كتاب : تاريخ الخلفاء
المؤلف : عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطيي
الأحاديث الواردة في فضله
قال الإمام أحمد بن حنبل : ما ورد لأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من الفضائل ما ورد لعلي رضي الله عنه أخرجه الحاكمو أخرج الشيخان [ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال : يا رسول الله تخلفني في النساء و الصبيان فقال : أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى ؟ غير أنه لا نبي بعدي ] أخرجه أحمد و البزار من حديث أبي سعد الخدري و الطبراني من حديث أسماء بنت قيس و أم سلمة و حبشي بن جنادة و ابن عمر و ابن عباس و جابر بن سمرة و البراء بن عازب و زيد بن أرقم
و أخرجا [ عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يوم خيبر : لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها ؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم يرجو أن يعطاها فقال : أين علي بن أبي طالب ؟ فقيل : هو يشتكي عينيه قال : فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه و دعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية ] يدوكون : أي يخوضون و يتحدثون
و قد أخرج هذا الحديث الطبراني من حديث ابن عمر و علي و ابن ليلى و عمران بن حصين و البزار من حديث ابن عباس
و أخرج مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال : لما نزلت هذه الآية : { ندع أبناءنا وأبناءكم } [ دعا رسول الله صلى الله عليه و سلم عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال : اللهم هؤلاء أهلي ]
و أخرج الترمذي [ عن ابن سريحة أو زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ]
و أخرج أحمد عن علي و أبي أيوب الأنصاري و زيد بن أرقم و عمر ذي مر و أبو يعلى عن أبي هريرة و الطبراني عن ابن عمر و مالك بن الحويرث و حبشي بن جنادة و جرير و سعد بن أبي وقاص و أبي سعيد الخدري و أنس و البزار عن ابن عباس و عمارة و بريدة و في أكثرها زيادة : [ اللهم وال من والاه و عاد من عاداه ]
و لأحمد عن أبي الطفيل قال : جمع علي الناس سنة خمس و ثلاثين في الرحبة ثم قال لهم : أنشد بالله كل امرئ مسلم سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول يوم غدير خم ما قال لما قام فقام إليه ثلاثون من الناس فشهدوا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه ]
و أخرج الترمذي و الحاكم و صححه [ عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن الله أمرني بحب أربعة و أخبرني أنه يحبهم قيل : يا رسول الله سمهم لنا قال : علي منهم ـ يقول ذلك ثلاثا ـ و أبو ذر و المقداد و سلمان ]
و أخرج الترمذي و النسائي و ابن ماجه [ عن حبشي بن جنادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : علي مني و أنا من علي ]
و أخرج الترمذي [ عن ابن عمر قال : آخى رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه فقال : يا رسول الله آخيت بين أصحابك و لم تؤاخ بيني و بين أحد فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنت أخي في الدنيا و الآخرة ]
و أخرج مسلم عن علي قال : و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن و لا يبغضني إلا منافق
و أخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال : كنا نعرف المنافقين ببغضهم عليا
و أخرج البزار و الطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله و أخرج الترمذي و الحاكم [ عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أنا مدينة العلم و علي بابها ] هذا حديث حسن على الصواب لا صحيح كما قال الحاكم و لا موضوع كما قال جماعة منهم ابن الجوزي و النووي و قد بينت حاله في التعقبات على الموضوعات
و أخرج الحاكم و صححه [ عن علي قال بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى اليمن فقلت : يا رسول الله بعثتني و أنا شاب أقضي بينهم و لا أدري ما القضاء فضرب صدري بيده ثم قال : اللهم أهدي
قلبه و ثبت لسانه فو الذي فلق الحبة ما شككت في قضاء بين اثنين ] و أخرج ابن سعد عن علي أنه قيل له : مالك أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثا ؟ قال : إني كنت إذا سألته أنبأني و إذا سكت إبتدأني
و أخرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال عمر بن الخطاب : علي أقضانا
و أخرج الحاكم عن ابن مسعود رضي الله عنهما قال : كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي
و أخرج ابن سعد عن ابن عباس قال : إذا حدثنا ثقة عن علي بفتيا لا نعدوها
و أخرج عن سعيد بن المسيب قال : كان عمر بن الخطاب يتعوذ بالله من معضلة ليس فيها أبو حسن
و أخرج عنه قال : لم يكن أحد من الصحابة يقول [ سلوني ] إلا علي و أخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال : افرض أهل المدينة و أقضاها علي ابن أبي طالب
و أخرج عن عائشة رضي الله عنها أن عليا ذكر عندها فقالت : أما إنه أعلم من بقي بالسنة
و قال مسروق : انتهى علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمر و علي و ابن مسعود و عبد الله رضي الله عنهم
و قال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة : كان لعلي ما شئت من ضرس قاطع في العلم و كان له البسطة في العشيرة و القدم في الإسلام و العهد برسول الله صلى الله عليه و سلم و الفقه في السنة و النجدة في الحرب و الجود في المال
و أخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف [ عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الناس من شجر شتى و أنا و علي من شجرة واحدة ]
و أخرج الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ما أنزل الله { يا أيها الذين آمنوا } إلا و علي أميرها و شريفها و لقد عاتب الله أصحاب محمد في غير مكان و ما ذكر عليا إلا بخير
و أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي
و أخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : نزلت في علي ثمانمائة آية
و أخرج البزار [ عن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لعلي لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري و غيرك ]
و أخرج الطبراني و الحاكم و صححه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا غضب لم يجترىء أحد أن يكلمه إلا علي
و أخرج الطبراني و الحاكم [ عن ابن مسعود رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : النظر إلى علي عبادة ] إسناده حسن
و أخرج الطبراني و الحاكم أيضا من حديث عمران بن حصين
و أخرج ابن عساكر من حديث أبي بكر الصديق و عثمان بن عفان و معاذ ابن جبل و أنس و ثوبان و جابر بن عبد الله و عائشة رضي الله عنهم
و أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال : كانت لعلي ثمان عشرة منقبة ما كانت لأحد من هذه الأمة
و أخرج أبو يعلى عن أبي هريرة قال : قال عمر بن الخطاب : لقد أعطى علي ثلاث خصال لأن تكون لي خصلة منها أحب إلي من أن أعطى حمر النعم فسئل و ما هن ؟ قال : تزوجه ابنته فاطمة و سكناه المسجد لا يحل لي فيه ما يحل له و الراية يوم خيبر
و روى أحمد بسند صحيح عن ابن عمر نحوه
و أخرج أحمد و أبو يعلى بسند صحيح عن علي قال : ما رمدت و لا صدعت منذ مسح رسول الله صلى الله عليه و سلم وجهي و تفل في عيني يوم خيبر حين أعطاني الراية و أخرج أبو يعلى و البزار [ عن سعد بن أبي وقاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من آذى عليا فقد آذني ]
و أخرج الطبراني بسند صحيح [ عن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : من أحب عليا فقد أحبني و من أحبني فقد أحب الله و من أبغض عليا فقد أبغضني و من أبغضني فقد أبغض الله ]
و أخرج أحمد و الحاكم و صححه [ عن أم سلمة سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من سب عليا فقد سبني ]
و أخرج أحمد و الحاكم بسند صحيح [ عن ابن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لعلي : إنك تقاتل على القرآن كما قاتلت على تنزيله ]
و أخرج البزار و أبو يعلى و الحاكم [ عن علي قال : دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا علي إن فيك مثلا من عيسى أبغضته اليهود حتى بهتوا أمه و أحبته النصارى حتى أنزلوه بالمنزل الذي ليس به ] ألا و إنه يهلك في اثنان : محب مفرط يفرطني بما ليس في و مبغض مفتر يحمله شنآني على أن يبهتني
و أخرج الطبراني في الأوسط و الصغير [ عن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول علي مع القرآن و القرآن مع علي لا يفترقان حتى يردا علي الحوض ]
و أخرج أحمد و الحاكم بسند صحيح [ عن عمار بن ياسر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعلي : أشقى الناس رجلان : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة و الذي يضربك يا علي على هذه ـ يعني قرنه ـ حتى تبتل منه هذه ـ يعني لحيته ] و قد ورد ذلك من حديث علي و صهيب و جابر بن سمرة و غيرهم
