كتاب : الهوامل والشوامل
المؤلف : التوحيدي

ولكن مسألتك مضمنة ذكر الدين وله حكم آخر كما قد علمت من علو الرتبة، وشرف المنزلة، وإن لم تكن النبوة نفسها سارية في العرق، ولا هي متوقعة فيما يتبع النبوة من التعظيم والتشريف، ونجوع الناس لها بالطبع، والتماس أهل بيتها مرتبة الإمامة والتمليك - أمر خارج عن حكم العادة، ولا سيما إن كان هناك شريطة الفضيلة موجودة والاستقلال حاضراً، فإن العدول حينئذ عمن كان بهذه الصفة ظلم وتعد.
والسلام.
مسألة هل يجوز أن تكون الحكمة في تساوي الناس من جهة ارتفاع الشرف دون تباينهم؟.
فإنه إن كانت الحكمة في ذلك لزم أن يكون ما عليه الناس إما عن قهر لا فكاك لهم منه، أو جهل لا حجة عليهم به.
ولست اعني التساوي في الحال وفي الكفاية، وفي الفقر والحاجة؛ لأن ذاك قد شهدت له الحكمة بالصواب؛ لأنه تابع لسوس العالم، وجار مع العقل.
وإنما عنيت تساوي الناس من جهة السبب؛ فإن التطاول والتسلط والازدراء قد فشا بهذا النسب.
والحكمة تأبى وضع ما يكون فساداً أو ذريعة إلى فساد؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم " .
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يشرف الإنسان نفسه، وبما يظهر فيه من آثار الحكمة.
وما أحسن قول الإمام على عليه السلام: قيمة كل امرىء ما يحسن.
وإنما حكينا ما تقدم من شريان النجابة في العرق لأجل أن الطمع يقوى فيمن كانت له سابقة في فضيلة ان تظهر فيه ايضاً، ولا سيما إن كانت علته قريبة منه.
وكيف يتساوى الناس في ارتفاع الشرف؟ ولو تساووا فيه لما كان شرف ولا ارتفاع، وإلا فعلى ماذا يرتفع ويشرف، والمنازل متساوية؟ ولكن الناس يتساوون في الإنسانية التي تعمهم، وفي أشياء تتبع الإنسانية من الأحكام والأوضاع، ويتفاوتون في أمور أخر يزيد بها بعضهم على بعض.
مسألة ما التطير والفأل؟ ولم أولع كثير من الناس بهما؟.
وكيف نفى عن الشريعة أحدهما ورخص الآخر؟ وهل لهما أصل يرجع إليه، ويوقف لديه؟ أو هما جاريان مرة بالهاجس والاستشعار، ومرة بالاتفاق والاضطرار؟ والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فاش في هذا المعنى، وليس طريقه محدثاً للعلم، ولا منته مجيلاً للرأى؛ إذ يقول: لا عدوى ولا طيرة.
وقد قيل في مكان آخر: كان يحب الفأل الحسن.
وزعم الرواة أنه حين نزل المدينة عند أبي أيوب الأنصاري سمعه يقول لغلامين له: يا سالم، يا يسار.
فقال لأبي بكر: سلمت لنا الدار في يسر.
فكيف هذا؟ وما طريقه؟ وهل يطرد ذلك في تطايره أم يقف؟ ثم حكيت الحكاية عن ابن اسماعيل في قصة الزعفراني.
وحكيت أيضاً عن ابن الرومي قوله: الفأل لسان الزمان، وعنوان الحدثان.
وقلت: ما أكثر ما يقع ما لا يتوقع؛ مما لم يتقدم فيه قول ولا إرجاف حتى إذا قارن ذلك شيء صار العجب العجاب، والشيء المستطرف.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الإنسان متطلع إلى الوقوف على كائنات الأمور ومستقبلاتها ومغيباتها كما وصفنا من حاله فيما تقدم، فهو بالطبع يتشوفها، ويروم معرفتها، على قدر استطاعته، وبحسب طاقته، فربما أمكنه التوصل إلى بعضها بطبيعة موافقة، في رأى صائب، وحدس صادق، وتكهن في الأمور لا يكاد يخطىء فيها، فهو من أعلى درجة في هذا الباب، وأوثق سبب فيه، فربما تعدد في بعضها ذلك فيروم التوصل إليه بدلائل النجوم، وحركات الأشخاص العلوية وتأثيرها في العالم السفلي، ويصدق حكمه أو يكذب بحسب قوته في أخذ الدلائل ومزجها بعد ذلك.
ولهذه الصناعة أصول كثيرة جداً، وفروع بحسب الأصول.
وخطأ المخطىء ليس من ضعف أصول الصناعة، ولكن من ضعف الناظر فيها، أو لأنه يروم من الصناعة أكثر مما فيها، فيحمل عليها زيادة على الموضوع منها، وربما فاتته هذه الأسباب ونظائرها من الدلائل الطبيعية.
وليس من شأن النفس أن تعمل عملاً بغير داع إليه، ولا سبب له فيصير كالعبث، فإذا سنح له أمران، ولم يرجح أحدهما على الآخر طلب لنفسه حجة في ركوب أحدهما دون الآخر، فيستريح حينئذ إلى الأسباب الضعيفة، ويتمحل العلل البعيدة بقدر ما يترجح أحد الرأيين المتكافئين في نفسه على الآخر حتى يصل إليه، ويأخذ به.
وسبيل الرجل الفاضل أن يكون حسن الظن، قويم الرجاء، جميل النية فيتفاءل حينئذ.

والفأل قد يكون بأصوات بسيطة ليس فيها أثر النطق، ولكن أكثره بالكلام المفهوم.
وقد يكون بصورة مقبولة، وأشكال مستحسنة، ولكن معظمه في خلق الإنسان.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أبردتم إلى بريداً فاجعلوه حسن الإسم، حسن الوجه " .
فأما أصحاب الطيره فلأنهم أضداد لأصحاب البيات الجميلة، والرجاء الحسن، فطريقهم مكروهة، وتطيرهم من الأمور أكثر، وأنواع دلائلهم أغزر وأبسط وذلك أنهم يأخذون بعضها من الخيلان في الناس، والدوائر في الخيل، وأصناف الخلق الطبيعية.
وبعضها من الأمزجة المتنافرة، والخلق المكروهة كالبوم والهامة والعقرب الفأر وما أشبهها.
وبعض من الأصوات المنكرة كنهيق الحمير وأصوات الحديد وما أشبهها.
وبعضها من الأسماء والألقاب إذا اشتقوا لها ما يوافقها في بعض الحروف أو في كلها كاسم الغراب من الغربة والبان من البين، والنوى - نوى التمر - من البعد.
وبعضها من العاهات، كالأعور من اليمين، والمقعد من الرجل.
وبعضها من الحركات والجهات كالسانج والبارح والمعوج والمائل.
وجميع ذلك؛ لضعف النفس والنحيزة، واستيلاء اليأس والقنوط عليها.
وهذه الاستشعارات تزيدها سوء الحال؟ فلذلك نهى عنها.
وكانت العرب خاصة من بين الأمم أحرص على هذه الطريقة، وألزم لها، على أن شاعرهم يقول، وقد أحسن:
تخبر طيره فيها زياد ... لتخبره وما فيها خبير
أقام كأن لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى، شيء يوافق بعض شيء ... أحايينا وباطله كثير.

مسألة ما السبب في كراهة بعضهم إذا قيل له يا شيخ
على التوقير والإحلال وهو لا يكون شيخاً؟ وآخر يتمنى أن يقال له ذلك، وهو شاب طرير؟ بل أنت تجد ذلك في شيخ على الحقيقة يكره ذلك، إلا أن هذا علته ظاهرة، ولكن الشأن في شاب يشيخ تعظيماً فيكره، وشاب لا يشيخ فيتكلف.
وفقد الشباب موجع، ووجه الشيب مفظع.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يختلف الناس في ذلك باختلاف نظرهم لأنفسهم، وبحسب ملاحظتهم أغراض مخاطبيهم.
وذلك انه ربما أحب الإنسان ان تظهر فضيلته في ابتداء زمانه، واستقبال عمره فإذا قيل له: يا شيخ ظن أنه قد سلب تلك الفضيلة، وألحق بمن حصل تلك الفضيلة في الزمان الطويل، والتجربة الكثيرة.
وربما كره ذلك أيضاً لأرب له في الشباب، وميل إلى اللعب والهوى اللذين يستقبحان من الشيخ، فإذا قيل له: يا شيخ رأى هذا اللقب كالمانع له والزاجر، وأن مخاطبة ينتظر منه ما ينتظر من المشايخ، ولا يعذره على ركوب ما يهم به ويعزم عليه.
وربما نظر الإنسان إلى مرتبة حصلت له من الوقار الذي لا يحصل إلا من المشايخ وهو في سن الشباب فيسر بالإكرام، وسرعة بلوغه مبلغ المحنكين وأهل الدربة.
فبحسب اختلاف النظر تختلف وجوه الرضا بهذا الوصف، والسخط له.
مسألة ما علة الإنسان في سلوته إذا كانت محنته عامة له ولغيره
؟
وما علة جزعه واستكثاره وتحسره إذا خصته المساءة، ولم تعده المصيبة. وما سر النفس في ذلك؟ وهل هو محمود من الإنسان أن مكروه؟ وإذا نزا به هذا الخاطر فبم يعالجه، وإلى أي شيء يرده؟ ولم يتمنى بسبب محنته أن يشركه الناس؟ ولم يستريح إلى ذلك؟ وأصحابنا يروون مثلاً بالفارسية ترجمته: من احترق بيدره أراد ان يحترق بيدر غيره.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الجزع والأسف من عوارض النفس، وهي تجري مجرى سائر العوارض الأخر كالغضب والشهوة والغيرة والرحمة والقسوة وسائر الأخلاق التي يحمد الإنسان فيها إذا عرضت له كما ينبغي، وبسائر الشروط التي أحصيناها مراراً كثيرة، ويذم بها إذا عرضت بخلاف تلك الشرائط.
وإنما تهذب النفس بالأخلاق لتكون هذه العوارض التي تعرض له في مواضعها على ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي، فالحزن الذي يعرض كما ينبغي هو ما كان في مصيبة لحقت الإنسان لذنب اجترحه، أو لعمل فرط فيه، أو كان له فيه سبب اختياري، أو لسوء اتفاق خصه دون غيره وهو يجهل سببه، فإن هذا الحزن وإن كان دون الأول فالإنسان معذور به.

فأما ما كان ضرورياً، أو واجباً فليس يحزن له عاقل؛ لأن غروب الشمس مثلاً لما كان ضرورياً لم يحزن له أحد، وإن كان عائقاً عن منافع كثيرة، وضارا بكل أحد، ومنع النظر والتصرف في منافع الدنيا، وكذلك هجوم الشتاء والبرد، وورود الصيف بالحر لا يحزن له عاقل؛ بل يستعد له، ويأخذ أهبته.
وأما الموت الطبيعي فليس يحزن له أحد؛ لأنه ضروري، وإنما يجزع الإنسان منه إذا ورد في غير الوقت الذي كان ينتظره، أو بغير الحالة المحتسبة؛ ولذلك يجزع الوالد على موت ولده؛ لأن الذي احتسبه أن يموت هو قبله.
فأما الولد فيقل جزعه على والده؛ لأن الأمر كما كان في حسابه إلا أنه تقدم مثلاً بزمان يسير، أو كما ينبغي.
فأما ما يعرض للمسافر، ولراكب البحر أن يخص دون من يصحبه بمحنة في ماله أو جسمه، فإنما حزنه لسوء الاتفاق ورداءة البخت فإن هذا النوع مجهول السبب؛ ولذلك يعذر فيه أدنى عذر.
وأما من يتمنى لغيره من السوء مثل ما يحصل له فهو شر في طبعه لا سيما إذا لم يجد عليه شيئاً، ولم يعد له بطائل، وحينئذ يحسن توبيخه وتأديبه.
وقد أحسن الشاعر في قوله:
ليس تأسو كلوم غير كلمى ... ما بهم ما بهم وما بي ما بي.

مسألة ما الفضيلة السارية في الأجناس المختلفة
كالعرب، والروم، والفرس، والهند؟ وزعمت أنك حذقت الترك لأن أبا عثمان لا يعتد بهم إلى ما يتصل به من كلامك مما لم أحكه، إذ كانت المسألة هي في قدر ما خرج من حكايتي.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كانت هذه المسألة متوجهة إلى خصائص الأمم، والتعجب واقعاً مما تفرد به قوم دون قوم - أقبلت على البحث عن ذلك، وتركت تهذيب ألفاظ المسألة.
وهذه سبيلي في سائر المسائل، لأن صاحبها يسلك مسلك الخطابة، ولا يذهب مذهب أهل المنطق في تحقيق المسألة، وتوفيتها حظها على طرقهم، فأقول وبالله التوفيق: قد تقدم فيما مضى من كلامنا أن النفس تستعمل الآلات البدنية، فتصدر أفعالها بحسب أمزجتها، وحكينا عن جالينوس مذهبه، ودللنا على الموضع الذي يستخرج منه ذلك، وضربنا له مثلاً من الحرارة الغريزية وغيرها إذا كانت حاضرة كيف تستعملها النفس الناطقة حتى تكون كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، وأن الرياضة وحسن التقدير والترتيب ولزوم ذلك حتى يصير سجية وملكة - هي الفضيلة والخلق المحمود.
فإذا كان هذا الأصل محفوظاً فما أيسر الجواب عن مسألتك هذه! وذاك أن لكل أمة مزاجاً هو الغالب عليهم، وإن كان يوجد في النادر وفي الفرط ما هو مخالف لذلك المزاج، وذلك لأجل التربة والهواء والأغذية والمزاج التابع لذلك، ولما كرهته أنت أيضاً من آثار الفلك والكواكب؛ فإن ذلك العالم هو المؤثر في هذا العالم بالجملة.
أما أولاً فبتمييز العناصر بعضها بعض ثم بمزجها على الأقل والأكثر، ثم بإعطائها الصور والأشكال.
وليس لاستعفائك من الحق وجه، ولا لإعفائك إياك منه طريق، فالتزمه؛ فإن واجب.
ولولا أن مسألتك وقعت عن غير هذا المعنى لاشتغلت به، ولكن هذا أصل له، فلا بد في ذكر الفرع من ذكر الأصل.
وإذا كان هذا على هذا فحيث يعتدل مزاج ما من الأمزجة الشريفة أعني في الأعضاء الشريفة وهي: القلب، والكبد، والدماغ - وأضيف إلى ذلك ما ذكرناه من أخلاق فاضلة - أعني ترتيب الأفعال الغامرة، وبحسب المزاج، وتهذيبها ولزومها يتكرر الفعل، وإدمان العادة - فهناك تحصيل الفضيلة الصادرة عنها.
وسواء أكان ذلك في أمة، أو شخص، أو كان ذلك عن ابتداء أخلاق شريفة، أو تأديب شيئاً فشيئاً بعد أن يكون المزاج مسعداً، والبغية قابلة، والعادة مستمرة، فإن الفضيلة حاصلة غير زائلة.
مسألة ما علة كثرة غم من كان أعقل، وقلة غم من كل أجهل
؟
وهذا باب موجود في واحد واحد، ثم تجده في الجنس والجنس، كالسودان والحمران؛ فإنك تجد السودان أطرب وأجهل، والحمران أعقل وأكثر فكراً وأشد اهتماماً.
هذا، ويقال، إن الفرح من الدم.
والحمران أكثر دماً، وأعدل مزاجاً، وأوجد لأسباب الفرح وآلات الطرب، وأقدر على الدنيا بكل وجه.
وأنت ترى - أيضاً - هذا العارض في رفيقين خليطين: أحدهما مهموم بالطبع، وآخر متفكه بالطبع.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الغم يعرض من جهتين مختلفتين: إحداهما جهة الفكر، والأخرى جهة المزاج.

فأما الفكر فإنه يعرض منه الغم إذا كان المرء ينتظر به مكروهاً.
وأما المزاج فهو أن ينحرف مزاج الدم إلى السواد أو الاحتراق فيتكدر به الروح الذي سببه بخارالدم في مجاري الشرايين.
وبحسب صفاء ذلك الدم يكون صفاء بخاره، وانبساطه، وسرعة حركته، وجريانه في ذلك التجويف.
وإذا كان سبب الغم معلوماً، فمقابله الذي هو سبب الفرح والسرور معلوم أيضاً.
فالعاقل - لأجل جولان فكره - يكثر انتظاره مكاره الدنيا، ومن لا يكثر فكره، ولا ينتظر مكروهاً، فلا سبب له يغمه.
وأما المزاج الذي ذكرناه، فقد أحكمه جالينوس وأصحابه وسائر الأطباء ممن تقدمه أو تأخر عنه.
وهذا المزاج ليس يخلوا أن يكون طارئاً، أو حادثاً، أو طبيعياً في أصل الخلقة؛ فإن كان حادثاً فهو مرض، وينبغي أن يعالج بما تعالج به أصناف المالخوليا وأنواع الأمراض السوداوية التي سببها فساد الدم بالاحتراق، وانحرافه إلى السوداء.
وإن كان أصلياً وخلقة فلا علاج له؛ لأنه ليس بمرض كأجيال من الناس وأمم أمزجتهم كذلك.
فأما ما حكيته عن السودان، فإن الزنوج خاصة لهم الفرح والنشاط، وسببه أعتدال دم القلب فيهم، وليس ظننت أن أمزجتهم تابعة لسواد ألوانهم وذلك أن سبب سواد ألوانهم هو قرب الشمس منهم، وممرها في حضيض فلكها على سمت رءوسهم، فهي تحرق جلودهم وشعورهم، فيعرض فيها - أعني في شعورهم - التفلفل الذي هو بالحقيقة تشيط الشعر؛ ولأجل أن الحرارة تستولي على ظاهرهم فهي تجذب الحرارة الغريزية من باطنهم إليها؛ لأن الحرارة تميل إلى جهة الحرارة، فلا تكثر الحرارة الغريزية في قلوبهم لأجل ذلك.
وإذا لك تكن الحرارة الغريزية في القلب قوية، لم يعرض للدم الذي هناك احتراق، بل هو إلى الصفاء والرقة أقرب.
ودماء الزنوج رقيقة أبداً صافية؛ ولذلك تقل الشجاعة أيضاً فيهم.
فأما الحمران فأكثرهم في ناحية الشمال، والبلدان الباردة التي تبعد الشمس عنهم، وتقوى الحرارة الغريزية في قلوبهم، ولاشتمال البرد على ظاهرهم تبقى جلودهم بيضاء وشعورهم سباطاً، وتعود حرارتهم إلى داخل أبدانهم هرباً من البرد الذي في هوائهم لبعد الشمس عنهم، فهم لذلك أشجع، وأقوى حرارة قلوب.
ودماؤهم لأجل ذلك إلى الكدورة والسواد والخروج عن الاعتدال.
وأهل الاعتدال الذي يبعدون عن الشمال وعن الجنوب، ويسكنون الإقليم الأوسط هم أسلم من هذه الآفاق، وأصح أمزجة، وأقرب إلى الاعتدال.

مسألة حدثني عن مسألة هي ملكة المسائل
والجواب عنها أمير الأجوبة، وهي الشجا في الحلق، والقذى في العين، والغصة في الصدر، والوقر على الظهر، والسل في الجسم، والحسرة في النفس؛ وهذا كله لعظم مادهم منها، وابتلى الناس به فيها، وهي حرمان الفاضل وإدراك الناقص؛ ولهذا المعنى خلع ابن الراوندي ربقة الدين، وقال أبو سعيد الحصيري بالشك، وألحد فلان في الإسلام، وارتاب فلان في الحكمة.
وحين نظر أبو عيسى الوراق إلى خادم قد خرج من دار الخليفة بجنائب تقاد بين يديه، وبجماعة تركض حواليه، فرفع رأسه إلى السماء، وقال: أوحدك بلغات وألسنة، وأدعو إليك بحجج وأدلة، وأنصر دينك بكل شاهد وبينه، ثم أمشي هكذا عارياً جائعاً نائعاً، ومثل هذا الأسود يتقلب في الخز والوشي، والخدم والحشم، والحاشية والغاشية.
ويقال هذا الإنسان هو ابن الراوندي، ومن كان؛ فإن الحديث في هذا الباب، والإسناد فيه عال، والبحث عن هذا السر واجب؛ فإنه باب إلى روح القلب، وسلامة الصدر، وصحة العقل، ورضا الرب، ولو لم يكن فيه إلا التفويض والصبر حسبما يوجبه الدليل لكان كافياً.
والمنجمون يقولون: إن الثامن من مقابلة الثاني.
فكأن المناظر والمقابل يدلان على العداوة.
وحدثنا شيخ عن ابن مجاهد أنه قال: الفضل معدود من الرزق، كما أن الخفض معدود في جملة الحرمان.
وقال لي شيخ مرة: اعلم أن القسمة عدل، والقاسم منصف؛ لأنه بإزاء ما أعطاك من الأدب والفضل واللسان والعقل أعطى صاحبك المال والجاه والكفاية واليسار، فانظر إلى النعمة كيف انقسمت بينكما، ثم انظر إلى البلاء كيف انقسم عليكما أيضاً: أبلاك مع الفضل بالحاجة، وأبلاه مع الغنى بالجهالة.
فهل العدل إلا في هذه العبرة، والحق إلا بهذه الفكرة.

ولعمري إن هذا المقدار لا يصير عليه الدهري ولا التناسخي، ولا الثنوي، ولكن على كل حال فيه تبصرة من العمى.
ولو قد أفردنا الجواب عن مسائل هذه الرسالة للمعترض والمتشكك في ذلك مشبع ومروى.
والله المعين على ما قد اشتمل الضمير عليه، وانعقدت النية به.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة كما حكيت ووصفت من صعوبتها على أكثر الناس، والتباس وجه الحكمة فيها على أصناف أهل النظر حتى صار الكلام فيها مشبهاً بقائم الشطرنج الذي يتنازعه الخصمان إلى أن يقطعهما الكلال والسآمة فيطرحونها قائمة، ثم يعودون فيها مجلساً بعد آخر، فتكون صورتهم فيها وافقة بحالها.
وكنت أحب أن أفرد فيها مقالة تشتمل على جملة مستقصاة تشفي وتكفي عند ما سألني بعض الإخوان ذلك؛ فإن أمثال هذه المسائل المتداولة بين الناس، المشهورة بالشك والحيرة - ليس ينبغي أن يقنع فيها بأمثال هذه الأجوبة التي سألت أنت فيها الإيجاز الشديد، وضمنت أنا فيها الإيماء إلى النكت، لا سيما وأنا لا أعرف في معناها كلاماً مبسوطاً لأحد ممن تقدمني حتى إذا أومأت بالمعنى إليه أحلت بالشرح عليه، ولكنني لما انتهيت إليها بالنظر لم يجز أن أخليها من جواب متوسط بين الإسهاب والإيجاز.
وأنا مجتهد في بيانها، وإزالة ما لحق الناس من الحيرة فيها.
ومن عند الله استمد التوفيق وهو حسبي، فأقول: إن من الأصول التي لا منازعة فيها، وهي مسلمة من ذوي العقول السليمة أن لكل موجود في العالم - طبيعي كان أو صناعي - غاية وكمالاً وغرضاً خاصاً وجد من أجله وبسببه، اعني أنه إنما أوجد ليتم به ذلك الغرض، وإن كان قد يتم به أشياء أخر دون ذلك الغرض الأخير، والكمال الأخير، وقد يصلح لأمور ليست من الغرض الذي قصد به وأريد له في شيء.
ومثال ذلك المطرقة فإنها إنما أعدت للصانع ليتم له بها مد الأجسام إلى أقطارها، وبسطها إلى نواحيها، وهي - مع ذلك - تصلح لأن يشق بها، وتستعمل في بعض ما تستعمل فيه الفأس، وكذلك أيضاً المقراض إنما أعد للخياط ليقطع به الثوب، وهو مع ذلك - يصلح لأن يبري به القلم، ويستعمل مكان السكين، وكذلك الحال في سائر الآلات الصناعية.
وهكذا صور الأمور الطبيعية؛ فإن الأسنان إنما أعدت مختلفات الأوضاع والأشكال لاختلاف كمالاتها - أعني الأغراض التي تتم بها، والأفعال التي وجدت من أجلها، فإن مقاديمها حادة بالهيئة التي تصلح للقطع كالحال في السكين ومآخيرها عريضة بالهيئة التي تصلح للرض والطحن كالحال في الرحا.
وقد تتم بها أفعال أخر.
وكذلك الحال في اليد والرجل، فقد يتعاطى الناس أن يعملوا بكل واحدة منهما غير ما خلقت له، وعملت من أجله على سبيل الحاجة إلى ذلك، أو على طريق التغريب به، كمن يمشي على يده، ويبطش ويكتب برجله.
ولكن هذه الأفعال - وإن ساغ صدروها عن هذه الآلات، وتتم بها غير ما هو كمالها وخص بها - فإن ذلك منها يكون على اضطراب ونقصان عن الآلات التي تتم بها أعمالها الخاصة بها، المطلوبة منها، الموجودة من أجلها.
وإذا كان ذلك مستمراً في جميع الألات الصناعية، والأشخاص الطبيعية فكذلك الحال في النواع كلها؛ فإنك إذا تأملت نوعاً منها وجدته مستعداً لكمالات وأغراض خاصة بواحد واحد منها.
وهكذا يجري الأمر في أجناس هذه الأنواع؛ فإن الناطق وغير الناطق من الحيوان ليس يجوز أن يكون غرضهما وكمالهما واحد - أعني لا يجوز بوجه ولا سبب ألا يكون للإنسان الذي ميز بهذه الصورة، وأعطي التمييز والروية، وفضل بالعقل الذي هو أجل موهوب له، وأفضل مخصوص به - غرض خاص، وكمال خلق لأجله، ووجد بسببه.
وإذا كان هذا الأصل موطأ ومقراً به، وكان على غاية الصحة، وفي نهاية القوة كما تراه، فهلم بنا نبحث بحثاً آخر عن هذه الآلات الصناعية، والأشخاص الطبيعية، فإنا نجدها قد تشترك في أشياء، وتتباين في أشياء.

أعني أن المطرقة تشارك السكين والإبرة والمنشار وغيرها في الصورة التي هي الحديدة، ثم تنفرد بخاص صورة لها تميزها من غيرها، والإنسان يشارك النبات والبهائم في النمو والاعتلال، وفي الإلتذاذ بالمأكل والمشرب وسائر راحات الجسد، ونفض الفضول عنه، ونريد ان نعلم هل هذا الاختصاص الذي لكل واحد منها بغرضه الخاص به، وكماله المفروض له هو بما شارك به غيره، آو بما باينه به؟ فتجده الصورة الخاصة به التي ميزته عن غيره، وصار بها هو ما هو.
أعني صورة الفأس التي بها هو فأس هي التي جعلت له خاصته وكماله وغرضه، وكذلك الحال في الباقيات.
ثم نصير إلى الإنسان الذي شارك النبات والحيوان في موضوعاتها فنقول: إن الإنسان من حيث هو حيوان قد شارك البهائم في غرض الحيوانية وكمالها، أعني في نيل اللذات والشهوات، والتماس الراحات وطلب العوض مما يتحلل من بدنه، إلا أن الحيوانية لما ما تكن صورته الخاصة به، المميزة له عن غيره لم تصدر هذه الأشياء منه على أتم أحوالها؛ وذاك أنا نجد أكثر الحيوانات تزيد على الإنسان في جميع ما عددناه، وتفضله فيها بالاقتدار على التزيد وبالمداومة وبالاهتداء.
ولما كانت صورته الخاصة به التي ميزته عن غيره هو العقل وخصائصه من التمييز والروية - وجب ان تكون إنسانيته في هذه الأشياء، فكل من كان حظه من هذه الخصائص أكثر كان اكثر إنسانية، كما أن الأشياء التي عددناها كلما كان منها حظه من صورته الخاصة به أكثر كان فضله في أشكاله أظهر.
ثم نعود إلى شرح مسألتك، ونبينها بحسب هذه الأصول التي قدمتها فأقول: لعمري إنه لو كان غاية الإنسان، وغرضه الذي وجد بسببه، وكماله الذي أعد له هو الاستكثار من القنية، والتمتع بالمآكل والمشارب، وسائر اللذات والراحات - لوجب أن يستوفيها بصورته الخاصة به، ولوجب أن تكثر عنده، ويكون نصيب كل إنسان منها على قدر قسطه من الإنسانية،حتى يكون الأفضل من الناس هو الأفضل في هذه الأحوال من القنية والاستمتاع بها، ولكن لما كانت صورته الخاصة به هي ذكرنا، علمنا أن القصد به، والغرض فيه، هو ما صدر عنه، وتم به، كحقائق العلوم والمعارف، وإجالة الروية، وإعمال الفكرة فيها، ليصل بذلك إلى مرتبة هي أجل من مرتبة البهائم، وسائر الموجودات في عالم الكون والفساد، كما أنه في نفسه وبحسب صورته أفضل منها كلها.
وهذه المرتبة لا يصل إليها بغير الروبة، وبغير الإختيار الخاصيين بالعقل.
ولا يجوز أن يقال في معارضة ما قلناه: إن هذه الروية، وهذا الاختيار إنما ينبغي أن يكونا في اللذات؛ لأنا قد بينا في هذا الموضع، وفي مواضع أخر كثيرة، أن تلك الموجودة للحيوانات الخسيسة أو فر وأكثر بغير روية ولا عقل، وإنما تشرف الروية، وتتبين ثمرة العقل إذا استعمل في أفضل الموجودات.
وأفضل الموجودات ما كان دائم البقاء داثر ولا متبدل، وغير محتاج ولا فقير إلى شيء خارج عنه، بل هو الغني بذاته، الذي بجوده على جميع الموجودات، ونزلها منازلها بقدر مراتبها، وعلى قدر قبولها، وبحسب استحقاقاتها.
فالروية والفكرة والاختيار إنما تكمل بها صور الإنسانية إذا استعملت في الأمور الإلهية ليرتقي بها إلى منازل شريفة لا يمكن النطق بها، ولا إشارة إليها إلا لمن وصل إليها، وعرف إلى ما يشار، وعلم لأي شيء عرض الإنسان من الخيرات، ثم هو يطلب الإنتكاس في الخلق، والرجوع إلى مرتبة البهائم ومن هو في عدادها ممن خسر نفسه، كما قال الله تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم " قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم " .
فهذا - لعمري - هو الخسران المبين الذي يتعوذ بالله منه دائماً.
ولقد أعجبني قول امرىء القيس مع لوثة أعرابيته، وعجمية ملكه، وشبابه وذهابه في طرق الشعر التي كان متصنعاً به، وهائماً في واديه، منغمساً في معانيه:
أرانا موضعين لحتم غيب ... ونسحر بالطعام وبالشراب
فما هذا الإيضاع منا؟ وما هذا الحتم من الغيب؟ لقد أشار إلى معنى الطيف، ودل من نفسه على ذكاء تام، وقريحة عجيبة، ألا تراه يقول: ونسحر بالطعام وبالشراب أي المراد منا، والمقصود بنا غيرهما، وإنما نسحر بهذين.

فقد تبين أن الإنسان - إذا لم تكن غايته هذه الأشياء التي تسميها العامة أرزاقاً، ولم يخلق لها، ولا هي مقصود بالذات - فليس ينبغي له أن يلتمسها ، وأن يتعجب ممن اتفقت له، وإن كان يتشوقها ويحبها، فليس ذلك من حيث هو إنسان عاقل، بل هو من حيث هو حيوان بهيمي.
وقد أزيحت علته في الأمور الضرورية التي يتم بها عيشة، ويصح منها سلوكه إلى غايته.
ولم يظلم أحد في هذا، فتأمله تجده بيناً إن شاء الله.

