كتاب : الأمثال من الكتاب والسنة
المؤلف : أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي

مثل الثناء والتسبيح
مثل الثناء والتسبيح لله تعالى مثل ملك بين يديه خدم استقبله أمر فوجههم إلى عمل لا ينفك في ذلك العمل فوجه عبيده وعسكره إلى ذلك الأمر فذهبوا عجالا فأتموا ذلك الأمر ورجعوا إلى مقام الخدمة منتصبين فما من أحد منهم رجع عن طريقه إلا أخذه من غبار الطريق
ولما أرادوا الدخول بين يدي الملك فأولا نفضوا الغبار عن رؤوسهم وثيابهم حتى يدخلوا على الملك على هيئتهم التي كانت لهم قبل ذلك بين يديه مع الطراوة والنقاوة
فكذا العباد المؤمنون إذا مارسوا أمور الدنيا وخالطوا الخلق لم يخلوا من الغبار والأدناس الذي حل بهم وإن اجتهدوا في الصدق والتقوى والتدبر فيرجعون إلى ربهم بالثناء والتسبيح ليكون ذلك نفضا لما لحقهم من الأدناس ونالهم من الغبار والدخان ليتطهروا فيصيرون أهلا للدخول بين يدي مليكهم
مثل المجتمعين على ذكر الله بكرة وعشيا
مثل المجتمعين على ذكر الله بكرة وعشية فذكروه ثم رفعوا

إليه أيديهم مرتقبين فسألوه الرغائب مثل قوم من الفقراء والمساكين لهم وارنبد بالأعجمية كلهم على عصى اجتمعوا وأخذ كل واحد منهم بيد صاحبه حتى صاروا كلهم كواحد ثم اجتمعوا على باب وباب وباب منهم من يركض برجله ركضا ومنهم برأسه هزا ومنهم بالأيدي شدا ومنهم بالألسن لحنا وبالأصوات لحنا وغناء وبالعيون لحظا فلهم دنو من كل باب على تلك الحال فيخرج لهم من كل باب شيء فمن باب ثياب ومن باب طعام ومن باب شراب ومن باب فواكه ومن باب لحم ومن باب إدام
فكذا المجتمعون على ذكر الله إذا طاب ذكرهم وسقوا بالكأس الأوفى فطربوا وملكتهم بهجة الحبيب ودب فيهم سكر الكأس وطارت عقولهم إلى ولي الكأس فسقوا هناك 86 صرفا فاعتماد أولهم وقائدهم على محل النجوى وتحفة التحية لهم دوران وطواف على الأبواب لا سيما ولهم من كل باب اسم تحفه ونوال على قدر حظه من ذلك الاسم وعلى ما تضمن ذلك الاسم

مثل أسماء الله تعالى
مثل أسماء الله تعالى مثل ملك له بستان أحاطه بحائط وله غرس وأشجار ذات ألوان من الفواكه وفنون النعم فساق إلى عبيده كلوا من هذه الثمار واشربوا من هذه الأنهار فهذا معاشكم ومأواكم ولكن شأنكم مرمة هذا البستان من جري النهر وحفظ البساتين من منابت السوء فإنكم لو قصرتم في هذا الأمر فعن قريب انكبس النهر ويبست الأشجار ونبتت منابت السوء من القت وغيرها فتتغير الألوان ولا تتورد
فانظروا إلى نزاهة هذه الثمار والأوراد والرياحين فمن لم يسمن على أكل هذه الثمار وشرب هذا الماء فعلى أي شيء يسمن فالماء أصله واحد في في الصفاء والعذوبة فإذا نظرت إلى ثمرة كل شجرة وجدت إحداها حلوا وأخرى حامضا وأخرى مرا وأخرى باردا وأخرى حارا وأخرى بين الحموضة والحلاوة فكل شيء له نفع دون صاحبه
فكذا الله تعالى هيأ لعباده بستانا وأحاط له حائطا وشق نهرا وأجرى الماء وأنبت الأشجار وأخرج من كل شجرة لونا من الثمرة فالحائط ملكه والنهر لصقه والماء ماء الحياة أجرى ماء

الحياة في نهر اللطف إلى هذه الأشجار وهو أسماؤه الحسنى وأجرى إلى العباد كل اسم حلوا وحامضا وعذبا ومرا وباردا وحارا فمن اسمه الرزاق رزقهم ومن اسمه التواب تاب عليهم ومن اسمه الغفار غفر لهم ومن اسمه العزيز جاد عليهم ومن اسمه الرؤوف رؤف بهم ومن اسمه الرحمن رحمهم في دينهم ومن اسمه الرحيم رحمهم في الدنيا والآخرة ومن اسمه الوكيل توكل بهم ومن اسمه الكفيل تكفل لهم ومن اسمه العظيم أغناهم ومن اسمه الجليل أعزهم ومن اسمه الكريم أكرمهم ومن اسمه المنان من عليهم بالرحمة العظمى فهداهم ومن اسمه الله اجتباهم ووله قلوبهم وعلق فمن كل اسم أهدى إليهم ما وضع في ذلك الاسم لأنه من أجلهم أخرج الأسماء إليهم فمن كان أشد محافظة لهم وإكبابا عليهم وأدوم قياما على نفسه كانت فوهة نهره أوسع والماء فيه أكثر ووجدنا أن هذه الثمرة إنما يسيغها آكلها بالماء الذي في قبو حنكه ويجد لذة الأشياء بذلك في ذلك الموضع فبتلك القوة ينتفع بهذه الثمار
فكذا القلب إذا لم تكن فيه تلك المحبة اللذيذة التي يجد حلاوتها في قلبه لم يجد حلاوة هذه الأسماء فبالحب ينال طعم ما في هذه الأسماء من هذه المعاني التي في الاسم فلكل اسم بما فيه من معناه أكلا يسمن عليه كما يسمن صاحب الأشجار من أكل تلك الثمار التي أثمرت هذه الأشجار فالأسماء ثمرتها معانيها وسقياها

ماء الحياة فإذا لم يكن القلب حيا لم تكن له تلك المحبة التي من الحياة العطائية فإذا هذه الأسماء له كالأشجار التي قد انقطع ماؤها فلم تثمر ولم تتورق ولم تتورد ويبست الأشجار فلا تصلح إلا للحرق
وإذا أجرى ماء الحياة وانتبه القلب وحيي بالله جاءت المحبة
فبحلاوة المحبة تحلو الأسماء ويجد القلب لذة تلك الحلاوة ويرطب بذلك اللطف لأن في الأسماء صفات المحبوب ولطفه وآلاءه وأخلاقه وكرمه ورحمته وأفضاله فعلى قدر محبته له يجد حلاوة الصفات واللطف والآلاء والأخلاق والعطف والكرم وتعظم أفعاله عندك ويأخذ من قلبك سلطان ذلك الفعل فإذا أثنى على ربه أو مدحه أو دعاه باسم من أسمائه فإنه يخرج كلمته من فيه على قدر سلطانه من القلب ومملكة القلب من الحياة والمحبة

مثل من يردد ذكر الله في قلبه
مثل من يردد ذكر الله في قلبه ولسانه مثل ماء راكد في موضع

قد أحاط به زبد وغثاء فإذا هاجت الريح فضربت الماء يذهب ذلك الغثاء والزبد إلى ناحية من الماء وبقي الماء صافيا فكلما ازداد هيجان الريح ازداد اضطراب الماء فازدادت صفوة الماء حتى يأتي بمحض الماء الذي في وسطه
فكذا كلما تردد الذكر وتتابع ازداد قوة في قلبه وصفوة في ذكره حتى تملأ من نور ذكره السموات والأرض
وكذا جاءنا عن رسول الله أنه قال ( إن العبد إذا قال الحمد لله ملأ نوره ما بين السموات والأرض وإذا قالها ثانيا ملأ ما بين العرش إلى الثرى )
ففي أول دفعة قالها صفت المجرى وذهب الغثاء المحيط على الصدر فظهر الصفاء فإذا قالها ثانيا فإنما قالها من صفاء العلم بالله فازداد طريق مجراها صفاء فأخرجها من محض القلب عن عيش الحمد لأن علم هذه الكلمة في قلبه فكلما انكشف الغطاء عن العلم كان أصفى وأنور وأعظم أجرا حتى ملأ ما بين الخافقين ومن العرش إلى الثرى من نور الكلمة من فيه

مثل من يعبد الله بلا علم
مثل من يعبد الله بلا علم مثل من يتجر بلا بصر في السلع ولا علم بأسعارها ولا بجواهرها ولا بقيمتها ولا بنقد الأثمان فإذا اشترى اشترى بغلاء وإن باع باع بوكس وإن اقتضى اقتضى زيوفا وبهرجة على عمى ودلسة
مثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ولا يعلمه الناس
مثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ولا يعلمه الناس مثل رجل رزقه الله مالا كثيرا فكنزه تحت الأرض فلا ينفق منه على نفسه ولا يصل الناس به فلا ينتفع به هو ولا غيره وصار وبالا عليه في المعاد
ومثله أيضا مثل الكلب اتخذ مأوى في معلف فيه تبن كثير لا يعتلف هو ولا يدع غيره ليعلف به دوابه فكل من قصد ذلك نبح ودفعه عنه

فهذا أيضا لا يعمل به فينفعه في الدارين ولا يعلم غيره لا يسلك به طريق الجنة هو بنفسه ولا يرشد غيره

مثل من يتعلم العلم ويعمل به ولا يعلم غيره
ومثل الذي يتعلم العلم فيعمل به ولا يعلم غيره مثل رجل رزقه الله مالا جما فانتفع به وتنعم به آناء الليل والنهار ولا يعطف بشيء منه على الجيران والأقارب والمسلمين
مثل من يتعلم العلم ويعمل به
ومثل من يتعلم العلم فيعمل به مثل رجل رزقه الله مالا طيبا فانتفع به وتنعم به وأنفق على الجيران والأقارب والمسلمين
مثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ويعلمه الناس
ومثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ويعلمه الناس مثل رجل 87 رزقه الله مالا كثيرا فكل من أخذ منه أو سرق منه لا يبالي به ولا ينفق على نفسه وعلى عياله شيئا وتموت عياله جوعا وعريا