و أخرج الحاكم و صححه [ عن ابن سعد الخدري قال : اشتكى عليا فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيبا فقال : لا تشكو عليا فو الله إنه لأخيشن في ذات الله أو في سبيل الله ]
مبايعته بالخلافة
قال ابن سعد : بويع علي بالخلافة الغد من قتل عثمان بالمدينة فبايعه جميع من كان بها من الصحابة رضي الله عنهم و يقال : إن طلحة و الزبير بايعا كارهين غير طائعين ثم خرجا إلى مكة و عائشة رضي الله عنها بها فأخذاها و خرجا بها إلى البصرة يطلبون بدم عثمان و بلغ ذلك عليا فخرج إلى العراق فلقي بالبصرة طلحة و الزبير و عائشة و من معهم و هي وقعة الجمل و كانت في جمادى الآخر سنة ست و ثلاثين و قتل بها طلحة و الزبير و غيرهما و بلغت القتلى ثلاثة عشر ألفا و أقام علي بالبصرة خمس عشرة ليلة ثم انصرف إلى الكوفة ثم خرج عليه معاوية بن أبي سفيان و من معه بالشام فبلغ عليا فسار إليه فالتقوا بصفين في صفر سنة سبع و ثلاثين و دام القتال بها أياما فرفع أهل الشام المصاحف يدعون إلى ما فيها مكيدة من عمرو بن العاص فكره الناس الحرب و تداعوا إلى الصلح و حكموا الحكمين فحكم علي أبا موسى الأشعري و حكم معاوية عمرو بن العاص و كتبوا بينهم كتابا على أن يوافوا رأس الحول بأذرح فينظروا في أمر الأمة فافترق الناس و رجع معاوية إلى الشام و علي إلى الكوفة فخرجت عليه الخوارج من أصحابه و من كان معه و قالوا : لا حكم إلا الله و عسكروا بحروراء فبعث إليهم ابن عباس فخاصمهم و حجهم فرجع منهم قوم كثير و ثبت قوم و ساروا إلى النهروان فعرضوا للسبيل فسار إليهم علي فقتلهم بالنهروان و قتل منهم ذا الثدية و ذلك سنة ثمان و ثلاثين و اجتمع الناس بأذرح في شعبان من هذه السنة و حضرها سعد بن أبي وقاص و ابن عمر و غيرهما من الصحابة فقدم عمرو أبا موسى الأشعري مكيدة منه فتكلم فخلع عليا و تكلم عمرو فأقر معاوية و بايع له فتفرق الناس على هذا و صار علي في خلاف من أصحابه حتى صار يعض على أصبعه و يقول : أعصى و يطاع معاوية ؟ !و انتدب ثلاثة نفر من الخوارج : عبد الرحمن بن ملجم المرادي و البرك بن عبد الله التميمي و عمرو بن بكير التميمي فاجتمعوا بمكة و تعاهدوا و تعاقدوا ليقتلن هؤلاء الثلاثة : علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص و يريحوا العباد منهم فقال ابن ملجم : أنا لكم بعلي و قال البرك : أنا لكم بمعاوية و قال عمرو بن بكير : أنا أكفيكم عمرو بن العاص و تعاهدوا على أن ذلك يكون في ليلة واحدة ليلة حادي عشر أو ليلة سابع عشر رمضان ثم توجه كل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه فقدم ابن ملجم الكوفة فلقي أصحابه من الخوارج فكاتمهم ما يريدون إلى ليلة الجمعة سابع عشر رمضان سنة أربعين فاستيقظ علي سحرا فقال لابنه الحسن رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت يا رسول الله ما لقيت من أمتك من الأود و اللدد ؟ فقال لي : ادع الله عليهم فقلت : اللهم أبدلني بهم خيرا لي منهم و أبدلهم بي شرا لهم مني و دخل ابن الذباح المؤذن على علي فقال : الصلاة فخرج علي من الباب ينادي : أيها الناس الصلاة الصلاة فاعترضه ابن ملجم فضربه بالسيف فأصاب جبهته إلى قرنه و وصل إلى دماغه فشد عليه الناس من كل جانب فأمسك و أوثق و أقام علي الجمعة و السبت و توفي ليلة الأحد و غسله الحسن و الحسين و عبد الله بن جعفر و صلى عليه الحسن و دفن بدار الإمارة بالكوفة ليلا ثم قطعت أطراف ابن ملجم و جعل في قوصرة و أحرقوه بالنار هذا كله كلام ابن سعد و قد أحسن في تلخيصه هذه الوقائع و لم يوسع فيها الكلام كما صنع غيره لأن هذا هو اللائق بهذا المقام قال صلى الله عليه و سلم : [ إذا ذكر أصحابي فأمسكوا ] و قال : [ بحسب أصحابي القتل ]
و في المستدرك عن السدي قال : كان عبد الرحمن بن ملجم المرادي عشق امرأة من الخوارج يقال لها : قطام فنكحها و أصدقها ثلاثة آلاف درهم و قتل علي و في ذلك قال الفرزدق :
( فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة ... كمهر قطام من فصيح و أعجم )
( ثلاثة آلاف و عبد و قينة ... و ضرب علي بالحسام المصمم )
( فلا مهر أغلى من علي و إن غلا ... و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم )
قال أبو بكر بن عياش : عمي قبر علي لئلا ينبشه الخوارج
و قال شريك : نقله ابنه الحسن إلى المدينة
و قال المبرد عن محمد بن حبيب : أول من حول من قبر إلى قبر علي رضي الله عنه
و أخرج ابن عساكر عن سعيد بن عبد العزيز قال : لما قتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه حملوه ليدفنوه مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فبينما هم في مسيرهم ليلا إذ ند الجمل الذي هو عليه فلم يدر أين ذهب ؟ و لم يقدر عليه قال : فلذلك يقول أهل العراق : هو في السحاب و قال غيره : إن البعير وقع في بلاد طيء فأخذوه فدفنوه
و كان لعلي حين قتل ثلاث و ستون ستة و قيل : أربع و ستون و قيل : خمس و ستون و قيل : سبع و خمسون و قيل : ثمان و خمسون و كان له تسع عشرة سرية
نبذ من أخباره و قضاياه
قال سعيد بن منصور في سننه : حدثنا هشيم حدثنا حجاج حدثني شيخ من فزارة سمعت عليا يقول : الحمد لله الذي جعل عدونا يسألنا عما نزل به من أمر دينه ! إن معاوية كتب إلي يسألني عن الخنثي المشكل فكتبت إليه أن يورثه من قبل مباله و قال هيشم عن مغيرة عن الشعبي عن علي مثلهو أخرج ابن عساكر عن الحسن قال : لما قدم علي البصرة قام إليه ابن الكواء و قيس بن عبادة فقالا له : ألا تخبرنا عن مسيرك هذا الذي سرت فيه تتولى على الأمة تضرب بعضهم ببعض ؟ أعهد من رسول الله صلى الله عليه و سلم عهده إليك ؟ فحدثنا فأنت الموثوق المأمون على ما سمعت فقال : أما أن يكون عندي عهد من النبي صلى الله عليه و سلم في ذلك فلا و الله لئن كنت أول من صدق به فلا أكون أول من كذب عليه و لو كان عندي من النبي صلى الله عليه و سلم عهد في ذلك ما تركت أخا بني بن مرة و عمر بن الخطاب يقومان على منبره و لقاتلهما بيدي و لو لم أجد إلا بردي هذا و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقتل قتلا و لم يمت فجأة مكث في مرضه أياما و ليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس و هو يرى مكاني
و لقد أرادت امرأة من نسائه أن تصرفه عن أبي بكر فأبى و غضب و قال أنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر يصلي بالناس فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه و سلم نظرنا في أمورنا فاخترنا لدنيانا من رضيه نبي الله صلى الله عليه و سلم لديننا و كانت الصلاة أصل الإسلام و هي أمير الدين و قوام الدين فبايعنا أبا بكر و كان لذلك أهلا لم يختلف عليه منا اثنان و لم يشهد بعصنا على بعض و لم تقطع منه البراءة فأديت إلى أبي بكر حقه و عرفت له طاعته و غزوت معه في جنوده و كنت آخذ إذا أعطاني و أغزوا إذا أغزاني و أضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما قبض تولاها عمر فأخذها بسنة صاحبه و ما يعرف من أمره فبايعنا عمر و لم يختلف عليه منا اثنان و لم يشهد بعضنا على بعض و لم تقطع منه البراءة فأديت إلى عمر حقه و عرفت له طاعته و غزوت معه في جيوشه و كنت آخذ إذا أعطاني و أغزو إذا أغزاني و أضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما قبض تذكرت في نفسي قرابتي و سابقتي و سالفتي و فضلي و أنا أظن أن لا يعدل بي و لكن خشي أن لا يعمل الخليفة بعده ذنبا إلا لحقه في قبره فأخرج منها نفسه و ولده و لو كانت محاباة منه لآثر بها ولده فبرئ منها إلى رهط من قريش ستة أنا أحدهم فلما اجتمع الرهط ظننت أن لا يعدلوا بي فأخذ عبد الرحمن بن عوف مواثيقنا على أن نسمع و نطيع لمن ولاه الله أمرنا ثم أخذ بيد عثمان بن عفان و ضرب بيده على يده فنظرت في أمري طاعتي قد سبقت بيعتي وفإذا طاعتي قد سبقت بيعتي و إذا ميثاقي أخذ لغيري فبايعنا عثمان فأديت له حقه و عرفت له طاعته و غزوت معه في جيوشه و كنت آخذ إذا أعطاني و أغزاني و أضرب بين يديه الحدود بسوطي فلما أصيب نظرت في أمري فإذا الخليفتان اللذان أخذاها بعهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهما بالصلاة قد مضيا و هذا الذي قد أخذ له الميثاق قد أصيب فبايعني أهل الحرمين و أهل هذين المصرين فوثب فيها من ليس مثلي و لا قرابته كقرابتي و لا علمه كعلمي و لا سابقته كسابقتي و كنت أحق بها منه و أخرج أبو نعيم في الدلائل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال عرض لعلي رجلان في خصومة فجلس في أصل جدار فقال له رجل : الجدار يقع فقال علي : امض كفى بالله حارسا ! ! فقضى بينهما فقام ثم سقط الجدار
و في الطيوريات بسنده إلى جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال رجل لعلي بن أبي طالب : نسمعك تقول في الخطبة : اللهم أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين فمن هم ؟ فاغرورقت عيناه فقال : هم حبيباي أبو بكر و عمر إماما الهدى و شيخا الإسلام و رجلا قريش و المقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم من اقتدى بهما عصم ومن اتبع آثارهما هدي الصراط المستقيم و من تمسك بهما فهو من حزب الله