مسألة ما الاتفاق،وما يتلوه من الكلام
؟
هذه المسألة مكررة، وقد مضى الجواب عنها مستقصى على شريطة الإيجاز.
وبعدها مسألة التوفيق، وقد مرت أيضاً، فليرجع إلى الأجوبة المتقدمة عنهما.
مسألة لجواب أن تفرد مسألة الجبر والاختيار
فيقال: ما الجبر؟ وما الاختيار؟ وما نسبتهما إلى العالم؟ وكيف انتسابهما وانتمائهما؟.
اعني كيف اختلافهما في ائتلاقهما؟ وذلك أنك تجدهما في العالم مضافين إلى اللذين يجمعون بين العقل والحس، كما تجدهما مضافين إلى اللذين ينفردون بالحس دون العقل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الإنسان تصدر عنه حركات وأفعال كثيرة لا يشبه بعضها بعضاً.
وذلك أنه يظهر منه فعل من حيث هو جسم طبيعي، فيناسب فيه الجماد.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو نام - مع أنه جسم طبيعي - فيناسب بذلك الفعل النبات.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ذو نفس حساس، فيناسب بذلك الفعل البهائم.
ويظهر منه فعل آخر من حيث هو ناطق مميز فيناسب بذلك الفعل الملائكة؛ ولكل واحد من هذه الأفعال والحركات الصادرة عن الإنسان أنواع كثيرة وإليها دواع، ولها أسباب، وينظر أيضاً فيها من جهات مختلفة، وتعرض لها عوائق كثيرة، وموانع مختلفة، بعضها طبيعية، وبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية.
ومتى لم يفصل الناظر في هذه المسألة هذه الأفعال بعضها من بعض، ولم ينظر في جهاتها كلها - اختلطت عليه هذه الوجوه، والتبس عليه وجه النظر فيها فعرضت له الحيرة، وكثرت عليه الشبه والشكوك.
ونحن نبين هذه الحركات، ونميزها، ثم نتكلم على حقيقة الجبر والاختيار، فإن الأمر حينئذ يسهل جداً، ويقرب فهمه، ولا يعتاص - بمشيئة الله تعالى - فأقول: إن الفعل - مع اختلاف أنواعه، وتباين جهاته - يحتاج في ظهروه إلى أربعة أشياء: أحدهما الفاعل الذي يظهر منه.
والثاني المادة التي تحصل فيها.
والثالث الغرض الذي ينساق إليه.
والرابع الصورة التي تقدم عند الفاعل، ويروم بالفعل اتخاذها في المادة وربما كانت الصورة هي الفعل بعينه.
فهذه الأشياء الأربعة هي ضرورية في وجود الفعل وظهوره، وقد يحتاج إلى الآلة والزمان والبينة الصحيحة، ولكن ليست بضرورية في كل فعل.
ولما كانت مسألتك عن الفعل الإنساني الذي يتعلق بالاختيار وجب أن تذكرها أيضاً.
ثم إن كل واحد من الأشياء التي هي ضرورية في وجود الفعل ينقسم قسمين: فمنه قريب، ومنه بعيد: أما الفاعل القريب فبمنزلة الأجير الذي ينقل آلات البناء في اتخاذ الدار.
والفاعل البعيد بمنزلة الذي يهندس الدار ويأمر بها، ويتقدم بجميع آلاتها.
وأما الهيولى القريبة فبمنزلة اللبن للحائط، والخشب للباب.
والهيولى البعيدة بمنزلة العناصر الأولى.
وأما الكمال القريب فبمنزلة السكنى في الدار.
والكمال البعيد بمنزلة حفظ المتاع، ودفع أذى الحر والبرد وما أشبه ذلك.
وأما أنواع الأفعال التي ذكرناها فإنما اختلفت بحسب أنواع القوى الفاعلة التي في الإنسان؛ وذلك أن لكل واحدة من القوى الشهوية، والقوى الغضبية والقوى الناطقة - خاص فعل لا يصدر إلا عنها.
وأما الأسباب الدواعي فبعضها الشوق والنزوع، وبعضها الفكر والروية، وقد تتركب هذه.
وأما العوائق التي ذكرناها فبعضها اتفاقية، وبعضها قهرية، وبعضها طبيعية.
فالاتفاقية بمنزلة من يخرج لزيارة صديقه، فيلقاه عدو لم يقصده، فيعوقه عن إتمام فعله، وكمن ينهض لحاجة فيعثر، أو يقع في بئر.
والقهرية بمنزلة من يشد يديه اللصوص ليعوقوه عن البطش بهما، أو كمن يقيده السلطان ليمنعه من السعي والهرب منه.
والطبيعية بمنزلة الفالج والسكتة وأما أشبههما.

وههنا نظر آخر في الفعل ينبغي أن نتذكره وهو أنا ربما نظرنا في الفعل لا من حيث ذاته ولكن من حيث إضافته إلى غيره، مثال ذلك أنا قد ننظر في فعل زيد من حيث هو طاعة لغيره أو معصية، ومن حيث يحبه عمرو ويكرهه خالد، ومن جهة ما هو ضار لبكر ونافع لعبد الله.
وهذا النظر ليس يكون في ذات الفعل بل في إضافته إلى غيره.
وإذ قد نظرنا في الفعل، وأنواعه، وجهاته، وحاجته في ظهوره ووجوده إلى الشرائط التي عددناها - فإنا ناظرون في الاختيار ما هو فنقول: إن الاختيار اشتقاقه بحسب اللغة من الخير، وهو افتعال منه وإذا قيل: اختار الإنسان شيئاً فكأنه افتعل من الخير أي فعل ما هو خير له: إما على الحقيقة، وإما بحسب ظنه.
وإن لم يكن خيراً له بالحقيقة، فالفعل الإنساني يتعلق به من هذا الوجه، وهو ما صدر عن فكر منه، وإجالة رأى فيه؛ ليقع منه ما هو خير له.
ومعلوم أن الإنسان لا يفكر، ولا يجيل رأيه في الشيء الواجب ولا في الشيء الممتنع، وإنما يفكر ويجيل رأيه في الشيء الممكن، ومعنى قولنا الممكن هو الشيء الذي ليس بمتنع، وإذا فرض وجوده لم يعرض عنه محال.
ولما كانت هذه الجهة من الفعل هي المتعلقة بالاختيار، وهي التي تخص بالفعل الإنساني، وكانت محتاجة في تمام وجود الفعل إلى تلك الشرائط التي قدمناها، كان النظر فيها - أعني في هذه الجهة - يعرض للغلط والوقوع في تلك الجهات التي ليست متعلقة بالإنسان، ولا مبدؤها إليه.
وربما نظر بحسب جهة من جهات الفعل، وخلى النظر في الجهات الأخر، فيكون حكمه على الفعل الإنساني بحسب تلك الجهة، وذلك بمنزلة من ينظر في الفعل من جهة الهيولى المختصة به التي لا بد له في وجوده منها، ويتخلى عن الجهات الأخر التي هي أيضاً ضرورية في وجوده، كالكاغد للكاتب فإنه إذا نظر في فعل الكاتب من هذه الجهة.
أعني تعذر الكاغد عليه ظن أنه عاجز عن الكتابة من هذه الجهة، ممنوع عن الفعل لأجلها، وهذه جهة لم تتعلق به من حيث هو كاتب ومختار للكتابة، وكذلك إن عدم القلم والجارحة الصحيحة، أو واحداً من تلك الأشياء المشروط في وجود كل فعل إنساني فحينئذ يبادر هذا الناظر بالحكم على الإنسان بالجبر، ويمنع من الاختيار.
وكذلك تكون حال من ينظر في فعله من حيث هو مختار، فإنه إذا نظر في هذه الجهة، وتخلى عن الجهات الأخر التي هي أيضاً ضرورية في وجوده، فإنه أيضاً سيبادر إلى الحكم عليه بأنه فاعل متمكن، ويمنع من الجبر.
وهكذا حال كل شيء مركب عن بسيط فإن الناظر في ذلك المركب إذا نظر فيه بحسب جزء من أجزائه الذي تركب منه، وترك أجزاؤه الباقية - تعرض له الشكوك الكثيرة من أجزائه الباقية التي ترك النظر فيها.
والفعل الإنساني وإن كان اسمه واحداً، فوجوده معلق بأشياء كثيرة لا يتم إلا بها، فمتى لحظ الناظر فيه شيئاً واحداً منها، وترك ملاحظة الباقيات عرضت له الشكوك من تلك الأشياء التي أغفلها.
والمذهب الصحيح هو مذهب من نظر في واحد واحد منها، فنسب الفعل إلى الجميع، وخص كل جهة بقسط من الفعل، ولم يجعل الفعل الإنساني اختياراً كله، ولا تفويضاً كله؛ ولهذا قيل: دين الله بين الغلو والتقصير.
فإن من زعم أن الفعل الإنساني يكفي في وجوده أن يكون صاحبه متمكناً من القوة الفاعلة بالاختيار فهو غال من حيث أهمل الأشياء الهيولانية، والأسباب القهرية، والعوائق التي عددتها قبل.
وهذا يؤديه إلى التفويض.
وكذلك حال من زعم أن فعله يكفي في وجوده أن ترتفع هذه العوائق عنه، وتحصل له الأشياء الهيولاينة فهو مقصر من حيث أهمل القوة الفاعلة بالاختيار وهذا يؤديه إلى الجبر.
وإذا كان هذا على ما بيناه ولخصناه فقد ظهر المذهب الحق، وفيه جواب مسألتك عن الجبر والاختيار.
ويعلم علماً واضحاً أن الإنسان إذا امتنع عليه فعله لنقصان بعض هذه الأشياء التي هي ضرورية في ظهور فعله، أو عرضية فيه، أو قهرية، أو اتفاقية فهو منسوب إلى تلك الجهة.
مثال ذلك أنه إن كان امتنع من الفعل لنقصان الهيولى، أو أحد الأربعة الأشياء الضرورية فهو عاجز، وإن امتنع لعائق قهري أو اتفاقي فهو معذور من تلك الجهة وبحسبها، وعلى مقدارها.

فأما من حضرته القوة الفاعلة بالاختيار، وارتفعت تلك الموانع عنه، وأزيحت علله فيها كلها، ثم كان ذلك لفعل مما ينظر فيه على طريق الإضافة أن يكون طاعة لمن تجب طاعته، آو معونة لمن تجب معونته، أو غير ذلك من وجوه الإضافات الواجبة، ثم امتنع من الفعل فهو ملوم غير معذور؛ لأنه قادر متمكن؛ ولأجل ذلك تلحقه الندامة من نفسه، والعقوبة من غيره، أو العيب والذم.
وهذه الجهة التي تختص الإنسان من جهات الفعل المتعلقة بالفكر، وإجالة الرأى المسمى بالاختيار - هي ثمرة العقل ونتيجته.
ولولا هذه الجهة لما كان لوجود العقل فائدة، بل يصير وجوده عبثاً ولغواً، ونحن نتيقن أن العقل أجل الموجودات، وأشرف ما من الله - تعالى - به ووهبه للإنسان، ونتيقن أيضاً أن أخس الموجودات، ما لا ثمرة له، ولا فائدة في وجوده بمنزلة اللغو والعبث، فإذن أجل الموجودات على هذا الحكم هو أخس الموجودات.
هذا خلف لا يمكن أن يكون.
فليس هذا الحكم بصادق، فنقيضه هو الصادق.

مسألة لم حن بعض الناس إلى السفر
من لدن طفوليته إلى كهولته، ومنذ صغره إلى كبره، حتى إنه يعق الوالدين، ويشق الخافقين صابراً على وعثاء السفر، وذل الغربة، ومهانة الخمول، وهو يسمع قول الشاعر:
إن الغريب بحيث ما ... حطت ركائبه ذليل
ويد الغريب قصيرة ... ولسانه أبداً كليل
والناس ينصر بعضهم ... بعضاً وناصره قليل
وآخر ينشأ في حضن أمه، وعلى عانق ظئره، ولا ينزع به حنين إلى بلد، ولا يغلبه شوق إلى أحد، كأنه حجر جبله، أو حصاة جدوله؟ لعلك تقول: مواضع الكواكب، ودرجة الطالع، وشكل الفلك اقتضت له هذه الأحوال، وقصرته على هذه الأمور، فحينئذ تكون المسألة عليك في آثار هذه النجوم، وتوزيعها هذه الأسباب على ما هي عليه من ظاهر التسخير - أشد، وتكلف الجواب عنها آكد وأنكد.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن قوة النزاع إلى المحسوسات تنقسم بانقسام الحواس.
وكما ان بعض المزاج تقوى فيه حاسة البصر، وبعضه تقوى فيه حاسة السمع، فكذلك الحال في القوة النزاعية التي في تلك الحاسة؛ لأنها هي التي تشتاق إلى تكمل الحاسة، وتصييرها بالفعل بعد أن كانت بالقوة.
ومعنى هذا الكلام أن الحواس كلها هي حواس بالقوة إلى أن تدرك محسوساتها، فإذا أدركتها صارت حواس بالفعل.
وإذا كان الأمر على ما وصفنا فليس بعجب أن يكون هذا المعنى في بعض الحواس قوياً، ويضعف في بعض، فيكون بعض الناس يشتاق إلى السماع، وبعضهم إلى النظر، وبعضهم إلى المذوقات من المأكول والمشروب، وبعضهم إلى المشمومات وألوان الروائح، بعضهم إلى الملبوسات من الثياب وغيرها.
وربما اجتمع لواحد أن يشتاق إلى اثنين منها، أو ثلاثة، أو إليها كلها.
ولكل واحد من هذه المحسوسات أنواع كثيرة لا تحصى، ولأنواعها أشخاص بلا نهاية.
وهي على كثرتها وعددها الجم، وخروجها إلى حد ما لا نهاية له - ليست كمالات للإنسان من حيث هو إنسان، وإنما كماله الذي يتمم إنسانيته هو فيما يدركه بعقله.
أعني العلوم.
وأشرفها ما أدى إلى أشرف المعلومات.
وإنما صار البصر والسمع أشرف الحواس لأنهما أخص بالمعارف، وأقرب إلى الفهم والتمييز، وبهما تدرك أوائل المعارف، ومنها يرتقي إلى العلوم الخاصة بالنطق.
وإذا كانت الحالة على هذه الصورة في الشوق إلى ما يتمم وجود الحواس، ويخرجها إلى الفعل، وكان من الظاهر المتعارف أن بعض الناس يشتاق إلى نوع منها فيحتمل فيه كل مشقة وأذى حتى يبلغ أربه فيه - لم يكن بديعاً ولا عجباً أن يشتاق آخر إلى نوع آخر فيحتمل مثل ذلك فيه.
إلا أنا وجدنا اللغة في بعض هذه عنيت فوضعت له اسماً، وفي بعضها لم تغن فأهملته؛ وذلك أنا قد وجدنا لمن يشتاق إلى المأكول والمشروب إذا أفرطت قوته النزاعية إليهما حتى يعرض له ما ذكرت من الحرص عليهما، والتوصل إليهما ما يحتمل معه ضروب الكلف والمشاق - اسماً، وهو الشره والنهم.
ولم نجد لمن يعرض له ذلك في المشموع اسماً.
وأظن ذلك لأجل كثرة ما يوجد من ذلك الضرب، ولأن عيبه أفحش، وما يجلبه من الآثام والقبائح أكثر.
فقد ظهر السبب في تشوق بعض الناس إلى الغربة وجولان الأرض.

وهو أن قوته النزاهية التي تختص بالبصر تحب الاستكثار من المبصرات وتحديدها، ويظن أن أشخاص المبصرات تستغرق، فهو يحتمل كثيراً من المشاق في الوصول إلى أربه من إدراك هذا النوع.
وقد نجد من يحتمل أكثر من ذلك إذا تحرك بقوته النزاعية إلى سائر المحسوسات الأخر، والاستكثار منها.
فتأمل الجميع، وأعد نظرك، وتصفح جزئياتها تجد الأمر فيها واحداً.
مسألة ما سبب رغبة الإنسان في العلم؟ ثم ما فائدة العلم؟
ما غائلة الجهل؟ ثم ما عائدة الجهل الذي قد وما سر العلم الذي قد طبع عليه الخلق؟ فإن استشفاف هذه الفصول، واستكشاف هذه الأصول يثيران علماً وحكماً جماً، وإن كان فيها - في البحث عنها، وبعض أوائلها وأواخرها - مشقة على النفس، وثقل على الكاهل.
ولولا معونة الخالق من كان يقطع هذه التنائف الملس؟ ومن كان يسلك هذه المهامه الخرس؟ ولكن الله - تعالى - ولى المخلصين، وناصر المطيعين، ومغيث المستصرخين.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: مر لنا في عرض كلامنا على هذه المسائل ما ينبه على جواب هذه المسألة.
ولكنه لا بد من إعادته شيء منه يزيد في كشف الشبهة، وإزالة الشك.
وهو أن العلم كمال الإنسان من حيث هو إنسان؛ لأنه إنما صار إنساناً بصورته التي ميزته عن غيره.
أعني النبات والجماد والبهائم.
وهذه الصورة التي ميزته ليست في تخاطيطه وشكله ولونه.
والدليل على ذلك أنك تقول: فلان أكثر إنسانية من فلان، فلا تعني به أنه أتم صورة بدن، لا أكمل يف الخلق التخطيطي، ولا في اللون، ولا في شيء آخر غير قوته الناطقة التي يميز بها بين الخير والشر في الأمور، وبين الحسن والقبيح في الأفعال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات؛ ولذلك قيل في حد الإنسان: إنه حي ناطق مائت.
فميز بالنطق، أعني بالتمييز وبينه وبين غيره، دون تخطيطه وشكله، وسائر أغراضه ولواحقه.
وإذا كان هذا المعنى من الإنسان هو ما صار به إنساناً، فكلما كثرت إنسانيته كان أفضل في نوعه.
كما أن كل موجود في العالم إذا كأن فعله الصادر عنه بحسب صورته التي تخصه، فإنه إذا كان فعله أجود كان أفضل وأشرف.
مثل ذلك الفرس والبازي من الحيوان، والقلم والفأس من الآلات، فإن كل واحد من هذه إذا صدر عنه فعله الخاص بصورته كاملاً كان أشرف في نوعه ممن قصر عنه، وكذلك الحال في النبات والجماد، فإن لكل واحد من أشخاص الموجودات خاص صورة يصدر عنه فعله، وبحسب يشرف أو يخس إذا كان تاماً أو ناقصاً.
فأي فائدة أعظم مما يكمل وجودك، ويتمم نوعك، ويعطيك ذاتك حتى يميزك عن الجماد والنبات والحيوانات التي ليست بناطقة، ويقربك من الملائكة والإله - عز وجل، وتقدس وتعالى - وأي غائلة أدهى وأمر، وأكلم وأطم مما ينكسك في الخلق، ويردك إلى أرذل وجودك، ويحطك عن شرف مقامك إلى خساسة مقامات ما هو دونك؟ أظنك تذهب إلى أن العلم يجب ان يفيدك - لا محالة - جاهاً، أو سلطاناً أو مالاً تتمكن به من شهوات ولذات.
فلعمري إن العلم قد يفعل ذلك، ولكن بالعرض لا بالذات؛ لأن غاية العلم، والذي يسوق إليه، ويكمل به الإنسانليس هو غايات الحواس، ولا كمال البدن.
وإن كان قد يتم به ذلك في كثير من الأحوال.
ومتى استعملته في هذا النوع فإنه يكمل صورتك البهيمية والنباتية، وكأنه استعمل في أرذل الأشياء، وهو معد لأن يستعمل في أشرفها.

مسألة ما سبب تصاغي البهائم والطير إلى اللحن الشجي
والجزم الندي؟ وما الواصل منه إلى الإنسان العاقل المحصل حتى يأتي على نفسه؟ وهذا جار في العادة، ومعروف عند المتعرفين للأمور.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مر لنا في المسألة الثالثة من هذه المسائل كلام كثير في سبب قبول الإنسان بعض الأسماء وكراهية بعضها، وثقل بعض الحروف، وخفة بعضها، وما يلحق النفس من الأصوات المختلفة بالحدة والجهارة وغير ذلك، ونحن نزيد في هذا الموضع ما يليق بزيادتك في المسألة فنقول: إن النفس وإن كانت صورة فاعلة من حيث هي كمال لجسم طبيعي إلى ذي حياة بالقوة فإنها هيولانية منفعلة من حيث هي قابلة رسوم الأشياء وصورها.
ولذلك صار لها سببان: أحدهما إلى ما تفعل به، والآخر إلى ما كان ينفعل به.
فالنفس تقبل نسب الاقتراعات بعضها إلى بعض كما تقبل نفس الاقتراعات مفرد مركبة.

وذاك أن أفراد الأصوات ومجموعها غير نسب بعضها إلى بعض؛ لأن النسبة هي إضافة ما، والنظر الإضافي غير النظر في ذوات الأدوات، وكذلك تأثير هذا غير تأثير ذاك.
ولما كانت هذه النسب كثيرة مختلفة وجب فيها - ضرورة - ما يجب في الأشياء المتكثرة.
أعني أن لها طرفين: أحدهما الزيادة، والآخر النقصان.
ولها من هذين الطرفين اعتدال.
فإن كانت الأطراف كثيرة فالاعتدالات أيضاً كثيرة.
والنفس تأبى الزيادة والنقصان، وتميل إلى الاعتدال، ولأن لها قوى تظهر بحسب الأمزجة، فلتلك القوى المختلفة إضافات مختلفة إلى نسب مختلفة، واعتدالات مختلفة.
وقد اجتهد أصحاب الموسيقا في تمثيل هذه النسب، وتحصيل هذه الاعتدالات بأن جعلوا لها أمثلة في مقولة الكم من العدد، وإن كان بعضها بمقولة الكيف أحق؛ لأن الصناعة مؤلفة من هاتين المقولتين.
أعني الكم والكيف، ولكن الكم الذي هو العدد أقرب إلى الأفهام، ومثلوا ما كان من الكيفية بالكمية، ثم لخصوا كل واحدة منهما تلخيصاً تجده مبيناً في كتبهم.
وإذا قد قلنا ما الذي يصل إلى النفس من آثار الأصوات، وما المحبوب منه، وما المكروه على طريق الإجمال من القول، فقد تبين أن الإفراط منه، والخروج إلى إحدى الجهتين يؤثر بحسب ذلك.
وقد كان تبين في مواضع كثيرة أن النفس والبدن كل واحد منهما مشتبك ما يظهر أثر أحدهما في الآخر؛ فإن الأحوال النفسية تغير مزاج البدن، ومزاج البدن أيضاً يغير أحوال النفس، فإذا قوى أثر ما في النفس حتى يتفاوت به المزاج، ويخرج عن اعتداله لم يقبل أثر النفس، وعرض منه الموت؛ لأن الموت ليس بأكثر من ترك النفس استعمال الآلات البدنية.
وقد علمنا أن دم القلب الذي له اعتدال ما إذا انتشر في البدن، ورق بالسرور أكثر مما ينبغي، أو عاد واجتمع إلى القلب بالغم أكثر مما ينبغي - عرض من كل واحدة من الحالتين الموت، أو ما يقارب الموت بحسب قوة الأثر.
وما أكثر ما تؤثر الأجسام تأثيراً طبيعياً فيتأدى ذلك الأثر إلى النفس فتعرض لها حركة ما، وتصير تلك سبباً لتأثير آخر في الجسم يكون به انتفاضه وخروجه عن الاعتدال.
وإذا تأملت ذلك في الأشياء المغضبة والمحزنة إذا كانت قوية تبين لك ذلك.
فهذا كاف في هذا الموضع، وإن أحببت الإتساع فيه فعليك بكتب الموسيقا فإنها تشفيك، إن شاء الله.

مسألة لم كلما شاب البدن شب الأمل
؟
قال أبو عثمان النهدي: قد أتت علي مائة وثمانون سنة، وأنكرت كل شيء إلا الأمل، فإنه أحد ما كان.
ما سبب هذه الحال؟ وعلى ماذا يدل الرمز فيها؟ وما الأمل أولاً؟ وما الأمنية ثانياً؟ وما الرجاء ثالثاً؟ وهل تشتمل هذه على مصالح العالم؟ فإن كانت مشتملة فلم تواصى الناس بقصر الأمل، وقطع الأماني، وبصرف الرجاء إلا في الله - تبارك وتعالى - وإلى الله؟ فإنه ساتر العورة، وراحم العبرة، وقابل التوبة وغافر الخطيئة، وكل أمل في غيره باطل، وكل رجاء في سواه زائل؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة قد أخذ فيها فعل من أفعال النفس فقرن بفعل من أفعال الطبيعة التي بحسب البدن إلى الطبيعة والمزاج البدني، ثم وقعت المقايسة بينهما، وهما يتباينان لا يتشابهان، فلذلك عرض التعجب منها.
وذلك أن الأمل والرجاء والمنى من خصائص القوة الناطقة.
فأما الشيب والنقصانات التي تعرض للبدن، وعجز القوى التابعة للمزاج فهي أمور طبيعية في آلات تكل بالاستعمال، وتضعف على مر الزمان.
وأما أفعال النفس فإنها كلما تكررت وأديمت فإنها تقوى ويشتد أثرها فهي بالضد من حال البدن.
مثال ذلك ان النظر العقلي كلما استعمل قوى واحتد، وأدرك في الزمان القصير ما يدركه في الزمان الطويل، ولحق الأمر الذي كان خفياً عنه بسرعة.
والنظر الحسي كلما استعمل كل وضعف، ونقص أثره إلى أن يضمحل.
فأما الفرق بين الأمل والرجاء وبين الأمنية فظاهر؛ وذاك أن الأمل والرجاء يعلقان بالأمور الاختيارية، وبالأشياء التي لها هذا المعنى.
فأما الأمنية، فقد تتعلق بما لا اختيار له ولا روية؛ فإنه ليس يمنع مانع من تمنى المحال والأشياء التي لا تمييز فيها ولا لها.
والأمل أخص بالمختار.
والرجاء كأنه مشترك، وقد يرجو الإنسان المطر والخصب، وليس يأمل إلا من له قدرة وروية.

وأما المنى فهو - كما علمت - شائع في الكل، ذاهب كل مذهب، فقد يتمنى الإنسان أن يطير، أو يصير كوكباً أو يصعد إلى الفلك فيشاهد أحواله.
وليس يرجو هذا ولا يأمله.
ثم قد يرجو المطر، وليس يأمل إلا منزل القطر، ومنشىء الغيث.
فهذه فروق واضحة.
فأما قولك؛ لم تواصى الناس بقصر الأمل، وقطع الأماني، وصرف الرجاء إلا في الله تعالى؟ فأقول: لأن سائر الأشياء المأمولة والمرجوة والمتمناة منقطعة المدد، متناهية العدد، ثم هي متلاشية في أنفسها، مضمحلة بائدة فاسدة، لا يثبت شيء منها على حال لحظة واحدة، فلو وصل الواصل إليها، وبلغ نهمته منها لأوشك ان يتلاشى ويضمحل ذلك الشيء في نفسه، أو يتلاشى ويضمحل الأمل فيه، آو رجاؤه وتمنيه.
فأما ما اتصل من هذه بالله - تعالى ذكره - فهو أبدى غير منقطع ولا مضمحل، بل الله - تعالى - دائم الفيض به، أبدى الجود منه.
تعالى اسمه وتقدس، ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ومعيننا وناصرنا وهادينا إلى صراط مستقيم.

مسألة لم صارت غيرة المرأة على الرجل أشد
من غيرة الرجل على المرأة؟ هذا في الأكثر والأقل، وكيفما كان ففيه خبىء وهو المشدد على أحدهما، والمخفف عن الآخر.
وقد أدت الغيرة جماعة إلى تلف النفوس، وإلى زوال النعم، وإلى الجلاء عن الأوطان.
ثم فلت في المسألة التالية لهذه: ما الغيرة أولاً؟ وما حقيقتها؟ وكيف أصلها وفصلها؟ وعلى ماذا يدل اشتقاقها؟ وهل هي محمودة أو مذمومة؟ وهل صاحبها ممدوح أم ملوم؟ فإن إثارة هذا أبلغ بك إلى الفوائد، وأجرى معك إلى الأمد، وبوقوفك عليها تعرف غيرها، وتتخطى إلى ما عداها.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الغيرة فهي خلق طبيعي عام للإنسان والبهائم.
وهو ممدوح إذا كان على شرائط الأخلاق.
أعني إذا وضع في خاص موضعه ولم يتجاوز به المقدار الذي يجب، ولم ينقص عنه على مثال ما ذكرناه فيما مضى من سائر الأخلاق كالغضب والشهوة.
فإن هذه أخلاق طبيعية وإنما يحمد منها ما لم يخرج عن الاعتدال، أو أصيب به موضعه الخاص به.
وحقيقة الغيرة هي منع الحريم، وحماية الحوزة؛ لأجل حفظ النسل والنسب فكل من كانت غيرته لأجل ذلك، ثم لم يتجاوز ما ينبغي حتى يحكم بالتهمة الباطلة، فيصدق بالظنون الكاذبة، ويبادر إلى العقوبة على ذلك، ولم ينقص عما ينبغي حتى يتغافل عن الدلائل الواضحة، ويترك الامتعاض من الرؤية والسماع إذا كان حقاً، وكان معتدل الخلق بين هذين الطرفين يغضب كما ينبغي، وعلى ما ينبغي - فهو محمود غير ملوم.
فأما من فرط أو أفرط في الغيرة فسبيله سبيل من تجاوز الاعتدال في سائر الأخلاق إلى الزيادة أو النقصان.
فقد بينا إن الزيادة والنقصان في كل خلق يهجم بصاحبه على ضروب من الشر، وأنواع من البلايا والمكاره، ويكون هلاكه على مقدار زيادته أو نقصانه منها ومن شرائطها المذكورة في الأخلاق.
فأما زيادة حظ الأنثى على الذكر من الغيرة، أو الذكر على الأنثى فليس بلازم طريقة واحدة، ولا جار على وتيرة واحدة.
بل ربما زاد ذكر على أنثاه في هذا المعنى، وربما زادت أنثى على ذكرها فيه، كما يعرض لهما ذلك في قوة الغضب وغيره من الأخلاق.
على أن الذكر أولى بالمحاماة، وأخص بهذا الخلق لأنه تستعمل فيه قوة الغضب والشجاعة، وهذا أولى بالذكر منه بالأنثى، وإن كانت الأنثى تشارك فيه الذكر.
وههنا خلة لا بأس بذكرها، والتنبيه عليها؛ فإن كثيراً من الناس يضل عن وجه الصواب فيها، وهي أن الغيرة إذا هاجت قوتها وكان سببها الشهوة، وجب الاستئثار، وأن يختص الإنسان بحال لا يشاركه فيها غيره، وكان هذا العارض له في غير حرمته، ولا من أجل حفظ نسبه وزرعه - فهو أمر قبيح.
وإن كانت على شرائطها التي ذكرت فهو أمر حسن جميل.
وأما سقوط هذه القوة دفعة فهجنة قبيحة، فقد نجد في بعض الحيوان من لا تعرض له الغيرة كالكلب والتيس، ويسب به الإنسان إذا ذكر به، وسمي باسمه.
ونجد أيضاً بعضها غيوراً محامياً كالكبش وغيره من فحول الحيوان فيمدح بذكره الإنسان إذا شبه به، وسمي باسمه.
فلست اعرف وجه السب بالتيس، والمدح بالكبش إلا لما يظهر من هذا الخلق في أحدهما دون الآخر.
فهذه حال الغيرة وحقيقتها، وما يجب أن يمدح منها أو يذم.
مسألة ما السبب في أن الذين يموتون وهم شبان أكثر
من الذين يموتون وهم شيوخ
؟
الشاهد على ذلك أنك تجد الشيوخ أقل، ولولا ذلك لكانوا يكثرون؛ لأنهم كانوا يتجاوزون الشبيبة إلى الكهولة، والكهولة إلى الشيخوخة، فلما دب الحمام في ذوي الشباب أفناهم، وتخطى القليل منهم فبلغوا التشيخ، وهو قليل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الحياة تابعة لمزاج ما، خاص بإنسان إنسان.
وذلك المزاج له بمنزلة النقطة من الدائرة.
أعني أنه شيء واحد، والخروج عنه إلى النقط التي حواليه مما يقرب منه أو يبعد عنه بلا نهاية.
وذلك أن لكل إنسان، وبالجملة لكل حيوان - اعتدالاً خاصاً به بين الحرارة والرطوبة، والبرودة واليبوسة، فإذا انحرف عن ذلك الاعتدال إلى أحد الأطراف كان مرضه أو هلاكه.
ثم إن الأمور التي تخرجه إلى الأطراف كثيرة من الأغذية والأشربة والهواء الواصل إليه بالاشتتشاق وغيره، وحركاته الطبيعية وغير الطبيعية مما يخرجه عن هذا الاعتدال - كثيرة.
والآفات الأخرى التي تطرأ من خارج مما لا تحتسب كثيرة.
وإذا كانت الأسباب التي يخرج الإنسان بها عن الاعتدال كثيرة بلا نهاية والأسباب التي يثبت بها على الاعتدال الخاص به قليلة ويسيرة - لم يكن ما ذكرته عجباً، بل العجب لو اتفق ضده.
ولولا أن العناية الموكلة بحفظ الحيوان كله - والإنسان من بينه - شديدة، والوقاية له تامة بالغة - لكان لا يكون بين وجوده وعدمه كبير زمان.
فتأمل جميع ما ذكرته من الآفات الداخلة والخارجة عن بدن الإنسان، وحركاتها المختلفة، أعني منازعة النارية فيه إلى حركة العلو، ومنازعة المائية منه إلى حركة السفل، ثم حرص كل واحد منهما بطبيعته على إفناء الآخر وإحالته، ثم المجاهدة الواقعة في حفظ الاعتدال بينهما حتى لا تزيد قوة أحدهما على الآخر مع كثرة الشهوات والمنازعات إلى ما هو لا محالة زائد في أحدهما ناقص من الآخر - تجد الأمر محفوظاً بعناية شديدة إلى أكثر مما يمكن في مثله من الحفظ حتى يأتي شيء طبيعي لا سبيل إلى مقاومته.
ومثل ذلك سراج يحفظ بالفتيلة والدهن، والمواد تجيئه من خارج، أعني الدهن الكثير الذي هو سبب إطفائه والنار العظيمة التي هي كذلك، والرياح العاصفة التي لا طاقة له بها، ولا سبيل إلى حفظه معها، فإذا سلم من جميع ذلك مدة طويلة فلا بد من الفناء الطبيعي.
أعني أن الحرارة تستغرق - لا محالة - ما يغتذى به على طول الزمان، فيكون الفناء به ومن أجله.
فإن هذا مثل صحيح مطابق للممثل به.
وإذا تفقدت الحرارة الغريزية وحاجتها إلى ما تحفظ قواها بلا زيادة ولا نقصان، وإفنائها الرطوبة الأصلية مع المواد التي تأتيها من خارج، وقوتها على الإحالة وضعفها - طلعت على ما سألت عنه، وتبين لك ما ضربت به المثل.
مسألة ما السبب في طلب الإنسان فيما يسمعه ويقوله ويفعله ويرتئيه
ويروى فيه - الأمثال؟ وما فائدة المثل؟ وما غناؤه من مأتاه، وعلى ماذا قراره؟ فإن المثل والمثل والمماثلة والتمثيل كلاماً رائقاً، وغاية شريفة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأمثال إنما تضرب فيما لا تدركه الحواس مما تدركه.
والسبب في ذلك أنسنا بالحواس، وإلفنا لها منذ أول كونها، ولأنها مبادىء علومنا، ومنها نرتقي إلى غيرها.
فإذا أخبر الإنسان بما لم يدركه، أو حدث بما لم يشاهده، وكان غريباً عنده - طلب له مثالاً من الحس، فإذا أعطي ذلك أنس به، وسكن إليه لإلفه له.
وقد يعرض في المحسوسات أيضاً هذا العارض.
أعني أن إنساناً لو حدث عن النعامة أو الزرافة والفيل والتمساح لطلب أن يصور له ليقع عليه، ويحصل تحت حسه البصري، ولا يقنع فيما طريقه حس البصر بحس السمع حتى يرده إليه بعينه.
فهذا الأمر في الموهوبات فإن إنساناً لو كلف أن يتوهم حيواناً لم يشاهد مثله لسأل عن مثله، وكلف مخبره أن يصور له، مثل عنقاء مغرب، فإن هذا الحيوان، وإن لم يكن له وجود، فلا بد لمتوهمه أن يتوهمه بصورة مركبة من حيوانات قد شاهدها.
فأما المعقولات فلما كانت صورها ألطف من أن تقع تحت الحس، وأبعد من أن تمثل بمثال الحس إلا على جهة التقريب - صارت أخرى أن تكون غريبة غير مألوفة.
والنفس تسكن إلى مثل وإن لم يكن مثلاً؛ لتأنس به من وحشة الغربة.
فإذا ألفتها، وقويت على تأملها بعين عقلها من غير مثال سهل حينئذ عليها تأمل أمثالها.

