وقال أبو تمام الطائي:
صبراً علَى المطلِ ما لمْ يتلهُ الكذبُ ... فللخطوبِ إذا سامحتُها عقبُ
ليسَ الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملاً ... إنَّ السَّماءَ تُرجَّى حينَ تحتجبُ
وقال ابن أبي طاهر:
حُجبتُ وقدْ كنتُ لا أُحجبُ ... وأُبعدتُ عنكَ فما أقربُ
وما ليَ ذنبٌ سوَى أنَّني ... إذا أُغضبتُ لا أغضبُ
وأنْ ليسَ دونكَ لي مطلبٌ ... ولا دونَ بابكَ لي مهربُ
فليتَكَ تبقَى سليمَ المحلّ ... وتأذنُ إنْ شئتَ أوْ تَحجبُ
وقال العرجي:
لقدْ أرسلتْ ليلَى رسولاً بأنْ أقمْ ... ولا تقرَبَنَّا فالتَّجنُّبُ أمثلُ

لعلَّ العيونَ الرَّمِقاتِ لودِّنا ... تُكذِّبُ عنَّا أوْ تنامُ فتغفلُ
أناسٌ أمنَّاهمْ فنمُّوا حديثَنا ... فلمَّا كتمْنا السِّرَّ عنهمُ تقوَّلوا
فما حفظُوا العهدَ الَّذي كانَ بينَنا ... ولا حينَ همُّوا بالقطيعةِ أجمَلوا
فقلتُ وقدْ ضاقتْ بلادِي برُحْبها ... عليَّ بما قدْ قيلَ والعينُ تهملُ
سأجتنبُ الدَّارَ الَّتي أنتمُ بها ... ولكنَّ طرفِي نحوَها سوفَ يُعملُ
ألمْ تعلمِي أنِّي وهل ذاكَ نافِعِي ... لديكِ وما أُخفِي منَ الودِّ أفضلُ
أرَى مستقيمَ الطَّرفِ ما الطَّرفُ أَمَّكمْ ... وإنْ رامَ طرفِي غيركمْ فهوَ أحولُ
وقال آخر:
ألا طرقتْنا آخرَ اللَّيلِ زينبٌ ... عليكِ سلامٌ هلْ لِما فاتَ مطلبُ
وقالتْ تجنَّبنا ولا تقرَبَنَّنا ... فكيفَ وأنتمْ حاجَتِي أتجنَّبُ
وقال آخر:
اللهُ يعلمُ ما ترْكي زيارتكمْ ... إلاَّ مخافةَ أعدائِي وحرَّاسِي
ولوْ قدرتُ علَى الإتيانِ جئتكمُ ... سبحاً علَى الوجهِ أوْ مشياً علَى الرَّأسِ
وقال آخر:
عُقيلِيةٌ أمَّا مَلاتَ إزارِها ... فدِعْصٌ وأمَّا خصرُها فثقيلُ
تقيظُ بأكنافِ الحِمَى ويظلُّها ... بنُعمانَ منَ وادِي الأراكِ مَقيلُ
أيا مَنْ كتمْنا حبَّها لمْ نُطعْ بهِ ... عدوّاً ولم يُؤمنْ عليهِ دخيلُ
ويا خلَّةَ النَّفسِ الَّتي ليسَ دونَها ... لنَا مِنْ أخلاَّءِ الصَّفاءِ دخيلُ
أمَا مِنْ مقامٍ نشتكِي غُربةَ النَّوى ... وخوفَ العِدَى فيهِ إليكِ سبيلُ
فديتكِ أعدائِي كثيرٌ وشُقَّتي ... بعيدٌ وأشياعِي إليكِ قليلُ
وكنتُ إذا ما جئتُ جِئتُ بعلَّةٍ ... فأفنيتُ علاَّتي فكيفَ أقولُ
فما كلَّ يومٍ لي بأرضِكِ حاجةٌ ... ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسولُ
أليسَ قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها ... إليكِ وكلٌّ منكِ ليسَ قليلُ
وقال البحتري:
قدَّمتَ قُدَّامي رجالاً كلُّهمْ ... متخلِّفٌ عنْ غايتِي مُتقاعسُ
وأذلتَنِي حتَّى لقدْ أشمتَّ بِي ... مَنْ كانَ يحسدُ منهمُ ويُنافسُ
أوعدْتَني يومَ الخميسِ وقدْ مضَى ... مِنْ بعدِ موعدكَ الخميسَ الخامسُ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه:
إذا كنتَ لا تحفَى بقُربِي ولا بُعدِي ... ولمْ تدرِ ما عِندي وقدْ جلَّ ما عِندِي
فهلْ أنتَ إنْ حكَّمتُ جودكَ منصفٌ ... فما لي عليهِ غيرُ جودكَ مِنْ مُعدِ
أبَى الحقُّ أنْ يخفَى وأقضِي ولا أرَى ... بجودكَ يوماً في سعيدٍ ولا سعدِ
ويدفعُ في صدرِي حجابكَ بعدَما ... أكونُ وما قبلِي لأُنسٍ ولا بعدِي
فما لِي قدْ أُبعدتُ عنكَ وطالَما ... دعوتُ فلمْ تُبعدْ نداكَ علَى بُعدِي
وأصبحتُ قدْ شوركتُ فيك ولمْ نزلْ ... كغُصنينِ في ساقٍ وسيفينِ في غمدِ
أللجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ مازحٌ ... فكمْ مِنْ مُزاحٍ عادَ يوماً إلى الجدِّ
وليسَ دوامُ الشُّكرِ يوماً بواجدٍ ... لمنْ لمْ يدمْ منهُ الوفاءُ علَى العهدِ
ولبعض أهل هذا الزمان:
بعينيكَ ما ألقَى إذا كنتَ حاضراً ... وإنْ غبتَ فالدُّنيا عليَّ محابسُ
ففيمَ أرَى نفسِي لقًى بفنائكمْ ... ولا مَنْ يُدانيني لديكمْ مُؤانسُ
أتحجُبُني أنْ قلتَ تحسدُ مَنْ بغَى ... هوايَ ومَنْ أحفَى بهِ وأُوانسُ
أجلْ إنَّ مَنْ يبغِي هواكَ محسَّدٌ ... عليكَ ومنْ يهوَى هواهُ منافسُ
إذا لمْ أُنافسْ في هواكَ ولمْ أغَرْ ... عليكَ ففيمنْ ليتَ شِعرِي أُنافسُ
فلا تحتقرْ نفسِي وأنتَ حبيبُها ... فكلُّ امرئٍ يصبُو إلى مَنْ يُجانسُ
وقال جرير:
قتلْنَنا بعيونٍ زانَها مرضٌ ... وفي المراضِ لنا شجوٌ وتعذيبُ
حتَّى متى أنتَ مشغوفٌ بغانيةٍ ... صبٌّ إليها طوالَ الدَّهرِ مكروبُ
قدْ تيَّمَ القلبَ حتَّى زادهُ خَبَلاً ... مَنْ لا يكلِّمُ إلاَّ وهو محجوبُ

وأرى في هذه المقطوعة ومقطوعات قبلها ما يدلُّ على ضجر من المحجوب وقلَّة صبر منه على نازلات الخطوب ولعمري كان الضَّجر على ما لا يصلح منه الانتصار ولا ينبسط عليه الاقتدار مهجِّناً لمظهره ومزرياً بمستشعره فإنَّ من تسامح له الزَّمان وتغافلت عنه صروف الأيَّام فوقع في مرعى خصيب وظفر بما لم يأمله المحبوب ثمَّ عطفت عليه الأيَّام عطفة الحنق المغتاظ فاسترجعت ما أعطته واستردَّت ما أعارته لغير معنَّف على الحيرة والتَّخليط والتَّأسُّف على ما قدَّم من التَّفريط.
وفي هذا المعنى يقول بعض أهل هذا العصر:
ألا مَنْ لقلبٍ قدْ دعاهُ تَجاسُرُهْ ... وضاقتْ بهِ بعدَ الورودِ مصادرهْ
تغافلَ عنهُ الدَّهرُ فاغترَّ بالمُنى ... فلمَّا أضاعَ الحزمَ كرَّتْ عساكرهْ
فأصبحَ كالمأسورِ طالتْ عُداتهُ ... عليهِ وذلَّتْ بعدَ عزٍّ عشائرهْ
تجرَّتْ عليهِ النَّائباتُ فأصبحتْ ... بكلِّ الرَّدى غيرَ الحِمامِ تُبادرهْ
وقدْ كانَ صرفُ الدَّهرِ يُقبلُ نحوهُ ... إذا جالَ في بحرٍ منَ الفكرِ خاطرهْ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي في نحو ذلك:
ربَّ قومٍ قدْ غدَوْا في نعمةٍ ... وعُلا عزٍّ عَلا ثمَّ بسَقْ
سكتَ الدَّهرُ زماناً عنهمُ ... ثمَّ أبكاهمْ دماً حينَ نطقْ
وفي مثله يقول عدي بن زيد:
قدْ أرانَا وأهلُنا بخفيرٍ ... نحسبُ الدَّهرَ والسِّنينُ شُهورا
فأمِنَّا وغرَّنا ذاكَ حتَّى ... راعَنا الدَّهرُ إذْ أتانا مُغيرا
إنَّ للدَّهرِ صولةً فاحْذَروها ... لا تبيتنَّ قدْ أمنتَ الدُّهورا
قدْ ينامُ الفتَى صحيحاً فيردَى ... ولقدْ باتَ آمناً مستُورا
ولعمري قد أحسن أبو تمام الطائي حيث يقول:
أعوامُ وصلٍ كانَ يُنسي طولَها ... ذكرُ النَّوى فكأنَّها أيَّامُ
ثمَّ انبرتْ أيَّامُ هجرٍ أُردفتْ ... بجوَى أسًى فكأنَّها أعوامُ
ثمَّ انقضتْ تلكَ السِّنينُ وأهلُها ... وكأنَّهمْ وكأنَّها أحلامُ
وعلى أنَّه لا ينبغي للعاقل أن يفرط في الجزع من غير الأيَّام فإنَّ الدَّهر حالٌ بعد حالٍ وكما كان اتِّصال السُّرور ذريعة إلى وقوع المحذور فكذلك ربَّما كان وقوع المكروه من أقوى الأسباب لرجوع المحابِّ ولقد أحسن كل الإحسان الَّذي يقول:
قدْ ينعمُ اللهُ بالبلوَى وإنْ عظُمتْ ... ويبتَلِي اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ
وقد قيل في ذم الحاجب والمحجوب أشياء لا تصلح من محبّ إلى محبوب غير أنَّا نصل بذكر بعضها الباب لأنَّها وإن لم تكن داخلة في حقيقته فإنَّها غير خارجة من جملته.
أنشدنا أبو الضياء لنفسه:
كلُّ حجابِ المرءِ نقصٌ بهِ ... وبعضهُ أقبحُ مِنْ بعضهِ
وحاجبُ المرءِ إذا اختارهُ ... لنفسهِ تاهَ علَى عِرضهِ
وربَّما ذُمَّ علَى تيههِ ... خليفةُ الرَّحمانِ في أرضهِ
وكمْ رأينَا حاجباً تائهاً ... قدْ أُبغضَ المحجوبُ مِنْ بُغضهِ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:
لمَّا رأيتُ أميرَنا متهجِّماً ... ودَّعتُ عرصةَ دارهِ بسلامِ
ورفضتُ صفحتهُ الَّتي لمْ أرضَها ... وأزلتُ عنْ رتبِ الدّناةِ مقامِي
ووجدتُ آبائِي الَّذينَ تقدَّموا ... سنُّوا الإباءَ علَى الملوكِ أمامِي
وقال أيضاً أحمد بن يحيى:
سأتركُ هذا البابَ ما دامَ إذنهُ ... علَى ما أرَى حتَّى تلينَ قليلا
إذا لمْ نجدْ يوماً إلى الإذنِ سلَّماً ... وجدْنا إلى تركِ المجيءِ سبيلا
وقال البحتري:
ولمَّا وقفْنا ببابِ الوزيرِ ... وقدْ رُفعَ السِّترُ أوْ جانبهْ
ظللْنا نُرجِّمُ فيكَ الظُّنونَ ... أحاجمُهُ أنتَ أمْ حاجبهْ
وقال ابن عبدوس لنفسه:
قدْ أتيناكَ وإنْ كنْ ... تَ بنا غيرَ حقيقِ
وتوخَّيناكَ بالبِ ... رِّ علَى بُعدِ الطَّريقِ
كلَّما جئناكَ قالوا ... نائمٌ غيرُ مفيقِ
لا أَنامَ اللهُ عينَيْ ... كَ وإنْ كنتَ صديقِي

الباب الرابع عشر
مَنْ مُنعَ منَ الوصولِ اقتصرَ علَى الرَّسولِ

ذكروا أنَّ جميلاً وكثيِّراً التقيا فقال جميل لكثيّر بأني أريد أن تصير إلى بثينة فتأخذ لي عليها موعداً، فقال له: ويحك من عند عمِّها جئت وغاشية أهلها كثير قال له جميل: إنَّ الحيلة تأتي من وراء ذلك فقال له كثيّر: فأعطني علامة تعرفها قال جميل: آخر يوم التقينا كنَّا في وادي الدَّوم فأصاب ثوبها شيء من ورق الشَّجر فغسلته فمضى كثيّر إلى عمِّها فقال له: ما الَّذي ردَّك؟ فقال: أبيات صنعتها في عزَّة أحببت أن تسمعها قال: وما هي؟ فأنشأ يقول:
أقولُ لها يا عزَّ أرسلَ صاحبِي ... علَى نأْيِ دارٍ والموكَّلُ مُرسلُ
بأنْ تجعلِي بيني وبينكِ موعداً ... وأنْ تأمُريني ما الَّذي فيهِ أفعلُ
أما تذكرينَ العهدَ يومَ لقيتكمْ ... بأسفلِ وادِي الدَّومِ والثَّوبُ يُغسلُ
فلمَّا سمعت ذلك بثينة قالت: إخسأ قال لها عمُّها: ما الَّذي أخسأت يا بثينة؟ قالت: كلباً كان يعترينا ليلاً وقد رأيته نهاراً فانصرف كثيّر إلى جميل وعرَّفه أنَّا قد ذكرت اللَّيل فصر إليها.
وقال آخر:
إنَّ الَّتي أبصرْتها ... سحَراً تكلِّمُني رسولُ
أدَّتْ إليَّ رسالةً ... كادتْ لها نفسِي تسيلُ
فَلَوَ انَّ أُذنكَ بينَنَا ... حتَّى تسمَّعَ ما نقولُ
لرأيتَ ما استقبحتَهُ ... مِنْ فعلِنا وهوَ الجميلُ
وقال آخر:
خليليَّ عُوجا باركَ اللهُ فيكُما ... وإنْ لمْ تكنْ أرضِي لأرضِكُما قصدا
وقولا لها ليسَ الضَّلالُ اختيارَنا ... ولكنَّنا جُزْنا لنلقاكمُ عمْدا
وقال آخر:
ألا يا نسيمَ الرِّيحِ إنْ كنتَ هابطاً ... بلادَ سُليمى فالتمسْ أنْ تكلَّما
لتَقْرَا علَى ليلى السَّلامَ وأهلِها ... وكنْ بعدَها عنْ سائرِ النَّاسِ أعجَما
وقال خليفة بن روح الأسدي:
ألا يا خليلَ النَّفسِ إنْ جئتَ أرضَها ... فأنتَ لمشهورٌ هناكَ رسولُ
فسلْ أُمَّ سلمٍ هلْ محا عهدَها الغِنى ... ومالٌ حوتهُ بعدَنا وخليلُ
وباللهِ سلْهَا هلْ تطاولَ ليلُها ... كما اللَّيلُ إذْ بانتْ عليَّ طويلُ
وإنَّ لسانِي باسمِ ليلَى وذكرِها ... إذا قلتُ تشبيهاً بها لذلولُ
وقال ابن أبي أمية:
أقولُ وقدْ أجدَّ رحيلُ صحْبِي ... لِخِدْنَيَّ اهدِيا هدياً جميلا
ألِمَّا قبلَ بينِكُما بسُلمى ... فقولا أنتِ ضامنةٌ قتيلا
رجَا منكِ النَّوالَ فلمْ تُنيلِي ... وقد أورثتهِ سقماً طويلا
فإن وصلتْكُما سُلمى فقولا ... نرَى في الحقِّ أنْ نصلَ الوَصولا
وإنْ آنستُما بخلاً فلسْنا ... بأوَّلِ مَنْ رجَا حرجاً بَخيلا
وقال المقدام بن ضيغم:
أخا الجنِّ بلِّغْها السَّلامَ فإنَّني ... منَ الإنسِ مزورُّ الجَنانِ كتومُ
أخا الجمِّ حالُ النَّاسِ بيني وبينَها ... عدوٌّ ومُستَحْياً عليَّ كريمُ
وقال يزيد بن الطثرية:
ألمَّا علَى ظلاَّمَة اليومَ فانْطِقا ... بعُذرِي لديها واذْكُراني تعجُّبا
وقولا إذا عدَّتْ ذنوباً كثيرةً ... عليَّ تجنَّاها امرؤٌ ما تغبَّبَا
هَبيهِ امرءاً إمَّا بريئاً ظلمتهِ ... وإمَّا مُسيئاً تابَ بعدُ وأعْتَبا
وقال أيضاً:
أيا رِفقةً مِنْ أهلِ بُصرَى تحمَّلتْ ... تؤمُّ الحِمى لُقِّيتِ مِنْ رفقةٍ رُشدا
إذا ما بلغتمُ سالمينَ فبلِّغوا ... تحيَّةَ مَنْ قد ظنَّ أنْ لا يرَى نجدا
وقولا تركْنا الحارثيَّ مكبَّلاً ... بكبلِ الهوَى مِنْ حبِّكمْ مضمراً وجْدا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
أرسلتْ أسماءُ في معتبةٍ ... عتِبَتْها وهيَ أحلى مَن عتبْ
إذْ أتى منها رسولٌ موهناً ... وجدَ الحيَّ نياماً فانقلبْ
ضربَ البابَ فلمْ يشعرْ بهِ ... أحدٌ يفتحُ عنهُ إذْ ضربْ
قالَ أيقاظٌ ولكنْ حاجةٌ ... عرضتْ تُكتمُ منَّا فاحتجبْ
ولهذا ردَّنِي فاجتهدتْ ... بيمينٍ حلفتْ عندَ الغضبْ
أُشهدُ الرَّحمانَ لا يجمعُنا ... سقفُ بيتٍ رحِباً حتَّى وجبْ
قلتُ يا هندُ اعمِدِي لي نحوَها ... واحلِفي باللهِ كشَّافِ الكربْ
فأتتها طبَّةٌ عالمةٌ ... تخلطُ الجدَّ مراراً باللَّعبْ

