كتاب : المحاسن والمساوئ
المؤلف : إبراهيم البيهقي

عليّ بن بريهة الهاشمي قال: قال صاحب عذاب أبي جعفر: دعاني أبو جعفر المنصور ذات يوم وإذا بين يديه جارية صفراء وقد دعا لها بأنواع العذاب وهو يقول لها: ويلك اصدقيني فوالله ما أريد إلا الألفة ولئن صدقتني لأصلن الرحم ولأتابعن البرّ إليه، وإذا هو يسائلها عن محمد بن عبد الله وهي تقول: ما أعرف مكانه، ودعا بالدَّهق وأمر به فوضع عليها فلما كادت نفسها أن تتلف قال: امسكوا عنها، وكره ما رأى وقال لأصحاب العذاب: ما دواء مثلها إذا صار إلى مثل حالها؟ قالوا: الطيب تشمه والماء البارد يصب على وجهها وتسقى السويق، فأمر لها بذلك وعالج بعضه بيده وقال لأصحاب العذاب: ألا أعلمتموني بما ينالها فأكف عنها؟ قالوا: قد علمنا أنها لا تقوى على هذا ولكنا هبناك، فما زالوا يردون عليها نفسها حتى أفاقت، وأعاد عليها المسألة فأبت إلا الجحود، فقال لها: أتعرفين فلانة الحجامة؟ فاسود وجهها وتغيرت، فقالت: نعم يا أمير المؤمنين تلك في بني سليم، قال: صدقت، هي والله أمتي ابتعتها بمالي ورزقي يجري عليها في كل شهر وكسوة شتائها وصيفها، أمرتها أن تدخل منازلكم وتحجمكم وتتعرف أخباركم، ثم قال: أوتعرفين فلاناً البقال؟ قالت: نعم هو في بني فلان، قال: هو والله مضاربي بخمسة دنانير أمرته أن يبتاع بها كل ما يحتاج إليه من البيوع فأخبرني أن أمةً لكم يوم كذا وكذا من شهر كذا صلاة المغرب جاءت تسأله حناء وورقاً، فقال لها: ما تصنيعن بهذا؟ فقالت: كان محمد بن عبد الله في بعض ضياعه بناحية البقيع وهو يدخل الليلة فأردنا هذا لتتخذ منه النساء ما يحتجن إليه عند دخول أزواجهن من المغيب، فأسقط في يدها وأذعنت بكل ما أراد.
قيل: وإن أبا جعفر كتب في حمل عبد الله بن الحسن وأهل بيته من المدينة إلى حضرته، فلما أُخرجوا كثر عليهم البكاء، فقال عبد الله: أفيقوا من البكاء وأوغلوا في الدعاء، فإني أشهد الله على ما أردت من إحياء الحق وإماتة الباطل، فجرى القدر بما جرى، فجدي الحسن والحسين قتلا بسم وسيف، فالحمد لله الذي جعل منايانا جهاداً ولم يجعلها مهاداً.
وأخبرنا إبراهيم بن السندي بن شاهك وكان من العلماء بأمر الدولة قال: قال لي المأمون: نُبئت أنك عالم بأمر الدولة ورجال الدعوة. قلت: ذلك الذي يلزمني يا أمير المؤمنين بعد الفرض أن أعرف أيام مواليّ ومحاسن ساداتي، قال: فهات ما عندك، ثم أنشأ يحادثني ويسائلني عن أمور خفية لم تخطر ببالي قط، فكان منها أن قال: ما اسم أم قحطبة بن شبيب؟ قلت: لا أعلم، قال: لبابة بنت سنان. ثم قال: ما اسم أبي عون؟ قلت: لا أدري، قال: فلان. فوالله ما زال يسائلني عن خفيّ أمر الدولة ولا يجد عندي جواباً ولا يزيدني على أن تبسم، فكلما فعل ذلك زاد في عينيّ وضعفت عند نفسي، قال فكان آخر ما قال: أخبرك أن بعض أهلنا ذات يوم رأت وهي حامل متمّ كأنه أتاها آتٍ في منامها فقال لها: يولد في هذه الليلة خليفة ويموت خليفة ويستخلف خليفة، فمات الهادي في تلك الليلة واستخلف الرشيد وولدت أنا.

وعن إبراهيم بن السندي بن شاهك قال: لما اختار يحيى بن أكثم العشرة من الفقهاء وأحضرهم مجلس المأمون لمذاكرة الفقه جعل له يوماً في الجمعة يحضرون مجلسه، فقال لي المأمون: يا إبراهيم احضر فلست بدون أكبرهم، فكنت أحضر، وكان قد اختار من أيام الجمعة يوم الثلاثاء، قال: فحضرت يوماً فلما أمسك المأمون عن المسائل نهض القوم، وكان ذلك إذنه بانصرافهم، فوثبت معهم، فقال بيده: مكانك يا إبراهيم، فقعدت وقام يحيى وساءه تخلفي، فقال لي ودخل إبراهيم بن المهدي: هات ذكر من في عسكرنا ممن يطلب ما عندنا بالرياء، فقلت ما عندي، وقال إبراهيم ما عنده، فقال: ما أرى عند أحد ما يبلغ إرادتي، ثم أنشأ يحدث عن أهل عسكره حتى والله لو كان قد أقام في رحل كل رجل حولاً لما زاد على معرفته، وقال: إنه كان مما حفظت عنه في ثلب أصحابه أنه قال: تسبيح حميد الطوسي وصلاة قحطبة وصيام النوشجاني ووضوء بشر المريسي وبناء مالك بن شاهك المساجد وبكاء إبراهيم بن بريهة على المنبر وجمَع الحسين بن قريش القيامي وقصص مرجّا وصدقة علي بن هشام وحملان إسحاق بن إبراهيم في سبيل الله وصلاة أبي رجاء الضحى، فقال لي رجل من عظماء العسكر حين خرجنا من الدار: هل رأيت أو سمعت قط أعلم برعيته وأشد تنقيراً من هذا؟ قلت: اللهم لا! فحدثت بهذا الحديث بعض أهل الخطر، فقال: وما تصنع بهذا وقد كتب إلى إسحاق بن إبراهيم في الفقهاء بمعايبهم رجلاً رجلاً حتى إنه أعلم بما في منازلهم منهم؟ قال: وحدثنا سليمان بن علي النوفلي قال: سمعت عمرو بن مسعدة يقول: قال لنا المأمون يوماً من الأيام: من أنبل من تعلمون نبلاً وأعفهم عفة؟ قال: فقلنا وأكثرنا، فبعضنا مدحه وقرظه وقدمه على كل خليفة وإمام وعدّدنا ما نعرف من مكارم الأخلاق، فقال: ما كمال المناقب إلا لبني هاشم غير أنّا لم نردها ولا أردنا خلفاءها، قال علي بن صالح: اعرف القصة في عمر بن الخطاب، رحمه الله، فأشاح بوجهه وأعرض وذكر كلاماً ليس من جنس هذا الكتاب فنذكره، ثم قال: ذاك والله أبو العباس عبد الله بن طاهر دخل مصر وهي كالعروس الكاملة فيها خراجها وبها أموالها جمّة ثم خرج عنها فلو شاء الله أن يخرج عنها بعشرة آلاف ألف دينار لفعل، ولقد كان لي عليه عين ترعاه، فكتب إليّ أنه عرضت عليه أموال لو عرضت عليّ أو بعضها لشرهت إليها نفسي، فما علمته خرج عن ذلك البلد إلا وهو بالصفة التي قدمه فيها إلا مائة ثوب وحمارين وأربعة أفراس، فمن رأى أو سمع بمثل هذا الفتى في الإسلام؟ فالحمد لله الذي جعله غرس يدي وخرّيج نعمتي.

وقال بشر بن الوليد: كان والله المأمون الملك حقاً، ما رأيت خليفة قط كان الكذب عليه أشد منه على المأمون، وكان يحتمل كل آفة تكون بالإنسان إلا الكذب، قال فقال لي يوماً: صف لي أبا يوسف القاضي فإني لم أره، فوصفته له، فاستحسن صفته وقال: وددت أن مثل هذا بحضرتنا فنتزين به، ثم أقبل عليّ وقال: ما في الخلافة شيء إلا وأنا أحسن أن أدبّره وأبلغ منه حيث أريد وأقوى عليه إلا أمر أصحابك، يعني القضاة، وما ظنك بشيء يتحرج منه علي بن هشام ويتوقى سوء عاقبته ويكالب عليه الفقهاء وأهل التصنع؟ قال قلت: يا أمير المؤمنين ما أدري ما تقصده فأجيب عنه! قال: لكني أدريه وأُدريك ولا والله ما تجيبني عنه ولا فيه بجواب مقنع، ثم قال: ولينا رجلاً أشرتَ به قضاء الأبلّة وأجرينا عليه في الشهر ألف درهم وما له صناعة ولا تجارة ولا كان له مال قبل ولايتنا إياه...... وولينا رجلاً آخر قضاء دمشق وأجرينا عليه ألف درهم في الشهر أشار به إلي محمد بن سماعة، فأقام بها أربعة عشر شهراً، فوجهنا من يتبع أمواله في السر والعلانية ويتعرف حاله، فأخبر أنه وجد ما ظهر من ماله في هذا المقدار من دابة وغلام وجارية وفرش وأثاث قيمته ثلاثة آلاف دينار، وولينا رجلاً أشار به إلي فلان نهاوند فأقام بها أربعة وعشرين شهراً، فوجهنا من يتبع أمواله فأخبرنا أن في منزله خدماً وخصياناً بقيمة ألف وخمس مائة دينار سوى نتاج قد اتخذه، فهات ما عندك من الجواب! فقلت: ما عندي يا أمير المؤمنين جواب، قال: ألم أعلمك؟ ثم قال: وأكبر من هذا وأطم أني فزعت إلى علي بن هشام في رجل أوليه القضاء فقال: قد أصبت واحداً والله يشهد أنه سرني ورجوت أن يكون بحيث أحب، قلت: فاغدُ به عليّ، قال: أفعل، ثم غدا، فقلت: أين الرجل؟ فقال: لم أجده في الفقه بالموضع الذي يجب أن يتصل صاحبه بأمير المؤمنين، قال: فأنكرت عليه وأظهرت الغضب، فقال: يا أمير المؤمنين إن الرجل الذي ذكرته لك بالأمس هو علي بن مقاتل وكان عندي من أهل العفاف والستر، فانصرفت بالأمس على أن أحضره، فوجهت إليه وأنا لا أشك أنه سيظهر الكراهية في ما أراد له أمير المؤمنين وإن كان يستبطن غيرها ويستعفي كفعل من يتصنع أو يكره ذلك بالحقيقة، فلما جاءني ألقيت إليه الذي أردته له فما تمالك أن وثب فقبّل رأسي، فعلمت أنه لا خير عنده وأنه لو كان من أهل الفضل والخير لعدّ الذي دعي إليه إحدى المصائب، فلم أر لنفسي أن أحضره ولا أن يستعان بمثله، فقلت: جزاك الله خيراً عن إمامك أحسن ما جزى امرأً عن إمامه وهم دينك ونفسك، قال بشر: فبهتّ وانقطعت ولم أُحر كلمةً..... فقال: لا ولكن إن أردت العفيف النظيف الزاكي التقي الطاهر فقاضي الري هو بالحالة التي فارقته عليها والله ما غير ولا بدّل، فأما قولكم في يحيى بن أكثم فما ندري ما عيبه إلا أن ظاهره أنه أعف خلق الله عن الصفراء والبيضاء، ميل إلينا من أموال الحشوية أربع مائة ألف دينار، فأي نفس تسخو بهذا؟ قال بشر: فقلت يا أمير المؤمنين ما لك في الخلفاء شبيه إلا عمر بن الخطاب فإنه كان يفحص عن عمّاله وعن دفين أسرار حكّامه فحصاً شافياً، فكان لا يخفى عليه ما يفيد كل امريء وما ينفق، وكان من نأى عنه كمن دنا منه في بحثه وتنقيره، فقال المأمون: إن أهمّ الأمور كلها أمور القضاة والحكام إذ كنا قد ألزمناهم النظر في الدماء والأموال والفروج والأحكام فوددت أني أجد مائة حاكم وأني أجوع يوماً وأشبع يوماً.

حمدون بن إسماعيل النديم قال: حضر العيد فعبّى المعتصم بالله خيله تعبيةً لم يسمع بمثلها ولم ير لأحد من ولد العباس شبيهٌ بها، وأمر بالطريق فمسح من باب قصره إلى المصلى ثم قسم ذلك على القوّاد وأعطى كلّ واحد منهم مصافّه، فلما كان قبل الفطر بيوم حضر القوّاد وأصحابهم في أجمل زيّ وأحسن هيأة فلزموا مصافّهم منذ وقت الظهر إلى أن ركب المعتصم بالله إلى المصلى، فكان الموضع الذي وقع لإبراهيم بن المهدي من بعد الحرسيّ بحذاء مسجد الخوارزمي وإبراهيم واقف وأصحابه في المصاف، فلما أصبح المعتصم أمر القواد الذين لم يرتبوا في المصاف بالمصير إلى المصلى على التعبية التي حدّها، ولبس ثيابه وجلس على كرسيّ ينتظر مضيّ القواد، فلما انقضى أمرهم تقدّم إلى الرجّالة في المسير بين يديه فتقدّم منهم سبعة آلاف ناشب من الموالي كل ثلاثمائة منهم في زيّ مخالف لزيّ الباقين وأربعة آلاف من المغاربة وأمر الشيعة فكانوا وراءه بالأعمدة وعدّتهم أربعة آلاف، وركبت لا أدري منزلتي أين هي ولا أعرف مرتبتي ولم أعلم أين أسير من الموكب، فلما وضع رجله في الركاب واستوى على سرجه التفت إليّ وقال: يا حمدون كن أنت خلفي، فلزمت مؤخر دابته، فلما خرج من باب القصر تلقّاه القواد وأصحاب المصافّ يخرج الرجل من مصافه فإذا قرب نزل وسلم عليه بالخلافة فيأمره بالركوب ويمضي حتى وصل إلى إبراهيم بن المهدي فنزل وسلم عليه بالخلافة فردّ عليه السلام فقال: كيف أنت يا إبراهيم وكيف حالك وكيف كنت في أيامك؟ اركب، فركب، فلما جاوزه التفت إليّ فقال: يا حمدون! قلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: تذكر، قلت: أي والله يا سيدي، وأمسك، فنظرت في ما قال فلم أجدني أذكر شيئاً في ذلك الموضع مما يشبه ما كنا فيه، فنغص عليّ يومي وما رأيت من حسنه وسروري بالمرتبة التي أهلني بها، وقلت: الخلفاء لا يعاملون بالكذب ولا يجوز أن يسألني عند انصرافي عن هذا الأمر فلا يكون له عندي جواب ولا حقيقة، وتخوفت أن ينالني منه مكروه، فلم أزل واجماً في طريقي إلى وقت انصرافه ثم أجمعت على مغالطته إن أمكنني وأعمل الحيلة في التخلص إن يسألني، فلما استقر في مجلسه وبسط السماط وجلس القوّاد على مراتبهم للطعام أقبلت أخدم وأختلف ليست لي همة غير ما كان قاله لي لا أغفل عن ذلك حتى انقضى أمر السماط ورفع الستر ونهض أمير المؤمنين ودخل الحجرة ومضى إلى المرقد، فلم ألبث أن جاء الخادم وقال لي: أجب أمير المؤمنين، فمضيت فلما دخلت ضحك إليّ وقال: يا حمدون رأيت؟ قلت: نعم يا سيدي قد رأيت، فالحمد لله الذي بلغ بي هذا اليوم وأرانيه فما رأيت ولاسمعت لأحد من الخلفاء والملوك بأجلّ منه ولا أبهى ولا أحسن، قال: ويحك رأيت إبراهيم بن المهدي؟ قلت: نعم يا سيدي، قال: رأيت سلامه عليّ وردّي عليه ونزوله إليّ؟ قلت: نعم، فقال: إنه لما كان من أمره ما كان، يعني الخلافة، قسم الطريق في يوم عيد من منزله إلى المصلّى كقسمتي إياه في هذا اليوم بين قواده، فوقع موضعي منه الموضع الذي كان به هذا اليوم، فلما حاذاني نزلت فسلّمت عليه فردّ عليّ مثل ما رددته حرفاً حرفاً على ما قال لي، قال: فدعوت له وانفرج عني ما كنت فيه وتخلّى عني الغمّ والكرب، ثم قال: يا حمدون إني لم آكل شيئاً وأنا أنتظر أن تأكل معي فامض إلى حجرة الندماء فإنك تجد إبراهيم هنالك فاجلس إليه وعابثه وضاحكه وأجر له هذا الحديث وقل له إنك رأيته في ذلك اليوم فعل بي فعلي به في هذا اليوم وانظر إلى وجهه وكلامه وما يكون منه فعرفنيه على حقيقته واصدقني عنه وعجّل ولا تحتبس، قلت: نعم يا سيدي، فمضيت وقد دُفعتُ إلى أغلظ مما كنت فيه لعلمي بأن إبراهيم لو كان من حجرٍ لأثر فيه هذا القول وتغيّر وظهر منه ما يكره، وخفت أن يكون يأتي بما يسفك به دمه فمضيت حتى دخلت الحجرة فجلست إلى إبراهيم وفعلت ما أمرني به وأنا مبادر خوفاً من خادم يلحقني أو رسول فلا يمكنني معه تحسين الأمر وما يظهر لي منه، فقلت لإبراهيم: كيف رأيت يا سيدي هذا اليوم، أما أعجبك حسنه وما كان من تعبية أمير المؤمنين؟ قال: بلى والله إنه أعجبني فالحمد لله الذي بلّغنيه وأرانيه، وأطنب في الدعاء للمعتصم، فلما أمسك قلت: يا سيدي أذكرك في أيامك وقد ركبت فعبّيت شبيهاً بهذه التعبية وقسمت الطريق مثل هذه القسمة فوقع لأمير المؤمنين الموضع الذي

وقع لك واجتزت به فنزل إليك وسلّم فرددت عليه كرده عليك في هذا اليوم، قال: فوالله إن كان إلا أن قلت حتى اربدّ لونه وجفّ ريقه واعتقل لسانه وبقي لا يتكلم بحرف ملياً، ثم قال بلسان ثقيل: لكأني في ذلك الموضع في ذلك اليوم، فالحمد لله للذي رأيته لأمير المؤمنين، فعل الله به وفعل، قال: فتغنّمت ذلك وقمت وأنا ألتفت ونهضت حتى أتيت المعتصم، فقال لي: هيه يا حمدون! فقلت: يا أمير المؤمنين أتيت إبراهيم وقلت له ما أمرتني به فأظهر سروراً ودعاء وقال كيت وكيت، فقال: والله قال بحياتي؟ قلت: وحياتك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف رأيت وجهه؟ فلم أدر ما أقول فقلت: يا أمير المؤمنين بالله لمّا تركتني من وجه عمّك الذي لا يتبين فيه فرح ولا حزن، فاستضحك ثم أمسك وتخلّص إبراهيم، ودعا بالطعام فأكلنا ثم رقد، فلما انتبه وجلس دعا بإبراهيم وسائر الندماء فشرب وبرّ إبراهيم وألطفه.قع لك واجتزت به فنزل إليك وسلّم فرددت عليه كرده عليك في هذا اليوم، قال: فوالله إن كان إلا أن قلت حتى اربدّ لونه وجفّ ريقه واعتقل لسانه وبقي لا يتكلم بحرف ملياً، ثم قال بلسان ثقيل: لكأني في ذلك الموضع في ذلك اليوم، فالحمد لله للذي رأيته لأمير المؤمنين، فعل الله به وفعل، قال: فتغنّمت ذلك وقمت وأنا ألتفت ونهضت حتى أتيت المعتصم، فقال لي: هيه يا حمدون! فقلت: يا أمير المؤمنين أتيت إبراهيم وقلت له ما أمرتني به فأظهر سروراً ودعاء وقال كيت وكيت، فقال: والله قال بحياتي؟ قلت: وحياتك يا أمير المؤمنين، قال: فكيف رأيت وجهه؟ فلم أدر ما أقول فقلت: يا أمير المؤمنين بالله لمّا تركتني من وجه عمّك الذي لا يتبين فيه فرح ولا حزن، فاستضحك ثم أمسك وتخلّص إبراهيم، ودعا بالطعام فأكلنا ثم رقد، فلما انتبه وجلس دعا بإبراهيم وسائر الندماء فشرب وبرّ إبراهيم وألطفه.

مساوئ التيقظ وتركه
قيل لبعض بني أمية: ما كان سبب زوال ملكهم؟ فقال: قلة التيقظ وشغلنا بلذّاتنا عن التفرغ لمهمّاتنا ووثقنا بكفاتنا فآثروا مُوافقهم علينا وظلم عمّالنا رعيتنا ففسدت نيّاتهم لنا وحُمل على أهل خراجنا فقلّ دخلنا وبطل عطاء جندنا فزالت طاعتهم لنا واستدعاهم أعداؤنا فأعانوهم علينا وقصدنا بّغاتنا فعجزنا عن دفعهم لقلة نصّارنا، وكان أول زوال ملكنا استتار الأخبار عنا فزال ملكنا عنّا بنا.
محاسن الرسل
يقال إن ملوك العجم كانت إذا احتاجت إلى أن تختار من رعيتها من تجعله رسولاً تمتحنه أولاً بأن توجهه إلى بعض خاصتها ثم تقدم عيناً على الرسول يحضر ما يؤدّيه من الرسالة ويكتب كلامه، فإذا رجع الرسول بالرسالة جاء العين بما كتب من ألفاظه وأجوبته فقابل بها الملك ألفاظ ذلك الرسول فإن اتفقت معانيها عرف بها الملك صحة عقله وصدق لهجته ثم جعله رسولاً إلى عدوه وجعل عليه عيناً يحفظ ألفاظه ويكتبها ثم يرفعها إلى الملك فإن اتفق كلام الرسول وكلام عين الملك وعلم أن رسوله قد صدقه عن عدوه ولم يزد عليه جعله رسولاً إلى ملوك الأمم ووثق به ثم بعد ذلك يقيم خبره مقام الحجة ويصدّق قوله.
وكان أردشير يقول: كم من دمٍ سفكه الرسول من غير حله ولا حقه وكم من جيوش قد قتلت وعساكر قد انتهكت ومال قد انتهب وعهد قد نقض بجناية الرسول وأكاذيبه، وكان يقول: على الملك إذا وجه رسولاً إلى ملك آخر أن يردفه بآخر وإن وجه رسولين أتبعهما بآخرين، وإن أمكنه أن لا يجمع بينهما في طريق ولا ملاقاة وألا يتعارفا فيتفقا ويتواطآ في شيء فعل، ثم عليه إن أتاه رسول بكتاب أو رسالة من ملك في خير أو شر أن لا يحدث حدثاً في ذلك حتى يكتب إليه مع رسول آخر ويحكي به كتابه الأول حرفاً حرفاً، فإن الرسول ربما خرم ما أُملي عليه وافتعل الكتب وحرّض المرسل على المرسَل إليه وأغراه به وكذب عليه، ومنها قال أبو الأسود وقد سمع رجلاً ينشد:
إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فقال: قد أساء القول، أيعلم الغيب؟ إذا لو يوصه كيف يعلم ما في نفسه؟ ألا قال:
إذا أرسلت في أمر رسولاً ... فأفهمه وأرسله أديبا
ولا تترك وصيته لشيءٍ ... وإن هو كان ذا عقل أريبا
وإن ضيعت ذاك فلا تلمه ... على أن لم يكن علِم الغيوبا

وقال يحيى بن خالد البرمكي: ثلاثة أشياء تدلّ على عقول الرجال: الهدية والرسول والكتاب.

مساوئ الرسول
وحكي عن الإسكندر أنه وجّه رسولاً إلى بعض ملوك المشرق فجاءه رسوله برسالة فشكّ في حرف منها فقال له الإسكندر: ويحك إن الملوك لا تخلو من مقوّم ومسدّد إذا مالت بطانتها وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ بيّنة العبارة غير أن فيها حرفاً ينقضها، أفعلى يقينٍ أنت من هذا الحرف أو أنت شاكّ فيه؟ فقال الرسول: بل على يقين، قال: فأمر الإسكندر أن تكتب ألفاظه حرفاً حرفاً وتعاد إلى الملك مع رسول آخر فيقرأ عليه ويترجم له، فلما قرأ الكتاب على الملك فمرّ بذلك الحرف أنكره فقال للمترجم: ضع يدي على هذا الحرف، فوضعها، فأمر أن يقطع ذلك الحرف بسكين، فقطع من الكتاب، وكتب إلى الإسكندر: رأس المملكة صحة فطنة الملك وأسّ الملك صدق لهجة رسوله إذ كان عن لسانه ينطق وإلى أذنه يؤدّي، وقد قطعت بسكيني ما لم يكن من كلامي إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلاً، فلما جاء الرسول بهذا إلى الإسكندر دعا الرسول الأول فقال: ما حملك على كلمةٍ أردت بها فساد ملكين؟ فأقر الرسول أن ذاك كان لتقصير رآه من الموجّه إليه، قال الإسكندر: فأراك سعيت لنفسك لا لنا فلما فاتك بعض ما أملت جعلت ذلك ناراً في الأنفس الخطيرة الرفيعة! ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه.
محاسن الحجاب
يقال إن ملوك العجم كانت تأخذ أبناءها بأن يعاملوها بما تعامل به عبيدها، وأن لا يدخل أحد من الولد عليها إلا عن إذنها، وأن يكون الحجاب عليهم أغلظ منهم على من دونهم من بطانتها وخدمها لئلا تحملهم الدّالة على تعدّي ميزان الحق، فإنه يقال إن يزدجرد رأى بهرام بموضع لم يكن له فقال له: مررت بالحاجب؟ قال: نعم، قال: وعلم بدخولك؟ قال: نعم، قال: فاخرج إليه فاضربه ثلاثين سوطاً ونحّه عن الستر ووكّل بالحجاب أزاذمرد، ففعل بهرام ذلك وهو إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة، ولم يعلم الحاجب فيم غضب عليه الملك، فلما جاء بهرام بعد ذلك ليدخل دفع أزاذمرد في صدره دفعة أوقذه منها وقال له: إن رأيتك بهذا الموضع ضربتك ستين سوطاً لجنايتك على الحاجب الأول وثلاثين لئلا تطمع في الجناية عليّ، فبلغ ذلك يزدجرد فدعا بازاذمرد فخلع عليه ووصله.
ويقال: إن يزيد بن معاوية كان بينه وبين أبيه باب، فكان إذا أراد الدخول عليه قال لبعض جواريه: انظري هل تحرك أمير المؤمنين، فجاءت الجارية حتى فتحت الباب ومعاوية قاعد في حجره مصحف وبين يديه جارية تصفّح عليه، فأخبرت يزيد بذلك، فجاء يزيد حتى دخل على معاوية، فقال: يا بني إنما جعلت بيني وبينك باباً كما بيني وبين العامة لتدخل عليّ وقت إذنك فهل ترى أحداً يدخل عليّ من ذلك الباب؟ قال: لا، قال: فكذلك إذنك.
وذكروا أن موسى الهادي دخل على المهدي وهو خليفة فزبره الحاجب وقال: إياك أن تعود إلى مثلها إلا بإذن أمير المؤمنين لخاصته.
وذكروا أن المأمون لما اشتد به الوجع سأل بعض بنيه الحاجب أن يدخله عليه ليراه، فقال: لا والله ما لي إلى ذلك سبيل ولكن إن شئت أن تراه من حيث لا يراك فاطّلع عليه من ثقب في ذلك الباب، فجاء حتى اطّلع عليه وتأمله وانصرف.
وحكي عن إيتاخ أنه بصر بالواثق في حياة المعتصم واقفاً في موضع لم يكن له أن يقرب منه ولا أن يقف به فزبره وقال: تنحّ فوالله لولا أني لم أتقدم إليك لضربتك مائة سوط.
وكانت الأعاجم تقول: ما شيء بأضيع للملكة ولا أضيع للرعية من صعوبة الحجاب، ولا شيء أهيب للرعية من سهولة الحجاب، لأن الرعية إذا وثقت من الوالي بسهولة الحجاب أحجمت عن الظلم، وإذا وثقت منه بصعوبة الحجاب هجمت على الظلم وركب القويّ منهم الضعيف، فخير خلال السلطان سهولة الحجاب.
قال: وقال خالد بن عبد الله القسريّ: لا يحجب الوالي إلا لثلاث خصال: إما رجل عيّ فهو يكره أن يعرف الناس منه ذلك، وإما رجل مشتمل على سوءة فهو يكره أن يطّلع الناس على ذلك فيه، وإما رجل يكره مسألة الناس إياه.
قيل: واستأذن أبو سفيان بن حرب على عثمان بن عفان، رحمه الله، فحجبه، فقيل له: حجبك أمير المؤمنين، فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء حجبني.

قال: وقال الرشيد لبشر بن ميمون لما ولاه الحجبة: يا بشر صن طلاقة اسمك بحسن فعلك واحجب عني من إذا قعد أطال وإذا طلب أجال فِكره، ولا تستخفنّ بذوي المروءة والحرمة فإنهم إن مدحوا تلبّوا وإن ذُمّوا أزالوا.
وذكروا عن الربيع الحاجب أن المنصور دعا محمد بن عيسى بن علي إلى الغذاء فقال: يا أمير المؤمنين قد أكلت، فلما خرج أخذه الربيع وحمله على ظهر رجل وضربه كما يضرب الصبيان، فظن أهل بيته أن المنصور أمره بذلك، فخرج يبكي إلى أبيه، فجاء أبوه عيسى بن علي فخلع سيفه بين يدي المنصور وصاح، فقال: ما أمرت بذلك ولم يفعل الربيع ذلك إلا لأمر، فلما سئل الربيع عن ذلك قال: أمرته أن يتغدّى معك فقال قد أكلت، وإنما دعوته لتشرّفه وترفع منه ولم تدعه لتشبعه، فأدّبته إذ لم يؤدّبه أبوه، فقال المنصور: أحسنت! قد علمت أنك لا تخطيء.
قال: وقال المهدي للفضل بن الربيع حين ولاه الحجبة: إني موليك ستر وجهي وكشفه فلا تجعل الستر بيني وبين الناس سبب إراقة دمائهم بعبوس وجهك في وجوههم فإن لهم دالة الحرمة وحرمة الاتصال وقدّم أبناء الدعوة وثنّ بالأولياء واجعل للعامة وقتاً إذا وصلوا أعجلهم ضيقه عن التلبث والتمكّث، وكان أول من حجبه الحسن بن عثمان ثم الفضل بن الربيع، وكان الهادي ولّى حجبته الفضل بن الربيع بعد الربيع وقال له: لا تحجب عني الناس فإن ذلك يزيل عني التزكية، ولا تلق إليّ أمراً إذا كشفته وجدته باطلاً فإن ذلك يوهن الملك ويضرّ بالرعية.
قيل: وقال الواثق لابن أبي دؤاد: من أولى الناس بالحجبة؟ فقال: مولّى شفيق يصون بطلاقة وجهه من ولاه ويستعبد الناس لمولاه، فنظر إلى إيتاخ وكان واقفاً على رأسه فقال: قد ولاّك أبو عبد الله الحجبة، فكان إيتاخ يعرف ذلك له ويتقدّم بين يديه إلى أن يبلغ مرتبته.
قال: وقال رجل لزياد: إن حاجبك إنما يبدأ بالإذن لمعارفه، فقال: قد أحسن، المعرفة تنفع عند الكلب العقور والأسد الهصور وبين لحيي البعير الصؤول، كن من معارفه، فقد قيل: التعارف نسب وقبّح الله معرفة لا تنفع.
وكان ليحيى بن خالد حاجبٌ قبل الوزارة، فلما صار إلى الوزارة رأى كأنه تثاقل عن حجابته فقيل له: لو اتخذت حاجباً غيره، قال: كلا، هذا يعرف إخواني القدماء، وقال الشاعر في مثله:
هشٌ إذا نزل الوفود ببابه ... سهلُ الحجاب مؤدِّب الخدّام
وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام
وقال خيط القنديل في محمد بن عبد الله بن طاهر:
يا أيها الملك المحجوب آمله ... وراء بابك همٌ غير مشترك
وكم أقول فلا يجدي فينجدني ... ولا أرى مدنياً من قبة الملك
وقد تحصّن مني في محصَّنةٍ ... خلقاء خلف وشيج السمر والحسك
أصبحت كالشمس لا تخفى على أحدٍ ... لكنّ مطلعها في سرّة الفلك
يا ليت ريح سليمانٍ مسخرةً ... إليه تحملني أو منكبي ملك
فلست دون أناسٍ كان سهمهم ... سهم النّجيح فنالوا غاية الدّرك
فإن ظُلمتُ ولم أُنصف فقد ظلمت ... بنت النبي كما قد قيل في فدك

مساوئ الحجبة

قال ثمامة: جلس المأمون يوماً وقد حضر الناس فأمر عليّ بن صالح بإدخال إسماعيل بن موسى فغلط وأدخل إسماعيل بن جعفر، وكان المأمون من أشدّ الناس له بغضاً فرفع يده إلى السماء فقال: اللهم ابدلني بعليّ بن صالح مطيعاً ناصحاً فإنه بصداقته لهذا آثر هواه على هواي، فلما دنا قبّل يده، فقال: هات حوائجك، فقال: ضيعتي بالفتنة قُهرتها وغُصبت عليها، فأمر بردها عليه ثم قال: اذكر حاجتك، فقال: دينٌ كثير قد لحقني في جفوة أمير المؤمنين إياي، فأمر بقضاء دينه، وقال: حاجتك؟ قال: يأذن لي أمير المؤمنين في الحج؟ قال: قد أذنّا لك، وحاجتك أيضاً؟ قال: وقف أبي كان في يدي فأُخرج عني، قال: يردّ عليك إن رضي ورثة أبيك، ثم قال: الذي أمكننا في أمرك قد جدنا به ووقف أبيك إلى ورثته، ثم قال لعلي بن صالح: يا عبد الله ما لي ولك! متى رأيتني أنشط لإسماعيل بن جعفر وهو صاحبي بالأمس بالبصرة؟ قال: يا أمير المؤمنين ذهب عني إسماعيل بن موسى، قال: ذهب عنك ما كان يجب عليك حفظه وحفظت ما كان يجب أن لا تحفظه، فأما إذ أخطأت فلا تُعلم إسماعيل بن جعفر القصة، فظن أنه عنى إسماعيل بن موسى فأخبر إسماعيل بن جعفر حرفاً حرفاً فأذاعها إسماعيل وبلغ المأمون فقال: الحمد لله الذي وهب لي هذه الأخلاق التي أحتمل عليها علي بن صالح وأبا عمران الطوسيّ وحميد بن عبد الحميد ومنصور بن النعمان.
وحدثنا مسعود بن بشر عن ابن داحة قال: خرج إلينا يعقوب بن داود من عند المهدي ونحن على بابه فقال: ما صدر هذا البيت:
ومحترسٍ من مثله وهو حارس
فإن أمير المؤمنين سأل عنه فلم يكن عند أحد منهم جواب. فقلت: أنا أخبرك، قال البردخت الشاعر، والبردخت الفارغ بالفارسية:
أقلي عليك يا اللوم يا أم مالك ... وذمي زماناً ساد فيه الفلافس
كساعٍ إلى السلطان ليس بناصح ... ومحترس من مثله وهو حارس
الفلافس من بني نهشل بن دارم كوفيّ وكان على شرطة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي، وقال الأشهب بن رميلة النهشلي:
يا حار يا ابن أبي ربيعة إنه ... يزني إذا اختلط الظلام ويشرب
جعل الفلافس حاجبين لبابه ... سبحان من جعل الفلافس يحجب
فدعا به الحارث وقال: قد علمت أنه كذّب عليك ولكن لا حاجة لي فيك فاخرج عني، وقال الشاعر في مثله:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه ... على ما أرى حتى تلين قليلا
إذا لم نجد للإذن عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
وقال آخر:
سأترك باباً أنت تملك إذنه ... وإن كنت أعمى عن جميع المسالك
فلولا كنت بوّاب الجنان تركتها ... وحوّلت رجلي مسرعاً نحو مالك
وكتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف:
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم
متى ينجح الغادي لديك بحاجةٍ ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
وكتب رجل إلى عبد الله بن طاهر:
إذا كان الجواد له حجابٌ ... فما فضل الجواد على البخيل
فأجابه:
إذا كان الجواد قليل مالٍ ... ولم يقدر تعلّل بالحجاب
وكتب عبد الله بن محمد بن أبي عيينة إلى صديق له:
أتيتك زائراً لقضاء حقٍّ ... فحال الستر دونك والحجاب
ولست بساقطٍ في قدر قومٍ ... وإن كرهوا كما يقع الذباب
وقال آخر:
وأحضر باب إبراهيم جهلاً ... بما فيه وأرشو الحاجبين
فأخرج إن خرجت بغير شيءٍ ... وأدخل إن دخلت بدرهمين
وقال آخر:
يدلّ على أنه كاتب ... سوادٌ بأظفاره راتب
فإن كان هذا دليلاً له ... فإسكافنا كاتبٌ حاسب
حجابٌ شديدٌ لأبوابه وليس لباب استه حاجب
وقال آخر:
لقلع ضرسٍ وضنك حبسٍ ... ونزع نفسٍ وردُّ أمس
وأكل كفٍّ وضيق خفٍّ ... وفقد إلفٍ وإلف فلس
وقود قردٍ ونسج بردٍ ... ودبغ جلدٍ بغير شمس
وشرب سمٍ وقتل عمٍ ... وكلُّ غمٍ ويوم نحس
ونفخ نارٍ وحمل عارٍ ... وبيع جارٍ بربع فلس

أيسر من وقفةٍ ببابٍ ... يلقاك بوّابه بعبس
وقال:
لما رأيتك ذاهباً ... ورأيتني أُجفى ببابك
عدّيت رأس مطيتي ... وحجبت نفسي عن حجابك
وقال آخر:
لئن كان التشرف في الحجاب ... لقد أصبحت في الشرف اللباب
لقد عاتبت نفسي في وقوفي ... فقلت لها: وقفت بأيّ باب
ببابٍ تُسلب الموتى عليه ... ويُستلب العراق من الكلاب؟
منصور بن باذان:
أما وزمر ابن شيبه ... وقبح لحية عقبه
كأنما شعر قردٍ ... ملصَّقٌ حول ذنبه
ووجهه حين يبدو ... كقبح أول شربه
لئن أطلت حجابي ... ما أنت إلا ابن قحبه
وكيف تبني المعالي ... يا نجل كلبٍ لكلبه
وهل يكون كريماً ... يا قوم حمّال قربه!
وله:
يا ذا الذي قصّر في مجده ... وزاد في عدّة حجّابه
أقسمت لا أقرب باب امريءٍ ... يحجبني البوّاب عن بابه
فأدخل الله رؤيس امريءٍ ... يحجب مثلي في است بوّابه
ولأبي عبد الله مريقة في علي بن أحمد المعروف بابن الحواري شاعر وكان حجبه فتعرض له وقد ركب فقال:
أسَلُ الذي صرف الأعنّ ... ة بالمواكب نحو بابك
وأراك نفسك دائماً ... ما لم يكن لك في حسابك
وأذل موقفي العزي ... ز عليّ في أقصى رجائك
ألا يطيل تجرّعي ... غصص المنية من حجابك

محاسن الولايات
قال إبراهيم بن السندي: بعث إليّ المأمون فأتيته فقال: يا إبراهيم إني أريدك لأمر جليل والله ما شاورت فيه أحداً ولا أشارك بك أحد، فاتق الله ولا تفضحني، فقلت: يا سيدي لو كنت شر خلق الله ما تركت موضع قادح فكيف ونيّتي في طاعة أمير المؤمنين نية العبد الذليل لمولاه؟ قال: قد رأيت أن أوليك خبر ما وراء باب داري فانظر أن تعمل بما يجب عليك لله جل وعز ولي ولا تراقب أحداً، فقلت: يا سيدي فإني أستعين بالله عز وجل على مرضاته ومرضاتك، فبعثت أصحاب الأخبار في الأرباع ببغداد فرفع إليّ بعضهم أن صاحب ربع الحوض أخذ امرأة مسلمة مع رجل نصراني من تجار الكَرخ فافتدى نفسه بألف دينار، فرفعت إليه ذلك فدعا عبد الله بن طاهر فقال له: انظر في هذا الذي رفعه إلي صاحب الخبر، فقرأه وقال: رفع يا أمير المؤمنين الباطل والزور وأغراه بي فعمل قوله فيّ وملأ قلبه، فبعث إلي وقال: يا إبراهيم ترفع إلي الكذب وتحملني على عمّالي؟ فكتبت رُقعَة دفعتها إلى فتحٍ الخادم ليوصلها إليه قلت فيها: إنّما يحضر الأخبار في الأرباع المرأة والطفل وابن السبيل وغير ذلك، ولو كانت الأخبار لاترفع إلا بشهود عدول ما صحّ خبرولا كتب به، ولكن مَجرَى الأخبار أن يحضرها قوم على غير توطّؤ، فإن أمرني أمير المؤمنين أن لا أكتب إليه بخبر إلاّ بعدول وبرهان فعلت ذلك، وعلى هذا فلا يرتفع في السنة خبر واحد. فلّما قرأ الرقعة فكّر فيها ليلته وجاءني رسولُه مع طلوع الشمس، فأتيتُه من باب الحمّام فلمّا رآني قال: اطمأنن. وقام فصلى ركعتين أطال فيهما ثم سلّم والتفت إليّ وليس في المجلس غيري فقال: يا إبراهيم إنما قمت للصلاة ليسكن بهرك ويقوى متنك ويُفرخ روعك فتمكن في قعودك، وكنت قاعداً على ركبتي، فقلت: لا أضع قدر الخلافة يا سيدي ولا أجلس إلا جلوس العبد بين يدي مولاه. ثم قام فصلى ركعتين دون الأوليين ثم قال: هذه رقعتك تحت رأسي قد قرأتها أربع مرات وقد صدقت في ما كتبت به ولكني امرؤٌ أداري عمّالي مداراة الخائف وبالله ما أجد إلى أن أحملهم على المحجّة البيضاء سبيلاً، فاعمل على حسب ذلك ولِن لهم تسلم منهم وفي حفظ الله إذا شئت. فانصرفت فدعوت أصحاب الأخبار فتقدمت إليهم في مداراة القوم والرفق بهم واللين لهم.