و أخرج عبد الرزاق عن حجر المدري قال : قال لي علي بن أبي طالب : كيف بك إذا أمرت أن تلعنني ؟
قلت : و كائن ذلك ؟ قال : نعم قلت : فكيف أصنع ؟ قال : إلعني و لا تبرأ مني قال : فأمرني محمد بن يوسف أخو الحجاج ـ و كان أميرا على اليمن ـ أن ألعن عليا فقلت : إن الأمير أمرني أن أخرج ألعن عليا فالعنوه لعنه الله فما فطن لها إلا رجل
و أخرج الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن زاذان أن عليا حدث بحديث فكذبه رجل فقال له علي : أدعوا عليك إن كنت كاذبا ؟ قال : ادع فدعا عليه فلم يبرح حتى ذهب بصره
و أخرج عن زر بن حبيش قال : جلس رجلان يتغديان مع أحدهما خمسة أرغفة و مع الآخر ثلاثة أرغفة فلما وضعا الغداء بين أيديهما مر بهما رجل فسلم فقالا : اجلس و تغد فجلس و أكل معهما و استووا في أكلهم الأرغفة الثمانية فقام الرجل و طرح إليهما ثمانية دراهم و قال : خذاها عوضا مما أكلت لكما و نلته من طعامكما فتنازعا فقال صاحب الخمسة الأرغفة : لي خمسة دراهم و لك ثلاثة و قال الأرغفة الثلاثة : لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي فقصا عليه قصتهما فقال لصاحب الثلاثة : قد عرض عليك صاحبك ما عرض و خبزه أكثر من خبزك فارض بالثلاثة فقال : و الله لا رضيت عنه إلا بمر الحق فقال علي : ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة دراهم فقال الرجل : سبحان الله ! قال : هو ذلك قال : فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله فقال علي : أليس لثمانية الأرغفة أربعة و عشرون ثلثا أكلتموها و أنتم ثلاثة أنفس و لا يعلم الأكثر منكم أكلا و لا الأقل ؟ فتحملون في أكلكم على السواء قال : فأكلت أنت ثمانية أثلاث و إنما لك تسعة أثلاث و أكل صاحبك ثمانية أثلاث و له خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية و بقي له سبعة أكلها صاحب الدراهم و أكل لك واحدة من تسعة فلك واحد بواحدك وله سبعة فقال الرجل : رضيت الآن
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عطاء قال : أتي علي برجل و شهد عليه رجلان أنه سرق فأخذ في شيء من أمور الناس و تهدد شهود الزور و قال : لا أوتى بشاهد زور إلا فعلت به كذا و كذا ثم طلب الشاهدين فلم يجدهما فخلى سبيله
و قال عبد الرزاق في المنصف : حدثنا الثوري عن سليمان الشيباني عن رجل عن علي أنه أتى برجل فقيل له : زعم هذا أنه احتلم بأمي فقال : اذهب فأقمه بالشمس فاضرب ظله
و أخرج ابن عساكر عن طريق جعفر بن محمد عن أبيه أن خاتم علي بن أبي طالب كان من ورق نقشه [ نعم القادر الله ]
و أخرج عن عمرو بن عثمان بن عفان قال : كان نقش خاتم علي [ الملك لله ]
و أخرج عن المدائني قال : لما دخل علي الكوفة دخل عليه رجل من حكماء العرب فقال : و الله يا أمير المؤمنين لقد زنت الخلافة و ما زانتك و رفعتها و ما رفعتك و هي كانت أحوج إليك منك إليها
و أخرج عن مجمع أن عليا كان يكنس بيت المال ثم يصلي فيه رجاء أن يشهد له أن لم يحبس فيه المال عن المسلمين
و قال أبو القاسم الزجاجي في أماليه : حدثنا أبو جعفر محمد بن رستم الطبري حدثنا أبو حاتم السجستاني حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي حدثنا سعيد ابن سلم الباهلي حدثنا أبي عن جدي عن أبي الأسود الدؤلي أو قال : عن جدي أبي الأسود عن أبيه قال : دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرأيته مطرقا مفكرا فقلت : فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ قال : إني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أصنع كتابا في أصول العربية فقلت : إن فعلت ذلك أحييتنا و بقيت فينا هذه اللغة ثم أتيته بعد ثلاثة فألقى إلي صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم الكلمة اسم و فعل و حرف فالاسم : ما أنبأ عن المسمى و الفعل : ما أنبأ عن حركة المسمى و الحرف : ما أنبأ عن معنى ليس باسم و لا فعل ثم قال : تتبعه و زد فيه ما وقع لك و اعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة : ظاهر و مضمر و شيء ليس بظاهر و لا مضمر و إنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر و لا مضمر قال : أبو الأسود : فجمعت منه أشياء و عرضتها عليه فكان من ذلك حروف النصب فذكرت منها : إن وأن و ليت و لعل و كأن ولم أذكر لكن فقال لي : لم تركتها ؟ فقلت : لم أحسبها منها فقال : بل هي منها فزدها فيها
و أخرج ابن عساكر عن ربيعة بن ناجد قال : قال علي : كونوا في الناس كالنحلة في الطير إنه ليس في الطير شيء إلا و هو يستضعفها لو يعلم الطير ما في أجوافها من البركة لم يفعلوا ذلك بها خالطوا الناس بألسنتكم و أجسادكم و زايلوهم بأعمالكم و قلوبكم فإن للمرء ما اكتسب وهو يوم القيامة مع من أحب
و أخرج عن علي قال : كونوا بقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل فإنه لن يقل عمل مع التقوى و كيف يقل عمل يتقبل ؟
و أخرج عن يحيى بن جعدة قال : قال علي بن أبي طالب : يا حملة القرآن اعملوا به فإنما العالم من علم ثم عمل بما علم و وافق علمه عمله و سيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم و تخالف سريرتهم علانيتهم و يخالف عملهم علمهم يجلسون حلقا فيباهي بعضهم بعضا حتى إن الرجل يغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره و يدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله
و أخرج عن علي قال : التوفيق خير قائد و حسن الخلق خير قرين و العقل خير صاحب و الأدب خير ميراث و لا وحشة أشد من العجب
و أخرج عن الحارث قال : جاء رجل إلى علي فقال : أخبرني عن القدر ! فقال : طريق مظلم لا تسلكه قال : أخبرني عن القدر ! قال : بحر عميق لا تلجه قال : أخبرني عن القدر ! قال : سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه قال : أخبرني عن القدر ! قال : يا أيها السائل إن الله خلقك لما شاء أو لما شئت ؟ قال : بل لما شاء قال : فيستعملك لما شاء
و أخرج عن علي قال : إن للنكبات نهايات و لا بد أحد إذا نكب من أن ينتهي إليها فينبغي للعاقل إذا أصابته نكبة أن ينام لها حتى تنقضي مدتها فإن في دفعها قبل انقضاء مدتها زيادة في مكروهها
و أخرج عن علي أنه قيل له : ما السخاء ؟ قال : ما كان منه ابتداء فأما ما كان عن مسألة فحياء و تكرم
و أخرج عن علي أنه أتاه رجل فأثنى عليه فأطراه و كان قد بلغه عنه قبل ذلك فقال له علي : إني لست كما تقول و أنا فوق ما في نفسك
و أخرج عن علي قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة و الضيق في المعشية و النقص في اللذة قيل : و ما النقص في اللذة ؟ قال : لا ينال شهوة حلال إلا جاءه ما ينغصه إياها
و أخرج عن علي بن ربيعة أن رجلا قال لعلي : ثبتك الله و كان يبغضه قال علي : على صدرك
و أخرج عن الشعبي قال : كان أبو بكر يقول الشعر و كان عثمان يقول الشعر و كان علي أشعر الثلاثة
و أخرج عن نبيط الأشجعي قال : قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( إذا اشتملت على اليأس القلوب ... و ضاق بهمها الصدر الرحيب )
( و أوطنت المكاره و اطمأنت ... و أرسلت في أماكنها الخطوب )
( و لم ير لانكشاف الضر وجه ... و لا أغنى بحليته الأريب )
( أتاك على قنوط منك غوث ... يجيء به القريب المستجيب )
( و كل الحادثات إذا تناهت ... فموصل بها الفرج القريب )
و أخرج عن الشعبي قال : قال علي بن أبي طالب لرجل كره له صحبة رجل :
( فلا تصحب أخا الجهل ... و إياك و إياه )
( فكم من جاهل أردى ... حليما حين آخاه )
( يقاس المرء بالمرء ... إذ ما هو ما شاه )
( و للشيء من الشيء ... مقاييس و أشباه )
( قياس النعل بالنعل ... إذا ما هو حاذاه )
( و للقلب على القلب ... دليل حين يلقاه )
و أخرج عن المبرد قال : كان مكتوبا على سيف علي بن أبي طالب رضي الله عنه :
( للناس حرص على الدنيا بتدبير ... و صفوها لك ممزوج بتكدير )
( لم يرزقوها بعقل بعدما قسمت ... لكنهم رزقوها بالمقادير )
( كم من أديب لبيب لا تساعده ؟ ... و أحمق نال دنياه بتقصير )
( لو كان عن قوة أو عن مغالبة ... طار البزاة بأرزاق العصافير )
و أخرج عن حمزة بن حبيب الزيات قال : كان علي بن أبي طالب يقول :
( و لا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا )
( فإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يدعون أديما صحيحا )
و أخرج عن عقبة بن أبي الصهباء قال : لما ضرب ابن ملجم عليا دخل عليه الحسن و هو باك فقال له علي : يا بني احفظ عني أربعا و أربعا قال و ما هن يا أبت ؟ قال : أغنى الغنى العقل و أكبر الفقر الحمق و أوحش الوحشة العجب و أكرم الكرم حسن الخلق قال : فالأربع الآخر ؟ قال : إياك و مصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك و إياك و مصادقة الكذاب فإنه يقرب عليك البعيد و يبعد عليك القريب و إياك و مصادقة البخيل فإنه يقعد عنك أحوج ما تكون إليه و إياك و مصادقة الفاجر فإنه يبيعك بالتافه