وهو أيضا في بؤس وفاقة من المطعم والمشرب لا يطيق أن يأكل منه شيئا بنفسه أو ينفق على عياله فقد خسر هو في الدنيا والآخرة
ومثل من يتعلم العلم ولا يعمل به ويبذله للناس للمباهاة والرفعة في الدنيا مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه
ومثله أيضا مثل رجل وضع السراج على طرف سطحه فانتفع به المارون وهو في بيت مظلم لم ينتفع به وهو محتاج لذلك
ومثل من يطلب العلوم الكثيرة وجمعها ولم يعمل بها ولا يرى أثر ذلك عليه فيجمع العلوم والكتب دائما ولا يشبع من طلبها مثل من يجمع كل يوم وساعة طعاما كثيرا في بيته من فنون الأطعمة والأشربة والفواكه والطير مما يتسارع إليه الفساد ولا يطعم منه شيئا وهو جائع غرثان فكل يوم يأكل مقدار رغيف من ذلك مما قد يبس وتكرج وينظر إلى ألوان الأشياء ويبخل على نفسه ولا يشبع من جمعه كل يوم إلى يوم موته فينتن بيته وفسدت الأشياء فتلقى ولا يأكلها أحد وقد مضى

مثل من يبتغي نزول الرحمة قبل التوبة
مثل من يبتغي نزول الرحمة من الله تعالى قبل التوبة مثل ساكن في بيت قد آذاه الحر والغم والذبان فكلما دخله يتصبب فيه عرقا ويتقلب في غمه ويتأذى بالذبان فإذا أراد أن يتزوج فيه ويتنعم بالجلوس والنوم والقرار فأولا ينبغي أن يخرج ما في البيت من القماشات والأطعمة التي فيها مجمع الذبان فذهب فاحتال له فرشه فلا يزال يديم الرش بالماء حتى يبرد ويبرد الماء فكلما دخله استقبله روح ذلك الرش وطيب ذلك الروح فأول فعله أن يبتدئ في كنسه فإن في ذلك البيت قماش ونثار الطعام ومجمع الذبان وثفل الفواكه وما يرمى به فليس من شأن هذا الذي يريد روحه أن يترك هذا البيت شبه كناسة ويرشه بالماء ليروح عنه مغتمه فإن هذا يزيده رائحة منكرة ونتنا ولكن يكنسه مرة ثم أخرى بالمكنسة الثقيلة ثم يكنسه بالمكنسة اللينة ثم يرشه بالماء رشا بعد رش فإذا دخله وجد روح ذلك الرش فإن في الماء رطوبة وبرودة فيرش الماء في كل مرة حتى تنشف الأرض الماء ويكنسه أخرى ويرش الماء ثم يبسط الحصير حتى يطيب وتزول عنه الرائحة

المنكرة فإذا انتشفت الأرض رطوبة الماء بقي روح البرودة هناك وذهبت الحرارة والغمة فحينئذ إذا دخل يجد الروح والراحة فافترق الذبان
فكذلك صدر الآدمي وقلبه فإن الشهوات في قلبه فنفس الآدمي كالأتون الذي يتلظى لهب ناره من الشهوات والهوى وشعلها متأدية إلى جوارحه فشعلة منها تتأدى إلى العين فكلما رمى ببصره بقوة تلك الشعلة إلى شيء من زينة الدنيا رجعت إلى النفس بلذة يسكر عقله بها لأن تلك اللذة سرى حبها في نفسه فتأدى بذلك الحب إلى الصدر فسكر العقل من ذلك وتدنس فانكمن في الدماغ وامتنع من الإشراق وافتقد الصدر شعاعه الذي كان يرمي إلى الصدر فيشرق على الصدر ويستنير منه بمنزلة شمس شعاعها تضيء به الأرض فيحول بينها وبين الأرض سحابة سوداء قامت بإزاءها فذهب ضوؤها فيصير البيت مظلما كالليل أو شبهه
وشعلة منها تتأدى إلى السمع فكلما ألقى سمعه إلى شيء تلذذ به السمع فتأدت اللذة إلى النفس فثار دخانها إلى الصدر

وشعلة منها تتأدى إلى اللسان وشعلة إلى الحلق وشعلة إلى الفرج وشعلة إلى اليد للبطش والتناول والبذل وشعلة إلى الرجل
فهذا الصدر كمزبلة وفيه فوران هذه الشهوات والبطن كالأتون الذي يطبخ فيه اللبن قد احتدت حرارته وحميانه فصار اللبن فيه أجزاء يقال بالأعجمية بخته فلا يزال يمضر اللبن ويذوب حتى يصير كزبرة الحديد فكذا الشهوات في البطن حتى صارت بتلك الصفة فمتى يفلح هذا وكيف يعبد ربه

تطهير الصدور
قال الإمام أبو عبد الله رحمه الله فمن شائه أن يبتدئ في كنس هذا الصدر أن يقمه حتى يخلي صدره من كناسة الذنوب وقماشات العيوب والفضول التي فيها فإذا جاهد في هذا حق جهاده كما أمره الله في تنزيله ( جاهدوا في الله حق جهاده ) فإذا فعل ذلك فحينئذ أمطر الله في قلبه مطر الرحمة فرش صدره بماء الرحمة فثارت البرودة إلى الجوف فأطفأت نيران الشهوات فبرد الأتون وصار الصدر مروحا ببرد الرحمة التي أمطرت عليه
فمن أراد أن يتعرف هذا من نفسه أنه هل وصل إليه مطر الرحمة

فلينظر إلى هذه الشهوات التي ذكرناها التي في جوفه هل سكن تلظيها وانقطع لهبها عن الجوراح وهل سكنت حدة بصره بالنظر وحدة سمعه بالاستماع وحدة حلقه عند المضغ والتلمظ وحدة لسانه حتى ينطق في وقت دوران العرقين بذلك اللسان وحدة يده حين تناول وحدة وركيه حين يضطربان باختلاف القدمين وتخطي الركبتين فإذا افتقد الحدة في هذه المواضع فقد استيقن أن التلظي قد سكن في الجوف وأن القوة قوة الشهوة قد ضعفت فعندها يعلم أن مطر الرحمة من الماجد الكريم العزيز الوهاب قد حلت به وأمطرت على صدره وقلبه حتى طفئت نار الشهوات في نفسه وبرد الأتون
فالكيس هاهنا فهم وأدرك أمره فقال في نفسه لم يزل ربي ماجدا رحيما جوادا فكيف احتبست عني رحمته حتى عملت هذه النيران في جوفي ما عملت حتى فضحني عند ربي وعند ملائكته الكتبة وعند سمائه وأرضه ثم رجع إلى عقله فبصره عقله أن هذه الرحمة امتنعت عنك لأنك تحتاج إلى غسل بيتك حتى تطهره من الأدناس والأوساخ فأقبل إلى الازدياد كنسا بعد كنس حتى صار بهيئة من كثرة تفقده ألا تسخو نفسه أن يترك فيها تبنة أو أدق من التبنة في ذلك البيت حتى يرفعها 88 فكلما ازداد من ذلك توقيا

وتفقدا ازداد روح قلب وطيب نفس للروح والقلب فالنفس الدنية إذا شعرت برحمة الله تعالى وعلمت بذلك تنزهت في ساحات رياضها ومرحت في جنانها وأشرت وبطرت فإذا كان القلب أبله غتما وأعطي علم الرحمة أن الله تعالى رحيم نقل ذلك العلم الى النفس حتى تأشر وتبطر وتستروح وتركض في فسحة اللذات وتستروح إلى ذلك العلم أن الله تعالى رؤوف رحيم يتردى بذلك في آبار الهلاك
فإذا كان القلب كيسا نقل ذلك العلم إلى العقل فيبصر العقل وقال له هل يستحق الموصوف بالرحمة أن تبذل نفسك وتقوم له بأمره على أشفار عينيك وتضع أموره على رأسك من التعظيم فإن الرحمة مديحه والممدوح بالرحمة من عبيده في دار الدنيا تسمو إليه الأبصار وتهتش إليه النفوس بهذه الخصلة الموجودة فيه
وكذا كل خصلة من خصال الكرم من الحسن والبهاء تجدها في عبد من عبيده فإذا عرفته بتلك الخصلة أحببته عليها حبا يأخذ

بقلبك ويسبي نفسك فربك الممدوح بهذه المدائح الموصوف بهذه الصفات أحق وأقمن أن تأخذ مدائحه قلبك وتسبي نفسك فإذا علمت أنه رحيم فزد في تعظيمه وتوقيره بأنبيائه وأحبائه وشغوفا بكلامه ونصائحه ومواعظه لك شفقة عليك ورأفة بك
فهذا العقل يدل هذا القلب الكيس على هذا
فإذا كان أبله مال إلى النفس وقارنها بالفرح بهذه الرحمة أن ربنا ملك كريم رحيم فتعال حتى نركض في هذه الشهوات والنهمات ننتظر بها ونستقصي في نهماتها فإذا علمه في هذا بأن ربنا رحيم قد سود وجهه وأحرق جسده ونكس قلبه ولذلك كان رسول الله يتعوذ دبر كل صلاة ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ) لأنه قلب أبله جاهل بربه فهو وإن علم أن ربه رؤوف رحيم فهو جاهل بالرحمة لا يدري ما الرحمة إلا علم اللسان فعلمه بالرحمة مقدار ما أن يقول في نفسه إنه إذا رحم فقد نجا من النار ولا يعلم بجهله بنفسه وبربه أن لله تعالى نقمات وسطوات يتمنى العبد أن يصرف به إلى النار

العار والخزي بين يدي الله
حدثني أحمد بن مخلد حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي

عن المعتمر بن سليمان عن خاله فضل بن مؤمل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال قال رسول الله ( والذي نفس محمد بيده إن العار والتخزية ليبلغان بالعبد في الموقف بين يدي الله تعالى ما يتمنى أن ينصرف به وقد علم أنما ينصرف به إلى النار )
فالعار والخزي بين يدي الله تعالى وجعه على الأكباد والقلوب وعلى الأرواح ووجع الأرواح والقلوب والأكباد يضعف على وجع الأجساد أضعافا لا تحصى لأن الروح بحياته يألم والجسد بالروح يجد الألم فإذا خلص إلى الجسد شيء ألم الروح منه وإذا خلص إلى الروح شيء تضاعف الألم للحياة التي في الروح وشدة شعوره بالألم

المعذب من الموحدين
فالمعذب من الموحدين إذا ألقي في النار أميت إماتة حتى تحرق النار جسده ثم يحيا بعد ذلك هكذا روي لنا عن رسول الله قال رسول الله في قوله

تعالى ( فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ) قال ( أما الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون ولا يحيون وأما الذين ليسوا من أهلها فإن النار تميته إماتة ثم يقوم ويشفع )
معناه عندنا أن الذين لا يموتون فيها ولا يحيون ليست لهم تلك الحياة التي في الجنة لأن حياة أهل الجنة من قدس الحياة تحت العرش فبنسيمها يحيا أهل الجنة

