كتاب : المحاسن والمساوئ
المؤلف : إبراهيم البيهقي

بسم الله الرحمن الرحيم
وله الأمان من الخذلان. الحمد لله رب العالمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد النبي الأميّ الهاشميّ الأبطحيّ المكيّ المدنيّ الهادي المهديّ السّراج المضيء والقمر المنير التقيّ النقيّ وعلى أهل بيته الطيبين الأخيار السادة الأطهار المقسطين الأبرار الذين خلقوا من طينة واحدة وجبلوا على فطرته ودرجوا على حوزته ومُيّزوا بحكمته وعلى منهاجه وملته وفازوا بطاعته وسلم تسليماً كثيراً دائماً.
محاسن الكتب
قال الشيخ إبراهيم بن محمد البيهقي: قال مصعب بن الزبير: إن الناس يتحدثون بأحسن ما يحفظون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويكتبون أحسن ما يسمعون، فإذا أخذت الأدب فخذه من أفواه الرجال فإنك لا تسمع منهم إلا مختاراً.
وقال لقمان لابنه: يا بني تنافس في طلب الأدب فإنه ميراث غير مسلوب وقرين غير مغلوب ونفيس حظ في الناس مطلوب.
وقال الزهري: الأدب ذكر لا يحبه إلا الذكور من الرجال ولا يبغضه إلا مؤنثهم.
وقيل: إذا سمعت أدباً فاكتبه ولو في حائط، قال: وقال المنصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بمثلي طلب الأدب؟ قال: لأن تموت طالباً للأدب خير من أن تعيش قانعاً بالجهل. قال: فإلى متى يحسن بي ذلك؟ قال: ما حسنت بك الحياة.
وقال الزهري: ما سمعت كلاماً أوجز من كلام عبد الملك بن مروان لولده حيث يقول: اطلبوا معيشة لا يقدر عليها سلطان جائر. قيل ما هي؟ قال: الأدب.
وقال بزرجمهر: يا ليت شعري أي شيء أدرك من فاته الأدب أم أي شيء فات من أدرك الأدب ومادته من الكتب! وقد أهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب له: هديتي هذه، أعزك الله، تزكو عن الإنفاق وتربو على الكد، لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب، وهي أُنس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والآخرة، تؤنس في الخلوة وتمتع في الوحدة، مسامر مساعد ومحدث مطواع ونديم صديق.
وقال بعضهم: الكتب بساتين العلماء.
وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤنة له.
وقال الفضل بن سهل للمأمون وهو بدمشق بدير مران مشرف على غوطتها: يا أمير المؤمنين هل رأيت في حسنها شبيهاً في شيء من ملك العرب؟ يعني الغوطة. قال: بلى والله، كتاب فيه أدب يجلو الأفهام ويذكي القلوب ويؤنس الأنفس أحسن منها.

وقال الجاحظ: الكتاب نعم الذخر والعقدة ونعم الجليس والقعدة، ونعم النشرة والنزهة، ونعم المشتغل والحرفة، ونعم الأنيس ساعة الوحدة، ونعم المعرفة ببلاد الغربة، ونعم القرين والدخيل، ونعم الوزير والنزيل، الكتاب وعاء مليء علماً وظرفٌ حشي ظرفاً، إن شئت كان أعيا من باقل وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل وإن شئت ضحكت من نوادره وإن شئت بكيت من مواعظه، ومن لك بواعظٍ ملهٍ وبناسك فاتك وناطق أخرس، ومن لك بطبيب أعرابيّ وروميّ وهنديّ وفارسيّ ويونانيّ ونديم مولَّد ووصيف ممتّع، ومن لك بشيء يجمع الأول والآخر والناقص والوافي والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافه والجنس وضده، وبعد فما رأيت بستاناً يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الأحياء غيره، ومن لك بمؤنس لا ينام إلا بنومك ولا ينطق إلا بما تهوى، آمن من في الأرض وأكتم للسر من صاحب السر وأحفظ للوديعة من أرباب الوديعة، ولا أعلم جاراً أبر ولا خليطاً أنصف ولا رفيقاً أطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحباً أظهر كفاية ولا عناية ولا أقل إملالاً وإبراماً ولا أبعد عن مراء ولا أترك لشغب ولا أزهد في جدال ولا أكف عن قتال من كتاب، ولا أعم بياناً ولا أحسن مؤاتاة ولا أعجل مكافأة ولا شجرة أطول عمراً ولا أطيب ثمراً ولا أقرب مجتنىً ولا أسرع إدراكاً ولا أوجد في كل إبان من كتاب، ولا أعلم نتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وإمكان وجوده يجمع من التدابير العجيبة والعلوم الغريبة ومن آثار العقول الصحيحة ومحمود الأذهان اللطيفة ومن الحِكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتراخيةو السائرة والأمم البائدة ما يجمع من كتاب ولولا الحكم المخطوطة والكتب المدونة لبَطل أكثر العلم ولغلب سلطان النسلن سلطان الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع، ومن لك لا يبتدئك في حال شغلك ولا في أوقات عدم نشاطك ولا يحوجك إلى التجمل والتذمم، ومن لك بزائر إن شئت جعلت زيارته غِبّاً وورده خِمساً وإن شئت لزمك لزوم ظلك.

والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستميح الذي لا يؤذيك والجار الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وعمّر صدرك وحباك تعظيم الأقوام ومنحك صداقة الملوك، يطيعك في الليل طاعته بالنهار، وفي السفر طاعته في الحضر، وهو المعلم الذي إن افتقرت إليه لم يحقّرك وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت عليك ريح أعدائك لم ينقلب عليك، ومتى كنت متعلقاً به ومتصلاً منه بأدنى حبل لم يضرك منه وحشة الوحدة إلى جليس السوء، وإن أمثل ما يقطع به الفُرّاغ نهارهم وأصحاب الكفايات ساعة ليلهم نظرة في كتاب لا يزال لهم فيه ازدياد أبداً في تجربة وعقل ومروءة وصون عرض وإصلاح دين ومال ورب صنيعة وابتداء إنعام، ولو لم يكن من فضله عليك وإحسانه إليك إلا منعه لك من الجلوس على بابك ونظرك إلى المارة بك مع ما في ذلك من التعرض للحقوق التي تلزم ومن فضول النظر وملابسة صغار الناس ومن حضور ألفاظهم الساقطة ومعانيهم الفاسدة وأحوالهم الردية وطرائقهم المذمومة وأفعالهم الخبيثة القبيحة لكان في ذلك السلامة ثم الغنيمة وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا السلامة ثم الغنيمة وإحراز الأصل مع استفادة الفرع، ولو لم يكن في ذلك إلا أنه يشغلك عن سخف المنى وعن اعتياد الراحة وعن اللعب وكل ما أشبهه، لقد كان في ذلك على صاحبه أسبغ النعمة وأعظم المنة، وهو الذي يزيد في العقل ويشحذه ويداويه ويهذبه وينفي الخبث عنه ويفيد العلم ويصادق بينك وبين الحجة ويقودك للأخذ بالثقة ويُعمر الحال ويكسب المال، وهو منبهة للمورث وكنز عند الوارث غير أنه كنز لا زكاة فيه ولا حق للسلطان يخرج منه، هو كالضيعة التي لا تحتاج إلى سقي ولا إسجال بإيغاز ولا إلى شرط ولا أكار، وليس عليها عشر للسلطان ولا خراج، ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدناها بها من غاب عنا وفتحنا بها كل منغلق علينا فجمعنا في قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم ندركه إلا بهم لقد كان بُخِس حظنا منه، وأكثر من كتبهم نفعاً وأشرف منها حظاً وأحسن موقعاً كتب الله عز وجل التي فيها الهدى والرحمة والإخبار عن كل عبرة وتعريف كل سيئة وحسنة، وما زالت كتب الله جل وعلا في الألواح والصحف والمصاحف، فقال جل ذكره: " أم لم يُنَبّأ بما في صُحف موسى وإبراهيم الذي وفّى " ، فذكر صحف موسى الموجودة وصحف إبراهيم البائدة، وقال: " آلم ذلك الكتاب لا ريب فيه " ، وقال عز وجل: " ما فرطنا في الكتاب من شيء " ، وقال: " كراماً كاتبين " ، وقال: " وأما من أُوتي كتابه وراء ظهره " ، وقال: " اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً " ، ولو لم تكن تكتب أعمالهم لكانت محفوظة لا يدخل ذلك الحفظ نسيان ولكنه تعالى جده علم أن نسخه أوكد وأبلغ وأهيب في الصدور فقال جل ذكره: " إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون " ، ولو شاء الله أن يجعل البشارات بالمرسلين على الألسنة ولم يودعها الكتب لفعل، ولكنه تبارك وتعالى علم أن ذلك أتم وأبلغ وأكمل وأجمع. وفي قول سليمان، عليه السلام: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم " ، وقد كان عنده من يبلغ الرسالة على تمامها من عفريت وإنسي وغيرهما، فرأى الكتاب أبهى وأحسن وأكرم وأفخم وأنبل من الرسالة، ولو شاء النبي، صلى الله عليه وسلم، أن لا يكتب إلى قيصر وكسرى والنجاشي والمقوقس وإلى بني الجُلندي وإلى العباهلة من حمير وإلى هوذة والملوك العظماء والسادة النجباء لفعل ولوجد المبلغ المعصوم من الخطإ والزلل والتبدّل، ولكنه، عليه السلام، علم أن الكتاب أشبه بتلك الحالة وأليق بتلك المراتب وأبلغ في تعظيم ما حواه الكتاب، وحمله إن كثُر ورقه فليس مما يمل لأنه وإن كان كتاباً واحداً فإنه كتب كثيرة، فإن أراد قراءة الجميع لم يطل عليه الباب الأول حتى يهجم على الثاني ولا الثالث حتى يهجم على الرابع، فهو أبداً مستفيد ومستطرف، وبعضه يكون حاثاً لبعض، ولا يزال نشاطه زائداً متى خرج من أثر صار في خبر حتى يخرج من خبر إلى شعر ومن الشعر إلى النوادر ومن النوادر إلى نتف وإلى مواعظ حتى يفضي به إلى

مزح وفكاهة وملح ومضاحك وخرافة. وكانوا يجعلون الكتاب نقراً في الصخور ونقشاً في الحجارة وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الناتيء وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جسيم أو عهداً لأمر عظيم أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبّة غُمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلق الفرد من تيماء وعلى باب الرهاء، يعمدون إلى المواضع الرفيعة المشهورة والأماكن المذكورة ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس وأجدر أن يراها من مرّ ولا ينسى على مرور الدهور، وعمدوا إلى الرسوم ونقوش الخواتيم فجعلوها سبباً لحفظ الأموال والخزائن ولولاها لدخل على الناس الضرر الكبير، ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب أكثره ولبطلت معرفة التضاعيف، ونفع الحساب معلوم والخلة في موضع فقده معروفة. قال الله عز وجل: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " ، ولولا الكتب المدونة والأخبار المجلدة والحكم المخطوطة التي تجمع الحساب وغير الحساب لبطل أكثر العلم، ولولا الكتاب لم يكن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فيعلمها أهل البصرة قبل المساء، وذلك مشهور في الحمام إذا أُرسلت، وكانت العرب تعمّد في مآثرها على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك ديوانها على أن الشعر بقية فضيلة البيان على الشاعر الراغب وفضيلة الأثر على السيد المرغوب إليه، وكانت العجم تقيّد مآثرها بالبنيان فبنت مثل بناء أردشير وبناء إصطخر وبيضاء المدائن وشيرين والمدن والحصون والقناطر والجسور، ثم إن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالشعر، فلها من البنيان غُمدان وكعبة نجران وقصر مأرب وقصر شَعوب والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على مر الأيام والدهور من البنيان لأن البنيان لا محالة يدرس وتعفو رسومه والكتاب باقٍ يقع من قرن إلى قرن فهو أبداً جديد والناظر فيه مستفيد وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النِّحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب أصحاب العصبية وحميّة الجاهلية فمنهم من يفرط في التعلم في أيام جهله وخمول ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونازعت إلى حب الأدب وأنفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشوة ويدخل عليهم الضرر والحقارة وسوء الحال بما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير، ولذلك قال عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا. وفكاهة وملح ومضاحك وخرافة. وكانوا يجعلون الكتاب نقراً في الصخور ونقشاً في الحجارة وحلقة مركبة في البنيان، وربما كان الكتاب هو الناتيء وربما كان الكتاب هو المحفور إذا كان ذلك تاريخاً لأمر جسيم أو عهداً لأمر عظيم أو موعظة يرتجى نفعها أو إحياء شرف يريدون تخليد ذكره، كما كتبوا على قبّة غُمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقَّر وعلى الأبلق الفرد من تيماء وعلى باب الرهاء، يعمدون إلى المواضع الرفيعة المشهورة والأماكن المذكورة ويضعون الخط في أبعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس وأجدر أن يراها من مرّ ولا ينسى على مرور الدهور، وعمدوا إلى الرسوم ونقوش الخواتيم فجعلوها سبباً لحفظ الأموال والخزائن ولولاها لدخل على الناس الضرر الكبير، ولولا خطوط الهند لضاع من الحساب أكثره ولبطلت معرفة التضاعيف، ونفع الحساب معلوم والخلة في موضع فقده معروفة. قال الله عز وجل: " هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نوراً وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب " ، ولولا الكتب المدونة والأخبار المجلدة والحكم المخطوطة التي تجمع الحساب وغير الحساب لبطل أكثر العلم، ولولا الكتاب لم يكن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فيعلمها أهل البصرة قبل المساء، وذلك مشهور في الحمام إذا أُرسلت، وكانت العرب تعمّد في مآثرها على الشعر الموزون والكلام المقفى وكان ذلك ديوانها على أن الشعر بقية فضيلة البيان على الشاعر الراغب وفضيلة الأثر على السيد المرغوب إليه، وكانت العجم تقيّد مآثرها بالبنيان فبنت مثل بناء أردشير وبناء إصطخر وبيضاء المدائن وشيرين والمدن والحصون والقناطر والجسور، ثم إن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالشعر، فلها من البنيان غُمدان وكعبة نجران وقصر مأرب وقصر شَعوب والأبلق الفرد وغير ذلك من البنيان، وتصنيف الكتب أشد تقييداً للمآثر على مر الأيام والدهور من البنيان لأن البنيان لا محالة يدرس وتعفو رسومه والكتاب باقٍ يقع من قرن إلى قرن فهو أبداً جديد والناظر فيه مستفيد وهو أبلغ في تحصيل المآثر من البنيان والتصاوير، وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النِّحل وورثة الأنبياء وأعوان الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والملحاء وكتب الملاهي والفكاهات وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب أصحاب العصبية وحميّة الجاهلية فمنهم من يفرط في التعلم في أيام جهله وخمول ذكره وحداثة سنه، ولولا جياد الكتب وحسانها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونازعت إلى حب الأدب وأنفت من حال الجهل وأن تكون في غمار الحشوة ويدخل عليهم الضرر والحقارة وسوء الحال بما عسى أن يكون لا يمكن الإخبار عن مقداره إلا بالكلام الكثير، ولذلك قال عمر بن الخطاب: تفقهوا قبل أن تسودوا.

وقال بعض الحكماء: ذهبت المكارم إلا من الكتب. وقال الله عز وجل: " اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم " ، فوصف نفسه تعالى جده بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم واعتد بذلك في نعمه العظام وأياديه الجسام ووضع القلم في المكان الرفيع ونوه بذكره وأقسم به كما أقسم بما يخط به فقال: " ن والقلم وما يسطرون، والقلم أرجح من اللسان لأن كتابته تقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان، ومناقلة اللسان وهديته لا تجاوزان مجلس صاحبه ومبلغ صوته، والكتاب يخاطبك من بعيد، وقد قالوا: القلم أحد اللسانين، وقالوا: كل من عرف النعمة في بيان اللسان كان أعرف لفضل النعمة في بيان القلم. وقد يعتري القلم ما يعتري المؤدب عند ضربه وعقابه، فما أكثر من يعزم على عشرة أسواط فيضرب مائة لأنه ابتدأ الضرب وهو ساكن الطباع فأراه السكون أن الصواب في الإقلال فلما ضرب تحرك دمه فأشاع الحرارة فيه وزاد في غضبه فأراه الغضب أن الرأي في الإكثار، وكذلك صاحب القلم فما أكثر من يبتديء الكتاب وهو يريد مقدار سطرين فيكتب عشرة. وقد قيل: القلم الشاهد والغائب يقرأ بكل لسان وفي كل زمان. وقالوا: ظاهر عقول الرجال في اختيارها ومدوّن في أطراف أقلامها، ومصباح الكلام حسن الاختيار. وقالوا: القلم مجهِّز جيوش الكلام، يخدم الإرادة ولا يمل الاستزادة، ويسكت واقفاً وينطق سائراً على الأرض، بياضه مظلم وسواده مضيء، وقال الشاعر:
قومٌ إذا خافوا عداوة معشرٍ ... سفكوا الدمِّا بأسنة الأقلام
ولَمَشقة من كاتب بمداده ... أمضى وأقطع من صنيع حسام
وقال آخر أيضاً:
ما السيف والسيف سيفُ الكميّ ... بأخوف من قلم الكاتب
له غايةٌ إن تأمّلتها ... ظهرت على سَوءة الغائب
أداة المنية في جانبيه ... فمِن مثلِه رهبة الراهب
سنان المنيّة في جانبٍ ... وسيف المنيّة في جانب
ألم تر في صدره كالسّنان ... وفي الردف كالمرهف القاضب
فيجري به الكف في حالةٍ ... على هيئة الطاعن الضّارب
وقال آخر أيضاً ملغزاً:
وأعجف رجلاه في رأسه ... يطير حثيثاً على الأملس
مطاياه من تحته الإصبعان ... ولولا مطاياه لم يلمس
وقال آخر، سامحه الله:
وأعجف مُنْشَقِّ الشِّباة مقلَّمِ ... موشّى القرا طاوي الحشا أسود الفم
إذا هو أضحى في الدواة فأعجمٌ ... ويضحي فصيحاً في يدي غير أعجم
يناجي مناجاةً أغرَّ مُرزّأً ... متى ما استمعْ معروفه يتبسمِ
وقال آخر، رحمه الله:
لك القلم الذي لم يجر لؤماً ... بغاية منطق فكبا بعِيِّ
ومبتسمٌ عن القرطاس يأسو ... ويجرح وهو ذو بال رخيِّ
فما المقداد أعضب مِن شَباهُ ... ولا الصمصام سيف المذحجيّ
وقال وأجاد:
أحسن من غفلة الرقيب ... ولحظة الوعد من حبيب
والنغم والنقر من كعابٍ ... مصيبة العود والقضيب
ومن بنات الكروم راحاً ... في راحتي شادنٍ ربيب
كَتبُ أديبٍ إلى أديب ... طالت به مدة المغيب
فنَمّقت كفه سطوراً ... تنمّقُ الصبر في القلوب
تترك من سُطّرت إليه ... أطرب من عاشق طروب
وقال آخر:
إذا استمدّت صرفت الطرف عن يدها ... خوفاً عليها لما أخشى من التهم
كأنما قابل القرطاس إذ مشقت ... منها ثلاثة أقلامٍ على قلم
وقال أشجع في جعفر البرمكي:
إذا أخذت أنامله ... تُبَيّن فضله القلما
تطأطأ كلٌ مرتفعٍ ... لفضل الكَتْبِ مذ نجما
يقدم ويؤخر، أراد: إذا أخذت أنامله القلم تبين فضله. وفي الخط قال: نظر المأمون إلى مؤامرة بخط حسن فقال: لله در القلم كيف يحوك وشي المملكة! وقال يحيى بن خالد البرمكي:الخط صورةٌ روحها البيان ويدها السرعة وقدماها التسوية وجوارحها معرفة الفصول، وقال في مثله، رحمه الله تعالى:

تقول وقد كتبت دقيق خطي: ... فديتك ممّ تجتنب الجليلا؟
فقلت لها:
نَحَلْتُ فصار خطي ... دقيقاً مثل صاحبه نحيلا
وقال علي بن الجهم في صفة الكتب: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تناولت كتاباً فأجد اهتزازي فيه من الفوائد والأريحية التي تعتادني وتعتريني من سرور الاستنباه وعز التبيين أشد إيقاظاً من نهيق الحمار وهدة الهدم، وإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته رجوت فيه فائدةً، فلو تراني ساعة بعد ساعة أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده وانقطاع المادة من قبله، وإن كان الكتاب عظيم الحجم وكان الورق كبير القدر.
وذكر له العتبي كتاباً لبعض القدماء وقال: لولا طوله لنسخته، فقال: ما رغبي إلا فيما زهدت عنه، وما قرأت كتاباً كبيراً فأخلاني من فائدةٍ ولا أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت فيها.
قال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لا يجالس الناس ونزل مقبرة من المقابر وكان لا يكاد يُرى إلا وفي يده كتاب يقرأ فيه، فسئل عن ذلك وعن نزوله المقبرة فقال: لم أر أوعظ من قبر ولا آنس من كتاب ولا أسلم من الوحدة.
وقيل لابن داحة وقد أخرج إليه كتاب أبي الشمقمق وهو في جلود كوفية وورقتين طابقتين لا بخط عجيب فقال: لقد ضيع درهمه صاحب هذا الكتاب، وقال: والله إن القلم ليعطيكم مثل ما تعطونه ولو استطعت أن أتودعه سويداء قلبي وأجعله مخطوطاً على ناظريّ لفعلت.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء وكنت أكتب عنه بعضاً وأدع بعضاً فقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن أخس ما تسمع خير من مكانه أبيض، وقيل:
أما لو أعي كل ما أسمع ... وأحفظ من ذاك ما أجمع
ولم أستفد غير ما قد جمعت ... لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل نوعٍ ... من العلم تسمعه تجزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعت ... ولا أنا من جمعه أشبع
ومن لثّ في علمه هكذا ... ترى دهره القهقرى يرجع
إذا لم تكن حافظاً واعياً ... فجمعك للكتب لا ينفع
وقال بعضهم: الحفظ مع الإقلال أمكن ومع الإكثار أبعد وهو للطبائع مع رطوبة القضيب أقبل، ومنها قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبي خالياً فتمكّنا
وقيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، فسمع ذلك الأحنف فقال: الكبير أكثر عقلاً ولكنه أكثر شغلاً، وكما قال:
وإنّ مَن أدّبته في الصّبى ... كالعود يُسقى الماء في غرسه
حتى تراه مورقاً ناضراً ... بعد الذي أبصرت من يبسه
والصبيّ على الصّبَى أفهم وله آلف وإليه أنزع، وكذلك العالم على العلم والجاهل على الجهل، وقال الله تبارك وتعالى: " ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً " ، لأن الإنسان على الإنسان أفهم وطباعه بطباعه آنس، ومن التقط كتاباً جامعاً كان له غنمه وعلى مؤلفه غرمه، وكان له نفعة وعلى صاحبه كّده، ومتى ظفر بمثله صاحب علم فهو وادعٌ جامٌ ومؤلّفه متعوب مكدود وقد كفي مؤنة جمعه وتتبّعه وأغناه عن طول التفكير واستنفاد العمر، كان عليه أن يجعل ذلك من التوفيق والتسديد إذا بالغ صاحبه في تصنيفه وأجاد في اختياره، قال أبو هفّان:
إذا آنس الناس ما يجمعون ... أنِست بما يجمع الدفتر
له وطري وله لذّتي ... على الكأس والكأس لا تحضر
تدور على الشرب محمودةً ... لها المورد الخِرْقُ والمصدر
يغنّيهم ساحر المقلتين ... كشمس الضحى طرفه أحور
وريحانهم طيب أخلاقهم ... وعندهم الورد والعبهر
على أن همّتنا في الحروب ... فتلك الصناعة والمتجر
قال: لمّا قلتها عرضتها على ابن دهقان فقال: إذا سمع بها الخليفة استغنى بها عن الندماء. وأنشدنا غيره:
نِعم المحدِّث والرفيق كتابٌ ... تلهو به إن خانك الأصحاب
لا مفشياً سراً إذا استودعته ... وتنال منه حكمةٌ وصواب
وقال آخر:
نِعم الجليس بعقب قعدة ضجرةٍ ... للملك والأدباء والكتّاب

ورقٌ تضمّن من خطوط أناملٍ ... مرعىً من الأخبار والأداب
يخلو به من ملّ من أصحابه ... فيقال خلوٌ وهو في الأصحاب
قال: وأنشدنا أبو الحسن علي بن هارون بن يحيى النديم، رحمه الله:
إذا ما خلوت من المؤنسين ... جعلت المحدِّث لي دفتري
فلم أخل من شاعرٍ محسنٍ ... ومن مضحكٍ طيّبٍ مندر
ومن حكمٍ بين أثنائها ... فوائد للناظر المفكر
وإن ضاق صدري بأسراره ... وأودعته السرّ لم يظهر
وإن صرّح الشعر باسم الحبيب ... لما اختشيت ولم أحصَرِ
وإن عذت من ضجرةٍ بالهجاء ... ولو في الخليفة لم أحذر
فناديت منه كريم المغيب ... لندمانه طيّب المحضر
فلست أرى مؤثراً ما حييت ... عليه نديماً إلى المحشر
وقال في الذهن:
إذا ما غدت طلاّبة العلم ما لها ... من العلم إلا ما يخلَّد في الكتب
غدوت بتشميرٍ وجدٍّ عليهم ... ومحبرتي سمعي ودفترها قلبي
وقال آخر:
يا أيها الطالب الآداب مبتدراً ... لا تسهُ عن حملك الألواح للأدب
فحملها أدبٌ تحوي به أدباً ... وسوف تنقل ما فيها إلى الكتب
وليس في كلّ وقت ممكناً قلمٌ ... ودفترٌ يا عديم المثل في الحسب
وكل ما تقدم ذكره من مناقب الكتب ووصف محاسنها فهو دون ما يستحقه كتابنا هذا فقد اشتمل على محاسن الأخبار وظرائف الآثار وترجمناه بكتاب المحاسن والمساوئ لأن المصلحة في ابتداء أمر الدنيا إلى انقضاء مدتها امتزاج الخير بالشر والضارّ بالنافع والمكروه بالمحبوب، ولو كان الشر صرفاً محضاً لهلك الخلق، ولو كان الخير محضاً لسقطت المحنة وتقطعت أسباب الفكرة، ومتى بطل التخيير وذهب التمييز لم يكن صبر على مكروه ولا شكرٌ على محبوب ولا تعامل ولا تنافس في درجة، وما توفيقنا إلا بالله وهو حسبنا ونعم الوكيل.

محاسن رسول الله
صلى الله عليه وسلم

وافتتحنا كتابنا هذا بذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأبرار الأخيار، لما رجونا فيه من الفضل والبركة واليمن والتوفيق، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وإخوته من النبيين وآله الطيبين أجمعين، اختار الله من خير أرومات العرب عنصراً ومن أعلى ذوائب قريش فرعاً من أكرم عيدان قصي مجداً تم لم يزل بلطفه لنبيه، صلى الله عليه وسلم وآله، واختياره إياه بالآباء الأخائر والأمهات الطواهر حتى أخرجه في خير زمان وأفضل أوان، تفرّع من شجرة باسقة الندى، شامخة العلى، عربية الأصل، قرشية الأهل، منافية الأعطان، هاشمية الأغصان، ثمرتها القرآن، تندى بماء ينابيع العلم في رياض الحلم، لا يذوي عودها ولا تجفّ ثمرتها ولا يضلّ أهلها، أصلها ثابت وفرعها نابت، فيا لها من شجرة ناضرةٍ خضراء ناعمة غرست في جبل قفر وبلد وعر محل ضرعٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرّم وبلدك المكرّم فهو، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأخيار، كما قال بعض الحكماء: لئن كان سليمان، عليه السلام، أعطي الريح غدوها شهر ورواحها شهر لقد أعطي نبينا، صلى الله عليه وسلم، البُراق الذي هو أسرع من الريح، ولئن كان موسى، عليه السلام، أعطي حجراً تتفجر منه اثنتا عشرة عيناً لقد وضع أصابعه، عليه وعلى آله السلام، في الإناء والماء ينبع من بين أصابعه حتى ارتوى أصحابه، رضي الله عنهم، وما لهم من الخيل، ولقد كان رديف عمه أبي طالب بذي المجاز فقال: يا ابن أخي قد عطشت، فقال: عطشت يا عم؟ قال: نعم، فثنى وركه فنزل وضرب بقدمه الأرض فخرج الماء فقال: اشرب، فشرب حتى روي، ولئن كان عيسى، عليه السلام، أحيا النفس بإذن الله لقد رفع، صلى الله عليه وسلم، ذراعاً إلى فيه فأخبرته أنها مسمومة، وكان، صلى الله عليه وسلم، يخبر بما في الضمائر وما يأكلون فما يدخرون، ثم دعاؤه المستجاب الذي لا تأخير فيه، وذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما لقي من قريش والعرب من شدة أذاهم له وتكذيبهم إياه واستعانتهم عليه بالأموال دعا أن تجدب بلادهم وأن يدخل الفقر بيوتهم، فقال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف! اللهم اشدد وطأتك على مضر! فأمسك الله عز وجل عنهم القطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وقلت المراعي فماتت المواشي حتى اشتووا القد وأكلوا العِلهز، فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة إلى كسرى يشكو إليه الجهد والأزْل ويستأذنه في رعي السواد وهو حين ضمن عن قومه وأرهنه قوسه، فلما أصاب مضر خاصة الجهد ونهكهم الأزل وبلغت الحجة مبلغها وانتهت الموعظة منتهاها دعا بفضله، صلى الله عليه وسلم، الذي كان نداهم به فسأل ربه عز وجل الخصب وإدرار الغيث فأتاهم منه ما هدم بيوتهم ومنعهم حوائجهم، فكلموه في ذلك فقال: اللهم حوالينا ولا علينا، فأمطر الله ما حولهم ودعا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، على المستهزئين بكتاب الله عز وجل، وكانوا اثني عشر رجلاً، فكفاه الله جل اسمه أمرهم، فقال: " إنا كفيناك المستهزئين " ، وقصة عامر بن الطفيل ودعائه عليه، وناطقه، صلى الله عليه وسلم، ذئب، وأظلته غمامة، وحن إليه عود المنبر، وأطعم عسكراً من ثريدة في جسم قطاة، وسقى عامّاً ووضأهم من ميضأة جسم صاع، ورسوخ قوائم فرس سراقة بن جشعم في الأرض وإطلاقه له بعد إذ أخذ موثقه، ومَريه ضرع شاة حائل فعادت كالحامل، والتزاق الصخرة بيد أربد، وما أراه الله عز وجل أبا جهل حين أهوى بالصخرة نحو رأس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ساجد فظهر له فحل ليلقم رأسه فرمى بالصخرة ورجع يشد إلى أصحابه قد انتقع لونه، فقالوا له: ما بالك؟ فقال: رأيت فحلاً لم أر مثله يريد هامتي.

وأما ما أراه الله أعداءه من الآيات فأكثر من أن يحصى، منها ما رواه وهب بن منبه عن الليث بن سعد قال: أتى أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما للآخر: أنا أشغله بالكلام حتى تقتله، فوقف أحدهما على النبي، صلى الله عليه وسلم، فلما طال عليه انصرف فقال لصاحبه: ما صنعت شيئاً؟ قال: رأيت عنده شيئاً ورجله في الأرض ورأسه في السماء لو دنوت منه أهلكني، وأما أربد فأصابته صاعقة، وأنزل الله تعالى: " له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، وأما عامر فإنه قال لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: لنا أهل الوبر ولكم أهل المدر، فقال، صلى الله عليه وسلم: لكم الأعنة، فقال: لأملأنها خيلاً عليكم ورجلاً. فلما ولّى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: اللهم اكفنيه، فأخذته غدة فقتلته.
وعن محمد بن عبد الله قال: بينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائم يصلي إذ رآه أبو جهل فقال لنفر من قريش: لأذهبن فأقتلن محمداً، فدنا منه قال: ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائم يصلي ويقرأ: " اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق " ، حتى بلغ آخرها، فانصرف أبو جهل وهو يقول: هذا وأبيكم وعيد شديد، فلقي أصحابه فقالوا له: ما بالك لم تقتله؟ قال: والله إن بيني وبينه رجلاً له كتيت ككتيت الفحل يعدني يقول: ادْنُ ادن.
وعن عبد الله أن أعرابياً جاء بعكّة من سمن فاشتراها أبو جهل فأمسك العكة وأمسك الثمن، فشكاه الأعرابي إلى قريش فكلموه فأبى عليهم، فقال بعض المستهزئين: يا أعرابي أتحب أن تأخذ عكتك وثمنها؟ قال: بلى، قال: أترى هذا الرجل المار؟ القه فكلمه، يعني النبي، صلى الله عليه وسلم، فأتاه الأعرابي وشكا إليه أمر العكة، فخرج عليه، صلى الله عليه وسلم، حتى وقف بباب أبي جهل فناداه باسمه، فخرج إليه ترعد فرائصه، فقال له: أد هذا عكته وثمنها، فدخل أبو جهل فدفع إلى الرجل العكة، فخرج الأعرابي إلى قريش وأخبرهم بذلك، ثم خرج أبو جهل، فقالت له قريش: كلمناك أن تؤدي الأعرابي حقه فأبيت ثم جاءك ابن عبد المطلب فدفعت إليه ذلك؟ فقال: إن معه لجملاً فاتحاً فاه ينظر ما أقول فيلتقم رأسي فما وجدت بداً من إعطائه حقه.
وأما أنس الوحش به فمما حدثنا إسماعيل بن يحيى بن محمد عن سعيد بن سيف بن عمر عن أبي عمير عن الأسود قال: سأل رجل هند بن أبي هالة...... فقال: حدثينا بأعجب ما رأيت أو بلغك عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: كل أمره كان عجباً، وأعجب ما رأيت أنه كان لي ربائب وحش كنت آنس بهن وآلفهن فإذا كان يومه الذي يكون فيه عندي لم يزلن قياماً صواف ينظرن إليه ولا يلهيهن عن النظر إليه شيء ولا ينظرن إلى غيره، فإذا شخص قائماً سمون إليه بأبصارهن، فإذا انطلق مولياً لاحظنه النظر، فإذا غاب شخصه عنهن ضربن بأذنابهن وآذانهن، وكان ذلك يعجبني.
وعن عبد الملك بن عمير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، مر بظبية عند قانص فقالت: يا رسول الله إن ضرعي قد امتلأ وتركت خشفين جائعين فخلني حتى أذهب وأرويهما ثم أعود إليك فتربطني، فقال: صيد قوم وربيطتهم! قالت: يا رسول الله فإني أعطيك عهد الله لأرجعن، فأخذ عليها عهد الله ثم أطلقها وأرسلها فما لبثت إلا يسيراً حتى جاءت وقد فرغت ما في ضرعها، فقال: صلى الله عليه وسلم: لمن هذه الظبية؟ قالوا: لفلان، فاستوهبها منه ثم خلى سبيلها وقال: لو أن البهائم تعلم ما تعلمون من الموت ما أكلتم سمناً.
وأما محاسن شهادات السباع له بالنبوة فمن ذلك ما روي أن أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية خرجا من مكة فإذا هما بذئب يكد ظبية حتى إن نَفسه كاد أن يبلغ ظهر الظبية أو شبيهاً بذلك إذ دخل الظبي الحرم فرجع الذئب، فقال أبو سفيان: ما أرض سكنها قوم أفضل من أرض أسكنها الله إيانا، أما رأيت ما صنع الذئب أعجب منه حين رجع! فقال الذئب: أعجب من ذلك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بالمدينة يدعوكم إلى الجنة وتدعونه إلى النار. فقال أبو سفيان: واللات والعزى لئن ذكرت ذلك بمكة لنتركها خلواً.