وعن إسحاق بن أيوب بن جعفر بن سليمان قال: دخل محمد بن واضح دار المأمون وخلفه أكثر من خمسمائة راكب كلهم راغبٌ إليه وراهب منه، وهو إذ ذاك يلي أعمالاً من أعمال السواد، فدعا به المأمون فقال: يا أمير المؤمنين اعفني من عمل كذا وكذا فإنه لا قوة لي عليه، فقال: قد أعفيتك، واستعفى من عمل آخر وهو يظن أنه لا يعفيه فأعفاه حتى خرج من كل عمل في يده في أقل من ساعة وهو قائم على رجله، فخرج وما في يده شيء من عمله، فقال المأمون لسلم الحوائجي: إذا خرج فانظر إلى موكبه واحص من معه، وكان المأمون قد رآه من مستشرف له حين أقبل، فخرج سالم وقد استفاض الخبر بعزله عن عمله فنظر فإذا لا يتّبعه إلا غلام له بغاشية، فرجع إلى المأمون فأخبره، فقال: ويلهم لو تجمّلوا له ريثما يرجع إلى بيته كما خرج منه! ثم تمثل فيهم:
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير ام عامر
ثم قال: صدق رسول الله وكان للصدق أهلاً حين قال: لا تنفع الصنيعة إلا عند ذي حسب أو دين.
وذكروا أنه كان سبب عزل الحجاج عن الحجاز أنه وفد وفد منهم فيهم عيسى بن طلحة بن عبيد الله على عبد الملك بن مروان فأثنوا على الحجاج وعيسى ساكت، فلما قاموا ثبت عيسى حتى خلا له وجه عبد الملك فقام وجلس بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين من أنا؟ قال: عيسى بن طلحة بن عبيد الله، قال: فمن أنت؟ قال: عبد الملك بن مروان، قال: أفجهلتنا أو تغيرت بعدنا؟ قال: وما ذاك؟ قال: ولّيت علينا الحجاج يسير فينا بالباطل ويحملنا على أن نثني عليه بغير الحق، والله لئن أعدته علينا لنعصينك، فإن قاتلتنا وغلبتنا وأسأت إلينا قطعت أرحامنا، ولئن قوينا عليك لنعصينك ملكك! قال: فانصرف والزم بيتك ولا تذكرنّ من هذا شيئاً، قال: فقدم إلى منزله وأصبح الحجاج غادياً على الوفد في منازلهم يجزيهم الخير، ثم أتى عيسى بن طلحة فقال: جزاك الله عن خلوتك بأمير المؤمنين خيراً فقد أبدلني بكم خيراً لي منكم وأبدلكم بي غيري وولاني العراق.
وعن الوضّاحيّ عن معمر بن وهيب قال: كان عبد الملك عندما استعفى أهل العراق من الحجاج بن يوسف قال لهم: اختاروا أي هذين شئتم يعني أخاه محمد بن مروان أو ابنه عبد الله مكان الحجاج، فكتب إليه الحجاج: يا أمير المؤمنين إن أهل العراق استعفوا من سعيد بن العاص إلى عثمان بن عفان فأعفاهم منه فساروا إليه من قابل فقتلوه، فقال عبد الملك: صدق ورب الكعبة، وكتب إلى محمد وعبد الله بالسمع والطاعة له.

مساوئ الولايات
قال: كتب عبد الصمد بن المعذّل إلى صديق له وليَ النفّاطات فأظهر تيهاً:
لعمري لقد أظهرت تيهاً كأنما ... توليت للفضل بن مروان منبرا
وما كنت أخشى لو وليت مكانه ... علي أبا العباس أن تتغيرا
بحفظ عيون النفط أحدثت نخوة ... فكيف به لو كان مسكاً وعنبرا
دع الكبر واستبق التواضع إنه ... قبيح بوالي النفط أن يتكبرا
قال: وسئل عمّار بن ياسر عن الولايات فقال: هي حلوة الرضاع مرة الفطام، ولابن المعتز في مثله:
كم تائهٍ بولاية ... وبعزله يعدو البريد
سكر الولاية طيبٌ ... وخمارها صفع شديد
ولغيره:
لا تجزعن فكلُّ وال يُعزل ... وكما عزلت فعن قريبٍ يعزل
إن الولاية لا تدوم لواحدٍ ... إن كنت تنكره فأين الأول
وكذا الزمان بما يسرك تارةً ... وبما يسوءك مرةً يتنقل
محاسن بُعد الهمة
قال: حدثّنا أحمد بن إسحاق التُستري قال: دخل أحمد بن أبي دؤاد على الواثق فقال له الواثق: بالله يا أبا عبد الله إني حنثت في يمين فما كفارتها؟ فقال: مائة ألف دينار، فقال ابن الزيات: والله ما سمعنا بهذا في الكفارات إنما قال الله جل وعز، وتلا الآية في كفارة الأيمان، فقال: تلك كفارة مثله في بعد همته وجلالة قدره أو مثل آبائه، إنما تكون كفارة اليمين على قدر جلال الله من قلب الحالف بها ولا نعلم أحداً الله جل وعز في قلبه أجل من أمير المؤمنين فقال الواثق: تحمل إلى أبي عبد الله يتصدق بها.

قال: ودعا يحيى بن خالد البرمكي ابنه إبراهيم يوماً وكان يسمى دينار بني برمك لجماله وحسنه ودعا بمؤدبه وبمن كان ضُم إليه من كتّابه، وأجابه، فقال: ما حال ابني هذا؟ قالوا : قد بلغ من الأدب كذا وكذا ونظر في كذا وكذا قال: ليس عن هذا سألت، قالوا: قد اتخذنا له من الضياع كذا وغلته كذا قال: ولا عن هذا سألت إنما سألت عن بعد همته وهل اتخذتم له في أعناق الرجال منناً وحبّبتموه إلى الناس؟ قالوا: لا قال: فبئس العشراء أنتم والأصحاب، هو والله إلى هذا أحوج منه إلى ما قلتم! ثم أمر بحمل خمس مائة ألف درهم إليه ففرقت على قوم لا يدري من هم.
قال: وقال المأمون لولده وعنده عمرو بن مسعدة ويحيى بن أكثم: اعتبروا في علوّ الهمة بمن ترون من وزرائي وخاصتي، إنهم والله ما بلغوا مراتبهم عندي إلابأنفسهم، إنه من تبع منكم صغار الأمور تبعه التصغير والتحقير وكان قليل ما يفتقد من كبارها أكثر من كثير ما يستدرك من الصغار، فترفعوا عن دناءة الهمة وتفرغوا لجلائل الأمور والتدبير واستكفوا الثقات وكونوا مثل كرام السباع التي لا تشتغل بصغار الطير والوحش بل بجليلها وكبارها، واعلموا أن أقدامكم إن لم تتقدم بكم فإن قائدكم لا يقدمكم ولا يغني الولي عنكم شيئاً ما لم تعطوه حقه، وأنشده:
نحن الذين إذا تخمّط عصبةٌ ... من معشرٍ كنا لها أنكالا
ونرى القروم مخافةً لقرومنا ... قبل اللقاء تقطِّر الأبوالا
نرد المنية لا نخاف ورودها ... تحت العجاجة والعيون تلالا
نعطي الجزيل فلا نمنّ عطاءنا ... قبل السؤال ونحمل الأثقالا
وإذا البلاد على الأنام تزلزلبت ... كنا لزلزلة البلاد جبالا
ولبعضهم في أبي دلف:
له هممٌ لامنتهى لكبارها ... وهمته الصغرى أجلُّ من الدهر
له راحةٌ لو أن معشار جودها ... على البرّ كان البر أندى من البحر
ولو أن خلق الله في مسك فارسٍ ... فبارزه كان الخليَّ من العمر
أبا دلفٍ بوركت في كل وجهةٍ ... كما بوركت في شهرها ليلة القدر
ولغيره:
لا تهدمن بنيان قومٍ وجدتهم ... بنوا لك بنياناً وكن أنت بانيا
وإن زهد الأقوام في طلب العلى ... فسام بكفّيك الندى والمعاليا
عبد الله بن طاهر:
فتىً خصه الله بالمكرمات ... فمازج منه الحيا والكرم
إذا همةٌ قصّرت عن يدٍ ... تناول بالمجد أعلى الهمم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليثني زوّاره عن نعم
بدا حين أثرى لإخوانه ... ففلّل عنهم شباة العدم
وذكّره الحزم غِبَّ الأمور ... فبادر قبل انتقال النّعم

قال: وحدّثنا بعض أهل ذي الرئاستين قال: كان ذو الرئاستين يبعث بي وبأحداث من أهل بيته إلى شيخ بخراسان ويقول: تعلموا منه الحكمة، فكنا نأتيه ونستفيد منه الآداب، فلما كان بعد ذلك قال لنا: أنتم أدباء وقد تعلمتم الحكمة ولكم نعمة فهل فيكم عاشق؟ فاستحيينا من قوله وسكتنا، فقال: اعشقوا فإن العشق يطلق لسان البليد ويسّخي البخيل ويشّجع الجبان ويبعث على التلطف وإظهار المروءة في المطعم والمشرب والملبس وغير ذلك، وانظروا أن تعشقوا أهل البيوتات والشرف. قال: فخرجنا من عنده وصرنا إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أفادنا فهبناه أن نخبره، فقال: تكلموا، فقلنا: تكلموا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا، فقال: صدق وبرّ، أتعلمون من أين قال لكم ذلك؟ قلنا: يخبرنا به الوزير، فقال: كان لبهرام جور ابنٌ قد رشحه للملك من بعده واعتمد عليه في حياته، وكان خامل المروءة ساقط الهمة فضم إليه عدة من المؤدبين والحكماء والعلماء ومن يتعلم الفروسية، فبينا بهرام في مجلسه إذ دخل عليه بعض أولئك المؤدبين المضمومين إلى ابنه، فسأله عن خبر ابنه وأين بلغ من الحكمة والأدب، فقال: أيها الملك قد كنت أرجو أن يتوجه أو يعي بعض ما ألّفته وأُلقيه إليه حتى حدث من أمره ما آيسني منه، قال: وما هو؟ قال: بصر بابنة فلان المرزبان فهويها فهو الآن يهذي بها ليله ونهاره، فقال: الآن رجوت فلاحه، اذهب فشجّعه بمراسلة المرأة وخوّفه بي، فذهب المؤدب فانتهى إلى ما أمره به، وبعث بهرام إلى أبي الجارية ودعاه فقال له: إني مزوج ابني ابنتك فأتها ومرها أن تراسل ابني وتطمعه في نفسها فإذا استحكم طمعه فيها ورجا الالتقاء تجنّت عليه وقالت: إني لا أصلح إلا لملك عظيم القدر بعيد الهمة حسن المودة أديب النفس شجاع البطش ولست كذلك ولا هناك، ثم عرّفني الكائن منك في ذلك. فمضى المرزبان إلى ابنته فأعلمها بذلك وبما قاله له الملك، فراسلت الفتى وأطمعته ثم قالت له ما أمرها به أبوها، فلما سمع الفتى ذلك أنف أنفاً شديداً وتقاصرت إليه نفسه فأقبل على تعلم الأدب والحكمة والفروسية حتى صار رأساً في ذلك، فلما بلغ الغاية التي لا بعدها رفع قصّته إلى أبيه يشكو تخلف حاله وقصور يده عما يشتهيه، فوقّع له أبوه بإزاحة علّته والتوسعة عليه، ثم بعث إلى المؤدب فدعاه فقال: قل لابني يرفع إليّ قصة يسألني فيها إنكاحه ابنة المرزبان، فقال له المؤدب ذلك فكتب قصة رفعها إلى الملك يسأله تزويجها منه وأن يصل جناحه بذلك وأنها ممن تصلح لمثله، فأمر الملك بإحضار المرزبان وسأله أن يزوج ابنته من ابنه ففعل، وجهّزها الملك بأجلّ ما يكون من الجهاز وقال لابنه: إذا أنت خلوت بها فلا تُحدثن شيئاً حتى آتيك، فلما كان ذلك الوقت دخل الملك على ابنه فقال: يا بني إياك وأن تصغر شأن هذه المرأة عندك فإنها من أعظم الناس منّة عليك، وإن الذي كان من مراسلتها إياك فإنما كان عن أمري وبإذني وتدبيري، فاعرف حقّها وحقّ أبيها وأحسن معاشرتها وبرّها، ثم خرج الملك وخلا الفتى بأهله، ثم قال ذو الرئاستين: سلوا الآن الشيخ عن السبب الذي حمله على ما أمركم به، قال: فسألناه فحدّثنا بحديث ذي الرئاستين.

مساوئ سقوط الهمة

قال: وكان القاسم بن الرشيد ساقط الهمة دني النفس، وكان المأمون على أن يعهد إليه ويؤكد له ما كان الرشيد جعله له من ولاية العهد، وكان لا يزال يبلغه عنه ما يكره مرة في نفسه وأخرى في حشمه، قال: فرفع إليه في الخبر يوماً أنه قال لقوّام حمّامه: نوّروا الناس بالمجان، ففعلوا ذلك فلم يبقَ محتاج إلا جاء يتنوّر، فلما علم أنهم كثروا أخرج عليهم الأسد من باب كان يدخل منه إلى الحمّام فخرج الناس عراةً مغمىً عليهم مع ما عليهم من النّورة هاربين من الأسد فصاروا إلى شارع قصره وقد أشرف عليهم وهو يضحك، فحدّثنا الحسن بن قريش قال: دعاني المأمون وقال: يا هذا ما لي ولهذا الفتى، إلى كم أحتمل منه هذا الأذى؟ قال: فقلت قوّمه يا أمير المؤمنين إن رأيت في ذلك صلاحاً، قال: نعم، فقلت: يا سيدي إنه عضوٌ منك وأنت أولى الناس بتقويمه، قال: فجعل ينهاه ويأبى لا ينتهين، فلما كثر هذا من فعله عزم على خلعه فكتب إلى هرثمة بن أعين في ذلك كتاباً نُسخته: أما بعد فإن أمير المؤمنين يستوفق الله جل وعز في جميع أموره ويستخيره فيها خاصّها وعامّها، لطيفها وجليلها، استخارة من يوقن أن البركة وخيرة البدء والعاقبة في قضائه وما يلهمه من إرشاد وتسديد رأي وإثبات صواب، وقد رأى أمير المؤمنين عندما استخار الله تبارك اسمه فيه من أمر القاسم بن الرشيد فيما كان إليه من ولاية العهد خلعه عن ذلك وصرفه عنه، فأظهر ذلك فيمن بحضرتك وأمُرْ بالكتاب إلى العمّال في نواحي عملك وثغورك وولاة الأمصار، فقد أمل أمير المؤمنين أن يكون ذلك توفيقاً من الله تبارك اسمه ورشداً ألهمه إياه إذ كان به توفيقه وعليه معوّله وإليه رجوعه فيما يبرم ويمضي، فامتثل ما حدّه لك أمير المؤمنين وانته إليه واكتب بما يكون منك فيه إن شاء الله.
قال: ونظر المأمون يوماً إلى ابنه العباس وأخيه المعتصم، فابنه العباس يتّخذ المصانع ويبني الضياع والمعتصم يتّخذ الرجال، فقال شعراً:
يبني الرجال وغيره يبني القرى ... شتان بين قرىً وبين رجال
قلقٌ بكثرة ماله وضياعه ... حتى يفرّقه على الأبطال
وأنشد في مثله:
لما رأيتك لا تجود بنائلٍ ... وتظنّ بالمعروف ظنَّ الساقط
ورأيت همّتك التي تعلو بها ... سوط الثريد وشمَّ ريح الغائط
وإذا تكلّف حاجةً ضيّعتها ... بتغافلٍ عنها كأنك واسطي
لا للمكارم تشرئبّ بنهضةٍ ... ولدى المكاره كالحمار الضارط
أيّست نفسي من رجائك دهرها ... ونقشت شبهك صورة في حائط
وقال آخر، سامحه الله عز وجل:
إذا أنت لا تُرجي لدفع ملمةٍ ... ولا أنت في المعروف عندك مطمه
ولا أنت ذو جاهٍ يعاش بجاهه ... ولا أنت يوم الحشر ممن يشفّع
فموتك في الدنيا وعيشك واحدٌ ... وعود خلالٍ من نوالك أنفع
ولآخر، سامحه الله وعفا عنه:
كلما قلت ويك للكلب إخسأ ... لحظتني عيناك لحظة تهمه
أتراني أظنّ أنك كلبٌ ... أنت عندي من أبعد الناس همّه

محاسن كرم الصحبة

قال ابن طاهر: حدثوني عن عبد الله بن مالك قال: كنت أتولى الشرطة للمهدي وكان يبعث إليّ في ندماء الهادي ومغنّيه أني أضربهم وأحبسهم صيانة له عنهم، فبعث الهادي يسألني الرفق بهم والترفيه عنهم، فلا ألتفتُ إلى ذلك وأمضي إلى ما يأمر به المهدي، فلما ولي الهادي الخلافة أيقنت بالتلف فبعث إليّ يوماً فدخلت عليه متكفّناً متحنّطاً، فإذا هو على كرسي والنطع والسيف بين يديه، فسلّمت فقال: لا سلم الله عليك! تذكر يوم بعثت إليك في أمر الحرّاني لما أمر أمير المؤمنين، رضي الله عنه، بضربه فلم تجبني في فلان وفي فلان، وجعل يعدّ ندماءه، ولم يلتفت إلى قولي؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، أفتأذن لي في استيفاء الحجة؟ قال: نعم، قلت: نشدتك الله يا أمير المؤمنين أيسرك أن ولّيتني ما ولاني أبوك وأمرتني بأمر فبعث إليّ بعض بنيك بأمر يخالف أمرك فاتبعت أمره وعصيت أمرك؟ قال: لا، قلت: فكذلك أنا لك وكذا لأبيك وأخيك. فاستدناني فقبّلت يده وأمر بخُلع فصبّت عليّ وقال: قد وليتك ما كنت تتولاه فامض راشداً. فخرجت من عنده وصرت إلى منزلي مفكراً في أمره وأمري وقلت حدثٌ والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه ووزراؤه وكتّابه فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب وقد أزالوه عن رأيه فيّ وحملوه في أمري ما كنت أتخوّفه، قال: فإني لجالس وبين يديّ بنيّة لي والكانون بين يدي ورقاق أشطره بكامخ وأسخنه وأطعمه الصبية حتى توهّمت أن الدنيا قد اقتلعت بي وزلزلت لوقع حوافر الدواب وكثرة الضوضاء فقلت: هاه كان والله ما ظننت! فإذا الباب قد فتح وإذا الخدم قد دخلوا وإذا أمير المؤمنين الهادي على حمار في وسطهم، فلما رأيتهم وثبت عن مجلسي مبادراً وقبّلت يده ورجله وحافر حماره، فقال: يا أبا عبد الله إني فكرت في أمرك فقلت يسبق إلى قلبك أني إذا شربت وجاءني أعداؤك أزالوا ما حسن من رأيي فيك فأقلقك وأوحشك فصرت إلى منزلك لأؤنسك وأعلمك أن السخيمة قد زالت عن قلبي فهات اطعمني ما كنت تأكل وافعل فيه ما كنت تفعل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك وأنست بمنزلك فيزول خوفك ووحشتك. فأدنيت إليه ذلك الرقاق والسُّكُرّجة التي فيها الكامخ فأكل منها ثم قال: هاتوا الزلة التي زللتها لأبي عبد الله من مجلسي، فأدخل إليّ أربعمائة بغل موقرة دراهم، فقال: هذه زلّتك فاستعن بها على أمرك واحفظ هذه البغال عندك فلعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري، وانصرف راجعاً. فأخبرني موسى بن عبد الله أن أباه أعطاه بستانه الذي كان وسط داره فبنى حوله معالف لتلك البغال وكان هو يتولى القيام عليها مدّة حياة الهادي.

وحدّث من حضر مجلس المأمون وقد أمر بإحضار العباس صاحب الشرطة ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فلما حضر قال: يا عباس خذ هذا إليك واستوثق منه ولا يفوتنك وبكّر به واحذر كل الحذر. قال العباس: فدعوت جماعة حملوه ولم يقدر يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يُحَبّ أن يكون معي إلا في بيتي، ثم سألته عن قصته وحاله من أين هو، فقال: من دمشق، فقال: جزى الله دمشق وأهلها خيراً، فمن أنت من أهلها؟ قال: لا تزيد أن تسألني، فقلت له: أتعرف فلاناً؟ فقال: ومن أين عرفت ذلك الرجل؟ فقلت: كانت لي قصة معه، فقال: ما أنا بمعرّفك خبره أو تعرّفني قصتك، فقلت: ويحك! كنت مع بعض الولاة بها فخرج علينا أهلها حتى أراد الوالي أن يُدلي في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وجميع أصحابه وهربت فيمن هرب، فإني لفي بعض الطريق إذا جماعة يعدون خلفي، فما زلت أحاضرهم حتى مررت على هذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت: أغثني أغاثك الله! فقال: لا بأس عليك ادخل الدار، فدخلت، فقالت لي امرأته: ادخل الحجلة، فدخلتها، وأتت الرجال خلفي فما شعرت إلا به وهم معه يقولون: هو والله عندك! فقال: دونكم الدار، ففتشوها حتى لم يبق إلا البيت الذي كنت فيه، فقالوا: هاهنا، فصاحت المرأة وانتهرتهم، فانصرفوا وخرج الرجل فجلس على باب داره ساعة وأنا قائم في الحجلة خائفاً، فقالت المرأة: اجلس لا بأس عليك، فجلست، فلم ألبث أن دخل الرجل وقال: لا تخف فقد صرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى، فقلت له: جزاك الله عني خيراً! ثم ما زال يعاشرني أحسن المعاشرة وأجملها ولا يفتر من القصف والأكل والشرب والفرح أربعة أشهر إلى أن سكنت الفتنة وهدأت، فقلت له: أتأذن لي في الخروج لأتعرف خبر غلماني ومنزلي فلعلي أن أقف لهم على أثر أو خبر، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا لا يعرفني ولا يعرف اسمي ولا مخاطبتي بغير الكنية، ثم قال لي: ما تعزم؟ فقلت: قد عزمت على الشخوص إلى بغداد فإن قافلة تخرج بعد ثلاثة أيام وقد تفضلت عليّ هذه المدة فأسألك أن تعطيني ما أنفقه في طريقي وما ألبسه، فقال: بصنع الله عز وجل، ثم قال لغلام له أسود: انعل الفرس الفلاني، وتقدم إلى من في منزله بإعداد السفر، فقلت في نفسي: ما أشك إلا أنه يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي، فوقعوا يومهم ذلك في تعبٍ وكدّ، فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحَر وقال: يا أبا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها، فقلت في نفسي: ما أعطاني شيئاً مما سألته، ثم قمت فإذا هو وامرأته يحملان إليّ خفاتين مقطوعة جدداً وراناتٍ وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدّم البغل فحمل عليه الصناديق وفوقها مفرشان ودفع إليّ نسخةً بما في الصناديق وفيها خمسة آلاف درهم وقدّم إلي الفرس الذي كان أنعله بسرجه ولجامه وقال لي: اركب وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس دوابك، وأقبل هو وامرأته يعتذران من تقصيرهما في أمري، وركب معي فشيعني، وانصرفت إلى بغداد وأنا على مكافأته ومجازاته فعاقنا عن ذلك ما نحن فيه من الشغل بالأسفار واتصالها والتنقل من مكان إلى مكان. فلما سمع الرجل الحديث قال: قد أتاك الله عز وجل بمن تريد مكافأته بلا مؤونة عليك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال: أنا والله ذلك الرجل! ثم قال لي: ما أثبتك! فتعرّف إليّ وأقبل يذكرني بأشياء يتعرف بها إليّ حتى أثبته وعرفته فما تمالكت أن قمت إليه فقبّلت رأسه وقلت له: ما الذي أصارك إلى هذا؟ فقال: هاجت فتنة بدمشق مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إليّ وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وحُملت إليه وأمري عنده غليظ جداً وهو قاتلي لا محالة، وقد خرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من عبيدي من ينصرف إلى منزلي بخبري وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تنعم وتبعث إليه حتى يحضر فأتقدّم إليه بما أريد، فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة لي. قال فقال العباس: بصنع الله، ثم قال: علي بحدّادين، فأتوا بهم، فحلّ قيوده وما كان عليه من أنواع الأنكال، ودعا بالحجام فأحضر وأخذ من شعره ثم قال: عليّ بمولاه، فأنفذ في طلبه من يحضره. قال الرجل: فلما أن أخذ شعري

أدخلني الحمام فطرح عليّ من ثيابه ما اكتفيت به ثم حضر مولاي وقعد يبكي، فقال العباس: عليّ بفرسي الفلاني والفرس الفلاني والبغل الفلاني، حتى عد عشراً، ثم قال: عليّ من الصناديق والكسوة بكذا ومن صناديق الطعام بكذا، ثم أمر لي ببدرةٍ فيها عشرة آلاف درهم وكيس فيه خمسة آلاف دينار وقال لصاحب شرطته: خذه واعبر به إلى جسر الأنبار، فقلت له: إن أمري غليظ وإن أنت احتججت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأُردّ وأُقتل، فقال: انج بنفسك ودعني أدبر أمري، فقلت: والله لا أبرح من بغداد أو أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت، فقال لصاحب الشرطة: إن كان الأمر على هذا فليكن في موضع كذا وكذا فإن سلمت في غداة غدٍ فسبيل المحبة وإن قتلت كنت قد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن تذهب من ماله شيئاً قيمته درهم وتخلّصه حتى تخرجه من بغداد.دخلني الحمام فطرح عليّ من ثيابه ما اكتفيت به ثم حضر مولاي وقعد يبكي، فقال العباس: عليّ بفرسي الفلاني والفرس الفلاني والبغل الفلاني، حتى عد عشراً، ثم قال: عليّ من الصناديق والكسوة بكذا ومن صناديق الطعام بكذا، ثم أمر لي ببدرةٍ فيها عشرة آلاف درهم وكيس فيه خمسة آلاف دينار وقال لصاحب شرطته: خذه واعبر به إلى جسر الأنبار، فقلت له: إن أمري غليظ وإن أنت احتججت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأُردّ وأُقتل، فقال: انج بنفسك ودعني أدبر أمري، فقلت: والله لا أبرح من بغداد أو أعلم ما يكون من خبرك، فإن احتجت إلى حضوري حضرت، فقال لصاحب الشرطة: إن كان الأمر على هذا فليكن في موضع كذا وكذا فإن سلمت في غداة غدٍ فسبيل المحبة وإن قتلت كنت قد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه، وأنشدك الله أن تذهب من ماله شيئاً قيمته درهم وتخلّصه حتى تخرجه من بغداد.
قال الرجل: فأخذني صاحب الشرطة فصيرني في مكان يثق به وتفرّغ العباس لنفسه واغتسل وتحنّط وتكفن. قال العباس: فلم أفرغ من ذلك حتى وافتني رسل المأمون في السحر وقالوا: أمير المؤمنين يقول هات الرجل، فسكتّ وأتيت الدار وإذا أمير المؤمنين جالس عليه ثيابه أمام فراشه، فقال: الرجل! فسكتّ، فقال: ويحك الرجل! فقلت: يا أمير المؤمنين اسمع مني، فقال: أعطي الله عهداً لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك! فقلت: لا والله ما هرب، فاسمع مني حديثي وحديثه ثم أنت أعلم بما تفعله في أمرنا، قال: قل، فقلت: يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كذا وكذا، وقصصت عليه القصة وعرّفته أني كنت أريد مكافأته فشغلت عن ذلك حتى إذا كان البارحة عرفته وعبرت به جسر الأنبار وقلت: أنا من سيدي أمير المؤمنين بين أمرين، إما تصفح عني وإما قتلني وأكون قد كافيته ووقيته بنفسي كما وقاني بنفسه. فلما سمع المأمون الحديث قال: ويحك! لا جزاك الله خيراً عن نفسك وعنا وعن هذا الفتى الحرّ، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافيه بعد المعرفة بهذا! لم لا عرّفتني خبره فكنت أكافيه عنك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنه والله هاهنا قد حلف أنه لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتيج إلى حضوره حضر، قال: وهذه والله منه أعظم من الأولى، فاذهب إليه الآن وطيّب نفسه وسكن روعه وتعبر به إليّ حتى أتولى مكافأته عنك. فصرت إليه وقلت: ليسكن روعك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت، فقال: الحمد لله الذي لا يحمد على السراء والضراء غيره، ثم تهيأ للصلاة فصلى ركعتين ثم جئنا فلما مثل بين يدي المأمون أدناه حتى أجلسه إلى جانبه وآنسه وحدّثه حتى حضر الغداء، ثم قال: الطعام، فأكل معه وخلع عليه وعرض عليه أعمال دمشق فاستعفاه، ثم قال المأمون: علي بعشرة أفراس بسروجها ولجمها وعشرة بغال بجميع آلتها وبعشر بدر وبعشر تخوت وعشرة مماليك بذواتهم وجميع آلتهم، فدُفع ذلك إليه، وكتب إلى عامله بالوصاية عليه وأوغر خراجه وكتب إلى صاحب البريد أن تنفذ كتبه وصرفه إلى بلده. قال العباس: فكان إذا ورد له كتاب في خريطة يقول لي المأمون: يا عباس هذا كتاب صديقك.

وحدّث رجل عن جعفر العطار قال: بينما يحيى بن أكثم يماشي المأمون في بستان موسى والشمس عن يمينه والمأمون في الظل وقد وضع يده على عاتق يحيى وهما يتحدثان إذ رأى المأمون أن يرجع في الطريق الذي جاء منه، فلما انتهى إلى الموضع الذي قصده قال يحيى: إنك جئت وعن يسارك الشمس وقد أخذت منك فكن أنت الآن في منصرفك حيث كنت وأكون أنا حيث كنت أنت، فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين لو أمكنني أن أقيك بنفسي من هول المطلع لفعلت فكيف لا أصبر على أذى الشمس ساعة؟ فقال: والله لا بدّ من أن آخذ منها كما أخذت منك وتأخذ من الظل كما أخذت منه! فصار المأمون في موضعه وصار يحيى في موضع المأمون وتماشيا وأخذ بيده فوضعها على عاتقه حتى صار إلى المجلس.
وحدّث رجل من آل اسوار بن ميمون عن عمه عبد الله بن اسوار قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي يوماً فقال: اجلس، وكنت أحد كتّابه فقلت: ليست معي دواة، فقال: ويحك! في الأرض صاحب صناعة تفارقه آلته؟ وأغلظ لي في حرف علمت أنه أراد به خطّي وأراني بعض التثاقل في الكتاب ظهر لي به أنه أراد خطي على الأدب لا غير، ثم دعا بدواة فكتبت بين يديه كتاباً منه إلى الفضل ابنه، ورأى مني بعض الضجر في ما كتبت فتوهّم أن ذلك من أجل الكلمة التي كلمني بها، فأراد أن يمحو عن قلبي ما توهّمه عليّ فقال: عليك دين؟ قلت: نعم، قال: من دينك؟ قلت: ثلاثمائة ألف درهم، فوقع بخطه إلى الفضل في الكتاب:
وكلُّكم قد نال شبعاً لبطنه ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
ثم قال: إن عبد الله ذكر أن عليه ديناً يخرجه منه ثلاثمائة ألف درهم فإذا نظرت في كتابي هذا وقبل أن تضعه من يدك فأقسمت عليك لمّا حملت ذلك إلى منزله من أخصّ مال قِبلك. قال: فحملها الفضل إليّ وما أعلم لها سبباً إلا تلك الكلمة.
وحدّث إبراهيم بن ميمون قال: حدثني جبريل بن بختيشوع قال: اشتريت ضيعة فنقدت بعض الثمن وتعذر عليّ بعضه فدخلت على يحيى وعنده ولده وأنا أفكّر فقال لي: ما لي أراك مفكراً؟ فقلت: أنا في خدمتك وقد اشتريت ضيعة بسبع مائة ألف درهم ونقدت بعض الثمن وتعذر عليّ بعضه.
فدعا بالدواة وكتب: يعطى جبريل سبع مائة ألف درهم. ثم دفع الكتاب إلى ولده فوقّع فيه كل واحد منهم بثلاثمائة ألف درهم، فقلت: جعلت فداك! قد أدّيت عامة الثمن وإنما بقي عليّ أقلّه، فقال: اصرف ذلك في بعض ما ينوبك. ثم صرت إلى الرشيد فقال: ما أبطأ بك؟ قلت: يا أمير المؤمنين كنت عند أبيك وإخوتك ففعلوا بي كذا وكذا، قال: فما حالي أنا؟ ثم دعا بدابته فركب إلى يحيى فقال له: يا أبت خبّرني جبريل بما كان فما حالي من بين ولدك؟ فقال: يا أمير المؤمنين مُر له بما شئت يحمل إليه، فأمر بحمل مال إلى جبريل.
وكان إبراهيم بن جبريل على شرطة الفضل فوجّهه إلى كابل فافتتحها وغنم غنائم كثيرة ثم ولاه سجستان، فلما انصرف منها كان عنده من مال الخراج أربعة آلاف ألف درهم، فلما قدم بغداد وبنى داره في البغويين استزار الفضل بن يحيى ليريه نعمته عليه وأعد الهدايا والطُّرف وآنية الذهب والفضة والوصفاء والوصائف والدواب والقباب والثياب وما تهيأ لمثله ووضع الأربعة الآلاف الألف الدرهم في ناحية من الدار، فلما تغدّى الفضل قدّم إليه تلك الهدايا، فأبى أن يقبل منها شيئاً وقال: لم آتك لأسلبك! فقال: أيها الأمير إنها نعمتك علي! قال: ولك عندنا مزيد. قال: فلم يزل يطلب إليه فأخذ من جميع ذلك سوطاً سِجزياً، فقال: هذا من آلة الفرسان، فقال إبراهيم: أيها الأمير فهذا المال من مال الخراج تأمر بقبضه؟ قال: هو لك، فأعاد عليه القول مراراً، فقال: ما لك بيتٌ يسعه، فوهب له المال بعد أن كان قد صار إليه ألف ألف درهم.

قال: ودخل قوم من حاشية المنصور وخدمه عليه فرأى منهم رجلاً عليه سوادٌ خلقٌ فقال له: يا فلان ما لي أرى سوادك منقطعاً، أما تقبض رزقك؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين ولكن أبي توفي وترك ديناً فبعت تركته في قضاء دينه وصرفت أكثر رزقي إلى حرمته وولده من بعده، فقال: أعد عليّ ما قلت، فأعاده، فقال: ما أحسن ما فعلت! اغد عليّ في غدٍ، فغدا عليه فوجد الربيع جالساً على الكرسي، فقال: قد سأل عنك أمير المؤمنين فادخل، فدخل فوجده قائماً يصلي، فقضى صلاته وقال: ألم آمرك أن تغدو؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما قصرت في الغدوّ عند نفسي، قال: خذ ما تحت تلك المُضَرّبة، وإذا السراج يزهر وسرير صغير في ناحية المجلس ينام عليه، فرفعت المضربة فإذا دنانير، فجعلت أحثوها في كمي ثم دعوت له هو وخرجت، فبصر بصفرة دينار في ضوء السراج، فدعا لي فقال لي: انظر ما على السرير، فإذا دينار فأخذته، فقال: ادن مني، فدنوت منه فعرك أذني تعريكاً شديداً فقال: تترك ديناراً وفيه نفقة يومك؟ قال: فأخذت الدينار، ووزنت الدنانير وإذا هي ألف دينار عددها تسعمائة وتسعة وتسعون ديناراً في عافية وأخذت واحداً بعرك الأذن.
قيل: وقال علقمة بن لبيد لابنه: يا بني إن نازعتك نفسك يوماً إلى صحبة الرجال لحاجتك إليهم فاصحب من إن صحبته زانك، وإن تخففت له صانك، وإذا نزلت بك نازلة مانك، وإن قلت صدّق قولك، وإن صلت به شدد صولك. اصحب من إذا مددت يدك لفضلٍ مدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن بدت منك ثلمة سدها. اصحب من لا تأتيك منه البوائق ولا تختلف عليك منه الطرائق ولا يخذلك عند الحقائق.
وقال بعض الحكماء: إذا رأيت كلباً ترك صاحبه وتبعك فارجمه بالحجارة فإنه تاركك كما ترك صاحبه.
وقال آخر: اصحب من خوّلك نفسه وملّكك خدمته وتخيّرك لزمانه فقد وجب عليك حقه وذمامه، وكان يقال من قبل: صلتك، فقد باعك مروءته وأذلّ لقدرك عزّه.
وقال بعضهم: أنا أطوع لك من اليد وأذل من النعل.
وقال بعضهم: أنا أطوع لك من الرداء وأذل من الحذاء.
قيل: وقال ابن أبي دؤاد لرجل انقطع إلى محمد بن عبد الملك الزيات: ما خبرك مع صاحبك؟ قال: لا يقصر في الإحسان إليّ، قال: يا هذا إن لسان حالك يكذّب لسان مقالك.
مساوئ الصحبة قال: كان يوسف بن عمر يتولى العراقين لهشام بن عبد الملك، وكان مذموماً في عمله فحدّث المدائني قال: وزن يوسف بن عمر درهماً فنقص حبة فكتب إلى دور الضرب بالعراق فضُرب أهلها مائة سوط.
قيل: وخطب في مسجد الكوفة فتكلم إنسان مجنون فقال: يا أهل الكوفة ألم أنهكم أن يدخل مجانينكم المسجد؟ اضربوا عنقه! فضربت عنقه.
قال: وقال لهمّام بن يحيى وكان عامله: يا فاسق أخربت مهرجانقذق! قال: إني لم أكن عليها إنما كنت على ماه دينار وتقول أخربت مهرجانقذق! فلم يزل يوسف يعذّبه حتى قتله.
قال وقال لكاتبه: ما حبسك عني؟ قال: اشتكيت ضرسي، قال: تشتكي ضرسك وتقعد عن الديوان؟ ودعا له بالحجام وأمره بقلع ضرسين من أضراسه.