والله الموفق لجميع الخيرات.

مسألة كيف قوى الوهم
على أن ينقش في نفس الإنسان أوحش صورة، وأمقت شكل، وأقبح تخطيط، ولم يقو على أن يصور أحسن صورة، وألطف شكل وأملح تخطيط؟ ألا ترى أن الإنسان كلما اعترض في وهمه أوحش شيء عرته شمأزيزة وعلته قشعريرة، ولحقه صدوف، ورهقه نفور؟ فلو قوى الوهم على تصوير أحسن الحسن تعلل به الإنسان عند فراغ باله وخلوته.
فما هذا؟ وكيف هذا؟ ولا عجب فلهذا الإنسان من هذه النفس والعقل والطبيعة أمور تستنفد العجب، وتحير القلب.
جل من أودع هذا الوعاء هذه الطرائف، وعرضه لهذه الغايات، وزين ظاهره، وحسن باطنه، وصرفه بين امن وخوف، وعدل وحيف، وحجبه في أكثر ذلك عن لم وكيف.
الجواب: قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله: إن الحسن هو صورة تابعة لاعتدال المزاج، وصحة مناسبات من الأعضاء بعضها إلى بعض في الشكل واللون وسائر الهيئات.
وهذه حال لا يتفق اجتماع جميع أجزائها على الصحة، ولذلك لا تقوى الطبيعة نفسها على اتخاذها في الهيولى على الكمال؛ لأن الأسباب لا تساعد عليها، أعني أنه لا يتفق في الهيولى والأشكال والصورة والمزاج أن تقبل الصورة الأخيرة على غاية الصحة.
فإذا كانت الطبيعة تعجز عن إيجاد هذا الاعتدال وهذه المناسبة الصحيحة التي يتبعها الحسن التام، فكم بالحرى يكون الوهم أعجز عنه؟ وإنما الوهم تابع للحس، والحس تابع للمزاج، والمزاج تابع أثر من آثار الطبيعة.
ومثال ذلك أن الأوتار الكثيرة إنما يطلب بها وبكثرة الدساتين عليها أن تخرج من بينهما نغمة مقبولة، وتلك النغمة إنما يتوصل إليها بجميع الآلة وأجزائها من الأوتار والدساتين بالقرعات المختلفة.
فالنغمة وإن كانت واحدة فإنها تتم بمساعدة جميع تلك الإجزاء.
فإن خان واحد منها خرجت النغمة كريهة: إما بعيدة من القبول وإما قريبة على قدر عجز الأسباب وقصور بعضها.
فكذلك الهيولى في حاجتها إلى مزاج ما بين اسطقصات وصور أخرى كثيرة تصير بجميعها مستعدة لقبول صور الحسن الذي هو اعتدال ما، ومناسبة ما صحيحة بين أمزجة وأعضاء في الهيئة الشكل واللون وغيرها من الأحوال التي مجموعها كلها هو الحسن.
والحسن وإن كان أمراً واحداً، وصورة واحد فهو مثل النغمة الواحدة المقبولة التي تحتاج إلى هيئات كثيرة، وصور مختلفة جمة؛ ليحصل من بينها هذا الاعتدال المقبول.
والوهم في خروجه عن الاعتدال سهل الحركة.
فأما في حفظه إياه، وتوصله إليه فإنه يحتاج إلى تعب شديد، وأخذ مقامات كثيرة، واستخراج اعتدال بينها.
وهكذا الحال في كل اعتدال؛ فإن حفظه والثبات عليه صعب.
فأما الخروج عنه فهو بأدنى حركة.
فإن اتفق أن يكون لذلك الاعتدال تمامات من خارج، ومعاونات من أمور مختلفة كانت الصعوبة في تحصيله أشد.
مسألة لم صار السرور إذا هجم تأثيره أشد، وربما قتل
؟
وقد حكي الثقة من تأثيره أموراً.
ولقد خبرت والدة بعض الناس أن ابنها ولى إمرة فبرقت وانحرفت، وما زالت تنتقض حتى ماتت.
وقال لي ابن الخليل: الحيرة التي تلحق واجد الكنز هي من إفراط فرحه، وغلبة سروره؛ ولذلك ما يبين على شمائله وينم بحركاته، ويضيق عطنه عن كتمانه مابه، وسياسته.
ولا تكاد تجد هذا العارض في الغم والهم النازل الملم، وقل ما وجد من انشقت مرارته، وانتقضت بنيته، وانحلت معاقدة ومآسره بخبر ساءه وناءه، ومكروه غشيه وناله.
فإن كان فهو أيضاً قليل، وإن ساوى عارض السرور فذاك أعجب، والسر فيه أغرب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد مر جواب هذه المسألة في عرض ما تكلمنا عليه في المسائل المتقدمة.
وقلنا: إن النفس تؤثر في المزاج المعتدل عن البدن، وكما أن المزاج يؤثر في النفس، وبينا جميع ذلك، وضربنا له الأمثال.
ولسنا نشك أن السرور يخمر منه الوجه، وأن الخوف يصفر منه.
وما ذاك إلا لانبساط الدم من ذاك في ظاهر البدن، وغوره من الآخر إلى قعر البدن.
والحرارة التي في القلب هي التي تفعل هذا، أعني أنها تنبسط فترق الدم تارة، وتنقبض فتغلظة أخرى.
ويتبع ذلك الحال السرور، ويتبع هذه الغم.
فإذا كان زائد المقدار في أي الطرفين كان - تبعه الخروج عن الاعتدال.
وبحسب الخروج عن الاعتدال يكون الموت الوحي، أو المرض الشديد.
مسألة ما السبب في أن إحساس الإنسان بألم يعتريه أشد
من إحساسه بعافية تكون فيه
؟
حتى لو شكاً يوماً لأن أياماً، وهو يمر في لباس العافية فلا يجد لها وقعاً، وإنما يتبينه إذا مسه وجع، أو دهمه فزع؛ ولهذا قال الشاعر:
والحادثات وإن أصابك بؤسها ... فهو الذي انباك كيف نعيمها
ومما يحقق هذا أنك تجد شكوى المبتلى أكثر من شكر المعافي؛ وإنما لوجدان أحدهما مالاً يجده الآخر.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: السبب في ذلك أن العافية إنما هي حال ملائمة موافقة للحال الطبيعي من المزاج المعتدل الموضوع لذلك البدن.
والملائمة والموافقة لا يحس بهما، وإنما الحس يكون للشيء الذي لا موافقة فيه.
والسبب في ذلك أن الحس إنما أعطي الحيوان ليتحرز به من الآفات الطارئة عليه، وليكون ألمه بما يريد عليه مما لا يوافقه سبباً لتلافيه وتداركه قبل أن يتفاوت مزاجه، ويسرع هلاكه.
فأنشئت لذلك أعصاب من الدماغ، وفرقت في جميع البدن ونسجت بها الأعضاء التي تحتاج إلى إحساس، كما بين ذلك في التشريح، وفي منافع الأعضاء.
فكل موضع من البدن فيه عصب فهناك حس، وكل موضع خلا منه فلا حس فيه.
ولم يخل منه إلا ما لا حاجة به إلى حس.
وإنما وفرت الأعصاب على الأعضاء الشريفة لتصير أذكى حساً، ولتكون بما يرد عليها من الآفات أسرع إحساساً.
وكل ذلك ليبادر إلى إزالة ما يجده من الألم بالعلاج، ولا يغفل عنه بتوان ولا غيره.
ولو خلا الإنسان من الحس ومن الألم ومكانه لكان هلاكه وشيكاً من الآفات الكثيرة.
وأما الحال الملائمة فلا يحتاج إلى إحساس بها.
وهذه حال جميع الحواس الخمس في أحوالها الطبيعية، وانها لا تحس بما يلائمها، وإنما تحس بما لا يوافقها.
أقول: إن حس اللمس الذي هو مشترك بجميع البدن إنما يدرك ما زاد أو نقص عن اعتداله الموضوع له؛ فإن البدن له اعتدال من الحرارة مثلاً فإذا لاقاه من حرارة الهواء ما يلائمه ويوافقه لم يحس به أصلاً.
فإن خرج الهواء عن ذلك الاعتدال الذي للبدن إما إلى برد أو حر أحس به فبادر إلى تلافيه وإصلاحه.
وكذلك الحال في البرد والرطوبة واليبوسة.
فأما سائر الحواس فلكل واحد منها اعتدال خاص به لا يحس بما يلائمه وإنما يحس بما يضاده ويزيله عن اعتداله كالعين فإنها لا تحس بالهواء وبكل ما لا لون له ولا كيفية تزيلها عن اعتدالها.
وكذلك السمع وباقي الحواس.
وهذا باب مستقصى في مواضعه من كتب الحمسألة لم اشتد عشق الإنسان لهذا العالم حتى لصق به وآثره وكدح فيه مع ما يرى من صروفه وحوادثه ونكباته وغيره وزواله بأهله؟ ومن أين استفاد الإنسان هذا العرض؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: وكيف لا يشتد عشقه إلى للعالم وهو طبيعي وجزء له؟ إنما مبدؤه منه، ومنشؤه فيه، وتولده عنه؟ ألا تراه يبتدىء وهو نطفة فينشأ نشوء النبات، أعني أنه يستمد غذاءه بعروق موصولة برحم أمه، فيستقي المادة التي تقيمه كما تستقي عروق الشجر، فإذا تم وصار خلقاً آخر، وأنشأه الله - تعالى - حيوان أخرجه من هناك، فحينئذ يغتذى بفمه ويتنفس فيصير في مرتبة الحيوان غير الناطق، ولا يزال كذلك إلى أن يقبل صورة النطق أولاً فيصير إنساناً، ثم يتدرج في إنسانيته حتى ينتهي إلى غاية ما يؤهل له من المراتب فيها، وليس ينتهي إلى الرتبة الأخيرة التي هي غاية الإنسانية إلا الأفراد من الناس، والواحد بعد الواحد في الأزمنة الطوال، والفترات الكثيرة.
وعامة الخلق وجمهور الناس واقفون في منزلة قريبة من البهيمية، وغاية نطقهم وتمييزهم أن يرتبوا تلك البهيمية ترتيباً ما، فيه نظامك عقلي.
وأما أن يفارقوها، ويصيروا إلى الحد الذي طالبت به فلا، وإنما يصير إلى هناك الحكيم التام الحكمة، الذي يستوفي جميع أجزائها علماً وعملاً، أو نبي له تلك المنزلة بالإلهام والتوفيق، ثم لابد من المادة البشرية التي يأخذها من هذا العالم، وإن كان بلا عشق ولا لصوق شديد ولا إيثار.
وهذا المعنى واسع البحر، طويل الميدان، قد أكثر فيه الناس، وفيما أومأت إليه، وصرحت به كفاية.
والسلام.
مسألة لم قيل لولا الحمقى لخربت الدنيا
؟
وما في الحياة الحمقى من الفائدة على الدين والدنيا؟ وهل الذي قالوه حق؟.

الجواب: قال أبوعلي مسكويه - رحمه الله: قد تبين أن الإنسان مدني بالطبع، وأنه لا يعيش متوحداً كما تعيش الطير والوحش؛ لأن تلك مكتفية بما خلق لها من الرياش والهداية إلى مصالحها وأقواتها، والإنسان عار لا طاقة له، ولا هداية إلى قوته ومصلحته إلا بالاحتماع والتعاون هو المدنية.
ثم إن المدينة لها حال تسمى بالأولى عمارة وبالإضافة إلى الأولى.
فأما حال عمارتها فإنما يتم بكثرة الأعوان، وانتشار العدل بينهم بقوة السلطان الذي ينظم أحوالهم، ويحفظ مراتبهم، ويرفع الغوائل عنهم.
وأعني بكثرة الأعوان تعاون الأيدي والنيات بالأعمال الكثيرة التي بعضها ضرورية في قوام العيش، وبعضها نافعة في حسن الحال في العيش، وبعضها نافعة في تزيين العيش؛ فإن اجتماع هذه هي العمارة.
فأما إن فات المدنية واحدة من هذه الثلاث فإنها خراب.
وإن فاتها اثنتان - أعني حسن الحال والزينة جميعاً - فهي غاية في الخراب؛ وذلك أن الأشياء الضرورية في قوام العيش إنما يتبلغ بها الزهاد الذين لا يعمرون الدنيا، وليسوا في عدد العمار.
وعمارة الدنيا التامة، وقوامها بثلاثة أشياء هي كالأجناس العالية، ثم تنقسم إلى أنواع كثيرة.
وأحد الأشياء الثلاثة إثارة الأرض وفلاحتها بالزرع والغرس، والقيام عليها بما يصلحها، ويستعد لما يراد منها، اعني الآلات المستخرجة من المعادن، كالحجارة والحديد المستعملة في إثارة الحرث والطحن وإساحة الماء على وجه الأرض من العيون والأنهار والقنى والدوالى وغير ذلك.
والثاني آلات الجند والأسلحة المستعملة لهم في ذب الأعداء عن أولئك الذي وصفناهم ليتم لجماعتهم العيش، ويقام غرضهم فيما اجتمعوا له بالمعاونة.
وللجند أيضاً صناع وأصحاب حرف فهم يعدون لهم الخيل بالرياضة، والجنن للوقاية، وسائر الأسلحة للدفع والذب.
والثالث الجلب والتجهيز الذي يتم بنقل ما يعز في أرض إلى أرض، وما يكون في بحر إلى بر.
وهذه الأحوال الثلاث زين وجمال يزيد في حسن أحوالها.
ولها أصحاب يختصون بجزء جزء من أقسام الأحوال الثلاثة التي ذكرناها.
وينبغي أن تعلم أن العيش غير جودة العيش، وحسن الحال في العيش، لتعلم أن العمارة متعلقة بجودة العيش وحسن حاله.
وقد عرف أن هذه الأمور لا تتم إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، واحتمال المشاق، والتعرض للمخاوف.
ولو تبلغ الناس بضروراتهم، وطرحوا فضول العيش، وعملوا بما يقتضيه مجرد العقل لصاروا كلهم زهاداً، ولو كانوا كذلك لبطل هذا النظام الحسن والزين الذي في العالم، وعاشوا عيشة قشفة كعيشة أهل القرى الضعيفة، القليلة العدد، أو كعيشة سكان الخيم، وبيوت الشعر وأظلال القصب.
وهذه هي الحال التي تسمى خراب المدن.
فأما قولك: هل يسمى القوام بعمارة الدنيا حمقى؟ فأقول: إنه لا يجوز أن يسميهم بذلك كل أحد، وذلك ان الذين وصفنا أحوالهم من سكان القرى وأطراف الأرض، والذين لا يكملون لتحسين معايشهم هم اولى بهذا النبز من الذين استخرجوا بعقولهم، وصفاء أذهانهم، ودقة نظرهم - هذه الصناعات الكثيرة الجميلة، العائدة بمنافع الناس.
وإنما يسوغ ذلك لمن أطلع على جميع العلوم والمعارف، وميزها ونزلها منازلها فترك ما ترك منها عن خبر وعلم، وآثر ما آثر منها على روية وبعد يقين فإن الحكماء إنما تركوا النظر في عمارة الدنيا لأنها عائدة بعمارة الأبدان، ولما اطلعوا على شرف النفس على البدن، ورأوا لها عالماً آخر، وجمالاً يليق بذلك العالم، وصناعات وعلوماً ومسالك ركوبها أشق وأعسر من ركوب مخاطرات الدنيا، ولزوم محجتها والدءوب فيها بالنظر والعمل أصعب وأكثر تعباً من الدءوب والعمل في الدنيا - آثروا التبلغ، وتبلغوا بالقوت الضروري من الدنيا على أنهم هم الذين عملوا لهؤلاء أصول الصناعات والمهن، وتركوهم وإياها لما لم يكملوا لغيرها، ثم اشتغلوا وشغلوا من جالسهم بالأمر الأعلى الأفضل.

مسألة ما السبب في قلق من تأبط سوأه
واحتضن ريبة، واستسر فاحشة؟ حتى قيل - من أجل ما يبدو على وجهه وشمائله - : كاد المريب يقول خذوني وما هذا العارض؟ ومن أين مثاره؟ وبأي شيء زواله؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة إنما تعترض الحيرة فيها لمن لا يعترف بالنفس وأن حركات البدن الاختيارية كلها إنما تكون بها ومنها.

فأما من علم أن النفس هي المدبرة لبدن الحي ولا سيما الإنسان المختار الذي مدبره النفس المميزة العاقلة فلا أعرف لحيرته وجهاً.
وذاك ان النفس إذا عرفت شيئاً واستعملت ضد ما يليق بتلك المعرفة لحقها من الاضطراب ما يلحق الطبيعة إذا كانت حركتها يمنة فحركت يسرة بقوة دون قوتها أو مساوية لها.
فإن الاضطراب يظهر هناك مثل ما يظهر ههنا.
مسألة لم إذا كان الواعظ صادقاً نجع كلامه

ونفع وعظه، وسهل الاقتداء به وخفت الطاعة له، والأخذ بما قاله
؟
ولم إذا كان بخلاف ذلك لم يؤثر كلامه وإن راق، ولا ينفع وعظه وإن بلغ؟ وما في انسلاخه من حقيقة ما يقول مع حقيقة القول، وصحة الدلالة وسطوع الحجة؟ وكيف صار فعله مشيداً لقوله، وخلافه موهناً لدلالته؟ ألست الحكمة قائمة في نفسها، مستقلة بصحتها؟ ولهذا قيل: الموعظة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب، وإذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لأن المواعظ إنما يأمر بما عنده أنه الأصوب، فإذا خالف نفسه أوهم غيره أنه كذب وغش، وإنما نهى عن الدنيا لتترك له، وتوفر عليه.
وظن من عجز عن رتبته، وسقط عن بلوغ درجته في النظر أنه إنما يقتدر على الوعظ بحسن اقتداره على التلبيس، وإظهار المموه في صورة الحق.
ولو اعتقد ما يظهر بلسانه لعمل بحسبه، فهذا وأشباهه يعرض في قلب المستمع لوعظ من لا يعمل بوعظه.
هذا.وربما كان أكثر من تراه من الواعظين هو بالحقيقة غير معتقد لما يظهره، وإنما غايته أن يشغل الناس عما في أيديهم، أو لتتم له رئاسة باجتماع الناس إليه، أو لأرب له من الدنيا.
فأي موقع لكلام مثل هذا إذا عرف الموعوظ غايته، وأشرف على نيته ومذهبه.
والأمر بالضد فيمن عمل واجتهد، وأخلص سره، ووافق عمله علمه، وقوله نيته فإنه يصير إماماً يقتدى به، ويوثق بكلامه، ويكثر اتباعه، والناظرون فيما ينظر فيه، والمصدقون بحكمه.
مسألة لم عظم ندم الإنسان على ما قصر فيه
من إكرام الفاضل وتعظيمه، واقتباس الحكمة منه بعد فقده
؟
ولم كان يعرض له الزهد فيه مع التمكن منه، والانقطاع إليه، وقد كان في الوقت الأول أفرغ قلباً، وأوسع مذهباً؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه مسألة قد أجيب عنها فيما تقدم، ولا معنى لتكرير الكلام فيها.
مسألة لم اعتزت العرب والعجم في مواقف الحروب وأيام الهياج
؟
والاعتزاء هو الانتساب إلى الآباء والآجداد، وإلى أيام مشهورة، وأفعال مذكورة؟.
وما الذي حرك أحدهم من هذه الأشياء حتى ثار وتقدم، وبارز وأقدم، وأخطر نفسه واقتحم، وربما سمع في ذلك الوقت بيتاً، أو تذكر مثلاً، أو رأى من دونه في البيت والمنصب، والعرق والمركب دون ما يقدر - يفعل فوق ما يفعل فتأتيه الأنفة فتقوده بأنفه إلى مباشرة حتفه؟ ما هذه الغرائب المبثوثة، والعجائب المدفونة في هذا الخلق عن هذا الخلق؟ جل من هذا بعلمه وبأمره ومن فعله، وهو الإله الذي انقادت له الأشياء طوعاً وكرهاً، وأشارت إليه تعريضاً وتصريحاً.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الغضب في الإنسان يكون بالقوة إلى أن يخرجه إلى الفعل أمر مغضب.
كذلك سائر قوى النفس.
وما يخرجه إلى الفعل ينقسم قسمين: إما من خارج، وإما من داخل.
فالذي يكون من خارج فهو مثل انتهاك الحرمة وشتم العرض وما أشبه ذلك.
والذي يكون من داخل فهو تذكر الذنوب والأحقاد وجميع الأحوال التي من شأنها قدح هذه القوة.
ومن شأن النفس إذا كانت ساكنة والتمر الإنسان فعلاً قوياً منها لم تستجب له الأعضاء عما يلتمس، فحينئذ يضطر إلى تحريك النفس وإثارتها.
وبحسب تلك الحركة من النفس تكون قوة ذلك الفعل.
وأنت تتبين ذلك من المسرور إذا أراد أن يظهر غضباً أو يفعل فعل الغضوب كيف تتخاذل أعضاؤه، ويظهر عليه أثر التكلف، فربما أضحك من نفسه وضحك هو أيضاً في أحوج ما كان إلى قوة الغضب، فيحتاج في تلك الحال إلى إثارة القوة الغضبية بتذكر أمر يهيج تلك القوة حتى يصدر فعله على ما ينبغي.
وهذه الحال تعرض في الحرب إذا لم يخص المحارب أمرها.
وأعني بذلك أن المحارب ربما حضر الحرب التي لا يخصه أمرها؛ بل لمساعدة غيره، أو لأجرة يأخذها، فإذا شهد الحرب لم تأخذه الحمية والأنفة فيحتاج حينئذ إلى الاعتزاء.

وهو تذكر لأحوال شجاعات ظهرت لأولين؛ ليكون ذلك قدحاً له، وإثارة لشجاعته، وسبباً لحركة قوية من نفسه.
فإذا ثارت هذه القوة كان مثلها مثل النار التي تبتدىء ضعيفة وتقوى بمباشرة الأفعال، وبالإمعان فيها حتى تصير تلك الأفعال لها بمنزلة المادة للنار تتزيد بها إلى أن تلتهب وتستشيط، ويصير بمنزلة السكران في قلة الضبط والتمييز.
وهي الحال التي يلتمسها المحارب من نفسه.

مسألة ما السبب في أن الناس يقولون هذا الهواء أطيب
من ذلك الهواء، وذلك الماء أعذب من ذلك الماء، وتربة بلد كذا وكذا أصلب من تربة كذا، وطين مكان كذا أنعم من طين مكان كذا، وأعفن وأسبخ؟ ثم لا يقولون في قياس هذا: بلد كذا ناره أجود وأحسن وأصفى، أو أشد حراً وإحراقاً وأعظم لهيباً؛ بل يصرفون هذه الصفات على اختلاف المواد كأنها في الحطب اليابس أبين سلطاناً، وفي القطن المنفوش أسرع نفوذاً؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأركان الأربعة وإن اشتركت في ان بعضها يأخذ قوة بعض الأقل والأكثر حتى يكون بعضها أخلص في صورته ونوعه من بعض، فإن النار من بينها خاصة أقل قبولاً لقوة غيرها، وأعسر ممازجة؛ وذلك أن صورة النار غالبة على مادتها.
وبيان هذا أن الأرض تقبل من ممازجة الماء والهواء ما تستحيل به عن صورتها الخاصة بها حتى تصير منها الحمأة والملح وضروب الأشياء التي تختلف بها الترب.
وكذلك الماء يقبل من الأرض التي يجاوره، والهواء الذي يليه ضروب الطعوم والأراييح، والصفاء والكدر حتى يخرج من صورته الخاصة به خروجاً بيناً وهذه حال الهواء في قبول الآثار من الأرض والماء حتى يصير بعضه غليظاً، وبعضه رطباً، ويابساً، ومعتدلاً.
فتظهر في هذه الثلاثة آثار بعضها في بعض حتى تتبين للحس بياناً ظاهراً، وتنقص آثار بعضها عن بعض حتى يحكم كل إنسان بخروجه عن اعتداله، وخروجه عن اعتداله سبب الاستضرار البين في الأبدان.
فأما النار فإن صورتها الخاصة بها غالبة على مائيتها حتى لا تقبل من المزاج ما يظهر للحس منه نقصان أثر من الإحراق الذي هو فعلها، أو الضوء الذي هو خاصتها.
وعلى ان النار أيضاً قد تقبل من المزاج ومجاورة ما تليه أثراً ما ولكنه - بالإضافة إلى الآثار التي تقبلها أخواتها - يسير جداً.
مثال ذلك أن النار التي مادتها النفط الأسود، والكبريت الصرف، لونها بخلاف لون النار التي مادتها الزيت الصافي، ودهن البنفسج الخالص؛ لأن تلك حمراء وهذه بيضاء.
ولكن الفعل المطلوب من النار للجمهور غير ناقص، أعني الإحراق والضوء.
وأن نقص بحسب المواد فإن تلك الحال منها مشتركة في البلدان كلها لا تخص بعضها دون بعض.
وإذا حصل الناس أغراضهم من أفعال النار تبلغوا به إلى حاجاتهم ولم ينظروا في المواد التي تخص البلدان، لا سيما والمواد متفقة فيها، وليست هكذا أخوات النار.
مسألة لم فرح الإنسان بنيل مال وإصابة خير
من غير احتساب له وتوقع أكثر من فرحه بدرك ما طلب، ولحوق ما زوال
؟
الأنه في أحد الطرفين ينبغي طلب شيء متخير أم لغير ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن جميع ما يصيب الإنسان مما يخص نفسه أو جسمه إذا وصل إليه بتدريج قل إحساسه به، وضعف ظهور أثره عليه.
وإذا وصل إليه بغتة وضربة كثر إحساسه به.
أما مثال ذلك في الجسم فإن الأمراض التي يخرج بها عن الاعتدال على تدريج فليس يشعر بها إلا شعوراً يسيراً، وربما لم يشعر بها ألبتة.
فإن خرج بها على غير تدريج تألم منها جداً كالحال في الدوي وأشباهه من الأمراض؛ فإن الإنسان يخرج عن الاعتدال بها إلى الطرف الأقصى الذي يليه الموت، فلا يحس بألمه لأنه على تدريج.
ولو خرج دون ذلك الخروج ضربة للحقه من الألم ما لا قوام له به.
وكذلك الحال في اللذات؛ لأن اللذة إنما هي عود الإنسان إلى اعتداله ضربة.
فاللذة والألم حالان يستويان في انهما يردان دفعة بلا تدريج، فيستويان في باب شدة الإحساس.
وهذه المسألة أحد الآثار التي ترد على الإنسان مرة بتدريج، ومرة بغير تدريج، فتصير حال الإنسان بما لم يحتسبه، ولم يتدرج بالمزاولة حال ما يصيبه ضربة واحدة مما ضربنا مثاله، فيكثر إحساسه به وظهور أثره عليه.
مسألة لم صار البنيان الكريم، والقصر المشيد
إذا لم يسكنه الناس تداعى عن قرب، وما هكذا هو إذا سكن واختلف إليه
؟
لعلك تظن أن ذلك لأن السكان يرمون منه ما استرم، ويتلافون ما تداعى وتهدم، ويتعهدونه بالتطرية والكنس، فاعلم ان هذا ليس لذاك؛ لأنك تعلم انهم يؤثرون في المسكن بالمثنى والاستناد وأخذ القلاعة وسائر الحركات المختلفة ما إن لم يضعفه على رمهم ولمهم كان بإزائه ومقابله.
فقد بقيت العلة على هذا، وستسمعها في عرض الجواب عن جميع مسائل هذا الكتاب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن معظم آفات البنيان يكون من تشعيث الأمطار، وانسداد مجاري المياه بما تحصله الرياح في وجه المآزيب ومسالك المياه التي ترد المياه إلى أصول الحيطان من خارج البناء وداخله، وبما يتثلم من وجوه البنيان الكريمة بالآفات التي تعرضها لحركات الهواء والأمطار والبرد والثلوج.
وربما كان سبب ذلك قصبة أو هشيم من تبن الطين الذي تطيره الأرواح إلى مسلك الماء فتعطف الماء إلى غير جهته، فيكون به خراب البنيان كله.
فأما ظهور الهوام في أصول الحيطان، والعناكب في سقوفه، وأخذها من الجميع ما يتبين أثره على الأيام فشيء ظاهر؛ وذلك أن هذا الضرب من الخراب قبيح الأثر جداً ينبو الطرف عنه، ويسمج به البناء الشريف.
وربما أغفل السكان بيتاً من عرض البناء إما بقصد وإما بغير قصد فإذا فتح عنه يوجد فيه من آثار الدبيب من الفأر والحيات وضروب الحشرات التي تتخذ لنفسها أكنة بالنقب والبناء، كالأرصنة والنمل وما تجمعه من أقواتها، ومن نسج العنكبوت وتراكم الغبرة على النقوش - ما يمنع من دخوله.
هذا إن سلم من الوكف وتطرق المياه وهدمها لما تسيل عليه من حائط وسقف، ورضه بما يثقله من طين السطوح، وتقصف جميع الخشب والسنادات والعمد.
وإذا كان فيها السكان منعوا هذه الأسباب العظيمة في الخراب، وكان ما يشعثونه بعد هذه الأشياء يسيراً بالإضافة إليها، فكان البناء إلى العمران أقرب، ومن الخراب أبعد.
مسألة لم صار الكريم الماجد النجد يلد اللئيم الساقط الوغد
؟
وهذا يلد ذاك على تباين ما بينهما في أغراض النفس وأخلاقها مع قرب ما بينهما في أصولها وأعراقها.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن أخلاق النفس وإن كانت تابعة لمزاج البدن فإن التأديب والسياسة تصلح منها إصلاحاً كثيراً.
وربما كان مزاج الابن بعيداً من مزاج الأب وانضاف إلى ذلك سوء تأديب ورداءة سياسة، ويكفي أحدهما في الفساد فتختلف الشيمتان والمذهبان.
مسألة لم إذا كان الإنسان بعيداً عن وطنه
ومسقط رأسه وملهى عنه ومضطجع جنبه ومطرب نفسه ومعدن أنسه يكون أخمد شوقاً، وأقل قلقاً، وأطفأ نائرة وأسلى نفساً، وألهى فؤاداً، حتى إذا دنت الديار من الديار، وقوى الطمع في الجوار نفد الصبر، وذهب القرار، وحتى قال الشاعر
وأعظم ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وهل هذا معنى يعم أو يخص؟ وما علته؟ وهل له علة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا المعنى موجود في الأشياء الطبيعية أيضاً، مستمر فيها؛ وذاك أنك لو أرسلت حجراً من موضع عال مركزه لكان يبتدىء بحركته، وكلما قرب من مركزه احتدت الحركة، وصارت أسرع إلى أن تصير عند قربه من الأرض على أحد ما تكون وأسرعه.
وكلما كان الموضع الذي يرسل منه الحجر أعلى كان هذا المعنى فيه أبين وأظهر.
وكذلك حكم النار والعناصر الباقية إذا أرسلت من غير أمكنتها الخاصة بها فإنها كلما قربت من مراكزها اشتدت حركتها ونزاعها.
ومثل هذه المواضع لا يسأل عنها بلم؛ لأنها أوائل طبيعية، وغايتنا فيها أن نعرفها، ونعلم أنها كذلك، وكذلك حال النفس في أنها إذا كانت بعيدة من مألفها كان نزاعها أيسر، فكلما دنت منه اشتد نزاعها وحركتها التي تسمى شوقاً.
وإنما قلت إن هذه المواضع لا يبحث عنها بلم، لأن لم إنما يبحث بها عن طلب علة ومبدأ.

