كتاب : الأمثال من الكتاب والسنة
المؤلف : أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي

بسم الله الرحمن الرحيم
 عونك اللهم وحدك الحمد لله ولي الحمد وأهله والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين
قال الإمام محمد بن علي الترمذي الحكيم رحمه الله
أما بعد فإنك سألتني عن شأن الأمثال وضربها للناس فاعلم أن الله تعالى ضرب الأمثال للعباد في تنزيله لقوله تعالى ( ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ) وقال جل ذكره ( وضربنا لكم الأمثال ) وقال جل ذكره ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم )
ثم اعلم بأن ضرب الأمثال لمن غاب عن الأشياء وخفيت عليه

الأشياء فالعباد يحتاجون إلى ضرب الأمثال لما خفيت عليهم الأشياء فضرب الله لهم مثلا من عند أنفسهم لا من عند نفسه ليدركوا ما غاب عنهم فأما من لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء فلا يحتاج إلى الأمثال تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
فلا جرم ما ضرب الأمثال من نفسه لنفسه وكيف ولا مثل له ولا شيبه له فلذلك قال جل ذكره ( فلا تضربوا لله الأمثال )
فالأمثال نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار لتهدي النفوس بما أدركت عيانا
فمن تدبير الله لعباده أن ضرب لهم الأمثال من أنفسهم لحاجتهم إليها ليعقلوا بها فيدركوا ما غاب عن أبصارهم وأسماعهم الظاهرة فمن عقل الأمثال سماه الله تعالى في كتابه عالما لقوله تعالى ( وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون )

الأمثال مرآة النفس
فالأمثال مرآة النفس والأنوار أنوار الصفات مرآة القلب وإن الله تعالى جعل على الأفئدة أسماعا وأبصارا وجعل في الرؤوس

أسماعا وأبصارا فما أدركت أسماع الرؤوس وأبصارها أيقن به القلب واستقرت النفس واتسعت في علم ذلك وانشرح صدره بذلك وما غاب عن أسماع الرؤوس وأبصارها وجاءت أخبارها عن الله وتلك الأشياء مكنونة أيقن القلب بذلك ولكن تحيرت النفس وتذبذبت
وإن النفس مستقرها في الجوف والقلب مستقره في فوق النفس فالقلب كدلو معلق في الصدر بعروقه وبما فيه من المكنون وتحته النفس وفيها الشهوات والهوى ريح من تنفس النار خرجت إلى محل الشهوات بباب النار واحتملت نسيمها وأفراحها حتى أوردتها على النفس فإذا هبت ريح الهوى بأمر وجاءت بذلك النسيم والفرح إلى النفس تحركت النفس وفارت ودب في العروق طيبها ولذتها في أسرع من اللحظة فإذا أخذت النفس في التذبذب والتمايل والاهتشاش إلى ما تصور وتمثل لها في الصدر تحرك القلب وتمايل هكذا وهكذا من وصول تلك اللذة إليه فإذا لم يكن في القلب شيء يثقله ويسكنه مال إلى النفس فاتفقا واتسقا على تلك الشهوات فإن كانت تلك منهيا عنها فبرز إلى الأركان فعلها فصارت معصية وذنبا
وإنما يثقل القلب بالعلم الله لأن العلم بالله يورث الخشية

فإذا تأدت تلك الخشية إلى النفس ذبلت وتركت التردد فاستقر القلب

العلم بالله يورث الحياء
والعلم بالله يورث ب فإذا تأدى ذلك الحياء إلى النفس انكسرت وخجلت فإذا جهل القلب ربه صار صفة القلب مع النفس على ما وصفنا بديا
والقلب موقن بالله تعالى بيقين التوحيد فإذا جاءت نوائب الأمور استقر القلب بذلك اليقين لأنه ليس في القلب شهوة وتذبذبت النفس وترددت بالشهوة التي فيها
فإذا ضربت لها الأمثال صار ذلك الأمر لها بذلك المثل كالمعاينة كالذي ينظر في المرآة فيبصر فيها وجهه ويبصر بها من خلفه لأن ذلك المثل قد عاينه ببصر الرأس فإذا عاين هذا أدرك ذلك الذي غاب عنه بهذا فسكنت النفس وانقادت للقلب واستقرت تحت القلب في معدنها فهي كالعماد لسطح البيت فإذا تحرك العماد تحرك السطح وانهار وتبدد العماد
الأمثال من القرآن
فضرب الله الأمثال لنفوس العباد حتى يدركوا ما غاب عن

أسماعهم وأبصارهم الظاهرة بما عاينوا فابتدأ في تنزيله فضرب

مثل المنافقين
فقال جل ذكره ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون )
مثل المنافقين
قال مثل المنافق الذي تكلم بكلمة الإيمان مرائيا للناس كان له نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي في ضوئها ما دامت تتقد ناره فإذا ترك الإيمان صار في ظلمة كمن أطفئت ناره فقام لا يهتدي ولا يبصر ذلك

ثم قال ذهب الله بنورهم أي بإيمانهم الذي تكلموا به وتركهم في ظلمات لا يبصرون في ضلالة لا يبصرون الهدى هذا قول مقاتل
وقال قتادة هذا مثل ضربه الله تعالى للمنافق الذي تكلم بكلمة الإيمان ظاهرا فناكح ووارث بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت ولم يك مصدقا بها سلبت عنه فترك في كرب وظلمة فتحير فيها كما كانت معاملته في الدنيا في حق الله سبحانه وتعالى
وقال مجاهد رحمه الله أضاءت ما حوله إلى إقبالهم إلى المؤمنين وذهب بنورهم يعني ذهاب نورهم عند إقبالهم إلى المشركين فالمنافق قلبه متحدر لا يستقر فيه شيء كلما برق فيه نور الحق خرج من الجانب الآخر فقلبه كنفق اليربوع يدخل من باب 44 ويخرج من باب

مثل اليهود مع النبي
وهذه الآية مثل اليهود مع نبينا مثلهم

كمثل رجل يكون في ضيق وتعب وشدة وظلمة ينتظر الفرج والمخرج والضياء والنور كانوا ينتظرون خروج محمد وعرفوا أنه الحق فكذبوه وحسدوه مخافة أن يذهب عنهم عزهم ومأكلتهم
ذهب الله بنورهم أي بالحلاوة التي كانت في قلوبهم عقوبة لهم بجحودهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون الهدى
وأيضا مثلهم كمثل الذي استوقد نارا في مفازة مهلكة ليأمن بها فلما أضاءت ما حوله أطفئت ناره وبقي في ظلمة فكذلك اليهود استنصروا به قبل خروجه وطلبوا خروجه ليأمنوا من سيف الفرقة فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين يعني اليهود
وبئس ما اشتروا به أنفسهم بئس ما ربحوا بعوض قليل من الدنيا وهو ما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من المأكلة في كل عام

مثل المنافقين بتكذيب القرآن
وقيل ( أو كصيب من السماء ) أي مثل المنافقين في

القرآن مع القرآن كقوم نزلوا في فلاة ليلا فجاءهم مطر شديد وإنما شبه القرآن بالمطر لأن حياة الناس في المطر كما أن في القرآن حياة ومنفعة لمن آمن به
فمثل المنافقين بتكذيب القرآن كمثل مطر نزل من السماء ليلا قرا وفيه البرق وشدة الرعد
يقول ( فيه ظلمات ) يقول في هذا المطر ظلمات ورعد وبرق يقول يمطر في ليلة مظلمة وفي ذلك المطر رعد وبرق فمثل المطر مثل القرآن كما أن في المطر حياة كذلك في القرآن حياة لمن آمن به وحياة الآخرة بالإيمان
ومثل الظلمات مثل الكفر ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان وهو النور الذي في القرآن يهتدي الناس ببيان القرآن كما يهتدي الناس في مثل تلك الليلة بالبرق شبه القرآن بالمطر وشبه تخويف القرآن بالرعد
مثل آخر قوله ( يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت ) أي من خوف الصوت من شدة الرعد هكذا مثل المنافق إذا سمع قراءة القرآن من محمد ختم على أذنيه كراهة له بمنزلة الذي يجعل إصبعيه في أذنيه من شدة الصاعقة حذر الموت فالمنافق يجعل إصبعيه في أذنيه ولا يسمع إلى صوت

النبي مخافة أن يتعظ به وتدخل حلاوة قراءته في قلبه

مثل الذين كفروا
مثل الذي كفروا أن قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قسوة ثم وصف أن من الحجارة ما قد يخرج منها الرطوبة ويهبط من خشية الله أي يخر ساجدا والقلوب القاسية لا تلين ولا ترطب ولا تخشع ولا تخر ساجدة
( ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون ) أي لا يفهم معاني الكلام الذي يتعظ به ليس له من معاني القرآن وكلام الخير إلا دورة الكلام
مثل محمد مع الكافر
يعني مثل محمد مع الكافر كمثل الراعي مع البهيمة ينعق الراعي بالبهيمة ولا تسمع إلا دعاء ونداء أي تسمع الصوت ولا تعقل ما يقال لها كذا الكافر يسمع مواعظ القرآن ولا

يعقل كالبهيمة لا يسمعون إلا صوتا
ثم قال صم عن الحق فلا يسمعون الهدى وبكم أي خرس عن الكلام بالحق يتباكمون فلا يتكلمون بالهدى عمي عن الحق لا يبصرون الهدى فهم لا يعقلون يعني لا يعقلون ما يقول محمد ولا يرغبون في الحق وذلك لأن النبي دعاهم إلى التوحيد ومواعظ القرآن حيت قال جل ذكره ( وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ) فقال جل ذكره قل أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من الدين ولا يقرون بوحدانية الله ولا يهتدون إلى سنة النبي أفتتبعونهم
ثم ضرب لهم مثل البهيمة في قوله عز و جل ( أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أني يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى

العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير )
فتحيرت نفسه كيف يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه ثم أمره أن ينظر إلى حماره كيف أحياه فأراه بما حضره ما غاب عنه

في شأن الخليل
وقال في شأن الخليل صلوات الله عليه ( رب أرني كيف تحيي الموتى ) فتحنن قلبه إلى رؤية صنع الله فأكرمه بالمعاينة لإحياء تلك الطيور وقد كان موقنا بأنه فاعل ولكنه حن قلبه إلى رؤية صنع ربوبيته فأكرمه الله بها حتى اطمأن قلبه وسكن الحنين
مثل المنفق ماله في طاعة الله
مثل المنفق ماله في طاعة الله تعالى 45 قوله تعالى ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع

سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) كذاك الذي يتصدق بماله لوجه الله تعالى والله يضاعف لمن يشاء أي يضاعف له ثوابه في الآخرة بالتربية من واحد إلى سبعمائة وإلى سبعمائة ألف وإلى ألفي ألف إلى ما شاء الله من الإضعاف مما لا غاية له والله واسع يعني جواد بتلك الأضعاف وأضعاف الصدقة عليهم بما نووا فيها
ثم قال ( الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ) على الله ( ولا أذى ) لصاحبها أي الفقير والمن على الله ألا يرى التوفيق منه فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
ثم ذكر مثل من يمن على من يتصدق عليه بألا يرى التوفيق من الله تعالى ويؤذي الفقير فقال مثله كمثل ( الذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) يعني لا يصدق بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال فهذا منفق أنفق ماله فأبطل شركه إنفاقه وصدقته كما أبطل المن والأذى صدقة المؤمن
ثم ذكر مثل نفقة المصدق بالبعث المحتسب بالإيتاء يريد بها وجه الله تعالى من غير من ولا أذى فقال 45 و مثل الذين

ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم ) أي تحقيقا وتصديقا من قلوبهم ( كمثل جنة بربوة ) أي بستان في بقعة مرتفعة طيبة ( فأصابها وابل ) أي المطر الشديد ( فآتت أكلها ضعفين ) أي أخرجت ثمرها ضعفين

مثل المرائي والمشرك
ثم ذكر مثل المرائي والمشرك كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل المطر الشديد فلا يبقى من ذلك التراب على ذلك الصفا شيء كذلك صدقة المشرك والمرائي الذي يمن ويؤذي الفقير لا يحصل له شيء من الثواب يوم الجزاء
مثل ما ينفقون في هذه الدنيا
مثل سفلة اليهود قوله تعالى ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ) يعني سفلة اليهود من الطعام والثمار على رؤسائهم وأحبارهم

وهم كعب بن الأشرف وأصحابه يريدون بها الآخرة ( مثلهم كمثل ريح فيها صر ) يعني برد شديد ( أصابت ) الريح الباردة ( حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ) فلم يبق منه شيئا كذلك أهلك الله نفقة اليهود فلم تنفعهم نفقاتهم
ويقال مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا في غير طاعة الله تعالى يعني اليهود وينفقون أموالهم في عداوة محمد ينفقون أموالهم على أحبارهم ليذبوا عن دينهم ويعادون محمد كمثل ريح فيها صر برد وهو السموم أصابت زرع قوم ظلموا أنفسهم لمنع حق الله عليهم فأحرقته الريح وما ظلمهم الله بهلاك حرثهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون بمنع حق الله سبحانه وتعالى عنه
ويقال هذا مثل في شأن الكفار قال مثل نفقتهم في أعمال الخير كمثل ريح فيها صر أي برد لأن قلوبهم خلت عن حرارة نور الإيمان فماتت عن الله تعالى وبردت فذلك البرد أهلك أعمالهم الحسنة فلم يقبل منها شيء لأنها صارت إلى الله بلا حرارة من نور التوحيد ونور الحياة بالإيمان
ألا ترى أن الميت إذا خرج منه الروح والنفس كيف يبرد ويجمد الذي فيه من الدم

وضرب فيهم مثلا آخر في سورة إبراهيم عليه السلام فقال ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) فلم يروا منه شيئا من ذلك التراب
كذا الكفار لا يقدرون على ثواب شيء مما عملوا في الدنيا ولا ينفعهم لأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله وعملوا بأهوائهم لا بنور الإيمان فجاءت ريح الهوى فذرته في النار

مثل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها
( مثل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) وذلك لأن الكلب ميت الفؤاد من بين السباع وذلك فيما روي لنا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض وسوس العدو إلى السباع إن هذا عدو لكم فاقتلوه جاءت الوحوش فاحتوشته واجتمعوا عليه وجاء العدو فأشلى الكلب حتى ينبح فأول من حمل عليه

الكلب فتخوف آدم عليه السلام فنودي أن يا آدم لا تخف فأعطي العصا الذي لموسى عليه السلام فضربه بذلك فذلله وهزمه ثم أمر بأن يمسح يده على رأسه فألف به وبولده بعد التذلل ثم أشلاه على السباع فحمل عليها معاديا لها إلى يوم القيامة وصار يحرسهم ويصطاد لهم فلما وصل إليه سلطان العصا الذي جعل فيها صار الكلب ميت الفؤاد فبقي فيه اللهث إلى يوم القيامة حملت عليه أو لم تحمل فلم تزل تلك العصا في حفظ الله تتداولها الأيدي إلى وقت موسى عليه السلام
ويقال كانت تلك العصا من آس الجنة فذلك الذي آتاه الله من الكرامة ما لو أراد ان يصرفها إلى الآخرة لحصل له ذلك لقوله تعالى ( ولو شئنا لرفعناه بها ) أي لو صرفها إلى الآخرة آتيناه ذلك ولكنه أخلد إلى الأرض صرفها في وجوه الدنيا التي هي للفناء وركب الهوى وقصد إلى كليمنا كما قصد الكلب إلى صفينا فصار مثله مثل الكلب فمعنى قوله ( مثل كمثل الكلب ) أي إن هذا الذي صار كلبا وهو بلعم إن رأى آياتنا وعبرنا لم يتعظ وإن لم ير لم يتعظ لأنه انسلخ مما آتيناه

مثل الحياة الدنيا
وقال ( إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون )
فأراهم الله عاقبة أمر الدنيا وفنائها بما عاينوا من انقضاء أيام الربيع كيف تلاشت زينتها وبهجتها كذا حال زينة الدنيا
وقال في شأن الرؤيا من أمر الكواكب والشمس والقمر فهي شعبة من هذا وأريها في منامه وضرب له شأن الأخرة بالكواكب والشمس والقمر مثلا ( وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك )
فإذا كانت الأخبار المتقادمة فيها تثبيت للفؤاد كان فيما أراك الله ببصر رأسك وسمع أذنك ما له تثبيت للفؤاد

وقال في شأن داود صلى الله عليه و سلم من قول الملكين ( إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب ) يعرفه قبح ما أتاه

مثل الماء الذي جرى في الأودية
وضرب الله مثلا ليبين الحق من الباطل فقال ( أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال )
فالحق مثل الماء الذي جرى في الأودية فسالت أودية بقدرها أي اختلط الحق بالباطل لأن النفس جاءت بأباطيلها ومناها وشهواتها التي هي إلى فناء فمنتها فاغتر بها القلب والحق لا يفنى ولا يبلى فقوله ( أنزل من السماء ماء ) أي القرآن شبه القرآن بالماء لأن فيه منفعة الدين من الأحكام والشرائع كما أن في المطر منفعة الدنيا ثم

شبه القلوب بالأودية لأنه وجد النور في القلب منفذا ومجازا كما وجد الماء في هذه الأودية منفذا ومجازا ثم شبه القلوب بالسيل وشبه الباطل بالزبد الذي يعلو فوق الماء فكل قلب لم يتفكر ولم يعتبر ولم يرغب في الحق خذله الله تعالى ووجدت الظلمة والهوى في قلبه منفذا ومجازا كما أن السيل وجد في الأودية منفذا ومجازا فلما خذل هذا القلب احتمل الباطل كما احتمل السيل الزبد الرابي وإذا وجد القلب التوفيق فتفكر واعتبر احتمل الحق كما انتفع الناس من الماء الصافي ثم وصف الحق والباطل لصاحبهما فقال ( فأما الزبد فيذهب 46 جفاء ) يعني تذهب منفعته كذا الباطل تذهب منفعته على صاحبه في الدنيا والآخرة وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وهو الماء الصافي كذلك الحق شبه الحق بالماء الصافي لأنه تبقى منفعته لصاحبه في الدنيا والآخرة كما يبقى الماء لمن أخذه

مثل الكافر إذا دعا
ومثل الكافر إذا دعا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه أي لا يستجاب دعاء الكافر كما لا يبلغ الماء الذي بسط كفيه لقوله تعالى ( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) أي إلا في باطل
مثل كلمة طيبة
وقال ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة وهي كلمة الشهادة طابت واستنارت وتفرعت بالأعمال الصالحة وكلمة الشرك كشجرة خبيثة وهي الحنظلة ليس لها قرار ولا قائمة فهي ساقطة بالأرض
مثل أعمال الكفار
وقال مثل أعمال الكفار كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف فالكفار اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله وعملوا بأهوائهم فجاءت ريح الأهواء فذرته في النار

وقال فيمن افترى على الله كذبا ( ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون )
أي إن كنتم لا ترضون لأنفسكم البنات وتؤثرون لأنفسكم البنين فكيف نسبتم إلي ما لا ترضون لأنفسكم
وقال ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) فإذا أشرك بالله فقد سقط عند الله وبريء الله منه فاختطفه العدو وهوى به ريح الهوى إلى قعر النار

مثل الوثن الذي يعبدونه من دون الله
ومثل الوثن الذي يعبدونه من دون الله كمثل عبد مملوك لا يقدر على دانق ولا حبة قوله تعالى ( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستوون الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون ) قال فكيف

سويتموه بي وأنا الرازق أنفق عليكم
وضرب مثلا آخر فقال ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ) كيف عدلتموه بي في العبادة وأنا لست بأبكم خلقتكم بكلمة واحدة وأقدرتكم من قدرتي على دنيا محشوة بالنعم أعولكم وأطعمكم ولا تطعموني وهذه الآية والآية التي قبلها قد ذكرنا معانيهما في موضع آخر وسطرناهما

مثل ناقض العهد
وضرب الله في ناقض العهد مثلا فقال ( ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) فقال مثل الذي نقض العهد كمثل الغزل التي نقضت تلك المرأة الحمقاء

كان لعمرو بن كعب بن سعد بنت تسمى ريطة وكانت إذا غزلت الصوف أو شيئا آخر نقضته لحمقها فقال ولا تنقضوا أي لا تنكثوا العهود بعد توكيدها كما نقضت تلك الحمقاء غزلها من بعد قوة من بعد إبرامه أنكاثا يعني نقضا فلا هو غزل تنتفع به ولا صوف ينتفع به فكذا الذي يعطي العهد ثم ينقضه لا هو وفى بالعهد إذا أعطاه ولا هو ترك العهد فلم يعطه
وضرب مثلا آخر لناقض العهد فقال ( ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم ) أي عهودكم بالمكر والخديعة فتزل قدم بعد ثبوتها يقول إن ناقض العهد يزل في دينه عن الطاعة كما تزل قدم الرجل بعد الاستقامة

مثل لأصنام أهل مكة
وضرب مثلا لأصنام أهل مكة فقال ( يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذونه منه ضعف الطالب والمطلوب )

قال أراهم الله ضعف الذباب وعجزه عن القدرة ليعلموا عجز أصنامهم التي لا تتحرك وليس فيها حياة أنها أقل وأضعف غياثا عن الذباب فكيف تكون شريكة للقادر
وقال ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ) يريهم أن الشركاء يتزاحمون ويتفاوتون بأهوائهم وإراداتهم فلو كان لي شركاء كما تزعمون لفسد التدبير ولزالتا وقال ( إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض )

مثل قلب المؤمن وأعماله وقلب الكافر وأعماله
وضرب مثلا لقلب المؤمن وأعماله وقلب الكافر وأعماله فقال ( الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم )

ضرب المثل لنوره في قلب المؤمن ليعلمه قدره ومنزلته فدله بالحاضر على ما أعد له في الآجل فنفس المؤمن مثل بيت وقلبه مثل قنديل ومعرفته مثل السراج وفمه مثل الباب ولسانه مثل المفتاح والقنديل معلق فيه دهنها من اليقين والفتيلة من الزهد وزجاجها من الرضا وعلائقها من العقل إذا فتح المؤمن لسانه بإقرار ما في قلبه فاستضاء المصباح من كوته إلى عرش الله تعالى فكلامه نور وعمله نور وظاهره نور وباطنه نور ومدخله في الأعمال نور ومخرجه منها نور ومصيره يوم القيامة إلى النور

مثل أعمال الكفرة
وقال مثل أعمال الكفرة كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا قدم عليه غدا أكذبه أمنيته وساقه عطشان إلى النار وهو قوله تعالى ( فوفاه حسابه ) مستعدا لعذابه ويجازيه بعمله
ظلمات بعضها فوق بعض ضرب مثل صدره وقلبه وعمله

بظلمة البحر والموج والسحاب فالبحر قلبه المظلم والمتحير والموج شركه والسحاب أعماله السيئة إذا أخرج يده لم يكد يراها أي لم يرها هو البتة ولم يكد أي ولم يكد أن يراها فكذا قلب الكافر مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم لا يبصر نور الإيمان ولم يرد أن يراه
ويقال سمعه ظلمة وبصره ظلمة ولسانه ظلمة وقلبه ظلمة فذلك قوله تعالى ( ظلمات بعضها فوق بعض ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور )

مثل بيت العنكبوت
ثم ضرب مثلا آخر للكافر فقال ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا )
قوله اتخذوا أي عبدوا من دون الله أولياء أي بالربوبية لا ينفعهم في الآخرة كما لا ينفع بيت العنكبوت العنكبوت في حر ولا قر فكذا ضعف الصنم ثم قال وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لا يستر ولا ينفع ولا يدفع حرا ولا بردا كذا كل معبود

دونه أي إن الكافر عار عن ستر الله يخرج إلى الله عاريا فلا يكسى وتبدو فضائحه وقبائحه على رؤوس الأشهاد

مثل الشرك
وضرب مثلا آخر للشرك قال ( ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون ) معناه هل أنتم تجعلون عبيدكم شركاء فيما أعطيناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم أي تخافون من لائمة عبيدكم إن لم تشاركوهم في أموالكم 47 كخيفتكم أنفسكم أي كلائمة أهل الميراث من الأولاد والقرابات إن لم يعطوا الميراث
معناه لا يخاف المخلوق من شركة عبده في ماله في حياته وبعد مماته كما يخاف من أهله وأولاده وقرابته فكذا جميع الخلائق عبيده وإماؤه لا يخاف منهم الشركة في ملكه
مثل المشرك
وضرب مثلا آخر لأهل الشرك فقال ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون )
فالموحد أسلم وجهه لله وحده والمشرك أسلم وجهه لأرباب متفرقين فكيف حاله في الدنيا في بعث عبوديته لهم وكيف حاله في الآخرة فهو وأربابه في النار
مثل المنافقين
مثل المنافقين مع بني قريظة وبيعتهم إياهم كمثل الشيطان مع برصيصا إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال الشيطان له

إني برئ منك تبرأ منه تبايعوا مع يهود بني قريظة إنا معكم للقتال على محمد فلما آل الأمر إلى القتال تبرءوا منهم وعاقبة الكل في النار كعاقبة الذين في النار

مثل الذين حملوا التوراة
وقال ( مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا )
شبه اليهود بالحمر لأنهم تحملوا دراسة التوراة وتركوا العمل بها فأتعبوا أبدانهم ولم ينتفعوا بها
فهذه الأمثال نموذجات ما غاب عن العين والأسماع لتدرك النفوس ما أدركت عيانا لما أنبئ
الأمثال من الأخبار
وما في الأخبار من ضرب الأمثال أكثر من أن يحصى نذكر بعضها

قال حدثنا سفيان حدثنيه أبو الزعراء عمرو بن عمرو وسمعه ابن عمه أي الأحوص عن أبيه عن رسول الله قال ( أرأيت لو كان لك عبدان أحدهما يكذبك ويخونك ولا يصدقك والآخر لا يكذبك ولا يخونك ويصدقك أيهما أحب إليك قلت الذي لا يكذبني ولا يخونني ويصدقني قال فكذلك أنتم عبيد ربكم أرأيت لو كان لك إبل فجدعت هذه فقلت صرماء وتشق هذه وتقول بحيرة فساعد الله أشد وموساه أحد لو شاء أن يأتيك بها صرماء فعل )
عن عثمان رضي الله عنه قال قيدوا العلم قلنا وما تقييده قال تعلموه وعلموه واستنسخوه فإنه يوشك أن يذهب العلماء ويبقى القراء لا يجاوز قراءة أحدهم تراقيه

مثل العالم
ومنها قال ( إنما مثل العالم كمثل ينبوع من ماء يسقي بلده ومن مر به كذا العالم ينتفع به أهل بلده ومن مر به )
مثل الرسول في الدعوة
ومنها قال ( مثلي في الدعوة مثل سيد بنى دارا واتخذ مأدبة وبعث داعيا يدعو إلى مأدبته في داره فالسيد هو الله تعالى والمأدبة الجنة والداعي أنا )
مثل الآدمي ومثل الموت
ومنها قال ( مثل الآدمي ومثل الموت كمثل رجل له ثلاثة من الخلان فقال أحدهم له هذا مالي فخذ منه ما شئت وأعط منه ما شئت ودع ما شئت
وقال الآخر أنا معك أحملك لي ما دمت حيا فإذا مت تركتك
وقال الثالث أنا معك أدخل معك وأخرج معك مت أو حييت
فالأول ماله والثاني عشيرته والثالث عمله حيثما كان فهو معه )
مثل القرآن
ومنها ما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما ( مثل القرآن

مثل الإبل المعقلة إن عقلها صاحبها أمسكها عليه وإن أرسلها من عقلها ذهبت )

مثل من لعب الميسر
ومنها قوله ( مثل من لعب الميسر ثم قام يصلي كمثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم قام فصلى فيقول قد يقبل الله صلاته )
مثل قارئ القرآن
ومنها قوله ( مثل القرآن مثل جراب فيه مسك قد ربط فمه فإن فتحه فاح ريح المسك وإن تركه مربوط كان مسكا موضوعا فإن قرأت القرآن وإلا فهو في صدرك )
وقال أيضا ( مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة طعمها طيب ولا ريح لها )
مثل المنافق القارئ للقرآن وغير القارئ له
ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة طعمها مر ولا ريح لها
مثل الكافر
ومثل الكافر كشجرة خبيثة طعمها مر خبيث لا خير ولا أصل اجتثت أي انتزعت من فوق الأرض ما لها من قرار أي من أصل بأدنى ريح تقع على وجه الأرض وتخرج من أصلها كذا كلمة الكفر
مثل كلمة الشهادة
ومثل كلمة الشهادة من المؤمن ( كمثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون )
مثل من يقرأ القرآن وهو يعلم تفسيره أو لا يعلم
ومنها ما حدثني به عمر بن أبي عمر بإسناده عن سفيان بن

حسين قال قال لي إياس بن معاوية إني أراك قد لهجت بعلم القرآن فاقرأ علي سورة وفسرها حتى أنظر أين تقع فقرأت عليه سورة وفسرتها فقال يا سفيان لا علم أشرف من علم القرآن وهل تدري ما مثل من يقرأ القرآن وهو يعلم تفسيره أو لا يعلم
مثله مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلا وليس عندهم مصباح فقد دخلهم بهذا الكتاب روعة لا يدرون ما فيه فهم خائفون فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه

مثل من أعطي القرآن ولم يعط الإيمان
وعن علي رضي الله عنه قال أخبركم بمن أعطي القرآن ولم يعط الإيمان ومن أعطي الإيمان ولم يعط القرآن ومن أعطي القرآن والإيمان ومن لم يعط القرآن ولا الإيمان فأما من أعطي الإيمان ولم يعط القرآن فهو بمنزلة ثمرة طيبة الطعم لا ريح لها ومنزلة من أعطي القرآن ولم يعط الإيمان منزلة الآسة طيبة الريح خبيثة الطعم ومنزلة من أعطي القرآن والإيمان بمنزلة الأترجة طيبة الطعم طيبة الريح ومنزلة من لم يعط القرآن ولا الإيمان مثل الحنظلة خبيثة الطعم خبيثة الريح
مثل الرسول والأنبياء
ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى بنيانا فعجب له الناس فقالوا والله ما رأينا مثل هذا البنيان لولا موضع اللبنة فكنت أنا موضع تلك اللبنة )
مثل المنفق ومثل البخيل
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( مثل المنفق ومثل البخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما فأما المنفق فلا ينفق شيئا إلا سبغت على جلده حتى تواري بنانه وتعفو أثره )
مثل الصلوات الخمس
48 - ومنها ما روي عن رسول الله

قال ( أرأيت لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات ما تقولون هل يبقى من درنه شيء )
قالوا لا ( قال ذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا )

مثل لموت المرأة المعجب بها زوجها
وعن القاسم بن محمد أنه قال هلكت امرأة لي فأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها فقال لي إنه كان عالم في بني إسرائيل وكان له امرأة وكان بها معجبا فماتت فوجد عليها وجدا شديدا ولقي عليها أسفا حتى خلا في بيت وأغلق على نفسه واحتجب عن الناس فلم يكن يدخل عليه أحد وإن امرأة سمعت به فجاءته فقالت إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها وليس يجزيني إلا مشافهته
فذهب الناس ولزمت بابه وقالت ما لي منه بد فقال له قائل إن ها هنا امرأة أرادت أن تستفتيك وقالت إني أريد مشافهته وقد ذهب الناس وهي لا تفارق الباب قال ائذنوا لها

فدخلت عليه فقالت إني جئت أستفتيك في أمر قال وما هو قالت إني استعرت من جارة لي حليا فكنت ألبسه وأعيره فلبث عندي زمانا ثم إنهم أرسلوا إلي فيه افأرده عليهم قال نعم قالت إنه مكث عندي زمانا قال ذاك أحق لردك إياه عليهم حين أعاروكه فقالت أي رحمك الله أفتتأسف على ما أعارك الله تعالى ثم أخذه وهو أحق به منك
فأبصر ما هو فيه ونفعه الله تعالى بقولها

الصيام جنة
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( الصيام جنة كجنة أحدكم من القتال )
وعنه قال ( حسن الحفاظ صيام ثلاثة أيام من الشهر )
مثل من جاء مسجده
ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال

رسول الله ( من جاء مسجدي هذا لم يأت إلا لخير يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله تعالى ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة رجل ينظر إلى متاع غيره )

مثل الرؤيا حين تعبر
وروي عن أبي قلابة رواه قال مثل الرؤيا حين تعبر كمثل رجل أمر أن يرفع إحدى رجليه ويضع أخرى فهو ينتظر متى يؤمر بوضعها فتستقر الرؤيا على ما تعبر عليه فلا يحدث إلا عالما أو ناصحا
مثلكم ومثل اليهود والنصارى
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( مثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال ( من يعمل عملا من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ) فعملت اليهود
ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ) فعملت النصارى ثم قال ( من يعمل من صلاة العصر

إلى صلاة المغرب على قيراطين قيراطين ألا فأنتم )
فغضبت اليهود والنصارى وقالوا نحن أكثر أعمالا وأقل عطاء فقال ( أظلمتكم من حقكم شيئا ) قالوا لا قال ( فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء )

الناس كإبل مائة
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة )
مثل المؤمن مثل النخلة
وروي عن مجاهد رحمه الله قال صحبت ابن عمر رضي الله عنه من مكة إلى المدينة فما سمعته يحدث عن رسول الله إلا هذا الحديث ( مثل المؤمن مثل النخلة إن جالسته نفعك وإن شاركته نفعك وإن شاورته نفعك وإن صاحبته نفعك وكل شيء من شأنه منافع فكذلك النخلة كل شيء من شأنها منافع )
مثل الصحابة
ومنها ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله قال ( مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام لا يصلح الطعام إلا بالملح )
مثل الرسول
ومنها ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( إنما مثلي ومثلكم مثل رجل أوقد نارا فهو يذب عنها أن يقع فيها الجراد والفراش وإني آخذ بحجزكم أن تقعوا في النار )
مثل المؤمنين
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى شيء منه تداعى سائره بالحمى والسهر )

ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( مثل الذي استرد ما وهب مثل الكلب يقيء فيأكل قيئه )

مثل التاجر
ومنها ما روي عن علي بن الحسين رحمهم الله أنه قال إنما مثل أحدكم مثل التاجر يحسب الربح ولا يوفي رأس ماله يوفي أحدكم التطوع ولا يوفي الفريضة
ومنها ما روي عن رسول الله أنه قال ( مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل فرس في آخيته يجول ثم يرجع إلى آخيته وإن المؤمن يسهو ثم يرجع إلى الإيمان وأطعموا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين )
مثل المنافق
ومنها قوله ( مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تتردد بينهما مرة إلى هذه ومرة إلى هذه )
ومنها قوله ( مثل المنافق مثل رجل في نهر

يسبح فيه فلما بلغ أن يقطعه نودي من الجانب الآخر فرجع إلى ذلك الصوت ثم نودي من ها هنا فأجاب ثم رجع فبينما هو في تردده إذ علا آذي وهو الموج فغرقه )

مثل النبي ومثل الساعة
ومنها قوله ( مثلي ومثل الساعة كفرسي رهان سبق أحدهما الآخر بأذنه )
ومنها قوله ( مثلي كمثل قوم بعثوا طليعة فرأى العدو فجاء ليخبرهم أن العدو قد هجم فلاح بثوبه مخافة أن يسبقه العدو )
خمس كلمات وأمثالها
وقال ( إن يحيى بن زكريا عليهما السلام أمره الله تعالى أن يأمر قومه بخمس كلمات وأن يضرب لهم مثلا فقال إن الله تعالىأمرني أن آمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ومثل ذلك كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله فذهب العبد فعمل لغيره فأيكم يحب أن يؤتى إليه ذلك
وأمرني أن آمركم بالصلاة ومثل ذلك مثل رجل دخل على

ملك فهو يناجيه حوائجه وهو يسمع له ويقضي له الحوائج
وأمرني أن آمركم بالصدقة ومثل ذلك مثل رجل قتل قتيلا فهرب من وطنه مخافة أن يؤخذ به فبعث 49 إلى أهله فقال ما ينفعكم إزعاجي من وطني فأنا أؤدي إليكم دية قتيلكم نجوما وأرجع إلى وطني فرضوا بذلك فما زال يؤدي نجومه حتى فك رقبته
وأمركم بالصيام ومثل ذلك كمثل رجل لقي العدو في جنة حصينة فما وجد في الجنة من خلل وصل إليه سلاح العدو
وأمركم بذكر الله ومثل ذلك كمثل رجل أتاه فوج من عدو من ناحية فهو يحاربهم ثم أتاه فوج آخر من ناحية أخرى وأتاه الفوج من كل ناحية فلما رأى ذلك ترك محاربتهم ودخل الحصن . . وأغلق الباب على نفسه وكذلك ذكر الله تعالى )