وعن المدائني قال: حدثني رضيعٌ كان ليوسف بن عمر من بني عبس قال: كنت لا أحجب عنه وعن حرمته فدعا ذات يوم بجوار له ثلاث ودعا بخصيٍّ أسود يقال له حديج فقرّب إليه واحدةً فقال لها: إني أريد الشخوص أفأخلفك أم أشخصك معي؟ فقالت: صحبة الأمير أحبّ إليّ ولكني أحسب أن مقامي وتخلفي أعفى وأخفّ عليّ، قال: أحببت التخلف للفجور! اضرب يا حديج، فضربها حتى أوجعها، ثم أمره أن يأتيه بأخرى قد رأت ما لقيت صاحبتها، فقال لها: إني أريد الشخوص أفأخلّفك أم أخرجك؟ قالت: ما أعدل بصحبة الأمير شيئاً بل يخرجني، قال: أحببت الجماع ما تريدين أن يفوتك! اضرب يا حديج، فضربها حتى أوجعها، ثم أمر بالثالثة أن يأتيه بها وقد رأت ما لقيت المقدمتان، فقال لها: أريد الخروج أفأخلّفك أم أشخصك؟ قالت: الأمير أعرف أي الأمرين أخف عليه، قال: اختاري لنفسك، قالت: ما عندي لهذا اختيار فليختر الأمير، قال: قد فرغت أنا الآن من كل شيء ومن كل عمل ولم يبق عليّ إلا أن أختار لك! أوجع يا حديج، فضربها حتى أوجعها. قال الرجل: وكأنما يضربني من شدة غيظي عليه، فولّت الجارية وتبعها الخادم، فلما بعدت قالت: الخيرة والله في فراقك، ما تقرّ والله عين أحدٍ بصحبتك! فلم يفهم يوسف كلامها، فقال: ما تقول يا حديج؟ قال: قالت كذا وكذا، قال: يا ابن الخبيثة من أمرك أن تخبرني؟ يا غلام خذ السوط من يده وأوجع به رأسه! فما زال يضرب حتى اشتفيت.

محاسن السخاء
روي عن نافع قال: لقي يحيى بن زكرياء، عليه السلام، إبليس فقال له: أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك، قال: أحب الناس إليّ كل مؤمن بخيل وأبغض الناس إلي كل منافق سخي، قال: ولم ذاك؟ قال: لأن السخاء خلق الله الأعظم فأخشى أن يطلع عليه في بعض سخائه فيغفر له. وقال، صلى الله عليه وسلم: السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار، والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، ولجاهلٌ سخي أحب إلى الله تعالى من عابد بخيل، وأدوى الداء البخل.
وعن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ما أشرقت شمس إلا وبجنبتيها ملكان يناديان وإنهما ليعرّفان الخلائق إلا الثقلين الجن والإنس: اللهم عجّل لمنفقٍ خلفاً، اللهم عجل لممسكٍ تلفاً، وملكان يناديان: يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم فإن ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى.
وعن الشعبي قال: قالت أم البنين بنت عبد العزيز أخت عمر بن عبد العزيز: لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته، وكانت تعتق كل يوم رقبة وتحمل على فرس في سبيل الله، وكانت تقول: البخل كل البخل من بخل على نفسه بالجنة.
قيل: وأعتقت هند بنت المهلب في يوم واحد أربعين رقبة.
وروي عن أم ذر قالت: أرسل ابن الزبير إلى عائشة بثمانين ومائة ألف درهم فدعت بطبق وهي يومئذ صائمة فقسمته بين الناس حتى أمست وما عندها من جميع ذلك درهم واحد، فقالت: يا جارية هلمّي فطّريني، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها: يا عائشة أما استطعت مما قسمت أن تشتري لحماً بدرهم؟ فقالت: لا تغضبي فلو ذكرتني لفعلت، وقيل: إنها تصدّقت بسبعين ألف درهم وإن درعها لمرقّع.
وقال بعض الحكماء: ثواب الجود خلف ومحبة ومكافأة، وثواب البخل حرمان وإتلاف ومذمة.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا علي كن شجاعاً فإن الله جل وعز يحب الشجاع، يا علي كن سخياً فإن الله عز وجل يحب السخاء، يا علي كن غيوراً فإن الله عز وجل يحب الغيور، يا علي وإن سائل سألك حاجة ليس لها بأهل فكن أنت لها أهلاً.
وقال، صلى الله عليه وسلم: السخاء شجرة في الجنة، أغصانها في الدنيا من أخذ منها بغصن قاده ذلك الغصن إلى الجنة.
قيل: وقال عبد العزيز بن مروان: لو لم يدخل على البخلاء في بخلهم إلا سوء ظنهم بالله عز وجل لكان عظيماً.
وقال، صلى الله عليه وسلم: تجافوا عن ذنب السخي فإن الله جل وعز يأخذ بيده كلما عثر.
وقال بهرام جور: من أحب أن يعرف فضل الجود على سائر الأشياء فلينظر إلى ما جاد الله عز وجل به من المواهب الجليلة النفيسة والنسيم والريح وما وعدهم في الجنان فإنه لولا رضاه الجود لم يصطنعه لنفسه.

قال: وقال الموبذ لأبرويز: أكنتم أنتم وآباؤكم تمنّون بالمعروف وتترصدون عليه المكافأة؟ قال: لا، ولا نستحسن ذلك لخولنا وعبيدنا فكيف نرى ذلك لأنفسنا؟ وفي كتاب ديننا: إن من أظهر معروفاً خفياً ليتطاول به على المنعَم عليه فقد نبذ الدين وراء ظهره واستوجب أن لا يعد في الأبرار ولا يُذكر في الأتقياء والصالحين.
قال: وسُئل الإسكندر: ما أكثر ما سررت به من ملكك؟ قال: اقتداري على اصطناع الرجال والإحسان إليهم.
قال: وقال أرسطاطاليس في رسالة له إلى الإسكندر: اعلم أن الأيام تأتي على كل شيء فتخلق الآثار وتميت الأفعال إلا ما رسخ في قلوب الناس وأودع قلوبهم محبة بمآثره يبقى بها حسن ذكرك وكريم فعالك وشريف آثارك.
قيل: ولما قدم بزرجمهر إلى القتل قيل له: أنت في آخر وقت من أوقات الدنيا وأول وقت من أوقات الآخرة فتكلم بكلام تُذكر به، فقال: أي شيء أقول؟ الكلام كثير ولكن إن أمكنك أن تكون حديثاً حسناً فافعل.
قيل: وتنازع رجل من أبناء الأعاجم وأعرابي في الضيافة فقال الأعرابي: نحن أقرى للضيف، قال: وكيف ذلك؟ قال: لأن أحدنا ربما لم يملك إلا بعيراً فإذا حل به ضيف نحر له، قال العجمي: فنحن أحسن مذهباً في القرى منكم، قال: وما ذاك؟ قال: نسمي الضيف مِهمان، ومعناه أنه أكبر من في المنزل وأملكنا به.
قال بعض الحكماء: قام بالجود من قام بالمجهود.
وقيل: من لم يضنّ بالموجود هو الجواد.
وقال المأمون: الجود بذل الموجود، والبخل سوء الظن بالمعبود.
قيل: وشكا رجل إلى إياس بن معاوية كثرة ما يهب ويصل وينفق، فقال: إن النفقة داعية إلى الرزق، وكان جالساً بين بابين فقال للرجل: اغلق هذا الباب، فأغلقه، فقال: هل تدخل الريح البيت؟ قال: لا، قال: فافتحه، ففتحه، فجعلت الرياح تخترق في البيت، فقال: هكذا الرزق إنك إذا غلّقت الباب لم تدخل الريح وكذلك إذا أمسكت لم يأتك.
قيل: ووصل المأمون محمد بن عباد المهلبي بمائة ألف دينار ففرقها على إخوانه، فبلغ ذلك المأمون فقال: يا أبا عبد الله إن بيوت المال لا تقوم لهذا! فقال: يا أمير المؤمنين البخل بالموجود سوء الظن بالمعبود.
وعن أمية بن يزيد الأموي قال: كنا عند عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية فجاءه رجل من أهل بيته فسأله المعونة على تزويجٍ، فقال له قولاً ضعيفاً فيه وعد وقلة طمع، فلما قام من عنده ومضى دعا صاحب خزانته وقال: أعطه أربعمائة دينار، فاستكثرناها وقلنا: كنت رددت عليه رداً ظننا أنك تعطيه شيئاً قليلاً فإذا أنت قد أعطيته أكثر مما أمّل! فقال: إني أحب أن يكون فعلي أحسن من قولي.
وبحاتم يضرب المثل في السخاء، فحدثنا عن بعض رجالات طيء قال: كان حاتم جواداً شاعراً، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفّراً إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقدح سبق، وإذا أسر أطلق، وكان أقسم أن لا يقتل واحد أمه، ولما بلغ حاتماً قول التلمّس:
وأعلم علم حقٍ غير ظنٍ ... وتقوى الله من خير العتاد
لحفظ المال خيرٌ من بغاه ... وطوفٍ في البلاد بغير زاد
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير على الفساد
قال: ما له، قطع الله لسانه، حرّض الناس على البخل؟ أفلا قال:
فلا الجود يفني المال قبل فنائه ... ولا البخل في مال الشحيح يزيد
فلا تلتمس رزقاً بعيش مقتّرٍ ... لكل غدٍ رزقٌ يعود جديد
ألم تر أن الرزق غادٍ ورائحٌ ... وأن الذي يعطيك غير بعيد
قيل: ولما مات حاتم خرج رجل من بني أسد يعرف بالخيبري في نفرٍ من قومه وذلك قبل أن يعلم كثير من العرب بموته فأناخوا بقبره، فقال: والله لأحلفن للعرب أني نزلت بحاتم وسألته القرى فلم يفعل، وجعل يضرب برجله قبره وهو يقول:
أعجل أبا سفانةٍ قراكا ... فسوف أنبي سائلي ثناكا
فقال بعضهم: ما تنادي رمة! وباتوا مكانهم، فقام صاحب القول من نومه فزعاً فقال: يا قوم عليكم مطاياكم فإن حاتماً أنشدني:
أبا الخيبريّ وأنت امرؤٌ ... ظلوم العشيرة شتّامها
أتيت بصحبك تبغي القرى ... لدى حفرةٍ صخبٍ هامها
تبغي لي الذمّ عند المبيت ... وحولك غوثٌ وأنعامها

فإنا سنشبع أضيافنا ... ونأتي المطيَّ فنعتامها
قيل: ونزل على حاتم ضيف ولم يحضره قرىً فنحر ناقة الضيف وعشّاه وغدّاه ثم قال له: إنك أقرضتني ناقتك فغديتك بها فاحتكم عليّ، قال: راحلتين، قال: لك عشرون أرضيت؟ قال: نعم وفوق الرضى، قال: فلك أربعون، ثم قال لمن بحضرته من قومه: من أتانا بناقة فله ناقتان بعد الغارة، فأتوه بأربعين فدفعها إلى ضيفه.
وحكوا عن حاتم أنه خرج في الشهر الحرام يطلب حاجةً، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة أكلني الإسار، قال: ويلك والله ما أنا في بلادي وما معي شيء وقد أسأت أن توهمت بي! فذهب إلى العنزيّين فساومهم به واشتراه منهم وقال: خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداه، ففعلوا، فأتاهم بفدائه.
وقيل في المثل: هو أجود من كعب بن مامة، وكان من إياد، وبلغ من جوده أنه خرج في ركب وفيهم رجل من أهل النمر بن قاسط في شهر ناجرٍ، والنجر العطش، فضلوا وتصافنوا ماءهم فجعل النمري يشرب نصيبه فإذا أصاب كعباً نصيبه قال: اعط أخاك يصطبح، فيؤثره على نفسه، حتى أضر به العطش، فلما رأى ذلك استحث راحلته وبادر حتى رفعت له أعلام الماء وقيل له: رد كعب فإنك وارد، فغلبه العطش فمات ونجا رفيقه.
وقيل في المثل: هو أسمح من لافظة، وهي العنز تُستدعى للحلب فتجيء إليه وهي تلفظ بجرّتها فرحاً بالحلب، وقال الشاعر:
يداك يدٌ خيرها يرتجى ... وأخرى لأعدائها غائظه
فأما التي خيرها يرتجى ... فأجود جوداً من اللافظه
وأما التي شرها يتقى ... فنفس العدوّ بها فائظه
قيل: وخرج معاوية بن أبي سفيان ذات يوم فقام إليه رجل فقال: قد أمّلتك لمهمٍ فما عوضي من ذلك؟ قال: إبلاغك أمنيتك فتمنّ، قال: ألف دينار، قال: هي لك ومثلها استظهاراً لبقاء النعمة عليك.
وقال المهلب بن أبي صفرة لبنيه: يا بني إن ثيابكم على غيركم أحسن منها عليكم، ودوابكم تحت غيركم أحسن منها تحتكم، وكان يقول لولده: لا تتكلوا على ما سبق من فعلي وافعلوا ما ينسب إليّ، ثم قال متمثلاً:
إنما المجد ما بنى والد الصد ... ق وأحيا فعاله المولود
ويقول: ابتداء الفضل يدٌ موفورة والبذل بعد الطلب يدٌ مقبوضة.
فأما صلات الخلفاء وسخاؤهم فإنه حدثنا هارون بن محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي قال: حدثني علي بن صالح قال: كنت يوماً على رأس الهادي وأنا غلام وقد جفا المظالم ثلاثة أيام عاقر العقار فيها، فدخل عليه الحرانيّ فقال: يا أمير المؤمنين إن العامة لا تقاد، أو قال: لا تنقاد لما أنت عليه، لم تنظر في المظالم منذ ثلاثة أيام، فالتفت إليّ فقال: يا علي ائذن للناس عليّ بالجفلى لا بالنقرى، فخرجت من عنده وأنا أطير على وجهي لا أدري ما قال لي، فقلت: أرجع فأسأله عما قال فيقول تحجبني ولا تعلم كلامي؟ ثم أدركني ذهني فبعثت إلى أعرابي كان وفد علينا فسألته عن الجفلى والنقرى، فقال: الجفلى جفالة الرجال والنقرى ترتيبهم، فأمرت بالستور فرفعت وبالأبواب ففتحت فدخل الناس على بكرة أبيهم فلم يزل ينظر في المظالم إلى الليل، فلما تقوض المجلس قلت: يا أمير المؤمنين كلمتني بكلام لم أعرفه فبعثت إلى أعرابي كان عندي ففسره لي وفهمني فكافه عني يا أمير المؤمنين، فقال: نعم مائة ألف درهم تحمل إليه، فقلت: يا أمير المؤمنين أعرابي جلفٌ وفي عشرة آلاف درهم ما أغناه! فقال: ويحك أجود وتبخل؟

قال: وحدثنا عبد الله بن عمرو البلخي عن ابن دأب أنه كان يأكل مع الهادي وينادمه وكان يدعو له بتكاءٍ وما كان يفعل ذلك في مجلسه بغيره، وكان لذيذ المفاكهة طيب المسامرة كثير النادرة جيد الشعر حسن الانتزاع، قال: فأمر له ذات ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح وجّه قهرمانه إلى باب موسى وقال له: الق الحاجب فقل له يوجه إلينا بهذا المال، فلقي الحاجب فأتاه برسالته فتبسم وقال: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج إليك كتاباً إلى الديوان فتدبره ثم تفعل فيه كذا وكذا، فرجع إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها ولاتعرض لها، قال: فبينا موسى في مستشرف له إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد، فقال لإبراهيم الحراني: أما ترى ابن دأب ما غير من حاله شيئاً وقد بررناه بالأمس لنرى أثر ذلك عليه؟ فقال إبراهيم: إن أمرني أمير المؤمنين تعرضت له بشيء من أمره، قال: لا، هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب وأخذنا في حديثه إلى أن عرض له موسى بذكر ذلك فقال: أرى ثوبك غسيلاً وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الثوب الجديد اللين، فقال: يا أمير المؤمنين باعي قصير عما أحتاج إليه، قال: وكيف وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا أن فيه صلاح شأنك؟ قال: ما وصل إلي ولا قبضته، فدعا صاحب بيت مال الخاصة وقال: عجل له الساعة ثلاثين ألف دينار، فأُحضرت وجلعت بين يديه.
وقال الحسن بن يحيى بن عبد الخالق: حدثني محمد بن القاسم بن الربيع قال: أخبرني محمد بن عمرو الرومي قال: حدثني أبي قال: جلس الهادي مجلساً خاصاً فدعا بإبراهيم بن جعفر بن أبي جعفر وإبراهيم بن سلم بن قتيبة بن مسلم والحراني فجلسوا عن يساره ومعهم خادم للهادي أسود يقال له أسلم، إذ دخل صالح صاحب المصلى فقال هارون بن المهدي: ائذن له، فدخل وسلم عليه وقبل يده وجلس عن يمينه بعيداً، فأطرق موسى ثم التفت إليه وقال: يا هارون كأني بك تحدث نفسك بتمام الرؤيا وتؤمل ما أنت منه بعيد ودون ذلك خرط القتاد، تؤمل الخلافة! قال: فبرك هارون على ركبتيه وقال: يا موسى إنك إن تجبرت وُضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت خُتلت، وإني أرجو أن يفضي إليّ الأمر فأُنصف من ظلمت وأصل من قطعت وأصيّر أولادك أعلى من أولادي وأزوجهم بناتي وأبلغ ما يجب من حق الإمام المهدي، فقال له موسى: ذلك الظن بك يا أبا جعفر، ادن مني، فدنا وقبل يده ثم ذهب يعود إلى مجلسه، فقال: لا والشيخ الجليل والملك النبيل أعني أباك المنصور لا جلست إلا معي، فأجلسه في صدر المجلس معه ثم قال: يا حرانيّ احمل إلى أخي ألف ألف دينار وإذا افتتح الخراج فاحمل إليه النصف واعرض عليه ما في الخزانة اخاصة وسائر الخزائن من مالنا وما أخذ من أهل بيت اللعنة فيأخذ منه ما أراد، قال: ففعل ذلك، فلما قام قال لصالح: أدنِ دابته إلى البساط، قال عمرو الرومي: وكان هارون يأنس به، قلت: يا سيدي ما الرؤيا التي قال لك؟ قال المهدي: رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى قضيباً وإلى هارون قضيباً أورق من قضيب موسى وأعلى منه، فأما قضيب هارون فأورق من أوله إلى آخره وكان قضيب موسى دون قضيب ذلك، فدعا المهدي الحكم بن موسى العنزي وهو الذي بنى أبوه واسطاً للحجاج فقال له: عبّر هذه الرؤيا، قال: يملكان جميعاً فأما موسى فتقل أيامه وأما هارون فيبلغ مدى آخر ما عاش خليفة وتكون أيامه أحسن أيامٍ وأنضرها ودهره أحسن دهر، قال: فلم يلبث إلا أياماً يسيرة حتى مات موسى وتولى الأمر هارون فزوج حمدونة من جعفر بن موسى وفاطمة من إسماعيل ووفى بكل ما قال، فكان دهره أحسن الدهور.
حدثنا محمد بن علي بن الحسين العلوي قال: كنت عند عمر بن الفرج الرخجي في اليوم الذي عقد فيه المأمون لأخيه أبي إسحاق على ثغر المغرب ولابنه العباس على الشام والجزيرة ولعبد الله بن طاهر على الجند ومحاربة بابك وعند عمر جماعة من الهاشميين فتذاكرنا أمر هؤلاء الثلاثة فقال عمر: فرق أمير المؤمنين في هؤلاء الثلاثة ما لم يفرق مثله أحدٌ منذ كانت الدنيا، أمر لأخيه أبي إسحاق بخمس مائة ألف دينار ولابنه العباس بخمس مائة ألف دينار ولعبد الله بن طاهر بخمس مائة ألف دينار، فمن سخت نفسه بمثل هذا؟

وكان للبرامكة في هذا الشأن ما لم يكن لأحد من الناس منها، إنهم كانوا يخرجون بالليل سراً ومعهم الأموال يتصدقون بها، وربما دقوا على الناس أبوابهم فيدفعون إليهم الصرة فيها الثلاثة الآلاف إلى الخمسة الآلاف والأكثر من ذلك والأقل، وربما طرحوا ما معهم في عتب الأبواب، فكان الناس لاعتيادهم ذلك يعدون إلى العتب إذا أصبحوا يطلبون ما ألقي فيها.
ومنهم خالد بن برمك فإنه حدثنا يوسف بن سلام الزعفراني قال: حدثني أبي قال: قال خالد بن برمك يوماً وهو بالري وأراد الخروج إلى مجلس له وإخراج دوابه إلى الخضرة ونحن قيام بين يديه: من يخرج مع هذه الدواب؟ قال أبي: أنا، وليس أحد يجتريء أن يتكلم، فقال: اخرج معها، فخرجت وكنت أحسن إليها، فلما رددتها حمد أثري فيها، فقلت: أيها الأمير لي حاجة، فقال: وما حاجتك؟ قلت: ثلاثة آلاف درهم، قال: ثلاثة آلاف درهم؟ قلت: نعم، قال: اعطوها ثلاثة آلاف درهم، وقال لي: اشترها الآن واعتقها، ثم قال: ما تريد؟ قلت: الحج أحج وتحج هي أيضاً، قال: اعطوه ثلاثة آلاف درهم، قلت: نحتاج إلى خادم يخدمنا، قال: اعطوه ثلاثة آلاف درهم لثمن الخادم، قلت: نحتاج إلى ثمن كسوة، قال: اعطوه ثلاثة آلاف درهم لكسوتهم، فلم أزل أقول وأعد شيئاً شيئاً حتى قلت: وأحتاج إلى منزل وأحتاج إلى فرس، وهو يقول اعطوه ثلاثة آلاف درهم، حتى أخذت ثلاثين ألف درهم.
قال: وحدثنا يزيد البرمكي قال: كسا خالد كل ثوب كان له حتى لم يبق عليه من كسوته إلا طيلسان خلق، فاتصل خبره في كسوته بامرأته أم خالد بنت يزيد وكانت بالري فبعثت إليه بكسوة من الري طيلسان مطبق لم أر مثله جودةً وحسناً وسعة، وكان خالد ذا بسطة في الجسم فكان يحتاج إلى أسبغ ثوب وأتمه، فوضع بين يديه فنظر إليه ثم رفع رأسه إلي فقال: يا يزيد كيف ترى هذا الطيلسان؟ قلت: ما رأيت مثله وإن بالأمير إليه لحاجة، قال خالد: اصنع به ماذا شئت، قلت: تلبسه أيها الأمير، قال: أنا والله إلى غير هذا أحوج، قلت: وما هو؟ قال: أن تقوم الساعة على شريف من أشراف الناس أو حرّ من أحرارهم فتتحفه به فيقوم فيلبسه كل يوم عيد أو يخرج إذا خرج نحو أهله فيلبسه عند قدومه عليهم فيقول هذا كسوة خالد، هذا والله أفضل وأشرف من لبسي إياه، قال: فكساه بعض عفاته.
يحيى بن خالد فإنه حدثنا علي بن الحسين الأشقر عن عبد الله بن أسوار قال: كنت أخط بين يدي يحيى وكان خطي يعجبه، فبينا أنا جالس بين يديه إذ ناوله رجل كتاباً فثنى أعلاه وجعل يقرؤه، فدخل الفضل ابنه فسلم وجلس ثم أقبل على رجل يحدثه وطرف يحيى في الكتاب الذي بيده، فقال الفضل لذلك الرجل: إني لأعجب كثيراً من أمر نحن فيه! كان الرجل يصل الرجل بخمسين ألف درهم فتغنيه وعشيرته فيكتفون بها ونرى ذلك في وجوههم ويتبين عليهم أثره ونحن نصل الرجل بالخمس المائة الألف الدرهم والأكثر فلا نرى ذلك في وجوههم! فالتفت إليه يحيى وقطع قراءة الكتاب فقال: يا أبا العباس إذا كان أمل الرجل ألف ألف درهم وأعطيته خمس مائة ألف لم تقع منه موقعاً وإنما يرى في وجه الرجل ما بلغ به الأمل، فعجب أهل المجلس من كرمه وقوله وما زالوا يحكونه عنه.
وحدّث ابن مزروع عن أبيه قال: كنت أسير في موكب يحيى بن خالد فعرض له رجل من العامة ومعه كتاب فقال: أصلح الله الأمير، اختم هذا الكتاب، فبادر إليه الشاكرية يزجرونه من حواشي موكبه، فقال: دعوه قبل أن لا تنتفع به، يعني خاتمه، واستدناه فختمه له، وتعجب مسايروه من اغتنامه المعروف وعمله بأفعال الرجال.

وحدّث صالح بن سليمان قال: وذكر ليحيى وهو مجاور بمكة أن بجدّة قوماً يصيدون السمك ويبيعونه ويشترون طعامهم به فإن لم يجدوا صيداً مكثوا أياماً لا يأكلون يشدّ الرجل على بطنه حجراً ولا يسألون الناس شيئاً وربما مات أحدهم جوعاً، فقال: هؤلاء أعجب قوم سمعت بهم، ينبغي أن نلتمس الثواب فيهم، فبعث فحُمل إليه بعضهم فسأله عن حالهم فأخبره فقال: وكم أنتم؟ فذكر عدة، فقال: وكلكم على هذه الطريقة؟ قال: نعم، قال: فما يغنيكم؟ قال: تحفر لنا بركة يجتمع فيه ماء السماء فإن الماء يعز بالبلاد إلا على من كانت له مصنعة فيشرب منها ويبيع فضلها وينتفع بثمنه، قال: فبكم يكتفي أحدكم في الشهر؟ قال: بأربعة دراهم لكل رجل وللمرأة ستة دراهم، قال: فإني قد أجريت لكل رجل عشرة دراهم ولكل امرأة ثمانية عشر درهماً، فهل تتزوجون؟ قال: نعم، قال: فكم مهور نسائكم؟ قال: أربع مائة درهم، قال: فإني آمر بإعطائكم ما أجريت عليكم لسبع سنين ولمهور نسائكم عشرين ألف درهم، قال: من يدفع هذا المال إلينا؟ فأشار إلى غلام أمرد معه فقال: ادفع إلى هذا المال، فدفع إليه، فقال: أتأذن أن أشتري، أصلحك الله، من هذا المال تابوتاً أجعله فيه؟ قال: نعم، وأمر باتخاذ بركة لهم بلغت النفقة عليها عشرين ألف درهم.
وحدثنا يزيد البرمكي قال: قدم الوافدي من المدينة بأسوإ حال فصار إلى يحيى وهو لا يعرفه فوضع الطويلة على رأسه، فركب يحيى وخرج فرآه جالساً على باب داره في زي القضاة، فقام الواقدي وأثنى عليه ودعا له، ومر يحيى في موكبه إلى دار أمير المؤمنين ثم انصرف وإذا الواقدي في مجلسه ذلك، فقام إليه ودعا له وأثنى عليه، فدخل منزله وجلس الواقدي، فسأل يحيى عنه وقال: من هذا الشيخ الرثّ الهيأة؟ فلم يعرفه أحد. فقال: ويحكم لا أشك إلا أنه شيخ أصيل معه علمٌ وفقه، ودعا بكيس فيه أربعة آلاف دينار وأمر وكيلاً له أن يدفعها إليه، وكان قصارى الواقدي ومناه أن يصله بألف درهم، فخرج الرسول ووضع الكيس في حجره، فلما رأى عظم الكيس أقبل يدعو ليحيى ويثني عليه ثم قام وانصرف إلى منزله وقد أخذته الرعدة والحرص أن يرى ما في الكيس فيعرف منتهاه، فلما صار إلى حجرته استعار من بعض جيرانه ميزاناً وصنجات ثم فتح الكيس وإذا أربعة آلاف دينار فكاد أن يغشى عليه من السرور، فرمّ من حاله واتخذ ثياباً سويةً وعمد على أن ينصرف إلى المدينة.
فلما كان من الغد بكّر على يحيى ليودعه فدخل وأنشد فرآه عالماً فقيهاً مسامراً بليغاً فأعجب به، فقام ليودعه فقال: أقم عندنا ولك في كل حول هذا المقدار، فأقام عنده.

وحدثنا يعقوب بن إسحاق قال: رأى رجل من الموالي ليحيى رؤيا، وكان يحيى على حال الخوف والوجل من الهادي، فقص الرؤيا على أبيه، فقال: يا بني هذه والله رؤيا عجيبة وأخلق به لأن الرشيد في حجره وولاية العهد له، قال: يا أبت أفترى أن أخبره بها؟ قال: يا بني لا تفعل فإن السلطان غليظ عليه وهو يرميه بالزندقة وأنا أشفق عليه من إتيانه لأنه لا يقبل مثل هذا في هذا الوقت، فعصى الرجل أباه وأتاه، قال الرجل: فلما دخلت عليه رأيت المصحف بين يديه يقرأ فيه فعجبت مما قيل فيه، فلما خف من عنده دنوت منه فقصصت عليه الرؤيا، فقال: يا ابن أخي ما أحسن بالرجل أن يلتمس الرزق بالأحسن الأجمل وأقبح به أن يلتمسه على هذا وربما تذكره مما يشبهه! فخرجت من عنده وقد سقط وجهي، فأتيت أبي فأعلمته، فقال: بُعداً لك وسحقاً! قد نصحت لك فلم تقبل، ثم أقبل يشتمه وتشتمه أمه وأهله ويقولون: نشهد عليك أنك من الزنادقة المعطلين! قال: ثم لم يلبث أن توفي الهادي وأفضى الأمر إلى الرشيد وصار يحيى إلى ما صار إليه، فبينا هو في موكبه يوماً إذ بصر بي فوجه إليّ ودعاني، فدخلت عليه وهو على كرسي قد طرح ثوبه وجعل يمسح وجهه، فلما دنوت منه قال: أين كنت عنا؟ قلت: أعزك الله، والله ما لقيت منك ما يدعو إلى إتيانك! قال: ويحك إنك أتيتنا ونحن في حال كنا نتخوف الجدُر أن يكون فيها من يسعى بنا والإخوان أن يسعوا بنا ويحتالوا علينا، ولم يكن الرأي أن أجيبك إلا بما أجبتك، ووالله ما فارقني الفكر في العناية بك والإيجاب لك والمعرفة بحقك منذ وقعت عليك عيني. ثم أمر سلاماً بإحضار عشرة آلاف درهم فأُحضرت، وأمر بالكتاب إلى سليمان بن راشد بأرمينية فدفع المال إليّ وحملني وخلع عليّ وقال: اذهب فاصلح شأنك وتعال فتسلم كتبك، وأمر لي بعشر من دواب البريد، فانصرفت إلى منزلي وتحتي دابة وعلي خلعة ومعي عشرة آلاف درهم، فقال أبي: ما هذا يا بني؟ فأعلمته الخبر، فما زلت وأهلي وأبي ندعو له ونشهد أنه من الصديقين والشهداء والصالحين، فقلت لبعض جيراننا: ما أصنع بعشر دواب البريد؟ فقال: أكرِها فإنك تصيب في السكك من تقصر به دابته عن حاجته فيكتري منك، قال: فلما كان من الغد عدت إليه فأخذت كتبي وجوازي، فلما صرت إلى السكة وجدت رجلاً كبيراً قد وجّه إلى تلك الناحية ولم يكتف بما حمل عليه من الدواب، فأكريت منه ثماني دواب وخرجت على دابتين، أنا على دابة وغلامي على أخرى، ولم أزل في حشم المكتري حتى صرنا إلى أول العمل فإذا يحيى قد سبقني بالكتاب إلى سليمان أن رجلاً من حاله كيت وكيت وله عندي أيادٍ فاخترتك له فكن عند ظني بك في أمره وافعل به وافعل، قال: فوجه سليمان قائداً في جند عظيم لاستقبالي حتى إذا اتصل به دنوّي استقبلني في وجوه أهل البلد، فلما دنا منا بادر إلى الرجل المكتري مني ولم يشكّ أني هو وسأله، فأعلمه المكتري أنه فلان بن فلان، فقال سليمان: توهمتك فلاناً! قال: لست هو لكنه ذاك، وأشار إليّ، فأقبل سليمان ركضاً إليّ وتضاءلت منه حياء لرثاثة حالي، فسألني وأعلمني أنه وجه إليّ وكيله وحمل معه هدايا، فقلت: ما وصل ذلك إليّ، فلما نزلنا وحططنا في بعض تلك المنازل إذا وكيله قد وافى بهداياه وإذا دواب وبغال موقرة وتخوت وثياب، فدخلت البلد وقد حسنت حالي ووكّد عليّ في كتابه وليس عندي إلا إطلاق العمل لك، وهاهنا نشوى الكبرى ونشوى الصغرى وهما من أجلّ الأعمال بأرمينية ونواحيها وإن شئت أن تخرج إليها فاخرج وإن شئت فهاهنا من يبذل عنهما خمس مائة ألف درهم، قلت: لا والله أبقاك الله إلا الخمس المائة الألف عجّلها لي فأنصرف إلى أب شيخ كبير وعيال قد خلّفتهم ورائي، قال سليمان: ذاك إليك، فلما خرج سليمان سألت عن نشوى ونشوى قال فقيل مقاطعتهما خمس مائة ألف درهم ويصير إلى المقاطع مثلها، ثم لم ألبث من الغد أن أتى رسوله بالمال فخرجت وأهديت إلى يحيى هدايا كثيرة وألطافاً جليلة مما كان برّني به سليمان، فلما دخلت إليه تبسم لي وقال: إنا لم نوجهك لننتفع بك وإنما وجّهناك لتنتفع بنا وسيتصل معروفنا إليك فالزمنا، فكسبت تجاهه مع ما وصل إليّ منه ولم يزل يصلني به عشرين ألف ألف درهم.

وحدثني أيوب بن هارون بن سليمان بن علي قال: جاء يحيى ومعه ابنه جعفر إلى عبد الصمد بن علي فسلم عليه وببابه فتىً من ولد عبد الله بن علي فقام إلى جعفر فقبل يده، فقال له: ائتني وارفع إليّ حوائجك إلى أمير المؤمنين وقد أمرت لك بخمسة آلاف دينار، فقال يحيى: وقد أمرت لك بمثلها وأجريت عليك ثلاثة آلاف درهم في كل شهر فابعث بمن يقبض ذلك. فلما انصرف دعاه عبد الصمد فقال: لم فعلت ما فعلت؟ فقال: أنا ابن أخيك وإنما تصلني في السنة بأربعة آلاف درهم، وقد أغناني هذا وأبوه في ساعة واحدة فكيف تلومني على ذلك؟ وحدّث يحيى بن محمد قال: لما خرج الرشيد إلى القاطول قال ليحيى: يا أبت لا تفجعني بك وكن معي في هذا الوجه لآنس بك، فعمد على الشخوص معه، فقال لرجاء بن عبد العزيز وكان على نفقاته: كم عند وكلائنا من المال؟ قال: سبع مائة ألف درهم، قال: فاقبضها إليك، فغدا إليه فقبّل يده ومنصور بن زياد عنده، فلما خرج رجاء قال لمنصور: قد ظننت أن رجاء توّهم أنا وهبنا له هذا المال وإنما أمرناه بقبضه ليكون معنا في هذا الوجه، فقال منصور: فأنا أعلمه ذلك، قال إذن يقول: فقل له يقبل يدي كما قبلت يده، فلا تقل له شيئاً، وترك المال له. وكان يحيى يقول: اسرف فإن الشرف في السرَف.
ومنهم الفضل بن يحيى البرمكي، فإنه حدثنا محمد بن علي بن عيسى بن ماهان عن محمد بن زيد أنه قال: دخلت على الفضل بن يحيى وقد خرج من الحمّام بعد العصر وهو يقول: أعوذ بالله من النار! فقلت: جعلت فداك! اشتر هذا الوجه الحسن من النار. فدعا بخمس مائة ألف درهم وقال: اشتر بها وجهي الساعة، فقلت: جعلت فداك! الوقت ضيق ولكن غداً إن شاء الله، فقال: لا والله إلا الساعة، فوجهت إلى القضاة في الجانبين بثلاثمائة ألف درهم وحملت إلى أبي محمد السمرقندي منها صدراً وأمرتهم عنه بتفريقه وفرقت البقية بحضرتي، فلم تغب الشمس حتى فرّق ذلك كله.
وحدّث محمد بن الحسين بن مصعب قال: وقف الفضل بن يحيى بخراسان موقفاً لم يقفه أحد قط، خرج إلى الميدان ليضرب بالصوالج فأمر بدفاتر البقايا التي على الناس فأحضرت وأمر الحاجب بالخروج إلى الناس وإعلامهم أنه قد وهبها لهم ثم أمر بها فضربت بالنار، وكان مبلغ ذلك أكثر من عشرين ألف ألف درهم.
وحدث بعض الهاشميين عن خلف المصري قال: مررت يوماً بباب يحيى بن معاذ فوجدته مغلقاً ولم أر بالباب أحداً، فأنكرت ذلك، فدنوت إلى الباب واستفتحت ففتح لي ودخلت عليه وسألته عن حاله فذكر أنه توراى عن غرمائه، فقلت: وكم لديّانك عليك؟ فقال: ثلاثمائة ألف درهم، ثم مضيت إلى الفضل بن يحيى فأخبرته فسكت، فلما انصرف إلى منزلي كتب إلي: إنك دللتنا على مكرمة فشكرناك على ذلك وأمرنا لك بمائة ألف درهم لدلالتك وبعثنا إليك بثلاثمائة ألف درهم لتوصلها إلى يحيى بن معاذ، فأوصلتها إليه فقضى دينه بها.
قيل: ودفع حمزة بن جعفر بن سليمان إلى أبي النضير الشاعر رقعةً ليوصلها إلى الفضل يسأله فيها الإذن في ابتياع ضيعة بفارس، وكان مبلغ ما يوزن في ثمنها مائة ألف درهم، قال أبو النضير: فأخذتها منه فدفعتها إلى الفضل فنظر فيها ووضعها فاغتممت لما رأيت من قلة نشاطه لها، فلما أصبحت قيل لي: خزّان بيت المال يطلبونك، فظننت أنه نظر لي بشيء في خاصتي، فأتيتهم فقالوا لي: أحضر من يحمل المائة الألف إلى صاحب الرقعة، فحملتها إلى حمزة، قال حمزة: فصرت إليه فقلت: أصلح الله الأمير! وصلت إلي صلتك ولا والله ما أدري كيف أشكرك إلا بقول أبي النضير فيك:
وللناس معروفٌ وفيهم صنائعٌ ... ولن يجبر الأحزان إلا جدا الفضل
إذا ما العطايا لم تكن برمكيةً ... فتلك العطايا ما تمرّ وما تُحلى
قال أبو النضير: فالتفت إليّ الفضل فقال: يا أبا النضير جزاؤك عندي، فوصلني حتى أغناني.