ترفعُ الصَّوتَ إذا لانتْ لها ... وتَراخَى عندَ سوراتِ الغضبْ
لمْ تزلْ تصرِفُها عنْ رأيِها ... وتأَنَّاها برفقٍ وأدبْ
فبلغني أنَّ ابن أبي عتيق لمَّا سمع هذا الشعر قال لعمر بن أبي ربيعة النَّاس في طلب خليفة مثل قوَّادتك هذه منذ قتل عثمان بن عفان فما يقدرون عليه.
وقال أبو تمام الطائي:
أغنيتَ عنِّي غَناءَ الماءِ في الشَّرقِ ... وكنتَ منشئَ وبلِ العارضِ الغدقِ
يا منَّةً لكَ لولا ما أُخفِّفُها ... بهِ منَ الشُّكرِ لم تُحملْ ولمْ تطقِ
وقال أيضاً في وصفه كتاباً ورد عليه وأحسن:
فضضتُ خِتامهُ فتبلَّجتْ لِي ... غرائبهُ عنِ الخبرِ الجليِّ
وكانَ أجلَّ في عيني وأبهَى ... علَى كبدِي منَ الزَّهرِ النَّديِّ
وأحسنَ موقعاً منِّي وعندِي ... منَ البُشرَى أتتْ بعدَ النَّعيِّ
وضُمِّن صدرهُ ما لمْ تضمَّنْ ... صدورُ الغانياتِ من الحليِّ
وقال البحتري:
تناءتْ دارُ عَلوةَ بعدَ قربٍ ... فهلْ ركبٌ يبلِّغها السَّلاما
وجدَّدَ طيفُها عتباً علينا ... فما يعتادُنا إلاَّ لِماما
وربَّةَ ليلةٍ قدْ بتُّ أُسقَى ... بكفَّيها وعينيها المُداما
قطعنا اللَّيلَ لثماً واعتناقاً ... وأفنيناهُ ضمّاً والتزاما
وقال أيضاً:
هل ركْبُ مكَّةَ حاملونَ تحيَّةً ... تُهدى إلينا مِنْ معنًى مغرمِ
ردَّ الجفونَ علَى كرًى متبدِّدٍ ... وحنَى الضُّلوعَ علَى جوًى متضرِّمِ
إن لمْ يبلغكَ الحجيجُ فلا رمَوْا ... بالجمرتينِ ولا سُقوا مِنْ زمزمِ
وقال زيادة بن زيد:
ألمَّا بليلى يا خليليَّ فانظرا ... وما لمْ تُلمَّا بابَها كانَ أكثرا
وعُوجا المطايا طالَما قدْ هجرتُها ... عليها وإنْ كانَ المُعرَّجُ أغبرا
متى يرَها العَجلانُ لا يثنِ طرفهُ ... إلى عينهِ حتَّى يحارَ ويحسرَا
ولوْ خلِّيتْ ليلى علَى اللَّيلِ مظلماً ... لجلَّتْ ظلامَ اللَّيلِ ليلى فأقمرا
ولمْ أرَ ليلى بعدَ يومِ لقيتُها ... تكفُّ دموعَ العينِ أنْ تتحدَّرا
فما بدَّدَ الهجرانَ يا ليلُ بيننا ... وشحطَ النَّوى إلاَّ الهوَى والتَّذكُّرا
وكمْ دونَ ليلى بلدةٌ مُسبَطِرَّةٌ ... وبيدٌ مَلاها العينُ حتَّى تحيَّرا
وقال نصيب:
خليليَّ زُورا العامريّةَ فانظُرا ... أيبقَى لديها الودُّ أمْ يتقضَّبُ
وقولا لها إنْ يعتزِلْكِ فلا قلًى ... ولكنَّهُ عنْ رقبةٍ يتجنَّبُ
يرَى دونكمْ مَنْ يتَّقي وهوَ إلفٌ ... لكمْ ولهُ مِنْ دونكمْ مُترقَّبُ
فصدَّ وما يسطيعُ صرمكِ إنَّهُ ... ولو صدَّ رهنٌ في حبالكِ مُنشبُ
وقال الأحوص:
إذا ما أتَى مِنْ نحوِ أرضكِ راكبٌ ... تعرَّضتُ واستخبرتُ والقلبُ موجعُ
فأبدا إذا استخبرتُ عمداً بغيرِها ... ليخفَى حديثِي والمخادعُ يخدعُ
وأُخفي إذا استخبرتُ أشياءَ كارهاً ... وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليها تطلَّعُ
فسرُّكِ عندِي في الفؤادِ مكتَّمٌ ... تضمَّنهُ منِّي ضميرٌ وأضلعُ
إلى اللهِ أشكُو لا إلى النَّاسِ حاجتِي ... ولا بدَّ مِنْ شكوَى حبيبٍ يروَّعُ
ألا فارْحَمي مَنْ قدْ ذهبتِ بعقلهِ ... فأمسَى إليكمْ خاشعاً يتضرَّعُ
إذا قلتُ هذا حينَ أسلُو ذكرتُها ... فظلَّتْ لها نفسِي تتوقُ وتنزعُ
إن كان أحد من المرسَلين إلى أحبابهم والسَّائلين عن أخبارهم معذوراً فصاحب هذا الشِّعر معذور لأنه قد احتاط جهد وكتم سرَّه بحسب ما يمكنه وليس هذه حالة تامة ولا في باب المراسلات حال تامة غير أنَّ كلَّ ما قلَّ من الإظهار وانكتم من الأسرار كان صاحبه أعذر ممَّن أفرط في إظهار حاله وائتمن النَّاس علَى أسراره.
وقال آخر:
أتتْنا عيونٌ مِنْ بلادكِ لم تجئْ ... لنا ببيانٍ منكِ ثمَّ عيونُ
وإنَّ منَ الخلاَّنِ من تشحطُ النَّوى ... بهِ وهوَ راعٍ للودادِ أمينُ
ومنهمْ كغيبِ العينِ أمَّا لقاؤهُ ... فحلوٌ وأمَّا غيبهُ فخؤونُ
وقال آخر:
ألا أيُّها الرَّكبُ اليمانونَ عرِّجوا ... علينا فقدْ أضحَى هوانا يمانِيا

نُسائلكمْ هلْ سالَ نعمانُ بعدَنا ... وحبَّ إلينا بطنُ نُعمانَ وادِيا
عهِدنا بهِ صيداً غزيراً ومشرباً ... بهِ نُقعَ القلبُ الَّذي كانَ صادِيا
وأنشدني أعرابي بالبادية:
أيا ربِّ أنتَ المستعانُ علَى نوًى ... لعزَّةَ قد أزرَى بجسمِي حِذارُها
أُسائلُ عنهمْ أهلَ مكةَ كلُّهمْ ... بحيثُ التقى حجَّاجُها وتِجارُها
عسَى خبرٌ منها يُصادفُ رفقةً ... مخلَّفةً أوْ حيثُ تُرمَى جمارُها
ومعتمرٍ في ركبِ عزَّةَ لمْ تكنْ ... لهُ حاجةٌ في الحجِّ لولا اعتمارُها
لئنْ عزفتْ يا عزَّ نفسِي عنكمُ ... لبعدٍ أشدَّ الوجدِ كانَ اصطبارُها
ولبعض أهل هذا العصر:
أتذكرُ اليومَ ما لاقيتُ مِنْ كمدٍ ... أمْ قدْ كفاكَ رسولِي بالَّذي ذكرا
هذا مقامُ فتًى أقصاهُ مالكهُ ... فحاولَ الصَّبرَ حيناً ثمَّ ما صبرا
بينَا يُعدِّدُ أحقاداً ويضمرُها ... إذْ قادهُ الشَّوقُ حتَّى جاءَ معتذرا
لمْ يجنِ ذنباً فيدرِي ما يُمحِّصهُ ... ولا يرَى أجلاً للصَّفحِ مُنتظرا
واللهِ واللهِ لا تُشمتْ أعاديَهُ ... فالصَّفحُ أجملُ بالمولَى إذا قدرا
وقال سهيل بن عليل:
ألا أيُّها الرَّكبُ المخبُّونَ هلْ لكمْ ... بأُختِ بني نهدٍ نُهَيَّةَ مِنْ عهدِ
أألقتْ عصاها فاستقرَّ بها النَّوى ... بأرضِ بني قابوس أمْ ظعنتْ بعدِي
وقال آخر:
بعثتُ رسولاً فأضحَى خليلا ... علَى الرُّغمِ منِّي فصبراً جميلا
وكنتُ الخليلُ وكانَ الرَّسولُ ... فأضحَى خليلاً وصرتُ الرَّسولا
كذا مَنْ يوجِّهُ في حاجةٍ ... إلى مَنْ يحبُّ رسولاً نبيلا
وزعموا أن جارية أرسلت جاريتها برسالة إلى خليل كان لها فاتَّهمته بأنه خمشها فكتب معتذراً من ذلك:
زعمَ الرَّسولُ بأنَّني خمَّشتهُ ... كذبَ الرَّسولُ وفالقِ الأصباحِ
إن كنتُ خمَّشتُ الرَّسولَ فعافصتْ ... روحِي أناملُ قابضِ الأرواحِ
شغلي بحبِّكِ عنْ سواكِ وليسَ لي ... قلبانِ مشغولٌ وآخرُ صاحِ
قلبي الَّذي لمْ يُبقِ فيهِ هواكمُ ... فضلاً لتخميشٍ ولا لمزاحِ

الباب الخامس عشر
مَنْ أحبَّه أحبابهُ وشَى بهِ أترابهُ
مكايد الوشاة كلُّها تنقسم على ثلاثة أقسام فسعاية المتحابَّين إلى غيرهما وسعاية المحبّ إلى محبوبه وسعاية المحبوب إلى محبِّه فهذه عند كثير من الأدباء أضعف المكايد أثراً وليس الأمر كذلك ولا هو أيضاً بضدِّ ذلك ولكنَّه محتاج إلى نقصان أمَّا العشَّاق والمتيَّمون فلا يقبلون قول الوشاة بل لا يسمعونه لأنَّ الثِّقة منهم بأحبابهم ماحيةٌ لقول من وشى بهم وأمَّا أهل الوله المدلَّهون فيقبلون ما لا يسمعون فضلاً عمَّا يسمعون لما قدَّمنا من وصفهم وغلبة الظّنِّ على أنفسهم ونحن نذكر إن شاء الله من كلِّ ما قيل في ذلك طرفاً.
وقال بعض الظرفاء:
ولمَّا رأينا الكاشحينَ تتبَّعوا ... هوانا وأبدَوْا دونَنا أعيناً خُزرا
جعلتُ وما بي مِنْ جفاءٍ ولا قِلًى ... أزورُكمُ يوماً وأهجركمْ شهرا
ولوْ نظرتْ بينَ الجوانحِ والحشا ... رأتْ مِنْ كتابِ الحبِّ في كبدِي سطرا
وقال الأحوص:
يا بيتَ عاتكةَ الَّذي أتعزَّلُ ... حذرَ العِدى وبهِ الفؤادُ موكَّلُ
أصبحتُ أمنحُكَ الصُّدودَ وإنِّني ... قسماً إليكَ معَ الصُّدودِ لأميلُ
وتجنُّبي بيتَ الحبيبِ وذِكرَهُ ... أُرضي البغيضَ به حديثٌ مُعضِلُ
هلْ عيشُنا بكَ في زمانكَ راجعٌ ... فلقدْ تفحَّشَ بعدكَ المتعلِّلُ
ولوَ انَّ ما عالجتُ لينَ فُؤادهِ ... فقَسَا استُلينَ بهِ للانَ الجندلُ
وقال معاذ ليلى:
إذا جئتُها وسْطَ النِّساءِ منحتُها ... صدوداً كأنَّ النَّفسَ ليسَ تُريدُها
ولي نظرةٌ بعدَ الصُّدودِ من الهوَى ... كنظرةِ ولْهى قد أُميتَ وحيدُها
وقال بعض الأعراب:
لَعمْرُ أبي المُحصينَ أيامُ نلتقي ... لِما لا نُلاقيها منَ الدَّهرِ أكثرُ
يعدُّونَ يوماً واحداً إنْ أتيتُها ... وينسونَ ما كانت من الدَّهر تهجرُ
وقال آخر:

أمُرُّ مجنِّباً عنْ بيتِ ليلى ... ولمْ ألمِمْ بهِ وبهِ القليلُ
أمرُّ مُجنِّباً وهوايَ فيهِ ... وطرفي عنهُ مُنكسرٌ كليلُ
وقلبي فيه مُحتبسٌ فهلْ لي ... إلى قلبي ومالكِهِ سبيلُ
أُؤمِّلُ أنْ أُعلَّ بشربِ ليلى ... ولم أنهلْ فكيفَ ليَ العُلولُ
وقال جميل:
أتهجرُ هذا الرَّبعَ أمْ أنتَ زائرُهْ ... وكيفَ يُزارُ الرَّبعُ قد بانَ عامرُهْ
رأيتكَ تأتي البيتَ تُبغضُ أهلَهُ ... وقلبكَ في البيتِ الَّذي أنتَ هاجرُهْ
وقال الحسين بن مطير:
بنفسيَ منْ لا بدَّ أنِّي هاجرُهْ ... ومنْ أنا في الميسورِ والعُسرِ ذاكرُهْ
ومن قد رماهُ الناسُ حتَّى اتَّقاهمُ ... بِبُغضيَ إلاَّ ما تجِنُّ ضمائرُهْ
ومن ضنَّ بالتَّسليمِ يومَ فراقهِ ... عليَّ ودمعُ العينِ تجري بوادرُهْ
ومن بانَ منَّا يومَ بانَ وما درى ... أكُنتُ أنا الموتورَ أم أنا واترُهْ
وحالَ بنو العمَّاتِ والعمُّ دونهُ ... ونذْرُ عدوٍّ لا تُغبُّ نذائرُهْ
أتجهرُ بيتاً بالحجازِ تكنَّفتْ ... جوانبَهُ الأعداءُ أنتَ زائرُهْ
فإنْ آتهِ لا أنجُ إلاَّ بظنَّةٍ ... وإنْ يأتهِ غيري تُصبْني جرائرُهْ
وقال آخر:
ولمْ أرَ محزونَيْنِ أجملَ لوعةً ... علَى نائباتِ الدَّهرِ منِّي ومن جُمْلِ
كلانا يذودُ النَّفسَ وهيَ حزينةٌ ... ويُضمرُ شوقاً كالنَّوافذِ بالنَّبْلِ
وقال أبو القمقام الأسدي:
أعفراءُ كمْ من ميتةٍ قد أذقْتني ... وحُزنٍ ألجَّ العينَ بالهَملانِ
بُلينا بهجرانٍ ولم يُرَ مثلنا ... من النَّاسِ إنسانيْنِ مُهتجرانِ
أشدَّ مُصافاةً وأبعدَ من قِلًى ... وأعصى لِواشٍ حينَ يُكتنفانِ
وقال معاذ ليلى:
أهابُكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌ ... عليَّ ولكنْ ملءُ عينٍ حبيبُها
وما هجرَتْكِ النَّفسُ يا ليلُ إنَّها ... قليلٌ ولا أنْ قلَّ منكِ نصيبُها
ولكنَّهمْ يا أملحَ النَّاسِ أكثروا ... بقولٍ إذا ما جئتُ هذا حبيبُها
أتُضربُ ليلى إن مررتُ بذي العصَى ... وما ذنبُ ليلى إن طوى الأرضَ ذيبُها
وقال عروة بن حزام:
تكنَّفني الواشونَ من كلِّ جانبٍ ... ولوْ كانَ واشٍ واحدٌ لَكفاني
إذا ما جلسنا مجلساً نستلذُّهْ ... تواشَوا بنا حتَّى أملَّ مكاني
ألا لعنَ اللهُ الوُشاةَ وقولهُمْ ... فُلانةُ أضحتْ خُلَّةً لفلانِ
ألا ليتَ كلَّ اثنينِ بينهُما هوًى ... منَ النَّاس والأنعامِ يلتقيانِ
أناسيةٌ عفراءُ وصليَ بعدَ ما ... جرى الدَّمعُ من عينيَّ بالهَملانِ
إذا رامَ قلبي هجرها حالَ دونها ... شفيعانِ من قلبي لها جَدِلانِ
إذا قلتُ لا قالا بلى ثمَّ أصبحا ... جميعاً علَى الرَّأيِ الَّذي يرَيانِ
وقال البحتري:
خليليَّ لا أسماءَ إلاَّ ادِّكارُها ... ولا دارَ من وهْبينَ إلاَّ طُلولُها
تمادى بها الهجرُ المُبرِّحُ والنَّوى ... بمسمعها قال الوشاةِ وقيلُها
وقد كثرَتْ منَّا المُعاصاةُ للصِّبى ... ولوْ أنَّها قلَّتْ لضرَّ قليلُها
هلِ الوجدُ إلاَّ عبرةٌ أسترِدُّها ... أوِ الحبُّ إلاَّ عثرةٌ أستقيلُها
وقال آخر:
خليليَّ إنِّي اليومَ شاكٍ إليكُما ... وهل تنفعُ الشَّكوى إلى منْ يزيدُها
تفرُّقُ أُلاَّفٍ وجولانُ عَبرةٍ ... أظلُّ بأطرافِ البنانِ أذودُها
ولا يلبثُ الواشونَ أنْ يصدعوا العصا ... إذا لم يكنْ صلْباً علَى البرْيِ عودُها
وقال أبو علي البصير:
لقدْ قرعَ الواشي بأهوَنِ سعْيِهِ ... صفاةً قديماً أخطأتْها القوارِعُ
فأقلقني في ضعْفهِ وهوَ ساكنٌ ... وشرَّدَ عنْ عيني الكرى وهوَ هاجعُ
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي ليزيد الغواني العجلي:
سرتْ عرْضَ ذي قارٍ إلينا وبطْنِهِ ... أحاديثُ للواشي بهنَّ دبيبُ
أحاديثُ سدَّاها شبيبٌ ونارَها ... وإن كانَ لم يسمعْ بهنَّ شبيبُ
وقد يكذبُ الواشي فيُسمعُ قولهُ ... ويصْدقُ بعضُ القولِ وهوَ كذوبُ
وقال آخر:

فإنْ تكُ ليلى قدْ جفتْني وطاوعَتْ ... علَى صرمِ حبلي من وشى وتكذَّبا
لقدْ باعدتْ نفساً عليها شفيقةً ... وقلباً عصى فيها الحبيبَ المُقرَّبا
فلستُ وإنْ ليلى تولَّتْ بودِّها ... وأصبحَ باقي الوصلِ منها تقضَّبا
بمُثْنٍ سوى عُرفٍ عليها ومُشمتٍ ... وُشاةً بها كانوا شهوداً وعيَّبا
ولكنَّني لا بدَّ أنِّيَ قائلٌ ... وذو اللُّبِّ قوَّالٌ إذا ما تعتَّبا
فلا مرحباً بالشَّامتينَ بهجرِنا ... ولا زمنٍ أمسى بنا قدْ تقلَّبا
وقال معاذ ليلى:
فلوْ كانَ واشٍ باليمامةِ دارهُ ... وداري بأعلى حضرموتَ اهتدى لِيا
وماذا لهمْ لا أكثرَ اللهُ خيرهُمْ ... منَ الحظِّ في تصريمِ ليلى حِباليا
وقال بعض الأعراب:
أما والرَّاقصاتِ بذاتِ عِرْقٍ ... ومنْ صلَّى بنُعمانِ الأراكِ
لقدْ أضمرتُ حبَّكِ في فؤادي ... وما أضمرتُ حُبّاً من سواكِ
أطعْتِ الآمريكِ بصرمِ حبْلي ... مُريهِمْ في أحبَّتهمْ بذاكِ
فإنْ همْ طاوعوكِ فطاوعيهِمْ ... وإن عاصوْكِ فاعصَيْ منْ عصاكِ
وقال ابن الدمينة:
ديارُ الَّتي هاجرتُ عصراً ولِلهوى ... بقلبي إليها قائدٌ ومُهيبُ
لِتسلمَ من قولِ الوُشاةِ وإنَّني ... لهُمْ حينَ يغتابونَها لَذنوبُ
أُمَيْمُ بقلبي من هواكِ زُمانةٌ ... وأنتِ لها لوْ تبذلينَ طبيبُ
أُميمُ لقدْ غيَّبْتني وأرَيْتني ... بدائعَ أخلاقٍ لهنَّ ضروبُ
ولبعض أهل هذا العصر:
لئنْ رقدَ الواشي سروراً بما رأَى ... وهانَ عليهِ أنْ يقرَّ وأنصبا
لقدْ أسهرَ العينينِ منِّي صبابةً ... وغادرَ قلبي مُستهاماً معذَّبا
عدمتُ الهوَى إنْ كنتُ عاشرتُ وافياً ... سواكَ وقد طوَّفتُ شرقاً ومغربا
فإنْ لمْ تدعْ ما لا أُحبُّ تظرُّفاً ... ولا راعياً عهدِي فدعهُ تَحوَّبا
وأنشدني أحمد بن يحيى:
هجرتُ فلمَّا أنْ هجرتُكَ أصبحتْ ... بنا شمَّتاً تلكَ العيونُ الكواشحُ
فلا يفرحِ الواشونَ بالهجرِ ربَّما ... أطالَ المحبُّ الهجرَ والجيبُ ناصحُ
وتغدو النَّوى بينَ المحبّينِ والهوَى ... معَ القلبِ مطويٌّ عليهِ الجوانحُ
وأنشدتني منيرة العصبية:
ما كانَ ذاكَ الهجرُ منِّي عنْ قِلًى ... لا والَّذي رفعَ السَّما وبناها
إنِّي لَيَثنيني الحياءُ وأنثنِي ... وأصدُّ بعضَ مودَّتِي اسْتبقاها
وإذا المناضلُ لم يكنْ متثبِّتاً ... يبقَى مواقعَ نبلهِ أفناها
وقال آخر:
وتحسبُ ليلى أنَّني إنْ هجرتُها ... حذارَ الأعادِي أنَّما بي هونُها
ولكنَّ ليلى لا تفي بأمانةٍ ... فتحسبُ ليلى أنَّني سأَخونُها
وبي مِنْ هواها الدَّهرَ ما لوْ أبثُّهُ ... جماعةَ أعدائِي بكتْ لِي عيونُها
وقال رجل من أزد:
فويحَكُما يا واشييْ أمِّ معمَّرٍ ... لمنْ وإلى مَنْ جئتُما تشيانِ
لعلَّكما إنْ تُخبراني قليتُها ... وأطعمتُها عندِي لها بهوانِ
بنفسيَ مَنْ لوْ أستطيعُ أتيتُهُ ... سريعاً ومَنْ لو يستطيعُ أتانِي
ومَنْ لو أراهُ عاتباً لفديتُهُ ... ومَنْ لو رآنِي عاتباً لفدانِي
وقال الأقرع بن معاذ القشيري:
ألا أيُّها الواشي بليلَى ألا ترَى ... إلى مَنْ تَشِي بي أوْ بمنْ جئتَ واشِيا
لعمرُ الَّذي لمْ يرضَ حتَّى أُطيعهُ ... بليلَى إذنْ لا يصبحُ الدَّهرَ راضِيا
إذا نحنُ رُمنا هجرَها ضمَّ حبَّها ... ضميرُ الحشا ضمَّ الجناحِ الخَوافيا
وقال آخر:
كأنَّ عائبكمْ يُبدي محاسنكمْ ... يأتِي ليُنقصكمْ عندِي فيُغريني
ما فوقَ حبِّيكِ حبٌّ لستُ أعلمهُ ... فما يضرُّكِ ألاَّ تستَزِيدي
وقال البحتري:
يملأُ الواشِي جَنانِي ذُعراً ... ويُعنِّيني الحديثُ المختلقْ
حبُّها أوْ فرَقٌ من هجرِها ... وصريحُ الحبِّ ذُلٌّ أوْ فرَقْ
وقال حباب بن ملك العبشمي:
الحمدُ للهِ ما زالَ الوُشاةُ بِنا ... من غيرِ مقْليةٍ حتَّى هجرْناها
الحمدُ للهِ قد كنَّا ولو نزلتْ ... منَّا بأبعدَ من هذا لَزُرناها

وقال قيس بن ذريح:
تكنَّفني الوشاةُ فأزعجوني ... فيا للنَّاسِ للواشي المُطاعِ
فأصبحتُ الغَداةَ ألومُ نفسي ... علَى أمرٍ وليسَ بمُستطاعِ
كمغبونٍ يعضُّ علَى يديهِ ... تبيَّنَ غَبنهُ بعدَ البِياعِ
وقد عشنا نلذُّ الدَّهر حيناً ... لوَ انَّ الدَّهر للإنسانِ راعِ
ولكنَّ الجميعَ إلى زوالٍ ... وأسبابُ الفِراقِ لها دواعي

الباب السادس عشر
من لم يعاتب علَى الزَّلَّة فليس بحافظٍ للخُلّة
المعاتبة على الذُّنوب من المحبِّ والمحبوب قد تجري على ضروب فمنها معاتبة استتابٍ تقع على الارتياب ليزول الشَّكّ بما يجري فيها من الجواب ومعاتبة تقع بعد اليقين يقصد بها العاتب إلى أن يعلم هل من ذلك الذَّنب عذر أم هو داخل في باب الغدر ومنها معاتبة توقيف تجري على جهة التَّعنيف وهذه حال لا تكاد تجري بين المتحابَّين إلاَّ عند انقطاع الحال بينهما أوْ عند ضجرة شديدة تلحقهما أوْ تلحق أحدهما وأحمد أحوال العتاب صيانة الحال عن أن يجري فيها شيء من الاختلال بقيا على المذنب لا بقيا على المؤنِّب وترك جميع المعاتبة يدخل في باب الإهمال والموقِّف على كلِّ ذنب يوجب قطع المواصلة واتّصال العتب.
قال الحسن بن هانئ:
مُنقطعٌ عنكَ كانَ متَّصلاً ... أوْ نازلٌ بالفِناءِ فارتحلا
قد كانَ في الحقِّ أن يقالَ لهُ ... ماذا دعاهُ إلى الَّذي فعلا
ما عدلَ النَّاسُ عنكَ لي أملاً ... إلاَّ ثناهُ الرَّجاءُ فاعتدلا
وقال آخر:
حيِّ طيفاً من الأحبَّةِ زارا ... بعدَ ما صرَّعَ الكرى السُّمَّارا
قالَ إنَّا كما عهدْتَ ولكنْ ... شغلَ الحيُّ أهلهُ أن يُعارا
ولبعض أهل هذا العصر:
يا أخي كمْ يكونُ هذا الجفاءُ ... كمْ تشفَّى بهجركَ الأعداءُ
صارَ ذا الهجرُ لي غذاءً ولكنْ ... رُبَّما أتلفَ السَّقيمَ الغِذاءُ
سيِّدي أنتَ أينَ ذاكَ الصَّفاءُ ... أينَ ذاكَ الهوَى وذاكَ الوفاءُ
أنتَ ذاكَ الأخُ القديمُ ولكنْ ... ليسَ هذا الإخاءَ ذاكَ الإخاءُ
لي ذنوبٌ ولستُ أُنكرُ فاغفرْ ... فالتَّجنِّي علَى المقرِّ اعتداءُ
لي حقوقٌ أيضاً عليكَ ولكنْ ... ذكرُ مثلي لمثلِ هذا جفاءُ
وقال البحتري:
وكنتُ إذا استبْطأتُ وُدَّكَ زرتهُ ... بتفويفِ شعرٍ كالرِّداءِ المُحبَّرِ
عتابٌ بأطرافِ القوافي كأنَّهُ ... طِعانٌ بأطرافِ القنا المُتكسِّرِ
وقال آخر:
فلا عيشٌ كوصلٍ بعدَ هجرٍ ... ولا شيءٌ ألذُّ منَ العِتابِ
تواقفَ عاشقانِ علَى ارتقابٍ ... أرادا الوصلِ منْ بعدِ اجتنابِ
فلا هذا يملُّ عتابَ هذا ... ولا هذا يملُّ منَ الجوابِ
وقال آخر:
ألهْفَ أبي لمَّا أدمْتُ لكَ الهوَى ... وأصفيتُ حبِّي فيكَ والوجدُ ظاهرُ
وجاهرْتُ فيكَ النَّاسَ حتَّى أضرَّ بي ... مُجاهرتي يا ويلَ فيمنْ أُجاهرُ
وكنتَ كفيْءِ الغصنِ بينا يظلُّني ... ويعجبُني إذْ زعزعتْهُ الأعاصرُ
فصار لغيري واستدارتْ ظلالهُ ... سوايَ وخلاَّني ولفحَ الهواجرِ
ولبعض أهل هذا العصر:
إذا اشتدَّ ما ألقاهُ هوَّنَ علَّتي ... رضايَ بأنْ تحيى سليماً وأسقَما
فيا منْ يزيلُ الخوفَ عنِّي وفاؤُهُ ... بعهدي ومنْ لولاهُ لم أُمسِ مُغرَما
أكانَ جميلاً أن ترانيَ مُهملاً ... وتسكُتَ عن أمري ونهْيي تبرُّما
سأرعاكَ إنْ أكرمْتَني أوْ أهنْتَني ... وحسبُكَ نُبلاً أن تُهينَ وتُكرِما
وإنِّي لأستحْيي من الله أن أرى ... ظَلوماً لإلفي أوْ أرى مُتظلِّما
سآخذُ من نفسي لنفسكَ حقَّها ... وأصفحُ إن لم ترعَ عهدي تكرُّما
وما بيَ نفسي وحدها غيرَ أنَّني ... أصونُ خليلي أن يجورَ ويظلِما
ولو قيلَ لي اخترْ نيلَهُ أوْ صلاحهُ ... لآثرْتُ أن يُعصى هوايَ ويسلما
وقد كنتَ أولى بي من الشَّوقِ والهو ... ى وقد كنتَ أمضى في الضَّميرِ مُتمِّما
فما ليَ قد أُبعدْتُ حتَّى كأنَّني ... عدوٌّ وقد كنتُ الحبيبَ المُقدَّما
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه:

يا سعدُ لم أذخرْ عليكَ مودَّةً ... أنتَ المُقرُّ بها وأنتَ الجاحدُ
أشْكيتَني فشكوْتُ لا مُتشاكياً ... وزعمْتَ أنِّي إذْ شكوتُكَ حاسدُ
ولئنْ حُسدْتُ عليكَ إنَّكَ لَلَّذي ... حُسدتْ عليهِ أقاربٌ وأباعدُ
وزعمْتَ أنِّي لائمٌ لكَ عاتبٌ ... وقصائدي بالذَّمِّ فيكَ شواهدُ
لؤُمَتْ إذنْ منِّي الخلائقُ واعتدى ... بالحمدِ من هوَ قائمٌ بيَ قاعدُ
أنِّي أذمُّكَ يا سعيدُ وإنَّما بالمجدِ ... منكَ إذا فخُرْتُ أُماجدُ
إن كان قلبكَ فيَّ مُشتركَ الهوَى ... فالقلبُ منِّي فيكَ قلبٌ واحدُ
كنْ كيفَ شئتَ فإنَّني بكَ واثقٌ ... ولئنْ ذممْتُكَ إنَّني لكَ حامدُ
وقال العرجي:
أقولُ لها والعينُ قد جادَ غربُها ... وقد كانَ فيها دمعُها قد تردَّدا
أريْتُكِ إذْ أعرضْتِ عنِّي كأنَّما ... تُلاقينَ من حيَّاتِ بيتان أسودا
أأسلاكِ عنِّي النَّأيُ أمْ عاقكِ العِدى ... وما افترقوا أمْ جئتِ صرمي تعمُّدا
ألمْ أكُ أعصي فيكِ أهلَ قرابتي ... وأُرغمُ فيكِ الكاشحَ المُتهدِّدا
فقالتْ ضننْتُ الوصلَ منكَ ولَلَّذي ... جشمْتَ إلينا كان أدنى وأزهدا
لأشياءَ قد لاقيتُها فيكَ لم يكنْ ... ليُحصيَها من منَّ وصلاً وعدَّدا
وإعراضُنا عنكُمْ فغيري بهِ بدا ... فلمَّا أرادتْ عنكَ نفسي تجلُّدا
رجعْتُ إلى نفسي فعادتْ بحلْمها ... عليكَ فلمْ تُرضي بصرمكَ حُسَّدا
إذا أمَّلوا وشكَ اهتجارٍ فأخفقوا ... بهِ اليومَ فينا أمَّلوا هجرنا غدا
فكُنْ لِلَّذي تهوى وأغلظْ علَى الَّذي ... قلاكَ وعوِّدْهُ الَّذي قد تعوَّدا
ولا تحسبنْ صرمَ الصَّديقِ مروءةً ... ولا مُدركاً بالصَّرمِ ما عشتَ سُؤددا
وكتب بعض أهل هذا العصر إلى أخ له يستأذنه في شكره:
أتأذنُ لي يا مُتُّ قبلكَ في الشُّكرِ ... فأشكرَ أم تنهى فأُغضي علَى صُغْرِ
وإنِّي لمُحتاجٌ إنَ انتَ أذنتَ لي ... إلى العذرِ أيضاً من مجاوزتي قدري
فما حقُّ مثلي أن يُرى لكَ شاكراً ... ولا مثلُ ما أُوليتُ يُشكرُ بالشِّعرِ
فرأيَكَ فيمنْ لا يرى نفسهُ إذا ... عتبتَ عليها أهلَ شُكر ولا عُذرِ
فلم يأذن له في ذلك وكتب يعاتبه:
أفي العدلِ أن تنهى أخاكَ عنِ الشُّكرِ ... وينأى فلا يُنهى عنِ النَّأيِ والهجرِ
أجلْ أنَّ ذا عدلٌ علَى الصَّبِّ في الهوَى ... إذا كانَ لا يُنجيهِ منهُ سوى العُذرِ
أيجملُ في حقِّ الجوارِ دعِ الهوَى ... أنَ ابقى علَى ظهرِ العشاءِ إلى الفجرِ
أُراعي نجوماً لم أُوكَّلْ برعْيِها ... وأُذكي هوًى في القلبِ أذكى منَ الجمرِ
وأنتَ أخٌ لي قادرٌ أنْ تزيلَ ما ... أُقاسيهِ لا تدري بما بيَ أوْ تدري
تبيتُ خليَّ القلبِ ممَّا أجِنُّهُ ... كما أنا خِلوٌ في هواكَ منَ الصَّبرِ
وإنِّيَ أدري أنَّ في الصَّبرِ راحةً ... ولكنَّ إنفاقي علَى الصَّبرِ من عُمري
أراني إذا واصلتُ ساءتْكَ عِشرتي ... وإنْ غبتُ لم أخطرْ ببالٍ ولا فكرِ
أحينَ تناهى الودُّ واتَّصلَ الهوَى ... وصرتَ شريكي في السَّريرةِ والجهرِ
مللتَ إخائي واطَّرحتَ مودَّتي ... وأقصيتني حتَّى تحيَّرتُ في أمري
وله أيضاً:
جُعلتُ فِداكَ قد طالَ انعطافي ... إليكَ وأنتَ قاسي القلبِ جافي
وليسَ أخاكَ من يرعاكَ كُرهاً ... ولا البادي بوصْلكَ كالمُكافي
فإنْ ترعَ الأمانةَ لا أُضِعْها ... وإنْ لا ترعَ يوحِشكَ انصرافي
يطولُ عليكَ أن تلقى خليلاً ... تطولُ عليهِ أيَّامُ التَّصافي
مخافةَ أنْ يملَّكَ باجتماعٍ ... فيرضى من نوالكَ بالكفافِ
فإنْ يكُ ذا الصُّدودُ صدودَ عتْبٍ ... وأنتَ علَى المودَّةِ والتَّوافي
إذنْ فتلافني من قبلِ يأسٍ ... يولِّدُ ما يجلُّ عنِ التَّلافي
وإلاَّ فاطَّرحْ وُدِّي وأجملْ ... بتعريضٍ من التَّصريحِ كافي
متى يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ ... إذا كانَ الضَّنى درْكَ المُعافي
وقال بعض الأعراب:

وأُنبئتُ ليلى أرسلتْ بشفاعةٍ ... إليَّ فهلاَّ نفسُ ليلى شفيعُها
أأكرمُ من ليلى عليَّ فتبتغي ... بهِ الجاهَ أمْ كنتُ امرءاً لا أطيعُها
وقال الحسين بن الضحاك:
أما ناجاكَ بالنَّظرِ الصَّحيحِ ... وأنَّ إليكَ من قلبٍ قريحِ
فليتكَ حينَ تهجرُهُ ضِراراً ... تمنُّ عليه بالقتلِ المُريحِ
بحُسنكَ كانَ أوَّلُ حُسنِ ظنِّي ... وما ينهاكَ حُسنكَ عن قبيحِ
وما تنفكُّ مُتَّهماً لنُصحي ... بنفسيَ نفسُ مُتَّهمِ النَّصيحِ
وقال آخر:
إلى كمْ يكونُ الصَّدُّ في كلِّ ساعةٍ ... وكمْ لا تملِّينَ القطيعةَ والهجرا
رُوَيدكِ إنَّ الدَّهر فيهِ بلاغةٌ ... لتفريقِ ذاتِ البينِ فانتظري الدَّهرا
وقال يزيد بن الطثرية:
علَى حينِ صارمتُ الأخلاَّءَ كلَّهُمْ ... إليكِ وأصفيتُ الهوَى لكِ أجمعا
وزدْتُكِ أضعافاً وغادرتُ في الحشا ... عظامَ البلايا بادياتٍ ورُجَّعا
جزيتُكِ فرضَ الودِّ ثمَّتَ خِلْتُني ... كذي الشَّكِّ أدنى شكَّهُ فتطوَّعا
فلمَّا تنازعنا سقاطَ حديثِها ... غشاشاً فلانَ الطَّرفُ منها فأطمعا
علَى إثر هجرانٍ وساعةِ خلوةٍ ... من الناسِ نخشى غُيَّباً أنْ تطلَّعا

الباب السابع عشر
من عاتب علَى كلِّ ذنبٍ أخاه فخليقٌ أن يملَّه ويقلاه
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
إذا أنتَ لم تستقبلِ الأمرَ لم تجدْ ... بكفَّيكَ في إدبارهِ مُتعلَّقا
إذا أنتَ لم تترُكْ أخاكَ وزلَّةً ... إذا زلَّها أوشكتُما أن تفرَّقا
وقال العرجي:
إذا أنتَ لم تغفرْ ذنوباً كثيرةً ... تريبُكَ لم يسلمْ لكَ الدَّهرَ صاحبُ
ومنْ لا يُغمِّضْ عينهُ عن صديقهِ ... وعن بعضِ ما فيهِ يمُتْ وهو عاتبُ
وقال آخر:
أردْتُ لكيْ ما لا ترى ليَ زلَّةً ... ومن ذا الَّذي يُعطى الكمالَ فيكمُلُ
ومنْ يسألِ الأيَّامَ نأيَ صديقهِ ... وصرفَ اللَّيالي يُعطِ ما كانَ يسألُ
هؤلاءِ الذين ذكرنا أشعارهم يخبرون عن أنفسهم أنهم إنَّما يتركون معاتبة أحبابهم إشفاقاً من تغيُّرهم لهم وانحرافهم عنهم فإن كان ما تركوا المعاتبة عليه فعساه يرجع على أصحابهم فقد أساؤوا إذْ لم ينبِّهوهم على موضعه وآثروا منفعة أنفسهم على مصالح أحبَّتهم وإن لم يكن ذنباً ألا يتركوه فقد كان الأجمل بإخوانهم ألا يذكروه بل كان من حقِّ أحبابهم عليهم ألا يتوهَّموه فضلاً عن أن ينطقوا به لأوليائهم أوْ يجرونه على خواطر أعدائهم وسبيل مثل هذا أن يعترف به المحبوب مبتدئاً بذكره ومتنصِّلاً من فعله فلا يصغي المحبّ ليفهمه ولا يوهم صاحبه أنَّه خطر على وهمه.
ولقد أحسن غاية الإحسان الَّذي يقول:
ومُعتذرٍ فرطُ إشفاقهِ ... أضاقَ عليهِ الَّذي تمَّما
ولم يدرِ أنَّ سبيلَ الإخاءِ ... أعظمُ من كلِّ ما عظَّما
وبلغني أن الوضاح الكوفي كتب إلى علي بن محمد العلوي:
خُطَّةٌ في الذُّنوبِ والاعتذارِ ... ليسَ يُعنى بها سوى الأحرارِ
ضقتُ ذرعاً بها وقد كنتُ أشفيْ ... تُ علَى الهُلكِ من شفيرٍ هارِ
فتجالَلْتَ عن جزاءٍ بسوءٍ ... وترافعتَ عن طلابٍ بِثارِ
ثمَّ لم ترضَ لي بذلك حتَّى ... صُنتني عن مذلَّةِ الاعتذارِ
ثمَّ أوْجبتَ لي علَى غيرِ عقدٍ ... حُرمةَ المُستجيرِ بالمُستجارِ
لم نرَ العفوَ منكَ يقدحُ في عِرْ ... ضكَ لمَّا عفوتَ بعدَ اقتدارِ
فأجابه علي بن محمد:
ليسَ جودُ الرَّبيعِ راشفَ وجهَ الأ ... رضِ عن مبسمٍ منَ الأنوارِ
لا ولا العاشقانِ ضمَّهُما الشَّوْ ... قُ علَى غايةِ الضَّنى في إزارِ
فهما مُلصقانِ كالسَّاعد البَيْ ... ضاء عضَّضتها بضيقِ السِّوارِ
كأخٍ عهدهُ وعهديَ في الوُ ... دِّ كعهدِ الأنواءِ والأمطارِ
رقَّ معناهُما فلمْ يلبسا الأيَّ ... امَ إلاَّ علَى اقترابِ المزارِ
لجَّ في الاعتذارِ من شفقِ الوجْ ... دِ وأجلَلْتهُ عنِ الاعتذارِ
فأهل الصَّفاءِ هكذا يجب أن تجري أحوالهُم في تركه ما كان من حقوق أنفسهم والابتداء ببسط العذر لأحبَّتهم.