مثل المصلي الذي لا يتم ركوعه وسجوده
وروي عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبي سلام الأسود رضي الله عنهم أن رسول الله رأى رجلا ينقر في صلاته لا يتم الركوع والسجود فقال ( لو مات هذا مات على

غير ملة محمد فإذا صليتم فأتموا الركوع والسجود فإن مثل المصلي الذي لا يتم ركوعه ولا سجوده كمثل الجائع الذي يأكل المرة والمرتين لا تغنيان عنه شيئا )
قال أبو بردة قلت لأبي سلام من حدثك بهذا عن رسول الله قال حدثني أمراء الأجناد يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد وشرحبيل بن حسنة
فهذه الأمثال كلها ضربها رسول الله ليريهم ما غاب عنهم بما حضر

الحكماء يضربون الأمثال
ولم يزل الحكماء يضربون الأمثال
مثل العلماء
مثل
العلماء مثل النجوم التي يقتدى بها والأعلام التي يهتدى بها إذا تغيبت عنهم تحيروا وإذا تركوها ضلوا
مثل الإمام
مثل الإمام مثل عين صافية يخرج منها نهر عظيم يخوضه الناس فيكدرونه فيأتي عليها صفوة العين فيصير صافيا من تلك الكدورة فإذا كانت الكدورة من قبل العين فسد النهر فكيف يصفو فلم يكن من الحيلة إلا سد النهر
مثل الناس والإمام
مثل الناس والإمام كمثل الفسطاط لا يقوم إلا بعمود ولا يقوم العمود إلا بالأوتاد فكلما نزع وتد ازداد العمود وهنا
مثل الجليس الصالح والسوء
مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يصبك منه شيء أصابك من ريحه ومثل جليس السوء مثل كير الحداد إذا جالسته إن لم يصبك من سواده أصابك من دخانه
مثل القلب
مثل القلب مثل حدقة العين فإن أدنى شيء يشغل العين والقلب أيضا يشغله أدنى شيء
مثل العالم
مثل العالم مثل العطار إن مررت به وجدت رائحة الطيب وإن جالسته أصابك اللطخ من العطر وإن صاحبته تناولت منه الطيب فترجع إلى أهلك بذلك
مثل المؤمن المنتبه
مثل المؤمن المنتبه مثل ولد فتح عينيه من النوم فأبصر مائة ألف

ثدي وحجر لم يلتفت إلى واحد منها ما لم يجد ريح أمه فحينئذ يتعلق بثدييها ويدخل في حجرها لأن ريح الأم ريح الرأفة ولذلك قال الصديق لعمر رضي الله عنهما حين طلق امرأته وأراد أن يأخذ ولده منها فمنعه أبو بكر رضي الله عنه وقضى به للأم وقال ريحها ولقاحها خير له منك يا عمر
فالعاقل أيضا لما وجد رائحة رأفة الرؤوف الجواد الكريم ونظر إلى إحسانه لديه لا يلتفت إلى شيء سواه حتى يصل إليه فهذا الصادق في قول لا إله إلا الله علم أن الأشياء التي تضر وتنفع كلها من الله فلم يتعلق قلبه بشيء من أسباب الضر والنفع ورد وله قلبه في تلك الأشياء إلى ألوهية الله تعالى لأنه عاين أن هذه الأودية كلها تتفجر من تلك العين وبقدر ما ينصب من تلك العين التي منها تسيل هذه الأودية فلم يغتر بالأودية ومن حجب عن رؤية تلك لم يجد قرارا لكثرة ملاحظته الأودية واديا واديا فمتى يستفرغ رؤية الأودية ومتى يقدر أن يتعلق بشيء منها لأن كل واد يدعوه إلى نفسه فقلبه ذو شعب ونفسه غير مطمئنة إلى شيء منهم فهي كالريشة يطير مرة إلى هذا ومرة إلى هذا إلى ما لا يتناهى

مثل المؤمن المخطئ الغافل
ومثل
المؤمن المخطئ الغافل مثل رجل في خربة في فلاة من الأرض يأتيه صوت من كل جانب يدعوه ولا يدري من يجيب ولمن يجيب وإلى من يطمئن فهو أسير كل ناعق فالمؤمن من شرطه أن يطمئن إلى ربه ويفرغ في كل شيء إلى ربه ويتعلق في كل أمر بربه
مثل العاقل المحق
ومثل العاقل المحق في إسلامه مثل رجل باع دارا هو ساكنها فقيل له سلم ما بعت فخرج من ساعته وترك ثقله ثمة وقال للمشتري هذا كله لك مع الدار من غير بيع ووهبت الثمن لك أيضا
مثل المؤمن المخلط
ومثل المؤمن المخلط مثل من باع دارا هو فيها ساكن فلما قيل له سلم ما بعت قام من موضعه وجمع ثقله في زاوية أخرى من

الدار وجلس ثمة فإذا قيل له ثانيا سلم ما بعت ذهب إلى زاوية أخرى مع ثقله ولا يزال دأبه هكذا في التسليم يتحول من مكان إلى مكان ويفرغ ناحية ويشغل أخرى إلى أن يقبض الثمن ويسلم ويخرج منها فالمؤمن من شرطه تسليم النفس إلى الله تعالى في كل شيء فلو اقتحم النهي وفرط في الأمر صار كمن سلم بعض النفس دون البعض كمن تحول من زاوية إلى زاوية لا تسخو نفسه بتسليم ما باع فالمسلم باع نفسه وماله من مولاه يقول له ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ) وصير تسليمه في عشر خصال مذكورة في الآية وجعل منها الجنة فكلما وفى تحصيله منها فقد سلم جزءا من المبيع ثم مع هذا يقتضي ربه الثمن فلو عقل هذا كيف

يستحيي من ربه اليوم إلى أن يجيء قبض الثمن

مثل المصلي الساهي
مثل المصلي الذي يصلي ويكون ساهيا في قلبه كمثل رجل جنى في حق الأمير ثم ندم فاستجمع خدمه وخوله وتوجه إلى باب الملك معتذرا فلما قام بين يدي الملك بشاكريته وخدمه ووقف بهم عليه معتذرين مما كان منه ومن خدمه من سوء الأدب صفح عنه وحيي وأكرم ومن أقبل إلى الملك ثم زاغ عنه في الطريق وبعث بشاكريته وخدمه حتى وقفوا مقام الاعتذار ومحل الكرامة ولما أقبل الملك إليه ليقبل عذره ويحسن إليه أعرض عن مقام 50 الاعتذار وشغل بنهماته وترك خدمه وخوله بين يدي الملك معتذرا منه أفليس من مقالة الملك أن يقول أنت الذي جنيت في حقي وتركت أمري وضيعت أموري وهؤلاء الخدم إنما حضروا لأجلك فأقمتهم مقام الاعتذار عنك واشتغلت بنهماتك أليس أنه ممقوت ولا يعبأ باعتذار خوله فيما هنالك
مثل الدعوات دون حضور القلب
وكذا مثل دعواته التي تجري على لسانه بدون حضور القلب رغبة ورهبة كمثل سائل يقف على باب يسأل شيئا ولم يلبث ومضى

لسبيله فأخرج له ما طلب فلم يجدوه فيدخل في الدار مع ما أخرج له ويقول لم يمكث السائل على بابنا فلم يزل هذا دأب هذا المسكين على كل باب حتى صار محروما كذا هذا الداعي والتقريب معلوم

مثل من يثني على ربه عن غفلة
ومثل من يثني على ربه عن غفلة كمثل من جنى إليك جناية فلم يعتذر حالة الإفاقة حتى شرب وسكر فجاء في حال سكره ووقف بين يديك وقبل قدميك ومدحك بمدائح السكارى أوليس من مقالتك إن هذا لا يعقل ما يقول ولا ما يعمل فلست تعبأ بقوله وفعله كذا هذا
مثل من يثني ولا يعلم معنى ما نطق به
ومثل من يثني على ربه في غفلة ولا يعلم ما معنى ما نطق به كمثل رجل أتى بشعر في دفتر باب الملك فقرأه عليه من الدفتر فقال له الملك ما هذا قال هذا مدحك الذي مدحتك فقال له الملك عقلت ما أثنيت قال لا أني علمت أن هذا ثناء فقال له الملك فمن أي شيء عقلت أنه ثناء فلعله هجاء فتحير الرجل فلم يبق له شيء إلا أن يقول هذا طمع في نوال شيء

فجعل هذا الثناء سببا لنواله فيعطونه شيئا ويخرجونه من بابه

مثل من يثني ويعقل معنى الثناء تعريفا
ومثل من يثني على ربه وهو يعقل معناه ولكن لا يعقله عقل المشاهدة كمثل شاعر أتى باب الملك بشعر يثني عليه فلما أنشده قال له الملك عرفتني بهذه الخصال أم عرفت به قال لا بل عرفت به في السوق أنك هذا
فسقطت منزلته عند الملك وأناله من معروفه على قدر انحطاط قدره وسقوط منزلته
مثل من يثني ويعقل عقل مشاهدة
ومثل من عقله عقل مشاهدة بقلبه فقال عرفتك بهذه الخصال معرفة أشد من معرفتي بنفسي فإن معرفتي بك لا تصير نكرة أبدا فيقول له الملك إذا لا أجهلك علمك في ولا أجعل معرفتك لي نكرة أبدا ولا يقينك شكا ولا بصرك عمى ولا هداك حيرة وضلالة وأوفي لك بجميع ما عرفتني إن عرفتني جوادا فجودي لك وإن عرفتني رحيما فرحمتي لك وإن عرفتني كريما فكرمي لك وإن عرفتني رؤوفا فرأفتي لك وإن عرفتني لطيفا فلطفي لك وإن عرفت قدري فمحبتي لك ولك المزيد من فضلي ودوام هذه

الأشياء وليس يحسن بي أن تعرفني بشيء فأريك من نفسي خلاف ذلك حتى تصير معرفتك لي نكرة أنا كما عرفتني حق المعرفة وأنا أوجب لك ما عرفتني به ليكون ما عرفتني به ظاهرا مكشوفا بارزا وهو قوله ( لو عرفتم الله حق معرفته لزالت بدعائكم الجبال ولو خفتم الله خيفته لتعلمتم العلم الذي لا جهل معه فمن عرفه حق المعرفة عرفه بالقدرة ومن عرفه بالقدرة لم تعظم في عينه زوال الجبال عن مكانها ومن عرف كرمه حقيقة لم تعظم في عينه أن تجاب دعوته في إزالة الجبال عن مكانها ومن خافه حق الخيفة زال عنه الجهل لأن نور الخوف من الذات فإذا أشرق ذلك النور خاف حق الخيفة وطار الجهل لأن القلب حيي بالله وإنما الجهل من الموت والعلم من الحياة

مثل التالي كتاب الله في غفلة
ومثل التالي كتاب الله في غفلة كمثل رجل بين يديه حقاق في كل حقة منها جوهر بعثه إليه الملك فهو في غطاء عن تلك الجواهر ففي حقة منها ياقوتة حمراء وفي أخرى منها ياقوتة صفراء وفي أخرى ياقوتة زرقاء وفي أخرى ياقوتة خضراء وفي أخرى لؤلؤة بيضاء صافية فليس له من تلك الجواهر إلا عد الحقاق

وإحصاؤها وهو يعلم أنها ثمينة نفيسة ولكن لا يلتذ بها ولا يتغنى بها لأن عينه إنما تأخذ الحقاق ونفسه تحسن ما ترى عينه وعلمه بنفاستها وأثمانها علم لا يحركه ولا يبعثه ولا يهيجه إلى شيء فهو كالناعس قد أخذه ريح النوم فهو في نفسه ثقيل فإذ فتش الحقة فأبصر جواهر تتلألأ ونظر إلى شيء ملأ نفسه سرورا وسبي قلبه بها فإذا نظر فيها فوجد اسمه مكتوبا عليها منقوشا فاشتد عجبه وتضاعف سروره وبهجته وتاه في البهجة فسروره بنفاسة تلك الجوهرة يهنيه ويهنيه في اسمه الذي وجده منقوشا على تلك الياقوتة فقال في نفسه صار لي إلى الملك محلا بعث إلي جوهرا مثل هذه واسمي منقوش عليها يعرفني ذلك محلي عنده إني قد أعددت لك هذه الجواهر وباسمك لعظيم قدرك عندي وكثرة بالي بك ورفيع محلك عندي وحبي لك فكيف يكون حال هذا العبد من الفرح والسرور ككتاب الله تعالى كلام عزيز حروف منسوقة مؤلفة ألفها رب العالمين بحكمته البالغة ومعنى قوله البالغة أي بلغت تلك الحكمة يوم المقادير ومنها خرجت إلى العباد فصارت حكمة فقيل حكمة بالغة أي تبلغ بصاحبها علم المقادير فمن بلغ علم المقادير فقد وفر حظه من العلم كما وفر الحظ للخضر عليه السلام حتى ساح في المفاوز وخاض البحار وعبر معابر العبر بحظه من علم

المقادير فرأى في كل شيء ربوبية العزيز القهار فذلك تأليف عجزت عنه الملائكة والرسل والثقلان وجميع الخلق لأنه وضع في كل حرف لعباده شيئا فهو أعلم بما يحتاج إليه عباده من تلك الأشياء فألف الحروف للأشياء الموضوعة في الحروف يخاطبهم بها وهي لطائف وبشرى ووعد ووعيد ونذارة وتأديب وتحضيض وتنديب وأنباء ما مضى وأنباء ما مضى وأنباء ما هو كائن في الدارين فذلك قوله تعالى ( لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) فمن غبي فهمه عن هذا تحير فيه
ولو قال قائل كيف لا يقدرون أن يأتوا بمثله وإنما هو لسان العرب فمن شاء ساق كلاما بهذه اللغة فكيف لا يمازجه ولا يدانيه
وهذا هوس وكلام المنهوكين الذين أعينهم في غطاء عن

ذكره وإنما معرفتهم ربهم على ألسنتهم
وإنما عجرت الجن والإنس عن تأليف مثله لأن جميع الكلام الذي أبرزه رب العالمين للعباد إنما هو تسع وعشرون حرفا وضع في كل حرف أمرا من أموره وأعلم خواصه بذلك من الأنبياء وخاص الأولياء فمن دام على ذلك الأمر وخالصه وصفاه فاستوجب هذا النور الأعظم الذي إذا أشرق في صدره وطالع ما في حشو كل حرف من هذه الحروف فعندها يعقل تأليف رب العالمين
قال له قائل اشرح لنا شيئا نفهم به بعض ما وصفت
قال نبين ذلك في قوله ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ففي الباء بهاؤه وفي السين سناؤه وفي الميم مجده فمن أعطي في قلبه سراجا فأنار ذلك السراج في صدره عاين فؤاده ذلك البهاء والسناء والمجد وعاين ما أجرى إليه رب العالمين من بهائه وسنائه ومجده فأوصل إليه في دينه ودنياه فإذا عاين فؤاده ذلك كان كمثل من وضع بين يديه حقة وقد علم أنه فيها جوهر ثمين نفيس يخطف الأبصار تلألأ فيضيء القلوب شغوفا به فهو في ذلك حيران لا يلتذ ولا يبهج به لأنه سكران أو نائم فالسكران والنائم لا حظ لهما من اللذة والبهجة فإذا رفع عن الحقة رأسها وتلألأ ذلك الجوهر في

وجهه يكاد يخطف بصره وسبى قلبه فإذا رأى اسمه منقوشا على ذلك الجوهر كاد ينصدع قلبه فرحا وسرورا بما اطلع من حاله عند الملك
قال له قائل زدنا في شرحه
قال نزل ربنا جل جلاله كلامه تنزيلا فهو كلام مؤلف محشو كل حرف بما فيه حشاه ثم تكلم به ثم أنزله فلو عقلت هذا لدهشت من قبل أن تسمو إلى حشوه

مثل الناظر إلى حروف القرآن
مثل الناظر إلى حروف القرآن كمثل رجل اشتد شوقه إلى حبيب غائب فوجد له كتابا بخطه فهاج شوقه ثم نظر إلى آثار أصابعه وصنع يده فالتذ بها فسكن إلى وجود لذته ساعة وتقطع أيام شوقه فكذا المشتاق إلى لقائه إذا وقع بصره على خط الحروف وتراءى له بدو هذه الحروف من عند مليكه والمجرى من الوحي إلى صدره ومستودعه وهو الحفظ الذي قد قرن بالعقل واؤتمن عليه والتذ بها وسكن غليان شوق من لا يجد إلى ما وجد من آثار كلامه وهو تأليف تلك الحروف قولا ثم كلاما فإنه قال وتكلم
قال له قائل ما هذا
قال القول وهو ترجيع الصوت فذلك الترجيع هو القول مأخوذ من الإقالة والقيلولة والكلام هو سلطان تكلم القلب أي يؤثر

عليه ولذلك سميت الجراحة كلما لأنه لا بد مؤثر فيها

مثل التالي كتاب الله من غير تفهم
ومثل التالي كتاب الله من غير تفهم ولا تدبر كمثل رجل جمع الحلي من أناس عارية وفيها جواهر نفيسة مثمنة فجعلها في صرة ثم علقها في عنقه كهيئة جرس البعير فذلك الصوت من الجرس كائن والجرس مثمن عظيم الثمن بجوهره فماذا له من تلك الجواهر وماذا له من ذلك الضوء إلا الإخبار بأني على الطريق
مثل من يربي القرآن
ومثل من يربي القرآن كمثل رجل آوى يتيما إلى منزله وكفله وكساه وأطعمه وسقاه ونزهه ونقاه ووقاه من الآفات والأدناس وجعل حجره له حواء فهو يغسله بيده وينقيه كما لولده ويرشفه ويقوم عليه في جميع أحواله فلا يزال دأبه معه يتربى هذا اليتيم في حجره إلى أن يدرك فإذا أدرك فعرف تربيته فشكر له وقام له بالبنوة يحمي عنه في كل مكان ويذب عنه ويدفع عنه ويربيه في وقت ضعفه وكبر سنه

وآخر رام تربية هذا اليتيم فأدخله بيته ساعة من نهار فأعطاه كسرة خبز وشيئا من عنب ثم أخذ بيده وأقامه على قارعة الطريق فإذا أدرك هذا اليتيم مدرك الرجال قل ما يلتفت إلى هذا وإنما يعرف له بقدر ما رأى من تلك الكسرات والعناقيد
فكذا من قرأ كلام الله عز و جل في كل يوم وردا أو جزءا ثم وضعه في ناحية من بيت ولم يقم بين يديه فالقرآن في زماننا كاليتيم الذي ليس له مأوى ملقى على قارعة الطريق لا يؤبه به ولا يتكفل أحد بتربيته فالمحسن من أهل هذا الزمان كمن أدخل اليتيم في بيته ساعة فأطعمه شيئا وسقاه ثم أعرض عنه وترك كفالته
فالقرآن إنما يلج صدورا طاهرة نقية فإذا لم يجد تلك الصدور فهو كاليتيم الذي لا يجد كفيلا ولا مأوى وقد قال جل ذكره ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين )
قال كتاب مبين من الله الحروف المؤلفة التي تضمنت المعاني والنور كسوة تلك الحروف أهداها رب العزة إلى هذه الأمة قد تضمنها الوحي حتى أوصلها إلى الرسول وتلقتها الأذهان والعقول وأخذتها منه قال جل ذكره ( وإنه لتذكرة للمتقين ) فالتذكرة كدفتر حساب يرجع إليه في كل يوم وساعة إذا أصبح ينظر فيه فيدبر أمره من التذكرة مما أحكمه ورده

إلى الديوان الأكبر الذي فيه جملة حساب تجارته فالمتقي ينظر فيه كل يوم يتبدر أمره فيه ومنه ويقابل أموره مما أمر الله فيه ويسويه ويتلافى ما ضاع منه وما قصر فيه ثم يؤديه إلى ديوان الله عز و جل وهو اللوح الحفوظ
ثم قال ( وإنه لحسرة على الكافرين )
فإذا رأى الكافر ما يصنع القرآن بأهله من الثناء عليهم بين يدي الله عز و جل ونظر إلى كرامة الله على أهل القرآن صار ذلك كله حسرة عليه وتقطع قلبه حسرات
ثم قال ( وإنه لحق اليقين ) أي هذا القرآن من حق اليقين أي كما أعطيتكم من نور المعرفة فاستقرت قلوبكم وأيقنت بربوبيتي وبوحدانيتي فاطمأنت نفوسكم بي وآمنت كان من حق ذلك اليقين علينا أن أنزل كلامي إليكم لتسكن به تلك الصدور التي استقر اليقين في تلك القلوب فيها ويجاوره بأحسن المجاورة فهذا حقه ويساكته في مستقره فاليقين في القلب وكلامي في الصدور وهو ساحة اليقين فذلك حق اليقين

مثل من يقرأ القرآن من غير تدبر
ومثل من يقرؤه من غير تدبر كجرس على بعير فالسائق للجمال تسير من أمامه بصوت ذلك الجرس لثقالتها ليس عندهم إلا ذلك الصوت في أسماعهم
مثل التالي لكتاب الله
ومثل التالي لكتاب الله تعالى مثل رجل طاهر طيب له محبوب له حنين إليه أخذ حبه قلبه وهو به مشغوف يمضغ شيئا في فمه فإذا وجد ذلك الشيء في فمه كيف يلتذ به وكيف يجد حلاوته في حلقه وصدره فلا يمل من مضغه وازدراد ريقه بذلك الشيء فكذا التالي لكتاب الله تعالى إذا فكر أن هذا كلام تكلم به رب العالمين وأنزله ومكن له في صدري حتى تردد واستقر وأقدرني على استخراجه من صدري حتى اختلج به لساني مستعينا بالحنك والأسنان والشفتين فتردد كلمه المنزل الذي تكلم به وأنزله فيما بين صدري وشفتي وقرت عينه بهذه الفكرة والتدبر وابتدأ بترددها في فمه ولسانه وحلقه وشفتيه هذا من قبل أن يشتغل بلطائفه ومعانيه قال الله عز و جل ( إنه لقرآن كريم ) وقال ( بل هو قرآن مجيد ) وقال ( وإنه لكتاب عزيز ) ومهيمن فوصف كلامه بالكرم والمجد والعز والهيمنة
فأما كرمه فمن سهولته الممزوجة باللطف والتقريب والتعليل

وأما مجادته ففي الأمر والنهي وأما عزه ففي شرف الألفاظ وأما هيمنته ففي نفي الأشباه ونزاهة القلوب

التمثيل والتشبيه
فإن نفر نافر من هذا فقال أليس هذا تشبيه قيل له هذا تمثيل وليس بتشبيه قال والتمثيل أن تصف شيئا غاب عنك فتمثل له في الشاهد ليقف على ما يؤدي معنى الغائب
قال مثل ماذا قال جاءنا عن رسول الله أنه قال ( لما كلم الله تعالى موسى عليه السلام يوم الطور ورجع إلى بني إسرائيل رأوا على وجهه من النور والبهاء ما لم يروه قبل ذلك فقام إليه اثنا عشر سبطا فقالوا يا موسى إنك سمعت كلام ربك فصفه لنا فقال سبحان الله إنه لا يوصف قالها ثلاث مرات قالوا فشبهه لنا فقال سبحان الله إنه لا يشبه شيئا ثلاث مرات قالوا يا موسى فبين لنا منه شيئا نفهم قال سمعت كلام ربي لا ريبة فيه ولا شبهة كأشد رعد خلقه الله في أشد صواعق خلقها الله في أحلى حلاوة منطق ما خطر على قلب بشر قط فقلت يا رب أهكذا كلامك قال لا يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها ولو كلمتك بكنه كلامي لم تك شيئا )

روي عن الحويرث أنه قال كلم الله موسى عليه السلام بقدر ما أطاق ولو كلمه بغير ذلك لم يطق فليس هذا بتشبيه فقد علم المؤمنون الذين عرفوا الله صدقا ويقينا أن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين ولكن حلاوة الكلام وبركة الكلام وذوق الكلام واصل إلى قلوب الموحدين فهيج أنوار المعرفة والتوحيد من معدنها ثم أخلص إليها من الحلاوة والبركة والذوق ولكل هيج معمل ولكل معمل ثمرة ولكل ثمرة طعم ولذة سوى المنفعة وإنما أسمع الله تعالى كلمه موسى صلوات الله عليه لاختصاصه بذلك فلو لم يكن له حلاوة ولذاذة ما نفعته هذه الخصوصية وطعمه ولذته
وروي في الخبر أنه قال يا موسى إني متوفيك قال موسى يا رب من يغسلني قال بحسبك طهري قال يا رب من يبكي علي قال الجن والشجر
أفلا ترى أن كلامه قد طهره ومن دون هذا نودي عملا

المرأة التي في لسانها بذاء
بلغنا أن امرأة كان في لسانها بذاء فوافت رسول الله

وهو يمضغ اللحم فقالت أطعمني منه يا رسول الله فناولها من الذي بين يديه فقالت لا إلا الذي في فمك فأخرج من فمه وناولها فابتلعته المرأة فذهب عنها البذاء وظهرت عليها غضاضة وعفافة وحياء
فهذا من آدمي أكرمه الله تعالى وطهره فكيف بكلام تكلم به رب العزة ولذلك قال ( وشفاء لما في الصدور )
وقد قال في شأن النحل ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس )
فالذي يلعق العسل يصيبه الشفاء لأن ذلك شراب خرج من جوف من تذلل لوحي الله وسلك سبل ربه الذي سبل له فصار بذلك شفاء للبدن وحلاوة في المطعم فما ظنك بكلام رب العزة
وإنما يتحير في هذا من كان قلبه سكران عن الله يحب النفس ويحب الشهوات فأما من أفاق من سكره وحيي قلبه بالله فانتبه فهو واجد لهذا
وكما أن السكران من الشراب لا يجد طعم العسل ولذاذته إذا لعقه فكذا السكران من حب الشهوات لا يجد طعم كلام الله ولا لذاذته ولا يكون له شفاء لا في الفم ولا في الجوف ولا في

القلب وهو عبد آبق معاقب بإباقه قال الله عز و جل ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق )
وكل من تكبر على الله أهانه الله تعالى وذلله ورمى به في إكرام نفسه وطلب عزها ورفعتها فقد عوقب بأن صرف قلبه عن آياته حتى لا يفهمها ولا يجد حلاوتها ولا لذاذتها

مثل التالي ولا يعلم التفسير
مثل التالي كتاب الله تعالى ولا يعلم تفسيره كمثل ملك كتب إلى عامله كتابا فيه أمر ونهي ووعد ووعيد على تضييع أمره فاستظهره هذا العامل فقام ببعضه في الأمور التي أوعد عليها وضيع البعض التي وعد عليها فأخذ هذا العامل في كل يوم يقرأ هذا الكتاب وكلما أتى على وعيد وتهول على النفس طرب فيه ورفع صوته كأنه يتغنى بأغاني السرور وكلما أتى على طمع ونوال وبشرى وكرامة ذبل وتكاسل وربما يتثاءب في قراءته فقرأه على تلك الهيئة كالمصروع والمجنون فإنه في القرآن أمر ونهي ووعد ووعيد وذكر أنباء القرون للطمع والتخويف وضرب الأمثال وذكر

الآلآء وذكر المنن واللطائف فإذا لم يعلم هذا كله ورضي من نفسه بالقراءة فقط فكأنه العامل يقرأ كل يوم كتاب الملك ويترك ما فيه من المعاني بمنزلة رجل يسلك طريقا قفرا يستقبله عقاب يحتاج إلى قطعها وهو أثقال الصدق في أمره ونهيه ومرة يستقبله مفاوز وهو وعيده ومرة يستقبله فلاة معطشة ومجاعة وهي منازل قوم وصفها في تنزيله ومدحهم بها ومرة يستقبله فضاء من الأرض فيها رياض من خضر وهي ذكر النعم ومرة يستقبله في تلك الأرض بساتين ذات ورد وبان وياسمين وهو ذكر المنن ومرة يهجم على أغراس في تلك البساتين وهي تلك الحظوظ التي هيأ له من آلائه وتلك اللطائف المذكورة ومرة تستقبله أرض شاكة مسبعة وهي ذكر النفوس ومكايد الشيطان
فهذا القرآن كائن فيه هذه الألوان فمن قرأ القرآن لظهره مرت عليه هذه الأشياء ومر بها وهو عنها سكران أو نائم فيطرب ويظهر السرور في وقت الأحزان والانكسار ويرفع صوته في وقت الخفض والخشوع وينشط في حال الانقباض ويتحازن في وقت السرور والبهجة

مثل من يقرأ القرآن بألحان
فمثل ذلك مثل ملك أمر المنادي أن ينادي في الرعية بوعيد هائل يكاد أن تشيب منه الرؤوس فنادى بنداء طرب فيه وتغنى وجاء بألحان السرور أفليس يمقته الملك على ذلك ويغيظه
ولو أن رجلا تلا هذه الآية ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ) أو تلا هذه الآية ( فوربك لنسألنهم أجمعين ) أو تلا ( إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) ثم قال في آخر ذلك ( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ) فهو يرى نفسه في الفرح والمرح إلى قرنه وقدمه فرجع بقراءة هذه الآيات وطرب وجاء بألحان السرور
ثم قرأ ( وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم ) فأخذ يتحازن ويخفض في صوته وترجيعه ويئن فيها ويخرج صوته أصوات الثكالى وإذا قرأ قوله تعالى ( يومئذ

تعرضون لا تخفى منكم خافية ) يغني في صوته ولحنه وأرسل كل صوت كالمتنشط المسرور
وإذا قرأ صفة الجود ( هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ) تمثل في تلاوته كهيئة أهل المصائب وذبل وانكسر
فلو أن عبدا من عبيد أهل الدنيا بشره مولاه بشيء أو أمله نوالا أو أطمعه في بشرى انقبض وعبس وجهه أو إذا أوعده أو وبخه في شيء انبسط وضحك في وجهه لمقته ولو أن رجلا قال في مولاه سوءا فلفظ به العبد على الجهر والتصريح لمقته فإذا تلا التالي تلك المقالات التي حكى الله تعالى عن أعدائه من الفراعنة جهر بها وطرب بها خيف عليه المقت

قراءة السلف
وروي عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه كان إذا مر بقوله ( وقالوا اتخذ الله ولدا ) خفض صوته
وروي عن بعض التابعين أنه قرأ سورة الفرقان أربعين ليلة فكان كل ليلة إذا بلغ إلى قوله ( قالوا وما الرحمن ) سقط

مغشيا عليه فتعاهدوا ذلك أربعين ليلة كلما بلغ هذه الآية سقط ولم يقدر أن يجاوزها
هكذا صفة المنتبه لما يتلو فمن اتبع لتلاوته وقراءته لبطنه فإذا أتى على مثل هذه الآية انقطع صوته وتراجع في حلقه وإذا أتى على العقاب أعيا وإذا قطع المفاوز عطش ونصب وإذا قطع البساتين والرياض طرب وإذا طعم الأغراس سكر لأن الأشربة الصافية الصرفة كائنة في الأغراس فذلك وقت الوله إلى الله تعالى ولهت قلوبهم عن كل شيء سواه وإذا أتى على أرض شاكة أن وضاق عليه الطريق وإذا أتى على أرض مسبعة أرعد خوفا وإذا أتى على بلاء العدو تحير واستغاث وصرخ إلى ربه فهذه أحوال كائنة في قلوب المنتبهين الذين قرأوا القرآن لباطنه فتحولت قلوبهم على تحول معاني ما يتلون وربما هالهم في تلك الفلاة لا يحطون في تلك المواضع أثقالهم فإذا نزلوا استراحوا وذلك لطف من الله تعالى يلطف به عبده لما يرى مما حل بقلبه من النصب والتعب في قطع هذا الطريق على ما وصفنا ففتح له في بعض تلك الآيات ويشرق على قلبه من نوره فيردد تلك الآيات فربما بقي في تلك الآيات ساعات لما يتراءى له فيها فذاك مستراح قلبه وفي ذلك الوقت يحط رحله ويحل بفنائه حتى يقوى

في التوراة
وروي عن مالك بن دينار رحمه الله قال قرأت في التوراة لا تعجزن أن تقوم في صلاتك بين يدي باكيا فإني أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري فهذه خانات ومنازل أولئك القوم تهيأ لهم نزلا من النور حتى تتراءى لهم معاني تلك الآيات وبواطنها فيتلذذون بها ويستريحون من التعب الذي لحقهم فيما تلوا قبل ذلك وإنما مروا بتلك الآيات بعد ذلك مرة أخرى فلم يصبهم تعب ولا نصب كما كان قبل ذلك فطمعوا في حط الرحال لما كانوا وجدوه قبل ذلك فداروا عليها ورددوها يريدون حط الرحال من غير إعياء واستراحة من غير نصب يطمعون في إشراق ذلك النور تلذذا بفناء الملك الكريم فيجدون تلك الخانات لم تهيأ لهم نزلا إنما هي أواري خالية وبيوت صفر فيرتحلون ويمضون وإذا هيئ النزل فقد وجدوا ما طلبوا فإذا رددوها تراءى للقلب شعاع ذلك فالتهب النور وتصورت تلك المعاني المندرجة فيه على قلبه فصار طربا في سمعه فأعلمه وأبكاه
فإذا لم يعلم هذا كله ورضي من نفسه بالقراءة فقط فكان كعامل يقرأ كل يوم كتاب الملك ويترك ما فيه من المعاني
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ما أنزل الله

تعالى كتابا إلا أحب أن يعلم تفسيره فمن قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره فهو أمي
وقال سعيد بن جبير رحمه الله مثل من قرأ القرآن ولم يعلم تفسيره كمثل رجل جاءه كتاب من أعز الناس إليه يفرح به ويطلب من يقرؤه عليه فلم يجد وهو أمي ففرح بالكتاب ولا يدري ما فيه فهكذا مثل من يقرأ القرآن ولا يعلم تفسيره وما فيه

مثل صاحب الأخلاق
مثل صاحب الأخلاق مثل 53 ملك له خزانة وقواد ومملكة فإن كانت الخزانة قليلة كنوزها وكورته صغيرة ضاق به هؤلاء القواد وقال بعضهم لبعض هذا ملك له اسم الخزانة والكنوز وليس لكنوزه مادة يجري علينا ويغنينا حتى نتخذ عدة للعدو الذي هو بمرصد منا ومن ملكنا هذا وليست له مملكة فسيحة ننتشر فيها فيأخذ كل قائد منا ناحية من المملكة فيتملك على أهل ناحيته وقوة الملوك في الخزائن الجمة وبالكنوز والجوهر والقواد وحسن التدبير في هذين فيدبر أمره أمورنا بحسن ما عنده من الكياسة فيدر علينا كنوزه وقتا وقتا وشهرا شهرا ويعد جواهره للنوائب العظام فلا نرى ها هنا عدة ولا فسحة فتعالوا ننتقل عن هذا إلى

ملك لمملكته فسحة ومنتشر نتسع في نواحيها ونعمل للقيادة فيعود الجند إلى ملك له كنوز جمة ولكنوزه مادة من غلات المملكة فله كنوز وأمصار وقرى وبر وبحر كملك الهند والروم والعرب ما نصنع بهذا الضعيف العاجز يطلبون ملكا بتلك الصفة ولا يثبتون مع هذا فالملك هو القلب وخزانته في جوف القلب فيه كنوز المعرفة وجواهر العلم بالله والعقل وزيره والصدر فسحته وساحته ومملكته والأخلاق قواده والأركان رعيته وهي الجواهر السبع فهؤلاء القواد قد أحدقوا بالقلب في هذا الصدر وأطافوا بباب القلب بين عيني الفؤاد فإن الفؤاد هو ما ظهر من القلب والقلب ما بطن والقلب بعض في بعض والعين على الفؤاد وذلك قوله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) وقول رسول الله ( أتاكم أهل اليمن ألين قلوبا وأرق أفئدة ) فوصف القلب باللين والفؤاد بالرقة
فالأخلاق في الصدر قواد الملك قيام بين عيني الفؤاد والعقل شعاعه يشرق بين عيني الفؤاد ويدبر أمر القلب والنفس في