وحدث أحمد بن علي الشيقي وغيره ممن ينزل بنهر المهدي قال: أقبل الفضل بن يحيى يوماً على نهر المهدي يريد منزله بباب الشماسية، فاستقبله فتىً من الأبناء قد أملك ومعه جماعة كثيرة قد ركبوا معه في السواد والسيوف، وهكذا كانوا يفعلون، يركبون مع الرجل عند إملاكه ويستعيرون الدواب ويسيرون خلفه ويطرّقون بين يديه، قال: فترجل الفتى للفضل وقبل يده ورجله، فسأله عن شأنه فأخبره، فقال: كم أصدقت أهلك؟ قال: أربعة آلاف درهم، فدعا قهرمانه وقال: احمل إليه الساعة أربعة آلاف درهم لصداق أهله وأربعة ألاف درهم لشراء منزل ينزله وأربعة آلاف درهم لنفقة تحويل أهله وأربعة آلاف للنفقة على الوليمة وأربعة آلاف درهم ليتصرف بها في معيشته، قال أحمد بن علي: فأشاروا على الفتى أن يسأله أن يأمر قوّاده وحشمه بإتيانه، فأمرهم بذلك فأتوه وجعلوا يطرحون العشرة الآلاف الدرهم والخمسة الآلاف الدرهم والأقل والأكثر في مجلسه حتى اجتمع له خمسون ألف درهم سوى ما أعطاه الفضل.
وحدث أحمد بن علي قال: حدثنا رجل من جيراننا أن الفضل بن يحيى مرّ به في يوم صائف منصرفاً من المدينة يريد منزله فقال الرجل: لا والله إن في منزلي قليل ولا كثير، فعطس الفضل، فقلت: يرحمك الله، وقد كان سمع يميني فأمر بعض غلمانه أن يحملني معه على دابته، فلما صار بي إلى قصره أخرج إليّ خمسة آلاف درهم وعشرة أثواب، فانصرفت بها إلى منزلي، فقالت لي امرأتي: والله لقد خرجت من عندنا وما تملك قليلاً ولا كثيراً، فمن أين سرقت هذا؟ قال: فأعلمتها القصة فلم تصدقني قولي واستراب الجيران بحالي وتناهى الخبر إلى السلطان فطمع فيّ وأخذني فحبسني، فقلت له: إنه كان من أمري كيت وكيت، فوقع خبري إلى الفضل فأمر بإحضاري، فلما أُحضرت ورآني عرفني وأمر بإطلاقي ووصلني بخمسة آلاف أخرى وبعشرة أثواب وقال: تعهد بما ننفعك، فلم يزل ينفعه حتى حدث من أمرهم ما حدث.
وعن أحمد بن محمد بن عبد الصمد أن رجلاً كان ينزل على نهر المهدي وكانت عليه نعمة فزالت فلم يقدر على شيء فمطر الناس ثلاثة أيام متتابعة فبقي في منزله لا يقدر على الخروج، فأضر به ذلك وأبلغ إليه الجوع وإلى عياله، فلما كان في آخر الليل جاء إلى البقال بقصعة له ليرهنها عنده على خبز، فانتهره البقال وقال: ما أصنع بهذه القصعة؟ وأبى أن يعطيه عليها شيئاً، قال: فعاد إلى منزله مغموماً لا حيلة له، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم سق إليّ في هذه الليلة عبداً من عبادك تحبه يفرج عني ما أمسيت فيه، فما شعرت إلا والباب يدقّ عليّ فإذا رجل على حمار قد حفّ به خدم، فقال لي: كم عيالك؟ قلت: كذا وكذا، فأعطاني كيساً قدرت أن فيه خمسة آلاف درهم، فقلت: الحمد لله الذي استجاب دعائي وفرج عني، فقال لي: وما كان قولك ودعاؤك؟ فخبّرته الخبر بصنيع البقال وما دعوت الله جل وعز به، فاستحلفني أني دعوت بهذا الدعاء، فحلفت له، فأمر لي بمائة ألف درهم، فسألت بعض أولئك الخدم عنه لأعلم هل يقدر على ما أمر لي به أم لا، فقال: هو الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي، فسكتّ إلى ذلك وانصرفت إلى منزلي، ومضيت إلى قهرمانه لما أصبحت فقبضت منه المال.
وحدث خلف بن عمر المصري قال: كنا عند الفضل ذات ليلة فقال: أتعرفون رجلاً كانت عليه نعمة فزالت عنه حتى أردها عليه؟ فقال الأشعري، وكان قاضياً: أعرف، أصلحك الله، رجلاً شريفاً من آل خالد بن عبد الله القسري بالكوفة قد أضرت به الحاجة، وسماه له، فكتب إلى عامل الكوفة: احمل إليّ فلاناً على البريد فقد بعثت بجوازه، فلم يعلم الخالدي حتى حمله العامل على البريد ووجهه إليه، فلما قدم عليه دعاه وسأله عن حاله وأمر له بمائة ألف درهم وقال: أقم بها مروءتك حتى أنظر في أمرك وأدبر لك ما يصلح حالك، ثم ولاه كرمان، فصار إليها وحسنت حاله، ثم إن كتاب صاحب البريد بها ورد على الفضل بن يحيى بوفاة الكوفي فقال لنا: أتدرون ما قال الفارسي في مثل له؟ فذكر المثل بالفارسية ثم فسره بالعربية فقال: إلى أن يُدرك الحشيش قد مات الحمار، أردت بهذا الرجل الغنى فمات قبل ذلك، واغتم لوفاته ولما فاته من الإحسان إليه بعد الذي قد كان أعطاه وأكبسه من مرافق العمل الذي ولاه، وتقدم بحمل جميع ما خلّفه إلى أهله فحُمل إليهم.

وحدثنا أبو طالب الجعفري قال: حدثني سليمان بن أبي جعفر أن محمد بن إبراهيم الإمام ركب إلى الفضل بن يحيى يوماً وكان قد ركبه دين وحمل حقة فيها جوهر، فلما وصل إليه قال: قد لزمني دين أحوجني إلى احتيال ألف ألف درهم، وعلمت أن التجار لا يسمحون بإخراج مثلها وإن وثقنا الرهن ولك معاملون وتجار مطيعون ومعي رهن فإن رأيت أن تأمر بقبضه وحمل هذا المال إلينا فأنت أولى بذلك، فقال الفضل: نعم لنا تجار يطيعوننا ويسارعون إلى أمرنا، ولكن ما هذا الرهن؟ فوضع الحقة بين يديه، ففتحها حتى نظر إليها فأُعجب بالجوهر الذي فيها، ثم أمر بإعادتها إلى حالها وقال: ضع خاتمك عليها، فختمها، قال فقال الفضل: إن نُجح الحاجة أن تقيم في منزلي الذي أنا فيه، فقال: يشق عليّ المقام، فقال: وما يشق عليك؟ إن رأيت أن تلبس من ثيابنا شيئاً دعوت لك به وإلا فابعث إلى منزلك لتؤتى به، فأقام عنده، ونهض الفضل فدعا وكيله وأمر أن يحمل إلى منزل محمد بن إبراهيم ألف ألف درهم مبدرة ويضعها قبالة مجلسه ليراها إذا دخل، ففعل الوكيل ذلك، وانصرف محمد إلى منزله مع المغرب، فلما دخل وقعت عينه على المال فقال: ما هذا؟ قالوا: وجه به الفضل، قال: أحسن الله جزاءه فإنه وإن كان وجه بذلك على ما رهنّاه فقد ظهر لنا من عنايته ما قدّرناه فيه، قالوا: وما الرهن؟ قال: الحقة، قالوا: قد ردها تحت خاتمك، فقال: أين هي؟ فأُتي بالحقة ففتحها حتى نظر إليها وفرح فرحاً شديداً فعدا إلى الفضل فوجده قد سبقه إلى دار أمير المؤمنين فتبعه فلم يزل واقفاً ينتظره حتى خرج الفضل من باب آخر فصار إلى منزله وشكر له ما كان منه وانصرف عنه، فلما دخل منزله وجد فيه ألف ألف درهم سوى الأولى، فقال: ما هذا؟ قالوا: بعث به الفضل، فأتاه فقال له: جعلت فداك! أما كان فيما وجّهت به أمس كفاية حتى أردفته بمثله؟ فقال: إنه والله طالت عليّ ليلتي فركبت إلى أمير المؤمنين وأعلمته حالك فأمرني بالتقدير لك فقدّرت مائة ألف دينار، فما زال يقول ويماكسني حتى وقفت على ألف ألف فأمر لك بها فلم أنصرف إلى المنزل حتى حُمل المال إليك، فقال محمد: لست أجد لك شكراً أقضي به حقك غير أنه على ابن محمد بن علي وعليه من الأيمان المغلظة إن وقفت بباب أحد سواك أبداً حتى ألقى الله جل وعز ولا أسأل أحداً حاجة ما بقيت سواك، فكان لا يركب إلى أحد سوى الفضل ولا يقف بباب أحد غيره.

ومن كرمه ما حُدّث به المأمون فكبر عنده واستحسنه وعجب من جوده وسعة صدره، فإنه بلغنا عن عمرو بن مسعدة قال: رفعت قصة إلى المأمون منسوبة إلى محمد بن عبد الله يمتّ فيها بحرمه ويزعم أنه من أهل النعمة والقدر وأنه مولى ليحيى بن خالد وأنه كان ذا ضيعة واسعة ونعمة جليلة وأن ضياعه قُبضت فيما قبض للبرامكة وزالت نعمته بحلول النقمة عليهم، فدفعها المأمون إلى ابن أبي خالد وأمره أن يضم الرجل إلى نفسه وأن يجري عليه ويحسن إليه، ففعل ذلك به وصاحت حاله وتراجع أمره وصار نديماً لابن أبي خالد لا يفارقه، فتأخر عنه ذات يوم لمولود ولد له، فبعث إليه فاحتجب عنه، فغضب عليه ابن أبي خالد وأمر بحبسه وتقييده وإلباسه جبة صوف، فمكث لذلك أياماً، فسأله المأمون عنه، فقص عليه قصته وعظم عليه جرمه وشكا ما يراه عليه من التيه والصلف والافتخار بالبرامكة والسمو بآبائهم، فأمره بإحضاره، فأُحضر في صوفه، فأقبل عليه المأمون بالتوبيخ مصغراً لقدره مسفهاً لرأيه وعظّم في عينه إحسان ابن أبي خالد إليه مع طعن على البرامكة ووضع منهم، فأطنب في ذلك، فقال محمد: يا أمير المؤمنين لقد صغّرت من البرامكة غير مصغّر ووضعت منهم غير موضوع وذممت منهم غير مذموم، ولقد كانوا شفاء أسقاهم دهرهم وغياث إجداب عصرهم، كانوا مفزعاً للملهوفين وملجأً للمظلومين، وإن أذن لي أمير المؤمنين حدثته ببعض أخبارهم ليستدل بذلك على صدق قولي فيهم ويقف على جميل أخلاقهم ومحمود مذاهبهم في عصرهم والأفعال الشريفة والأيادي النفيسة! قال: هات، قال: ليس بإنصاف محدّث مقيّد في جبة صوف، فأمر فأُخذ قيده، فقال: يا أمير المؤمنين ألم الجبة يحول بيني وبين الحديث، فأمر فخلع عليه، ثم قال: هات حديثك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، كان ولائي وانقطاعي إلى الفضل، فقال لي الفضل يوماً بمحضر من أبيه وأخيه جعفر: ويحك يا محمد إني أحب أن تدعوني دعوة كما يدعو الصديق صديقه والخليل خليله، فقلت: جلعت فداك! شأني أصغر من ذلك ومالي يعجز عنه وباعي يقصر عن ذلك وداري تضيق عنه ومُنّتي لا تقوم له، قال: دع عنك ذلك فلا بد منه، فأعدت عليه الاستعفاء، فرأيته جاداً في ذلك مقيماً عليه، وسألا ذلك وأعلماه قصور يدي عن بلوغ ما يجب ويشبه مثله، فقال لهما: لست بقانعٍ منه دون أن يدعوني وإياكما لا رابع معنا، فأقبل عليّ يحيى وقال: قد أبى أن يعفيك وإن لم يكن غيرنا فأقعدنا على أثاث بيتك فلا حشمة منا واطعمنا من طبيخ أهلك فنحن به راضون وعليه شاكرون، فقلت: جعلت فداك! إن كنت قد عرضت عليّ ذلك وأبيت إلا هتكي وفضيحتي فالأقل أن تؤجلني حتى أتأهب، فقال: استأجل لنفسك، فقلت: سنة، فقال: ويحك أمعنا أمان من الموت إلى سنة؟ فقال يحيى: أفرطت في الأجل، ولكني أحكم بينكما بما أرجو أن لا يرده أبو العباس واقبله أنت أيضاً، فقلت: احكم وفقك الله للصواب وتفضل عليّ بالاستظهار والفسح في المدة، فقال: قد حكمت بشهرين، فخرجت من عندهم وبدأت برمّ داري وإصلاح آلتي وشراء ما أتجمل به من فرش وأثاث وغير ذلك وهو في ذلك لا يزال يذكرني ويعدّ الأيام عليّ، حتى إذا كانت الجمعة التي يجب فيها الدعوة قال لي: يا محمد قد قرب الوقت ولا أحسبه بقي عليك إلا الطعام، قلت: أجل يا سيدي، فأمرت باتخاذ الطعام على غاية ما انبسطت به يدي ومقدرتي، وجاءني رسوله عشية اليوم الذي في صبيحته الدعوة فقال لي: إلى أين بلغت وهل تأذن بالركوب؟ قلت: نعم بكّر، فبكّر هو ويحيى وجعفر ومعهم أولادهم وفتيانهم، فلما دخلوا أقبل عليّ الفضل وقال: يا محمد إن أول ما أبدأ به النظر إلى نعمتك كلها صغيرها وكبيرها، فقم بنا إليها حتى أدور فيها وأقف عليها، فقمت معه وطاف في المجلس ثم خرج إلى الخزائن وصار إلى بيوت الشراب وخرج في الاصطبلات ونظر إلى صغير نعمتي وكبيرها ثم عدل إلى المطبخ فأمر بكشف القدور كلها وأبصر قدراً منها، فأقبل على أبيه وقال: هذا قِدرك الذي يعجبك ولست أبرح دون أن تأكل منه، ثم كره أن يأكل فيثلم عليّ في أكله ويفسد طعامه، فدعا برغيف فغمسه في القدر وناول أباه ثم فعل ذلك بأخيه ودعا بخلال، وخرج إلى الدار ووقف في صحنها مفنناً طرفه في فنائها وبنائها وسقوفها وأروقتها ثم أقبل عليّ وقال: من جيرانك؟ قلت: جعلت فداك! عن يميني فلان بن فلان التاجر، وعن شمالي فلان بن فلان الكاتب، وفي ظهر

داري رجل من بني برجا كبير فهو في بنائه لا يفتر ولا يقصر، فقال لي: أوتعرفه؟ قلت: لا، قال: كان ينبغي لك في قدرك ومحلك من هذه الدولة ألاّ يجتريء أحد أن يشتري شيئاً في جوارك إلا بأمرك لا سيما إذا كان ملاصقاً لك ولا ترضى لنفسك إلا بجار تعرفه، فقلت: لم يمنعني من ذلك إلا ما كنت فيه من الشغل بهذه الدعوة المباركة، فقال لي: فأين الحائط الذي يتصل بداره؟ فأومأت إليه، فقال: عليّ بنجار، فأُتي به، فقال: افتح هاهنا باباً، فأقبل عليه أبوه وقال: نشدتك الله يا بني أن لا تهجم على قوم لا تعرف لهم سبباً، وأقبل عليه أخوه بمثل ذلك، فامتنع دون فتح الباب، فلما رأيته قد ردّ أباه وأخاه أمسكت عن مسألته، ففتح الباب ودخل وأدخلني معه، فدخلت داراً حار بصري فيها من حسنها، كلها لؤلؤٌ تعشي العيون، فانتهى إلى رواق فيه مائة مملوك في قدّ واحد وزي واحد عليهم الأقبية الديباج المنسوجة والمناطق المذهبة، فلما نظروا إلى الفضل عدوا ووقفوا بين يديه وإذا شيخ بهيّ قد خرج من بعض تلك المجالس فقبل يده فقال: مرّ بنا ننظر في مرافق هذه الدار، فما دخلت مجلساً من مجالسه إلا وقد فرغ تخشيبه بالفرش الذي لا يحيط به الوصف، وكذلك مرافقها من الستور والبسط وغير ذلك، ثم قال للشيخ: مر بنا إلى عند الدواب، فدخلنا إصطبلاً فيه أربعمائة رأس من الدواب والبغال وغيرها، فوجدت ذلك الاصطبل أحسن بناء من داري، ثم خرج نحو دور النساء والشيخ بين يديه، فلما انتهى إلى الباب وقف الشيخ ودخل الفضل وجذبني إلى نفسه وأنا معه حتى دخلت بعض تلك الدور فإذا فيها مائة وصيفة كأنهن الأقمار قد أقبلن في حليهن وحللهن فوقفن بين يديه، فقال: يا محمد هذه الدار أجلّ أم دارك؟ فقلت: يا سيدي وما أنا وما داري! هذه تصلح للأمير لا غيره على تحرج مني في قولي، فقال: يا محمد هذه الدار بما فيها من الدواب والرقيق والفرش والأواني لك ولك عندي زيادة، فقلت في نفسي: يهب لي ملك غيره! فعلم ما في نفسي، فقال: يا محمد إني لما سألتك هذه الدعوة تقدمت إلى هذا القهرمان بشراء البراح وأن يعجل الفراغ منه ومن بنائه وحولت إليها ما ترى، فبارك الله لك فيها! وانصرف بي إلى عند أبيه وأخيه وحدثهما بما جرى، فرأيت أخاه جعفراً قد أمعض من ذلك وتغير وجهه تغيراً عرفته، ثم أقبل على أبيه يشكو الفضل ويقول: يتفرد بمثل هذه المكرمة من دوني فلو شاركني فيها لكانت يداً أشكرها منه، فقال: يا أخي بقي لك منها قطبها، قال: وما هو؟ قال: إن مولانا هذا لا يتهيأ له ضبط هذه الدار بما فيها إلا بدخل جليل فأعطه ذلك، فقال: فرجت عني يا أخ فرج الله عنك! فدعا من وقته بصكاك لخمس قريات واحتمل عني خراجها، فخرج عني وأنا أيسر أهل زماني، فهل تلومني يا أمير المؤمنين على ذكرهم والقول بفضلهم؟ فقال المأمون: ذهب القوم والله بالمكارم! ثم أمر لمحمد بمائة ألف درهم وتقدم إلى ابن أبي خالد بردّ مرتبته وتصييره في جملة خواصه.ري رجل من بني برجا كبير فهو في بنائه لا يفتر ولا يقصر، فقال لي: أوتعرفه؟ قلت: لا، قال: كان ينبغي لك في قدرك ومحلك من هذه الدولة ألاّ يجتريء أحد أن يشتري شيئاً في جوارك إلا بأمرك لا سيما إذا كان ملاصقاً لك ولا ترضى لنفسك إلا بجار تعرفه، فقلت: لم يمنعني من ذلك إلا ما كنت فيه من الشغل بهذه الدعوة المباركة، فقال لي: فأين الحائط الذي يتصل بداره؟ فأومأت إليه، فقال: عليّ بنجار، فأُتي به، فقال: افتح هاهنا باباً، فأقبل عليه أبوه وقال: نشدتك الله يا بني أن لا تهجم على قوم لا تعرف لهم سبباً، وأقبل عليه أخوه بمثل ذلك، فامتنع دون فتح الباب، فلما رأيته قد ردّ أباه وأخاه أمسكت عن مسألته، ففتح الباب ودخل وأدخلني معه، فدخلت داراً حار بصري فيها من حسنها، كلها لؤلؤٌ تعشي العيون، فانتهى إلى رواق فيه مائة مملوك في قدّ واحد وزي واحد عليهم الأقبية الديباج المنسوجة والمناطق المذهبة، فلما نظروا إلى الفضل عدوا ووقفوا بين يديه وإذا شيخ بهيّ قد خرج من بعض تلك المجالس فقبل يده فقال: مرّ بنا ننظر في مرافق هذه الدار، فما دخلت مجلساً من مجالسه إلا وقد فرغ تخشيبه بالفرش الذي لا يحيط به الوصف، وكذلك مرافقها من الستور والبسط وغير ذلك، ثم قال للشيخ: مر بنا إلى عند الدواب، فدخلنا إصطبلاً فيه أربعمائة رأس من الدواب والبغال وغيرها، فوجدت ذلك الاصطبل أحسن بناء من داري، ثم خرج نحو دور النساء والشيخ بين يديه، فلما انتهى إلى الباب وقف الشيخ ودخل الفضل وجذبني إلى نفسه وأنا معه حتى دخلت بعض تلك الدور فإذا فيها مائة وصيفة كأنهن الأقمار قد أقبلن في حليهن وحللهن فوقفن بين يديه، فقال: يا محمد هذه الدار أجلّ أم دارك؟ فقلت: يا سيدي وما أنا وما داري! هذه تصلح للأمير لا غيره على تحرج مني في قولي، فقال: يا محمد هذه الدار بما فيها من الدواب والرقيق والفرش والأواني لك ولك عندي زيادة، فقلت في نفسي: يهب لي ملك غيره! فعلم ما في نفسي، فقال: يا محمد إني لما سألتك هذه الدعوة تقدمت إلى هذا القهرمان بشراء البراح وأن يعجل الفراغ منه ومن بنائه وحولت إليها ما ترى، فبارك الله لك فيها! وانصرف بي إلى عند أبيه وأخيه وحدثهما بما جرى، فرأيت أخاه جعفراً قد أمعض من ذلك وتغير وجهه تغيراً عرفته، ثم أقبل على أبيه يشكو الفضل ويقول: يتفرد بمثل هذه المكرمة من دوني فلو شاركني فيها لكانت يداً أشكرها منه، فقال: يا أخي بقي لك منها قطبها، قال: وما هو؟ قال: إن مولانا هذا لا يتهيأ له ضبط هذه الدار بما فيها إلا بدخل جليل فأعطه ذلك، فقال: فرجت عني يا أخ فرج الله عنك! فدعا من وقته بصكاك لخمس قريات واحتمل عني خراجها، فخرج عني وأنا أيسر أهل زماني، فهل تلومني يا أمير المؤمنين على ذكرهم والقول بفضلهم؟ فقال المأمون: ذهب القوم والله بالمكارم! ثم أمر لمحمد بمائة ألف درهم وتقدم إلى ابن أبي خالد بردّ مرتبته وتصييره في جملة خواصه.

وحدثنا غيره قال: اصطحب رسول للفضل ورجل كوفي في طريق خراسان فأقبل الكوفي يسأل عن أفعال الفضل، فأخبره بإنهابه الأموال الجليلة في العطايا، فقال له الكوفي: خبرني عن هذه الأموال التي يهبها يراها وينظر إليها؟ فقال: لا، قال: فمن هناك تهون عليه. فلما وصلا إلى الموضع دعا الفضل بالرسول وسأله عما رأى في طريقه وعما سمع، فأقبل يخبره حتى انتهى إلى خبر الكوفي فذكر له ما قال وكان متّكياً فاستوى جالساً ثم قال: يا غلام ائت صاحب بيت المال فاسأله عن حاصله، فقال: هو عشرة آلاف درهم، فقال تُحمل الساعة إلى دار العامة وتشقّ عنها البِدَر شقاً وتنثر في وسط الدار، قال: ففعل ذلك بها، ثم قال للرسول: هات صاحبك الكوفي، فأُتي به، وأمر الفضل بتفريق ذلك المال على زواره رجلاً رجلاً واسماً اسماً على مقاديرهم وما وقع لكل رجل منهم، ثم أمر للكوفي بمائة ألف درهم وقال: هذه لك لتنبيهك إيايّ على هذا الفعل، ومما قيل في ذلك:
كريمٌ كريم الأمهات مهذَّبٌ ... تحلّب كفاه الندى وأنامله
هو البحر من أي النواحي أتيته ... فلجّته المعروف والجود ساحله
جوادٌ إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير روحه ... لجاد بها، فليتق الله سائله
وللبحتري في ذلك:
لو أن كفك لم تجد لمؤملٍ ... لكفاه عاجل وجهك المتهلل
أو أنّ مجدك لم يكن متقادماً ... أغناك آخر سوددٍ عن أول
علي بن يحيى النديم قال: دعاني المتوكل ذات يوم وهو مخمور قال: أنشدني قول عمارة في أهل بغداد، فأنشدته:
من يشتري مني ملوك المخرِّم ... أبع حسناً وابني هشامٍ بدرهم
وأعطي رجاءً بعد ذاك زيادةً ... وأمنح ديناراً بغير تندّم
وإن طلبوا مني الزيادة زدتهم ... أبا دُلفٍ والمستطيل ابن أكثم
فقال المتوكل: ويلي على ابن البوّال على عقبيه يهجو شقيق دولة بني العباس! قلت: يا سيدي من شقيق دولة بني العباس؟ فقال: القاسم بن عيسى فهل عندك من مديحه شيء؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قول الأعرابي الذي يقول:
أبا دلفٍ إن السماحة لم تزل ... مغلَّلةً تشكو إلى الله غلَّها
فبشّرها ربي بميلاد قاسمٍ ... فأرسل جبريلاً إليها فحلّها
ولبكر بن النطاح في أبي دلف:
بطلٌ بصدر حسامه وسنانه ... أجلان من صدرٍ ومن إيراد
ورث المكارم وابتناها قاسمٌ ... بصفائحٍ وأسنةٍ وجياد
يا عصمة العرب التي لو لم تكن ... حياً إذاً كانت بغير عماد
إن العيون إذا رأتك حدادها ... رجعت من الإجلال غير حداد
وإذا رميت الثغر منك بعزمةٍ ... فتّحتَ منه مواضع الأسداد
وكأن رمحك منقعٌ في عصفرٍ ... وكأن سيفك سلّ من فرصاد
لو صال من غضبٍ أبو دلفٍ على ... بيض السيوف لذبن في الأغماد
أذكى ونوّر للعداوة والهوى ... نارين نار دمٍ ونار رماد
وقال أبو هفان: أنشدته عبد العزيز بن أبي دلف بسر من رأى فبرّني ثم قال: هل خلق مثله؟ قلت: لا.
ولغيره في أبي دلف:
ولو يجوز لقال الناس كلهم ... لولا أبو دلفٍ ما أورق الشجر
قرمٌ إذا ما حوى في كفه حجراً ... يفيض في كفه من جوده الحجر
وأنشد أيضاً، رحمه الله:
خِلٌّ إذا جئته يوماً لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعه والله يظهرها ... إن الجميل إذا أخفيته ظهرا
وأنشد:
يداك يدٌ غيثها مرسلٌ ... وأخرى لأعدائها غائظه
فأما التي سيبها يرتجى ... فأجود بالمال من لافظه
وأما التي شرّها يتقى ... فنفس العدو بها فائظه
آخر:
فتىً عاهد الرحمان في بذل ماله ... فليس تراه الدهر إلا على العهد
فتىً قصرت آماله عن فعاله ... وليس على الحر الكريم سوى الجهد
آخر:

عاد السرور إليك في الأعياد ... وسعدت من دنياك بالأسعاد
رفقاً بشكر جلّ ما أوليته ... رفقاً فقد أثقلته بأيادي
ملأ النفوس مهابةً ومحبةً ... بدرٌ بدا متغمراً بسواد
ما إن أرى لك مشبهاً فيمن أرى ... أمُّ الكرام قليلة الأولاد
ولآخر:
إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر
له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر

محاسن صلات الشعراء
قيل: دخل جرير على عبد الملك بن مروان وقد أوفده إليه الحجاج بن يوسف، فدخل محمد بن الحجاج فقال: يا أمير المؤمنين هذا جرير مادحك وشاعرك، فقال: بل مادح الحجاج وشاعره، فقال جرير: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في إنشاده مدحة فيه، قال: هات ابدأ بالحجاج، قال: بل بك يا أمير المؤمنين، فقال: هات ابدأ بالحجاج، فأنشده:
صبرت النفس يا ابن عقيلٍ ... محافظةً فكيف ترى الثوابا
ولو لم ترض ربك لم ينزّل ... مع النصر الملائكة الغضابا
إذا شعر الخليفة نار حربٍ ... رأى الحجاج أثقبها شهابا
فقال: صدقت كذاك هو، ثم قال للأخطل: قم فهات مديحاً، فقام فأنشد وأجاد وأبلغ، فقال: أنت شاعرنا وأنت مادحنا، قم فاركبه، فألقى النصراني ثوبه وقال: خبّ يا ابن المراغة، فساء ذلك من حضر من مضر وقالوا: يا أمير المؤمنين إن النصراني لا يركب الحنيف المسلم! فاستحيا عبد الملك وقال: دعه، قال جرير: فانصرفت أخزى خلق الله، حتى إذا كان يوم الوداع دخلت لأودعه فأنشدته:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
فقال: بلى نحن كذلك، أعد، فأعدت وأسفر لونه وذهب ما كان في قلبه، فالتفت إلى محمد بن الحجاج فقال: أترى أم حزرة يرويها مائة من الإبل؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين إن كانت من فرائض كلبٍ فلم يروها فلا أرواها الله، فأمر لي بمائة من الإبل.
وحدثنا المدائني عن كيسان عن الهيثم قال: حج عبد الملك بن مروان ومعه الفرزدق، فبينا هو قاعد بمكة في الحجر إذ مر به علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعليه مطرف خزّ، فقال عبد الملك: من هذا يا فرزدق؟ فأنشأ يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلُّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريشٌ قال قائلها: ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ينمي إلى ذروة العزّ التي قعدت ... عن نيلها عرب الإسلام والعجم
مشتقةٌ من رسول الله نبعته ... طابت عناصره والخيم والشيم
في كفه خيزرانٌ ريحه عبقٌ ... من كف أروع في عرنينه شمم
ينشقّ نور الدجى عن نور غرّته ... كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فما يكلَّمُ إلا حين يبتسم
من معشرٍ حبهم دينٌ وبغضهم ... كفرٌ وقربهم منجىً ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم ... ويُستربّ به الإحسان والنعم
لا يستطيع جوادٌ بُعد غايتهم ... ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا
إن عُدَّ أهل الندى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
مقدَّمٌ بعد ذكر الله ذكرهم ... في كل برٍ ومختومٌ به الكلم
قال: فلما فرغ من شعره قال لهم عبد الملك: أورافضيّ أنت يا فرزدق؟ فقال: إن كان حبّ أهل البيت رفضاً فنعم، فحرمه عبد الملك جائزته، فتحمّل عليه بأهل بيته فأبى أن يعطيه، فقال له عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: ما كنت تؤمل أن يعطيك؟ قال: ألف دينار في كل سنة، قال: فكم تؤمل أن تعيش؟ قال: أربعين سنة؟ قال: يا غلام علي بالوكيل، فدعاه إليه، وقال: اعط الفرزدق أربعين ألف دينار، فقبضها منه.

قيل: ودخل الفرزدق على سكينة بنت الحسين، فقالت له: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنُّبُهُ عزيزٌ ... عليّ ومن زيارته لِمام
ومن أمسى وأصبح لا أراه ... ويطرقني إذا هجع النيام
فقال: أما والله لئن تركتني لأسمعنك ما هو أحسن منه، فقالت: اخرجوه عني، ثم عاد من الغد فقالت: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
يا بيت عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميَل
فقال: أما والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه، فقالت: اخرجوه عني، ثم عاد من الغد وعندها جوارٍ كالتماثيل، فأخذت جارية منهن بقلبه، فقالت سكينة: من أشعر الناس؟ قال: أنا، قالت: كذبت، أشعر منك الذي يقول:
إن العيون التي في طرفها حورٌ ... قتلننا ثم لا يحيين قتلانا
فقال: يا بنت رسول الله إن لي حقاً بإقبالي عليك من مكة ولا أزال تدعيني أُسمعك شعري ولا تزيديني على التكذيب مع أني لأخاف لما بي أني لا أبرح ميتاً ولي حاجة، قالت: فما هي؟ قال: إن أنا مت تأمرين بتكفيني في ثياب هذه، وأشار إلى الجارية، فقالت: هي لك، وضمت إليها جائزة وكسوة.
وعن أبي الزناد قال: اجتمع جرير والفرزدق وكثيّر ونصيب في منزل سكينة بنت الحسين، فخرجت جارية ومعها قرطاس وقالت: أيكم الفرزدق؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت الذي يقول:
أبيت أمنّي النفس أن سوف نلتقي ... وهل هو مقدور لنفسي لقاؤها
فإن ألقها أو يجمع الدهر بيننا ... ففيها شفاء النفس منها وداؤها
قال: نعم، قالت: قولك أحسن من منظرك! وأنت القائل:
ودّعنني بإشارة وتحيةٍ ... وتكرنني بين الديار قتيلا
لم أستطع رد الجواب عليهم ... عند الوداع وما شفين عليلا
لو كنت أملكهم إذاً لم يبرحوا ... حتى أودّع قلبي المخبولا
قال: نعم، قالت: أحسنت أحسن الله إليك! وأنت القائل:
هما دلّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضّ بازٌ أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في الأرض نادتا: ... أحيٌّ فيرجى أم قتيل نحاذره
فقلت: ارفعوا الأسباب لا يشعروا بنا ... وولّيتُ في أعجاز ليلٍ أُبادره
أحاذر بوّابين قد وكلا بها ... وأحمر من ساجٍ تبصّ مسامره
فأصبحت في القوم القعود وأصبحت ... مغلقةً دوني عليها دساكره
قال: نعم، قالت: سوءة لك! قضيت حاجتك فأفشيت عليها وعلى نفسك، فضرب بيده على جبهته وقال: نعم فسوءة لي! ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم جرير؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت القائل:
رُزقنا به الصيد الغزير ولم نكن ... كمن نبله محرومةٌ وحبائله
فهيهات هيهات العقيق ومن به ... وهيهات حيٌّ بالعقيق نواصله
قال: نعم، قالت: أحسن الله إليك! وأنت القائل:
كأن عيون المجتلين تعرّضت ... وشمساً تجلّى يوم دجنٍ سحابها
إذا ذُكرت للقلب كاد لذكرها ... يطير إليها واعتراه عذابها
قال: نعم، قالت: أحسنت! وأنت القائل:
سرت الهموم فبتن غير نيام ... وأخو الهموم يروم كلَّ مرام
طرقتك صائدةُ القلوب وليس ذا ... وقت الزيارة فارجعي بسلام
لو كان عهدك كالذي حدثتني ... لوصلت ذاك فكان غير ذمام
تجري السّواك على أغرّ كأنه ... بردٌ تحدّر من متون غمام
قال: نعم، قالت: سوءة لك! جعلتها صائدة القلوب حتى إذا أناخت ببابك جعلت دونها حجاباً، ألا قلت:
طرقتك صائدة القلوب فمرحباً ... نفسي فداؤكِ فادخلي بسلام
قال: نعم فسوءة لي! ودخلت وخرجت وقالت: أيكم كثيّر؟ فقال: ها أنا ذا، فقالت: أنت القائل:
وأعجبني يا عزّ مكن خلائقٌ ... حسانٌ إذا عُدّ الخلائق أربع
دُنوُّكِ حتى يطمع الصبُّ في الصِّبا ... وقطعك أسباب الصبا حين تقطع

فوالله ما يدري كريمٌ مَطلتهِ ... أيشتدّ إن قاضاك أم يتضرع
قال: نعم، قالت: أعطاك الله مناك! وأنت القائل:
هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ... لعزة من أعراضنا ما استحلت
فما أنا بالداعي لعزة في الورى ... ولا شامتٍ إن نعل عزة زلّت
وكنت كذي رجلين، رجلٍ صحيحةٍ ... ورِجلٍ رمى فيها الزمان فشلّت
قال: نعم، قالت: أحسن الله إليك! ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم نُصَيب؟ فقال: ها أنا ذا، قالت: أنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصيبٌ ... لقلت بنفسي النّشأ الصغارُ
ألا يا ليتني قامرت عنها ... وكان يحلّ للناس القمار
فصارت في يدي وقمرت مالي ... وذاك الربح لو علم التِّجار
على الإعراض منها والتواني ... فإن وعدت فموعدها ضمار
بنفسي كل مهضومٍ حشاها ... إذا قهرت فليس لها انتصار
إذا ما الزُّلُّ ضاعفن الحشايا ... كفاها أن يُلاث بها إزار
ولو رأت الفراشة طار منها ... مع الأرواح روحٌ مستطار
قال: نعم، قالت: والله إن إحداهن لتقوم من نومتها فما تحسن أن تتوضأ! لا حاجة لنا في شعرك، ثم دخلت وخرجت وقالت: أيكم جميل؟ قلت: أنا، قالت: أنت القائل:
لقد ذرفت عيني وطال سفوحها ... وأصبح من نفسي سقيما صحيحها
ألا ليتنا كنا جميعاً وإن نمت ... يجاور في الموتى ضريحي ضريحها
أظل نهاري مستهاما ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
فهل لي في كتمان حبي راحةٌ ... وهل تنفعنّي بوحةٌ لو أبوحها
قال: نعم، قالت: بارك الله فيك! وأنت القائل:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي
أبيت مع الهلاك ضيفاً لأهلها ... وأهلي قريبٌ موسعون ذوو فضل
فيا ربّ إن تهلك بثينة لا أعش ... فواقاً ولا أفرح بمالي ولا أهلي
ويا رب إن وقّيت شيئاً فوقّها ... حتوف المنايا ربّ واجمع بها شملي
قال: نعم، قالت: أحسنت أحسن الله إليك! وأنت القائل:
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلةً ... بوادي القرى إني إذاً لسعيد
لكل حديثٍ عندهن بشاشةٌ ... وكلُّ قتيلٍ بينهنّ شهيد
ويا ليت أيام الصبا كنّ رجّعاً ... ودهراً تولّى يا بثين يعود
إذا قلت ما بي يا بثينة قاتلي ... من الحب قالت ثابتٌ ويزيد
وإن قلت ردّي بعض عقلي أعش به ... تناءت وقالت ذاك منك بعيد
فما ذكر الخلاّن إلا ذكرتها ... ولا البخل إلا قلت سوف تجود
فلا أنا مردودٌ بما جئت طالباً ... ولا حبها فيما يبيد يبيد
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ... ويحيا إذا فارقتها ويزيد
قال: نعم، قالت: لله أنت! جعلت لحديثها ملاحة وبشاشة وقتيلها شهيداً. وأنت القائل:
ألا ليتني أعمى أصمّ تقودني ... بثينة لا يخفى عليّ مكانها
قال: نعم، قالت: قد رضيت من الدنيا أن تقودك بثينة وأنت أعمى أصم؟ قال: نعم، ثم دخلت وخرجت ومعها مدهن فيه غالية ومنديل فيه كسوة وصرّة فيها خمس مائة دينار فصبّت الغالية على رأس جميل حتى سالت على لحيته ودفعت إليه الصرة والكسوة وأمرت لأصحابه بمائة مائة.