و أخرج ابن عساكر عن علي أنه أتاه يهودي فقال له : متى كان ربنا ؟ فتمعر وجه علي و قال : لم يكن فكان هو كان و لا كينونة كان بلا كيف كان ليس له قبل و لا غاية انقطعت الغايات دونه فهو غاية كل غاية فأسلم اليهودي
و أخرج الدارج في جزئه المشهور بسند مجهول عن مسيرة عن شريح القاضي قال : لما توجه علي إلى صفين افتقد درعا له فلما انقضت الحرب و رجع إلى الكوفة أصاب الدرع في يد يهودي فقال لليهودي : الدرع درعي لم أبع و لم أهب فقال اليهودي : درعي و في يدي فقال : نصير إلى القاضي فتقدم علي فجلس إلى جنب شريح و قال : لولا أن خصمي يهودي لاستويت معه في المجلس و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ و أصغروهم من حيث أصغرهم الله ] فقال شريح : قل يا أمير المؤمنين فقال : نعم هذه الدرع التي في يد هذه اليهودي درعي لم أبع و لم أهب فقال شريح : أيش تقول يا يهودي ؟ قال : درعي و في يدي فقال شريح : ألك بينة يا أمير المؤمنين ؟ قال : نعم : قنبر و الحسن يشهدان أن الدرع درعي فقال شريح : شهادة الابن لا تجوز للأب فقال علي : رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة ] فقال اليهودي : أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه و قاضيه قضى عليه أشهد أن هذا هو الحق و أشهد أن إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله و أن الدرع درعك
فصل
و أما كلامه في تفسير القرآن فكثير و هو مستوفى في كتابنا التفسير المسند بأسانيده و قد أخرج ابن سعد عن علي قال : و الله ما نزلت آية إلا و قد علمت فيم نزلت و أين نزلت و على من نزلت إن ربي وهب لي قلبا عقولا و لسانا صادقا ناطقا
و أخرج ابن سعد و غيره عن أبي الطفيل قال : قال علي : سلوني عن كتاب الله فإنه ليس من آية إلا و قد عرفت بليل نزلت أم بنهار و في سهل أم في جبل
و أخرج ابن أبي داود عن محمد بن سيرين قال : لما توفى رسول الله صلى الله عليه و سلم أبطأ علي عن بيعة أبي بكر فقال : أكرهت إمارتي ؟ فقال : لا و لكن آليت أن لا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن فزعموا أنه كتبه على تنزيله فقال محمد : لو أصيب ذلك الكتاب كان فيه العلم
نبذ من كلماته الوجيزة
قال علي رضي الله عنه : الحزم سوء الظن أخرجه أبو الشيخ و ابن حيانو قال : القريب من قربته المودة و إن بعد نسبه و البعيد من باعدته العدواة و إن قرب نسبه و لا شيء أقرب من يد إلى جسد و إن اليد فسدت قطعت و إذا قطعت حسمت أخرجه أبو نعيم و قال : خمس خذوهن عني : لا يخافن أحد منكم إلا ذنبه و لا يرجو إلا ربه و لا يستحيي من لا يعلم أن يتعلم و لا يستحيي من لا يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول : الله أعلم و إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد : إذا ذهب الصبر الإيمان و إذا ذهبت الرأس ذهب الجسد أخرجه سعيد بن منصور في سننه
و قال : الفقيه كل فقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله و لم يرخص لهم في معاصي الله و لم يؤمنهم من عذاب الله و لم يدع القرآن رغبة عنه إلى غيره لأنه لا خير في عبادة لا علم فيها و لا فهم معه و لا قراءة لا تدبر فيها أخرجه ابن الضريس في فضائل القرآن
و قال : و أبردها على كبدي إذا سئلت عما لا علم أن أقول : الله أعلم أخرجه ابن عساكر
و قال : من أراد أن ينصف الناس من نفسه فليحب لهم ما يحب لنفسه أخرجه ابن عساكر
و قال : سبع من الشيطان : شدة الغضب و شدة العطاس و شدة التثاؤب و القيء و الرعاف و النجوى و النوم عند الذكر
و قال : كلوا الرمان بشحمه فإنه دباغ المعدة أخرجه الحاكم في التاريخ
و قال : يأتي على الناس زمان المؤمن فيه أذل من الأمة أخرجه سعيد بن منصور و لأبي الأسود الدؤلي يرثي عليا رضي الله عنه :
مرثية لأبي الأسود الدؤلي فيه
( ألا يا عين ويحك أسعدينا ... ألا تبكي أمير المؤمنينا )( و تبكي أم كلثوم عليه ... بعبرتها و قد رأت اليقينا )
( ألا قل للخوارج حيث كانوا ... فلا قرت عيون الحاسدينا )
( أفي شهر الصيام فجمعتمونا ؟ ... بخير الناس طرا أجمعينا )
( قتلتم خير من ركب المطايا ... و ذللها و من ركب السفينا )
( و من لبس النعال و من حذاها ... و من قرأ المثاني و المبينا )
( و كل مناقب الخيرات فيه ... وجب رسول رب العالمينا )
( لقد علمت قريش حيث كانت ... بأنك خيرهم حسبا و دينا )
( إذا استقبلت وجه أبي حسين ... رأيت البدر فوق الناظرينا )
( و كنا قبل مقتله بخير ... نرى مولى رسول الله فينا )
( يقيم الحق لا يرتاب فيه ... و يعدل في العدى و الأقربينا )
( و ليس بكاتم علما لديه ... و لم يخلق من المتكبرينا )
( كأن الناس إذ فقدوا عليا ... نعام حار في بلد سنينا )
( فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإن بقية الخلفاء فينا )
ذكر من مات في عهده من الأعلام
مات في أيام علي من الأعلام موتا و قتلا : حذيفة بن اليمان و الزبير بن العوام و طلحة و زيد بن صوحان و سلمان الفارسي و هند بن أبي هالة و أويس القرني و خباب بن الأرت و عمار بن ياسر و سهل بن حنيف و صهيب الرومي و محمد بن أبي بكر الصديق و تميم الداري و خوات بن جبير و شرحبيل بن السمط و أبو مسيرة البدري و صفوان بن عسال و عمرو بن عنبسة و هشام بن حكيم و أبو رافع مولى النبي صلى الله عليه و سلم و آخرون نسبه و فضله و حب الرسول إياه 40هـ ـ 41 ه
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أبو محمد سبط رسول الله صلى الله عليه و سلم و ريحانته و آخر الخلفاء بنصه
أخرج ابن سعد عن عمران بن سليمان قال : الحسن و الحسين أسمان من أسماء أهل الجنة ما سمت العرب بهما في الجاهلية
ولد الحسن رضي الله عنه في نصف رمضان سنة ثلاث من الهجرة و روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم أحاديث و روت عنه عائشة رضي الله عنها و خلائق من التابعين : منهم ابنه الحسن و أبو الحوراء ربيعة بن سنان و الشعبي و أبو وائل و ابن سيرين و كان شبيها للنبي صلى الله عليه و سلم سماه النبي صلى الله عليه و سلم الحسن و عق عنه يوم سابعه و حلق شعره و أمر أن يتصدق بزنة شعره فضة و هو خامس أهل الكساء
قال العسكري : لم يكن هذا الاسم يعرف في الجاهلية
و قال المفضل : إن الله حجب اسم الحسن و الحسين حتى سمى بهما النبي صلى الله عليه و سلم ابنيه و أخرج البخاري عن أنس قال : لم يكن أحد أشبه النبي صلى الله عليه و سلم من الحسن بن علي
و أخرج الشيخان عن البراء قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم و الحسن على عاتقه و هو ينظر إلى الناس مرة و إليه مرة يقول : [ إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين ]
و أخرج البخاري [ عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : هما ريحانتاي من الدنيا ] يعني الحسن و الحسين
و أخرج الترمذي و الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة ]
و أخرج الترمذي عن أسامة بن زيد قال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم و الحسن و الحسين على وركيه فقال : [ هذان ابناي و ابنا ابنتي اللهم إني احبهما فأحبهما و أحب من يحبهما ]
و أخرج [ عن أنس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه و سلم : أي أهل بيتك أحب إليك ؟ قال : الحسن و الحسين ] و أخرج الحاكم [ عن ابن عباس قال : أقبل النبي صلى الله عليه و سلم و قد حمل الحسن على رقبته فلقيه رجل فقال : نعم المركب ركبت يا غلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : و نعم الراكب هو ]
و أخرج ابن سعد عن عبد الله بن الزبير قال : أشبه أهل النبي صلى الله عليه و سلم به و أحبهم إليه الحسن بن علي رأيته يجيء و هو ساجد فيركب رقبته ـ أو قال : ظهره ـ فلما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل و لقد رأته و هو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر
و أخرج ابن سعد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : كان رسول الله يدلع لسانه للحسن بن علي فإذا رأى الصبي حمرة اللسان يهش إليه
و أخرج الحاكم [ عن زهير بن الأرقم قال : قام الحسن بن علي يخطب فقام رجل من أزد شنوءة فقال : أشهد لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم واضعه في حبوته و هو يقول : من أحبني فليحبه و ليبلغ الشاهد الغائب ] و لولا كرامة رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حدثت به أحدا
و كان الحسن رضي الله عنه له مناقب كثيرة سيدا حليما ذا سكينة و وقار و حشمة جوادا ممدوحا يكره الفتن و السيف تزوج كثيرا و كان يجيز الرجل الواحد بمائة ألف
و أخرج الحاكم عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال : حج الحسن خمسا و عشرين حجة ماشيا و إن النجائب لتقاد معه
و أخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال : ما تكلم عندي أحد كان أحب إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي و ما سمعت منه كلمة فحش قط إلا مرة فإنه كان بين الحسن و عمرو بن عثمان خصومة في أرض فعرض الحسن أمرا لم يرضه عمرو فقال الحسن : فليس له عندنا إلا ما رغم أنفه قال : فهذه أشد كلمة فحش سمعتها منه