وهذه مبادىء في أنفسها وليس علة أكثر من أن الأمور أنفسها كذلك، أى مبادئها هي أنفسها، ولم تكن كذلك لعلة أخرى، مثال ذلك: لو ان قائلاً قال: لم صارت العين تبصر بهذه الطبقات من العين؟ ولم صارت ترى الشيء بحسب الزاوية التي بينها وبين المبصر: إن كانت كبيرة فكبيرة وإن كانت صغيرة فصغيرة؟ أو سأل: لم صارت الأذن تحس باقتراع الهواء على هذا الشكل - لم يلزم الجواب عنه؛ لأن الأشياء الواضحة التي هي أوائل إنياتها هي لمياتها.

مسألة لم قيل الرأى نائم والهوى يقظان
؟
ولذلك غلب الهوى الرأى؟.
يروى هذا عن حكيم العرب عامر بن الظرب.
أليس الرأى من حزب العقل وأوليائه؟ فكيف غلب مع علو مكانه، وشرف موضعه؟ وما معنى قول الآخر من الأوائل: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع؟ ما سبب هذه الصداقة مع هذا العقوق؟ وما سبب تلك العداوة مع تلك المتابعة؟ وهل يرى هذا حقائق الأمور معكوسة منكوسة؛ فإن الظاهر خارج عن حكم الواجب، جار على غير النظام الراتب؟.
الجواب: قال ابو على مسكويه - رحمه الله: هذا كلام خرج في معرض فصاحة وخطابة.
فأما معناه فهو أن الهوى فينا قوى جداً، والرأى ضعيف، وسبب ذلك أنا - معشر الناس - طبيعيون وجزء الطبيعة فينا أغلب من جزء العقل؛ لأنا في عالم الطبيعة، والعقل غريب عندنا، ضعيف الأثر فينا؛ ولذلك نكل عند النظر في المعقولات، ولا نكل عند النظر في الطبيعيات ذلك الكلال.
والعقل وإن كان في نفسه شريفاً عالى الرتبة فإن أثره عندنا يسير.
والطبيعة وإن كانت ضعيفة بالإضافة إلى العقل، منحطة الرتبة - فإنها قوية فينا، لأنا في عالمها، ونحن أجزاء منها، ومركبون من عناصرها، وفينا قواها أجمع.
وهذا واضح غير محتاج إلى الإطناب في الشرح.
مسألة حضر أبو بشر متى صاحب شرح المنطق مجلسا
ً
فقال له أبو هاشم المتكلم عائباً للمنطق: هل المنطق إلا في وزن مفعل من النطق؟ فحدثني: أأنصف أبو هاشم، وحز الحق؟ أم تشيع وقال ما لا يجوز ان يسمع منه؟ هذا مع محله، وشدة توقيه في مقالته، فإن البيان عن هذا القدر يأتي على كنائن العلم، ويوضح طرق الحكمة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما من طريق الوزن، فقد صدق فيه أبو هاشم، وأما من طريق الازدراء والعيب - إن كان قصد ذلك - فقد ظلم؛ لأنه لا عيب على العلم إلا من جهة خطأ المخطىء فيه لا من جهة اسمه.
ولو كايله أبو بشر مكايلة، فقال له: وهل المتكلم إلا في وزن متفعل من الكلام، وتصفح سائر العلوم فقال فيها مثل هذا، وقال هل التفقه إلا نفعل من قولك فقهت الشيء؟ وهل النحو إلا مصدر قولك نحوت الشي أى قصدته - لكان هذا مستمراً، وما أكثر ما يسمى من العلم لما لا يستحقه رتبته، وما أكثر ما يسمى بما يحط من رتبته، فلا ذاك ينفع في ذلك العلم، ولا هذا يضر في هذا العلم.
وقد عرفت قوماً سموا أنفسهم المدركين؛ وسموا علومهم الإدراك الحقيقي، وهو في غاية البعد من حقائق الأمور، وقد سمى قوم أنفسهم المستحقين، وأهل الحق، وما أشبه ذلك، فكانوا فيه مدعين باطلاً.
وهذا لا يستحق أكثر من هذا القول.
مسألة رأيت رجلاً يسأل شيخاً من أهل الحكمة
فقال له: العرب تؤنث الشمس وتذكر القمر، فما العلة في ذلك؟ وأى معنى عنوا بهذا الإطباق؟ فإنه إن خلا من العلة جرى مجرى الاصطلاح على غير غرض مقصود.
فلم يورد ذلك الشيخ شيئاً، ولهذا لم أسمه؛ فإن في ذكره مع إظهار عجزه تعريضاً به، وتحقيراً لشأنه، وما يستحق بهذا اليسير ان يجحد ما يصيب فيه الصواب الكثير.
فقال السائل: فإن المنجمين يذكرون الشمس ويؤنثون القمر.
وهذا أيضاً من المنجمين اتفاق.
فأجاب ههنا وقال ما قالوه، ولم يعجز عن المسألة الأخرى لقصر باعه في الأدب، ولكن لم يحفظ فيها جواباً عن اهل العربية.
والمعنى فيه خاف ليس من شأن المتمسحين في العلم، بل من شأن المتبحرين فيه، الخائضين في غماره، البالغين إلى قراره، وهيهات ذلك العلم عميق البحر، عالى الفلك، وليس كل قلب وعاء لكل سانح، ولا كل إنسان ناطقاً بكل لفظ، ولا كل فاعل آتياً بكل عمل.

الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما النحويون فلا يعللون هذه الأمور، ويذكرون أن الشيء المذكر بالحقيقة ربما أنثته العرب، والمؤنث بالحقيقة ربما ذكرته العرب، فمن ذلك أن الآلة من المرأة بعينها التي هي سبب تأنيث كل ما يؤنث هي مذكر عند العرب، واما آلة الرجل، فلها أسماء مؤنثة.
فأما العقاب والنار وكثير من الأسماء التي هي أولى الأشياء بالتذكير وهي مؤنثة وأمثالها فكثير.
ولكن الشمس التي قصد السائل قصدها بعينها، فإني أظن السبب في تأنيث العرب إياها أنهم كانوا يعتقدون في الكواكب الشريفة أنها بنات الله - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - وكل ما كان منها أشرف عندهم عبدوه.
وقد سموا الشمس خاصة باسم الآلهة؛ فإن اللاة اسم من اسمائها، فيجوز أن يكونوا أنثوها لهذا الاسم، ولاعتقادهم أنها بنت من البنات، بل هي أعظمهن عندهم.

مسألة هل يجوز لإنسان أن يعي العلوم كلها
على افتنانها وطرقها، واختلاف اللغات والعبارات عنها؟ فإن كان يجوز فهل يجب؟ وإن وجب فهل يوجد؟ وإن كان وجد فهل عرف؟ وإن كان جائزاً فما وجه جوازه، وإن كان يستحيل فما وجه استحالته فإن في الجواب بياناً عن خفيات العالم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أحد الحدود التي حدت بها الفلسفة أنها علم الموجودات كلها بما هي موجودات.
ولكن ليس على الشرائط التي ذكرتها في مسألتك أعني قولك: على افتنانها وطرقها واختلاف اللغات بها، والعبارات عنها؛ فإن علماً واحداً من بين العلوم لا يجوز أن يحتوي على جميع هذه الشرائط فيه؛ لأن جزئيات العلوم بلا نهاية، وما لا نهاية له لا يخرج إلى الوجود.
ولكن المطلوب من كل علم هو الوقوف على كلياته التي تشمل على جميع أجزائه بالقوة.
مثال ذلك أن الطب إذا تعلمت أصوله وقوانينه التي بها يستخرج نوع المرض، ونوع العلاج فقد كفي فيه ذلك.
فأما أن يعرف منه جميع أجزاء الأمراض فذلك محال.
وكذلك تجد كتب جالينوس وغيره من الأطباء، فإنها تعلمك أصول الأمراض والعلاجات، فإذا باشرت الصناعة ورد عليك من أجزاء مرض واحد ما لا يمكنك إحصاؤه، ويبقى من أجزائه ما لا يمكن أحصاؤه أحداً بعدك.
وإذا كان الأمر على ذلك فالجواب عن مسألتك يكون مقيداً على ما ذكرته.
فأما اختلاف الطرق والعبارات فلا معنى لتعاطي معرفتها؛ فإن المقصود من العلوم هي ذواتها من أى طريق وصل إليها، وبأي لغة عبر عنها كان كافياً.
وأما قولك: هل يجب؟ فأقول: إنه واجب لأن التفلسف واجب من أجل أنه كمال الإنسانية، وبلوغ أقصى درجتها.
وكل شيء كان كمال فإن غايته البلوغ إلى ذلك الكمال.
ومن قصر من الناس عن بلوغ كماله مع حصول الأسباب وارتفاع الموانع عنه فهو غير معذور فيه.
وأما قولك: هل يوجد؟ فإنه موجود، لأن الفلسفة موجودة، وهي صناعة الصناعات، وما تب شيء من أجزائها كما رتبت هي نفسها؛ فإنه قد بدىء من أدنى درجة يبتدىء بها المتعلم إلى أقصى مرتبة يجوز أن يبلغها.
وهذا لجميعه أصول وشروح على غاية الأحكام، وهي معروفة موجودة غير ممنوع منها، ولا مضنون بها على من يطلبها، وفيه منة لتعلمها.
مسألة ما غضب الصارف على المصروف
؟
هكذا تنشأ هذه المسألة، وصورتها أنك تولى إمرة بلد، أو قضاء مدينة فترد البلد وبه أمير قبلك؟ صرف بك فتعنف به، وتغضب عليه، وتكلح وجهك في وجهه، وهو ما أغضبك، ولا آذاك، وليس بينكما لقاء، ولا إساءة ولا إحسان.
ومن جنس هذا الغضب غضب الجلاد والسياف.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كان الصارف يستشعر من المصروف أنه يبغضه ويكرهه لا محالة، وفي الطباع أن يكره الإنسان من يكرهه، وببغض من يبغضه - عرض هذا العارض لكل صارف على كل مصروف.
وربما انضاف إلى ذلك أشياء أخر؛ منها أن المصروف ربما صرف عن خيانة أو جناية كثيرة يعرض في مثلها الغضب بالواجب.
وربما انضاف إلى ذلك أن يؤمر الصارف بالقبض على المصروف، وموافقته على جناياته، واستصفاء ماله.
وهذه أشياء تثير الغضب، وتزيد في مادته، لا سيما والمصروف يحتج لنفسه، ويدفع عنها كل ما نسب إليه من القبيح، ويدافع عن ماله بما أمكنه.

فأين يذهب الغضب عن هذا المكان؟ وهل هو إلا في حقيقة موضعه الخاص به؟ فأما الجلاد والسياف فلهما وجه آخر من العذر، وهو أنهما إنما يأخذان أجرة على صناعتهما، وإن لم يوفياها حقها خشيا اللائمة والاستخفاف، وليس يمكنهما توفية صناعتهما حقوقهما إلا بإثارة الغضب.
هذا مع العلة الأولى التي ذكرتها في الصارف والمصروف.

مسألة لم كان اليتم في الناس من قبل الأدب
وفي سائر الحيوان من قبل الأم؟ فإن قلت: لأن الأم ههنا كافلة فإن الأمر في الناس كذلك، وفيه سر غير هذا ونظر فوقه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الإنسان من حيث هو حيوان مشارك للبهائم في هذا المعنى، محتاج إلى ما يقيمه من الأقوات التي تحفظ عليه حيوانيته.
ومن حيث هو إنسان مشارك للفلك في هذا المعنى يحتاج إلى ما يبلغه هذه الدرجة بالتعليم والتأديب؛ لأن الأدب يجري من النفس مجرى القوت من البدن والذي يقوم بالحال الأولى وهي الأم، والذي يقوم له بالحال الثانية هو الأب.
ولما كانت الحالة الثانية أشرف أحواله، وهي التي بها يصير هو ما هو، اعني أن يصير إنساناً - وجب أن يكون يتمه من قبل أبيه.
ولما كان سائر الحيوانات كما حيوانيتها في القوت البدني وجب أن يكون يتمها من قبل الأم.
ولعل الإنسان قبل أن يبلغ حد التعلم من الأب، وفي حال حاجته إلى الرضاع إذا فقد أمه سمي يتيماً من قبل الأم ولم يمتنع إطلاق ذلك عليه.
مسألة قال المأمون إني لأعجب من أمري أدبر آفاق الأرض
وأعجز عن رقعة - يعني الشطرنج
وهذا معنى شائع في الناس، فما السبب فيه؟ فإنه إنما عجب من خفاء السبب.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصناعات لا يكتفي فيها بالعلم المتقدم، والمعرفة السابقة بها حتى يضاف إلى ذلك العمل الدائم، والارتياض الكثير، وإلا لم يكن الإنسان ماهراً.
والصانع هو الماهر بصناعته.
ومثال ذلك الكتابة فإن العالم بأصولها وإن كان سابق العلم، غزير المعرفة إذا اخذ العلم ولم تكن له دربة انقطع فيها، ولم ينفعه جميع ما تقدم من علمه بها.
وكذلك حال الخياطة والبناء.
وبالجملة كل صناعة مهنية كقيادة الجيش، ولقاء الأقران في الحروب ليس تكفي فيها الشجاعة، ولا العلم بكيفيتها حتى يحصل فيها الارتياض والتدرب فحينئذ تصير صناعة.
ولما كان الشطرنج أحد الأشياء الجارية هذا المجرى من الصناعات لم يكتف فيه بالتدبير، ولا حسن التخيل، ولا جودة الرأى حتى تنضاف إلى ذلك مباشرة الأمر، والدربة فيه؛ فإن لكل ضربة يتغير بها شكل الشطرنج ضربة من الرسيل مقابلة لها إما على غاية الصواب، وإما بخلافه.
ويحتاج إلى ضبط جميع ذلك، وتخيل تلك الأشكال كلها ضربة بعد ضربة على وجوه تصاريفها، وليس ذلك إلا مع دربة ورياضة.
مسألة ما السبب في استيحاش الإنسان من نقل كنيته أو اسمه
؟
فقد رأيت رجلاً غير كنيته لضرورة لحقته، وحال دعته، فكان يتنكر ويقلق، وكان يكنى أبا حفص فاكتنى أبا جعفر، وكان سببه في ذلك أنه قصد رجلاً يتشيع فكره أن يعرفه بأبي حفص.
وكيف صار بعض الناس يمقت الشيء لاسمه دون عينه، أو للقبه دون جوهره؟.
وما النفور الذي يسرع إلى النفس من النبز واللقب؟.
وما الشكون الذي يرد على النفس من النعت؟ وما هما إلا متقاربان في الظاهر، متدانيان في الوهم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المعاني تلزمها الأسماء، ويعتادها أهل اللغات على مر الأيام حتى تصير كأنها هي، وحتى يشك قوم فيزعمون أن الاسم هو المسمى، وحتى زعم قوم أفاضل أن الأسامى بالطباع تصير إلى مطابقة المعاني كأنهم يقولون إن الحروف التي تؤلف لمعنى القيام أو الجلوس، أو الكوكب أو الأرض لا يصلح لغيرها من الحروف أن تسمى به، لأن تلك بالطبع صارت له.
واضطر لأجل هذه الدعوى أن يشتغل كبار الفلاسفة في بمناقضتهم، ووضع الكتب في ذلك، فليس بعجب أن يألف إنسان اسم نفسه حتى إذا غير ظن أنه إنما يغير هو، وإذا دعى بغير اسمه فإنما دعى غيره، بل يرى كأنما بدل به نفسه.
ولقد سمعت بعض المحصلين يستشير طبيباً، ويخاف فيما يشكوه أنه قد أصابه الماليخوليا فقلت له: وما الذي أنكرت من نفسك؟.
قال: يخيل لي أن يميني قد تحول شمالاً، وشمالي يميناً، لست أشك في ذلك.

فلما امتد بي النظر في مساءلته وجدته كان قد تختم في يمينه مدة للتقرب إلى بعض الرؤساء من أصدقائه، ثم لما فارقه لسفره اتفقت له إعادة إلى التختم اليسار فعرض له من الإلف والعادة هذا العارض.
فأعتبر بذلك يسهل جواب مسألتك، وتعلم ما في العادة من المشاكلة لما في الطبع.
فأما كراهة الناس الشيء لأسمه، أو للقبه ونبزه، فالجواب عنه قريب من الجواب عن هذه المسألة، وذلك أن الأسماء والألقاب أيضاً تكره لكراهة ما تدل عليه للعادة الأولى، فلو أنك نقلت اسم الفحم إلى الكافور فيما بينك وبين آخر لكان متى ذكر الفحم تصور السواد، ولم يمنعه ما انتقل فيما بينه وبينك إلى مسمى آخر أبيض طيب الرائحة، وذلك لأجل العادة، اللهم إلا أن يكون تركيب الحروف تركيباً قبيحاً، والحروف أنفسها مستهجنة فإن الجواب عن ذلك قد مر في صور هذه المسائل مستقصى.

مسألة قال أبو حيان لم صار صاحب الهم
ومن غلبة عليه الفكر في ملم يولع بمس لحيته وربما نكت الأرض بإصبعه، وعبث بالحصى؟.
وقد يختلف الحال في ذلك حتى إنك لتجد واحداً يحب عند صدمة الهم، ولوعه الحزن جمعاً وناساً ومجلساً مزدحماً، يريغ بذلك تفريحاً، ويجد عنده خفا.
وآخر يفزع إلى الخلوة، ثم لا يقع إلا بمكان موحش، ونشر ضيق وطريق غامض.
وآخر يؤثر الخلوة ولكن الخلوة يحن إلى بستان حال وروض مزهر، ونهر جار.
ثم تختلف الحال بين هؤلاء حتى إنك لتجد واحداً عند غاشية ذلك الفكر أصفى طبعاً، وأذكى قلباً، وأحضر ذهناً، وحتى يقول القافية النادرة، ويضنف الرسالة الفاخرة، وحتى يحفظ علماً جماً، ويستقبل أيامه نصحاً، وآخر يذهل ويعله، ويزول عنه الرأى ويتحير حتى لوهدي ما اهتدى، ولو أمر لما فقه ولو نهى لما وبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس لا تعطل الجوارح إلا عند النوم الأسباب ليس هذا موضع ذكرها.
والعقل يستهجن البطالة، ولا بد من تحريك الأعضاء في اليقظة إما بقصد وإدارة، وبصناعة ولأغراض مقصودة، وإما بعبث ولهو، وعند غفلة وسهو؛ ولأجل ذلك نهت الشريعة عن الغفلة، ونهى الأدب عن الكسل، وأمر الناس وسواس المدن بترك العطلة واشتغال الناس بضروب الأعمال.
ولقباحة العطلة، ونفور العقل عنها اشتغل الفراغ بلعب الشطرنج والنرد على سخافتهما، وأخذهما من العمر، وذهابهما بالزمان في غير طائل؛ فإن الجلوس بلا شغل ولا حركة بغير ضرورة أمر يأباه الناس كافة لما ذكرناه.
فصاحب الفكر والهم لا تتعطل جوارحه، وإنما ينبغي أن يتعود الإنسان بالتأديب حركات جميلة مثل القضيب الذي وضع الملوك، وقد ذكره ذلك أيضاً ونسب إلى النزق، وجعل في جنس الولع بالخاتم.
فأما مس اللحية وقلع الزئبر من الثوب فمعدود من المرض؛ لأنة حركة غير منتظمة، ولا جارية على سنة الأدب؛ بل هو عبث يدل على أن صاحبه قد احتمل حتى عزب عقله، وذهب تمييزه دفعة.
ولا ينبغي ذلك لمن له تمييز، وبه مسكة أن يفعله؛ بل ينبه عليه من نفسه ويتركه إن كان عادته.
فأما اختلاف الحال في الناس فيمن الاجتماع مع الناس أو يحب الخلوة وغير ذلك مما حكيته، وذكرت أقسامه فإن ذلك تابع للمزاج؛ وذاك أن صاحب السوداء والفكر السوداوي يحب الخلوة والتفرد، ويأنس بذلك.
وأما صاحب الفكر الدموي فإنه يحب الاجتماع والناس، وربما آثر النزهة والفرجة.
وأما ما حكيت عمن يصنع الشعر، ويصنف الرسالة، ويشغل نفسه بالعلوم فجميع ذلك إنما يكون بحسب عادة من يطرقه الفكر؛ فإن كان قبل ذلك ممن يرتاض ببعض هذه الأشياء، أو يكثر الفكر فيها فإنه بعد ورود العارض يلجأ إلى ما كان عليه، ويعود إلى عادته بنفس ثائرة مضطرة إلى الفكر فينفذ فيما كان فيه.
ولا بد أن يصير ذلك الفكر من جنس ما دهمه، أعني أنه يقول القافية ويصنف الرسالة في ذلك المعنى الذي طرأ عليه، لكن يستعين عليه بفكر كأن يتصرف في شعر آخر فيرده إلى الأهم الذي يقلقه ويحفزه فيجيء كلامه وشعره أحد وأصفى مما كان.
وأما الذي يذهل ويعله ويتحير فهو الذي لم يكن قبل ورود ذلك الشغل عليه ممن لا يرتاض بشعر ولا ترسل، ولا عادته أن يلجأ إلى فكره ويستعمله في استخراج الخبايا واللطائف، فإذا طرقه عارض يحتاج فيه إلى فكر لم يجده، وأصابه من الوله والدهش ما ذكرت.
مسألة ما بال أصحاب التوحيد
لا يخبرون عن الباري إلا بنفي الصفات؟.

فقيل له: بين قولك، وابسط فيه إرادتك.
قال: إن الناس في ذكر صفات الله - تعالى - على طريقتين: فطائفة تقول: لا صفات له كالسمع والعلم والبصر والحياة والقدرة، لكنه مع نفي هذه الصفات موصوف بأنه سميع بصير حي قادر عالم.
وطائفة قالت: هذه أسماء لموصوف بصفات هي العلم، والقدرة، والحياة.
ولا بد من إطلاقها وتحقيقها.
ثم إن هاتين الطائفتين تطابقته على أنه عالم لا كالعالمين، وقادر لا كالقادرين وسميع لا كالسامعين، ومتكلم لا كالمتكلمين.
ثم عادت القائلة بالصفات على أن له علماً لا كالعلوم، وانكأت على النفي في جميع ذلك.
وكانت الطائفتان في ظاهر الرأى مثبتة نافية، معطية آخذه إلا أن يبين ما يزيد على هذا.
هذا آخر المسألة.
والجواب عنها حرفان مع الإيجاز إن ساعد فهم، وتبسيط مع البيان إن احتيج إليه في موضعه إن شاء.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قولك: الجواب عنها حرفان مع الإيجاز فهو قريب مما قلت، وذاك أن كل صفة وموصوف يقع عليه وهم، وينطلق به لسان فهو جود من الله تعالى، وإبداع له، ومن منه امتن به على خلقه، وليس يجوز أن يوصف الله - تعالى - بما هو مبدع ومخلوق له.
فهذا مع الإيجاز كاف.
ولا بد من أدنى بسط وبيان فنقول: إن البرهان قد قام على أن الباري الأول الواحد هو - عز اسمه - متقدم الوجود على كل معقول ومحسوس، وأنه أول بالحقيقة، أي ليس له شيء يتقدمه على سبيل علة ولا سبب ولا غيرهما.
وما ليس له علة تتقدمه فوجوده أبداً، وما وجوده أبداً فهو واجب الوجود، وما كان كذلك فهو لم يزل، وما لم يزل فليس له علة، فليس بمتركب ولا متكثر؛ لأنه لو كان مركباً أو كان متركباً لكان قد تقدمه شيء أعني بسائطه أو آحاده.
وقد قلنا إنه أول لم يتقدمه شيء فإذن ليس بمركب ولا متكثر.
والأوصاف التي يثبتها له من يثبتها ليس تخلو من أن تكون قديمة معه، أو محدثة بعده.
ولو كانت قديمة معه، موجودة بوجوده لكان هناك كثرة، ولو كانت كثرة لكانت - لا محالة - متركبة من آحاد.
ولو كانت الآحاد متقدمة، أو الوحدة - سيما التي تركبت منها الآحاد - والكثرة متقدمة - لم يكن أولاً، وقد قلنا إنه أول.
ولو كانت أوصافه بعده لكان خالياً منها فيما لم يزل، وخلصت له الوحدة.
وإنما حدث له ما حدث عن سبب وعلة - تعالى الله وجل عما يقولون المبطلون - وقد قلنا إنه لا سبب له ولا علة.
وأما أطلاقنا ما نطلقه عليه من الجود والقدرة وسائر الصفات فلأن العقل إذا قسم الشيء إلى الإيجاب والسلب، أو إلى الحسن والقبيح، أو إلى الوجود والعدم - وجب أن ينظر في كل طرفين فينسب الأفضل منهما إليه، إن كنا لا محالة مشيرين إليه بوصف مثلاً، كأنا سمعنا بالقدرة والعجز وهما طرفان، فوجدنا أحدهما مدحاً، والآخر ذماً، فوجب أن ننسب إليه ما هو مدح عندنا.
وكذلك نفعل في الجود وضده، والعلم وخلافه.
ومع ذلك فينبغي ألا نقيس على هذا القدر أيضاً إلا إذا كان معنا رخصة في شريعة، أو إطلاق في كتاب منزل؛ لئلانبتدع له من عندنا ما لم تجربه سنة أو فريضة، ونحذر كل الحذر من الإقدام على هذه الأمور.
ولأنا ضمنا ترك الإطالة في جميع أجوبة هذه المسائل فلنقتصر على هذا النبذ.
ومن أراد الإطالة والتوسع فيه فليقرأه من موضعه الخاص به من كتابنا الذي سميناه الفوز أو من كتب غيرنا المصنفة في هذا المعنى إن شاء الله.

مسألة لم صار الإنسان في حفظ الصواب أنفذ
منه في حفظ الخطأ
؟
شاهد هذا أنك لو سمت الغفل أن يتعلم الأدب، ويعتاد الصواب في اللفظ كان أخرى بذلك، وأجرأ عليه من قاض أو عدل أو أديب عالم تسوم واحداً منهم ان يتخلق بخلق بعض العامة، أو يقتدي بلفظه في خطابه وفساده؛ ولهذا تجد مائة ينشدونك لأبي تمام والبحتري ولا تجد ثلاثة ينشدونك للطرمي وأبي العبر.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصواب شيء واحد، وله سمت يشير إليه بالعقل، وتقتضيه الفطرة السليمة من كل أحد.
فأما الانحراف عن ذلك السمت، والخطأ فيه وعنه فأمر لا نهاية له، فلذلك لا يمكن ضبطه.
وإن انحرف عنه منحرف فإنما يكون ذلك منه كما جاء واتفق لا بإشارة من فهم، ولا دليل من عقل.

وحفظ مثل هذا عسير جداً؛ إذ كان الحفظ إنما هو تذكر لصورة قيدها العقل، وتلك الصورة هي مقتضى العقل، أو رسم من رسوم قوى العقل.
فالإنسان معان على هذا الرسم بالفطرة، ومعان على تذكره - أيضاً - بالفطرة.
فأما العدول عنه فهو كالعدول عن نقطة الدائرة التي تسمى مركزاً؛ فإن النقطة في الدائرة - التي ليست مركزاً - هي كثيرة بلا نهاية، وإنما المحدودة منها على نقطة واحدة، أعني التي بعدها من جميع محيط الدائرة بالسواء.

مسألة لم صار العروضي ردىء الشعر
قليل الماء، والمطبوع على خلافه؟ ألم تبن العروض على الطبع؟ أليست هي ميزان الطبع؟ فما بالها تخون؟ وقد رأينا بعض من يتذوق وله طبع يخطي ويخرج من وزن إلى وزن، وما رأينا عروضياً له ذلك.
فلم كان هذا - مع هذا الفضل - أنقص ممن هو أفضل منه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المطبوع من المولدين يلزم الواحد، ولا يخرج عنه مادام طبعه يطيع ذلك.
ولكن سمعنا للشعراء الجاهليين المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا، ولا تحسن في ذوقنا، وهي عندهم مقبولة موزونة، يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها، كقول المرقش:
لابنه عجلان بالطف رسوم ... لم يتعفين والعهد قديم
وهي قصيدة مختارة في المفضليات، ولها أخوات لا أحب تطويل الجواب بإيرادها - كانت مقبولة الوزن في طباع أولئك القوم، وهي نافرة عن طباعنا، نظنها مكسورة.
وكذلك قد يستعملون من الزخاف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسوراً، وهي صحيحة.
والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوى بها الوزن.
ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسن في طباعنا، والدليل على ذلك أنا عرفنا في بعض الشعر تلك النغمة حسن عندنا، وطاب في ذوقنا كقول الشاعر:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يطل
فإن هذا الوزن إذا أنشد مفكك الأجزاء بالنغمة التي تخصه طاب في الذوق وإذا أنشد كما ينشد سائر الشعر لم يطب في كل ذوق.
وهذه سبيل الزحاف الذي يقع في في الشعر مما يطيب في ذوق العرب وينكسر في ذوقنا.
لولا أن الموسيقا مركوزة في الطباع، ووزن النغم ومقابلة بعضه بعضاً مجبولة عليه النفس لما تساعدت النفوس كلها على قبول حركات أخر بعينها.
وتلك الحركات المقبولة هي النسب التي يطلبها الموسيقي، ويبني عليها رأيه وأصله.
والعروضي إنما يتبع هذه الحركات والسكنات التي في كل بيت فيحصلها بالعدد، وبالأجزاء المتقابلة المتوازنة.
فإن نقص جزء من الأجزاء ساكن أو متحرك فإنما يجبره المنشد بالنغمة حتى يتلافاه.
فمتى ذهب عنه ذلك لم يستقم في ذوقه، ولم يساعد عليه طبعه.
فأما من نقص ذوقه في العروض فإنما ذلك للغلط الذي يقع له في بعض الزحافات التي يجيزها العروض، وله مذهب عند العرب، فيقع لصاحب الذوق الذي لا يعرف تلك النغمة التي تقوم بذلك الزحاف - أنه جائز في كل موضع فيغلط من ههنا، ويتهم أيضاً طبعه حتى يظن أن المنكسر من الشعر أيضاً هو في معنى المزاحف، وأنه كما لم يمتنع المزحوف من الجواز كذلك لا يمتنع هذا الآخر الذي يجري عنده مجراه.
وهذا غلط قد عرف وجهه ومذهب صاحبه فيه.
وأما واضع العروض فقد كان ذا علم بالوزن، وصاحب ذوق وطبع فاستخرج صناعة من الطباع الجيدة تستمر لمن ليست له طبيعة جيدة في الذوق؛ ليتمم بالصناعة تلك النقيصة.
وكذلك الحال في صناعة النحو والخطابة، وما يجري مجراها من الصنائع العلمية.
وليس يجري صاحب الصناعة، وإن كان ماهراً في صناعته - مجرى الطبع الجيد الفائق.
مسألة ما معنى قول بعض القدماء العالم أطول عمرا
ً
من الجاهل بكثير وإن كان أقصر عمراً عنه؟.
ما هذه الإشارة والدفنية؛ فإن ظاهرها مناقضة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين من مباحث الفلسفة أن الحياة على نوعين: أحدهما حياة بدنية وهي البهيمية التي تشاركنا فيها الحيوانات كلها.
وحياة نفسية، وهي الحياة الإنسانية التي تكون بتحصيل العلوم والمعارف.
وهذه هي الحياة التي تجتهد الأفاضل من الناس في تحصيلها.
فالواجب أن يظن بالجاهل الذي يحيا حياة بدنية أنه ليس بحي بتة، أعني أنه ليس بإنسان، ولا حيى حياته.