وقال سوار بن عبد الله: قال رؤبة بن العجاج: أرسل إليّ سليمان بن علي وهو بالبصرة فقال: هذا رسول الأمير أبي مسلم قدّم في إشخاصك، قلت: سمعاً وطاعة، أرجع إلى أهلي فأصلح من شأني، قال: ليس إلى ذلك سبيل، ثم التفت إلى الحرسي فقال: هذا صاحبك فشأنك، فلم أُنهنه أن حملت على البريد فوافيت الأنبار مع الجمعة الأخرى فأُدخلت سرادقاً فيه عشرة آلاف رجل في السواد واضعي أذقانهم على قوابع سيوفهم لا ينظر بعضهم إلى بعض إلا شزراً ولا يكلمه إلا همساً، ثم اختُرق بي سرادق آخر مثل الأول على مثل حالهم، فقلت في نفسي: أحسبه تذكّر عليّ بعض قولي في بني أمية فأراد قتلي، فأيست عند ذلك من الحياة، ثم خرجت إلى سرادق ثالث فإذا قبة مضروبة في وسطه فدفعت إليه فسلمت بالإمارة عليه، فقال لي: أنت رؤبة ابن العجاج؟ قلت: نعم، جعلني الله فداك أيها الأمير! فقال: أنشدني قولك يرمي الجلاميد بجلمود مدقّ، فحقق فيّ نفسي ما كنت قدّرت وظننت، ثم قلت: بل أنشدك، جعلت فداك:
لبيك إذ دعوتني لبّيكا ... تطلب حقاً واجباً عليكا
فسكت حتى فرغت منها ثم أقبل عليّ فقال: أنشدني قولك يرمي الجلاميد بجلمود مدقّ، قلت بل أنشدك قولي:
ما زال يبني خندقاً ويهدمه ... وعسكراً يشرعه ويهزمه
ومغنماً يجمعه ويقسمه ... مروان لما غرّه منجّمه
فأمسك حتى فرغت ثم قال: أنشدني قولك يرمي الجلاميد بجلمودٍ مدقّ، فقلت بل أنشدك:
ما زال يأتي الأمر من أقطاره ... على اليمين وعلى يساره
حتى أقرّ الملك في قراره ... مشمّراً لا يُصطلى بناره
فقال: أنشدني ويحك يرمي الجلاميد! فأنشدته:
وقاتم الأعماق خاوي المحترق ... مشتبه الأعلام لمّاع الخفق
فأنصت حتى انتهيت إلى قولي:
يرمي الجلاميد بجلمودٍ مدقّ
فوقفت، فقال: إن أمير المؤمنين وجّهني إلى خراسان وبها جبال الحديد من الرجال فدمّثتها حتى جعلتها دهساً فلم أجد لي مثلاً إلا قولك يرمي الجلاميد بجلمود مدقّ، أنا والله ذلك الجلمود، اذكر حاجتك، قلت: جعلت فداك، حاجتي أن تردني إلى أهلي فقد خرجت من عندهم وهم على وجل، فقال: يا غلام عليّ ببدرةٍ، فكأنها لم تزل بين يديه، فقال: يا أبا الجحّاف إنك أتيتنا والأموال مشفوهة وقد أمرنا لك بشيء وهو زمر ولو أتيتنا ونحن على طمأنينة لأوطأت العرب عقيبك، والدهر بيننا وبينك أطرق مستتبّ، ولك عودة وعلينا معوَّل. قال رؤبة: فوالله ما دريت بما أجيبه، ثم قال يردّ على السير الذي جاء عليه: فما شعر بي سليمان في الجمعة الثانية إلا وأنا عنده فأخبرته الخبر فقال: يا أبا الجحّاف هذه ديتك وربحت نفسك.
قال: وحدثني عبد الله بن عمرو بن عبيد الله قال: حدثني عبيد الله قال: لما دخل مروان بن أبي حفصة على المهدي وأنشده شعره الذي يقول فيه:
أنّى يكون وليس ذاك بكائنٍ ... لبني البنات وراثةُ الأعمام
أجازه بسبعين ألف درهم، فقال مروان:
بسبعين ألفاً راشني من حبائه ... وما نالها في الناس من شاعرٍ قبلي
فحدثنا إدريس بن سليمان بن يحيى بن يزيد بن أبي حفصة قال: كان سبب اتصال مروان بخلفاء بني العباس أن جارية يمانية أهديت إلى أبي جعفر المنصور فأنشدته شعراً لمروان يمدح به السّريّ بن عبد الله يذكر فيه وراثة العباس، فسألها لمن الشعر فأخبرته، فأمر بإحضار مروان، فوافاه بالربذة حاجاً فلقي الربيع، والمنصور عليل العلة التي مات فيها، فقال: كن قريباً حتى ندعو بك. فلم تزل العلة تشتد به حتى مات قبل أن يصل إليه مروان.
فقال له الربيع: الحق بالمهدي ولا تتخلف عنه. وانصرف مروان إلى اليمامة فجعلها طريقاً وعليها بشر بن المنذر والياً، فأوفده بشر فيمن أوفده وأعطى كل رجل ألف درهم. فقدم مروان على المهدي وقد مدحه بأربع قصائد قوله:
صحا بعد جهدٍ فاستراحت عواذله ... وأقصر عنه حين أقصر باطله
وقوله:
طاف الخيال وحيّه بسلام ... أنى أُلم وليس حين لمام
وقوله:
اعص الهوى وتعزّ عن سعداكا ... فلمثل حلمك عن هواك نهاكا
وقوله:
مرى العين شوقٌ حال دون التجلد ... ففاضت بأسرابٍ من الدمع حشَّدي

حشّدي من الحشاد، يريد أنه يخلطها به. قال إدريس: فأعطي مروان المهدي ثلاثين ألف درهم فانصرف إلى اليمامة ثم عاد في سنة أربع وستين ومائة فطلب الوصول بيعقوب بن داود، فأقام نحواً من سنة، وغضب المهدي على يعقوب بن داود. قال إدريس: فحدثني مروان قال: بينا أنا واقف على باب المهدي إذ خرج خالد بن يزيد بن منصور فقال: يا ابن أبي حفصة ذكرك أمير المؤمنين آنفاً وهو يراك أشعر الناس غير أنه يقول لا حاجة لنا فيما قبلك فانصرف عن بابنا. قال: فانصرفت مغموماً ثم تذكرت رجلاً أتحدث عنده وأتفرج به وآنس لديه، فأتيت يزيد بن مزيد فشكوت إليه ما قال لي خالد بن يزيد، فقال: أدلك على رجل صدوق له رقةٌ لعله ينفعك. قلت: ومن هو؟ قال: الحسن الحاجب. فغدوت إلى الحسن فشكوت إليه ما حكاه خالد من رأي أمير المؤمنين. فقال: قل في يعقوب بن داود. فقلت: بأبي أنت وأمي! أنت ترجو أن يكون ذلك مفتاحاً لما أنا فيه؟ قال: ذاك كما أقول لك. فانصرفت وقلت:
أتاني من المهديّ قولٌ كأنما ... به احتز أنفي مدمن الضّعن جادع
وقلت، وقد خفت التي لا شوىً لها ... بلا حدثٍ: إني إلى الله راجع
وما لي إلى المهدي لو كنت مذنباً ... سوى حلمه الصافي من الناس شافع
ولا هو عند السخط منه ولا الرضى ... بغير الذي يرضى به الله صانع
عليه من التقوى رداءٌ يكنّه ... وللحق نورٌ بين عينيه ساطع
يُغضّ له طرف العيون وطرفه ... على غيره من خشية الله خاشع
هل الباب مفضٍ بي إليك ابن هاشمٍ ... فعذري إن أفضى بي الباب ناصع
أتيت امرأً أطلقته من وثاقه ... وقد أُنشبت في أخدعيه الجوامع
وجلّى ضباب العدم عنه وراشه ... وأنهضه معروفك المتتابع
فقلت وزيرٌ ناصحٌ قد تتابعت ... عليه بإنعام الإمام الصنائع
وما كان لي إلا إليك ذريعةٌ ... وما ملكٌ إلا إليه الذرائع
وإن كان مطوياً على الغدر كشحه ... فلم أدر منه ما تجنّ الأضالع
وقل مثل ما قال ابن يعقوب يوسفٌ ... لإخوته قولاً له القلب نائع
تنفّس فلا تثريب إنك آمنٌ ... وإني لك المعروف والقدر جامع
فما الناس إلا ناظرٌ متشوّفٌ ... إلى كلّ ما تسدي إليّ وسامع
قال وقد قلت في قصيدة أخرى:
سيحشر يعقوب بن داود خائباً ... يلوح كتابٌ بين عينيه كافر
خيانته المهدي أودت بذكره ... فأمسى كمن قد غيبته المقابر
بدا منك للمهدي كالصبح ساطعاً ... من الغش ما كانت تجنّ الضمائر
وهل لبياض الصبح إن لاح ضوءه ... فجاب الدجى من ظلمة الليل ساتر
أمنزلةٌ فوق التي كنت نلتها ... تعاطيت، لا أفلحت مما تحاذر
قال: ثم أتيت بها الحسن بعد يومين فقال: ما صنعت؟ فأنشدتهما إياه. قال: اكتبهما لي. فقلت: قد فعلت. فقال: هاتهما. فتناولهما وقال: لست واضعهما من يدي حتى أضعهما في يد المهدي. ثم مضى وأتيته من الغد فقال: ما وضعتهما من يدي حتى وضعتهما في يد المهدي فقرأهما فرقّ لك وأمر بإدخالك عليه فاحضر يوم الاثنين. فحضرت فخرج عليّ فقال: قد علم أمير المؤمنين بمكانك وقد أحبّ أن يجعل لك يوماً يشرّفك فيه ويبلغ بك. قلت: فمتى بأبي أنت وأمي؟ قال: يوم الخميس. فعدت إليه يوم الخميس فإذا وجوه بني العباس يدخلون على المهدي، فلما تتام المجلس دعاني فدخلت، فسلمت فرد علي السلام، فقال: إنما حبسك عن الدخول انقطاعك إلى الفاسق يعقوب بن داود. فافتتحت النشيد بما قلت في يعقوب فأنشدته ثم أشدته قولي فيه: طرقتك زائرة فحيّ خيالها. فأُعجب بذلك وقال: جزاك الله خيراً. فقلت: اشهدوا هذا والله الشرف، أمير المؤمنين يجزيني خيراً، ثم أنشدته: أعادك من ذكر الأحبة عائد، فلما صرت إلى قولي:
أيادي بني العباس بيضٌ سوابغٌ ... على كل قوم بادئاتٌ عوائد
فهم يعدلون السمكَ من قبة الهدى ... كما يعدل البيت الحرام القواعد

سواعد عزّ المسلمين وإنما ... ينوء بصولات الأكف السواعد
يزين بني ساقي الحجيج خليفةٌ ... على وجهه نورٌ من الحق شاهد
يكون غراراً نومه من حذاره ... على قبةِ الإسلام والخلق راقد
كأن أمير المؤمنين محمداً ... لرأفته بالناس للناس والد
على أنه من خالف الحق منهم ... سقته به الموت الحتوف الرواصد
أشار إليّ فأمسكت. فقال: يا بني العباس هذا شاعركم المنقطع إليكم المعادي فيكم فآتوا إليه ما يسره. فقلت: ينبغي إذ سمعوا كلام أمير المؤمنين وعرفوا رأيه أن يصلوني من أموالهم. فقال: أنا فارض عليهم لك مالاً، ففرض على موسى ابنه خمسة آلاف درهم وعلى هارون خمسة آلآف ثم فرض على القوم على قدر حالاتهم حتى فرض عليهم سبعة وثلاثين ألف درهم والربيع يكتب كل ما فرض على كل رجل منهم. فقال أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين إنما نحن من أهلك فأدخلنا فيما أدخلتهم فيه، فجعل عليه ألفاً وعلى الربيع ألفين، فتمت أربعين ألفاً. فقلت: يا أمير المؤمنين من لي بهذا المال؟ قال: هذا، وأشار إلى الربيع، ثم قال: إن أمير المؤمنين يعطيك من صلب ماله، فأمر لي بثلاثين ألف درهم في ثلاث بدر، فجيء بهن فطرحن قريباً، فدعوت وشكرت فقال: يا ابن أبي حفصة ستجيئك صِلاتي وبرّي ويأتيك مني ما يؤديك إلى الغنى.
قلت: يا أمير المؤمنين قد رأيت من قبولك وبشرك وسرورك بما سمعت مني ما سأزداد به شعراً وستسمع ويبلغك، وقلت: يا أمير المؤمنين لا يبلغ ما أعطيتني لشاعر بعدي. قال: أجل. قلت: وآذنّي في زيارتك. قال: نعم. قلت: يا أمير المؤمنين لي عدو فيك وفي أهل بيتك فإن رأى أمير المؤمنين أن يُجعل لأحد عليّ سلطان دونه. قال: لا سلطان عليك دون أمير المؤمنين. فقلت: اكتب إليّ بذلك كتاباً. فأمر بالكتاب بذلك، فانصرفت، فلما صرت خلف الستر خرج إليّ خادم بمنديل فيه أربعة أثواب: ثوب وشيٍ وثوب خزّ وجبة بياض محشوة وقميص، فقال: ألبسوه وأعيدوه إلي، فلبست الخز والوشي على الثياب التي كانت عليّ وألقيت القميص على أحد منكبي والجبة على المنكب الآخر. فقال لي: يا ابن أبي حفصة أتدخل على أمير المؤمنين هكذا وقد مثلت بنفسك؟ فقلت: والله لو كانت كرامة أمير المؤمنين أُحد لما خلعت منها شيئاً أطيق حمله، ثم دخلت. فلما رآني تبسم ثم قال: مطرف، فأبطأوا به، فقال: المطرف! وأنا قائم، ثم قال الثالثة المطرف، فلما أبطأوا انصرفت وقعدت خلف الستر، فلم ألبث أن رفع الستر وخرج أمير المؤمنين على دابة، فقمت إليه، فلما رآني قال: المطرف! فما برح حتى أُتي به فنشر عليّ بين يديه، وأمر لي بعشرة من خدم الروم وقطيعة بناحية السواد، فبعت القطيعة من عيسى بن موسى بعشرين ألف درهم وبرذون بسرجه ولجامه. قال: فلم يزل مروان على باب المهدي حتى هلك.
وعن عبد الله بن هارون قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله عن المغيرة قال: دخل المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي وأبو السائب والعثماني ابن لؤلؤ الرطب وابن أخت الأحوص على المهدي وهو بالمدينة فقال: أنشدوني. فأنشد المغيرة:
وللناس بدرٌ في السماء يرونه ... وأنت لنا بدرٌ على الأرض مقمر
فبالله يا بدر السماء وضوءه ... تزال تكافي عُشر ما لك أضمر
وما البدر إلا دون وجهك في الدجى ... يغيب فتبدو حين غاب فتقمر
وما نظرت عيني إلى البدر ماشياً ... وأنت فتمسي في الثياب فتسحر
وأنشد ابن أخت الأحوص:
قالت كلابة: من هذا؟ فقلت لها: ... هذا الذي من أعدائه زعموا
إني امرؤٌ لجّ بي حبٌّ فأحرضني ... حتى بليت وحتى شفني السقم
وأنشده العثماني المخزومي:
رمى القلب من قلبي السواد فأوجعا ... وصاح فصيح بالرحيل فأسمعا
وغرّد حادي البين وانشقت العصا ... فأصبحت مسلوب الفؤاد مفجّعا
كفى حزناً من حادث الدهر أنني ... أرى البين لا أسطيع للبين مدفعا
وقد كنت قبل اليوم بالبين جاهلاً ... فيا لك بيناً ما أمرّ وأوجعا
وأنشده أبو السائب:

أصيخا لداعي حبّ ليلى فيمِّما ... صدور المطايا نحوها فتسمعا
خليلي إن ليلى أقامت فإنني ... مقيمٌ وإن بانت فبِينا بنا معا
وإن انثنت ليلى بربعٍ يحوزها ... قعيدكما بالله أن تتزعزعا
فقال: والله لأغنينكم الليلة! ثم قال للمغيرة: هل لك من حاجة؟ فإنه بلغني أنك بعت جاريتك في دين كان عليك. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد فعلت ذلك. قال: فلأردنها عليك، فأجاز ثلاثة منهم بعشرة آلاف دينار إلا ابن لؤلؤ الرطب فإنه سار معه، فمرّ بدار فقال: لمن هذه الدار؟ فقال: للأحوص الذي يقول:
يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأراك تفعل ما هويت وبعضهم ... مدق الحديث يقول ما لا يفعل
فقال: عزّ عليّ لم تأخذ شيئاً، ثم قال للربيع: اعتق ما تملك إن لم تعطه أنت عشرة آلاف دينار وأنا عشرة آلاف دينار، فقبضها وخرج.
قال: ودخل ابن الخياط على المهدي فمدحه فأمر له بخمسين ألف درهم، فلما قبضها فرقها بين الناس وأنشأ يقول:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبددت ما عندي
فأعطاه لكل درهم ديناراً.
قال: ودخل سلم بن عمرو الخاسر على المهدي فقال:
أليس أحق الناس أن يدرك الغنى ... مرجّي أمير المؤمنين وسائله
لقد بسط المهدي عدلاً ونائلاً ... كأنهما عدل النبي ونائله
فقال: أما ما ذكرت يا سلم من الجود فوالله ما تعدل الدنيا عندي خاتمي هذا، وأما العدل فإنه لا يقاس برسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحد وإني لأتحراه جهدي، ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، ثم وفد عليه في السنة الثانية فأنشده:
إن الخلافة لم تكن بخلافة ... حتى استقرت في بني العباس
شدّت مناكب ملكهم بخليفةٍ ... كالدهر يخلط لينه بشماس
فأمر له بعشرين ألف درهم وعشرين ثوباً، فلما كان في العام الثالث وفد عليه فأنشده:
أفنى سؤال السائلين بجوده ... ملِكٌ مواهبه تروح وتغتدي
هذا الخليفة جوده ونواله ... نفد السؤال وجوده لم ينفد
فأمر له بثلاثين ألف درهم وثلاثين ثوباً.
وعن أحمد بن بكر الباهلي قال: حدثني حاجب المهدي قال: قال لي المهدي يوماً نصف النهار: اخرج وانظر من بالباب. فخرجت فإذا بشيخ واقف، فقلت: ألك حاجة؟ فقال: ما يمكن أن أخبر بحاجتي أحداً غير أمير المؤمنين، فتركته ودخلت على المهدي، فقال لي: اخرج فانظر من بالباب، فخرجت فإذا الشيخ، فقلت: إن كان لك حاجة فاذكرها. قال: لا أذكرها إلا لأمير المؤمنين. ففعل هذا مرات، فقال المهدي: انظر من بالباب. فقلت: شيخ قد سألني غير دفعة عن حاجة فقال: ما يمكن أن أخبر بحاجتي أحداً دون أمير المؤمنين، فقلت: أيدخل؟ قال: نعم ومره بتخفيف، فخرجت وقلت له: ادخل وخفف. فدخل وسلم بالخلافة ثم قال: يا أمير المؤمنين إنا قد أُمرنا بالتخفيف:
فإن شئت خففنا فكنا كريشةٍ ... متى تلقها الأنفاس في الجو تذهب
وإن شئت ثقّلنا فكنا كصخرةٍ ... متى تلقها في حومة البحر ترسب
وإن شئت سلمنا فكنا كراكبٍ ... متى يقض حقاً من سلامك يعزب
فضحك المهدي وقال: بل تكرم وتقضى حاجتك. فقضى حاجته ووصله بعشرة آلاف درهم.

قال المبرد: حدثني محمد بن عامر الحنفي قال: ذكروا أن فتياناً كانوا مجتمعين قد ائتلفوا في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه، فذكر ذاكرٌ منهم وقال: كنا قد اكترينا داراً شارعتها على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس فكنا لا نستكثر أن تقع مؤونتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم أصحابه بأمره الدهر الأطول، فكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام أطيبه ولبسنا من اللباس ألينه ودعونا الملهين والملهيات وكنا في أسفل الدار، وإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع فيها بالنظر إلى الناس، وكنا لا نُخلّ بالنبيذ في عسرٍ ولا يسر ولو نبيع الثوب من الأثواب، فإنا لكذلك يوماً إذا بفتىً يستأذن علينا، فقلنا له: اصعد وادخل، فإذا رجل حلو الوجه سريّ الهيئة تنبّيء رؤيته أنه من أهل النعم. فأقبل علينا فقال: إني سمعت بمجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة ألفتكم حتى كأنكم أُدرجتم جميعاً في قلب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم وأن لا تحتشموني. قال: وصادف ذلك منا إقتاراً من القوت وإكثاراً من النبيذ. فقال لغلام معه: هات ما عندك. فغبر عنا غير بعيد ثم أتى بسلة خيزران فيها طعام من جداء ودجاج وفراخ ورقاق وأُشنان وأخلّة ومحلب فأصبنا من ذلك الطعام ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل، فإذا هو أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حُدث وأمسكهم عن ملاحاة إذا خولف، ثم أفضينا معه إلى أكرم مخالعة وأجمل معاشرة، فكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيظهر لنا أنه لا يحب غيره ويُرى ذلك في أسارير وجهه، فكنا نغنى به عن حسن الغنى ونتمثل بكلامه ونتدارس أخباره، فشغلنا بظرفه وبما عاشرنا به عن وصفه والسؤال عن تعرف اسمه ونسبه، فلم يكن عندنا من أمره إلا معرفة الكنبة، فإنا سألناه عنها فأنبأنا أنه يكنى أبا الفضل، فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس: ألا أخبركم كيف عرفتكم؟ قلنا له: إنا لنحب ذاك. فقال: أحببت جاريةً في جواركم وكانت مولاتها ذات حبائب فكانت تختلف بالرسائل بينها وبين حبائبها وكنت أجلس لها في الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبّرت عن ائتلافكم ومساعدة بعضكم بعضاً فكان الدخول عندي فيما أنتم فيه آثر عندي من الظفر بالجارية. فسألناه فخبرنا بمكانها. فقلنا له: فإنا نخدعها لك حتى يظفرك الله بها. قال: يا إخوتي إني والله على ما ترون من شدة الشوق إليها والكلف بها وما قدّرت فيها حراماً قط وما تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمنّ الله جل وعز بثروةٍ فأشتريها. فأقام معنا شهرين ونحن به على غاية الاغتباط وبقربه على غاية السرور، ثم احتبس عنا فتألمنا لفراقه كل ممضّ ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه فيكون فقده أخف علينا، فكدر عيشنا الذي كان صافياً قد طاب لبابه، وقبح ما كان قد حسن لنا بقربه وانصرام الغمّ بمحادثته، فكنا فيه كما قال القائل:
يذكرنيهم كلّ خيرٍ رأيته ... وشرٍ فما أنفك منهم على ذكر

فغاب عنا عشرين يوماً لا نلتذهنّ، ثم نحن يوماً مجتازون في الرصافة فإذا به وقد طلع في موكب نبيل وزي جليل فحيث بصر بنا انحطّ عن دابته وانحط غلمانه ثم قال: يا إخوتي ما هنأني عيش بعدكم ولست أماطلكم بحديثي وخبري حتى نبلغ المسقر، ثم مال بنا إلى مسجد فقال: أعرفكم أولاً نفسي، أنا العباس بن الأحنف وكان من خبري أني انصرفت من عندكم إلى منزلي والمسودة قد أحاطت بي فمُضي بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال: ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتّيك! وإن الذي ندبتك له من شأنك، وقد عرفت خطرات الخلفاء، وإني أخبرك أن ماردة هي الغالبة على أمير المؤمنين وقد جرى بينهما عتب وهي بعزة دلالة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعزة الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك، وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تستفزه الصبابة، فقل شعراً تسهل به هذا السبيل، فقضى كلامه، ثم دعاه أمير المؤمنين فصار إليه، وأُعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع ونفر عني كل شيء من العروض ثم انفتح لي شيء من الأشياء والرسل ما تغبّني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني، فقلت لأحد الرسل: أبلغ الوزير قد قلت أربعة أبيات فإن كان فيها مقنع. وفي قدر ذهاب الرسول ومجيه حضرني بيتان من غير ذلك الرويّ، فكتبت الأربعة الأبيات في صدر الرقعة وعقّبت بالبيتين فكتبت:
العاشقون كلاهما متغضّب ... وكلاهما متوجِّدٌ متجنّب
صدت مغاضبةً وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذين هجرتهم ... إن المتيَّم قلّ ما يتجنب
إن التجنب إن تطاول منكما ... دب السلوُّ له فعزّ المطلب
ثم كتبت تحت ذلك:
لا بد للعاشق من وقفةٍ ... تكون بين الوصل والصرم
حتى إذا الهم تمادى به ... راجع من يهوى على رغم

قال: ووجهت بالكتاب فدفعه إلى الرشيد، فقال: والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا، والله لكأني قصدت به. فقال يحيى: فأنت والله المقصود به يا أمير المؤمنين، هذا يقوله العباس بن الأحنف في هذه القصة. فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قولي: راجع من يهوى على رغم، استفرغ ضاحكاً ثم قال: إني والله أراجعها على الرغم، وقال: يا غلام نعليّ، فنهض وأذهله الجذل والسرور عن أن يأمر لي بشيء. فدعاني يحيى وقال: إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء. قلت: لكن هذا الخبر لم يقع مني بغاية الموافقة. قال: إذاً أوقّعه. ثم جاء إنسان فساره بشيء فنهض ونهضت لنهوضه. فقال: يا عباس أمسيت أنبل الناس، أتدري ما سارني به هذا الرسول؟ قلت: لا. قال: ذكر أن ماردة تقلت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه فقالت: كيف كان هذا يا أمير المؤمنين؟ فأعطاها الشعر وقال: هذا الذي جاء بي! قالت: فمن يقوله؟ قال: العباس بن الأحنف. قالت: فبكم كوفيء؟ قال: ما فعلت شيئاً. قالت: إذاً والله لا أجلسنّ حتى يكافأ! فأمير المؤمنين قائم لقيامها وأنا قائم لقيامهما وهما يتناظران في صلتك، فهذا كله لك. قلت: ما لي من هذا إلا الصلة! فضحك وقال: هذا أحسن من شعرك. فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير وأمرت هي لي بمال دونه وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر. ثم قال لي الوزير: تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤثّل لك بهذا المال، فاشتريت لي ضياع تُغلّ عشرين ألف درهم ودفع إلى بقية المال. فهذا هو خبري الذي عاقني عنكم، فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق بينكم المال. فقلنا: هنأك الله مالك، كلنا يرجع إلى نعمة من أبيه وأهله. فأقسم وأقسمنا فقال: أنتم إسوتي فيه. قلنا: أما هذا فنعم، فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها. قال: فمضينا إلى صاحبتها، وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر مما بها من الظرف، وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار، فاستامت بها صاحبتها خمس مائة دينار فأجبناها بالتعجب فحطت مائة. فقال لنا العباس: يا فتيان إني أحتشم والله أن أقول بعد ما قلتم ولكن هي جارية في نفسي بها يتم سروري، إن هذه الجارية أريد إيثار نفسي بها وأكره أن تنظر إليّ بعين من قد ماكس في ثمنها فدعوني أعطيها خمس مائة دينار. قلنا: قد حطت مائة! قال: وإن فعلت. فصادفت مولاتها رجلاً حراً وأخذت من الثمن ثلاثمائة وجهزتها بالباقي فما زال لنا عشيراً حتى فرق بيننا وبينه الموت.

وعن المبرد قال: حدثني من اعتمد عليه أن مسلم بن الوليد كان يمدح من دون الخليفة وكان يقول: إن نفسي تذوب حسرات من أنه يحوي خزائن الخلفاء من لا يقاربني في أدب ولا يوازيني في نسب ولا يصلح أن يكون شعره خادماً لشعري. وكان إذا كسب جمع أصحابه فلم يخرج من منزله حتى يأتي على جميع ما معه، فلا يزال في أكل وشرب وقصف حتى يفنى ما معه، فعرف بذلك، وكانت البرامكة ويزيد بن مزيد الشيباني ومحمد بن منصور بن زياد يبرونه ويعطفون عليه ويتفقدون من حاله. فخرج ذات يوم فلقي يزيد بن منصور الحميري بباب الرشيد فسلم عليه فرد عليه السلام ورحب به وسأله عن شأنه فخبره وسأله أن يقربه من الخليفة وأن يحتال حتى يعد في ممازحته ومن يجري عليه أرزاقه. فقال له الحميري: سأتأتّى لوصولك إلى أمير المؤمنين. فدخل الحميري فأصاب أمير المؤمنين لقس النفس قد اشتمل عليه الفكر في سرعة تقضي أمور الدنيا وأنه لا يتشبث منها بشيء إلا كان كالظل الزائل والسراب الخادع. فقال له جعفر بن يحيى: يا أمير المؤمنين أفتظن أن هذا الفكر يحبس عليك الأيام ويمنعك مما لا تستمتع به؟ إنما هذا الذي أنت فيه عارض عرض لك، وقد كان ملك من الملوك يقال له بهمان وكان من أجلّ ملوك العجم وكان حكيماً يقول: الهم مفسدة للنفس ومضلة للفهم ومشدهة للقلب، ومن أعظم الخطإ التشاغل بما لا يمكن دفعه، وقد قالت الحكماء: بالسرور يطيب العيش ومع الهم يتمنى الموت. وقال له سليمان بن أبي جعفر: يا أمير المؤمنين يروى عن لقمان الحكيم أنه قال: من يملك يستأثر، ومن لا يستشر يندم، والهم نصف الهرم، والفقر الموت الأكبر. قال: فكأن الرشيد نشط واندفع عنه ما كان اعتراه من ذلك الفكر. فتقدم إليه الحميري وقال: يا أمير المؤمنين خلّفت بالباب آنفاً رجلاً من أخوالك الأنصار متقدماً في شعره وأدبه وظرفه، أنشدني قصيدة يذكر فيها أنسه ولهوه ولعبه ومحادثته إخوانه ويذكر مجالس اتصلت له بأبلغ قول وأحسن وصف وأقرب رصف، يبعث والله على الصبابة والفرح ويباعد عن الهم والترح، وكأنه قد وفق بيمن أمير المؤمنين وسعادة جده لأن يكون مبرئاً من هذه الشكوى زائداً في سرور أمير المؤمنين مستدعياً له صلة رحمه والتشرف بخدمته. قال: فاستفزه السرور والقلق إلى دخوله عليه واستماع قصيدته وجعل يتابع الرسل بعضهم في إثر بعض حتى دخل. وكان حلو الشمائل، فوصل إليه في وقت قد كان خرج فيه من رسم الشباب وشرته ولم يكن في عداد من قد اضطرب سناً، وكان ناهيك من رجل معه فهم وتجربة وتمييز ومعرف، فأمهل حتى سكن ثم أذن له في الجلوس والانبساط واستدعى منه أن يزيد في الأنس، فانبرى مسلم ينشد قصيدته، فجعل الرشيد يتطاول لها ويستحسن ما حكاه من وصف شراب ولهو ودماثة وغزل وسهولة ألفاظ، فأمر له بمال وأمر أن يتخذ له مجلس يتحول إليه، وجعل الرشيد وأصحابه يتناشدون قصيدته، فسماه يومئذ بآخر بيت من قصيدته صريع الغواني، والرشيد الذي سماه بهذا الاسم، والقصيدة هي هذه:
أديرا علي الكأس لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
فما جزعي أني أموت صبابةً ... ولكن على من لا يحل لها قتلي
أُحب التي صدّت وقالت لتربها: ... دعيه الثريا منه أقرب من وصلي
بلى ربما وكلت عيني بنظرةٍ ... إليها تزيد القلب خبلاً على خبل
كتمت تباريح الصبابة عاذلي ... فلم يدر ما بي واسترحت من العذل
ومانحةٍ شّرابها الملك قهوةٍ ... يهودية الأصهار مسلمة البعل
ربيبة شمس لم تُهجن عروقها ... بنارٍ ولم يجمع لها سعف النخل
بعثنا لها منا خطيباً لبضعها ... فجاء بها يمشي العرضنة في مهل
قد استودعت دناً لها فهو قائمٌ ... بها شفقاً بين الكروم على رجل
فوافى بها عذراء خلٌ أخو ندىً ... جزيل العطايا غير نكسٍ ولا وغل
معتقةٍ لا تشتكي دم عاصرٍ ... حروريةً في جوفها دمها يغلي
أغارت على كف المدير بكونها ... فصارت له منها أنامل كالذبل

أماتت نفوساً من حياةٍ قريبةً ... وماتت فلم تُطلب بوترٍ ولا تبل
شققنا لها في الدنّ عيناً فأسبلت ... كما أخضلت عين الخريدة بالكحل
كأن فنيقاً بازلاً شقّ نحره ... إذا أسفرت منها الشعاع على البزل
ودارت علينا الكأس من كف ظبية ... مبتلةٍ حوراء كالرشإ الطفل
كأن ظباءً عكفاً في رياضها ... أباريقها أوجسن قعقعة النبل
وحن لنا عودٌ فباح بسره ... فكان عليه ساق جاريةٍ عطل
تضاحكه طوراً وتبكيه تارةً ... خدلَّجةٌ هيفاء ذات شوىً عبل
إذا ما علت منا ذؤابة واحد ... تمشت به مشي المقيد في الوحل
فلا نحن متنا موتة الدهر بغتةً ... ولا هي عادت بعد علٍ ولا نهل
سأنقاد للّذات متبع الهوى ... لأمضي همّاً أو أصيب فتىً مثلي
هل العيش إلا أن تروح مع الصبا ... وتغدو صريع الكأس والأعين النجل
قيل: وأدخل الفضل بن يحيى أبا نواس إلى عند الرشيد فقال له الرشيد: أنت القائل:
عُتقت في الدنّ حتى ... هي في رقة ديني
أحسبك زنديقاً! قال: يا أمير المؤمنين قد قلت ما يشهد لي بخلاف ذلك. قال: وما هو؟ قال قلت:
أية نارٍ قدح القادح ... وأي حدٍ بلغ المازح
لله درّ الشيب من واعظ ... وناصحٍ لو قبل الناصح
فاغد فما في الحق أغلوطةٌ ورح لما أنت له رائح
من يتق الله فذاك الذي ... سيق إليه المتجر الرابح
لا يجتلي الحوراء من خدرها ... إلا امرؤٌ ميزانه راجح
فاسم بعينيك إلى نسوةٍ ... مهورهن العمل الصالح
فقال الفضل: يا سيدي إنه ليؤمن بالبعث ويحمله المجون على ذكر ما لا يعتقده، ثم أنشد:
لقد دار في رسم الديار بكائي ... وقد طال تردادي بها وعنائي
كأني مريعٌ في الديار طريدةً ... أراها أمامي مرةً وورائي
فلما بدا لي حانٍ لا تهرّ كلابه ... عليّ ولا ينكرن طول ثوائي
فما رمته حتى أتى دون ما حوت ... يميني وحتى ريطتي وحذائي
وكأس كمصباح السماء شربتها ... على قبلةٍ أو موعدٍ بلقاء
أتت دونها الأيام حتى كأنها ... تساقط نورٍ من فتوق سماء
ترى ضوءها من ظاهر البيت ساطعاً ... عليك ولو غطيته بغطاء
تبارك من ساس الأمور بقدرةٍ ... وفضّل هاروناً على الخلفاء
نراك بخيرٍ ما انطوينا على التقى ... وما ساس دنيانا أبو الأمناء
إمام يخاف الله حتى كأنما ... يؤمِّل رؤياه صباح مساء
أشمَّ طوال الساعدين كأنما ... يناط نِجادا سيفه بلواء

فخلع عليه الرشيد ووصله بعشرة آلاف درهم والفضل بمثلها، فنظر إلى جارية تختلف كأنها لؤلؤة فقال: يا أمير المؤمنين أنا ميت في ليلتي هذه فإذا متّ فمُر أن أدفن في بطن هذه الجارية. فقال له الرشيد: خذها لا بارك الله لك فيها! قال أبو نواس: فأخذتها وانصرفت بمثل الشمس حسناً وفي منزلي غلامٌ مثل القمر، فلقيني محمد بن يسير الشاعر فقال: أتيتك مهنئاً بما حباك به أمير المؤمنين. فقلت: نعمةٌ تتبعها نقمة. قال: ولم ذاك؟ فقلت: عندي غلام مثل القمر وهذه مثل الشمس وإن جمعتهما أتخوف ما تعلم وإن أفردت الجارية لم آمن عليها وغلامي لا بد منه. قلت: اجعلها عند بعض إخوانك إلى وقت حاجتك إليها. قلت: فلعل الحارس هو المتحرس منه. قال: فصيرها عند عجوز تثق بها، قلت: لعلي أسترعي الذئب! قال: ثم افترقنا، فالتقى معه أبو نواس بعد ثلاثة أيام فقال له: يا محمد بن يسير ما على الأرض شر منك، شاورتك في أمر فلم تفتح عليّ فيه شيئاً فلما فارقتك ازدحم علي الرأي المصيب. قال محمد فماذا صنعت؟ قال: زوّجت الشمس من القمر فحصّلتهما لأقضي بهما وطري! قال: كان الشيء عليك حلال فجعلته حراماً. قال: يا أحمق شاورتك في الحلال والحرام! إنما قلت كيف الرأي في تحصيلهما! ثم أنشأ:
زوّجت هذاك بهذه لكي ... أنكح ثنتين فثنتين
أنكح هذه مرةً ثم ذا ... أُدير رمحاً بين صفين
متعت نفسي بهما لذةً ... يا من رأى مطلع شمسين
وحدثنا محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان وهو أمير البصرة قال: كان بالبصرة رجل من بني تميم وكان شاعراً ظريفاً وكنت آنس به فأردت أن أخدعه فقلت: يا أبا نزار أنت شاعر وظريف والمأمون أجود من السحاب الحافل والريح العاصف فما يمنعك منه؟ قال: ما عندي ما أتحمل به. قلت: أنا أعطيك نجيباً فارهاً ونفقة سابغة تخرج إليه وقد امتدحته فإنك إن حظيت بلقائه صرت إلى أمنيتك. قال: والله أيها الأمير إني لا أظنك صادقاً. قلت: أجل، فدعوت بنجيبة فارهة. فقال: هذه إحدى الحسنيين فما بال الأخرى؟ فدعوت له بثلاثمائة درهم. قال: وهذه الثانية، قال: أحسبك أيها الأمير قصّرت في النفقة. قال: هي لك كافية إن قبضت يدك عن السرف. قال: ومتى رأيت السرف في أكابر بني سعد فكيف في أصاغرها؟ فأخذ النجيبة والنفقة ثم عمل أرجوزة ليست بطويلة فأنشدنيها وحذف منها ذكري. فقلت له: ما صنعت شيئاً. قال: وكيف ذلك؟ قلت: تأتي الخليفة وأنت وافد فلا تثني على أميرك! قال: أيها الأمير أردت أن تخدعني فوجدتني خدّاعاً. أما والله ما لكرامتي حملتَني وجُدت لي بمالك الذي ما رامه أحد إلا جعل الله خدّه الأسفل ولكن لأذكرك! قلت: فأنشدني ما قلت. فأنشدني، فقلت: أُعنت وأجدت. فتركني وخرج حتى أتى الشأم والمأمون بسلغوس، فأخبرني قال: بينا أنا غزاة قرة قد ركبت نجيبتي ولبست أطماري وأنا أريد العسكر فإذا أنا بكهل على بغل فاره ما يقرّ قراره ولا يدرك خطاه، فتلقاني مكافحة ومواجهة وقال: السلام عليكم، بكلام جهوري ولسان بسيط. فقلت: وعليكم السلام. فقال: قف إن شئت. فوقفت، فتضوعت منه رائحة المسك الأذفر. فقال: ممن؟ قلت: رجل من مضر. قال: ونحن من مضر، ثم ماذا؟ قلت: من بني تميم. قال: وما بعدهم؟ قلت: من بني سعد. قال: هيه، فما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى راحة ولا أوسع باحة ولا أطول باعاً ولا أمدّ يفاعاً منه. قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذّ على أفواه الرواة ويحلو في أذن المستمعين. قال: فأنشدنيه. فمضيت وقلت: يا ركيك أخبرك أني قصدت الخليفة بشعر قلته ومديح حبّرته فتقول أنشدنيه؟ فقال: وما الذي تأمل فيه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي فألف دينار. قال: أنا أعطيك ألف دينار إن رأيت الشعر جيداً والكلام عذباً وأضع عنك العناء وطول الترداد، متى تصل أنت إلى الخليفة؟ بينك وبينه عشرة آلاف رامح ونابل. قلت: فلي عليك الله أن تفعل؟ قال: لك الله عليّ أن أفعل. قلت: ومعك مال؟ قال: بغلي هذا خير من ألف دينار أنزل لك عن ظهره. قال: فغضبت وعارضتني مِرة بني سعد وخفة أحلامها وقلت: ما يساوي هذا البغل، هذا النجيب! قال: فدع عنك هذا ولك الله أن أعطيك ألف دينار، فأنشدته الأرجوزة وقلت:
مأمون يا ذا المنن الشريفه ... وصاحب المرتبة المنيفه

وقائد الكتيبة الكثيفه ... هل لك في أرجوزةٍ ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفه ... لا والذي أنت له خليفه
ما ظُلمت في أرضنا عفيفه ... أميرنا شكّته خفيفه
وما اجتبى شيئاً سوى الوظيفة ... فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه
فوالله ما أتممت إنشادها حتى جاءني زهاء عشرة آلاف فارس قد سدّوا الأفق وهم يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فأخذني القلق، ونظر إليّ بتلك الحال وشملي قد تبدد فقال: لا بأس عليك! قلت: يا أمير المؤمنين أمعذري أنت؟ قال: نعم. ثم التفت إلى خادم في جانبه وقال له: أعطه ما معك، فأخرج له كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار وقال: هاك سلام عليك، فكان آخر العهد به.
حدثنا إبراهيم بن عبد السلام عن الحسين بن الضحاك قال: دخلت أنا ومحمد بن عمرو الرومي دار المعتصم بالله فخرج علينا كالحاً فجاء إيتاخ وقال: الملهون على الباب مخارق وعلويه وفلان وفلان. فقال: اغرب، عليك وعليهم لعنة الله! قال: فتبسمت إلى محمد وتبسم إليّ. فقال المعتصم: مم تبسمت يا حسين؟ قلت: من شيء خطر لي، قال: هاته، فأنشدته:
انف عن قلبك الحزن ... بدنوٍ من السكن
وتمتع بِكَرّ طر ... فك في وجهه الحسن
فدعا بألفي دينار، ألف لي وألف لمحمد بن عمرو. فقلت: يا أمير المؤمنين الشعر لي فما معنى ألف لمحمد؟ قال: لأنه جاء معك. وأمر الملهين بالدخول فأدخلوا، فما زال ينشد الشعر، ولقد قام يريد البول فسمعته يردده.
قال أبو العيناء: أنشدني المعتصم بعقب مدحٍ جرى لبغداد:
سقاني بعينيه كأس الهوى ... فظلت وبي منه مثل اللمم
بعيني مهاةٍ شقيقته ... وشنبٍ عذابٍ وفرعٍ أحم
قال أبو العيناء: فتوهمت أنه يعني سر من رأى ويكني عنها بذلك الكلام، فقلت: يا أمير المؤمنين قال مروان في جدك قريش: الأبلج ذو البهاء غيث العفاة غد الأنواء وهم زمام الدولة الزهراء. فقال: قل يا أبا عبد الله في مدح بني هاشم لك ولغيرك فلقد أصبت مقالاً، فأنشدته لمروان بن أبي حفصة:
إلى ملكٍ مثل بدر الدجى ... عظيم الفناء رفيع الدعم
قريع نزارٍ غداة الفخار ... ولو شئتُ قلتُ جميع الأمم
له كفُّ جودٍ تفيد الغنى ... وكفُّ تبيد بسيف النِّقم
فقال: زدني، فأنشدته:
انتجعي يا ناق ملك غالب ... قريش بطحاء أولي الأهاضب
والرأس ممدودٌ على المناكب ... مدَّ القباطيّ على المشاجب
فقال: زدني، فأنشدته:
يا قطب رجراجة الملحاء ... ومنزل البدر من السماء
والمجتدي في السنة العجفاء
فقال: حسبك يا أبا عبد الله. ثم التفت إلى جارية بين يديه فقال: عشر بدر ووصيفة وفرساً ومملوكاً وخمسين ثوباً الساعة، فجيء بذلك كله، فأعطاه إياه وانصرف. فقال له الناس: يا أبا العيناء ما هذا؟ قال: مال الله على يد عبد الله، الحمد لله والشكر لأمير المؤمنين ما دامت السماء وما حملت مقلتاي الماء.
قال أحمد بن أبي طاهر: أخبرني مروان بن أبي الجنوب قال: لما استُخلف المتوكل بعثت إليه بقصيدة مدحت فيها ابن أبي دؤاد وفي آخرها بيتان ذكرت فيهما ابن الزيات بين يدي ابن أبي دؤاد وهما:
وقيل ليَ الزيات لاقى حمامه ... فقلت أتاني الله بالفتح والنصر
لقد حفر الزيات بالغدر حفرةً ... فألقي فيها بالخيانة والغدر
فلما صارت القصيدة في يدي ابن أبي دؤاد ذكر لك للمتوكل وأنشده البيتين، فقال: احضرنيه. قال: هو باليمامة. قال: يُحمل. قلت: عليه دين. قال: كم؟ قلت: ستة آلاف دينار. قال: يعطاها. فأُعطيت ذلك وحملت وصرت إلى سر من رأى وامتدحت المتوكل بقصيدة أقول فيها:
رحل الشباب وليته لم يرحل ... والشيب حل وليته لم يحلل
فلما صرت من القصيدة إلى هذا البيت:
كانت خلافة جعفر كنبوةٍ ... جاءت بلا طلب ولا بتبخل
وهب الإله له الخلافة مثلما ... وهب النبوة للنبي المرسل
فأمر لي بخمسين ألف درهم.