ولقد أحسن الَّذي يقول:
إذا شئتَ أن تُدعى كريماً مُكرَّماً ... حليماً ظريفاً ضاحكاً فطناً حُرَّا
إذا ما بدتْ من صاحبٍ لكَ زلَّةٌ ... فكنْ أنتَ مُحتالاً لِزلَّتهِ عُذرا
هذا فيما كان من الجنايات لا يعيد علَى المحبوب في نفسه ضرراً ولا يبيِّن على غير المحبّ أثراً وأمَّا ما كان معيداً على المحبوب عاراً فلا بدَّ من تنبُّهه عليه اضطراراً وفي هذا المعنى لمخيس بن أرطاة التميمي:
عرضتُ نصيحةً منِّي ليَحيى ... فردَّ نصيحتي والنُّصحُ مرُّ
وما بيَ أن أكونَ أعيبُ يحيى ... ويحيى طاهرُ الأخلاقِ برُّ
ولكن قد أتاني أنَّ يحيى ... يقالُ عليهِ في نفعاءَ شرُّ
فقلتُ له تجنَّبْ كلَّ شيءٍ ... يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ
ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو:
نصحْتُ لكمْ حذاراً أنْ تُعابوا ... فعادَ عليَّ نُصحكمُ وبالا
فإنْ تكُ قد مللتَ فلا تخُنِّي ... وقلْ لي أنْ أُجنِّبكَ الوِصالا
فمنْ يطلبْ لصاحبهِ اختلالاً ... لينقُضَ عهدهُ يُدركْ مقالا
ويمنعُني الوفاءُ لكمْ بعهدي ... وحسنُ الظَّنِّ أنْ أجدَ اختلالا
فتزدادونَ عندي كلَّ وقتٍ ... وأنقصُ عندكمْ حالاً فحالا
سأصبرُ إن أطقتُ الصَّبرَ حتَّى ... تملَّ الهجرَ أوْ تهوى الوِصالا
وقال بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتباً ... صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبُهْ
فعِشْ واحداً أو صلْ صديقكَ إنَّهُ ... مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبُهْ
إذا أنتَ لمْ تشربْ مِراراً علَى القذى ... ظمئتَ وأيُّ النَّاس تصفو مشاربُهْ
وقال العرجي:
ذهبَ النَّهارُ وما يبوحُ بما بهِ ... صبٌّ فقلْ إذاً العتابُ عتابُهُ
الله يعلمُ ما تركتُ عتابَهُ ... ألاَّ يكونَ معي لِذاكَ جوابهُ
لكنْ مخافةَ أنْ أُصاحبَ صاحباً ... والصَّرمُ تنمي بالمِرا أسبابهُ
وقال آخر:
ولا خيرَ فيمنْ لا يوطِّنُ نفسهُ ... علَى نائباتِ الدَّهرِ حينَ تنوبُ
وفي الشَّكِّ تفريطٌ وفي الحزمِ قوَّةٌ ... ويُخطئُ في الحدْسِ الفتَى ويُصيبُ
ولستَ بمُستبقٍ صديقاً ولا أخاً ... إذا لمْ تعدَّ الشَّيءَ وهو قريبُ
وقال الحسن بن هب:
دعوتكَ في الجُلَّى وقد ضاقَ مصدري ... عليَّ وروَّاني من السمِّ موردي
فأصمَمْتَ عنِّي منكَ أُذناً سميعةً ... وقد قصدَتْ لي النَّائباتُ بمرصَدِ
فما ضاقَ عنكَ العُذرُ عندي ولا نبا ... بعهدكَ نابٍ من مغيبٍ ومشهدِ
وقِلتُ زماناً قد نهى النَّاس كلَّهُمْ ... عن البِرِّ نهيَ الموعدِ المُتهدِّدِ
وأمَّلتُ أياماً تنوبُ ورجعةً ... من الدَّهر يأتينا بها الله في غَدِ
وقال عمر بن نجا:
منعْتَ عطاءنا ولويْتَ ديْني ... وأعددْتَ الخُصومةَ للخَصيمِ
فما لكَ إن لويتَ الدَّيْنَ عنِّي ... مُعاقبةٌ فيا لكَ من غريمِ
وقال مسلم بن الوليد:
إذا التقينا منعنا النَّومَ أعيُننا ... ولا نُلائمُ نوماً حينَ نفترِقُ
أُقرُّ بالذَّنبِ منِّي لستُ أعرفهُ ... كيْما أقولَ كما قالتْ فنتَّفقُ
وقال آخر:
أإنْ سُمتني ذلاًّ فعفْتُ احتمالَهُ ... غضبْتَ ومنْ يأتِ المذلَّةَ يُعذرِ
فها أنا مُسترْضيكَ لا من جنايةٍ ... عليكَ ولكن من تجنِّيك فاعذُرِ
ولبعض أهل هذا العصر:
زعمْتَ بنفسي أنتَ أنَّك مُغرمٌ ... بِذكري وأنِّي عن وصالكَ مُضربُ
أعدْ نظراً فيما ادَّعيتَ ولا تحِدْ ... لتعلمَ من منَّا الشَّقيُّ المُعذَّبُ
أمَنْ يتجنَّى ثمَّ يُنكرُ ما جنى ... علَى إلفهِ أمْ من يُقرُّ ويُعتبُ
ولو كنتَ تُجزى بالذي تستحقُّهُ ... غضبْتَ ولكنِّي منَ الهجرِ أهربُ
فأغضي علَى جمرِ الغضا خشيةَ القِلى ... ولولا الهوَى ما ضاقَ عنِّي مَهربُ
فحتَّامَ لا أنفكُّ شوقاً إلى الرِّضا ... أُصدِّقُ من صدقي لديهِ مُكذَّبُ
وما ليَ من ذنبٍ إليكَ تعدُّهُ ... عليَّ سوى أن ليسَ لي عنكَ مذهبُ

وما غرَضي في أنْ أُثبِّتَ حُجَّةً ... عليكَ وما لي غيرُ عفوكَ مطلبُ
إليكَ مفرِّي منكَ لا عن وسيلةٍ ... إليكَ سوى أنِّي بحُبِّكَ مُتعبُ
فإنْ تأتِ ما أهوى فعبدٌ نعَشْتهُ ... وإنْ تكنِ الأخرى فعبدُكَ مُذنبُ
فرأيكَ فيمنْ أنتَ مالكُ رقِّهِ ... فقدْ حلَّتِ البلوى وطابَ التَّجنُّبُ
وقال المؤمل:
شفَّ المُؤمِّلَ يومَ الحيرةِ النَّظرُ ... ليتَ المؤمِّلَ لم يُخلقْ لهُ بصرُ
حسبُ المُحبِّينَ في الدُّنيا عذابهمُ ... والله لا عذَّبتهُمْ بعدها سقَرُ
صفِ الأحبَّةَ ما لاقيتَ من سهرٍ ... إنَّ الأحبَّةَ لا يدرون ما السَّهرُ
لمَّا رمتْ مقتلي قالتْ لجارتِها ... إنِّي قتلتُ قتيلاً ما لهُ خطرُ
قتلتُ شاعرَ هذا الحيِّ من مُضرٍ ... الله يعلمُ ما ترضى بذا مُضرُ
وإنَّما أقصدَتْ قلبي بمُقلتها ... ما كانَ قوسٌ ولا سهمٌ ولا وترُ
أحببْتُ من حبِّها قوماً ذوي إحَنٍ ... بيني وبينهمُ النِّيرانُ تستعرُ
إنِّي لأصفحُ عنها حينَ تظلِمُني ... وكيفَ من نفسهِ الإنسانُ ينتصرُ
وقال آخر:
مسَّني من صدودِ إلفيَ ضُرُّ ... فبنات الفؤادِ ما تستقرُّ
مسَّني ضرُّهُ فأوجعَ قلبي ... غيرَ أنِّي بذاكَ منهُ أُسرُّ
وقال آخر:
أيا سُلمى دفعْتُ إليكِ نفسي ... برئْتُ إليكِ من نفسي بريتُ
وقالوا عذَّبتْكَ فقلتُ كلاَّ ... رضيتُ بمنْ يعذِّبُني رضيتُ
وقال أبو تمام حبيب:
أسرفْتَ في منعي وعادتُكَ الَّتي ... ملكَتْ عِنانكَ أنْ تجودَ فتُسرفا
لمْ آلُ فيكَ تلطُّفاً وتعسُّفاً ... وتألُّفاً وتحيُّفاً وتعطُّفا
وأراك تدفعُ حُرمتي فأظنُّني ... ثقَّلتُ غيرَ مُؤنِّبٍ فأخفِّقا
وقال أيضاً:
وجدْتُ صريحَ الحزمِ والرَّأيِ لامرئٍ ... إذا ملكتْهُ الشَّمسُ أنْ يتحوَّلا
فثقَّلْتُ بالتَّخفيفِ عنكَ وبعضهُمْ ... يُخفِّفُ في الحاجاتِ حتَّى يُثقِّلا
وقال عمر بن أبي ربيعة:
بالله قولي لهُ في غيرِ مَعتبةٍ ... ماذا أردتَ بطولِ المكْثِ باليمَنِ
إنْ كنتَ حاولتَ دُنيا أو قنعْتَ بها ... فما أصبْتَ بتركِ الحجِّ من ثمنِ
وقال الراعي:
وكمْ جشمنا إليكمْ سيرَ موديةٍ ... كأنَّ أعلامها في أُفقها القُزَعُ
حمَّاءُ غبراءُ يخشى المدَّلونَ بها ... ريعَ الهداةِ بأرضٍ أهلها شِيَعُ
فإنْ تجودوا فقدْ حاولْتُ جودكُمُ ... وإنْ تضِنُّوا فلا لومٌ ولا فزعُ
وهذه أحوال كلُّها لطيفة ومطالبات جميلة وأشنع منها لفظاً وأنقص من هذا معنًى.
قول البحتري:
لا تهْتَبلْ إغْضاءتي إذْ كنتُ قدْ ... أغضيْتُ مُشتملاً علَى جمرِ الغضا
أغببْتُ سَيْبكَ كيْ يجُمَّ وإنَّما ... غُمدَ الحسامُ المشرفيُّ ليُنتضى
وسكَتُّ إلاَّ أنْ أُعرضَ قائلاً ... قولاً وصرَّحَ جهدهُ من عرَّضا
وفي هذا النحو لبعض أهل هذا الزَّمان:
يا عالماً بالذي ألقى منَ الكُربِ ... إرْفق بعينكَ لا تُعطبْ فِداكَ أبي
لا تغتنمْ صفحَ مطويٍّ علَى كبدٍ ... حرَّى وقلبٍ بنارِ الشَّوقِ مُلتهبِ
لو كنتَ مثليَ لم تصبرْ علَى كمَدي ... أو كنتُ مثلكَ لم أفعلْ كفعلكَ بي
إن كانَ ذا الهجرُ تأديباً فحسبُكَ ما ... قدَّمتَ منهُ فقد بالغتَ في أدبي
وقد قال المتلمِّس ما يخرج قبحاً وجفاء عن هذا الباب ولا يصلح أن يجري في المخاطبة بين الأحباب وذلك قوله:
وما كنتَ إلاَّ مثلَ قاطعِ كفِّهِ ... بكفٍّ لهُ أخرى فأصبحَ أجذَما
يداهُ أصابتْ هذه حتْفَ هذه ... فلمْ تجدِ الأخرى عليها مُقدَّما
فأطرقَ إطراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مساغاً لنابيْهِ الشُّجاعُ لصمَّما
وذلك أنَّه يخبر أنَّ الجناية قد أثَّرت في قلبه وولَّدت حقداً في نفسه وأنَّ الَّذي يمنعه من أن ينتقم خوفه من تزايد الألم وأنَّه على أن يعاقب إذا أمنَ العواقب والمعاتبة بل المعاقبة أحسن من الإغضاء على مثل هذه الحال.
وفي نحو هذا المعنى يقول الوليد بن عبيد الطائي:

وإذا رجوْتُ ثنتْ رجايَ شكيَّةٌ ... من عاتبٍ في الحبِّ غيرِ مُعاتَبِ
لو كانَ ذنبي غيرَ حبِّكِ أنَّهُ ... ذنبي إليكِ لكنت أوَّلَ تائبِ
أفلا ترى أنَّه يخبر أنَّ الإغضاء على المعاتبة على الذَّنب مع مقام الضَّمير على العتب يقطع الرَّجاء ويؤيس من الوفاء.

الباب الثامن عشر
بُعد القلوب علَى قرب المزار
بُعد القلوب علَى قرب المزار أشدُّ من بعد الدِّيار من الدِّيار
الهجر على أربعة أضرب هجر ملالٍ وهجر دلالٍ وهجر مكافاةٍ على الذُّنوب وهجرٌ يوجبه البغض المتمكِّن في القلوب فأمَّا هجر الدَّلال فهو ألذُّ من كثير الوصال وأما هجر الملال فيطلبه من الأيَّام واللَّيالي إما بنأي الدَّار وإمَّا بطول الاهتجار.
وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
لا تجزعَنْ من هجرِ ذي ملَّةٍ ... أظهرَ بعدَ الوصلِ هِجرانا
يملُّ هذا مثلَ ما ملَّ ذا ... فيرجعُ الوصلُ كما كانا
وأما الهجر الَّذي يتولَّد عن الذَّنب فالتَّوبة تخرجه عن القلب وأما الهجر الَّذي يوجبه البغض الطَّبيعي فهو الَّذي لا دواء له وقد قال الجاحظ لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الموت الهجر وليس الأمر كما قال بل لكلِّ شيءٍ رفيقٌ ورفيق الهجر الموت.
ألم تسمع قول ذي الرمة:
سألتُ ذوي الأهواءِ والنَّاس كلَّهُمْ ... وكُلَّ فتًى دانٍ وآخرَ ينزِحُ
أتُقرحُ أكبادُ المحبِّينَ كالذي ... أرى كبدي من حبِّ ميَّةَ تُقرحُ
لئنْ كانتِ الدُّنيا عليَّ كما أرى ... تباريحَ من ميٍّ فلَلْموتُ أرْوحُ
وفي مثله يقول بعض أهل هذا العصر:
ما لي أُلفِّتُ وجهاً غيرَ مُلْتفتٍ ... نحوي وأعطفُ قلباً غيرَ مُنعطِفِ
يُغرى بهجري كما أُغرى بأُلْفتهِ ... هذا لَعمري ودادٌ جدُّ مُختلفُ
حجبتُ عيني عنِ الدُّنيا ونضرتِها ... شوقاً وأبرزتُها للحُزنِ والأسفِ
إلاَّ تكنْ تلفَتْ نفسي عليكَ فقدْ ... أصبحْتُ والله مشتاقاً إلى التَّلفِ
وفي نحو ذلك يقول قيس بن الملوح:
فوالله ثمَّ الله إنِّي لَدائبٌ ... أُفكِّرُ ما ذنبي إليها فأعجَبُ
ووالله ما أدري علامَ صرَمْتني ... وأيَّ أُموري فيكِ يا ليلُ أركبُ
أأقْطعُ حبلَ الوصلِ فالموتُ دونهُ ... أمَ اشربُ كأساً منكمُ ليس تُشربُ
أمَ اهْربُ حتَّى لا أرى لي مُجاوراً ... أمَ افْعلُ ماذا أمْ أبوحُ فأغلبُ
وإنَّهما يا ليلُ إنْ تفعلي بنا ... فآخرُ مهجورٌ وأوَّلُ مُعتبُ
وما قيل في هذا المعنى من الأشعار القديمة والمحدثة أكثر من أنْ يحيط به كتاب فضلاً عن أن يتضمَّنه بابٌ.
وقال خالد الكاتب:
أراني ذليلَ النَّفسِ مُذْ أنتَ عاتبٌ ... وأيَّةَ نفسٍ لا تذِلُّ علَى الهجرِ
يعاتبُ بعْضي فيكَ بعضاً وكلُّهُ ... إليكَ وحبُّ العفوِ يسمحُ بالعُذرِ
وقال بعض الأعراب:
خليليَّ هلْ يُستخْبَرُ الأثْلُ والغضا ... وميثُ الرُّبى من بطنِ نُعمانَ والسِّدْرُ
وهلْ يتقالى بعدَ ما كانَ صافياً ... خليلانِ بانا ليسَ بينهما وِترُ
نأتْ بهما دارُ النَّوى وتراقبا ... علَى الضِّغْنِ حتَّى لجَّ بينهما هجرُ
إذا رُمتَ إلاَّ ما عدا الدهرُ بيننا ... وبينكَ لم نُلْزمْكَ ما صنعَ الدَّهرُ
وقال ذو الرمة:
ألا لا أرى مثلي يحنُّ من الهوَى ... ولا مثلَ هذا الشَّوقِ لا يتصرَّمُ
ولا مثلَ ما ألقى إذا الحيُّ فارقوا ... علَى أثرِ الأظعانِ يلقاهُ مُسلمُ
كفَى حسرةً في النَّفسِ يا ميُّ أنَّني ... وإيَّاكِ في الأحياءِ لا نتكلَّمُ
أدورُ حواليكِ البيوتَ كأنَّني ... إذا جئتُ عنْ إتيانِ بيتكِ مُحرمُ
وقال أيضاً:
هوًى لكَ لا ينفكُّ يدعُو كما دعَا ... حَماماً بأجزاعِ العقيقِ حمامُ
إذا هملتْ عينِي لهُ قالَ صاحبِي ... بمثلكَ هذا فتنةٌ وغرامُ
علامَ وقدْ فارقتَ ميّاً وفارقتْ ... فمَيُّ علَى طولِ البكاءِ تُلامُ
أطاعتْ بكَ الواشينَ حتَّى كأنَّما ... كلامكَ إيَّاها عليكَ حرامُ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر قال: أنشدني أبو سعيد المخزومي:

ثِقي بجميلِ الصَّبرِ منِّي علَى الدَّهرِ ... ولا تثقِي بالصَّبرِ منِّي علَى الهجرِ
فإنِّي لصبَّارٌ علَى ما ينوبُني ... وحسبكِ أنَّ اللهَ أثنَى علَى الصَّبرِ
ولستُ بنظَّارٍ إلى جانبِ الغنَى ... إذا كانتِ العلياءُ في جانبِ الفقرِ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
عذيرِي منَ الأيَّامِ رنَّقنَ مشرَبي ... ولقَّيننِي نَحساً منَ الطَّيرِ أشأما
وألبسنَنِي سخطَ امرئٍ بتُّ موهناً ... أرَى سخطهُ ليلاً معَ اللَّيلِ مُظلِما
تبلَّجَ عن بعضِ الرِّضا وانطوَى علَى ... بقيَّةِ عتبٍ شارفتْ أنْ تصرَّما
إذا قلتُ يوماً قدْ تجاوزَ حدَّها ... تلبَّثَ في أعقابِها وتلوَّما
وأصْيدُ إنْ نازعتهُ الطَّرفَ ردَّهُ ... كليلاً وإنْ راجعتهُ القولَ أحجما
ثناهُ العدَى عنِّي فأصبحَ مُعرضاً ... ووهَّمهُ الواشونَ حتَّى توهَّما
ولوْ أنَّني وقَّرتُ شَيبي وقارهُ ... وأجللتُ شِعري فيكَ أنْ يُتهضَّما
لأكبرتُ أنْ أُومي إليكَ بإصبعٍ ... تضرَّعُ أوْ أُدنِي لمعذرةٍ فمَا
وكانَ الَّذي يأتي بهِ الدَّهرُ هيِّناً ... عليَّ ولوْ كانَ الحِمامُ المقدَّما
ولكنَّني أُعلي محلَّكَ أنْ أرَى ... مُدلاًّ وأستحييكَ أنْ أتعظَّما
ولمْ أدرِ ما الذَّنبُ الَّذي سُؤتَني بهِ ... فأقتلُ نفسِي حسرةً وتندُّما
وأنشدني أحمد بن يحيى عن أبي عبد الله بن الأعرابي:
ألا أبلغْ أخا قيسٍ رسولاً ... بأنِّي لمْ أخنكَ فلا تخنِّي
ولكنِّي طويتُ الكشحَ لمَّا ... رأيتكَ قدْ طويتَ الكشحَ عنِّي
فلستَ بمُدركٍ ما فاتَ منِّي ... بلهفَ ولا بليتَ ولا لَوَانِّي
ولستُ بآمنٍ أبداً خليلاً ... علَى شيءٍ إذا لمْ يأتَمنِّي
وصلتُكَ ثمَّ عادَ الوصلُ أنِّي ... قرعتُ ندامةً مِنْ ذاكَ سِنِّي
فإنْ أعطفْ عليكَ بفضلِ حلمٍ ... فما قلبي إليكَ بمطمئنِّ
وقال العباس بن الأحنف:
لو كنتِ عاتبةً لسكَّنَ عبرَتِي ... أملِي رضاكِ وزرتُ غيرَ مُراقبِ
لكنْ مللتِ فلمْ تكنْ لي حيلةٌ ... صدُّ الملولِ خلافُ صدِّ العاتبِ
وقال آخر:
ومُستوحشٍ لمْ يمشِ في أرضِ غُربةٍ ... ولكنَّهُ ممَّنْ يودُّ غريبْ
إذا رامَ كتمانَ الهوَى نمَّ دمعهُ ... فآهٍ لمحزونٍ جفاهُ طبيبُ
ألا أيُّها البيتُ الَّذي لا أزورهُ ... وهجرانُهُ منِّي إليكَ ذُنوبُ
هجرتكَ مشتاقاً وزرتكَ خائفاً ... ومنِّي علَيَّ الدَّهرَ فيكَ رقيبُ
سلامٌ علَى الدَّارِ الَّتي لا أزورُها ... وإنْ حلَّها شخصٌ إليَّ حبيبُ
وقال أبو نواس:
غصصتُ منكِ بما لا يدفعُ الماءُ ... وصحَّ هجركِ حتَّى ما بهِ داءُ
قدْ كانَ يُقنعكمْ إذْ كانَ رأيكمُ ... أن تهجُروني منَ التَّصريحِ إيماءُ
وما جهلتُ مكانَ الآمريكِ بذا ... منَ الوُشاةِ ولكنْ في فَمي ماءُ
ما زلتُ أسمعُ حتَّى صرتُ ذاكَ بمنْ ... قامتْ قيامتهُ والنَّاسُ أحياءُ
وقال أيضاً:
صليتُ مِنْ حبِّها نارَينِ واحدةً ... جوفَ الفؤادِ وأُخرى بينَ أحشائِي
وقدْ منعتُ لسانِي أن يبوحَ بهِ ... فما يعبِّرُ عنِّي غيرُ إيمائِي
يا ويحَ أهلِي أبلَى بينَ أعيُنهمْ ... علَى الفراشِ ولا يدرُونَ ما دائِي
لوْ كانَ زهدكِ في الدُّنيا كزهدكِ في ... وصلِي مشيتِ بلا شكٍّ علَى الماءِ
وبلغني عن سفيان بن عيينة أنَّه قال: بينا أنا بالكعبة إذ رأيتُ أبا السَّائب المخزومي متعلِّقاً بأستار الكعبة وهو يقول:
يا هجرُ كُفَّ عنِ الهوَى ودعِ الهوَى ... للعاشقينَ يطيبُ يا هجرُ
ماذا تريدُ منَ الَّذينَ جُفونُهمْ ... قرحَى وحشوُ صدورهمْ جمرُ
وسوابقُ العَبراتِ بينَ خدودهمْ ... دررٌ تفيضُ كأنَّها القطرُ
متحيِّرينَ منَ الهوَى ألوانهمْ ... ممَّا تكِنُّ صدورهمْ صفرُ
قال: فقلتُ يا أبا السَّائب في مثل هذا الموضع تُنشد مثل هذا؟ فقال: إليك عنِّي يا أبا محمد فوالله للدُّعاءُ لهم في مثل هذا الموضع أفضل من حجةٍ وعمرةٍ.
ولقد أحسن الفرزدق حيث يقول:

عزفتَ بأعشاشٍ وما كدتَ تعزفُ ... وأنكرتَ مِنْ حدراءَ ما كنتَ تعرفُ
ولجَّ بكَ الهجرانُ حتَّى كأنَّما ... ترَى الموتَ في البيتِ الَّذي كنتَ تألفُ
وقال:
لئنْ كانَ في الهجرانِ أجرٌ لقدْ مضَى ... ليَ الأجرُ في الهجرانِ مذْ سنتانِ
فواللهِ ما أدرِي أكلُّ ذوِي هوًى ... علَى ما بِنا أمْ نحنُ مُبتليانِ
وقال الحارث بن خالد المخزومي:
إنْ يمسِ حبلكِ بعدَ طولِ تواصلٍ ... خلِقاً وأصبحَ بيتكمْ مهجُورا
فلقدْ أرانِي والجديدُ إلى بلًى ... زمناً بوصلكِ راضياً مسرُورا
كنتِ الهوَى وأعزُّ مِنْ وطئِ الحصَى ... عندِي وكنتُ بذاكَ منكِ جديرا
وقال آخر:
وقالَ نساءٌ لسنَ لي بنواصحٍ ... ليعلمْنَ ما أُخفِي ويعلمْنَ ما أُبدي
أأحببتَ ليلَى جهدَ حبِّكَ كلِّهِ ... لعمرُ أبي ليلَى وزدتُ علَى الجهدِ
علَى ذاكَ ما يمحُو ليَ الذَّنبُ عندَها ... وتمحُو دواعِي حبِّها ذنبَها عندِي
ألا إنَّ قربَ الدَّارِ ليسَ بنافعٍ ... وقلبُ الَّذي تهواهُ منكَ علَى البعدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
لعمركَ ما قربُ الدِّيارِ بنافعٍ ... إذا لمْ يصلْ حبلَ الحبيبِ حبيبُ
وليسَ غريباً مَنْ تناءتْ ديارهُ ... ولكنَّ مَنْ يُجفى فذاكَ غريبُ
ومَنْ يغتربْ والإلفُ راعٍ لعهدهِ ... وإنْ جاوزَ السَّدَّينِ فهوَ قريبُ
وقال آخر:
لو كنتَ في بلدٍ ونحنُ بغيرهِ ... ما كانَ عندكَ في الجفاءِ مَزيدُ
قربُ المزارِ وأنتَ ناءٌ لا يُرى ... وإذا القريبُ جفاكَ فهوَ بعيدُ
وقال أبو تمام:
ونأى الهجرُ بالَّذي لا أُسمِّي ... فأنا منهُ في القريبِ البعيدِ
ففراقٌ أصابَني مِنْ فراقٍ ... وفِراقٌ أصابني مِنْ صدودِ
ليسَ مَنْ كانَ غائباً فقدَتْهُ ال ... عينُ غيباً كالشَّاهدِ المفقودِ
وقال البحتري:
يسوؤكَ ألاَّ عطفَ عند انعطافهِ ... ويشجيكَ ألاَّ عدلَ عندَ اعتدالهِ
فما حيلةُ المشتاقِ فيمنْ يشوقُهُ ... إذا حالَ هذا الهجرُ دونَ احتيالهِ
ولقد أحسن علي بن محمد العلوي في قوله:
هواكَ هوَ الدُّنيا ونيلكَ ملكُها ... وهجركَ مقرونٌ بكلِّ هوانِ
كذبتكَ ما قلتُ الَّذي أنتَ أهلهُ ... بلَى لمْ يجدْ ما فوقَ ذاكَ لسانِي

الباب التاسع عشر
ما عتبَ منِ اغتفرَ ولا أذنبَ منِ اعتذر
المعتذر لا ينفكُّ من إحدى حالين إمَّا أن يكون صادقاً أو كاذباً فإن كان صادقاً فعذره مقبول وإن كان كاذباً فإنه لم يتجشَّم مضاضة الكذب في نفسه إلاَّ لنفاسة صاحبه في صدره ومن كان بهذه الحال قُبل عذره بل وجب شكره.
وقد قال البحتري:
إقبلْ معاذيرَ مَنْ يأتيكَ معتذراً ... إنْ برَّ عندكَ فيما قالَ أو فجَرَا
فقدْ أطاعكَ مَنْ يُرضيكَ ظاهرهُ ... وقدْ أجلَّكَ مَنْ يعصيكَ مُستترا
ولبعض أهل هذا العصر:
أنتَ ابتدأتَ بميعادِي فأوفِ بهِ ... ولا تربَّصْ بهِ صرفَ المقاديرِ
ولا تكِلْني إلى عذرٍ تُزخرفهُ ... فالذَّنبُ أحسنُ مِنْ بعضِ المعاذيرِ
وله أيضاً:
إلى اللهِ أشكُو مَنْ بدانِي بوصلهِ ... فلمَّا حوَى قلبِي براهُ ببخلهِ
سآجرُ نفسِي عنْ تقاضيهِ راضياً ... إلى أنْ أراهُ ساخطاً بعدَ فعلهِ
وآخذُ منهُ العفوَ ما دامَ باخلاً ... وأنَّهَى لسانِي أنْ يعودَ لعذلهِ
فربَّ اعتذارٍ قدْ تمنَّيتُ أنَّني ... خرستُ وأنِّي لمْ أُخاطبْ بمثلهِ
وقال آخر:
مْ أجنِ ذنباً فإنْ زعمتَ بأنْ ... أتيتُ ذنباً فغيرُ مُعتمدِ
قدْ تطرفُ الكفُّ عينَ صاحبِها ... فلا يرَى قطعَها منَ الرَّشَدِ
وقال آخر:
ما أحسنَ العفوَ منَ القادرِ ... لا سيَّما عنْ غيرِ ذي ناصرِ
إنْ كانَ لي ذنبٌ ولا ذنبَ لي ... فما لهُ غيركَ مِنْ غافرِ
أعوذُ بالودِّ الَّذي بينَنا ... أنْ تُفسدَ الأوَّلَ بالآخرِ
وقال آخر:
هبْنِي أسأتُ وقدْ أتيْ ... تُ بمثلِ ذنبِ أبي لهبْ
فأنا أتوبُ ومَا أسأ ... تُ وكمْ أسأتَ فلمْ تتبْ
وقال آخر:

هَبينِي يا معذِّبتِي أسأتُ ... وبالهجرانِ قبلكمُ بدأتُ
فأينَ الفضلُ منكِ فدتكِ نفسي ... عليَّ إذا أسأتِ كمَا أسأتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
لجُرمِي عقابٌ والتَّجاوزُ ممكنٌ ... وأولاهُما إسعافُ مَنْ صحَّ صدقهُ
فإنْ لمْ تجاوزْ حسبَ ما تستحقُّهُ ... فلا تتجاوزْ حسبَ ما أستحقُّهُ
وله أيضاً:
العذرُ يلحقهُ التَّحريفُ والكذبُ ... وليسَ في غيرِ ما يُرضيكَ لي أربُ
وقدْ أسأتُ فبالنُّعمى الَّتي سلفتْ ... لما مننتَ بعفوٍ ما لهُ سببُ
وقال آخر:
لا والَّذي إنْ كذبتُ اليومَ عذَّبني ... وإنْ صدقتكمُ فاللهُ نجَّانِي
ما قرَّتِ العينُ بالأبدالِ بعدكمُ ... ولا مجدتُ لذيذَ العيشِ يغشانِي
إنِّي وجدتُ بكمْ ما لمْ يجدْ أحدٌ ... جنٌّ بجنٍّ ولا إنسٌ بإنسانِ
وقال البحتري:
أأنسَى مَنْ يُذكِّرُ فيهِ ألاَّ ... شبيهَ لهُ يعدُّ ولا ضريبُ
وقدْ أكدَى الصَّوابُ عليَّ حتَّى ... وددتُ بأنَّ شانيَّ المُصيبُ
فإنْ لا تحسبِ الحسناتِ منها ... لصاحبها فلا تُحصَى الذُّنوبُ
أتوبُ منَ الإساءةِ إنْ ألمَّتْ ... وأعرفُ مَنْ يُسيءُ ولا يتوبُ
وقال أيضاً:
اللهُ يعلمُ والدُّنيا مُنغَّصةٌ ... والعيشُ مُنتقلٌ والدُّهر ذُو دولِ
لأنتَ عندِي وإنْ ساءتْ ظنونكَ بِي ... أحظَى منَ الأمنِ عندَ الخائفِ الوجلِ
ولعبيد بن طاهر:
إغتفرْ زلَّتي لتُحرزَ فضلَ الشُّك ... رِ منِّي ولا يفوتكَ أجرِي
لا تكِلْني إلى التَّوسُّلِ بالعذْ ... رِ لعلِّي ألاَّ أقومَ بعذرِي
وقال آخر:
فإنْ لا أكنْ للفضلِ أهلاً فإنَّكمْ ... بفضلكمُ للعفوِ عنْ مذنبٍ أهلُ
ففضلكَ أرجُو لا البراءةَ إنَّه ... أبى اللهُ إلاَّ أن يكونَ لكَ الفضلُ
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
رفعَ اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّه ... رِ وحاشاكَ أن تكونَ عليلا
أُشهدُ اللهَ ما علمتُ وما ذا ... كَ من العذرِ جائزاً مقبُولا
فاجعلَنْ لي إلى التَّوسُّلِ بالعذْ ... رِ سبيلاً إذْ لم أجدْ لِي سبيلا
فقديماً ما جادَ ذو الفضلِ بالصَّفحِ ... وما سامحَ الخليلُ الخليلا
وقال الحسين الخليع:
بنفسِي حبيبٌ لا يملُّ التَّعتُّبا ... إذا زدتهُ في العذرِ زادَ تعصُّبا
يُطيلُ ضِرارِي بامتحانِ صبابتِي ... وقدْ علمَ المكنونَ منها المغيَّبا
فلستُ أُناجِي غيرهُ مذْ عرفتهُ ... فأنظُرَ إلاَّ خائفاً مُترقِّبا
أيا مَنْ تجنَّى الذَّنبَ أعلمُ أنَّه ... علَى ثقةٍ أنْ لستُ بالغيبِ مُذنبا
أمَا لخضُوعِي مِنْ ضميركَ شافعٌ ... منَ السُّقمِ قدْ يشفي المُلحَّ المعذَّبا
أمَّا اعتذاره بأنَّه لا يُناجي غير صاحبه إلاَّ خائفاً مترقِّباً فقبيحٌ جدّاً ولعمري إنَّ الإصرار على الغدر أصلح من التَّنصُّل بهذا العذر إذ من لم يكن عليه رقيب من نفسه يصونها عن مكاره إلفه فلا درك في مودَّته.
وقد قال بعض أهل هذا العصر في هذا النحو:
كأنَّ رقيباً منكَ يرعَى خواطرِي ... وآخرَ يرعَى ناظرِي ولسانِي
فما عاينتْ عينايَ بعدكَ منظراً ... يسوؤكَ إلاَّ قلتُ قدْ رمَقانِي
ولا بدرتْ في فِيَّ بعدكَ مزحةٌ ... لغيركَ إلاَّ قلتُ قدْ سمِعانِي
ولا خطرتْ مِنْ ذكرِ غيركَ خطرةٌ ... علَى القلبِ إلاَّ عرَّجا بعنانِ
إذا ما تسلَّى الغايرونَ عنِ الهوَى ... بشربِ مدامٍ أوْ سماعِ قيامِ
وجدتُ الَّذي يُسلِي سوايَ يشوقُني ... إلى قربكمْ حتَّى أملَّ مكانِي
وفتيانِ صدقٍ قدْ سئمتُ لقاءهمْ ... وعفَّفتُ طرفِي عنهمُ ولسانِي
وما الزُّهدُ أسلَى عنهمُ غيرَ أنَّني ... أراكَ علَى كلِّ الجهاتِ تراني
وأتم من هذا قول مسلم بن الوليد:
رحلتُ مُذْ يومِ نادَوا بالرَّحيلِ علَى ... آثارهمْ ثمَّ لمْ أنظرْ إلى أحدِ
أغضتْ عنِ الخلقِ عيني ما ترَى حسَناً ... في النَّاسِ حتَّى تراهمْ آخرَ الأبدِ
وقال آخر:
لأيُّ شيءٍ صددتَ عنِّي ... يا بائناً بالعَزَاءِ منِّي