و أخرج ابن سعد عن عمير بن إسحاق قال : كان مروان أميرا علينا فكان يسب عليا كل جمعة على المنبر و حسن يسمع فلا يرد شيئا ثم أرسل إليه رجلا يقول له : بعلي و بعلي و بعلي و بك و بك و ما وجدت إلا مثل البغلة يقال لها : من أبوك ؟ فتقول : أمي الفرس فقال له الحسن : ارجع إليه فقل له : إني و الله لا أمحو عنك شيئا مما قلت بأن أسبك و لكن موعدي و موعدك الله فإن كنت صادقا جزاك الله بصدقك و إن كنت كاذبا فالله أشد نقمة
و أخرج ابن سعد عن زريق بن سوار قال : كان بين الحسن و بين مروان كلام فأقبل عليه مروان فجعل يغلظ له ـ و الحسن ساكت ـ فامتخط مروان بيمينه فقال له الحسن : ويحك ! أما علمت أن اليمين للوجه و الشمال للفرج ؟ أف لك ! فسكت مروان
و أخرج ابن سعد عن أشعث بن سوار عن رجل قال : جلس رجل إلى الحسن فقال : إنك جلست إلينا على حين قيام منا أفتأذن ؟
و أخرج ابن سعد عن علي بن زيد بن جدعان قال : أخرج الحسن من ماله لله مرتين و قاسم الله ماله ثلاث مرات حتى إنه كان يعطي نعلا و يمسك نعلا و يعطي خفا و يمسك خفا
و أخرج ابن سعد عن علي بن الحسين : قال : كان الحسن مطلاقا للنساء و كان لا يفارق امرأة إلا و هي تحبه و أحصن تسعين امرأة
و أخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : كان الحسن يتزوج و يطلق حتى خشيت أن يورثنا عداوة في القبائل
و أخرج ابن سعد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : قال علي : يا أهل الكوفة لا تزوجوا الحسن فإنه رجل مطلاق فقال رجل من همدان : و الله انزوجنه فما رضي امسك و ما كره طلق
و أخرج ابن سعد عن عبد الله بن حسن قال : كان حسن رجلا كثير نكاح النساء و كن قلما يحظين عنده و كان قل امرأة تزوجها إلا أحبته و صبت إليه
و أخرج ابن عساكر عن جويرية بن أسماء قال : لما مات الحسن بكى مروان في جنازته فقال له الحسين : أتبكيه و قد كنت تجرعه ما تجرعه ؟ فقال : إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا و أشار بيده إلى الجبل
و أخرج ابن عساكر عن المبرد قال : قيل للحسن بن علي : إن أبا ذر يقول : الفقر أحب إلي من الغنى و السقم أحب إلي من الصحة فقال : رحم الله أبا ذر أما أنا فأقول : من اتكل على حسن اختيار الله لم يتمن أنه في غير الحالة التي اختارها الله له و هذا حد الوقوف على الرضا بما تصرف به القضاء
خلافته و تنازله عنها
و لي الحسن رضي الله عنه الخلافة بعد قتل أبيه بمبايعته أهل الكوفة فأقام فيها ستة أشهر و أياما ثمسار إليه معاوية ـ و الأمر إلى الله ـ فأرسل إليه الحسن يبذل له تسليم الأمر إليه على أن تكون له الخلافة من بعده و على أن لا يطالب أحدا من أهل المدينة و الحجاز و العراق بشيء مما كان أيام أبيه و على أن يقضي عنه ديونه فأجابه معاوية إلى ما طلب فاصطلحا على ذلك فظهرت المعجزة النبوية في قوله صلى الله عليه و سلم : [ يصلح الله به بين فئتين من المسلمين ] و نزل له عن الخلافة و قد استدل البلقيني بنزوله عن الخلافة ـ التي هي أعظم المناصب ـ على جواز النزول عن الوظائف و كان نزوله عنها في سنة إحدى و أربعين في شهر ربيع الأول ـ و قيل : الآخر و قيل : في جمادى الأولى ـ فكان أصحابه يقولون له : يا عار المؤمنين فيقول : العار خير من النار و قال له رجل : السلام عليك يا مذل المؤمنين فقال : لست بمذل المؤمنين و لكني كرهت أن أقتلكم على الملك
ثم ارتحل الحسن عن الكوفة إلى المدينة فأقام بها
و أخرج الحاكم عن جبير بن نفير قال : قلت للحسن : إن الناس يقولون : إنك تريد الخلافة فقال : قد كان جماجم العرب في يدي يحاربون من حاربت و يسالمون من سالمت فتركتها ابتغاء وجه الله و حقن دماء أمة محمد صلى الله عليه و سلم ثم أبتزها باتياس أهل الحجاز
توفي الحسن رضي الله عنه بالمدينة مسموما سمته زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس دس إليها يزيد بن معاوية أن تسمه فيتزوجها ففعلت فلما مات الحسن بعثت إلى يزيد تسأله الوفاء بما وعدها فقال : إنا لم نرضك للحسن أفنرضاك لنفسنا ؟ و كانت وفاته سنة تسع و أربعين و قيل : في خامس ربيع الأول سنة خمسين و قيل : سنة إحدى و خمسين و جهد به أخوه أن يخبره بمن سقاه فلم يخبره و قال : الله أشد نقمة إن كان الذي أظن و إلا فلا يقتل بي و الله بريء
و أخرج ابن سعد عن عمران بن عبد الله بن طلحة قال : رأى الحسن كأن بين عينيه مكتوبا { قل هو الله أحد } فاستبشر به أهل بيته فقصوها على سعيد بن المسيب فقال : إن صدقت رؤياه فقل ما بقي من أجله فما بقي إلا أيام حتى مات
و أخرج البيهقي و ابن عساكر عن طريق ابن المنذر هشام بن محمد عن أبيه قال : أضاق الحسن بن علي و كان عطاؤه في كل سنة مائة ألف فحسبها عنه معاوية في إحدى السنين فأضاق إضاقة شديدة قال : فدعوت بدواة لكتب إلى معاوية لأذكره نفسي ثم أمسكت فرأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام فقال : كيف أنت يا حسن ؟ فقلت : بخير يا أبت و شكوت إليه تأخر المال عني فقال : أدعوت بدواة لتكتب إلى مخلوق مثلك تذكره ذلك ؟ فقلت : نعم يا رسول الله فكيف أصنع ؟ فقال : قل : اللهم اقذف في قلبي رجاءك و اقطع رجائي عمن سواك حتى لا أرجوا أحدا غيرك اللهم و ما ضعفت عنه قوتي و قصر عنه عملي و لم تنته إليه رغبتي و لم تبلغه مسألتي و لم يجر على لساني مما أعطيت أحدا من الأولين و الآخرين من اليقين فخصني به يارب العالمين قال : فو الله ما ألححت به أسبوعا حتى بعث إلى معاوية بألف ألف و خمسمائة ألف فقلت : الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره و لا يخيب من دعاه فرأيت النبي صلى الله عليه و سلم في المنام فقال : يا حسن كيف أنت ؟ فقلت : بخير يا رسول الله و حدثته بحديثي فقال : يا بني هكذا من رجا الخالق و لم يرج المخلوق
وفاته
و في الطيوريات عن سليم بن عيسى قارىء أهل الكوفة قال : لما حضرت الحسن الوفاة جزع فقال له الحسين : يا أخي ما هذا الجزع ؟ إنك ترد على رسول الله صلى الله عليه و سلم و على علي و هما أبواك و على خديجة و فاطمة و هما أماك و على القاسم و الطاهر و هما خلاك و على حمزة و جعفر و هما عماك فقال له الحسن أي أخي إني داخل في أمر من أمر الله تعالى لم أدخل في مثله و أرى خلقا من خلق الله لم أر مثله قطقال ابن عبد البر : و روينا من و جوه أنه لما احتضر قال لأخيه : يا أخي إن أباك استشرف لهذا الأمر فصرفه الله عنه و وليها أبو بكر ثم استشرف لها و صرفت عنه إلى عمر ثم لم يشك و قت الشورى أنها لا تعدوه فصرفت عنه إلى عثمان فلما قتل عثمان بويع علي ثم نوزع حتى جرد السيف فما صفت له و إني و الله ما أرى أن يجمع الله فينا النبوة و الخلافة فلا أعرفن ما استخلفك سفهاء الكوفة فأخرجوك و قد كنت طلبت من عائشة رضي الله عنها أن أدفن مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : نعم فإذا مت فاطلب ذلك إليها و ما أظن القوم إلا سيمنعوك فإن فعلوا فلا تراجعهم فلما مات أتى الحسين إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت : نعم و كرامة فمنعهم مروان فلبس الحسين و من معه السلاح حتى رده أبو هريرة ثم دفن بالبقيع إلى جنب أمه رضي الله عنها
معاوية بن أبي سفيان 41 هـ 60 ه
معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي الأموي أبو عبد الرحمن أسلم هو و أبوه يوم فتح مكة و شهد حنينا و كان من المؤلفة قلوبهم ثم حسن إسلامه و كان أحد الكتاب لرسول الله صلى الله عليه و سلم
روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم مائة حديث و ثلاثة و ستون حديثا
و روى عنه من الصحابة : ابن عباس و ابن عمر و ابن الزبير و أبو الدرداء و جرير البجلي و النعمان بن بشير و غيرهم
و من التابعين : ابن المسيب و حميد بن عبد الرحمن و غيرهما
و كان من الموصوفين بالدهاء و الحلم و قد ورد في فضله أحاديث قلما تثبت
و أخرج الترمذي و حسنه [ عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لمعاوية : اللهم اجعله هاديا مهديا ]
و أخرج أحمد في مسنده [ عن العرباض بن سارية : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : اللهم علم معاوية الكتاب و الحساب و قه العذاب ]
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف و الطبراني في الكبير [ عن عبد الملك بن عمير قال : قال معاوية : ما زلت أطمع في الخلافة منذ قال لي رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا معاوية إذا ملكت فأحسن ]
نسبه و بعض صفاته
و كان معاوية رجلا طويلا أبيض جميلا مهيبا و كان عمر ينظر إليه فيقول : هذا كسرى العربو عن علي قال : لا تكرهوا إمرة معاوية فإنكم لو فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها
و قال المقبري : تعجبون من دهاء هرقل و كسرى و تدعون معاوية ؟
و كان يضرب بحلمه المثل و قد أفرد ابن أبي الدنيا و أبو بكر بن أبي عاصم تصنيفا في حلم معاوية
قال ابن عون : كان الرجل يقول لمعاوية : و الله لتستقيمن بنا يا معاوية أو لنقومنك فيقول : بماذا ؟ فيقول : بالخشب فيقول : إذن نستقيم