الجوف رابضة في مكان مظانها والهوى بباب النفس يتلهب ويتلظى بين يدي بصيرة النفس فإذا خطرت الخاطرة في الصدر بين عيني الفؤاد نظر العقل فإن رآها حسنة وأمرا رشيدا قدر ودبر ماذا يراد و كم يراد ومتى يراد وإلى متى يراد وإن رآها سيئة وغيا نفاها عن الصدر ففي هذا الوقت للنفس منازعة مع القلب وللهوى مع العقل
في هذه الخاطرة النفس تشتهي والهوى يزعج النفس ويشجعها والعدو يزين بمنى ويغري فإذا جاء مدد الأخلاق بطلت زينة العدو وأمانيه وانكشف غروره وارتد الهوى قهقرى إلى معدن مهنته وجاء مدد الكنوز كنوز المعرفة ومد الملك يده إلى جوهر الخزانة فانمحقت الخاطرة وأسبابها ومعتملها وجنودها وطليعة الخاطرة النفس العدو إذا كانت خاطرة غي وإن كان رشدا كانت طليعته الخاطرة الحق فعز هذا الملك ومنعته وقوام مملكته بهذه الكنوز والقواد وكذلك عز القلب ومنعته بكنوز المعرفة بالله تعالى وجواهر العلم بالله تعالى وبهذه الأخلاق التي أحدقت بالقلب بين عيني الفؤاد

أصول الأخلاق
فالأخلاق أصولها في الطبع ومادتها من المعرفة والعلم بالله تعالى ومعتملها في الصدر
فالموحدون هذه صفتهم والكفار أخلاقهم أصولها في الطبع ومعتملها في الصدر ومادتها في الفرح بمدح الناس وطلب العلو والشرف والذكر قال الله تعالى ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )
فالمؤمنون تخلقوا بخلق الله تعالى وتواضعوا به لله تعالى وأرادوا به وجه الله وتقربوا به إلى الله تعالى وتحببوا به إلى الله
والكفار تخلقوا بذلك الخلق فتكبروا على الله تعالى فجاوزوا بها الحدود ولم يضعوها مواضعها بحقه وتقربوا إلى الخلق وتحببوا به أهل العلائق وتصنعوا به واتخذوا جاها
والأخلاق لها سلطان فإذا وجد الخلق تفسحا ساح في فسحته فجاوز الحدود في أموره فصار مسرفا مضيعا للحق وقد استمر به الهوى والنفس
والمؤمن يتخلق بذلك الخلق فإذا تفسح الخلق عقله العقل

عن المجاوزة ومنعه عن التعدي ولهذا سمي عقلا لأنه عقله عن الجهل ورده إلى العلم الذي علمه الله تعالى وكان الله تعالى أعلم بذلك الأمر كم يراد وإلى متى يراد وبأي مقدار وإلى متى فوكل به العقل حتى يهديه لذلك
ألا ترى إلى قول الله عز و جل حيث سألوا رسول الله كم تنفق من هذا المال الذي حث الله تعالى على إنفاقه وعظم فيه الثواب فنزلت قول الله تعالى ( ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو )
والعفو هو الفضل أي ما فضل من نفسك وعيالك الذين تعولهم
وقال رسول الله ( ابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى )
وقال رجل يا رسول الله عندي دينار ما أصنع به قال ( أنفقه على نفسك ) قال عندي آخر قال ( أنفقه على عيالك ووالدتك ) قال عندي آخر قال ( أنفقه في سبيل الله تعالى وذلك أدناهن )
فمن تخلق بالسخاوة فاستمر به طبعه وأعلنته نفسه

وملك به هواه وزين له عدوه وذهب فأنفق على أباعده وترك أقاربه وعال من لم تلزمه عيالته وضيع عياله فهذا فعل من أراد بذلك الخلق علوا في الأرض وتصنعا عند الخلق
فالعقل يكشف عن هذا الغيب وما هو أدق من هذا

الأسخياء والأجواد
روى سليمان بن الحارث البصري عن أبي هلال الراسبي عن حميد بن هلال قال تفاخر رجلان رجل من بني هاشم ورجل من بني أمية فقال هذا قومي أسخى من قومك وقال ذاك بل قومي أسخى من قومك فقال سل في قومك وأسأل في قومي فافترقا على ذلك فسأل الأموي عشرة من قومه فأعطوه عشرة آلاف وجاء الهاشمي إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فسأله فأعطاه مائة ألف ثم أتى الحسن بن علي رضي الله عنهما فسأله فقال هل أتيت أحدا قبلي قال نعم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما 54 وأعطاني مائة ألف فأعطاه الحسن رضي الله عنه مائة ألف وثلاثين ألفا ثم أتى الحسين رضي الله عنه فسأله فقال هل أتيت أحدا قبلي قال أخاك الحسن بن علي رضي الله عنهما فأعطاني مائة ألف وثلاثين ألفا فقال لو أتيتني قبل أن تأتيه لأعطيتك اكثر من ذلك ولكن لم أكن لأزيد على سيدي فأعطاه مائة ألف وثلاثين ألفا

فهذه سخاوة مستمرة في الطبع والنفس قد منعها العقل فزين هذا العقل من الحسين بن علي رضي الله عنهم
فالكفار كانوا يتفاخرون ويباهي أحدهم صاحبه بالأخلاق وأفعاله ويماري حتى يتعادوا من أجله

مكارم الأخلاق
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال لما أتانا سبايا طيء تكلمت فيه جارية جميلة نسيت جمالها لما رأيت من فصاحتها فقالت يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني ابنة سرة قومي كان أبي يفك العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرج عن المكروب ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط وأنا ابنة حاتم الطائي
فقال رسول الله ( يا جارية هذه صفة المؤمن حقا لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق والله يحب مكارم الأخلاق )

فقام أبو بردة رضي الله عنه فقال يا رسول الله الله يحب مكارم الأخلاق فقال ( يا أبا بردة لا يدخل الجنة أحد إلا بحسن الخلق )
حدثنا الجارود أخبرنا يزيد بن هارون عن المسعودي عن القاسم قال قال عبد الله تجد الرجل فظا فإذا بحثته وجدت سريرته الإيمان وتجده حلو الخلائق فإذا بحثته لم تجد فيه من الإيمان شيئا ومن شاء الله جمع له حلاوة الدين وحلاوة الخلق

الفظاظة ضد الكرم
والفظاظة ضد الكرم فمن كانت له فظاظة غلظ قلبه والكرم لين القلب وانقياده بمنزلة شجر الكرم أينما قدته انقاد ولذلك سمي جنة العنب كرما
وكذلك ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ( أنه قال لا تقولوا للعنب كرما إنما الكرم قلب المؤمن ) وذلك لأنه لان ورطب بالرحمة التي حلت به من الله

تعالى وانقاد لعبوديته والكافر كز قاسي القلب يابس كالصخر لأن رحمة الله لم تنله فيبسته حرارة النفس وشهواتها وقواه التجبر والكبر فيبس وكز فإن كان فيه بعض هذه الأخلاق المحمودة فاستعملها فبجوهريته استعمل لا بمعرفة الله تعالى فيجاوز الحدود حتى أفرط وضيع وشان ما حسن منه

مثل من يسبح بتسبيح غيره
ومثل من يسبح بتسبيح غيره مثل رجل عجز أن يهدي إلى الملك عل قدر ملكه وغناه فأهدى إليه من طاقته ومقدرته ثم قال له أهديت هذا من ذات يدي وأهديت إليك بقلبي هدية مثلك فعلم الملك أنه صادق في مقالته فاحتسبها منه على قدره وجعل ثوابه على ذلك
فكذلك العبد فيما بينه وبين الله تعالى إذا أثنى عليه فإنما يثني بمبلغ علم ثم علمه العبد أنه عاجز عما وراء ذلك من الثناء إذ هو فوق ما أثنى فيقول لك الحمد كما حمدت نفسك وأنت كما أثنيت ولك التسبيح كما سبحت به نفسك ولك الحمد زنة عرشك ومداد كلماتك ورضا نفسك فهذه المعجزة عن بلوغ هذه

الأشياء فجعل مقالته بالقلب كتلك الأشياء التي ذكرت ولا يقدر بلسانه أن يعبر إلا بمبلغ علمه فربما يقبل منه كهيئة ما أحال عليه من حمده وثنائه عليه وكما أحب ورضي لنفسه وإنما أمر العبد بالثناء لعظمته ثم يسأل الحاجة فإذا سأل الحاجة من قبل أن يثني فكأنه لم يعظم الرب ولم يؤد حق العظمة
ولو أن ملكا من ملوك الدنيا رفع الحجاب فيما بينك وبينه وسهل ذلك السبيل إلى نفسه ورفعت الحوائج إليه لكان قد عظم رتبتك ومنزلتك فكيف برب العالمين تعالى أفليس يجب عليك من ذلك الشكر وأول الشكر أن تعظمه باللسان والقلب ثم من بعد ذلك رفع الحجاب

مثل النفس مثل الكرش
مثل النفس مثل الكرش الذي فيه مستنقع البول في المثانة إذا دلكته بالأرض حتى يرق ثم نفخت فيه حتى يمتلئ من الريح ثم ألقيت فيه الزئبق فإذا أصابته حرارة طار ذلك الزئبق على وجه الأرض دبيبا فإذا ألقيت فيه مع الزئبق رصاصة أمسكته فكذلك الشهوات في النفس كالزئبق في تلك الجلدة الممتلئة ريحا هفافة فإذا ثقلها الإيمان على القلب سكنت النفس عن الطياشة لأن الإيمان بالرحمة ناله العبد وبرد الرحمة يطفئ نار الشهوة وإثقال العظمة

يسكن طياشة النفس كثقل الرصاصة سكن تلك الجلدة وألزقها بالأرض

مثل التسبيح والثناء والقرآن مع التقوى
مثل التسبيح والثناء والقرآن مع التقوى كمثل عروس زينت للعرض على الزوج على رؤوس الجمع فمن شأنها أن تقلم أظفارها وتنقي شعرها وصدرها وعنقها ويديها وقدميها من الأوساخ والأدران ثم تتحلى بالحلي وتلبس ألوان الثياب زينة لها فإن لم تفعل ذلك وتركت هذه الأظفار والدرن والأوساخ على جسدها وحليت بالحلي وزينت بالثياب كان ذلك كاللعب وينسب ذلك إلى فعل الجنون والعتاهة فكذلك الذي يتدنس بالمعاصي ويتوسخ بالبطالات ويتزين لربه بالثناء والتسبيح وقراءة القرآن
ألا ترى إلى قول الله عز و جل ( إنما يتقبل الله من المتقين ) فالصادق والحاذق في أمره بدأ فتطهر وأنقى الدرن وأوساخ المعاصي والفضول ثم تحلى بالحلي وتزين بالحلل

فذلك فعل لبق فهو حاذق في فعله وإنما وكل الآدمي في أمر دينه برمي الفضول فأمر بنفي الشرك بقوله لا إله إلا الله وأمر باجتناب المحارم الظلم والعدوان والسرقة والزنا والخمر والكذب والغيبة وسائر الآثام فهذا كله فضول ثم أمر بالفرائض ثم السنن ليتحلى بها ثم بالتطوع ليتزين به فإذا لم يرم بالفضول وقصد قصد الزينة فهو مستهزئ بربه يسخر بنفسه

مثل قلب يتردد فيه الذكر
مثل قلب يتردد فيه الذكر مثل عين لها نبعان وفيها سمك صغار فكلما توحل كثر تردد السمك فكانت ينابيع 55 ماء تلك العين أنقى وماؤها أسلس وإذا قل السمك انسدت المنابع لما يجتمع هناك من الطين لأن ماء العين وإن كان صافيا فلن يخلو عن غبار عند هبوب الرياح ولن يخلو من ممازجة الأرض فإذا انسدت تلك المنابع لم ينز الماء ولم يسل فكذلك القلب تنسد منابع الحكمة منه لما يجتمع هناك من كدورة النفس وسلطان الهوى وغباره فإنه لكل سلطان جيش وعسكر فإذا سار الجيش هاج الغبار فالهواء إذا أقبل قبل النفس أثار الشهوات فوقع في النفس هبوب رياح الشهوات فصار هناك غبار ودخان وغيم على قدر كل

شهوة فرب شهوة لها غيم ورب شهوة لها غبار ورب شهوة لها دخان فإذا جاءت هذه الرياح بغبارها وغيومها ودخانها انسدت ينابيع حكمة القلب لأن الحكمة منبعها من الصدق الذي هو صدق الصدق فالذي يظهر من العباد من باطن إلى ظاهر هو الصدق وصدق الصدق هو من باطن إلى باطن إنما يظهر من باطن القلب إلى ظاهر الصدر حتى تبصره بصائر النفس فمن ذلك الصدق تبدو

الحكمة العليا
الحكمة العليا
قال له قائل وما الحكمة العليا قال تلك حكمة الحكمة ولكل علم حكمة فكما أن العلم علمان فكذلك الحكمة حكمتان فإنما صار العلم علمين لأن علم الصفات غير علم التدبير ولكل علم حكمة فحكمة علم الصفات علم القدرة وحكمة علم التدبير علم ملك الملك وعلم الربوبية فقلب المؤمن خزانة الله فيها كنوز والكنز على خطر الغارة
قال له قائل وما هذا وما
الكنوز
الكنوز
قال إن الله تعالى أعطى الموحدين معرفته حتى وجدوه وعرفوه فالمعرفة كصرة فيها ألوان جواهر ثمينة من الدر والياقوت والزبرجد كل جوهرة ثمنها ملء الدنيا ذهبا وفضة فهذه الأشياء كلها

في صرة فمن تناولها فقيل له هذه لك فكم ترى ثمنها قال مائة درهم فإذا فتحها فأبصرها ازداد بها بصرا وذلك بصر العين قيل له كم ترى ثمنها قال ألف فلما أبصر بصر العلم بجوهر تلك الجواهر عجز عن الإحاطة بعلم ثمنها وقال كل واحد خير من ملء الدنيا ذهبا وفضة فعند ذلك أشفق على الصرة كل الإشفاق في إحرازها وحراستها وحفظها وإقامة الموكلين بحفظها وعندها ظهر غناه بقلبه بتلك الأشياء ومنها ظهر غنى جسده بشارته وهيئته ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه
فالمعرفة متضمنة لأسماء الله تعالى وعلم صفات القدرة فكل شعبة من ذلك العلم تملأ ما بين العرش إلى الثرى ويزيد ويفضل وكل اسم للعبد به متعلق وله إليه مستند وعليه معتمد ووسيلة يتوسل بها إلى ربه وكل اسم له شفيع إلى ربه فهذه صرة مكنونة تملأ الدنيا والآخرة وتملأ الملكوت فوق العرش نال الموحدون هذا من جود الله وعظيم رأفته وواسع رحمته

حب الله تعالى
ورأس هذا الجوهر حب الله تعالى والفرح به فإن الله تعالى لم يعطه ذلك حتى أحبه وفرح به فابتدأ خلقته من باب الفرح به فمن لقي الله قبل أن يفتح هذه الصرة ولم ينكشف له الغطاء لقيه

على غفلة عظيمة وكفران نعمة وضياع شكر وتهافت في الذنوب فعظم حياؤه واشتد خوفه واستقبلته أهوال القيامة وعسرة الحساب
ومن انفتحت صرته وكشف له الغطاء لقي الله على بصيرة شاكرا مؤمنا موقنا باذلا نفسه قد وفى بالعهد وأتى بالإسلام وحقائقه فقرب وأدني وأومن
فمع كل واحد صرة توحيد قد عقد عليها حياة قلبه فإن أصل الحياة في القلب والذهن مقرون بالحياة فقد عقد بحرارة حياته وحدة ذهنه على الصرة وهي المعرفة وحب الله تعالى فيها مكنون وكتاب رب العالمين فيها مكتوب وذلك قوله تعالى ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان )
قال له قائل وما ذلك الكتاب
قال إنه لما وقعت جبايته في البدو يوم المقادير على تلك القلوب قبض عليها وقال أنتم لي فصارت هذه المقالة في القبضة كتابه فاطمأنوا إليه وآمنوا به وتعلقوا به فذلك إيمانهم صار هناك مكتوبا يومئذ فلما أخرجهم من بطون الأمهات إلى الدنيا أشرق في القلوب منهم نور المعرفة من الحب والرأفة والرحمة والحياء

وعلم الصفات وعلم الأسماء فهي مكتوبة لا يكاد صاحبها يميز ولا يعبر عنها فإذا عقل واستعمل عقله وتبحر ظهرت الأنوار في الصدر وانكشف الغطاء وحيي القلب وعمل بذكاوة الحياء فجددته وعمل بحلاوة الحب فأخذ بمجامع قلبه وسبته حتى صار أسير الحب وعملت أثقال الرأفة فضغطت القلب وعصرته وعملت أمطار الرحمة فلينت القلب وسكنت شعوثته واغتراره وعملت أنفة الحياء فقبضته وفترته وعمل الجود فيه فوسعه وأعتقه من رق النفس
فهذه معرفة قد انكشفت الصرة عما فيها من هذه الأسماء التي وصفتها فاستقام القلب بما أبصر فؤاده في هذا الصدر من هذه الأسماء فاستعمل بالمعروف الموصوف فلها عن كل شيء سواه فأحبه صدقا وخافه صدقا ورجاه صدقا واستحيا منه صدقا ورعى حقوقه من تلك الرأفة صدقا فما ظنك به ماذا يظهر على جوارحه من الأعمال السنية

تغطية الشهوات
وآخر وضعت فيه هذه المعرفة فجاءت الشهوات فغطتها ولم يستعمل صاحبها العقل ولم يتبحر في ذلك فاستعمل الشهوات

فتراكمت على صدره غيومها وغبارها ودخانها فكل شهوة استعملها من حلها وللنفس نصيب الإكباب صارت غيوما وكل شهوة استعملها من حلها وللنفس فيها نصيب الغفلة فاستعمل القلب ذلك في غفلة عن الله صار غبارا في الصدر وكل شهوة استعملها بحرص وهلع وتخليط صار دخانا وكل شهوة استعملها من غير حلها صارت ظلمة كالليل فبقيت هذه المعرفة في القلب والصدر متراكمة هذه الأشياء فيه ولم تجد المعرفة مساغا إلى أن تشرق بما فيها من باب القلب إلى الصدر حتى تبصر عين الفؤاد ذلك فتقوى وتستقيم وتستمر في العبودية فصار القلب بكنوزه كالمسجون الذليل وصاحبه 56 فقير محزون لأن غناه بحطام الدنيا وحزنه بما يفوت من الدنيا فلا يناله ويحرص ويكد ويتعب فلا يدرك مناه والعدو منه بمرصد ينتظر متى يجد فرصة الإغارة على هذا الكنز

أصحاب هذه الصفة صنفان
فأصحاب هذه الصفة صنفين فمنهم من أحاط بقلبه عسكر أعمال البر فهو يعمل دائما أعمال البر وهو في خلال ذلك يرائي بعمله ويتصنع بشمائله ويستلذ بخلائقه ويباهي في أمور الله يزل مرة ويثبت أخرى تراه مرة مستقيما ومرة مترديا

في آبار المعاصي واسمه في المستورين القرائين المعدلين عند الخلق في الظاهر فهذا العسكر المحيط بقلبه له عند الله قدر يستجلب منه الرحمة لصاحبه حتى لا ينقطع حبله فعامل عسكره التعبد وعامل عسكره التزهد وعامل عسكره التورع فقد صاروا أصنافا من هذا الصنف الواحد وكلهم يرجعون إلى تحري الصدق وهم في غطاء وغفلة عظيمة عن الله تعالى فقد حرموا حلاوة التوحيد ولذاذة المعرفة ونزاهة علم المعرفة إنما يذوقون حلاوة أعمالهم من التعبد والتزهد والتورع فإذا وجدوا تلك الحلاوة حسبوا أن هذه الحلاوة والعبادة والزهد والورع إنما هي حلاوة أعمالهم تلتذ نفوسهم بها وتبطر وتأشر وتفرح بها وتطمئن إليها وتتكل عليها فإن لم يتداركهم الله برحمته ويحفظ ذلك عليهم ضربهم العجب وكبر النفس بالغطسة فرضت رؤوسهم رضا وصاروا كمن يضرب اللبن في الماء إذا نصبوا للسؤال يوم الموقف وقبول صدقهم بشكرهم
ومن تراخت به نفسه عن الصدق وخدعته نفسه بأمانيها فنالت به التودع إلى راحات الدنيا ولذاتها ونزهتها فاستعملت الشهوات وتوسعت فيها أبصر العدو من مرصده ذلك منه فعظم

طمعه فيه واستعد له بأسلحته فهيج منه الكبر والكبرياء وأثار الشهوات منه حتى اشتعل حريقها وحرها وأشخص آماله واستعد للحيلة عليه بنفسه فإذا وجد صدره مشحونا بهذه الأشياء التي هي أسلحته وتلك جنود الهوى حمل حملة واحدة فلما رأت الجنود التي في صدره أن سيدهم قد أقبل ثاروا من معادنهم واصطفوا بين يديه في صدر العبيد وتداعت منازل الشهوات بعضها بعضا فإذا رأى القلب حملة العدو وسلطان تلك الجنود وعلى مقدمته جيش الهوى انهزم وتخلى عن الباب فوقعت الغارة في الكنوز كنوز المعرفة حتى تركت القلب خاليا من الكنوز وبقيت المعرفة خالية كمعلقة بأدق من الشعرة فبقي القلب متحيرا يتذبذب وقد افتقد العلم والحياء والخشية والخوف والحب وجاء الهوى وشهوات النفس فسكنوا القلب وأحاطوا بالمعرفة فدقت قوة المعرفة حتى تورده النار معه فذهبت قوة المعرفة وصارت كالمعلقة بشعرة وصار الصدر مملكة الهوى ورجع العدو فظهر على الجوارح من الحرص جمع الدنيا ومن الكبر إبطال الحقوق وظلم العباد ومن الشهوات رفض العبودية ونبذ العهد ونقض الميثاق وجاءت أعمال الفسق والفجور وخبث السريرة وحسن العلانية والنفاق وسكر العقل وولاية الهوى وإمرته وانكمن العقل وانسد الفهم

وحمق الذهن وانطبق الحفظ واندفن العلم وذابت المعرفة وفاض جهلا وامتلأ كذبا وخيانة وذهب الوفاء وطارت الأمانة وظهر الاستبداد وعلاه الكبر وأحاط به التجبر وامتلأت الأرض والسماء فضائح وقبائح وهو في حلم الله والعدو بمرصد ينتظر حتى يحل به سخط الله تعالى فيحمل حمله بكفر فيورده حتى يمتد ويضبط فإذا حل به السخط رفعت المعرفة وانقطع الحبل وسباه العدو وصير إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون

مثل المعرفة مثل قطب الرحا
مثل المعرفة مثل قطب الرحا فالرحا تدور بالماء والقطب على حسب قوة الماء وكثرته وانحداره من مصبه يدور القطب بالرحا وقوة القطب في عمود من أسفله إلى أعلاه وقوة العمود في أجنحة فإذا انحدر الماء دفع الأجنحة فأدارها فدار القطب فأدار الرحا فكذلك القلب فالقلب رحا وقطبه العلم والمعرفة هو الماء المنصب في حدوره فإذا لم يكن للمعرفة أجنجة لم ينفعه الماء ولا القطب

فالعلم هو حمله والمعرفة ذوات شعب فمن عرف الله فلمعرفته شعب فعلامة الشعب أن يقوم بتلك الشعب فهذه قطبه قد استقامت شعبه فاستدار وإذا كان القطب قد انتثرت أجنحته جرى الماء على عمود فلم يغن شيئا ولم يدر القطب ولا الرحا فذهبت منفعته فعلى قدر ما تناثر من أجنحة القطب ذهبت قوة الرحا فما أغنت عنه كثرة الماء
كذلك العلم هو على القلب حمله والمعرفة ذات شعب فتلك الشعب تهيج الشعبة استعمالها حتى يقوى القلب ويدور برحاه حتى يخرج منه الأعمال الطاهرة النقية فيرمي بها إلى الجوارح فذلك الدقيق
قال له قائل وما تلك الشعب
قال الخوف والخشية والحب والحياء والفرح والهيبة والأنس والوداد والرغبة والرهبة والتقوى فهذه كلها شعب المعرفة كأجنحة القطب للرحا فإذا حيي القلب بالله صار عالما بالله فإذا رأت تلك الحياة شعب المعرفة وأهاجت منك الخوف والخشية والحب والحياء والفرح والوداد والهيبة والأنس والرغبة والرهبة والتقوى ويظهر في الجوارح صدق ما هاج منك في الباطن من أداء الفرائض واجتناب المحارم والقيام بحقوق الله تعالى دق أو جل والصفاء في الصدق والإخلاص في هذه الأمور التي ظهرت على الجوارح فبقدر ما افتقدت من هذه

الشعب تفتقد القوة من نفسك في هيجان هذه الأشياء في باطنك ويظهر النقص في ظاهر أعمالك من القيام بأداء الفرائض واجتناب المحارم وإقامة الحقوق والصفاء والإخلاص والصدق في الأمور كما كان فكلما تناثر من أجنحة القطب لم تغن له كثرة الماء وقوة انحداره في مصبه شيئا
فصاحب الرحا قائم على الرحا يحفظ أجنحة القطب هل تناثر منها شيء وكلما تناثر منها شيء وبطلت زيادة الماء ذهب قوة هيجان الأجنحة

مثل من استعمل عقله وذهنه في أمور الدنيا
مثل من استعمل عقله وعلمه وذهنه وكياسته وروحه في أمور الدنيا لغير الله كمثل حمار تنقل عليه سرقينا من المزابل فما زلت تكده في ذلك العمل حتى إذا كان في آخر النهار حولت عليه سرجا وابتغيت منه هملجة وسيرا فكيف تجدها منه وقد ذهب الكدود والعمل بكثافة قوته وحدة مقاصده ونال الفتور منه كل شيء

فكذلك هذا العلم والعقل والذهن والكياسة والفهم والفطنة والروح لكل حد وسلطان وقوة تعمل في هذا الجسد فإذا استعملهم في أمور الدنيا التي لا تصعد إلى الله تعالى من باب السماء انفتر منه كل شيء على حدته وذهبت قوته وظهر العجز

مثل الذي يختلف إلى مجالس العلم
مثل الذي يختلف إلى مجالس أهل العلم كمثل رجل دخل السوق ولا يدري ما يشتري فما استقبله من شيء رجا فيه الربح اشترى فكم من شيء اشتراه فخسر عليه ولم ينل أمله
وآخر دخل السوق يشتري منافعه فقيل له ما تريد قال متاعا فقيل له أي متاع تريد فإن ها هنا ألوان الأمتعة من القطن والكتان والإبريسم وها هنا أمتعة الذهب والفضة والصفر والنحاس والحديد فلم يدر ما يشتري فدخل من أعلاها وخرج من أسفلها صفر اليدين
وآخر دخل السوق لحوائجه قد رأى ما يشتري فقصد الحوائج فاشترى في الصيف ما يحتاج إليه في الشتاء وترك ما

يحتاج إليه في يومه وليلته فرجع إلى المنزل معه حوائج الشتاء فبات جائعا بائسا
ودخل آخر السوق قد لزت به الحاجة وألحت يعملون الطاعات على طريق الثواب والعقاب
ومثلهم في ذلك كالذي يخوض النهر فما جرى به الماء فوجده على ظهر الماء أخذه مثل البردي والحطب وأصول الأشاء والقثاء وليس لهم غوص وأهل الانتباه يعملون الطاعات على طريق العبودية عارفين موقنين

مثل الذي يغوص في البحر والأنهار
ومثلهم في ذلك كالذي يغوص في البحر والأنهار فيضرب بيده ضربة يقع فيها على جوهرة لا يحاط بثمنها فأولئك الأولون يجمعون حركات الجوارح بتلك الطاعة فليس لهم من ذلك إلا عملهم الظاهر وعليه يثابون الجنة وهؤلاء المنتبهون يدخلون في الطاعة بحركات الجوارح وفي قلوبهم عجائب تعجب لهم الملائكة إذا رفعت تلك الطاعات وفي حشوها تلك الأنوار فأهل الغفلة حشو طاعاتهم التوحيد ونور الصدق وهؤلاء الآخرون حشو طاعاتهم نور

الحب والحياء والشوق والحنين والتضرع والملق والحزن والسرور والبهجة والشكر والذكر الصافي والإقبال والإنابة والخضوع والخشوع والتسليم والتبري من الحول والقوة هؤلاء غواصون يغوصون في كل طاعة في بحور المعرفة في صدورهم في الطاعات من هذه الأشياء ويستخرجون منها الدرر والجواهر لأن القلوب خزائن الله فيها كنوزه فإذا طهر العبد ساحة الخزانة وهو الصدر ظهرت في تلك الساحة من باب الخزائن في وقت كل طاعة يدخل فيها لا توصف من الجواهر والدرر
والطاعات ذوات صور وكل طاعة لها صورة وفي كل صورة يرائي نعمها فيرائي بها ربه ويتزين عنده بتلك الصورة وما فيها من الجواهر التي ذكرنا

مثل المتعرف إليك باختلافه إليك
مثل مضروب رجل تعرف إليك باختلافه إليك وذهابه وجيئته وعوده على بدئه عرفكه فحل في قلبك محل المعروفين بالوجه ثم مع هذا الاختلاف من بعد ذلك تعرف إليك بالسلام عليك والسؤال عن أحوالك ومهماتك صدقا فتعرف إليك بالاهتمام فحل من

قلبك محل المهتمين لك المبالين بك وبأمورك ثم أبدى صدق ذلك السؤال فعلا حتى شاركك في محبوبك ومكروهك ففرح بمفروحك وسر بمسرورك وحزن لمصائبك وتوجع بفجائعك فتعرف إليك بالإخلاص حتى حل من قلبك محل المخلصين ثم تخطى من هذه الدرجة إلى أن فداك بنفسه وماله فبذل عند الشدائد نفسه وفي ذلك لا يبالي ما ناله في نفسه وماله من النقصان والمكروه في جنبك فأعطاك كله فحل من قلبك محلا أحببته كل الحب وصار واحدك من بين الناس وصرت له واحدا فأفشيت أسرارك بين يديه وأطلقت يده في مملكتك وأنفذت أمانيه وحكمه في أمورك فعامل الله بما يعاملك عبد من عبيده بهذه الصفة

مثل الحب من بين الأشياء
مثل الحب بين الأشياء كمثل شجرة لها قلب وأغصان فالقلب من الساق والأغصان فروع الشجرة منها الثمرة ولكن أصل الثمرة من القلب فالمعرفة هي الشجرة والحب هو قلب المعرفة والخوف والرجاء والحياء والخشية والرضا والقناعة وسائر الأشياء أغصانها ومنها تتولد الثمرة وهي الطاعات وإنما جاد عليك ربك بالمعرفة فمن بها عليك بعد أن قسم لك حظا من معرفته

محبته وأخرج إليك محبته من باب الرأفة والرحمة فنلت حظا من المحبة والرأفة والرحمة حتى ظفرت بالمعرفة فلما عرفته خفته ورجوته وخشيته ورهبته واطمأننت إليه واعتقدت بقلبك عبوديته وتسليمك نفسك إليه في أمر ونهيه هذا كله في عقدة المعرفة وهي كالأغصان من الشجرة فإنما أعطيت الشجرة بأغصانها والثمرة من بعد ذلك كسبك الطاعة

الحب سر الله في العباد
فالحب سر الله تعالى في العباد يفتح لهم من ذلك على أقدارهم بمشيئته بما سبق لهم من الأقدار منه وهو قوله تبارك وتعالى ( إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون ) مبعدون أي عن النار ثم لا يسمعون حسيسها كأنه أجازهم الصراط وهم لا يشعرون بها
فالحب سر في الإيمان والإيمان بارز ظاهر وهو قوله تعالى ( واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون )

فالله تعالى عرف نفسه أهل منته بالمنة وخوفهم من عظمته ورجاهم من كرمه وأخشاهم من ربوبيته فنالوا هذه الأشياء من المعرفة المشحونة بهذه الأشياء
وأما الحب فإنهم نالوا حبهم له من حبه لهم

الفرح بتوبة العبد
كان بدء أمرهم من حبه لهم والفرح بهم ألا ترى إلى قول رسول الله ( لله أفرح بتوبة العبد من فرح رجل أضل راحلته في مفازة مهلكة عليها زاده وحمولته فهو يضرب يمينا وشمالا في طلبها حتى أيس منها وأشرف على الهلكة فقال في نفسه أرجع إلى حيث افتقدته فأموت هناك فرجع فوجد بعيره عليه زاده وحمولته فجعل يهلك من الفرح فيقول لله تعالى أنت ربي وأنا عبدك ثلاثا ) قالوا يا رسول الله هل بهذا فرحا فقال رسول الله ( والذي نفسي بيده لله أفرح بتوبة العبد من هذا ببعيره )
فبدء شأن المؤمن فرح الله به وحبه له من ها هنا خرج وظهر

أمره في البدء فهذا سر الله فيما بينه وبين عبده وضعه في باطن معرفته فهو يحبه ويخافه ويرجوه ويخشاه فهذا كله نظام واحد عند العامة ولكن خاصة الناس لما اختصهم بالرحمة التي اختص بها الموحدين حتى نالوا توحيده ثم أولج الخاصة بباب الرحمة حتى دخلوها فوصلوا إلى الرحمة العظمى التي خرجت منها هذه المائة الرحمة التي كتبها على نفسه لعباده وفي تلك الرحمة حبه فلما دخلوها ووصلوا إلى تلك الرحمة العظيمة غرقوا فيها وفيها حبه ومشيئته ففتح لهم باب المشيئة وأنالهم من حبه فلما فتح لهم باب حبه علقت قلوبهم وولهت قلوبهم عن كل شيء سواه وتشبثت النفس بتلك الحلاوة التي نالت فعندها انقطعت الأسباب والعلائق وتطهروا من أدناسها بوصولهم إلى مقامهم في القرب فلما تطهروا تقدسوا بقدس قربة القدوس فلما تقدسوا خلصوا إلى فردانيته فانفردوا به فعندها جاز لهم أن يقولوا يا واحدي فإذا قال صدق وأجيب وكان من أهل القبضة

المفردون
أولئك الذين وصفهم رسول الله في

قوله ( سيروا سبق المفردون ) قالوا يا رسول الله ما المفردون قال ( الذين أهتروا في ذكر الله يضع الذكر عنهم أثقالهم فيأتون يوم القيامة خفافا )
فالخوف أن تخافه من عظمته والرجاء أن ترجوه من رحمته والخشية أن تخشاه من مهابته والحب هو أحبك فأعطاك من حبه لك حتى أحببته فهذا مباين للخوف والرجاء والخشية في الأصل فالخوف والرجاء والخشية هاج من نفسك لعظمته والحب منه بدا فوضع فيك حتى هاج له حب الرجاء من ذلك الوضع فيك والذي وضع فيك من الحب سر منظوم في نور المعرفة ونور التوحيد ونور التوحيد كشيء في شيء فالمعرفة ظاهرة والحب فيها باطن كلب الشيء ولذلك قلنا إنه من الشجرة بمنزلة قلب الشجرة فعظم قوة الشجرة من قلب الشجرة فمن اختص من العباد فتح عليه باب حبه حتى هاج ما في قلبه يسمو إلى الذي عند ربه فلا يزال قلبه في السير وحب الله في مزيد وهيج العبد في مزيد حى يصير العبد هائما به فكما كان هذا في الأصل يسر فحقيق على العبد أن

يسر ذلك فيما بينه وبين ربه ولا يبديه حتى يكون ذلك مصونا فيما بينه وبينه ويجتهد ألا يشتهر فينسب إلى ذلك فيقتضى غدا صدق ذلك وحقائقه ووفارته فيستحي من ذلك
ألا ترى إلى أصحاب رسول الله لما ذكروا منة الله عليهم بالإسلام طابت نفوسهم فقالوا إنا لنحب ربنا فلو علمنا ماذا يحب لأتينا محبوبه فابتلوا بهذه الكلمة فأنزل الله عز و جل ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم )
وامتحن دعوتهم لمحبتهم إياه بقوله ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص )
فاقتضاهم قتالا بهذه الصفة من الثبات ليبرز حقائق حبهم فلما خرجوا إلى القتال فمنهم من وفى بذلك ومنهم من لم يف بذلك فأنزل الله تعالى قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون )

وروي عن رسول الله ( أنه قال إذا قال العبد اغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ضحك الرب من قول العبد )