حياة أهل النار
وحياة أهل النار من غسالة أهل الجنة حين يشربون من ماء الحياة على باب الجنة حتى تزول عنهم أدناس الآدمية وأسقامها وأثقالها وأذاها فتجري تلك الغسالة إلى باب النار فتسقي أهل النار حتى يحيوا بتلك الغسالة ولا يتهنون بها فتلك حياة يجدون بها ألم الحياة ولا يجدون طيب الحياة فلا حياة ولا موت فهذا الموقوف بين يدي الله تعالى في العار والتخزية أشد عذابا في ذلك الخوف والهول والحياء من الذي أميت في النار والنار تحرق جسده والرحمة من الله تعالى محيطة به لا يزال يقتضي بها نجاته وخلاصه حتى يخلصه الله تعالى ثم يرمى به إلى الجنة طاهرا
مثل من يحشر في الموقف على تلون الأحوال
مثل من يحشر الى الموقف غدا على تلون الأحوال مثل عسكر

نودي فيهم بالرحيل حين انفجار الصبح ففتح باب المدينة فخرجوا فراكب على هملاج بلغ المنزل ضحوة قبل أن يناله حر النهار فوجد المنزل خاليا فنزل على مختاره في ألطف مكان وأنزهه وأكثره مرفقا ووجد الأعلاف مهيأة والسوق مزينا خاليا والمياه صافية والمساقي نظيفة طيبة فينال من كل شيء على منيته واختياره حتى إذا انتصف النهار جاءت الركبان على دواب الحمر مع الأثقال وازدحموا على المنازل في المنازل ومالوا على الأعلاف والأسواق حتى تضايقت الأمكنة والأعلاف وأقبلوا على سقي الدواب على الازدحام فإذا كان آخر النهار جاءت أصحاب الدواب القطف فوجدوا بقية الماء والأعلاف ولم يجدوا مكانا في المنزل فنزلوا في الصحراء وهم بعد في ضوء النهار يبصرون أن ينزلوا ويجدوا شيئا من العلف والماء وما يحتاجون إليه حتى إذا أمسوا جاءت الرجالة فنزلوا حول المنزل بالبعد من المرافق ولم يجدوا شيئا من المياه والأعلاف إلا بقية ومن المساقي الماء مع الكدورة والطين حتى إذا جن الليل جاءت الرجالة الزمنى والأعرجون والعميان ونحوهم يتخبطون الطريق ولا يجدون موضع

نزول الا في الخرابات والأرض الشاكة و الكناسات والمتغوط في ظلمة الليل وهجوم البرد والرياح والأنداء من الثلوج وغيرها فلا مكان ولا علف 89 ولا مرفق ولا كن ولا مستقر فهم يتمنون انكشاف الليل وانفجار الصبح ولا صبح
فهذا مثل أهل الحشر غدا الى الله تعالى وذلك قول الله تعالى ( ونفخ في الصور فجمعناهم جميعا ) وقال الله جل جلاله ( ونفخ في الصور فاذا هم من الأجداث الى ربهم ينسلون )

يحشر الناس ركبانا ورجالة وعلى وجوههم
وقد قال رسول الله ( يحشر الناس أثلاثا ثلث ركبان وثلث رجالة وثلث على وجوههم ) ركبانهم قول الله تعالى ( يوم تحشر المتقين الى الرحمن وفدا ) قال علي رضي الله عنه نجائب
وانما تلون حشرهم لأن المراكب متفاوتة كما ضربنا في المثل

من فارس وراكب حمار وصاحب قطوف وراجل ومن دونه من الزمنى وغيرهم فيصل إلى الموقف على قدر مركبه ومركبه معرفة الله تعالى فذاك مركب قلبه إلى الله تعالى بقدر معرفته لله تعالى وعلمه بالله تعالى يصل إلى الله تعالى بنيته في الأعمال ففرسانهم السابقون المقربون وتفاوت سبقهم في الأعمال بتلك القلوب الفوارس على قدر تفاوت مراكبهم كتفاوت الخيول ها هنا في دار الدنيا فرب فرس تبلغ قيمته وثمنه ألفا من الدراهم ورب فرس ألف من الدنانير ثم من بعدهم المقتصدون وهم على قطف الدواب والأثقال والحمولات ثم من بعدهم أصحاب الحمر يفترون مرة ويقومون أخرى مرة ركبانا ومرة مشاة يسوقون حمرهم بالعناء والعجز حتى بلغوا المنزل ثم من بعدهم الرجالة حفاة وأصحاب كارات على ظهورهم وأعناقهم قد حفيت أقدامهم ونكبت أكتافهم وانعقرت من الحمولات التي على أعناقهم ومن تلك الكارات فهم رجالة الدين ليس لهم نيات ولا تقوى ولا تقية يختبطون الطريق في الدين تخبطا على العادة والشايذبوذ يعملون على العادة والتجويز فهؤلاء هم أهل العامة في أسواقهم يستترون بالوضوء والصلاة والصوم والصدقة والشرائع وقلوبهم مشحونة

بحب الدنيا ومفتونة بالشهوات قد ضيعوا أحكام الفرائض وتوثبوا في الحدود ويعملون أعمال البر على العادة بالجزاف والتخبط قد نسوا المعاد وخلوا من ذكر الموت وخشية الله تعالى في السر وأهملوا الورع فهم سراق الأسواق في مكايلهم وموازينهم وتضيع أماناتهم
ثم من بعدهم هؤلاء المتهوكون المفتونون في الدنيا حيارى سكارى فهم عرج وزمنى وعمي لا يصلون إلى المنزل إلا بعد أهوال وشدائد وعجائب ثم بقوا في ظلمة الصراط ونفخات النار ودخان الحريق

صفة فارس من السابقين
قال له قائل صف لنا فارسا من السابقين ما صفته
قال ذاك فارس ركب مركبا من مراكب المعرفة يطير قلبه إلى الله تعالى في كل وقت وأمر وحكم حتى لو استقبلته نعمة طار قلبه إلى المنعم ولها عن النعمة وإذا استقبلته شدة طار قلبه إلى المقدر ووقف بباب القدرة ينظر إلى تقديره له ذلك قبل اللوح والقلم وخلق العرش والكرسي والجنة والنار فهاب أن يلاحظ غير ذلك الذي قدرت له نفسه بشهواتها وأمنيتها وإن ذكر الرزق طار

قلبه إليه وإن ذكر أمر الرزق طار قلبه إلى الرازق فوجد الأمر مفروغا منه وأنه قد ضمن له ذلك وأبرز ضمانه في اللوح وإن نابته نائبة طار قلبه إلى ما نابه عنه فنزل منازل الواثقين بكرمه وأحسن الظن به ووثق به وسكن في محله لربه مطمئن القلب والنفس وإن أعوزه أمر وأزعجه طار قلبه إلى المدبر فتعلق به مضطرا إليه مفتقرا إلى ما أمله ورجاه فهذا راكب نال مركبا سريا بهيا هنيا ما أسرع ما يبلغ به يوم المحشر إذا بعث من قبره فيجد مكانا في ظل العرش من قبل أن تجيء الرحمة وقد نال أهل المحشر في الموقف من العطش والجوع والحر
حدثني محمد بن يحيى بن أكرم بن حزم القطعي حدثني بشر بن عمر الزهراني حدثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله أنه قال ( طوبى للسابقين إلى ظل الله تعالى ) قيل من هم يا رسول الله قال ( الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوا بذلوه والذين يحكمون للناس بحكمهم لأنفسهم )
فصاحب هذه الصفة قلبه حي بالله ونفسه سخية منقادة لله قد ذلت بحدة الحياة لله واقفا عقله بعدل الله يحكم لخلقه بحكمه لنفسه فمركبه من أعلى المراكب وأجود الحيوان

مثل العامل يعمل أعمال البر
مثل العامل الذي يعمل أعمال البر على طريق الثواب والعقاب مثل نهر اجتمع في موضع فيه من البردي والحطب وأصول الأباء ونحوها فخاض فيه إنسان ففي كل موضع وصلت يده يقع في يده شيء من تلك الأشياء وبعضها على ظهره ورأسه وبطنه فيخرج من النهر متلوثا بها
فأهل الغفلة يجمعون حركات الجوارح بأعمال البر وليس لهم من ذلك إلا الظاهر في مقاصدهم ونياتهم إلا الثواب الذي وعد الله لعماله بذلك فعلى قدر طهارتهم وصدقهم يثابون من الجنة أجور عمالتهم وتعب أجسادهم وتلك الطاعة تنال من أنوار الإيمان وتلك نيات أنوار الإيمان الذي اعتقدوه فقط
فأما أهل الانتباه فيعملون الأعمال عبودة لله عارفين موقنين عالمين بالله فمثلهم كمثل من يغوص في البحر والأنهار فيضرب بيده في غوصه فبلغ في يده جوهرة لا يحيط بثمنها علم من نفاستها وصفائها فهم يدخلون في الطاعات بحركات الجوارح ولكن في قلوبهم من العجائب ما تعجب الملائكة إذا رفعت إلى الله تلك الحركات في حشوها من الأنوار ما يملأ الأفق الأعلى
وأهل الغفلة حشو حركاتهم في الطاعات أنوار نياتهم

ومقاصدهم وتلك من نور الإيمان الذي اعتقدوه
وأهل الانتباه حشو حركاتهم في الطاعات لأن في حركات جوارحهم نور الحب ونور الحياء ونور الشوق والحنين والتضرع والقلق والسرور والبهجة والشكر والذكر الصافي 90 والإقبال على الله والإنابة والخشية والخضوع والتسليم ورؤية المنة والتبري من الحول والقوة فهؤلاء غواصون يغوصون في كل حركة في بحور المعرفة في وقت مرورهم في استعمال الجوارح ومضيهم فيها بقلوبهم ويستخرجون من غوصهم الدر اليتيم والجوهر النفيس لأن القلب خزانة الله تعالى وفيها نوره فإذا طهر العبد ساحة الخزانة وهي الصدر ظهرت في تلك الساحة من باب الخزائن في وقت عمل يعمله عجائب لا توصف من هذه الجواهر والدرر وحركات الطاعات ذات صور فكل طاعة لها صورة ومثال وفي كل صورة يعملها ثواب فيرائي بها ربه ويتزين العبد بتلك الصورة لما فيها من الجواهر لمعبوده فهذا عبد يتزين بجواهره من كنوزه حتى إذا جاز هذه الخطة ووصل إلى فرديته فكان هذا عبدا تزين لله بالله وكان الله مستعمله في قبضته وهي دعوة أجل العباد واحد من السبعة الذين لقيهم يونس

صلوات الله عليه وكان يدعو ويقول اللهم بك أتزين فاجعل اليقين شعاري والصبر دثاري فهذا عبد تزين بالله لله