وذكروا أن رافع بن عميرة بن جابر كان يرعى غنماً إذ غار الذئب عليها فاحتمل أعظم شاة منها فشد عليه رافع ليأخذها منه وقال: عجباً للذئب يحتمل ما حمل! قال: فأقعى الذئب غير بعيد وقال: أعجب منه أنت أخذت مني رزقاً رزقنيه الله تعالى. فقال رافع: يا عجباً للذئب يتكلم! فقال الذئب: أعجب من ذلك الخارج من تهامة يدعوكم إلى الجنة وتأبون إلا دخول النار. فأقبل الرجل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد جاءه جبريل، عليه السلام، فأنبأه بما كان، فقص النبي، صلى الله عليه وسلم، ما كان فآمن وصدق وقال:
رعيت الضأن أحميها بنفسي ... من اللص الخفي وكل ذيب
فلما أن رأيت الذئب يعوي ... وبشرني بأحمد من قريب
يبشرني بدين الحق حتى ... تبينت الشريعة للمنيب
رجعت له وقد شمرت ثوبي ... عن الكعبين معتمداً ركوبي
فألفيت النبي يقول قولاً ... صواباً ليس بالهزل الكذوب
ألا بلغ بني عمرو بن عوفٍ ... وأختهم جديلة أن أجيبي
دعاء المصطفى لا شك فيه ... فإنك إن تجيبي لا تخيبي
ومن محاسن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبركته ما رواه محمد بن إسحاق عن سعيد بن مينا عن جابر بن عبد الله قال: عملنا مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الخندق وكانت عندي شويهة غير سمينة فقلت: والله لو صنعت هذه الشاة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: فأمرت امرأتي فطحنت شيئاً من شعير فصنعت له منه خبزاً وذبحت الشاة فشويتها، فلما أمسينا وأراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الانصراف قلت: يا رسول الله إني صنعت لك شويهة وشيئاً من خبز الشعير وأحب أن تنصرف معي إلى منزلي، وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحده. فلما قلت له ذلك قال: نعم، ثم أمر بصارخ فصرخ: انصرفوا إلى بيت جابر. فقلت: أنا لله وإنا إليه راجعون. وأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والناس معه، فأخرجتها إليه فسمى ثم أكل وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا وجاء قوم حتى صدر أهل الخندق عنها.
وروي عن محمد بن إسحاق أن ابنة لبشير بن سعد قالت: دعتني أمي ابنة رواحة فأعطتني حفنة تمر في ثوبي وقالت: يا بنية اذهبي إلى أبيك بهذا. قالت: فأخذتها وانطلقت بها فمررت برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا ألتمس أبي فقال، عليه الصلاة والسلام: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قلت: تمر بعثت به أمي إلى أبي بشير بن سعد. فقال: هاتي به. فصببته في كفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط ثم دحا بالتمر عليه فتبدد فوق الثوب ثم قال لإنسان عنده: ناد في أهل الخندق أن هلموا إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه فجعلوا يأكلون منه وجعل هو يزداد حتى صدر أهل الخندق عليه وهو يسقط من أطراف الثوب.
ومن آياته، صلى الله عليه وسلم، ما لا يعرفها إلا الخاصة وهي محاسن أخلاقه وأفعاله التي لم تجتمع لبشر من قبله ولا تجتمع لأحد من بعده، وذلك أنا لم نر ولم نسمع لأحد قط صبره وحلمه ووفاءه وزهده وجوده ونجدته وصدق لهجته وكرم عشيرته وتواضعه وعلمه وحفظه وصمته إذا صمت ونطقه إذا نطق ولا كعفوه وقلة امتنانه، ولم نجد شجاعاً قط إلا وقد فر مثل عامر فر عن أخيه الحكم يوم الرَّقم وعيينة فر عن أبيه يوم نسار وبسطام عن قومه يوم العظالى.
وكان له، صلى الله عليه وسلم، وقائع مثل أحد وحنين وغيرهما فلا يستطيع منافق أن يقول هاب حرباً أو خاف.
وأما زهده، صلى الله عليه وسلم، فإنه ملك من أقصى اليمن إلى شِحر عمان إلى أقصى الحجاز إلى عذار العراق ثم توفي، صلى الله عليه وسلم، وعليه دين ودرعه مرهون في ثمن طعام أهله، لم يبن داراً ولا شيد قصراً ولا غرس نخلاً ولا شق نهراً ولا استنبط عيناً واعتبر برديه اللذين كان يلبسهما وخاتمه.

وكان، صلى الله عليه وسلم، يأكل على الأرض ويلبس العباءة ويجالس الفقراء ويمشي في الأسواق ويتوسد يده ولا يأكل متكياً ويقتص من نفسه، وكان، صلى الله عليه وسلم، يقول: إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب، ولو دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت. ولم يأكل قط وحده ولا ضرب عبده، ولم ير، عليه الصلاة والسلام، أدار رجله بين يدي أحد ولا أخذ بيده أحد فانتزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها.
وأما كرمه، صلى الله عليه وسلم، في فتح مكة وقد قتلوا أعمامه ورجاله وأولياءه وأنصاره وآذوه وأرادوا نفسه فكان يلتقي السفه بالحلم والأذى بالاحتمال، وكان متى كان أكرم وعنهم أصفح كانوا ألأم وعليه ألح، والعجب أنهم كانوا أحلم جيل إلا فيما بينهم وبينه فإنهم كانوا إذا ساروا إليه أفحشوا عليه وأفرطوا في السفه ورموه بالفرث والدماء وألقوا على طريقه الشوك وحثوا في وجهه التراب، وكان لا يتولى هذا منه إلا العظماء والأخوال والأعمام والأقرب فالأقرب، فإذا كانوا كذلك كان أشد للغيظ وأثبت للحقد، فلما دخل، عليه السلام، مكة قام فيهم خطيباً فحمد الله، عز وجل، وأثنى عليه ثم قال: أقول كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
وأما محاسن قوله الحق فإنه ذكر زيد بن صوحان فقال: زيد وما زيد، يسبقه عضو منه إلى الجنة، فقطعت يده يوم نهاوند في سبيل الله ووعد أصحابه بيضاء إصطخر وبيضاء المدائن وقال لعدي بن حاتم: لا يمنعك ما ترى، يعني ضعف أصحابه وجهدهم، فكأنهم ببيضاء المدائن قد فتحت عليهم، وكأنهم بالظعينة تخرج من الحيرة حتى تأتي مكة بغير خفير، فأبصر ذلك كله عدي وقال لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، فكان كما قال حتى قال معاوية: إنما قتله من أخرجه.
وضلت ناقته، صلى الله عليه وسلم، فأقبل يسأل عنها فقال المنافقون: هذا محمد يخبرنا عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته! فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن رجلاً يقول في بيته إن محمداً يخبرنا عن خبر السماء وهو لا يدري أين ناقته، ألا وإني لا أعلم إلا ما علمني ربي عز وجل وقد أخبرني أنها في وادي كذا وكذا تعلق زمامها بشجرة. فبادر الناس إليها وفيهم زيد بن أرقم وزيد بن اللصيت فإذا هي كذلك.
ولما استأمن أبو سفيان بن حرب إليه، عليه الصلاة والسلام، أمر عمه العباس أن يأخذه إلى خيمته حتى يصبح، فلما صار في قبة العباس ندم على ما كان منه وقال في نفسه: ما صنعت؟ دفعت بيدي هكذا، ألا كنت أجمع جمعاً من الأحابيش وكنانة وألقاه بهم فلعلي كنت أهزمه! فناداه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خيمته: إذاً كان الله يخزيك يا أبا سفيان. فقال أبو سفيان: يا عباس أدخلني على ابن أخيك. فقال له العباس: ويلك يا أبا سفيان ما آن لك ذلك. فأدخله على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله قد كان في النفس شيء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله حقاً.
وقوله، صلى الله عليه وسلم، لما يكون من بعده مما حدّث به محمد بن عبد الرحمن بن أذينة عن سلمان بن قيس عن سلمان بن عامر عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إني رأيت على منبري هذا اثني عشر رجلاً من قريش يخطب كلهم رجلان من ولد حرب بن أمية وعشرة من ولد أبي العاص بن أمية. ثم التفت إلى العباس وقال: هلاكهم على يدي ولدك.
وأما جماله وبهاؤه ومحاسن ولادته، صلى الله عليه وسلم، فما روي عن عثمان بن أبي العاص قال: أخبرتني أمي أنها حضرت آمنة أم النبي، صلى الله عليه وسلم، لما ضربها المخاض، قالت: جعلت أنظر إلى النجوم تتدلى حتى قلت لتقعنّ عليّ، فلما وضعته خرج منها نور أضاء له البيت والدار حتى صرت لا أرى إلا نوراً. قال: وسمعت آمنة تقول: لقد رأيت وهو في بطني أنه خرج مني نور أضاءت له قصور الشام، ثم ولد، صلى الله عليه وسلم، فخرج معتمداً على يديه رافعاً رأسه إلى السماء كأنه يخطب أو يخاطب.
وروي عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أشجع الناس وأحسن الناس وأجود الناس، ما مسست بيدي ديباجاً ولا حريراً ولا خزّاً ألين من كف رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وعن جابر بن سمرة قال: رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في ليلة البدر وعليه حلة حمراء فجعلت أنظر إليه وإلى القمر فلهو أحسن في عينيّ من القمر.
وعن جابر بن زيد عن أبيه قال: أتيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في مسجد الخيف فناولني يده فإذا هي أطيب من المسك وأبرد من الثلج.
ومن فضله الذي أبرّ على جميع الخلائق ومحاسنه ما روي عن وهب بن منبّه أنه قال: لما خلق الله عز وجل الأرض ارتجت واضطربت فكتب في أطرافها محمد رسول الله فسكنت.
وأما عقله، عليه الصلاة والسلام، فقد روي أن عقول جميع الخلائق من الأولين والآخرين في جنب عقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كرملة من بين جميع رمال الدنيا.
ومن محاسنه، صلى الله عليه وسلم، الإسراء ما روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري، رحمه الله، يرفعه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إني لنائم في الحجر إذ جاء جبريل، عليه السلام، فغمزني برجله فجلست فلم أر شيئاً ثم عدت لمضجعي، فجاءني الثانية فغمزني فجلست وأخذ بعضدي فخرج بي إلى باب الصفا وإذا أنا بدابة أبيض بين الحمار والبغل له جناحان في فخذيه يضع حافره منتهى طرفه، فقال لي جبريل: اركب يا محمد، فدنوت إليه لأركب فتنحى عني. فقال له جبريل، عليه السلام: يا براق ما لك فوالله ما ركبك خير منه قط! فركبت وخرجت ومعي صاحبي لا أفوته ولا يفوتني حتى انتهى بي إلى بيت المقدس فوجدت فيه نفراً من الأنبياء قد جمعوا لي فأممتهم، ثم أُتيت بإناءين من خمر ولبن فتناولت اللبن وشربت منه وتركت الخمر. فقال جبريل، عليه السلام: هديت وهديت أمتك وحرمت عليهم الخمر، ثم أصبحت بمكة. قال: فلما ذكر رسول الله ذلك ارتد كثير ممن كان آمن به وقالوا: سبحان الله! أذهب محمد إلى الشام في ساعة من الليل ثم رجع والعير تطرد شهراً مدبرة وشهراً مقبلة! فبلغ ذلك أبا بكر، رضي الله عنه، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ما يقول هؤلاء؟ يزعمون أنك حدثتهم بأنك قد أتيت الشام هذه الليلة ورجعت من ليلتك! قال: قد كان ذاك. قال: يا رسول الله فصف لي المسجد. فجعلت أصفه لأبي بكر، رحمه الله، وأنا أنظر إليه فكلما حدثته عن شيء قال: صدقت أشهد أنك رسول الله، حتى فرغت من صفته، فقال رسول الله يومئذ: فأنت الصدّيق يا أبا بكر.

محاسن المعراج
عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: أخبرنا نبي الله، صلى الله عليه وسلم، قال: بينا أنا بين اليقظان والنائم عند البيت إذ سمعت قائلاً يقول: أحد الثلاثة بين الرجلين، فانطلق بي فشرح صدري واستخرج قلبي، ثم أتيت بطست من ذهب فيه من ماء زمزم فغسل به ثم أعيد مكانه وحشي إيماناً وحكمة، ثم أتيت بدابة فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند أقصى طرفه فحملت عليه فانطلقنا حتى أتينا السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتح لنا، قالوا: مرحباً به ولنعم المجيء جاء. فأتيت على آدم فقلت: يا جبريل من هذا؟ قال: هذا أبوك آدم. فسلمت عليه فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح. وانطلقنا حتى أتينا السماء الثانية فاستفتح جبريل، عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم. ففتح لنا وقالوا: مرحباً به ولنعم المجيء جاء. فأتيت على يحيى وعيسى فقلت: يا جبريل من هذان؟ قال: عيسى ويحيى. قال: فسلمت عليهما فقالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الثالثة فكان مثل قولهم الأول، فأتيت على يوسف فسلمت عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم انطلقنا حتى أتينا السماء الرابعة، فأتيت على إدريس، عليه السلام، فسلمت عليه فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم أتينا السماء الخامسة فأتيت على هارون فسلمت عليه فقال مثل ذلك. ثم أتينا السماء السادسة فأتيت على موسى، عليه السلام، فقال مثل ذلك. ثم أتينا السماء السابعة فأتيت على إبراهيم، عليه وعلى آله السلام، فقال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم رفع لنا البيت المعمور فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لا يعودون فيه. ثم رفعت لنا سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار يخرجن من أسفلها فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الظاهران فالنيل والفرات، وأما الباطنان فنهران في الجنة. ثم أتيت بإناءين من خمر ولبن فاخترت اللبن. فقيل لي: أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة. وفرضت علي خمسون صلاة فأقبلت بها حتى أتيت على موسى، عليه السلام، فقال: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك جل وعز فاسأله التخفيف. قال: فرجعت إلى ربي فحط عني خمساً، فأتيت على موسى، عليه السلام، فقال: بم أمرت؟ فأنبأته بما حط عني فقال مثل مقالته الأولى، فما زلت بين يدي ربي جل وعز أستحط حتى رجعت إلى خمس صلوات، فأتيت على موسى، عليه السلام، فقال: بم أمرت؟ فقلت: بخمس صلوات كل يوم. فقال: أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك جل ذكره واسأله التخفيف. فقلت: لقد رجعت إلى ربي تبارك وتعالى حتى استحييت، لا ولكني أرضى وأسلم. فلما جاوزت نوديت أني قد خففت عن عبادي وأمضيت فريضتي وجعلت بكل حسنة عشراً أمثالها.
وانظر إلى رونق ألفاظه، عليه السلام، وصحة معانيه وموضع ذلك من القلوب مع قلة تعميقه وبعده من التكلف كقوله، صلى الله عليه وسلم: زويت لي الأرض حياءً فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، قوله زويت جمعت. ومثله: إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة في النار، ولا يكون الانزواء إلا بانحراف مع تقبّض.
وقال: إن منبري هذا على ترعة من ترع الجنة، وهي الروضة تكون في المكان المرتفع.
وقال: إن قريشاً قالت إني صنبور، وهي النخلة تبقى منفردة ويدق أصلها، تقول إنه فرد ليس له ولد فإذا مات انقطع ذكره.
وقال في أبي بكر، رضي الله عنه: ما أحد من الناس عرضت عليهم الإسلام إلا كانت له كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم، أي لم ينتظر ولم يمكث، والكبوة مثل الوقعة.
وقال في عمر، رحمه الله: لم أر عبقرياً يفري فريه، والعبقري السيد، يقال: هذا عبقري قومه أي سيدهم، ويفري فريه أي يعمل عمله.
وقال في علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه: إن لك بيتاً في الجنة وإنك ذو قرنيها، يريد أنه ذو طرفيها.
وقال في الحسين بن علي، رحمهما الله، حين بال عليه وهو طفل فأُخذ من حجره: لا تزرموا ابني، الازرام القطع، يقال للرجل يقطع بوله ازرم.
وقال في الأنصار: إنهم كرشي وعيبتي ولولا الهجرة لكنت امرأً منهم، أي من الأنصار، الكِرش الجماعة، والعيبة أي هم موضع سري ومنه أُخذت العيبة.
وقال، صلى الله عليه وسلم: لعن الله النامصة والمتنمصة والواشرة والموتشرة والواصلة والموتصلة والواشمة والموتشمة، فالنامصة التي تنتف الشعر من الوجه، ومنه قيل للمنقاش المنماص، والمتنمصة التي تفعل بها ذلك، والواشرة التي تشر أسنانها وذلك أنها تفلجها وتحددها حتى يكون لها أشر، والأشر تحدّد ورقّة في أطراف الأسنان، والواصلة والموتصلة التي تصل شعرها بشعر غيرها، والواشمة المرأة تغرز ظهر كفها ومعصمها بإبرة حتى تؤثر فيه وتحشوه بالكحل.
وذكر أيام التشريق فقال: هي أيام أكل وشرب وبعال، يعني النكاح. وقال: يحشر الناس يوم القيامة حفاة بهماً، وهو البهيم الذي لا يخلط لونه لون سواه من سوادٍ كان أو غيره، يقول: ليس فيهم شيء من الأمراض والعاهات التي تكون في الدنيا.
وقال في صلح الحديبية: لا إغلال ولا إسلال، الإسلال السرقة، والإغلال الخيانة.
وقال: اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور، الحوب إذا كان بالباء والكون إذا كان بالنون تقول يكون في حالة جميلة فيرجع عنها، وإذا كانا جميعاً بالراء فهو النقصان بعد الزيادة.
وقال، عليه السلام: خمّروا آنيتكم وأوكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب وأطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإن للشيطان انتشاراً وخطفة، يعني بالليل، التخمير التغطية، والإيكاء الشد، واسم الخيط الذي يشد به السقاء الوكاء، واكفتوا يعني ضمّوهم إليكم.

وقال في دعائه: لا ينفع ذا الجد منك الجد، بفتح الجيم الغنى والحظ في الرزق، ومنه قيل: لفلان في هذا الأمر جد إذا كان مرزوقاً.
وقال: إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لا تموت حتى تستوفي أو تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، قوله نفث في روعي بضم الراء، النفث شبيه بالنفخ، وروعي يقول في خَلَدي.
وقال، عليه السلام: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب وظلمة أو هبوة فأكملوا العدة، هبوة يعني غبرة.
وقال، عليه السلام: إن العرش على منكب إسرافيل وإنه ليتواضع لله جل وعز حتى يصير مثل الوصع، الوصع ولد العصافير.
فقال، عليه السلام، حين سئل أين كان ربنا جل جلاله قبل أن يخلق السماوات والأرضين فقال: كان في عماء تحته هواء، العماء السحاب.
وقال، عليه السلام: عم الرجل صنو أبيه، يعني أن أصلهما واحد، وأصل الصنو إنما هو في النخل، قال الله عز وجل: " صنوانٌ وغير صنوان " ، الصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق.
وقال: من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله عز وجل وهو أجذم، أي مقطوع اليد.
وقال لرجل أتاه وقال: يا رسول الله أيدالك الرجل امرأته بمهرها؟ قال لا إلا أن يكون مُلفَجاً. فقال له أبو بكر، رضي الله عنه: بأبي وأمي أنت يا رسول الله! إنما نشأت فيما بيننا ونحن قد سافرنا وأنت مقيم فنراك تكلم بكلام لا نعرفه ولا نفهمه! فقال، صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن الله عز وجل أدبني وأحسن أدبي، وهذا الرجل كلمني بكلامه فأجبته على حسبه، قال: أيدالك الرجل امرأته بمهرها؟ أي يماطلها، فقلت: لا إلا أن يكون ملفجاً، أي معدما.
فكلامه، صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه ومذاهبه تدل على أنه موافق لقول الله جل وعز: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " ، وكقوله: " ولقد اخترناهم على علم على العالمين " . وقال جل ذكره: " خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " ، فلما علم أنه قد قبل أدبه قال: " وإنك لعلى خلق عظيم " ، فلما استحكم له ما أحب قال: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " .

مساوئ من تنبى
روي أن مسيلمة بن حبيب الكذاب كتب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذلك في آخر سنة عشر: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإني قد شوركت في الأمر معك وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون.
فقدم عليه رسولان من قبل مسيلمة بهذا الكتاب. فقال: أما والله لولا أن الرسل لا يقتلون لضربت أعناقكما. ثم كتب: بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب. السلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من عباده من يشاء والعاقبة للمتقين. قيل وأتاه الأحنف بن قيس مع عمه فلما خرجا من عنده قال الأحنف لعمه: كيف رأيته؟ قال: ليس بمتنبٍّ صادق ولا بكذاب حاذق.
ومنهم طليحة تنبّى على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان يقول إن ذا النون يأتيه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لقد ذكر ملكاً عظيماً.

فلما كان أيام الردة بعث أبو بكر، رحمة الله عليه، خالد بن الوليد إليه، فلما انتهى إلى عسكره وجده قد ضربت له قبة من أُدم وأصحابه حوله، فقال: ليخرج إلي طليحة! فقالوا: لا تصغر نبياً هو طلحة، فخرج إليه فقال خالد: إن من عهد خليفتنا أن يدعوك إلى الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، فقال: يا خالد اشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فلما سمع خالد ذلك انصرف عنه وعسكره بالقرب منه على ميل، فقال عيينة بن حصن لطليحة: لا أبا لك! هل أنت مرينا بعض نبوتك؟ قال: نعم. وكان قد بعث عيوناً له حين سار خالد من المدينة مقبلاً إليهم فعرّفوه خبر خالد، فقال: لئن بعثتم فارسين على فرسين أغرّين محجّلين من بني نصر بن قُعين أتوكم من القوم بعين. فهيأوا فارسين فبعثوهما فخرجا يركضان فلقيا عيناً لخالد مقبلاً إليهم فقالا: ما خبر خالد؟ أو قالا: ما وراءك؟ قال: هذا خالد بن الوليد في المسلمين قد أقبل فزادهم فتنة، وقال: ألم أقل لكم؟ فلما كان في السحر نهض خالد إلى طليحة فيمن معه من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما التقى الصفان تزمل طليحة في كساء له ينتظر زعم الوحي، فلما طال ذاك على أصحابه وألح عليهم المسلمون بالسيف، قال عيينة بن حصن: هل أتاك بعد؟ قال طليحة من تحت الكساء: لا والله ما جاء بعد! فقال عيينة: تباً لك آخر الدهر! ثم جذبه جذبة جاش منها وقال: قبح الله هذه من نبوة! فجلس طليحة، فقال له عيينة: ما قيل لك؟ قال: قيل لي إن لك رحاً كرحاه، وأمراً لا تنساه! فقال عيينة: قد علم الله عز وجل أن سيكون لك أمر لا تنساه هذا كذاب ما بورك لنا ولا له فيما يطالب. ثم هرب عيينة وأخوه فأدركوه وأسروه وأفلت أخوه وخرج طليحة منهزماً وأسلمه شيطانه حتى قدم الشام فأقام عند بني جفنة الغسانيين حتى فتح الله عز وجل أجنادين وتوفي أبو بكر وأسلم طليحة إسلاماً صحيحاً وقال:
وإني من بعد الضلالة شاهد ... شهادة حقٍ لست فيها بملحد
ومنهم من تنبّى بعد في أيام الرشيد رجل زعم أنه نوح، فقيل له: آنت نوح الذي كان أم نوح آخر؟ قال: أنا نوح الذي لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وقد بعثت إليكم لأفي الخمسين عاماً تمام الألف سنة، فأمر الرشيد بضربه وصلبه، فمر به بعض المخنثين وهو مصلوب فقال: صلى الله عليك يا أبانا، ما حصل في يدك من سفينتك إلا دقلها! وهو الذي يكون في وسط السفينة كجذع طويل.
ومنهم رجل تنبّى في أيام المأمون فقال للحاجب: أبلغ أمير المؤمنين أن نبي الله بالباب. فأذن له، فقال ثمامة: ما دليل نبوتك؟ قال: تحضر لي أمك فأواقعها فتحمل من ساعتها وتأتي بغلام مثلك. فقال ثمامة: صلى الله عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته أهون علي من إحضارك أمي ومواقعتها!

محاسن أبي بكر
رضوان الله ورحمته عليه
روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: دخل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المسجد وأبو بكر عن يمينه وعمر عن شماله فقال: هكذا نبعث يوم القيامة.
وقال، صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى أيدني من أهل السماء بجبريل وميكائيل ومن أهل الأرض بأبي بكر وعمر، ورآهما مقبلين فقال: هذان السمع والبصر.
وروي عن ابن عمر، رضي الله عنهما، أنه قال: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح بهم.
وروي عن عمر، رضي الله عنه، أنه قال: أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالصدقة ووافق ذلك مالاً عندي فقلت اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته، فجئته بنصف مالي، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: النصف، وجاء أبو بكر بكل ماله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: الله حقاً ورسوله، فقلت: والله لا أسبقك إلى شيء أبداً.
وعن عمر، رضي الله عنه، أنه قال: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر، رضي الله عنه.
وعن عطاء عن أبي الدرداء أنه مشى بين يدي أبي بكر، رضي الله عنه، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: المشي بين يدي من هو خير منك، ما طلعت الشمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين على أحد أفضل من أبي بكر.
وعن علي بن أبي طالب، رضوان الله ورحمته عليه، قال: قال النبي، صلى الله عليه وسلم: يا علي هل تحب الشيخين؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: لا يجتمع حبك وحبهما إلا في قلب مؤمن.

وعن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رحم الله أبا بكر، زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وعتق بلالاً من ماله.
وعن أنس عن أبي بكر، رضي الله عنه، قال: قلت للنبي، صلى الله عليه وسلم، ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر في قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله جل وعز ثالثهما! وعن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال: خرج علينا رسول الله في مرضه الذي مات فيه وهو عاصب رأسه حتى صعد المنبر فقال: إني قائم الساعة على الحوض وإن عبداً عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة، فلم يفطن لها أحد إلا أبو بكر، رضي الله عنه فقال: بأبي أنت وأمي بل نفديك بآبائنا وأبنائنا وأنفسنا وأموالنا! وبكى، فقال: لا تبك يا أبي بكر، إن من آمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً من الناس لاتخذت أبا بكر. ولكن أخي في الإسلام لا يبقى في المسجد باب إلا سدّ إلا باب أبي بكر. فبكى أبو بكر وقال: أنا ومالي لك يا رسول الله.
وعن ابن المنكدر قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: دعوا لي صاحبي إني بعثت وقال الناس كلهم كذبت وقال لي صدقت، يعني أبا بكر، رضي الله عنه.
وعن محمد بن عبيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل فجاء وقد ظهر، فقال: يا رسول الله أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قال: لست أسألك عن النساء، قال: أبوها إذا تؤنس.
وعن الحسن قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يجيء يوم القيامة رجل إلى باب الجنة ليس منها باب إلا وعليه ملك يهتف به هلمّ هلمّ ادخل، فقال أبو بكر، رضي الله عنه: إن هذا لسعيد، قال: هو ابن أبي قحافة.
وعن سليمان بن يسار أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: في المؤمن ثلاثمائة وستون خصلة من الخير إذا جاء بواحدة دخل الجنة، قال أبو بكر، رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي أفيّ منها شيء؟ قال: هي كلها فيك يا أبا بكر.
وعن ابن عمر، رضي الله عنه، قال: بينا النبي، صلى الله عليه وسلم، جالس وعنده أبو بكر، رضي الله عنه، وعليه عباءة قد خلّها في صدره بخلال إذ نزل عليه جبريل، عليه السلام، فقال: يا رسول الله ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خلّها في صدره؟ قال: أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال: فأقرئه من الله عز وجل السلام وقل له يقول لك ربك تبارك وتعالى: أراضٍ أنت عني في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر: أعلى ربي أغضب! أنا عن ربي راضٍ.
وعن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: كنت جالساً عند النبي، صلى الله عليه وسلم، إذ طلع أبو بكر وعمر، رضي الله عنهما، فقال، عليه الصلاة والسلام: هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين والآخرين ممن مضى وممن بقي إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما يا علي.
وعن جابر قال: كنت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع أبو بكر، رضي الله عنه، ثم قال يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، فطلع عمر، رضي الله عنه، ثم قال: يطلع علينا من هذا الفج رجل من أهل الجنة، اللهم اجعله علياً! فطلع علي، رضي الله عنه.
وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله ما أحسن هذه الآية! قال: أيتها؟ قال قوله تبارك وتعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " ، فقال: يا أبا بكر إن الملك سيقولها لك.
وقيل: إنه لما أسلم أبو قحافة لم يعلم أبو بكر، رضي الله عنه، بإسلامه حتى دخل على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ألا أبشرك يا أبا بكر بما يسرك؟ قال: مثلك يا رسول الله من يبشر بالخير، فما هي؟ قال: أسلم أبو قحافة! قال: يا رسول الله لو بشرتني بإسلام أبي طالب كان أقر لعيني فإنه أقر لعينك، فبكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى علا بكاؤه جزعاً لما فاته من إسلام أبي طالب وقال: رحمك الله يا أبا بكر، ثلاثاً.

محاسن عمر بن الخطاب
رضوان الله ورحمته عليه

عن أبي هريرة، رحمه الله، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: بينا أنا نائم إذ رأيتني على قليب وعليها دلو، فنزعت ما شاء الله ثم أخذها مني أبو بكر، أو قال ابن أبي قحافة: فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله جل وعز يغفر له، ثم أخذها عمر فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريّه حتى ضرب الناس بعطن.
وروي أن امرأة في الجاهلية تسمى عاصية أسلمت فكرهت اسمها فأتت عمر، رحمه الله، فقالت: إني كرهت اسمي فسمّني. فقال: أنت جميلة. فغضبت وقالت: سميتني باسم الإماء! ثم أتت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت: بأبي أنت وأمي إني كرهت اسمي فسمني! فقال: أنت جميلة، فقالت: يا رسول الله إني أتيت عمر سماني جميلة فغضبت. فقال: أوما علمت أن الله جل وعز عند لسان عمر ويده؟ وعن سعيد بن جبير في قوله عز وجل: " وصالح المؤمنين " ، قال: نزلت في عمر خاصة.
وعن علي، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رحم الله عمر لقول الحق وإن كان مراً، تركه الحق ما له من صديق.
وعن سعيد بن جبير قال: إن جبريل قال للنبي، صلى الله عليه وسلم: اقرأ على عمر السلام وأعلمه أن غضبه عز ورضاه حكم.
وعن عثمان بن مظعون قال: مر بنا عمر، رضي الله عنه، ونحن جلوس عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: هذا غلّق باب الفتنة، لا يزال بينكم وبين الفتنة باب ما عاش هذا بين أظهركم أو ظهرانيكم، فقال بيمينه وشبّك بين أصابعه.
وعن ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: جاءني جبريل، عليه السلام، حين أسلم عمر، رحمه الله، فقال لي: تباشرت الملائكة بإسلام عمر وعمر سراج أهل الجنة.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: بينا أنا في الجنة إذ رأيت داراً فأردت أن أدخلها فسألت لمن هي فقيل هي لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فرجعت، فقال عمر: يا رسول الله لستَ ممن يغار عليه.
وعن علي، رضي الله عنه: ما كنا نبعد أن السكينة كانت تنطق على لسان عمر.
وعن عطاء عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " ، الآية، " ثم أنشأناه خلقاً آخر " ، فقال عمر: تبارك الله أحسن الخالقين! فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد ختمها الله عز وجل بما قلت يا عمر.
وعن سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، قال: استأذن عمر على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعنده نسوة من قريش قد علت أصواتهن فأذن له، فلما دخل بادرن الحجاب، فضحك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أضحك الله سنك، بأبي أنت وأمي ممّ ضحكت؟ فقال: أعجب من اللواتي كن عندي لما سمعن صوتك بادرن الحجاب! فقال: أنت كنت أحق أن يهبن يا رسول الله. ثم أقبل عليهن وأغلظ لهن وقال: أتهبنني ولا تهبن رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قلن: نعم إنك أفظ وأغلظ. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عمر والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك.

محاسن عثمان بن عفان
رضي الله عنه ورحمه
عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حائط من حيطان المدينة فجاء أبو بكر، رحمه الله، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء عمر، رحمه الله، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء علي، رضوان الله عليه، فقال: افتح له وبشره بالجنة، ثم جاء عثمان، رضي الله عنه، فقال: افتح له وبشره بالجنة، فلما جاء عثمان، رحمه الله ورحمهم أجمعين، وقد بدت من فخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ناحية فقال: افتح له وبشره بالجنة، فلما جاء عثمان، رحمه الله، غطاها، فقالوا: يا رسول الله ما لك لم تغطه حين جئنا؟ فقال: ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة؟ وعن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: إن الله جل وعز أمرني أن أزوج كريمتي عثمان بن عفان، رحمه الله.
محاسن علي بن أبي طالب
رضوان الله عليه
عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار.

وعن علي قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا معشر قريش والله ليبعثن الله عليكم رجلاً منكم قد امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على الدين. فقال أبو بكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا. فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل، وأنا أخصف نعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لعليٌ هذا وليّكم بعدي إذا كانت فتنة.
وعن مصعب عن أبيه قال: سمعت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول: ما لكم ولعلي، من آذى علياً فقد آذاني.
وعن علي، رضي الله عنه، قال: هلك فيّ رجلان: عدو مبغض ومحب مفرط، قال: وقال ليحبّني أقوام حتى يدخلهم حبي النار ويبغضني أقوام حتى يدخلهم بغضي النار، هم الرافضة والناصبة.
وعن أم سلمة قالت: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا يحب علياً منافق ولا يبغض علياً مؤمن.
وعن عمرو بن الأصم قال: قلت للحسن بن علي، رضوان الله عليهما: هؤلاء الشيعة يزعمون أن علياً مبعوث الآن. قال: كذبوا والله ما أولئك بشيعة ولو كان كما يقولون ما أنكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه.
وعن فاطمة، رضي الله عنها، قالت: دخل عليَّ عليٌّ، رضي الله عنه، وأنا عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: ابشر يا أبا الحسن! أما إنك في الجنة وإن قوماً يزعمون أنهم يحبونك يرفضون الإسلام يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية لهم نبزٌ يقال لهم الرافضة فإن أدركتهم فقاتلهم فإنهم مشركون.
قال: وحدثنا رجل حضر مجلس القاسم بن المجمّع وهو والي الأهواز قال: حضر مجلسه رجل من بني هاشم فقال: أصلح الله الأمير! ألا أحدثك بفضيلة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال: نعم إن شئت. قال: حدثني أبي قال: حضرت مجلس محمد بن عائشة بالبصرة إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة فقال: يا أبا عبد الرحمن من أفضل أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح. فقال له: فأين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال: يا هذا تستفتي عن أصحابه أم عن نفسه؟ قال: بل عن أصحابه. قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: " قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم " ، فكيف يكون أصحابه مثل نفسه؟ وعن عطاء قال: كان لعلي، رحمه الله، موقف من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة إذا خرج أخذ بيده فلا يخطو خطوة إلا قال: اللهم هذا علي اتبع مرضاتك فارض عنه، حتى يصعد المنبر.
وحدثنا إبراهيم بن أحمد الغضائري بإسناد يرفعه إلى أبي مالك الأشجعي رواه أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: هبط علي جبريل، عليه السلام، يوم حنين فقال: يا محمد إن ربك تبارك وتعالى يقرئك السلام، وقال: ادفع هذه الأترجة إلى ابن عمك ووصيك علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فدفعتها إليه فوضعتها في كفه فانفلقت بنصفين فخرج منها رقّ أبيض مكتوب فيه بالنور: من الطالب الغالب إلى علي بن أبي طالب.