أكانَ منِّي فعالُ سوءٍ ... يحسنُ في مثلهِ التَّجنِّي
إنَّ شفيعِي إليكَ منِّي ... دموعُ عَيني وحسنُ ظنِّي
فبالَّذي ساقَني ذليلاً ... إليكَ ألا عفوتَ عنِّي
وقال آخر:
كلُّ يومٍ يقولُ لي لكَ ذنبٌ ... يتجنَّى ولا يرَى ذاكَ منِّي
فأنا الدَّهرَ في اعتذارٍ إليهِ ... فإذا ما رضِي فليسَ يُهنِّي
ربَّما جئتهُ أُسلِّفهُ العذ ... رَ لبعضِ الذُّنوبِ خوفَ التَّجنِّي
وقال علي بن الجهم:
عفا اللهُ عنكَ ما حرمةٌ ... أعوذُ بعفوكَ أنْ أُبعدا
ألمْ ترَ عبداً عدَا طورهُ ... ومولًى عفا ورشيداً هدَى
ومفسدَ أمرٍ تلافيتَهُ ... فعادَ فأصلحَ ما أفسدَا
أقِلْني أقالكَ مَنْ لمْ يزلْ ... يَقيكَ ويصرفُ عنكَ الرَّدى
لئنْ جلَّ ذنبٌ ولمْ أعتمدْهُ ... لأنتَ أجلُّ وأعلَى يدَا
وقال البحتري:
يُخوِّفني مِنْ سوءِ رأيكَ معشرٌ ... ولا خوفَ إلاَّ أنْ تجورَ وتظلما
أُعيذكَ أنْ أخشاكَ مِنْ غيرِ حادثٍ ... أتيتُ ولا جرمٌ إليكَ تقدَّما
أُقرُّ بما لمْ أجنِهِ متنصِّلاً ... إليكَ علَى أنِّي إخالُكَ ألوَما
وقال أيضاً:
وعتابِ خلٍّ قدْ سمعتُ فلم أكنْ ... جلدَ الضَّميرِ علَى استماعِ مُمِضِّهِ
طافَ الوشاةُ بهِ فأحدثَ ظلمةً ... في جوِّهِ ووعورةً في أرضهِ
غضبانُ حمِّلَ إحْنَةً لوْ حُمِّلتْ ... ثبَجَ الصَّباحِ لثُقِّلتْ مِنْ نهضهِ
مهلاً فداكَ أخوكَ قدْ ألهيتهُ ... عنْ لهوهِ وشغلتهُ عن غُمضهِ
خزْيانُ أكبرَ أنْ تظنَّ جنايةً ... في بسطهِ لصديقهِ أوْ قبضهِ
ماذا توهَّمُ أن يقولَ وقولهُ ... في نفسهِ ولسانهُ في عِرضهِ
أنَبوتُ عنكَ بزعمهمْ ومتى نَبَا ... في حالةٍ بعضُ امرئٍ عن بعضهِ
وقال بعض أهل هذا العصر:
أخوكَ الَّذي أمسَى بذكركَ مُغرما ... يتوبُ إليكَ اليومَ ممَّا تقدَّما
فإنْ لم تصلهُ رغبةً في وصالهِ ... ولمْ تكُ مشتاقاً فصِلْهُ تكرُّما
فقدْ والَّذي عافاكَ ممَّا ابتلَى بهِ ... تندَّمَ لوْ أرضاكَ أنْ يتندَّما
وباللهِ ما كانَ الصُّدودُ الَّذي مضَى ... ملالاً ولا كانَ الجفاءُ تبرُّما
فلا تحرِبَنْ بالغدرِ مَنْ صدَّ مُكرهاً ... وأظهرَ إعراضاً وأبدَى تجهُّما
فلمْ يُلههِ عنكَ السُّلوُّ وإنَّما ... تأخَّرَ لمَّا لم يجدْ مُتقدَّما
وقال آخر:
كُحلتْ مقلَتِي بشوكِ القَتادِ ... لم أذُقْ مذْ حُممتَ طعمَ الرُّقادِ
يا أخِي الباذلُ المودَّةَ والنَّا ... زلُ مِنْ مقلتِي مكانَ السَّوادِ
مَنَعَتْني عليكَ رقَّةُ قلبِي ... مِنْ دُخولي عليكَ في العوَّادِ
لو بأُذني سمعتُ منكَ أنيناً ... لتَفَقَّا معَ الأنينِ فؤادِي
وقال علي بن الجهم:
إنَّ دونَ السُّؤالِ والاعتذارِ ... خطَّةٌ صعبةً علَى الأحرارِ
ليسَ جهلاً بها تورَّدها الح ... رُّ ولكنْ سوابقُ الأقدارِ
إرضَ للسَّائلِ الخضوعِ وللقا ... رفِ ذنباً مضاضةَ الاعتذارِ
وقال آخر:
هاجرتْنِي ثمَّ لا كلَّمتْني أبداً ... إنْ كنتُ خنتكِ في حالٍ منَ الحالِ
أوِ انتجيتُ نجِيّاً في خيانتكمْ ... وخفتُ خطرَتَها منِّي علَى بالِ
فسوِّغيني المُنى كيما أعيشَ بها ... ثمَّ اطلقِي البخلَ ما أطلقتِ آمالي
ولبعض أهل هذا العصر:
أتوبُ إليكَ مِنْ نقضِ العهودِ ... لتؤمنَ مقلَتِي منَ السُّهودِ
أسأتُ فلا تُعنَّى بالدَّعاوى ... فها أنذا أُقرُّ بلا شهودِ
وقدْ كانَ الجحودُ عليَّ سهلاً ... ولكنِّي أنِفتُ منَ الجحودِ
فقلْ لِي لا عدمتكَ مِنْ مسيءٍ ... بما استحللتَ نقضَ عُرى العهودِ
ألا يا نفسُ قد أخطأتِ فيما ... أتيتِ فإنْ نجوتِ فلا تعُودِي
فكمْ جانٍ تجافَى غيرَ جهلٍ ... فعادَ فلمْ يذقْ طعمَ الهجودِ
وقال منصور النمري:
لعلَّ لهُ عذراً وأنتَ تلومُ ... وكمْ لائمٍ قد لامَ وهو مُليمُ
أخٌ لكَ مشتاقٌ تذكَّرَ خلَّةً ... لها عندهُ ودٌّ فباتَ يهيمُ

سلامٌ علَى أمِّ الوليدِ وذكرِها ... وعهدٍ لها لمْ يُنسَ وهوَ قديمُ

الباب العشرون
إذا ظهرَ الغدرُ سهُل الهجرُ
العلة في سهولة الهجر عند ظهور الغدر ضربٌ من المكروه وكلُّ مكروهٍ فبعد النَّفس عنه خيرٌ لها من القرب منه وعلى أنَّ نفس المحبِّ إذا استيقنت بالغدر لم ترضَ بمقاومة الهجر لأنَّ في الهجر ضربٌ من التَّأديب وضربٌ من الانتقام والنَّفس المرَّة لا تعبأ بمن غدر بها ولا تستصلحه بمعاتبةٍ ولا ترصده بمعاقبةٍ بل تخلِّي فكرها عن ذكره وتصون خواطرها عن الخوض في أمره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
يا قلبُ قدْ خانَ مَنْ كلفتَ بهِ ... فخلِّ عنكَ البكاءَ في أثرهْ
شغلكَ بالفكرِ في تغيُّرهِ ... أعظمُ ممَّا لقيتَ مِنْ غِيَرهْ
فارحلْ فمن لا يحلُّ موردهُ ... يُفضِ بهِ صفوهُ إلى كدرهْ
وارجعْ إلى اللهِ في الأُمورِ فلنْ ... تقدرَ أن تستجيرَ مِنْ قدرهْ
ومن النَّاس مَن تضعف قواه عن هذه الحال فلا يسأل عمَّا يصير إليهِ من النَّكال وكلُّ ذلك على حسب التَّوفيق والخذلان نسأل الله خير عواقب الأمور ونستكفيه كلَّ مهمٍّ ومحذور.
وقال امرؤ القيس بن حجر:
إذا قلتُ هذا صاحبٌ قد رضيتهُ ... وقرَّتْ بهِ العينانِ بدَّلتُ أخرا
وذلك أنِّي لمْ أثقْ بمصاحبٍ ... منَ النَّاسِ إلاَّ خانَني وتغيَّرا
وقال الأحوص:
أقولُ لمَّا التقينا وهيَ صادفةٌ ... عنِّي ليُهنكِ مَنْ تُدنينهُ دُونِي
إنِّي سأمنحكِ الهجرانَ مُعتزماً ... مِنْ غيرِ بغضٍ لعلَّ الهجرَ يُسلينِي
ومُثنياً رجعَ أيَّامٍ لنا سلفتْ ... سقياً ورعياً لذاكَ الدِّينِ مِنْ دينِ
وبلغني أن نصيباً أتى إلى صاحبته فدفع الباب ليدخل إليها فرأى عندها فتًى تحدِّثه فقالت له: ادخل يا أبا محجنٍ فأنشأ يقول:
أراكِ طَموحَ العينِ مذَّاقةَ الهوَى ... لكلِّ خليلٍ منكِ وصلٌ مُطرَّفُ
متى تجمَعِي رِدفينِ لا أكُ منهما ... فهُبِّي بفردٍ لستُ ممَّنْ يُردَّفُ
ثمَّ ترك الباب ولن يسدَّه وانصرف.
وقال أبو نواس:
ومُظهرةٍ لخلقِ اللهِ عشقاً ... وتُلقَى بالمحبَّةِ والسَّلامِ
أتيتُ فؤادَها أشكُو إليهِ ... فلم أخلصْ إليهِ منَ الزِّحامِ
فيا مَنْ ليسَ يُقنعهُ خليلٌ ... ولا ألفا خليلٍ كلَّ عامِ
أراكِ بقيَّةً مِنْ قومِ موسى ... فهمْ لا يصبرونَ علَى طعامِ
وقال العباس بن الأحنف:
كتبتْ نلومُ وتستريبُ زيارَتِي ... وتقولُ لستَ لنا كعهدِ العاهدِ
فأجبتُها ومدامعِي منهلَّةٌ ... تجرِي علَى الخدَّينِ غيرَ جوامدِ
يا عتبُ لمْ أهجركمُ لملالةٍ ... حدثتْ ولا لمقالِ واشٍ حاسدِ
لكنَّني جرَّبتكمُ فوجدتكمُ ... لا تصبرونَ علَى طعامٍ واحدِ
وقال القعقاع الأسدي:
أصارمةٌ أمْ لا حِبَالكَ زينبُ ... وما بينَ صرمِ الحبلِ والوصلِ مذهبُ
بلَى إنَّ أرْماقاً ضعافاً هي الَّتي ... يُغرُّ بها النِّكسُ الدَّنيءُ ويُكذبُ
وما أنا بالنِّكسِ الدَّنيءِ ولا أُرى ... إذا رامَ صرمِي ذو المودَّةِ أغضبُ
ولكنَّهُ ما دامَ دمتُ وإنْ يكنْ ... لهُ مذهبٌ عنِّي يكنْ لِي مذهبُ
سواهُ وخيرُ الودِّ ودٌّ تطوَّعتْ ... بهِ النَّفسُ لا ودٌّ أتَى وهوَ متعبُ
وقال بعض الأعراب:
أبِينِي أفي يُمنى يديكِ جعلتِنِي ... فأفرحُ أمْ صيَّرتِني في شمالكِ
فإنْ كنتُ في اليُمنى فيا ليتَ عيشَتي ... وإنْ كنتُ في اليسرى فضلَّ ضلالكِ
إذا لمْ تنالينَا وربِّ محمَّدٍ ... ولمْ ترفَعِي رأساً بنا لمْ نُبالكِ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
أنا لا أبدَا بغدرٍ أبداً ... فإذا ما غدرتْ لمْ أتَّركْ
أتَراني أقعدُ اللَّيلَ لها ... ساهراً أطلبُ وصلاً قد هلكْ
وهيَ فيما تشتَهي لاهيةٌ ... متُّ إنْ دارَ بهذينِ الفلكْ
وقال آخر:
ومِنْ شيَمي أنِّي إذا المرءُ ملَّني ... وأظهرَ إعراضاً ومالَ إلى الهجرِ
أطلتُ لهُ فيما يحبُّ عنانهُ ... وتاركتهُ في حسنِ يسرٍ وفي سترِ

فإنْ عادَ في وصلِي رجعتُ لوصلهِ ... وإن لم يردْ أهملتُ ذاكَ إلى الحشرِ
وقال بعض أهل هذا العصر:
تخيَّرْ منَ الإخوانِ مَنْ شئتَ واتَّخذْ ... خليلاً فإني ما أُريدُ خليلا
أتوبُ إليكَ اليومَ مِنْ كلِّ توبةٍ ... فقدْ هُنتَ في عَيني وكنتَ جليلا
إذا لمْ يجدْ إلفي عنِ الغدرِ مذهباً ... وجدتُ إلى حسنِ العزاءِ سبيلا
فواللهِ لا أرضيتُ داعيةَ الهوَى ... إليكَ ولا أغضبتُ فيكَ عذولا
وقال محمد بن عبد الملك الزيات:
رأيتكَ سمحَ البيعِ سهلاً وإنَّما ... يُغالي إذا ما ضنَّ بالشَّيءِ بائعهْ
فأمَّا الَّذي هانتْ بضائعُ بيعهِ ... فيوشكُ أنْ تُبقي عليهِ بضائعهْ
هو الماءُ إنْ أجمعتَ طابَ ورودهُ ... ويفسدُ منهُ ما تُباحُ شرائعهْ
وقال آخر:
أمِيطِي الهوَى عمَّن قلاكِ وعرِّضي ... لغيري بهِ واسترزِقِي اللهَ في سترِ
فلوْ كنتِ لِي كفّاً إذنْ لقطعتُها ... ولو كنتِ لي أُذناً رميتكِ بالوقرِ
ولو كنتِ لي عيناً إذاً لفقأْتُها ... ولو كنتِ لي قلباً نزعتُكِ مِنْ صدرِي
وإنِّي وإنْ حنَّتْ إليكِ ضمائرِي ... فما قدرُ حبِّي إنْ أُذلَّ لهُ قدرِي
وقال عبد قيس بن خفاف البرجمي:
دارَ الهوَى ولمنْ رآها دارهُ ... أفَراحلٌ عنها كمنْ لم يرحلِ
فصِلِ المواصلَ ما صفا لكَ ودُّهُ ... واصرمْ حبالَ الخائنِ المتبدِّلِ
واحذرْ محلَّ السُّوءِ لا تحلُلْ بهِ ... وإذا نبَا بكَ منزلٌ فتحوَّلِ
وقال بعض الأعراب:
وإنِّي لأستحيي منَ اللهِ أنْ أُرَى ... رديفاً لوصلٍ أوْ عليَّ رديفُ
وأن أردَ الماءَ الموَطَّأَ طينهُ ... وأتبعَ ودّاً منكِ وهو ضعيفُ
وقال البحتري لنفسه:
تركتكَ للقومِ الَّذينَ تركْتَني ... لهم وسَلا الإلفُ المشوقُ عنِ الإلفِ
وقالَ ليَ الأعداءُ ما أنتَ صانعٌ ... وليسَ يرانِي اللهُ أنحتُ مِنْ جرفِ
ولمَّا رأيتُ القربَ يدوِي اتِّصالهُ ... بعدتُ لعلَّ البعدَ مِنْ ظالمي يشفِي
وإنِّي لأستبقي ودادكَ للَّتي ... تلمُّ وأرضَى منكَ دونَ الَّذي يكفي
وأسألكَ النَّصفَ احتجازاً وربَّما ... أبيتُ فلم أسمحْ لغيركَ بالنَّصفِ
وإنِّي لمحسودٌ عليكَ مُنافسٌ ... وإنْ كنتُ أستبطِي كثيراً وأستجفِي
وأنشدني بعض أهل الأدب:
أنقذَني سوءُ ما صنعتَ منَ الرِّ ... قِّ فيا بردَها علَى كبدِي
فصرتُ عبداً للسُّوءِ فيكَ وما ... أحسنَ سوءٌ قبلِي إلى أحدِ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
ألم ترَ أنَّ المرءَ تذوِي يمينهُ ... فيقطعَها عمداً ليسلمَ سائرهْ
فكيفَ تراهُ بعدَ يُمناهُ صانعاً ... بمنْ ليسَ منهُ حينَ تبدُو سرائرهْ
وقال أبو القمقام الأسدي:
ولمَّا بدا لِي منكِ ميلٌ معَ العدَى ... عليَّ ولمْ يحدثْ سواكِ بديلُ
صددتُ كما صدَّ الرَّمِيُّ تطاولتْ ... بهِ مدَّةُ الآجالِ فهوَ قتيلُ
وقال آخر:
وعزَّيتُ نفساً عن هواكِ كريمةً ... علَى ما بها مِنْ لوعةٍ وغليلِ
بكتْ ما بكتْ مِنْ شجوِها ثمَّ أعقبتْ ... بعرفانِ هجرٍ من نُوار طويلِ
فأصبحتُ مِنْ ميعادِها مثلَ قابضٍ ... علَى الماءِ لم يرجعْ يداً بقليلِ
وقال بعض الأعراب:
فإنْ تشبَعِي منَّا وتروَى ملالةً ... فنحنُ وبيتِ اللهِ أروَى وأشبعُ
وإنْ تجدِي ما خلفَ ظهركِ واسعاً ... فما خلفَنا مِنْ سائرِ الأرضِ أوسعُ
وإنْ تنقضِي العهدَ الَّذي كانَ بينَنا ... فنحنُ لمَا ضيَّعتِ أنسَى وأضيعُ
وقال المتلمس:
قليتُكِ فاقْلِيني فلا وصلَ بينَنا ... كذلكَ مَنْ يستغنِ يستغنِ صاحبهْ
خليلٌ بدَا لي النُّصحُ منهُ فلم أكنْ ... لأصرِمَهُ ما سوَّغَ الماءَ شاربهْ
عصَانِي فما لاقَى الرَّشادَ وإنَّما ... تبيَّنُ عنْ أمرِ الغويِّ عواقبهْ
وقال الحسين بن الضحاك:
ألا في سبيلِ اللهِ ودٌّ بذلتهُ ... لمنْ خانَني ودِّي ولمْ يرعَ لي عهدَا