مثل من وثق بالله في ضمان رزقه
مثل من وثق بالله في ضمان رزقه وكفايته ومواعيده مثل من ضاف ملكا من الملوك فدعاه الملك فخاف من دعوته وامتنع واحتال لنفسه هربا وامتناعا لقلة ثقته به لأنه لا يدري ما له عند الملك في الغيب فعلم الملك بحاله فوجه إليه ولدا من أولاده رهينا عنده وقال هذا ولدي عندك وثيقة فاحضر إلي فإني أفي لك بالأمان والوفاء بكل ما وعدتك
فسكن الخائف بذلك الرهين واطمأنت نفسه وعلم أن الرهان لطمأنينة القلب والأمان ولا محالة يفي له بذلك
فالمؤمن وضع الله تعالى في قلبه نوره ثم ضمن له الرزق والكفاية وأمره بالعبودة ودعاه إلى طاعته ووعده حسن المآب فكلما نظر المؤمن إلى هذا الرهين الذي عنده اطمأن وحسن ظنه به وقال في نفسه لو لم يرد بي خيرا ما وضع مثل هذا الجوهر

النفيس في وثيقة ورهنا فبذل نفسه له وألقى بيده وارتفعت التهمة وسوء الظن وخوف الرزق

مثل أهل الثبات في الأعمال
مثل أهل الثبات في الأعمال مثل ملك له ثلاثة أعبد فأعطى كل واحد منهم قضيب كرم ليغرسه ويعمره ويثمره ويحمل شراب عصيره إليه فعمد أحدهم إلى كرمه فجعله مربى له وقام بعمارته في السقي وتقليب الأرض يكريه ويسرقنه ويشده وما يصلح لها حتى أدرك وأثمر فإذا جاء أوان عصيره فعصره فملأ زقا صافيا صرفا من العصير
وعمد الآخر إلى قضيبه فسقاه سقيا دون سقي ولم يثمره ولم يقم بعمارته مثل الأول فأدرك الكرم ولكن ليس لشجرة نزاهة وطراوة ولا لعنبه من الحلاوة ما يكون لمثله فعصر وملأ زقه ممزوجا بالماء
وعمد الثالث إلى قضيبه فسقاه واحدة ولها عنه ولم يثمره

ولم يقم بعمارته بشيء حتى أدرك عنبه كله حامض ليس فيه من الطراوة والماء شيء فعصره كذلك فلم يملأ الزق فنفخ فيه حتى امتلأ ريحا فصار في رأي العين كالممتلئ
يحمل كل واحد زقه إلى الملك فرأى الملك كلها في رأي عينه ممتلئ فحل من الأول وكاءه فذاقه فرآه شرابا صرفا لذيذا فأعجب الملك بذلك وقبله واستحلاه ووافقه وأعد له جزيلا وأكرمه وخلع عليه خلعة بهية فحل وكاء الثاني فذاقه فوجده ممزوجا بالماء ولم يجد له كثير حلاوة فرمى به وجهه وأخرجه من بين يديه
فلما حل وكاء الثالث خرجت الريح فبقي في الزق شيء قليل فلما ذاقه وجده حامضا غير مدرك فضرب بالزق على رأسه وأخرجه من بين يديه وسقطت الجلدة بين يديه

عمال الله تعالى على ثلاثة أصناف
فعمال الله تعالى ثلاثة أصناف فعامل تصدر أعمال بره من قلب سقيم فصدره مغيم بسقم قلبه من أمراض الذنوب وغيمه من دخان الشهوات وقضاء المنى فقوة عمله إنما هي من نور التوحيد

فقط فإذا خرج عمله حشو نوره الذي بدر من التوحيد فالأعمال قوالب وحشوها الأنوار فصاحب هذه الصفة كصاحب زق منفوخ فيه حين حل وكاؤه خرجت الريح وبقي في أسفله شيء يسير قليل وتساقط الزق فإذا رفع عمل هذا إلى الله تعالى لم يظهر منه من النور إلا بمقدار النور الذي ذكرنا وسائرها حركات الجوارح بلا نور
والثاني خرج عمله إلى الله تعالى ممتلئا نورا ممزوجا بنور الرجاء والنوال من الله تعالى فطمع نواله أذهب حلاوة عمله
والثالث خرج عمله إلى الله تعالى ممتلئا نورا من نور القربة حشو ذلك النور حب الله تعالى لم يبتغ به غير وجهه الكريم من غير أن يلتفت إلى نفس ولا طمع فلما رفع إلى الله تعالى ظهر منه من النور ما أحاط بالمعرض من العرش وانتشر في جوانبه وملأ الخزائن فهذا عمل المقربين والثاني عمل المقتصدين والثالث عمل المخلصين الظالمين لأنفسهم

مثل الطاعات في الزينة
مثل الطاعات في الزينة مثل زينة الثوب المنسوج المنقوش بألوان النقوش فكل من نظر إليه في هذه الزينة ذهل عقله من حسنه

وبهائه وسبى قلبه بهجته فالناظرون إلى زينة الأعمال أحق أن تسبي منهم قلوبهم بزينتها وبهائها وبهجتها
قال له قائل ما زينة الأعمال
قال زينتها في لبقها فمن احتظى من اللبق زينها فزينة الثياب إنما ازدادت باجتماع الألوان المنسوجة بعضها ببعض فإذا تلونت على العيون على اختلاف ألوانها ونقوشها التذت بتأليفها فزينة الأعمال في لبقها فمن احتظى من اللبق رأى زينتها
قال له قائل ضربت المثل بشيء فأفهمنا به فبين لنا نوعا من ذلك نفهم
قال فانظر إلى الصلاة فإنما هي قيام ثم انتصاب ثم تكبير ثم وقوف ثم ثناء ثم تلاوة ثم ركوع ثم سجود ثم جثو ثم ارتغاب ثم تسليم فهذه أفعال مختلفة وأقوال متباينة ولكل فعل زينة ولكل زينة بهاء وبهاؤه من أصله الذي منه بدأ وإليه يعود
فإذا اجتمعت هذه الأنواع على التفاوت بعضها في بعض تلونت 91 وازدانت والتذت القلوب بتلك الأفعال والأقوال ثم المتلذون بها على درجاتهم في الترائي فطائفة منهم تلحظ في

أعمالهم إلى حركاتهم فيها على الخضوع والذلة يتذللون لمليكهم بتلك الحركات عبودة وأسرا
وطائفة تلحظ إلى حركاتهم فيها إلى فرح الله بفعل العبيد فهم يتقلبون ويتصرفون فيها التذاذا بفرح الله تعالى ومسراته بتلك الأفعال وقوله لعيسى عليه السلام يا عيسى تحر مسرتي وهو قوله ( لله أفرح بتوبة العبد من أن يضل أحدكم راحلته في أرض فلاة عليها زاده ومتاعه فيضرب يمينا وشمالا فلا يجد فيقول في نفسه أرجع إلى ذلك الموضع فأموت فيه فوطن نفسه على ذلك فإذا رجع إلى ذلك الموضع وجد راحلته قائمة هناك عليها زاده وشرابه ومتاعه )
وكذلك الصوم إنما هو دعوة القلب النفس إلى ترك الشهوات ليومه الذي يريد أن يصبح فيه والنفس تتثاقل وتنفر عن ذلك النفرة التي تنفر وتتثاقل عن تركها حتى إذا أجابت القلب إلى ذلك ارتحل القلب إلى الله تعالى بانقياد النفس له ومتابعتها إياه وقبول القلب من الله تعالى ذلك الترك والكف عن الشهوات من الطعام والشراب والنساء والحفظ للسمع والبصر واللسان عما لا يحل ثم إلى النفس عازما فذاك الارتجاع زينة عمله في العزيمة عند الرجوع إلى النفس وقبوله من الله تعالى فجاء بذلك القبول فأحاط بالنفس فتلك

الإحاطة عزيمة القلب وانقياد النفس وثاقه إياها فربضت النفس ساكنة
هذا مبتدأ الصوم فمن مبتدا هذا اليوم إلى آخره في صدره خواطر وعلى ظاهر جوارحه عوارض تحتاج النفس إلى أن تتجرع مرارة تلك الشهوات خاطرة كانت أو عارضة فكلما خطر بباله في صدره بين عيني فؤاده خطرة هاج البال واشتهت النفوس لتلك الشهوة وسكنها القلب فريضت كان لها بكل خاطرة وعارضة تتجرع النفس مرارة الترك جزاء عند الله تعالى فمن يحصي هذه الخطرات والعوارض إلا الله تعالى
ولذلك قال الصوم لي وأنا أجزي به لأن النفس تجرعت مرارة الترك لله تعالى والقلب وفى بما قبل من الله تعالى فالثواب يتجرع المرارة والجزاء للقلب بالوفاء
فطبقة منهم في هذه الخطرات والعوارض في درجة ملاحظة الثواب والعقاب
وطائفة منهم في درجة ملاحظة حب الله تعالى فتلاشت المرارات بحلاوة حبه
وطبقة منهم في درجة ملاحظة مسرات الله تعالى وقرة العين

فيفتقدون المرارات لا بتهاج نفوسهم بمسرات الله تعالى

مثل المعرفة التي لم تضء
مثل المعرفة التي لم تضء مثل لؤلؤة بيضاء صافية نقية ثم تجدها قد دخلتها صفرة بطول استعمالها من العرق والحر والبرد وأدناس الجسد وغيرها وترى ياقوتة أيضا بمائها وصفاء لونها قد ذهب صفاؤها وتغير لونها بطول لبسها فأصحاب الجواهر أبصر بما يغسلون تلك اللؤلؤة لتزول صفرتها وتعود إلى حالها
وكذا الياقوتة تعالج حتى تعود إلى مائها وصفائها
فكذا المعرفة تجدها حلوة نزهة نيرة فعلى طول مجاورتها بشهوات النفس وملامستها إياها تجدها متغيرة قد افتقدت حلاوتها ونزاهتها وطيبها لأنها قد تدنست بأدناس الشهوات فيجب أن يحتال لأمرها حتى تعود كما كانت
قال له قائل فكيف يكون ذلك
قال أليس هذه الياقوتة واللؤلؤة جوهرها قائم وإنما افتقد صفاؤها وماؤها لما لزق بها من الدنس وتغيب عنها صفاؤها فبالمعالجة زال عنها ما كان لزق بها وعادت إلى حالها وظهر صفاؤها فكذا المعرفة قائمة إلا أن أدناس الشهوات حجبت عنك إشراقها لما حلت في عين فؤادك في صدرك فصارت كشمس