مثل رجل له عبد رباه بين يديه
فمثل ذلك كمثل رجل له عبد تليد رباه بين يديه وله عليه رأفة الأمومة وعطف الأبوة فهو يحب أن يكون بين يديه لا يبرح حتى يكون في رعايته وكلاءته وهذا العبد يجول ويتردد فإذا خرج من المأمن نالته نكبة من عثرة إذا اشتد في سعيه فردده وربما شاكته شوكة وربما خدشته السباع بالبراثن والأنياب والسيد قد حذره ذلك فإذا لم يأخذ حذره نالته هذه الأشياء ففزع إلى الأدوية والمراهم يداوي نكباته وفزع إلى منقاش ينزع شوكته فهو يتردد في طلب هذه الأشياء للتداوي بها وهذا كله موجود عند سيده وهو أعلم بدائه وأرفق بمداواته وألطف فيتركه السيد في التردد حتى يعيا ويعجز ويأيس فإذا أيس من هذه الأشياء فزع إلى سيده طالبا من عنده دواءه وعلاجه فإذا صار إلى سيده بتلك الحال ضحك منه كأنه يقول جئتني بعدما اقتدرت وترددت في الاقتدار كالمستغني بما

عندك فلما عجزت وأيست جئتني شئت أو أبيت وسيده جواد كريم حسن الخلق واسع الصدر وليس بكز ولا لئيم فيضحك إلى عبده بجهله وقلته وضعفه وعجزه وفقره
فكذلك العبد أمره ربه أن يكون واقفا بين يديه مراقبا لمشيئاته فيه ساعيا في أمره يسعى العبد خائفا لمساخطه معظما لأموره شاكرا لأنعمه عارفا لمنته عالما بإحسانه لاحظا إلى فضله واثقا بما تكفل له من رزقه فذهب العبد فبرح من المقام وأعرض عن المراقبة وأقبل على نهمات نفسه حتى ضيع أمره وذهب في مساخطه كالدابة الحرون الجموح حرن على ربه في جميع أمره ونهيه فاستخف بحقه واستهان بأمره وعظم نفسه وتكبر بأحواله وكفر بنعمه وأنكر منته وجهل إحسانه وعمي عن فضله وتذبذب عقله في شأن ما تكفل له به ثم ذهب 59 يتردد في الصلاة والصوم والصدقة والحج والجهاد وأنواع أعمال البر يريد أن يأخذ نفسه من ربه وينجيها من عذابه بهذه الأشياء فأي خائب أخيب من هذا حيث يعمل مثل هذه الأشياء فلا يكون مفزعه إلى رحمته وافتقاره إلى مغفرته فهذا أحمق جاهل بربه أخاف أن يكله الله إلى عمله حتى يفضحه على رؤوس الأشهاد

وقد قال رسول الله فيما روي عنه ( أن ليس أحد منكم ينجيه عمله ) قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمته )
والعاقل المنتبه عقل هذا الباب فعمل جميع أعمال البر ورمى بها خلف ظهره ولسانه لا يفتر عن الدعاء والنداء عند التضرع وعينا قلبه شاخصتان إلى الله تعالى يغسله بماء الرحمة فيصلح حينئذ للمغفرة فعندها إذا قال اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ضحك الرب تبارك وتعالى اسمه كأنه يقول عبدي كان بين يدي فترك المقام فأذنب ثم ندم فجال وتردد فلم يجد عند أحد فرجا فأيس من الجميع ثم عاد إلي علم أنه لا يقدر أن يداويه من هذا إلا أنا لأني لم أجعل المغفرة بيد غيري وإذا ضحك إلى عبده لم يحاسبه
وروي عن رسول الله أنه قال ( أفضل الشهداء عند الله تعالى الذين يلقون في الصف ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا أولئك يتلبطون في الغرف الأعلى من الجنة

يضحك إليهم الرب ) إن الرب إذا ضحك إلى قوم فلا حساب عليهم والمغفرة حجاب الرحمة فإذا ستر ذنب عبد وتخطى بذلك الستر فقد نجا من العذاب لأن الرأفة قد استكملت والعرض والحساب باق على العبد فإذا ضحك الله اليه نجا من العرض والحساب لأن الضحك من الجود فإذا استعمل على العبد جوده نجا وكأنه لم يذنب

مثل الهوى في الآدمي
ومثل الهوى في الآدمي كالسحاب المطبق على الأرض كلها قد أحاط بالأفق ومن وراء السحاب شمس فإذا انكسفت الشمس صار النهار كالليل فإذا انجلت عن الكسوف في سحاب فذاك نهار مقيم ذو غبار وغيم فإذا انقشع منها مثل روزنة حتى بدا منها بمقدار ذلك فأشرق نورها في الأرض أضاءت الأرض كلها بقدر ما أشرق في تلك الروزنة فلا تزال تتقشع وتتسع تلك الروزنة حتى تتقشع كلها وتفضي في جميع نواحي الأفق فتصير السماء مصحية والشمس بارزة مشرقة بكمالها على جميع الأرض في التل والجبل فالأوادية والأمصار والقرى والبيوتات والكوى فبقدر ما ينقشع

السحاب تشرق الأرض بنورها ثم بقدر ما يبقى فإشراقها منكمن وهي محتجبة بذلك الباقي من الغنم فكذلك الهوى في الآدمي مطبق على الفؤاد في الصدر والنور في القلب كالشمس المنكمنة في السحاب فلا ينتفع بحرها وإشراقها وإذا غره العدو حتى أشرك بالله فقد انكشفت شمسه وصارت معرفته في كفره والكفر الغطاء فصار صدره كالليل المظلم وهو عالم بأن الله خالقه ورازقه ومميته ومالكه والعلم المنكمن في تلك الظلمة لا مستنير لعيني فؤاده وهو يقول ربي الله ثم لا يستقيم قال الله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم )
ومن يدبر الأمور ومن يرزقك ومن يملك السمع والأبصار ومن بيده ملكوت كل شيء فسيقولن الله ثم أشركوا به قال الله تعالى لنبيه قل ( أفلا تتقون فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال )
وإنما حملهم على الشرك الهوى لأن الهوى يطلب الضر والنفع والتجأ من أجل المضرة والمنفعة إلى الأوثان وذلك قوله

تعالى ( ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى )
وقال ( أم اتخذوا من دونه شفعاء )
وقال ( واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا )
فإذا من الله على عبد فتح روزنة من هذا الهواء المطبق بالنور الذي لاقى هذا الطبق فخرقه وخلص إلى قلبه إشراقه فقد خرجت شمسه من الكسوف وأشرق الصدر بنور الله فاستقر القلب وأمن
فهذا عبد ممنون عليه بالإيمان حبب إليه الإيمان وزينه في قلبه والذي لم يمن عليه بذلك فقلبه في غلاف وذلك الغلاف هو الهوى المطبق وذلك قوله تعالى ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة ) أي على بصر فؤاده غشاوة وتلك الغشاوة هو الهوى ( فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون )

وذلك قوله عز و جل ( إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ) وهو الغطاء وذلك الهوى فإذا من الله عليه بهذا النور خرق ذلك الهوى فاستقر إشراقه في مكان الهوى ورحل الهوى عن موضعه فولج ذلك الإشراق في الصدر فأضاء واستنار فزكا
وقال الله تعالى ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) أي دس تلك الروزنة بظلمة الهوى وظلمة الشرك فالخائب خاب عن الحظ لأنه غاب يوم القسمة عن المقسم يوم المقادير قبل خلق السموات والأرض والعرش والكرسي واللوح فلم يحتظ من ذلك النور غاب وخاب وذلك قوله تعالى ( ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور )
وقال لمن شهد المقسم يوم المقادير ( وجعلنا له نورا يمشي به في الناس )
وقال ( أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه )

فهذا عبد قد من الله عليه حتى فتح من هذا الهوى المطبق روزنته حتى أشرق فيها نور المعرفة في الصدر فوجد ربه واستقام له وذلك قوله تعالى ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا )

الآخرون مثل العنكبوت
والآخرون قالوا ( ربنا الله ) لما وضع فيهم من العلم به ثم زاغوا وقالوا بأفواههم طلبا للمنافع وهربا من المضار فلم يستقيموا واتخذوا من دونه أولياء يحتلبونهم ويستدرون منافعهم منهم ويستظهرون بهم ويتخذونهم من دون الله وليجة يأمنون في تلك الوليجة فمثلهم كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ولا يستر ولا يدفع حرا ولا بردا ولا يأتي بخير
ما في خطبة له
وروي عن رسول الله أنه قال في خطبته ( إن الله يقول جعلت عبادي كلهم حنفاء فأمرتهم ألا يشركوا بي شيئا فأتتهم الشياطين فأحالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي

فهؤلاء صنف لم يمن الله عليهم بنور الهداية ومن هداه حبب إليه الإيمان بحبه وزينه في قلبه بالعقل الذي هدى إليه فثبت على التوحيد ووفى بلا إله إلا الله ثم اقتضاه الطاعة في الأمر والنهي
فكلما وفى العبد بهذه الطاعة في جميع متقلبه ووقع عليه الجهد والتعب واجتهد واحتمل التعب كان إنما يعمل في اتساع هذه الروزنة وانقشاع هذا الهوى فلا يزال يوسعها حتى تغيب في نواحي صدره إلى جوفه فيبقى هناك مسجونا فيموت في الغم غم الجوف لأنه لما جاءه النور الأول حتى خرق تلك الروزنة كان ذلك من المنة فقبل أمر الله في أن يطيعه في كل أموره كهيئة العبيد فيعبده بالطاعة فابتلاه بالأمر والنهي لينظر كيف وفاؤه بما أمر وقبل فكلما أطاع في أمر أمد من ذلك النور فلا يزال في مزيد من المدد فكلما صعد إلى الله منه طاعة أمده الله بمدد من ذلك النور فإذا جاء النور الزائد وقع على الهوى فرحله عن مكانه واستقر في موضعه فلا يزال هذا دأب العبد في الطاعة وشأن الله تعالى في المزيد حتى يطبق الصدر بالنور ويغيب الهوى كله من نواحي الصدر إلى الجوف لأن الهوى مظلم فإذا جاء مدد النور ومزيده أشرق ذلك المكان وغابت ظلمة الهوى حتى يمتلئ الصدر نورا كما كان ممتلئا من الهوى وتشرق الشمس بكاملها من قلبه في صدره فإذا لاحظ بنور تلك الشمس ملك العظمة سبى قلبه حب الله وإذا

لاحظ ملك الجلال أحاطت به الخشية ولزمه الخوف ووقفه مكان الهيبة فعلى المحبة قرار القلب في الباطن والهيبة غشاء الحب حتى لا يضطرب القلب وتسكن هشاشة النفس في تلك الهيبة وتصديق ما قلنا في شأن المدد في قول الله تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )
فكلما عمل العبد طاعة فإنما يعملها من الاهتداء فيزيده الله هدى أي نورا يورثه التقوى ولا تكون التقوى إلا من الخوف والخشية

السلام للأمة من إبراهيم
وقول إبراهيم لمحمد ليلة أسري به فلقيه في السماء السابعة فقال له أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم بأن الجنة قيعان طيبة التربة عذبة الماء وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
مثل رجل غرس غرسا
فمثل ذلك كمثل رجل غرس غرسا في بستانه وكان بذره ألوانا

من الرياحين ألوانا ومن الثمار ألوانا فنبت على هيئة ما بذر فكذلك بذر التسيبح غير بذر الحمد ولكل كلمة بذر سوى بذر الأخرى فمنبته من بذره وكل بذر له جوهر وطعم وريح وثمرة فكذلك هذه الكلمات لكل كلمة جوهر وطعم وثمرة فجوهر سبحان الله الطهر والنزاهة وطعمه السعة والغنى وريحه الروح وثمرته التقوى
وجوهر الحمد الحب وطعمه الحنين والشوق والحلاوة وريحه الفرح وثمرته نفاذ مشيئته في الحكم والقسم
وجوهر التهليل الوله بآلهيته وطعمه الامتلاء والغنى وريحه البصر وثمرته الحرية والخروج من الرق والاعتزاز بالله
وجوهر التكبير الكبر والاحتشاء وطعمه السماحة والنزاهة وثمرته القوة في أمر الله تعالى فإذا بذر نبت هناك على تراب وقد خرج ذلك التراب من الرضوان فأرضه لبقة والماء من الحياة والرحمة والبذر من الصفات فما ظنك بنبات أصله من الرضوان والحياة والصفات كيف تكون تلك الرياحين وتلك الثمار فكل يكون نبته وثمرته على قدر ما خرجت منه الكلمة يقينا ومعرفة وعلما وهو

قوله تعالى ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا )
فحسن الكلمة من حسن الخروج منه وحسن الخروج منه على هذه المعادن بحسن المعرفة والعلم واليقين والعقل فعلى حسب ذلك يزاد له في الجنة حسن المساكن والأزواج والكسوة والثمار والبساتين والأفراح والوجوه والأجساد والخدم فقسم الله تعالى حسن الجنة في الدرجات على قدر حسن أعمالهم وعبوديتهم فبالعلم والمعرفة والعقل تحسن الأشياء من الأفعال والأقوال وبالنفس تطيب وتثبت وتدوم

مثل القلب والنفس
مثل القلب والنفس مثل أمير ولي بلدة وولي بندرتها آخر فالأمير يصلي بالناس وتتحول الناس بالمواعظ في الخطب ويقيم الحدود ويؤدب الرعية ويقيم أودهم بالتعليم مرة وبالتعزيز والحبس مرة ومرة بالجوائز والخلع والحملان والطعام على موائده والبندار يجمع المال والخراج والعشور والصدقات وهو

موكل بأرزاق الجند فالسلطان للأمير وبيت المال للبندار
فالقلب أمير وله سلطان المعرفة بمطالعة الملكوت ومقامه من الجلال والعظمة وملك الهيبة فهو الذي يقف في مقامه بين يدي الله تعالى في الملكوت ويقيم أود الجوارح ويؤدبهم ويسير بهم بسيرة الطاعة والنفس بندار يجمع الأموال كلها بباب الشكر وباب الصبر وتقوم بجميع الفرائض فتؤديها إلى الحق وتمنع عن أدناس الآثام تورعا وتقدسا وتتمسكن وتتخشع لربها فما دام الأمير محافظا على إمرته ضابطا لها مشرفا على أدب الرعية واقفا بين يدي الملك الأجل في مقامه يراقب أموره وما يخرج له من التوقيع له بالباب وصائنا لسلطانه وفي رعيته مهيبا فأمره مستو وولايته عزيزة وما دام البندار مشرفا على أمور ديوانه محصنا لأبواب الأموال مستقصيا في جمعه ضابطا له فأمره قوي وخزائنه محشوة بالأموال فمتى دعاهما الملك فوجدهما على هذه الصفة أكرمهما وقربهما ورضي عنهما وحلا محل الخاصة في جواز الأمر ونفاذ القول

فإذا ذهب البندار يختان ويحجز من الأموال لنفسه الذخائر وأشغل نفسه بالملاهي وملاذ النعم وترك الإشراف على أموره والاستقصاء في اقتضاء حق بيت المال حتى ضاع كثير من المال وما صار بيده من ذلك سرق بعضا فاحتجنه لنفسه ثم لم يقنعه هذا الذي فعل حتى قصد لخدع الأمير 61 واستمالته إلى نفسه ليشاركه في أموره وليأمن ناحيته وطمع أن يجعله عونا لنفسه وتحت يده حتى لا يكون لأحد في هذه البلدة سلطان ولا أمر ولا نهي إلا له فصير الأمير تابعا له في لهوه ولعبه وفساده كبعض عبيده حتى قوي عليه قوة أخذ منه إمرته وولايته فمتى ما دعا بهما الملك وجدهما بهذه الصفة ما يقول لهذا الأمير كيف يعاقبه وماذا يقول للبندار وبأية عقوبة يعاقبه فإن عقوبة الأمير حيث انخدع للبندار أعظم فعقوبة الأمير أن يعزله ثم يقتضيه الأموال ويخاف ألا يوليه أبدا وعقوبة البندار أن يحبسه ثم يقتضيه الأموال ورفع الحساب محكما فالبندار مسجون بالأموال إذا جاء بها خلى عنه والأمير معزول مطرود مهان مسلوب مشرف على ضرب العنق فكذلك النفس ضيعت الفرائض وتوثبت في المحارم وخانت الأمانة والوفاء بالعهد الذي رفع إليه يوم الميثاق فضيع البندكية وحل وثاق

الجوارح الذي أوثق يوم الميثاق وأخلى بيت المال من الأموال وأجاع الجند وأظمأهم وأعراهم وسلكهم في البوادي بلا ماء حتى عطشوا شغل جوارحه عن الطاعات في ارتكاب الحرامات وشغل سمعه عن المواعظ باللغو والأباطيل وبصره عن الاعتبار بالملاهي واللذات والزينة ونسي المقابر والبلى ولها عن ذكر المعاد وسها عن المبدإ والمنتهى من أين وإلى أين ثم لم يقنعها ذلك حتى استمالت القلب فلم تزل تخادعه حتى أسرته وصيرته تابعا لها وتحت يدها مقهورا ذليلا تقود بخطامه حيث شاءت وذهب سلطان المعرفة ووقعت الغارة في كنوز القلب فإذا قدما على الله طولبت النفس بالفرائض والغرامات والجنايات وما ضيعت من الأمانات واشتملت عليه من الظلم للعبيد وسجنت وطولب القلب بالعهد واللواء فإذا لم يوجد معه ضربت عنقه فصار مع الأعداء وخرج اسمه من الأولياء والعهد في باطن إيمانه واللواء على طرف لسانه وهي الكلمة العليا

مثل من سار إلى الله حتى وصل إلى محل القربة
مثل من سار بقلبه إلى الله عز و جل حتى وصل إلى محل القربة وأعطي سراجا يمشي به في أموره ليكون على بصيرة مثل رجل سار في ليلة مظلمة في طريق فهو يتعسفه فوجد سراجا

يستضيء به فإن لم يكن معه ما يكن سراجه من الريح فهاجت ريح لم يأمن من انطفائه فليس هذا بأمر محكم ولا وثيق فكذلك من سار إلى الله فوصل إلى محل القربة فأعطي سراجا يمشي به في أموره ليكون على بصيرة فهو على خطر عظيم لأنه إذا وجد السراج ونفسه حية بعد والهوى منه بمرصد مع العدو فطالع بذلك السراج سعة أموره وعرفه بصفاته وأشرق في صدره نور ذلك الجمال ونور البهاء ونور البهجة فامتلأ صدره فرجا وطالع كرمه وجوده ومجده فهاجت رياح الشهوات منه لعوارض الدنيا التي يلوح له بها العدو ويرجو بذلك سقطته فتحيرت نفسه وتشجعت على الأمور فرمت به في أودية المهالك فإذا كاس العبد واستعمل الكياسة تجنب أسباب الآفات وأبقى على عطاياه التي أعطي في محل القربة إبقاء رجل لبس ثوبا خطيرا ذا ثمن فصانه أن يلبسه في وقت هيجان الرياح واغبرار الهواء اتقاء على ذهاب طراوته وحاسب نفسه على الدقيق والجليل وكبح بلجام النفس على التجري والتجشع ولزم الدعاء والتضرع وألح في طلب الثبات ولم يدخل في أمر من الأمور إلا بإذن وأودع الله نفسه ودينه وأمانته فإذا كان هكذا رفع من هذه المرتبة إلى القبضة فإذا وقع في القبضة وقع في الثبات والحرز والحفظ والمأمن وصار به يسمع

ويبصر وينطق وبه يعقل ويبطش وبه يمشي فقد وقع سراجه في الكن ولا تقدر الريح أن تطفئه
مثل الذي يترك مجاهدة النفس
ومثل الذي يستولي عليه العجز حتى يترك مجاهدة النفس وحتى يدع الإخلاص في الأمور وطلب الصدق حتى يصير متصنعا مرائيا مداهنا مخلطا يخضع للملوك ويتملق للأغنياء ويتصنع عند العامة كمثل رجل معدود اسمه في الرجال فلما عري وجد خنثى فاسمه اسم الرجال وهيئته هيئة الرجال وفعله فعل الإناث فإذا كان هذا وضيعا من الخلق دنيا خطرا شخصه فكيف يكون غدا هذا المتصنع المرائي الملق للأغنياء المتبصص للملوك خضوعا وطمعا

مثل من ترك المجاهدة في وقت طاعة النفس
ومثل من ترك المجاهدة في وقت طاعة النفس كمثل رجل خرج محاربا بسلاح تام ودابة فارهة وجميع ما يحتاج إليه فلما صار

إلى مصاف العدو ونشبت الحرب ذهب هذا فدفن سلاحه في التراب وخلى دابته كي لا يقال تقدم إلى القتال فخاب عن الزحمة إذ تشبه بالمجاهدين وليس منهم كما فعل جد بن قيس السلمي يوم بيعة الرضوان وذلك يوم الحديبية ورسول الله محرم ممنوع عن البيت والطواف به والهدي محبوس عن بلوغ محله ووجه عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولا إلى أهل مكة فلما أبطأ وقع الخبر في العسكر أن عثمان رضي الله عنه قتل فارتج العسكر بما هاج وقعد رسول الله تحت الشجرة وبايعه الناس على أن يدخلوا مكة ويحاربوا فبايعوه عل الموت يعني أن يقاتلوا ولا يفروا حتى يموتوا وكانوا ألفا وثمانمائة فبايعوه كلهم إلا جد بن قيس فإنه أقام بعيره واختبأ تحت إبط بعيره فأنزل الله تعالى ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة )
والخائب عن رحمة الله في سابق العلم خائب في كل وقت

مثل من يقصر في الفرائض
مثل من يقصر في الفرائض مثل عبد يؤدي ضريبة مولاه شهرا

شهرا فالعبد السوء يؤخر أداءه ويماطل مولاه حتى يطعن في الشهر الثاني فيتوسطه فإذا أداها خلط بها زيوفا وبهرجة فهذا المولى في كرمه وسهولة أمره ومعاملته يقبل ذلك من عبده ولكنه عنده 62 في المنزلة في أدنى المراتب مستخفا به وبأحواله

مثل من يضيع حقوق الله
ومثل من يضيع حقوق الله تعالى مثل عبد وكله مولاه بأمواله وعبيده فطالع عمله فوجده إنما همته بطنه وفرجه فإذا شبع وقضى نهمته من فرجه واكتسى رفع البال عن عمل مولاه وعبيده فهذا عبد ساقط المنزلة
مثل من قرأ القرآن بغير فهم
ومثل من قرأ القرآن بغير فهم مثل رجل أعطي جواهر بالعراق فقيل له انقلها إلى خراسان بكراء مائة درهم وعامل بها هناك فإن عاملت بها هناك فلك ربحها وربحها ملء البيوتات ذهبا وفضة

فلما وافى خراسان اجتزأ بالكراء وترك المعاملة فأعطي الكراء مائة درهم على حمله وصرفت المعاملة إلى غيره
فكذلك من قرأ القرآن ولم يعامل الله بتلك الجواهر التي تعطى فيه له أجر تعبه وعنائه في قراءته وفاتته المعاملة وأرباح المعاملة

مثل الواعظ الناصح
مثل الواعظ الناصح مثل عبد للملك وللملك عبيد آخرون سواه من بين راع وحراث وصانع وتاجر وكل واحد منهم قد وكل بعمل من الأعمال يطالبون بالقيام بذلك وأداء الغلة وكل واحد منهم يدعي أنه يحب مولاه وينصحه ويطيعه في أمره مقبل على أمره الذي وكل به موفيا لوظيفته التي وظفت عليه من العمل وكان هذا العبد الواحد من بينهم يوفر على الملك وظيفته من العمل ومع ذلك يطوف على هؤلاء العبيد ويحث كل واحد منهم على القيام بعمل الملك وبتوفير ما وظف عليه والإشفاق على أعماله ويجل بصدورهم أعماله ويصف لهم قدر الملك وغناه وسعته وقوته ويؤملهم كرمه وجوده وحسن خلقه وجميل معاملته ومحاسن ما أتى إليهم وعطف عليهم ويحثهم على النصيحة لهذا في رعي أغنامه ولهذا في صناعته ولهذا في تجارته ويعينهم على ذلك

لا يحمله على ذلك إلا حب الملك وتعظيم أمره وتوقير شأنه وأن تقع الأمور منه مسارة والملك مطلع على ذلك منه وعلى سائر هؤلاء العبيد كل واحد إنما باله . . . وبال هذا الواحد بقربه ومولاه قد صرف همته أجمع عن نفسه وجمع همومه أجمع فجعلها هما واحدا لربه
فهذا عبد ناصح الله فنصحه الله وأحب الله فأحبه الله وتولى الله فتولاه الله فهو ولي الله والله وليه
فما ظنك بالله يوم يدعو هؤلاء العبيد وتدعوه فيجزيهم على أعمالهم على قدر عقولهم ماذا يكون جزاء العبد الناصح وإنما أدرك النصيحة بفضل عقل فيه عقل آلهه وعقل عنه تدبيره وأموره ولذلك قال رسول الله ( يعملون ويعلمون الناس الخير ويعطون أجورهم على قدر عقولهم )
أنبأنا صالح بن محمد رحمه الله بإسناده قال أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن يا موسى إنما أجزي الناس على قدر عقولهم
وروي عن النبي أنه قال ( العقل ثلاثة

أجزاء حسن المعرفة لله وحسن الطاعة لله وحسن الصبر لله )
وروي عن رسول الله فيما يروى عن جبريل عليه السلام عن الله تعالى أنه قال ( ما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي وإنه ليتقرب إلي بعد ذلك بالنوافل حتى أحبه وما يتقرب إلي عبد بمثل النصح فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ويده ورجله وفؤاده فبي يسمع وبي يبصر وبي يمشي وبي يبطش وبي يعقل )
وكانت مشية رسول الله تكفيا كما تكفى السفينة فإنما كان ذلك لامتلائه من عظمة الله تعالى وكان يميل به جلال الله هكذا وهكذا لأن الجلال لا يسكن
وروي عن رسول الله عن الله تعالى ( أحب ما تعبد لي به عبدي النصح لي )
وكذلك ما روي عن رسول الله أنه قال ( إن لله ملائكة موكلين بأرزاق بني آدم قال أيما عبد وجدتموه طلب فإن تحرى العدل فطيبوا ويسروا وإن تعدى إلى غير ذلك فخلوا بينه وبين ذلك ثم لا ينال فوق الدرجة التي كتبتها له )
فقد ذكر في هذا الحديث أن من جمع همومه فجعلها هما واحدا ضمن الخالق رزقه وكفى

مثل من أعطي نور الهداية
مثل من أعطي نور الهداية واستنار قلبه ثم أضاء صدره من نور القلب مثل رجل في بيت مظلم لا يهتدي لما فيه وفي البيت جواهر وألوان من النعمة ناحية منه وفي الناحية الأخرى مزبلة وجرف يتردى فيها وعقارب وشوك وهو في تلك الظلمة سكران لا يفيق بجوهر ونعمة ولا لقذارة مزبلة وتردي جرف ولدغة عقرب ووخزة شوكة من سكره فأعطي سراجا فأفاق من سكره فأضاءت له جدران البيت من ضوء ذلك السراج فمن قام خلفه فإنما يعلم بحاله وهيئته ونعته مما يتراءى له من الظل على ذلك الجدار المضيء الذي هو أمامه فإذا كان ذا جثة عرف ذلك بما وقع من الظل على ذلك الجدار وعرف صورته بما وقع له النعت بذلك الظل على الجدار وإن أشار بأصابعه من خلفه وقع ظل إشارته على الجدار فعلم عدد الأصابع وما ينقص منها وما يزيد فصارت له رؤية ذلك الظل كأنك التفت إليه فرأيته بعينك فإذا أثرت في ذلك البيت من دقاق التراب حتى يثور غباره فيمتلئ البيت أو أحرقت تبنا حتى ارتفع وهاج دخانه فامتلأ البيت حجب ذلك الغبار والدخان عينيك

عن رؤية ما كنت تراه على الجدار أمامك وغاب ذلك الظل الذي كنت تراه في ذلك الغبار والدخان بغلبتهما عليه
فكذا الذي أضاء صدره من نور قلبه كلما ذكر في شيء من أمور الآخرة وشأن القيامة والدارين تصورت صورة تلك الأشياء لعيني فؤاده لأن ذكر تلك الأشياء إذا تصورت صارت الصور ظلا في الصدر قبالة عيني الفؤاد لأن الضوء من نور الله في صدره فإذا جاءت صور الأشياء وقع للصور ظل في ذلك الطور لأنه عليه النور ولكن حجبت صور الأشياء عيني الفؤاد عن رؤية النور بمقدار ما تصور
ألا ترى أنه إذا انتقل من فكر المخلوقين إلى فكرة جلال الله وعظمته ازداد الضوء ولم تقع لتلك الفكرة صورة لأن ضوء هذه الفكرة زيادة في ذلك الضوء لأنه منه فكر ومنه 63 حدث الضوء ثم عاد إلى ما حدث منه ولم يكن له ظل
وإذا فكر في أمر الجنة والنار والقيامة وكل شيء مخلوق صارت تلك الصور التي تصورت بالفكر حجبا لعيني الفؤاد عن ذلك النور بمقدار الصور فلذلك سميناه ظلا فإذا عاين ذلك الظل على تلك الصور صار كأنه يشاهد بعيني فؤاده ما يعاين غدا بعيني رأسه في الآخرة وإذا لحظ إلى عظمة الله وجلاله أشرق الصدر وصار ذا شعاع كله فهو في ذلك الوقت كأنه يشاهد بعيني فؤاده ما يشاهد من الوقوف بين يديه والنظر إلى جلاله وإذا خلا من النفس وشهواتها ثار دخانها إلى الصدر فامتلأ هذا الصدر دخانا وغبارا الدخان

لحريق الشهوات والغبار للتجبر الذي في النفس من الكبر فغاب ذلك الظل بتلك الصور التي صورت له أمور الآخرة لأنه اختلط الضوء بالغبار والدخان وافتقدت عينا الفؤاد تلك الصور
فإذا ذهب يتفكر لم يقدر أن يفكر لأن بصره لا ينفذ في ذلك الغبار والدخان إلى صور تلك الأشياء وقد ذهبت الصور وتصير تلك الفكر الآن حولها فهو يحدث نفسه ويحسب أنه فكر وإنما الفكرة توهم والتوهم في الشيء المضيء لصور الأشياء لك وإذا دام ذلك فهو فكرة ويقال للتوهم بالأعجمية انديشة وللفكرة اسكالسن فالتوهم أصل والفكرة فرع ممدود فبالتوهم يتصور ويتفرع ما تصور ويمتد باستقبال القلب ذلك حتى يمتد ويثمر فتلك فكرة وإنما صارت عامة أعمال العامة فاسدة لهذا الذي وصفنا لأن الأعمال تصدر عن عيني الفؤاد وأن تدبير القلب مع العقل هناك يتراءى لعيني الفؤاد صور الأمور ويزين العقل فيها ما حسن لعيني الفؤاد حتى يدبر الفؤاد ويمضيه

تسمية القلب قلبا
والقلب والفؤاد هو بضعة في بضعة فما بطن فالنور فيه فهو القلب سمي قلبا لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن الخالق وإذا أراد الله أن يهديه بسطه فاستقام وإذا أراد أن يضله نكسه فنور

القلب يتأدى إلى بصر الفؤاد فيستنير ويضيء منه الصدر فإن شاء الرحمن قلبه كيف شاء على ما مضى من الصدر فالفؤاد هي البضعة الظاهرة التي في جوفها هذه وعلى الفؤاد عينان فسمي كله قلبا لاتصالهما ولأن أحدهما في جوف الآخر كاللؤلؤة في الزجاجة وهو قول الله تعالى ( ما كذب الفؤاد ما رأى )
وقال الله تعالى في التقليب ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لو يؤمنوا به أول مرة )
فقلب الكافر منكوس وبصر فؤاده من أسفل وقلب المؤمن مبسوط منتصب ووجهه إلى الله تعالى وذلك قول الله تعالى ( ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة والوثقى وإلى الله عاقبة الأمور )
ولما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله ( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وإذا أراد الله أن يهديه بسطه فاستقام وإذا أراد الله أن يضله نكسه )
فنور القلب يتأدى إلى بصر الفؤاد فيستنير ويضيء منه

الصدر وإذا غشى الصدر والفؤاد دخان الشهوات صار كبيت فيه سراج قد غاب ضوءه في ذلك الدخان وأيضا صار دخانا لأن الشهوات لها حريق جاء من الشهوات المحفوفة بباب النار وإنما خلقت من النار وبباب النار وضعت وفي جوف كل آدمي منها ريح تلك النار ولها اهتدت في العروق إذا هاجت حتى تأخذ جميع الجوارح لأن العروق قد التفت على الجسد كله فلذلك إذا هاجت شهوة شيء منك أخذت في تلك السرعة من القرن إلى القدم لأنها هاجت في العروق في سرعة تلك الريح الجامحة فاشتملت على الجسد كله
وقول النبي ( أتاكم أهل اليمن ألين قلوبا وأرق أفئدة ) فإنما وصف القلب باللين لأن القلب إنما يلين بالرحمة لأنه بالرحمة ترطب الأشياء فكلما كان القلب أوفر حظا من الرحمة كان ألين ثم يخاف عليه من اللين العجز عن أمر الله لأن اللبن يؤدي إلى كسل النفس فإذا وفر الله تعالى عليه الرحمة فلينه ثم فتح عليه من نور العظمة انكشف ذلك النور من رطوبةالرحمة فاستدر الرحمة وعلاه نور الجلال والهيبة فصلب القلب

فذاك محبوب الله تعالى في قلوب العباد أن يكون رحيما صلبا ففي وقت يستعمل الرحمة وفي وقت يستعمل الصلابة
ولذلك ما روي عن رسول الله أنه قال ( ما رزق عبد شيئا أفضل من إيمان صلب ) رواه أبي عن صالح بن محمد عن النضر بن شميل عن عوف عن أبي السليل
ألا ترى أن قوما رقت قلوبهم عند إقامة الحدود فنزل قوله الله تعالى ( ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين )

صلابة الإيمان
فحقيقة الإيمان البالغ أن يعمل نور العظمة في قلبك حتى يصلب القلب لأن هذا الاسم اسم العظمة العظمى فتوله القلب إليه بعلمك في هذه الآية أن إيمانك بالله يصلب قلبك في ذاته حتى تغيب الرأفة في ذلك الوقت في تلك الصلابة من قلبك
وذلك مثل ما قاله النبي حيث كلم في تلك المخزومية القرشية حيث سرقت فغضب رسول الله وقال ( والله لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعتها ثم نزل فقطعها )
رقة الفؤاد
وأما رقة الفؤاد التي وصف بها رسول الله أهل اليمن فإن هذه البضعة الظاهرة هي وعاء لتلك البضعة الباطنة فإذا كانت رقيقة تأدى ذلك النور الذي في القلب إلى الصدر فنفذ البضعة الظاهرة والقلب بمنزلة المشكاة التي في جوف القنديل والنور في المشكاة والفؤاد هي الزجاجة التي فيها المشكاة والمشكاة وسط الزجاجة فكلما كانت الزجاجة أرق وأصفى كان ضوء السراج أنفذ إلى الصدر وكلما كانت أكثف وأقل صفاء كان ضوءه أقل 64 فإنما مدحهم النبي بلين القلب لوفارة حظهم من الرحمة وبرقة الفؤاد لإضاءة الصدر منهم من أجل الرقة
فأما الذي وصفنا بالصلابة فهو الكامل لما روي عن رسول الله أنه قال ( إن لله تعالى أواني في الأرض ألا وهي القلوب وأحبها إلى الله تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها أرقها للإخوان وأصفاها من الذنوب وأصلبها في ذات الله تعالى )
مثل انقياد النفس
مثل انقياد النفس في أعمال البر مثل رجل قيل له في ليلة