فأما العالم فالواجب أن يقال فيه: إنه هو الحي بالحقيقة كما أن غيره هو الميت.

مسألة لم صارت بلاغة اللسان أعسر من بلاغة القلم
؟
وما القلم واللسان إلا آلتان، وما مستقاهما إلا واحد، فلم نرى عشرة يكتبون ويجيدون ويبلغون، وثلاثة منهم إذا نطقوا لا يجيدون ولا يبلغون؟ والذي يدلك على قلة بلاغة اللسان إكبار الناس البليغ باللسان أكثر من إكبارهم البليغ بالقلم.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ذلك لأن البلاغة التي تكون بالقلم تكون مع روية وزمان متسع للانتقاد والتخير والضرب والإلحاق وإجالة الروية لإبدال الكلمة بالكلمة.
ومن تبادل بالكلام متى لم يكن لفظه، ومعناه متوافيين عرض له التتعتع والتلجلج وتمضغ الكلام، وهذا هو العي المكروه المستعاذ منه.
فأما البليغ فهو حاضر الذهن، سريع حركة اللسان بالألفاظ التي لا يقتصر منها أن يبلغ ما في نفسه من المعنى حتى تتفرغ له قطعة من ذلك الزمان السريع إلى توشيح عبارته، وترتيبها باختيار الأعذب قالأعذب، وطلب المشاكلة والموازنة، والسجع، وكثير مما يحتاج في مثله إلى الزمان الكثير، والفكر الطويل.
مسألة على ماذا يدل انتصاب قامة الإنسان
من بين هذا الحيوان
؟
فقد قال أبو زيد البلخي الفلسفي كلاماً سأحكيه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذا الرجل الفاضل الذي ذكرته إذا كان يوجد له كلام في هذا المعنى، فالأولى بنا أن نستعفيك الكلام فيه.
وإذا كنت غير معفينا، فالأولى أن نكتفي بالإيماء إلى المعنى دون الإطالة، فنقول: إن الحرارة إذا كانت مادتها لطيفة مواتية في الرطوبة والاستجابة إلى الامتداد فهي تمد الجسم الذي تعلقت به إلى جهتها - أعني العلو - مداً مستقيماً.
وإنما يعرض الانكباب والميل إلى جهة الأرض لشيئين: إما لضعف الحرارة، وإما لقلة استجابة المادة التي تعلقت بها.
وأنت تتبين ذلك وتتأمله في الأشجار التي بعضها ينشعب بشعب مر جحنة نحو الأرض.
وبعضها ممتدة على جهة الاستقامة إلى فوق.
وبعضها مركبة الحركة بحسب مقاومة المادة؛ لأن حركة الشيء المركب وما كان من الشجر والنبات ممتداً على وجه الأرض غير منتصب فهو لكثرة الأجزاء الأرضية فيه، ولضعف الحرارة عن مدة نحو العلو.
وما كان الشجر منتصباً وقد تشعبت منه نحو الأرض، ويميناً وشمالاً فلأن حركة النار والأرض قد تركبتا فحدث منهما هذا الشكل المركب بين الانتصاب والارجحنان.
وما كان الشجر ممتداً كالقضيب إلى فوق كالسرو وما أشبهه فلأن أجزاءه الأرضية والرطوبة المائية فيه لطيفة، والحرارة قوية فلم يمتنع من الحركة المستقيمة التي تحركها النار.
وإذا تأملت حق التأمل هذه الأمثلة لم يعسر عليك نقلها إلى الحيوان إن شاء الله.
مسألة لم صار اليقين إذا حدث وطرأ لا يثبت ولا يستقر
؟
والشك إذا عرض أرسى وربض
؟
يدلك على هذا أن الموقن بالشيء متى شككته نزا فؤاده، وقلق به؛ والشاك متى وقفت به وأرشدته، وأهديت الحكمة إليه لا يزداد إلا جموحاً، ولا ترى منه إلا عتواً ونفوراً.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أظن السائل عن اليقين لم يعرف حقيقته، وظن ان لفظة اليقين تدل على المعرفة المرسلة، أو على الإقناع اليسير.
وليس الأمر كذلك؛ فإن مرتبة اليقين أعلى مرتبة تكون في العلم، وليس يجوز أن يطرأ عليه شك بعد أن صار يقيناً.
ومثال ذلك أن من علم أن خمسة في خمسة خمسة وعشرون ليس يجوز أن يشك فيه في وقت.
وكذلك من علم أن زوايا المثلث مساوية لقائمتين ليس يجوز أن يشك فيه.
وهذه سبيل العلوم المتيقنة بالبراهين، وبالأوائل التي بها تعلم البراهين.
فأما ما دون اليقين فمراتبه كثيرة على ما بين في كتاب المنطق.
والشكوك تعترض كل مرتبة بحسب منزلتها من الإقناع.
وإذا كان الأمر كذلك فليس يرد قلب المتيقن - أبداً - شك ينزو منه فؤاده؛ بل قار وادع لا تحرك منه الشكوك بتة.
فأما ما ذكرته من أن الشاك إذا أرشد، وأهديت له الحكمة لا يزداد إلا جموحاً فإن ذلك يعترض لأحد شيئين: إما لأن المرشد لم يتأت للشاك، ولم يدرجه إلى الحكمة فحمله ما لا يضطلع به، وإما لأن الحكيم ربما نهى عن أشياء يميل إليها الطبع بالهوى.

وقد علمت بما بيناه فيما تقدم أن تقدم أن قوى الهوى أغلب وأقوى فينا من قوى العقل، فيصير حاله حال من يجدنه حبلان أحدهما ضعيف والآخر قوى - لا محالة - يستجيب للأقوى إلى أن تقوى عزيمته على الأيام فيضعف القوى، ويقوى الضعيف كما أشار به الحكماء، وشرعه الأنبياء.

مسألة لم صار الناس يضحكون من السخرة
والمضحك إذا لم يضحك - أكثر من ضحكهم منه إذا ضحك؟ وهذا عارض موجود في كل من ألهاك ولم يضحك.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن من شأن المضحك أن يتطلب أموراً معدولة عن جهاتها؛ ليستدعي بذلك تعجب السامع وضحكه.
وإذا لم يضحك هو إنما يدل من نفسه أنه متماسك، غير مكترث للسبب الذي من شأنه أن يعجب منه ويضحك، فيتضاد الحال بالتسامع حتى يقترن إلى السبب الأول السبب الثاني.
مسألة ما معنى قول العلماء على طبقاتهم النادر لا حكم له
هكذا تجد الفقيه والمتكلم، والنحوي، والفلسفي.
فما سر هذا؟ وما علمه وعلته؟ ولم إذا ندر خلا من الحكم، وإذا شذ عرى من التعليل؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس الأمر على ما ظننته من أن جميع الطبقات من العلماء يستعملون هذه اللفظة.
وإنما يستعملها منهم من كانت طبقته في العلوم المأخوذة من التصفح والآراء المشهورة؛ فإن هذه أوائل عند قوم في علومهم.
وأعني بقولي أوائل أي أنهم يجعلونها مبادىء مسلمة بمنزلة الأشياء الضرورية من مبادىء الحس والعقل فإذا فعلوا ذلك لم يخل من أن يرد عليهم ما يخالف أصولهم فيجعلونه نادراً وشاذاً مثال ذلك: أنه تصفح رجل منهم يوماً في السنة كيوم السبت من كانون أنه يجىء فيه مطر، وبقي إلى ذلك سنين - حكم بأن هذا واجب لا بد منه.
فإن انتقض عليه ذلك زعم أنه شاذ نادر.
وكذلك من يتبرك بيوم في الشهر، ويتشاءم بآخر كما تفعله الفرس بأول يوم من شهرهم المسمى هرمز، وبآخر يوم المسمى بانيران فإنه لا يزال يحكم بأن هذا على الوتيرة، فإن انتقض قالوا هذا شاذ ونادر.
وكذلك حال من حكم بحكم مأخوذ من أوائل غير طبيعية، وغير ضرورية فإنه غير مستمر له استمرار العلوم المبرهنة المأخوذة الأوائل من الأمور الضرورية.
وأنت ترى ذلك عياناً ممن لا يعرف علل الأشياء ولا أسبابها من جمهور الناس؛ فإن أحدهم إذا رأى أمراً حدث عند حضور أمر آخر نسبه إليه من غير أن يبحث هل هو علته أم لا.
وذلك أنه إذا رأى حالاً تسره عند حضور زيد زعم أن سبب ذلك الحال زيد.
فإن اتفق حضور زيد مرة أخرى، واتفقت له حال أخرى سارة قوى ظنه، وزادت بصيرته، فإن اتفق ثالثة قطع الحكم.
وكذلك تكون الحال في أكثر أمور هذا الصنف من الناس.
لا جرم أنه متى انتقض الأمر زعموا أنه شاذ.
ولهذه الحال عرض كثير، وذلك أنه ربما مازج أسباباً صحيحة، كما يحكم في الشتاء أنه يجيء مطر يوم كذا لأنه كذلك اتفق في العام الماضي.
فلأن الوقت شتاء ربما اتفق ذلك مراراً كثيرة، ولكن ليس سبب المطر ذلك اليوم بل له أسباب أخر وإن اتفق فيه.
فأما الرجل الفلسفي فإنه إذا تشبه بغيره، أو أخذ مقدماته من مثل تلك المواضع عرض له - لا محالة - ما عرض لغيره.
ولذلك وجب أن تنزل الأمور منازلها فما كان منها ذا برهان لم يتغير، ولم ينتظر ورود ضد عليه، ولا شك فيه.
وإذا كان غير ذي برهان إلا أن له دليلاً مستمراً صحيحاً سكن إليه، وثق به.
فأما ما ينحط إلى الإقناعات الضعيفة فينبغي ألا يسكن إليه، ولا يوثق به، وانتظر أن ينقضه شيء طارىء عليه، ولم يمتنع من الشكوك والاعتراضات عليه.
مسألة قال بعض المتكلمين قد علمنا يقينا
ً
أنه لا يجوز أن يتفق أن يمس أهل محلة لحاهم في ساعة واحدة، وفصل واحد، وحال واحدة.
وإن جاز هذا فهل يجوز في جميع من في العالم؟ وإن كان لا يجوز أن يتفق هذا فما علته؟ فإن المتكلم سكت عند الأولى حين ذكر اليقين والضرورة.
ولعمري إن الغشاء حق ولكن العلة باقية.
وسيمر بيان ذلك على حقيقته في الشوامل إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الكلام على الواجب والممتنع والممكن قد استقصاه أصحاب المنطق، وبلغ صاحب المنطق فيه الغاية.
والذي يليق بهذا الموضع هو أن يقال: إن الواجب من الأمور هو الذي يصدق فيه الإيجاب ويكذب فيه السلب أبداً.

والممتنع ما يكذب فيه الإيجاب ويصدق فيه السلب أبداً.
والممكن ما يصدق فيه الإيجاب أحياناً ويكذب فيه أحياناً، ويكذب فيه السلب أحياناً ويصدق أحياناً.
فإذا كانت طبائع هذه الأمور مختلفة فمسألتك هذه من طبيعة الممكن.
فإن جوز فيه أن يكون جميع الناس يفعلونه في حال واحدة ضير من طبيعة الواجب.
وهذا محال.
وأيضاً فإن أرسططاليس قد تبين أن المقدمات الشخصية في المادة الممكنة والزمان المستقبل لا تصدق معاً، ولا تكذب معاً، ولا تقتسم الصدق والكذب مثال ذلك زيد يستحم غداً، ليس يستحم زيد.
فإن هاتين المقدمتين ليس يجوز أن تصدقا معاً؛ لئلا يكون شيء واحد بعينه موجوداً وغير موجود.
ولا يجوز أن تكذبا معا؛ لئلا يكون شيء واحد موجوداً وغير موجود ولا يمكننا أن نقول إنهما تقتسمان الصدق والكذب؛ لئلا يرفع بذلك الممكن.
وهذا قول محير فلذلك ألطف أرسططاليس فيه النظر فقال: إن الشيء الممكن إنما يصدق عليه الإيجاب أو السلب على غير تحصيل.
والشيء الواجب والممتنع يصدق عليهما الإيجاب والسلب على تحصيل.
أعني أنه إنما يقتسم الصدق والكذب المقدمات الممكنة بأن توجد على طبيعتها الإمكانية.
فأما الضرورية فإنها تقتسم الصدق والكذب على أنها ضرورية.
وهذا كلام بين واضح لمن ارتاض بالمنطق أدنى رياضة.
ومن أحب أن يستقصيه فليعد إليه في مواضعه يجده شافياً.

مسألة سئل بعض العلماء بالنحو واللغة
فقيل له: أيستمر القياس في جميع ما يذهب إليه من الألفاظ؟ فقال: لا.
فقال السائل: فينكسر القياس في جميع ذلك؟ فقال: لا.
فقيل له: فما السبب؟ فقال: لا أدري، ولكن القياس يفزع إليه في موضع، ويفزع منه في موضع.
وعرضت هذه المسألة على فيلسوف فأفاد جواباً سيطلع عليك مع إشكاله إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قياس النحو فليس مبيناً على أوائل ضرورية فلذلك لا يستمر وإنما أجاب هذا الرجل العالم بالنحو عن القياس الذي يخص صناعته، ولم يلزمه إلا ذلك.
فأما الفيلسوف فقياساته كلها مستمرة لا ينكسر منها شيء، لا سيما ضرب من القياس وهو المسمى برهاناً.
وقد تقدم - في المسألة المتقدمة إن النادر لا حكم له كلام يصلح أن يجاب به ههنا فلتعد إليه إن شاء الله.
مسألة سأل سائل هل خلق الله - تعالى - العالم لعلة أو لغير علة
؟
فإن كان لعلة فما هي؟ وإن كان لغير علة فما الحجة؟
وهذه مسألة فيها شعب كثيرة، ولها أهداب طويلة، وليس الكلام فيها بالهين السهل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس يجوز أن يقال: إن الله خلق العالم لعلة؛ لما تقدم من قولنا إن العلة سابقة للمعلول بالطبع.
فإن كانت العلة أيضاً معلولة لزم أن تكون لها علة تتقدمها.
وهذا مار بغير نهاية، وما لا نهاية له يصح وجوده.
فإذن لا بد من أن يقال أحد شيئين: إما أن العلة لا علة لها، وإما أن العالم لا علة له غير ذات الباري - تعالى ذكره - فإن قيل: إن للعالم علة غير ذات الباري - تعالى - فإن تلك العلة لا علة لها.
فيجب من ذلك أن تكون العلة أزلية؛ لأنها واجبة الوجود.
وإذا كانت كذلك لزم فيها جميع ما سلم في ذات الباري - تعالى - ولو كان كذلك أولاً لم يزل.
وقد قلنا في الباري - تعالى - ذلك بالبراهين التي تأدت إلى القول به.
وليس يجوز ان يكون شيئان لهما هذا الوصف، أعني أن كل واحد منهما اول لم يزل.
وذلك أنه لا بد أن يتفقا في شيء صار كل واحد منهما أول وأن يختلفا في شيء به صار كل واحد منهما غيراً لصاحبه.
وذلك الشيء الذي اشتركا فيه، والذي تباينا به لا بد أن يكون فصلاً مقوماً، أو مقسماً، فيصير لهما جنس ونوع؛ لأن هذه حقيقة الجنس والنوع.
فالجنس متقدم على النوع بالطبع.
والنوع الذي يلزمه فصل مقوم ليس بأول؛ لأنه مركب من ذات وفصل مقوم.
والمركب متأخر عن بسيطه الذي تركب منه.
فهذه أحوال يناقض بعضها بعضا، ولا يصح معها أن يدعى في شيئين أن كل واحد منها اول لم يزل.
وشرح هذا المعنى وإن طال فهو عائد إلى هذا النبذ الذي يكتفي به ذو القريحة الجيدة، والذكاء التام.
مسألة لم يضيق الإنسان في الراحة إذا توالت عليه
وفي النعمة إذا حالفته
؟

وبهذا الضيق يخرج إلى المرح والنزوان، وإلى البطر والطغيان، وإلى التحكك بالشر والتمرس به حتى يقع في كل مهوى بعيد، وفي كل امر شديد.
ثم يعض على أنامله غيظاً على نفسه بسوء اختياره، وأسفاً على تركه محمود الرأى، ومجانبته نصيحة الناصحين مع ما يجد من الألم في صدره من شماتة الشامتين.
فما السر المنزى والمعنى الموثب؟ ولذلك قالت العرب في نوادر كلامها: نزت به البطنة.
أي أطفاه الشبع، وأبطرته الكفاية، وأترفته النعمة حتى بطر وأشر، واضطرب وانتشر.
ومن أجل ذلك قال بعض السلف الصالح: العافية ملك خفي لا يصبر عليها إلا ولى ملهم، أو نبي مرسل.
هذا، والناس مع اختلافهم يحبون العافية، ويميلون إلى الراحة، ويعوذون من الشر، ومما يورث منه، ويستعقب عنه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: السبب في ذلك ان الراحة إنما تكون عن تعب تقدمها لا محالة.
وجميع اللذات يظهر فيها أنها راحات من آلام.
وإذا كانت الراحة إنما تكون عن تعب فهي إنما تستلذ وتستطاب ساعة يتخلص من الشيء المتعب.
فإذا اتصلت الراحة، وذهب ألم التعب لم تكن الراحة موجودة؛ بل بطلت وبطل معناها.
ومع بطلانها بطلان اللذة.
ومع بطلان اللذة غلط الإنسان في الشوق إلى اللذة التي يجهل حقيقتها.
أعني أنه يشتاق إلى معنى اللذة ويجهل أنها راحة من ألم.
فصار الإنسان كأنه يشتاق إلى تعب ليستريح بعقبه.
وهذا المعنى إذا لاح للعالم به وتبينه لم يشتق إلى اللذة بتة، وصار قصاراه إذا آلمه الجوع أن يداويه بالدواء الذي يسمى الشبع لا أنه يقصده اللذة نفسها بل يرى اللذة شيئاً تابعاً لغرضه لا أنها مقصودة الأول؛ ولذلك يزهد العالم في الأشياء البدنية، أعني الدنيوية، وهي ما يتصل بالحواس وتسمى لذيذة.
فأما الجاهل فلأنه يعترض له ما ذكرناه بالضرورة صار يقع فيه دائماً، فيحصل في هموم وآلام وامراض لا نهاية لها.
وعاقبه جميع ذلك الندم والأسف.
مسألة لم صار بعض الأشياء تمامه أن يكون غضاً طرياً

ولا يستحسن ولا يستطاب إلا كذلك
؟
وبعض الأشياء لا يختار ولا يستحسن إلا إذا كان عتيقاً قديماً، قد مر عليه الزمان؟ ولم لم تكن الأشياء كلها على وجه واحد عند الناس؟ وما السبب في انقسامها على هذين الوجهين، ففيه سر؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لما كانت كمالات الأشياء المختلفة، أعني ان بعضها تتم صورته التي هي كماله في زمان قصير، وبعضها تتم صورته في زمان طويل - كان انتظار الإنسان للكمال منها، وتفضيله إياها بحسبه.
ولما كان الشيء يبتدىء وينتهي إلى الكمال، ثم ينحط حتى يتلاشى ويعود إلى ما منه بدأ - كان أفضل أحواله وقت انتهائه إلى الكمال.
فأما حين صعوده إليه، أو انحطاطه عنه فحالان ناقصان، وإن كانت الأولى أفضل من الثانية.
ولما كانت هذه القضية مستمرة فيما كان في عالمنا هذا، أعني عالم الكون والفساد - وجب من ذلك أن تكون استطابة الناس، واستحسانهم لصورة الكمال في واحد واحد من الأشياء المختلفة أيضاً مختلفاً لأجل ما ذكرناه.
مسألة لم صار الإنسان إذا صام أو صلى زائداً عن الفرض
المشترك فيه حقر غيره، واشتط عليه، وارتفع على مجلسه، ووجد الخنزوانة في نفسه، وطارت النعرة في أنفه حتى كأنه صاحب الوحي، أو الواثق بالمغفرة، والمنفرد بالجنة.
وهو مع ذلك يعلم أن العمل معرض للآفات، وبها يحبط ثواب صاحبه؛ ولهذا قال الله - تعالى - " بسم الله الرحمن الرحيم " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً " صدق الله العظيم " .
ولما يعرض له من هذا العارض علة ستنكشف في جواب المسألة؟ وكان بعض أصحابنا يضحك بنادرة في هذا الفصل قال: أسلم يهودى غداة يوم فما أمشى حتى ضرب مؤذناً، وشتم آخر، وغضب على آخر.
فقيل له: ما هذا أيها الرجل؟ فقال: نحن معاشر القراء فينا حده!.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: كل من استشعر في نفسه فضيلة، وكان هناك نقصان من وجه آخر، وخشى أن تنكتم تلك الفضيلة، أو لا يعرفها غيره منه - عرض له عارض الكبر؛ لأن معنى الكبر هو هذا.
أي أن صاحبه يلتمس من غيره أن يذعن له بتلك الفضيلة، ويعرفها له.
فإذا لم يعرفها تحرك ضروب الحركة المضطربة؛ ولهذا صدق القائل: ما تكبر أحد إلا عن ذلة يجدها في نفسه.

وإنما السلامة من هذا العارض هو أن يلتمس الإنسان الفضيلة لنفسه، لا لشيء آخر أكثر من أن يصير هو بنفسه فاضلاً، لأن يعرف ذلك منه، أو يكرم لأجله.
فإن اتفق له أن يعرف فشيء موضوع في موضعه، وإن لم يعرف له ذلك لم يلتسمه من غيره، ولم يكترث لجهل غيره به.
فقد علمنا أن التماس الكرامة ومحبتها رذيلة.
ولأجل محبة الكرامة تعرض قوم للمتالف، وعرض لقوم الصلف ولآخرين الهرب من الناس، إلى غير ذلك من المكار.
والذي يجب على العاقل هو أن يلتمس الفضائل في نفسه ليصير بها على هيئة كريمة ممدوحة في ذاته، أكرم أم لم يكرم، وعرف ذلك له أم لم يعرف.
ويجعل مثاله في ذلك الصحة؛ فإن الصحة؛ تطلب لذاتها، ويحرص المرء عليها ليصير صحيحاً حسب، لا ليعتقد فيه ذلك، ولا ليكرم عليها.
وذلك إذا جعلت له صحة النفس بحصول الفضائل لا ينبغي أن يطلب من الناس أن يكرموه لها، ولا أن يعتقدوا فيه ذلك.
ومتى خالف هذه الوصية وقع في ضروب من الجهالات التي أحدها الكبر، والحالة التي وصفت.

مسألة حكى بعض أصحابنا أن الرشيد قال لإسحاق الموصلي
كيف حالك مع الفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أما جعفر فإني لا أصل إليه إلا على عسر، فإذا وصلت إليه قبلت يده، فلا يلتفت إلى بطرف، ولا ينعم لي بحرف.
ثم أصير إلى منزلي فأجد صلته وبره وهداياه، وتحفه قد سبقتني، فأبقى حيران من شأنه.
واما الفضل فإني ما أغشى بابه إلا ويتلقاني، ويهش لي، ويخصني، ويسألني عن دقيق أمري وجليله، ويصحبني من بشره، وطلاقة وجهه وتهلله، ورقة نغمته - ما يغمرني ويعجزني عن الشكر، وأبقى خجلاً في أمره، وليس غير ذلك.
فقال الرشيد عند هذا الحديث: يا أبا إسحاق فأيهما عندك آثر؟ وفعل أيهما من نفسك أوقع؟ فقال: فعل الفضل.
هذا آخر الحكاية.
وموضع المسألة منها: ما السبب في تشريف إسحاق فعل الفضل دون فعل جعفر؟ والفضل مبذولة عرض لا بقاء له، ولا منفعة به.
ومبذول جعفر جوهر له بقاء، والحاجة إليه ماسة، والرغبات به منوطة، والآمال إليه مصروفة.
الدليل على ذلك أنك لا تجد طالباً في الدنيا لبشر رجل، ولا ضارباً في الأرض لبشاشة إنسان.
وأنت ترى البر والبحر مترعين بمنتجعي المال، وأبناء السؤال، وخدم الآمال عند الرجال.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الحكاية فأظنها مقلوبة.
وذلك أن الموصوف بالكبر هو الفضل، وهو صاحب الشرف في العطاء، وأما جعفر فهو الموصوف بالطلاقة والبشر.
إلا أن المتفق عليه أن إسحاق فضل صاحب الطلاقة - وإن كان في الأكثر خالياً من بره على صاحب البر والعطاء الجزيل؛ لما قرنه بالكبر والتيه.
والناس على تفاوت عظيم في الموضع الذي سألت عنه، وتعجبت منه.
وذلك أن منهم المحب للثروة واليسار، ومنهم المحب للكرامة والجاه.
فأما محب الثروة فقد يحب الجاه والكرامة ولكن ليكتسب بهما مالاً.
وأما محب الجاه والكرامة، فقد يحب المال والثروة ولكن ليكتسب جاهاً، وينال كرامة.
وكل طائفة من هاتين الطائفتين تزعم أنها هي الكيسة، وأن صاحبتها هي الغافلة البلهاء.
والصحيح من ذلك ان كل واحد منهما ينازع إلى أمر طبيعي وإن كان قد مال السرف بهما جميعاً إلى الإفراط؛ وذاك أن المال ينبغي أن يعتدل في طلبه، ويكتسب من وجهه، ثم ينفق في موضعه.
فمتى قصر في أحد هذه الوجوه صار شرها، وأورث ذلة، وكسب بخلاً وإثماً.
وأما الكرامة فينبغي أن تكون في الإنسان فضيلة يستحق بها أن يكرم، لا أن تطلب الكرامة بالعسف، أو بالكبر الذي ذممناه فيما تقدم من المسائل آنفاً.
فإذا كان الأمر على ما ذكرناه، وكانت الكرامة تابعة للفضيلة، فالكرامة أشرف من المال تتبعه اللذة.
وبالجملة فإن المال ليس بمطلوب لذاته بل هو آلة يوصل به إلى المآرب والأشجان الكثيرة.
وإنما يحب لأنه بإزاء جميع المطلوبات، أي به يتوصل إلى المحبوبات، فأما في نفسه فهو حجر لا فرق بينه وبين غيره إذا نزعت عنه هذه الخصلة الواحدة.
فأما الكرامة فقد تطلب لذاتها إذا كان الطالب لها من جهة الاستحقاق بالفضيلة وذلك لما تحصل عليه النفس من الالتذاذ الروحاني، والسرور النفساني.

وإن كانت من جهة النفس الغضبية فإن هذه النفس وإن كانت دون الناطقة فإنها فوق النفس البهيمية التي تلتذ اللذات البدنية التي تشارك فيها النبات والخسيس من الحيوانات.
فأما قولك: إنك تجد محبي المال أكثر من محبي الكرامة فكذا يجب أن يكون؛ لأن أكثر الناس هم الذين يشبهون البهائم وإنما يتميز القليل منهم بالفضائل.
فكما أن المتميزين بفضائل النفس الناطقة من القليل، فكذلك المتميزون بفضائل النفس الغضبية أقل من الجمهور.

مسألة ما بال خاصة الملك، والدانين منه، والمقربين إليه
لا يجري من ذكر الملك على ألسنتهم مثل ما يجري على ألسنة الأباعد منه مثل البوابين، والشاكرية، الساسة؛ فإنك تجد هؤلاء على غاية التشيع بذكره، ونهاية الدعوى في الإشارة إليه، والتكذب عليه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لسببين: أحدهما أن الأقربين إلى الملوك هم المؤدبون المستصلحون لخدمتهم.
وفي جملة الآداب التي أخذوا بها ترك ذكر الملك؛ فإن في ذكرهم إياه ابتذالاً له وانتهاكاً لهيبته، وهتكاً لحرمته.
فأما أولئك الطبقة فلسوء آدابهم لا يميزون، ولا يأبهون لما ذكرته فهم يجرون على طباع العامة اللائقة بهم في الافتخار بما لا أصل له، وادعاء ما لا حقيقة له، ولظنهم أنهم ينالون بذلك كرامة ومحلاً عند أمثالهم.
وأما السبب الآخر فخوف حاشية الملك من عقوبته؛ فإن الملك يعاقب على هذا الذنب، ويراه سياسة له؛ لئلا يتعدى ذاكروه إلى إفشاء سر، وإخراج حديث لا ينبغي إخراجه.
مسألة ما الشبهة التي عرضت لابن البصري
فيما تفرد به من مقالته حين زعم أن الله - تعالى - لم يزل ناظراً إلى الدنيا، رائياً لها، مدركاً لها وهي معدومة.
فإن شغبه وشغب ناصريه وأصحابه قد كثر بين العلماء.
فما وجه باطله إن كان قد أبطل؟ وما وجه الحق إن كان قد حقق؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما شبهة صاحب هذه المقالة فمركبة؛ وذلك أنه لحظ إدارك الحي منا فوجده بنوعين: أحدهما عقلي، والآخر حسي.
والحسي منه وهمي ومنه بصري.
فأما الحسي البصري فإنما يدرك المبصر بآلة ذات طبقات ورطوبات وقصبة مجوفة ذاتية من بطن الدماغ، ويحتاج إلى جرم مستشف يكون بينه وبين المبصر، وإلى ضوء معتدل، ومسافة معتدلة، وألا يكون بينهما حاجز ولا مانع.
وأما الوهم فقد ذكرنا من أمره أنه يتبع الحس فلا يجوز أن يتوهم ما لا يدرك، أو يدرك له نظير.
وأما الإدراك العقلي فليس يحتاج إلى شيء من الحواس، بل للعقل نفسه قوة ذاتية بها يدرك الأشياء المعقولة.
والكلام على هذا الإدراك ألطف وأغمض من الكلام في الإدراك الحسي.
ولما اختلطت على صاحب المسألة هذه الإدراكات، وعلم أن الباري - جلت عظمته - عالم بالأمور الكائنة سمي هذا العلم إدراكاً، وظنه من جنس إدراكنا وعلومنا الوهمية فتركبت الشبهة له من الظنون الكاذبة.
وتحقيق هذه الإدراكات وتمييزها حتى يعلم ما يختص به الحي منا ذو العقل والحس، وكيف تكون إدراكاته للأمور الموجودة، وتنزيه الباري - جل اسمه - عن جميعها إذ كانت هذه كلها منا انفعالات، أعني العلوم والمعارف كلها، وأنه لا يجوز أن نعلم شيئاً محسوساً ولا معقولاً بغير انفعال، وأن الله تقدس وتعالى ذكره - ليس بمنفعل، وإنما يعلم الأشياء بنوع أعلى وأرفع مما نعلمه - أمر صعب يحتاج فيه إلى تقدمة علوم كثيرة.
وفيما ذكرناه كفاية في إيضاح وجه شبهة لهذا الرجل فيما ذهب إليه.
مسألة حدثني عن ولوع الشاعر بالطيف
وتشبيبه به، واستهتاره بذكره
وهكذا تجد أصناف الناس.
وهذا معروف عند من عبثت به الصبابة، ولحقته الرقة، وألفت عينه حلية شخص ومحاسنه، وعلق فؤاده هواه وحبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الطيف هو اسم لصورة المحبوب إذا حصلته النفس في قوتها المتخيلة حتى تكون تلك الصورة نصب عينه، وتجاه وهمه كلما خلا بنفسه.
وهذه حال تلحق كل من لهج بشيء؛ فإن صورته ترتسم في قوته هذه التي تسمى المتخيلة وتكون ببطن الدماغ المقدم.
فإذا تكررت هذه الصورة على المحبوب على هذه القوة انتقشت فيها ولزمها.

فإذا نام الإنسان أو استيقظ لم تخل من قيام تلك الصورة فيها، ويجد المشتاق في النوم خاصة إنسانه؛ لأن النوم يتخيل فيه أشياء مما في نفسه، فربما رأى في النوم أنه قد وصل إليه الوصول الذي يهواه؛ فيكون من ذلك الاحتلام، واستفراغ المادة التي تحركه إلى الشوق والاجتماع مع المحبوب، فيزول عنه أكثر ذلك العارض، ويصير سبباً لبرء تام فيما بعد.