قال: وكان علي بن الجهم يقع في مروان ويثلبه حسداً لمنزلته من أمير المؤمنين. فقال له المتوكل: يا علي أيكما أشعر؟ قال: أنا أشعر منه. قال: ما تقول يا مروان؟ قال: إذا حققت شعرك في أمير المؤمنين لم أبال بمن زيّف شعري. ثم التفت مروان إلى علي فقال: يا علي أنت أشعر مني؟ قال: نعم، تشكّ في ذا؟ قال أمير المؤمنين: بيني وبينك. قال: هو يحابيك. فقال المتوكل: هذا من عيّك. ثم التفت إلى حمدون النديم فقال: ذا حكم بينكما.
فقال: يا أمير المؤمنين تركتني بين لحيي الأسد! قال: لا بد أن تصدقني قال: يا أمير المؤمنين أعرقهما في الشعر أشعرهما، فقال المتوكل: يا مروان اهجه. قال: لا أبدأه ولكن يقول. فقال علي: قد كظّني النبيذ ولست أقدر أن أقول. قال مروان: لكني أقول:
إن ابن جهمٍ في المغيب يعيبني ... ويقول لي حسناً إذا لاقاني
وإذا التقينا فاق شعري شعره ... ونزا على شيطانه شيطاني
إن ابن جهمٍ ليس يرحم أمه ... لو كان يرحمها لما عاداني
فقال المتوكل: يا مروان بحياتي لا تقصر! فقال:
يا عليُّ يا ابن بدرٍ ... قلت أمي قرشيه
قلت ما ليس بحقٍ ... فاسكتي يا نبطيه
اسكتي يا بنت جهمٍ ... اسكتي يا حلقيه
قال: فجعل المتوكل يضرب برجله ويضحك وأمر لي بألف دينار، قال مروان: صرت إلى المتوكل فقلت:
سقى الله نجداً والسلام على نجد ... ويا حبذا نجدٌ على القرب والبعد
نظرت إلى نجدٍ وبغداد دونها ... لعلي أرى نجداً وهيهات من نجد
ونجدٌ بها قومٌ هواهم زيارتي ... ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي
قال: فلما تممت إنشادها أمر لي بعشرين ومائة ألف درهم وخمسين ثوباً وثلاثة من الظهر فرساً وبغلة وحماراً، فما برحت حتى قلت في شكره:
تخيّر رب الناس للناس جعفرا ... فملّكه أمر العباد تخيّرا
فلما صرت إلى هذا البيت:
فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد ... فقد خفت أن أطغى وأن أتجبّرا
قال: لا والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي ولا تبرح أو تسأل حاجة.
قلت: يا أمير المؤمنين الضيعة التي أمرت بإقطاعي إياها من اليمامة ذكر ابن المدبر أنها وقف من المعتصم. قال: فإني أقبّلكها بخراج درهم. قلت: لا يحسن أن يؤدي درهم. فقال ابن المدبر: فألف درهم. قلت: نعم. فأمضاها لي ثم قال: ليست هذه حاجة. قلت: فضياعي التي كانت لي وحال ابن الزيات بيني وبينها. فأمر بردّها عليّ.
قال: وقال أبو يعقوب الخطابي: كنت جالساً عند معن بن زائدة وإذا عليه إزار يساوي أربعة دراهم، فقال: يا أبا يعقوب هذا إزاري وقد قسمت العام في قومك خاصة أربعين ألف دينار، فبينا نحن نتحدث إذ أبصر أعرابياً يحط به الآل من خوخةٍ مشرفة له على الصحراء، فقال لحاجبه: إن كان هذا يريدنا فأدخله! فدخل الأعرابي وسلّم وأنشأ يقول:
أصلحك الله قلّ ما بيدي ... فلا أطيق العيال إذ كثروا
ألح دهرٌ رمى بكلكله ... فأرسلوني إليك وانتظروا
قال: فاضطرب، وقال: أرسلوك وانتظروا! يا غلام ما فعل بغلتنا الفلانية؟ قال: حاضرة. قال: كم هي؟ قال: ألف دينار. قال: اطرحها إليه. ثم قال: اذهب إليهم بما معك ثم إذا احتجت فارجع.
وعن أبي يعقوب الخطابي قال: دخل أعرابي معه صبي صغير في نطع إلى معن بن زائدة وقال:
سميتُ معناً بمعنٍ ثم قلت له ... هذا سميّ امريءٍ في الناس محمود
أنت الجواد ومنك الجود أوله ... لا بل يمينك منها صورة الجود
فأعطاه ألف دينار.
قال: ودخل يزيد بن مزيد الشيباني أحد الأجواد مسجداً باليمن فوجد في قبلته مكتوباً:
مضى معنٌ وخلاني ببثّي ... على معن بن زائدة السلام
فسأل عن قائله، فإذا هو معهم، فقال: يا غلام أمعك شيء؟ قال: نعم ألف دينار. قال: فادفعها إليه. فخرج الرجل وهو يقول: رحم الله أبا الوليد وصلني حياً وميتاً.
وحدثنا جعفر بن منصور بن المهدي قال: حدثني أبي قال: حج المهدي فنزل زبالة فدخل حسين بن مطير الأسدي عليه فقال:
أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةً ... لا بل يمينك منها صورة الجود

من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقة ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال له المهدي: كذبت. قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: لقولك في معن بن زائدة:
ألِمّا على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معنٍ كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا
فلما مضى معنٌ مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
فكنت لدار الجود يا معن عامراً ... فقد أصبحت قفراً من الجود بلقعا
أبى ذكر معنٍ أن يميت فعاله ... وإن كان قد لاقى حماماً ومصرعا
فتىً عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
فقال: يا أمير المؤمنين إنما معنٌ حسنة من حسناتك وفعلة من فعلاتك، فأمر هل بألف دينار ثم قال: سل حاجتك. فقال:
بيضاء تسحب من قيامٍ فرعها ... وتغيب فيه وهو جعدٌ أسحم
فكأنها فيه نهارٌ مشرقٌ ... وكأنه ليلٌ عليها مظلم
قال: خذ بيدها، لجارية كانت على رأسه، فأولدها مطير بن الحسين بن مطير.
قال: ودخل مروان بن أبي حفصة على جعفر بن يحيى يسأله إيصاله إلى الرشيد وأنه قد مدحه بقصيدة ينشدها إياه وقد كان جعفر وصله بثلاثين ألف درهم كتب له بها إلى صالح الصيرفي وكانت فيها دراهم طبرية، فقال:
ثلاثون ألفاً كلها طبريةٌ ... دعا لي بها لما رأى الصك صالح
دعا بالزيوف الناقصات وإنما ... عطاء أبي الفضل الجياد الرواجح
فقلت له لما دعا بزيوفه ... أألجدُّ هذا منك أم أنت مازح
فلما أنشده ذلك جعفراً ضحك وقال: أنشدني مرثيتك في معن بن زائدة، فأنشده:
كأن الشمس يوم أصيب معنٌ ... من الظلماء ملبسةٌ جدولا
وكان الناس كلهم لمعنٍ، ... إلى أن زار حفرته، عيالا
فقال جعفر: هل أثابك على هذه المرثية أحد من ولده وأهله؟ قال:لا. قال: فلو كان حياً ثم سمعها منك بكم كان يثيبك؟ قال: بأربع مائة دينار. قال: أظن أنه كان لا يرضاها لك، قد أمرنا لك عن معن بأربعمائة كما ظننت وزدناك مثلها لما ظنناه به فيك فاغد على الخازن لقبضها منه.
قال: ودخل أعرابي على داود بن يزيد بالسند فقال: أيها الأمير تأهب لمديحي. فتأهب ثم قال: لئن أحسنت لأحسنن إليك ولئن أسأت لأردن شعرك عليك، فقال:
أمنت بداودٍ وجود يمينه ... من الحدث المخشيّ والبؤس والفقر
وأصبحت لا أخشى بداود نبوةً ... ولا حدثاناً إذ شددت به أزري
فما طلحة الطلحات ساواه في الندى ... ولا حاتم الطائي ولا خالد القسري
له حكم لقمانٍ وصورة يوسفٍ ... وملك سليمانٍ وصدق أبي بكر
فتىً تهرب الأموال من طلّ كفه ... كما يهرب الشيطان من ليلة القدر
فقال: يا أعرابي أحسنت فاحتكم وإن شئت فاردد الحكم إليّ. فقال: ما عند الأمير ما يسعه حكمه. فقال: أنت في هذا أشعر. وأمر هل بعشرة آلاف درهم.
قال: ودخل محمد بن الجهم على المأمون فقال: أنشدني أحسن ما سمعته في المديح. فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قوله:
يجود بالنفس إذ ضنّ البخيل بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
فقال: أنشدني أخبث ما سمعته في الهجو، فقال قوله:
قُبحت مناظره فحين خبِرتَه ... حَسُنت مناظره لقبح المَخبر
قال: فأنشدني أحسن ما سمعته في المراثي، فقال قوله:
أرادوا ليخفوا قبره عن عدوه ... فطيب تراب القبر دلّ على القبر
ومثله:
على قبره بني القبور مهابةٌ ... كما قبله كانت على ساكن القبر
قال: فأنشدني أحسن ما سمعته في الغزل، قال قوله:
حبٌ مُجدٌّ وحبيبٌ يلعب ... وأنت ملقىُ بينهم معذَّب
فاستحسن الأبيات ثم أمر بتقليدي الصيمرة والسيروان ومهرجانقذق والدينور ونهاوند، فانصرفت من عنده بولاية الجبل.

مساوئ منع الشعراء والبخل
قيل: كان أبو عطاء السندي بباب أمير المؤمنين أبي العباس وبنو هاشم يدخلون ويخرجون، فقال:

إن الخيار من البرية هاشمٌ ... وبنو أمية أرذل الأشرار
وبنو أمية عودهم من خِزوعٍ ... ولهاشم في المجد عود نضار
أما الدعاة إلى الجنان فهاشمٌ ... وبنو أمية من دعاة النار
وبهاشمٍ زكت البلاد وأعشبت ... وبنو أمية كالسراب الجاري
فلم يؤذن له في الدخول على أبي العباس ولم يصله أحد من بني هاشم، فولّى وهو يقول:
يا ليت جور بني مروان عاد لنا ... وأن عدل بني العباس في النار
قال: وقال المؤمل المحاربي: شخصت إلى المهدي وهو بالري فامتدحته فأمر لي بعشرين ألف درهم، فرُفع الخبر إلى المنصور فبعث قائداً إلى جسر النهروان يستبري القوافل، فلما وردت عليه قال: من أنت؟ قلت: أنا المؤمل أقبلت من عند الأمير من الري. فقال: إياك أردت! ثم أخذ بيدي فأدخلني على المنصور وهو بباب الذهب، فقال: أتيتَ غلاماً غراً فخدعته! فقلت: بل أتيتُ غلاماً غراً كريماً فخدعته فانخدع. فقال: أنشدني ما قلته فيه، فأنشدته:
هو المهدي إلا أن فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليلٍ ... وهذا بالنهار سراج نور
ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أميرٌ ... وما ذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر يخمد ذا وهذا ... منيرٌ عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... تراهم بين كابٍ أو أسير
وجئت وراءه تجري حثيثاً ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بين الخليق إلى الجدير
فإن بلغ الصغير مدى كبيرٍ ... فقد خُلق الصغير من الكبير
فقال: ما أحسن ما قلت ولكن لا يساوي ما أخذت، يا ربيع خذ منه ستة عشر ألفاً وخله وما سواها. قال: فحط والله الربيع ثقلي حتى أخذ مني ستة عشر ألفاً فما بقيت معي إلا نفيقة، فآليت على نفسي أن لا أدخل العراق وللمنصور بها ولاية، فلما بلغني موت المنصور واستخلاف المهدي قدمت بغداد وقد جعل المهدي على المظالم رجلاً يقال له ابن ثوبان، فرفعت إليه قصة أذكر فيها خبري فعرضها على المهدي، فضحك حتى استلقى وقال: هذه مظلمة أنا بها عارف، ردوا عليه ماله وزيدوا له عشرين ألفاً، فأخذتها وانصرفت.
قيل: ودخل عون على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين هذا جرير بالباب يريد الدخول عليك. فقال عمر: ما أدري أن أحداً من أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، يحجب عني. قال: إنه يريد إذناً خاصاً قال: أدخله. فخرج عون وأخذ بيده فأدخله، فشكا إليه طول المقام وشدة الحال وإلحاح الزمان وجهد العيال وسأله أن يأذن له في إنشاده شعراً. فقال: إن أمير المؤمنين لفي شغل عن الشعر. فقال: إنها رسالة من أهل الحجاز، قال: هاتها، فقال:
قد طال قولي إذا ما كنت مجتهداً ... يا رب عاف قوام الدين والبشر
خليفة الله ثم الله يحفظه ... عند المقام وإما كان في السفر
إنا لنرجو إذا ما الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
بذَّ الخليفة أن كانت له قدَراً ... كما أتى ربَّه موسى على قدر
ما زلت بعدك في دارٍ تؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ... أم قد كفاني الذي نُبئت من خبري
كم بالمواسم من شعثاء أرملةٍ ... ومن يتيمٍ ضعيف الصوت والنظر
أمسى حزيناً يبكي فقد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
إن تسه عنه فمن يرجو لفاقته ... أو تنح عنه فقد أنحيت من ضرر
أنت المبارك والمهدي سيرته ... تعصي الهوى وتقوم الليل بالسور
ما ينفع الحاضر المجهود بادينا ... ولا يعود لنا بادٍ على حضر

هذي الأرامل قد قضَّيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما دمت حياً لا يفارقنا ... بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فبكى عمر ثم رفع رأسه وقال: ما حاجتك يا جرير؟ قال: حاجتي ما عوّدتني الخلفاء قبلك. قال: وما ذاك؟ قال: أربعمائة من الإبل برعاتها وتوابعها من الحملان والكسى. قال له عمر: أمن المهاجرين أنت؟ قال: لا. قال: فمن الأنصار؟ قال: لا. قال: فممن أنت؟ قال: من التابعين بإحسان. قال: إذاً نجري عليك كما نجري على مثلك. قال: فإني لا أريد ذاك. قال: فما أرى لك في بيت المال غيره. قال: إنما جئت أسألك من مالك! قال: فإن لي كسوة ونفقة وأنا أقاسمكهما. قال: بل أؤثرك وأحمدك يا أمير المؤمنين. فانصرف من عنده وهو يقول:
وجدت رُقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقيا
ولبعض الشعراء في مثله:
إن حراماً قبول مدحته ... ومنع ما يرتجى من الصفد
كما الدنانير والدراهم في ال ... صرف حرام إلا يداً بيد
وقال: أبو نجدة في مثله:
فلما أن بلوناك ... ولم نلقك بالناشط
أطعنا فيك ميموناً ... فصورناك في الحائط
إذا لم تك نفّاعاً ... فأنت النازح الشاحط
سواء أنت في عيني ... بِجَي كنت أو واسط
وروي في الحديث قال: لا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبداً.
ويقولون: الشحيح أعذر من الظالم، وأقسم الله جل وعز بعزته لا يساكنه في جنته بخيل.
وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: من فتح له باب من الخير فلينتهزه فإنه لا يدري متى يُغلق عليه، وقال الشاعر في ذلك:
ليس في كل ساعةٍ وأوان ... يتهيّا صنائع الإحسان
فإذا أمكنت تقدّمت فيها ... حذراً من تعذر الإمكان
وسئل بعض الحكماء: من أكيس الناس في زماننا؟ فقال: ابن أبي دواد حيث يقول فيه الشاعر:
بدا حين أثرى بإخوانه ... ففلل عنهم شباه العدم
وحذّره الحزم صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النعم
فليس وإن بخل الباخلو ... ن يقرع سناً له من ندم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليمنع سُوّاله عن نعم
ولكن ترى مشرقاً وجهه ... ليرتع في ماله مَن عدم
وفصلٌ لبعضهم في هذا المعنى: إن لأيام القدرة على الخير غنائم فاصطنعها ما دامت راهنة لديك وأنت منها متمكن قبل أن تنقضي عنك.
وفي المثل السائر في البخل: هو أبخل من قاذر. وهو رجل من بني هلال ابن عامر بلغ من بخله أنه سقى إبله فبقي في أسفل الحوض ماء قليل فسلح فيه وقذر الحوض فسمي قاذراً، وذكروا أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به، فقالت بنو هلال: يا بني فزارة أكلتم جلد الحمار! فقالت بنو فزارة: لم نعرفه. وكان سبب ذلك أن ثلاثة أنفار اصطحبوا، فزاري وثعلبي وكلابي، فصادوا حمار وحش، فمضى الفزاري في بعض حوائجه فطبخاه وأكلاه وخبيا للفزاري جلد الحمار، فلما رجع قالا له: قد خبأنا لك فكل، فأقبل يأكل ولا يسيغه، فجعلا يضحكان، ففطن وأخذ السيف وقام إليهما فقال لهما: إن أكلتماه وإلا قتلتكما، فامتنعا، فضرب أحدهما فأبان رأسه، وتناوله الآخر فأكل منه، فقال فيهم الشاعر:
نشدتك يا فزار وأنت شيخٌ ... إذا خيرت تخطيء في الخيار
أصيحانية أدمت بسمنٍ ... أحب إليك أم جلد الحمار
فقالت بنو فزارة: منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض وقذره بخلاً. فقضى أنس بن مدرك على الهلاليين وأخذ الفزاريون منهم مائة بعير. وكانوا تراهنوا عليها، وفي بني هلال يقول الشاعر:
لقد جلّلتْ خزياً هلال بن عامر ... بني عامرٍ طراً بسلحة قاذر
فأفّ لكم لا تدركوا الفخر بعدها ... بني عامرٍ أنتم شرار المعاشر
وفي المثل: هو أبخل من نار الحباحب، وهو رجل كان في الجاهلية من بخله أنه كان يسرج السراج فإذا أراد أحد أن يأخذ منه أطفأه فضرب به المثل.

ومنهم صاحب نجيح بن سليف اليربوعي، فإنه ذكر أن نجيحاً خرج يوماً إلى الصيد فعرض له حمار وحش فاتبعه حتى دفع إلى أكمة فإذا هو برجل أعمى أسود قاعد في أطمار بين يديه ذهب وفضة ودر وياقوت، فدنا منه نجيح فتناول منها بعضها، فلم يستطع أن يحرك يده حتى ألقاها، فقال: يا هذا ما الذي بين يديك وكيف تستطيع حمله، ألك هو أم لغيرك؟ فإني أعجب مما أرى! أجوادٌ أنت فتجود لنا أم بخيل فأعذرك؟ فقال الأعمى: كيف تطلب مال رجل قد غاب منذ سنتين وهو سعد بن خشرم بن شماس؟ فأتني بسعد يعطك ما تشاء. فانطلق نجيح مسرعاً قد استطير فؤاده حتى وصل إلى محلته ودخل خباءه فوضع رأسه ونام لما به من الغم لا يدري من سعد، فأتاه آت في منامه فقال له: يا نجيح إن سعد بن خشرم في حي محلم من ولد ذهل بن شيبان، فخرج وسأل عن بني محلّم ثم سأل عن خشرم فإذا هو بشيخ قاعد على باب خبائه، فحياه نجيح فردّ عليه. فقال له نجيح: من أنت؟ قال: خشرم بن شماس. قال: وأين ابنك؟ قال: خرج في طلب نجيح بن سليف اليربوعي وذلك أن آتياً أتاه في منامه فحدثه أن مالاً له في نواحي بني يربوع لا يعلم له إلا نجيح، فضرب نجيح بطن فرسه وهو يقول:
أيطلبني من قد عناني طلابه ... فيا ليتني ألقاك سعد بن خشرم
أتيت بني يربوع تطلبني به ... وقد جئت كي ألقاك حي المحلّم
فلما دنا من محلته استقبل سعداً فقال له: أيها الراكب هل لقيت سعداً في بني يربوع؟ قال: أنا سعد فهل تدلّ على نجيح؟ قال: أنا نجيح، وحدثه بالحديث ثم قال: الدال على الخير كفاعله، وهو أول من قاله. فانطلقا حتى أتيا ذلك المكان، فتوارى الرجل حين أبصرهما وترك المال فأخذه سعد كله. فقال له نجيح: يا سعد قاسمني! فقال له: اطو عن مالي كشحاً، وأبى أن يعطيه. فانتضى نجيح سيفه فجعل يضربه حتى برد، فلما وقع قتيلاً تحول الرجل الحافظ للمال سعلاة فأسرع في أكل سعد وعاد المال إلى مكانه، فلما رأى نجيح ذلك ولّى هارباً إلى قومه.
قال: وكان أبو عميس بخيلاً فكان إذا وقع الدرهم في يده نقره بإصبعه ثم يقول له: كم من مدينة قد دخلتها ويدٍ قد وقعت فيها والآن استقر بك القرار واطمأنت بك الدار! ثم يرمي به في صندوقه فيكون ذلك آخر العهد به.
وقيل: ونظر سليمان بن مزاحم إلى درهم فقال: في شقٍّ لا إله إلا الله، وفي شقٍّ محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما ينبغي أن يكون هذا إلا معاذة، وقذفه في صندوقه.
وذكروا أنه كان بالري عامل على الخراج يقال له المسيب فأتاه شاعر فامتدحه فسعل سعلة فضرط، فأنشأ الشاعر يقول:
أتيت المسيب في حاجةٍ ... فما زال يسعل حتى ضرط
فقال غلطنا حساب الخراج ... فقلت من الضرط جاء الغلط
فولع به الصبيان، فكان كلما مر قالوا: من الضرط جاء الغلط. فما زالوا يقولون ذلك حتى هرب منها من غير عزل.
وكان أبو الأسود الدّئليّ بخيلاً وهو القائل لبنيه: لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد ولو شاء أن يوسع على الناس كلهم حتى لا يكون فقير لفعل. وسمع رجلاً يقول: من يعشي الجائع. فعشاه، ثم ذهب ليخرج فقال: هيهات تخرج فتؤذي غيريمن المسلمين كما آذيتني! ووضع رجله في الأدهم حتى أصبح.
قال: وكان رجل يأتي ابن المقفع فيلحّ عليه ويسأله الغداء عنده فيقول: لعلك تظن أني أتكلف لك شيئاً! والله لا أقدم إليك إلا ما عندي. فلما أتاه إذ ليس في بيته إلا كسر يابسة وملح جريش. وجاء سائل إلى الباب فقال: وسع الله عليك، فلم يذهب، فقال: والله لئن خرجت إليك لأدقنّ ساقك. فقال ابن المقفع للسائل: لو عرفت من صدق وعيده ما أعرف من صدق وعده لم تردد كلمة ولم تقم طرفةً ببابه.
المدائني عن خالد كيلويه قال: كنت نجاراً حاذقاً فذُهب بي إلى المنصور فقال: افتح لي باباً أنظر منه إلى المسجد وعجّل الفراغ منه. قال: ففتحت الباب وعلّقت عليه باباً وجصصته وفرغت منه قبل الصلاة، فلما نودي بالصلاة جاء فنظر إليه فأعجبه عملي وقال لي: أحسنت بارك الله عليك! وأمر لي بدرهمين.
قال: وقال المنصور للمسيب بن زهير: أحضرني بنّاء حاذقاً الساعة.

فأحضره، فأدخله إلى بعض مجالسه وقال: ابن لي بإزائه طاقاً يكون شبيهاً بالبيت. فلم يزل يُؤتى بالجص والآجر حتى بناه وجوّده، ونظر إليه واستحسنه فقال للمسيب: اعطه أجره. فأعطاه خمسة دراهم فاستكثرها وقال: لا أرضى بذلك، فلم يزل حتى نقصه درهماً، ففرح بذلك وابتهج كأنه أصاب مالاً.
وحكي عن المنصور أنه لُدغ فدعا مولىً يقال له أسلم رقاءً فأمره أن يرقيه فرقّاه فبريء، فأمر له برغيف، فأخذ الرغيف فثقبه وصيره في عنقه وجعل يقول: رقّيت مولاي فبريء فأمر لي برغيف! فبلغ المنصور ذلك فقال: لم آمرك أن تشنّع عليّ! قال: لم أشنّع إنما أخبرت بما أمرت. فأمر أن يصفع ثلاثة أيام في كل يوم ثلاث صفعات.
وعن الأصمعي قال: دخل أبو بكر الهجريّ ذات يوم على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين أتنقض عليّ فمي وأنتم أهل بيت بركة؟ فلو أذنت يل لقبّلت رأسك لعل الله يشد فمي. فقال المنصور: اختر ذلك أو الجائزة. فقال: يا أمير المؤمنين أهون عليّ من ذهاب درهم الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكّة.
ومنه مكاتبات: كتب أرسطاطاليس إلى رجل في رجل يصله بشيء فلم يفعل فكتب إليه: إن كنت أردت فلم تقدر فمعذور، وإن كنت قدرت فلم ترد فسيأتيك يوم تريد فيه فلا تقدر.
قيل: وكتب إبراهيم بن سيابة إلى رجل صديق له كثير المال يستسلفه، فكتب إليه: العيال كثير والدخل قليل والمال مكذوب. فكتب إليه: إن كنت كاذباً فجعلك الله صادقاً، وإن كنت صادقاً فجعلك الله معذوراً.
قال: وكتب بعضهم يصف رجلاً: أما بعد فإنك كتبت تسأل عن فلان فكأنك هممت أو حدثت نفسك بالقدوم عليه فلا تفعل، امتع الله بك، فإن حسن الظن به لا يقع في الوهم إلا بخذلان الله، وإن الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله، وإن الرجاء لما يده لا ينبغي إلا بعد اليأس من رحمة الله، إنه يرى الإقتار الذي نهى الله عنه هو التبذير الذي يعاقب الله عليه، والاقتصاد الذي أمر الله عز وجل به هو الإسراف الذي يعذب الله عز وجل عليه، وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا العدس بالمن والبصل بالسلوى إلا لفضل أحلامهم وقديم علم تدارسوه من آبائهم، وإن الصنيعة مرفوعة والصلة موضوعة والهمة مكروهة والصدقة منحوسة والتوسع ضلالة والجود فسوق والسخاء من همزات الشياطين، وإن مؤاساة الرجل أخاه من الذنوب الموبقة وإفضاله عليه من إحدى الكبائر، وإن الله عز وجل لا يغفر أن يؤثر المرء في خصاصة على نفسه ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية الذين قطع الله أدبارهم ونهى جل اسمه عن اتباع آثارهم، وإن الرجفة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم، وإن الريح العقيم أهلكت عاداً وثموداً لتوسعٍ كان فيهم، وهو يخشى العقاب على الإنفاق ويرجو الثواب على الإقتار ويعد نفسه العقوق ويأمرها بالبخل خيفة أن تمر به قوارع الدهور وأن يصيبه ما أصاب القرون الأولى، فأقم، رحمك الله، بمكانك واصبر على عسرك لعل الله أن يبدلنا خيراً منه زكاةً وأقرب رحماً.
ومنه فن آخر، وصف أعرابي رجلاً فقال له: بشر مُطمع ومطل موئس، فأنت منه أبداً بني اليأس والطمع، لا منع مريح ولا بذل سريح.
وقال أعرابي: أنا من فلان في أماني تهبط العصم وخلف يذكر العدم، ولست بالحريص الذي إذا وعده الكذوب أعلق نفسه لديه وأتعب راحلته إليه.
وذكر أعرابي رجلاً فقال: له مواعيد عواقبها المطل وثمارها الخلف ومحصولها اليأس.
ويقال: سرعة اليأس أحد النجحين.
وقال بعضهم: مواعيد فلان مواعيد عرقوب، ولمع الآل، وبرق الخلّب، وأماني الكمّون، ونار الحباحب، وصلفٌ تحته راعدة.
ولبعض الكتاب فصل في هذا المعنى: أما بعد فإن كثرة المواعيد من غير نجح عار على المطلوب، وقلتها عند الحاجة مكرمة من صاحبها، وقد رددتنا في حاجتنا هذه مع كثرة مواعيدك من غير نجح لها حتى كأن قد رضينا بالتعلل بها دون النجاح، كقول الأول:
لا تجعلنا ككمّون بمزرعةٍ ... إن فاته الماء أروته المواعيد

ولآخر منهم: ما رأيت مثل طيب قولك أمرّه سوء فعلك، ولا مثل بسط وجهك خالفه ضيق تنكيدك، ولا مثل قرب مواعيدك باعدها فرط مطلك، ولا مثل أنس بديهتك أوحش منه قبيح عواقبك، حتى كأن الدهر أودعك لطيف الحيلة بالمكر بأهل الخلة، وكأنه زيّنك فيهم بالخديعة لتدرك منهم فرصة الهلكة. وقد قيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتأجيل.
وقال بعضهم: وعدتنا مواعيد عرقوب، ومطلتنا مطل نعاس الكلب، وغررتنا غرور السراب، ومنيتنا أماني الكمّون.
ولبعضهم: أما بعد فلا تدعني متعلقاً بوعدك فالعذر الجميل أحسن من المطل الطويل، فإن كنت تريد الإنعام فأنجح وإن تعذرت الحاجة فأوضح وأعلمني ذاك لأصرف وجه الطلب إلى غيرك.
وذكروا أن فتىً من مراد كان يختلف إلى عمرو بن العاص فقال له ذات يوم: ألك امرأة؟ قال: لا. قال: أفتتزوج وعلي المهر؟ فرجع إلى أمه فأخبرها، فقالت:
إذا حدّثتك النفس أنك قادرٌ ... على ما حوت أيدي الرجال فكذّب
فتزوج ثم أتى عمرو بن العاص، فاعتلّ عليه ولم ينجز له وعده، فشكا ذلك إلى أمه، فقالت:
لا تغضبن على امريءٍ في ماله ... وعلى كرائم مال نفسك فاغضب
ولبعض الشعراء في هذا المعنى:
أروح وأغدو نحوكم في حوائجي ... فأُصبح منها غدوةً كالذي أمسي
وقد كنت أرضى للصديق شفاعتي ... فقد صرت أرضى أن أُشفّع في نفسي
ولأبي نواس:
وعدتني وعدك حتى إذا ... أطمعتني في كنز قارون
جئت من الليل بغسالةٍ ... تغسل ما قلت بصابون
وأنشد لأبي تمام:
يحتاج من يرتجي نوالكم ... إلى ثلاثٍ بغير تكذيب
فكنز قارون أن يكون له ... وعمر نوحٍ وصبر أيوب
ولآخر:
إني لأعجب من قولٍ غررت به ... حلو يلذّ إليه السمع والبصر
لو تسمع العصم في صم الجبال به ... ظلت من الراسيات العصم تنحدر
كالخمر والشهد يجري فوق ظاهره ... وما لباطنه طعمٌ ولا حبر
وكالسراب شبيهاً بالغدير وإن ... تبغ السراب فلا عين ولا أثر
ولا ينبت العشب عن برق وراعدةٍ ... غرّاء ليس بها سيل ولا مطر
ومما قيل من الشعر في البخل بالطعام لبعضهم:
رأيت أبا عثمان يبذل عرضه ... وخبز أبي عثمان في أكرم الحرز
يحن إلى جاراته بعد شبعه ... وجاراته غرثى تحنّ إلى الخبز
ولآخر:
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهةٌ ... حتى نزلت على عوف بن خنزير
الحابس الروث في أعفاج بغلته ... بخلاً على الحبّ من لقط العصافير
ولغيره:
نوالك دونه خرط القتاد ... وخيرك كالثريا في البعاد
ترى الإصلاح صومك لا لنسكٍ ... وكسراً للرغيف من الفساد
أرى عمر الرغيف يطول جداً ... لديك كأنه من قوم عاد
ولآخر:
اللؤم منك على الطعام طباع ... فعيال بيتك ما حييت جياع
وإذا يمرّ بباب دارك سائلٌ ... هرّت عليه نوابحٌ وسباع
وعلى رغيفك حيةٌ مسمومةٌ ... وعلى خوانك عقرب وشجاع
ولآخر:
يا تارك البيت على الضيف ... وهارباً منه من الخوف
ضيفك قد جاء بزاد له ... فارجع فكن ضيفاً على الضيف
إذ ااشتهى الضيف طبيخ الشتا ... أتاه بالشهوة في الصيف
وإن دنا المسكين من بابه ... شدّ على المسكين بالسيف
ولآخر:
يكتب بالحبر على خبزه ... والله لا يأكله الجار
ويسأل الخادم من بخله ... أي رغيف فيه آثار
ويختم القدر على أهله ... ويشعب العظم بمسمار
والماء في منزله طرفةٌ ... يشربه الناس بمقدار
ولآخر:
أرى ضيفك في الدار ... وكرب الموت يغشاه
على خبزك مكتوب ... سيكفيكهم الله
ولآخر:
لأبي نوحٍ رغيفٌ ... أبداً في حجر دايه
أبداً يمسحه الده ... ر بكمّ ووقايه

وله كاتب سرٍّ ... خطّ فيه بعناية
فسيكفيكهم الل ... ه إلى آخر آيه
ولآخر:
الخبز يبطي حين يدعو به ... كأنه يقدم من قاف
ويمدح الملح لأصحابه ... يقول هذا ملح سيراف
سيّان أكل الخبز في داره ... وقلع عينيه بخطّاف
ولآخر:
فتىً لا يغار على عرسه ... ولكن يغار على خبزه
فمنه يد الجود مقبوضةٌ ... وكفُّ السماحة في عجزه
ولآخر:
يصونون أثوابهم في التخوت ... وأزواجهم يخترقن السكك
ينحّون من رام رغفانهم ... ويدنون من رام حلّ النكك
ولآخر:
ولو أن الذباب تراء يوماً ... عدت غرثى لصحفته تروم
لنادى في العشيرة أدركوني ... ألا أين القماقم والقروم
فيا ويل الذباب إن ادركوه ... وفي الهيجا عدوهم سليم
ولآخر:
أما الرغيف لدى الخوا ... ن فمن كريمات الحرم
ما إن يُجسّ ولا يم ... سّ ولا يذاق ولا يشم
فتراه أخضر يابساً ... بالي النقوش من الهرم
ولآخر:
أتينا أبا طاهرٍ مفطرين ... غلى رحله فرجعنا صياما
وجاء بخبزٍ له حامضٍ ... وقلت دعوه وموتوا كراما
وعن حذيفة بن محمد الطائي قال: قال الرشيد: لا أعرف لمولَّد أهجى من قول أبي نواس:
وما روّحتنا لتذبّ عنّا ... ولكن خفت مرزئة الذباب
شرابك كالسراب إذا التقينا ... وخبزك عند منقطع التراب
ولآخر:
خان عهدي عمروٌ وما خنت عهده ... وجفاني وما تغيرت بعده
ليس لي ما حييت ذنبٌ إليه ... غير أني يوماً تغديت عنده
الخليل بن أحمد:
كفّاه لم تخلقا للندى ... ولم يك بخلهما بدعه
فكفٌّ عن الخير مقبوضةٌ ... كما انقبضت مائةٌ تسعه
ولآخر:
أتيت أبا عمرو أٌرجّي نواله ... فزاد أبو عمروٍ على حزني حزنا
فكنت كباغي القرن أسلم أذنه ... فآب بلا أذنٍ ولم يستفد قرنا

مساوئ من استدعى الهجاء ومن هجا نفسه
قال أبو العتاهية: خرجت مع المهدي إلى الصيد فتفرق أصحابه وبقيت معه وقد أقبل علينا المطر، فانتهينا إلى ملاح معه زورق فقال لنا: ادخلا من هذا المطر. فدخلنا ووقعت الرعدة على المهدي من شدة البرد فقال له الملاح: هل لك أن ألقي عليك جبتي؟ فقال: نعم. فألقاها عليه. فما زال يتقرقف حتى نام، ثم أقبل الخدم والغلمان وألقوا عليه الخز والوشي، فلما انتبه أمر بدفع ذلك إلى الملاح وقال: يا أبا العتاهية ألا هجوتني! فقلت: يا أمير المؤمنين وكيف تطيب نفسي بهجائك؟ قال: فإني أسألك بالله، فقلت:
يا لابس الوشي على شيبه ... ما أقبح الأشيب في الداح
فنقر نقرة ثم قال: زدني، فقلت:
لو شئت أيضاً جُلت في خامةٍ ... وفي وشاحين وأوضاح
فقال: ويلك زدني، فقلت:
كم من عظيم الشأن في نفسه ... قد بات في جبة ملاح
قيل: وشرب يزيد بن معاوية ذات يوم وعنده الأخطل فلما ثمل قال: يا أخطل اهجني ولا تفحش، فأنشأ يقول:
ألا اسلم سلمت أبا خالدٍ ... وحياك ربك بالعنقز
وروّى عظامك بالخندري ... س قبل الممات ولم تعجز
أكلت الدجاج فأفنيتها ... فهل في الحنانيص من مغمز
ودينك حقاً كدين الحما ... ر بل أنت أكفر من هرمز
فرفع يده ولطمه وقال: يا ابن اللخناء ما بكل هذا أمرتك! قال: ودخل أبو دلامة على المنصور وعنده المهدي وعيسى بن موسى، فقال له المنصور: اهج بعض من في المجلس. فقال في نفسه: من أهجو، الخليفة أم ابن أخيه؟ ما أحد أحق بالهجاء مني، فقال:
ألا أبلغ لديك أبا دلامه ... فلست من الكرام ولا كرامه
جمعت دمامةً وجمعت لؤماً ... غذاك اللؤم تتبعه الدمامه
إذا لبس العمامة قلت قردٌ ... وخنزيرٌ إذا وضع العمامه
فضحك المنصور وأمر له بجائزة.

قيل: وأتى أعرابي عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير اسمع مديحتي. فقال: لست أنحاش له. قال: فاسمع شعري في نفسي. قال: هات، فقال:
ليس من بخلك أني ... لم أجد عندك رزقا
ذا لجدّي ولشؤمي ... ولحرفي المُبَقّى
فجزاك الله خيراً ... ثم بعداً لي وسحقا
فضحك ثم قال: تلطفت في الطلب، وأمر له بألف دينار.