انكسفت فذهب ضوؤها وإشراقها فإذا انجلت عن الكسوف عاد إليها مضيئا
فكذا المعرفة إذا غشيتها الكبائر فقد انكسفت شمسك فصرت في ليل دامس فلو اجتنبت الكبائر دون الصغائر وهي السيئات فأنت في نهارك في سحاب وغيوم فلو دام هذا الغيم والسحاب لم ينعقد لك حبة من حبوب الأرض ولا نضجت ثمرة من أثمار أشجارك ووجدت الآدمي مقسوما على ثلاثة أجزاء
قلب بما فيه من الإيمان وروح بما فيه من الطاعة ونفس بما فيها من الشهوة والقلب يقتضي الإيمان والروح تقتضي الطاعة والنفس تقتضي شكر النعم والعبد مقصر في الثلاث كلها فحبه لربه يوفي تقصيراته فكلما كان حبه أوفر كان أثمر لتوفير تقصيراته لأن أصل المعرفة قائمة لكنها متغيمة فإذا أحببتها كلها عملت بلا تقصير فلا تحتاج إلى التوفير
ومثل ذلك مثل عبدين لك اقتضيتهما الإقرار لك بالعبودة والاستقامة بين يديك واقتضيتهما ما وظفت عليهما من الخراج واقتضيتهما شكرك فقصرا في جميع ذلك وكان أحدهما أظهر حبا لك من الآخر فإن كان أحدهما أكثر عملا والآخر أقل فنظرت إلى قلته وقلت في نفسك وهذا يحبنا فنحن نقبل منه بحبه إيانا موفرا

مثل الائتمار بأمر الله
عن زيد بن أسلم رحمه الله أنه قال لي حديثان أحدث بهما إذا خلوت
مثل الائتمار بأمر الله تعالى ومثل القلوب مثل أمير ولي على كورة فوردها فوجد الكورة غياضا ومروجا وآجاما فيها الخنازير والسباع ومياه النز فلما نظر اليها رجع ناكصا على عقبيه فقال : ليس مع هذا النز قوام ولا مع هذه الخنازير عيش ولا إمرة
وولي آخر على كورة أخرى فوجدها ذات قصور وبساتين وأنهار جارية وأشجار ومساكن نزهة وسكان كثيرة وأسواق مزينة فيها ألوان المتجر فحل بهم واستقر قراره وملكهم وتأمر عليهم ففتح باب خزائنه وقسم كنوزه فيما بينهم 92 حتى أغناهم وقواهم
فأمر الله تعالى عباده بأمور ونهاهم عن أشياء لا لجر نفع ولا لدفع ضر لكن رحمة منه عليهم ورأفة بهم فمن وافاه أمره

فوجد صدره مشحونا بأشغال أحوال النفس وقلبه مشغوفا بحب الدنيا ونفسه مفتونة بالشهوات والمنى وعقله معتوها بالهوى رجع الأمير قهقرى ولا يجد محلا ولا مستقرا لأن في هذا القلب من العتاهة وفي هذه النفس من النهمات والشهوات وفي هذا الصدر من الأماني والفتن والمكر والغل والحسد والخيانة وأشغال وسواس العبد ما هو أقبح لأن هذه الأشياء أقبح من الخنازير ومن الهوى ما هو أكثر ضررا من النز فكيف يقدر الأمير أن يملك هذا القلب ويحل بهذا الصدر ويتملك على هذه النفس وكيف يقتضي العقل القيام بها
ومن وافى إمرته فوجد قلبا مشحونا بحب الله تعالى وصدرا مشرقا بنور الله تعالى ونفسا مزينة بنزهة بساتين الله تعالى وعقلا مشحونا بنور وجه الله تعالى حل به الأمير فشرب القلب حلاوة الأمر وطعمت النفس لبابه وازداد العقل بالرأفة التي تضمنت الأمر وظهر العمل على الأركان على حسب ما وصفنا من الباطن
وهذا لما ذكرنا أن الله تعالى لم يأمر عباده أمرا لجر منفعة ولا نهاهم لدفع مضرة ولكن أمرهم رأفة بهم ورحمة عليهم ولما فيه مصالحهم ودفع المضار عنهم

أمر الله على نوعين
فأمره على نوعين فأمر منه موافق طبعه كقوله ( كلوا واشربوا . . . ) الآية فتهتش إليه النفس وتسر به
وأمر يتثاقل عليه ويتباطأ كقوله صم عن الأكل والشرب فمن ساكن قلبه حب الله تعالى وعظمته وجلالته فشرب قلبه حلاوة الأمر لأن حلاوة الحب تحليه وعظمته تعظمه وجلاله يجله فتعمل الأركان على ما في الصدر والقلب فإن كان هذا الأمر محبوبا فهذه صفته وإن كان مكروها لاحظت عين فؤاده رحمة الله ورأفته عليه فمر في ذلك الأمر كالسهم وهانت عليه أثقالها ورأى أن أباه إذا أقعده بين يدي الختان ليختنه أو بين يدي الحجام ليحجمه أو بين يدي الطبيب ليشربه دواء من الأدوية المرة البشعة فلم يخل من وجع وألم وأذى ولكن لم يتهم والده في ذلك لما علم من رأفته وشفقته عليه فكذا لما رأى من رأفة الله ورحمته وشفقته عليه لا يتهمه بهذا الأمر وإن كان غير موافق طبعه فقبله مسرعا وقام به على الاهتشاش
فهذا أمير وافى قلبا غنيا وصدرا عامرا ونفسا طيبة نزهة ومن كان بخلاف تلك الصفة فقد وافى أمره قلبا خربا وصدرا ذا مروج وخنازير ونفسا بطالة شرهة وعقلا معتوها بالهوى فأمر الله جلا وعلا على هذه الأركان كما كان أمر الله على المنافقين الذين كانوا

مع أصحاب رسول الله ورضي عنهم لهم مقارنة معهم في مغازيه ومجمع الصلاة والصيام والجمع والأعياد وقلوبهم حزبة فقد مضت تلك الصفة ولا يزال في كل قرن منهم يزداد ويكثر حتى امتلأت الأرض منهم وغلبت وقل أهل الصدق
وكذلك روي عن رسول الله أنه قال ( يأتي على الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه ومن القرآن إلا رسمه ومساجدهم عامرة من أبدانهم وقلوبهم حزبة من الهدى أولئك شر من تظل السماء منهم تخرج الفتنة وعليهم تعود )

الأجساد قوالب
ثم إن الله تعالى خلقنا فجعل أجسادنا قوالب للقلوب ونفوسنا معدنا للشهوات ورؤوسنا معدنا للعقل وصدورنا معدنا للعلم وقلوبنا معدنا لكنوز المعرفة وأكبادنا موضعا للقوة ومجمعا للعروق التي تجري فيها القوة مع الدم وطحالنا معدن الرأفة وجعل فينا روحا حيا اشتمل على الجميع منا فظهرت الحركات بتلك الحياة في جميعنا وأشرق في قلوبنا نور المحبة لتحيا قلوبنا بالله وكتم فيها نور الهداية لنهتدي في تلك الحركات بهدى الله الذي هدى به أحباءه وجعل المعرفة أميرا على العقل وخلق الهوى وجعله قرين العدو وجعل لهما سبيلا إليه حتى يوسوس العدو وجعل للهوى سلطانا حتى يقهر بسلطانه العقل ويطمس العلم ويحسم باب

الكبر ويغلب الروح ويخدع النفس ويجعلها أميرا فإذا ذاقت النفس طعم الإمارة وعزها انخدعت ومرت معه فتظاهرا وخرجا على القلب فأخذاه بمنزلة خارجي متغلب خرج على والي الكورة فأخذه وقيده وسجنه وأوثقه وأغار على كنوزه وفرق جنوده وقعد أميرا فخرب الكورة وأفسد الرعية
فأمرنا ربنا جل وعلا بأمور ونهانا عما يفسد تدبيره فينا وهو المعاصي وذلك دواؤنا وشفاؤنا وصحة النفس من الأسقام أسقام الدين
ثم ينصحنا كما ينصح الطبيب الرفيق بشفاء الدواء
ثم حذرك عن أشياء وأمرك بالحماية عنها فحذرنا ربنا اتباع الهوى وزينة الدنيا ومكايدة العدو وإجابة دعوته وأيدك بالعلم والعقل والمعرفة والحفظ والذهن والفطنة وأيدك بكلامه المهيمن على الكتب نورا وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة وأيدك بأسمائه تسعة وتسعين

الدعاء لم يكن لسائر الأمم
وفتح لك باب الدعاء ما لم يكن لسائر الأمم يقول الله تعالى ( ادعوني أستجب لكم )

وإنما كانت للأنبياء خاصة دونهم حتى إذا نابهم نائبة فزعوا إلى الأنبياء ليدعوا لهم فلذلك كثرت أنبياؤهم لحاجتهم إلى ذلك حتى كان لكل محلة نبي ونبيان وثلاثة وأربعة وأكثر لحاجة العبد في ذلك الموقف العظيم
قال له ربه أعطيتك ثلاثة من الأمراء ما من أمير إلا وله سلطان وجند ونفاذ أمر أفما كان لأمرائك من العدة والقوة ما يغلبون هواك بلى قد كان ولكنك قد ملت إلى هواك ووضعت يدك في يده حتى أسرك وضيعت أمرا لي والمحاربة للنفس مع أمرائي وقد أمرتك بالمجاهدة وقلت ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) وأعطيتك الأمراء مع الجنود لمجاهدة نفسك وهواك فملت إلى النفس والهوى وأعرضت عن الأمراء والجنود وألقيت نفسك أسيرا بين يدي الهوى حتى وضعك في يد العدو وفضحك 93 فخرجت إلى هذا المجمع بين يدي الرحمن والأنبياء والأولياء والملائكة مع هذه الأعمال القبيحة والفضائح اللسان لسان الأولياء والأعمال أعمال الأعداء أف لعبد أحمق وزبون أبله أين كان علمك حتى تبلهت وأين كان عقلك حتى تحمقت وأين كان ذهنك حتى أعرضت عن الله تعالى وأقبلت على نفسك وتصاممت عن

أدب الله تعالى وكلامه ومواعظه وأصغيت إلى وساوس شيطانك اتهمت مصالح الله وانخدعت لعدوك وعدك عدوك الفقر وأمرك بالفحشاء والله وعدك مغفرة منه وفضلا فآثرت وعده وأمره على وعد ربك ومغفرته وفضله وإنما أوتي العبد هذا من قبل رق النفس لأن النفس إذا ملكها الهوى صارت رقيقا للهوى مملوكة ذليلة تنقاد للهوى حيثما قادها حتى يهوي بها في النار التي منها خرج إلى النفس
فالهوى هو نفس النار فإذا تنفست فإنما لها لهبان ونفسان نفس من السموم ونفس من الزمهرير فكلاهما في الهوى برد الزمهرير وحرارة السموم فإذا خلص إلى القلب برد زمهرير الهوى خمدت حرارة حياة القلب فإذا ذهبت الحرارة مات القلب وجمد الدم
ألا ترى إذا خرج الروح جمد الدم ثم النفس وبقي دم العروق على حاله وتلك دماء الطبيعة
في قلب المؤمن حياتان