شاتية مظلمة احمل هذه الحمولة إلى موضع كذا فهاله ذلك جدا وثقل عليه وهاله شأنها وأظهر العجز والضعف والوهن من نفسه
فإن قيل له احملها ولك ألف درهم أو دنانير فثار فيه فرح تلك الدنانير حتى أخذ من قرنه إلى قدمه بما رجا نواله فوجد من القوة من قلبه فاحتملها مسرعا في السير وأظهر من نفسه قوة فإنما قواه على ذلك فرح الدنانير فهذا مثل عبد حمل رجاء الثواب والنوال
ولو لم يقل له لك دنانير ترجو نوالها ولكن قال له احملها وإلا ضربتك بالسيف فوجد من القوة ما احتملها واستخف بها من خوف السيف فهذا عبد عمل على خوف الوعيد والعقاب
ولو لم يكن هناك طمع ولا خوف ولكن قيل له احملها فتلكأ وحرن وأظهر العجز عنها فقيل له أتدري أن هذه الحمولة لمن قال لا فقيل هي لفلان فذكر رجل أعز الخلق عليه وأحبهم إليه فهاج من حبه في قلبه ما نسى الدنانير والسيف وأخذته من الحرمة لذلك الرجل والحياء ما لا يجد من نفسه ترك حمولته

على قارعة الطريق حتى تضيع فاحتملها بقوة أشد من الأولين ونشاط وسرور ما لم يعلم أنه عليه شيء من الحمولة فهذا عبد عمل على حب الله تعالى فبحبه الله أحب صاحب الحمولة فلا يترك نصحا في ذلك العمل إلا بذله وأشفق إشفاقا يصونه عن الإنكسار وعن صدوم الآفة لحب صاحبها
فالأول يحملها طمعا لتلك الدنانير فلا يكون له شفقة على تلك الحمولة أن يبلغ بها الموضع الذي أشير له إليه وكذا الذي خوف بالسيف إنما باله أن يبلغ بالحمولة المكان الذي أمر ثم إن أصابها في الطريق عثائر من صدمة أو تغير حال لا يبالي إنما بالى بحملها مخافة من السيف
فالأول إنما باله الوصول إلى ما طمع فيه من النوال وهذا الذي عرف لمن هذه الحمولة أخذته الشفقة على تلك الحمولة فالأخير حملها محبة لصاحبها حتى احتملها إلى أن يتوقاها من الآفات وإبلاغها إلى الأصل
والثاني إنما باله إبلاغها إلى الأصل للثواب والنجاة
وكذا عمال الله تعالى منهم من يعمل على الكسل والعجز على

التجويز والشايذبوذ فإذا انتبه للوعد والنوال جد واجتهد فعند الإنتباه إنما باله الوصول إلى ما أطمع وليس له شفقة على المحمل
والثالث عمل على الحرمة والشفقة على حقوقه فوقاه العثار وصدمات النفس وعمله على الهشاشة والسماحة والانطلاق

حال المشفق
قال له قائل صف لنا حال المشفق في أموره قد عرفنا الصنفين فمن هذا الثالث قال هذا عبد محب لربه فهو يتحرى مسراته في الأمر كما روي عن الله تعالى أنه قال يا عيسى أنزلني من نفسك كهمك وتحر مسرتي في الأمور
فالمحب لربه إنما باله من الأمور طلب مسراته ماذا يحب ربي من هذا الأمر وماذا يسره
فرح الله بتوبة العبد
ألا ترى إلى ما جاء عن رسول الله أنه قال ( لله أفرح بتوبة العبد من أحدكم ضلت راحلته عليها زاده

وطعامه وشرابه في فلاة من الأرض فضرب يمينا وشمالا في طلبها فلم يجدها فوطن نفسه على الموت وقال أذهب إلى ذلك المكان الذي ضلت فيه راحلتي فرجع إليها فوجدها قائمة هناك
ومن السرور بعباده يباهي بعمل الآدمي للملائكة ويفتخر به فيهم فيقول يا ملائكتي انظروا إلى عبدي فهو لفرحه بتوبة العبد وبأعماله يباهي به الملائكة
وما جاء أنه يباهي بأهل عرفات ويقول عبادي جاؤوني شعثا غبرا من كل فج عميق
فحق على من عقل هذا أن يطلب في الأمور بجهده مسراته فيطلب زينة الأمور فإن لكل شيء زينة وكسوة وقد يرى الأشياء العارف كيف يتضاعف حسنها إذا كسيت وزينت وطيبت والمحب لربه لا يرضى أن يعمل له على خبث النفس والكراهة والعسر والتثاقل والنكر والعبوس بل يتوخى في كل أمر التسارع والخفة والسبق والهشاشة والسماحة والانطلاق واليسر فإن لم يجد هذا في وقت عظمت عليه المصيبة في ذلك الوقت وعده نقصا عظيما

دخل عليه فينظر من أين جاء هذا فيحتال أن ينحيه وينفيه
ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما حيث جاء المؤذن فقال الصلاة فقال ابن عباس رضي الله عنهما إن لنا شواء في التنور فإن تنتظر لنا وإلا فاذهب فصل
فهذا عين ما قلنا كره ابن عباس رضي الله عنهما وعظم عليه أن يجيب المؤذن إلى الصلاة ومعه شهوة الشواء فيدخل في الصلاة ومعه شهوة الشواء فتخبث عليه نفسه في حال القيام بين يدي الله تعالى ومناجاته والعرض عليه وتسليم النفس إليه والاعتذار إليه من التقصير والهفوات فعظم عنده أن تكون نفسه في ذلك الوقت تزاحمه في شهواتها التي قد أحست بنوالها وأشرفت عليها فكان الأمر عنده أن يسكنها بما استشرفت له من الأكل حتى يقوم بين يدي الله تعالى وليس هناك منازع ولا مدعى شغله عن أمره فهذه صدمة النفس
وكذلك روي لنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يتعشى في ربض قبل المغرب فإنما حمله على ذلك فيما نرى ما وصفنا لئلا يدخل الصلاة ونفسه تنازعه إلى العشاء
وكذلك الذي فعل ابن عباس رضي الله عنهما حيث اشترى رداء

بألف درهم فكان يصلي فيه توخيا بذلك 65 أن يخف عليه الولاء كي لا تعجز النفس عن الحمل الثقيل على النفس
وكذلك قيل للزبير رضي الله عنه ما بالكم يا أصحاب محمد أخف الناس صلاة قال إنا نبادر الوسواس كان رسول الله من أوجز الناس صلاة في تمام حدثنا بذلك صالح بن محمد أخبرنا أبو عوانة عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله
فهذا شأن أعمال المحبين لله تعالى في كل أمر مع الزينة والبهاء يطلب فيه محاب الله تعالى في كل وقت من ذلك الفعل لأنه في كل أمر له حقوق كثيرة فهو إنما يشفق على تلك الحقوق لئلا يستخف بها فيعمله على التعظيم له وعلى السماحة بنفسه وعلى السعة وعلى توقي دخول الخلل وعلى الوفارة وتلكئ الإتمام ومع هذا كله قلبه إلى موافقته هل وافق مسرته وهل رضي بذلك ومع ذلك يعلم إن وافق ورضي به أنه مع التقصير جدا يستحي منه جدا وأنه عاجز أن يبلغ مدى ما هو أهله من ذلك ولا يلتفت إلى ثواب في ذلك أبدا وربما فتح عليه باب محبته لا أعني محبة العبد ولكن

محبة الله تعالى فإذا فتح لك ذلك الباب كان في ذلك العمل كالسابح في البحر الذي قد تراءى له الساحل وقرت عينه فهو يسبح في نشاط وسرور بالساحل وهو يضطرب في ذلك الماء الصافي
فهذا العبد إذا هاجت منه تلك المحبة التي فتح له بابها صار يتقد كالنار جوفه فصب عليه الرحمة صبا فهو يتقلب في برد الرحمة قد أصابه روحها ورطوبتها ولينها وهو يسبح فيها وقد شم رياحين الياسمين والبساتين التي على الساحل لأنه يسبح إليها فيتلقاها فيشمها

مثل عمال الله
مثل عمال الله تعالى مثل ملك قطع قطيعة من الأرض وأمر الفعلة أن يبنوا له قصرا ذا بيوتات مساكن ومجالس وبساتين ومتنزهات وجداول يطرد فيها الماء في تلك المجالس والمتنزهات فمن شأن هؤلاء أن يكون لهم فيما بينهم مدبر لأمر هذا القصر ومقدر لكل شيء منه فيرفع فيها بيوتات للصيف ومساكن للشتاء ومجالس للربيع وبساتين للنزهة والجداول المطردة في خلال هذه المجالس والنزه وهذا أستاذهم ومن بعده من يهتدي للبناء

فيبني ومن بعده تلامذة يقتفون أثره ويعملون على إشاراته ومن بعده النقلة إليه من الطين واللبن وما يحتاج إليه
فإذا استوى خرج إلى المدبر آخر يومه عشرون درهما وإلى الثاني الأستاذ عشرة وإلى التلامذة خمسة خمسة وإلى من ينقل الطين على عاتقه درهمان وإلى الآخرين درهما درهما
فأهل التعب والنصب وشدة الأعمال أجرهم درهمان ونحوه والمشير برأسه ويده أجره عشرة دراهم والمقدر المدبر أجره عشرون درهما ولولا المدبر لبطل العمل كله ولولا الثاني الأستاذ لنقص أمر المدبر لأن هؤلاء الآخرين لا يتوجهون للبناء وإن دبر لهم وقدر لهم فهؤلاء أجورهم أكثر وأوفر وتعبهم أقل

بساط الربوبية وبساط العبودية
وكذلك عمال الله بسط لهم من باب القدرة بساط الربوبية وبساط العبودية فأعلمهم بشأن هذين البساطين فأكثرهم مطالعة وملاحظة أعظمهم قدرا عند الله تعالى وأقربهم إلى الله تعالى وسيلة وأعظمهم أجرا
الأنبياء أعظم أجرا
ولذلك صارت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم قدرا وأوفر

حظا وأجرا ثم الأولياء من بعدهم وكل نبي أعلم بما ذكرنا فهو أقرب إليه وأكرم عليه وأحب إليه وأعظم أجرا وكذلك كل ولي من بعده لأنه بالعلم والعقل يعظم أمره ويعرف أقدار الأمور ويعرف الأوقات فإن الله تعالى خلق هذا الآدمي فأحياه بالروح وفضله على هؤلاء المسخرين له من الدواب والبهائم والطيور والوحوش بهذا الروح

تفضيل الموحدين
ثم فضل الموحدين من بينهم بمنه العظيم بنور التوحيد فأحيا قلوبهم بالحياة حتى عرفوه ووجدوه فأوفرهم حظا من الحياة ومن علم التوحيد أعلمهم بالعبودية وأكيسهم فيها وأشدهم قياما على الساق وأصغاهم أذنا إلى أمره وأكثرهم ملاحظة إلى تقديره وتدبيره وأجهلهم به أعجزهم عن ذلك
القلب يدعو إلى الله والنفس تدعو إلى الشهوات
فالقلب بما فيه من كنوز المعرفة يدعو إلى الله وطلب رضوانه

والنفس بما فيها من الهوى تدعو إلى الشهوات ولذات الدنيا وهي الفانية التي توجب عليك غدا الحساب الثقيل والحبس الطويل والسؤال المهيل فمن قلت كنوزه استولت النفس على قلبه ووهنت إمرته وأخذت بعنانه فسبته فبينما هو أمير إذ هو أسير في يدي الخارجي فعندها يعطل التدبير وخربت الكورة وضاعت الرعية فبان العلم
وإن النفس محتاجة إذ كانت بهذه الحال والقلب قليل الكنوز وإذا قلت الكنوز قلت الجنود وتفرق الحراس وضاعت السياسة فالنفس محتاجة إلى أن تشتغل بالأعمال المتعبة الشاغلة لها حتى لا تصل إلى الفساد
فلو أن هذا الأمير عرف أن هذا الخارجي ممن لا يؤمن خروجه عليه وهو في جواره وبلدته فأخذ الأمر بالحزم فعمد إلى كل من يجالسه ويثق به ويستظهر به فحا بينه وبينه وعمد إلى أسلحته فأخذها منه وقلده أمورا أتعبه فيها وشغله عن الفكر في ذلك الأمر الذي يتخوف منه فكذلك عامل الله إذا لم يفتح له الباب فيطالع فيكثر كنوزه ويجم علمه بالله وخاف نفسه أن تخرج

عليه كما وصفنا من أمر الخارجي الذي يشتهي الإمرة
فمن الحزم أن يقطع عنه الشهوات وأن ينظر إلى كل شيء من أمور الآخرة يحمل عنه الهوى أن ينتقل عنه إلى ضده مما ليس له فيه هوى لأن الطاعات كثيرة فرب طاعة تملكه حلاوتها فتصير هوى فينتقل إلى ما يتعب فيه وليس له فيه هوى وأن يتعبه بالغموم والهموم حتى ينغص عليه عيشه الذي استطابته نفسه بلهوها ولعبها وبطالتها فإن فتح له صار ملكا من الملوك الذين بالكنوز والهدايا والفوائد التي تأتيه من رب العالمين وإن لم يفتح له فأجر تعبه عند الملي الوفي الواحد الواحد بعشرة والواحد بسبعمائة والواحد بالأضعاف الكثيرة ونفسه ذليلة مقهورة في ذلك التعب والنصب 66
فبنوا إسرائيل حظوظهم من الله تعالى كثيرة وهذه الأمة أوفر حظا وذلك قوله تعالى ( قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم )
وروي عن رسول الله أنه قال ( ما أعطيت أمة من الأمم من اليقين ما أعطيت أمتي )
وكذلك عن عيسى عليه السلام أنه قال في هذه الأمة فلذلك

صارت بنو إسرائيل في شدة من الأعمال وتعب من الأذكار فكانوا يلبسون المسوح ويجيعون البطون ويلزق أحدهم الترقوة فيشدها بسلسلة إلى سارية يتعبد لله وإذا أذنب أحدهم أصبح مكتوبا على بابه عقوبة خطيئتك أن تقطع أذنك أو عضوا من أعضائك وإذا أصاب أحدهم بول أو نجاسة لم يطهر حتى يقرضه بالمقراض وصدقتهم تقبل بنار القربان وعليهم من الآصار والأغلال والتحريم ما تقشعر منه الذوائب والشعور وقتل النفوس عند عبادة العجل
وهذه الأمة توفرت كنوزها وجمت علومها بالله تعالى بفضل يقينها فخفف عنهم الآصار وأطلقوا من أغلال كثيرة اكتفي من العامة بالاستغفار وستر عليها الذنوب وجعلت التوبة منهم إلى الله لا إلى عقوبة الأجساد فقال لأولئك توبتكم إلى بارئكم من عبادة العجل أن تقتلوا أنفسكم وقال لهذه الأمة ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) وقال للنصارى وهم من أولئك الصنف حين قالوا المسيح ابن الله والثالث ثلاثة ( أفلا

يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم )
فجعل توبتهم بافترائهم عليه الاستغفار لأنه في وقت نبي الله محمد وفي زمانه فلم يقبل ذلك منهم في ذلك الوقت عندما عبدوا العجل إلا قتل النفس وقبل في هذا الزمان الاستغفار منهم من عبادتهم عزيرا وعبادة النصارى المسيح لأن هذا وقت إقبال الله على هذه الأمة وتفضيلهم باليقين والعلم بالله
وقال رسول الله لمعاذ رضي الله عنه ( أخلص يكفك القليل من العمل )
فإنما دعاه إلى الإخلاص لله قلبا وقولا وفعلا فقليل العمل من مثل هذا يأتي على جميع العمال من سواه ولذلك قال ( يا حبذا يوم الأكياس وفطرهم كيف يغبنون سهر الحمقى وصيامهم ولمثقال ذرة من صاحب تقوى ويقين أفضل عند الله من أمثال الجبال عبادة من الآخرين )

عمل هذه الأمة
فهذه الأمة بالقلوب تعبد ربها وتأخذ أجرها
عن سفيان عن وكيع قال أخبرنا عبد الوهاب أخبرنا جنادة عن رسول الله قال ( مثلكم ومثل اليهود

والنصارى كمثل رجل استعمل عمالا فقال من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط ألا فعملت اليهود )
ثم قال ( من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط ألا فعملت النصارى )
ثم قال ( من يعمل لي من صلاة العصر إلى المغرب على قيراطين ألا فأنتم ألا فأنتم )
فغضبت اليهود والنصارى فقالت نحن أكثر عملا وأقل عطاء
فقال ( ظلمتكم من حقكم شيئا ) فقالوا لا قال ( إنما هو فضلي أوتيه من أشاء )
وروي عن رسول الله أنه قال ( وفيتم سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى )
وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال وهو مسند ظهره إلى الكعبة ( فأمتي توفى سبعين في أجرها وخيرها )

مثل الحمد للموحدين
مثل الحمد للموحدين مثل رجل يأخذ من حريفه من حانوته

الشيء بعد الشيء فإذا اجتمع شيء أدى وأخذ بعد ذلك حتى تخف عنه أثقال الدين فإذا لم يؤد واجتمع المأخوذ وتراكم عليه الدين واقتضى فلم يوجد يوشك أن يقطع عنه ما كان يعطى ويقول صاحب الحانوت أد ما اجتمع وخذ ما بقي فيرده خائبا ويقطع عنه
فأسبغ الله تعالى النعم فلو ذهبنا نعد نعمه لم نحصها ولذلك قال الله تعالى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) ثم قال ( إن الله لغفور رحيم )
فأهل رحمته هم الذين عصمهم الله من الاختلاف وقصدوا بقلوبهم عبادة خالقهم وربهم ولم يلتفتوا إلى معبود غيره قال الله تعالى ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم )
قوله خلقهم أي خلقهم للرحمة

فلما خلقهم للرحمة أعطاهم ثمن النعمة وهو الاعتراف بأن النعم كلها من الله تعالى وذلك كلمة الحمد فصير توحيده في كلمة لا إله إلا الله وتنزيهه في سبحان الله وتعظيمه في الله أكبر وشكر نعمه في الحمد لله
حدثنا سليمان بن العباس الهاشمي أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ( رأس الشكر الحمد لله وما شكر الله عبده إلا بحمده ) فالشكر أصله في القلب ومعرفة العبد بربه أنه لا شريك له وفرعه على اللسان وهو كلمة لا إله إلا الله وتحقيقه في الطاعات فمن أكثر قول لا إله إلا الله فإنه يحط خطاياه ومن أكثر من قول الحمد لله فإنه يحط عن نفسه أثقال الشكر فعلمنا ربنا هذه الكلمة فنرددها على الألسنة حتى نكون في مثال ما مر بنا من المثل فنكون بمنزلة من يأخذ من حريفه الشيء بعد الشيء فإذا اجتمع أدى قليلا قليلا ثم يترك الأداء بغفلة حتى يركبه الدين ويثقل عليه فيعجز عن الأداء كما كان ها هنا إذا اجتمع عليه الحساب وتراكم فلم يقض انقطع ولم يعط النعم فإذا تراكمت ولم يواتر العبد بكلمة الحمد لم يأمن انقطاع النعم فرحم

الله العباد فأعطاهم هذه الكلمة ليخففوا عن أنفسهم أثقال النعم ثم وضعت لهم هذه الكلمة في صلاتهم عند رفع الرؤوس من الركوع فيقول سمع الله لمن حمده فصار هذا دعاء من قائل هذا القول لنفسه ولجميع الموحدين لأن كل مصل من الموحدين يقول هذا في صلاته من المفروض وغير المفروض فليست هذه كلمة يخص بها نفسه وإنما هي 67 لكل من حمده
فأول من نطق بهذا الرسول عن تعليم جبريل عليه السلام إياه
وروي عن رسول الله ( أنه إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإن الله تعالى قال ذلك على لسان نبيه )
وكان النبي إذا قال ( سمع الله ) لمن حمده قال ( اللهم ربنا لك الحمد ) كي لا يخلي نفسه من مقالة الحمد حتى يدخل في ذلك الدعاء
واعلم أن هذه الكلمة قول الله تعالى فما ظن من عقل هذا أن الله تبارك اسمه يدعو لعبده أين محل هذا الدعاء وماذا يخرج للعبد من هذا الدعاء ودعاء الرب أن يسأل بنفسه من نفسه للعبد وهو كقوله إن الله تعالى يصلى على العباد وقال الله تعالى في

تنزيله ( هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما ) فإذا قال سمع الله لمن حمده ثم حمده العبد فقد سبقت دعوته للعبد وسمع ذلك له فقد أوجب للعبد
فهذه كلمة دقيقة خرجت من الله تعالى للعباد ثم خرجت من الرسول مقالته للعباد ثم خرجت من الجميع بعض لبعض فإذا قال العبد الواحد الحمد لله ثم ذكر في هذا وجد الله قد قال له سمع الله له ووجد الرسول قد قال ( سمع الله ) ووجد جميع الموحدين قد قالوا فعظم شأن هذه الكلمة

مثل عبد دعاه مولاه فوكله بعمل له
مثل عبد دعاه مولاه فوكله بكرم له أن يحفظه عليه ويغرسه ويسرقنه ويقضب قضبانه وفي وقت الثمر يورقه ويدعمه

وأعطاه كل ما يحتاج إليه من القوائم والدعائم والهراوي من البردي والأباء والقصب والكعب وأداة العمل وأمهله في ذلك ما يمهل في مثله ثم طالع أمره عند انقضاء المهلة فوجد القضبان ساقطة بالأرض والدعائم مسروقة والقوائم منجدلة والثمار بعضها محترقة من كثرة الورق وبعضها عفنة من سقوطها بالأرض وقد ترك الآلة والأداة وأمهل نوبتها في السقي حتى عطشت وترك تقضيبها حتى ذهبت قوتها فمولاه إذا رأى الكرم هكذا فماذا يلقاه من الجناية وماذا يتوقع من العقوبة التي أوجب على نفسه
فالتعريش القيام بأداء الفرائض والحفظ عليها ليكون ذلك بوضوء سابغ وحفظ الحدود والأوقات وكذلك في الصوم في كف السمع والبصر والجوارح السبع
والسرقنة سنن النبي على أثر الفرائض تقوية لها والسعي العلم الذي يهديه الأشياء وتقضيبه رمي الفضول من الكلام والطعام والحطام وتوريقه ترك الالتفات إلى الأعمال وتدعيمه كثرة الذكر وقوائمه حسن النية والصدق في المقاصد

مثل قوي القلب في الأعمال والأقوال وملكها
ومثل قوي القلب في الأعمال والأقوال وملكها كمثل هؤلاء الملوك فملك له سلطان على قرية وعلى قدر ذلك كنوزه وجنوده وعدته ونفاذ أمره وجواز قوله وهيبته
وملك له سلطان على خراسان أجمع على قدر كنوزه وجنوده وهيبته وخوف شاكريته ورعيته منه
وملك ملك المشرق والمغرب فملوك الأرض كلهم تحت يده وعلى قدر مملكته سلطانه وكنوزه وجنوده وهيبته وخوف شاكريته والناس منه فنلحظه تضرب بأمره الأعناق وتسفك دماء
فالقلب ملك على الجوارح له كنوز وجنود وسلطان ومهابة ونفاذ أمر فأعظمهم مملكة أهيبهم وأحرزهم قولا ونفاذا وإنما تملك القلوب نفوسها وهي دنياها العريضة فإذا ملك القلب بعض النفس ولم يملكها كلها كان صاحبها مع تخليط تزل قدم وتثبت أخرى وإذا ملكها كلها كان بمنزلة من ملك الدنيا شرقها وغربها وخضعت له الملوك وصاروا من تحت يده فالقلب إذا كثرت كنوزه كثرت جنوده فكنوزه العلم بالله والمعرفة لله وجنوده الخوف من الله والخشية لله والحياء من الله والتعظيم لله والتسليم لأمر الله والانقياد لحكم الله والثقة بالله وحسن الظن بالله والتوكل على الله والطمأنينه إلى الله وحب الله قد استولى عل جميع

هذه الأشياء فهذه كلها جنود القلب اجتمعت على عسكره في صدره من العلم به فالمعرفة كنز القلب والنفس سفينة الكنز في بحر الله الأعظم فإذا أثنى العبد على ربه أو مدحه أو دعاه باسم من أسمائه فإنما يخرج كلمته من فيه على قدر سلطانه من القلب ومملكة القلب
وكذلك أعمال أركانه فإنما يصعد ما يخرج منه إلى الله على قدر قوته في مملكته وسلطانه

مثل الهوى إذا مازج العقل في أمر واحد
مثل الهوى إذا مازج العقل في أمر واحد كمثل ماء صاف كالطل في الصفاء مازجه ماء من مياه الأنهار ففي ذلك الماء ترى الأشياء كلها كالمرآة إذا نظرت فيها وفي ماء الأنهار لا يرى إلا الخيال أمير بسط عدله في رعيته ودبر سلطانه فأعد سجنا وعقوبات لمن خلع يده عن الطاعة وفرق أعماله بين عماله وأعد حاجبا وخليفة ومرتزقة وأظهر كنوزه وقوته وأمر ونهى وأعلم الرعية أن من ائتمر بأمره فهو الوجيه عنده والخطير لديه المثاب على ذلك المقضي عنده حوائجه المتخذ لنفسه عنده قدرا حتى تظهر عنده مرتبته ومن لم يأتمر بأمره وركب هواه خلق وجهه عنده

وبخس حظه وحرم ثوابه وحط قدره وبطلت رتبته فظهر في رعيته إنجاز وعده ووصول وعيده إلى من استحق ذلك وفي هذه الرعية طبقة مؤتمرون بأمره زائدون على ما وظف عليهم من أمره ناصحون له قد شغفوا به حبا وأعينهم مادة إلى ما يأمر وإلى ما يقضي وإلى ما يدبر لهم حتى يتلقوا تدبيره بالهشاشة ووجوه متطلقة وأفعال سمحة ويتلقوا أمره بالتعظيم ومع ذلك ينصحونه في رعيته فينشرون محاسنه وأفعاله وأخلاقه وحسن معاملته بالرحمة ويخبرون عن ملكه وجنوده وكنوزه وغناه ويحثون الرعية على طاعته والحمية له والجد في أموره والشفقة 68 على أودائه فهذه الطبقة أوجههم عند الأمير وأعظمهم قدرا لما أظهروا من النصيحة والحب له

شأن الآدميين مع الله
فكذلك شأن الآدميين مع الله كان أوجههم عند الله تعالى أشكرهم له وأكثرهم نشرا لمحاسن أفعاله وأخلاقه وأعلمهم بصفاته وأغزرهم معرفة به وأوثقهم به وإن الله تعالى أظهر ملكه وخلق في ملكه خلقه ثم آتى كل ذي روح يتحرك في السموات ويدب في الأرض على قدره من ملكه بتلك الحياة التي جعل فيه فمن سار فيما أوتي من الملك بسيرته التي مثل له فقد تواضع لملكه ووضع نفسه لملكه فإذا دعي يوم المقدم عليه قدم

على نزل مهيا ومهاد كريم وتحية رب العالمين وذلك قول الله تعالى ( تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما )

من سار سيرة هواه
ومن سار فيما أوتي من الملك بسيرة هواه الذي يهوي به في الشهوات واللذات يمينا وشمالا فقد تكبر على ملكه والتكبر هو المكابرة فما ظنك بعبد مخلوق من ماء مهين في ظلمات الأرحام بين اللحوم والدماء مخرجه منها من طريق الأحداث والمبالات والحيض والنفاس يكابر ربه في كبريائه ويعظم نفسه ويهين حقه فإذا دعي يوم المقدم قدم على نزل معه قد أعده مالك ومهد الأمهاد فيه ومقته رب العالمين
العاقل والأحمق
فالعاقل الذي أحيا الله قلبه نظر ما أوتي من الملك على الذي وضع بين يديه من الجوارح ومن دنياه التي ملك عليها ومن الأحوال فلم يستعمله إلا فيما أمر
والأحمق الذي قد أماتت زينة الشهوات وفتنتها قلبه نظر إلى ما

قد أوتي من الملك فاستعمله في نهماته فيما هويت نفسه فخاب عن وعده وخسر مهلته وعمره الذي أعطي
فالكيس من جند الأمير يقول للأمير أنا أسعى خلفك سعي العبيد فإن أعطاه حمولة فقال اركب معي هاب ذلك وقال ما لي وللركوب ينبغي أن أسعى خلفه
فإن قال له اركب بأمري وانظر ألا تركض ركبا تتقدمني فإن فعل ذلك أهانه الملك وأنزله ورده إلى السعي على قدميه وإن حفظ وصيته وركب وكان في آخر الناس فلم يزل يتخطى المراتب بأدبه وكياسته وظرافته حتى وصل إلى قرب الأمير في المركب فقال له الأمير الزم هذا المكان في المركب مني كن على قفاي على أثر مركبي فهذا رجل وجيه ذو مكانة عند الأمير حتى إذا أعطي المكان في المركب
فالكيس من عمال الله تعالى من سعى في الطاعات سعي العبيد فلقي تعبا وأذى كثيرا ومقاساة في جنب المولى واستقل ذلك له فأعطاه نورا حتى صار قلبه فارسا من فرسان الله تعالى ومركبه ذلك النور العطائي فلم يزل في مزيد من ربه نورا على نور حتى لحق وهو وصول العبد إلى ملك الملك بين يديه باب القدرة

مثل اثبات الرزق في اللوح
مثل إثبات الرزق في اللوح مثل أمير أعطاك خطة بصك صكه على نفسه في شأن أرزاقك فركنت إلى ذلك منه فإن كانت أقلام رب العالمين جرت على قضيتك في اللوح بالكائن وبأرزاقك على صفاتها التي تظهر لك في دنياك ألا كان الأحق والأولى أن يكون ركوبك إلى ما جرت به أقلام رب العالمين
مثل الراغب في الدنيا
مثل الراغب في الدنيا المنكمش فيها المتناول من كل تخليط وغث وسمين مثل البقرة الجلالة تركت المراعي الطيبة وأقبلت على الجلة في المزابل فإذا كان لبن تلك البقرة مكروها على ألسنة العلماء ومعافى على ألسن الشاربين فما ظنك
مثل القلب والنفس
مثل القلب والنفس مثل ثورين في نير يجرهما إليك

وأحدهما له سماحة في التخطي ونزع في المشي يعطي من نفسه القوة الوافرة والآخر له بلادة في التخطي وانتكاص في المشي وتراجع القهقري لا يعطي من نفسه القوة التي فيه فصاحبه مبتلى به إذ هما شريكان في العمل فإنما ثقل الآخر وتبلد أنه محب للراحة والتخلية في المرعى فيثقل لمفارقة الشهوة واللذة والوقوع في التعب والنصب
فمثل هذه النفس كمثل هذا الثور البليد الثقيل والقلب خال من الشهوات والنفس معدن الشهوات واللذات والقلب يطلب ربه والنفس تطلب شهواتها ولذاتها فمثل النفس كسفينة مشحونة في نهر شديد الجرية والسفينة في صعود تجر جرا فكلما أوقرت السفينة كان جرها أصعب وأثقل
فمن أحب أن يخف عليه جرها فليخل سفينته من الأشجان بكل ما يقدر عليه حتى يتركها خالية من الأشجان والأثقال فعندها تخف على من جرها مصعدة

فالنفس تجري في أمر الله مع القلب فيما تهوى النفس وتشتهي وتلتذ فالسفينة المشحونة منحدرة فإذا جاءها أمر لم تهو ولم تشته صارت كسفينة موقرة مشحونة مصعدة فهي تجر جرا بالرجال مع الأنين والأعناق والأيدي المكدودة حتى تبلغ المصعد

مثل الدنيا وانخداع الأحمق بها
مثل الدنيا وانخداع الأحمق بها كمثل الصبي في المهد ترضعه أمه وتسدل عليه ذلك الغطاء وترجحه وتنغمه بأنواع الكلام حتى يذهب به النوم فكذلك الدنيا ترضعه حلاوتها ولذاتها وتطبق عليها الهوى وتتابع عليها الأماني وتطول له في الأمل حتى ينام عن الآخرة فكلما ازداد أمله طولا كان أثقل نوما ثم سقته شربة في نومه من ذلك السم الناقع وهو حب الدنيا وشغوفه بها حتى يسكر من حلاوة ذلك الحب فعندها يغلي حرصه فهو هلاك دينه كما تسقي هذه المرضعة ولدها من هذا الأفيون حتى يثقل نومه ويكون كالسكران فإذا لم تطبخه بالسمن وتمزجه بسائر

الأدوية يقتل الصبي
ولذلك قال رسول الله ( حبك الشيء يعمي ويصم )
فما ظنك بمن أعماه حب الدنيا وأصمه عن الله تعالى وعن مواعظه
وروي عن رسول 69 الله أنه قال ( ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء في المال والشرف لدينه )

مثل من يخلط أعمال السوء بأعمال البر
مثل من يخلط أعمال السوء بأعمال البر مثل من أهدى إلى الملك مائدة عليها ألوان من الأطعمة من الطرف من المأكول

والملبوس وفي خلال ذلك عظم الميتة وخرق المزابل ورجيع الدواب ونحوها فلما وصل إلى الملك رفع الحاجب المنديل فرآها بهذه الصفة فحجبه عن الملك ووضعه في الخزانة حتى يأتي الوقت الذي يدعو بها الملك ليخزنها فإذا الحاجب أخرج وتوضع بين يدي الملك فكم من حياء يستحي وكم من خوف يخاف
ومثله أيضا من يهدي للملك قلادة فيها يواقيت وجواهر وذهب ولآلئ وزبرجد وفي خلالها بلورة وعظام الميتة والزجاج أليس أنه قد أذهب بهاء جواهره ولآلئه كذلك هذا

مثل من يقوم بأمر الله مخلصا أو غير مخلص
ومثل من يقوم بأمر الله وحقوقه في الظاهر على هواه وباطنه منعزل ومن يقوم بأمر الله لأمر الله كمثل عبدين دعاهما المولى فوجههما إلى كرم له ليسقياه ويصلحاه ويقوما بمصلحة هذا الكرم فذهبا لذلك الأمر مسرعين كالسهم وفعلا ذلك فمن رآهما نظر إليهما بعين الطاعة وصحة العبودة فأراد المولى امتحانهما ليبلو

باطنهما فحضر الكرم فوجدهما في ظلال بين الثمار والأعناب والوقت وقت الظهيرة فبعثهما إلى الحصاد والدياس فمر أحدهما من ساعته مسرعا ممتثلا أمره والآخر أخذ في التلكؤ والتغافل فعلم من رأيهما بعد الامتحان أن ذلك الأول ممن أطاع مولاه على الصفاء والإخلاص والآخر على هوى نفسه فلما استقبله خلاف هواه ترك طاعته وتأنى بالكسل والتثاقل فهذا تابع هواه
فكذلك العبيد عند الله تعالى من عبد الله تعالى للهوى وللنفس فيه نصيب يمر فيه وإذا أتاه أمر يثقل عليه هرب منه وضيع الحق فإذا أتاه محبوب سارع إليه فلا يكون هذا من المحقين أبدا

مثل موسرين ينفق أحدهما فيما يهوى وينفق الآخر في وجوه الخير
مثل الموسرين أحدهما ينفق ماله في هوى نفسه والآخر ينفق ماله في وجوه الخير من إطعام الطعام وصلة الأرحام ومصارف الحق وأشباه ذلك مثل رجلين دعاهما الملك فأودع كل واحد منهما خزانة فقال أمسكا واحفظا فمن جاءكما برقعتي فأعطياه ما في الرقعة مقدارها وها هنا عسكران عسكري وعسكر العدو فإياكما أن تصرفا شيئا من هذا المال إلى عسكر العدو

فذهب أحدهما واستعفاه من قبوله فلم يعفه منه فقبله على ضرورة وهو ثقيل عليه فكل من أتاه برقعته أدر عليه ما تضمنته الرقعة مغتنما لحقه حتى صدروا إلى الملك حامدين له شاكرين بباب الملك مثنين عليه ناشرين عنه جميلا ثم عمد إلى صرته فأنفق على ما فيه قوة عسكر الملك فإذا قدم للحساب قرت عينه بأداء الأمانة والامتثال لأمره
وأما الآخر فإنه لما قبل الوديعة ذهب يفتخر بها ويتطاول على نظرائه ويباهي بها أشكاله ثم أخذ يصرفها إلى ملاهيه وهواه وقبيح عمله وأنفذها إلى عسكر العدو فكل من عقل أمره تعجب منه وبهت في أمره بغفلته وبلاهته وقبح عمله فإذا جاءته رقعة الملك دافع وسوف حتى رجع أصحاب الرقاع إلى الملك بها ذامين له متذمرين لفعله ثم لما صرفها في الوجوه عمد إلى أسلحة ودواب فأنفذها إلى عسكر العدو فإذا قدم إلى الحساب سأله ما صنعت في وديعتنا وأموالنا ومواثيقنا لم يكن له جواب إلا