مسألة ما السبب في ترفع الإنسان عن التنبيه على نفسه
بنشر فضله، وعرض حاله وإثبات اسمه، وإشاعة نعته؟ وليس بعذ هذا إلا إثبات الخمول.
والخمول عدم ما، وهو إلى النقص ما هو؛ لأن الخامل مجهول، والمجهول نقيض المعدوم.
ولا تبارى في المعدوم، ولا تمارى في الموجود.
وكان منشأ هذه المسألة عن حال هذا وصفها: عرض بعض مشايخنا كتاباً له صنفه علينا، فلم نجده ذكر على ظهره: تأليف فلان، ولا تصنيفه، ولا ذكر اسمه من وجه الملك.
فقلنا له: ما هذا الرأى؟.
فقال: هو شيء يعجبني لسر فيه.
ثم أخرج لنا كتباً قد كتبها في الحداثة فيها اسمه، وقال: هذا أثر أيام النقص.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الفضل ينبه على نفسه، وليست حاجة إلى تنبيه الإنسان عليه من نفسه.
وذاك أن الفضائل التي هي بالحقيقة فضائل تشرق إشراق الشمس، ولا سبيل إلى إخفائها لو رام صاحبها ذلك.
وأما الشيء الذي يظن أنه فضيلة وليس كذلك فهو الذي يخفى.
فإذا تعاطى الإنسان مدح نفسه، وإظهار فضيلته بالدعوى تصفحت العقول دعواه فبان عواره، وظهر الموضع الذي يغلط فيه من نفسه.
فإن اتفق أن يكون صادقاً، وكانت فيه تلك الفضيلة فإنما يدل بتكلف إظهارها على أنه غير واثق بآراء الناس وتصفحهم، أو هو واثق ولكنه يتبجح عليهم ويفخر.
والناس لا يرضون شيئاً من هذه الأخلاق لدناءتها.
فأما الإنسان الكبير الهمة فإنه يستقل لنفسه ما يكون فيه من الفضائل؛ لسموه إلى ما هو أكثر منه، ولأن المرتبة التي تحصل للإنسان من الفضل وإن كانت عالية فهي نزر يسير بالإضافة إلى ما هو أكثر منه.
وهو متعرض لطباع الإنسان مبذول له، وإنما يمنعه العجز الموكل بطبيعة البشر عن استيعابه، وبلوغ أقصاه، أو يشغله عنه بنقائص تعوقه عن التماس الغاية القصوى من الفضائل البشرية.
مسألة سأل سائل عن النظم والنثر
وعن مرتبة كل واحد منهما، ومزية أحدهما، ونسبة هذا إلى هذا، وعن طبقات الناس فيهما؛ فقد قدم الأكثرون النظم على النثر، ولم يحتجوا فيه بظاهر القول، وأفادوا مع ذلك به، وجانبوا خفيات الحقيقة فيه، وقدم الأقلون النثر، وحاولوا الحجاج فيه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النظم والنثر نوعان قسيمان تحت الكلام، والكلام جنس لهما.
وإنما تصح القسمة هكذا: الكلام ينقسم إلى المنظوم وغير المنظوم.
وغير المنظوم ينقسم إلى المسجوع.
ولا يزال ينقسم كذلك حتى ينتهي إلى آخر أنواعه.
ومثال ذلك مما جرت به عادتك أن تقول: الكلام بما هو جنس يجري مجرى قولك الحي.
فكما أن الحي ينقسم إلى الناطق وغير الناطق.
ثم إن غير الناطق ينقسم إلى الطائر وغير الطائر.
ولا تزال تقسمه حتى ينتهي إلى آخر أنواعه.
ولما كان الناطق والطائر يشتركان في الحي الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل الناطق عن الطائر بفضل النطق - فكذلك النظم والنثر يشتركان في الكلام الذي هو جنس لهما، ثم ينفصل النظم عن النثر بفضل الوزن الذي به صار المنظوم منظوماً.
ولما كان الوزن حلية زائدة، وصورة فاضلة على النثر صار الشعر أفضل من النثر من جهة الوزن.
فإن اعتبرت المعاني مشتركة بين النظم والنثر.
وليس من هذه الجهة تميز أحدهما من الآخر، بل يكون كل واحد منهما صدقاً مرة، وكذباً مرة، وصحيحاً مرة، وسقيماً أخرى.
ومثال النظم من الكلام مثال اللحن من النظم، فكما أن اللحن يكتسي منه النظم صورة زائدة على ما كان له، كذلك صفة النظم الذي يكتسى منه الكلام صورة زائدة على ما كان له.
وقد أفصح أبو تمام عن هذا حين قال:
هي جوهر نثر فإن ألفته ... بالنظم صار قلائداً وعقوداً.
مسألة لم صار الحظر يثقل على الإنسان
؟
وكذا الأمر إذا ورد أخذ بالمخنق، وسد الكظم
وقد علمت أن نظام العالم يقتضي الأمر والنهي، ولا يتمان إلا بآمر وناه، ومأمور ومنهي.
وهذه أركان ودعائم.

ولكن ههنا مكتومة بالإشراف عليها يكمل الإنسان فيعرف الملتبس من المتخلص.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الأمر الذي أومأت إليه والحظر إنما يقعان في جنس الشهوات التي تجمح بالإنسان إلى القبائح، وبلزوم الأعمال التي فيها مشقة وتؤدى إلى المصالح.
ولما كان الإنسان ميله بالطبع إلى تعجل الشهوات غير ناظر في أعقاب يومه، وإلى الهويني والراحة في عاجل اليوم دون ما يكسب الراحة طول الدهر - ثقل عليه حظر شهواته، والأمر الذي يرد عليه بالأعمال التي فيها مشقة.
وهذه حال لازمة للإنسان منذ الطفولة؛ فإن أثقل الأشياء عليه منع والديه مأربه، وأخذهما إياه بلف الأعمال النافعة، ثم إذا كمل صار أثقل الناس عليه طبيبه ومعالجه، ونصيحه في المشوره، وسلطانه الذي يأخذه بمنافعه ومصالحه.
وهذه حال الناس المنقادين لشهواتهم، المتبعين لأهوائهم.
وقد يقع فيهم الجيد الطبع، الصحيح الروية، القوى العزيمة فلا يأتي من الأمور إلا أجملها، قامعاً لهواه، متحملاً ثقل مئونة ذلك؛ لما ينتظره من حسن العاقبة وإحمادها.
ومثل هذا قليل، بل أقل من القليل، وليس إلى أمثاله يوجه الخطاب بالأمر والنهى، ولا إياه خوف بالوعد والوعيد، وأنذر العذاب الأليم.

مسألة ما السبب في أن الخطيب على المنبر
وبين السماطين وفي يوم المحفل - يعتريه من الحصر والتتعتع والخجل في شيء
قد حفظه وأتقنه، ووثق بحسنه ونقائه؟ أتراه ما الذي يستشعر حتى يضل ذهنه، ويعصيه لسانه، ويتحير باله، ويملك عليه أمره.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن انصراف النفس بالفكر إلى جهة من الجهات يعوقه عن التصرف في غيرها من الجهات، ولذلك لا يقدر أحد أن يجمع بين الفكر في مسألة هندسية وأخرى نحوية أو شعرية.
بل لا يتمكن أحد من تدبير أمر دنيوي وآخر أخروي في حال واحدة.
ومن تعاطى ذلك فإنما يقطع لكل واحد جزءاً من الزمان وإن قل.
فأما أن يكون زمان هذا هو بعينه زمان هذا فلا.
وإنما عرض لنا هذا - معاشر الناس - لأجل التباسنا بالهيولى، واستعمال النفس للمادة والآلة.
والأمر في ذلك واضح بين مشاهد بالضرورة.
ولما كان الفكر يوم الحفل منصرفاً إلى ما ينصرف إليه من الناس عيب إن وجدوا، وتقصير إن حفظوا - اشتغل الإنسان بتخوف هذه الحال، وأخذ الحذر منها فكان هذا عائقاً عن الأفعال التي تخص هذا المكان.
وهذا الاضطراب من النفس هو الذي يجعل الآلات مضطربة حتى تحدث فيها حركات مختلفة على غير نظام، أعني التتعتع وما أشبهه، وذلك أن مستعمل الآلة إذا اضطرب تبعه اضطراب آلته لا محالة.
مسألة وما السبب في خجل النار إليه وحياء الواقف عليه
خاصة إذا كان منه بسبب، وضمهما نسب، ورجعا إلى حال جامعة، ومذهب مشترك وما الفاصل من المنظور إليه إلى الناظر؟ وما الواصل من المتكلم إلى السامع حتى يغضي طرفه حياله، ويسد أذنه.
هذا شيء قد شاهدته؛ بل قد دفعت إليه.
وإنما التأمت المسألة بالحادثة لأن التعجب تمكن، والاستطراف ثبت إلى أن وقف على السبب الجالب، والأمر الغالب.
وعند ظهور العلة يثبت الحكم، وبانكشاف الغطاء ينقطع ولوع المستكشف.
فسبحان من له هذه اللطائف المطوية وهذه الخبيئات الملوية عن العقول الزكية، والأذهان الذكية.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ينبغي أن نعيد ذكر السبب في الحياء والخجل ذكراً مجملاً فنقول: إن الحياء هو انحصار يلحق الناس خوفاً من قبيح.
فإذا كان هذا هو الحياء فإن الإنسان إذا كان بسبب من المتكلم لحق نفسه من العارض قريب مما يلحق المتكلم؛ لأنه يخشي من وقوع أمر قبيح منه، أو كلام يعاب عليه مثل ما يخشاه المتكلم.
وقد كنا أومأنا فيما سبق إلى أن النفس واحدة وإنما تتكثر بالمواد.
ولولا ذلك لما كان لأحد سبيل إلى أن ينقل ما في نفسه إلى نفس غيره بالإفهام وفيما مر من ذلك فيما مضى كفاية؛ لأن ما يحتاج إليه ههنا هو أن يظهر أن القبيح الذي يختص بزيد يعم عمراً أيضاً من جهة وإن كان عمرو غريباً من زيد فكيف إذا ضمه وإياه سبب أو نسب.

وليس يحتاج أن ينفصل من المنظور إلى الناظر شيء؛ لأن أفعال النفس وآثارها لا تكون على هذه الطريقة الحسية والجسمية، لا سيما واستشعار كل واحد من المتكلم والسامع استشعار واحد في تخوف القبيح، والحذر من الزلل والخطأ؛ فإن هذا الاستشعار يعرض منه الحياء والخجل كما قلنا.
ومتى غلب على ظن السامع أن المتكلم يسيء ويزيغ صار خوفه وحذره يقيناً أو شبيهاً باليقين فعظم العارض له من الحياء حتى يلحقه ما ذكرت من الحركة المضطربة.
وكذلك حال المتكلم إذا لم يثق بنفسه، أو لم تكن له عادة بالوقوف في ذلك المقام، والكلام فيه، فإن حذره يشتد، وحياءه يكثر، وبزيادة الحياء يزداد الاضطراب، ويمتنع القدر من الكلام الذي تسمح به النفس عند توفر قوتها، واجتماع بالها، وسكون جأشها، وهدوء حركاتها.

المسألة ما علة كراهية النفس الحديث المعاد
؟
وما سبب ثقل إعادة الحديث على المستعاد؟ وليس فيه في الحال الثانية إلا ما فيه في الحالة الأولى، فإن كان فارق بينهما فما هو؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن النفس تأخذ من الأخبار المستطرفة والأحاديث الغريبة عندها شبيهاً بما يأخذه من أقواته، وما حصلته النفس من المعارف والعلوم، فإعادته عليها بمنزلة الغذاء من الجسم الذي اكتفى منه.
فإذا أعيد عليه غذاء هو الأول ثقل عليه، واستعفى منه.
فكذلك حال النفس في المعارف.
وينبغي أن تؤخذ هذه الأمثلة التي أوردتها عن الأجسام على ما ليس بالجسم أخذاً لطيفاً لا يحصل منه ظل في تلك الأمور الشريفة فيفسد على الإنسان تخيله، ويذهب وهمه منه مذهباً غير لائق بالمعنى المقصود.
وأرجو أن يكفي الناظر في المسائل ما حددته فإني إنما أجبت من له قدم في هذه العلوم، وتحرم بها.
وينبغي لمن لم تكن له هذه الرتبة ان يرتاض أولاً بهذه العلوم ارتياضاً جيداً، ثم ينظر في هذه الأجوبة إن شاء الله.
مسألة سألني سائل فقال هل يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله
تعالى - بما يأباه العقل، ويخالفه ويكرهه، ولا يجيزه كذبح الحيوانات، وكإيجاب الدية على العاقلة.
وقد جهزت المسألة إليك، ووجهت أملي في الجواب عنها نحوك.
وأنت المدخر لغريب العلم، ومكنون الحكمة.
فإن تفضلت بالجواب وإلا عرضت عليك ما قلت للسائل، ورويت ما دار بيني وبين المجادل، فإن كان سديداً عرفتنيه، وإن كان ضعيفاً نصحتني فيه.
فالعلم بعيد الساحل، عميق الغور، شديد الموج.
ولولا فضل الله العظيم على هذا الخلق الضعيف لما وقف على شيء، ولا نظر في شيء، لكنه لطيف بعباده، رءوف يبتدىء بالنعمة قبل المسألة، وبالخير قبل التعرض.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: ليس يجوز أن ترد الشريعة من قبل الله - تعالى - بما يأباه العقل ويخالفه، ولكن الشاك في هذه المواضع لا يعرف شرائط العقل، وما يأباه.
فهو - أبداً - يخلطه بالعادات، ويظن أن تأبى الطباع من شيء هو مخالفة العقل.
وقد سمعت كثيراً من الناس يتشككون بهذه الشكوك، وحضرت خصوماتهم وجدالهم فلم يتعدوا ما ذكرته.
وينبغي أن نوطىء للجواب توطئة من كلام نبين فيه الفرق بين ما يأباه العقل وبين ما يأباه الطبع، ويتكرهه الإنسان بالعادة فنقول: إن العقل إذا أبى شيئاً فهو أبدى الإباء له، لا يجوز أن يتغير في وقت، ولا يصير بغير تلك الحال.
وهكذا جميع ما يستحسنه العقل أو يستقبحه.
وبالجملة فإن جميع قضايا العقل هي أبدية واجبة على حال واحدة أزلية، لا يجوز أن يتغير عن حاله.
وهذا أمر مسلم غير مدفوع، ولا مشكوك فيه.
فاما أمر الطبع والعادة فقد يتغير بتغير الأحوال والأسباب والزمان والعادات.
وأعني بقولي الطبع طبع الحيوان والإنسان، لا الطبيعة المطلقة الأولى.
وذاك أن اسم الطبيعة مشترك.
فقد بينا ما أردنا بالطبع.
وإذا كان ذلك بيناً من الأمثلة والأحوال المقر فإنا نعود فنقول: إذا ذبح الحيوان ليس من الأشياء التي يأباها العقل وينكرها؛ بل هو من القبيل الآخر، أعني من الأشياء التي يأباها بعض الطباع بالعادة.
ولو كان مما يأباه العقل لكان أبدياً لا يرضاه في وقت، ولا يأمره به، ولا يأنس له.
ونحن نشاهد من يأبى قتل الحيوان لأن عادته لم تجر به، ومتى جرت به عادته هان عليه، وسهل فعله، وجرى مجرى سائر الأفعال عند أصحابه.

وأنت ترى القصاب والجزار بل مشاهدي الحروب يهون عليهم ما يصعب على غيرهم.
وأيضاً فإن الحيوان الذي يألم بمرض لا يعرف علاجه إذا أشفق عليه العاقل، وكره مقاساته لما لا علاج له يأمر بذبحه؛ ليكون خلاصة في الموت الوحي.
أفترى العقل الذي أمر بذبحه يستحسن ما كان مستقبحاً له؟ أم تغير فعله الأبدي بطارىء طرأ، وحادث حدث؟ مع اعترافنا بأن العقل ليس من شأنه ذلك؛ لأنه جوهر أبدي، وجوهره هو حكمه، ولذلك هو أبدي الحكم.
فإننا لا نظن بأن حكم العقل على العدد والهندسة وسائر البراهين الطبيعية تغير عما كان عليه منذ عشرة آلاف سنة، أو يتغير إلى مثل هذا الزمان، أو أكثر أو أقل، بل نثق بأنه أبداً كان ويكون على وتيرة واحدة.
فأما الأمور التي تستقبح مرة، وتستحسن أخرى، وتتأبى تارة، وتتقبل ثانية فإنما لها أسباب أخر غير العقل المجرد.
فإن السياسات أبداً يعترض فيها ذلك، وأمراض الأبدان والأمور غير الأبدية كلها - أبداً - معرضة للتغير، ويتغير الحكم بتغيرها؛ بل لا يجوز أن تبقى لازمة بحال واحدة؛ لأنها أبداً في السيلان والدثور للزوم الحركة إياها.
والحركة نفسها هي تغير الأشياء المتحركة إذ كلها متغيرة.
وكذلك الزمان وما تعلق به هو يتغير بتغيره.
وما يعرض للإنسان من كراهية ذبح الحيوان إنما هو لمشاركته إياه في الحيوانية، ويخطر بباله عند مكروه ينال البهيمة أن مثل ذلك المكروه سيناله لمشاركته إياه في الحيوانية، فيحدث له من النفور عند هذا الخاطر ما يحدث لكل حيوان إذا تصور مكروهاً، حتى إذا أنس بذلك الفعل زال عنه ذلك النفور، وصار الذبح والتقصيب يجري عنه مجرى برى القلم، ونحت الخشب وكذلك حال من شاهد الحروب - وأنس بها عند العراء المستوحش منها.
وههنا حال أخرى أبين مما ذكرته، وهي أن العقل قد حسن عند الإنسان إذا حصل في مكروه غليظ من الأعداء كمن يرى في أهله وولده ما لا يطيق مشاهدته - أن يبذل نفسه للقتل، ويجتاز الموت الجميل على الحياة القبيحة.
وهذه الرخصة من العقل مستمرة في كل حال يقبح بالإنسان ان يعيش فيها.
أعني أن يختار الموت عليها.
فالجواب إذن عن أمثال هذه المسائل أن يقال: إن العقل لا يستحسن ولا يستقبح شيئاً منها إلا بقرائن وشرائط.
فأما هذا الفعل بعينه وحده فلا يتأباه ولا يتقبله، أعني لا يحكم فيه بحكم أبدي أولى كأحكامه التي عرفناها وأحطنا بها.
وهكذا الحال في الأشياء التي تعرف بالخير والشر، فإن كثيراً من الجهال يعتقد أن الأشياء كلها منقسمة إلى هذين.
وليس الأمر كذلك.
فإن اليسار والتمكن من الدنيا ليس بخير ولا شر حتى ينظر في ماذا يستعمله صاحبه: فإن استعمل يساره وماله في الأشياء التي هي خير فإن يساره خير، وإن استعمله في الشر فهو شر.
وكذلك كل شيء كان صالحاً للشيء ولضده فليس يطلق عليه أنه واحد منهما، بل الأولى أن يقال: إنه يصلح لهما جميعاً كالآلات التي يصلح بها ويفسد فإن الآلات لا توصف بأنها مصلحة ولا مفسدة، ولا تسمى أيضاً بالصلاح والفساد إلا بعد أن تستعمل.
فهكذا يجب أن يقال في الأمور التي تستحسن أو تستقبح في أحوال، وبحسب عادات إنها ليست حسنة عند العقل ولا قبيحة على الإطلاق حتى يتبين واضعها ومستعملها وزمانها وأحوالها.
فإن القصاص إذا وقع عليه هذا الاسم حس لما فيه من حياة الناس، وإذا وقع عليه اسم القتل بغير هذا الاعتبار صار قبيحاً لما فيه من تلف الحيوان.
وقد خرجت في هذه المسألة عن عادتي في هذا الكتاب من الاختصار والإيماء إلى النكت لكثرة ما أسمعه من جهال المانوية ومن اغتر بأمثلتهم، وجنح إلى أقاويلهم مصدقاً بالخديعة التي خلصوا بها إلى قلوب الأغمار من الناس حتى عدلوا بهم عن الشرائع الصحيحة.
ولو أن واحداً منهم سئل عن القبيح والحس مطلقاً أو مقيداً لما عرفه إلا على سبيل الاختلاط.
على انه لا يمتنع كل عاقل منهم إذا رأى حيواناً يضطرب ويطول ذماؤه في قروح خارجه به، أو قولنج قد يئس من برئه، أو مهواه تردى فيها فتكسر منها - أن يشير بذبحه وإن لم يتول ذلك بنفسه.
ولعل ضروباً من المكاره تلحق الحيوان إذا طال عمره ليست بدون ما ذكرناه خلاصه منها بالموت الوحي لو فطن له.
وإنما لا يتولى الذبح بنفسه، ويشير على غيره به لأجل العادة والاستشعار الذي لزمه.

ولو أن هذا العاقل منهم بلى بسلطان يعذبه عذاباً يريد به ان يأتي على نفسه في زمان طويل ليذيقه العذاب، لبادر إلى الحكم بما يأباه قبل، وتناول سم ساعة، أو سأل أن يراح من الحياة.
وكذلك لو فعل بولده، أو عترته، ما يكرهه لاختار الموت على رؤيته.
فكيف يكون المكروه مختاراً محبوباً والمستقبح مستحسناً من جهة العقل لولا ما ذكرناه.
فقد ظهر الجواب عن هذه المسألة، وتبين أن كل ما كان قبيحاً في وقت دون وقت لا يجوز ان ينسب إلى العقل المجرد، وإلى أحكامه الأولية الأزلية.
بل لا يقال فيه إنه قبيح ولا حسن على الإطلاق.
وإنما ينسب إلى الطباع والعادات، ثم يقال قبيح بحسب كيت وكيت، وحسن لكذا وكذا مقيداً غير مطلق، ولا منسوب إلى العقل المجرد.
فأما الدية التي على العاقلة، فقد تكلم الناس في وجه السياسة بها.
ووجه حسنها بين لا سيما والمسألة المتقدمة قد أوضحتها، وبينت وجه الصواب في أمثالها من الشبه.

مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في جواب أبي عثمان الجاحظ
عن التربيع والتدوير: لا يقدر أحد أن يكذب كذباً لا صدق فيه من جهة من الجهات، وهو يقدر أن يصدق صدقاً لا كذب فيه من جهة من الجهات.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن كان الصدق والكذب إنما يقعان في الخبر خاصة من بين أقسام الكلام.
والخبر الذي يسميه المنطقيون: القول الجازم، وهو الذي تقع فيه الفوائد.
وكانت أقسامه هي التي تكلم عليها أهل هذه الصناعة - فإن الخبر قد يكون كذباً محضاً كما يكون صدقاً محضاً.
وإن كان ذهب أحمد بن عبد الوهاب في الصدق والكذب إلى غير ما عرفه هؤلاء وتكلموا عليه فإني غير محصل له، ولا متكلم عليه.
مسألة ذكرت في هذه المسألة مسألة ذكرها أبو زيد البلخي حاكيا
ً
ومر أيضاً بجوابها راوياً
قال أبو زيد الفلسفي البلخي: قيل لبعض الحكماء ما معنى سكون النفس الفاضلة إلى الصدق، ونفورها عن الكذب؟ فقال: العلة في ذلك كيت وكيت.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما تسكن النفس الفاضلة إلى ما كان من الخبر مقبولاً، إما بوجوب مما اقتضاه دليل من برهان أو إقناع قوى، وما لم يكن كذلك فإن النفس - لا محالة - ترده وتأباه.
وأظن صاحب المسألة إنما أراد من هذه المسألة: كيف صارت النفس تسكن إلى الحق بالقول المرسل؟ فالجواب: أن النفس إنما تتحرك حركتها الخاصة بها - أعني إجالة الروية - طلباً للحق لتصيبه.
ولولا طلبها لما تحركت، ولولا حركتها هذه لما كانت حية تفيد الجسم أيضاً الحياة.
فالنفس بهذه الحركة الدائمة الذاتية حية.
بل الحياة هي هذه الحركة من النفس، وهي ذاتية لها كما قلنا.
وأنت تعرف ذلك قريباً من انك لا تقدر ان تعطلها من الروية والفكر لحظة واحدة؛ لأنها - أبداً - إما مروية جائلة في المحسوس، أو مروية جائلة في المعقول بلا فتور أبداً.
وكذلك هي دائمة الحركة.
وهذه الحركة إنما هي تلقاء أمر ما.
أعني به إصابة الحق فإذا أصابته سكنت من ذلك الوجه.
ولا تزال تتحرك حتى تصيب الحق من الوجوه التي تمكن إصابته منها.
فإذا أصابته سكنت؛ لأن غاية كل متحرك أن يسكن عند بلوغه الغاية التي تحرك إليها.
ولعلك تقف من هذا الإيماء على غور بعيداً جداً.
أعانك الله - تعالى - عليه بلطفه.
مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في معاياة الجاحظ
لم صار الحيوان يتولد في النبات، ولا يتولد النبات في الحيوان؟ أي قد تتولد الدودة في الشجرة، ولا تنبت شجرة في حيوان.
فلم لم يجب؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الحيوان يحتاج في وجوده إلى وجود النبات، والنبات لا يحتاج في وجود إلى وجود الحيوان.
والسبب في ذلك أن الحيوان أكثر تركيباً من النبات؛ لأنه مركب منه ومن جواهر أخر، أعني النفس الحيوانية، ولذلك يكون الحيوان في أول تكونه نباتاً، ثم تحصل من بعد حركة الحيوان.
وحصول أثر النفس في الإنسان إنما يكون بعد أن تستتم في الرحم صورة النبات.
ويكون استمداده الغذاء به هناك بعروق متصلة برحم أمه شبيهة بعروق النبات، حتى إذا استكمل أيضاً صورة الحيوان، وحصلت له النفس الحيوانية تقطعت تلك العروق، وهو الطلق الذي يلحق الأم، ويحرك الولد للخروج.
فإذا خرج وتنفس في الهواء فتح فمه واغتذى به.

ولا يزال تكمل فيه صورة الحيوان إلى أن يقبل أثر النفس الناطقة، ثم يكمل بها ويصير إنساناً بقدرة الله - تعالى - ولطف حكمته - جل اسمه - فالنبات - كما ذكرنا - أبسط وأقدم وجوداً من الحيوان.
أعني أنه لا يحتاج في وجوده إلى وجود الحيوان.
فهو يكتفي بمادته من الأرض والهواء والماء والحرارة التي تأتيه من الشمس حتى يتم ويحصل وجوده.
فأما الحيوان فلا يكتفي بتلك الأشياء حتى تنضاف إليها مادة أخرى تغذوه؛ إذ كان لا يكتفي بالبسائط من الماء والأرض والهواء، ويحتاج إلى النبات حتى يغذوه، ويكمل وجوده، ويحفظ عليه قوامه.
فإذا كان وجوده وقوامه بالنبات جاز أن يتولد فيه.
ولما كان وجود النبات يتم بغيره، ولا يحتاج إليه لم يتولد فيه.
ولو تولد النبات في الحيوان - مع أنه لا يغذوه ولا يحتاج إليه، والطبيعة لا تفعل شيئاً باطلاً ولا لغواً - لأفسد الحيوان، وفسد هو في ذاته: أما إفساده الحيوان، فلحاجته إلى ما يصرف فيه عروقه التي يمتص بها مادته التي تحفظ عليه ذاته، وتعوضه مما يتحلل منه، ومتى ضروب عروقه في بدن الحيوان تفرق اتصاله، وفي تفرق اتصال بدن الحي هلاكه.
وأما هلاكه في نفسه وفساده فلأنه لا يجد الماء البسيط، والأرض البسيطة، والهواء الذي منه قوامه ومادته، فإن الحيوان لا توجد فيه هذه البسائط بالفعل.
وهذا كاف في هذه المسألة.

مسألة ما سبب تساوي الناس في طلب الكيمياء
حتى إنك لتجد الغني في غناه، والمتوسط في توسطه، والفقير في فقره، على شيمة واحدة؟ وما هو أولاً؟ وهل له حقيقة؟ فقد طال خوض الخائضين فيه، وكثر كلام الناس عليه، واصطرع الحق والباطل، والخطأ والصواب، والإحالة فيه.
فكأن الذي يثبته غير متحقق به، والذي يدفعه غير ساكن إلى دفعه وإبطاله.
هذا، وقد تمت من الناس به حيل على الناس.
ومتى وقفت على هذه المسألة وقفت من الحقائق على غيب شريف، ومعنى لطيف.
وهل ما يعزى إلى جابر بن حيان حق، ولم يسند لخالد بن يزيد أصل؟ وهل يسلم مثل هذا النوع في الموضوع المختلق، والمفتعل المخترق؟ وإذا اشتبه الأمر هذا الاشتباه كيف نخلص إلى ما يرفع الريب، ويؤيد اليقين؟ فقد رأيت ورأينا ناساً اختلفت بهم أحوال، وتقلبت عليهم أمور بتصديق هذا الباب وتكذيبه.
وأطرف ما رأى فيه حلاوة الحديث، وخلا به المتحدث بذكره، وميل النفوس إليه حتى إن المكذب ليفرغ له باله، ويصغي أذنه، ويخلي ذهنه من غير أن يحلى بطائل، أو يحظى بنائل.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما سبب طلب الناس الكيمياء فظاهر بين، وهو أنهم حريصون على جميع المتع والشهوات المختلفة في المأكل والمشرب والمنكح والنزه التي تقتسم بين الحواس.
ومحبة الاستكثار والاستبداد، والنهم على الجمع والادخار شيء في الطبيعة.
وليس يوصل إلى جميع ذلك إلا بالذهب والفضة؛ لأنهما بإزاء جميع المآرب على اختلافها.
وكل إنسان يعلم أنه متى حصلهما أو واحداً منهما فقد حصل جميع المآرب على كثرتها متى هم بها وأرادها.
ومع ذلك فهو يعدها ذخراً لولده، ولأوقات شدته التي تلحقه من فجائع الدنيا ومحنها.
فبهذين الحجرين يتوصل إلى جميع ما ذكرناه، ويدفع جميع الشر والمحن أيضاً بهما.
فهذا سبب طلب الناس لهما، وحرصهم عليهما.
وليس يوصل إليهما إلا بالمخاطرات الكثيرة، وركوب الأهوال، وتجشم الأعمال الصعبة، وغير ذلك.
ثم هما معرضان للآفات والمتسلطين، وأهل العيث، وهما من هذه الجهة - إن صحت - أسهل شيء وأهونه.
فأما قوله: ما هو؟ وهل له حقيقة؟ فإن البحث المستقيم أن نبأ أولاً بهل هو، ثم بما هو.
وإذا بحثنا عن هل هو وجدنا الأمر فيه مشكلاً يحتاج فيه إلى أخذ مقدمات كثيرة طبيعية وصناعية.
وينبغي أن نورد شكوك الناس في تلك المقدمات، واحتياج من يروم حلها من مثبتي الصناعة فقد أكثروا في ذلك.
ثم نروم نحن النظر فيها.
وقد اختلفت المتقدمون من الفلاسفة في ذلك والمتأخرون.
وآخر من تكلم على بطلان الكيمياء، وإبطال دعاوي أصحابها يوسف بن إسحاق الكندي وكتابه مشهور في ذلك.
ورد عليه محمد بن زكريا الرزي وكتابه معروف.
ثم قد شاهدنا في أهل عصرنا جماعة يثبتون هذه الصناعة، والأكثرون يبطلونها.

فأما المتكلمون وطبقاتهم من أصناف الناس فمجمعون على إبطالها؛ لأنهم يزعمون أن في ذلك إبطال معجزات الأنبياء - صلوات الله عليهم - إذ كان ما يدعونه قلب الأعيان، وهو لا يصح عندهم إلا على يد نبي حسب.
وإن الله - عز وجل - هو القادر على قلب الأعيان دون مخلوقية.
ولكل حجج، وسننظر فيها نظراً شافياً، ونورد أقاويل الجميع، ويكون بحثنا عن ذلك بحث من قصده تعرف الحق دون الثمرة المرجوة من الكيمياء؛ فإن هذا هو غاية من يتفلسف في نظره وبحثه، ولا نبالي بعد ذلك صح أم بطل؛ لئلا تدعونا محبة صحته، ورجاؤنا إلى إثباته بخديعة النفس للهوى، أو نفيه على طريق العصبية.
وفي هذا النظر طول لا يحتمله هذا الكتاب مع ما شرطنا فيه من الإيجاز، ولكن سنفرد له مقالة كما فعلنا ذلك في مسألة العدل؛ لما طال الكلام فيها أدنى طول.
وإذا فعلنا هذا في المقالة التي وعدنا بها نظرنا: فإن صحت لنا هليته أتبعناها بالنظر في المائية، وإن بطل الأول بطل الثاني لا محالة.