و قال قبيصة بن جابر : صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلما و لا أبطأ جهلا و لا أبعد أناة منه
و لما بعث أبو بكر الجيوش إلى الشام سار معاوية مع أخيه يزيد بن أبي سفيان فلما مات يزيد استخلفه على دمشق فأقره عمر ثم أقره عثمان و جمع له الشام كله فأقام أميرا عشرين سنة و خليفة عشرين سنة
بعض الأحداث في عصره
قال كعب الأحبار : لن يملك أحد هذه الأمة ما ملك معاوية قال الذهبي : توفي كعب قبل أن يستخلف معاوية قال : و صدق كعب فيما نقله فإن معاوية بقي خليفة عشرين سنة لا ينازعه أحد الأمر في الأرض بخلاف غيره ممن بعده فإنه كان لهم مخالف و خرج عن أمرهم بعض الممالك خرج معاوية على علي كما تقدم و تسمى بالخلافة ثم خرج على الحسن فنزل له الحسن عن الخلافة فاستقر فيها من ربيع الآخر أو جمادى الأولى سنة إحدى و أربعين فسمي هذا العام عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد و فيه ولى معاوية مروان بن الحكم المدينةو في سنة ثلاث و أربعين فتحت الرخج و غيرها من بلاد سجستان و ودان من برقة و كور من بلاد السودان و فيها استخلف معاوية زياد بن أبيه و هي أول قضية غير فيها حكم النبي صلى الله عليه و سلم في الإسلام ذكره الثعالبي و غيره
و في سنة خمس و أربعين فتحت القيقان
و في سنة خمسين فتحت قوهستان عنوة و فيها دعا معاوية أهل الشام إلى البيعة بولاية العهد من بعده لابنه يزيد فبايعوه و هو أول من عهد بالخلافة لابنه و أول من عهد بها في صحته ثم إنه كتب إلى مروان بالمدينة أن يأخذ البيعة فخطب مروان فقال : إن أمير المؤمنين رأى أن يستخلف عليكم و لده يزيد سنة أبي بكر و عمر فقام عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فقال : بل سنة كسرى و قيصر إن أبا بكر و عمر لم يجعلاها في أولادهما و لا في أحد من أهل بيتهما
ثم حج معاوية سنة إحدى و خمسين و أخذ البيعة لابنه فبعث إلى ابن عمر فتشهد و قال : أما بعد يا ابن عمر إنك كنت تحدثني أنك لا تحب أن تبيت ليلة سوداء ليس عليك فيها أمير و إني أحذرك أن تشق عصا المسلمين أو تسعى في فساد ذات بينهم فحمد ابن عمر الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإنه قد كان قبلك خلفاء لهم أبناء ليس ابنك بخير من أبنائهم فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك و لكنهم اختاروا للمسلمين حيث علموا الخيار و إنك تحذرني أن أشق عصا المسلمين و لم أكن لأفعل و إنما أنا رجل من المسلمين فإذا اجتمعوا على أمر فإنما أنا رجل منهم فقال : يرحمك الله ! فخرج ابن عمر ثم أرسل إلى ابن أبي بكر فتشهد ثم أخذ في الكلام فقطع عليه كلامه و قال : إنك لوددت أنا و كلناك في أمر ابنك إلى الله و إنا و الله لا نفعل و الله لتردن هذا الأمر شورى في المسلمين أو لنعيدنها عليك جذعة ثم وثب و مضى فقال معاوية : اللهم اكفنيه بما شئت ثم قال : على رسلك أيها الرجل لا تشرفن على أهل الشام فإني أخاف أن يسبقوني بنفسك حتى أخبر العشية أنك قد بايعت ثم كن بعد على ما بدا لك من أمرك ثم ؟ أرسل إلى ابن الزبير فقال : يا ابن الزبير إنما أنت ثعلب رواغ كلما خرج من جحر دخل في آخر و إنك عمدت إلى هذين الرجلين فنفخت في مناخرهما و حملتهما على غير رأيهما فقال ابن الزبير : إن كنت قد مللت الإمارة فاعتزلتها و هلم ابنك فلنبايعه أرأيت إذا بايعنا ابنك معك لأيكما نسمع و نطيع ؟ لا تجتمع البيعة لكما أبدا ثم راح فصعد معاوية المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : إنا وجدنا أحاديث الناس ذات عوار زعموا أن ابن عمر و ابن أبي بكر و ابن الزبير لن يبايعوا يزيد و قد سمعوا و أطاعوا و بايعوا له فقال أهل الشام : و الله لا نرضى حتى يبايعوا له على رؤوس الأشهاد و إلا ضربنا أعناقهم فقال : سبحان الله ! ما أسرع الناس إلى قريش بالشر لا أسمع هذه المقالة من أحد منكم بعد اليوم ثم نزل فقال الناس : بايع ابن عمر و ابن أبي بكر و ابن الزبير و هم يقولون : لا و الله ما بايعنا فيقول الناس : بلى و ارتحل معاوية فلحق بالشام
و عن ابن المنكدر : قال : قال ابن عمر حين بويع يزيد : إن كان خيرا رضينا و إن كان بلاء صبرنا
و أخرج الخرائطي في الهواتف عن حميد بن وهب قال : كانت هند بنت عتبة بن ربيعة عند الفاكه بن المغيرة و كان له بيت للضيافة يغشاه الناس من غير إذن فخلا البيت ذات يوم فقام الفاكه و هند فيه ثم خرج الفاكه لبعض حاجاته و أقبل رجل ممن كان يغشى البيت فولجه فلما رأى المرأة ولى هاربا فأبصره الفاكه فانتهى إليها فضربها برجله و قال : من هذا الذي كان عندك ؟ قالت : ما رأيت أحدا و لا انتبهت حتى أنبهتني فقال لها : الحقي بأهلك و تكلم فيها الناس فخلا بها أبوها فقال لها : يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك فأنبئيني بذاك فإن يكن الرجل صادقا دسست إليه من يقتله فتنقطع عنا المقالة و إن يكن كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن قال : فحلفت له بما كانوا يحلفون به في الجاهلية أنه كاذب عليها فقال عتبة للفاكه : إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف و معهم هند و نسوة معها تأنس بهن فلما شارفوا البلاد تنكرت حال هند و تغير وجهها فقال لها أبوها : يا بنية إني قد أرى ما بك من تغير الحال و ما ذاك إلا لمكروه عندك قالت : لا و الله يا أبتاه و ما ذاك لمكروه و لكني أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب فلا آمنه أن يسمني بسيماء تكون علي سبة في العرب فقال لها : إني سوف أختبره لك قبل أن ينظر في أمرك فصفر بفرسه حتى أدلى ثم أدخل في إحليله حبة من الحنطة و أوكأ عليها بسير و صبحوا الكاهن فنحر لهم و أكرمهم فلما تغدوا قال له عتبة : إنا قد جئناك في أمر و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو ؟ قال : برة في كمرة قال : أريد أبين من هذا قال : حبة من بر في إحليل مهر فقال عتبة : صدقت انظر في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من إحداهن و يضرب كتفها و يقول : انهضي حتى دنا من هند فضرب كتفها و قال : انهضي غير رسحاء و لا زانية و لتلدين ملكا يقال له معاوية فنظر إليها الفاكه فأخذ بيدها فنثرت يدها من يده و قالت : إليك و الله لأحرصن أن يكون ذلك من غيرك فتزوجها أبو سفيان فجاءت بمعاوية
مات معاوية في شهر رجب سنة ستين و دفن بين باب الجابية و باب الصغير و قيل : إنه عاش سبعا و سبعين سنة و كان عنده شيء من شعر رسول الله صلى الله عليه و سلم و قلامة أظفاره فأوصى أن تجعل في فمه و عينيه و قال : افعلوا ذلك و خلو بيني و بين أرحم الراحمين
نبذ من أخباره
أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد بن جمهان قال : قلت لسفينة : إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم قال : كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من أشد الملوك و أول الملوك معاويةو أخرج البيهقي و ابن عساكر عن إبراهيم بن سويد الأرمني قال : قلت لأحمد بن حنبل : من الخلفاء ؟ قال : أبو بكر و عمر و عثمان و علي قلت : فمعاوية ؟ قال : لم يكن أحق بالخلافة في زمان علي من علي و أخرج السفلي في الطوريات عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : سألت أبي عن علي و معاوية فقال : اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاؤوا إلى رجل قد حاربه و قاتله فأطروه كيادا منهم له
و أخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال : من أنت ؟ قال : جارية بن قدامة قال و ما عسيت أن تكون ؟ هل أنت إلا نحلة ؟ قال : لا تقل فقد شبهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق و الله ما معاوية إلا كلبة تعاوي الكلاب ؟ و ما أمية إلا تصغير أمة
و أخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية فقال له معاوية : أنت الساعي مع علي بن أبي طالب و الموقد النار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم ؟ قال جارية : يا معاوية دع عنك عليا فما أبغضنا عليا منذ أحببناه و لا غششناه منذ صحبناه قال : ويحك يا جارية ! ما كان أهونك على أهلك إذ سموك جارية ! قال : أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سموك معاوية قال : لا أم لك قال : أم ما ولدتني إن قوائم السيوف التي لقيناك بها بصفين في أيدينا قال : إنك لتهددني قال : إنك لم تملكنا قسرة و لم تفتحنا عنوة و لكن أعطيتنا عهودا و مواثيق فإن وفيت لنا وفينا و إن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا و أذرعا شدادا و أسنة حدادا فإن بسطت إلينا فترا منغدر زلفنا إليك بباع من ختر قال معاوية : لا أكثر الله في الناس أمثالك
و أخرج عن أبي الطفيل عامر بن واثلة الصحابي أنه دخل على معاوية فقال له معاوية : ألست من قتلة عثمان ؟ قال : لا و لكني ممن حضره فلم ينصره قال : و ما منعك من نصره ؟ قال : لم تنصره المهاجرون و الأنصار فقال معاوية : أما لقد كان حقه واجبا عليهم أن ينصروه قال : فما منعك يا أمير المؤمنين من نصره و معك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أما طلبي بدمه نصرة له ؟ فضحك أبو الطفيل ثم قال : أنت و عثمان كما قال الشاعر :