ففي
قلب المؤمن حياتان حياة الريح وحياة المعرفة وفيهما الحرارة فإذا جاء الهوى ببرده خمدت الحرارة التي في القلب فبرد القلب عن أمر الله تعالى وعن دار الآخرة وجاء العدو بزينة الدنيا على أثر الدنيا حتى سبى قلبه بتلك الزينة ويغويه عن أمر الله تعالى

والغي حول القلب عن الرشد وبالرشد لازمت المعرفة القلب فهي ملازمته أبدا وبالرشد ثبات المعرفة والغي ضد الرشد

الرشد سر الله في قلب المؤمن
قال الله تبارك وتعالى في تنزيله حيث بعث رسوله ( قد تبين الرشد من الغي ) والرشد سر الله تعالى في قلوب المؤمنين لا يطلع عليه إلا الأنبياء عليهم السلام والأولياء فمن دونهم عجزوا عن معرفة كنهه فالرق برد القلب وخموده عن حرارة حياة القلب بالله تعالى وموت القلب عن الله تعالى وبرد النفس وخمودها عن التحلل للأركان في أمر الله تعالى فظهر على القلب الجمود والعجز وعلى النفس القهر وذهاب القوة والكسل
فكل من ملكه هواه فقلبه مقهور ذليل لا يعتز بأمر الله ولا يهتز له لأن أمر الله تعالى ملكه وسلطانه وزينته وبهاؤه وحلاوته فإذا وافى قلبه مأسورا وصدرا مظلما بأشغال الدنيا قد خربه الهوى وصير صدره مروجا وغياضا وآجاما يخوض فيها الخنازير وتتردد فيها الذئاب والسباع والأسد والثعالب لم يبق هناك للأمير سلطان فإذا لم يكن للأمير مملكة ولا سلطان فلم تبرز زينته وبهاؤه ولم توجد حلاوته فلذلك لا يجد صاحب الهوى طعم أمر الله تعالى وحلاوته ولا يرى بهاءه وسناءه وزينته فإذا عمل ذلك الأمر كان كالمكره

الذي لا يجد بدا أو كالذي يجر برجليه على موائد النعم وبساتين النزهة كما تجر جيف الميتة لترمى ولا يجد طعم ما حل بالموائد ولا يشم رياحين البساتين ولا يلتذ بنزهتها
ومن خلص من رق الهوى فيوسم سمة الأحرار قعد على موائد النعم ونزهة السنن فكانت الأعمال موائد غراسه والذكر بساتينه و نزهته فالرق يدنس القلب ويقهره فإذا صار حرا تطهر القلب من الأدناس وخرج من قهر الهوى فاعتز بالله واستغنى بالله

مثل أعمال البر في الجسد
مثل أعمال البر في الجسد مثل أيام الربيع إذا هاج الحر من تحت الأرض وذهب البرد من الجو فإذا غشي الحر بزور الأرض وعروق الأشجار انفطرت الأرض واهتزت وربت وتوردت الأشجار والأوراد واخضرت الزروع والنبات في الأودية والجبال والبراري فهاجت ريح كل شيء فطاب الهواء فإذا طاب الهواء من انفطار هذه الأشياء ووصل نسيم الأوراد والرياحين إلى الخياشيم فصارت شفاء لأجسامهم وصلاحا

لطبائعهم ومرمة لأعضائهم وذهبت عنهم زهومة الشتاء والدخان والأدناس
فكذا الأعمال السيئة كدرت أحوال المؤمنين ودنست جوارحهم وثقلت أركانهم ووهنت أعضاءهم فإذا خالطتها الأعمال الصالحة صارت شفاء للقلوب وقوة للأركان كأيام الربيع وطيب الهواء للأجساد التي وصفنا وحييت القلوب بالأعمال الصالحة التي ماتت من تعاطي الشهوات كالأرض حييت بالأمطار في الربيع من مياه الحياة وكذا قال جل جلاله ( يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) أي إن الله تعالى دعاكم إليه طاعته فأجيبوه ووفوا له بما دعاكم إلى تحيى قلوبكم به

مثل القلب والنفس
مثل القلب والنفس مثل القوس أعلاها أوسع من أسفلها فإذا غفل عنها صاحبها أخذ البيت الأسفل من البيت الأعلى قليلا قليلا حتى يصير الأعلى ضيقا والأسفل واسعا فلا تخرج الرمية عن قوة ولا تبلغ المقصد
فكذلك القلب هو في غناه وسعته وقوته متمكن في التدبير

وهذه الجوارح والنفس في ضيقها وفقرها وحاجتها فلا تزال تأخذ من سعة القلب ومن قوته حتى يضعف القلب ويقل غناه ويضيق فلا تخرج رميته مستوية ولا عن قوة فلا يصل إلى المقصود
قال له قائل ما الرمية
قال النية الصادقة فالنية من القلب إذا خالطه علائق النفس ضعفت النية وخرج الفعل غير مستو ولا صاف
قيل مثل ماذا
قال بيانه رجل أخرج شطر ماله ليتصدق به ابتغاء وجه الله تعالى فهذه نية صادقة خرجت من قلب صاف صادق ثم قال أين أضعها فحدثته نفسه أن ضعها في غريمك فلان لك عليه دراهم ليرد عليك قضاء مالك عليه أو ضعها في تابعي من خدمك فهذه علائق خالطت الصدق الذي ادعى أنه يريد به وجه الله تعالى أراد به غير 94 وجه الله تعالى عرضا من عرض الدنيا فزاغ قلبه عن الاستواء إلى الميل إلى شيء عن اليمين إلى الشمال وعن الأعلى إلى الأسفل كالقوس إذا جعلت بيت أسفله أعلاه وأعلاه أسفله فإذا وجدت النفس إلى ذلك سبيلا اعتادت ذلك فمرة أخرى

أخذت القوة من القلب
ثم أخرج من ماله شطرا آخر لينفقه في سبيل الله تعالى فقال أين أضعه فطمعت نفسه أن يتصدق به على ملأ من الناس فتحمدك الناس على ذلك ويقال إنه سخي خير فقد زال عن الاستواء إلى أن بطلت رميته حتى خرجت من القوس فسقطت بالأرض ولم يصل إلى مقصوده من الرمية
ثم أخرج درهما آخر فقال أين أضعه فذهب فوضعه في معصية فهذه رمية لم يعمل القوس فيها فالقوس معطلة والوتر منقطع والسهم معوج والرمية غير مسددة

مثل المحق والمبطل
مثل المحق والمبطل مثل رجل بيده اليمنى كوز مملوء من ماء عذب بارد صاف هني مري يجد عذوبته في لهاته وبرده في فيه وحلاوته في حلقه وهناءته ومراءته في جوفه وبيده اليسرى كوز فيه بول قذر منتن وتراه يؤثر هذا على الماء الصافي العذب ويشرب من هذا الرجس فمن نظر إلى فعله أليس يقضي عليه بأحد الحالين إما جنون أو سكر

قال فإنما مثلتهما بكوزين لأن الكوز وعاء للماء والأعمال وعاء الحق والباطل فعمل رضي الله به وأمرك به وأحبه فالحق فيه وذلك العمل وعاء ذلك الحق فأي ماء أعذب وأبرد وأصفى وأهنأ وأمرى من الحق
وفعل آخر زجر الله تعالى عنه وسخطه وأبغضه ونهاك عنه ومقت فاعله فالباطل فيه وذلك وعاء ذلك الباطل فمثلهما كمثل الكوزين في يدي ذلك على ما وصفنا أخذهما رجل بيده على ما وصفنا فمن آثر كوز البول على كوز الماء العذب الهنيء المريء لم يوضع أمره إلا على الجنون أو السكر فمن آثر الباطل على الحق لدنيا يصيبها أو لنفس يغرها ويباهي بها فإنما هو لأحد أمرين إما أن تكون المعرفة قد اختبأت فيه فهو منافق شاك في ربه أو مما يشرب صرفا من حلاوة حب الدنيا فأسكرته ولذلك قال رسول الله ( حبك الشيء يعمي ويصم ) فإذا أصمه وأعماه نافق فإذا آثر الباطل انمحق الباطل وزهق وإن الباطل كان زهوقا وتلاشت الدنيا عنه وبطل ملكه بها وانتقلت إلى غيره ونفسه الطالبة للعز والجاه عادت جيفة منتنة ملأ بطنه صديد وديدان

مثل العارف المنتبه
مثل العارف المنتبه قبل الانتباه مثل عبد له مولى ولكن لا يعلم من مولاه وكان في جمع عظيم وكلهم موالي العبيد فقال أيهم مولاي من بين هؤلاء فأشاروا له إلى واحد منهم إن هذا مولاك وسيدك فنظر إليه بعين الرضا فوجده أجملهم وجها وأغناهم مالا وأحسنهم خلقا وأطهرهم سيرة وأجودهم كفا وأحلاهم منطقا وأنفذهم قولا وأفرسهم فارسا وأعلمهم علما وأبهاهم زينة وأرفعهم كسوة وأوسعهم ملكا وأعظمهم رحمة وتحننا وأشكرهم لعبده فامتلأ هذا العبد فرحا لما وجد مولاه على هذه الصفة واستطال به على سائر العبيد من نظرائه واختال وافتخر به ووجد القوة في ظهره كل القوة والسرور في قلبه ورأى نفسه لهذا المولى الذي وجده بهذه الصفات أنه ليس له كفوا من أشكاله من العبيد بما وجد مولى مثل هذا
فهذا حال العارف إذا انتبه من رقدته وعرف أن له ربا بتلك الصفات التي كانت له تسعة وتسعين اسما ووجد في أسمائه تسعة وتسعين صفة فكل اسم إذا دعاه به عرف أن هذا اسمه على الحقيقة لا على الاستعارة وعلم أن الصفة من وراء الاسم قد أعد له ما وضع من تلك الصفات لعبده فمتى يسع هذا العبد في الدنيا وفي

العقبى متى وجد سيده بهذه الصفات

مثل العلم مثل الماء
مثل العلم مثل الماء فإن فيه حياة الأرض فالماء يخرج به النبات ويشتد نباتها بالتراب الملقى فيها فبه تتقوى الأرض ويشتد نباتها فلو أن رجلا غرس أغراسا ثم لها عنها فلم يلق فيها التراب ولم يسقها بالماء يبست الأغراس وبطل عمله
فكذا العلم فيه حياة القلوب يحيا القلب بالعلم ويقوى ويشتد باستعمال العلم بالعمل
فلو أن رجلا تعلم العلم ثم لها عنه فلم يعمل في انكشاف الغطاء عنه حتى يصير العلم له معاينة ويتصور في صدره لأن مرآته في صدره فالذي يسمع بأذني رأسه يتأدى في أذن فؤاده وبصر فؤاده ففي أذني فؤاده وقر من رياح الشهوات وأهويتها فضل سمعه فتلاشى ما سمع بأذني الرأس وعمي بصر فؤاده عن صورة ما يتصور من ذلك العلم في قلبه فتراكم دخان الشهوات وفوران حريقها المتأدي من جوفه إلى صدره فأظلم عليه إشراق نور شمس