مسألة قال أحمد بن عبد الوهاب في جواب التربيع والتدوير
لأبي عثمان الجاحظ: ما الفرق بين المستبهم والمستغلق
؟
وهذا بين الجواب ولكني سقته ههنا لكيت وكيت.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: المستبهم من الأمور مرتبة زائدة على المستغلق، يدلك على ذلك الاشتقاق؛ فإن الاشتقاق ملائم للمعاني موافق لها، لأن صاحبه إنما يشتق لكل معنى من إسم وافق له لا محالة وإلا لم يكن لاشتقاقه معنى، ولا لتكلفة ذلك فائدة.
وليس يظن هذا بالميز منا فكيف بواضع اللغة.
ولما كان الغلق إنما يكون للباب، وما أغلق منه يرجى فتحه كذلك يكون حال ما شبه له، واشتق له اسم منه أو تصريف.
وأما المستبهم فلا يقال في الباب أبهمته إلا إذا تجاوزت حد الغلق إلى السد وما يجري مجراه، فالطمع فيه أقل.
فهذه حال المسائل والأمور المستغلقة المستبهمة تشبيهاً بالأبواب التي ذكرنا أحوالها.
مسألة حضرت مجلساً لبعض الرؤساء
فتدافع الحديث بأهله على جده وهزله، فتحدى بعضهم الحاضرين، وقال: والله ما أدري ما الذي سوغ للفقهاء أن يقول بعضهم في فرج واحد: هو حرام، ويقول الآخر فيه بعينه: هو حلال.
والفرج فرج، وكذلك المال مال.
نعم وكذلك في النفس وما بعدها: كلام: هذا يوجب قتل هذا، وصاحبه يمنع من قتله.
ويختلفون هذا الاختلاف الموحش، ويتحكمون التحكم القبيح، ويتبعون الهوى والشهوة، ويتسعون في طريق التأويل.
وليس هذا من فعل الدين والورع، ولا من أخلاق ذوى العقل والتحصيل.
هذا، وهم يزعمون أن الله - تعالى - قد بين الأحكام، ونصب الأعلام، وأفرد الخاص من العام، ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا أودع كتابه، وضمن خطابه.
وهذه مسألة ليس يجب أن يكون مكانها في هذه الرسالة؛ لأنها ترد على الفقهاء، أو على المتكلمين الناصرين للدين.
لكني أحببت أن يكون في هذا الكتاب بعض ما يدل على أصول الشريعة.
وإن كان جل ما فيه منزوعاً من الطبيعة، ومأخوذاً من علية الفلاسفة، وأشياخ التجربة، وذوى الفضل من كل جنس ونحلة.
وعلى الله - تعالى - بلوغ الإرادة، والسلامة من طعن الحسدة.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما قول الفقهاء: إن الله - تعالى - بين الأحكام، ونصب الأعلام، ولم يترك رطباً ولا يابساً إلا في كتاب مبين - فكلام في غاية الصدق، ونهاية الصحة.
وكيف لا يكون كذلك وأنت لا تقدر أن تأتي بحكم لا أصل له من القرآن من تأويل يرجع إليه، أو نص ظاهر يقطع عليه، ثم لا يخلو مع ذلك من إنباء بغيب، وإخبار عما سلف من القرون، ومثل لما نوعد به، وإشارة إلى ما ننقلب إليه وتنبيه على ما نعمل به من سياسة دنيا ومصلحة آخرة.
فأما الذي سوغ للفقهاء أن يقولوا في شيء واحد إنه حلال وحرام فلأن ذلك الشيء ترك واجتهاد الناس فيه لمصلحة أخرى تتعلق على هذا الوجه بالناس، وذاك أن الاجتهاد لا يكون في الأحكام متساوياً، أعني أنه لا يؤدي إلى أمر واحد كما يكون ذلك في غير الأحكام من الأمور الواجبة.
وبيان هذا أن كل من اجتهد في إصابة الحق في أن الله - تعالى - واحد فطريقه واحد وهو - لا محالة - يجده إذا وفي النظر حقه، فإن عدل عن النظر الصحيح ضل وتاه، ولم يجد مطلوبه، واستحق الإرشاد أو العقوبة إن عاند.

وليس كذلك الإجتهاد في الأحكام؛ لأن بعض الأحكام يتغير بحسب الزمان، وبحسب العادة، وعلى قدر مصالح الناس؛ لأن الأحكام موضوعة على العدل الوضعي.
وربما كانت المصلحة اليوم في شيء وغداً في شيء آخر، وكانت لزيد مصلحة، ولعمر مفسدة.
وعلى أن الاجتهاد الذي يجري مجرى التعبد واختيار الطاعة، أو لعموم المصلحة في النظر والإجتهاد نفسه لا في الأمر المطلوب - ليس يضر فيه الخطأ بعد أن يقع فيه الإجتهاد موقعه، مثال ذلك أن المراد من ضرب الكرة بالصولجان إنما هو الرياضة بالحركة، فليس يضر أن يخطىء الكرة، ولا ينفع أن يصيبها، وإن كان الحكم قد أمر بالضرب والإصابة؛ لأن غرضه كان في ذلك الأمر نفس الحركة والرياضة.
وكذلك إن دفن حكيم في برية دفيناً وقال الناس: اطلبوه فمن جده فله كذا.
وكان غرضه في ذلك أن يجتهد الناس مقادير اجتهادهم؛ ليكون ذلك الطلب عائداً لهم بمنفعة أخرى غير وجود الدفين.
فإنه لا يضر أيضاً في ذلك أن يخطىء الدفين، ولا ينفع أن يصيبه.
وإنما الفائدة في السعي والطلب، وقد حصلت للطائفتين جميعاً.
أعني الذين وجدوه والذين لم يجدوه.
وأصناف الاجتهادات والنظر الذي يجري هذا المجرى كثيرة؛ فمن ذلك كثير من مسائل العدد والهندسة وسائر الموضوعات، ليس غرض الحكماء فيها وجود الغرض الأقصى من استخراج ثمرتها، وإنما مرادهم أن ترتاض النفس بالنظر، وتتعود الصبر على الروية والفكر إذا جريا على منهاج صحيح، ولتصير النفس ذات ملكة وقنية للفكر الطويل، ومفارقة الحواس والأمور الجسمية، فإذا حصلت هذه الفائدة فقد وجد الغرض الأقصى من النظر.
فما كان من الشرع متروكاً غير مبين فهو ما جرى منه هذا المجرى، وكان الغرض فيه والمصلحة منه حصول النظر والاجتهاد حسب.
ثم ما أدى إليه الاختلاف كله صواب وكله حكمة.
وليس ينبغي أن يتعجب الإنسان من الشيء الواحد أن يكون حلالاً بحسب النظر الشافعي، وحراماً بحسب نظر مالك، وأبي حنيفة؛ فإن الحلال والحرام في الأحكام والأمور الشرعية ليس يجري مجرى الضدين، أو المتناقضين في الأمور الطبيعية وما جرى مجراها؛ لأن تلك لا يستحيل أن يكون الشيء الواحد منها حلالاً وحراماً بحسب حالين، أو شخصين، أو على ما ضربنا له المثل من ضرب الكرة بالصولجان، ووجود دفين الحكيم على الوجه الذي اقتصصناه.
وإذا كان الأمر كذلك فينبغي للعاقل إذا نظر في شيء من أحكام الشرع وكان صاحب اجتهاد، له أن ينظر - أعني أنه يكون عالماً بالقرآن وأحكامه، وبالأخبار الصحيحة، والسنن المروية، والاجتماعات الصحيحة - أن يجتهد في النظر، ثم يعمل بجسب اجتهاده ذلك.
ولغيره إذا كان في مثل مرتبته من المعرفة أن يجتهد، ويعمل بما يؤديه إليه اجتهاده، وإن كان مخالفاً للأول، واثقاً بأن اجتهاده هو المطلوب منه، ولا ضرر في الخلاف، اللهم إلا أن يكون ذلك الأمر المنظور فيه من غير هذا الضرب الذي حكيناه، وضربنا له الأمثال.
مثل الأصول التي غاية النظر فيها هو إصابة الحق لا غير فإن هذا مطلب آخر، وله نظر لا بد أن يؤدي إليه.
وكما أن الرياضة المطلوبة بصرب الصولجان وإصابة الكرة إنما كانت لأجل الصحة، ثم لم يضر بعد حصول الرياضة التي حصلت بها الصحة كيف جرى الأمر في الكرة: أصبناها أم أخطأناها، فكذلك الحال في الوجه الآخر.
أعني الذي لا بد من إصابة الحق فيه بعينه فإن مثله مثل الفصد الذي لا بد في طلب الصحة من إصابته بعينه، وإخراج الدم دون غيره، ولا ينفع منه شيء غيره.
وإذا حصلت هذين الطريقين من النظر، وأعطيتهما قسطهما من التمييز لم يعرض لك العجب فيما حكيته من مسألتك، وخرج لك الجواب عنها صحيحاً إن شاء الله.

مسألة لم إذا عرفت العامة حال الملك في إيثار اللذة
وانهماكه على الشهوة، واسترساله في هوى النفس استهانت به، وإن كان سفاكاً للدماء، قتالاً للنفوس، ظلوماً للناس، مزيلاً للنعم؟ وإذا عرفت منه العقل والفضل والجد هابته، وجمعت أطرافها منه؟ ما شهادة الحال في هذه المسألة؛ فإن جوابها يشرح علماً فوق قدر المسألة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الملك هو صناعة مقومة للمدنية، حاملة للناس على مصالحهم من شرائعهم وسياساتهم بالإيثار، وبالإكراه، وحافظة لمراتب الناس ومعايشهم لتجري على أفضل ما يمكن أن تجري عليه.

وإذا كانت هذه الصناعة في هذه الرتبة من العلو فينبغي أن يكون صاحبها مقتنياً للفضائل كلها في نفسه؛ فإن من لم يقوم نفسه لم يقوم غيره، فإذا تهرب في نفسه بحصول الفضائل له أمكن أن يهذب غيره.
وحصول فضائل النفس يكون أولاً بالعفة التي هي تقويم القوة الشهوية حتى لا تنازع إلى ما لا ينبغي، وتكون حركتها إلى ما يجب، وكما يجب، وعلى الحال التي تجب.
وثانياً تقويم القوة الغضبية حتى تعتدل هذه القوة أيضاً في حركتها، فيستعملها كما ينبغي، وعلى من ينبغي، وفي الحال التي تنبغي، ويعدلها في طلب الكرامة، واحتمال الأذى، والصبر على الهوان بوجه وجه، والنزاع إلى الكرامة على القدر الذي ينبغي، وعلى الشرائط التي وصفت في كتب الأخلاق.
وإذا اعتدلت هاتان القوتان في الإنسان فكانت حركتهما على ما يجب معتدلة من غير إفراط ولا تقصير - حصلت له العدالة التي هي ثمرة الفضائل كلها.
وبحصول هذه الفضائل تقوى النفس الناطقة، وتستمر للإنسان الصورة الكمالية التي يستحق بها أن يكون سائس مدينة، أو مدير بلد.
ومتى لم تحصل هذه له فينبغي أن يكون مسوساً بغيره، مدبراً بمن يقومه ويعدله.
فأي شيء أقبح من عكس هذه الحال، وإجرائها على غير وجهها؟ وطباع الإنسانية تأبى الاعوجاج في الأمور فكيف الانتكاس، وقلب الأشياء عن جهاتها؟ فأما قولك: وإن كان الملك ذا بطش شديد، وعسف كثير بسفك الدماء، وانتهاك الحرم فهذه حال تنقصه من شروط الملك ولا تزيد فيه، وهو بأن يسقط من عين رعيته أقرب؛ إذ كانت شريطة الملك أن يستعمل هذه الأشياء على ما ينبغي، وعلى جميع الشرائط التي قدمت.
وهل هذا إلا مثل طبيب يدعى أنه يبرى من جميع العلل، ويتضمن بسلامة الأبدان على اختلاف أمزجتها، وحفظها على اعتدالاتها، ثم إذا نظر يوجد مسقاماً، مختلف المزاج بسوء التدبير.
ولما سئل، وتصفحت حاله جد من سوء البصيرة، وفساد التدبير لنفسه بحيث لا ينتظر منه إصلاح مزاج بدنه، فكيف لا يعرض من مثل هذا الضحك والاستهزاء، وكيف لا يستهين به من ليس بطبيب ولا يدعى هذه الصناعة إلا أنه على سيرة جميلة في بدنه، وسياسة صالحة لنفسه؟ فإن اتفق لهذا المدعي أن يتغلب ويتسلط، ويستدعي من الناس أن يتدبروا بتدبيره، فكيف لا يزداد الناس من النفور عنه، والضحك منه؟ فهذا مثل صحيح، مطابق للمثل به.
فينبغي أن ينظر فيه؛ فإنه كاف فيما سألت عنه إن شاء الله.

مسألة لم صار من يطرب لغناء ويرتاح لسماع يمد يده
ويحرك رأسه، وربما قام وجال، ورقص ونعر صرخ، وربما عدا وهام.
وليس هكذا من يخاف؛ فإنه يقشعر ويتقبض، ويواري شخصه، ويغيب أثره، ويخفض صوته، ويقل حديثه؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: هذه المسألة قد تقدم الجواب عنها كلامنا في سبب السرور والغم حيث قلنا: إن النفس عند السرور تبسط الدم في العروق إلى ظاهر البدن، وإنها عند الغم تحصره، وبانحصار الحرارة إلى عمق البدن، وإلى منشئها من القلب ما يكثر هناك البخار الدخاني ويبرزه إلى ظاهر البدن واشتقاق اسم الغم يدل على معناه؛ لأن القلب يلحقه ما يلحق الشيء الحار إذا غم فيمنع ذلك الحرارة من الانتشار والظهور إلى سطح البدن؛ ولذلك يتنفس الإنسان عند الغم تنفساً شديداً كثيراً؛ لحاجة القلب إلى هواء يخرج عنه الفضلة الدخانية التي فيه، ويجلب له هواء آخر صافياً ينمي الحرارة ويروحها، كالحال في النار التي من خارج.
وهاتان الحالتان متلازمتان، أعني مزاج القلب، وحركة النفس، وذلك أنه عرض للنفس انقباض غارت الحرارة من أقطار البدن إلى عمقه.
وإن اتفق لمزاج البدن غؤور من الحرارة، وانحصار إلى ناحية القلب انقبضت النفس لأن أحدهما ملازم للآخر تابع له؛ ولهذا ظن قوم أن النفس مزاج ما، وظن آخرون أنها حال تابعة لمزاج البدن.
والخمر وما يجري مجراها من الأشربة والأدوية التي تبسط الحرارة بلطفها، وتنميها وتنشرها إلى ظاهر البدن - يعرض منها السرور والطرب، والأدوية التي تبرد البدن، وتقبض الحرارة يعرض منها ضد ذلك.
والمزاج السودوي معه - أبداً - الغم، والمزاج الدموي معه - أبداً - السرور.

وكما أن الأدوية والأغذية يعرض منها للمزاج هذا العارض، وتتبعه حركة النفس، فكذلك الحديث والألحان، وصوت الآلات من الأوتار والمزامير - تحرك النفس أيضاً، ويتبع ذلك حركة مزاج البدن؛ لإتصال المزاج بالنفس.
ولأنهما متلازمان يؤثر أحدهما في الآخر، ويتبع فعل أحدهما فعل الآخر.
مسألة لم صار الكذاب يصدق كثيراً، والصادق يذب نادراً؟
وهل ينتقل إلف الصدق إلى الكذب؟.
وهل يتحول إلف الكذب إلى الصدق أن يستحيل ذلك؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن الصدق والكذب يجريان من النفس مجرى الصحة والمرض؛ لأن الصدق لها صحة ما، والكذب مرض ما.
وأيضاً فإن الصدق من الخبر يجري مجرى الصحة، والكذب منه يجري مجرى المرض.
فكما أن الصحة من الجسم أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون في عضو أو عضوين أو ثلاثة فكذلك الصحة في النفس أكثر من المرض؛ لأن المرض إنما يكون منها في قوة أو قوتين، وفي خلق أو خلقين.
وكما أن الجسم لو كثرت أمراض أعضائه، أو لو توالت أمراض كثيرة على عضو منه لأبطلته وأعدمته، فكذلك النفس لو كثرت امراض قواها، أو توالت أمراض كثيرة على قوة واحدة لأهلكتها.
وإنما الاعتدال الموضوع لكل واحد من الجسم والنفس هو الذي يحفظ عليه وجوده، فإن طرق واحداً منهما مرض في بعض الأحوال حتى يخرجه عن اعتداله فإنما يكون ذلك في جزء من الأجزاء، وقوة من القوى، ثم يكون ذلك زماناً يسيراً، ويرجع بعد ذلك إلى الاعتدال الموضوع له.
فأما إن توهم متوهم أن الأمراض تستولي على جميع أعضاء الجسم حتى لا يبقى منه جزء صحيح، أو تتوالى أمراض كثيرة في زمان طويل متصل على عضو واحد فإن ذلك وهم باطل؛ لأنه لو صح وهمه لبطل الجسم، أو ذلك العضو الذي توهم فيه.
والدليل على ذلك أن القلب لما كان مبدأ الحياة الذي منه تسري الحياة في جميع البدن صار محفوظاً غاية الحفظ من الأمراض؛ لأنه لو عرض له مرض لسرى ذلك المرض في جميع أجزاء البدن سريعاً، وعرض منه التلف السريع، والموت الوحي.
وهذه حال النفس في اعتدالها ومرضها.
ولما كان الكذب يعطيها صورة مشوهة، أي صورة الشيء على خلاف ما هو به صار المعطي والمعطي مريضين به؛ ولذلك لا يتكلف أحد ذلك، ولا يتعمده إلا لضرورة داعية، أو لأنه يظن بذلك الكذب أنه نافع له أيضاً كما ينفع السم الجسم في بعض الأحوال فيتجشم هذه السماجة على استكراه من نفسه، وربما تكرر منه ذلك فصار عادة، كما تصير سائر القبائح أخلاقاً وعادات، وكما تصير المآكل الضارة عادة سيئة لقوم.
وأيضاً فإن المعتاد للكذب إنما يتم له الكذب إذا خاطه بالصدق، وإذا سمع أيضاً منه الصدق، وإلا لم يتم له الكذب أيضاً؛ لأن الباطل لا قوام له إلا إذا امتزج بالحق.
فأما قولك: هل ينتقل من اعتاد الصدق على الكذب، أو من ألف الكذب إلى الصدق؟ فلولا ان ذلك ممكن ومشاهد في الناس لما وضعت السنن ولا قوم الأحداث، ولا عني الناس بتأديب أولادهم، ولا عاتب أحد أحداً، ولكن هذه الأشياء شائعة في الناس، ظاهرة فيهم.
وقد بين ذلك في كتب الأخلاق، فإن أردت استقصاءه فخذه من هناك إن شاء الله.

مسألة ذكرت - أيدك الله - مسائل لا تستحق الجواب
من آراء العامة، وجهالات وقعت لهم مثل قولهم: إذا دخل الذباب في ثياب أحدهم يمرض، وقولهم: دية نملة تمرة، وإذا طنت أذن أحدهم قالوا كيت وكيت.
وهذه المسائل وأشباهها إنما ينبغي أن يهزأ بها، ويتملح بإيرادها على طريق النادرة، فأما أن تطلب لها أجوبة فما أظن عاقلاً يعترف بها، فكيف نجيب عنها؟ والله يغفر لك ويصلحك.
مسألة ما الفرق بين العرافة والكهانة
والتنجيم والطرق، والعيافة، والزجر
؟
وهل تشارك العرب في هذه الأشياء أمة أخرى أم لا؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الفرق بين العرافة والكهانة فهو أن العراف يخبر عن الأمور الماضية، والكاهن يخبر بالأمور المستقبلة.
وذلك أن العرافة معرفة الآثار، والاستدلال منها على مؤثرها.
والكهانة هي قوة في النفس تطالع الأمور الكائنة بتخليها عن الحواس.
ومرتبتها عالية على العرافة.
وقد تكلمنا عليها في كتابنا الذي سميناه الفوز عند ذكرنا الفرق بين النبي والمتنبي، وفي القوة التي يكون بها الوحي، وكيفية ذلك فخذه من هناك.

وأما الفرق بين التنجيم وما يجري مجرى الفأل فظاهر؛ لأن التنجيم صناعة تتعرف بها حركات الأشخاص العالية وتأثيرها في الأشخاص السفلية.
وهي صناعة طبيعية، وإن كان قد حمل أكثر من طاقتها، أعني أن المنجم ربما تضمن العلم من جزيئات الأمور ودقائقها ما لا يوصل إليه بهذه الصناعة فيخبر بالكائنات على طريقة تأثير الشيء في مثله، وذلك ان الشمس إذا تحركت في دورة واحدة من أدوارها أثرت فيها ضروباً من التأثير في هذا العالم وكذلك كل كوكب من الكواكب له أثر بحركته ودورته وشعاعه الذي يصل إلى عالمنا هذا.
فالمنجم إنما يقول مثلاً: إن السنة الآتية تجتمع فيها دلائل الشمس وزحل فتؤثر في عالمنا هذا أثراً مركباً من طبيعتي هاتين الحركتين فتكون حال الهواء كيت وكيت.
وكذلك حال الاستقصات الأربع.
ولما كان الحيوان والنبات مركبين من هذه الطبائع وجب أن يكون كل ما أثر في بسائطها يؤثر أيضاً في المركبات منها.
فتأثير النجوم في عالمنا تأثير طبيعي.
والمنجم يخبر بحسب ما يحسب من حركاتها وشعاعاتها الواصل إلينا آثارها حكماً طبيعياً، وإن كان يغلط أحياناً بحسب دقة نظره، وكثرت الحركات والمناسبات التي تجتمع من جملة الأفلاك والكواكب، وقبول ما يقبل من أجزاء عالم الكون والفساد، وتلك الآثار مع اختلافها.
فأما أصحاب الفأل، وزجر الطير، وطرق الحصى، وما أشبه ذلك فإنها ظنون، والصدق فيها يكون على طريق الاتفاق، والنادر، وليس تستند إلى أصل، ولا يقوم عليها دليل؛ لأنها ليست طبيعية، ولا نفسانية، ولا إلهية، وإنما هي اختيارات بحسب الأوهام والظنون، وهي تكذب كثيراً، وتصدق قليلاً، كما يعرض ذلك لمن أخبر أن غداً يجىء المطر، أو يركب الأمير، بغير دليل ولا إقناع؛ بل تكلم بذلك، وأرسل الحكم به إرسالاً فربما صح ووافق أن يطايق الحقيقة، وفي الأكثر يبطل ولا يصح.
والأمم تشارك العرب في هذه الأشياء، إلا أن العرب تختص من العرافة ومن زجر الطير بأكثر مما في الأمم الأخر.

مسألة لم صارت أبواب البحث عن كل شيء موجود أربعة
؟
وهي: هل، والثاني ما، والثالث أي، والرابع لم
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لأن هذه الأشياء الأربعة هي مبادىء جميع الموجودات وعللها الأول.
والشكوك إنما تعرض في هذه، فإذا أحيط بها لم يبق وجه لدخول شك.
وذلك أن المبدأ الأول في وجود الشيء هو ثبات ذاته، أعني هويته التي يبحث عنها بهل، فإذا شك إنسان في هوية الشيء، أي في وجود ذاته لم يبحث عن شيء آخر من أمره.
فإذا زال عنه الشك في وجوده، وأثبت له ذاتاً وهوية جاز بعد ذلك أن يبحث عن المبدأ الثاني من وجوده وهو صورته، أعني نوعه الذي قومه، وصار به هو ما هو، وهذا هو البحث بما؛ لأن ما هي بحث عن النوع، والصورة المقومة.
فإذا حصل الإنسان في الشيء المحجوب عنه هذين، وهما: الوجود الأول والهوية التي بحث عنها بهل، والوجود الثاني وهو النوعية أعني الصورة المقومة التي بحث عنها بما - جاز أم يبحث عن الشيء الذي يميزه من غيره، أعني الفصل، وهذا هو المبدأ الثالث؛ لأن الذي يميزه من غيره هو الذي يبحث عنه بأي، أعني الفصل الذاتي له.
فإذا حصل من الشيء المبحوث عنه هذه المبادىء الثلاثة لم يبق في أمره ما يعترضه شك، وصح العلم به إلا حال كماله، والشيء الذي من أجله وجد، وهذه العلة الأخيرة التي تسمى الكمالية وهي أشرف العلل.
وأرسططاليس هو أول من نبه عليها واستخرجها، وذاك أن العلل الثلاث هي كلها خوادم وأسباب لهذه العلة الأخيرة، وكأنها كلها إنما وجدت لها ولأجلها.
وهذه التي يبحث عنها بلم.
فإذا عرف لم وجد، وما غرضه الأخير، أعني الذي وجد من اجله - انقطع البحث، وحصل العلم التام بالشيء، وزالت الشكوك كلها في أمره، ولم يبق وجه تتشوقه النفس بالروية فيه، والشوق إلى معرفته؛ لأن الإحاطة بجميع علله ومبادئه واقعة حاصلة، وليس للشك وجه يتطرق إليه، فلذلك صارت البحوث أربعة لا أقل ولا أكثر.
مسألة ما المعدوم؟ وكيف البحث عنه؟ وما فائدة الاختلاف فيه؟
وما الذي أطال المتكلمون الكلام في اسمه ومعناه؟ وهل لقولهم محصول؟ فإني ما رأيت مسألة لا تمكن من نفسها غيرها.

الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن المعدوم الذي يشير إليه المتكلمون خاصة هو موجود بوجه من الوجوه؛ ولذلك صحت الإشارة إليه، والكلام عليه.
ومثال ذلك أن زيداً إذا توهم معدوماً فإن صورته قائمة في وهم المتكلم على عدمه.
وتلك الصورة له في الوهم هي وجود ماله.
وكذلك حال كل ما يتوهمونه معدوماً من جسم، أو عرض، أو حال، لا معدومة بل ملحوظة.
والدليل على ذلك أنا لا نتوهم شيئاً معدوماً إلا نتصور له حالاً قد وجد فيها، أو يوجد فيها، وصورته تلك قائمة في وهمنا، وهي وجود ما.
فأما المعدوم المطلق الذي لا يستند إلى شخص ما، ولا إلى عرض فيه، وحال له، فإنه لا يضبط بوهم، ولا يتكلم عليه، ولا تصح مسألة أحد عنه؛ لأنه لا شيء على الإطلاق.
وإنما تصح المسألة عن شيء ثم، تعرض له أحوال إما حاضرة فيه، أو منتظرة له؛ ولذلك زعم أكثر المتكلمين أن المعدوم هو شيء، وزعم بعضهم أنه لا شيء، أعني أنهم لا يسمونه بشيء.
وإنما عرض لهم هذا الخلاف لأن منهم من لحظه من حيث الوهم، ومنهم من لحظة من حيث الحس.
فمن لحظه في وهمه أثبته شيئاً، ومن لحظه من حسه لم يثبته شيئاً.
والدليل على أن المعدوم الذي يشيرون إليه هو ما ذكرناه، وعلى الحال التي وصفناها - أن القوم إذا تعاوروا مسألة المعدوم سألوا عن الجوهر: هل هو في العدم؟ وعن السواد هل هو سواد العدم؟ وكذلك جميع أمثلتهم إنما هي من أمور محسوسة، إذا صارت غير محسوسة كيف تكون أحوالها؟ ثم يكون جوابهم عن ذلك بما يتصور منه للنفس، ويقوم في الوهم، فيقولون في السواد الذي حقيقته أنه أثر في البصر من مؤثر يعرض منه القبض: إنه في العدم أيضاً كذلك.
كأنهم يتوهمون أنه يفعل بالبصر وهو معدوم ما يفعله وهو موجود.
وإنما عرض لهم هذا الوهم لأن القوة التي ترتقي إليها الحواس تقبل شبيهاً بالآثار التي تقبلها.
أي تحصل لها الصورة مجردة من المادة، وهذا هو العلم الحسي.
لو أمكنهم إثبات صورة عقلية ونفيها لتكلموا على الموجود العقلي، والمعدوم العقلي.
ولو أمكنهم ذلك لجاز أن يسألوا أيضاً عن العدم المطلق: هل يشار إليه أم لا يشار إليه؟ ولكن هذه الأمور غابت عنهم.
وإنما سألت عن مذاهبهم، وعما يسألون عنه، وقد خرج الجواب، ولاح لك بمشيئة الله.
مسألة سمعت شيخاً من الأطباء يقول
أنا أفرح ببرء العليل على تدبيري، وأسر بذلك جداً.
قلت له: فما تعرف علة ذلك؟.
قال: لا.
فذكرت له ما يمر بك في الجواب إن شاء الله.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما فرح الطبيب بنفسه، وصحة علمه؛ وذاك إنه إذا شاهد عليلاً احتاج أن يتعرف أولاً علته حتى يعملها على الصحة والحقيقة.
فإذا علمها قابلها بضدها من الأدوية والأغذية فيكون ذلك سبباً لبرء العليل.
فالطبيب حينئذ يكون قد أصاب في معرفة العلة، ثم في مقابلتها بالدواء الذي هو ضدها.
وهذه الإصابة والمعرفة هي الحال التي يلتمسها بعلمه، ويسعى لها طول زمان درسه ورويته.
ومن شان النفس إذا تحركت نحو مطلوب حركة قوية في زمان طويل، بشوق شديد، ثم ظفرت به فرحت له، ولحقها انبساط وسرور عجيب.

مسألة ثم قلت - أيدك الله - سئل ابن العميد
لم لم يتفق الناس في التعامل على المثامنة بالياقوت والجوهر، أو بالنحاس والحديد والرصاص دون الفضة والذهب؟ وما الذي قصرهم عليهما مع إمكان غيرهما أن يقوم مقامها، ويجري مجراهما؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد تبين أن الإنسان لا تتم له الحياة بالتفرد؛ لحاجته إلى المعاونات الكبيرة ممن يعد له الأغذية الموافقة، والأدوية، والكسوة، والمنزل والكن، وغير ذلك من سائر الأسباب التي بعضها ضرورية في المعيشة، وبعضها نافعة في تحسين العيش وتفضيله، حتى يكون لذيذاً أو جميلاً أو فاضلاً.
وليس يجرى الإنسان مجرى سائر الحيوانات التي أزيحت علتها في ضرورات عيشها وفيما تقوم به حياتها بالطبع.
فالاهتداء إلى الغذاء والرياش وغيرهما من حاجات بدنه؛ ولذلك أمد بالعقل، وأعين به ليستخدم به كل شيء، ويتوصل بمكانه إلى كل أرب.

ولما كان التعاون واجباً بالضرورة، والاجتماع الكثير طبيعياً في بقاء الواحد - وجب لذلك أن يتمدن الناس، أي يجتمعوا ويتوزعوا الأعمال والمهن ليتم من الجميع هذا الشيء المطلوب، أعني البقاء والحياة على أفضل ما يمكن.
ولما فرضنا أن الاجتماع قد وقع، والتعاون قد حصل عرض أن النجار الذي يقطع الخشب ويهيئه للحداد، والحداد الذي يقطع الحديد ويهيئه للحراث، وكذلك كل واحد منهم إذا احتاج إلى صاحبه الذي عاونه قد يقع استغناء صاحبه عنه في ذلك الوقت، فإن الحداد إذا احتاج إلى صناعته الحياكة، وصاحب الثوب غير محتاج إلى صناعة الحداد وقف التعاون، ولم تدر المعاملة، وحصل كل واحد على عمله الذي لا يجدي عليه فيما يضطر إليه من حاجات بدنه التي من أجلها وقع التعاون، واحتيج لذلك إلى قيم للجماعة، ووكيل مشرف على أعمالهم ومهنهم، موثوق بأمانته وعدالته؛ ليقبل الجميع أمره، ويصير حكمه جائزاً، وأمره نافذاً مصدقاً، وأمانته صحيحة؛ ليأخذ من كل أحد، ويستوفي عليه قدر ما عاون به، ويعطيه من معاونة غيره بقسطه من غير حيف.
وإنما يتم له ذلك بأن يقوم عمل كل واحد منهم ويحصله، ثم يعطيه بمقدار تعبه وعمله من عمل الآخر الذي يلتمس معاونته.
وهذا الفعل أيضاً لا يتم لهذا القيم المستوفي أعمال الناس إلا بأن يأتيه كل من عمل عملاً، فيعرضه عليه، ويأخذ منه علامة من طابع أو غيره يكون في يده متى عرضه قبل ولم ينس، وعرفت صحة دعواه، وأعطى به من تعب غيره بمقدار.
ثم لما نظر في هذا الشيء الذي يحتمل أن يكون بهذه الصفة فلم يمكن أن يجعل من الأشياء الموجودة دائماً، ومما يقدر كل أحد على تناوله، ومد اليد إليه؛ لئلا يحصله من لا يعمل عملاً، ولا يعين أحداً بكده، ويتوصل به إلى كد غيره وتعبه فيؤدي إلى خلاف ما دبر لإتمام المدنية والتعاون، فوجب أن يكون هذا الطابع من جوهر عزيز الوجود؛ ليمكن حفظه، والاحتياط عليه، ولا يصل إلا من جهة ذلك القيم إلى مستحقه الذي يعرض عمله وكده، ووجب مع ذلك أن يكون مع عزة وجوده غير قابل للفساد من الماء والنار والهواء بنحو ما يمكن ذلك في عالمنا هذا؛ فإنه كان شيئاً مما يبتل بالماء، أو يحترق بالنار، أو تفسد صورته بعض العناصر الأربع - لم يأمن صاحب التعب الكثير أن يحصله ثم يفسده عنده، فيضيع عمله، ولا يصدق فيما أعان به، وكد فيه فوجب أن يكون هذا الطابع حافظاً لصورته، خفيف المحمل مع ذلك، مأموناً عليه الفساد مدة طويلة من الطبائع الأربع، ومن الفساد الذي يكون بالمهنة أيضاً كالكسر والرض وغيرهما.
ولما تصفحت الموجودات لم يوجد شيء يجمع هذه الفضائل إلا الأشياء المعدنية، ومن بين الأشياء المعدنية الجواهر التي تذوب بالنار، وتجمد بالهواء.
ومن بين هذه الذهب وحده؛ فإنه أبقاها وأعزها وأحفظها لصورته، وأسلمها على النار والهواء والماء والأرض، وهو مع ذلك سليم على الكسر والقطع والرض يعيد صورة نفسه بالذوب، ويحفظها من جميع عوارض الفساد زماناً طويلاً جداً.
فجعل صورة مقوماً للصنائع، وعلامة لهذا القيم، ثم احتيط عليه بأن طبع بخاتمه وعلاماته.
كل ذلك خوفاً من توصل الأشرار إليه ممن يرتفق من عمل غيره، ولا يرفق غيره، فإن هذا الفعل هو الظلم الذي يرتفع به التعاون، ويزول معه النظام، ويبطل بسببه الاجتماع والتعايش.
ثم لما وجد هذا الجوهر جمع هذه الفضائل، ويحيط عليه ضروب الاحتياطات من أن يصل إلى غير مستحقه - عرض فيه عارض آخر، وهو أن الذي عاون الناس بمعاونة استحق بها شيئاً منه ربما احتاج إلى معاونة يسيرة لا تساوي تعبه الأول، ولا تقرب منه، ولا تقرب منه.
مثال أنه ربما تعب الإنسان أما ليحصل لغيره عمل الرحى بمئونة وكلفة وحكمة بليغة.
فإذا أعطى من هذا الجوهر قيمة عمله ثم احتاج إلى بقل أو خلال أو عرض يسير لا يستطيع أن يعطيه شيئاً من الجوهر الذي عنده، ولا أقل القليل منه؛ لأن الجزء اليسير جداً منه أكثر قيمة من العمل الذي يلتمسه من غيره.