أن يقول صرفت أصحاب الرقاع بحرمان تسويفا ومدافعة وصرفت المال في الأسلحة والدواب لعسكر عدوك فما له من الحساب

مثل من يعظ القلوب الخربة
مثل من يعظ القلوب الخربة مثل رجل عمد إلى خراب قد تلزق عليه الدخان والغبار واسود من كثرة ذلك فكلما طينه لم يلزق به الطين وتساقط فهو بين أمرين إما أن يحكه أو يغسله حتى زال عنه ذلك الغبار والدخان حتى يلزق به الطين فإن عجز عن ذلك وإلا تابع الطين عليه فكلما تساقط ضربه بآخر مرة بعد أخرى إلى أن يلزق فلا يزال يردد عليه ذلك حتى يزيل جميع ما كان عليه من الدخان بتتابع الطين مرة بعد مرة
فكذلك القلوب التي قد رانت من كثرة الذنوب إذا لاقت الموعظة تهافتت عنها بمنزلة الجدار الذي مثلناه فإذا تاب العبد وفزع من المعاصي واستغفر فلاقته الموعظة قبل القلب ذلك وأقبل على الطاعة ثم أقبل بعد ذلك على حسن الطاعة فعبد الله كأنه يراه فذلك منه الإحسان الذي وصفه رسول الله لجبريل صلوات الله عليه حيث سأله عن الإيمان والإسلام والإحسان

فقال الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه
فهذا القلب كجدار غسل وطين ثم جصص فصار أبيض ثم ينقش ويطيب فصار مطيبا منقوشا
فالقلب التزق عليه دخان الذنوب وغبارها لقوله سبحانه وتعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون )
وقال النبي ( إذا أذنب العبد ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا عاد نكتت أخرى فلا يزال كذلك حتى يسود القلب ثم قرأ قوله تعالى ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) فإذا تاب صقل القلب وأضاء فإذا لاقته الموعظة لاقت قلبا مصقولا فصارت المواعظ له عيانا كأنه يشاهدها بعيني الفؤاد ما يوصف له فصار كالمرآة إذا رينت فما رآه فيها أبصره كالخيال فإذا صقلت أبصر فيها كل ما قابلها من شيء خلف ظهره وبين يديه وأبصر مثال وجهه فيها فإذا قابلها بعين الشمس وقع ضوء الشمس في البيت الذي ليس للشمس فيه موضع إشراق وذلك لأن النورين إذا اجتمعا والتقيا نور الشمس ونور المرآة تولد من 70 بينهما نور فوقع في البيت المظلم فأضاء

فكذلك القلب الذي عليه رين الذنوب بمنزلة المرآة التي قد صدئت فإذا فكرت شيئا من أمور الآخرة لم يتراء لك فإذا صقل قلبك بالتوبة والاستغفار صار كالمرآة المجلاة فإذا فكرت في سالف الذنوب وتراءى لك قبحها فاشتد عليك وإذا فكرت فيما أعده الله لأهل المعاصي ذكرتك وأرعبت قلبك بتعظيم ما تمثل لك من عقابه
وإذا فكرت في دار المطيعين برمت بالحياة شوقا إلى تعظيم ما تمثل لك من كراماته لعبده
وإذا فكرت في العرض الأكبر هالك شأنه وأخذك القلق وعمل فيك الحياء من ربك
وإذا فكرت في أمر الملكوت عظم شأن العبودة عندك فإذا لاحظت جلاله وعظمته صار صدرك بمنزلة البيت الذي وقع فيه نور الشمس حيث قابلتها بتلك المرآة فصار الصدر منك ممتلئا نورا قد غاب عنك في ذلك النور جميع ما تراءى لك قبل ذلك في وقت فكرتك في أمر الجنة والنار وأمر الذنوب وكل شيء سواه ولها قلبك

عن ذلك كله ووقع قلبك في بحار العظمة فتقع في الوله إلى الله فإذا صار هذا القلب كجدار غسل وطين ثم جصص فصار أبيض ثم نقش وطيب فصار مطيبا منقوشا فحينئذ أقبل إلى الإحسان وعلى حسن الطاعة بأن يعبد الله كأنه يراه فذاك منه الإحسان الذي وصفه رسول الله حين سأله جبريل عليه السلام

مثل الدنيا مثل بحر عميق
مثل الدنيا مثل بحر عميق كل من دخله غرق فيه لأنه لا يرى ساحله فإلى كم يسبح فهو في السباحة حتى يعيا فيلقي نفسه في التهلكة وربما هاج الموج فيغرق في تلك الأمواج
فالكيس من يجانب البحر فهو في سلامة ومأمن من الآفات إذا لزم السواحل والفرضة ومن له حمق دخلها من قلة المبالاة وترك السواحل فإذا هو هالك
ومن كان قويا في ذات يده هنيئا مريئا بآلاته وأدواته ورجاله وشرعه وديدبانه وهيأ السفينة فركب البحر في مركب لم

يضره لأن سفينته بعرض البحر وطوله قد طبقت البحر فإن سكنت الريح أرساها وإن هاجت أجراها فالآدمي بحره حرصه الذي في جوفه فليس لحرصه نهاية كالبحر الذي لا يرى أطرافه وهو قول رسول الله ( لو كان لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليه ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب )
أخبر أن صاحب هذا كلما ازداد تناولا من الدنيا لم يدعه ما في جوفه حتى يطلب مزيدا وذلك حرصه الذي غرق فيه قلبه فأهلكه
ثم قال في آخره ويتوب الله على من تاب فالتوبة من العبد إقباله إلى الله بقلبه والتوبة من الله على العبد إقباله على العبد بوجهه الكريم فتلك سفينته وكما أن السفينة بلا أداة وآلة ورجال لا تغني عنه شيئا فكذا التوبة لها شعب حتى تأتي بالشعب كلها وهو أن يعرض بقلبه عن جميع الشهوات والهوى فذاك الإقبال كل

الإقبال فقد أمن الغرق لأنه قد وقع قلبه في بحار العظمة فامتلأ قلبه وصدره حتى شبع وروي وغاب الحرص عن صدره ودانت نفسه فصارت كسفينة قد طبقت عرض البحر فإذا هاج البحر فإنهما هو بحر العظمة جرت سفينته بريح طيب وشراعها حب الله تعالى وذكره وريحها شوق العبد فلو أخذ الدنيا كلها بكفه لقوي عليها ولم يضره لأن الحرص مفقود وإنما أخذها لله ثم ردها إلى الله فهو كالخازن يأخذها بحق ويمسكها بحق ويصرفها في حق ليست له في ذلك شهوة ولا نهمة

مثل الشهوات وترددها في الصدور
مثل الشهوات وترددها في الصدر بين عيني الفؤاد مثل ذبان تطير بين عيني الرأس وإنما يجتمع الذبان حيث يكون الشيء الحلو من الأشربة والأطعمة وكذا إذا اجتمعت الشهوات في صدر المؤمن وحلاوة الدنيا ولذاتها فلقيته مستقرا لها بترددهن فما دام الحر كائنا فذلك شأنهن فإذا جاء البرد لم يكن لها بقاء
فكذا صاحب الشهوات إذا جاءته من الله رحمة برد قلبه عن الشهوات فإن نور الرحمة يبرد الأشياء ويخمدها فإن برد الرحمة

يطفيء حر النار عن المؤمن عند الجواز على الصراط
وكذا ها هنا من نال رحمة من الله برد قلبه عن جميع الشهوات ثم بعد ذلك جاءت أنوار على القلب واشتعلت نيرانها في القلب حتى صار سعيه كله له بعد أن كانت حرارة الشهوات موجودة في صدره وكان سعيه لها
وقد قال الله تعالى في وصف الشهوات وشأنها ( زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب )
فقد اجتمع في الآدمي ثلاثة أشياء زينة وحب وشهوة لهذه الأشياء التي عد في هذه الآية

والشهوة خلقت من النار وهي محفوفة بها لقوله ( حفت النار بالشهوات ) فتلك زينة ونعيم وأفراح خلقت من النار والنار خلقت لها ففي جوف كل نفس موضوع فيها بقدره وحريقها موجود عند هيجانه
وللحب حرارة وللزينة فرح وللفرح حرارة فكلما ازداد العبد من هذا الفرح تباعدت عنه الرحمة لأن الله تعالى لا يحب الفرحين
فإذا توقى عن هذه الأفراح فمثله كمثل رجل دخل بيتا فيه ذبان كثيرة فسد الكوة وذب الذبان إلى الباب ليخرج فسد الباب حتى أظلم البيت فذهبت قوة طيران ما بقي في البيت فبقي في ناحية من البيت وراح من في البيت

فمن لم ينل تلك الرحمة التي تبرد قلبه عن الشهوات وتخمد نفسه فيها فالحيلة فيه أن يختار لنفسه العزلة ويسد أبواب الشهوات على نفسه
قال قائل مثل ماذا
قال مثل رجل أراد أن يسد باب فضول الكلام حتى تنقطع عنه شهوة فضول الكلام ويبرد على 71 قلبه ذلك
1 -

اجتناب أبواب الكلام
فعليه أن يجتنب أبواب الكلام على كانونه مع عياله وعلى بابه عند مجمع الجيران في الحارة وعند مجامع الطرق والأسواق فهذه كلها أبواب الكلام فإذا عرفها تجنبها فإذا هو قد سد على نفسه وحسم الباب فإذا تعشى قام إلى مصلاه وإذا رأى مجمع الجيران سلم ومر فكل مجامع فيها فضول من الكلام جانب عنها كما فعل أبو مسلم الخولاني رحمه الله حيث رأى جماعة في المسجد فمال إليهم ليجلس معهم وظن أنهم في ذكر الله تعالى فوجدهم في ذكر الدنيا فقال أنتم في سوق الدنيا وحسبت أنكم في سوق الآخرة وأعرض عنهم

فمن كان لسانه منه على بال ورد شهوة الكلام عن نفسه فقد نجا من أمر عظيم
وكذا في سائر الجوارح يسد على كل جارحة أبواب فضولها حتى تهدأ جوارحه فصار كمن سد الكوة ورد الباب فسكنت الذبان عنه فكلما فتح الكوة والباب عدن إلى الطيران فهذا دأبه إلى يوم الموت
فهذا شأن أهل العزلة حسموا أبواب الشهوات بالعزلة عن الخلق حتى هدأت الجوارح وبقوا في الزوايا فمن من الله عليه بالنعمة العظمى وبالحرمة التي إذا ورد على القلب نورها خمدت جميع حرارة الشهوات وذبلت وتهافتت بمنزلة البرد الذي هجم على مكان الذباب فتهافتت فإذا برد القلب بخمود النفس وخلا الصدر من حرارة الشهوات وصورهن على عيني الفؤاد في صدره صار الصدر كمفازة جرداء وطهر من أدناس الشهوات فعندها جلبت عليه الرحمة تلك الأنوار الملكوتية فاشتعل في قلبه حريقها فاستنار الصدر بها حتى حمي الصدر وصار بمنزلة التنور الخالي من

النار بارد فكلما ألزق به رغيفا تهافت ولم يلزق فإذا سجر التزق الخبز به
فكذا القلب إذا حمي بتلك الأنوار فكلما لاقته موعظة التزق الوعظ به ونجع فيه واتعظ به وإلا تهافت كالخبز من التنور البارد

مثل رياضة النفس
مثل رياضة النفس مثل دابة سالمة لم تربط إلى آري فكانت ترتع في البراري تذهب حيث شاءت إلى نهماتها لا تعرف مالكها ولا تعلم سيرها فإذا أراد أن يجعلها مركبا أخذها الرابض بالوهق والحبل ثم قيدها حتى أمكنته من اللجام والسرج ثم ركبها فاضطربت بنفسها إلى الأرض فلا تزال هكذا حتى انقادت

للركوب عليها واعتادت اللجام و السرج فاستغنى عن القيد ثم كانت تسير ولا تعلم السير فلم تزل تؤدب لتعلم السير وتترك مرادها فردها من مرادها ومن نهمتها وسيرها إلى مراد نفسه ثم لما صارت إلى الأنهار والحفائر وثب بها لتعتاد العبور عليها ولم يجرها على القنطرة فتعتاد الجري على القنطرة فليس على كل نهر توجد قنطرة ثم سار بها في جلب الأسواق في النجارين والحدادين ونحوهما ليعودها الجلبة كي لا تنفر ولا تترك سيرها عند كل جلبة تستقبلها فلا يزال يرد بها هكذا حتى يأخذ بمجامع قلبها وتترك أذنيها مصغية إلى هذه الرياضة فهي تسير بهذا اللجام فإن مد عنانها بإصبع وقفت وإن عطفت بإصبع انعطفت وإن تحامل بركابيها وأرخى عنانها طارت وإن كبح لجامها في ذلك الطيران بإصبع هدأت وسكنت وإن نزل عنها ووقفها امتنعت من أن تروث وتبول حتى تصير إلى موضعها وإن استقبلتها جلبة لم تلتفت إلى ذلك ودأبت في سيرها وإن استقبلها نهر لم تلتفت إلى قنطرة ووثبت وثبة من رفع البال عن نفسها
فهذه دابة قد صلحت للملك فعرضت عليه فاستحلاها واتخذها لنفسه مركبا فربطت إلى آرية وأعلفت من أطايب

الأعلاف وغلا في ثمنها وجللت وبرقعت وأريحت فمن بين الأيام ينشط الملك مرة للركوب عليها
فكذا النفس أولا تراض بحفظ الحدود فهذا سرجها ولجامها والركوب هو الفرائض ولجامها الحدود التي حرم الله تعالى ثم تراض فتؤخذ بالصدق والإخلاص في الأعمال وحسن الأخلاق كما أمرت الدابة بحسن السير وبالعطف في المعاطف والطيران عند التحامل عليها وذلك السبق بالأعمال من العبد والمسارعة في الخيرات ثم يؤخذ عليه بقول الحق وألا يخاف في الله لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما أخذت الدابة بالوثب حيث لا قنطرة ولا مجاز للماء ثم يؤخذ عليه بالمعاداة لأهل المنكر والمعاصي والحب لله والبغض في الله كما أخذ على الدابة تقلبها في العبور والأسواق
فهذا بذل النفس لله فإذا قد استكمل الأدب وأخذ الله بقلبه فصار صغو أذني فؤاده إلى الله تعالى وشخصت عينا فؤاده تنظران إلى الله تعالى وإلى تدبير الله جل وعلا في خلقه فهذا ولي الله قد أدبه واصطفاه لنفسه واتخذه حبيبا

مثل الإيمان والأعمال الصالحة
مثل الإيمان والأعمال الصالحة مثل بيت وضع فيه غصن من الورد والياسمين والسوسن مما يفوح ريحه فيطيب البيت ما دام البيت مرشوشا ذا روح والغصن طري بمائه فريحه فائح فإذا هب الروح من البيت وتمكن فيه الحر ذبل الغصن وذهبت طراوته وافتقد طيبه
فكذا الإيمان في قلبه طري نزه بنزاهة القلب فإذا نالته حرارة شهوات النفس وفوران الهوى وحدة حرارة الحرص وطلب العلو وحب العز والرياسة فأحاطت هذه الأشياء بالقلب ذبلت شجرة الإيمان وذهبت طراوتها ونزاهتها
مثل طيب الإيمان على القلب
مثل طيب الإيمان على القلب مثل عود ألقيته على جمرة ليتوقد ويتبخر به المسجد فإذا كانت الجمرة ذات توقد فاح ريح البخور وانتفع القوم به وإذا كانت الجمرة منطفئة قد علاها الرماد بقي العود مكانه ولم يكن له بخور
مثل الإيمان في القلب
مثل الإيمان في القلب مثل غراسة غرستها في الأرض عودا كالسواك فالتفت عليها الأرض فأن أنت سقيتها وأمددتها بالتراب وأضحيتها للشمس فعن قريب تصير شجرة باسقة في السماء غلظ ساقها وكثر فروعها وتمكنت من الأرض 72 عروقها وزكت ثمرتها
فإن قصرت في السقي والتراب وسطحت فوقها فلم تدركها الشمس تكون عويدة كما غرستها ثم عن قريب تيبس وتقلع ويرمى بها في النار
فكذا نور الإيمان إذا دخل القلب فسقيه العلم بالله فكلما ازددت بالله علما ازداد القلب بالله حياة وازداد كشفا ووضوحا بربوبيته
ومدده أعمال البر وهي أداء الفرائض واجتناب المحارم فكلما عملت برا كان نور ذلك العمل راجعا إلى نور المعرفة فيزداد

قوة بنور المعرفة لأنه إذا رفع عمله إلى الله تعالى نظر الله إليه فاشتغل بذلك فذلك العمل النور وأصله في القلب وفرعه عند الله تعالى فإذا اشتعل الفرع نورا بنظر الله تعالى إليه تأدى ذلك النور إلى الأصل فاختلط بنور المعرفة فتزكى وإضحاؤها للشمس رفع العلائق وهو ركوب الهوى في الشهوات فإذا زال الهوى عن القلب كان بمنزلة بيت رفع سقفه حتى خلص إلى الشجر حر الشمس فعندها يغلظ ساقه وتكثر فروعه وتزكو ثمرته كعود غرسته في وعاء مثل الحب وفي أصل الحب تراب فلم يزل هذا العود ينمو بسقي الماء وإشراق الشمس حتى صار ذا ساق غليظ امتلأ من غلظه هذا الحب حتى لم يبق فيه موضع ظفر فإذا امتلأ لم يكن لشيء غيره مساغ فيه أن يدخله
فكذلك المعرفة إذا تمكنت في القلب عروقها لا يزال يربو على ازدياد العلم بالله وبأسمائه وبربوبيته وتدبيره وعلى أعمال البر وقطع العلائق حتى يمتلئ القلب منه فكان بدؤه نور المعرفة فلحقت به هذه الأنوار نور المعرفة وأنوار العمل فامتلأ القلب نورا حتى لم يبق في القلب موضع رأس إبرة خاليا عن النور فكيف تدخله ظلمة الهوى والنفس فإذا لم يربه بهذه الأنوار بقي القلب

خاليا إلا بمقدار ذلك النور الذي حل به من نور المعرفة وما حوله من القلب خال فتدخل عليه ظلمات الهوى فتختلط به ويجاوره بجوار السوء حتى يذوب ذلك النور وينتقص فيوشك صاحب هذا أن يسلب حتى لا يبقى معه شيء نعوذ بالله من تلك الحال
وحكى أن إبراهيم بن جنيد رحمهما الله قال كان يقال همة الزهاد والعباد مخالفة الأهواء عن الشهوات وهمة العقلاء والأولياء ترك الذنوب وإصلاح القلوب

مثل الإيمان
مثل الإيمان مثل الضيف الكريم بعثه الملك إليك ضيفا وأمرك بالإحسان إليه فإن تركك على ذلك وقعت في الجهد والمعالجة والاستدانة والحور تنفق عليه وتحسن فإن أعطاك الملك بدرة من الدنانير وقال أنفق على هذا الضيف ولا تقتر وأحسن إليه ولا تقصر فقد استرحت فإن كنت تركت الضيف ضائعا وتنفق الدنانير على أهلك وولدك فقد خنت وخسرت

فالمؤمن أعطي المعرفة وقيل له تبحر في علم هذه المعرفة وانظر إلى ما ظهر لك من عظمته وقدرته وجلاله وملكه وانظر إلى تدبيره وحكمته وصنائعه وانظر إلى مجده وإحسانه فذهب بهذا النظر بما أعطى من النور إلى أشغال النفس وأمور الدنيا فخاب وخسر
وإن ذهب بهذا النظر إلى ما ذكرنا بما أظهر ربنا تبارك وتعالى من أموره ازداد يقينا وخشية وخوفا وحياء وازداد حسن الظن بالله تعالى واستغنى به عن جميع خلقه ولذلك قال رسول الله ( إن يوما لا أزداد فيه علما بقربي إلى الله تعالى لا بورك لي في طلوع شمس ذلك اليوم )
وروي لنا أن رجلا جاء إلى رسول الله فقال يا رسول الله علمني غرائب العلم قال ( ما صنعت في رأس العلم ) فقال له ( هل عرفت ربك ) قال نعم فقال ( ما صنعت في حقه ) قال ما شاء الله قال ( هل عرفت الموت ) قال نعم قال ( فما أعددت له ) قال ما شاء الله قال ( فاذهب فتعلم رأس العلم ثم تعال حتى أعلمك غرائب العلم )
فإنما دله رسول الله على العلم بالله ليقوم بحقه
ألا ترى أنه سأله عن حقه ليعلم أن من ضيع حقه وجهل

حقه ثم ادعى علما به فهو كاذب في مقالته فإنما ذاك علم سمعه بأذنه وأودعه حفظه وليس في قلبه منه إلا الإيمان به
فهذه البدرة التي أعطاك الملك لتنفق منها وأعطاك ربك جل جلاله هذا الذهن والعقل فمن استعمل عقله في التفكر في أمر الله فقد وضع النفقة موضعها وقد أنفق على الضيف لأن المعرفة موضعها القلب وحولها بحور العلم بالله فذلك كله ثبات المعرفة واستقامتها لئلا تصير المعرفة نكرة بينما أنك تعرف ربك بالجود والكرم والوفاء ثم تصير معرفتك نكرة فتتملق إلى عبيده في النوائب وتتعلق بهم وتتخذهم من دونه وكيلا ووليا فتعرف ربك بالكفاية وتستظهر بمن دونه حتى تقع في آبار المهالك وتصير مداهنا ومتصنعا ومرائيا تتزين لخلقه وتترضاهم بالقبائح والمشاين فيما بينك وبين ربك ونعوذ بالله من ذلك

مثل الإيمان وصحته وسقمه
مثل الإيمان وصحته وسقمه مثل رجل يريد أن يشترى عبدا

فيتخير من بين العبيد من له زيادة بسطة في الجسم غليظ الرقبة يقدر بالأحمال الثقيلة على رقبته وسبق على العبيد بالشخص والبطش فاشتراه بالثمن الغالي وأقامه بالخدمة بين يديه وصير له مقاما معلوما فإذا يكون قد سقم فما زال السقم حتى أثر في بدنه فزال عنه قوة البطش والحمل ورق عظمه وصارت قدماه من الرعشة والرجفة حتى عجز عن القيام بين يدي سيده وعجز عن الخدمة فتراجعت قيمته وصار أمره على خطر الموت
فالمؤمن لما جاءه نور الهداية استقام قلبه لله عبودة مؤمنا بقلبه مسلما بأركانه فقد استقرت قدما قلبه بين يدي الله تعالى للخدمة فاذا جاءته الشهوات مع هبوب ريحها فرجفت بقلبه ومازجت حلاوة الشهوات ولذات الهوى حلاوة الحب الذي في إيمانه وضعف قلبه وصارت تلك الحلاوة واللذة التي جاءت من قبل الشهوة مرضا للقلب فضعف القلب لأن قوته كانت من حرارة ذلك الحب وحلاوته وقوة 73 الفرح الذي في ذلك الحب فرجفت قدماه وارتعشت فإذا جاءته المكروهات ضعف قدمه عن احتمالها ودقت رقبته وذهبت قوة بطشه بقلبه وعجز عن القيام بين يدي الله تعالى لأن هواه وشهواته تردانه إلى المنى

فالإيمان هو استقرار القلب بين يدي الله تعالى وطمأنينة النفس بين يدي الله تعالى بالعبودة فإنما دخل عليه السقم من مخالطة حلاوة الشهوات ولذة الهوى فذهبت قوته فلذلك قال رسول الله ( الإيمان حلو نزه فنزهوه )
فحلاوته من الحب الذي تضمنه ونزاهته من نور التوحيد فإذا مازجته حلاوة الشهوات مررته وإذا خالطته أسباب الهوى ذهبت نزاهته فتكدر الإيمان وتدنس ومن كدورته ودنسه سقم القلب
قال له قائل وكيف يتدنس الإيمان ويتكدر
قال إن الإيمان عطاء الله تعالى وهو استقرار قلب العبد به فإذا استقر قلبه بربه صار عارفا له مطمئنا إليه فذاك منه إيمان بالله تعالى وهو عطاؤه للعبد يقال آمن يؤمن إيمانا
وأما النور الذي منه استقرار القلب فهو نور الإيمان فيجوز أن يسمى إيمانا في اللغة كما نسبت البيت إلى الدار والدار إلى البيت فالدار تسمى دارا لتدوير الخطة والبيت يسمى بيتا لأنه نبيت فيه

مثل الإيمان
مثل الإيمان مثل الضيف بعث الملك إليك ضيفا وقال أحسن إليه فإنه ضيف كريم وهو من خاصتي وصنه صيانة مثله فلو تركك على ذلك وقعت في جهد عظيم واستدانة ومؤونة عظيمة لتنفق عليه وتحسن إليه في العاقبة ومع ذلك تعجز عن الصيانة والإحسان إليه لفقرك وخفة ذات يدك فإن أعطاك بدرة من الدراهم لتنفق عليه فقد أقدرك على الإحسان إليه وكنت واصلا إلى إحسانه على السعة والبسطة لسعة المال الذي نلته
والأول ناله التعب لضيق النفقة ولكن أنت بعد في تعب من ذلك لأنك تحتاج إلى التقدير في كل شيء والتقدير تعب لأنك تحتاج إلى محافظة المقادير فإذا جاءت المحافظة على التقدير ضاع بعض الإحسان لقلة العدة فإذا بعث إليك بدرة أخرى مكان الدراهم من الدنانير وقال أنفق عليه اتسع في النفقة وخرج عن تعب التقدير ومحافظته فوصل إلى الإحسان كله ومع ذلك بقي شيء من الإحسان لم يصل إليه
قال له قائل وما تلك البقية

قال بهاء الإحسان وزينته
قال وبماذا يصل إلى ذلك
قال بأن بعث إليه بدرة أخرى مكان الدنانير من الجواهر قيمة كل جوهر منها بيوت من الدنانير قد اتسع الآن في النفقة اتساعا فحينئذ يصل إلى بهاء الإحسان وزينته
قال له قائل ضربت المثل فقابل الشيء بالشيء حتى نفهمه
قال نعم الملك ربك الأعلى والضيف الكريم وخاصته المعرفة الذي آمنت به فأوصاك بالإحسان إليه وصيانته بقوله تعالى ( واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ) وقال أيضا جل ذكره ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )
قال له قائل هذه الآية نزلت في الجهاد وفي النفقة فيه
فقال هذا الذي تحكيه تفسير العجم من الكتب الموضوعة لهم على الشايذبوذ أفترى ما أنزل الله في شأن قوم لم يعم الخلق

ذلك فقد نزلت آية الخمر وآية الربا في شأن قوم فعمت الخلق كلهم ولم يقل أحد من المؤمنين إنما نزلت هذه في شأن كذا وفي قوم كذا فهذا لهم دوننا فإذا قال الله تعالى ( اتقوا الله ) فقد عم الخلق كلهم أن يتقوه وعم المواضع كلها فإذا قال ( واعلموا أن الله مع المتقين ) فقد اقتضاهم كلهم أن يعلموا ذلك
وقوله ( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة . . . ) الآية فسبيل القلوب إلى العرش إلى مظهره الذي ظهر للعباد وهناك سبيل الأركان والجوارح إلى أمره ونهيه فالإنفاق في سبيل القلوب من هذه البدرة التي كنزها في الصدور والإنفاق في قلوب المؤمنين فالكنز في القلب وموضع الإنفاق على الضيف في الصدر والإنفاق في سبيل الأركان والجوارح من الأمر والنهي الذي رسمه في التنزيل فيأتمر بأمره وينتهي عن نهيه فكلاهما في سبيل الله تعالى إلا أن أحد السبيلين للقلب إلى العرش وسبيل آخر للنفس إلى طاعة الله تعالى ثم إلى الجنة
وإنما يستكمل في سبيل الطاعة بالسبيل إلى العرش ثم قال ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) فيدعو مجاهدة النفس ورد الهوى من حيث جاء وبما جاء من باب النار ثم قال ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) أي أحسنوا مجاورة معرفتي في قلوبكم فإن

معرفتي وعلمي وتكلمي أنوار لا تحتمل الأدناس ومجاورة الأنتان والمزابل وقد علمتم أن الغل والغش والمكر والحسد وحب الدنيا واتباع الهوى كلها أنتان ومزابل وظلمة وأدناس وأنجاس وأرجاس
فإذا وجدتم في صدوركم سلطان هذه الأشياء عاملا فيها فكيف يكون حال هذا الضيف عندكم وأين إكرامكم إياي ووصيتي إياكم بالإحسان إليه
ثم قال فيما روي عنه في بعض الكتب إني أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري
فإكرام الله تعالى أن تكرم معرفته التي وضعها فيك وتصونها من الأدناس والأنتان والمزابل التي ذكرناها
وقد قال ( الإيمان حلو نزه فنزهوه ) فحلاوة الإيمان الحب الذي وضع فيه ونزاهته أن تنزهه عن هذه الأشياء
ثم قال الله تعالى ( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) أي أحسنوا إلى هذا الضيف وأحسنوا مجاورته فإذا قال أحسنوا فإنما يقع الإحسان على كل شيء كما قال ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد

أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )
وقال جل ذكره ( وبالوالدين إحسانا ) وقال جل ذكره ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) وقال الله عز و جل ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون )
فأحسن إلى من أحسن إليه وأعظم شأنه وأكرم مجاورته وطهر مكانه 74 وهو نور الله تعالى في قلب المؤمن

وجه تشبيه القلب بالكعبة
وقد عظم الله تعالى شأن الكعبة وطهرها وسماها بيته ولم يملكها أحدا من خلقه وجعل حولها حرما آمنا يلوذ به الخائفون ويمتنعون به من الآفات ويتطهرون بالطواف بهذا البيت من أدناس الذنوب ويرجعون في وقت الصدور عنه مغفورين فنور الله أعظم شأنا وحرمة من الكعبة
وقلب المؤمن خزانة الله تعالى فيه كنوز المعرفة وكنوز العلم بآلائه ولم يملكه أحدا ولم يطلع عليه أحدا ولم يكله إلى

أحد فهو في قبضته وبين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء
كذا روي لنا عن رسول الله وسمي بهذا الاسم ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك )
وكان هذا الاسم هجيري رسول الله وكان عامة دعائه بهذا الاسم وعامة حاجته في الثبات قالت عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله إنك لتكثر هذا الدعاء ( يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على طاعتك ) فقال لي ( يا عائشة إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ) ثم قرأ قول الله سبحانه ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب )
الروايات لهذا الحديث من غير وجه واحد ولا اثنين ولا أربعة ولا

خمسة كلهم يروون هذا الحديث عن رسول الله فجعل الله قلب المؤمن خزانته وفيها كنوزه وهو ممسكه وجعل صدره حرما
فإذا كان الحرم له من الحرمة أنه لا يصاد صيده ولا يقطع شجره ولا تلتقط لقطته ولا يخاف من دخله وصيره مأمنا ومهبط رحمته وموضع نظره من بين جميع الأرض فقلب المؤمن أعظم شأنا من الحرم وما فيه أعظم من الكعبة فإن كانت الكعبة بيته فهذا نوره في خزانته وإن كانت الكعبة لا يملكها غيره فهذا القلب أيضا في قبضته لا يملكه غيره وإن كان ما حوله حرما فالصدر حول القلب حرم لهذه الخزانة ولما فيها فكما قال رسول الله ( من أحدث في الحرم حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل )
فهذا المحدث هو خارجي يخرج بالجور والباطل على إمام عدل محق فهو المحدث ومن أعانه أو آواه فقد استوجب اللعنة فكذلك من أحدث في هذا الصدر حدثا من هوى أو بدعة استوجب اللعنة ولم

يقبل منه صرف ولا عدل ولا توبة لأنه خرب الدين ورام أن يأخذ ولاية القلب بالتوحيد فإن القلب أمير على النفس والإمرة بالكنوز والجنود حتى يمضي سلطانه على الجوارح في الأمر والنهي وقوة كنوز المعرفة وعلم التوحيد فهؤلاء الجبرية والقدرية والمرجئة والمجسمة والمعطلة عليهم لعائن الله تترى قد أحدثوا في الحرم على خزانة الله أكثر وأعظم ممن أحدث في الحرم على بيت المال
وكما لا يصاد صيد الحرم فكذلك ما تطاير في الصدر من الخواطر من صفات الله تعالى فليس تصاد تلك الخواطر فيدخل قلبه مداخل الفكر لكيفيته فإنه ليس لتلك الصفات كيفية ولا منتهى ولا ملاحظة فاستغفر الله كما تكفر أول صيد تأخذه

ثم قال الله تعالى ( ومن عاد فينتقم الله منه ) أي يعاقبه
وحذرك الكفر فإنه ينتقم منك إذا اتبعت الخواطر ففكرت
وقال رسول الله ( تفكروا في خلقه ولا تفكروا فيه )
وكما لا تقطع أشجار الحرم فتذهب نزهته وخضرته لا تسقط حرمة أشجاره أيضا لأنها في المأمن
وروي عن رسول الله أنه قال ما ( صيد من مصيد ولا قطعت شجرة إلا لغفلة عن التسبيح )
وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أتى بغراب وافر الجناحين فمسحه بيده وقال الحمد لله رب العالمين سمعت رسول الله يقول ( ما صيد من مصيد ولا قطعت شجرة إلا لغفلة عن الصلاة والتسبيح )
فإذا كانت الأشجار إنما يسلط الآدمي عليها في وقت غفلتها

عن التسبيح لأنها على قطعها صارت معاقبة بترك التسبيح وجعلت شجرة للآدميين فيكون تسبيحها مكان تسبيح الممتنعين عن التسبيح بشركهم وكفرهم لتتماسك الأرض بتسبيح المسبحين الموحدين ومن لحق تسبيحهم من الجبال والأشجار والخلق والخليقة فإنما يسلط على قطعها بتركها التسبيح وغفلتها فإذا كانت الشجرة في الحرم فهي في المأمن مأمن بيت الله تعالى
وقال الله تعالى ( وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا )
وإن غفلت عن التسبيح لم تصل إليها عقوبة القطع فمنع الخلق عن قطعها فإن قطعها قاطع فتلك جناية فإن غرم في الدنيا كان قد افتدى نفسه بتلك الغرامة والصدقة على المساكين بقيمتها وأدى إلى الحرم حقه وخرج من جنايته على شجر الحرم وإن لم يغرم في الدنيا موحد كان أو مشرك فلا فوت على الله من أخذ حقه لحقه وحق حرمه فإذا كان هذا شأن أشجار الحرم فما ظنك بمن قطع أشجار حرم القلب التي في الصدر
قال تدبير الله تعالى في إبراز أسمائه وعلم أسمائه وما خرج من أسمائه إلى الخلق فخرج باسم العرش وباسم الكرسي وباسم الجنة وباسم النار وباسم الملائكة وباسم آدم

عليه السلام والآدميين وباسم المسخرين وباسم الليل والنهار وباسم الذي ختم الأسماء محمد فهذه الأسماء كلها تدبيره وهذا الخلق الذي منه خرج تدبيره فهذه أشجار فمن اعترض تدبيره فعارض اسما باستخفاف أو جهالة فقد قطع شجرة ومن اعترض تدبيره فعارض حقا من حقوقه في خلقه فقد قطع أغصان الشجرة وأصل الشجرة باق فإن تاب وأرضى الخلق عادت الأغصان اليابسة رطبة
فإذا كانت أشجار الحرم حرم الكعبة هذا محل صاحبها وهذا شأنها فكيف بأشجار حرم الصدر ما ظنك بمن عارض تدبير الله تعالى أليس هو مناصب لله عز و جل من حيث لا يعلم استبدادا وتورعا عن أشياء 75 على المراءاة وتماوتا عند الخلق وتخشعا بخشوع النفاق وجوفه ممتلئ من الحسد والحقد والرغبة والشح والبخل والأمل وسوء الظن والغل والغش والمكر وأنواع الخيانات والاستخفاف بأهل ملته وقلة الرحمة والعطف وقطيعة الرحم والتعزز والتكبر والتجبر والمراءاة والتنزين