المعرفة عن صدره فبقي على لسانه كلام ذلك العلم وذلك الكلام وذاك عبارة العلم
فأما العلم فقد احتجب وغاب في ظلمة ذلك الدخان والفوران فذهب عنه استعماله فلم يبق علم ولا عمل إنما بقيت عبارة اللسان وتلك حجة الله على ابن آدم
فهذا بمنزلة غارس غرس أشجارا ثم لها عن سقيها وتربيتها حتى يبس وبطل عمله وهو في الآخرة من الخاسرين

مثل التائب
مثل التائب مثل عبد للملك أبق منه فصار إلى بلد من البلدان فوجد الملك عليه وجدا شديدا بكفرانه بنعيمه وذهابه بالرقبة وإيثاره النهمة على الكون بين يديه من الخدمة وسقط من عينه
فلما افتقد العبد عز القربة وشرف الخدمة وحلاوة القيام وافتقد مرافقه وغلبه العجز والشهوته والكدرة والعناء في طلب المعيشة وحالة البؤس والفقر من تلك المرافق ورخاء العيش ندم على ما كان منه لما حل به ولم يدع شقاوة نفسه أن

يرجع بنفسه إلى مولاه
وقد علم الملك بما أصابه وبما ندم فبعث إليه بكسوة وراحلة وكتب كتابا أن ارجع إلينا فلك عندنا ما كان لك
فارتحل عن وطنه ذلك راجعا إلى الملك فكلما مر بمصر وقرية فيها نزهة مكث أياما وقضى نهمه 95 ثم يرتحل فيهجم على أخرى مثلها فمكث هناك ثم يرتحل والملك ينتظر وصوله وهو يتباطأ إلى اقتضاء الأوطار والمنى
فبينما هو كذلك إذ بعث الملك قاصدا فأخذه وقيده وسجنه هناك في بعض السجون إلى يوم يدعوه للمعاتبة والحساب يوم موقت بذهاب العلة
وعبد آخر قصته هذه القصة فلما ارتحل من مبتدإ أمره لا يسرع إلا إلى ما لا بد له منه وقطع البلدان والمفاوز والبحور والجبال والآكام لا ينام ولا ينيم كلما ازداد قربا بحضرة الملك اهتاج سيرا وجدا حتى وصل باب الملك فأقيم بالباب فنزل وأشير له إلى مكان يحط رحله ففعل وبقي هناك مدة ليتزين ويتأدب ويعتاد ويتوقر ولتزول عنه الخفة والاستبداد والعجلة ويلبس أثواب الخدم ويتهيأ للخدمة تهيؤا يصلح له بين يدي الملك فلا يزال هكذا في مدة طويلة حتى يرفع الستر ويؤذن له بالدخول بين يديه

فهو ما دام يفكر ما فعل يأخذه بما صنع بالإباق حتى لا يدري ما يصنع من الحياء
فإذا علم الملك من حاله أنه يستحي من ذلك بسط له بسطا وبره برا ولم يذكر له شيئا مما صنع وقبله وولاه ولاية سنية وخلع عليه خلعا يظهر عنده أن الملك ممن قد رضي عنه رضا لا يسخط بعده وعاد كما كان في محله ومرتبته وذلك قول رسول الله صاحب الشرع ( التائب من الذنب كمن لا ذنب له )

مثل الخاشي
مثل الخاشي مثل رجل وقع في مفازة لا يرى فيها أشياء ولا عمران ولا نبات فقد امتلأ خشية من ضلال الطريق ومن الظلماء ومن قلة القوت
وكمثل رجل وقع في غياض ومروج قد سبق إليه العلم بأن المروج مواضع الأسد فالخشية من الأسد كائنة فيه
مثل الخائف
ومثل الخائف كمثل رجل رأى في هذه المروج آثار خطاه ومأواه الذي يأوي إلى أشباله
مثل العارف
ومثل العارف كمثل من عاين الأسد ونظر إلى شخصه في ذلك المرج فأخذت هيبة الأسد بمجامع قلبه وركبت أهواله نفسه وصار كثوب بال وحلس ملقى من روع القلب وفزع النفس
مثل أهل الإرادة
مثل أهل الإرادة في درجاتهم مثل خدم الملك كل واحد منهم قد اتخذ على رأسه إكليلا وبارقة في يده ليلقى بها الملك يوم العرض فعمد أحدهم إلى الذهب الأحمر الصافي فصاغه ثم عمد إلى جواهر ثمينة من اللآلئ والياقوت والزمرد فركبها فصوصا فبلغت قيمة إكليله مائة ألف وزيادة
وآخر عمد إلى ذهب معمول مغشوش فصاغه وركب فيه من الفصوص ما يباع بثمن يسير من الأخزاف ونحوه وعظام صدف فإذا كان يوم العرض ولقيهم الملك فأنفذهم إلى سوقه

ليعطي كل واحد منهم ثمنه من الخزانة فعندها يظهر الأسف والندم على ما فرط في ذلك
فعمال الله تعالى في هذه المراتب على إرادتهم فمن عمل على طريق الحب والتحنن فعمله كتلك الجواهر الثمينة والذهب الخالص فأوفرهم حبا له أعلاهم ثمنا لجوهره وأصفى في ذهبه فالذهب الخالص صدقه والفصوص المركبة حبه لمولاه
فعمال الله تعالى هكذا صفتهم فعامل يخلط ويشوب فهو كالذهب المعمول الذي شابه ذلك النحاس والصفر والأدوية مع التخليط إذا صفت إرادته بجهده لم يتفكر في العلاقة فعمله مع طلب الثواب والنجاة من العقاب فهذه فصوص ليس لها كثير أثمان لأنها ليست بجواهر وكيف تكون جواهر وقد شانها طلب نجاة النفس وثوابها فبال النفس قائم بين يدي مولاه وقلبه حجاب كثيف يحجبه عن مولاه
وأصحاب الجواهر في أعمالهم من عمل لربه بلا علاقة وصدق الله في ذلك العمل بالمجاهدة بطلب الصدق وخرج العمل منه من نار الحب وفورانه فصعد إلى الله تعالى فلا ينتهي حتى يصير إلى محل الحب فهناك يعرض وهناك يقبل وهناك يثاب
وأعمال هؤلاء الآخرين منتهاها إلى العرض على العرش

أعمال هذه الأمة على ثلاث مراتب
فصارت أعمال هذه الأمة على ثلاث مراتب صنف منهم يرفع عملهم إلى الخزائن ويربى هناك بالرحمة فيصير الواحد عشرة وهو عمل المخلصين وذلك قول الله جل ذكره ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها )
وصنف آخر يرفع عمله إلى عليين إلى السدرة التي أصلها في الجنة ورأسها بباب الله فيربى هناك بالرأفة فيصير الواحد سبعمائة وهو عمل الصادقين وذلك قول الله تعالى جل ذكره ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة )
وصنف يرفع عمله إلى الله تعالى حتى يقبل الله عليه فينظر الله إليه فرباه هناك بنصرته فيصير الواحد آلاف ألف ولا يحصي عددها إلا الله تعالى وذلك قول الله تعالى ( فيضاعفه له أضعافا كثيرة )
وإنما كان كذلك لأن هذه الأمة أبرزت باليقين فاستقرت قلوبهم إلى حكم الله تعالى وأنفذت إلى حب الله تعالى فوقعت أعمالهم في تربية الله تعالى
مثل العمال في إخلاصهم في العمل
مثل العمال في إخلاصهم في العمل مثل عبد دفع إليه مولاه ثوبا منسوجا مختلف السدى فطاقة منه كتان وطاقة منه صوف وطاقة منه شعر وطاقة منه إبريسم فقال مولاه في ظلمة الليل استخرج طاقة الإبريسم من هذه الطاقات ليمتحن حذاقته فإذا قدر على ذلك عظم شأنه عند مولاه وصار أمره بين العبيد عجبا
فكذا المؤمن إذا أخلص الطاعة من بين شهوات النفس وإعجابها وعلائقها من الرغبة والرهبة والحرص والشره والغدر والعلو والكبر والحسد والغل والغش والمكر والخيانة أخلص طاعة من بين هذه الشهوات الدنيئة الرجسة الدنسة ثم خرج بها إلى الله تعالى عظم شأنه وصار أمره بين الملائكة عجبا كيف قدر على مثل هذا وإنما هو لحم ودم وطين وتراب وشهوات ولا تعلم الملائكة بما أعطاه الله من القوة في سر أسره من الجميع فبتلك على مثل هذا
مثل الأعمال في زينتها
مثل الأعمال في زينتها وبهائها مثل الأثواب من الديابيج

والوشايش فالوشايش فيها بألوان والأعمال 96 أنواع فثوب منها أبيض ليس فيه شيء من الألوان والنقوش ومع ذلك خشن ليس بجوهري لأنه مغشوش في أصله فهذا غير ثمين وإن كان فيكون قليلا نموذج شيء من الثياب فلا يشترك الإباق ووكس الثمن فهذا عمل من صاحب تخليط وخلق سيء وخشونة روح فلا يعبأ بعمله بشيء
وثوب ليس له جوهر إلا أنه خالص ولا نقش له فهذا مما يشترى ويرغب فيه
فهذا الصادق المريد يطلب مرضاته الذي قد لانت جوارحه للين نفسه وخشعة قلبه
وثوب جوهري خالص كذلك ذو ألوان من النقوش ولكن ليس له طراوة ولن تؤخذ العيون بحلاوته فهذا صديق صار إلى الله بجهده فجهده نصب عينيه كلما عمل عملا رأى نفسه في ذلك العمل فأعجبه ذلك فهو يعمل على التعظيم ويجتهد في العمل ونيته ولكن ليس له لبق
وثوب جيد جوهري خالص الغزل من الإبريسم محكم

النسج ملون النقوش بفنون الأشياء من الأشجار والطيور والتماثيل والتصاوير فيزداد بثمنه عشرة أضعاف كل مرة تأخذه العيون بحلاوة لبقه
فهذا عمل أهل المحبة وهم أهل اللبق في أعمالهم قد زايلتهم الأهواء والنفس والالتفات إلى شيء سوى العبودة والفرح بشيء سواه فأعمالهم بالسكينة والوقار والتعظيم والإجلال وحشوها حب الله تعالى