( لا ألفينك بعد الموت تندبني ... و في حياتي ما زودتني زادا )
و قال الشعبي : أول من خطب الناس قاعدا معاوية و ذلك حين كثر شحمه و عظم بطنه أخرجه ابن أبي شيبة
و قال الزهري : أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية أخرجه عبد الرزاق في مصنفه
و قال سعيد بن المسيب : أول من أحدث الأذان في العيد معاوية أخرجه ابن أبي شيبة و قال : أول من نقص التكبي معاوية أخرجه ابن أبي شيبة
و في الأوائل للعسكري قال : معاوية أول من وضع البريد في الإسلام و أول من اتخذ الخصيان لخاص خدمته و أول من عبثت به رعيته و أول من قيل له : السلام عليك يا أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته الصلاة يرحمك الله و أول من اتخذ ديوان الخاتم و ولاه عبيد الله بن أوس الغساني و سلم إليه الخاتم و على فصه مكتوب : لكل عمل ثواب و استمر ذلك في الخلفاء العباسين إلى آخر وقت و سبب اتخاذه له أنه أمر لرجل بمائة ألف ففك الكتاب و جعله مائني ألف فلما رفع الحساب إلى معاوية أنكر ذلك و اتخذ ديوان الخاتم من يومئذ و هو أول من اتخذ المقصورة بالجامع و أول من أذن في تجريد الكعبة و كانت كسوتها قبل ذلك تطرح عليها شيئا فوق شيء
و أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن أخي الزهري قال : قلت للزهري : من أول من استحلف في البيعة ؟ قال : معاوية استحلفهم بالله فلما كان عبد الملك بن مروان استحلفهم بالطلاق و العتاق
و أخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد الله بن معمر قال : قدم معاوية مكة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمر و ابن عباس و عبد الرحمن بن أبي بكر فأقبلوا عليه و أعرض عنه ابن عباس فقال : و أنا أحق بهذا الأمر من هذا المعرض و ابن عمه فقال ابن عباس : و لم ؟ ألتقدم في الإسلام أم سابقة مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قرابة منه قال : لا و لكني ابن عم المقتول قال فهذا أحق به يريد ابن أبي بكر قال : إن أباه مات موتا قال : فهذا أحق به يريد ابن عمر قال : إن أباه قتله كافر قال : فذاك أدحض لحجتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمك فقتلوه
و قال عبد الله بن محمد بن عقيل : قدم معاوية المدينة فلقيه أبو قتادة الأنصاري فقال معاوية : تلقاني الناس كلهم غيركم يا معشر الأنصار قال : لم يكن لنا دواب قال : فأين النواضح ؟ قال : عقرناها في طلبك و طلب أبيك يوم بدر ثم قال أبو قتادة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لنا [ إنكم سترون بعدي أثرة قال معاوية : فما أمركم ؟ قال : أمرنا أن نصبر ] قال : فاصبروا فبلغ ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال :
( ألا أبلغ معاوية بن حرب ... أمير المؤمنين نبا كلامي )
( فإنا صابرون و منظروكم ... إلى يوم التغابن و الخصام )
و أخرج ابن أبي الدنيا و ابن عساكر [ عن جبلة بن سحيم قال : دخلت على معاوية بن أبي سفيان ـ و هو في خلافته ـ و في عنقه حبل و صبي يقوده فقلت له : يا أمير المؤمنين أتفعل هذا ؟ قال : يا لكع اسكت فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من كان له صبي فليتصاب له ] قال ابن عساكر : غريب جدا
و أخرج ابن أبي شيبة في المنصف عن الشعبي قال : دخل شاب من قريش على معاوية فأغلط عليه فقال له : يا ابن أخي أنهاك عن السلطان إن السلطان يغضب غضب الصبي و يأخذ أخذ الأسد
و أخرج عن الشعبي قال : قال زياد : استعملت رجلا فكثر خراجه فخشي أن أعاقبه ففر إلى معاوية فكتبت إليه : أن هذا أدب سوء لمن قبلي فكتب إلي : إنه ليس ينبغي لي و لا لك أن نسوس الناس بسياسة واحدة : أن نلين جميعا فتمرح الناس في المعصية على المهالك و لكن تكون لشدة و الفظاظة و أكون للين و الرأفة
و أخرج عن الشعبي قال : سمعت معاوية يقول : ما تفرقت أمة قط إلا ظهر أهل الباطل على أهل الحق إلا هذه الأمة
و في الطيوريات عن سليمان المخزومي قال : أذن معاوية للناس إذنا عاما فلما احتفل المجلس قال : أنشدوني ثلاث أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه فسكتوا ثم طلع عبد الله بن الزبير فقال : هذا مقولا العرب و علامتها أبو خبيب قال : مهيم ؟ قال : أنشدني ثلاثة أبيات لرجل من العرب كل بيت قائم بمعناه قال : بثلاث مائة ألف قال : و تساوي ؟ قال : أنت بالخيار و أنت واف كاف قال : هات فأنشده للأفوه الأودي قال :
( بلوت الناس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير ختال و قال )
قال : صدق هيه قال :
( و لم أر في الخطوب أشد وقعا ... و أصعب من معاداة الرجال )
قال : صدق هيه قال :
( و ذقت مرارة الأشياء طرا ... فما طعم أمر من السؤال )
قال صدق ثم أمر له بثلاثمائة ألف
و أخرج البخاري و النسائي و ابن حاتم في تفسيره و اللفظ له من طرق أن مروان خطب بالمدينة و هو على الحجاز من قبل معاوية فقال : إن الله قد أرى أمير المؤمنين في ولده يزيد رأيا حسنا و إن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر و عمر ـ و في لفظ : سنة أبي بكر و عمر ـ فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : سنة هرقل و قيصر إن أبا بكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها معاوية إلا رحمة و كرامة لولده فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه أف لكما ؟ فقال عبد الرحمن : ألست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقالت عائشة رضي الله عنها كذب مروان ما فيه نزلت و لكن في فلان بن فلان و لكن رسول الله صلى الله عليه و سلم لعن أبا مروان ـ و مروان في صلبه ـ فمروان بعض من لعنة الله
و أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عروة قال : قال معاوية : لاحلم إلا التجارب و أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال : دهاة العرب أربعة : معاوية و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة و زياد فأما معاوية فللحلم و الأناة و أما عمرو فللمعضلات و أما المغيرة فللمبادهة و أما زياد فللكبير و الصغير
و أخرج أيضا عنه قال : كان القضاة أربعة و الدهاة أربعة فأما القضاة : فعمر و علي و ابن مسعود و زيد بن ثابت و أما الدهاة فمعاوية و عمرو بن العاص و المغيرة و زياد و أخرج عن قبيصة بن جابر قال : صحبت عمر بن الخطاب فما رأيت رجلا أقرأ لكتاب الله و لا أفقه في دين الله منه و صحبت طلحة بن عبيد الله فما رأيت رجلا أعطى لجزيل مال من غير مسأله منه و صحبت معاوية فما رأيت رجلا أثقل حلما و لا أبطأ جهلا و لا أبعد أناة منه و صحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلا أنصع طرفا و لا أحلم جليسا منه و صحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر لخرج من أبوابها كلها
و أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أن عقيل بن أبي طالب سأل عليا فقال : إني محتاج و أني فقير فأعطني فقال : اصبر حتى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم فألح عليه فقال لرجل : خذ بيده و انطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل : دق هذه الأقفال و خذ ما في هذه الحوانيت قال : تريد أن تتخذني سارقا ؟ قال : و أنت تريد أن تتخذني سارقا ؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكما دونهم قال : لآتين معاوية قال : أنت و ذاك فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف ثم قال : اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به علي و ما أوليتك فصعد فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني أخبركم أني أردت عليا على دينه فاختار دينه و إني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه
و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عقيلا دخل على معاوية فقال معاوية : هذا عقيل و عمه أبو لهب فقال عقيل : هذا معاوية و عمته حمالة الحطب
و أخرج ابن عساكر عن الأوزاعي قال : دخل خريم بن فاتك على معاوية و مئزره مشمر و كان حسن الساقين فقال معاوية : لو كانت هاتان الساقان لامرأة ! فقال خريم في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين
من مات في عهده من الأعلام
مات في أيام معاوية من الأعلام : صفوان بن أمية و خفصة و أم حبيبة و صفية و ميمونة و سودة و جويرية و عائشة أمهات المؤمنين رضي الله عنهم و لبيد الشاعر و عثمان بن طلحة الحجبي و عمرو بن العاص و عبد الله بن سلام الحبر و محمد بن مسلمة و أبو موسى الأشعري و زيد بن ثابت و أبو بكرة و كعب بن مالك و المغيرة بن شعبة و جرير البجلي و أبو أيوب الأنصاري و عمران بن حصين و سعيد بن زيد و أبو قتادة الأنصاري و فضالة بن عبيد و عبد الرحمن بن أبي بكر و جبير بن مطعم و أسامة بن زيد و ثوبان و عمرو بن حزم و حسان بن ثابت و حكيم بن حزام و سعد بن أبي وقاص و أبو اليسر و قثم بن العباس و أخوه عبيد الله و عقبة بن عامر و أبو هريرة سنة تسع و خمسين و كان يدعو : اللهم إني أعوذ بك من رأس الستين و إمارة الصبيان فاستجيب له و خلائق آخرون رضي الله عنهم يزيد بن معاوية بن أبي سفيان 60هـ ـ 64ه