فاحتيج لذلك إلى جوهر آخر تكون فضائله أنقص من الذهب؛ ليصير خليفة له يعمل عمله، وإن كان دونه، فلم يوجد ما يجمع تلك الفضائل التي حكيناها في الذهب شيء غير الفضة، فجعلت نائبة عنه ثم جعل كل واحد من الذهب يساوي عشرة أضعافه من الفضة؛ لأن العشرة نهاية الآحاد فوجب لذلك أن تكون قيمة الواحد من ذلك الجوهر عشرة أمثاله من هذا الجوهر.
فاما التفاوت الذي وقع بين صرف الدينار والدرهم، أعني أن صار منه الواحد بخمسة عشر درهماً ونحوها، وهي المسألة التي جعلتها تالية لهذه المسألة - فإنما ذلك لأجل التفاوت في الوزن بين المثقال والدرهم ثم لأجل الغش الذي يكون في أحدهما.
والأمر محفوظ مع ذلك في أن الواحد من الذهب بإزاء عشرة من الفضة إذا كان كل واحد منهما غير مشوب ولا مغشوش.
مسألة متى تصل النفس بالبدن؟ ومتى توجد فيه؟
أفي حال ما يكون جنيناً أم قبلها أم بعدها؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن اتصال النفس بالبدن، ووجودها فيه ألفاظ متسع فيها.
والأولى أن يقال: ظهور أثر النفس في البدن على قدر استعداد البدن، وقبوله إياه.
وإنما تحرزنا من تلك الألفاظ لأنها توهم أن لها اتصالاً عرضياً أو جسمياً وكلا هذين غير مطلق على النفس.
والأشبه إذا عبرنا عن هذا المعنى أن تقول: إن النفس جوهر بسيط إذا حضر مزاج مستعد لأن يقبل له أثراً كان ظهورك ذلك الأثر على حسب ذلك الاستعداد؛ لنسلم بهذه العبارة من ظن من زعم أن النفس تتقلب وتفعل أفعالها على سبيل القصد والاختيار، أعني أنها تفعل في حال، وتمنع في أخرى؛ فإن هذا يجلب كثيراً من الشكوك التي لا تليق بخصائص النفس وأفعالها.
وإذ قد تحققت هذه العبارة فنقول: إن النطفة التي يكون منها الجنين إذا حصلت في الرحم الموافق كان أول ما يظهر فيه من أثر الطبيعة ما يظهر مثله في الأشياء المعدنية.
أعني أن الحرارة اللطيفة تنضجه وتمخضه، وتعطيه - إذا امتزج بالماء الذي يوافقه من شهوة الأنثى - صورة مركبة كما يكون ذلك في اللبن إذا مزج بالإنفحة.
أعني أنه يثخن ويخثر، ثم تلج عليه الحرارة حتى يصير ملوناً بالجمرة فيصير مضغة، ثم يستعد بعد لقبول أثر آخر: أعني أن المضغة تستمد الغذاء، وتتصل بها عروق كعروق الشجر والنبات، فيأخذ من رحم أمه بتلك العروق ما تأخذه عروق الشجر من تربته، فيظهر فيه أثر النفس النامية، أعني النباتية، ثم يقوى هذا الأثر فيه، ويستحكم على الأيام حتى يكمل، وينتهي بعد ذلك إلى أن يستعد لقبول الغذاء بغير العروق، أعني أنه ينتقل بحركته لتناول غذائه، فيظهر فيه أثر الحيوان أولاً أولاً.
فإذا كمل استعداده لقبول هذا الأثر فارق موضعه، وقبل أثر النفس الحيوانية، ثم لا يزال في مرتبة البهائم من الحيوان إلى أن يصير فيه استعداد لقبول أثر النطق.
أعني التمييز والروية.
فحينئذ يظهر فيه أثر العقل، ثم لا يزال يقوى هذا الأثر فيه على قدر استعداده وقبوله حتى يبلغ نهاية درجته وكماله من الإنسانية، ويشارف الدرجة التي تعلو درجة الإنسان فيستعد لقبول أثر الملك.
فحينئذ يجب أن ينشأ النشأة الآخرة بحال أقوى من الحالة الأولى المتقدمة.
وهذا الكلام ليس يقتضي أن يقال فيه: متى تتصل وتنفصل، بل من شأن القائل له أن يقال فيه: متى يستعد ويقبل.
وأما النفس فهي معطية للذات كل ما قبل أثرها بحسب قبوله واستعداده وتهيئه.
وقد تبين أنها تعطي البدن أحوالاً مختلفة، وصوراً متباينة قبل أن يكون جنيناً، وبعد أن تتم الصورة الإنسانية ليس ينقطع أثر النفس من البدن ألبتة على ضروب أحواله إلى أن يدور ضرب أدواره، وينتهي إلى غاية كماله.
ولا ينبغي أن يقال إنه يخلو منها في حال من أحواله، وإنما يقوى الأثر ويضعف بحسب قبوله.
والسلام.

مسألة سئل بعضهم إذا فارقت النفس الجسد
هل تذكر من علومها شيئاً أم لا؟ فأجاب بأنها تذكر المعقول كله، ولا تذكر المحسوس.
فزاد السائل بما يعرض للعليل من النسيان؟ أي كيف تذكر النفس معقولها إذا فارقت البدن وهي لا تذكر شيئاً منه إذا اعتل البدن، أو بعض أعضاء البدن؟ فأجاب بما سيمر بك.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما يظهر أثر النفس في البدن بحسب حاجة البدن، وعلى قياس ما حكيناه من حالاته في الترقي من حال إلى حال.

والتذكر إنما هو إحضار صور المحسوسات من قوة الذكر إلى قوة الخيال.
وهاتان القوتان جميعاً إنما تحصلان صور المحسوسات من الحواس أولاً في حواملها من الأجسام الطبيعية، ثم تحصلانها بسيطاً في غير حامل جسمي بل في قوة النفس المسماة ذكراً.
وإنما احتيج إلى هذه القوة لأغراض البدن وحاجته إلى الشيء بعد الشيء.
فإذا استحال البدن، وزالت الحاجة إلى الحواس سقطت الحاجة إلى الذكر أيضاً، وصارت النفس مستغنية بذاتها وما فيها من صور العقل، أعني التي تمسى أوائل؛ لأن تلك هي ذات العقل غير محتاجة إلى مادة، ولا إلى جسم توجد بوجوده، أعني أن الأمور الموجودة في العقل هي العقل، وهي التي نسميها الآن أوائل وليست في مادة، ولا محتاجة إليها.
وجميع قوى النفس التي تتم بالبدن وبآلات جسمية فإنها تبطل ببطلان البدن، أي تستغني عنها النفس بما هي نفس وجوهر بسيط.
وإنما احتاجت إليه لأجل حاجات البدن المشارك للنفس، المستمد منها البقاء الملائم لها إذا كان نباتاً أو حيواناً أو إنساناً.
فأما النفس بما هي جوهر بسيط فغير محتاجة إلى شيء من هذه الآلات الجسمية.
وإنما عرضت لك هذه الحيرة لأنك سألت عن أمر بسيط مع توهمك إياه مركباً، وحال المركب غير حال البسيط، أعني أن الآلات البدنية كلها هي أيضاً مركبة نحو تمامات لها؛ ليكمل بها أيضاً شيء مركب.
والحواس الخمس، والقوى التي تناسبها من التخيل، والوهم، والفكر لا تتم إلا بآلات وأمزجة مناسبة تتم بها أفعال مركبة.
فإذا عادت الجواهر إلى بسائطها بطل الفعل المركب أيضاً ببطلان الآلات المركبة، واستغني الجوهر البسيط القائم بذاته عن حاجات البدن وضروراته التي تم وجوده بها من حيث هو مركب لأجلها.

مسألة سأل عن الحكمة في كون الجبال
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إن منافع الجبال ووضعها على بسيط من الأرض كثير جداً، ولولاها ما وجد نبات ولا حيوان على بسيط الأرض؛ وذلك أن سبب وجود النبات والحيوان، وبقائهما بعد هو الماء العذب السائح على وجه الأرض.
وسبب الماء العذب السائح هو انعقاد البخار في الجو.
أعني السحاب وما يعرض له من الانحصار بالبرد حتى يعود منه إما مطر، وإما ثلج، وإما برد.
ولو أنك توهمت الجبال مرتفعة عن وجه الأرض، وتخيلت الأرض كرة مستديرة لا نتوء ولا غور فيها لكان البخار المرتفع من هذه الكرة لا ينعقد في الجو، ولا ينحصر، ولا يعود منه ماء عذب.
بل كان غاية ذلك البخار أن يتحلل ويستحيل هواء قبل أن يتم منه ما هو سبب عمارة وجه الأرض؛ وذلك لأجل أن البخار المرتفع من الأرض يحصل بين أعوار الأرض، وبين الجبال التي تمنعه السيلان، ومطاوعة حركة الفلك، وأسباب الرجة التي هي حركة الهواء.
أعني أن قلل الجبال الشاهقة تحفظ الهواء المحتقن يين أغوارها من الحركة التي يوجبها الفلك بأسره، والكواكب فيها، وشعاعاتها المؤثرة الملطفة التي توجب لها السيلان.
فإذا حصل الهواء بين الجبال كذلك - كان البخار المرتفع فيه أيضاً محفوظاً من التبدد والحركة بتحرك الهواء، ولحق هذا البخار من برد الجبال التي تحفظه في زمان الشتاء على أنفسها ما يجمده ويعقده، ثم يعصره فيعود ماء مستحيلاً، أو غيره مما يجري مجراه.
ولولا الجبال لكانت هذه المياه المدبرة بهذا التدبير مه ما ذكرناه لا تجري على وجه الأرض إلا ريثما يهدأ المطر، ثم تنشفه الأرض، فكان يعرض من ذلك أن يكون النبات والحيوان يعدمه في صميم الصيف، وعند الحاجة الشديدة إليه في بقائهما، حتى كان لا يوصل إليه إلا كما يوصل في البوادي البعيدة من الجبال، أعني باحتفار الآبار التي يبلغ عمقها مائة، ومائتين من الذرعان.
فأما الآن - مع وجود الجبال - فإن الأمطار والثلوج تبقى عليها، فإذا نشفتها في الوقت أو بعد زمان نشأت من أسافلها العيون، وسالتت منها الأنهار والأودية، وساحت على وجه الأرض منصبة إلى البحار، جارية من الشمال إلى الجنوب فإذا فنى ما استفادته من الأمطار في الصيف لحقتها نوبة الشتاء والأمطار، فعادت الحال.
والدليل على أن العيون والأنهار والأودية كلها من الجبال أنك لا ترتقى في نهر ولا واد إلا أفضى بك إلى جبل.
فأما العيون فإنها لا توجد إلا بالقرب من الجبال البتة.
وكذلك ما يستنبط من القنى، وما يجري مجراها.

فالجبال تجري من الأرض في إساحة الماء عليها من الأمطار مجرى إسفنجة أو صوفة تبل بالماء فتحمل منه شيئاً كثيراً، ثم توضع على مكان يسيل منه الماء قليلاً قليلاً، حتى إذا جفت أعيد بلها وسقيها من الماء؛ لتدوم الرطوبة السائلة منها على وجه الأرض، ويصير هذا التدبير سبباً لعمارة العالم، ووجود النبات والحيوان فيه.
وللجبال منافع كثيرة، إلا أن ما ذكرناه من أعظم منافعها فليقتصر عليه.
ولثابت مقالة في منافع الجبال من أحب أن يستقصي هذا الباب قرأه من تلك المقال إن شاء الله.
مسألة لم صارت الأنفس ثلاثاً في العدد؟
وهل يجوز أن تكون اثنتين؟ أو هل يستحيل أن تكون أربع؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: النفس في الحقيقة واحدة، وإنما يظهر أثرها - كما قلنا فيها فيما تقدم - بحسب قبول القابل.
وإنما قيل إنها ثلاث لأن من شأن الشيء الذي يبدأ أثره ضعيفاً ثم يقوى غاية القوة أن ينقسم ثلاثة أقسام، أعني الابتداء، والتوسط، والنهاية.
ولما كان مبدأ أثر النفس في النبات، أعني أنه يظهر فيه معنى يقبل الغذاء الموافق، وينفض الفضلة وما ليس بموافق، ويحفظ صورته بالنوع - سمي هذا الطرف الأول نفساً نباتية.
ثم لما قوى هذا الأمر حتى صار ينتقل لتناول غذائه، وصارت له حواس وإرادة سميت هذه المرتبة: المتوسطة والحيوانية.
ولما قوى هذا الأثر حتى صار - مع هذه الأحوال - يرتئي ويفكر، ويستعمل التمييز بتقديم المقدمات، واستنتاج النتائج، ثم يعمل أعماله بحسبها سمي ناطقاً، وعاقلاً، وما أشبه ذلك.
ولكل واحد من هذه المراتب لو قسمت - مراتب كثيرة.
إلا أن الأولى في كل ما جرى هذا المجرى أن يقسم إلى: المبدأ، والوسط، والنهاية، كما فعل ذلك بقوى الطبيعة؟ فإن الحرارة والبرودة وما جرى مجراها إنما تقسم إلى ثلاث مراتب، أعني الابتداء، والوسط، والنهاية.
وإن كانت كل واحد من هذه المراتب تنقسم أيضاً.
وإذا ما تأملت جميع القوى وجدت الأمر فيها جارياً هذا المجرى.
فأما قولك: هل يجوز أن تكون اثنتين، فهي إنما تكون واحدة أولاً، ثم اثنتين، ثم تستكمل فتصير ثلاثاً، وقد شرح هذا.

مسألة لم صار البحر في جانب من الأرض
؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه: لولا حكمة عظيمة اقتضت أن ينحسر الماء عن وجه الأرض لكان الأمر الطبيعي يوجب أن يكون لابساً وجه الأرض أجمعه حتى تصير الأرض في وسطه شبيهة بمح البيض والماء حولها شبيهاً بالبياض، والهواء محيط بهما على ما هو موجود الآن، والنار محيطة بالجميع؛ ليكون الأثقل الأول بالمركز وهو الأرض في موضعه الخاص من المركز، ويليه الماء الذي هو أخف من الأرض وأثقل من الهواء، ويليه الهواء، ثم النار على سوم الطباع.
ولكن لو تركت هذه الأشياء وسومها الطبيعي لم تكن على وجه الأرض عمارة من نبات وحيوان وبشر وبهيمة وطائر، وبطلت هذه الحكمة العجيبة، والنظام الحسن؛ فلأجل ذلك خولف بين مركز الشمس ومركز الفلك الأعلى، فتبع هذا أن صارت الشمس تدور على مركزها لعالم، خاص بها غير الأرض.
أعني أن مركزها خارج من الأرض.
ولما دارت على مركزها قربت من ناحية من الأرض، وبعدت من أخرى وصارت الناحية التي تقرب منها تحمي بها.
ومن شأن الماء إذا حمى أن ينجذب إلى الجهة التي يحمي فيها بالبخار.
وإذا انجذب إلى هناك انحسر عن وجه الأرض الذي يقابله من الشق الذي تبعد عنه الشمس.
وإذا انحسر عن وجه الأرض حدث من الجميع كرة واحدة.
أعني من الماء والأرض، إلا أن شق الكرة الجنوبي الذي تقرب الشمس فيه من الأرض مكان الماء وهو البحر، وشق الكرة الشمالي الذي تبعد عنه الشمس من الأرض يابس تظهر فيه الأرض.
ثم وجب بعد ذلك أن تنصب عليها الجبال؛ لتستقيم الحكمة، وينتظم أمر العالم على ما هو به موجود.
عز مبدىء الجميع ومنشئه، وناظمه ومقدره، وتبارك اسمه، وجل جلاله، وتقدست اسماؤه، وتعالى هما يقول الظالمون علواً كبيراً.
مسألة لم صارت مياه البحر ملحا
ً؟

الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: إنما ذلك لأجل قرب الشمس من سطح الماء، وتمكنها من طبخه، ومن طبيعة الماء إذا ألحت عليه الحرارة بالطبخ أن يتحلل لطيفه إلى البخار، ويقبل الباقي أثراً من الملوحة، فإن زادت الحرارة ودامت صار ذلك الماء شديد الملوحة، ثم انتهى في آخر الأمر إلى المرارة.
وأصحاب الصنعة يدبرون ماء لهم بالنار، ويدبرون حتى يكثر تردده على النار فيصير - بذلك - الماء حاراً يضرب إلى المرارة.

مسألة إذا كان المرئي لا يدرك إلا بآلة
وتلك هي الحس فما تقول فيما يراه النائم
؟
ألم يدركه من غير حس، ولا انبثاث شعاع، ولا أعمال آلة؟.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: قد كنا بينا في مسألة الرويا وما أحببنا به عنها ما فيه غني عن تكلف الجواب عن هذه المسألة.
ولكنا نذكر جملة وهو أن الحواس كلها ترتقي إلى قوة يقال لها الحس المشترك.
وهذا الحس يقبل الآثار من الحواس ويحفظها عليها في قوة التي تعرف بالوهم.
فإذا غاب المحسوس أحضرت هذه القوة صورة ذلك المحسوس من الوهم: سواء كان مرئياً، أو مسموعاً، أو غيرهما من الصور المحسوسات.
وليس يمكن أن يحصل في هذه القوة شيء من الصور إلا ما قبلته وأخذته من الحواس.
وقد مر هذا الكلام في الموضع الذي أذكرنا به مستقصى مع الكلام في حد المرئي وما يتبعه.
مسألة لا نخلو في طلبنا لعلم شيء
من أن نكون قد علمنا ذلك المطلوب، أو لم نعلمه
فإن كنا قد علمناه فلا وجه لطلبنا والدأب من ورائه.
وإن كنا لا نعلمه فمحال أن نطلب ما لا نعمله.
وعاد أمرنا فيه مثل الذي أبق له عبد لا يعرفه وهو يطلبه.
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لو كان طلبنا للشيء إنما هو من وجه واحد، وذلك الوجه المجهول لكان الأمر على ما ذكرت لكنا قد تقدمنا قبل فشرحنا أن كل مطلوب يمكن أن يبحث من أمره عن أربعة مطالب: أحدها إنيته، وهذا البحث بهل، ثم بما، ثم بأي، ثم بلم.
وهذه جهات لكل مطلوب.
فإذا عرفت جهة جهلت أخرى.
وليس يغني العلم بأحدها عن الأخرى.
مثال ذلك أنك إن بحثت عن جرم الفلك التاسع: هل له وجود؟ فتبين هذا المطلب، بقيت الجهة الأخرى وهي جهة ما هو؛ لأنك قد عرفت جهة هل، وجهلت جهة ما.
فإذا عرفت هذه الجهة بقيت الجهة الثالثة وهي جهة أي.
وقد شرحنا هذه الجهات فيما مضى فإذا حصلت هذه بقيت جهة العلة القصوى أعني لم.
وهي البحث عن الشيء الذي من أجله وجد على ما وجد عليه من المائية والكيفية.
فإذا عرفت هذه الجهة لم يبق من أمره شيء مجهول إلا جزئيات الأمور التي لا نهاية لها.
وليس يبحث عن تلك؛ لقلة الفائدة فيها.
أعني أن تطلب مساحتها، ومبلغ عدد الأجزاء التي تمسحها، ونسبة كل جزء إلى غيره، ووضعه، وما أشبه ذلك.
وهذه المطالب هي بحث مطلب كيف وغيره من المقولات في أنواعها وأشخاصها.
وإذا عرفت الجنس العالي لم تطلب أجزاءه لحصول الجهة العليا.
فقد صح أن المطلوب إنما هو الجهة المجهولة، لا الجهة المعلومة، وأن الشيء الواحد قد يعلم من جهة، ويجهل من جهة أخرى، وزال موضع الشك إن شاء الله.
مسألة لم لا يجيء الثلج في الصيف كما قد يجيء المطر فيه
؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: الفرق بين حالي الثلج والمطر أن البخار إذا ارتفع من الأرض حمل معه جزءاً أرضياً.
وقد يكون مقدار هذا الجزء الأرضي ما يخف مع البخار، ويتحرك معه، ويصعد بصعوده كالهباءة التي تراها أبداً في الهواء.
فإن ذلك القدر من أجزاء الأرض لخفته يتحرك بحركة الهواء، ويصعد مع بخار الماء.
فإذا اتفق وقت صعود هذا البخار أن يصيبه في الهواء برد شديد حتى يجمد - جمد معه الجزء الأرضي، وثقل بما يكتسبه من انضمام البعض إلى البعض بالبرد فارجحن إلى أسفل، وهو الثلج.
وإن اتفق أن يكون البرد الذي يلحقه يسيراً لا يبلغ أن يجمده عصر البخار عصراً فخرج منه الماء الذي يقطر، وهو المطر.
والدليل على أن في الثلج جزءاً أرضياً القبض الذي فيه الثلج وسلامة المطر منه.
وأيضاً فإن الثلج جزم البخار بعينه.
أعني الحالة التي ليست ماء ولا هواء.
فإذا جمدت تلك الحالة ردت طبيعة البخار.
فأما المطر فلا طبيعة للبخار فيه، وهو ماء بعينه.

وكذلك يصيب آكل الثلج من النفخ، والأسباب العارضة من البخار ما لا يصيب شارب ماء المطر.
وإذ قد وضح الفرق بين المطر والثلج فإنا نقول في جواب مسألتك: إن الشتاء يشتد فيه برد الهواء حتى يجمد البخار الصاعد إليه من الأرض فيرد ثلجاً.
فأما الصيف فليس يشتد فيه برد الهواء، ولكن بما عرض فيه من البرد بقدر ما ينعقد البخار ثم ينعصر فيجيء منه مطر.

مسألة ما الدليل على وجود الملائكة
؟
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما الكتاب والسنة فمملوءان من ذكر الملائكة، وأنها خلق شريف لله - تعالى - ولها مراتب متفاضلة.
وأما العقل فإنه يوجب وجودها من طريق أن العقل إذا قسم شيئاً وجد لا محالة إلا أن يمنع منه محال.
وذلك أن قسمة العقل هي الوجود الأول، والحق المحض الذي لا يعترضه مانع، ولا تعوق عنه مادة.
فإذا قسم فقد وجد الوجود العقلي، وإذا حصل هذا الوجود تبعه الوجود النفساني والوجود الطبيعي؛ لأن هذين متشبهان بالفعل، مقتديان به، تابعان له، غير مقصرين، ولا وانيين.
ولكن الطبيعة تحتاج في هذا الاقتداء إلى حركة؛ لقصورها عن الإيجاد التام؛ ولذلك قيل في حد الطبيعة إنها مبدأ حركة.
ولأن العقل إذا قسم الجوهر إلى الحي - قسم الحي منه إلى الناطق، وغير الناطق، وقسم الناطق منه إلى المائت وغير المائت فيحصل من القسمة أربعة هي: حي ناطق مائت.
وحي غير ناطق غير مائت.
وحي ناطق غير مائت.
وحي غير ناطق مائت.
والقسم الثالث هم المسمون ملائكة.
وهي مشتركة في أنها غير مائتة، ومتفاضلة في النطق.
وبهذا التفاضل صار بعضها أقرب إلى الله - تعالى - من بعض، وبه أيضاً صرنا - نحن معاشر البشر - متفاضلين في التقرب إلى الله - تعالى - والبعد منه، ولأجله قيل: فلان شبيه بملك، وفلان شبيه بشيطان، وبسببه قيل: فلان عدو الله، وبسببه قيل: فلان ولي الله، وفي السب يقال: أبعد الله فلاناً ولعنه.
وقرب الله فلاناً وأدناه.
وقد يمكن أن يثبت وجود الملائكة من طريق آثارها وأفعالها الظاهرة في هذا العالم.
ولكني لما احتجت في ذلك إلى مقدمات كثيرة، وبسط للكلام أخرج به عن الشرط الذي شرطته في أول هذه المسائل اقتصرت على ما ذكرته.
وهو كاف إن شاء الله.
مسألة وسألت - أيدك الله - عن آلام الأطفال
ومن لا عقل له من الحيوان، وعن وجه الحكمة فيه
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما هذه المسألة فإنها تتوجه إلى من أثبت جميع الأفعال التي ليست للناس منسوبة إلى الله - تعالى - ولم يعترف بأفعال الطبيعة، ولا أفعال الأشياء التي هي وسائط بيننا وبين الله - تعالى - فإن المتكلمين كالمجمعين على أن الحرارة، و الإحراق، وسائر أفعال الطبائع، وما ننسبه نحن إلى الوسائط التي فوض الله إليها تدبير عالمنا من الأفلاك، والكواكب كلها أفعال الله - تعالى - بلا واسطة يتولاها بذاته.
وفي مناقضة هؤلاء القوم طول، فإن أحببت أن أفرد له مقالة أو كتاباً فعلت.
فأما من زعم أن النار إذا جاوزت النفط ألهبته، وإذا جاوزت الماء أسخنته، وكذلك كل عنصر وركن، وكل شعاع وأثر ممتد من العلو إلى أسفل، فإنه يؤثر في جميع ما يقابله آثاراً مختلفة: إما لاختلاف الفواعل، وإما لاختلاف القوابل - فإن هذه المسألة غير لازمة له.
وإنما ينبغي أن يسأل من وجه آخر لم تسأل عنه؛ فلذلك لم أتكلف جوابه.
وقد ظهر من مقدار ما أومأت إليه جواب مسألتك إن شاء الله.
مسألة لم كان صوت الرعد إلى آذاننا أبطأ
وأبعد من رؤية البرق إلى أبصارنا
الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: أما البرق فإنه استحالة الهواء إلى الإضاءة.
ولما كان الهواء سريع القبول للضوء، بل يستضىء في غير زمان، وذاك أن الشمس حين تطلع من المشرق يضيء منها الهواء في المغرب بلا زمان، وكذلك الحال في كل مضىء كالنار وما أشبهها إذا قابل الهواء قبل منه الإضاءة بلا زمان - وكان الهواء متصلاً بأبصارنا لا واسطة بيننا وبينه - وجب أن يكون إدراكنا أيضاً بلا زمان؛ ولذلك صرنا أيضاً ساعة نفتح أبصارنا ندرك زحل وسائر الكواكب الثابتة المضيئة إذا لم يعترض في الهواء عارض يستر أو يحجب.

فأما الرعد فلما كان أثره في الهواء بطريق الحركة والتموج لا بطريق الاستحالة - وجب أن يكون وصوله إلى أسماعنا بحسب حركته في السرعة والابطاء، وذاك أن الصوت الذي هو اقتراع في الهواء يموج ما يليه من الهواء كما يموج الحجر الجزء الذي يليه من الماء إذا صك به، ثم يتبع ذلك أن يموج أيضاً بعض الماء بعضاً، وبعض الهواء بعضاً على طريق المدافعة بين الأجزاء إذا كانت متصلة.
فكما أن جانب الغدير إذا تموج حرك ما يليه في زمان، ثم ما يلي ما يليه إلى أن ينتهي إلى الجانب الأقصى منه حتى تصير بينهما مدة وزمان على قدر اتساع سطح الماء، فكذلك حال الهواء إذا اقترع فيه الجسم الصلب حرك ما يليه من الهواء، وتموج به، ثم حرك هذا الجزء ما يليه في زمان بعد زمان حتى ينتهي إلى الجزء الذي يلي آذاننا فنحس به؛ ولذلك صار صوت وقع الحجر على الحجر إذا لمح الإنسان محركة من بعيد يصل إلى أسماعنا بعد زمان من رؤيتنا إياه.
وكذلك حالنا إذا رأينا القصار من بعيد على طرف واد فإنا نرى حركة يده، وإلاحته بالثوب حين رفعه وضربه الحجر قبل أن نسمع صوت ذلك الوقع بزمان.
فهذه بعينها حال البرق والرعد؛ لأن السحاب يصطك بعضه ببعض فينقدح من ذلك الاصطكاك ما ينقدح من كل جسمين إذا اصطكا بقوة شديدة، ويخرج أيضاً من بينهما صوت.
وهما جميعاً - أعني البرق والرعد - يحدثان معاً في حال واحدة؛ إذ كان سببهما جميعاً الصك والقرع، أعني حركة الجسم الصلب وقرع بعضه ببعض كحال المقدحة والحجر، إلا أن البرق يضيء منه الهواء بالاستحالة التي تكون بلا زمان فنحسه في الوقت.
فأما الرعد فيتموج منه الهواء الذي يلي السحاب المصطك، ثم يتموج أيضاً ما يليه، ويسري في الجزء بعد الجزء إلى أن ينتهي إلى الهواء الذي يلي أسماعنا في زمان فنحس به حينئذ.

مسألة إذا كان الإنسان على مذهب من المذاهب
ثم ينتقل عنه لخطأ يتبينه فما تنكر أن ينتقل عن المذهب الثاني مثل انتقاله عن الأول، ويستمر ذلك به جميع المذاهب حتى لا يصح له مذهب، ولا يضح له حق.؟ الجواب: قال أبو علي مسكويه - رحمه الله: لو كانت الإقناعات ومراتبها متساوية في جميع الآراء لما أنكرت ما ذكرته، ولكني وجدت مراتب الأدلة والإقناعات فيها متفاوتة: فمنها ما يسمى يقيناً، ومنها ما يسمى دليلاً وقياساً إقناعياً بحسب مقدمات ذلك القياس، ومنها ما يسمى ظناً وتخيلاً، وما أشبه ذلك - فأنكرت أن تستوي الأحوال في الآراء مع تفاوت القياسات الموضوعة فيها.
فمن ذلك أن القياس إذا كان برهانياً وهو أن تكون مقدماته مأخوذة من أمور ضرورية، وكان تركيبها صحيحاً - حدثت منه نتيجة بقينية لا يعترضها شك، ولا يجوز أن ينتقل عنه، ولا يسوغ فيه خطأ.
وكذلك.
التي امتدلى بها - فأثر الحرارة في المبدأ يكون ضعيفاً لكثرة المادة ومقاومتها، فإذا قويت الحرارة بالتدريج وانتهت إلى غاية أمرها - كان زمان الشباب، وكأنه صعود وحال نشأ حتى ينتهي، ثم يقف وقفة، كما يعرض في جميع الحركات الطبيعية، ثم ينحط وهو زمان التكهل، فلا يزال إلى نقصان حتى يفنى فناء طبيعياً كما وصفنا، وهو زمان الشيخوخة والهرم، وقد كان في زمان جالينوس من ظن ما ظننته حتى حكاه عنه، وذكر أنه بلى بمرض طويل أضحك منه من كان حفظ عليه مذهبه.
هذا آخر ما سألت في الهوامل.
وقد سلكت في الجواب عن جميعها المسلك الذي اخترته واقترحته من الاختصار والإيماء إلى النكت، والإحالة - فيما يحتاج إلى شرح - إلى مظانه من الكتب.
نفعك الله بها، وعلمك ما فيه خير الدارين بمنه ولطفه.
الحمد لله رب العالمين وصلواته على رسوله محمد وآله أجمعين.
أقسام الكتاب
1 2