مثل عمل الذي لا لبق له
مثل عمل الذي لا لبق له مثل تلك النقوش التي تنقش على الحيطان والعيدان بألوان النقوش ولا تلتذ العيون برؤيتها ولا تذوق حلاوتها حتى تذهب بالذهب فحينئذ صار لها بريق وإشراق فعندها تلتذ العيون بحلاوة زينتها
فكذا الأعمال وإن صدرت لا لبق لها إلا بحلاوة لبقها وهو حب الله تعالى الذي هو أقوى الأنوار وأنورها وأعلاها وأسناها فهو جوهري محكم وإن طال استعماله وابتذاله فهو طري النقوش حسن الهيئة كالثوب الجوهري المحكم على ما وصفنا
وإذا كان خشنا لا جوهر له فبقليل الابتذال والاستعمال درست

تلك النقوش وتهافتت وبرزت قيمته إلى ثوب أبيض خلق
فكذا العامل الذي قام به واجتهد في طلب الصدق مع خشونة وأخلاق سيئة لا تدعه فقد نقش عمله وزينه ولكن إذا طالت المدة وكبرت سنه تهافتت عنه تلك النقوش والزينة لأنه كلما كبر ازداد سوء خلقه وضيق صدره وخشونته فتعود حاله وقدره عند الله تعالى كما عاد ذلك الثوب الذي قد درس وصار ثوبا خلقا لا نقوش فيه وتراجعت قيمته إلى قيمة ثوب أبيض خلق

مثل من يجاوب الذاكرين
مثل من يجاوب الذاكرين والمؤذنين عند التهليل على طريق المساعدة بلا روية ولا استعمال عمل مثل رجل يلقي في زرعه من التراب والعلف ليقويه ثم امتنع من سقيه فما يزيده ذلك إلا يبسا ويلقي عنه النبت ومن سقاه سقيا مترادفا مرتين أو ثلاثا استخرج الماء قوة ذلك الملقي فأداها إلى الزرع فنبت وقوي واشتد ساقه وسنبل وتفرع حتى أدرك الزرع وقوي

فكذا من جاوب المهلل بدون حياة القلب ولا يفعل ما يقول فذلك كالتراب الذي يلقى في الزرع ومنع سقياه لم يزدد إلا ثقلا لأنه إنما اقتضي التهليل في جميع عمره مرة واحدة وهو الإقرار بتوحيده وما سواه تجديد الوله فهذه الكلمة إنما تقتضي منه وله القلب إليه فإذا لم يوله قلبه إليه لم يقبل ذلك منه لأنه لما آمن اطمأنت نفسه ووله بالواحد فكلما ذهب من وله قلبه عنه إلى شيء غيره فإنما يذهب سهوا لا عمدا فإذا سها عن ذكر الصانع واشتغل بالمصنوع لغلبة حلاوة المصنوع على قلبه وحدة شهوته له في نفسه فإذا بقي فيه خرب قلبه وأظلم صدره فإذا هلل فإنما يجدد الوله ويرجع إلى الله تعالى فيربط القلب وتعود النفس طرية
فهذا المجاوب إذا سمع تهليله فجاوبه على طريق المساعدة والغفلة فهو كالتراب الملقى على ذلك الزرع بلا سقي فلا يزيده ذلك إلا ثقلا كذا هذا المجاوب لا يزيده من ذلك إلا خسارا وحجة
ومن نطق به على كشف الغطاء كان كمن سقى زرعه بعد إلقاء التراب فيه فرطب ذلك التراب وتأدت قوته إلى الزرع فقوي واشتد ساقه وأعجب الزراع ليغيظ به عدوه الكافر ووعد الله عز و جل أولئك بالمغفرة والأجر العظيم لقول الله سبحانه وتعالى

( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )

مثل من يستمع قلبه إلى حديث نفسه
مثل من يستمع قلبه إلى حديث نفسه فيقبل منها ويستشيرها في أموره ويقبل ما تشير عليه مثل رجل معروف بالعقل والعلم ذي خطر وجاه يستشيره الناس في أمورهم أقبل على صبي من خلقان وأدناس وبزاق ومخاط يلعب بالتراب لعب الصبيان فهو يستشيره في الأمور ويستمع مقالاته ويقبل منه فكل من نظر إليه من العقلاء تحير في أمره وتعجب من فعله
فكذا النفس في جوف الآدمي بهذه الصفة نهمتها اللعب والبطالة من الشهوات والنهمات مع خلقان الأعمال وأدناس الذنوب وبزاق الغضب ومخاط البكاء جزعا على فوات الدنيا ومصائب أحوالها
فإذا ذهب القلب الذي أكرمه الله تعالى بمعرفته وزينه بالعقل وشرفه بعلم أسمائه وعلم القرآن فأعرض عن هذه العطايا والهدايا وأقبل على حديث النفس وإشاراتها وإلى ما تدعو إليه فقبل منها واستفاد بها فهذا شأن عجيب ومن نظر إليه فيه حيره
مثل عمال الله تعالى على طريق الرجاء والثواب
مثل عمال الله تعالى على طريق الرجاء والثواب مثل بعير الرحا يشد على عصاري حجر الرحا وأخذ بعينيه فهو يدور على ذلك القطب والبكرة في أرض عشرة أذرع لا يبرح من تلك البقعة في شهره ودهره ولا يعرف سوى ذلك شيئا فالرحا الأعمال الثقال وتعب الأركان فيها وطحنها الذي ترمي به تلك الأنوار التي تصعد إلى السماء من تلك الأعمال والقطب الذي تدور عليه أعمالهم نياتهم ومقاصدهم يبتغون بها 97 الثواب من الله تعالى فهم الشهر والدهر مشاغيل في الأعمال ودوران قلوبهم على طلب ذلك النوال لا يبتغون غير ذلك
مثل الصديقين العارفين في الأعمال
ومثل الصديقين العارفين في الأعمال مثل أرحية الماء جاء الماء منحدرا جدا ودار القطب بما فيه من الأجنحة فالماء علمهم بتدبير الله وعلمهم بالله
مثل خاص الأولياء
مثل خاص الأولياء مثل أرحية الريح جاءت الريح فتحمل ذلك الرحا فهو في رأي العين يدور كالطائر يطير وسبب دورانه منكمن فهؤلاء المستعملون في القبضة أسباب أمورهم قد انقطعت عن أسباب أهل الدنيا وخفيت لأنها من عند الله تعالى
مثل المؤمن والكافر والمنافق
مثل المؤمن والكافر والمنافق مثل ثلاثة نفر أتوا نهرا عظيما في مفازة فوقع واحد منهم في النهر فسبح سبحا وخرج ووقع الثاني فكلما كاد ان يصل إلى شط النهر ناداه الثالث الذي لم يدخل بعد في النهر أن يا فلان هلم إلي إلي فإن الطريق مخوف فتهلك ارجع إلي فإني أعلم بطريق آخر يعبر بالسلامة على القنطرة والذي خرج يناديه أن إلي إلي فإن الطريق آمن وعندي من النعيم ما لا يوصف فما زال يذهب إلى هذا وإلى ذاك حتى يغرق في الماء ويهلك
قال قتادة رحمه الله فالأول الذي عبر مؤمن مخلص والذي لم يعبر بعد كافر والذي دخل منافق يدعوه المسلم من ورائه والكافر يدعوه من خلفه وهو متردد متذبذب حتى يأتيه الموت

فيموت منافقا فيبقى في قعر جهنم في أسفل السافلين
ومصداق هذا قول الله سبحانه وتعالى ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا )
ومثلهم أيضا مثل أهل بلدة بقوا في جدوبة وقحط وشدة ويبوسة وعسر وضيق وفقر فجاء رجل بهي سخي كريم جواد رؤوف رحيم وقال لهم أنا لكم ناصح أمين وإنكم بقيتم في هذه البقعة في هذه الشدة والمحنة فإني أدلكم على أرض فيها خصب وسعة وخضرة وماء ونعيم فارتحلوا إليها تنجوا من هذه المحنة فقوم قبلوا نصيحته وارتحلوا إلى تلك البقعة فوجدوا ما أخبروا وزيادة وقوم لم يصدقوه ولم يلتفتوا إلى كلامه وبقوا في أرضهم في القحط والشدة وجازوا ذلك فنزلوا فيها واطمأنوا بها فرحين بها معجبين بها وأرسلوا إلى هؤلاء القوم الذين بقوا في ديارهم وأخبروهم بذلك إنا وجدنا ما وعدنا الرجل وزيادة تعالوا معنا تنجون من هذه الشدة فلم يقبلوا ولم يخرجوا فلما لبثت تلك الطائفة في تلك الأرض زمانا وشهورا وسنينا متنعمين جاء الرجل ثانيا وقال إن في موضع آخر أرضا أحسن من هذه ونعيمها ومياهها وأشجارها وثمارها أضعاف من هذا فارتحلوا إلى هنالك
فصدق بعض منهم وارتحلوا فوجدوا هنالك أكثر وأطيب مما وعدهم الرجل فمكثوا ثمة وأخذوا في التنعم وبقوا في

الرفاهية وبعثوا إلى أولئك القوم الذين كانوا معهم في الأرض الأولى في النعيم أن وجدنا ما وعدنا الرجل الأول وزيادة هلموا إلينا نعيش ونتنعم فأبوا وقالوا لا نعطي الموجود بالمفقود ولا نبدل فإذا سحابة جاءت من السماء فضربت الأشجار فيبست بساتينهم ومياههم وما عندهم حتى هلكوا جميعا
فالناس كلهم في ظلمة الكفر وشدة الشرك والقحط والضيق في مفاوز الكفر حيارى في عسر وضيق فجاءهم الرسول الكريم وبين لهم الهدى ونصحهم وبين لهم طريق الحق والصراط المستقيم فآمن به بعضهم ونجوا من ظلمة الكفر والبؤس والفاقة وأخرجوا أنفسهم من ظلمة الكفر وتبين لهم طريق الرشد من الغي
وقوم لم يقبلوا نصيحة وهم الكفار فبقوا في مفازة الكفر في أرض القحط والجدوبة والضيق والضنك
ثم إن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون بدلوا ما عندهم إلى دار القرار ونعيم الآخرة بما عندهم من نعيم الدنيا وارتحلوا إلى دار الآخرة

والمنافقون قالوا لا نعطي الموجود بالمفقود فخابوا وخسروا ذهب الموجود من أيديهم ولم يصلوا إلى الآخرة فبقوا في نفاقهم وشكهم
وأما المؤمنون فخرجوا إلى الأرض الثالثة وهم الصادقون كما قال الله تعالى في وصفهم ( أولئك هم الصادقون ) بقبولهم دار الآخرة خالصا لأن إيمانهم كان خالصا مخلصا قال الله تعالى ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )

أقسام الكتاب
1 2