أباحَ حمَى الميثاقِ واللهُ بينَنا ... فلمْ يُبقِ للميثاقِ قبلاً ولا بعدا
فليتكَ لا تُجزَى بما أنتَ أهلهُ ... وإن كنتَ قدْ أشرَقْتني بدمي حِقدا
عدمتكَ مِنْ قلبٌ أقامَ لغادرٍ ... علَى العهدِ حتَّى كادَ يقتلُني وجْدا
وقال أيضاً:
تعزَّوْا بيأسٍ عنْ هوايَ فإنَّني ... إذا انصرفتْ نفسِي فهيهاتَ مِنْ ردِّي
أبَى القلبُ إلاَّ نبوةً عن جميعكمْ ... كنبوتكمْ عنِّي ففي السُّحقِ والبُعدِ
إذا خنتُكمْ بالغيبِ عهدِي فما لكمْ ... تدلُّونَ إدلالَ المقيمِ علَى العهدِ
فكمْ مِنْ قتيلٍ كانَ لي قبلُ فيكمْ ... فها أنذا فيكمْ نذيرٌ لمنْ بعدِي
فوا أسفاً مِنْ صبوةٍ ضاعَ شكرُها ... مضتْ سلفاً في غير أجرٍ ولا حمدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
قصرتُ عليكَ النَّفسَ حتَّى توهَّمتْ ... بلِ استيقنتْ أنْ ليسَ غيركَ مطلبا
فرامتْ بديلاً منكَ لمَّا جفوتَها ... فحارتْ كأنْ لم يخلقِ اللهُ منجِبا
فإنْ تتفكَّرْ في انصِرافي خائباً ... وغدركَ تعلمْ أيُّنا عادَ أخيِبا
كسبتَ ملاماً واكتسبتُ بصيرةً ... بأمركَ فانظرْ أيُّنا عادَ مُكسبا
سأشكرُ ذنبَ الدَّهرِ فيكَ ولم أكنْ ... علَى غِيَرِ الأيَّامِ أشكرُ مُذنبا
وله أيضاً:
ما زلتُ أكذبُ فيكَ إرجافَ العدَى ... والغدرُ في عطفيكَ ليسَ بخافِ
حتَّى حسرتَ لناظرِي عنْ سوءةٍ ... أغنتْ أعاديكمْ عنِ الإرجافِ
فظللتُ حين خبرتُكمْ مُتعرِّضاً ... عنكمْ بأوسطِ سورةِ الأعرافِ
فامضوا عليكمْ لعنةُ اللهِ ارتَعوا ... في صحبةِ الأوغادِ والأجلافِ
أمَّا سلوُّ المحبّ عمَّن غدر به فغير معيب عليه إذ ليس ذلك مفوَّضاً إليه وإنَّما يوجبه نفور النَّفس عمَّن خالف شكلها كما توجب المحبَّة سكون النَّفس إلى شيء شاكل طبيعتها وأمَّا تشنيعه بالغدر على محبوبه فإنَّ ذلك لعمري قبيحٌ وما على من سلا عن إلفه أن يضمر ذلك في نفسه ولا يقصُّ على غيره ما ظهر له من سوء فعله فإن ظهر منه على ترك المواصلة عارض في ذلك بضربٍ من المجاملة.
كما فعل الَّذي يقول:
وقائلٍ كيفَ تهاجرْتُما ... فقلتُ قولاً فيهِ إنصافُ
لمْ يكُ مِنْ شكلِي فناكرتُهُ ... والنَّاسُ أشكالٌ وأُلاّفُ
وكما قال الآخر:
أرى عرَضَ الدُّنيا وكلُّ مصيبةٍ ... تهونُ إذا عنكِ الحوادثُ زلَّتِ
فإنْ سألَ الواشونَ كيفَ هجرْتَها ... فقلْ نفسُ حرٍّ سُلِّيتْ فتسلَّتِ

الباب الحادي والعشرون
مَنْ راعهُ الفراقُ ملكهُ الاشتياقُ
التَّرويع بالفراق هو السَّهم الَّذي لا يعدل عن مقاتل العشَّاق من رمى به من المحبوبين أصاب ومن دُعي به من المحبِّين أجاب وربَّما ولعت نفوس العشَّاق محاذرة وقوع الفراق عن غير سبب يوجبه إظهار الإشفاق وتلك حالٌ لا يتهيَّأ معها وصالٌ.
وفي نحو ذلك يقول الحسين بن الضحاك:
أباحَنِي قربهُ ووسَّدنِي ... يُمنى يديهِ وباتَ مُلتَزِمِي
فقلتُ لمَّا استخفَّنِي فرَحي ... أشوبُ عينَ اليقينِ بالتُّهمِ
أصبحَ مُستثبتاً نظرِي ... إخالُني نائماً ولمْ أنمِ
وللبحتري في مثله:
حبيبٌ سرَى في خيفةٍ وعلَى ذُعرِ ... يجوبُ الدُّجى حتَّى التقينا علَى قدرِ
وشككتُ فيهِ مِنْ سرورٍ خلتُهُ ... خيالاً أتى في النَّومِ مِنْ طيفهِ يسرِي
وعلى أنَّ من العشَّاق من يتحاقر روعات الفراق وذلك إمَّا لما ناله من مضاضة هجرٍ أو مواقعة غررٍ وإمَّا لطغيان النَّفس ونشاطها وانبساطها في محابِّها واستظهارها بغرَّة الجهل على أحبابها ولمن كان بهذه الخلل باب مفردٌ ووصفٌ مجرَّدٌ.
وقال جميل بن معمر:
كفَى حزَناً للمرءِ ما عاشَ أنَّه ... ببينِ حبيبٍ لا يزالُ يروَّعُ
فوا حزَنا لو ينفعُ الحُزنُ أهلهُ ... ووا جزعَا لو كانَ للنَّفسِ مجزعُ
فأيُّ فؤادٍ لا يذوبُ بما أرَى ... وأيُّ عيونٍ لا تجودُ فتدمعُ
وأنشد لأحمد بن أبي طاهر:
أذاهبةٌ نفسِي شعاعاً فميِّتٌ ... ومنصدعٌ قبلَ انصداعِ النَّوى قلبِي

مخافةَ بينٍ لا تلاقيَ بعدهُ ... وشحطِ النَّوى بعدَ الزِّيارةِ والقربِ
وقال آخر:
ظللتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذْ جرَى ... أخُو جنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها
إذا العينُ أفنتْ عبرةً مِنْ سجامِها ... بكتْها بأُخرى تستهلُّ دموعُها
وقال آخر:
خليليَّ مِنْ عُليَا هوازنَ لم أجدْ ... لنفسيَ مِنْ شحطِ النَّوى مَنْ يجيرُها
غداً تمطرُ العينانِ مِنْ لوعةِ الهوَى ... ويبدُو منَ النَّفسِ الكتومِ ضميرُها
أيصبرُ عندَ البينِ قلبكَ أمْ لهُ ... غداً طيرةٌ لا يدَّ أنْ سيَطيرُها
وقال الطائي:
يا بُعدَ غايةِ دمعِ العينِ إنْ بعُدوا ... هي الصَّبابةُ طولَ الدَّهرِ والسَّهدُ
قالُوا الرَّحيلُ غداً لا شكَّ قلتُ لهمْ ... اليومَ أيقنتُ أنَّ اسمَ الحِمامِ غدُ
وقال أبو نواس:
طرحتم منَ التَّرحالِ أمراً فغمَّنا ... فلو قدْ فعلتمْ صبَّحَ الموتُ بعضَنا
زعمتم بأنَّ النَّأيَ يحزنُكمْ نعمْ ... سيحزنُكمْ عِلمي ولا مثلَ حُزننا
تعالُوا نُقارعكمْ ليثبتَ عندنا ... مَنَ اشجَى قلوباً أوْ مَنَ اسخنَ أعيُنا
أطالَ قصيرُ اللَّيلِ يا رحمُ عندكمْ ... فإنَّ قصيرَ اللَّيلِ قد طالَ عندَنا
ولا يعرفُ اللَّيلَ الطَّويلَ وكربهُ ... منَ النَّاسِ إلاَّ مَنْ ينجِّمُ أوْ أنا
وقال العرجي:
ما زلتُ من روعةِ البَينِ الَّذي ذكروا ... أُذري الدُّموعَ ومنِّي يُحفزُ النَّفسُ
كأنَّني حازمٌ باللَّيلِ مُرتهنٌ ... ساهي الفؤادِ وعليهِ الأمرُ مُلتبسُ
وله أيضاً:
غداً فاعلمي أنِّي أشدُّ صبابةً ... وأحسنُ عندَ البينِ من غيرنا عهدا
نُقطِّعُ إلاَّ بالكتابِ عتابَنا ... سوى ذكرةٍ لا أستطيعُ لها ردَّا
فقالتْ وأذرتْ دمعَها لا بعدْتمُ ... يعزُّ علينا أن نرى لكمُ فقدا
غداً يكثرُ الباكونَ منَّا ومنكمُ ... وتزدادُ داري من دياركمُ بُعدا
وله أيضاً:
بلِّغْ قريبةَ أنَّ البينَ قدْ أفِدا ... وأنَّنا إن سلِمنا رائحونَ غدا
كمْ بالحجازِ وإن كنَّا نُكاثرهُمْ ... منَ الدُّموعِ ودَدْنا لا نرى أبدا
وماتَ وجداً علينا ما يبوحُ بهِ ... يُحصي اللَّيالي إذا غِبنا لنا عددا
يا ليلةَ السَّبتِ قد زوَّدْتني سقماً ... حتَّى المماتِ وحزناً صدَّعَ الكبدا
وقال غيره:
فراقُكَ في غدٍ وغداً قريبُ ... فوا كبدا من البينِ القريبِ
فيا صدرَ النَّهارِ إليكَ عنِّي ... ويا شمسَ الأصائلِ لا تغيبي
وقال آخر:
خليلي غداً لا شكَّ فيهِ مودِّعٌ ... فوالله ما أدري بهِ كيفَ أصنعُ
فإنْ لم أشيِّعْهُ تقطَّعتُ حسرةً ... ووا كبدا إن كنتُ فيمنْ أُشيِّعُ
فيا يومُ لا أدْبرتَ هلْ لكَ محبسٌ ... ويا غدُ لا أقبلتَ هلْ لكَ مدفعُ
وقال آخر:
يا صاحبيَّ منَ الملامِ دعاني ... إنَّ البليَّة فوقَ ما تصفانِ
زعمَتْ بُثينةُ أنَّ رِحلتها غدا ... لا مرحباً بغدٍ فقدْ أبكاني
وقال أشجع السلمي:
غداً يتفرَّقُ أهلُ الهوَى ... ويكثرُ باكٍ ومُسترجعُ
وتختلفُ الدَّارُ بالظَّاعنينَ ... فنوناً تشتُّ فلا تُجمعُ
وتبقى الطُّلولُ ويفنى الهوَى ... ويصنعُ ذو الشَّوقِ ما يصنعُ
فأنتَ تُبكِّي وهُمْ جيرةٌ ... فكيفَ تكونُ إذا ودَّعوا
وقال ذو الرمة:
وقد كنتُ أبكي والنَّوى مُطمئنَّةٌ ... مُحاذرة من علمِ ما البينُ صانعُ
وأُشفقُ من هجرانكُمْ وتشفُّني ... مخافةُ وشكِ البينِ والشَّملُ جامعُ
وأهجركُمْ هجرَ البغيضِ وحبُّكمْ ... علَى كبدي منه شؤونٌ صوادعُ
وقال آخر:
أخافُ الفِراقَ فأشتاقكُمْ ... كأنَّا افترقنا ولم نفترقْ
فلا نبرحُ الدَّهرَ أوْ نشتفي ... وهلْ يشتفي أبداً من عشِقْ
وقال العرجي:
فما أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ موقفاً ... لنا ولها بالسَّفحِ دونَ ثبيرِ
ولا قولها وهْناً وقد بلَّ جيبَها ... سوابقُ دمعٍ ما يجفُّ غزيرِ

أأنتَ الَّذي خُيِّرتَ أنَّكَ باكرٌ ... غداةَ غدٍ أوْ رائحٌ فمهجِّر
فقلتُ يسيرٌ بعضُ شهرٍ أغيبُهُ ... وما بعضُ يومٍ غيبهُ بيسيرِ
أحينَ عصيتُ العاذلينَ إليكمُ ... ونازعتُ حبلي في هواكَ أميري
وباعدني فيكِ الأقاربُ كلُّهمْ ... وباح بما يُخفي اللِّسانُ ضميري
فقلتُ لها قولَ امرئٍ شفَّهُ الهوَى ... إليها ولو طالَ الزَّمان فقيرِ
فما أنا إن شطَّتْ بيَ الدَّارُ أوْ دنتْ ... بيَ الدَّارُ عنكمْ فاعلمي بصبورِ
وقال آخر:
إذا ريعَ قلبي بالفراقِ تحدَّرتْ ... دموعيَ من وجدٍ عليكِ دخيلِ
لَعمري لَموتٌ يعتريني فُجاءةً ... أحبُّ إليَّ من فراقِ خليلِ
وقال أيضاً:
أيا كبدي حُمَّ الفراقُ ولم أجدْ ... لنفسيَ ممَّا حاذرتْ من يُجيرُها
كأنَّ فؤادي عظْمُ ساقٍ مهيضةٍ ... عنيفٌ مُداويها بطيءٌ جُبورها
فإنْ عصبوها بالجُبارِ توجَّعتْ ... وإن تركوها زادَ صدعاً نفورُها
غداً تصبحُ الخوْدُ المليحةُ غُربةً ... تُزارُ وتُغشي لستُ ممنْ يزورُها
وقال توبة بن الحمير:
كأنَّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغدى ... بليلى العامريَّةِ أوْ يُراحُ
قطاةٌ غرَّها شركٌ فباتتْ ... تُجاذبهُ وقدْ علقَ الجناحُ
فلا في اللَّيلِ نامتْ فاطمأنَّتْ ... ولا في الصُّبحِ كانَ لها براحُ
وقال آخر:
أبيتُ والهمُّ تغشاني طوارقهُ ... من خوفِ روعةَ بين الظَّاعنينَ غدا
قدْ صدَّعَ القلبَ حزنٌ لا ارتجاعَ لهُ ... إذْ الانصداع النية العمدا
وقال آخر:
قالوا يسيرونَ لا ساروا بلى وقفوا ... ولا استقلَّتْ بهمْ للبينِ أكوارُ
إذا تحمَّلَ من هامَ الفؤادُ بهِ ... فلا أبالي أقامَ الحيُّ أمْ ساروا
وقال آخر:
ما زلتُ من حذرِ التفرُّقِ مُشفقاً ... لو كانَ أغنى ذلك الإشفاقُ
وترى المحبَّ قريرَ عينٍ بالهوى ... حتَّى يُنغِّصهُ عليهِ فراقُ
وقال آخر:
روِّعتُ بالبينِ حتَّى ما أُراعَ بهِ ... وبالتَّفرُّقِ في أهلي وجيراني
لم يتركِ الدَّهرُ لي خِدناً أُسرُّ بهِ ... إلاَّ اصطفاهُ ببينٍ أوْ بهجرانِ
وقال آخر:
يحنُّ إذا خافَ الفراقَ منَ اجْلها ... حنينَ المُرجِّي وُجهةً لا يُريدها
وكائنْ ترى من صاحبٍ حيلَ دونهُ ... ومُتْبعِ إلفٍ نظرةً لا يُعيدها
ولبعض أهل هذا العصر:
علَى كبدي من خيفةِ البينِ لوعةٌ ... يكادُ لها قلبي أسًى يتصدَّعُ
يخافُ وقوعَ البينِ والشَّملُ جامعٌ ... فيبكي بعينٍ دمعُها متسرِّعُ
فلوْ كانَ مسروراً بما هو واقعٌ ... كما هو مسرورٌ بما يتوقَّعُ
لكان سواءً بُرْؤهُ وسقامهُ ... ولكنَّ وشكَ البينِ أدْهى وأوجعُ
وأكثر استظهار خوف الفراق إنَّما هو على المتيَّمين والعشَّاق الذين استغرقهم الضَّعف بأحبابهم وجرت خلائق أحبَّتهم على نهاية محلِّهم فآمالهم مقصورة إلى الحذر من زوالهم فأمَّا من قد خرج عن حدود العشَّاق والمتيَّمين إلى مرتبة المولَّهين فإنَّ حذاره من الخيانة والغدر يشغله عن محاذرة الفراق والهجر.
وقال توبة بن الحمير:
قالتْ مخافةَ بيننا وبكتْ لهُ ... والبينُ مبعوثٌ علَى المتخوِّفِ
لو ماتَ شيءٌ من مخافةِ فُرقةٍ ... لأماتني للبينِ طولُ تخوُّفي
ملأَ الهوَى قلبي فضقْتُ بحملهِ ... حتَّى نطقْتُ بهِ بغيرِ تكلُّفِ

فليلى الأخيليَّة عفا الله عنا وعنها إن كان ما حكاه لنا توبة عنها في البيت الثاني حقّاً فإنَّها كانت جاهلةً بأحوال العشَّاق غافلةً عمَّا تولده روعات الفراق ولَعمري إن من مراثيها في توبة بعد وفاته لدالَّةً على أنَّها لم تتعلَّق من الهوَى إلاَّ بأطرافه إذْ لو كان الهوَى قد بلغ بها أقصى الحال كانت حياتها بعد وفاة توبة ضرباً من المحال وما أحصي ما اتَّصل بي من أخبار من تخوَّف بمفارقة حبيبه فتلف من ساعته ولقد اتَّصل بي خبر لم أسمع بأعجب منه وإنَّ صاحبته وليلَى الأخيليَّة لفي الطَّرفين هذه عندها أنَّه لا يموت أحد من مخافة فرقةٍ وتلك تلفت من جريان خاطرٍ بالفراق على قلبها من غير أن يؤدي ذلك إليه ناظرها ولا سمعها ذكر أبو مالك الرَّاوية أنَّه سمع الفرزدق يقول أبقَ غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر قال فخرجت في طلبهما وأنا على ناقةٍ لي عنساء أريد اليمامة فلما صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألتهم القِرى فأجابوا فدخلت الدَّار وأنخت النَّاقة وجلست تحت ظلالهم من جريد النَّخل وفي الدَّار جويريةٌ سوداء إذْ دخلت الدَّار جاريةٌ كأنَّها فلقة قمر وكأنَّ عينيها كوكبان درِّيَّان فسألت السوداء لمن هذه العنساء فقالت لضيفكم هذا فعدلت إليَّ فقالت السَّلام عليك فقلت وعليكِ السَّلام فقالت لي من الرِّجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيِّ بني حنظلة قلت من بني نهشلٍ قالت فأنت الَّذي يقول فيك الفرزدق:
إنَّ الَّذي سمكَ السَّماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
بيتاً زُرارةُ مُحتبٍ بفنائهِ ... ومُجاشعٌ وأبو الفوارسِ نهشلُ
قال قلت نعم فتبسَّمت وقالت فإنَّ ابن الخطفى جريرٌ هدم عليه بيته هو الَّذي يقول:
أخزى الَّذي رفعَ السَّماءَ مُجاشعاً ... وبنى بناءَكَ بالحضيضِ الأسفلِ
بيتاً يُحمَّمُ قينكُمْ بفنائهِ ... دنِسٌ مقاعدهُ خبيثُ المدخلِ
قال فأعجبتني فلمَّا رأت ذلك في وجهي قالت إلى أين تؤمُّ قلت اليمامة قال فتنفَّست الصُّعداء ثمَّ قالت ها هي تلك أمامك ثمَّ أنشأت تقول:
تُذكِّرني بلاداً خيرُ أهلي ... بها أهلُ المروءةِ والكرامةْ
ألا فسقى المليكُ أجشَّ صوبٍ ... يدرُّ بسحِّهِ تلكَ اليمامةْ
وحيَّى بالسَّلامِ أبا نُجيدٍ ... فأهلٌ للتَّحيَّةِ والسَّلامةْ
قال فأنست بها فقلت أذات خدنٍ أم ذات بعلٍ فأنشأت تقول:
إذا رقدَ الخليُّ فإنَّ عمراً ... تُؤرِّقهُ الهمومُ إلى الصَّباحِ
تُقطِّعُ قلبهُ الذِّكْرى وقلبي ... فلا هو بالخليِّ ولا بصاحِ
سقى اللهُ اليمامةَ دارَ قومٍ ... بها عمرٌو يحنُّ إلى الرَّواحِ
قال فقلت لها من عمرٌو فأنشأت تقول:
فإنْ تكُ ذا قُبولٍ إنَّ عمراً ... هوَ القمرُ المضيءُ لمُستنيرِ
وما لي بالتَّبعُّلِ مُستراحٌ ... ولو ردَّ التَّبعُّلُ لي أسيري
قال ثمَّ سكتت سكتةً كأنَّها تستمع إلى كلامي ثمَّ تهافتت وأنشأت تقول:
يُخيَّلُ لي أبا عمرو بنَ كعبٍ ... كأنَّكَ قد حُملتَ على سريرِ
فإنْ يكُ هكذا يا عمرو إنِّي ... مُبكِّرةٌ عليكَ إلى القبورِ
قال ثمَّ شهقت فماتت فقلت لهم من هذه قالوا هذه عقيلة بنت الضَّحَّاك بن النُّعمان بن المنذر بن ماء السَّماء قلت ومن عمرٍو هذا قالوا ابن عمِّها قال فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة فسألت عن عمرٍو فإذا به قد دفن في ذلك الوقت من ذلك اليوم.