أبو عثمان قاضي الري عن الأعمش عن سعيد بن جبير قال: كان عبد الله بن عباس بمكة يحدث على شفير زمزم ونحن عنده، فلما قضى حديثه قام إليه رجل فقال: يا ابن عباس إني امرؤ من أهل الشام من أهل حمص، إنهم يتبرأون من علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، ويلعنونه. فقال: بل لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً، ألِبُعد قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن أول ذكران العالمين إيماناً بالله ورسوله وأول من صلى وركع وعمل بأعمال البر؟ قال الشامي: إنهم والله ما ينكرون قرابته وسابقته غير أنهم يزعمون أنه قتل الناس. فقال ابن عباس: ثكلتهم أمهاتهم! إن علياً أعرف بالله عز وجل وبرسوله وبحكمهما منهم، فلم يقتل إلا من استحق القتل. قال: يا ابن عباس إن قومي جمعوا لي نفقة وأنا رسولهم إليك وأمينهم ولا يسعك أن تردني بغير حاجتي، فإن القوم هالكون في أمره ففرّج عنهم فرّج الله عنك. فقال ابن عباس: يا أخا أهل الشام إنما مثل علي في هذه الأمة في فضله وعلمه كمثل العبد الصالح الذي لقيه موسى، عليه السلام، لما انتهى إلى ساحل البحر فقال له: هل أتّبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً؟ قال العالم: إنك لن تستطيع معي صبراً، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً؟ قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً. قال له العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً. فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها، وكان قد خرقها لله جل وعز رضىً ولأهلها صلاحاً، وكان عند موسى، عليه السلام، سخطاً وفساداً فلم يصبر موسى وترك ما ضمن له فقال: أخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئاً إمراً! قال له العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً. فكف عنه العالم، فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً فقتله، وكان قتله لله جل وعز رضىً ولأبويه صلاحاً، وكان عند موسى، عليه السلام، ذنباً عظيماً، قال موسى ولم يصبر: أقتلت نفساً زكية بغير نفس؟ لقد جئت شيئاً نكراً! قال العالم: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذراً. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه، وكان إقامته لله عز وجل رضىً وللعالمين صلاحاً، فقال: لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال: هذا فراق بيني وبينك. وكان العالم أعلم بما يأتي موسى، عليه السلام، وكبر على موسى الحق وعظم إذ لم يكن يعرفه هذا وهو نبي مرسل من أولي العزم ممن قد أخذ الله جل وعز ميثاقه على النبوة، فكيف أنت يا أخا أهل الشام وأصحابك؟ إن علياً، رضي الله عنه، لم يقتل إلا من كان يستحل قتله، وإني أخبرك أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان عند أم سلمة بنت أبي أمية إذ أقبل علي، عليه السلام، يريد الدخول على النبي، صلى الله عليه وسلم، فنقر نقراً خفياً فعرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نقره فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي الباب. فقالت: يا رسول الله من هذا الذي يبلغ خطره أن استقبله بمحاسني ومعاصمي؟ فقال: يا أم سلمة إن طاعتي طاعة الله جل وعز، قال: " ومن يطع الرسول فقد أطاع الله " قومي يا أم سلمة فإن بالباب رجلاً ليس بالخرق ولا النزق ولا بالعجل في أمره يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يا أم سلمة إنه إن تفتحي الباب له فلن يدخل حتى يخفى عليه الوطء، فلم يدخل حتى غابت عنه وخفي عليه الوطء، فلما لم يحس لها حركة دفع الباب ودخل فسلم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فردّ عليه السلام وقال: يا أم سلمة هل تعرفين هذا؟ قالت: نعم هذا علي بن أبي طالب. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم هذا علي سيط لحمه بلحمي ودمه بدمي وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي يا أم سلمة، هذا علي سيد مبجَّل مؤمَّل المسلمين وأمير المؤمنين وموضع سرّي وعلمي وبابي الذي أُوِيَ إليه، وهو الوصيّ على أهل بيتي وعلى الأخيار من أمتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة وهو معي في السّناء الأعلى، اشهدي يا أم سلمة أن علياً يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. قال ابن عباس: وقتلهم لله رضىً وللأمة صلاحٌ ولأهل الضلالة سخط. قال الشاميّ: يا ابن

عباس من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشاميّ: يا ابن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك، أشهد أن علياً، رضي الله عنه، مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.اس من الناكثون؟ قال: الذين بايعوا علياً بالمدينة ثم نكثوا فقاتلهم بالبصرة أصحاب الجمل، والقاسطون معاوية وأصحابه، والمارقون أهل النهروان ومن معهم. فقال الشاميّ: يا ابن عباس ملأت صدري نوراً وحكمة وفرجت عني فرج الله عنك، أشهد أن علياً، رضي الله عنه، مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة.
ويروى أن ابن عباس، رحمه الله، قال: عقم النساء أن يجئن بمثل عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، ما رأيت مِحرباً يُزنّ به لرأيته يوم صفين وعلى رأسه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجاً سليط وهو يقف على شرذمة بعد شرذمة من الناس يعظهم ويحضهم ويحرضهم حتى انتهى إليّ وأنا في كثف من الناس فقال: معاشر المسلمين استشعروا الخشية وأكملوا اللأمة وتجلببوا بالسكينة وغضوا الأصوات والحظوا الشزر وأطعنوا الوجر وصلوا السيوف بالخطى والرماح بالنبل، فإنكم بعين الله ومع ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقاتلون عدو الله عليكم بهذا السواد الأعظم والرواق المطنّب، فاضربوا ثبجه فإن الشيطان راكس في كسره مفترش ذراعيه قد قدّم للوثبة يداً وأخّر للنّكوص رجلاً، فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم الحق وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم.
وعن ابن عباس أنه قال: لقد سبق لعلي، رضي الله عنه، سوابق لو أن سابقة منها قسمت على الناس لوسعتهم خيراً.
وعنه قال: كان لعلي، رضي الله عنه، خصال ضوارس قواطع سِطةٌ في العشيرة وصهر بالرسول وعلمٌ بالتنزيل وفقه في التأويل وصبر عند النزال ومقاومة الأبطال، وكان ألدّ إذا أعضل، ذا رأي إذا أشكل.
قيل: ودخل ابن عباس على معاوية فقال: يا ابن عباس صف لي علياً، قال: كأنك لم تره؟ قال: بلى ولكني أحب أن أسمع منك فيه مقالاً، قال: كان أمير المؤمنين، رضوان الله عليه، غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، يدنينا إذا أتيناه ويجيبنا إذا دعوناه، وكان مع تقربته إيانا وقربه منا لا نبدأه بالكلام حتى يتبسم فإذا هو تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، أما والله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يبكي ويتململ تململ السليم وهو يقول: يا دنيا إيّاي تغرّين؟ أمثلي تشوقين؟ لا حان حينك بل زال زوالك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك حقير وعمرك قصير وخطرك يسير، آه آه من بُعد السفر ووحشة الطريق وقلة الزاد! قال: فأجهش معاوية ومن معه بالبكاء.
وقال خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين يصف محاسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومن حضره، كرم الله وجهه، في قصيدة له:
رأوا نعمةً لله ليست عليهم ... عليك وفضلاً بارعاً لا تنازعه
فعضوا من الغيظ الطويل أكفهم ... عليك ومن لم يرض فالله خادعه
من الدين والدنيا جميعاً لك المنى ... وفوق المنى أخلاقه وطبائعه

وروي أن عدي بن حاتم دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال: يا عدي أين الطَّرَفات؟ يعني بنيه طريفاً وطارفاً وطرفة. قال: قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. فقال: ما أنصفك ابن أبي طالب إذ قدّم بينك وأخّر بنيه! قال: بل ما أنصفت أنا علياً إذ قُتل وبقيت! قال: صف لي علياً. فقال: إن رأيت أن تعفيني. قال: لا أعفيك. قال: كان والله بعيد المدى وشديد القوى، يقول عدلاً ويحكم فضلاً، تتفجّر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها ويستأنس بالليل ووحشته، وكان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا ويقلب كفيه على ما مضى، يعجبه من اللباس القصير ومن المعاش الخشن، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويدنينا إذا أتيناه، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته، فإن تبسّم فعن اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، يتحبب إلى المساكين، لا يخاف القويّ ظلمه ولا ييأس الضعيف من عدله، فأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه وأرخى الليل سرباله وغارت نجومه ودموعه تتحادر على لحيته وهو يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين، فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا أإليّ تعرضت أم إليّ أقبلت؟ غرّي غيري، لا حان حينك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعيشك حقير وخطرك يسير، آه من قلة الزاد وبعد السفر وقلة الأنيس! قال: فوكفت عينا معاوية ينشّفهما بكمّه ثم قال: يرحم الله أبا الحسن! كان كذا فكيف صبرك عنه؟ قال: كصبر من ذبح ولدها في حجرها فهي لا ترقأ دمعتها ولا تسكن عبرتها. قال: فكيف ذكرك له؟ قال: وهل يتركني الدهر أن أنساه! وهذا الخبر أتم من خبر ابن عباس، رحمه الله.

محاسن من أمسك عن الوقوع في أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: قدم عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان فقال له يحيى بن الحكم عم عبد الملك بن مروان، قال: ما تقول في علي وعثمان؟ قال: أقول ما قال من هو خير مني فيمن هو شر منهما: إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم.
عصام بن يزيد قال: كنت عند حمزة حتى أتاه رجل فسأله عن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون.
وروي أنه كتب إسماعيل بن علي إلى الأعمش أن اكتب إلينا بمناقب علي ووجوه الطعن على عثمان، رضي الله عنهما، فكتب: لو أن علياً لقي الله جل وعز بحسنات أهل الدنيا لم يزد ذلك في حسناتك، ولو لقيه عثمان، رضي الله عنه، بسيئات أهل الأرض لم ينقص ذلك من سيئاتك.
وعن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر قال: كان إياس بن معاوية لي صديقاً فدخلنا على عبد الرحمن بن القاسم بن أبي بكر الصدّيق، رضي الله عنهما، وعنده جماعة من قريش يتذاكرون السلف، ففضّل قوم أبا بكر وقوم عمر وآخرون علياً، رضي الله عنهم أجمعين، فقال إياس: إن علياً، رحمه الله، كان يرى أنه أحقّ الناس بالأمر، فلما بايع الناس أبا بكر ورأى أنهم قد اجتمعوا عليه وأن ذلك قد أصلح العامة اشترى صلاح العامة بنقض رأي الخاصة، يعني بني هاشم، ثم ولي عمر، رحمه الله، ففعل مثل ذلك به وبعثمان، رضي الله عنه، فلما قتل عثمان، رحمه الله، واختلف الناس وفسدت الخاصة والعامة وجد أعواناً فقام بالحقّ ودعا إليه.
وقيل إنه حضر مجلس عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، جماعةٌ من أهل العلم فذكروا علياً، رضي الله عنه، وعثمان وطلحة والزبير، رضي الله عنهم أجمعين، وما كان بينهم فأكثروا وعمر ساكت، قال القوم: ألا تتكلم يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أقول شيئاً، تلك دماءٌ طهر الله منها كفّي فلا أغمس فيها لساني.
مساوئ تلك الحروب
ومن تنقص علي بن أبي طالب رضوان الله ورحمته وبركاته عليه

أبو نعيم قال: حدثنا عبد الجبار بن العباس الهمداني عن عمار الدُّهني عن سالم بن أبي الجعد قال: ذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة، رضي الله عنها، فقال: انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت هي، ثم التفت إلى علي، رضوان الله عليه، فقال: انظر يا أبا الحسن إن وليت من أمرها شيئاً فارفق بها. وقال الزهري: لما سارت عائشة ومعها طلحة والزبير، رضي الله عنهم، في سبع مائة من قريش كانت تنزل كلّ منزل فتسأل عنه حتى نبحتها كلاب الحوأب فقالت: ردوني، لا حاجة لي في مسيري هذا، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهاني فقال: كيف أنت يا حميراء لو قد نبحت عليك كلاب الحوأب أو أهل الحوأب في مسيرك تطلبين أمراً أنت عنه بمعزل؟ فقال عبد الله بن الزبير: ليس هذا بذلك المكان الذي ذكره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودار على تلك المياه حتى جمع خمسين شيخاً قسامةً فشهدوا أنه ليس بالماء الذي تزعمه أنه نهيت عنه، فلما شهدوا قبلت وسارت حتى وافت البصرة، فلما كان حرب الجمل أقبلت في هودج من حديد وهي تنظر من منظر قد صُيّر لها في هودجها، فقالت لرجل من ضبّة وهو آخذ بخطام جملها أو بعيرها: أين ترى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال: ها هوذا واقف رافع يده إلى السماء، فنظرت فقالت: ما أشبهه بأخيه! قال الضبي: ومن أخوه؟ قالت: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فلا أراني أقاتل رجلاً هو أخو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فنبذ خطام راحلتها من يده ومال إليه.
وعن الحسن البصري، رحمه الله، أن الأحنف بن قيس قال لعائشة، رحمها الله، يوم الجمل: يا أم المؤمنين هل عهد عليك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هذا المسير؟ قالت: اللهم لا. قال: فهل وجدته في شيء من كتاب الله جل ذكره؟ قالت: ما نقرأ إلا ما تقرأون. قال: فهل رأيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استعان بشيء من نسائه إذا كان في قلة والمشركون في كثرة؟ قالت: اللهم لا. قال الأحنف: فإذاً ما هو ذنبنا؟ قال: وقال الحسن البصري: تقلدت سيفي وذهبت لأنصر أم المؤمنين فلقيني الأحنف فقال: إلى أين تريد؟ فقلت: أنصر أم المؤمنين. فقال: والله ما قاتلت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المشركين فكيف تقاتل معها المؤمنين؟ قال: فرجعت إلى منزلي ووضعت سيفي.

مساوئ من عادى علي بن أبي طالب
رضي الله عنه

قال: ولما فرغ أمير المؤمنين، عليه السلام، من قتال أهل الجمل دخل عليه عبد الله بن الكواء وقيس بن عبادة السكري فقالا: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت يضرب الناس بعضهم رقاب بعض أرأياً رأيته حين تفرقت الأمة واختلفت الدعوة، فإن كان رأياً رأيته أجبناك في رأيك، وإن كان عهداً عهده إليك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأنت الموثوق به المأمون فيما حدثت عنه. فقال: والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، أمّا أن يكون عندي عهد من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه فلا والله لو كان عندي ما تركت أخا تيم وعدي على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولكن نبينا، عليه السلام، لم يُقتل قتلاً ولم يمت فُجاءةً ولكنه مرض ليالي وأياماً فأتاه بلال ليؤذنه بالصلاة فيقول: ائت أبا بكر وهو يرى مكاني، فلما قبض، صلى الله عليه وسلم، نظرنا في الأمر فإذا الصلاة علم الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لديننا فولّينا أمورنا أبا بكر فأقام بين أظهرنا الكلمة واحدة والدين جامع، أو قال: الأمر جامع لا يختلف عليه منا اثنان ولا يشهد منا أحد على أحد بالشرك، وكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب الحدود بين يديه بسيفي وسوطي على كراهة منه لها، وودّ أبو بكر لو أن واحداً منا يكفيه، فلما حضرت أبا بكر، رحمه الله، الوفاة ظننت أنه لا يعدل عني لقرابتي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسابقتي وفضلي، فظن أبو بكر أن عمر أقوى مني عليها، ولو كانت اثرةً لآثر بها ولده، فولّى عمر على كراهة كثير من أصحابه، فكنت فيمن رضي لا فيمن كره، فوالله ما خرج عمر، رحمه الله، من الدنيا حتى رضي به من كان كرهه، فأقام عمر، رحمه الله، بين أظهرنا الكلمة واحدة والأمر واحد لا يختلف عليه منا اثنان، فكنت آخذ إذا أعطاني وأغزو إذا أغزاني وأضرب الحدود بين يديه بسوطي وسيفي، أتّبع أثره اتّباع الفصيل أمه لا يعدل عن سبيل صاحبيه ولا يحيد عن سنتهما، فلما حضرت عمر، رضي الله عنه، الوفاة ظننت أنه لا يعدل عني لقرابتي وسابقتي وفضلي، فظن عمر أنه إن استخلف خليفة يعمل بخطيئة لحقته في قبره فأخرج منها ولده وأهل بيته وجعلها شورى في ستة رهط، منهم: عبد الرحمن بن عوف، فقال: هل لكم أن أدع لكم نصيبي على أن أختار لله ولرسوله؟ قلنا: نعم. فأخذ ميثاقنا على أن نسمع ونطيع لمن ولاه، وأخذنا ميثاقه على من يختار لله ولرسوله، فوقع اختياره على عثمان، رضي الله عنه، فنظرت فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فاتّبعت عثمان وأدّيت إليه حقّه على أثرة منه وتقصير عن سنّة صاحبيه، فلما قتل عثمان، رضي الله عنه، نظرت فكنت أحق بها من جميع الناس. فقالا: صدقت وبررت، فأخبرنا عن طلحة والزبير بما استحللت قتالهما وقد شركاك في الهجرة مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفي الشورى من عمر، رحمهم الله. فقال: قد شركاني في الهجرة وفي الشورى ولكنهما بايعاني بالحجاز وخلعاني بالعراق ولو فعلا ذلك بأبي بكر وعمر لقاتلاهما. فقالا: صدقت وبررت وأنت أمير المؤمنين.
قال: ولما كان حرب صفين كتب أمير المؤمنين، رضوان الله عليه، إلى معاوية بن أبي سفيان: ما لك يُقتل الناس بيننا؟ ابرز لي فإن قتلتني استرحت مني وإن قتلتك استرحت منك. فقال له عمرو بن العاص: أنصفك الرجل فابرز إليه. قال: كلا يا عمرو، أردت أن أبرز له فيقتلني وتثب على الخلافة بعدي! قد علمت قريش أن ابن أبي طالب سيدها وأسدها. ثم أنشأ يقول:
يا عمرو قد أسررت تهمة غادرٍ ... برضاك لي تحت العَجاج بِرَازي
ما للملوك ولِلْبراز وإنها ... حتفُ المبارز خطفةً من بازي
إن التي منّتك نفسك خالياً ... قتلي جزاك بما نويت الجازي
فلقد كشفت قناعها مذمومةً ... ولقد لبست لها ثياب الخازي
فأجابه عمرو بن العاص:
معاويَ إنني لم أجن ذنباً ... وما أنا بالذي يُدعى بخازي
فما ذنبي بأن نادى عليٌ ... وكبش القوم يدعى للبِراز
فلو بارزته للقيت قِرناً ... حديد الناب شهماً ذا اعتزاز
أجبناً في العشيرة يا ابن هندٍ ... وعند الباه كالتيس الحجازي

ثم كتب معاوية إلى علي، رحمه الله: أما بعد فإنا لو علمنا أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض وإن كنا قد غلبنا على عقولنا فقد بقي لنا ما نرُمّ به ما مضى ونصلح ما بقي، وقد كنت سألتك الشام على أن تلزمني لك طاعة فأبيت ذلك علي وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس وإنك لا ترجو من البقاء إلا ما أرجو ولا خاف من الفناء إلا ما أخاف، وقد والله رقّت الأجناد وذهبت الرجال، ونحن بنو عبد مناف ليس لأحد منا على أحد فضل نستذلّ به عبداً أو نسترقّ به حراً.
فأجابه علي: من علي بن أبي طالب إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد فقد جاءني كتابك وتذكر أنك لو علمت أن الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت لم يجنها بعضنا على بعض، وأنا وإياك نلتمس غايةً لم نبلغها بعد، فأما طلبك الشام فإني لم أكن لأعطيك اليوم ما منعتك عنه أمس، وأما استواؤنا في الخوف والرجاء فلستَ بأمضى على الشك مني على اليقين وليس أهل الشام بأحرص على الدنيا من أهل العراق على الآخرة، وأما قولك إنا بنو عبد مناف فكذلك نحن وليس أمية كهاشم ولا حرب كعبد المطلب ولا أبو سفيان كأبي طالب ولا الطليق كالمهاجر ولا المحق كالمبطل، في أيدينا فضل النبوة التي قبلنا بها العز ونفينا بها الخزي.
عن الشعبي أن عمرو بن العاص دخل على معاوية وعنده ناس فلما رآه مقبلاً استضحك فقال: يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك وأدام سرورك وأقر عينك، ما كل ما أرى يوجب الضحك! فقال معاوية: خطر ببالي يوم صفين يوم بارزت أهل العراق فحمل عليك عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، فلما غشيك طرحت نفسك عن دابتك وأبديت عورتك كيف حضرك ذهنك في تلك الحال، أما والله لقد واقفته هاشميّاً منافيّاً ولو شاء أن يقتلك لقتلك! فقال عمرو: يا معاوية إن كان أضحكك شأني فمن نفسك فاضحك، أما والله لو بدا له من صفحتك مثل الذي بدا له من صفحتي لأوجع قذالك وأيتم عيالك وأنهب مالك وعزل سلطانك، غير أنك تحرزت منه بالرجال في أيديها العوالي، أما إني قد رأيتك يوم دعاك إلى البراز فاحولّت عيناك وأزبد شدقاك وتنشّر منخراك وعرق جبينك وبدا من أسفلك ما أكره ذكره. فقال معاوية: حسبك حيث بلغت لم نرد كل هذا.
قال: وذكر أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: زعم ابن النابغة أني تلعابةٌ تمزاحةٌ ذو دعابة، أعافس وأمارس، لا رأي لي في الحروب، هيهات يمنع من العفاس والمراس ذكر الموت والبعث، فمن كان له قلب ففي هذا عن هذا واعظ، أما وشر القول الكذب إنه ليحدّث فيكذب ويعِد فيخلف، فإذا كان البأس فأعظم مكيدته أن يمنح القوم استه.
قال: وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله يوم صفين: تبين لي هل ترى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه؟ قال عبد الله: فنظرت فرأيته فقلت: يا أبت ها هو ذاك على بغلة شهباء عليه قباء أبيض وقلنسوة بيضاء. قال: فاسترجع، وقال: والله ما هذا بيوم ذات السلاسل ولا بيوم اليرموك ولا يوم أجنادين، وددت أن بيني وبين موقفي بُعد المشرقين. فنزل سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو قالا: والله لئن كان صواباً إنه لعظيم مشكور، ولئن كان خطأً إنه لصغير مغفور. فقلت له: يا أبت فمن يمنعك من الذي فعلا؟ فوالله ما يحول بينك وبين ذلك أحد! فقال: إن يرجع الشيخ ولم يُعذّر إذ نزل القوم بضنك فانظر، ثم تأمل بعد هذا أو ذر.
وقال بعض الشعراء في معاوية ومحاربته أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
قد سرت سير كليبٍ في عشيرته ... لو كان فيهم غلامٌ مثل جسّاس
الطاعن الطعنة النجلاء عاندها ... كطرّة البُرْدِ أعيا فتقها الآسي
عبد الله بن السائب قال: جمع زياد أهل الكوفة يحرضهم على البراءة من علي، كرم الله وجهه، فملأ منهم المسجد والرحبة، قال: فغفوت غفوة فإذا أنا بشيء له عنق مثل عنق البعير أهدل أهدب، فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا النقّاد ذو الرقبة بُعثت إلى صاحب القصر. فانتبهت فزعاً، فما كان بأسرع إذ خرج علينا خارج من القصر فقال: انصرفوا فإن الأمير في شغل عنكم اليوم، فإذا هو قد فلج، فقال عبد الله في ذلك:
ما كان منتهياً عما أراد بنا ... حتى تأتّى له النّقّادُ ذو الرقبه
فأسقط الشقَّ منه ضربةٌ ثبتت ... لمّا تناول ظلماً صاحب الرّحبه
أراد أنه قتل في رحبة المسجد.

الأصمعي قال: سمع عامر بن عبد الله بن الزبير ابنه ينال من عليّ، رضي الله عنه، فقال: يا بني إياك وذكر عليّ، رضي الله عنه، فإن بني أمية تنقصته ستين عاماً فما زاده الله بذلك إلا رفعة.
قال: وقال عبد الملك بن مروان للحجاج بن يوسف: جنّبني دماء آل أبي طالب فإني رأيت بني حرب لما قتلوا الحسين، عليه السلام، نزع الله ملكهم.

محاسن الحسن والحسين
ابني علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم
روي عن أنس بن مالك أنه قال: لم يكن في أهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحد أشبه به من الحسن، عليه السلام، وكان قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابني هذا سيّد لعلّ الله جل وعز أن يصلح به بين فئتين من المسلمين. وكان بينه وبين أخيه الحسين، عليه السلام، طهْزٌ واحد، وكان أسخى أهل زمانه.
وذكروا أنه أتاه رجل في حاجة فقال: اذهب فاكتب حاجتك في رقعة وارفعها إلينا نقضها لك. قال: فرفع إليه حاجته، فأضعفها له، فقال بعض جلسائه: ما كان أعظم بركة الرقعة عليه يا ابن رسول الله. فقال: بركتها علينا أعظم حين جعلنا للمعروف أهلاً، أما علمت أن المعروف ما كان ابتداء من غير مسألة؟ فأما من أعطيته بعد مسألة فإنما أعطيته بما بذل لك من وجهه، وعسى أن يكون بات ليلته متململاً أرقاً يميل بين اليأس والرجاء لا يعلم لما يتوجه من حاجته أبكآبة الرد أم بسرور النجح فيأتيك وفرائصه ترعد وقلبه خائف يخفق، فإن قضيت له حاجته فيما بذل لك من وجهه فإن ذلك أعظم مما نال من معروفك.
قيل: وكان لرجل على ابن أبي عتيق مال فتقاضاه فقال له: ائتني العشية في مجلس الولاية فسلني عن بيت قريش. فوافاه الغريم في ذلك المجلس، فقال له: إنا تلاحينا في بيت قريش ورضينا بك حكماً، فقال: آل حرب، قال: ثم من؟ قال: آل أبي العاص، والحسن بن علي، رضي الله عنه، حاضر، فشق ذلك عليه، فقال الرجل: فأين بنو عبد المطلب؟ قال: لم أكن أظن أن تسألني عن غير بيت الآدميين فأما إذا صرت تسألني عن بيت الملائكة وعن رسول الله رب العالمين وسيد كل شهيد والطيار مع الملائكة فمن يساوي هؤلاء فخراً إلا وهو منقطع دونهم. قال: فانجلى عن الحسن، عليه السلام، ثم قال: إني لأحسب أن لك حاجة. قال: نعم يا ابن رسول الله، لهذا علي كذا وكذا، فاحتملها عنه ووصله بمثلها، قال: وأتاه رجل آخر فقال: يا ابن رسول الله إني عصيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: بئس ما صنعت، فماذا عصيته؟ قال: قال، عليه السلام: شاوروهن وخالفوهن، وإني أطعت صاحبتي فاشتريت غلاماً فأبق. قال له: اختر واحدة من ثلاث، إن شئت ثمن الغلام. قال: بأبي أنت وأمي قف على هذه ولا تجاوزها! قال: اعرض عليك الثلاث! فقال: حسبي هذه، فأمر له بثمن الغلام.
وذكروا أن رجلين أحدهما من بني هاشم والآخر من بني أمية قال هذا: قومي أسمح، وقال هذا: قومي أسمح، قال: فسل أنت عشرة من قومك وأنا أسأل عشرة من قومي. فانطلق بني أمية فسأل عشرة فأعطاه كل واحد منهم عشرة آلاف درهم، وانطلق صاحب بني هاشم إلى الحسن بن علي، رضي الله عنه، فأمر له بمائة وخمسين ألف درهم، ثم أتى الحسين، عليه السلام، فقال: هل بدأت بأحد قبلي؟ قال: بدأت بالحسن، قال: ما كنت أستطيع أن أزيد على سيدي شيئاً، فأعطاه مائة وخمسين ألفاً من الدراهم، فجاء صاحب بني أمية فحمل مائة ألف درهم من عشرة أنفس، وجاء صاحب بني هاشم فحمل ثلاثمائة ألف درهم من نفسين، فغضب صاحب بني أمية فردها عليهم فقبلوها، وجاء صاحب بني هاشم فردها عليهما فأبيا أن يقبلاها وقالا: ما كنا نبالي أخذتها أم ألقيتها في الطريق، وكان الحسن بن علي، رضوان الله عليهما، أشبه برسول الله، صلى الله عليه وسلم، من صدره إلى قدمه، وكان أيضاً أحد الأجواد، دخل على أسامة بن زيد وهو يجود بنفسه ويقول: واكرباه واحزناه! فقال: وما الذي أحزنك يا عم؟ قال: يا ابن رسول الله ستون ألف درهم دين عليّ لا أجد لها قضاء. قال: هي عليّ. قال: فك الله رهائنك يا ابن النبي، صلى الله عليه وسلم، الله أعلم حيث يجعل رسالاته.
مساوئ قتلة الحسين بن علي
رضوان الله عليهما

حدثنا عبد الله بن أحمد بن إبراهيم عن يحيى بن معين عن الحجاج عن أبي معشر قال: لما مات معاوية بن أبي سفيان وذلك في النصف من رجب سنة ستين ورد خبره على أهل المدينة في أول شعبان وكان على المدينة يومئذ الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وكان غلاماً حدثاً يتحرج، فلما جاءه ما جاءه ضاق به صدره فأرسل إلى مروان بن الحكم، وهو الذي صرف به مروان عن المدينة، وكان في مروان حدة، فقال له الوليد: يا أبا عبد الملك إنه قد جاءنا اليوم شيء لم نكن نستغني معه عن استشارتك. قال: وما هو؟ قال: موت أمير المؤمنين. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مات، رحمه الله! قال: نعم. قال: أتطيع أمري؟ قال: نعم. قال: أرسل إلى الحسين بن علي وإلى عبد الله بن الزبير فإن بايعا فخل سبيلهما وإن أبيا فاضرب أعناقهما، فأرسل إلى الحسين، رضوان الله عليه، وإلى عبد الله بن الزبير، رحمه الله، وبدأ بالحسين، عليه السلام، فمر الحسين في المسجد فأشار إليه ابن الزبير وهو قائم يصلي، فأتاه فقال للحرسيّ: تأخر أيها العبد. فتأخر الحرسي. فقال له: يا أبا عبد الله أتدري لأي شيء دعيت؟ قال: لا. قال: مات طاغيتهم فدعوك للبيعة فلا تبايع وقل له بالغداة على رؤوس الملإ. قال: فدخل الحسين، عليه السلام، فقال له الوليد: يا أبا عبد الله دعوناك لخير. قال: أي شيء هو؟ قال: مات أمير المؤمنين وقد عرفتم ولي عهدكم ومفزعكم وقد بايع أهل الشام والناس فادخل فيما دخل فيه الناس. قال: نعم بالغداة إن شاء الله. قال: لا بل الساعة. قال: ومثلي يبايع في جوف البيت! بالغداة أبايعك على رؤوس الناس. قال: لا بل الساعة. قال: ما أنا بفاعل. وخرج من عنده. فأرسل إلى ابن الزبير فقال: يا أبا بكر دعوناك لخير. قال: وما هو؟ قال: مات أمير المؤمنين. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليه! قال: فيجعل يردد الترحم عليه وقد نظر ابن الزبير قبل ذلك إلى مروان وهو يناجي الوليد فتلا هذه الآية: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين " ، فقال: يا أبا بكر قد عرفتم ولي عهدكم ومفزعكم وقد بايع أهل الشام والناس فادخل فيما دخل فيه الناس. قال: نعم بالغداة إن شاء الله. قال: لا بل الساعة قال: ومثلي يبايع في جوف البيت! أبايعك على رؤوس الملإ. قال: لا بل الساعة قال: ما أنا بفاعل. فقال مروان للوليد: ما تصنع؟ أطعني واضرب أعناقهما، لئن خرجا من البيت لا تراهما أبداً إلا في شر. وكان الوليد متحرجاً، فقال: ما كنت لأقتلهما. فقال ابن الزبير لمروان: يا ابن الزرقاء أوتقدر على قتلنا؟ فقال مروان: إنه والله لو أطاعني ما خرجت ولا صاحبك من البيت حتى تضرب أعناقكما.
قال: فدعا الحسين، عليه السلام، برواحله فركب يتوجه نحو مكة على المنهج الأكبر وركب ابن الزبير، رحمه الله، دواب له وأخذ طريق الفُرع فأتى الحسين، عليه السلام، عبد الله بن مطيع وهو على بئره فنزل إليه وقال: يا أبا عبد الله أين تريد؟ قال: العراق، مات معاوية وجاءني أكثر من حمل صُحُف. قال: لا تفعل فوالله ما حفظوا أباك وكان خيراً منك، والله لئن قتلوك لا تبقى حرمةٌ بعدك إلا استحلت.

فمر الحسين، عليه السلام، حتى نزل مكة فأقام بها هو وابن الزبير، رحمه الله، وقدم عمرو بن سعيد بن العاص في رمضان أميراً على المدينة وعلى الموسم وعزل الوليد بن عتبة، فلما استوى على المنبر رعف فقال أعرابي: ما جاءنا والله بالدم. قال: فتلقاه رجل بعمامته فقال: ما عمّ الناس والله. ثم قام وخطب، فناولوه عصا لها شعبتان فقال: تشعب الناس والله. ثم خرج إلى مكة فقدمها قبل التروية بيوم، وخرج الحسين، عليه السلام، فقيل له: خرج الحسين. فقال: اركبوا كل بعير وفرس بين السماء والأرض في طلبه فاطلبوه. قال: فكان الناس يتعجبون من قوله هذا، فطلبوه فلم يدركوه، فأرسل عبد الله بن جعفر ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا الحسين، فأبى الحسين أن يرجع وخرج بابني عبد الله معه، ورجع عمرو بن سعيد إلى المدينة وبعث بجيش يقاتلون ابن الزبير، وقدّم الحسين، عليه السلام، مسلم بن عقيل إلى الكوفة ليأخذ عليهم البيعة، وكان على الكوفة حين مات معاوية النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري، فلما بلغه خبر الحسين، عليه السلام، قال: لابن بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحب إلينا من ابن بنت بحدل. فبلغ ذلك يزيد فأراد أن يعزله فقال لأهل الشام: أشيروا علي من استعمل على الكوفة؟ فقالوا: أترضى برأي معاوية؟ قال: نعم. قالوا: فإن العهد بإمارة عبيد الله بن زياد على العراقين قد كتب في الديوان، فاستعمله على الكوفة. فقدم الكوفة قبل أن يقدم الحسين، عليه السلام، وقد بايع مسلم بن عقيل أكثر من ثلاثين ألفاً من الرجال من أهل الكوفة، فخرجوا معه يريدون عبيد الله بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زقاق انسلّ ناس منهم حتى بقي في شرذمة قليلة وجعل الناس يرمونه بالآجر من فوق البيوت، فلما رأى ذلك دخل دار هانيء بن عروة المراديّ وكان له فيهم رأي، فقال له هانيء: إن لي من ابن زياد مكاناً وسوف أتمارض له، فإذا جاء يعودني فاضرب عنقه. فقيل لابن زياد: هانيء بن عروة شاكٍ يقيء الدم، وكان شرب المغرة فجعل يقيئها، فجاء ابن زياد يعوده، وقال: هانيء لمسلم: إذا قلت اسقوني ولو كانت فيه نفسي فاضرب عنقه. فقال: اسقوني، فأبطأوا عليه، فقال: ويحكم اسقوني ولو كانت فيه نفسي! قال: فخرج ابن زياد ولم يصنع الآخر شيئاً، وكان أشجع الناس ولكن أخذته كبوة. فقيل لابن زياد: والله إن في البيت رجلاً متسلحاً، فأرسل ابن زياد إلى هانيء فدعاه، فقال: إني شاكٍ. فقال: ائتوني به وإن كان شاكياً. قال: فأسرجت له دبة فركب وكانت معه عصاً وكان أعرج فجعل يسير قليلاً قليلاً ثم يقف ويقول: ما لي ولابن زياد! فما زال حتى دخل عليه. فقال: يا هانيء ما كانت يد زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال: فيدي؟ قال: بلى. فتناول العصا التي كانت في يد هانيء فضرب بها وجهه حتى كسر جبهته ثم قدّمه فضرب عنقه ثم أرسل إلى مسلم بن عقيل، فخرج عليهم بسيفه فما زال يناوشهم ويقاتلهم حتى جرح وأسر فعطش وقال: اسقوني ماء، ومعه رجل من آل أبي معيط ورجل من بني سُليم. فقال: شمر بن ذي جوشن: والله لا نسقيك إلا من البئر. وقال المعيطيّ: والله لا نسقيه إلا من الفرات. فأتاه غلام له بإبريق من ماء وقدح قوارير ومنديل فسقاه، فتمضمض فخرج الدم فما زال يمج الدم ولا يسيغ شيئاً حتى قال: أخّره عني، فلما أصبح دعاه عبيد الله ليضرب عنقه، فقال له: دعني أوصي. فقال: أوص. فنظر في وجوه الناس فقال لعمر بن سعد: ما أرى هاهنا أحداً من قريش غيرك فادن مني حتى أكلمك. قال: فدنا منه. فقال له: هل لك في أن تكون سيد قريش؟ قال نعم. قال: إنّ حسيناً ومن معه وهم تسعون إنساناً بين رجل وامرأة في الطريق فارددهم واكتب إليه بما أصابني. ثم أمر عبيد الله فضرب عنقه.

فقال عمر: أتدري ما قال؟ قال: اكتم على ابن عمك! قال: هو أعظم من ذاك، قال: اكتم على ابن عمك! قال: هو أعظم من ذاك. قال: أي شيء هو؟ قال: أخبرني أن حسيناً قد أقبل ومعه تسعون إنساناً بين رجل وامرأة. فقال: أما والله لو إلي أسرّ لرددتهم! لا والله لا يقاتلهم أحد غيرك. فبعث معه جيشاً، وجاء الحسين، عليه السلام، الخبر وهو بشراف فهمّ أن يرجع ومعه خمسة من بني عقيل فلقيه الجيش على خيولهم بوادي السباع، فقال بنو عقيل :أترجع وقد قتل أخونا؟ فقال الحسين، عليه السلام: ما لي عن هؤلاء من صبر، يعني بني عقيل. فأصاب أصحابه العطش فقالوا: يا ابن رسول الله اسقنا! فأخرج لكل فرس صحفة من ماء فسقاهم بقدر ما يمسك رمق أحدهم، ثم قالوا: سر بنا، وأخذوا به على الجرف حتى نزلوا كربلاء، فقال: هذا كربٌ وبلاء. فنزلوا وبينهم وبين الماء يسير، قال: فأراد الحسين، عليه السلام، وأصحابه الماء فحالوا بينهم وبينه. فقال له شمر بن ذي جوشن: لا تشربون أبداً حتى تشربون من الحميم. فقال العباس بن علي للحسين، عليه السلام: يا أبا عبد الله ألسنا على الحق؟ قال: نعم. فحمل عليهم فكشفهم عن الماء حتى شربوا وأسقوا، ثم بعث عبيد الله بن زياد إلى عمر بن سعد أن قاتلهم. فقال الحسين، عليه السلام: يا عمر اختر مني إحدى ثلاث: تتركني أرجع كما جئت، وإن أبيت هذه فسيّرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت، وإن أبيت هذه فابعث بي إلى يزيد لأضع يدي في يده، وأرسل إلى ابن زياد بذلك.
فهمّ أن يسيّره إلى يزيد، فقال له شمر بن ذي جوشن: قد أمكنك الله منه، أو قال: من عدوّك، وتسيّره إلى الأمان إلا أن ينزل على حكمك! فأرسل إليه بذلك، فقال: لا حباً ولا كرامة انزل على حكم ابن سميّة. وكان مع عمر ابن سعد قريب من ثلاثين رجلاً من أهل الكوفة فقالوا: يعرض عليكم ابن ابنة رسول الله، عليه وعلى آله السلام، ثلاث خصال لا تقبلون منها شيئاً! فتحولوا مع الحسين، عليه السلام، فقاتلوا حتى قتلوا وقتل الحسين، رضي الله عنه، وجميع من معه، رحمهم الله، وحمل رأسه إلى عبيد الله بن زياد فوضع بين يديه على ترس فبعث به إلى يزيد، فأمر بغسله وجعله في حريرة وضرب عليه خيمة ووكّل به خمسين رجلاً.
فقال واحد منهم: نمت وأنا مفكر في يزيد وقتله الحسين، عليه السلام، فبينا أنا كذلك إذ رأيت سحابة خضراء فيها نور قد أضاءت ما بين الخافقين وسمعت صهيل الخيل ومنادياً ينادي: يا أحمد اهبط، فهبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومعه جماعة من الأنبياء والملائكة فدخل الخيمة وأخذ الرأس فجعل يقبله ويبكي ويضمّه إلى صدره، ثم التفت إلى من معه فقال: انظروا إلى ما كان من أمّتي في ولدي، ما بالهم لم يحفظوا فيه وصيتي ولم يعرفوا حقي؟ لا أنالهم الله شفاعتي! قال: وإذا بعدّة من الملائكة يقولون: يا محمد الله تبارك وتعالى يقرئك السلام وقد أمرنا بأن نسمع لك ونطيع فمرنا أن نقلب البلاد عليهم. فقال، صلى الله عليه وسلم: خلوا عن أمتي فإن لهم بلغةً وأمداً. قالوا: يا محمد إن الله جل ذكره أمرنا أن نقتل هؤلاء النفر! فقال: دونكم وما أمرتم به. قال: فرأيت كل واحد منهم قد رمى كل واحد منا بحربة، فقتل القوم في مضاجعهم غيري فإني صحت: يا محمد! فقال: وأنت مستيقظ؟ قلت: نعم. قال: خلوا عنه يعيش فقيراً ويموت مذموماً، فلما أصبحت دخلت على يزيد وهو منكسر مهموم فحدثته بما رأيت فقال: امض على وجهك وتب إلى ربك.
أبو عبد الله غلام الخليل، رحمه الله، قال: حدثنا يعقوب بن سليمان قال: كنت في ضيعتي فصلينا العتمة وجعلنا نتذاكر قتل الحسين، عليه السلام، فقال رجل من القوم: ما أحد أعان عليه إلا أصابه بلاء قبل أن يموت، فقال شيخ كبير من القوم: أنا ممن شهدها وما أصابني أمر كرهته إلى ساعتي هذه، وخبا السراج فقام يصلحه فأخذته النار وخرج مبادراً إلى الفرات وألقى نفسه فيه فاشتعل وصار فحمة.
قيل: ودخل سنان بن أنس على الحجاج بن يوسف فقال: أنت قتلت الحسين بن علي؟ قال: نعم. فقال: أما إنكما لن تجتمعا في الجنة، فذكروا أنهم رأوه موسوساً يلعب ببوله كما يلعب الصبيان.
قال: وقال محمد بن سيرين: ما رؤيت هذه الحمرة في السماء إلا بعدما قتل الحسين، عليه السلام، ولم تطمث امرأة بالروم أربعة أشهر إلا أصابها وضحٌ. فكتب ملك الروم إلى ملك العرب: قتلتم نبياً أو ابن نبي.