محاسن الرجال
مدح أعرابي رجلاً فقال: فتىً آتاه الله الخير ناشئاً فأحسن لبسه وزين نفسه.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان والله للأخلاء وصولاً وللمال بذولاً، وكان الوفاء بهما عليه كفيلاً، فمن فاضله كان مفضولاً.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: هو أكسبهم للمعدوم وآكلهم للمأدوم وأعطاهم للمحروم.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: ما زلت لأحسن ما يرجى من الإخوان منك راجياً وما زلت لأكثر ما أرجو منك مصدقاً.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان والله تعباً في طلب المكارم وغير ضالّ في مصالح طرقها ولا متشاغل عنها بغيرها.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: لسانه أحلى من الشهد وقلبه سجن للحقد.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: ذاك صحيح النسب مستحكم الأدب، من أي أقطاره أتيته قابلك بكرم فعال وحسن مقال.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: إذا أنبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع، والله يعلم أني لك شاكر ولساني بثنائك ذاكر، وما يظهر الود السليم إلا من القلب المستقيم.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان إذا نزلت به النوائب قام إليها ثم قام بها ولم تقعده علات النفوس عنها.
ومدح أعرابي رجلاً وفرساً فقال: كان والله طويل العذار أمين العثار، إذا رأيت صاحبه عليه حسبته بازياً على مرقب معه رمح يقبض به الآجال.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: لا تراه الدهر إلا كأنه لا غنى به عنك وإن كنت إليه أحوج، وإذا أذنبت غفر وكأنه المذنب، وإن احتجت إليه أحسن وكأنه المسيء.
قال: وقال أعرابي لرجل: أما والله لقد كنت لجاماً لأعدائك ما تفلّ شكيمتاه إذا كبح به الجموح أقعى على رجليه.
قال: ولقي أعرابي أعرابياً فقال: كيف وجدت فلاناً؟ قال: وجدته والله رزين الحلم واسع العلم خصيب الجفنة، إن فاخرته لم يكذب وإن مازحته لم يحفظ.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان يفتح من الرأي أبواباً منسدة ويغسل من العار وجوهاً مسودة.
ومدح أعرابي قوماً فقال: أولئك غيوث جدبٍ وليوث حرب، إن قاتلوا أبلوا وإن أعطوا أغنوا.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: ذاك من شجر لا يجف ثمره وماء لا يخاف كدره.
مساوئ الرجال
ذم أعرابي رجلاً فقال: يا نطفة الحمار ونزيع الظؤورة وشبيه الأخوال.
وذم قوماً فقال: إن آل فلان قوم غدر شرّابون للخمر، ثم هذا في نفسه نطفة خمّار في رحم صناجة.
وذم أعرابي رجلاً فقال: يقطع نهاره بالمُنى ويتوسد ذراع الهم إذا أمسى.
وذم أعرابي رجلاً فقال: ما قنع كمياً سيفاً ولا قرى يوماً ضيفاً ولا حمدنا له شتاء ولا صيفاً.
وقال أعرابي لامرأته: أقام الله ناعيك وأشمت عاديك.
وذم أعرابي رجلاً فقال: عليه كل يوم قسامة من فعله تشهد عليه بفسقه، وشهادات الأفعال أعدل من شهادات الرجال.
وذم أعرابي رجلاً فقال: تسهر زوجته جوعاً إذا نام شبعاً، ولا يخاف عاجل عارٍ ولا آجل نار، كالبهيمة أكلت ما جمعت ونكحت ما وجدت.
وذم أعرابي رجلاً فقال: ذاك أعيا ما يكون عند الناس أبلغ ما يكون عند نفسه.
ولام أعرابي رجلاً فقال: تقطع أخاك لأبيك وأمك! فقال: إني لأقطع الفاسد من جسدي وهو أقرب إلي من أخي وأعز فقداً منه.
وذم أعرابي قوماً فقال: يا قوم لا تسكنوا إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنة بني فلان، وأنتم ترون الدماء تسيل من أفعالهم، قد جعلوا المعاذير ستوراً والعلل حجباً.
وذم أعرابي رجلاً فقال: إذا سأل ألحف وإذا سُئل سوّف، يحسد أن يفضَّل ويزهد أن يفضِّل.
وذم أعرابي رجلاً فقال: يكاد أن يعدي بلؤمه من تسمى باسمه.
وذم أعرابي رجلاً فقال: تعدو إليه مواكب الضلالة وترجع من عنده بهلاك الأنام، معِدمٌ مما يحب مثرٍ مما يكره.
وقال أعرابي لرجل: والله ما جفانكم بعظام ولا أجسامكم بوسام ولا بدت لكم نار ولا طلبتم بثار.

ورأى أعرابي رجلاً ظلوماً يدعو فقال: يا هذا إنما يستجاب لمظلوم أو مؤمنٍ ولست أحداً منهما، أراك تخفّ عليك الذنوب وتحسن عندك مقابح العيوب.
وذم أعرابي رجلاً فقال: فلان لا يستحيي من الشر ولا يحب أنه أحب الخبر، ولا يكون في موضع إلا حرمت فيه الصلاة، ولو قذف لؤمه على الليل طمس نجومه، ولو أفلتت كلمة سوء لم تصر إلا إليه.
وسأل أعرابي رجلاً فقال: لقد نزلت بوادٍ غير ممطور وبرجل بك غير مسرور، فارتحل بندم أو أقم بعدم.
وذم آخر رجلاً فقال: ما كان عنده فائدة ولا عائدة ولا رأي جميل ولا إكرام الدخيل.
وقيل لأعرابي: ما بلغ من سوء خلقك؟ قال: تبدو لي الحاجة إلى الجار أو الصاحب في بعض الليل فأصبح غضبان عليه أقول كيف لم يعلمها؟ وذكر أنه تنافر رجلان من بني أسد إلى هرم بن سنان المرّيّ في الشرّ وعنده الحطيئة فقال أحدهما: إني بقيت زماناً وأنا أرى أني شر الناس وألأمهم حتى أتاني هذا فزعم أنه شر مني، فقال هرم: أخبراني عنكما. فقال أحدهما: لم يمر بي أحد قط إلا اغتبته ولا ائتمنني إلا خنته ولا سألني إلا منعته.
وقال الآخر: أما أنا فأبطر الناس في الرخاء وأجبنهم في اللقاء وأقلهم حياء وأمنعهم خباء. فقال هرم: وأبيكما لقد ترددتما في الشر ولكن أخبركما بمن هو شر منكما! قالا: ما ولدت ذاك النساء! قال: بلى، هذا الحطيئة هجا أباه وأمه ونفسه ومن أعطاه ومن أحسن إليه، فقال لأبيه:
لحاك الله ثم لحاك حقاً ... أباً ولحاك من عمّ وخال
فبئس الشيخ أنت على النوادي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعت اللؤم لا حياك ربي ... وأبواب المخازي والضلال
وقال لأمه:
تنحّي فاقعدي مني بعيداً ... أراح الله منك العالمينا
أغربالاً إذا استودعت سراً ... وكانوناً على المتحدثينا
ألم أوضح لك البغضاء مني ... ولكن لا إخالك تعلمينا
وقال لنفسه:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلما ... بشرٍّ فما أدري لمن أنا قائله
أرى لي وجهاً شوه الله خلقه ... فقُبّح من وجهٍ وقبح حامله
وقال لمن أعطاه:
سألتُ فلم تبخل ولم تُعطِ نائلاً ... فسيّان لا ذمٌ عليك ولا حمد
قيل: ولما حضرت الحطيئة الوفاة قيل له: أوص. فقال:
الشعر صعبٌ وطويلٌ سلّمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلّت به إلى الحضيض قدمه ... والشعر لا يسطيعه من يظلمه
يريد أن يعربه فيعجمه
فقيل له: أوص للمساكين بشيء. فقال: أوصيهم بالمسألة ما عاشوا فإنها تجارة لن تبور. قيل: أوص فقد حضرك أمرك. فقال: مالي للذكور من ولدي دون الإناث. قيل له: إن الله عز وجل لم يأمر بهذا! قال: لكني آمر به. فقيل له: اعتق غلامك يساراً الأسود. قال: هو مملوك ما دام على ظهر الأرض عبسيّ. قيل له: من أشعر الناس؟ فقال: هذا المِحجن ما أطمع في خير، وأومأ إلى لسانه ثم جعل يبكي. فقيل له: ما يبكيك، أجزعاً من الموت يا أبا مليكة؟ قال: لا ولكن ويل للشعر من رواية السوء! ثم قال: أبلغوا الشمّاخ أنه أشعر غطفان على وجه الأرض، وإن متّ فاحملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط. وفي غير هذه الرواية أنه قال: احملوني على حمار فإنه لم يمت عليه كريم قط لعلي أن أنجو، ثم أنشأ يقول:
لكل جديدٍ لذةٌ غير أنني ... رأيت جديد الموت غير لذيذ
له نكهةٌ ليست بطعم سفرجلٍ ... ولا طعم تفّاحٍ ولا بنبيذ
ثم خرجت روحه، فلما مات قال فيه الشاعر:
لا شاعرٌ ألأم من حطيه ... هجا بنيه وهجا المريه
من لؤمه مات على فريّه

قال: وقيل لمعاوية بن أبي سفيان: من رأيت شر الناس؟ فقال: علقمة ابن وائل الحضرمي، قدم على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأمرني أن أنطلق به إلى منزل رجل من الأنصار أنزله عليه، فانطلقت معه وهو على ناقته وأنا أمشي في ساعة حارة وليس عليّ حذاء، فقلت: احملني يا عم من هذا الحر فإنه ليس عليّ حذاء. فقال: لستَ من أرداف الملوك. قلت: أنا ابن أبي سفيان، قال: قد سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك. قال فقلت: الق إليّ نعليك. قال: لا تقلّهما قدماك، ولكن امش في ظلّ ناقتي وكفى لك بذلك شرفاً، وإن الظل لك لكثير. فما مرّ بي مثل ذلك اليوم. ثم أدرك سلطاني فلم أؤاخذه بذلك بل أجلسته على سريري هذا وقضيت حوائجه.
ومنهم دريد بن الصمة بن غزية وكان من المعمّرين قال: يا بني أوصيكم بالناس شراً، لا تتبعوا لهم خيراً، كلموهم نزراً والحظوهم شزراً ولا تقبلوا لهم عذراً ولا تقيلوهم عثرة، ثم أنشأ يقول:
يا رُبّ نهبٍ صالحٍ حويته ... وربّ غيلٍ حسنٍ لويته
لو كان للدهر بلىً أبليته ... أو كان قرناً واحداً كفيته
اليوم يبنى لدريدٍ بيته

محاسن ذكر التنعم
يضرب المثل بخريم الناعم، وهو خريم بن عمرو من بني مرة بن عوف، قيل له الناعم لأنه كان يلبس الخلق في الصيف والجديد في الشتاء. وسأله الحجاج: ما النعمة؟ قال: الأمن فإني رأيت الخائف لا ينتفع بنفسه ولا بعيشه. قال: زدني. قال: الغنى فإني رأيت الفقير لا ينتفع بعيش. قال: زدني. قال: الصحة فإني رأيت السقيم لا ينتفع بعيش. قال: زدني. قال: الشباب فإني رأيت الشيخ لا ينتفع بعيش. قال: زدني. قال: لا أجد مزيداً.
قال: وقال زياد لجلسائه: من أنعم الناس عيشاً؟ قالوا: أمير المؤمنين. قال: هيهات فأين ما يلقى من الرعية؟ قالوا: فأنت أيها الأمير. قال: فأين ما يرد عليّ من الثغور والخراج؟ بل أنعم الناس عيشاً شاب له سدادٌ من عيشٍ وحظّ من دين وامرأة حسناء رضيها ورضيته لا يعرفنا ولا نعرفه.
قال وقال عمرو بن العاص لمعاوية: يا أمير المؤمنين ما بقي من شبابك وتلذذك؟ قال: والله ما بقي شيء يصيبه الناس من الدنيا إلا وقد أصبته، أما النساء فلا إرب لي فيهن ولا لهن فيّ، وأما الطيب فقد شممته حتى ما أبالي به، وأما الثياب فقد لبست من ليّنها وجيّدها حتى ما أبالي ما ألبس، فما شيء ألذّ عندي من شربة باردة في يوم صائف ونظري إلى بنيّ وبني بنيّ يدرجون حولي، فأنت يا عمرو ما بقي من لذتك؟ قال: أرض أغرسها فآكل من ثمرها وأنتفع بغلّتها. ثم التفت معاوية إلى وردان فقال: يا وريد ما بقي من لذتك؟ قال: صنائع كريمة أعتقدها في أعناق الرجال لا يكافئوني عليها تكون لأعقابي من بعدي. فقال معاوية: تباً لهذا المجلس يغلبنا عليه هذا العبد! قال: وقال قتيبة بن مسلم لوكيع بن أبي سود: ما السرور؟ قال: لواء منشور وجلوس على السرير والسلام عليك أيها الأمير. وقال لحضين بن المنذر: ما السرور؟ قال: امرأة حسناء في دارٍ قوراء وفرس بالفناء.
وقيل لرجل من بني قشير: ما السرور؟ قال: الأمن والعافية. قال: صدقت. وقد قيل: العيش في سعة الرزق وصحة الجسم وإقبال الزمان وعز السلطان ومعاشرة الإخوان.
وقيل: نعيم المتوسطين لون مشبع وكأس مترع وصديق ممتع وغنىً مقنع. وقيل: راحة البدن النوم، وراحة الدار أن تسكن. وقال بعضهم: ليس سرور النفس بالجدة إنما سرورها بالأمل. وقيل لبعضهم: أي الأمور أمتع؟ قال: الأماني، وأنشد في ذلك:
إذا تمنيت بتُّ الليل مغتبطاً ... إن المنى رأس أموال المفاليس
لولا المنى متُّ من همٍ ومن جزعٍ ... إذا تذكرت ما في داخل الكيس
وقيل لعبد الله بن الأهتم: ما السرور؟ قال: رفع الأولياء وحط الأعداء.
وقال بعضهم: السرور توقيعٌ نافذ وأمر جائز. وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: السرور إدراك الأماني. وقال آخر: السرور معانقة الأحبة والرجوع إلى الكفاية. وقال بعضهم: العيش محادثة الإخوان والانتقال إلى كفاية.

وقيل لطرفة: ما السرور؟ قال: مطعم شهي ومركب وطِيّ وملبس دفيّ. وقيل للأعشى: ما السرور؟ فقال: صهباء صافية تمزجها غانية بصوب غادية. وقيل لملك: ما السرور؟ فقال: حمىً ترعاه وعدوّ تنعاه. وقيل لراهب: ما السرور؟ قال: الأمان من الوجل إذا انقضت مدة الأجل. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ قال: زوجة وسيمة ونعمة جسيمة. وقيل لمغنّ: ما السرور؟ قال: مجلس يقلّ هذره وعودٌ يصفو وتره وعقول تفهم ما أقول. وقيل لمظلوم: ما السرور؟ قال: كفاية ووطن وسلامة وسكن. وقيل لورّاق: ما السرور؟ قال: جلود وأوراق وحبر برّاق وقلم مشّاق. وقيل لبعضهم: ما السرور؟ قال: بنون أغيظ بهم أعدائي ولا تقرع معهم صفائي.
وقيل: لفتاة: ما السرور؟ فقالت؟ زوج يملأ قلبي جلالاً وعيني جمالاً وفنائي جِمالاً. وقيل لطفيلي: ما السرور؟ فقال: ندامى تسكن صدورهم وتغلي قدورهم ولا تُغلق دورهم. وقيل لقانص: ما السرور؟ فقال: قوس مأطورة وشرعة مشزورة ونبال مطرورة. وقيل لمحبوس: ما السرور؟ فقال: فكاك يفجأ وإطلاق لا يرزأ. وقيل للوطي: ما السرور؟ فقال: شخص ناضر ودرهم حاضر. وقيل لعاشق: ما السرور؟ فقال: لقية تشفي من الفرقة واعتناق يداوي من الحرقة.
وكان يقال إنه حكي عن الحكماء أن لذة الثوب يوماً ولذة المركب جمعة ولذة المرأة شهراً ولذة الضيعة سنة ولذة الدار الأبد.

الشعر في هذا الفن
أطيب الطيبات قتل الأعادي ... واحتفالٌ على متون الجياد
وأيادٍ تحبو بهنّ كريماً ... إن عند الكريم تزكو الأيادي
ورسولٌ يأتي بوعد حبيبٍ ... وحبيبٌ يأتي على ميعاد
وللخليع:
أطيب الطيبات أمرٌ ونهيٌ ... لا يُردّان في الأمور الجسام
وامتطاء الخيول في كنف الأم ... ن بغير الإقدام والإحجام
وسماع الصهيل في لجب المو ... كب تحت اللواء والأعلام
الموصلي:
أطيب الطيبات طيب الزمان ... وندام المنعمات الغواني
واحتساء العقار في غرة الصب ... ح على شدو ماهرات القيان
وأمانٌ من الهموم ومالٌ ... ليس تفنيه نائبات الزمان
محاسن الفقر
روي في الحديث أن الفقير الصبور يدخل الجنة قبل الغني الشكور بأربعين عاماً.
وروي عن أبي الدرداء أنه قال: لأن أموت وعليّ أربعة آلاف درهم أنوي قضاءها أحبّ إلي من أن أترك مثلها حلالاً.
وقال سلمان الفارسي: قد خشيت أن أكون قد تركت عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنه قال من أراد أن يدخل الجنة فلا يكون زاده من الدنيا إلا كزاد الراكب، وأنا قد جمعت ما ترون. فقوّموا ما عنده فبلغ ثمانية عشر درهماً.
وكان يقال: من أصبح آمناً في سربه معافىً في بدنه عنده قوت يومه فعلى الدنيا العفاء.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه كان من دعائه: اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة الفقراء، اللهم اجعل رزق آل محمد كفافاً. فسأل بعضهم: ما الكفاف؟ فقال: جوع يوم وشبع يوم.
وروي أن عيسى بن مريم، عليه السلام، كان لا يأوي سقف بيت، فألجأه المطر ذات ليلة إلى غار، فدخله فإذا سبعٌ قد سبقه إليه، فكأن صدره ضاق فأوحى الله عز وجل إليه: يا عيسى ضاق صدرك فوعزتي لأزوجنّك أربعة آلاف حوراء ولأولمنّ عليك ألف عام.
قال: وكان الفضيل بن عياض يقول في دعائه: اللهم أجعتني وأجعت عيالي وتركتنا في ظلم الليل بلا مصباح وإنما تفعل هذا بأوليائك فبأي منزلةٍ نلت هذا منك يا رب؟
مساوئ الفقر
قيل: أمر الله عز وجل موسى، عليه السلام، فقال: ائت كورة كذا وكذا، فقال: يا رب إني قتلت منهم نفساً وأنا خائف، فقال الله جل وعز: إني قد أمتّ أقرباءه. فصار إليها فأول ما استقبله قرابة للمقتول. فقال: يا رب هذا أخوه! قال: يا موسى إني جعلته فقيراً والفقير ميت من العقل وعند الناس ميت وعند الحلال والحرام ميت والفقر الموت الأكبر.
وقيل: إنه إذا أيسر الفقير ابتُلي به ثلاثة: صديقه القديم يجفوه وامرأته يتزوج عليها وداره يهدمها ويبنيها.

وكان في الجاهلية رجل حسن الحال وكان بنو عمه وأخواله يختلفون إليه فيعطيهم ويمونهم ويقوم بأمورهم، ثم اختلّ أمره فأتاهم فحرموه، فأتى أهله كئيباً، فقالت له امرأته: ما حالك؟ فقال: دعيني عنك، وأنشأ يقول:
دعي عنك عذلي ما من العذل أعجب ... ولا بد حالٌ بعد حال تقلب
وكان بنو عمي يقولون مرحباً ... فلما رأوني مقتراً مات مرحب
كأن مُقلاً حين يغدو لحاجةٍ ... إلى كل من يلقى من الناس مذنب
وقال بعضهم: رب مغبوطٍ بميسرةٍ هي داؤه ومرحوم من عدم هو شفاؤه، والدنيا دول فما كان لك منها أتاك على ضعفك وما كان عليك لم تدفعه بقوتك، ومن عتب على الدهر طالت معتبته. وقال الأضبط:
إرض من الدهر ما أتاك به ... من قرّ عيناً بعيشه نفعه
قال: وسمع سفيان الثوريّ قوماً يقولون بعضهم لبعض: كيف حالك؟ فقال: لقد بلغني أن من كان قبلكم كان يكره أن يسأل أخاه عن حاله إلا من يكون مجمعاً على تغيير سوء حاله إذا أخبره.
قال: وقال أوس بن حارثة: خير الغنى القنوع وشر الفقر الخضوع.
قيل: ومرّ رجل من الأغنياء برجل من أهل العلم فتحرك له وأكرمه، فقيل له: هل كانت لك إليه حاجة؟ قال: لا ولكن ذو المال مهيبٌ، وقال: فيه الشاعر:
أرى كل ذي مال يُجلّ لماله ... ومن ليس ذا مال يهان ويحقر
ويخذله الإخوان إن قل ماله ... وليس بمحبوب بلى هو يهجر
وأقنع بالمال القليل تكرماً ... لأغنى به عما لديك وأصبر
وذكروا أن زياد بن أبي سفيان أرق ذات ليلة وهو بالبصرة فبعث إلى غيلان بن خرشة الضبيّ وسويد بن منجوف السدوسي والأحنف بن قيس السعدي، فلما توافوا إليه قال: أتدرون فيم بعثت إليكم؟ إنه كان عندي ثلاثة من دهاقين كسرى يحدّثون بما كانت الأكاسرة فيه من ملكها وعظيم شأنها، فتقاصر إليّ ما نحن فيه فبعثت إليكم لتصفوا لي ما كانت العرب فيه من البؤس وشدة الحال لنقنع بما نحن فيه فإن الغنى القناعة. قال غيلان: إن اقتصرت عليّ دون أصحابي حدثتك. قال: هات. قال: أخبرني عم لي صدوق أنه خرج في سنة أصابت العرب فيها شدةٌ حتى أكلوا القدّ من القحط واحمر أديم الأرض وآفاق السماء، قال: فطفت ثلاثاً ما أطعم فيهنّ شيئاً إلا ما يأكل بعيري من حشرات الأرض حتى أصابني الميد فشددت على بطني حجراً من الجوع، فإني لكذلك في جوف الليل إذ دفعت إلى حي عظيم فسلّمت. فقالوا: من هذا؟ قلت: طارق ليل يلتمس القرى. فقالوا: والله ما أبقت لنا هذه السنة قرىً ولا فضلاً. فقالت امرأة كانت إلى جانب القبة: يا عبد الله دونك القبة العظيمة فإن كان عند أحد خير فعندها. فأممتها فلما دفعت إليها سلمت فقال لي: من هذا؟ فقلت: طارق ليل يلتمس قرىً، فقال رجل منهم: يا فلان هل عندك قرى؟ قال: نعم، قد أبقيت في ضرع فلانة رسلاً لطارق ليل. ثم ثار إليها فناداها فانبعثت وتفاجّت عن مثل الظبي القنيص، فضرب زبونتها ثم حلب في علبةٍ معه حتى علتها رغوة اللبن، وكل ذلك بمرأى مني ومسمع، فلقد سمعت الغناء الحذّاء فما سمعت شيئاً كان أحبّ إلى مسامعي من صوت شخبها في تلك العلبة، ثم أقبل بها يريدني فلما أهويت لآخذها عثر فانكفأت العلبة وذهب ما فيها، فوالله لقد فقدت الأهل والمال فما أُصبت بشرّ كان أفزع لقلبي ولا أعظم موقعاً عندي من انكفاء تلك العلبة على مثل الحال التي كنت فيها، فلما رآني صاحب القبة ورأى ما بي من شدة الجهد خرج حتى دخل في إبله وهو يقول: صدق أخو بني قيس في قوله:
هم يطردون الفقر عن جارهم ... حتى يرى كالغصن الناضر
فأخذ ناقة كوماء فكشف عن عرقوبيها ثم قال: دونك السنام، فلما وافى الودك بطني وحفوف الماء ولا عهد لي قبل ذلك بشيء منه خررت مغشياً عليّ، فوالله ما أيقظني إلا برد السحر. فقال زياد: قطني قد اكتفيت بهذا، هذا والله غاية الجهد فالحمد لله الذي منّ علينا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وهدانا إلى الإسلام وجعلنا ملوكاً. ثم قال: لا أب لشانئك فمن الرجل؟ فقال: عامر بن الطفيل. فقال أبو علي: والله كان لها ولأمثالها.

قال وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لقد رأيتني في الجاهلية وأخية لي وإنا لنرعى ناضحاً لأبوينا قد زودتنا أمنا يمنتيها من الهبيد فإذا أسخنت علينا الشمس ألقيت الشملة على أختي وخرجت عرياناً أسعى فنظلّ نرعى ذلك الناضح فنرجع إلى أمنا من الليل وقد صنعت لنا لفيتةً من ذلك الهبيد فنتعشى فواخصباه! قال بعض جلسائه: فوالله لقد حسدته على ذلك.
قال: وسئل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن جهد البلاء فقال: قلة المال وكثرة العيال.
وكان الفضيل يقول: المال يسوّد غير السيّد ويقويّ غير الأيّد.
وفي كتاب كليلة ودمنة: الرجل إذا افتقر اتهمه من كان له مؤتمناً وأساء به الظن من كان يظن به حسناً، وإن أذنب غيره ظنوه به، وإن كان لسوء الظن والتهمة موضعاً حملوا على ذلك الذي يفعله غيره، وأنشد في ذلك:
إذا قلّ مال المرء قلّ صديقه ... وأومت إليه بالعيوب الأصابع
ولآخر:
إذا قلّ مال المرء قلّ حياؤه ... وضاقت عليه أرضه وسماؤه
وحار ولا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خيرٌ له أم وراؤه
إذا قلّ مال المرء قلّ حياؤه ... ولا خير في وجهٍ يقلّ حياؤه
وقيل لأعرابي: ما أشد الأشياء؟ قال: كبدٌ جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيقة.
وقيل لأعرابي: لم يقول أهل الحضر باعك الله في الأعراب؟ قال: لأنا والله نعري جلده ونجيع كبده ونطيل كدّه.
ومما قيل فيه من الشعر:
أعظم من فاقةٍ وجوع ... مقام حرٍّ على خضوع
فلا ترده ولا ترد ما ... أٌنيل بالذل والخشوع
واطلب معاشاً بقدر قوتٍ ... وأنت في منزلٍ رفيع
لعل دهراً غداً بنحسٍ ... يعود بالسعد في الرجوع
ولآخر:
الموت خيرٌ للفتى ... من أن يعيش بغير مال
والموت خيرٌ للكري ... م من الضراعة للرجال
ولآخر:
بخلت وليس البخل مني سجيةً ... ولكن رأيت الفقر شرّ سبيل
لموت الفتى خيرٌ من البخل للفتى ... وللبخل خيرٌ للفتى من سؤال بخيل
لعمرك ما شيء لوجهك قيمةٌ ... فلا تلق مخلوقاً بوجه ذليل
ولا تسألن من كان يسأل مرةً ... فللموت خيرٌ من سؤال سؤول
ولآخر:
لاتحسبن الموت موت البلى ... فإنما الموت سؤال الرجال
كلاهما موتٌ ولكن ذا ... أشد من هذا لذلّ السؤال
ولآخر في معناه:
من كان في الدنيا أخا ثروةٍ ... فنحن من نظارة الدنيا
نرمقها من كثبٍ هكذا ... كأننا لفظٌ بلا معنى
ولآخر:
قد أراح الله من غ ... مٍ شديدٍ وعذاب
واسترحنا من عيالٍ ... وعبيدٍ ودواب
وضياعٍ ونخيلٍ ... وحصادٍ وكراب
واسترحنا من وقوفٍ ... لبني الدنيا بباب
وقنعنا وأقمنا ... وحططنا عن ركاب
حبّذا الوحدة إن كا ... ن بصيراً بالحساب
ولآخر:
الحمد لله ليس لي مال ... ولالخلقٍ عليّ إفضال
الخان بيتي ومشجبي بدني ... وخادمي والوكيل بقّال
ولآخر:
بقيت ومركبتي البرذون حتى ... أخفّ الكيس إغلاء الشعير
وصرت إلى البغال فأعجزتني ... وصرت من البغال إلى الحمير
فعزّتني الحمير فصرت أمشي ... أزجّي الرِّجل تزجية الكسير
ولآخر:
أتراني أرى من الدهر يوماً ... لي يوماً مطيةٌ غير رجلي
وإذا كنت في جميعٍ فقالوا ... قرّبوا للرحيل قرّبت نعلي
حيثما كنت لا أخلِّف رحلاً ... من رآني فقد رآني ورحلي
أبو هفان:
يا مولج الليل في النهار ... صبراً على الذّلّ والصّغار
كم من حمارٍ له حمارٌ ... ومن جوادٍ بلا حمار
الحمدوني:
تسامى الرجال على خيلهم ... ورجلي من بينهم حافيه
فإن كنت حاملنا ربنا ... وإلا فأرجل بني الزانية

قال: وكان أعرابي بالبصرة في بيت فكان إذا خرج استوثق على غلق بابه فيظن جيرانه أن له مالاً فقال:
ليس إغلاقي لبابي أن لي ... فيه ما أخشى عليه السرقا
إنما أغلقه كي لا يرى ... سوء حالي من يمرّ الطرقا
ليس لي فيه سوى باريةٍ ... وبلى أغلَقْتُ لِبداً خَلَقا
منزلٌ داخله الفقر فلو ... دخل السارق فيه شرِقا
ولآخر:
يبيت يراعي النجم من جوع بطنه ... ويصبح يُلقى ضاحكاً متبسما
ولآخر:
وعاقبة الصبر الجميل جميلةٌ ... وأحسن أخلاق الرجال التفضّل
ولا عار أن زالت على المرء نعمةٌ ... ولكن عاراً أن يزول التجمّل
ولآخر:
كم من فقيرٍ بعد جهدٍ وحاجةٍ ... هو اليوم محسودٌ وقد كان يُرحم
ولآخر:
قد يكثر المال يوماً بعد قلته ... ويكتسي الغصن بعد اليبس بالورق
ولآخر:
كم من غنيٍّ رأيت الفقر أدركه ... ومن فقيرٍ غنياً بعد إقلال
ولآخر:
كم من غني كان بالمال مثرياً ... هو اليوم مرحومٌ وقد كان يُحسد
ولآخر:
كم من فتىً كان ذا ثروةٍ ... رمته الحوادث حتى افتقر
ولآخر:
إذا كان جدُّ المرء في الشيء مقبلاً ... تأتت له الأشياء من كل جانب
وإن أدبرت دنياه عنه توعرت ... عليه وأعيته وجوه المطالب
وإن قلّ مال المرء أقصاه أهله ... وأعرض عنه كلّ إلفٍ وصاحب
وكذّبه الأقوام في كلّ منطقٍ ... وإن كان فيه صادقاً غير كاذب
ولآخر:
متى ما يرى الناس الفقير وجاره ... يقولون هذا عاجزٌ وجليد
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ... ولكن أحاظٍ قسّمت وجدود
وقال عبد الأعلى القاضي: الفقير مرقته سلقة ورداؤه علقة وسمكته شلقة.
ولآخر:
من كان ذا مالٍ كثيرٍ فلم ... يقنع فذاك الموسر المقتر
الفقر في النفس وفيها الغنى ... وفي غنى النفس الغنى الأكبر
وكتب بعضهم يستميح بعض الأغنياء:
هذا كتاب فتىً أزرى الزمان به ... قد كاد تنفطر الأضلاع من هممه
شطّت منازله عنه وضعضعه ... ريب الزمان فأبدى الضعف في كلمه
يذري الدموع بعينٍ غير جامدةٍ ... طوراً بدمعٍ ويبكي تارةً بدمه
أضحى ببابك محزوناً له أملٌ ... يرجو بجودك أن يفتكّ من عدمه
يا ذا المقدّم في الأفعال من كرمٍ ... أنت المداوي صريع الدهر من سقمه
ولآخر:
خُلقٌ واسعٌ ومالٌ قليل ... واعتداءٌ من الزمان طويل
ما احتيال الفتى بدولة دهرٍ ... وعليه النائبات تدول
كلما رام نهضةً أقعدته ... عائلات من الزمان تعول
فيمن أثرى بعد الفقر أٌنشد لرجل من المحدثين:
لئن كنتَ قد أُعطيتَ خزّاً تجرّه ... تبدّلته من فروةٍ وإهاب
فلا تُعجبن أن تملك الناس إنني ... أرى أمّةً قد أدبرت لذهاب
ولآخر:
تاه على إخوانه بالغنى ... فصار لا يطرف من كبره
أعاده الله إلى حاله ... فإنه يحسن في فقره
ولآخر دعبل:
عطاياه تغدو على سابحٍ ... وطوراً على بغلةٍ ندبه
فلو خُصّ بالرزق بخل الكرا ... م ما نال خيطاً ولا هدبه
ولكنه الرزق ممن يعي ... ش في رزقه الكلب والكلبه
ولآخر:
كنت إذ كنتَ عديماً ... لي خلاً ونديما
ثم أثريت فأعرض ... ت ولم ترع قديما
صار ما نلت من الما ... ل لنا ذنباً عظيما
هكذا يفعل بالإخ ... وان من كان كريما
ولآخر:
صحبتك إذ أنت لا تُصحب ... وإذ أنت لا غيرك الموكِب
وإذ أنت تفرح بالزائرين ... ونفسُك نفسَك تستحجب
وإذ أنت تكثر ذمّ الزمان ... ومشيك أضعاف ما تركب

فقلت كريمٌ له همةٌ ... ينال فأُدرك ما أطلب
فنلتَ وأقصيتني جانباً ... كأني ذو عرّةٍ أجرب

محاسن الثقة بالله عز وجل
قيل: خطب سليمان بن عبد الملك فقال: الحمد لله الذي أنقذني من ناره بخلافته. وقال الوليد بن عبد الملك: لأشفعنّ للحجاج بن يوسف وقرّة بن شريك. وقال الحجاج: يقولون مات الحجاج! فمه ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت! والله ما رضي الله البقاء إلا لأهون خلقه عليه إبليس إذ قال: رب أنظرني إلى يوم يبعثون. قال: فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم.
وقال أبو جعفر المنصور: الحمد لله الذي أجارني بخلافته وأنقذني من النار بها.
وحدثنا إبراهيم بن عبد الله رُفع الحديث إلى أنس بن مالك قال: دخلنا على فتىً من الأنصار وهو ثقيل في مرضه فلم نخرج من عنده حتى قضي عليه، وإذا عجوز عند رأسه، فالتفت إليها بعض القوم وقال: استسلمي لأمر الله عز وجل واحتسبي. قالت: أمات ابني؟ قال: نعم. قالت: أحق ما تقولون؟ قلنا: نعم. فمدّت يدها إلى السماء ثم قالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك وهاجرت إلى نبيك محمد، صلى الله عليه وسلم، رجاء أن تعينني عند كل شدة! اللهم فلا تُحملني هذه المصيبة اليوم! فكشف ابنها الثوب الذي سجّيناه به عن وجهه وما برحنا حتى طعم وطعمنا معه.
وقيل: وبينا عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يعرض الناس إذا هو برجل معه صبي له. فقال له عمر، رضي الله عنه: ويحك ما رأيت غراباً أشبه بغراب مِن هذا بك! فقال: يا أمير المؤمنين والله ما ولدته أمه إلا وهي ميتة. فاستوى عمر، رحمه الله، جالساً وقال: ويحك حدثني! قال: خرجت في غزاةٍ وأمه حامل به، فقالت: تخرج وتدعني على هذه الحالة حاملاً مثقلاً؟ فقلت: أستودع الله ما في بطنك. فغبت ثم قدمت وإذا بابي مغلق، فقلت: ما هذا وما فعلت فلانة؟ قالوا: ماتت. فذهبت إلى قبرها وكنت عنده، فلما كان من الليل قعدت مع بني عمي أتحدث وليس يسترنا من البقيع شيء، فرفعت لي نارٌ بين القبور، فقلت لبني عمي: ما هذه النار؟ فقال أحدهم: يا أبا فلان نرى على قبر فلانة كل ليلة ناراً! فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كانت صوامة قوّامة عفيفة، والله لأنبشنّ قبرها ولأنظرن ما حالها. فأخذتُ فأساً وأتيت القبر فإذا هو مفتوح والمرأة ميتة وهذا حي يدب حولها، فنادى مناد: أيها المستودع ربه وديعته خذ وديعتك، أما إنك لو استودعته أمه لوجدتها! فأخذته وعاد القبر كما كان، وهو والله يا أمير المؤمنين هذا.
مساوئ الثقة
قال: قال عيسى بن مريم، عليه السلام: يا معشر الحواريين إن ابن آدم خُلق في الدنيا في أربعة منازل هو في ثلاثة منها واثق بالله عز وجل وهو في الرابع سيء الظن يخاف خذلان الله عز وجل إياه، فأما المنزلة الأولى فإنه خُلق في بطن أمه خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة، ينزل الله جل وعز عليه رزقه في جوف ظلمة البطن، فإذا خرج من ظلمة البطن وقع في اللبن لا يخطو إليه بقدم ولا ساق ولا يتناوله بيد ولا ينهض بقوة ويكره عليه إكراهاً ويوجره إيجاراً حتى ينبت عليه عظمه ودمه ولحمه، فإذا ارتفع من اللبن وقع في المنزلة الثالثة في الطعام بين أبويه يكتسبان عليه من حلال وحرام، فإن مات أبواه عن غير شيء عطف عليه الناس هذا يطعمه وهذا يسقيه وهذا يؤويه، فإذا وقع في المنزلة الرابعة واشتد واستوى وكان رجلاً خشي أن لا يرزق يثب على الناس يخون أماناتهم ويسرق أمتعتهم ويكابرهم على أموالهم مخافة خذلان الله عز وجل إياه.
محاسن طلب الرزق
بلغنا عن ابن السماك أنه قال: لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض، وكن اليوم مشغولاً بما أنت عنه غداً مسؤول، وإياك والفضول فإن حسابها طويل.
وقال عمرو بن عتبة: من لم يقدّمه الحزم أخّره العجز.
وقال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم احدث لي سفراً أحدث لك رزقاً.
وفي بعض الحديث: سافروا تغنموا، وقال الكميت:
ولن يزيح هموم النفس إذ حضرت ... حاجات مثلك إلا الرَّحل والجمل
وقال الطائي:
وطول مقام المرء في الحيّ مخلقٌ ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبةً ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد

وقال بعض الحكماء: لا تدع الحيلة في التماس الرزق بكل مكان فإن الكريم محتال والدنيّ عيّال، وقال:
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيشٍ بدونٍ ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وتقول العرب: كلب جوّال خير من أسد رابض. وتقول أيضاً: من غلى دماغه صائفاً غلت قدره شاتياً.
ووقع عبد الله بن طاهر: من سعى رعى، ومن لزم المنام رأى الأحلام.
وقال الكسرويّ: أخذ من توقيع أنوشروان بالفارسية هرك روذ خرذ هرك خسيذ خاف وينذ، وأنشد:
كفى حزناً أن النوى قذفت بنا ... بعيداً وأن الرزق أعيت مذاهبه
ولو أننا إذ فرّق الدهر بيننا ... غني واحدٌ منا تموّل صاحبه
ولكننا من دهرنا في مؤونةٍ ... يكالبنا طوراً وطوراً نكالبه
ولآخر:
إذا المرء لم يبغ المعاش لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأذنين كلاًّ وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكَّرا
ولآخر:
ومن يك مثلي ذا عيالٍ ومقتراً ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو ينال غنيمةً ... ومبلغ نفسٍ عذرها مثل منجح
ولآخر:
وليس الرزق عن طلب حثيثٍ ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجيء بمثلها يوماً ويوماً ... تجيء بحمأةٍ وقليل ماء
ولآخر:
وقد علمت وعلم المرء ينفعه ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنّيني تطلّبه ... ولو قعدت أتاني لا يعنّيني
ولآخر:
لعمرك ما كل التبطّل ضائرٌ ... ولا كل شغلٍ فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواءً فاغتنم لذّة الدّعه
وإن ضقت فاصبر يفرج الله ما ترى ... ألا كل ضيق في عواقبه سعه
ولآخر:
سهّل عليك فإن الأمر مقدور ... وكل مستأنفٍ في اللوح مسطور
يأتي القضاء بما فيه لمدته ... وكل ما لم يكن فيه فمحظور
لا تكذبنّ وخير القول أصدقه ... إن الحريص على الدنيا لمغرور
ولآخر:
لا يتعبنّك شيءٌ أنت تطلبه ... وقد تقدمك المقدور والقلم
ولآخر:
لا تعتبن على العباد فإنما ... يأتيك رزقك حين يؤذن فيه
ولآخر:
هي المقادير تجري في أعنتها ... فاصبر فليس لها صبرٌ على حال
يوماً تريش خسيس القوم ترفعه ... دون السماء ويوماً تخفض العالي
ولآخر:
اصبر على زمنٍ جمٍّ تلوّنه ... فليس من شدةٍ إلا لها فرج
تلقاه بالأمس في عمياء مظلمةٍ ... ويصبح اليوم قد لاحت له السُّرُج
ولآخر:
ألا رُبّ راجي حاجةٍ لا ينالها ... وآخر قد تُقضى له وهو آيس
يجول لها هذا وتقضى لغيره ... فتأتي التي تُقضى له وهو جالس
ولآخر:
أتطلب رزق الله من عند غيره ... وتصبح من خوف العواقب آمنا
وترضى بصرّافٍ وإن كان مشركاً ... ضميناً ولا ترضى بربك ضامنا
كأنك لم تقنع بما في كتابه ... فأصبحت مدخول اليقين مباينا
ولآخر:
إني لأكرم نفسي أن أدنّسها ... بشين عرضي وبذل الوجه للناس
والله ضامن رزقي ما حييت وما ... في ضمن ذي العرش من شكّ ولا باس
إني رأيت سؤال الله مكرمةً ... وفي سؤال سواه أعظم الياس
قيل: ووجد في بعض خزائن ملوك العجم لوح من حجارة فيه مكتوب: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإن موسى، عليه السلام، خرج يقتبس ناراً فنودي بالنبوة. وأنشد:
ولما أن عييت بما ألاقي ... وأعيتني المسائل والقروض
ذكرت الله لا أرجو سواه ... وربُّ العرش ذو فَرَجٍ عريض
ولآخر:
يا صاحب الغمّ إن الغمّ منقطعٌ ... أبشر بخيرٍ كأن قد فرّج الله
اليأس يقطع أحياناً بصاحبه ... لا تيأسنّ فإن الصانع الله