الباب الثاني والعشرون
قلَّ من سلا إلاَّ غلبه الهوَى
من كان سلوُّه تابعاً لظفَره بما من أجله كان ابتداء محبَّته فإنَّ الهجر والفراق لا يعيدان له هوًى ولا يتبعان على ضميره أسًى ومن كانت طبيعته بمشاكلة طبيعته فسلا لضجرة لحقته من مخالفة محبوبه أو من تعذُّر بعض مطلوبه أو لتأذٍّ بحاجبٍ أو رقيب أو لملالٍ من سعاية واشٍ أو عذول فإن أدنى عارض يطيف به من فراق أو هجر أو من مخافة خيانة أو غدر يعيد عليه قلق الإشفاق ويردُّه بعد السُّلوِّ إلى مواقف العشاق وربما ألمَّ بمن هذه صفته في المنام طائفٌ من خيال فردَّه إلى أتمِّ ما كان عليه من الحال.
وقال البحتري:

لي خليلٌ قد لجَّ في الصَّرمِ جِدَّا ... وأعادَ الصُّدودَ منهُ وأبدى
ذو فنونٍ يُريكَ في كلِّ يومٍ ... خُلقاً منْ جفائهِ مُستجدَّا
يتأبَّى منعاً ويُنعِمُ إسْعا ... فاً ويدنو وصلاً ويُبعدُ صدَّا
أغْتدي راضياً وقد بتُّ غضبا ... نَ وأُمسي مولًى وأُصبحُ عبدا
أتراني مُستبدلاً بكَ ما عشْ ... تُ بديلاً أوْ واجداً منكَ نِدَّا
حاشَ لله أنتَ أفتنُ ألحا ... ظاً وأحلى شكلاً وأملحُ قدَّا
أما هذا الشعر فمن أضعف شيءٍ أعرف وذلك أنَّ صاحبه إنَّما استحسن صورةً وقدّاً فمتى تغيَّر حسنها أوْ رأى ما هو أحسن في عينه منها اتَّبعه وتركها على أنَّه مع افتقاره إلى خليله وعدمه لشكله ونظيره منتقلاً في هواه فمرَّةً يتسخَّط ومرَّةً يترضَّاه حتَّى يمسيَ مولًى ويصبح عبداً وهذه حالٌ خسيسة فإن كان لا بدَّ للمحبِّ من التَّباعد عن المحبوب فليكن ذلك ظاهراً في الأفعال غير معتقدٍ في القلوب.
كما قال عبد الله بن أبي الشيص:
إنْ لم أُرى بفناءِ بيتكِ واقفاً ... فالقلبُ مُحتبسٌ عليهِ وواقفُ
هذي الجفونُ فضمِّنيهنَّ الهوَى ... وثقي بهنَّ فإنَّهنَّ عفائفُ
لا يكتحلْنَ منَ الخدودِ بزهرةٍ ... حتَّى تعطَّفَ بي إليكِ عواطفُ
أنتِ الَّتي غمرَ الضَّمائرَ حُبُّها ... فلها التَّليدُ من الهوَى والطَّارفُ
وكأنَّ ليَ قلبينِ عندكِ واحدٌ ... دانٍ وآخرُ عنْ دياركِ عازفُ
وكما قال البحتري:
الدَّارُ تعلمُ أنَّ دمعي لم يغِضْ ... فأروحَ حاملَ منَّةٍ منْ مُسعدِ
ما كان لي جلَدٌ فيودي إنَّما ... أودى غَداةَ الظَّاعنينَ تجلُّدي
وكما قال بعض أهل هذا العصر:
لقد باعدْتَ عنكَ أخاً شقيقاً ... عليكَ فلا يغرُّكَ حسنُ صبري
فلوْ جُمعَ الأنامُ لكنتَ فرْداً ... أحبَّهمُ إليَّ بكلِّ سعْرِ
فلا تحسبْ رعاكَ الله أنِّي ... غدرْتُ ولا هممْتُ لكمْ بغدرِ
فوالله العظيمِ لوَ انَّ قلبي ... أحبَّ سواكَ لم أُسكنْهُ صدري
وأعظمُ ما أُلاقي منكَ أنِّي ... أدومُ علَى الوفاءِ ولستَ تدري
وهذا أتم من قول بشار:
أهِمُّ بأنْ أقولَ وددْتُ أنِّي ... سلوتُ فما يُطاوعني لِساني
لأنَّ بشاراً خبَّر أنَّه قد همَّ ثمَّ امتنع ومن لم يرد أن يقدر أتمُّ ممن أراد ذلك فلم يقدر وأنقص من بشار في هذه الحال.
أبو المنيع الحضرمي حيث يقول:
ألمْ ترني أزمعْتُ صرماً وهجرةً ... لِليلى فلمْ أسطعْ صدوداً ولا هجرا
وما مرَّ يومٌ دونها إنْ هجرتُها ... ولا ساعةٌ إلاَّ أجدَّ لها ذكرا
فيا عجبا من وصليَ الحبلَ كيْ يُرى ... جديداً وقدْ أمستْ علائقهُ بُترا
فإنْ تُصبحي بعدَ التَّجاوزِ والهوَى ... صددْتِ فقدْ غادرتِ في كبدي عقرا
والأحوص بن محمد حيث يقول:
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعُني ... حتَّى لقدْ قلتُ هذا صادقٌ نزَعا
قدْ زادهُ كلَفاً بالحبِّ أنْ مُنعتْ ... أحبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنعا
وكمْ دنيٍّ لها قدْ صرْتُ أتبعهُ ... ولو صحا القلبُ عنها كانَ لي تبعا
ومحمد بن بشير حيث يقول:
ولقدْ أردتُ الصَّبرَ عنكِ فعاقني ... علقٌ بقلبي منْ هواكِ قديمُ
يبقى علَى حدثِ الزَّمانِ وريْبِهِ ... وعلَى جفائكِ إنَّهُ لَكريمُ
وذو الرمة حيث يقول:
إذا قلتُ أسلو عنكِ ما ميُّ لم يزلْ ... محلٌّ لِداري من دياركِ ناكسُ
فكيف بميٍّ لا توآتيكَ دارُها ... ولا أنتَ طاوي الكشحِ عنها فيائسُ
وللبحتري:
وإذا هممْتُ بوصلٍ غيركِ ردَّني ... ولهٌ عليكِ وشافعٌ لكِ أوَّلُ
وأعِزُّ ثمَّ أزِلُّ ذلَّةَ عاشقٍ ... والحبُّ فيهِ تعزُّزٌ وتذلُّلُ
ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو وإن لم يكن على ذلك التمام في باب النقصان:
أيا حالفاً أنِّي علَى العهدِ ناكثٌ ... تأكَّدْ رعاكَ اللهُ أنَّكَ حانثُ
تجنَّيتَ مُذْ عامينِ ذنباً لَمَ اجنهِ ... عليكَ وهذا العامَ قدْ تمَّ ثالثُ
إذا عرضَتْ نفسي فقمْتُ بسلوةٍ ... أما ذاكَ إشفاقٌ قديمٌ وحادثُ

تسحب علَى صرفِ اللَّيالي ولا تُرعْ ... فجُرمكَ منْسيٌّ وحبُّكَ لابثُ
وكلُّ أذًى تأتيهِ كيْما تُملَّني ... فذاكَ علَى ألاَّ أملَّكَ باعثُ
وقال الحسين بن الضحاك:
كأنِّي إذا فارقْتُ شخصَكِ ساعةً ... لفقدكِ بينَ العالمينَ غريبُ
وقد رمتُ أسبابَ السُّلوِّ فخانَني ... ضميرٌ عليهِ من هواكِ رقيبُ
فما لي إلى ما تشتهينَ مُسارعٌ ... وفعلُكِ ممَّا لا أحبُّ قريبُ
أغرَّكِ صفحي عنْ ذنوبٍ كثيرةٍ ... وغضِّي علَى أشياءَ منكِ تُريبُ
كأنْ لم يكنْ في النَّاسِ قبلي مُتيَّمٌ ... ولم يكُ في الدُّنيا سواكِ حبيبُ
إلى الله أشكو إذْ ذُكرتِ فلمْ يكنْ ... بشكوايَ من عطفِ الحبيبِ نصيبُ
وقال محرز العكلي:
يظلُّ فؤادي شاخصاً من مكانهِ ... وراء الغواني مُستهاماً مُتيَّما
إذا قلتُ ماتَ الشَّوقُ منهُ تنسَّمَتْ ... لهُ أرْيحيَّاتُ الصِّبى فتنسَّما
وقال آخر:
لعمرُكَ ما يدري غُنيُّ بنُ مالكٍ ... لَعلَّ الهوَى بعدَ التَّجلُّدِ قاتلُهْ
وما تُحدِثُ الأيَّامُ والدَّهرُ لمْ تزلْ ... لِلَيلى كثيراتُ الهوَى وقلائلُهْ
وقال قيس بن ذريح:
وإنِّي وإنْ أزمعْتُ عنها تجلُّداً ... علَى العهدِ فيما بيننا لَمقيمُ
إلى الله أشكو فقدَ لُبنى كما شكا ... إلى اللهِ فقدَ الوالديْنِ يتيمُ
ولبعض أهل هذا العصر:
أبى لي الوفاءُ دوامَ الجفا ... وحلَّ الحنينُ عديمَ العزا
قعدْتُ إلى الوصلِ مُستعطفاً ... وقدْ كنتُ قبلُ شديدَ الإبا
وإنِّي لَفي طولِ كتْمِ الهوَى ... وستْريهِ عنكَ بفرطِ الجفا
كمنْ ينفخُ البوقَ مُستخفياً ... ويضربُ بالطَّبل تحتَ الكِسا
فيا قلبُ ويحكَ كُنْ حازماً ... إذا تاهَ رامَ سبيلَ النَّجا
ولا تكُ ذا عزمةٍ جاهلاً ... إذا ما اعتدى لجَّ في الاعتدا
فسلِّ الحُقودَ برعْيِ العُهودِ ... وداوِ الجفاءَ برعْيِ الوفا
فأوجعُ منْ حملِ عتبِ الصَّفا ... زوالُ الصَّفاءِ وقطعُ الإخا
فسامحْ هواكَ وكنْ مُدنفاً ... أحبَّ الدَّواء لحبِّ الشِّفا
وأنشدني أحمد بن يحيى لمجنون بني عامر:
وداعٍ دعا إذْ نحنُ بالخيْفِ منْ مِنًى ... فهيَّجَ أطرابَ الفؤادِ وما يدري
دعا باسمِ ليلَى غيرِها فكأنَّما ... أطارَ بليلى طائراً كانَ في صدري
وزادني غيره:
عرضْتُ علَى قلبي العزاءَ فقال لي ... منَ الآنِ فاجزعْ لا أغرُّكَ بالصَّبرِ
فهذا على كلِّ حال أقرب إلى درجة الكمال لأنه إنَّما يخبر أنَّ اشتياقه ظهر بعد أن كان كامناً وأنَّه عرض على قلبه العزاء فأبى عليه إلاَّ الوفاء وظهور الشَّوق بعد كمونه أحسن من رجوع العشق بعد سكونه وفي هذا المعنى الَّذي اخترناه.
يقول امرؤ القيس:
سمَا لكَ شوقٌ بعدَ ما كانَ أقصرَا ... وحلَّتْ سُليمى بطنَ خبتٍ فعرْعرَا
كنانيَّةٌ باتتْ وفي الصَّدرِ ودُّها ... مجاورةَ النُّعمانِ والحيَّ يَعمرا
وفي ضده هذا المعنى الَّذي ذممناه بقول الملتمس:
صبَا مِنْ بعدِ سلوتهِ فؤادِي ... وأسمحَ للقرينةِ بالقيادِ
كأنِّي شاربٌ يومَ استقلُّوا ... وحثَّ بهم إلى الموماةِ حادِي
عُقاراً عتِّقتْ في الدَّنِّ حتَّى ... كأنَّ حُبابها حدقُ الجرادِ
وقال البحتري:
عنانِي مِنْ صدودكِ ما عنانِي ... وعاودَني هواكِ كما بدانِي
وذكَّرني التَّباعدُ ظلَّ عيشٍ ... لهوْنا فيهِ أيَّامَ التَّداني
أُلامُ علَى هوَى الحسناءَ ظلماً ... وقلبي في يدِ الحسناءِ عانِي
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لزياد بن منقذ:
لا حبَّذا أنتِ يا صنعاءُ مِنْ بلدٍ ... ولا شعوبُ هوًى منَّا ولا نقمُ
وحبَّذا حيثُ تُمسي الرِّيحُ باردةً ... وادِي أُشيَّ وفتيانٌ بهِ هُضمُ
ألموسعونَ إذا ما جرَّ غيرهمُ ... علَى العشيرةِ والكافُونَ ما جرَموا
لمْ ألقَ بعدهمُ قوماً فأخبرهمْ ... إلاَّ يزيدهمُ حبّاً إليَّ همُ
مُخدَّمونَ ثقالٌ في مجالسهمْ ... وفي الرِّجالِ إذا صاحبتهمْ خدمُ

وقال امرؤ القيس:
تأوَّبني دائِي القديمُ فغلَّسَا ... أُحاذرُ أنْ يزدادَني فأُنكَّسا
ولمْ يرمِ الدَّارَ الكئيبُ فشعشعاً ... كأنِّي أُنادِي أوْ أُكلِّمُ أخرسا
فلوْ أنَّ الدَّارَ فيها كعهدهمْ ... وجدتُ مَقيلاً فيهمِ ومعرَّسا
فلا تُنكريني إنَّني أنا جاركمْ ... لياليَ حلَّ الحيُّ غوْلا فألعَسا
وقال آخر:
وقد كنتُ قبلَ اليومِ أحسبُ أنَّني ... ذلولٌ لأيَّامِ الفراقِ أريبُ
فأشرفتُ يوماً للوداعِ فشاقَنِي ... وذو الشَّوقِ في أعلَى اليفاعِ طروبُ
فما برحتْ نفسي تساقطُ أنفساً ... وتجمدُ روحي مرَّةً وتذوبُ
وقال بشار:
إرجعْ إلى سكنٍ تُعزُّ بهِ ... أفِدَ الزَّمانُ وأنتَ منفردُ
نرجو غداً وغدٌ كحاملةٍ ... في الحيِّ لا يدرونَ ما تلدُ
وقال أبو تمام:
ألبينُ جرَّعني نقيعَ الحنظلِ ... والبينُ أثكلني وإنْ لم أُثكلِ
ما حسرَتي أنْ كدتُ أتلفُ إنَّما ... حسراتُ نفسِي أنَّني لم أفعلِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتَى ... وحنينهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ
نقِّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ منَ الهوَى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ
وقال زرعة الجعدي:
إذا ما التَقَيْنا بعدَ شحطٍ منَ النَّوى ... تعرَّضَ بخلٌ بينَنا مُتتابعُ
أهابُ وأستحيي فلستُ بقائلٍ ... صِليني ولا معروفُها ليَ نافعُ
رمتْ عينَ مَنْ تهوَى بعينِ خليَّةٍ ... وأُخرى إلينا بالمودَّةِ طائعُ
إذا الموتُ نسَّى حبَّ ليلَى فإنَّه ... إذا راجعتْ نفسي الحياةُ لراجعُ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
أحببْ إليَّ بطيفِ سُعدى الآتِي ... وطروقهِ في أعجبِ الأوقاتِ
أنَّى اهتديتَ لمُحْرمينَ تصوَّبوا ... لسفوحِ مكَّةَ مِنْ رُبى عرفاتِ
ذكَّرتنا عهدَ الشَّآمِ وعيشَنا ... بينَ القنانِ السُّودِ فالهضباتِ
إذْ أنتَ شكلُ موافقٍ ومخالفٍ ... والدَّهرُ فيكَ ممانعٌ ومؤاتِ
أبني عبيدٍ شدَّ ما احترقتْ لكمْ ... كبدِي وفاضتْ فيكمُ عبَراتِي
ألقَى مكارمكمْ شجًى لي بعدكمْ ... وأرَى سوابقَ دمعكمْ حسَراتِي
لمْ تحدثِ الأيَّامُ لي بدلاً بكمْ ... أيْهاتِ مِنْ بدلٍ بكمْ أيْهاتِ
وقال آخر:
إذا قيلَ أنَّ النَّأيَ يُسليكَ ذكرَها ... ألمَّ خيالٌ مِنْ أُميمةَ يُسعفُ
فمنْ لامَني في أنْ أهيمَ بذكرِها ... تكلَّفَ مِنْ وجدٍ بها ما أُكلَّفُ
فإذا كان طيف الخيال يردُّ الهوَى على من قد سلاه ويذكر عهد الصبا من قد تناساه فما ظنُّك بحضور الفراق والهجران ومقاساة الاستبدال بالإخوان هذه أحوالٌ لا يقاومها الجفاء ولا يعارضها العزاء غير أنَّ من كان سلوُّه سلوُّ استغناءٍ لم يكترث لورود شيءٍ من هذه الأشياء.

الباب الثالث والعشرون
مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر
مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر صبرَ لمنْ يهواهُ علَى الغدرِ
هذه الحال ليست جارية على الترتيب فيقع لصاحبها عذر أو تأنيب لأنها حال قد تجاوزت حدَّ العشق برضى المحب بكل فعل المحبوب وهو صاح عنها فأوقع له اختياره الرضى بها والمحبة معها ثمَّ تبعتها أشياء من غير جنسها إلاَّ أنَّها ليست هتكاً لحجاب المودة فاجتمعت معها وهذه حال وقعت بالمحبوب بعد أن وقع الرضى من محبة بخلافها ثمَّ وقع السخط منه بحدوثها والتباعد من صاحبها ثمَّ عرضت الحيرة الَّتي لا تمييز معها فردَّته بالصُّغر إلى ما لا يرضاه وصيَّرته على ما كان قبل وقوعه يخشاه وبين الرضى الاختياري وبين الرضى الاضطراري بَوْنٌ بعيد.
قال ذو الرمة:
أجِدَّكَ قد ودَّعتَ ميَّةَ إذْ نأتْ ... فولَّى بقايا الحبِّ إلاَّ أمينُها
وإنِّي لطاوٍ سرَّها موضعَ الحشا ... كُمونَ الثَّرى في عهدةٍ يستبينُها
لئنْ زُوِّجتْ ميٌّ خُنيساً لطالَ ما ... بغَى منذرٍ ميّاً خليلاً يهينُها
تزينُكَ إنْ جرَّدتها من ثيابِها ... وأنتَ إذا جرِّدتَ يوماً تشينُها
ولمَّا أتاني أنَّ ميّاً تزوَّجتْ ... خُنيساً بكى سهلُ المِعَى وحزونُها

أقسام الكتاب
1 2 3 4