وروي أنه لما قتل، رضي الله عنه، احمرّت آفاق السماء واقتسموا ورساً كان معه فصار رماداً، وكانت معه إبل فجزروها فصارت جمرة في منازلهم.

مساوئ الحرة
قال: ولما كان من أمر الحسين، عليه السلام، ما كان قدم عمرو بن حفص بن المغيرة وكان تزوج يزيد بن معاوية ابنته وأعطاه مالاً كثيراً، فلما قدم المدينة جاءه محمد بن عمرو بن حزم وعبيد الله بن حنظلة وعبد الله بن مطيع ابن الأسود وناس من وجوه أهل المدينة قالوا: ننشدك الله رب هذا البيت ورب صاحب هذا القبر ألا أخبرتنا عن يزيد؟ فقال: إنه ليشرب الخمر وينادم القردة ويفعل كذا ويصنع كذا. فقالوا: والله ما لنا بأهل الشام من طاقة ولكن ما يحل لنا أن نبايع رجلاً على هذه الحال. فقال محمد بن عمرو لأهله: هاتوا درعي. ثم خرج فخرج أهل المدينة وخلعوا يزيد وأخرجوا عثمان بن محمد بن أبي سفيان وبني أمية من المدينة، وكان عثمان والي المدينة، ثم قال محمد بن أبي جهم لأهل المدينة: أطيعوا أمري اليوم واعصوني الدهر، اقتلوا سبعة عشر رجلاً من بني أمية لا تروا شراً أبداً. فأبى أهل المدينة أن يقتلوهم وأخذوا عليهم المواثيق أن لا يرجعوا إلى المدينة مع جيش أبداً، فبعث عثمان بن محمد بن أبي سفيان قميصه مشقوقاً إلى يزيد وكتب إليه: واغوثاه! إن أهل المدينة أخرجوا قومي من المدينة وشقوا ثوبي وارتكبوا مني.

قال أبو معشر: حدثنا رجل قال: خرج علينا يزيد بعد العتمة ومعه شمعتان، شمعة عن يمينه وشمعة عن يساره، وعليه معصفرتان كأنهما قطرتا دم وإزار ورداء وقد نفش جمّته كأنها برسٌ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد يا أهل الشام فإنه كتب إلي عثمان بن محمد بن أبي سفيان أن أهل المدينة أخرجوا قومنا من المدينة، ووالله لأن تقع الخضراء على الغبراء أحب إلي من هذا. قال: وكان معاوية أوصى يزيد: إن رابك من قومك ريب أو انتقض عليك منهم أحد فعليك بأعور بني مرة فاستشره، يعني مسلم بن عقبة. فلما كان تلك الليلة قال: أين مسلم بن عقبة؟ فقام فقال: ها أنا ذا، قال: كن معي. فجعل يزيد يعبّي الجيوش، وكان ابن سنان نازلاً على مسلم، فقال له: إن أمير المؤمنين قد بعثني إلى المدينة ومكة. قال: استعفه. قال: فاركب فيلاً أو فيلة وتكنّ أبا يكسوم. فمرض مسلم قبل خروجه من الشام، فدخل عليه يزيد بن معاوية فقال: قد كنت وجهتك لهذا البعث وأراك مُدنفاً؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنشدك الله أن تحرمني أجراً ساقه الله إلي، إنما هو أمر خفيف وليس علي من بأس! قال: فلم يطق من الوجع أن يركب بعيراً ولا دابة، قال: فوضع على سرير وحمله الرجال على أعناقهم حتى جاؤوا به مكاناً يقال له البتراء، فأراد النزول به، فقال: ما اسم هذا المكان؟ قيل: البتراء. قال لا تنزلوا به. فنزلوا بقهر ثم ارتحلوا حتى نزلوا الحرّة، فأرسل إلى أهل المدينة أن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول: أنتم الأصل والعشيرة فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا فإن لكم في عهد الله وميثاقه عطاءين في كل سنة: عطاء في الشتاء وعطاء في الصيف، ولكم عندي في عهد الله أن أجعل سعر الحنطة عندكم سعر الخَبَط، والخبط يومئذ سبعة أصوع بدرهم. فقالوا: نخلعه كما نخلع عمائمنا ونعالنا. فقاتلهم فهزمهم وقتل عبد الله بن حنظلة وابن حزم وبضعة عشر رجلاً من الوجوه وتسعون رجلاً من قريش وبضعة وسبعون رجلاً من الأنصار، وقتل من سائر الناس نحو أربعة آلاف رجل، وقتل ابنان لعبد الله بن جعفر، وقتل أربعة من ولد زيد بن ثابت، وقال مسلم لعبد الله بن جعفر: اخرج عن المدينة لا يقع بصري عليك. وأنهب المدينة ثلاثاً، فقتل الناس وضجّت النساء وذهبت الأموال، فلما فرغ مسلم من القتال انتقل إلى قصر ابن عامر فدعا أهل المدينة ليبايعوه، وكان ناس منهم قد تحصنوا في عرصة سعيد، منهم: محمد بن أبي جهم ونفر معه، فدعاهم للبيعة، فقال: تبايعون لعبد الله يزيد أمير المؤمنين على أنكم خَوَله مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين إن شاء وهب وإن شاء أعتق وإن شاء استرقّ؟ فبايعه ناس منهم على ذلك، وجاء عمرو بن عثمان بيزيد بن عبد الله بن زمعة، وجدته أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان عمرو بن عثمان قال لأم سلمة: أرسلي معي ابن ابنتك ولك مني عهد الله وميثاقه أن أردّه إليك كما أخذته منك، فجاء به إلى مسلم فجلس عمرو بن عثمان على طرف سريره، فلما تقدم يزيد بن عبد الله قال: تبايع ليزيد أمير المؤمنين على أنك من خوَلِه مما أفاء الله عليه بأسياف المسلمين إن شاء وهب وإن شاء أعتق وإن شاء استرق؟ فقال: لا. أنا أقرب إلى أمير المؤمنين منك. فقال: والله لا أستقيلها منك أبداً! فقال عمرو بن عثمان: أنشدك الله! فإني أخذته من أم سلمة بعهد الله وميثاقه أن أردّه إليها، قال: فركله ورمى به من فوق السرير فقال: لو قلتها ما أقلتك. فقتل يزيد بن عبد الله، ثم أتي بمحمد بن أبي جهم فقال له: أنت القائل اقتلوا سبعة عشر من بني أمية لا تروا شراً أبداً؟ قال: قد قلتها ولكن لا يطاع لقصير أمر، أرسل يدي من غلّي وقد برئت مني الذمة. قال: لا حتى أقدّمك إلى النار. فضرب عنقه، ثم جاؤوه بمعقل بن سنان وكان جالساً في بيته فأتاه مائة رجل من قومه فقالوا: اذهب بنا إلى الأمير حتى نبايعه. فقال: إني قد قلت له كلمة وإني أتخوفه. قالوا: لا والله لا يصل إليك أبداً. فلما بلغوا الباب أدخلوا معقلاً وغلّقوا الباب، فلما نظر إليه مسلم قال: إني أرى الشيخ قد لغب، اسقوه من الثلج الذي زودنيه أمير المؤمنين. قال: فخاضوا له ثلجاً بعسل فشربه. وقال: أشربت؟ قال: نعم. قال: والله لا تبوله من مثانتك أبداً. أنت القائل اركب فيلاً أو فيلة وتكنّ أبا يكسوم؟ قال: أما والله لقد تخوفت ذلك منك ولكن

غلبتني عشيرتي. قال: فجعل يفزّر جبّة عليه من برود ويقول: أما والله يا أعداء الله ما شققتها جزعاً من الموت ولكني أخشى أن تسلبوا منها. فضربت عنقه. عشيرتي. قال: فجعل يفزّر جبّة عليه من برود ويقول: أما والله يا أعداء الله ما شققتها جزعاً من الموت ولكني أخشى أن تسلبوا منها. فضربت عنقه.
ثم سار إلى مكة حتى إذا بلغ قفا المشلَّل دَنِف فدعا بحصين بن نمير الكندي فقال: يا بردعة الحمار والله ما خلق الله أحداً هو أبغض إلي منك، ولولا أن أمير المؤمنين أمرني أن أستخلفك ما استخلفتك، أتسمع؟ قال: نعم. قال: لا يكون إلا الوِقاف ثم الثقاف ثم الانصراف، لا تمكن أذنيك من قريش.
ثم مات مسلم، لا رحمه الله، فدفن بقفا المشلَّل، وكانت أم يزيد بن عبد الله بن زمعة بأسناده فخرجت إليه فنبشته وأحرقته بالنار وأخذت أكفانه فشقّقتها وعلقتها بالشجرة.
قال أبو معشر: أقبلت من مكة حتى إذا كنت بقفا المشلَّل عند قبر مسلم إذا رجل من أهل الشام ممّن حضر وقعة الحرّة يسايرني، فقلت له: هذا قبر مسلم بن عقبة. فقال: أحدثك بالعجب؟ كان مع مسلم رجل من أهل الشام يقال له أبو الغرّاء فإذا نصف شعره أسود ونصفه أبيض، فقلت له: ما شأنك؟ قال: لما كانت ليلة الحرّة جئت قُبَاء فدخلت بيتاً فإذا فيه امرأة جالسة معها صبي لها وليس عليها شيء إلا درع وقد ذُهب بكل شيء لها، فقلت لها: هل من مال؟ قالت: لا والله لقد بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أني لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي. قال: فأخذت برجل الصبي فضربت به الحائط. فنثر دماغه، فخرجت فإذا نصف رأسي أبيض ونصفه أسود كما ترى.

محاسن ما قيل فيهم من الأشعار
قال كعب بن زهير في الحسين بن علي، رحمة الله عليهما:
مسح النبيُّ جبينه ... فله بياضٌ في الخدود
وبوجهه ديباجةٌ ... كرم النبوة والجدود
قال: وأنشد الحميريّ في الحسن والحسين:
أتى حسناً والحسينَ الرسولُ ... وقد برزا حجرةً يلعبان
فضمّهما وتفدّاهما ... وكانا لديه بذاك المكان
ومر وتحتهما عاتقاه ... فنعم المطيّة والراكبان
قال: وقال المأمون: أنصف شاعر الشيعة حيث يقول:
أنا وإياكم نموت فلا ... أفلح بعد الممات من ندما
وقال المأمون:
ومن غاوٍ يغصُّ عليّ غيظاً ... إذا أدنيت أولاد الوصيّ
يحاول أن نور الله يطفى ... ونور الله في حصن أبيّ
فقلت أليس قد أوتيت علماً ... وبان لك الرشيد من الغوي
وعُرّفتُ احتجاجي بالمثاني ... وبالمعقول والأثر القويّ
بأية خلّةٍ وبأي معنىً ... تفضِّل ملحدين على عليّ
عليّ أعظم الثقلين حقاً ... وأفضلهم سوى حق النبيّ
قال غيره وأجاد:
إن اليهود بحبها لنبيها ... أمنت معرّة دهرها الخوّان
وذوو الصليب بحب عيسى أصبحوا ... يمشون زهواً في قرى نجران
والمؤمنون بحب آل محمد ... يرمون في الآفاق بالنيران
وقال آخر، سامحه الله:
يا لك من متجرة كاسده ... بين شياطين عتت مارده
إذا تذكّرت بني أحمدٍ ... تنافروا كالإبل الشارده
فقل لمن يلحاك في حبهم ... خانتك في مولدك الوالده
وقال دعبل، رحمه الله تعالى:
قل لابن خائنة البعول ... وابن الجوادة والبخيل
إن المذمة للوصيّ ... هي المذمة للرسول
أتذمّ أولاد النبي ... وأنت من ولد النُّغُول
الموصلي النصراني:
عَدِي ونعيمٌ لا أحاول ذكرهم ... بسوءٍ ولكني محبٌ لهاشم
وهل تأخُذَنّي في عليٍّ وحبه ... إذا لم أعِث يوماً ملامة لائم
يقولون ما بال النصارى تحبه ... وأهل التقى من معربٍ وأعاجم
فقلت لهم إني لأحسب حُبّهُ ... طواه إلهي في قلوب البهائم
وفي بني أمية قيل: دخل خالد بن خليفة الأقطع على أبي العباس وعنده علي بن هشام بن عبد الملك فأشار إلى أبي العباس وهو يقول شعراً:

إن تعاقبهم على رقة الدّي ... ن فقد كان دينُهمْ سامريّا
كان فحلاً زمانهم يرمح النا ... س فأضحى الزمانُ منهم خصيّا

محاسن السبق إلى الإسلام
روي عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: خرج أبو بكر، رضي الله عنه، يريد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام وكان له صديقاً في الجاهلية فلقيه فقال: يا أبا القاسم قعدت في مجالس قومك واتهموك بالعيب لآبائها وأديانها. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إني رسول الله أدعوك إلى الله. فما كان إلا أن سمع أبو بكر كلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فشرح الله صدره فأسلم، فانصرف عنه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما بين الأخشبين أحد أكثر سروراً بإسلام أبي بكر، رضي الله عنه، منه.
ومضى أبو بكر حتى أتى طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا، ثم عثمان بن مظعون وأبو عبيدة بن الجراح وعبد الرحمن بن عوف وأبو سلمة بن عبد الأسد والأرقم بن أبي الأرقم مع أبي بكر فأسلموا.

وأما إسلام عمر، رضي الله عنه، فإن قريشاً بعثت بعمر، رضي الله عنه، ليقتل النبي، صلى الله عليه وسلم، فخرج عمر متقلداً سيفه في أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ في دار في أصل الصفا، فلقيه نعيم بن عبد الله بن أسيد وقد أسلم فقال: يا عمر أين أراك تريد؟ قال: أريد محمداً هذا الذي سفّه عقولنا وشتم آلهتنا وخالف جماعتنا لأقتلنه! قال نعيم: لبئس المشي والله مشيت يا عمر! ولقد أفرطت وأردت هلكة عدي بن كعب بمعاداتك بني هاشم، أوَترى أنك آمن من أعمامه وبني زهرة وقد قتلت محمداً افتخاراً؟ حتى ارتفعت أصواتهما. فقال له عمر: والله لأظنك قد صبوت ولو أعلم ذلك منك لبدأت بك. فلما رأى نعيم أنه غير منته قال: أما إن أهلك قد أسلموا وتركوك وما أنت عليه. فلما سمع ذلك نغر وقال: أيهم؟ قال: ختنك وابن عمك وأختك. فانطلق إلى أخته وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع عليه طائفة من ذوي الفاقة من أصحابه فقال لأولي السعة: يا فلان فليكن عندك فلان، فوافق ابن عم عمر وختنه سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل قد دفع إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خبّاب بن الأرتّ مولى أم انمار حليف بني زهرة، وقد أنزلت سورة طه، فأقبل عمر حتى انتهى إلى باب دار أخته ليتعرف ما بلغه، فإذا خبّاب عند أخته يدرس عليها سورة طه، وإذا الشمس كوّرت، فلما دخل عمر أحذرته أخته وعرفت الشر في وجهه وخبأت الصحيفة، وراغ خبّاب فدخل البيت، فقال عمر لأخته: ما هذه الهينمة؟ قالت: حديث نتحدث به بيننا، فحلف أن لا يبرح حتى يتبين شأنها. فقال له زوجها: إنك لا تستطيع أن تجمع الناس على هواك يا عمي إن كان الحق سواه. فبطش به عمر ووطئه وطأً شديداً. فقامت أخت عمر تحجز بينهما فنفحها بيده فشجها. فلما رأت الدم قالت: هل تسمع يا عمر؟ أرأيت كل شيء بلغك عني مما يذكر من تركي آلهتك وكفري باللات والعزى فهو حق وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فاتمم أمرك واقض ما أنت قاض. فلما رأى عمر ذلك سقط في يده فقال لأخته: أرأيت ما كنت تدرسين آنفاً؟ أعطيك موثقاً لا أمحوه حتى أرده إليك ولا أخونك فيه. فلما رأت أخته حرصه على الكتاب رجت أن يكون ذلك لدعوة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالت له: إنك نجسٌ ولا يمسه إلا المطهرون. فقام واغتسل من الجنابة وأعطاها موثقاً، فاطمأنت به ودفعت إليه الصحيفة، فقرأ طه حتى بلغ: " إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كلُّ نفسٍ بما تسعى فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى " ، وقرأ: " إذا الشمس كُوّرت " ، حتى انتهى إلى قوله: " علمت نفسٌ ما أحضرت " ، فأسلم عند ذلك وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وخلع الأنداد وكفر باللات والعزى، فخرج خبّاب وكان داخلاً في البيت مكبّراً وقال: ابشر بكرامة الله يا عمر فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا أن يُعزّ الله بك الإسلام. فقال عمر: دلّوني على المنزل الذي فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال له خبّاب: هو في الدار التي في أصل الصفا. فأقبل عمر وقد بلغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن عمر يطلبه ليقتله ولم يبلغه إسلامه، فلما انتهى عمر إلى الباب ليستفتح رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، متقلداً سيفه فأشفقوا منه، فلما رآه حمزة وحده قال: افتحوا فإن كان الله يريد بعمر خيراً اتبع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصدّقه، وإن كان غير ذلك قتلناه بسيفه ويكون قتله علينا هيّناً. فابتدره رجال من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوحى إليه، فسمع صوت عمر فخرج ليس عليه رداء حتى أخذ بمجمع رداء عمر وقميصه وقال له: أما والله ما أراك تنتهي يا عمر حتى ينزل الله جل وعز بك من الزجر ما أنزله بالوليد بن المغيرة. ثم قال: اللهم اهد عمر. فضحك عمر وقال: يا رسول الله أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك محمد عبده ورسوله فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها من وراء الدار والمسلمون يومئذ بضعة وأربعون رجلاً وإحدى عشرة امرأة، ثم قال عمر: يا رسول الله نحن بالإسلام أحق أن نبادى منا بالكفر فليظهرن دين الله عز وجل بمكة. فخرج عمر وجلس في المسجد وصلى علانية وأظهر الإسلام، فلم يزل الدين عزيزاً منذ أسلم عمر، رضي الله عنه.

وأما إسلام عثمان فإنه روي أن عثمان بن عفان، رحمه الله، قال: دخلت على جدتي بنت عبد المطلب أعودها فإني لعندها إذ جاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعودها فجعلت أنظر إليه وقد نشر من شأنه حينئذ شيئاً، فأقبل علي فقال: ما شأنك يا عثمان؟ فجعل لي إلى الكلام سبيلاً، فقلت: أعجب منك ومن مكانك فينا وفي قومك وما يقال عليك، فقال: لا إله إلا الله، فالله يعلم أني اقشعررت. ثم قال: " وفي السماء رزقكم وما توعدون، فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " ، فقام فقمت في أثره، عليه السلام، فأسلمت.

مساوئ من ارتد عن الإسلام
منهم جبلة بن الأيهم الغساني، لما افتتحت الشام ونظر جبلة إلى هدي المسلمين ووقارهم أحب الدخول في الإسلام فسار نحو المدينة إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، فلما بلغ عمر قدومه قال للمهاجرين: استقبلوه وأظهروا تعظيمه وتبجيله فإنه قريب العهد بالملك. فاستقبله الناس وأظهروا بره، وأقبل جبلة حتى دخل على عمر، رضي الله عنه، فقرب مجلسه وأدناه ووعده من نفسه خيراً، فأسلم وأقام بالمدينة حتى إذا حضر أوان الموسم حج عمر، رحمه الله، وخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت محرماً وعليه إزاران قد تردى بواحد واتّزر بالآخر إذ وطيء رجل طرف إزاره فانحلّ عنه حتى بدت عورته، فغضب ووثب على الرجل فلطمه، فتعلق به الرجل وجماعة معه وانطلقوا به إلى عمر، رضي الله عنه، وشهدوا عليه. فقال عمر: أقِدِ الرجل أو استوهبه منه. فقال جبلة: وكذلك هذا الدين لا يفضل فيه شريف على وضيع ولا ملك على سوقة؟ قال عمر: قال الله تعالى، وقوله الحق: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " ، إن الناس شريفهم ووضيعهم في الحق سواء. فانصرف جبلة، فلما جنّ عليه الليل خرج في حشمه وعياله حتى لحقوا بأرض الشام مرتداً عن الإسلام، فكتب عمر إلى أبي عبيدة بن الجراح فأمره أن يستتيب جبلة فإن تاب وإلا ضرب عنقه، وبلغ ذلك جبلة فخرج من أرض الشام حتى دخل أرض الروم وأتى الملك فأخبره بأمره ورجوعه إلى النصرانية، فسرّ الملك بقدومه واستخلفه على ملكه وجعله جائز الأمر في سلطانه، فأقام عنده، فلما ولي معاوية بن أبي سفيان بعث رجلاً من الأنصار يقال له تميم بن بشر إلى قيصر ملك الروم في بعض أموره، قال تميم: فلما دخلت على قيصر أبلغته الرسالة وجلست عنده فحدثني مليّاً ثم قال: هل لك في لقاء رجل من العرب من أهل بيت الملك؟ فقلت: ومن هو؟ قال: جبلة بن الأيهم. قلت: إن لي في ذلك أملاً وإني لرجل من قومه، فبعث معي رجلاً حتى أدخلني عليه وهو في مجلس له يغشى العيون حسنه وكثرة تصاويره، مطلية حيطانه بماء الذهب والفضة، يتلألأ تلألؤاً وحوله نفر من بطارقة الروم، فسألني من أنا، فانتسبت له، فقال: حياك الله فإننا بنو عم. ثم أمر جلساءه فخرجوا من عنده وخلا بي يسألني عن العرب وأماكنها، فخبرته بجميع ما سألني عنه، فبكى حتى اخضلت لحيتَه الدموعُ ثم أنشأ يقول:
تنصرت بعد الدين من عار لطمةٍ ... وما كان فيها لو صبرت لها ضررْ
تكنّفني منها لجاجٌ ونخوةٌ ... فبعت بها العين الصحيحة بالعوَرْ
ويا ليت أمي لم تلدني وليتني ... ثويتُ أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرةٍ ... ولم أنكر القول الذي قاله عمر
ويا ليت لي بالشأم أدنى معيشةٍ ... أجالس قومي في العشيات والبكر
أدين لما دانوا به من شريعةٍ ... وقد يجلس العير الضجور على الدبُر
قال: ثم دعا بغدائه فتغدينا، فلما فرغنا خرجت علينا جاريتان في يد إحداهما بربطٌ وفي يد الأخرى مزمار فجلستا، ثم خرجت علينا جاريتان في يد إحداهما جام فيه مسك مسحوق وفي يد الأخرى جام مملوء ماء ورد، ثم أقبل طائران كانا شبيهين بطاؤوسين أو تدرُجين فسقطا في الجام واحتملا المسك بجناحيهما فرشاه علينا، وقال جبلة للمغنيتين: غنيانا، فغنتاه:
لمن الدار أقفرت بمُعان ... بين أعلى اليرموك فالمسربان
ذاك مغنىً لآل جفنة في الده ... ر وحق ٌ تصرف الأزمان
قد أراني هناك حقاً مكيناً ... عند ذي التاج مقعدي ومكاني
قال: ثم بكى حتى اخضلت دموعه لحيته، ثم قال: غنياني، فغنتاه:

لله درُّ عصابةٍ نادمتهم ... يوماً بجلِّقَ في الزمان الأول
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المِفْضَل
يسقون من هبط البريص عليهم ... بردى يُصفِّقُ بالرحيقِ السلسل
يُغشون حتى ما تهرّ كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم ... شُمَّ الأنوفِ من الطراز الأول
ثم قال لي: ما فعل ابن الفريعة؟ يعني حسان بن ثابت. قلت: حيّ إلا أنه كُفّ بصره. فوجد من ذلك وجداً شديداً وبكى وقال لخادم له: انطلق فأتني بأربعمائة دينار، فأتاه بها، فناولنيها وقال: أوصلها إلى حسان. ثم ودّعته وخرجت حتى أتيت معاوية فأخبرته بجواب رسالة قيصر ثم سرت من الشام حتى أتيت المدينة ولقيت حسان ودفعت إليه الدنانير، فقال:
إن ابن جفنة من بقية معشرٍ ... لم يغذُهم آباؤهم باللُّوم
لم ينسني بالشأم إذ هو ربها ... يوماً ولا متنصراً بالروم
يعطي الجزيل فما يراه عنده ... إلا كبعض عطية المذموم
ما جئته إلا وقرّب مجلسي ... ودعا بأفضل زاده المطعوم

محاسن المفاخرة
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
وقال يوسف، عليه السلام: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظٌ عليمٌ.
قيل: وسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رجلاً ينشد:
إني امرؤٌ حِميريّ حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر
فقال: ذلك ألأم لك وأبعد من الله ورسوله، وقال: صلى الله عليه وسلم: إذا اختلف الناس فالحق مع مضر، وقال:
إذا مضر الحمراء كانت أرومتي ... وقام بنصري خازمٌ وابن خازم
عطست بأنفي شامخاً وتناولت ... يداي الثّريّا قاعداً غير قائم
شعيب بن إبراهيم قال: حدثني سيف بن عمر عن علي بن يزيد عن عبد الله بن الحارث عن المطلب بن ربيعة قال: مر العباس بنفر من قريش وهم يقولون: إنما مثل محمد، صلى الله عليه وسلم، في أهله كمثل نخلة نبتت في كِباً، فبلغ ذلك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوجد منه وخرج حتى قام فيهم خطيباً فقال: أيها الناس من أنا؟ قالوا: أنت رسول الله.
قال: فأنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إن الله عز وجل خلق خلقه فجعلني من خير خلقه ثم جعل الخلق الذين أنا منهم فرقتين فجعلني من خير الفرقتين ثم جعلهم شعوباً فجعلني من خيرهم شعباً ثم جعلهم بيوتاً فجعلني من خيرهم بيتاً، فأنا خيركم بيتاً وخيركم والداً، وإني مباه، قم يا عباس، فقام عن يمينه، ثم قال: قم يا سعد، فقام عن يساره، ثم قال: يقرّب امرؤ من الناس عمّاً مثل هذا أو خالاً مثل هذا.
حدثنا سنان بن الحسن التستري قال: حدثنا إسماعيل بن مهران اليشكري قال: حدثنا أحمد بن محمد عن أبان بن عثمان عن عكرمة عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: لما أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه ومعه أبو بكر، وكان أبو بكر عالماً بأنساب العرب، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب عليهم الوقار والسكينة، فتقدم أبو بكر وسلّم عليهم فردّوا عليه السلام، فقال: ممّن القوم؟ فقالوا: من ربيعة. فقال: أمن هامتها أم من لهازمها؟ قالوا: بل من هامتها العظمى. قال: وأي هاماتها؟ قالوا: ذُهْل. قال: أذُهل الأكبر أم ذهل الأصغر؟ قالوا: بل ذهل الأكبر. قال: أمنكم عوف الذي كان يقول لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم بسطام بن قيس صاحب اللواء ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم جسّاس بن مرّة حامي الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: فأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: أصهار الملوك من لخم؟ قالوا: لا. قال: فلستم ذهل الأكبر إذاً أنتم ذهل الأصغر، فقام إليه غلام أعرابي حسن بَقَل وجهه فأخذ بزمام ناقته ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، على ناقته يسمع مخاطبته، فقال:
لنا على من سالنا أن نسأله ... والعِبءُ لن نعرفه أو تحمله

يا هذا إنك سألتنا أي مسألة شئت فلم نكتمك شيئاً فأخبرنا ممّن أنت؟ فقال أبو بكر، رضي الله عنه: من قريش. قال بخ بخ أهل الشرف والرئاسة، فأخبرني من أي قريش أنت؟ قال: من تميم بن مرّة. قال: أفمنكم قصي بن كلاب الذي جمّع القبائل من فهر فكان يقال له مجمّع؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال أبو بكر: لا. قال: أفمنكم شيبة الحمد الذي كان وجهه قمراً يضيء ليلة الظلمة الداجية مطعم طير السماء؟ قال: لا. قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الرفادة أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل السقاية أنت؟ قال: لا. قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: أما والله لو شئت لأخبرتك أنك لست من أشراف قريش، فاجتذب أبو بكر زمام ناقته منه كهيئة المغضب، فقال الأعرابي:
صادف دَرَّ السيل درٌ يدفعه ... في هضبةٍ ترفعه وتضعه
فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال علي: فقلت: يا أبا بكر إنك لقد وقعت من هذا الأعرابي على باقعة! فقال: أجل يا أبا الحسن ما من طامّة إلا فوقها طامّة وإن البلاء موكّل بالمنطق.

محاسن كلام الحسن بن علي
رضي الله عنه
قيل: وأتى الحسن بن علي، رضي الله عنهما، معاوية بن أبي سفيان وقد سبقه ابن عباس فأمر معاوية فأنزل، فبينا معاوية مع عمرو بن العاص ومروان ابن الحكم وزياد بن أبي سفيان يتحاورون في قديمهم وحديثهم ومجدهم، فقال معاوية: أكثرتم الفخر فلو حضركم الحسن بن علي وعبد الله بن العباس لقصّرا من أعنّتكما ما طال. فقال زياد: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين، ما يقومان لمروان ابن الحكم في غرب منطقه ولا لنا في بواذخنا؟ فابعث إليهما في غدٍ حتى نسمع كلامهما. فقال معاوية لعمرو: ما تقول؟ قال هذا: فابعث إليهما في غدٍ، فبعث إليهما معاوية ابنه يزيد، فأتياه ودخلا عليه وبدأ معاوية فقال: إني أُجلّكما وأرفع قدركما عن المسامرة بالليل ولا سيما أنت يا أبا محمد فإنك ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة. فتشكّرا له، فلما استويا في مجلسهما وعلم عمرو أن الحدّة ستقع به قال: والله لا بدّ أن أقول فإن قَهرتُ فسبيل ذلك وإن قُهرتُ أكون قد ابتدأت. فقال: يا حسن إنا تفاوضنا فقلنا إن رجال بني أمية أصبر عند اللقاء وأمضى في الوغى وأوفى عهداً وأكرم خيماً وأمنع لما وراء ظهورهم من بني عبد المطلب. ثم تكلم مروان فقال: وكيف لا تكون كذلك وقد قارعناكم فغلبناكم، وحاربناكم فملكناكم، فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله ويجحدوا الخير في مظانّه، نحن أهل الحملة في الحروب ولنا الفضل على سائر الناس قديماً وحديثاً. فتكلم الحسن، رضي الله عنه، فقال: ليس من العجز أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة ولكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا ويصوّر الباطل بصورة الحق. يا عمرو أفتخاراً بالكذب وجراءة على الإفك! ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة وأمسك عنها أخرى فتأبى إلا انهماكاً في الضلالة، أتذكر مصابيح الدجى وأعلام الهدى وفرسان الطراد وحتوف الأقران وأبناء الطعان وربيع الضيفان ومعدن النبوة ومهبط العلم وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال وتساورت الأقران واقتحمت الليوث واعتركت المنيّة وقامت رحاؤها على قطبها وفرّت عن نابها وطار شرار الحرب فقتلنا رجالكم ومنّ النبيّ، صلى الله عليه وسلم، على ذراريكم فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب! ثم قال: وأما أنت يا مروان فما أنت والإكثار في قريش وأنت طليق وأبوك طريد يتقلّب من خزاية إلى سوءة ولقد جيء بك إلى أمير المؤمنين، فلما رأيت الضّرغام قد دميت براثنه واشتبكت أنيابه كنت كما قال:
ليثٌ إذا سمع الليوث زئيرهُ ... بصبصنَ ثم قذفن بالأبعار
ويروى رمين بالأبعار.