إذا ابتليت فثق بالله وارض به ... فكاشف الضرّ والبلوى هو الله
ولآخر:
كم رأينا من صحيحٍ قد هوى ... وأخي سقمٍ من السقم خرج
لا تكن إن راب أمرٌ آيساً ... فلعند اليأس يأتيك الفرج
ولآخر:
وإذا تصبك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبر فكلُّ ضبابةٍ تتكشّف

مساوئ طلب الرزق
لديك الجن:
احْلُ وامرُرْ معاً ولِنْ تارةً واخ ... شن ورِشْ أنت وانتدب للمعالي
وأغث واستغث بربك في الأز ... ل إذا جلحت صروف الليالي
لا تقف للزمان في منزل الضي ... م ولا تستكن لرقة حال
وأهن نفسك الكريمة للمو ... ت وقحّم بها على الأهوال
فلعمري لَلموت أزين للح ... رّ من الذلّ ضارعاً للرجال
أي ماءٍ يدور في وجهك الح ... رّ إذا ما امتهنته بالسؤال
ثم لا سيما إذا عصف الده ... ر بأهل الندى وأهل النوال
غاضت المكرمات وانقرض النا ... س وبادت سحائب الإفضال
فقليل من الورى من تراه ... يُرتجى أو يصون عرضاً بمال
وكذاك الهلال أول ما يب ... دو نحيلاً في دقة الخلخال
ثم يزداد ضوءه فتراه ... قمراً في السماء غير هلال
عاد تدميثك المضاجع للجن ... ب فعال الخريدة المكسال
وادّرع يلمق اجتياب دجى اللي ... ل بطرفٍ مضبَّر الأوصال
عامليّ النتاج تطوى له الأر ... ض إذا ما استُعُدّ للأنقال
جُرشعٍ لاحق الأياطل كالأع ... فر ضافي السبيب غير مذال
واتخذ ظهره من الذل حصناً ... نعم حصن الكريم في الزلزال
لا أحب الفتى أراه إذا ما ... عضّه الدهر جاثماً في الضلال
مستكيناً لذي الغنى خاشع الطر ... ف ذليل الإدبار والإقبال
أين جوب البلاد شرقاً وغرباً ... واعتساف السهول والأجبال
واعتراض الرقاق يوضع فيها ... بظباء النجاد والعمال
ذهب الناس فاطلب الرزق بالسي ... ف وإلا فمت شديد الهزال
محاسن استصلاح المال
روي عن عبد الله بن جعفر قال: بعثني علي بن أبي طالب إلى حكيم بن خزام يسأله سلف ثلاثين ألف درهم، فأتيته فانطلق بي إلى منزله فوجد في الطريق صوفاً فأخذه ومرّ بقطعة كساء فأخذه فلما صار إلى منزله أعطاني طرف الصوف فجعلت أفتله ويرسل حتى فتلته، ثم دعا بغرارةٍ مخرقةٍ فرقعها بالكساء وخاطها بالخيط وصيّر فيها ثلاثين ألف درهم وحملت معي.
قال: وأتى قومٌ قيس بن سعد بن عبادة يسألونه في حمالة فصادفوه في حائط له يتتبع ما يسقط من الثمر فيعزل جيّده عن رديّه ويجعل كل صنف منها على حدته، فهموا أن يرجعوا عنه وقالوا: ما نظن عند هذا خيراً، ثم عزموا على لقائه فأقاموا حتى فرغ من حائطه فكلموه فأعطاهم. فقال رجل من القوم له: لقد رأيناك تصنع شيئاً لا يشبه فعالك! وأخبروه فقال: إن الذي رأيتم من صنيعي قضيت به حاجتكم.
عبد العزيز بن أبان عن هشام الثقفي عن رجل أتى طلحة بن عبيد الله يسأله حمالة فرآه يهنأ بعيراً له فقال: يا غلام أخرج له بدرةً. فقبضها ثم قال: أردت أن أنصرف حين رأيتك تهنأ البعير. فقال: إنا لا نضيع الصغير ولا يتعاظمنا الكبير.
وكان يقال: من أنفق ولم يحسب عطب ولم يشعر. وقيل: الإفلاس سوء التدبير.
الأصمعي قال: سمعت بعض الهالبيين يقول لبنيه: لا تشتروا الغنم فإنها مال الرقة ولا تشتروا البقر فإنها مال الذلة واشتروا الإبل واقتنوها فإنها رقوء الدم وصدقات الحرائر وسفن البرّ وفيها قضاء الحقوق، ولا تتزوجوا المميتات فإنهن يضربن على رؤوسكم من كان قبلكم وتزوجوا المطلقات فإنهن أضعف نفساً وإنكم تضربون على رؤوسهن من كان قبلكم.
وقال بعضهم في جمع القليل إلى القليل:
رب كبيرٍ هاجه صغير ... وفي البحور تُغرق البحور
وقال آخر:

قد يلحق الصغير بالجليل ... وإنما القرم من الأفيل
وسحق النخل من الفسيل
محاسن الدَّين
قيل: قدم رجل مع إسماعيل بن حمّاد بن أبي حنيفة وهو على قضاء البصرة فأقام أكثر من سنة متعطلاً، فكثر عليه الدين لرجلٍ من أهل البصرة، فتوعده أن يقدمه إلى القاضي، فأتى الرجل إسماعيل فأخبره بما تخوّفه من حبس الرجل إياه. فقال: إذا قدّمك فأقرّ له بحقّه ثم قل أبيع داري وأقضيه، فإنه سيقول: لا دار لك، قل فأبيع دابتي وضيعتي، فإنه سينكر أن يكون لك شيء. ففعل فجرى بينهما ما قاله القاضي. فقال القاضي: قد أقررت أنه لا شيء له، فكيف أحبسه؟؟ فخلّ سبيله.
قال: وكان لرجل من التجار صاحب عينةٍ على رجل من الجند مالٌ فخرج عطاء الجندي ولم يقض صاحبه. فأرسل إليه التاجر غلاماً يلزمه وعلى الغلام كساءٌ أحمر فلزمه. فجعل الرجل يتلو: " وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ إلى ميسرةٍ " . والغلام يتلو: " إن الله يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها " . فلما طال ذلك على الرجل واشتد إلحاح الغلام عليه أتى صاحبه فقال:
مُنع الرّقاد فما أغمّض ساعةً ... من غمّ تعذيب الكساء الأحمر
يتلو التي فيها الأمانة منهما ... لؤماً وأتلو آية المتيسر
فضحك الرجل ووهب له ما كان عليه من دينه.
مساوئ الدَّين
قال أبو اليقظان: كان الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب الشاعر يسلّف الناس فإذا حلّ ماله ركب حماراً اسمه شارب الريح فيقف على غُرمائه ويقول:
بني عمنا ردّوا الدراهم إنما ... يفرّق بين الناس حبُّ الدراهم
وكان رجل من بني الدئل عسر القضاء فإذا تعلّق به غرماؤه فرّ منهم وقال:
فلو كنت الحديد لكسّروني ... ولكني أشدّ من الحديد
فأقرضه الفضل بن العباس، فلما كان قبل المحل جاء فبنى معلفاً على باب داره، وكان يقال له عقرب. فلقي كلّ واحد منهما من صاحبه شدة فهجاه فقال:
قد تجرت في سوقنا عقربٌ ... يا عجبا للعقرب التاجره
قد ضاقت العقرب واستيقنت ... ليس لها دنيا ولا آخره
فإن تعد ترجع بما ساءها ... وكانت النعل لها حاضره
كلُّ عدوٍّ يتّقى مقبلاً ... وتُتّقى شِرّتها دابره
إن عدواً كيده في استه ... لغير ذي كيدٍ ولا بادره
قال: وقدّم أعرابيان غريماً لهما إلى قاض، فحلف ثم قال:
ألم تعلما أني طموحٌ عنانه ... وأني لا يقضي عليّ أمير
طمستُ الذي في الصك مني بحلفةٍ ... سيغفرها الرحمن وهو غفور
ولآخر:
أرى الغرماء قد كثروا وضجّوا ... إلى السلطان غير مُقصِّرينا
فإن سألوا اليمين فقد ربحنا ... وإن سألوا الشهود فقد خزينا
ولآخر:
الدين حقاً كاسمه دويُّ ... قد يخضعُ المرء له القويُّ
كم من شريفٍ غاظه غبيُّ

محاسن إصلاح البدن
قال: جمع الرشيد أربعة من الأطباء: عراقياً ورومياً وهندياً وسوادياً، فقال: ليصف كل واحد منهم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الرومي: الدواء الذي لا داء فيه حب الرشاد الأبيض. وقال الهندي: الماء الحار. وقال العراقي: الإهليلج الأسود. وكان السوادي أبصرهم فقال له: تكلم. فقال: حب الرشاد يولد الرطوبة والماء الحار يرخي المعدة والإهليلج يرقّ المعدة. قال: فأنت ما تقول؟ قال: الدواء الذي لا داء فيه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه وتقوم عنه وأنت تشتهيه.
وقال بعضهم: سألت أسقف فارس فقلت: إنا قوم نغترب ويتغير علينا المياه فصف لنا ما نتعالج به. فقال: دعوا الأدوية وعليكم بالأغذية وما يخرج من الضرع والنحل، وعليكم بأكل اللحم وشرب ماء الكرم ودخول الحمّام ولبس الكتان.
وعن الهيثم بن عدي قال: قلت لتياذوق وكان متطبب الحجاج: أوصني بشيء أحفظه عنك فإني مسافر. فقال: لا تنامن حتى تعرض نفسك على الخلاء، ولا تذوقن طعاماً وفي معدتك طعام، واتق ما تخرجه النعجة والنحلة، فإن اعتللت فأنا الضمين إلا علة الموت.
وقال سوادة: سألت بختيشوع ما معنى البلغم؟ فقال: تفسيره بلاء وغم.

وقال بعض الفلاسفة: ينبغي للعاقل أن يتقي البرد في أول الشتاء وفي آخره. فقيل له: ففي وسطه؟ قال: ذاك يتقيه العاقل والأحمق.
قيل: وأوصى بعض الحكماء ولده فقال له: إياك أن تسير شبراً من الأرض وأنت حافٍ، ولا تذوقن نبتة ولا تشمنها حتى تعرفها، وإياك وأن تبول في شق الأرض فتخرج منه عليك داهية، ولا تشرب من فم قربة ولا إداوة حتى يكون الماء معيناً، واحذر مرافقة المعرفة ومن لا تعرف فلا تصاحبه، وإياك والسجود على بارية جديدة حتى تمسحها بكمك فرب شظية حقيرة فقأت عيناً خطيرة، ولا تنظرن في بئر عادية، ولا تشهدن من الحيوان الكبار ما هو في النزع، واقبل وصيتي ترشد ولا تدعها فتندم.
قيل: ودخل أعرابي ذو كدنةٍ على معاوية بن أبي سفيان فأعجبه فقال: يا أعرابي مم هذا السمن؟ قال: لا آكل حتى أجوع وأستوثق من أطرافي في الشتاء وأغفل غاشية الهجر.
وقال بعض الفلاسفة: اخضع للريح خضوعك للملك، وجاهد البلغم مجاهدة عدوك، ودار المرة مداراتك صديقك، وأنزل دمك في السنة مرة أو مرتين، وروّ مشاشتك من ماء لحوم الطير، وعليك بالشراب الأصفر فإنه حليف الروح.
وذكر أبو الحسين محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل عن أحمد بن أبي الأضبع وكان كاتباً لأحمد عن يحيى بن ماسويه قال: أكل الفالوذ لصاحب النبيذ عندنا من شر الطب.
وقيل: ما من أحد إلا وفيه أربعة عروق: عرق الجُذام وعرق البرص وعرق العمى وعرق الجنون، فإذا تحرك عرق الجذام قمعه الله بالزكام فأذهبه، وإذا تحرك عرق البرص سلط الله جل وعز عليه الدماميل فأذهبته، وإذا تحرك عرق الجنون سلّط الله عليه البلغم فقطعه، وإذا تحرك عرق العمى سلط الله عليه الرمد فأذهبه.
وقد روي عن النبي، صلى الله عليه وسلم: لا تكرهوا أربعاً لأربع، لا تكرهوا الزكام فإنه يقطع عرق الجذام، وتكرهوا السعال فإنه يقطع عرق الفالج، ولا تكرهوا الرمد فإنه يقطع عرق العمى، ولا تكرهوا الدماميل فإنها تقطع عرق البرص.
وروي عن علي، رضي الله عنه، أنه قال: من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه سبعين نوعاً من السوء، ومن أكل إحدى وعشرين زبيبة حمراء لم ير في جسده شيئاً يكرهه، ومن أكل سبع تمرات عجوة قتلت كل دابة في بطنه، واللحم ينبت اللحم، والثريد طعام العرب، والسواك وقراءة القرآن يذهبان بالبلغم، والبقر لحومها داء وألبانها دواء وسمنها شفاء، والسمك يذيب الجسد، والشحم يخرج مثله من الداء، ولن يتداوى الناس بمثل السمن، ولن تستشفي النفساء بمثل الرطب، والمرء يسعى بجده والسيف يقطع بحده، ومن أراد البقاء ولابقاء فليباكر الغداء وليخفف الرداء وليقلل من غشيان النساء. وخفة الرداء قلة الدّين.
قيل: من بات والهندباء في جوفه بات آمناً من الدبيلة، ومن بات والفجل في جوفه بات آمناً من البشم، ومن بات والكرفس في جوفه بات آمناً من وجع الأضراس، ومن بات والجرجير في جوفه بات وعروق الجذام تتردد في صدره، ومن بات والكرّاث في جوفه بات آمناً من البواسير.
وقال بعض الفلاسفة: لا ينبغي للعاقل أن يستخف بالقليل من ثلاثة أشياء، بالقليل من النار والقليل من السلطان والقليل من السقم.
وقال أبو هفان: حدثني العباس بن المأمون قال: كنت عند المأمون ذات يوم وعنده الموبذ فسأله: ما أنفع الأشياء؟ فقال: الاقتصاد في الطعم والشرب فإن كثيره يثقل الجسم ويوهن العلم والفهم ويكدّر صفاء البشرة ويفتح الأدواء ويخمد نار المعدة ويمحق شرف صاحبه. فقال المأمون: لو أسلمت يا موبذ ولم أستقضك كنت قد ضيعت حجة الله في أرضه.
الحسن بن علي بن زيد قال: سمعت علي بن الجعد يقول: لما قدم بختيشوع الأكبر على أبي جعفر من السوس أمر له بالطعام، فلما وضع بين يديه الخوان قال: الشرب. قيل له: لا يُشرب على مائدة أمير المؤمنين. قال: لا آكل طعاماً ليس معه شراب. فأُخبر أمير المؤمنين بذلك، فقال: دعوه. فلما حضر العشاء فعل به مثل ذلك، فطلب الشراب، فقيل له: لا يُشرب على مائدة أمير المؤمنين. فتعشى وشرب ماء دجلة. فلما كان الغد نظر إلى مائه فقال: ما كنت أحسب شيئاً يجري مجرى الشراب فهذا ماء دجلة يجري مجرى الشراب. يريد في المنفعة أنه مثله.

مساوئ ما يفسد البدن

قال وقال رجل لعبد الملك بن أبجر: أشتهي أن أمرض. فقال له: كل سمكاً مالحاً واشرب نبيذاً حلواً واقعد في الشمس واستمرض الله عز وجل فإن لم تمرض فأنت حمار.

محاسن الندامة
روي عن عائشة، رضي الله عنه، أنها دخلت على أم سلمة بعد رجوعها من وقعة الجمل وقد كانت أم سلمة حلفت أن لا تكلمها أبداً من أجل مسيرها إلى محاربة عليّ بن أبي طالب، فقالت عائشة: السلام عليك يا أم المؤمنين! فقالت: يا حائط ألم أنهك؟ ألم أقل لك؟ قالت عائشة: فإني أستغفر الله وأتوب إليه. كلميني يا أمر المؤمنين، قالت: يا حائط ألم أقل لك؟ ألم أنهك؟ فلم تكلمها حتى ماتت، وقامت عائشة وهي تبكي وتقول: وا أسفاه على ما فرط مني.
قيل: وسئلت عائشة، رضي الله عنه، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقالت: وما عسيت أن أقول فيه وهو أحب الناس إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ لقد رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جمع شملته على عليّ وفاطمة والحسن والحسين وقال: هؤلاء أهل بيتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً. قيل لها: فكيف سرت إليه؟ قالت: أنا نادمة! وكان ذلك قدراً مقدوراً.
وعن جميع بن عمير قال: قلت لعائشة حدثيني عن علي، رضي الله عنه، فقالت: تسألني عن رجل سالت نفس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في يده وولي غسله وتغميضه وإدخاله قبره، قلت: فما حملك على ما كان منك؟ فأرسلت خمارها على وجهها وبكت وقالت: أمرٌ كان قضي عليّ.
قال: وقال ابن المعافى لأبي مسلم صاحب الدولة: أيها الأمير لقد قمت بأمر لا يقصر بك ثوابه عن الجنة في إقامة دولة بني العباس، فقال: خوفي من النار والله أولى من الطمع في الجنة، إني أطفيت من أمية جمرة وألهبت من بني العباس نيراناً، فإن أفرح بالإطفاء فوا حزناً من الإلهاب! وحدّث أبو نملة عن أبيه قال: سمعت أبا مسلم بعرفات في الموقف يقول باكياً: اللهم إني تائب إليك مما لا أظن أن تغفره لي، فقلت: أيها الأمير أيعظم على الله عز وجل غفران ذنبٍ؟ فقال: إني نسجت ثوباً من الظلم لا يبلى ما دامت الدولة لبني العباس، فكم من صارخ وصارخة تلعنني عند تفاقم هذا الأمر، فكيف يغفر الله عز وجل لمن هذا الخلق خصماؤه؟ قيل: ولما سخط عليه المنصور ووكل به شهرام المروزي قال له يوماً: الويل لك من الخليفة المنصور! فقال: الويل لي من ربي، وأين يقع ويل ساعة من عذاب الأبد؟
مساوئ الندامة
قال: وإلى الكُسَعيّ يضرب المثل في الندامة وذلك أنه كان يرعى إبلاً له بوادٍ كثير العشب، فبينا هو كذلك إذ بصر بنبعة في صخرة فأعجبته، فقال: ينبغي أن تكون هذه قوساً، فجعل يتعهدها حتى إذا أدركت قطعها وجففها واتخذ منها قوساًن فأنشأ يقول:
يا رب وفقني لنحت قوسي ... فإنها من لذّتي لنفسي
وانفع بقوسي ولدي وعرسي ... أنحتها صفراء مثل الورس
صلباء ليست كقسيِّ النِّكس
ثم دهنها وخطمها بوتر ثم عمد إلى ما كان من برايتها فجعل منه خمسة أسهم فجعل يقلبها في كفه ويقول:
هن وربي أسهم حسانُ ... يلذّ للرامي بها البنان
كأنها قوّمها الميزان ... فأبشروا بالخصب يا صبيان
إن لم يعقني الشؤم والحرمان
ثم خرج حتى أتى موارد حمر الوحش فكمن فيها فمرّ قطيع منها فرمى عيراً فأمخطه السهم حتى جازه وأصاب الجبل فأورى ناراً فظن أنه أخطأ فقال:
أعوذ بالله العزيز الرحمان ... من نكد الجدّ معاً والحرمان
ما لي رأيت السهم بين الصّوّان ... يوري شراراً مثل لون العقيان
فأخلف اليوم رجاء الصبيان
ثم مكث على حاله فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأمخطه السهم فصنع صنيع الأول فقال:
لا بارك الله الرحمن في رمي القتر ... أعوذ بالرحمن من سوء القدر
أأمخط السهم لإرهاق الضرر ... أم ذاك من سوء احتيال ونظر
ثم مكث على حاله فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأمخطه السهم فقال:
ما بال سهمي يوقد الحباحبا ... قد كنت أرجو أن يكون صائبا
وأمكن العير وأبدى جانبا ... فصار رأيي فيه رأياً خائبا
ومكث مكانه فمر به قطيع آخر فرمى عيراً منها فأصرد السهم فصنع صنيع الأول فقال:

أبعدَ خمسٍ قد حفظتُ عدّها ... أحمل قوسي وأُريد ردها
أخزى الله لينها وشدّها ... والله لا تسلم عندي بعدها
ولا أرجي ما حييت رفدها
ثم عمد إلى القوس فضرب بها حجراً فكسرها ثم بات، فلما أصبح إذا الحمر مطرحة حوله واسهمه مضرجة بالدم، فندم على كسر قوسه وشدّ على إبهامه فقطعها، وأنشأ يقول:
ندمت ندامة لو أن نفسي ... تطاوعني إذاً لقطعت خمسي
تبيّن لي سفاه الرأي مني ... لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وقال الفرزدق:
ندمت ندامة الكُسعيّ لما ... غدت مني مطلقةً نوار
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين لجّ به الضرار
ومنه ما قيل في خفي حنين وكان حنين إسكافاً من الحيرة فساومه أعرابي بخفيه واختلفا في ذلك حتى أغضبه فأراد أن يغيظ الأعرابي، فلما ارتحل أخذ حنين الخفين فألقى أحدهما على الطريق وألقى الآخر في موضع آخر من طريقه، فلما مر الأعرابي رأى أحدهما فقال: ما أشبه هذا بخفّ حنين ولو كان معه أخوه نزلت فأخذته، ومضى، فلما انتهى إلى الآخر ندم على ترك الأول وأناخ راحلته فأخذه ورجع إلى الأول. وقد كمن له حنين فعمد إلى راحلته فذهب بها وما عليها، وأقبل الأعرابي وليس معه إلا الخفان، فقال له قومه: ما الذي أتيت به؟ قال: أتيت بخفّي حنين، فضربته العرب مثلاً. و قال الشاعر في مثله:
لتقرعنّ عليّ السنّ من ندمٍ ... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي

محاسن الحنين إلى الوطن
قال الله تبارك وتعالى: " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم " ، فقرن جل ذكره الجلاء عن الوطن بالقتل، وقال جل وتعالى: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا " ، فجعل القتال ثأراً للجلاء. وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: الخروج عن الوطن عقوبة.
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: لولا حب الوطن لخرب بلد السوء.
وكان يقال: بحب الأوطان عمرت البلدان.
وقال جالينوس: يتروّح العليل بنسيم أرضه كما تتروح الأرض الجدبة ببلل المطر.
وقال بقراط: يداوى كل عليل بعقاقير أرضه فإن الطبيعة تنزع إلى غذائها.
ومما يؤكد ذلك قول أعرابي وقد مرض بالحضرة فقال له قائل: ما تشتهي؟ قال: محضاً روياً وضباً مشوياً.
وحدث عن بعض بني هاشم قال: قلت لأعرابي: من أين أقبلت؟ قال: من هذه البادية! قلت: وأين تسكن منها؟ فقال: مساقط الحمى حمى ضرية لعمر الله ما نريد بها بدلاً ولا نبغي عنها حولاً نفحتها العذاوات وحفّتها الفلوات فلا يعلولج ترابها ولا يتمعّر جنابها ولا يملولح ماؤها، ليس بها أذىً ولا قذىً ولا موم، فنحن فيها بأرفه عيش وأنعم معيشة وأرغد نعمة. قلت: فما طعامكم؟ قال: بخ بخ عيشنا عيش تعلل جاذبه وطعامنا أطيب طعام وأهنأه وأمرأه الفثّ والهبيد والصليب والعنكث والعلهز والذآنين والينمة والعراجين والحسلة والضِّباب واليرابيع والقنافذ والحيات وربتما والله أكلنا القدّ واشتوينا الجلد فما نعلم أحداً أخصب منا عيشاً ولا أرخى بالاً ولا أعمر حالاً، أوما سمعت قول شاعر وكان والله بصيراً برقيق العيش ولذيذه؟ قلت: وما قال؟ قال قوله:
إذا ما أصبنا كل يومٍ مذيقةً ... وخمس تميراتٍ صغارٍ كوانز
فنحن ملوك الناس خصباً ونعمة ... ونحن أسود الناس عند الهزاهز
وكم متمنٍّ عيشنا لا يناله ... ولو ناله أضحى به حقّ فائز
فالحمد لله على ما بسط من حسن الدعه ورزق من السعة وإياه نسأل تمام النعمة.
وقيل لأعرابي: كيف تصنع بالبادية إذا انتصف النهار وانتعل كل شيء ظله؟ فقال: وهل العيش إلا ذاك؟ يمشي أحدنا ميلاً فيرفضّ عرقاً كأنه الجمان، ثم ينصب عصاه ويلقي عليها كساءه وتقبل عليه الرياح من كل جانب فكأنه في إيوان كسرى.
ذكر من اختار الوطن على الثروة - قال بعض الأدباء: عسرك في بلدك خير من يسرك في غربتك.
وقيل لأعرابي: ما الغبطة؟ قال: الكفاية ولزوم الأوطان والجلوس مع الإخوان. قيل: فما الذلة؟ قال: التنقل في البلدان والتنحي عن الأوطان.
وقال بعض الأدباء: الغربة ذلة فإن ردفتها علة وإن أعقبتها قلة فتلك نفس مضمحلة.
وقالت العرب: الغربة ذلة والذلة قلة.

وقال آخر: لا تنهض عن وكرك فتنقصك الغربة وتضيمك الوحدة.
وشبّهت العرب والحكماء الغريب باليتيم اللطيم الذي ثكل أبويه فلا أم ترأم له ولا أب يحدب عليه.
وكان يقال: الجالي عن مسقط رأسه كالعير الناشز عن موضعه الذي هو لكل سبع فريسة ولكل كلب قنيصة ولكل رامٍ رمية.
وكان يقال: الغريب عن وطنه ومحل رضاعه كالغرس الذي زايل أرضه وفقد شربه فهو ذاوٍ لا يثمر وذابل لا ينضر، وأنشد:
ومغتربٍ بالمرج يبكي لشجوه ... وقد غاب عنه المسعدون على الحب
إذا ما أتاه الركب من نحو أرضه ... تنفس يستشفي برائحة الركب
ولآخر:
إذا ما ذكرت الثغر فاضت مدامعي ... وأضحى فؤادي نهبةً للهماهم
حنيناً إلى أرضٍ بها اخضرّ شاربي ... وحلّت بها عني عقود التمائم
وألطف قومٍ بالفتى أهل أرضه ... وأرعاهم للمرء حقَّ التقادم
ولآخر:
أحن إلى أرض الحجاز وحاجتي ... خيامٌ بنجدٍ دونها الطرف يقصر
وما نظري من نحو نجدٍ بنافعي ... أجل لا ولكني على ذاك أنظر
أفي كل يوم نظرةٌ ثم عبرةٌ ... لعينيك يجري ماؤها يتحدر
متى يستريح القلب؟ إما مجاورٌ ... حزينٌ وإما نازحٌ يتذكر
الطائي:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبداً لأول منزل

مساوئ من كره الوطن
قال بعض الفلاسفة: اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تكسبوا مالاً غنمتم عقلاً كثيراً.
وقال آخر: لا يألف الوطن إلا ضيّق العطن.
وقيل لآخر: ما أصبرك على الغربة! فقال: انست بالنوائب حتى ما أعرف غيرها وغذيت بالمكاره فما أجد ضيرها.
ومدح أعرابي رجلاً فقال: خرّجته الغربة ودربته التجربة وضرسته النوائب.
وقال آخر: ما حنّ أحد إلى بلد لا جمع فيه شمله إلا لوصمةٍ في عقله ولا تنزع نفسه إلى بلد قلّ به رفده إلا لاستيلاء الموق عليه.
وقيل لآخر: ما العيش؟ فقال: دوران البلدان ولقاء الإخوان ومغازلة القيان واستماع الأغاني والنغمات من الزير والمثاني.
وقد قيل: من صبر على الغربة أمن من الكربة، وأفضل العدة الصبر على الشدة. وقالوا: لا توحشنّك الغربة إذا أنست بالكفاية، ولا تجزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار.
وقيل الفقير في الأهل مصروم والغني في الغربة موصول.
وقيل: أوحش قومك ما كان في إيحاشهم انسك واهجر وطنك ما نبَت عنه نفسك.
وقريء على باب خان بطرسوس:
ما من غريبٍ وإن أبدى تجلده ... إلا تذكر عند الغربة الوطنا
الطائي:
لا يمنعنّك خفض العيش تطلبه ... نزاع شوقٍ إلى أهلٍ وأوطان
تلقى بكل بلادٍ إن حللت بها ... أهلاً بأهلٍ وجيراناً بجيران
ولآخر:
نبّت بك الدار فسر آمناً ... فللفتى حيث انتهى دار
وروي عن كعب بن مالك أنه وصف وحشة المدينة لغيبة النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: تنكرت البلاد فما هي بالبلاد التي نعرف، وتنكر الناس فما هم بالناس الذين نعرف. وفي معناه قال الشاعر:
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار التي كنت أعرف
وأنشد:
لا تقنعنّ ومطلبٌ لك ممكنٌ ... فإذا تضايقت المطالب فاقنع
وقال آخر:
كم المقام وكم تعتادك العلل ... ما ضاقت الأرض في الدنيا ولا السبل
إن كنت تعلم أن الأرض واسعةٌ ... فيها لغيرك مرتادٌ ومرتحل
فارحل فإن بلاد الله ما خلقت ... إلا ليسلك منها السهل والجبل
الله قد عوّد الحسنى فما برحت ... عندي له نعمٌ تثري وتتصل
إن صاق بي بلد هيا له عوضاً ... وإن نأى منزلٌ بي كان لي بدل
وإن تغير لي عن وده رجلٌ ... أصفى المودة لي من بعده رجل
لم يقطع الله لي من صاحبٍ أملاً ... إلا تجدد لي من بعده أمل
لا تمتهن أبداً خدّيك من طمعٍ ... فما لوجهك نورٌ حين يبتذل

وابغ المكاسب من أزكى مطالبها ... من حيث تحمل حتى ينفد الأجل
ولآخر:
إذا ما أطال المرء مكثاً ببلدةٍ ... تقعبه من بعد حدّته نكس
ولو أن هذي الشمس دام طلوعها ... أو البدر لم يُحبب ولا حُبّت الشمس
فجل طالباً للرزق في الأرض واغترب ... ففي كل أرضٍ للفتى الأكل واللبس
ولآخر:
وإذا الديار تنكرت عن أهلها ... فدع الديار وأسرع التحويلا
ليس المقام عليك حتماً واجباً ... في بلدةٍ تدع العزيز ذليلا
ولآخر:
إذا خفت من دارٍ هواناً فإنما ... ينجيك من دار الهوان اجتنابها
ولآخر:
اصبر على حدث الزمان فإنما ... فرج الحوادث مثل حلّ عقال
وإذا رأيت من ابن عمك جفوةً ... فاشدد يديك بعاجل الترحال
إن المقام على الهوان مذلةٌ ... والعجز آفة حيلة المحتال
وقد قيل: في حب الوطن: أحق البلدان بنزعك إليه بلد امصّك حلب رضاعه.
وقيل: احفظ بلداً أرشحك غذاؤه، وارع حمىً أكنّك فناؤه.
وقيل: لا تشكون بلداً فيه قبائلك ولا أرضاً فيها قوابلك.
وقيل: من علامة الرشد أن تكون النفس إلى أوطانها مشتاقة وإلى مولدها توّاقة.
قيل: ولما خرج الرشيد إلى خراسان وصار بعقبة همذان أنشأ يقول:
حتى متى أنا في حلٍّ وترحال ... وطول همٍ بإدبارٍ وإقبال
ونازح الدار لا ينفك مغترباً ... عن الأحبة لا يدرون ما حالي
في مشرق الأرض طوراً ثم مغربها ... لا يخطر الموت من حرصي على بالي
ولو قنعت أتاني الرزق في دعةٍ ... إن القنوع الغنى لا كثرة المال
وذكروا أن أبا دلفٍ لما ولي الشام طال مقامه فحنّ إلى وطنه فكتب لى يزيد بن مخش:
أيزيد طالت غربةٌ ومقام ... وبكاً فأسعده البكاء حمام
أيزيد هل من مطمعٍ في أوبةٍ ... لمتيّمٍ طالت به الأيام
لعب الفراق بنومه فأفاته ... طيب الكرى فدموعه تسجام
ما نام عنه وإن رقدتم شوقه ... والشوق يسري والعيون نيام
والشوق ألزمه البكاء فنفسه ... حرّى وأذبل جسمه التّهمام
يا طائفاً أهدى السلام إلى فتىً ... تهدي إليّ سلامك الأحلام
أنى وكيف ينام صبٌ هائم ... أفضت إليه بسرّه الأقلام
يا جانب الأهواز جادك وابلٌ ... وسقاك من ديم الربيع رهام
كم فيك من شجنٍ ومأنس وحشةٍ ... ومحبّبٍ تُشفى به الأسقام
فلئن أحلّكما الزمان ببلدةٍ من دونها القفرات والآكام
وشواهقٌ تزع السحاب شوامخٌ ... ليست وإن دأب المطيّ ترام
.. . . أرى الأيام تجمع بيننا ... والدهر فيه مسرةٌ وغرام
أيزيد ساعدك الزمان وخاننا ... والدهر ليس لحالتيه دوام
تمسي ضجيع خريدةٍ ومضاجعي ... عضبٌ حديد الشفرتين حسام
وتجر أذيال النعيم مرفِّلاً ... وأظل يكسوني الشحوب قتام
متسربلاً حلق الحديد يحفّني ... لجبٌ يضيق به الفضاء لهام
من كل أشعث في الحديد مقنّعٍ ... ذرب الحسام كأنه ضرغام
والحرب حرفتنا وليست حرفةً ... إلا لمن هو في الوغى مقدام
نعري السيوف فلا تزال عريةً ... حتى تكون جفونهن الهام
ما للزمان اعتاقنا من بينكم ... فجرت علينا للزمان سهام
يا ليته إذ لم يدم إحسانه ... أن لا يكون لما أساء دوام
فبلغ شعره المأمون فقال: حنّ القاسم بن عيسى إلى وطنه، فأمره بالانصراف.
قال الأصمعي: قدم سعيد بن صمصم على الحسن بن سهل فأنشده القصيدة يصف فيها حنينه إلى سوء حاله بالبادية ويستميحه:
سقياً لحيٍّ باللوى عهدتهم ... منذ زمانٍ ثم هذا ربعهم
عهدتهم والعيش فيه غُرّةٌ ... ولم يناو الحدثان شعبهم

ولم يبينوا لنوىً قذافةٍ ... تقطع حبلي من وصال حبلهم
فليت شعري هل لهم من مطلب ... أو أجدنّ ذات يوم بدلهم
أو يعذرنّ بالبكاء إن بكى ... صبٌّ معنًّى مستحق إثرهم
مكلّفٌ بالشوق لا ينساهم ... يمنحهم ودّاً ويرعى عهدهم
وينذر النذور إن رآهم ... وعاد يوماً عيشه وعيشهم
ولا رب العرش لا يلقاهم ... ولا يعود عيده وعيدهم
وكيف يلقاهم كبيرٌ سنه ... وقد مضى الدهر وطاح نجمهم
هيهات عدِّ النفس عن ذكراهم ... واقصد لنحو آخرين غيرهم
هذا وقد رأيتني فلم ألُم ... رأيي إذا لام الرجال رأيهم
أدعو ابن سهلٍ حسناً ومجده ... حين تعيّا بعيالي أمرهم
أظل أدعو باسمه ودونه ... قومٌ كثيرٌ رغبةً تركتهم
تخيراً إخترته عليهم ... ولا بهم بأس ولا ذممتهم
ناموا فلما أن رأيت نومهم ... عني تحملت فما أيقظتهم
يا ابن كرامٍ كابراً عن كابرٍ ... زانوك زيناً باقياً وزنتهم
كانوا هم الأشراف سادوا كلهم ... ما في جميع العالمين مثلهم
بنوا جميع المجد فيما قد مضى ... وأنت تبنيه كذاك بعدهم
في شرفٍ مؤيّدٍ أركانه ... لم يبنه بانٍ سواهم قبلهم
فيا ابن سهلٍ وابن آباءٍ له ... كانوا مناجيب قديماً فضلهم
والله ما تصبح بين معشرٍ ... إلا وأنت شمسهم وبدرهم
والناس آخاذٌ وماءٌ ناقعٌ ... وغدُرٌ تجري وأنت بحرهم
والناس أجناس كما قد مُثلوا ... وفيهم الخير وأنت خيرهم
حاشا أمير المؤمنين إنه ... خليفة الله وأنت صهرهم
إليك أشكو صِبيةً وأمهم ... لا يشبعون وأبوهم مثلهم
قد أكلوا الوحش فلم يشبعهم ... وشربوا الماء فطال شربهم
وامتذقوا المذاق فيا دنياهم ... والمضغ إن نالوه فهو حسُّهم
لا يعرفون الخير إلا ذكره ... والدهر هيهات فليس عندهم
وما رأوا فاكهةً في عيصها ... ولا رأوها وهي تهوي نحوهم
وما لهم من كاسبٍ علمته ... على جديد الأرض غير جحشهم
وجحشهم قد بات منهوي القرى ... ومثل أعواد الشكاعى كلبهم
كأنني فيهم وإن وليتهم ... كانوا مواليّ وكنت عبدهم
مجتهداً بالنصر لا آلوهم ... أدعو لهم يا رب سلم أمرهم
وتارة أقول مما قد أرى ... يا رب باعدهم وباعد دارهم
يأوون بالليل إذا ما أحرجوا ... وهي إلى ذرى اللهَيْم وهي قدرهم
بها يطوفون إذا ما اجرنثموا ... وهي أبوهم عندهم وأمهم
زغب الرؤوس قُرعت هاماتهم ... من البلاء وأسمأدّ سمعهم
بل لو تراهم لعلمت أنهم ... قومٌ مساغيب قليلٌ نومهم
وكالسعالي في مسوكها. .. ... فلو يعضّون لذكّى سمُّهم
قد جرّسوا الدهر وقد بلاهم ... هذا وهذا دأبه ودأبهم
ولا يعيشون بعيشٍ سابغٍ ... ولا يموتون وذاك قصرهم
وقد رجونا يا ابن سهلٍ نائلاً ... منك يرمّ فقرهم وبؤسهم
فإنما أنت حيا أمثالهم ... فجد لهم بنائلٍ لا تنسهم
وأسْدِ نعماك إليهم واتخذ ... حمداً وشكراً كل ذاك عندهم
هذا وأنت قد حرمت حظهم ... فلا تجودن لخلقٍ بعدهم

أقسام الكتاب
1 2 3 4