والتصنع والمداهنة وتعظيم الدنيا والعون في غير ذات الله تعالى على الضر والنفع والبطر بأنعم الله تعالى والكبرياء على عباد الله تعالى والفخر في عطية الله تعالى وخوف الفقر والفرح بالدنيا وبأحوال النفس والحزن على فوتها والتملك في أمر الله والاقتدار والسخط للمقدور وقلة الأمن للرزق والاستبداد في أمر الله تعالى والتهاون بالمؤمن فقد حشا جوفه وزوايا بيته من هذه الأشياء وملأ صدره من دخانها وظلمتها وأنتانها وأدناسها لأن هذا كله من أغصان الكفر والشرك والخروج على الله والمضاهاة بطلب عزه وكبره في أرضه بدنيا دنية وشهوة ردية ويتجبر في حقوقه ويتزين لعبيده كمن لا يؤمن بالله ويداهن في أمره كمن لا يعرف ربه ويعظم دنياه التي حقرها كمن يناصب ربه ويعين في غير ذاته كمن يريد خراب ما عمره الله تعالى ويبطر بأنعمه كمن لا يبالي بها ولا يستحي من المنعم ويسخط في مقدوره ويتجبر في أموره كأنه هو المدبر للأمور فأية حرمة بقيت لهذا الحرم وأية معرفة بقيت لصاحب هذا وقد أغار العدو على كنوزه فبددها وطمسها بما جاء به من هذه الأشياء وهزم العقل حتى انكمن في رأسه وحتى ذهب علمه وإشراقه في الصدر

قال له قائل قد ذكرت أنه لا تلتقط لقطته فايش لقطته
قال سر القدر والعلوم التي حجب الخلق عن إدراكها فذاك لقطته لا يعرف بيتها ولا وليها ولا يملكها أحد سواه وهي موضوعة في طريق التوحيد ومدرجة العقول إلى التوحيد بلوى للعباد فأهل الزيغ طالبوت لها وباحثون عنها ويفتشون لها ولن يزدادوا بذلك التفتيش إلا غما وحيرة لأنه علم لا يدرك منتهاه بمنزلة بحر عميق مظلم لا يدرك حده ولا نهايته فالسابح فيه كمن سبح في البحر فلا بد له من الغرق والهلك
فهذه اللقطة في الصدر حرم القلب فلا تلتقط لحرمة التوحيد لأن من شرط التوحيد الا تطمع للعباد فيما توحيد الله تعالى به وتفرد
ويحق على العاقل أن يعقل فيقول إذا قلت الله واحد أحد فرد فأي علم في الأحدية والفردية إنما العلم في الصفات صفات القدرة فإذا انتهيت إلى أحديته وفرديته فأي علم هناك تطمع في معرفته وقد انقطعت الصفات وكيف تصف علما ولا صفة له
وقوله لا يخاف آمنها فالحق إذا وجد في القلب والنفس مأمنا فقد اعتزل الخيانة وظهر مكانه الأمن فصار صاحبه محقا فعندها

يكون الحق مستعمله وإذا لم يجد في الصدر مأمنا فقد نفرفلم يأمن خيانة النفس وميل القلب فصاحبه في طلبه وهو ماض عنه
وقولنا مهبط رحمته وموضع نظره فهي معروفة فإذا كانت الكعبة مهبط الرحمة فكذلك قلب المؤمن مهبط حب الله تعالى ورأفته ومهبط جوده وكرمه وعين الله ترعاه وموضع نظره أيضا
الخبر ( إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أعمالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم ونياتكم فمن كان له قلب صالح تحنن الله تعالى عليه فإذا تحنن عليه رعاه وصيره في قبضته )
الخبر الذي قال ( كنت سمعه ) وقال رسول الله ( ألا إن التقوى ها هنا ثلاثا وأشار إلى الصدر في كل مرة )
وأعظم التقوى ما اتقى في الحرم فإذا اتقى فإنما يتقي على الصيد والشجر واللقطة فإذا كان ذلك كذلك فالتقوى الذي أشار إليها صاحب الشرع فهي على كنوز المعرفة وعلى أشجارها في الصدر وعلى لقطتها وعلى من التجأ إليه مأمنا فأوفر الناس حظا في الكعبة

من عظم شأنها واتقى على حرمها وأكثر الطواف بها وإنما يفعل ذلك من شم رائحة الكعبة ونظر إليها بعين الصحة لا بعين السقم من قلب لا سقم فيه من شهوات النفس وإرادات الهوى فنظر بعين ذلك القلب إلى بهاء الكعبة وإلى ذلك الشيء الذي به صارت الكعبة كعبة لا إلى تلك الأحجار لأنها قد كانت كعبة ولا أحجار وكانت الملائكة والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين تحجها فيما بين نوح وإبراهيم عليهما السلام ولا أحجار ثمة
فأوفر الناس حظا من خزانة الله التي في قلب المؤمن من عظم شأنها واتقى على صدره وأكثر الطواف حول الخزانة حتى يدر عليه ولي الخزانة من الكنوز كما يدر الضرع على حالبه من اللبن فإن البقرة والشاة تدر من ضرعها على ولدهما لترضعهما بالرأفة والرحمة التي وضعت فيها ولولا تلك الرحمة لولدها ما در لبنها
ألا ترى أن الحالب يقدم عند الحلب ولدها إليها أولا حتى ترسل اللبن ثم يفطم ولدها عنها ويحلبها ولو مات ولدها مثل لها مثال ولدها بأن يحشى جلد ولدها تبنا ويوضع بين يديها لتنخدع بذلك فتدر لبنها
فأراك هذا رب البقرة من خلقه وعرفك أن الذي تصيب من عندي فتدر عليك رحمتي

قال له قائل وما يدر عليه من الخزانة من تلك الكنوز
قال يدر بالرحمة كما وصفت من شأن الضرع والدر من الكنوز وعلم المعرفة

علم المعرفة
قال له القائل وما علم المعرفة
قال عرفت الرب قال نعم قال بأي شيء عرفته فانقطع قال عرفني نفسه من الصفات قال فما احتظيت من هذه الصفات قال الإيمان به فكان ذلك حظك منها أم علم مشرق مستنير أم مطالعة ببصائر الهدى فإن علم المعرفة للعامة الإيمان به وهو الظالم لنفسه ما زال يظلم نفسه باتباع الهوى والشهوات حتى احتجبت المعرفة عنه فصاحبه عالم جاهل مؤمن به يعثر مرة في طريقه ويقوم أخرى ويزل مرة وينعش أخرى فهو بين طاعة ومعصية حتى يقدم على ربه بهذه الحالة
وعلم المعرفة للصادقين مشرق نير واضح وهو المقتصد يشير إلى الله تعالى على مدرجة الصدق في الفعل جهدا وحذرا وحراسة 76 باكيا على نفسه يقتضي منها الصدق في الفعل

جهدا في كل حركة وفعل وقول
وعلم المعرفة للصديقين مطالعة البراذين ومشاهدة المعادن وذلك باليقين وهو علم السابقين المقربين قال الله جل ذكره ( كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم )
فبعلم اليقين وبقوة نوره يرى عين اليقين بالبراذين والمعادن التي تظهر منها الصفات وربوبية الرب
فذلك العلم النافذ ببصر قلبه إلى نور روحه المتوقد في عينه الظاهرة التي في رأسه فإذا نظر إلى الأشياء أبصر آية القدرة في الأشياء كلها وآثار الربوبية فلا تقدر زينة الأشياء وبهجتها وحلاوتها أن تغره عن الله حتى يتعلق قلبه بشيء دون الله تعالى فيحجبه عن الله تعالى فيصير فتنة عليه فيعمى بصر قلبه ويبقى في ظلمات النفس وحب الشهوات ويتكدر روحه ويسلب قلبه الإمرة ويغلب الخارجي
فإذا لم يكن له هذا العلم في صدره على صفة السابق المقرب وإنما كان علمه على صفة المقتصد فهو مشغول يقينه بوهج

الحروب ومحاربة الأبطال حيث التقيا فمرة منصور ومرة مخذول فمتى يقدر أن يلاحظ آثار القدرة والربوبية وليس لبصره نور أن ينفذ إلى رؤية ذلك وهو بعيد منه
ومن كان علمه علم الظالم لنفسه فذلك علم اللسان قد تلقنه من أفواه الرجال سمعا ومن الكتب نظرا فأودعه حفظه حتى يبرزه الحفظ من صدره في وقت الحاجة وليس له قوة ما يجاهد به نفسه فيحاربها ويهزمها
وتلك حجة الله تعالى عليه يقول ويهدي الناس إليه فإذا صار إلى إقامته بنفسه صار أضل من الأنعام يغلبه الهوى في الشهوات قال الله جل ذكره ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم ) أي في وقت محمد

العلم علمان
قال رسول الله ( العلم علمان علم في القلب فذاك العلم النافع وعلم في اللسان فذاك حجة الله تعالى على ابن آدم )

فالعلم النافع هو علم السابق وعلم الحجة الذي يخنق صاحبه في البرزخ وفي المحشر هو علم الظالم لنفسه أعاذنا الله وإياكم برحمته
قال له قائل فهذا الملك الذي بعث الضيف ومعه نفقة وقد تفاوتت النفقات فنفقة هي دراهم ونفقة هي دنانير ونفقة هي جواهر ما هذا
قال فالذي ذكرنا من النفقات الثلاث من الأصناف هي العلوم وهو علم واحد صارت علوما والعلم لا يدركه القلب إلا بالحياة لأن هذا كله علم الغيب ألا ترى أن النفس إذا نامت أو ماتت ذهبت حياتها وذهب علم القلب فهو ميت لا يدري وحي نائم لا يدري شيئا
فقد بان لك من أن علم الظاهر قد غاب عنه بالنوم والموت لزوال الحياة فيهما فكذا إذا ذهبت حياة القلب بالله فقد غاب عنه علم الغيوب فإذا أعطي القلب حياة العلم بالله عرف ربه وعلمه

وقد قال جل ذكره ( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون )
فهذا كان قلبا ميتا عن الله تعالى أعطاه نور العقل والعلم فعرف ربه وإنما عقل العلم بنور الحياة فلما عرفه اطمأن إليه وأسلم نفسه إليه عبودة فلزمه الاسمان مؤمن ومسلم الإيمان من جهة استقرار القلب والإسلام من جهة تسليم النفس إليه عبودة بالأمر والنهي فهما في عقد واحد عرف ربا فاطمأن إليه وعرف نفسه عنده فسلم إليه نفسه فهذه معرفة واحدة إذا لحظ إلى ربه عرفه ربا وإذا لحظ إلى نفسه عرفه عبدا وإنما يعرف هذا بحياة القلب أدرك بها هذه المعرفة ثم دعاه إلى العبودة الأمر والنهي فجاءته الشهوات الموضوعة في نفسه فثقلته وجمحت به في نهيه فإذا جاهد في ذات الله حق جهاده شكر الله له ذلك وزاده في الحياة ليخفف أوامره ويكبح بلجامه في وقت جموحه في المناهي وذلك قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم )
فأعلمه بعد حياة الإيمان أن يحييه بالطاعات فإذا أطاع الله في

الأمر والنهي شكر له ذلك فزاده حياة ليقطع قلبه عن العلائق وهوى النفس شكرا له وهو قول الله عز و جل ( والله شكور حليم )
وقد قال مالك بن دينار رحمه الله وجدت في بعض الكتب إن سرك أن تحيا وتبلغ اليقين فاحتل في كل خير أن تغلب شهوات الدنيا فإنه من يغلب شهوات الدنيا يفرق الشيطان من ظله
فإذا حيي القلب حياة تبلغ علم اليقين صار من السابقين المقربين فهناك يحيا بالله فعاين ببصر قلبه آثار القدرة وآثار الربوبية وبهاء الدين وزينة العبودية وبهجة المنة وتربط بلحظه إلى مجالس النجوى وبهجة المرعي بين يديه فحياة الأول حياة الفضة وحياة الثاني حياة الذهب وحياة الثالث حياة الجوهر
والفضة إنما بريقها من حياتها وبريق الذهب من حياته أقوى من الفضة وأشد بريقا وبريق الجوهر من حياته وهي أقوى من الذهب فكل واحد من هذه الأشياء قد احتظى من الحياة ولكن كل واحد أقوى من الآخر

فالجوهر يضيء البيت من نوره والذهب والفضة ليس لهما ذلك فمن كانت نفقته في ضيافة المعرفة من الدراهم فصيانتها والإحسان إليها لا تخلو من الدنس والأوساخ والتضييع والتفريط
ومن كانت نفسه في ضيافة المعرفة من الدنانير يسلم من الأوساخ والأدناس ولكن لا يخلو من الغبار
ومن كانت نفقته في ضيافة المعرفة من الجوهر سلم من الغبار وجميع ما يتقى منه ويصان عنه ولم يزل طريا نقيا لأن قلبه حيي بالله بحياة الجوهر فذلك قول رسول الله ( الإيمان حلو نزه فنزهوه )

أحب القلوب إلى الله
وعنه ( إن لله تعالى أواني في الأرض ألا وهي القلوب وأحب القلوب إلى الله تعالى أصفاها وأرقها وأصلبها )
فأصفاها لله تعالى وأصلبها في ذات الله تعالى 77 وأرقها للإخوان
وقال فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى ( ولست أسكن البيوت وأي بيت يسعني والسموات حشو كرسي وإني في قلب الوادع الضعيف لين القلب )
فحياة القلب من هذا الذي ذكره إني في ذلك القلب
مثل التقوى
مثل التقوى مثل رجل أصاب جوهرة نفيسة قيمتها بيوت من الدنانير أو ثوبا قيمته ألف دينار أو جارية لها ثمن غال شخصت إليها الأبصار منظرا ومخبرا أو صرة مسك ذكي الريح أو بازي طير أبيض تام الجثة مقدار الدرهم التام أهداه إليه ملك عال
فأنت تبقي على الجوهرة مخافة السراق ولا تعرضها إلا على من عنده من فنون الأموال مخافة أن يدلسها فيقبض منه الجوهرة ويبدلها بالزجاج شبهة ولا يعرف هو الجوهر من الزجاج فهي عندك مكنونة في اللفائف والحقة والدرج وتقيها من الغبار ومن كل آفة ونحوها
وكذا تتقي على الثوب اتقاء مثله من اللف والطي ووضعه في الصندوق وربطه فيما بين اللوحين
وتتقي على صرة المسك فلا تفتحها لئلا يذهب ريحها ولا يصل إليها غدار فتعوض من كبد الضأن وغيره

وتتقي على الجارية فتحبسها وتصونها وتلبسها لباس مثلها وتطعمها طعام مثلها وتمنعها عن الخروج والبروز لئلا يطلع عليها أحد أو يحبها ظالم فيخرجها من يدك ويبقى قلبك معلقا بها مع الصراخ والعويل
وتتقي على البازي من كل آفة لئلا ينكسر جناحه فيعجز عن الطيران وإن قصرت في بعض تربيته ومداراته لا يألف وترك الإلف ويطير ويتركك خاليا فلا تراه أبدا
فانظر كيف تتقي على الأشياء وكيف حذرك وحراستك لهذه الأشياء وتلطفك بها وصيانتك لما تخوف عليهم من الآفات وضيعت حراسة أعظم الأشياء قدرا وأنفسها خطرا وهو مخ التقوى فقد عظمت حجة الله عليك لأن هذا القلب خزانة الله تعالى وضع فيها جوهرا نفيسا لا يحاط بمبلغ ثمنه وهي المعرفة
فإن نظرت إلى نفاستها وقدرها لم تقدر أن تحيط بثمنها علما ولا ائتمنت عليها أحدا
وإن نظرت إلى بهائها ونورها اتقيت عليها من كل دخان من الشهوات لئلا يلج الخزانة فيدنسها

وإن نظرت إلى رقتها اتقيت عليها من كل صدمة من قبل النفس أن تصدمها
وإن نظرت إلى طيب ريحها اتقيت عليها من كل شيء من المعاصي
وإن نظرت إلى اصطبارها الطاعات فتشتئ قلوبهم بالدعاء إلى الله تعالى اتقيت عليها من كل تضييع تربيها وتعاهدها بما يتعاهد مثلها تربية مثلها لئلا تطير عنك فلا يبقى معك سوى معرفة الفطرة معرفة الكفار
فمن الله تعالى على الموحدين بمنة عظيمة أن أعطاهم نور الهداية حتى وجدوه ونطقوا بكلمة الشهادة وأمرهم بأن يتقوه على ما أعطاهم وهو النور الذي أشرق في قلوبهم ثم من قلوبهم إلى صدورهم فيجعلونه في وقاية الحراسة لئلا يصل إليه ما ليس له بأهل فإن المعرفة قد أيدت بالعقل والعلم والفهم والفطنة والحفظ والذكر والذهن
فهذه الأشياء حولها قطع الله بذلك ألسنة الآدميين عن نفسه لئلا يكون لأحد عليه حجة لإتيان معاصيه أو سوء ما يأتيه فبقوة هذه الأشياء يحرس معرفته ويذب عنها مكر النفس ودواهيها وكيد العدو حتى تصير المعرفة في وقاية منها

وأمر بالتقوى لقوله سبحانه وتعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )

التقوى على سبع جوارح
ففهموا بهذه الأشياء أن التقوى على سبع جوارح العينان والأذنان واليد واللسان والرجل والبطن والفرج فلا يستعمل واحدا منهم إلا بما أطلق له وأذن له فيه
فأقبلوا إلى حفظها فوجدوا أنفسهم بين أمرين بين أمر هو طاعة وبين أمر هو معصية وفيه عيب لأنه عمل على غفلة فيما لم يؤذن له فيه فله فيه عقوبة ولو أتى بما أذن له ولكن على غفلة بلا حسبة ولا نية رمي بها على وجهه وخاب عن ثوابه وجزائه
وقد أمر بأن يتقى حق تقاته قال الله تعالى ( يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ) ففهم العباد عنه أن حق تقاته أن يطيع الله فلا يعصي ويتقي عن المعاصي وعن كل عمل على غفلة بلا حسبة ولا نية فصار التقوى على ضربين ضرب منها التقوى عن المعاصي وضرب منها التقوى عن عمل على غفلة بلا حسبة ولا نية فذا تقوى الظاهر وذي تقوى الباطن فالعباد أكثرهم أقبلوا على

تقوى الظاهر حتى أحكموه وكفوا جوارحهم عن المناهي فلما صاروا إلى تقوى الباطن وهو ألا يعملوا شيئا مما أذن لهم فيه على غفلة حتى يكون لهم نية وحسبة اشتد عليهم ذلك وعجزوا عنه لأنهم في غطاء عن ذلك
وقد قال الله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ) أي في الفرائض فبقيت العامة على هذا التقوى الظاهر وهو حفظ الجوارح السبع وعمله الذي أذن له فيه في غفلة ففي كل عمل عيوب موجودة وزينة الأعمال

مفقودا ومع فقد الزينة العيوب موجودة ووجدت طائفة من العامة وجدا شديدا أن رأوا عامة أعمارهم من الأكل والشرب واللبس والكلام والسكوت والمشي والذهاب والنظر والاستماع بلا نية ولا حسبة فلا يجدون غدا في ميزان الحق منه شيئا فيثابون عليه ولذلك قال رسول الله ( الأعمال بالنيات )
وقال أيضا ( لا عمل لمن لا نية له ولا أجر لمن لا حسبة له ) فحزن المؤمنون على تعطيل العمر على هذا الوجه فرحمهم الله على ذلك فقال جل ذكره ( يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )
فقال أهل التفسير أي مخرجا ولكن هذه كلمة مبهمة ولم

يفسروا ما المخرج من أين وإلى أين وإنما المخرج من ظلمة ودخان الشهوات بالأنوار التي يعطى
وقال جل ذكره في موضع آخر ( يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته 78 ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما )
ولما أقبلوا على التقوى الظاهر وهو حفظ الجوارح عن المناهي وأحكموا هذه التقوى ثم ذكروا ذكرا كثيرا عند كل نعمة وبؤس وسبحوه بكرة وأصيلا ليعمروا ما خرب منهم وليتداركوا بذلك التسبيح أدناس العيوب ويتطهروا وصلت عليهم الملائكة وصلاة الملائكة أن تستغفر لهم من العيوب وصلى عليهم الرب جل وعلا وجعل لهم مخرجا
فأما صلاة الرب جل جلاله فأن يسأل لهم بنفسه من نفسه نور الفرقان حتى أوجب لهم ذلك وهو نور الفرقان فعندها أخرجهم من ظلمات النفس إلى نور الله تعالى وإنما سمي نور الفرقان بهذا لأنه نور يفرق بين الحق والباطل وقد ذهبت الغفلة وإنما الغفلة حجاب أصله من شهوات النفس وهي كالدخان في الصدر فهي ظلمات تحجب عيني الفؤاد عن معاينة الحق حتى ينفي الباطل الذي

يجيء من النفس إلى الصدر فيتراءى لعيني الفؤاد يريد أن يمده بذلك إلى نفسه فإذا هو باطل لا يثاب عليه غدا فإذا أخرجه الله تعالى من هذه الظلمات بصلاته عليه وإيجابه له هذا النور واستغفرت له الملائكة لتك العيوب حتى إذا ولج هذا النور فوجد مكانا طاهرا مقدسا فأشرق النور واستقر في الصدر فعندها استوى له الأمران ونال كلا التقويين الظاهر والباطن فلا يعمل شيئا إلا على ذكر ونية وحسبة دق ذلك الشيء أو جل فأدرك ذلك النور القلب من الصدر في أسرع من اللحظة لعظم ذلك النور حتى يرتقي من القلب إلى محله من العلياء حتى تصير الأشياء كلها له وبه وهم أصحاب القبضة فيه ينطق وبه يبصر وبه يسمع وبه يبطش وبه يعقل وهو قول الله جل ذكره ( ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون )
ثم وصفهم من هم وما عملوا فقال ( الذين آمنوا وكانوا يتقون )
فهؤلاء طبقة آمنوا به حقا فاطمأنت قلوبهم بأحكامه عليهم من المحبوب والمكروه رضوا به ربا ورضوا بأحكامه عليهم حكما وذلوا لربوبيته خشعا وآثروه على أنفسهم حياء وبذلوا له نفوسهم

جودا وسمحا وكان تقواهم على المشاهد كما ذكر في أول الآية من قوله عز و جل ( وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه ) فصارت شهادته عند كل عمل يفيضون فيه معاينة القلب فهابوا الله هيبة ماتت لها نفوسهم موتا وأحبوا الله حبا حييت قلوبهم به حياة وعبودة في كل لحظة فصارت أنفاسهم ولحظاتهم عبادة وكل حركة منهم طاعة ووجدوها غدا في ميزان الحق فهذا تقوى الباطن تقوى الأولياء

مثل عمال الله
مثل عمال الله تعالى مثل ملك دعا خياطا فقال له اقطع هذا الثوب وخطه بين يدي فلم يأل هذا الخياط جهدا في إظهار حذقه وخفة يده فلما غاب عنه ترك خفة اليد وحسن الابتداء ووجازة الفعل ولكن أحكم الخياطة وأتقنها وزينها لأنه ذاكر للعرض عليه
والآخر رجل دعاه الملك فقال اذهب بهذا الثوب فاقطعه وخطه وأنفذه إلى فلان الراعي فإذا غاب عنه رفع عنه باله فكيفما قطعه وخاطه جوزه لأنه لم يشعر برؤية الملك ولا ذكر العرض

عليه وإنما به ارتفاع العمل فيقول قد عملت وآخذ الأجرة
وإنما جرأه على ذلك غفلته عن رؤية الملك وعن العرض عليه
فكذا عمال الله تعالى على ثلاث طبقات فعامل يعمل لله كأنه يراه وعامل كأنه يراه الله وهو قوله حين سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )
فقال جبريل صلوات الله عليه فإذا فعلت هذا فأنا محسن قال نعم قال صدقت فهي درجة المحسنين
فالأول يعمل لله كأنه يرى ربه مشاهدة والآخر يعمل كأنه يراه ربه
فالأول قد أخذته رؤيته ربه والثاني قد أخذته رؤية ربه إياه
فالأول أعلى من الثاني لأنه قد كشف له الغطاء ورفع الحجاب فيما بينه وبين ربه وهو قول ابن عمر رضي الله عنه حين كلمه عروة بن الزبير رضي الله عنهما في الطواف فلم يجبه إلى أن قال ما قال فلما خرج قال إنك قد كلمتني وإنا كنا نتخايل الله بين أعيننا
وروي عن مالك بن دينار رحمه الله أنه قال مكتوب في

التوراة يا ابن آدم لا تعجزن أن تقوم بين يدي في صلاتك باكيا فإني أنا الله الذي اقتربت لقلبك وبالغيب رأيت نوري
فهذا لمن رفع له الحجاب حتى رأى نوره وهو أعلى
والثاني رفع الحجاب له بقدر ما رأى أنه ينظر إليه ويراه ولم يعد
وأما سوى الروية وهو قوله ( فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) فهذا الثاني يعمل وقلبه إلى العرض الأكبر وهو قوله تعالى ( يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) فيجهد لهذه وليس له زينة العمل وإنما له إحكامه فهذا صادق والأول صديق هذا محجوب والأول من وراء الحجاب قد انكشف له الغطاء فبه يعمل

من يعمل على الغفلة
وعامل ثالث يعمل على الغفلة ليس على قلبه ذكر المشاهدة ولا ذكر العرض إنما هي عادة النفس تعمل بأعمال البر على العادة والجزاف وعلى ترائي الثواب من غير تصحيح ولا طهارة القلب ولا تتوقى فأعماله توضع في الخزائن ليحصل ما في صدره يوم العرض فإن الله تعالى كان شاهدا عليه في وقت عمله لا يخفى

عليه شيء فقد قال الله جل ذكره ( يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير )
والصادق يعرض على الله تعالى حين ينظر إليه فإذا وقعت نظرته إليه أشرق لنظرته نور العمل فازداد نورا وازداد قلب العامل في الأرض نورا لأن الأعمال ترفع إلى الله تعالى والنية فيه باقية وهي أصل العمل التي منها بدأ العمل فمضى العمل إلى الله تعالى
وأصل العمل باق في القلب متصل بالعمل 79 فإذا وقعت نظرة الله على العمل فأشرق وازداد نورا خالصا وتأدى ذلك إلى هذا الأصل فأشرق القلب بما تأدى من النور وهي النية فهذا شأن الصديقين والصادقين وهذا تفسير القبول
وإنما قيل قبول لأنه عرض على الله فيكون في قبالة وجهه الكريم حيث نظر إليه وما لم يعرض عليه ووضع في الخزائن فذاك لتخليط فيه حتى يحصل يوم القيامة وإنما يظهر قبوله ورده يوم القيامة وهذا الذي عرض قبالة وجهه ظهر قبوله في الحال

مثل الواعظ
مثل الواعظ مثل رجل ينفخ في كير له فعلى قدر قوة المنفخ وقوة الريح التي فيه تصل النفخة إلى تلك الجمرات حتى تتوقد تلك النار وتحمي جدرانه من حول تلك النار ويتلظى ويضيء ذلك البيت ويذوب ما في الكور ذهبا كان أو فضة أو نحاسا أو حديدا حتى يزول عنه خبثه وتبقى صفوته فإن كانت المنفخة صغيرة لم يكن لنفخه قوة تؤدي إلى الجمرة فالجمرة بحالها مع الرماد والخمود وإن كانت المنفخة كبيرة ولكن فيها خروق فكلما مدها حتى تمتلئ من الريح فإذا عصرها خرجت الريح من تلك الخروق ولم يتأد إلى الجمرة منه إلا قليل فهي بحالها جامدة ذات رماد لا تتلظى ولا تضيء البيت فإذا لم يكن بها خروق والمنفخة كبيرة والنافخ ذا قوة وصلت النفخة إلى الجمرة فتوقدت وأضاءت البيت وحميت الجدران واستحر الوقود واستمد وذاب ما في الكور ورمى بخبثه وصفى الباقي

الذهب والفضة فصارت نقرة صافية تصلح للدراهم والدنانير فإذا ضربت كل شيء يروج في الأسواق
فالواعظ إذا وعظ من قلب عالم لكن لم يكن لعلمه سلطان لم تصل إلى القلوب نفخته والإيمان في القلوب مثل الجمرة والجمرة إذا بقيت في الشهوات علاها غبار الشهوات ورمادها فإذا لم يصل إلى القلب نفخة سلطان الوعظ مثل النفخ إذا لم يصل إلى الجمرة بقيت ذات رماد ولم تتوقد وإنما يستمع إلى ذلك أذن القلب واتعظ به ساعة من النهار ثم يدرس ذكره ويعطل لأن القلب لم يعه لأنه لم يكن له سلطان فتنفذ الأذن إلى باطنه فتمتزج بنور الإيمان فيشتمل عليه الإيمان فذاك وعاء القلب للموعظة
فإذا كان لعلمه سلطان ولكن لم يكن لقلبه سلطان فوعظ به ونظر إلى نفسه في ذلك الوعظ فرأى نفسه فوعظها بمنزلة المنفخ الكبير الذي فيه خروق فخرج الريح من تلك الخروق ولا يصل إلى الجمرة إلا قليل منه والغبار والرماد باق على الجمرة والبيت مظلم ولا تحمي الجدران ولا يذوب ما في الكور فلا يزايل الخبث من ذلك الذهب والفضة
فإذا كان علم الواعظ ذا سلطان وعن قلب ذي سلطان ناظرا بنور ذلك السلطان إلى جلال الله الذي منه بدا ذلك السلطان في قلبه طارت عن عيني فؤاده رؤية نفسه وقطعه شغله بجلال الله عن

الالتفات إلى النفس وزينها في ذلك يقينها فأدت ذلك الوعظ مع سلطانه إلى القلوب ورمى كل غبار ورماد على جمرة الإيمان لأن الشهوات لا بقاء لها مع السلطان
وإذا أورد القلب سلطانه على الصدر خافت النفس فسكنت عن تلظيها فانقطع دخانها وانكشفت الجمرة عن غطائها وغبارها فتلظت وأضاء الصدر واستحر القلب فأبصرت أعين فؤاد السامعين الذي خلصت إلى قلوبهم النفخة صورة تلك الأشياء التي وصفها الواعظ فصارت أمور الآخرة معاينة على تلك القلوب فأجابت القلوب منهم والنفوس إلى ما دعوا إليه من الصدق والوفاء لله تعالى فما دام الواعظ بهذه الصفة فإجابة القلوب له خوفا وإلقاء باليدين سلما لأنه وصل إلى قلوبهم خوف السلطان الذي كان في قلب الواعظ فصار كالنافخ بالكير بالمنفخ الكبير الذي ليس فيه خروق ولكن مع هذا لا يؤمن عليهم الارتداد على العقبين والرجوع عن هذه الأحاديث إلى إجابة النفوس إذا سكن عنهم الخوف دعتهم إلى فتنة تعرض لهم من الشهوات بشيء
فإذا انتقل الواعظ عن هذه الدرجة إلى درجة أعلى من هذه حتى ولج منازل المحبين ووصل إلى الملك واحتظى من مجالس ملك الملك وشرب من الكأس الأوفى من شراب خالقه وهو

شراب المحبة وهو حب الله له لا حبه لله صار علمه ذا سلطان لأنه يعاين بفؤاده عما ينطق به فتلك الأنوار سلطان عليها فإذا وعظ كان وعظه رياح منافخه من ملك الألوهة ومن ملك الحب ومن ملك الله
وإذا وصلت إلى القلوب صارت موعظته قيدا للقلوب وليس لهذا العبد التفات إلى النفس ولا للنفس مهرب أيضا
فالأول رياح منافخه من ملك الجلال فخافت القلوب ووجلت وخمدت شهوات النفس من الخوف
فإذا كان حدث أو فترة درس هول الخوف فأطلعت النفس رأسها لأن الخوف يسكن النفس ويخمد الشهوات ولا يقيد
والحب يقيد الشهوات عن طبائعها فتتضاعف كل شهوة من اللذة أضعافا بحلاوة الحب فيتعلق القلب بتلك الحلاوة ويشتمل عليه والتزقت النفس بالقلب لما وجدت من اللذة وما يحيط به من نور العظمة حارسا للحب حتى لا يحدث من النفس فتترك الأدب وصار القلب مقيدا بحلاوة المحبة

مثل المدعو إلى دار السلام
مثل المدعو إلى دار السلام فأجاب مثل رجل دعي إلى عرس فأجاب فلما نظر إلى نفسه رأى في نفسه هيئة فعلم أن ليس له مع هذه الهيئة مكان في ذلك العرس ولا يترك للدخول ثمة لأنه نظر إلى شعر وسخ ملتف برأسه ولحيته غيرها الدخان حتى اصفرت وإلى أظافير قد طالت وبراجم قد توسخت ودرنت وثياب دنسة وخلقان ورائحة منكرة ومع هذا كله قد بات في المزابل فانقطع طمعه من أن يترك للدخول في تلك الدار بهذه الهيئة فكيف يطمع أن يدخل دار السلام ودار الجلال مع أوساخ الذنوب وأدناس العيوب ودرن الخطايا ونتن 80 المعاصي وأقذار السيئات وهو يعلم أنه حين يدعى إلى عرس الدنيا أنه يأخذ من شعره وينقي من درنه ويغسل رأسه ولحيته ويقلم أظافيره ويغسل ثيابه ويتطيب وينزين فإذا نظروا إليه مع هذه الهيئة أخذوا بيده وأدخلوه وأجلسوه على الصدر ورقوا به على معالي الوسائد وصاحب العرس عالم بما كان فيه من هيئة بالأمس فيعلم

أن هذا إنما هيأ لعرسه فيكرمه غاية الكرامة
فهذا مثل عبد تائب قد أزال عن نفسه الفضول من كل شيء لم يطلق له الشرع وهي المعاصي وتأدب بأدب الإسلام وتزين بالزهادة والتقوى وتطيب بصدق الباطن من صحة النية وإخلاص العبودية وبذل النفس لله ومحاسن الأخلاق وكان وليا من أولياء الله تعالى على ربه وقد سبقت هذه المحامد مذموماته فغفر له مغفرة لا يبدي له شيئا من سالف سيئاته وجاد عليه بفضله الذي سهل له سبيل الشفاعة في عدد كثير من خلقه
فالذي صار إلى ذلك العرس بتلك الهيئة القبيحة منع في الطريق عن أن يأتي الباب وجلس هنالك ليأخذ من شعره ونشره وكل فضول أتي به فاذا أزال من نفسه تلك الفضول أتي به بعده في المجلس والمائدة فالذي صار إلى العرضة مع هذه الهيئة السيئة منع عن دار السلام وبقي في مجلس الصراط حتى تأخذ النار من شعره ونشره أكلا أكلا وحرقا حرقا كلما احترق عاد كما يرى له حتى يأخذ الحق منه ما وجب له عليه ثم تدركه الرحمة من أرحم الراحمين فيتخلص فيكسى ويطيب فيذهب إلى دار السلام

مثل الذي ينطق بأسماء الله ويدعوه بها ويتلو كتاب الله وليس له نور تلك
الأشياء
مثل الذي ينطق بأسماء الله تعالى ويدعوه بها ويتلو كتاب الله تعالى وليس له نور تلك الأشياء في صدره كمثل شرر الحديدة المحماة إذا ضربت بالمطرقتين فرمت بالشرر ثم ينطفئ من ساعته وليس له لهبان ولا حرارة ولا ضوء يضيء بها
كذا الناطق بهذه الأسماء والتالي لكتاب الله تعالى إذا أخرج الكلمات من صدر تلطخ بالشهوات لا يكون لكلماته من النور ما ينفذ شعاعه فيسطع ضوءه
فالناطق الذي له نور في قلبه كمثل نفاط رمى بنفط وكحريق اشتعل نارا فأحرق ما حوله وسطع ضوءه فأضاء كل شيء وإن لكل حرف من كلامه نورا وما أنزل على عبده فإنما أنزل مع النور فإذا دنا من الصدر استقبلته أدناس الشهوات وظلمة الهوى والحرص والرغبة والكبر والحمية والحسد والبغي والتجير والتعزز والتملق والاقتدار والعلو والتيه والتعظيم رجع النور كأنه يقول هذا ليس بمكاني إنما أحل بصدر طهر عن هذه الظلمات والأقذار فهناك محله ومعدني يقف خارجا يلتمس صدرا بريئا من

هذه الأشياء فمن احتمل علم هذه الأشياء علم الحروف ثم أخذها بالصوت بكلمات فذاك العالم