فلما منّ عليك بالعفو وأرخى خناقك بعدما ضاق عليك وغصِصت برِيقكَ لا تقعد معنا مقعد أهل الشكر ولكن تساوينا وتجارينا ونحن ممّن لا يدركنا عار ولا يلحقنا خزاية! ثم التفت إلى زياد فقال: وما أنت يا زياد وقريشاً لا أعرف لك فيها أديماً صحيحاً ولا فرعاً نابتاً ولا قديماً ثابتاً ولا منبتاً كريماً بل كانت أمّك بغيّاً تداولها رجال قريش وفجّار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والداً فادّعاك هذا، يعني معاوية، بعد ممات أبيه، ما لك افتخار تكفيك سُميّة ويكفينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي علي بن أبي طالب سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه وعمي حمزة سيد الشهداء وجعفر الطيار وأنا وأخي سيدا شباب أهل الجنة! ثم التفت إلى ابن عباس فقال: يا ابن العم إنما هي بغاث الطير انقضّ عليها أجدل. فأراد ابن عباس أن يتكلم فأقسم عليه معاوية أن يكف فكفّ ثم خرجا، فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت وتكلم مروان لولا أنه نكص. ثم التفت إلى زياد وقال: ما دعاك إلى محاورته؟ ما كنت إلا كالحجل في كف البازي، فقال عمرو: ألاّ رميت من ورائنا؟ قال معاوية: إذاً كنت شريككم في الجهل، أفاخر رجلاً رسول الله جده وهو سيد من مضى ومن بقي وأمه فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين؟ ثم قال لعمرو: والله لئن سمع به أهل الشام لهي السوءة السَّوآء. فقال عمرو: لقد أبقى عليك ولكنه طحن مروان طحن الرحى بثفالها ووطئها وطء البازل القُراد بمنسِمه. فقال زياد: قد والله فعل ولكن معاوية يأبى إلا الإغراء بيننا وبينهم، لا جرم والله لا شهدت مجلساً يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما. فخلا ابن عباس بالحسن فقبّل بين عينيه وقال: أفديك يا ابن عم، والله ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا. ثم إن الحسن، رضي الله عنه، غاب أياماً ثم رجع حتى دخل على معاوية وعنده عبد الله بن الزبير، فقال معاوية: يا أبا محمد إني أظنك تعباً نصباً فأتِ المنزل فأرح نفسك فيه. فقام الحسن، فلما خرج قال معاوية لعبد الله بن الزبير: لو افتخرت على الحسن فإنك ابن حواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وابن عمته ولأبيك في الإسلام نصيب وافر. فقال ابن الزبير: أنا له! فرجع وهو يطلب ليلته الحجج، فلما أصبح دخل على معاوية، وجاء الحسن فحيّاه معاوية وسأله عن مبيته فقال: خير مبيت وأكرم مستفاض. فلما استوى في مجلسه قال ابن الزبير: لولا أنك خوّار في الحرب غير مقدام ما سلّمتَ لمعاوية الأمر وكنت لا تحتاج إلى اختراق السهوب وقطع المفاوز تطلب معروفه وتقوم ببابه، وكنت حريّاً أن لا تفعل ذلك وأنت ابن علي في بأسه ونجدته، فما أدري ما الذي حملك على ذلك، أضعف رأيٍ أم وهن نحيزة، فما أظن لك مخرجاً من هاتين الخلتين، أما والله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أني ابن الزبير وأني لا أنكص عن الأبطال، وكيف لا أكون كذلك وجدّتي صفية بنت عبد المطلب وأبي الزبير حواريّ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأشد الناس بأساً وأكرمهم حسباً في الجاهلية وأطوعهم لرسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فالتفت إليه الحسن وقال: أما والله لولا أن بني أمية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاوناً، واكن سأبين ذلك لك لتعلم أني لست بالعيّ ولا الكليل اللسان، إياي تعيّر وعليّ تفتخر ولم يكن لجدك بيت في الجاهلية ولا مكرمة فزوّجتْه جدتي صفية بنت عبد المطلب فبذخ على جميع العرب بها وشرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة واسطتها ومن الأشراف سادتها؟ نحن أكرم أهل الأرض زنداً، لنا الشرف الثاقب والكرم الغالب، ثم تزعم أني سلّمت الأمر لمعاوية، فكيف يكون ذلك ويحك كذلك وأنا ابن أشجع العرب وقد ولدتْني فاطمة سيدة نساء العالمين وخير الإماء؟ لم أفعل ذلك ويحك جُنباً ولا ضُعفاً ولكنه بايعني مثلك وهو يطلبني بِبرّة ويداجيني المودة ولم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر، وكيف لا يكون كما أقول وقد بايع أبوك أمير المؤمنين ثم نكث بيعته ونكص على عقبيه واختدع حشية من حشايا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ليضلّ بها الناس، فلما دلف نحو الأعنّة ورأى بريق الأسنّة قُتل مَضيعةً لا نَاصر له وأُتي بك أسيراً قد وطئتك الكماة بأظلافها والخيل بسنابكها واعتلاك الأشتر فغصصت بريقك وأقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث؟ فنحن

ويحك نور البلاد وأملاكها وبنا تفخر الأمة وإلينا تُلقى مقاليد الأزمّة، أنصول وأنت تختدع النساء ثم تفتخر على بني الأنبياء؟ لم تزل الأقاويل منّا مقبولةً وعليك وعلى أبيك مردودةً، دخل الناس في دين جدّي طائعين وكارهين ثم بايعوا أمير المؤمنين، رضي الله عنه، فسار إلى أبيك وطلحة حين نكثا البيعة وخدعا عرس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل أبوك وطلحة وأُتي بك أسيراً، فبصبصت بذنبك وناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي وأنا سيدك وسيد أبيك، فذق وبال أمرك! فقال ابن الزبير: اعذر يا أبا محمد فإنما حملني على محاورتك هذا وأحب الإغراء بيننا فهلاّ إذ جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيّتكم الحلم والعفو! فقال الحسن: يا معاوية انظر هل أكيع عن محاورة أحد، ويحك أتدري من أي شجرة أنا وإلى من أنتمي؟ انتَه قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الآفاق والبلدان، فقال ابن الزبير: هو لذلك أهل. فقال معاوية: أما إنه قد شفى بلابل صدري منك ورمى مقتلك فصرت كالحجل في كف البازي يتلاعب بك كيف أراد فلا أراك تفتخر على أحد بعدها.ويحك نور البلاد وأملاكها وبنا تفخر الأمة وإلينا تُلقى مقاليد الأزمّة، أنصول وأنت تختدع النساء ثم تفتخر على بني الأنبياء؟ لم تزل الأقاويل منّا مقبولةً وعليك وعلى أبيك مردودةً، دخل الناس في دين جدّي طائعين وكارهين ثم بايعوا أمير المؤمنين، رضي الله عنه، فسار إلى أبيك وطلحة حين نكثا البيعة وخدعا عرس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقتل أبوك وطلحة وأُتي بك أسيراً، فبصبصت بذنبك وناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي وأنا سيدك وسيد أبيك، فذق وبال أمرك! فقال ابن الزبير: اعذر يا أبا محمد فإنما حملني على محاورتك هذا وأحب الإغراء بيننا فهلاّ إذ جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيّتكم الحلم والعفو! فقال الحسن: يا معاوية انظر هل أكيع عن محاورة أحد، ويحك أتدري من أي شجرة أنا وإلى من أنتمي؟ انتَه قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الآفاق والبلدان، فقال ابن الزبير: هو لذلك أهل. فقال معاوية: أما إنه قد شفى بلابل صدري منك ورمى مقتلك فصرت كالحجل في كف البازي يتلاعب بك كيف أراد فلا أراك تفتخر على أحد بعدها.
وذكروا أن الحسن بن علي دخل على معاوية فقال متمثلاً:
فيم الكلام وقد سبقت مبرِّزاً ... سبق الجواد من المدى والمقيس
فقال معاوية: إياي تعني؟ أما والله لأنبئنّك بما يعرفه قلبك ولا ينكره جلساؤك، أنا ابن بطحاء مكة، أنا ابن أجودها جوداً وأكرمها جدوداً وأوفاها عهوداً، أنا ابن من ساد قريشاً ناشئاً وكهلاً. فقال الحسن، رضي الله عنه: أجل إياك أعني، أفعليّ تفتخر يا معاوية؟ أنا ابن ماء السماء وعروق الثرى وابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثابت والشرف الفائق والقديم السابق، أنا ابن من رضاه رضى الرحمن وسخطه سخط الرحمن، فهل لك أبٌ كأبي وقديم كقديمي؟ فإن قلت لا تُغلب وإن قلت نعم تكذب. فقال معاوية: أقول لا تصديقاً لقولك. فقال الحسن:
الحقّ أبلج ما تخون سبيله ... والصدق يعرفه ذوو الألباب
تخون أي ما تخون من سلكها، قال: وقال معاوية ذات يوم وعنده أشراف الناس من قريش وغيرهم: أخبروني بخير الناس أباً وأماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. فقام مالك بن العجلان فأومأ إلى الحسن فقال: ها هوذا أبوه علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم، وأمه فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمه جعفر الطيار في الجنان، وعمته أم هانيء بنت أبي طالب، صلى الله عليه وسلم، وخاله القاسم بن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخالته بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زينب، وجده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وجدته خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها. فسكت القوم ونهض الحسن، فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: أحب بني هاشم حملك على أن تكلمت بالباطل؟ فقال ابن العجلان: ما قلت إلا حقاً وما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق إلا لم يعط أمنيته في دنياه وختم له بالشقاء في آخرته، بنو هاشم أنضرهم عوداً وأوراهم زنداً، كذلك يا معاوية. قال: اللهم نعم.

قيل: واستأذن الحسن بن علي، رضي الله عنه، على معاوية وعنده عبد الله ابن جعفر وعمرو بن العاص، فأذن له، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الأفَهّ العييّ الذي كان بين لحييه عبلة. فقال عبد الله بن جعفر: مه فوالله لقد رمت صخرة ململمة تنحطّ عنها السيول وتقصر دونها الوعول ولا تبلغها السهام، فإياك والحسن إياك، فإنك لا تزال راتعاً في لحم رجل من قريش ولقد رميت فما برح سهمك وقدحت فما أورى زندك. فسمع الحسن الكلام، فلما أخذ الناس مجالسهم قال: يا معاوية لا يزال عندك عبدٌ راتعاً في لحوم الناس، أما والله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الأمور وتحرّج منه الصدور، ثم أنشأ يقول:
أتأمر يا معاويَ عبد سهمٍ ... بشتمي والملا منا شهود
إذا أخذت مجالسها قريشٌ ... فقد علمت قريشٌ ما تريد
قصدت إليّ تشتمني سفاهاً ... لضغنٍ ما يزول وما يبيد
فما لك من أبٍ كأبي تسامي ... به من قد تسامي أو تكيد
ولا جدٌّ كجدي يا ابن هندٍ ... رسول الله إن ذكر الجدود
ولا أمٌ كأمي من قريشٍ ... إذا ما يحصل الحسب التليد
فما مثلي تُهُكِّم يا ابن هندٍ ... ولا مثلي تجاريه العبيد
فمهلاً لا تهج منا أموراً ... يشيب لها معاوية الوليد
وذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم: ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب على المنبر فلعله يحصر فيكون ذلك مما نعيّره به، فبعث إليه معاوية فأصعد المنبر وقد جمع له الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس من عرفني فأنا الذي يُعرف ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي بن أبي طالب بن عم النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أنا ابن البشير النذير السراج المنير، أنا ابن من بعث رحمةً للعالمين وسخطاً على الكافرين، أنا ابن من بعث إلى الجن والإنس، أنا ابن المستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة ونصر بالرعب من مسيرة شهر. فافتنّ في هذا الكلام ولم يزل حتى أظلمت الدنيا على معاوية، فقال: يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة ولست هناك. فقال الحسن: إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمل بطاعة الله، وليس الخليفة من دان بالجور وعطّل السنن واتخذ الدنيا أباً وأماً، ولكن ذاك ملك أصاب مُلكاً يُمتَّع به قليلاً وكان قد انقطع عنه واستعجل لذّته وبقيت عليه تبعته فكان كما قال الله جل وعز: وإن أدري لعله فتنةٌ لكم ومتاعٌ إلى حين، ثم انصرف، فقال معاوية لعمرو: والله ما أردت إلا هتكي! ما كان أهل الشام يرون أن أحداً مثلي حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.

قيل: وقدم الحسن بن علي، رضوان الله عليه، على معاوية، فلما دخل عليه وجد عنده عمرو بن العاص ومروان بن الحكم والمغيرة بن شعبة وصناديد قومه ووجوه اليمن وأهل الشام، فلما نظر إليه معاوية أقعده على سريره وأقبل عليه بوجهه يريه السرور بمقدمه، فلما نظر مروان إلى ذلك حسده وكان معاوية قال لهم: لا تحاوروا هذين الرجلين فلقد قلدّاكم العار وفضحاكم عند أهل الشام، يعني الحسن بن علي، رضي الله عنهما، وعبد الله بن العباس، رضي الله عنهما، فقال مروان: يا حسن لولا حلم أمير المؤمنين وما قد بنى له آباؤه الكرام من المجد والعلاء ما أقعدك هذا المقعد ولقتلك وأنت له مستوجب بقودك الجماهير، فلما أحسست بنا وعلمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام وصناديد بني أمية أذعنت بالطاعة واحتجرت بالبيعة وبعثت تطلب الأمان، أما والله لولا ذلك لأريق دمك، وعلمت أنا نعطي السيوف حقها عند الوغى، فاحمد الله إذ ابتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثم صنع بك ما ترى، فنظر إليه الحسن فقال: ويحك يا مروان لقد تقلدت مقاليد العار في الحروب عند مشاهدتها والمخاذلة عند مخالطتها، نحن، هَبِلتك الهوابل، لنا الحجج البوالغ ولنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ، ندعوكم إلى النجاة وتدعوننا إلى النار، فشتان ما بين المنزلتين، تفخر ببني أمية وتزعم أنهم صُبّر في الحروب أُسد عند اللقاء، ثكلتك أمك أولئك البهاليل السادة والحماة الذادة والكرام القادة بنو عبد المطلب، أما والله لقد رأيتهم وجميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال ولم يحيدوا عن الأبطال كالليوث الضاربة الباسلة الحنقة، فعندها ولّيت هارباً وأُخذت أسيراً فقلّدت قومك العار لأنك في الحروب خوّار، أيراق دمي زعمت؟ أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل وأنت تثغو ثغاء النعجة وتنادي بالويل والثبور كالأمة اللكعاء، ألا دفعت عنه بيدٍ أو ناضلت عنه بسهم؟ لقد ارتعدت فرائصك وغشي بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه، فأنجيتك من القتل ومنعتك منه ثم تحثّ معاوية على قتلي، ولو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان، أنت معه أقصر يداً وأضيق باعاً وأجبن قلباً من أن تجسر على ذلك ثم تزعم أني ابتُليت بحلم معاوية، أما والله لهو أعرف بشأنه وأشكر لما ولّيناه هذا الأمر فمتى بدا له فلا يغضينّ جفنه على القذى معك، فوالله لأثخننّ أهل الشام بجيش يضيق عنه فضاؤها ويستأصل فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب والروغان ولا يردّ عنك الطلب تدريجك الكلام، فنحن ممّن لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر وفروعنا السادة الأخيار، انطق إن كنت صادقاً. فقال عمرو: ينطق بالخنى وتنطق بالصدق. ثم أنشأ يقول:
قد يضرط العير والمكواة تأخذه ... لا يضرط العير والمكواة في النار
ذق وبال أمرك يا مروان. وأقبل عليه معاوية فقال: قد كنت نهيتك عن هذا الرجل وأنت تأبى إلا انهماكاً فيما لا يعنيك، اربع على نفسك فليس أبوك كأبيه ولا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد وهو ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الكريم، ولكن رُبّ باحث عن حتفه وحافر عن مديته. فقال مروان: ارم من دون بيضتك وقم بحجة عشيرتك. ثم قال لعمرو: طعنك أبوه فوفيت نفسك بخصييك فلذلك تحذّره. وقام مغضباً. فقال معاوية: لا تُجار البحور فتغمرك ولا الجبال فتبهرك واسترح من الاعتذار.

قيل: ولقي عمرو بن العاص الحسن بن علي، رحمه الله، في الطواف فقال: يا حسن أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك؟ فقد رأيت الله جل وعز أقامه بمعاوية فجعله راسياً بعد ميله وبيّناً بعد خفائه. أفرضي الله قتل عثمان أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين؟ عليك ثياب كغِرْقىء البيض وأنت قاتل عثمان، والله إنه لألمّ للشعث وأسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك. فقال الحسن، عليه السلام: إن لأهل النار علامات يُعرفون بها وهي الإلحاد لأولياء الله والموالاة لأعداء الله. والله إنك لتعلم أن علياً، رضي الله عنه، لم يتريّب في الأمر ولم يشكّ في الله طرفة عينٍ. وايم الله لتنتهينّ يا ابن أم عمرو أو لأقرعنّ جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت! فإياك والإبراز عليّ فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة ولا بهشّ المشاشة ولا بمريء المأكلة، وإني من قريش كأوسط القلادة، يُعرف حسبي ولا أدّعي لغير أبي، وقد تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك ألأمهم نسباً وأظهرهم لعنة، فإياك عني فإنك رجس، وإنما نحن بيت الطهارة، أذهب الله عنّا الرجس وطهرنا تطهيراً.
قيل: واجتمع الحسن بن علي وعمرو بن العاص فقال الحسن: قد علمت قريش بأسرها أني منها في عزّ أرومتها لم أُطبع على ضعف ولم أُعكس على خسف، أُعرف بشبهي وأدّعي لأبي. فقال عمرو: قد علمت قريش أنك من أقلها عقلاً وأكثرها جهلاً، وأنّ فيك خصالاً لو لم يكن فيك إلا واحدة منهنّ لشملك خزيها كما اشتمل البياض الحالك، لعمر الله لتنتهينّ عما أراك تصنع أو لأكبسن لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحرّ من وقع الأثافي أعرك منها أديمك عرك السلعة، فإنك طالما ركبت صعب المنحدر ونزلت في عراض الوعر التماساً للفرقة وإرصاداً للفتنة ولن يزيدك الله فيها إلا فظاعة. فقال الحسن، عليه السلام: أما والله لو كنت تسمو بحسبك وتعمل برأيك ما سلكت فجّ قصدٍ ولا حللت رابية مجدٍ. وايم الله لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة العدو الكاشح، فإنه طالما طويت على هذا كشحك وأخفيته في صدرك وطمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى التي لا يورق بها غصنك ولا يخضرّ لها مرعاك. أما والله ليوشكنّ يا ابن العاص أن تقع بين لحيي ضرغام من قريش قويّ متمنّع فروسٍ ذي لبد يضغطك ضغط الرحى للحب لا ينجيك منه الرّوَغان إذا التقت حلقتا البطان.

محاسن كلام عبد الله بن العباس
رضي الله عنه
أبو المنذر عن أبيه عن الشعبي عن ابن عباس أنه دخل المسجد وقد سار الحسين بن علي، رضي الله عنه، إلى العراق فإذا هو بابن الزبير في جماعة من قريش قد استعلاهم بالكلام، فجاء ابن عباس حتى ضرب بيده بين عضدي ابن الزبير وقال: أصبحت والله كما قال الأول:
يا لك من حمَّرةٍ بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقّري ما شئت أن تنقّري ... قد رُفع الفخُّ فماذا تحذري
خلت الحجاز من الحسين بن علي وأقبلت تهدر في جوانبها. فغضب ابن الزبير وقال: والله إنك لترى أنك أحق بهذا الأمر من غيرك. فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في حال شكّ وأنا من ذاك على يقين. فقال: وبأي شيء تحقّق عندك أنك أحقّ بهذا الأمر مني؟ قال ابن عباس: لأنا أحقّ ممّن يدلّ بحقّه، وبأي شيء تحقق عندك أنك أحق بها من سائر العرب إلا بنا؟ فقال ابن الزبير: تحقق عندي أني أحقّ بها منكم لشرفي عليكم قديماً وحديثاً. فقال: أنت أشرف أم من قد شرفت به؟ فقال: إن من شرفت به زادني شرفاً إلى شرف قد كان لي قديماً وحديثاً. قال: أفمنّي الزيادة أم منك؟ قال: بل منك. فتبسم ابن عباس، فقال: يا ابن عباس دعني من لسانك هذا الذي تقلّبه كيف شئت، والله لا تحبّوننا يا بني هاشم أبداً. قال ابن عباس: صدقت، نحن أهل بيت مع الله عز وجل لا نحب من أبغضه الله تعالى. فقال: يا ابن عباس ما ينبغي لك أن تصفح عن كلمة واحدة؟ قال: إنما أصفح عمّن أقرّ وأما عمّن هرّ فلا، والفضل لأهل الفضل. قال ابن الزبير: فأين الفضل؟ قال: عندنا أهل البيت لا تصرفه عن أهله فتظلم ولا تضعه في غير أهله فتندم. قال ابن الزبير: أفلست من أهله؟ قال: بلى إن نبذت الحسد ولزمت الجدد. وانقضى حديثهما، وقام القوم فتفرقوا.

وروي عن ابن عباس أنه قال: قدمت على معاوية وقد قعد على سريره وجمع أصحابه ووفود العرب عنده، فدخلت فسلّمت وقعدت، فقال: من الناس يا ابن عباس؟ فقلت: نحن. قال: فإذا غبتم؟ قلت: فلا أحد. قال: ترى أني قعدت هذا المقعد بكم؟ قلت: نعم، فبمن قعدت؟ قال: بمن كان مثل حرب بن أمية. قلت: من أكفأ عليه إناءه وأجاره بردائه. قال فغضب وقال: وارِ شخصك مني شهراً فقد أمرت لك بصلتك وأضعفتها لك. فلما خرج ابن عباس قال لخاصته: ألا تسألوني ما الذي أغضب معاوية؟ إنه لم يلتق أحد من رؤساء قريش في عقبة ولا مضيق مع قوم إلا لم يتقدمه أحد حتى يجوزه، فالتقى حرب بن أمية مع رجل من بني تميم في عقبة فتقدمه التميمي، فقال حرب: أنا حرب بن أمية، فلم يلتفت إليه وجازه، فقال: موعدك مكة. فبقي التميمي دهراً ثم أراد دخول مكة فقال: من يجيرني من حرب بن أمية؟ فقالوا: عبد المطلب. قال: عبد المطلب أجلّ قدراً من أن يجير على حرب، فأتى ليلاً دار الزبير بن عبد المطلب فدقّ عليه، فقال الزبير للغيداق: قد جاءنا رجل إمّا طالب حاجة وإما طالب قرىً وإما مستجير وقد أعطيناه ما أراد قال: فخرج إليه الزبير، فقال التميمي:
لاقيت حرباً في الثنيّة مقبلاً ... والصبح أبلج ضوءه للساري
فدعاً بصوتٍ واكتنى ليروعني ... ودعا بدعوته يريد فخاري
فتركته كالكلب ينبح وحده ... وأتيت أهل معالمٍ وفخار
ليثاً هزبراً يُستجار بقربه ... رحب المباءة مكرماً للجار
ولقد حلفت بزمزمٍ وبمكةٍ ... والبيت ذي الأحجار والأستار
إن الزبير لمانعي من خوفه ... ما كبّر الحجاج في الأمصار
فقال: تقدّم فإنا لا نتقدّم من نُجيره. فتقدم التميمي فدخل المسجد، فرآه حرب فقام إليه فلطمه، فحمل عليه الزبير بالسيف فعدا حتى دخل دار عبد المطلب فقال: أجرني من الزبير، فأكفأ عليه جفنةً كان هاشم يطعم فيها الناس، فبقي هناك ساعة ثم قال له: اخرج. فقال: كيف أخرج وتسعة من ولدك قد احتبوا بسيوفهم على الباب؟ فألقى عليه رداء كان كساه إياه سيف بن ذي يزن له طرتان خضراوان، فخرج عليهم فعلموا أنه قد أجاره فتفرقوا عنه.
قال: وحضر مجلس معاوية عبد الله بن عباس وابن العاص، فأقبل عبد الله بن جعفر فلما نظر إليه ابن العاص قال: قد جاءكم رجل كثير الخلوات بالتمني والطربات بالتغني، محبّ للقيان، كثير مزاحه، شديد طماحه، صدوفٌ عن السنان، ظاهر الطيش، لين العيش، أخّاذ بالسلف، منفاق بالسرف. فقال ابن عباس: كذبت والله أنت وليس كما ذكرت، ولكنه لله ذكور، ولنعمائه شكور، وعن الخنا زجور، جواد كريم، سيد حليم، ماجد لهميمٌ، إن ابتدأ أصاب، وإن سئل أجاب، غير حصر ولا هيّاب، ولا فحاش عيّاب، حلّ من قريش في كريم النصاب، كالهزبر الضرغام، الجريء المقدام، في الحسب القمقام، ليس يدّعي لدعيّ، ولا يدني لدنيّ، كمن اختصم فيه من قريش شرارها فغلب عليه جزّارها، فأصبح ألأمها حسباً وأدناها منصباً، ينوء منها بالذليل ويأوي منها إلى القليل، يتذبذب بين الحيين كالساقط بين الفراشين، لا المضطر إليهم عرفوه ولا الظاعن عنهم فقدوه، وليت شعري بأي قدم تتعرض للرجال وبأي حسب تبارز عند النضال، أبنفسك فأنت الوغد الزنيم أم بمن تنتمي إليه، فأهل السفه والطيش والدناءة في قريش، لا بشرف في الجاهلية شهروا، ولا بقديم في الإسلام ذكروا، غير أنك تتكلم بغير لسانك، وتنطق بغير أزكانك، والله لكان أبين للفضل وأطهر للعدوان أن ينزلك معاوية منزلة البعيد السحيق، فإنه طالما سلس داؤك، وطمح بك رجاؤك إلى الغاية القصوى التي لم يخضرّ بها رعيك ولم يورق بها غصنك. قال عبد الله بن جعفر: أقسمت عليك لما أمسكت فإنك عني ناضلت ولي فاوضت.
قال ابن عباس: دعني والعبد فإنه قد كان يهدر خالياً إذ لا يجد مرامياً، وقد أُتيح له ضيغم شرس، وللأقران مفترس، وللأرواح مختلس. فقال عمرو بن العاص: دعني يا أمير المؤمنين انتصف منه فوالله ما ترك شيئاً. قال ابن عباس: دعه فلا يُبقي المبقي إلا على نفسه، فوالله إن قلبي لشديد، وإن جوابي لعتيد، وبالله الثقة، فإني كما قال نابغة بني ذبيان:
وقبلك ما قُذعتُ وقاذعوني ... فما نزر الكلام ولا شجاني

يصدّ الشاعر العرّاف عني ... صدود البكر عن قرمٍ هجان

محاسن كلام غانمة بنت غانم
في شرف بني هاشم وفخرهم
قيل: ولما بلغ غانمة بنت غانم سبّ معاوية وعمرو بن العاص بني هاشم قالت لأهل مكة: أيها الناس إن قريشاً لم تلد من رَقم ولا رُقم، سادت وجادت، وملّكت فملكت، وفُضّلت ففضلت، واصطُفيَت فاصطفت، ليس فيها كدر عيب ولا أفن ريب، ولا حشروا طاغين ولا حادوا نادمين، ولا المغضوب عليهم ولا الضالين، إن بني هاشم أطول الناس باعاً وأمجد الناس أصلاً وأحلم الناس حلماً وأكثر الناس عطاء، منّا عبد مناف الذي يقول فيه الشاعر:
كانت قريشٌ بيضةً فتفلّقت ... فالمخ خالصها لعبد مناف
وولده هاشم الذي هشم الثريد لقومه، وفيه يقول الشاعر:
هشم الثريد لقومه وأجارهم ... ورجال مكة مسنتون عجاف
ثم منا عبد المطلب الذي سُقينا به الغيث، وفيه يقال الشاعر:
ونحن سنيَّ المحْل قام شفيعنا ... بمكة يدعو والمياه تغور
وابنه أبو طالب عظيم قريش، وفيه يقول الشاعر:
آتيته ملكاً فقام بحاجتي ... وترى العليّج خائباً مذموما
ومنا العباس بن عبد المطلب أردفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعطاه ماله، وفيه يقول الشاعر:
رديف رسول الله لم أر مثله ... ولا مثله حتى القيامة يوجد
ومنا حمزة سيد الشهداء، وفيه يقول الشاعر:
أبا يعلى لك الأركان هدّت ... وأنت الماجد البرُّ الوصول
ومنا جعفر ذو الجناحين أحسن الناس حسناً وأكملهم كمالاً، ليس بغدّارٍ ولا ختار، بدّله الله جل وعز له بكل يد له جناحاً يطير به في الجنة، وفيه يقول الشاعر:
هاتوا كجعفرنا الطيار أو كعليّنا ... أليسا أعزَّ الناس عند الخلائق
ومنا أبو الحسن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، أفرس بني هاشم وأكرم من احتفى وتنعّل بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن فضائله ما قصُر عنكم أنباؤها، وفيه يقول الشاعر:
وهذا عليٌّ سيد الناس فاتقوا ... علياً بإسلام تقدم من قبل
ومنا الحسن بن علي، رضي الله عنه، سبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيد شباب أهل الجنة، وفيه يقول الشاعر:
ومن يك جده حقاً نبياً ... فإن له الفضيلة في الأنام
ومنا الحسين بن علي، رضوان الله عليه، حمله جبريل، عليه السلام، على عاتقه وكفى بذلك فخراً، وفيه يقول الشاعر:
نفى عنه عيب الآدمييّن ربه ... ومن مجده مجد الحسين المطهَّر

ثم قالت: يا معشر قريش والله ما معاوية بأمير المؤمنين ولا هو كما يزعم، هو والله شانيء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إني آتية معاوية وقائلة له بما يعرق منه جبينه ويكثر منه عويله. فكتب عامل معاوية إليه بذلك، فلما بلغه أن غانمة قد قربت منه أمر بدار ضيافة فنظّفت وألقي فيها فرش، فلما قربت من المدينة استقبلها يزيد في حشمه ومماليكه، فلما دخلت المدينة أتت دار أخيها عمرو بن غانم فقال لها يزيد: إن أبا عبد الرحمن يأمرك أن تصيري إلى دار ضيافته، وكانت لا تعرفه، فقالت: من أنت كلأك الله؟ قال: يزيد بن معاوية. قالت: فلا رعاك الله يا ناقص لست بزائد، فتمعّر لون يزيد، فأتى أباه فأخبره، فقال: هي أسنّ قريش وأعظمهم. فلما قال يزيد: كم تعدّ لها يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت تعدّ على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أربعمائة عام وهي من بقية الكرام. فلما كان من الغد أتاها معاوية فسلّم عليها، فقالت: على المؤمنين السلام وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت: من منكم ابن العاص؟ قال عمرو: ها أنا ذا. فقالت: وأنت تسبّ قريشاً وبني هاشم وأنت أهل السب وفيك السبّ وإليك يعود السبّ يا عمرو، إني والله لعارفة بعيوبك وعيوب أمك وإني أذكر لك ذلك عيباً عيبا. ولدت من أمة سوداء مجنونة حمقاء تبول من قيام ويعلوها اللئام، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلاً، وأما أنت فقد رأيتك غاوياً غير راشد ومفسداً غير صالح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرت ولا أنكرت، وأما أنت يا معاوية فما كنت في خير ولا ربيت في خير فما لك ولبني هاشم، أنساء بني أمية كنسائهم أم أعطى أمية ما أعطى هاشم في الجاهلية والإسلام؟ وكفى فخراً برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال معاوية: أيتها الكبيرة أنا كافٌّ عن بني هاشم. قالت: فإني أكتب عليك عهداً، كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا ربه أن يستجيب لي خمس دعوات فأجعل تلك الدعوات كلها فيك. فخاف معاوية وحلف لها أن لا يسبّ بني هاشم أبداً. فهذا آخر ما كان بين معاوية وبني هاشم من المفاخرة، والله أعلم.

محاسن مجالس أبي العباس السفاح في المفاخرة

قيل: كان أبو العباس يطيل السهر ويعجبه الفصاحة ومنازعة الرجال، فسهر ذات ليلة وعنده أناس من مضر وفهر وفيهم خالد بن صفوان بن الأهتم التميميّ وناس من اليمن فيهم إبراهيم بن مخرمة الكندي، فقال أبو العباس: هاتوا واقطعوا ليلتنا بمحادثتكم. فبدأ إبراهيم بن مخرمة وقال: يا أمير المؤمنين إن إخوالكم هم الناس وهم العرب الأول الذين دانت لهم الدنيا وكانت لهم اليد العليا، ما زالوا ملوكاً وأرباباً، توارثوا الرئاسة كابراً عن كابر وآخراً عن أول، يلبس آخرهم سرابيل أولهم، يعرفون بيت المجد ومآثر الحمد، منهم النعمانات والمنذرات والقابوسات، ومنهم غسيل الملائكة، ومنهم من اهتز لموته العرش، ومنهم مكلّم الذئب، ومنهم من كان يأخذ كل سفينة غصباً ويحوي في كل نائبة نهباً، ومنهم أصحاب التيجان وكماة الفرسان، ليس من شيء وإن عظم خطره وعرف أثره من فرس رائع وسيف قاطع أو مجنٍّ واق أو درع حصين أو درّة مكنونة إلا وهم أربابها وأصحابها، إن حلّ ضيف أقروه، وإن سألهم سائل أعطوه، لا يبلغهم مكاثر ولا يطاولهم مطاول ولا مفاخر، فمن مثلهم يا أمير المؤمنين؟ البيت يمانٍ والحجر يمان والركن يمان والسيف يمان. فقال أبو العباس: ما أرى مضر تقول بقولك هذا وما أظن خالداً يرضى بذلك. فقال خالد: إن أذن أمير المؤمنين وأمنت المواخذة تكلمت. فقال أبو العباس: تكلم ولا ترهب أحداً. فقال خالد: يا أمير المؤمنين خاب المتكلم وأخطأ المتقحّم إذ قال بغير علم ونطق بغير صواب، أوَيفخر على مضر ومنها النبي، صلى الله عليه وسلم، والخلفاء من أهل بيته؟ وهل أهل اليمن يا أمير المؤمنين إلا دابغ جلداً وقائد قرداً وحائك برداً؟ دل عليهم الهدهد وغرّقهم الجرذ وملكتهم أم ولد من قوم، والله يا أمير المؤمنين ما لهم ألسنة فصيحة ولا لغة صحيحة ولا حجة تدل على كتاب ولا يعرف بها صواب، وإنهم منّا لإحدى الخلتين إن حازوا ما قصدوا أُكلوا وإن حادوا عن حكمنا قُتلوا. ثم التفت إلى الكندي فقال: أتفخر بأكرم الأنام وخيرها محمد، صلى الله عليه وسلم، وبه افتخر من ذكرت، فالمنّ من الله عز وجل عليكم إن كنتم أتباعه وأشياعه فمنا نبي الله المصطفى وخليفة الله المرتضى ولنا السودد والعلى وفينا الحلم والحِجَا ولنا الشرف المقدم والركن المكرم والبيت المعظم والجناب الأخضر والعدد الأكثر والعز الأكبر، ولنا البيت المعمور والمشعر المشهور والسقف المرفوع وزمزم وبطحاؤها وجبالها وصحراؤها وحياضها وغياضها وأحجارها وأعلامها ومنابرها وسقايتها وحجابتها وسدانة بيتها، فهل يعدلنا عادل ويبلغ فخرنا قائل، ومنا أعلم الناس ابن عباس أعلم البشر الطيبة أخباره الحسنة آثاره، ومنا الوصي وذو النور، ومنا الصدّيق والفاروق، ومنا أسد الله وسيف الله، ومنا سيد الشهداء وذو الجناحين، ومنا الكماة والفرسان، ومنا الفقهاء والعلماء، بنا عُرف الدين ومن عندنا أتاكم اليقين، فمن زاحمنا زاحمناه ومن عادانا اصطلمناه ومن فاخرنا فاخرناه ومن بدّل سنّتنا قتلناه. ثم التفت إلى الكندي وقال: كيف علمك بلغات قومك؟ قال: أنا بها عالم. قال: ما الجحمة في لغتكم؟ قال: العين. قال: فما الميزم؟ قال: السّنّ. قال: فالشناتر؟ قال: الإصبع. قال: فالصنانير؟ قال: الآذان. قال: فما القلوب؟ قال: الذئب. قال: فما الزُّبّ؟ قال: اللحية. قال: أفتقرأ كتاب الله عز وجل؟ قال: نعم. قال: فإن الله عز وجل يقول: " إنا أنزلناه قرآناً عربياً " ، وقال: بلسان عربي مبين، وقال جل ذكره: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه " ، وقال عز وجل: " العين بالعين " ، ولم يقل الجحمة بالجحمة، وقال: " جعلوا أصابعهم في آذانهم " ، ولم يقل شناترهم في صنانيرهم، وقال: السن بالسن، ولم يقل الميزم بالميزم، وقال: فأكله الذئب، ولم يقل القلوب، وقال: لا تأخذ بلحيتي، ولم يقل بزبي، وأنا سائلك يا ابن مخرمة عن ثلاث خصال فإن أنت أقررت بها قُهرت وإن جحدتها كفرت وإن أنكرت قتلت. قال: وما هي؟ قال: أتعلم أن فينا نبي الله المصطفى، صلى الله عليه وسلم؟ قال: اللهم نعم. قال: أتعلم أن فينا كتاب الله تعالى؟ قال: اللهم نعم. قال: أفتعلم أن فينا خليفة الله المرتضى؟ قال: اللهم نعم. قال: فأي شيء يعدل هذه الخصال؟ قال أبو العباس: اكفف عنه فوالله ما رأيت غلبة أنكر منها، والله ما فرغت من كلامك يا أخا مضر حتى إنه سيُعرج

بسريري إلى السماء. ثم أمر لخالد بمائة ألف درهم.ري إلى السماء. ثم أمر لخالد بمائة ألف درهم.
وعن أبي بكر الهذلي قال: اجتمعنا عند أبي العباس أهل البصرة وأهل الكوفة ولم يكن من أهل البصرة غيري وكان من أهل الكوفة الحجاج بن أرطاة والحسن بن زيد وابن أبي ليلى فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة فقال ابن أبي ليلى: نحن والله يا أمير المؤمنين....... وكيف يكون لنا ذلك ولنا السند والهند وكرمان ومكران والفُرَض والعَرض والديار وسعة الأنهار؟ فقال ابن أبي ليلى: نحن أعلم منهم علماً وأكثر منهم فهماً، يقرّ بذلك أهل البصرة لأهل الكوفة. قلت: هم أكثر أنبياء وأقل أتقياء وأعظم كبرياء، منهم المغيرة الخبيث السريرة وبيان وأبو بيان، وتنسب فيهم الأنبياء والله ما أتانا إلا نبي واحد.
قال الحسن بن زيد: أنتم أصحاب عليّ يوم سرنا إليه لنقتله فكف الله أيدينا عنه وسار إلى الكوفة فقتلوه فأينا أعظم ذنباً؟ فقال الحجاج: والله يا أمير المؤمنين لقد بلغني أن أهل البصرة كانوا يومئذ عشرين ألفاً وكان أهل الكوفة خمسة آلاف، فلما التقت حلقتا البطان وأخذت الرجال أقرانها شدّت خيلهم في صعيد واحد. فقلت: وكيف يكون ذلك وخرجت ربيعة سامعة مطيعة تعين علياً وخرج الأحنف بن قيس في سعد والرِّباب وهم السنام الأعظم والجمهور الأكبر يعين علياً؟ ولكن سل هؤلاء يا أمير المؤمنين كم كانت عدتهم يا أمير المؤمنين يوم استغاثوا بنا، فلما التقينا كانوا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. فقال ابن أبي ليلى: والله يا أمير المؤمنين إنا لأشرف منهم أشرافاً وأكثر منهم أسلافاً. قلت: معاذ الله يا أمير المؤمنين! هل كان في تميم الكوفة مثل الأحنف ابن قيس في تميم البصرة الذي فيه يقول الشاعر:
إذا الأبصار أبصرت ابن قيسٍ ... ظللن مهابةً منه خشوعا
وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة الذي يقول فيه الشاعر:
كل عامٍ يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموال مالاً جديدا
دوّخ الصغد بالقبائل حتى ... ترك الصغد بالعراء قعودا
باهليٌ تعصّب التاج حتى ... شبن منه مفارقٌ كنّ سودا
وهل كان في أزد الكوفة مثل مهلب بن أبي صفرة في أزد البصرة الذي يقول فيه الشاعر:
إذا كان المهلب من ورائي ... هدا ليلي وقرّ له فؤادي
ولم أخش الدنية من أناسٍ ... ولو صالوا بقوة قوم عاد
وهل كان في بكر الكوفة مثل مالك بن مسمع في بكر البصرة الذي يقول فيه الشاعر:
إذا ما خشينا من أميرٍ ظلامةً ... أمرنا أبا غسان يوماً فعسكروا
وهل كان في عبد قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود في عبد قيس البصرة الذي يقول فيه الشاعر:
يا حكم بن المنذر بن الجارود ... أنت الجواد بن الجواد المحمود
فضحك أبو العباس حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه الغلبة قط!

محاسن الافتخار بالنبي
صلى الله عليه وسلم
قيل: كان علي بن عبد الله بن العباس، رضي الله عنه، عند عبد الملك بن مروان إذ فاخره عبد الملك فجعل يذكر أيام بني أمية، فبينا هو كذلك إذ نادى المنادي للأذان فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقال علي لعبد الملك:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماءٍ فعادا بعد أبوالا
فقال عبد الملك: الحق في هذا أبين من أن يكابر.
علي بن محمد النديم قال: دخلت على المتوكل وعنده الرضي فقال: يا علي من أشعر الناس في زماننا؟ قلت: البحتريّ. قال: وبعده؟ قلت: ولد مروان بن أبي حفصة خدمك وعبيدك. فالتفت إلى الرضي وقال: يا ابن عم من أشعر زماننا؟ قال: علي بن محمد العلويّ. قال: وما تحفظ من شعره؟ قال قوله:
لقد فاخرتنا من قريشٍ عصابةٌ ... بمطّ خدودٍ وامتداد الأصابع
فلما تنازعنا القضاء قضى لنا ... عليهم بما نهوى نداء الصوامع
يعني المساجد. قال المتوكل: وما معنى نداء الصوامع؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. قال: وأبيك إنه لأشعر الناس.
محاسن ما قيل في ذلك من الشعر
قال علي بن محمد العلويّ:

عصيت الهوى وهجرت النساء ... وكنت دواءً فأصبحت داء
وما أنْس لا أنْس حتى الممات ... نزيب الظباء تجيب الظباء
دعيني وصبري على نائباتٍ ... فبالصبر نلت الثرى والثواء
وإن يك دهري لوى رأسه ... فقد لقي الدهر مني التواء
ليالي أروي صدور القنا ... وأروي بهن الصدور الظماء
ونحن إذا كان شرب المدام ... شربنا على الصافنات الدماء
بلغنا السماء بأنسابنا ... ولولا السماء لجزنا السماء
فحسبك من سوددٍ أننا ... بحسن البلاء كشفنا البلاء
يطيب الثناء لآبائنا ... وذكر عليٍ يزين الثناء
إذا ذكر الناس كنا ملوكاً ... وكانوا عبيداً وكانوا إماء
هجاني قومٌ ولم أهجهم ... أبى الله لي أن أقول الهجاء
وقال غيره:
وإني من القوم الذين عرفتهم ... إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه
نجوم السماء كلما انقض كوكبٌ ... بدا كوكبٌ تأوي إليه كواكبه
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظّم الجزع ثاقبه
فلا توعدني يا شريح فإنني ... كليث عرينٍ فرّ عنه ثعالبه
يمشي بأوصال الرجال إذا ستا ... قد احمرّ من نضخ الدماء مخالبه
وقال آخر:
حلماء حين يقول قائلهم ... بيض الوجوه مقاولٌ لسن
لا يفطنون لعيب جارهم ... وهم لحفظ جواره فطن
وأحسن من ذلك كله قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أتاه أعرابي فقال: بأبي أنت وأمي أكرم الناس حسباً! فقال: أحسنهم خلقاً وأفضلهم تقوى، فانصرف الأعرابي. فقال: ردوه، ثم قال: يا أعرابي لعلك أردت نسباً؟ قال: نعم. قال: يوسف صدّيق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله فأين مثل هؤلاء الآباء في جميع الدنيا! ما كان فيها مثلهم أبداً. وقال الشاعر:
ولم أر كالأسباط أبناء والدٍ ... ولا كأبيهم والداً حين ينسب
ودخل عيينة بن حصن الفزاري على النبي، صلى الله عليه وسلم، فانتسب ثم قال: أنا ابن الأشياخ الأكارم، فقال، صلى الله عليه وسلم: أنت إذاً يوسف صدّيق الله بن يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله، وقال، صلى الله عليه وسلم: خير البشر آدم، عليه السلام، وخير العرب محمد، صلى الله عليه وسلم، وخير الفرس سلمان، وخير الروم صهيب، وخير الحبشة بلال، رحمهم الله أجمعين.

مساوئ الافتخار
روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لا تفخروا بآبائكم في الجاهلية، فوالذي نفسي بيده لما يُدحرج الجعل بأنفه خير من آبائكم الذين ماتوا في الجاهلية.
قيل: وكان الحسن البصري يقول: ابن آدم لم تفتخر وإنما خرجت من مسيل بولين نطفة مشجت بأقذار؟ وقال بعضهم لرجل يتبختر: يا هذا إن أولك نطفة قذرة وآخرك جيفة منتنة وأنت فيما بينهما وعاء عذرة فما هذه المشية؟ قال: وقيل لعامر بن قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: ما أقول فيمن إن جاع ضرع وإن شبع طغى.
وروي عن ابن عباس أنه قال: يتفاضلون في الدنيا بالشرف والبيوتات والإمارات والعتاق والجمال والهيئة والمنطق ويتفاضلون في الآخرة بالتقوى واليقين، فأتقاهم أحسنهم يقيناً وأزكاهم عملاً وأرفعهم درجة أعقلهم، وقيل في ذلك:
يزين الفتى في الناس صحة عقله ... وإن كان محظوراً عليه مكاسبه
يشين الفتى في الناس قلة عقله ... وإن كرمت آباؤه ومناسبه
وقال بعض الحكماء: لا يكون الشرف بالحسب والنسب، ألا ترى أن أخوين لأب وأم يكون أحدهما أشرف من الآخر؟ ولو كان ذلك من قبل النسب لما كان لأحد منهم على الآخر فضلٌ لأن نسبهما واحد ولكن ذلك من قبل الأفعال لأن الشرف إنما هو فيه لا في النسب، وقال الشاعر في ذلك:
أبوك أبي والجدّ لا شك واحدٌ ... ولكننا عودان آسٌ وخروع

وبلغنا عن المدائني أنه قال: ليس السودد بالشرف وإنما ساد الأحنف بن قيس بحلمه وحضين بن المنذر برأيه ومالك بن مسمع بمحبته في العامة وسويد بن منجوف بعطفه على أرامل قومه، وساد المهلب بن أبي صفرة بجميع هذه الخصال.
قيل: وسمع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهو خليفة صوتاً ولفظاً بالباب فقال لبعض من عنده: اخرج فانظر من كان من المهاجرين الأولين فأدخله. فخرج الرسول فأدخل بلالاً وصهيباً وسلمان، وكان أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو في عصابة من قريش جلوساً بالباب فقال أبو سفيان: يا معشر قريش أنتم صناديد العرب وأشرافها وفرسانها بالباب ويدخل حبشيّ وفارسيّ وروميّ؟ فقال سهيل: يا أبا سفيان أنفسكم فلوموا ولا تلوموا أمير المؤمنين، دعا القوم فأجابوا ودعيتم فأبيتم وهم يوم القيامة أعظم درجات وأكثر تفضيلاً. فقال أبو سفيان: لا خير في مكان يكون فيه بلال شريفاً.

مساوئ أصحاب الصناعات
قال المأمون وذكر أصحاب الصناعات: السوقة سفل والصناع أنذال والتجار بخلاء والكتاب ملوك على الناس. وقال المأمون: الناس أربعة: ذو سيادة أو صناعة، أو تجارة أو زراعة، فمن لم يكن منهم كان عيالاً عليهم، وذكروا أن أبا طالب كان يعالج العطر والبزّ، وكان أبو بكر الصدّيق، رضي الله عنه، بزّازاً، وكان عمر بن الخطاب بزازاً، وكان عبد الرحمن بن عوف بزازاً، وكان سعد بن أبي وقاص، رحمه الله، يأبر النخل، وكان أخوه عتبة، رحمه الله، نجاراً، وكان العاص بن هشام أخو أبي جهل بن هشام جزاراً، وكان الوليد بن المغيرة حداداً، وكان عقبة بن أبي معيط خمّاراً، وكان عثمان بن طلحة صاحب مفتاح البيت خياطاً، وكان أبو سفيان بن حرب يبيع الزيت والأدم، وكان أمية بن خلف يبيع البُرم، وكان عبد الله بن جدعان نخاساً، وكان العاص بن وائل أبو عمرو بن العاص يعالج الخيل والإبل، وكان جرير بن عمرو وقيس أبو الضحاك بن قيس ومعمر بن عثمان وسيرين أبو محمد بن سيرين كلهم حدادين، وكان المسيب أبو سعيد زياتاً، وكان ميمون بن مهران بزّازا، وكان مالك بن دينار ورّاقاً، وكان أبو حنيفة صاحب الرأي خزّازاً، وكان مجمع الزاهد حائكاً.
قيل: واتخذ يزيد بن المهلب بستاناً في داره بخراسان، فلما ولي الأمر قتيبة بن مسلم جعله لإبله، فقال له مرزبان مرو: هذا كان بستاناً وقد اتخذته لإبلك! فقال قتيبة: كان أبي أشتربان وكان أبو يزيد بستانبان فمنهما صار ذلك كذلك.
محاسن النتاج
ذكروا أن جرهم من نتاج ما بين الملائكة وبنات آدم وأن الملأك من الملائكة كان إذا عصى ربه في السماء أهبطه إلى الأرض في صورة رجل في طبيعته ما في طبيعة بني آدم كما صنع بهاروت وماروت في خبرهما مع الزهرة حتى كان من شأنهما ما كان، فعصى بعض الملائكة ربنا جل ذكره فأهبطه إلى الأرض في صورة رجل فتزوج أم جرهم فولدت منه جرهم، فقال شاعرهم:
لاهمّ إنّ جرهماً عبادكا ... الناس طرفٌ وهم تلادكا
وكان ذو القرنين أمه قيرى آدمية وكان أبوه عيرى من الملائكة. وسمع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، رجلاً ينادي: يا ذا القرنين! فقال: فرغتم من أسماء الأنبياء فارتقيتم إلى أسماء الملائكة! وزعموا أن التناكح والتلاقح قد يقع بين الجن والإنس لقوله جل وعز: " وشاركهم في الأموال والأولاد " . ولأن الجنّيات إنما يعرضن لصرعى رجال الإنس على جهة العشق وطلب السفاد وكذلك رجال الجن لنساء بني آدم، ومن زعم أن الصرع من المرّة فقد رد قول الله عز وجل: إن الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس " ، وقال جل ذكره: " وشاركهم في الأموال والأولاد " ، وقال عز وتعالى: " لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان " ، وكان عبد الله بن هلال سبط إبليس من قبل أمهاته. وروى أبو زيد النحوي أن سعلاةً أقامت في بني تميم حتى ولدت فيهم ورأت ذات يوم برقاً من شق بلاد السعالي فحنّت إلى وطنها وطارت إليهم.
وقد قيل إن الواقواق من نتاج ما بين بعض النبات وبعض الحيوان.
وقد قيل إن الثعلب يسفد الهرة الوحشية فيخرج من بينهما ولد فيه مشابهة منهما، قال حسان بن ثابت:
أبوك أبوك وأنت ابنه ... وبئس البنيُّ وبئس الأب
وأمك سوداء نوبيةٌ ... كأن أناملها العنظب

يبيت أبوك بها مغدفاً ... كما ساور الهرة الثعلب
وقد يولد من بين الكلاب والثعالب هذه الكلاب السلوقية الماهرة بالصيد.
وقيل: إنه يخرج من بين الذئب والكلبة ولد يسمّى الديسم، قال بشار:
أديسم يا ابن الذئب من نجل زارعٍ ... أتروي هجائي سادراً غير مقصر
وزارع اسم كلب يعرف بزارع.
وزعموا أنه يخرج من بين الذئب والضبع ولد يسمى السمع كالحية لا يعرف العلل ولا يموت إلا بعرض يعرض له وأنه أشدّ عدواً وأسرع من الريح، قال الشاعر:
مسبلٌ في الحيّ أحوى رفلُّ ... فإذا يغزو فسمعٌ أزلُّ
ومن عجائب التركيب فوالج البخت إذا ضربت في إناث البخت لم يخرج الحوار إلا قصير العنق لا ينال كلأً ولا ماء، وإذا ضربت الفوالج في العراب جاءت هذه الجوامز والبخت الكريمة، ومتى ضربت فحول العراب في إناث البخت جاءت هذه الإبل القبيحة المنظر.
وقد قيل في الإبل: إن فيها عرقاً من سفاد الجن وإن فيها إبلاً وحشية هي من بقايا إبل وبار، لما أهلكهم الله جل وعز بقيت إبلهم، وإن الجمل منها ربما صار إلى أعطان الإبل فضرب في ناقة فتجيء منه هذه المهرية والغسجدية التي تسمى الذهبية.
وزعموا أن ببلاد الحبشة ذكر الضباع يعرض للناقة من الوحش فيسفدها فتلقح بولد على خلقة الناقة والضبع، فإن كان أنثى يعرض لها الثور الوحشي فيضربها فيصير الولد زرافة ويسمى بالفارسية اشتر كاوبلنك، أي خرج من بين الجمل والثور والضبع، وقد جحد الناس أن يكون الزرافة الأنثى تلقح من الزرافة الذكر.
وأما النعامة فإنها لا تقع إلا من ذكر النعام وإناثها.
ومن نتاج الطير ما رواه بعضهم أنه رأى طائراً له صوت حسن زعموا أنه من نتاج ما بين القمري والفاختة، وقُنّاص الطير يزعمون أن أجناساً من الطير تلتقي على المياه فتسافد وأنهم لا يزالون يرون أشكالاً لم يروها قط فيقدرون أنها من تلاقيح تلك المختلفة.

مساوئ النتاج
فأما من يخرج من بين بني آدم فإنه إذا تزوج خراساني بهندية خرج من بينهما الذهب الإبريز غير أنه يحتاج أن يحرس ولدهما إذا كان أنثى من زناء الهند وإذا كان ذكراً من لواط رجال خراسان.
ومن خبث النتاج ابن المذكّرة من النساء والمؤنث من الرجال يكون أخبث نتاجاً من البغل وأفسد أعراقاً من السمع وأكثر عيوباً من كل خلق وأن يأخذ بأسوإ خصال أبيه وأردى خصال أمه فتجتمع فيه خصال الدواهي وأعيان المساوئ، وأنه إذا خرج كذلك لم ينجع فيه أدب ولم يطمع في علاجه طبيب، وقد رأينا في دور ثقيف فتى اجتمعت فيه هذه الخصال فما كان في الأرض يوم إلا وهم يتحدثون عنه بشيء يصغر في جنبه أكبر ذنب كان ينسب إليه، والخلاسي من الناس الذي يخرج من بين الحبشي والبيضاء، والبيسريّ من الناس الذي يخرج من بين البيض والهند ويكون من أحسن الناس وأجملهم.
محاسن الوفاء
قيل في المثل: هو أوفى من فكيهة، وهي امرأة من قيس بن ثعلبة كان من وفائها أن السُّلَيك بن السُّلَكة غزا بكر بن وائل فخرج جماعة من بكر فوجدوا أثر قدمٍ على الماء فقالوا: والله إنّ هذا لأثر قدم ترد الماء، فقعدوا له، فلما وافى حملوا عليه فعدا حتى ولج قبة فكيهة فاستجار بها، فأدخلته تحت درعها، فانتزعوا خمارها، ونادت إخوتها فجاؤوا عشرة فمنعوهم منها. قال: فكان السليك يقول: كأني أجد خشونة استها على ظهري حين أدخلتني درعها، وقال:
لعمر أبيك والأنباء تنمي ... لنعم الجار أخت بني عوارا
من الخفرات لم تفضح أخاها ... ولم ترفع لوالدها شنارا
فما ظلمت فكيهة حين قامت ... لنصل السيف وانتزعوا الخمارا
وقيل أيضاً: هو أوفى من أم جميل، وهي من رهط أبي هريرة من دوس، وكان من وفائها أن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي قتل أبا أُزيهر رجلاً من الأزد فبلغ ذلك قومه بالسراة فوثبوا على ضرار بن الخطاب ليقتلوه فعدا حتى دخل بيت أم جميل وعاذ بها، فقامت في وجوههم ونادت قومها فمنعوه لها، فلما قام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بالأمر ظنّت أنه أخوه فأتته بالمدينة، فلما انتسبت عرف القصة وقال: إني لست بأخيه إلا في الإسلام وهو غازٍ وقد عرفنا منّتك عليه، فأعطاها على أنها بنت سبيل.

ويقال: هو أوفى من السَّموأل بن عادياء، وكان من وفائه أن امرأ القيس بن حجر الكندي لما أراد الخروج إلى قيصر ملك الروم استودع السموأل دروعاً له، فلما مات امرؤ القيس غزاه ملك من ملوك الشام فتحرز منه السموأل، فأخذ الملك ابناً له ذكروا أنه كان متصيداً، فصاح به: يا سموأل هذا ابنك في يدي وقد علمت أن امرأ القيس ابن عمي وأنا أحق بميراثه فإن دفعت إليّ الدروع وإلا ذبحت ابنك. فقال: أجّلني، فأجّله. فجمع أهل بيته وشاورهم، فكلّ أشار عليه أن يدفع الدروع وأن يستنقذ ابنه، فلما أصبح أشرف فقال: ليس إلى دفع الدروع سبيل فاصنع ما أنت صانع! فذبح الملك ابنه وهو ينظر إليه، وكان يهودياً، فانصرف الملك، ووافى السموأل بالدروع الموسم فدفعها إلى ورثة امرىء القيس وقال في ذلك:
وفيت بأدرع الكنديّ، إني ... إذا ما خان أقوام وفيت
وقالوا عنده كنزٌ رغيبٌ ... فلا وأبيك أغدر ما مشيت
بنى لي عادياً حصناً حصيناً ... وبئراً كلما شئت استقيت
وقال الأعشى في ذلك:
كن كالسموأل إذ سار الهمام له ... في جحفلٍ كسواد الليل جرار
خيّرَه خطتي خسفٍ، فقال له ... إذبح أسيرك إني مانعٌ جاري
وقيل: هو أوفى من الحارث بن عُباد، وكان من وفائه أنه أسر عدي بن ربيعة ولم يعرفه، فقال: دلني على عدي. فقال: إن أنا دللتك على عدي أتؤمنني؟ قال: نعم، قال: فأنا عدي. فخلاه وقال في ذلك:
لهف نفسي على عديٍّ وقد أس ... قب للموت واحتوته اليدان
ويقال: هو أوفى من عوف بن محلّم، وكان من وفائه أن مروان القرظ غزا بكر بن وائل ففضّوا جيشه وأسره رجل منهم وهو لا يعرفه، فأتى به أمه فقالت: إنك لتختال بأسيرك كأنك جئت بمروان القرظ! فقال لها مروان: وما ترجين من مروان؟ قالت: عظم فدائه. قال: وكم ترتجين من فدائه؟ قالت: مائة بعير. قال مروان: ذلك لك على أن ترديني إلى خماعة بنت عوف بن محلم. قالت: ومن لي بمائة من الإبل! فأخذ عوداً من الأرض فقال: هذا لك بها. فمضت به إلى عوف فاستجار بخماعة ابنته، فبعث عمرو بن هند أن يأتيه به، فقال: قد أجارته ابنتي وليس إليه سبيل. فقال عمرو: قد آليت أن لا أعفو عنه أو يضع يده في يدي. فقال عوف: يضع يده في يدك على أن تكون يدي بينهما، فأجابه عمرو إلى ذلك، فجاء عوف بمروان فأدخله عليه فوضع يده في يده ووضع عوف يده بين أيديهما فعفا عنه.
ويقال: إن قُباذ أمر بقتل رجل من الطاعنين على المملكة، فقُتل، فوقف على رأسه رجل من جيرانه وصنائعه فقال: رحمك الله، إن كنت لتكرم الجار وتصبر على أذاه وتؤاسي أهل الخلّة وتقوم بالنائبة والعجب كيف وجد الشيطان فيك مساغاً حتى حملك على عصيان ملكك فخرجت من طاعته المفروضة إلى معصيته وقديماً ما تمكّن ممن هو أشد منك قوة وأثبت عزماً! فأخذ صاحب الشرطة الرجل فحبسه وأنهى كلامه إلى قباذ، فوقّع: يُحسَن إلى هذا الذي شكر إحساناً يُفضل به وتُرفع مَرتبته ويُزاد في عطائه.

قيل: ولما قتل كسرى النعمان بن المنذر كتب إلى إياس بن قبيصة يأمره أن يبعث إليه بولد النعمان بن المنذر وتركته من المال والإبل والخيل والسلاح، وكان النعمان أودع ذلك هانيء بن مسعود، فبعث إليه إياس يعلمه بما كتب به كسرى، فأبى أن يسلم شيئاً من تركة النعمان، فكتب إياس إلى كسرى يعلمه ذلك، فآلى على نفسه ليستأصلن بكر بن وائل، فكتب إلى إياس يأمره بالمسير إليهم لمحاربتهم فيمن معه من طيء وإياد وغيرهم، وكتب إلى قيس بن مسعود الشيباني المعروف بذي الجدّين، وكان عاملاً على سفَوان، يمنع العرب من دخول أطراف السواد ويأمره أن يسير بمن معه من قومه فيعين إياساً على محاربة بكر بن وائل، ثم عقد كسرى لقائد من قواده يسمى الهامرز في اثني عشر ألف رجل من أبطال أساورته ووجهه إلى إياس لمعاونته، ثم عقد أيضاً لهرمز جرابزين، وكان أعظم مرازبته في مثل ذلك، وأمره أن يقفو أثر الهامرز حتى يوافي إياس بن قبيصة، فسارت الجيوش إلى بكر بن وائل، وكانوا بمكان يسمى ذا قار منه إلى مدينة الرسول خمس مراحل مما يلي طريق البصرة، فأقبلت الجيوش حتى أناخت على بكر فأحدقت بهم، ثم إن عظماء بكر بن وائل اجتمعوا إلى هانيء بن مسعود المزدلف وقالوا: إن هذه الجيوش قد أحدقت بنا من كل ناحية فما ترى؟ قال: أرى أن تجعلوا حصونكم سيوفكم ورماحكم وتوطِّنوا أنفسكم على الموت. فقالوا: نعم والله لنفعلن! ثم إن قيس بن مسعود أقبل في سواد الليل من عسكر إياس حتى أتى هانيء بن مسعود فقال: يا ابن عم إنه قد حلّ بكم من الأمر ما قد ترون ففرّق خيل النعمان وسلاحه في أشدّاء قومك ليقووا بذلك على القتال فهي مأخوذة لا محالة إن قتلوا وإن سلموا أمرتهم فردّوها عليك، وعليك بالجدّ والصبر، وإياك ثم إياك أن تخفر ذمتك في تركة النعمان حتى تُقتل ويقتل معك جميع قومك! قال له هانيء: أوصيت يا ابن عم محافظاً فوصلتك رحم وأرجو أن لا ترى منا تقصيراً ولا فتوراً، فانصرف قيس ذو الجدين من عند هانيء كئيباً حزيناً باكياً خائفاً من هلاك قومه حتى أتى عسكر إياس وكان يريه أنه مجامع له على حرب قومه خوفاً أن يجد عليه كسرى فيقتله، فلما أصبح هانيء بن مسعود دعا بخيل النعمان وسلاحه ففرقه في أبطال قومه وأشدّائهم، فركبوا تلك الخيول، وكانت ستمائة فرس وستمائة درع، واستلأموا تلك الدروع، وكان ذلك في العام الذي هاجر فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المدينة، واتفقت بكر بن وائل أن تجعل شعارها باسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمدُ يا منصور، وذلك قبل أن يُسلموا، وبذلك الاسم نُصروا وقَهروا عدوهم، وعمد رجل من أشراف بني عجل يقال له حنظلة بن سيّار إلى حزم رحالات النساء فقطعها كلها، أراد بذلك أن يمنع قومه من الهرب إن وقعت الهزيمة، فسمّي بذلك مقطّع الوضين. وإن إياس بن قبيصة أرسل إلى بكر بن وائل يخيّرهم خصلة من ثلاث: إما أن يسلموا تركة النعمان، وإما أن يسيروا ليلاً في البراري فيعتلّ على كسرى أنهم هربوا، فإن أبوا هاتين الخلّتين خرجوا إلى الحرب. فتوامروا بينهم فقالوا: إما أن نسلم خفارتنا فلا يكون ذلك وإن نحن لحقنا بالفلاة أفضينا إلى بلاد تميم فيقطعون علينا ويأخذون ما معنا ويأسروننا وليست لنا حيلة إلا القتال، فاختاروا القتال ووجّهوا خمسمائة فارس من أبطالهم عليهم يزيد بن حارثة اليشكريّ وأمروهم أن يكمنوا للعجم، ثم زحف الفريقان بعضهم إلى بعض وتقدّم الهامرز فوقف بين الصفين ونادى بالفارسية: مردى آمردى. فقال يزيد بن حارثة: ما يقول؟ قال: يدعو إلى البراز رجلاً لرجل. فقال: وأبيكم لقد أنصف! ثم خرج إليه فاختلف بينهما ضربتان فضربه يزيد ضربة بالسيف على منكبه فقدّ درعه حتى أفضى السيف إلى منكبه فأبانه فخرّ ميتاً الهامرز أول قتيل بين الصفين، وألقى الله عز وجل الرعب في قلوب العجم فولّوا منهزمين، ولحق حنظلة بن سيّار العجلي بهرمز جرابزين قائد العجم فطعنه طعنة خرّ منها ميتاً، ودفع هانيء بن مسعود فرسه في طلب إياس بن قبيصة حتى لحقه ومعه قيس بن مسعود ذو الجدّين، فأراد هانيء قتل إياس فمنعه قيس وحال بينه وبين قتله، واتّبع العجم خمس مائة فارس من بني شيبان لا يلوون على شيء يقتلون يومهم ذلك من أدركوا منهم حتى جنهم الليل، وبلغت هزيمة الأعاجم كسرى بالمدائن، قال دغفل: فذكر هذا الحديث لرسول الله، صلى الله

عليه وسلم، فقال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا، يعني باسمه، صلى الله عليه وسلم، قال: وسقط في يد كسرى واغتاظ من ذلك غيظاً شديداً ووقعت الولولة والعويل بالمدائن، فندب كسرى الجنود وفرّق فيهم السلاح والمال لمعاودة حرب بكر بن وائل، تم إن بطارقة الروم خرجوا على ملكهم قيصر فقتلوه فاشتغل به عن معاودة حرب بكر بن وائل فكان هانيء بن مسعود المزدلف أحد الأوفياء.ليه وسلم، فقال: هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نُصروا، يعني باسمه، صلى الله عليه وسلم، قال: وسقط في يد كسرى واغتاظ من ذلك غيظاً شديداً ووقعت الولولة والعويل بالمدائن، فندب كسرى الجنود وفرّق فيهم السلاح والمال لمعاودة حرب بكر بن وائل، تم إن بطارقة الروم خرجوا على ملكهم قيصر فقتلوه فاشتغل به عن معاودة حرب بكر بن وائل فكان هانيء بن مسعود المزدلف أحد الأوفياء.
ومنهم الطائي صاحب النعمان بن المنذر، وكان من حديثه أن النعمان بن المنذر ركب في يوم بؤسه، وكان له يومان يوم بؤس ويوم سعد، لم يلقه في يوم بؤسه أحدٌ إلا قتله وفي يوم سعده أحدٌ إلا حباه وأعطاه، فاستقبله في يوم بؤسه أعرابيّ من طيء فقال: حيا الله الملك، إن لي صبية صغاراً لم أوصِ بهم أحداً فإن يأذن لي الملك في إتيانهم وأعطيه عهد الله إني أرجع إليه إذا أوصيت بهم حتى أضع يدي في يده. فرقّ له النعمان فقال: لا إلا أن يضمنك رجل ممن معنا فإن لم تأت قتلناه، وشريك بن عمرو بن شرحبيل نديم النعمان معه، فقال الطائي:
يا شريك يا ابن عمرٍو ... هل من الموت محاله
يا أخا كلّ مضامٍ ... يا أخا من لا أخا له
يا أخا النعمان فكّ ال ... يوم عن شيخٍ غلاله
إن شيبان قبيلٌ ... أحسن الناس فعاله
فقال شريك: هو علي أصلح الله الملك! فمرّ الطائي والنعمان يقول لشريك: إن صدر هذا اليوم قد ولّى ولا يرجع! وشريك يقول: ليس لك عليّ سبيل حتى نمسي، فلما أمسوا أقبل شخص والنعمان ينظر إلى شريك، فقال: ليس لك عليّ سبيل حتى يدنو الشخص، فبينا هم كذلك إذ أقبل الطائي فقال النعمان: والله ما رأيت أكرم منكما وما أدري أيكما أكرم! لا أكون والله ألأم الثلاثة، ألا إني قد رفعت يوم بؤسي! وخلّى سبيل الطائي، فأنشأ يقول:
ولقد دعتني للخلاف عشيرتي ... فأبيت عند تجهّر الأقوال
إني امرؤٌ مني الوفاء خليقةٌ ... وفعال كلّ مهذَّبٍ بذّال
فقال النعمان: ما حملك على الوفاء؟ قال: ديني. قال: وما دينك! قال: النصرانية. قال: اعرضها عليّ! فعرضها عليه فتنصر النعمان.

ومنهم وزير ملك الصين، وكان حديثه أن شمر بن افريقيس بن أبرهة خرج في خمس مائة ألف مقاتل إلى أرض الصين، فلما قارب بلادهم بلغ ذلك ملك الصين فجمع وزراءه فاستشارهم، فقال رئيسهم: أيها الملك أثّر فيّ أثراً وخلّني ورائي. فأمر به فجدع أنفه، فقام هارباً مستقبلاً لشمر، فوافاه على أربعة منازل بعد خروجه من مفاوز الصين فدخل عليه وقال: إني أتيتك مستجيراً! قال شمر: ممن؟ قال: من ملك الصين لأني كنت رجلاً من خاصة وزرائه وإنه جمعنا لما بلغه مسيرك إليه فاستشارنا فأشار القوم جميعاً عليه بمحاربتك وخالفتهم في رأيهم وأشرت عليه أن يعطيك الطاعة ويحمل إليك الخراج، فاتهمني وقال: قد مالأت ملك العرب، وكان منه إليّ ما ترى ولم آمنه مع ذلك أن يقتلني فخرجت هارباً إليك، ففرح به شمر وأنزله معه في رحله وأوعده من نفسه خيراً، فلما أصبح وأراد أن يرحل قال لذلك الرجل: كيف علمك بالطريق؟ قال: أنا من أعلم الناس به. قال: فكم بيننا وبين الماء؟ قال: مسيرة ثلاثة أيام وأنا موردك يوم الرابع على الماء، فأمر جنوده بالرحيل ونادى فيهم أن لا تحملوا من الماء إلا لثلاثة أيام، ثم سار في جنوده والرجل بين يديه، فلما كان يوم الرابع انقطع بهم الماء واشتد الحر فقال: لا ماء وإنما كان ذلك مكرٌ مني لأدفعك بنفسي عن ملكي! فأمر به فضربت عنقه، فعطش القوم، وقد كان المنجمون قالوا لشمر عند مولده أنه يموت بين جبلي حديد، فوضع درعه تحت قدميه من شدة الرمضاء ووضع ترساً من حديد على رأسه من حرّ الرمضاء، فذكر ما كان قيل له في ولادته وقال للقوم: تفرقوا حيث أحببتم فقد أورطتكم، فهلك وجميع من كان معه.
وحكي أنه لما حمل رأس مروان بن محمد الجعدي إلى أبي العباس وهو بالكوفة قعد له مجلساً عاماً وجاؤوا بالرأس فوضع بين يديه فقال لمن حضره: أمنكم أحد يعرف هذا الرأس؟ فقام سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة فأكبّ عليه وتأمله طويلاً ثم قال: هذا رأس أبي عبد الملك خليفتنا بالأمس، رحمه الله، وعاد إلى مجلسه، فوثب أبو العباس حتى خرج من المجلس وانصرف ابن جعدة وتحدث الناس بكلامه، فلامه بنوه وأهله وقالوا: عرضتنا ونفسك للبوار! فقال: اسكتوا قبحكم الله! ألستم أشرتم عليّ بالأمس بحرّان بالتخلف عن مروان ففعلت ذلك غير فعل ذي الوفاء والشكر وما كان ليغسل عار تلك الفعلة إلا هذه، وإنما أنا شيخٌ هامةٌ فإن نجوت يومي هذا من القتل متّ غداً! قال: وجعل بنوه يتوقعون رسل أبي العباس أن تطرقه في جوف الليل، فأصبحوا ولم يأته أحد وغدا الشيخ فإذا هو بسليمان بن مجالد فلما أبصره قال: يا ابن جعدة ألا أبشرك بحسن رأي أمير المؤمنين فيك؟ إنه ذكر في هذه الليلة ما كان منك. فقال: أما ما أخرج هذا الكلام من الشيخ إلا الوفاء ولهو أقرب بنا قرابة وأمسّ بنا رحماً منه بمروان إن أحسنّا إليه. قال: أجل.
وذكر أن المنصور أرسل إلى شيخ من أهل الشام وكان من بطانة هشام بن عبد الملك بن مروان فسأله عن تدبير هشام في حروبه مع الخوارج فوصف الشيخ له ما دبّر، فقال: فعل، رحمه الله، كذا وصنع، رحمه الله، كذا. فقال المنصور: قم عليك لعنة الله! تطأ بساطي وتترحم على عدوي؟ فقام الرجل فقال وهو مولٍّ: إن نعمة عدوك لقلادة في عنقي لا ينزعها إلا غاسلي! فقال له المنصور: ارجع يا شيخ، فرجع. فقال: أشهد أنك نهيض حرّةٍ وغراس شريف، ارجع إلى حديثك. فعاد الشيخ في حديثه حتى إذا فرغ دعا له بمال فأخذه وقال: والله يا أمير المؤمنين ما لي إليه حاجة ولقد مات عني من كنت في ذكره فما أحوجني إلى وقوف على بابه أحد بعده ولولا جلالة أمير المؤمنين وإيثاري طاعته ما لبست نعمة أحدٍ بعده! فقال المنصور: إذا شئت لله أنت فلو لم يكن لقومك غيرك لكنت قد أبقيت لهم مجداً مخلداً وعزاً باقياً.