العلم علمان
أترى ما قاله ( العلم علمان فعلم على اللسان وذاك حجة الله تعالى على خلقه وعلم على القلب فذاك العلم النافع )
فمن احتمل في صدره علم هذه الأشياء بلا نور فهذا علم الذهن تلقاه تعلما وتحفظا فهو على لسانه ولطائف الحروف ومعانيها هو محجوب عنها ومستورة عنه فإذا لفظتها شفتاه وهو الحروف فهو كالشرر يخمد وينطفئ من ساعته فلا يرتفع ولا يضيء الصدور ولا يحرق الشهوات ولا رين الذنوب من خوفه والذي راض نفسه حتى تطهر من تلك الأدناس وزايلته تلك الظلمات فخلا صدره من ذلك فطاب وطرب وطهر فجاء النور فوجد مكانا قد طاب وطهر وطهارته من تقواه من هذه الأشياء في تقواه وطيبه من حياة القربة وذلك أن العبد كلما ازداد طهارة من هذه الأشياء ازداد قربة وكلما ازداد قربة ازداد حياة قلبه لأنه إنما يحيا قلبه بالحي الذي لا يموت
فصاحب هذا إذا وجد ذلك النور مثل هذا الصدر ولج فيه نور

ذلك الكلام فإذا نطق به خرج منه الشعاع الساطع فأحرق ما في الجوف فأضاء البيت بمنزلة ذلك الحريق الذي أحرق ما حوله وأضاء الفضاء فذاك العلم النافع الذي قاله

آدم لما أهبط إلى الأرض
وروي في الحديث أن آدم صلوات الله عليه لما أهبط إلى الأرض ابتلي بالحرث والنسج فقال يا رب شغلتني بهذا وقد كنت أسمع تسبيح الملائكة ومحامدهم فأوحى الله تعالى إليه أن قل الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده فإنك إذا قلت هذا غلبت جميع الخلق في المحامد والتسبيح
دواوين ثلاثة
وإنما غلب الخلق لأن العبد في أثقال النعم ولا ينفك منها إلا بالحمد فيحتاج لكل نعمة إلى حمد ليتخلص منها
و النعم غير وديوان الحساب غير وديوان السيئات غير وديوان مظالم العباد غير فينشر على العبد يوم الحساب دواوين ثلاثة كذا جاءنا عن رسول الله
فكان العبد محتاجا عند كل نعمة إلى حمد فتفضل الله عليه وأعطاه كلمة جامعة تتشعب تلك الكلمة وتتجزأ عدد كل نعمة لله عليه حتى تذهب إلى كل نعمة فتلزمها حتى إذا وقف غدا بين يدي

الله تعالى وينشر عليه ديوان النعمة وجد عند كل نعمة نورا قد لزمها وهو وذلك نور الشكر نطق بحمده ها هنا جملة فتوزع وانقسم بأجزائها على جميع النعم فكأنه يقول جل ذكره على وجه المباهاة ملائكتي هذا عبد خلقته من تراب فبلغ من معرفته إياي أن شكرني على كل نعمة فيرى الملائكة نعمه مع كل نعمة نور قد لزمها وهو نور شكر العبد من تلك النعمة التي قد نطق بها فيقول الله تعالى فهذا للنعمة التي وجهت إلى عبدي وهذا النور الذي وجهه عبدي إلي لما توجهت إليه فعلموا بذلك للعبد على رؤوس الخلائق يومئذ بتلك المباهاة لأنه قال الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده أوفى حمده نعمه فلقي كل نعمة جزء من ذلك الحمد وبقي للمزيد أجزاؤه حتى يكافئه بها يوم المزيد والزيادة فإذا لقيه العبد لقي من نوره وكذا لقيه الحمد ولقيه بأجزاء المكافأة وهو حبه لأن العبد لا يقدر أن يكافئ ربه 81 عن رؤيته والنظر إليه بشيء إلا بحبه إياه فإنما حمده العبد بهذا الحمد الذي له من نور الحب ما يتجزأ فيلحق كل جزء منه كل نعمة من الله تعالى عليه فتلزمها ويلحق أجزاء المزيد فيقوم حتى إذا برز للخلق يوم الزيادة ولقيه العبد بحبه مكافئا لما صنع الرب من رفع الحجاب وإظهار جلاله على عبده فهذه كلمة قد ملأت الدنيا والآخرة فلذلك قال لآدم عليه السلام إذا قلت هذا فقد غلبت جميع ما خلقت فإنما عظم ذلك لأن الكلام حين جاءه جاء مع النور وولج صدره مع

نور الكلام فلما نطق به خرج من النور والشعاع ما وسع النعم أجزاؤه وبقي المكافأة يوم المزيد ما يكون كفاءه والذي لم يتطهر من هذه الأدناس فإنما في صدره من علم الحروف المؤلفة فتلك الكلمة والصوت الذي يبرزها به فإنه قوة لتلك الحروف حتى تتجزأ فيلحق كل نعمة ويلزمها وإنما ثبات العبد على النطق فإنه قد أعمل العبد جوارحه في الطاعات وأثقال النعم والشكر باقية عليه

نشر ديوان النعم
فإذا وقف بين يدي الله تعالى ونشر ديوان النعم وجدت النعم خالية من أنوار الشكر فاستحيى من لهوه وغفلته وبطالته فيبقى في شكر النعمة والنعمة تقتضي شكره فحينئذ إما معذب وإما مغفور فأعطى الله المؤمنين جمل الكلام وأعطاهم شكر النعم كلمة فلحق نورها جميع النعم بأجزائها فصارت كل كلمة مقرونة بها شكر العبد
كلمات أعطاها الله العبد
فأعطاهم لنفي الشك كلمة صارت مقرونة بكل شيء خلقه الله تعالى للعباد نافية للشك عنه وهي كلمة الشهادة لا إله إلا الله محمد رسول الله

وأعطاهم لتنزيهه كلمة سبحان الله فصارت مقرونة بكل مديح إليه فإذا سبحه بحمده فقد أتى بجميع المحامد
وأعطاهم لذلة العبودة كلمة وهي قول الله أكبر فإذا كبره فقد تواضع وألقى بيديه سلما
وأعطاهم للقوة على هذه الأشياء كلمة وهي قول العبد لا حول ولا قوة إلا بالله فإنما تخرج هذه الكلمة من العبد مع نور الكلمة حتى يعمل بعملها ويبلغ مبلغها فإذا قال العبد الحمد لله فإنما هي كلمة جملة فإذا شرط وأشار إلى شيء موصوف فقال حمدا يوافي نعمه خرجت الكلمة بنورها
فمن كان له ذلك النور فتوزعت وانقسمت على جميع نعم الله تعالى فلحقت كل نعمة قسطها فلزمتها فيتخلص من أثقال النعم لأن الله تعالى قال في تنزيله ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )
فإذا عجز العبد عن عد النعم لم يحصها فعلمه كلمة تلحق بأجزائها كل نعمة على حدتها فوافاها حتى اقترنا كل نعمة وشكر العبد مقرون بها لما نطق بهذه الكلمة
وهذا الكلام إنما يخرج من هذه الأفواه حروفا مؤلفة والأنوار

كسوتها معها نزلت للعباد من السماء والعباد متفاوتون في النطق بهذه الكلمة كالشأن في الأنوار

مثل ذلك مثل الخواتيم
ومثل ذلك مثل الخواتيم فليس بين خواتيم الناس كثير تفاوت فإن أكثرها فيما بين مثقال ومثقالين فعامة أوزانها بهذا القدر من الفضة أو من الذهب إنما الشأن في الفصوص التي تباينت جواهرها فرب جوهر فص لخاتم لا يساوي درهما ورب فص تبلغ قيمته آلافا من الدراهم والدنانير فكذا النطق بهذه الكلمات متفاوت في إبرازها لفظا وقراءة ودعاء ولكن التفاوت في المعادن التي فيها هذه الأنوار وعلم هذا الكلام
وتفاوت هذا أكثر من تفاوت الفصوص أضعافا فكلمة تخرج من قلب معدن ذلك القلب الدنيا فذاك يبغى به الثواب وكلمة تخرج من قلب معدن ذلك القلب العقبى وكلمة تخرج من قلب معدن ذلك القلب الملكوت وكلمة تخرج من قلب معدن ذلك القلب مالك الملك بين يديه فإنما استنار قلبه بذلك النور وكل كلام يخرج منه من ذلك النور
مثل الغافل عن الله تعالى
مثل الغافل عن الله تعالى مثل رجل أخذ الملك بيده فطاف به في قصوره وبساتينه ومتنزهاته حتى عاين ما فيها ثم أدخله في خزانته فطاف به فأراه جميع ما في خزانته ثم أفشى إليه أسراره التي تكون في عداد الثواب والدرجات وأسرار تدبير الملك أراد بذلك أن يتعلق قلبه به وتطمئن إليه نفسه ويكون من خواص خدمه بين يديه لا يبرح من الخدمة فتعلق به قلبه واندس في أموره ولزم باب الملك ونسي أحوال نفسه فلو وسع عليه بعد ذلك أو ضيق أو بره أو منعه بره لم يبرح الباب لما اطلع عليه من أسراره لأنه عرفه معرفة لا تتهمه في المنع والضيق
وآخر فتح له الباب فوقف به على الباب ولم يطف به ولا أطلعه على أسراره وبقي على الباب ليس له دخول على الملك ولا معه سر ولا شيء فإذا هذا الشيء أحله هذا المحل خرج من الباب وقام مع ذلك الذي لا يؤذن لهم بهذه الكرامات فأعجب العقلاء من فعل هذا أن الملك اختارك من الجميع وعطف عليك وأظهر عليك محبته وعليك بسط رأفته وشفقته وآثرك على هذا الملإ الكثير فأخذ بيدك من جملتهم واستخرجك وخلصك من بينهم ليطوف بك في قصوره وليطلعك على أسراره واختارك لكشف

أسراره عليك في تدبير المملكة فتركت ما هنالك ووليت معرضا لم تر شيئا وأقبلت على فهم نفسك تتشبه في سيرتك وآدابك وأعمالك بهذا المخذول المطرود المحروم على الباب الذي لم يعبأ به كأن جميع ذلك عندك لا شيء وتركهم كأنهم في مفازة حيارى ثم لم يزالوا في أعمالهم حتى أوقعهم في أرض شاكة ملتفة أشجارها حديدة شوكها فهم في فياف جياع عطاش جرحى من ذلك الشوك والحسك فما الذي يؤمنك أن يرمي بك الملك لتشبهك بهم في آدابهم وسيرتهم فينحيك إلى الباب ويسده عنك حتى تقع في مفازة الحيرة والأرض الشاكة
فربنا جل جلاله خلق دارا فحشاها بالرحمة وملأها بساتين ونعيما ورياضا وقصورا وأعدها لعباده وخلق سجنا فحشاها بسلطانه وغضبه وملأها بعذابه وأعدها للذاهبين برقابهم وأظهر من ملكه في ملكوت عرشه ولا حاجة له إلى شيء من ذلك إنما فعل هذا كله من أجل الآدميين منة 82 فاختار من كل ألف من عباده واحدا ففتح الباب له حتى عاين هذه الأشياء وترك الباقين في مفازة الحيرة الشاكة وهي المعاصي فتردوا في آبار الكبائر وجرف الجبابرة ويرتعون في القاذورات والكناسات فإذا كان هذا الواحد

المختار المفتوح له الباب والمقبول في الدار والمطلع على الخزائن والأسرار أحمق لها عن فتح الباب وعما اطلع عليه ورجا فيه خرج من الدار وأقبل على ظلمات نفسه الخائنة وغرة العدو وأخرجه رويدا رويدا من الباب الذي فتح له فولجه فأبصره بالاستلذاذ وقضاء النهمات والأماني الكاذبة نفسية وشهوانية قد أجلب له حتى تأشر نفسه وتبطر ويمتليء من لذتها والفرح بها فيورثه الأشر والبطر حتى يخرجه إلى ما لم يطلق له من ذلك النوع الذي أحل له ويتعدى حدود الله فيه حتى أشر وبطر وتعدى حدود الله فيها وتجاوزها فقد ظلم نفسه حتى يصير عاديا يسترق من الله نفسه وجوارحه ويعدو هاربا فسماه عاديا في تنزيله بفعله قال الله تبارك وتعالى ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون )
فلا يزال العدو يسوقه في مفاوز الحياة حتى يرمي به إلى النار سوق الحمار الدبر الجوال في أفنية الدور يرتعي في

كناسهم حتى يرمي به إلى الشاكة الملتفة أشجارها وشوكها فسجنه فيها حتى لا يقدر أن يخرج منها كلما اضطرب لزمته حدة الشوك وأوجعته جراحتها وهي الكبائر من الدماء والأموال والبغي والعلو والجرأة على الله تعالى
فكل ما ذكرنا عاين في تلك الفسحة والتفت إليها التفت من بعد وذلك لبعد قلبه فعاين ذلك كالجبال من البعد الذي تباعد فالقلب قلب الموحدين واللسان لسان الموحدين والنفس نفس الكافرين بما تشبه بهم في الأعمال والسيرة
وهذا جزاء من رفع الله لقلبه علما فأعرض عنه وهذا جزاء من أقبل على نفسه بعد كرامة الله تعالى إياه حتى يبقى في العذاب غدا وفي دار الهوان دهرا لا يدري كم أمد ذلك الدهر

المرارات
فذاق مرارة الحياة وذاق مرارة الموت وذاق مرارة القبر وذاق مرارة فتاني القبر وذاق مرارة عرض المعاصي والسؤال والنشور وضيق المقام والصراط والصحف ووزن الأعمال حتى تدركه رحمته يوما أو يكون رجلا قد غلب عليه الشقاء لكفرانه نعم الله تعالى

فمن فتح له الباب فكفر النعمة واستخف المنة وآثر الشهوة ومرضاة النفس فبدل نعمة الله كفرا فأحل قومه دار البوار جهنم يصلونها فبئس القرار
فانقلب فيه منكوسا وسلب ما أعطي وأخرج من الباب إلى الآبار المتردية المنكوسة فيها بلا يد ولا رجل فبقي فيها أبدا فلا داعي ولا مجيب لا يدعوه الله أبدا إلى نفسه ولا يجيبه إن دعاه

اعتمال العقل
ومن رزق عقلا فاعتمل عقله فيما فتح له من الباب فعقد قلبه على طاعة الناصح الرشيد وهو العقل الدال على الله تعالى وعلى مراشد أموره فلم يزل العقل يمهد له ويزين له ويدبره بالأخلاق الكريمة والأعمال السنية والأفعال المرضية والأقوال البهية والإشارات الشهية والمراتب العلية حتى وقفه على حد الأمانة فصار أمين الله تعالى في أرضه يلع سره ومحل

نجواه ومعدن حكمته وخزانة جوهره علت في المرتبة وأقام بالباب يلازم الليل والنهار ولا يبرح مكانه وأخذ من الحظوظ حظا صار عند الملك وجيها كلما شاء دخل عليه بلا إذن وأينما شاء قعد في مجالسه من الاقتراب والدنو فائتمنه على خزانته ووضع عنده تدبيره وأسراره ونفذ حكمه في ملكه فيقسم عليه فيبر قسمه ويتمنى فيسعفه بمناه ويشاء ويريد فيمضي مشيئاته وإراداته وهذا في دار الدنيا حتى إذا قدم عليه فيا له من مقدم لا يحاط بوصفه من سروره بلقاء الله تعالى وتمكنه من معالي الدرجات والمصير إليه في الفردوس الأعلى زائرا لا يحجب في النظر ولا يؤخر ولهذا قال رسول الله ( لا يعجبنكم إسلام أحد حتى تعلموا ما عقدة عقله ) فالإسلام ظاهر وعقده العقل باطن مستور عن الخلق فمن اعتبر بما رأى من ظاهر الإسلام من نفسه أو من غيره فهو مغبون حتى يعلم على أي شيء عقده العقل فواحد قد فتح له الباب ورزقه العقل فاطلع مطلعه وقيل ما عرض عليه ثم ولا يظهره وأقبل على نفسه مكبا على

وجهه لقضاء الشهوات في عاجل الدنيا فصارت عقدة عقله طلب النهمات وأحوال النفس يخادع الله ويعمل في العبودة بالجزاف والغفلة والشايذبوذ على التجويز ويتمنى الكرامات على الله تعالى ومعالي الدرجات ويعد تلك الأماني من نفسه رجاء ويقول أرجو ربي وأحسن الظن به وإنما هو أماني وليس برجاء وقال الله جل ذكره ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا )

مثل معرفة العامة
مثل معرفة العامة مثل رجل في يديه جوهرة فهو متحير في شأنها لا يدري ما قيمتها فمرة يخيل إليه أنها لا تساوي إلا درهما فلا يجد في قلبه كبير فرح ولا في نفسه غناء ومرة يأمل أكثر من ذلك فإذا قيل له إن هذه جوهرة مما يصاب بها وقر من الدنانير امتلأ سرورا وفرحا وانبسطت جوارحه واستغنت نفسه حتى وجد قوة بالغناء في جميع جسده من قبل أن يملك الدنانير ومن قبل أن

ينكشف له الغطاء عن شأنها ماذا يصيب بها كان في قلبه تحير وفي نفسه غائلة وجوارحه منقبضة

قلوب العامة في معرفة ربهم
فكذا قلوب العامة في معرفة ربهم يزعمون أنهم يعرفون ربهم وتلك معرفة التوحيد يوحدونه ولا يشركون به شيئا وهم في عمى من وراء ذلك ولذلك قدر الشيطان أن يهزهم هزا عن الاستقامة في أحوال النفوس ولهوا عن الواحد الذي وحدوه ربا
ومن عرفه معرفة الآلاء ومعرفة المعروفات امتلأ قلبه فرحا ونفسه غنى بمنزلة من دخل بيتا مظلما ممتلئا دنانير فهو في تلك الظلمة متحير ضعيف فلما أضاء البيت أبصر تلك الدنانير التي في البيت واستغنى استغناء بحيث لا يضره ما فاته 83 وما أصيب منه من الضرر والمصائب
قال له قائل وما معروفاته
معروفات الله جل جلاله
قال جلاله وجماله وعظمته وبهاؤه وبهجته ورحمته وسلطانه ومجده ومننه وعطفه وغناه وسعته وكرمه ورأفته فمن

عرف ربه بهذه المعرفة امتلأ قلبه فرحا ونفسه غنى وقويت جوارحه وفسح أمله وعظم رجاؤه واستغنى بغنى الله وتوسع في سعة الله واجتمعت هممه وصلب إيمانه واستقام هداه وثبت ركنه ووفى إسلامه وصدقت عبودته وشرف ذكره في العلا ونبل جاهه وكان من المختصين برحمته المهديين بولاية الله تعالى
وهذه المعروفات كلها في حظ النفس فمتى لم تعرف النفس ربها بهذه الصفات فهي متحيرة فقيرة خاملة مغترة ذابلة

مثل موت واحد من المؤمنين
مثل موت واحد من المؤمنين مثل شهود شهدوا عند الحاكم فنقص من عددهم واحد إما برجوع أو بغيبة منها وإما برجوعه عنها فكلما نقص منهم واحد زاد الوهن في ذلك الأمر وذلك أن الله تبارك اسمه خلق الآدمي وأحله محلا لم يحله لأحد من خلقه وسخر له ما في السموات وما في الأرض وسماهم باسمين في تنزيله دل الإسمان على محله أحدهما الآدمي والآخر حبيب
فأما آدم فهو الوصل يقال في اللغة آدمني أي وصلني وكذا سمي الإدام إداما أي يوصل ذلك الخبز

وروي أن النبي أخذ كسرة خبز بيمينه وتمرا بشماله فأكلهما وقال هذه إدام هذه أي هذه التمرة وصلة بهذه الكسرة
فآدم عليه السلام خلقه الله بيده وقربه بباء الوصلة فقال خلقت بيدي والباء للوصل وسماه آدم في تنزيله وسمى أولاده آدميين بهذا الاسم فقال ( يا بني آدم ) ثم سماه إنسانا وسمى أولاده الناس فقال ( لقد خلقنا الإنسان ) لأنه لما خلق من الطين أنس به وبقربه فبقيت تلك الأنسية فينا فليس أحد من أولاده بر ولا فاجر إلا يأنس بربه في المنافع والمضار وإليه يلجأ وإليه يفزع وبذكره يأنس في جميع أحواله وأموره إلا أنه إذا وجد بغيته وأدرك نهمته من حاله اشتغل بالحاجة والبغية ولها عنه إلا عصابة من الموحدين

أولياء الله تعالى
وهم أولياء الله الذين عجن طينتهم بحبه فأشربت قلوبهم

حبه فهم الذين بغيتهم في الدارين مولاهم وخالقهم ومليكهم قد ملك حبه قلوبهم ولا يقدر شيء دونه أن يملكهم

طائفة أخرى
فأما من دونهم من المؤمنين فطائفة منهم أقرت بتوحيده وقبلت العبودة صدقا من قلوبهم ثم ملكتهم نفوسهم الشهوانية حتى خلطوا العبودة فمرة تزل قدمه ومرة تثبت فتراه في جميع أمره مرة مطيعا ومرة عاصيا مرة لاهيا ومرة مقبلا
وطائفة نافرة
وطائفة منهم نفرت نفرة منكرة وأدبرت عن عبادته وأقبلت على عبادة من دونه من الشمس والقمر وسائر المخلوقين وأشركوا بالله تعالى في ملكه
الثابت على التوحيد
فمن ثبت على توحيده وقبل ما جاء به الرسول سماه مؤمنا ومسلما وتائبا وعابدا وحامدا وصائما وراكعا وساجدا وشاكرا وصابرا ومحتسبا وخالصا ووليا
المدبر الذي ركب بعض شهواته
ومن أدبر بالكلية سماه مفسدا وكافرا
ومن ركب بعض شهواته وقلبه معه سماه ظالما لنفسه مخلطا ثم ذكر في تنزيله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب المتقين ويحب الشاكرين ويحب الصابرين ويحب المحسنين والله ولي المؤمنين
وقال في حق المدبرين إن الله لا يحب الكافرين لا يحب الظالمين لا يحب المفسدين
فسمانا في تنزيله أحباء مع جميع هذه الأسماء التي هي محاسن الأخلاق منا فخلق هذا الخلق كله علوا وسفلا وخلقنا من قبضة من تراب فوضعنا فيما بين هذين سبعة أطباق من فوق وسبعة أطباق من تحت والأطباق المرفوعة من فوق معلقة بالرحمة والأطباق من تحت موضوعة على الهباء
في بيان الهباء
قال له قائل ما الهباء قال غبار الثرى

وجعل الطبق الأعلى الذي نحن عليه لنا بساطا وزين لنا هذا البساط بألوان الزينة من الذهب والفضة من الجبال والجواهر والبحار والنبات من القفار ذات ألوان من المطاعم والمشارب والملابس والمشام وسائر المنافع والدواب وسائر الحيوان ثم بسط على هذا البساط بساط العبودة من الذكر والقيام والركوع والسجود والصيام والصدقة والحج والجهاد وسائر أعمال البر والطاعات ثم بسط على هذين البساطين بساطا آخر وهو بساط الربوبية والتدبير ثم أقامنا معاشر ولد آدم على بساط الهباء ودعانا إلى دار ملكه ودار السلام في جواره ودار القرار ودار السكون ودار السرور وقد نشر بساط العبودة على بساط الزينة فكلما قطعنا من بساط العبودة شبرا وتخطيناه وطويناه حتى ننتهي إلى الأجل الذي أجل لنا والوقت الذي وقت لنا فدعانا اسما اسما دعوة لا يقدر أحد منا أن يمتنع من الإجابة وقد طوى من بساط العبودة ما طوى فتلقى الله تعالى به في تلك العرضة يوم الموقف بين يديه

من أراد الله به خيرا
فمن أراد الله به خيرا قذف في قلبه نورا أحيا قلبه به ففتح عيني فؤاده في صدره ثم أشرق فيه نور التوحيد حتى أنار قلبه وأضاء ثم أعطاه نور العقل حتى بان له أمر العبودة فقبلها عن ربه إنما يأتمر بجميع ما يأتيه عن الله وينتهي عن جميع ما نهاه

الله تعالى عنه ثم اقتضاه الوفاء بذلك فوقع العبد في كد ومجاهدة النفس الشهوانية والعدو الحاسد والهوى المردي فلم يزل العبد يتشمر لذلك ويجتهد ويداوم على ذلك ويقاسي غمومه وعسره ويتضرع إلى الله تعالى ويستغيث به حتى يرحمه فأجاب دعوته فأيده بروح منه
فلما جاءت تلك الأنوار على قلبه سقط عنه الجهد واستراح من المجاهدة وذلك قوله تعالى ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض )
فجعله وليا من أولياء وخليفة من خلفاء أرضه وإماما من أئمة الهدى وحبيبا من أحبائه وذلك قوله تعالى ( إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي )
فالمرحوم صفته ما ذكرنا ومن سقط عن هذه الصفة فهو مرحوم أيضا بالتوحيد حيت أنقذه من الشرك ومن عليه بهداية التوحيد وقال ( يهدي الله لنوره من يشاء )
فلما خلق الله تعالى 84 هذا الخلق ابتدأ خلق هذه القبضة

من تراب شهد بنفسه لنفسه أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة بذلك وشهد أولو العلم من الآدميين بذلك ثم أنار شهادته في قلوب الموحدين حتى شهدوا على شهادته عالمين بالشهادة موقنين به عالمين بالمشهود له وذلك قوله تعالى ( إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ) فهم بأجمعهم أهل رحمته وأهل رأفته وأحبابه سابقهم ومقتصدهم وظالمهم

السابق والمقتصد والظالم
فمن مات منهم ظالما كان أو مقتصدا أو سابقا فكلهم حبيب الله ومأثوره ومختاره ومرحومه ومرؤوفه وموحده وشاهده في الأرض فمتى مات واحد منهم فقد نقص من أهل شهادته شاهد فقد حل بعقدة الوهن في أهل السموات والأرض والجبال والبحار والشجر والدواب والخلق والخليقة والكل إنما استقر

على الأرض بتوحيد الموحدين وذلك قول الله تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين )
وروي في الخبر ( أن الله تعالى قال يا موسى لولا من يوحدني لسيلت جهنم على الكافرين سيلا )
وإنما دخل الوهن عليهم لأن كل مؤمن رفع من الأرض انقطعت حصته من الرحمة وانقطع مدده من البركة
فإذا افتقدت السموات والأرض الرحمة الدارة من العلي إلى العبد والبركة المنتشرة في أحوال العبد وأموره بكت السموات والأرض
وإذا افتقدت العبودة السموات والأرض ومن عبده على وجه الأرض وأنوار الطاعات المنتشرة من العبد إلى الله تعالى في جو السماء بكتا لفقده

مثل المتكل على ماله
مثل المتكل على ماله مثل عبد أعطاه مولاه رأس مال ليتصرف ويتجر والريح للعبد فضرب العبد بهذا المال يمينا وشمالا

وتصرف في أنواع التجارات والبضائع فباع واشترى فصار هذا المال كله نسيئة وإذا نظر في الديوان رأى أن على فلان كذا وعلى فلان كذا وعلى فلان كذا فتجمع ألوف أضعاف رأس المال كلها نسيئة فإذا كان أحمق طابت نفسه بالآلاف التي يحصيها واتكل عليها ولا ينظر إلى ما تحصل له في يده فكم من غريم بايعته على الوفاء وهو عندك ملي فإذا أتى على ذلك مدة ظهر إفلاسه ولوى ما عليه فلم يحصل له منه إلا كتابة اسمه في ديوانك وتقدير ما عليه حسابا وربما يحصل منه شيء وذهب بشيء فأنت على غير ثقة من غرمائك حتى تقبض منه وتنقد بعض القبض وتستيقن بأنها خيار تنفق في كل سوق إلا في سوق الوضح التي لا تباع ولا تشترى إلا بالدراهم الوضح
فالعبد المؤمن قد أعطاه الله تعالى رأس المال وهو الإيمان والتوحيد وأمره أن يتجر بأنواع من الطاعات وأعمال البر والأرباح لك لتنفق على نفسك يوم فقرك فإذا اتجر وربح من الصوم والصلاة والزكاة والحج وسائر أعمال البر فهذه الأعمال كلها كأولئك الغرماء

الذين يرجو أرباحهم التي ربح على رأس ماله أي أعمال الطاعات كلها ربح التوحيد والتوحيد رأس المال لا يقبل عمل إلا به ومنه يخرج ربح المؤمن لإنه لم يتبين القبول فهو على غرر منه فإذا اتكل على هذه وحوسب يوم الحساب وحصل ما في الصدور وطولب بالصدق والإخلاص منها فلم يوجد في كثير منها الصدق والإخلاص فرضي بذلك العمل فكان كهذا الغريم الذي ظهر هاهنا إفلاسه فلم ينل منه ربحا وخيف على رأس ماله أيضا لأنه عمل لغير الله تعالى واستهزأ بأمر الله تعالى وآثر دنياه وهوى نفسه على محبوب الله تعالى ومختاره فهذا كهؤلاء الغرماء الذي ظهر هاهنا إفلاسهم فلم يبق في أيديهم إلا ديوان الكتبة
فالعبد إن كان كيسا يبيع ويشتري نقدا بربح يسير لأن اليسير من الربح مع قيام رأس المال خير من الربح الكثير مع هلاك رأس المال أو إذا باع نسيئة يأخذ بالثقة وعامل الغرماء بالوثائق إما الرهن أو الكفالة على مليء واستقصى النظر ثم لم يقنعه ذلك فهو أبدا خائف من أن يضيع رأس المال وربما غرق في الربح للنسيئة ومع ذلك الخطر باق وذلك لأنه ربما يهلك الرهن فيهلك

بما فيه من الدين أو يموت الكفيل أو يغيب غيبة منقطعة فيهلك ماله
فكذا من عامل في الطاعات ووقع في الأهواء مثل القدرية والجبرية والمعطلة والمشبهة فغرق رأس مالهم في أرباحهم فصارت كلها نسيئة من غير ثقة ولا ملاء
فالكيس لما رأى ذلك قال إني لا أبايع ولا أتاجر أحدا إلا برهينة وكفيل ووثائق فالقليل من الربح مع وفارة رأس المال خير من كثير الأرباح مع تضييع رأس المال فإذا المال والأرباح قد ذهبت كلها لأنها صارت في غير ملاءة ولا ثقة فإن هذه الأرباح كلها على خطر فينبغي أن يكون كفيله ثقة مجانب الأهواء
وكن على حذر وتقوى من الاستماع إلى كلامهم فإنه كله هلاك وتوى والزم السواد الأعظم الذي أشار إليه صاحب الشرع واتبع سبيله فقد أمرنا الله تعالى في تنزيله بذلك فقال جل ذكره ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة )

فالأسوة الحسنة اتباع كتاب الله تعالى وسنة رسوله وسنن خلفائه الراشدين المهديين الذين قضوا بالحق وبه يعدلون
وقد قال في خطبته ( إنكم سترون من بعدي اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء من بعدي عضوا عليها بالنواجذ )
فاتكال الكيس على رحمة الله تعالى الذي أعطى منها رأس المال فتلك رهينته ووثيقته وحسن ظنهم بالله تعالى كفيله فأوفرهم من حسن الظن به أقواهم كفيلا وأملؤهم أداء ومقتضيه من غرمائه دعواته وتضرعه إلى الله تعالى
فعليك بحفظ الرهن لئلا يهلك فتذهب بدينك واحبس الكفيل لئلا يغيب فيذهب بما عليه وعليك بالتقاضي كل يوم بالدعاء والتضرع والبكاء بالنيات الخالصة لتجاب

مثل حركات المؤمن
مثل حركات المؤمن مع الحفظة مثل رجل له حرفاء في

السوق ينفق ماله فيما يظهر فيه حاجة من السوق يأخذ من الخباز الخبز ومن القصاب اللحم ومن البقال الحوائج ومن الآخر الفواكه 85 ومن البزاز ما يحتاج إليه فهم يكتبون حسابهم فإذا أهل الهلال وأخرجوا عليه حسابا جما وديوانا طويلا فإن قضى ما عليه على رأس كل شهر تخف عليه المؤونة وهنئت له النعمة وإن تغافل عن ذلك حتى توالت عليه وظائف الشهور والسنين غرق في الدين
كذا العبد بين نعم كثيرة وديون كثيرة والحق يقتضيه شكر كل نعمة والعدل يقتضيه الاستغفار والإنابة من كل خطيئة فإذا كان العبد منتبها حيي القلب أخذ لكل نعمة حمدا ولكل خطيئة توبة واستغفارا حتى تخف عنه السيئات وأثقال النعم ويمحي ما في الديوان
وإن تغافل عن ذلك وحمد حمد الغافلين واستغفر استغفار السكارى على العادة خرج الحمد والاستغفار منه ولم يجد

مساغا لأنه ليس بقلبه طريق إلى الله تعالى والطريق مسدود بالهوى والشهوات رجع الحمد والاستغفار إلى فمه وتراكمت أثقال النعم وأدناس الذنوب على القلب فغرقته فصار القلب غريقا في الذنوب كالذي ضربنا له في المثل وكالذي يغرق في الماء ولم يجد متعلقا به ولا تخلصا يحصل به الخلاص فيغرق ويهلك فيرجع إلى أنفاسه لا يجد متنفسا فيموت غرقا ومن كان لقلبه طريق إلى الله تعالى وجد حمده واستغفاره مساغا إلى محل الحمد والاستغفار فوقعت في محله ومرتبته فخفت عليه الأثقال وصار كنهر وجد مساغا فجرى بسلاسة وإن لم يجد مساغا تراجع الماء فصار بحرا يغرق فيه صاحبه

مثل العمال بطاعة الله تعالى
مثل العمال بطاعة الله تعالى مثل ملك له عبيد اختارهم للخدمة بين يديه على مرأى العين فمن استحلى منهم خدمته يظهر ذلك في حليته وكسوته فواحد بين يديه في قرطق واحد ومنطقه وغيره يدرج بين يديه على قدميه

وآخر مع قراطق كثيرة بعضها على بعض من بين ديباج وحرير وساج وكتان لون على لون ومنطقة ذهب فيها فصوص وجواهر كل فص له ثمن نفيس وإكليل كمثلها وبيده ضبائر الريحان من كل لون من الورد والبان والياسمين يفوح منه ريح المسك
فعين هذا الملك على مثل هذا الخادم فإذا سار بين يديه سار على موكبه بحرسه ولوائه
فإنما نال هذه الرتبة والمحل والتمكين لأنه استحلى صورته وخلقته وهيئته وخدمته وأدبه وكياسته وظرفه ومحاسن أفعاله وطهارة خلقه ولو كان دميما في خلقته سمجا أبله في أخلاقه سيء الخلق كسلان الخدمة لم ينل من هذه المرتبة شيئا إلا ما يقيه من الحر والبرد ويستر عورته ويشبع بطنه
فكذا العمال بطاعة الله تعالى إنما يعملون بإذن ربهم فمن كان طاهر الخلق كيس الذهن فطن الفهم عاقل اللب ذا حظ من الحكمة كان الإذن له بين يدي الملك أوسع وأكبر وكان كالعبد الذي تلونت كسوته وزينته بين يدي الملك فإنما كساه الملك بهذه الألوان لأنه وجده بحيث يليق به هذه الألوان كلها وأعطاه ضبائر

الريحان لنزاهته وطيبه وكياسته فهذا العبد بطهارة خلقه وصفاء قلبه ووقارة عقله وإدراك حكمته سقاه الملك الأعلى شربة من كأس حبه حتى سكر عقله عن جميع أحوال النفس حتى صار كل أموره من المحبوب والمكروه عنده حلوا يجد ثمرة الحب فبكياسة ذهنه أدرك دقائق الحكمة وبفهمه وفطنته بلغ محل الخدمة وعرف أوقات الملك وأوقات الأشياء فإن الخدمة ذات ألوان وفنون وبعقله ولبه عظم أمرها وصانها وبحكمته أمسكها الله تعالى فهذا الكيس الفطن الذي إذا نال الحكمة نظر إلى عمل من أعمال البر فيقول ما هذا ففهم أن هذا محبوب الله تعالى قام إلى ذلك محتسبا
قال له قائل بين واحد من هذا حتى نفهم
قال إن الله تعالى أمرنا بالصلاة والصوم وغيرهما فإذا نظر الكيس بنور الحكمة أن في الصلاة أمره وفيها قيام بين يديه ودله عليه علم بفهمه وحكمته أنها محبوب الله تعالى فهل أحب قيامي بين يديه إلا من أجل أنه أحبني فبحبه إياي أعطاني موطن القيام بين يديه فاطلع بفهمه على أمر عظيم يستدل بذلك على أنه حبيبه ومن حبه أحب كونه بين يديه فإذا فهم هذا كانت صلاته قرة عينه وخروجه عنها مصيبة عظيمة وكذا في كل نوع من أنواع البر هذا

أقسام الكتاب
1 2