وعن أبي دفافة العبسي قال: حدّثت المنصور بحديث العجلان بن سهل وكان دخل على عبد العزيز بن القعقاع، فبينا هو جالس إذ دخل رجل متلطخ الثوب بالطين، فقال عبد العزيز: ما لك؟ قال: ركب هذا الأحول، يعني هشام بن عبد الملك، فنفرت ناقتي فسقطت، فانتزع العجلان سيفه فنفحه به ووثب الرجل فأخطأه السيف ووقع في وسادة فقطّعها وقال: يا لكع أعياك أن تسمّيه بأمير المؤمنين وباسمه الذي سماه به أبوه أو بكنيته ونظرت إلى الذي يعاب به فسميته به، أما والله لوددت أن السيف أخذ منك مآخذه! قال: فكان المنصور يستعيدني هذا الخبر كثيراً ويقول: كيف صنع العجلان بن سهل؟ مع مثله يطيب الملك.
قال: وأخبرنا عطّاف قال: بينا عبد الله بن طاهر مقبل من منزل عبيد الله بن السّريّ بمصر حتى إذا دنا من بابه إذا بشيخ قد قام إليه فناوله رقعةً كانت معه وقال: أصلح الله الأمير! نصيحة واجبة فافهمها، فأخذ الرقعة ودخل، فما هو إلا أن دخل وخرج الحاجب فقال: أين صاحب الرقعة؟ فقام إليه الشيخ فأخذ بيده فأدخله إلى عبد الله فقال: قد فهمت رقعتك هذه وما تنصحت به إلينا فانصفني في مناظرتك. فقال الرجل: ليقل الأمير ما أحب. قال: أخبرني هل يجب شكر الناس بعضهم لبعض؟ قال: نعم. قال: وبم يجب؟ قال: بإحسان المحسن وبفضل المنعم. قال: صدقت، جئت إليّ وأنا على هذه الحال التي ترى خاتمي بفرغانة وآخر ببرقة وحكمي ونهيي وأمري جائز فيما بين هذين الطرفين وقد جمع لي من العمل ما لم يجمع لأحد قطّ من ولاءة المشرق والمغرب والشرطة وما خرج من هذه الطبقة ولست ألتفت إلا إلى نعمة هؤلاء القوم ومنّتهم، لا أستفيء إلا بظلها ولا أعرف غيرهم سادة ولا كبراء ولا أئمة ولا خلفاء، فأردت أن أكفر هذه النعمة وأجحد هذا المعروف وأبايع رجلاً ما امتحن للتقوى ولا أفاد علماً للهدى ولا جرت له على مِلّي ولا ذِمّيّ يد سالفة ولا نعمة سائرة، افترى على الله جل ذكره، ولو فعلت هذا الذي دعوتني إليه كنت ترضى به في مكارم الأخلاق وشكر المنعمين قال: فسكت الرجل ولم يحر جواباً، وكان دعاه إلى بيعة ابن طباطبا. وقال بعضهم: إنه كان دسيس المأمون.
برون الكبير قال: وجّه إليّ المأمون وقد مضى من الليل الثلث فقال لي: يا برون قد أكثر علينا أصحاب الأخبار في أن شيخاً يرد خرابات البرامكة فيبكيهم ويندبهم وينشد أبياتاً من الشعر فاركب أنت وعليّ بن محمد ودينار بن عبد الله حتى تردوا هذه الخرابات فتصيروا من وراء جدرانها فإذا رأيتم الشيخ قد ورد وبكى وأنشد فأتوني به. قال برون: فركبت مع القوم حتى وردنا الخرابات، وإذا الخادم قد أتى ومعه زِلّيّة رومية وكرسيّ جديد، وإذا شيخ وسيم جميل له صلعة وهامة فجلس يبكي ويقول:
ولما رأيت السيف قد قدّ جعفراً ... ونادى منادٍ للخليفة في يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنه ... قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا
أجعفر إن تهلك فرُبّ عظيمةٍ ... كشفت ونعمى قد وصلت بها نعمى
فقل للذي أبدى ليحيى وجعفرٍ ... شماتته أبشر لتأتيهم العقبى
لئن زال غصن الملك عن آل برمكٍ ... فما زال حتى أثمر الغصن واستعلى
وما الدهر إلا دولة بعد دولةٍ ... تبدل ذا ملكٍ وتعقب ذا بلوى
على أنها ليست تدوم لأهلها ... ولو أنها دامت لكنتم بها أولى
بني برمك كنتم نجوماً مضيئةً ... بها يهتدي في ظلمة الليل من أسرى
لأيكم أبكي أللفضل ذي الندى ... أم الشيخ يحيى أم لمحبوسه موسى
أم الملك المصلوب من بعد عزةٍ ... أم ابكي بكاء المعولات أم الثكلى
لكلكم أبكي بعينٍ غزيرةٍ ... وقلبٍ قريحٍ لا يموت ولا يحيا

قال: فتراءينا له ثم قبضنا عليه، فجزع وفزع وقال: من القوم؟ فقال برون: أنا حاجب أمير المؤمنين وهذا فلان وفلان. قال: وما الذي تريدون؟ قال برون: فأعلمته ما أمر به أمير المؤمنين من أخذه إلى مجلسه. قال: ذرني أوص فإني لا آمنه، ثم تقدم إلى بعض العلافين في فرضة الفيل فأخذ بياضاً وأوصى فيه وصية خفيفة ودفعها إلى الغلام وسرنا به، فلما مثل بين يدي المأمون زبره وقال: من أنت وبماذا استوجب البرامكة ما تفعله في دورهم؟ قال: يا أمير المؤمنين للبرامكة عندي أيادٍ خضرة أفتأذن لي أن أحدّثك؟ فقال: سديداً. قال: أنا يا أمير المؤمنين المنذر بن المغيرة من أهل دمشق كنت بها من أولاد الملوك فزالت عني نعمتي كما تزول عن الرجال، فلما ركبتني الديون واحتجت إلى بيع مسقط رأسي ورؤوس آبائي أشاروا عليّ بالخروج إلى البرامكة، فخرجت من دمشق ومعي نيف وثلاثون امرأة وصبياً وصبية وليس معنا ما يباع ولا ما يرهن حتى دخلت بغداد ونزلنا بباب الشام في بعض المساجد ودعوت بثويبات لي قد كنت أعددتها لأستميح بها الناس وتركتهم جياعاً وركبت شوارع بغداد فإذا أنا بمسجد مزخرف وفيه مائة شيخ قد طبّقوا طيالستهم بأحسن زي وزينة وبزة، وإذا خادمان على باب المسجد، فطمعت في القوم وولجت المسجد وجلست بين أيديهم وأنا أقدّم وأؤخر والعرق يسيل مني لأنها لم تكن صناعتي، فأنا لكذلك إذا أنا بخادم قد أقبل وقال للخادمين: ازعجا القوم، فازعج القوم وأنا معهم فأدخلونا دار يحيى بن خالد ودخلت معهم، فإذا بيحيى جالساً على دكة له وسط بستان، فسلّمنا وهو يعدنا مائة رجل وواحداً، وبين يدي يحيى عشرة من ولده، وإذا غلام أمرد حين عذّر خداه قد أقبل من بعض المقاصير بين يديه مائة خادم متنطقون في وسط كل خادم منطقة من ألف مثقال مع كل خادم مجمرة من ذهب ورجل من ذهب في كل مجمرة قطعة من العود كهيأة الفهر قد ضم إليه مثله من العنبر السلطاني فوضعوه بين يدي الغلام وجلس الغلام إلى جنب يحيى ثم قال يحيى للزبرقيّ القاضي: تكلم فقد زوّجت ابنتي عائشة من ابن عمي هذا من بيت نار النوُّبهار.

فخطب القاضي وشهد القاضي والنفر وأقبلوا علينا بالنثار ببنادق المسك والعنبر، فالتقطت والله يا أمير المؤمنين ملء كمّي ونظرت وإذا يحيى في الدكّة ما بين المشايخ ويحيى وولده والغلام ونحن مائة رجل واثنا عشر رجلاً، فخرج إلينا مائة خادم واثنا عشر خادماً مع كل خادم صينية فضة عليها ألف دينار شامية، فوضع بين يدي كل رجل منا صينية، فرأيت القاضي والمشايخ يصبّون الدنانير في أكمامهم ويجعلون الصواني تحت آباطهم ويقوم الأول فالأول حتى بقيت وحدي بين يدي يحيى لا أجسر على الصينية، فغمز لي الخادم، فجسرت عليها وجعلتها في كمّي وأخذت الصينية وقمت وأنا أمر طول الصحن والتفتّ ورائي هل يتبعني أحد، فإني لكذلك أطاول الالتفات ويحيى يلحظني فقال للخادم: ائتني بالرجل، فرُددت إليه، فأمر، فسُلبتُ الدنانير والصينية، ثم أمرني بالجلوس فجلست، فقال: ممن الرجل؟ فقصصت عليه قصتي. فقال: علي بموسى، فأُتي به، فقال: يا بني هذا رجل غريب فخذه إليك اخلطه بنفسك ونعمتك. فقبض عليّ موسى وأخذني إلى بعض دوره فقصف عليّ يومي وليلتي، فلما أصبح دعا بأخيه العباس وقال له: إن الوزير أمرني بالقصف على هذا الفتى وقد علمت تشاغلي في دار أمير المؤمنين فاقبض عليه وقاصفه، فلما كان من غد تسلمني أحمد، ثم لم أزل وأيدي القوم تتداولني عشرة أيام لا أعرف خبر عيالي وصبياني في الأموات هم أم في الأحياء، فلما كان في اليوم العاشر دُفعت في يدي الفضل فقصف عليّ، فلما كان في الحادي عشر جاءني خادم مع عشرة من الخدم فقالوا: قم عافاك الله فاخرج إلى عيالك بسلام. فقلت: وا ويلاه سلبت الدنانير والصينية وقد تمزقت ثيابي واتسخت وأخرج على هذه الحالة! إنا لله وإنا إليه راجعون! فرُفع لي الستر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، فقبل أن رُفع السابع قال لي الخادم: تمنّ ما شئت، ورفع لي ستر عن حجرة كالشمس استقبلني منها رائحة العود والندّ ونفحات المسك، وإذا أنا بصبياني يتقلبون في الحرير والديباج وأنا قد حمل إليّ ألف ألف درهم مبدّرة وعشرة آلاف دينار وقبالتين بضيعتين وتلك الصينية مع الدنانير والبنادق، فبقيت يا أمير المؤمنين مع البرامكة في دورهم ثلاث عشرة سنة لا يعلم الناس أمن البرامكة أنا أم من بيت نار النوبهار أو رجل غريب اصطنعوني، فلما جاء القوم البلية ونزلت بهم من الرشيد النازلة قصدني عمرو بن مسعدة وألزمني من الخراج في هاتين الضيعتين ما لا يفي دخلهما به، فلما تحامل عليّ الدهر كنت أنظر إلى خرابات القوم فأندبهم. فقال المأمون: علي بعمرو بن مسعدة، فلما أُتي به قال له: يا عمرو أتعرف الرجل؟ قال: نعم هو من بعض صنائع البرامكة. قال: كم ألزمته في ضيعته؟ قال: كذا وكذا. قال: ردّ عليه كل ما استأديته إياه في سنيه وأوغر ضيعتيه تكونان له ولعقبه من بعده، فعلا نحيب الرجل بالبكاء يرثي البرامكة، فلما طال بكاؤه قال له المأمون: فممّ بكاؤك وقد أحسنا إليك؟ قال: يا أمير المؤمنين هذا أيضاً من صنائع البرامكة، أرأيتك يا أمير المؤمنين لو لم آت خرابات القوم فأبكيهم وأندبهم حتى اتصل خبري بأمير المؤمنين ففعل بي ما فعل من أين كنت أصل إلى ما وصلت إليه؟ قال إبراهيم بن ميمون: فلقد رأيت المأمون وقد دمعت عينه واشتد حزنه على القوم وقال: صدقت لعمري هذه أيضاً من صنائعهم، فعليهم فابك وإياهم فاشكر!

مساوئ قلة الوفاء والسعاية
يقال: إن رجلاً رفع رقعة إلى عمر بن الخطاب، رحمه الله، يسعى فيها ببعض أصحابه، فوقّع فيها: تقربت إلينا بما باعدك من الرحمن ولا ثواب لمن آثر عليه.
قيل: ورفع منتصح رقعة إلى عبد الملك بن مروان، فوقّع فيها: إن كنت كاذباً عاقبناك، وإن كنت صادقاً مقتناك، وإن استقلتنا أقلناك. فاستقاله الرجل.
قيل: وكتب صاحب بريد همذان إلى المأمون بخراسان يعلمه أن كاتب البريد المعزول أخبره أن صاحبه وصاحب الخراج كانا تواطآ على إخراج مائتي ألف درهم من بيت المال واقتسماها بينهما، فوقّع المأمون: إنا نرى قبول السعاية شراً كمن قبله وأجازه، فأنف الساعي عنك فلو كان في سعايته صادقاً لقد كان في صدقه لئيماً إذ لم يحفظ الحرمة ولم يستر على أخيه.

قال: وقال المأمون لولده: يا بني نزّهوا أقداركم وطهروا أحسابكم عن دنس الوشاة وتمويه سعايتهم فكل جانٍ يده في فيه وليس يشي إليكم إلا أحد الرجلين ثقة وظنين، أما الثقة فقد قيل إنه لا يبلغ ولا يشين بالوشاية قدره، وأما الظنين فأهل أن يتهم صدقه ويكذّب ظنه ويردّ باطله، وما سعى رجل برجل إليّ قط إلا انحط من قدره عندي ما لا يتلافاه أبداً، فلا تعطوا الوشاة أمانيهم فيمن يشون بهم، فقد قال بعض الملوك لرجل سعى بآخر: لو كنت أنت أنا ما كنت صانعاً به؟ قال: كنت أقتله. فقال: أما إذ لم تكن أنت أنا فإني غير قاتله ومع ذلك فلا تدعوا الفحص عما يلقى إليكم مما تحذرون رجوع ضرره عليكم.
عوانة قال: قام رجل إلى سليمان بن عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين عندي نصحية. قال: وما نصيحتك هذه؟ قال: كان فلان عاملاً ليزيد والوليد وعبد الملك فخانهم فيما تولاه واقتطع أموالاً جليلة فمر باستخرجها منه. فقال: أنت شر منه وأخون حيث اطّلعت على أمره وأظهرته ولولا أني أنفّر أصحاب النصائح لعاقبتكم ولكن اختر مني خصلة من ثلاث. قال: اعرضهن يا أمير المؤمنين. قال: إن شئت فتّشت عما ذكرت فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أقلناك. قال: بل تقيلني يا أمير المؤمنين. قال: قد فعلت فلا تعودن بعدها إلى أن تظهر من ذي مروءة ما كتمه الله وستره.

محاسن الشكر
قال بعض الحكماء: صن شكرك عمّن لا يستحقه واستر ماء وجهك بالقناعة.
وقال الفضل بن سهل: من أحب الازدياد من النعم فليشكر، ومن أحب المنزلة عند سلطانه فليكفه، ومن أحب بقاء عزه فليسقط دالّته ومكره. ومن ذلك قول رجل لرجل شكره في معروف:
لقد ثبتت في القلب منك محبةٌ ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع
قال: واصطنع رجل رجلاً فسأله يوماً: أتحبني يا فلان؟ قال: نعم أحبك حباً لو كان فوقك لأظلك ولو كان تحتك لأقلك.
وقال كسرى أنوشروان: المنعم أفضل من الشاكر لأنه جعل له السبيل إلى الشكر.
واختصر حبيب بن أوس من هذا شيئاً في مصراع واحد فقال:
لهان علينا أن نقول وتفعلا
وقال بشار:
أثني عليك ولي حالٌ تكذبني ... فيما أقول وأستحيي من الناس
قد قلت إن أبا حفصٍ لأكرم من ... يمشي فخاصمني في ذاك إفلاسي
ولأبي الهول في مثله:
فإني إذ مدحتك يا ابن معنٍ ... رآني الناس في رمضان أزني
فإن أك أُبتُ عنك بغير شيءٍ ... فلا تفرح كذلك كان ظني
ولآخر في مثله:
لحى الله قوماً أعجبتهم مدائحي ... فقالوا خفاتاً في ملامٍ وفي عتب:
أبا حازمٍ تمدح، فقلت معذّراً: ... هبوني امرأً جربت سيفي على كلب
ولبعض المحدثين:
عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمنٍ ... لكنه يشتهي حمداً بمجّان
والناس أكيس من أن يحمدوا أحداً ... حتى يروا قبله آثار إحسان
وقال آخر:
فلو كان يستغني عن الشكر سيدٌ ... لعزّة ملكٍ أو علو مكان
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان
الباهلي عن أبي فروة قال: أخبرني الحلبي قال: مكتوب في التوراة: اشكر لمن أنعم عليك وأنعم على من شكرك، فإنه لا زوال للنعم إذا شكرت ولا إقامة لها إذا كفرت والشكر زيادة في النعم وأمان من الغِيَر.
قيل وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: خمس يعاجل صاحبهن بالعقوبة: البغي والغدر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم ومعروف لا يشكر.
وفي حديث مرفوع: دعاء المنعم على المنعَم عليه مستجاب.
وقيل: أنشد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الحطيئة هذا البيت وعنده كعب الأحبار:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال كعب: يا أمير المؤمنين هذا البيت الذي قال مكتوب في التوراة! قال عمر: وكيف ذاك؟ قال: في التوراة مكتوب: من يصنع المعروف لا يضيع عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي.
قيل: ودخل أبو مسلم صاحب الدولة على أبي العباس وأبو جعفر المنصور عنده، فقال أبو العباس لأبي مسلم: يا عبد الرحمن هذا أبو جعفر عبد الله بن محمد مولاك! قال: قد رأيت مجلسه يا أمير المؤمنين ولكنّ هذا مجلس لا يقضى فيه حق غيرك.

فصل لكاتبه في مثله: ولست أقابل أياديك ولا أستديم إحسانك إلا بالشكر الذي جعله الله جل وعز للنعم حارساً وللحق مؤدياً وللمزيد سبباً.
وقيل لرسول الله، صلى الله عليه وسلم: أليس قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً! وفي الحديث أن رجلاً قال في الصلاة خلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اللهم ربنا لك الحمد حمداً زاكياً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: أيكم صاحب الكلمة؟ قال أحدهم: أنا يا رسول الله. فقال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرون أيهم يكتبها أولاً، وقيل: نسيان النعمة أول درجات الكفر، ولابن المقفع:
مننت على قومي فأبدوا عداوةً ... فقلت لهم كفؤ العداوة والشكر
وقال آخر:
ألا في سبيل الله وُدٌ بذلته ... لمن لم يكن عندي لمعشاره أهلا
ولكن إذا فكّرت فيه وجدتني ... بحسني إليه قد أفدت به عقلا
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب: لا تدع المعروف لكفر من كفره فإنه يشكرك عليه أشكر الشاكرين، وقد قيل في ذلك:
يد المعروف غنمٌ حيث كانت ... تحمّلَها شكورٌ أم كفور
فعند الشاكرين لها جزاءٌ ... وعند الله ما كفر الكفور
قال بعضهم: ما أنعم الله على عبد نعمةً فشكر ذلك إلا لم يحاسبه على تلك النعمة، وقال بعض الحكماء: عند التراخي عن شكر المنعم تحلّ عظائم النقم.
قيل: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كثيراً ما يقول لعائشة، رضي الله عنها: ما فعل بيتك أو بيت اليهودي؟ فتقول:
يجزيك أو يُثني عليك وإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فيقول، عليه وعلى آله السلام: قد صدق يا عائشة، إن الله جل وعز إذا أجرى لرجل على يدي رجل خيراً فلم يشكره فليس لله بشاكر.
قيل وقيل لذي الرمة: لم خصصت بلال بن أبي بردة بمدحك؟ فقال: لأنه وطّأ مضجعي وأكرم مجلسي فحق لكثير معروفه عندي أن يستولي على شكري.
ومنهم من يقدم ترك مطالبة الشكر وينسبه إلى مكارم الأخلاق، من ذلك ما قاله بزرجمهر: من انتظر بمعروفه شكراً فقد استدعى عاجل المكافأة.
وقال بعض الحكماء: كما أن الكفر يقطع مادة الإنعام فكذلك الاستطالة بالصنيعة تمحق الأجر.
وقال علي بن عبيدة: من المكارم الظاهرة وسنن النفس الشريفة ترك طلب الشكر على الإحسان ورفع الهمة عن طلب المكافأة واستكثار القليل من الشكر واستقلال الكثير مما يبذل من نفسه.

مساوئ الشكر
قال بعض الحكماء: المعروف إلى الكرام يعقب خيراً والمعروف إلى اللئام يعقب شراً، ومثل ذلك مثل المطر يشرب منه الصداف فيعقب لؤلؤاً وتشرب منه الأفاعي فتعقب سماً.
وقال سفيان: وجدنا أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام.
قيل: وأثار جماعة من الأعراب ضبعاً فدخلت خباء شيخ منهم.
فقالوا: اخرجها. فقال: ما كنت لأفعل وقد استجارت بي. فانصرفوا، وكانت هزيلة فأحضر لها لقاحاً فجعل يسقيها حتى عاشت، فنام الشيخ ذات يوم فوثبت عليه فقتلته، فقال شاعرهم في ذلك:
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاقي الذي لاقى مجير ام عامر
أعد لها لما استجارت بقربه ... غداءً من البان اللقاح الغزائر
وأسمنها حتى إذا ما تملأت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروفٍ إلى غير شاكر
قيل: وأصاب أعرابي جرو ذئب فاحتمله إلى خبائه وقرّب له شاةً فلم يزل يمتص من لبنها حتى سمن وكبر ثم شد على الشاة فقتلها، فقال الأعرابي:
غذتك شويهتي ونشأت عندي ... فما أدراك أن أباك ذيب
فجعت نُسيةً وصغار قومٍ ... بشاتهم وأنت لهم ربيب
إذا غلبت طباع الشر فيه ... فليس لغيرها فيه نصيب
ويروى: نشأت مع السخال وأنت جرو.
ويضرب المثل بسنّمار، وكان بنى للنعمان بن المنذر الخورنق فأعجبه فكره أن يبني لغيره مثله فأمر به فرمي من أعلاه حتى مات، فقيل فيه:
جزتنا بنو سعدٍ بحسن بلائنا ... جزاء سنمّارٍ ولم يك ذا ذنب
ويروى: وما كان ذا ذنب، وفي المثل: سمن كلبك يأكلك. وقال بعضهم:

وإني وقيساً كالمسمن كلبه ... فخدّشه أنيابه وأظافره

محاسن الدهاء والحيل
ذكروا أنه لم يكن في ملوك العجم أدهى من كسرى أنوشروان، وأن الخزر كانت تغير في سلطان فارس حتى تبلغ همذان والموصل، فلما ملك أنوشروان كتب إلى ملكهم فخطب ابنته على أن يزوجه أيضاً ابنته ويتوادعا ويتفرغا إلى سائر أعدائهما، فأجابه إلى ذلك، وعمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فزفّها إلى صاحب الخزر وأهدى معها ما يشبه أن يهدى مع بنات الملوك وزفّ صاحب الخزر إلى أنوشروان ابنته، فلما وصلت إليه قال لوزرائه: اكتبوا إلى صاحب الخزر لو التقينا وأكدنا المودة بيننا، فأجابه إلى ذلك ووعده موضع الدرب، فالتقيا فكانا يخلوان في لذاتهما، ثم إن أنوشروان أمر قائداً من قواده أن يختار ثلاثمائة رجل من أشد أصحابه فإذا هدأت العيون أغار في ناحية من عسكر الخزر، ففعل ذلك، فلما أصبح بعث إليه صاحب الخزر: ما هذا ينهب عسكري البارحة؟ فأنكر ذلك وقال: لم تؤت من قبلي. فأمهله أياماً ثم عاد إلى مثلها، ففعل ذلك ثلاث مرات في كل ذلك يعتذر إليه أنوشروان ويسأله البحث فيبحث فلا يقف على شيء، فلما طال ذلك دعا صاحب الخزر بقائد من قواده وأمره بمثل ذلك، فلما أصبح بعث إليه أنوشروان: ما هذا أتستبيح عسكري البارحة؟ فأرسل إليه: ما أسرع ما ضجرت، قد فعل هذا بعسكري ثلاث مرات وإنما فُعل بك مرة واحدة! فبعث إليه أنوشروان: إن هذا عمل قوم يريدون أن يفسدوا بيننا وعندي رأي إن قبلته. فقال: وما هو؟ قال: تدعني أبني حائطاً بيني وبينك وأجعل عليه باباً فلا يدخل عليك إلا من تحب ولا يدخل عليّ إلا من أحب. فأجابه إلى ذلك وتحمّل ومضى، وأقام أنوشروان فأمر، فبني بالصخر والرصاص حائط عرضه ثلاثمائة ذراع حتى ألحقه برؤوس الجبال وجعل عليه أبواب حديد فكان يحرسه مائة رجل بعد أن كان يحتاج إلى خمسة آلاف رجل، فلما فرغ من السد وقُيّد الفند في البحر وأحكم الأمر سرّ سروراً شديداً فأمر أن ينصب على الفند سريره ويفرش له عليه، ثم قام فرقى إليه وأغفى عليه، فطلع طالع من البحر سد الأفق بطوله وأهوى نحو الفند، فثار الأساورة إلى قسيهم، فانتبه الملك فقال: ما شأنكم؟ أمسكوا، لم يكن الله جل وعز ليلهمني الشخوص عن وطني اثنتي عشرة سنة فأسد ثغراً يكون عزاً لرعيتنا وردءاً ومرتقى لعباده ثم يسلط عليّ دابة من دواب البحر. فتنحى الأساورة وأقبل الطالع نحو الفند، فذكر الموبذ أن الله جل وعز أنطق ذلك الحيوان فقال: أيها الملك أنا ساكن من سكان هذا البحر وقد رأيت هذا الفند مشدوداً سبع مرات وخراباً سبع مرات، وأوحى الله جل وعز إلينا معشر سكان هذا البحر أن ملكاً عصره عصرك وصورته صورتك يبعثه الله جل وعز يسد هذا الثغر إلى الأبد، وأنت ذلك الملك، فأحسن الله على البر معونتك.
ثم غاب عن بصره كأنما غاب في البحر أو طار في الجو، وسأل أنوشروان عند فراغه من ذلك السد من ذلك البحر، فقيل: هو ثلاثمائة فرسخ في مثلها وبينه وبين بيضاء الخزر مسيرة أربعة أشهر على هذا الساحل ومن بيضاء الخزر إلى الفند الذي بناه أسفندياذ مسيرة شهرين. فقال أنوشروان: لا بد من الوقوف عليه والنظر إليه. قالوا: أيها الملك إنه طريق لا يطمع في سلوكه لموضع فيه يقال له دهان شير، يريد فم الأسد، وفيه دردور لا يكاد تسلم فيه سفينة. قال أنوشروان: لا بد من ركوب هذا البحر والنظر إلى هذا السد.

فقالوا: أيها الملك اتق الله في نفسك وفيمن معك! فقال: أتوكل على الله الذي خلق هذا البحر وهو جل وعز ينجينا من دردوره ولا أحسب أني أمسح ايران شهر شرقه وغربه وأعرف عدد جباله وأوديته إلا بعد ركوب هذا البحر وسلوكه إلى البر. فهيئت له السفن وركب معه عدة من النساك حتى لجّجوا في البحر ووافوا ذلك الذي يعرف بدهان شير فدفعوا إلى دردورٍ هائل فبقوا فيه متحيرين لا يرون مناراً يجعلونه علماً لهم ولا جبلاً يقيمونه أمارةً لمنصرفهم، فرجعوا على الملك باللوم والعيب. فقال: أخلصوا نياتكم لله جل وعز وتضرعوا إليه، ففعلوا، ونذر أنوشروان إن نجاه الله جل ذكره ليصّدّقن بخراج سبع سنين. قال: فرفعت له جزيرة تعلوها الأمواج وفوق الجزيرة أسد في عظم جبل يتشرب الماء مؤخره وينحطّ من فيه إلى ذلك الدردور، فبينا هم كذلك إذ بعث الله جل جلاله سمكة عظيمة فطفرت حتى صارت في في الأسد، فسكن الدردور ونفذت السفينة حتى وصل إلى ما أراد ثم انصرف إلى دار مملكته.
حمّاد قال: حدثني أبي قال: قال الأعشى في مدحه إياس بن قبيصة وذكره مسيره إلى الروم حيث لقيه كسرى أبرويز بساتيدما، وهو جبل يزعم أهل العلم أنه دون الجبال وأنه لا بد من أن يراق عليه دم كل يوم. قال الواقدي: بل هو محيط بالدنيا، وزعموا أنه ليس في الأرض يوم إلا ويسفك عليه دم، وإنما سمي ساتيدما معناه سيأتي دماً، فكان من خبر إياس بن قبيصة أن كسرى أبرويز كان رجلاً سيء الظن وأنه بعث شهربراز إلى الروم في جيش عظيم فأعطي من الظفر ما لم يعط أحد كان قبله، وهو الذي أصاب خزائن الملك التي كانت تسمى كنج بادآورد، أي الكنز الذي جاءت منه به الريح، وكانوا حملوها ليحرزوها، فضربتها الريح في الجزر من خليج البحر فأخذها وبعث بها إلى كسرى، فحسده كسرى وحذره وبعث إليه برجل تقدم إليه في قتله، وكان الذي أتاه رجل من أهل أذربيجان، فلما رأى جماله وهيئته قال: لا يصلح قتل هذا في غير جرم ولا حق، فأخبره بما أمره به، فأرسل شهربراز إلى قيصر: إني أريد أن ألقاك. فالتقيا، فقال له: إن هذا الخبيث قد أراد قتلي وإني والله لأريدن منه مثل الذي أراد مني، فاجعل لي ما أطمئن إليه وأعطيك مثل ذلك، ولئن قتلته لتجلعن لي ما أغلب عليه من الكور وأجعل لك أن لا أغزوك أبداً ولا أتناول شيئاً من أرضك وأن أعطيك من بيوت أموال كسرى مثل ما تنفق في مسيرك هذا، فأعطاه قيصر ما سأل، وسار قيصر في أربعين ألف مقاتل وخلّف شهربراز في أرض الروم وقد أخذ منه العهود والمواثيق، ولم يعلم كسرى بذلك حتى دنا منه قيصر، فلما بلغه ذلك علم أن شهربراز علم بما كان دبره من قتله، وكانت جنوده قد تفرقت في السواد وغيرها، وكان كسرى قد أبغضه أهل مملكته وملّوه وعرف حاله عند الناس، فاحتال بحيل الرجال واستعمل المكر والدهاء فبعث إلى قسّ عظيم من النصارى يثق ملك الروم بقوله فقال: إني أكتب معك كتاباً لطيفاً في حرير وأجعله في قناة إلى شهربراز وجائزتك عليّ ألف دينار، وقد عرف كسرى أن القسّ يذهب بالكتاب إلى ملك الروم، فكتب إلى شهربراز: إني كتبت إليك وقد دنا قيصر مني وقد أحسن الله جل وعز إليّ بصنيعك ونفوذ تدبيرك وقد فرقت لهم الجيوش وأنا تاركه حتى يدنو مني وأثب عليه وثبة أستأصل شأفته بها، وإذا كان ذلك اليوم وهو يوم كذا وكذا فأغر أنت عليّ من قبلك منهم فإنك تبيدهم وتهلكهم، وأرجو أن تكون لملك قيصر مصطلماً. فخرج القسّ بالكتاب حتى لقي قيصر، وقد كانت صوّرت لقيصر أرض العرب والعراق وصوّرت له النهروان بغير حين المدّ، فلما انتهى إليه في المد وليس عليه جسر وقرأ الكتاب من يد القسّ وقال: هذا هو الحق، ورجع منهزماً مفلولاً واتبعه كسرى بإياس بن قبيصة الطائي فأدركهم بساتيدما مرعوبين مفلولين من غير لقاء ولا قتال، فقتلوا قتل الكلاب ونجا قيصر في خواص من أصحابه، فمدح الأعشى إياس بن قبيصة وكان قد أصابه مرض فقال:
ما تعيف اليوم في الطير الرَّوَح ... من غراب البين أو تيس برح
جالساً في نفرٍ قد أيسوا ... في مقيل القدّ من صحب قزح

قال ابن الأعرابي وسأله حماد عن قوله: ما تعيف القوم في الطير الروح؟ فقال: تطيّر الأعشى من مرض إياس إلى الزجر والفأل فقال لنفسه ما تعيف منه، أي ما تكره منه، وهو آخر أمره إلى السلامة، فرجع قيصر وقد اتهم شهربراز فلم يزل به حتى أمكنته الفرصة منه فقتله وعامة رجاله وأفناهم.
قيل: ولما تشاغل عبد الملك بن مروان بمقاتلة مصعب بن الزبير اجتمع وجوه الروم إلى ملكهم وقالوا له: قد أمكنتك الفرصة من العرب فقد تشاغل بعضهم ببعض ووقع بأسهم بينهم فالرأي أن تغزوهم في بلادهم فإنك تذلهم وتنال حاجتك منهم، فنهاهم عن ذلك فأبوا عليه إلا أن يفعل، فلما رأى ذلك دعا بكلبين فأرّش بينهما فاقتتلا قتالاً شديداً ثم دعا بثعلب فخلاّه بينهما، فلما رأى الكلبان الثعلب تركا ما كانا فيه وأقبلا على الثعلب حتى قتلاه، فقال ملك الروم: هكذا العرب تقتتل بينها فإذا رأونا وهم مجتمعون تركوا ذلك وأقبلوا علينا، فعرفوا صدقه ورجعوا عما كانوا عليه.
وعن بكّار بن ماهويه قال: قال كسرى أبرويز لمنجمه: كيف يكون أجلي؟ فقيل له: تقتل. فقال: والله لأقتلن قاتلي! فأمر بسم فخلط في أدوية وكتب عليه: هذا دواء الجماع من أخذ منه وزن كذا جامع كذا مرة، وصيّره في خزانة الطب، فلما قتله ابنه شيرويه فتّش خزانة أبيه فمرّ بذلك السم فقال في نفسه: بهذا كان يقوى أبي على الجماع وعلى شيرين وغيرها، فأخذ منه فمات من ساعته.
وعن الهيثم عن ابن عياش قال: كان الحجاج حسوداً لا تتم له صنيعة حتى يفسدها، فوجه عمارة بن تميم اللخمي إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فظفر به وصنع به ما صنع ورجع إلى الحجاج بالفتح فلم ير منه ما أحب وكره منافرته، وكان عاقلاً رفيقاً، فجعل يترفق به ويداريه ويقول: أنت أيها الأمير أشرف العرب فمن شرفته شرف ومن وضعته اتضع وما ينكر لك ذلك مع رفقك ويمنك ومشورتك ورأيك، وما كان هذا كله إلا بصنع الله عز وجل وتدبيرك، وليس أحد أشكر لصنيعك مني، ومَن ابن الأشعث وما خطره! حتى عزم الحجاج على المضي إلى عبد الملك فأخرج عمارة معه، فوفد عليه وعمارة يومئذٍ على أهل فلسطين أمير، فلم يزل يلطف بالحجاج في مسيره ويعظمه حتى قدموا على عبد الملك، فلما قامت الخطباء بين يديه وأثنت على الحجاج، قام عمارة فقال: يا أمير المؤمنين سل الحجاج عن طاعتي ومناصحتي وبلائي. فقال الحجاج: يا أمير المؤمنين صنع وصنع، ومن بأسه ونجدته وعفافه ومكيدته كذا وكذا، هو أيمن الناس نقيبةً وأعلمهم بتدبير وسياسة، ولم يبق غاية في الثناء عليه. فقال عمارة: أرضيت يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم، فرضي الله عنك، حتى قالها ثلاثاً في كلها يقول: قد رضيت، فقال عمارة: فلا رضي الله عن الحجاج يا أمير المؤمنين ولا حفظه ولا عافاه! فهو والله السيء التدبير الذي قد أفسد عليك أهل العراق وألّب عليك الناس، وما أُتيت إلا من قلة عقله وضعف رأيه وقلة بصره بالسياسة، ولك والله أمثالها إن لم تعزله! فقال الحجاج: مه يا عمارة! فقال: لا مه ولا كرامة يا أمير المؤمنين، كل امرأة له طالق وكل مملوك له حر إن سار تحت راية الحجاج أبداً! فقال عبد الملك: ما عندنا أوسع لك، فلما انصرف عمارة إلى منزله بعث إليه الحجاج وقال: أنا أعلم أنه ما خرج هذا عنك إلا معتبة ولك عندي الغنى ولك ولك. فأرسل إليه: ما كنت أظن أن عقلك على هذا. أرجع إليك بعد الذي كان من طعني وقولي عند أمير المؤمنين! لا ولا كرامة لك.

وعن الهيثم بن الحسن بن عمارة قال: قدم شيخ من خزاعة أيام المختار فنزل على عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي، فلما رأى ما تصنع شيعة المختار به من الإعظام له جعل يقول: يا عباد الله أبالمختار يصنع هذا؟ والله لقد رأيته تبيع الإماء بالحجاز! فبلغ ذلك المختار فدعا به فقال: ما هذا الذي يبلغني عنك؟ قال: الباطل، فأمر بضرب عنقه، فقال: لا والله لا تقدر على ذلك! قال: ولم؟ قال: أما دون أن أنظر إليك وقد فتحت مدينة الدمشق حجراً حجراً وقتلت المقاتلة وسبيت الذرية ثم تصلبني على شجرة على نهر! والله إني لأعرف الشجرة الساعة وأعرف شاطيء ذلك النهر! قال: فالتفت المختار إلى أصحابه فقال لهم: أما إن الرجل قد عرف الشجرة، فحبس حتى إذا كان الليل بعث إليه فقال: يا أخا خزاعة ومزاح عند القتال! فقال: أنشدك الله أن أُقتل ضياعاً! قال: وما تطلب ها هنا؟ قال: أربعة آلاف درهم أقضي بها ديني. قال: ادفعوها إليه وإياك أن تصبح بالكوفة، فقبضها وخرج.
وعنه قال: كان سراقة البارقي من ظرفاء أهل المدينة فأسره رجل من أصحاب المختار فأتى به المختار وقال: أسرت هذا، فقال: كذبت والله ما أسرني هذا إنما أسرني رجل عليه ثياب بيض على فرس أبلق! فقال المختار: أما إن الرجل قد عاين، يعني الملائكة، خلّوا سبيله، فلما أفلت أنشأ يقول:
ألا أبلغ أبا إسحاق عني ... رأيت الدُّهم بلقاً مصمتات
أري عينيّ ما لم تبصراه ... كلانا مولعٌ بالترهات
كفرت بدينكم وجعلت نذراً ... عليّ قتالكم حتى الممات
وعنه قال: خرج الأخوص بن جعفر المخزومي يتغدى في دير اللجّ وذلك في يوم شديد البرد ومعه حمزة بن بيض وسراقة البارقي، فلما كانا على ظهر الكوفة وعليه الوبر والخز وعليهما أطمار قال حمزة لسراقة: أين يذهب بنا هذا في هذا البرد ونحن في أطمارنا؟ قال سراقة: أن أكفكيه. فبينا هو يسير إذ لقيهم راكب مقبل فحرك سراقة دابته نحوه وافقه ساعةً ولحق بالأخوص، فقال: ما خبّرك به الراكب؟ قال: زعم أن خوارج خرجت بالقطقطانة، قال: بعيد. قال: إن الخوارج تسير في ليلة ثلاثين فرسخاً وأكثر، وكان الأخوص أحد الجبناء فثنى رأس دابته وقال: ردوا طعامنا نتغدى في المنزل، فلما حاذى منزله قال لأصحابه: ادخلوا، ومضى إلى خالد بن عبد الله القسري فقال: قد خرجت خارجة بالقطقطانة، فنادى خالد في العسكر فجمعهم ووجّه خيلاً تركض نحو دير اللج لتعرف الخبر، فانصرفوا وأعلموه أنه لا أصل للخبر، فقال للأخوص: من أعلمك هذا؟ قال: سراقة، قال: وأين هو؟ قال: في منزلي، فأرسل إليه من أتاه به فقال: أنت أخبرته عن الخارجة؟ قال: ما فعلت أصلح الله الأمير، فقال له الأخوص: أوتكذبني بين يدي الأمير؟ قال خالد: ويحك اصدقني! قال: نعم أخرجنا في هذا البرد وقد ظاهر الخز والوبر ونحن في أطمارنا هذه فأحببت أن أرده، فقال له خالد: ويحك وهذا مما يتلاعب به؟! وكان سراقة ظريفاً شاعراً وهو الذي يقول:
قالوا سراقة عنّينٌ فقلت لهم: ... ألله يعلم أني غير عنّين
فإن ظننتم بي الشيء الذي زعموا ... فقربوني من بنت ابن يامين
وذكروا أن شبيب بن يزيد الخارجي مر بغلام مستنقع في ماء الفرات فقال له: يا غلام اخرج إليّ أسائلك، فعرفه الغلام، فقال: إني أخاف، أفآمن أنا إن خرجت حتى ألبس ثيابي؟ قال: نعم، فخرج وقال: والله لا ألبسها اليوم، فضحك شبيب وقال: خدعني ورب الكعبة! ووكل به رجلاً من أصحابه يحفظه ألا يصيبه أحد من أصحابه بمكروه.
قال: وكان رجل من الخوارج قال في قصيدة له:
ومنا يزيد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
فسار البيت حتى سمعه عبد الملك بن مروان فأمر بطلب قائله، فأُتي به، فلما وقف بين يديه قال: أنت القائل: ومنا أميرُ المؤمنين شبيب؟ قال: لم أقل هكذا يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قلت؟ قال: قلت ومنا أميرَ المؤمنين شبيب، فضحك عبد الملك وأمر بتخلية سبيله، فتخلص بحيلته وفطنته لإزالة الإعراب عن الرفع إلى النصب.

وزعموا أن عمرو بن معدي كرب الزبيدي هجم في بعض غاراته على شابّة جميلة منفردة فأخذها، فلما أمعن بها بكت، فقال: ما يبكيك؟ قالت: أبكي لفراق بنات عمي، كن مثلي في الجمال وأفضل مني، خرجت معهن فانقطعنا عن الحي، قال: وأين هن؟ قالت: خلف ذلك الجبل ووددت إذ أخذتني أخذتهن، فأخذ إلى الموضع الذي وصفته فما شعر بشيء حتى هجم على فارس شاكٍّ في السلاح فعرض عليه المصارعة فصرعه الفارس ثم عرض عليه ضروباً من المناوشة فغلبه الفارس في كلها، فسأله عمرو عن اسمه فإذا هو ربيعة بن مكدم، فاستنقذ الجارية منه.
وعن عطاء أن مخارق بن عفان ومعن بن زائدة لقيا رجلاً ببلاد الشرك ومعه جارية لم يريا مثلها شباباً وجمالاً فصاحا بها ليخلي عنها، ومعه قوس فرمى وهابا الإقدام عليه، ثم عاد ليرمي فانقطع وتره وسلّم الجارية وأسند في جبل كان قريباً منه، فابتدرا الجارية وفي أذنها قرط فيه درة فانتزعه بعضهما من أذنها، فقالت: وما قدر هذا؟ لو رأيتما درّتين معه في قلنسوته، وفي القلنسوة وتر قد أعده فنسيه من الدهش! فلما سمع قول المرأة ذكر الوتر فأخرجه وعقده في قوسه، فوليا ليست لهما همة إلا النجاء وخليا عن الجارية.
قيل: واستودع رجل رجلاً مالاً ثم طالبه به فجحده، فخاصمه إلى إياس بن معاوية القاضي وقال: دفعت إليه مالاً في مكان كذا وكذا، قال: فأي شيء كان في ذلك الموضع؟ قال: شجرة، قال: فانطلق إلى ذلك الموضع وانظر إلى تلك الشجرة فلعل الله أن يوضح لك هناك ما تبين به حقك أو لعلك دفنت مالك عند الشجرة فنسيت فتذكر إذا رأيت الشجرة، فمضى، وقال إياس للمطلوب منه: اجلس حتى يرجع صاحبك، فجلس وإياس يقضي وينظر إليه بين كل ساعة ثم قال: ترى صاحبك بلغ موضع الشجرة؟ قال: لا، فقال: يا عدو الله أنت الخائن! قال: أقلني أقالك الله! فأمر بحفظه حتى جاء خصمه فقال له: خذه بحقك فقد أقرّ.
قال: واستودع رجل رجلاً كيساً فيه دنانير فغاب وطالت غيبته فشقّ المستودع الكيس من أسفله وأخذ الدنانير وجعل مكانها دراهم وخيطه والخاتم على حاله، فجاء الرجل بعد ست عشرة سنة فقال: مالي. وطالب به، فأعطاه الكيس بخاتمه، فنظر إليه وإذا ماله دراهم، فأحضره مجلس إياس، فقال إياس للطالب: ماذا تقول؟ قال: أعطيته كيساً فيه دنانير، فقال: منذ كم؟ قال: فإذا ست عشرة سنة، قال: فضّا الخاتم، ففضاه، فقال: انثرا ما فيه، فنثراه، فإذا هي دراهم بعضها من ضرب عشر سنين وأكثر وأقل، فأقر بالدنانير وألزمه إياها حتى خرج منها.
قال: وأودع رجل رجلاً من أمناء إياس مالاً وحج، فلما رجع طالبه فجحده، فأتى إياساً فأخبره، فقال: أتعلم أنك أخبرت غيري بذلك؟ قال: لا، قال: فهل علم أنك أعلمتني؟ قال: لا، قال: أفنازعته بحضرة أحد؟ قال: لا، قال: فانصرف واكتم أمرك ثم عد إلي، ودعا إياس أمينه ذلك فقال: قد حضر مال كثير وقد رأيت أن أودعك إياه وأصيره عندك فارتد له موضعاً وأتني بمن يحمله معك. فمضى الأمين، وعاد الرجل إلى إياس فقال له: انطلق إلى صاحبك فطالبه بمالك فإن أعطاك وإلا فقل إنك تعلمني، فأتاه فقال له: اعطني مالي وإلا أتيت القاضي فأعلمته، فدفع إليه ماله، وصار إلى إياس فقال: قد رد مالي عليّ، وجاء الأمين إلى إياس في موعده فانتهره وقال: اخرج عني يا خائن.
قال: وأراد معاوية أن يوجه ابنه يزيد إلى غزو الصائفة وكره يزيد ذلك وأنشأ يقول:
تجنّى لا تزال تعدّ ذنباً ... لتقطع وصل حبلك عن حبالي
فيوشك أن يريحك من أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي

وخرج وخرج الناس معه، وفيمن خرج أبو أيوب الأنصاري، فلما قرب من قسطنطينية اشتكى أبو أيوب فأتاه يزيد عائداً، فقال له: ما حاجتك؟ قال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها ولكن سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: يدفن بجنب قسطنطينية رجل صالح وقد رجوت أن أكونه فقدمني ما قدرت عليه، فمات فلما فرغ من جهازه ووضع على سريره قدّم الكتائب بين يديه، فنظر قيصر ورأى أمراً عجيباً وشيئاً يحمل والناس بالسلاح تحته، فأرسل إليه: ما هذا الذي نرى؟ قال يزيد: هذا صاحب نبينا، صلى الله عليه وسلم، أوصى أن ندفنه إلى جنب مدينتكم ونحن ننفذ وصيته أو نموت دونه، فأرسل إليه: العجب من الناس! وما يذكرونه من دهاء أبيك وهو يبعثك في هذا البعث تدفن صاحب نبيك بجنب مدينتي فإذا ولّيت عنه نبشته فطرحته للكلاب، فأرسل إليه يزيد: إني ما أردت أن أُجنّه حتى أودع مسامعك كلامي، وكفرت بالذي أكرمتُ له هذا الميت، لئن تعرضت له لا تركت في أرض العرب نصرانياً إلا سفكت دمه واستصفيت ماله وسبيت حرمه، فأرسل إليه قيصر: كان أبوك أعرف لك مني وإني أحلف بحق المسيح، عليه السلام، لا يحرسه سنة أحد غيري.

وعن بعض مشايخ المدينة قال: كانت عند عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، رضوان الله عليهما، جارية مغنية يقال لها عُمارة، فلما وفد عبد الله على معاوية خرج بها معه فزاره يزيد ذات يوم وأقام عنده، فأخرجها إليه فلما نظر إليها وسمع غناءها وقعت في نفسه فأخذه عليها ما لم يملك نفسه معه وجعل يمنعه من أن يبوح به مكان أبيه مع يأسه من الظفر بها، فلم يزل يكاتمه إلى أن مات معاوية وأفضى إليه الأمر وتقلد الخلافة يزيد، فاستشار بعض من يثق به في أمرها فقال: إن أمر عبد الله لا يرام، وأنت لا تستجيز إكراهه ولا يبيعها بشيء أبداً وليس يغني في هذا الأمر إلا الحيلة، قال: اطلب لي رجلاً عاقلاً من أهل العراق ظريفاً أديباً له معرفة ودراية، فطلبوه فأتوه به، فلما دخل عليه استنطقه فرأى بياناً وحلاوة وفقهاً، فقال له: إني دعوتك لأمر إن ظفرت به فهو حظوتك آخر الدهر ويدٌ أكافيك عليها، ثم أخبره بأمره، فقال: يا أمير المؤمنين إن عبد الله بن جعفر ما يرام ما قبله إلا بالخديعة وإن يقدر على ما سألت رجلٌ فأرجو أن أكونه والقوة بالله، فأعني يا أمير المؤمنين بالمال، قال: خذ ما أحببت، فأخذ واشترى من طُرف الشام وثياب مصر ومتاعها للتجارة ومن الرقيق والدواب وغير ذلك حاجته وشخص إلى المدينة فأناخ بعرصة عبد الله بن جعفر واكترى منزلاً إلى جانبه ثم توسل إليه وقال: أنا رجل من أهل العراق وقدمت بتجارة فأحببت أن أكون في جوارك وكنفك إلى أن أبيع ما جئت به، فبعث عبد الله إلى قهارمته وقال: أكرموا جارنا وأوسعوا عليه المنزل، فلما اطمأن العراقي وسلم عليه أياماً وعرّفه نفسه هيّأ له بغلة فارهة وثياباً من ثياب العراق وألطافاً وبعث بها إليه وكتب رقعة يقول فيها: يا سيدي أنا رجل تاجر ونعمة الله عليّ سابغة وعندي احتمال وقد بعثت إليك بشيء من اللطف وهو كذا ومن الثياب والعطر وبعثت إليك ببغلة خفيفة العنان وطية الظهر فاتخذها لرحلك وأنا أسألك بقرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا قبلت هديتي ولم توحشني بردها فإني أدين الله عز وجل بحبك وحب أهل بيتك، وإن أفضل ما في سفري هذا أن أستفيد الأنس بك وأتشرف بمواصلتك، وأمر عبد الله بقبض هديته وخرج إلى الصلاة، فلما رجع مرّ بالعراقي في منزله فقام إليه وقبل يده وسلم عليه واستكثر منه، فرأى أدباً وظرفاً وحلاوة وفصاحة فأعجب به وسرّ بنزوله عليه، فجعل العراقي يبعث كل يوم بلطف إلى عبد الله وبطرف، فقال عبد الله: جزى الله ضيفنا هذا خيراً فقد ملأنا شكراً وأعيانا عن مجازاته، فإنهما لكذلك إذ دعاه عبد الله ودعا بعمارة وجواريه، فلما تعشيا وطاب لهما وسمع غناء عمارة تعجب وجعل يزيد في عجبه إذ رأى ذلك يسرّ عبد الله إلى أن قال له: رأيت مثل عمارة؟ قال: لا والله يا سيدي ما رأيت مثلها وما تصلح إلا لك وما ظننت أنه يكون في الدنيا مثل هذه حسن وجه وحذق عملٍ! قال: كم تساوي عندك؟ قال: ما لها ثمن إلا الخلافة، قال: تقول هذا لما ترى من رأيي فيها ولتجلب سروري! قال: والله يا سيدي إني لأحب سرورك وما قلت لك إلا الجدّ، وبعد فإني رجل تاجر أجمع الدرهم إلى الدرهم طلباً للربح ولو أعطيتها بعشرة آلاف دينار لأخذتها، قال عبد الله: بعشرة آلاف دينار؟ قال: نعم، ولم يكن في ذلك الزمان جارية بعشرة آلاف دينار، فقال عبد الله كالمازح: أنا أبيعكها بعشرة آلاف دينار! قال: قد أخذتها، قال: هي لك، قال: قد وجب البيع، وانصرف العراقي. فلما أصبح لم يشعر عبد الله إلا والمال قد وافاه، فقال عبد الله: بعث العراقي بالمال؟ قالوا: نعم بعشرة آلاف دينار وقال هذه ثمن عمارة، فردها إليه وقال: إنما كنت أمزح معك وما أعلمك أن مثلي لا يبيع مثلها، قال: جعلت فداك إن الجد والهزل في البيع سواء! قال له عبد الله: ويحك لا أعلم موضع جارية تساوي ما بذلت ولو كنت بائعها من أحد لآثرتك ولكني كنت أمازحك وما أبيعها بملك الدنيا لحرمتها بي وموقعها من قلبي، قال له العراقي: فإن كنت مازحاً فإني كنت جاداً، وما اطلعت على ما نفسك، وقد ملكت الجارية وبعثت بالثمن وليست تحلّ لك وما من أخذها بدّ، فمنعه إياها، فخرج العراقي وهو يقول: أستحلفك في مجلس أمير المؤمنين، فلما رأى عبد الله الجد منه قال: بئس الضيف! ما طرقنا طارق ولا نزل بنا ضيف أعظم بلية علينا منك، تحلفني فيقول الناس اضطهده

وقهره وألجاه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمنّ أني سأبلي في هذا الأمر الصبر وحسن العزائم وجميل العزاء! ثم أمر قهرمانه بقبض المال وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب والمركب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، ثم سلمها إلى قهرمانه وقال: أوصل الجارية إليه مع ما معها وقل هذا لك ولك عندنا عوضٌ مما ألطفتنا به، فقبض العراقي الجارية وخرج، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة إني والله ما ملكتك قطّ ولا أنت لي ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على عبد الله بن جعفر فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي ولكني دسيس من قبل أمير المؤمنين يزيد وأنت له وفي طلبك بعثني فاستتري مني فإن دخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي، ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس يحملون جنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية، فأقام الرجل أياماً ثم تلطف للدخول عليه فشرح له القصة، فقال: هي لك، فارتحل العراقي وقال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين أخرجتك من المدينة لأني لم أملكك وقد صرت الآن لي وأنا أشهدك أني قد وهبتك لعبد الله بن جعفر، فخرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال: هذا العراقي ضيفك الصانع بنا ما صنع لا حياه الله قد نزل! فقال: مه أنزلوا الرجل واكرموا مثواه، فأرسل إلى عبد الله: إن أذنت، جعلت فداك، لي في الدخول عليك دخلة خفيفة أشافهك فيها بحاجتي وأخرج. فأذن له، فلما دخل عليه خبّره بالقصة وحلف له بالمحرجات من الأيمان أنه ما رأى لها وجهاً إلا عنده وها هي ذه، فأدخلها الدار، فلما رآها أهل الدار والحشم تصايحوا ونادوا: عمارة عمارة! فلما رأت عبد الله خرّت مغشياً عليها، وجعل عبد الله يمسح وجهها بكمّه ويقول: يا حبيبتي أحلم هذا؟ فقال له العراقي: بل ردها الله إليك بوفائك وكرمك، فقال عبد الله: قد علم الله كيف كان الأمر، فالحمد لله على كل حال، ثم أمر ببيع عير له بثلاثة عشر ألف دينار وأمر بها للعراقي، فانصرف إلى العراق وافر العرض والمال.هره وألجاه إلى أن استحلفه، أما والله ليعلمنّ أني سأبلي في هذا الأمر الصبر وحسن العزائم وجميل العزاء! ثم أمر قهرمانه بقبض المال وتجهيز الجارية بما يشبهها من الثياب والخدم والطيب والمركب، فجهزت بنحو من ثلاثة آلاف دينار، ثم سلمها إلى قهرمانه وقال: أوصل الجارية إليه مع ما معها وقل هذا لك ولك عندنا عوضٌ مما ألطفتنا به، فقبض العراقي الجارية وخرج، فلما برز من المدينة قال لها: يا عمارة إني والله ما ملكتك قطّ ولا أنت لي ولا مثلي يشتري جارية بعشرة آلاف دينار، وما كنت لأقدم على عبد الله بن جعفر فأسلبه أحب الناس إليه لنفسي ولكني دسيس من قبل أمير المؤمنين يزيد وأنت له وفي طلبك بعثني فاستتري مني فإن دخلني الشيطان في أمرك أو تاقت نفسي إليك فامتنعي، ثم مضى بها حتى ورد دمشق فتلقاه الناس يحملون جنازة يزيد وقد استخلف ابنه معاوية، فأقام الرجل أياماً ثم تلطف للدخول عليه فشرح له القصة، فقال: هي لك، فارتحل العراقي وقال للجارية: إني قلت لك ما قلت حين أخرجتك من المدينة لأني لم أملكك وقد صرت الآن لي وأنا أشهدك أني قد وهبتك لعبد الله بن جعفر، فخرج بها حتى قدم المدينة فنزل قريباً من عبد الله، فدخل عليه بعض خدمه فقال: هذا العراقي ضيفك الصانع بنا ما صنع لا حياه الله قد نزل! فقال: مه أنزلوا الرجل واكرموا مثواه، فأرسل إلى عبد الله: إن أذنت، جعلت فداك، لي في الدخول عليك دخلة خفيفة أشافهك فيها بحاجتي وأخرج. فأذن له، فلما دخل عليه خبّره بالقصة وحلف له بالمحرجات من الأيمان أنه ما رأى لها وجهاً إلا عنده وها هي ذه، فأدخلها الدار، فلما رآها أهل الدار والحشم تصايحوا ونادوا: عمارة عمارة! فلما رأت عبد الله خرّت مغشياً عليها، وجعل عبد الله يمسح وجهها بكمّه ويقول: يا حبيبتي أحلم هذا؟ فقال له العراقي: بل ردها الله إليك بوفائك وكرمك، فقال عبد الله: قد علم الله كيف كان الأمر، فالحمد لله على كل حال، ثم أمر ببيع عير له بثلاثة عشر ألف دينار وأمر بها للعراقي، فانصرف إلى العراق وافر العرض والمال.

أبو محارب قال: قال معاوية بن أبي سفيان: إن عمرو بن العاص قد احتجن عنا خراج مصر، فعزله واستعمل أبا الأعور السلمي، فبلغ عمراً الخبر فدعا وردان مولاه وقال له: ويحك عزلني أمير المؤمنين! قال: فمن استعمل؟ قال: أبا الأعور، قال: دعني وإياه أصنع له طعاماً ولا ينظر في كتابه حتى يأكل، قال: نعم، فلما قدم عليه أخرج الكتاب بتسليم العمل إليه، فقال عمرو: ما تصنع بالكتاب؟ لو جئتنا برسالة لقبلنا ذلك منك، فقال وردان: ضع الكتاب وكل، فقال أبو الأعور لعمرو: انظر في الكتاب، قال: ما أنا بناظر فيه حتى تأكل، فوضعه إلى جانبه وجعل يأكل، فاستدار وردان فاتخذه، فلما فرغ أبو الأعور من غدائه طلب الكتاب فلم يجده فقال: أين كتابي؟ فقال له عمرو: أوليس جئتنا زائراً لنحسن إليك؟ قال: بل استعملني أمير المؤمنين وعزلك! قال: مهلاً لا يظهرن هذا منك فإنه قبيح ونحن نصلك ونحسن إليك، فرضي بالصلة، وبلغ معاوية الخبر فاستضحك وتعجب من فعله وأقرّ عمراً على عمله.
وعن الشعبي قال: كتب المغيرة بن شعبة إلى معاوية، وكان خاف العزل: قد كبرت سني ورق عظمي واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش وأمير المؤمنين أولى بعمله. فكتب إليه معاوية: أما ما ذكرت من كبر سنك فأنت أكلت عمرك، وأما اقتراب أجلك فلو أستطيع دفع الموت عن أحد دفعته عن نفسي وعن آل أبي سفيان، وما ذكرت من سفهاء قريش فحلماؤها أنزلتك هذه المنزلة، وأما العمل فاصبر رويداً يدرك الهيجاء حمل. فاستأذنه في القدوم عليه فأذن له، فوافاه، فقال له معاوية: يا مغيرة كبرت سنك واقترب أجلك ولم يبق منك شيء وسأستبدل بك، فانصرف فرأى أصحابه الكآبة في وجهه فقالوا: ما لك؟ قال: قال لي كيت وكيت، قالوا له: فما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون، قال: فأتى معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين إن الإنسان يغدو ويروح، ولستَ في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو أنك نصبت لنا إنساناً نصير إليه بعدك، كان الرأي على أني قد كنت دعوت أهل العراق إلى يزيد، قال: يا أبا محمد انصرف إلى عملك واحكم هذا الأمر لابن أخيك. قال: فأقبل على البريد يركض وقال: قد والله وضعت رجله في ركاب طويل الركض، قال: فذاك هو الذي بعث معاوية على أخذ البيعة ليزيد.
مساوئ العيّ وضعف العقل

قال ثمامة صاحب الكلام: كان المأمون قد همّ بلعن معاوية وأن يكتب بذلك كتاباً في الطعن عليه، قال: ففثأه عن ذلك يحيى بن أكثم وقال: يا أمير المؤمنين العامة لا تحتمل هذا ولا سيما أهل خراسان ولا تأمن أن يكون لهم نفرةٌ ونبوةٌ لا تستقال ولا يُدرى ما تكون عاقبتها، والرأي أن تدع الناس على ما هم عليه ولا تظهر لهم أنك تميل إلى فرقة من الفرق فإن ذلك أصلح في السياسة وآمن في العاقبة وأجرى في التدبير، فركن إلى قوله، فلما دخلت عليه قال: يا ثمامة قد علمت ما كنا دبّرناه في أمر معاوية وقد عارضنا رأيٌ هو أصلح في تدبير المملكة وأبقى ذكراً في العامة، ثم أخبرني أن يحيى بن أكثم حذّره وأخبره بنفور العامة عن مثل هذا الرأي، فقلت: يا أمير المؤمنين والعامة عندك في هذا الموضع الذي وضعها فيه يحيى، والله لو بعثت إليها إنساناً على عاتقه سوادٌ ومعه عصاً لساق إليك منها عشرة آلاف! والله يا أمير المؤمنين ما رضي الله جل وعز أن سوّاها بالأنعام حتى جعلها أضل سبيلاً، فقال تبارك وتعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً " ، والله لقد مررت يا أمير المؤمنين منذ أيام في شارع الخلد وأنا أريد الدار فإذا إنسان قد بسط كساءه وألقى عليه أدوية وهو قائم ينادي: هذا الدواء للبياض في العين والغشاوة والظلمة وضعف البصر، وإن إحدى عينيه لمطموسة والأخرى مؤلَمة، وقد تألبوا عليه واحتفلوا إليه، فنزلت عن دابتي ودخلت بين تلك الجماعة فقلت: يا هذا أرى عينيك أحوج الأعين إلى العلاج وأنت تصف هذا الدواء وتخبر أنه شفاء! فما بالك يا هذا لا تستعمله؟ قال: أنا في هذا الموضع منذ عشرين سنة ما رأيت شيخاً قط أجهل منك ولا أحمق! قلت: وكيف ذاك؟ قال: يا جاهل أتدري أين اشتكت عيني؟ قلت: لا، قال: بمصر، فأقبل عليّ الجماعة فقالت: صدق والله أنت جاهل، وهمّوا بي، فقلت: والله ما علمت أن عينه اشتكت بمصر! فتخلصت منهم بهذه الحجة. قال: فضحك المأمون وقال: ما لقيت من الله جل ذكره من سوء الثناء وقبح الذكر أكثر، قلت: أجل.
وقيل: إنه كان رجل من المعتزلة وكان له جار يرى رأي الخوارج، وكان كثير الصلاة والصيام حسن العبادة، فقال المعتزلي لرجلين من أصحابه: مرّا بنا إلى هذا الرجل فنكلمه لعل الله جل وعز ينقذه من الهلكة بنا ويهديه من الضلالة، فأتوه وكلّموه فأصغى إلى كلامهم، فلما سكتوا انتعل وقام ومعه القوم حتى وقف على باب المسجد فرفع صوته بالقراءة واجتمع إليه الناس، وقعد الرجل وصاحباه، فقرأ ساعةً حتى أبكى الناس ثم وعظ فأحسن ثم ذكر الحجاج فقال: أحرق المصاحف وهدم الكعبة وفعل وفعل فالعنوه لعنه الله! فلعنه الناس ورفعوا أصواتهم، ثم قال: يا قوم وما علينا من ذنوب الحجاج ومن أن يغفر الله عز وجل له ولنا معه فإنا كلنا مذنبون، لقد كان الحجاج غيوراً على حرم المسلمين تاركاً للغدر ضابطاً للسبيل عفيفاً عن المال لم يتخذ ضيعةً ولم يكن له مال فما علينا إن نترحم عليه فإن الله عز وجل رحيم يحب الراحمين، ثم رفع يده ودعا بالمغفرة للحجاج ورفع القوم أيديهم وارتفعت الأصوات بالاستغفار ملياً، قال الرجل المعتزلي وهو يلاحظني، فلما فرغ وانصرف ضرب بيده إلى منكبي وقال: هل رأيت مثل هؤلاء القوم لعنوه واستغفروا له في ساعة واحدة، أتنهى عن دماء أمثال هؤلاء؟ والله لأجاهدنهم مع كل من أعانني عليهم.

محاسن التيقظ
قيل: كان أردشير من أشد خلق الله فحصاً وبحثاً عن سرائر خاصته وعامته وإذكاءً للعيون عليهم وعلى الرعية، وكان يقول: إنما سمي الملك راعياً ليفحص عن دفائن رعيته، ومتى غفل الملك عن تعرفه ذلك فليس له من رسم الراعي إلا اسمه ومن الملك إلا ذكره، ويقال: إنه كان يصبح فيعلم كل شيء جرى في دار مملكته خير أم شر ويمسي فيعلم كل شيء أصبحوا عليه، فكان متى شاء قال لأرفعهم وأوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت، ثم يحدّثه بكل ما كان فيه إلى أن أصبح، وكان بعضهم يقول: يأتيه ملك من السماء فيخبره، وما كان ذلك إلا لتيقظه وكثرة تعهده لأمور رعيته.

ويقال: إن الأمم كلها، أولها وآخرها، قديمها وحديثها، لم تخف ملوكها خوفها أردشير من ملوك العجم وعمر بن الخطاب، رضي الله عنه، من ملوك العرب والإسلام، فإن عمر، رضي الله عنه، كان علمه بمن نأى من عماله ورعيته كعلمه بمن بات معه على مهاد، فلم يكن له في قطر من الأقطار ولا ناحية من النواحي أمير ولا عامل إلا وله عليه عين لا يفارقه، فكان أخبار النواحي كلها عنده كل صباح ومساء، حتى إن العامل كان يتوهم على أقرب الخلق إليه وأخصهم به، فساس الرعية سياسة أردشير في الفحص عنها وعن أسرارها، ثم اقتفى معاوية فعله وطلب أثره، فانتظم له أمره وطالت في الملك مدّته.
وكذا كان زياد بن أبي سفيان يحتذي فعل معاوية كاحتذاء معاوية فعل عمر، رحمه الله، في تعرف أمور رعيته وممالكه، وفي ما يُحكى عنه أن رجلاً كلمه في حاجة له فتعرف إليه وهو يظن أنه لا يعرفه فقال: أصلح الله الأمير، أنا فلان بن فلان، فتبسم زياد وقال: أتتعرف إلي وأنا أعرف منك بنفسك؟ والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأمك وجدك وجدتك وأعرف هذا البُرد الذي عليك وهو لفلان! فبهت الرجل وأُرعد حتى كاد يغشى عليه.
وعلى هذا كان عبد الملك بن مروان والحجاج ولم يكن بعد هؤلاء الثلاثة أحد في مثل هذه السياسة حتى ملك المنصور فكان أكبر الأمور عنده معرفة الرجال حتى عرف العدو من الولي والموادع والمسالم من المشاغب فساس الرعية على ذلك، ثم درست هذه السياسة حتى ملك الرشيد فكان أشد الملوك بحثاً عن أسرار رعيته وأكثرهم بها عناية وأحزمهم فيها أمراً.
وعلى هذا كان المأمون في أيامه، والدليل على أمر المأمون رسالته إلى إسحاق بن إبراهيم في الفقهاء وأصحاب الحديث وهو بالشام خبّر فيها عن عيب واحد واحدٍ وعن نحلته وعن أموره التي خفيت أو أكثرها على القريب والبعيد، ولم يكن أحد من ذوي السلطان الأعظم أشد فحصاً وبحثاً عن أمور الناس حتى بلغ هذا المبلغ في الاستقصاء وجعله أكبر شُغله وأكثره في ليله ونهاره من إسحاق بن إبراهيم.
حدثني موسى بن صالح بن شيخ قال: كلمته في امرأة من بعض أهلنا وسألته النظر لها فقال: يا أبا محمد من قصة هذا المرأة ومن فعلها، قال: فوالله ما زال يحدثني ويخبرني عن قصتها ويصف أحوالها حتى بُهتّ.
وحدّث أبو البرق الشاعر قال: كان يجري عليّ أرزاقاً فدخلت عليه فقال بعد أن أنشدته: كم عيالك؟ تحتاج في كل شهر من الدقيق إلى كذا ومن الحطب إلى كذا، فأخبرني بشيء من أمر منزلي جهلت بعضه وعلمه كله.
وحدث بعض من كان في ناحتيه قال: رفعت إليه قصة أسأله فيها أجراً وأرزاقاً، فقال: كم عيالك؟ فزدت في العدد، فقال: كذبت، فبهتّ وقلت: يا نفس من أين علم أني كذبت! فأقمت سنة أخرى لا أجسر على كلامه ثم رفعت إليه القصة، فقال: كم عيالك؟ فقلت: كذا، قال: صدقت، ووقع في القصة: يجرى على عياله كذا وكذا.

ويقال: إن كسرى أبرويز كان نصب رجلاً يمتحن به من فسدت عليه نيته من رعيته وطعن في المملكة، فكان الرجل يُظهر التأله والدعاء إلى التخلي من الدنيا والرغبة في الآخرة وترك أبواب الملوك، وكان يقص على الناس ويبكيهم ويشوب كلامه في خلال ذلك بذم الملك وتركه شرائع ملته وسنن سيرته ودينه الذي كان عليه، وكان هذا الرجل يمتثل ما حدّه له أبرويز ليمتحن بذلك خاصته، وكان من يسعى يخبر أبرويز بذلك، فيضحك ويقول: فلان في عقله ضعف وأنا أعلم أنه وإن كان بتكلم بما يتكلم لا يقصدني بسوء ولا المملكة بما يوهنها، ويظهر الاستهانة بأمره والثقة به والطمأنينة إليه، ثم توجه إليه في خلال ذلك من يدعوه فيأبى أن يجيبه ويقول: لا ينبغي لمن خاف الله أن يخاف أحداً سواه، فكان الطاعن على الملك والمملكة يكثر الخلوة بهذا الرجل والزيارة له والأنس به، فإذا خلوا تذاكرا أمر الملك فابتدأ الناسك فطعن فيه وأعانه الخائن وطابقه على ذلك وشايعه، فيقول الناسك: إياك وأن يظهر هذا الجبار على كلامك فإنه لا يحتمل لك ما يحتمله لي، فحصّ منه دمك، فيزداد الآخر إليه استنامة وبه ثقة، فإذا علم الناسك أنه قد بلغ من الطعن على الملك ما يستوجب به العقوبة في الشريعة قال لمن بحضرته: إني قاعد غداً مجلساً للناس أقص عليهم فاحضروه، ويقول لمن هو أشد به ثقة: احضر أنت فإنك رجل رقيق عند الذكر حسن النية ساكن الريح بعيد الصوت وإن الناس إذا رأوك قد حضرت زادت نياتهم خيراً وسارعوا إلى استجابتي، فيقول الرجل: إني أخاف من هذا الجبار فلا تذكره إن حضرت، وكانت العلامة بينه وبين أبرويز أن أبرويز قد كان وضع عيوناً يحضرون متى جلس، فكان الناسك يقصّ على العامة ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة والخائن حاضر، فيأخذ الناسك في ذكر الملك، فينهض الخائن، وتجيء عيون أبرويز فتخبره بما كان، فإذا زال الشك عنه في أمره وجّهه إلى بعض البلدان وكتب إلى عامله: قد وجهت إليك برجل وهو قادم عليك بعد كتابي هذا فأظهر بره والأنس به والثقة إليه والسكون إلى ناحيته فإذا اطمأنت به الدار فاقتله قتلةً تحيي بها بيت النار وتصل بها حرمة النوبهار، فإن من فسدت نيته بغير علة في الخاصة والعامة لم يصلح بعلة، ومن فسدت نيته بعلة صلحت بخلافها.

قال: وحدثنا الوضّاح بن محمد بن عبد الله قال: سمعت أبا بديل بن حبيب يقول: كنا إذا خرجنا من عند أبي جعفر المنصور صرنا إلى المهدي وهو يومئذٍ ولي عهد، ففعلنا ذلك يوماً فأبرز لي المنصور يده فانكببت عليها فقبلتها، فضرب يدي بيده، فعلمت أنه لم يفعل ذلك إلا لشيء في يده، فوضع في يدي كتاباً صغيراً تستره الكف، فلما خرجت قرأت الكتاب فإذا فيه: إذا قرأت كتابي هذا فاستأذن إلى ضياعك بالري، فرجعت فاستأذنت فقلت: يا أمير المؤمنين ضياعي بالري قد اختلت ولي حاجة إلى مطالعتها. فقال: لا ولا كرامة، فخرجت ثم عدت إليه اليوم الثاني فكلمته، فردّ عليّ مثل الجواب الأول، فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أردت صلاحها لأقوى بها على خدمتك، فقال: إذا شئت، فقلت: يا أمير المؤمنين فلي حاجة أذكرها. قال: قلت: أحتاج إلى خلوة، فنهض القوم وبقي الربيع، فقلت أحلني، قال: ومن الربيع؟ قلت نعم، فتنحى الربيع فقال: إن جدت لي بدمك ومالك، فقلت: يا أمير المؤمنين وهل أنا ومالي إلا من نعمتك؟ حقنت دمي ورددت علي مالي وآثرتني بصحبتك، فقال: إنه يهجس في نفسي أن المرار بن جهور على خلعي وليس لي غيرك لما أعرف بينكما فاظهر إذا صرت إليه الوقيعة فيّ والتنقّص لي حتى تعرف ما عنده فإذا رأيته يهمّ بخلعي فاكتب إليّ ولا تكتبن على بريد ولا مع رسول ولا يفوتني خبرك في كل يوم فقد نصبت لك فلاناً القطان في دار القطن فهو يوصل كتبك، قال: فمضيت حتى أتيت الري فدخلت على مرّار فقال: أفلتّ؟ قلت: نعم والحمد لله، ثم أقبلت أؤنسه بالوقيعة في المنصور حتى أظهر ما كان المنصور ظن به، فكتبت إليه بذلك، فلما وصلت منه إلى ما أردت أتيت ضياعي ثم رجعت إليه بعد أيام، فقال: نجّاك الله من الفاجر؟ قلت: نعم، وأرجو أن تقع عينه عليّ أبداً، فكنت أعرّض به فيزيدني مما عنده، ثم قال لي: هل لك أن تخرج إلى متنزه طيب؟ قلت: نعم، فخرجت أنا وهو نتساير حتى صرنا إلى موضع مشرف قد بنيت له عليه قبة، فأحدّ النظر إلى ما هناك ثم قال: يا أبا بديل أترى الفاجر يظن أني أعطيه طاعة أبداً ما عشت؟ اشهد أني قد خلعته كما خلعت خفّي هذا من رجلي! قال: فرجعت إلى منزلي وأنا في كل يوم أكتب بخبره، قال: وقد كنت أعددت تسعة فرسان من بني يربوع ورجلاً من بني أسد فواطأتهم أن نبطش به وكتبت إلى المصمغان أن يأتيه في جنده إلى الموضع الذي اتفقنا عليه، قال: وأخذ المرّار الدواء في ذلك اليوم، وسبق إليه الأسدي بالخبر وقال: احذر فقد اتخذ لك كيت وكيت، قال: فدخلت عليه فإذا هو على كرسي، فعرفت الشر في وجهه والمنكر في نظره، فقال: هيه يا أبا بديل مع إكرامي لك أردت أن تقتلني؟ قال فتضاحكت وقلت: بلغ من مكره أن دس إليك هذا الأسدي، لقد علمت فيك حيلته! ثم حرّكه بطنه فقام إلى الخلاء وقال: لا ترم، فلما ولى وثبت وخرجت مسرعاً، فقال الحاجب: أسرعت. قلت: نعم في حاجة للأمير، وركبت فرسي فرأيت القوم قد وافوا كلهم إلا الأسدي، فعلمت أنه صاحبي، فلما خرج سأل عني فأخبر بمضييّ، فوجّه خيلاً في طلبي، فمال اليربوعيون فدفعهم، ومضيت حتى صرت إلى المصمغان وكتبت إلى أبي جعفر المنصور كتاباً مكشوفاً، فكتب: إني قد عرفت ما وصفته وقد صح الأمر، ثم كتب إلى خازم بن خزيمة فصار إليه حتى أخذه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4