يزيد بن معاوية : أبو خالد الأموي ولد سنة خمس أو ست و عشرين كان ضخما كثير اللحم كثير الشعر و أمه ميسون بنت بحدل الكليبة
روى عن أبيه و عنه : ابنه خالد و عبد الملك بن مروان جعله أبوه ولي عهده و أكره الناس على ذلك كما تقدم قال الحسن البصري : أفسد أمر الناس اثنان : عمرو بن العاص يوم أشار على معاوية برفع المصاحف فحملت و نال من القراء فحكم الخوارج فلا يزال هذا التحكيم إلى يوم القيامة
و المغيرة بن شعبة : فإنه كان عامل معاوية على الكوفة فكتب إليه معاوية : إذا قرأت كتابي فأقبل معزولا فأبطأ عنه فلما ورد عليه قال : ما أبطأ بك ؟ قال أمر كنت أوطئه و أهيئه قال : و ما هو ؟ قال : البيعة ليزيد من بعدك ! قال : أو قد فعلت ؟ قال نعم قال : ارجع إلى عملك فلما خرج قال له أصحابه : ما وراءك ؟ قال : وضعت رجل معاوية في غرزغي لا يزال فيه إلى يوم القيامة
قال الحسن : فمن أجل ذلك بايع هؤلاء لأبنائهم و لولا ذلك لكانت شورى إلى يوم القيامة و قال ابن سيرين : وفد عمرو بن حزم على معاوية فقال له : أذكرك الله في أمة محمد صلى الله عليه و سلم بمن تستخلف عليها فقال : نصحت و قلت برأيك و إنه لم يبق إلا ابني و أبناؤهم و ابني أحق و قال عطية بن قيس : خطب معاوية فقال : اللهم إن كنت إنما عهدت ليزيد لما رأيت من فضله فبلغه ما أملت و أعنه و إن كنت إنما حملني حب الوالد لولده و أنه ليس لما صنعت به أهلا فأقبضه قبل أن يبلغ ذلك فلما مات معاوية بايعه أهل الشام ثم بعث إلى أهل المدينة من يأخذ له البيعة فأبى الحسين و ابن الزبير أن يبايعاه و خرجا من ليلتهما إلى مكة
فأما ابن الزبير فلم يبايع و لا دعا إلى نفسه و أما الحسين فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية و هو يأبى فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما يجمع الإقامة مرة و يريد المسيرة إليهم أخرى فأشار عليه ابن الزبير بالخروج و كان ابن عباس يقول له : لا تفعل و قال له ابن عمر : لا تخرج فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم خيره الله بين الدنيا و الآخرة فاختار الآخرة و إنك بضعة منه و لا تنالها ـ يعني الدنيا ـ و اعتنقه و بكى و ودعه فكان ابن عمر يقول : غلبنا حسين بالخروج و لعمري لقد رأى في أبيه و أخيه عبرة و كلمة في ذلك أيضا جابر بن عبد الله و أبو سعيد و أبو واقد الليثي و غيرهم فلم يطع أحد منهم و صمم على المسير إلى العراق فقال له ابن عباس : و الله إني لأظنك ستقتل بين نسائك و بناتك كما قتل عثمان فلم يقبل منه فبكى ابن عباس و قال : أقررت عين ابن الزبير و لما رأى ابن عباس عبد الله بن الزبير قال له : قد أتى ما أحببت هذا الحسين يخرج و يتركك و الحجاز ثم تمثل :
( يا لك من قنبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي و اصفري )
( و نقري ما شئت أن تنقري )
و بعث أهل العراق إلى الحسين الرسل و الكتب يدعونه إليهم فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة و معه طائفة من آل بيته رجالا و نساء و صبيانا فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله فوجه إليه جيشا أربعة آلاف عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص فخذله أهل الكوفة كما هو شأنهم مع أبيه من قبله فلما رهقه السلاح عرض عليه الاستسلام و الرجوع و المضي إلى يزيد فيضع يده في يده فأبوا إلا قتله فقتل و جيء برأسه في طست حتى وضع بين يدي ابن زياد لعن الله قاتله و ابن زياد معه و يزيد أيضا
و كان قتله بكربلاء و في قتله قصة فيها طول لا يحتمل القلب ذكرها فإنا لله و إنا إليه راجعون و قتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته
و لما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام و الشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة و الكواكب يضرب بعضها بعضا و كان قتله يوم عاشوراء و كسفت الشمس ذلك اليوم و احمرت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله ثم لا زالت الحمره ترى فيها بعد ذلك و لم تكن ترى فيها قبله
و قيل : إنه لم يقلب حجر بيت المقدس يومئذ إلا وجد تحته دم عبيط و صار الورس الذي في عسكرهم رمادا و نحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران و طبخوها فصارت مثل العلقم و تكلم رجل بالحسين بكلمة فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره قال الثعالبي : روت الرواة من غير وجه عن عبد الملك بن عمير الليثي قال : رأيت قي هذا القصر ـ و أشار إلى قصر الإمارة بالكوفة ـ رأس الحسين بن علي بين يدي عبيد الله بن زياد على ترس ثم رأيت رأس عبيد الله بن زياد بين يدي المختار بن أبي عبيد ثم رأيت رأس المختار بين يدي مصعب بن الزبير ثم رأيت رأس مصعب بين يدي عبد الملك فحدثت بهذا الحديث عبد الملك فتطير منه و فارق مكانه
و أخرج الترمذي [ عن سلمى قالت : دخلت على أم سلمة و هي تبكي فقلت : ما يبكيك ؟ قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم في المنام ـ و على رأسه و لحيته التراب ـ فقلت ما لك يا رسول الله ؟ قال : شهدت قتل الحسين آنفا ]
و أخرج البيهقي في الدلائل [ عن ابن عباس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم بنصف النهار أشعث أغبر ـ و بيده قارورة فيها دم ـ فقلت : بأبي و أمي يا رسول الله ما هذا ؟ قال : هذا دم الحسين و أصحابه لم أزل ألتقطه منذ اليوم ] فأحصي ذلك اليوم فوجدوه قتل يومئذ
و أخرج أبو نعيم في الدلائل عن أم سلمة قالت : سمعت الجن تبكي على حسين و تنوح عليه
و أخرج ثعلب في أماليه عن أبي خباب الكلبي قال : أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب : أخبرني بما بلغني أنكم تسمعون نوح الجن فقال : ما تلقى أحد إلا أخبرك أنه سمع ذلك قلت : فأخبرني بما سمعت أنت قال : سمعتهم يقولون :
( مسح الرسول جبينه ... فله بريق في الخدود )
( أبواه من عليا قري ... ش وجده خير الجدود )
و لما قتل الحسين و بنو أبيه بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد فسر بقتلهم أولا ثم ندم لما مقته المسلمون على ذلك و أبغضه الناس و حق لهم أن يبغضوه
و أخرج أبو يعلى في مسنده بسند ضعيف [ عن أبي عبيدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يزال أمر أمتي بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية يقال له : يزيد ]
و قال نوفل بن أبي الفرات : كنت عند عمر بن عبد العزيز فذكر رجل يزيد فقال : قال أمير المؤمنين يزيد بن معاوية فقال : تقول أمير المؤمنين ؟ و أمر به فضرب عشرين سوطا
و في سنة ثلاث و ستين بلغه أن أهل المدينة خرجوا عليه و خلعوه فأرسل إليهم جيشا كثيفا و أمرهم بقتالهم ثم المسير إلى مكة لقتال ابن الزبير فجاؤوا و كانت وقعة الحرة على باب طيبة و ما أدراك ما وقعة الحرة ؟ ذكرها الحسن مرة فقال : و الله ما كاد ينجوا منهم أحد قتل فيها خلق من الصحابة رضي الله عنهم و من غيرهم و نهبت المدينة و افتض فيه ألف عذراء فإنا لله و إنا إليه راجعون ! قال صلى الله عليه و سلم : [ من أخاف أهل المدينة أخافه الله و عليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين ] رواه مسلم
و كان سبب خلع أهل المدينة له أن يزيد أسرف في المعاصي و أخرج الواقدي من طرق أن عبد الله بن حنظلة بن الغسيل قال : و الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن يرمى بالحجارة من السماء ! إنه رجل ينكح أمهات الأولاد و البنات و الأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة
قال الذهبي : و لما فعل يزيد بأهل المدينة ما فعل ـ مع شربه الخمر و إتيانه المنكرات ـ اشتد عليه الناس و خرج عليه غير واحد و لم يبارك الله في عمره و سار جيش الحرة إلى مكة لقتال ابن الزبير فمات أمير الجيش بالطريق فاستخلف عليهم أميرا و أتوا مكة فحاصروا ابن الزبير و قاتلوه و رموه بالمنجنيق و ذلك في صفر سنة أربع و ستين و احترقت من شرارة نيرانهم أستار الكعبة و سقفها و قرنا الكبش الذي فدى الله به إسماعيل و كان في السقف و أهلك الله يزيد في نصف شهر ربيع الأول من هذا العام فجاء الخبر بوفاته و القتال مستمر فنادى ابن الزبير : يا أهل الشام إن طاغيتكم قد هلك فانقلوا و ذلوا و تخطفهم الناس و دعا ابن الزبير إلى بيعة نفسه و تسمى بالخلافة و أما أهل الشام فبايعوا معاوية بن يزيد و لم تطل مدته كما سيأتي
ومن شعر يزيد :
( آب هذا الهم فاكتنعا ... و أمر النوم فامتنعا )
( راعيا للنجم أرقبه ... فإذا ما كوكب طلعا )
( حام حتى إنني لأرى ... أنه بالغور قد وقعا )
( و لها بالماطرون إذا ... أكل النمل الذي جمعا )
( نزهة حتى إذا بلغت ... نزلت من جلق بيعا )
( في قباب وسط دسكرة ... حولها الزيتون قد ينعا )
و أخرج ابن عساكر عن عبد الله بن عمر قال : أبو بكر الصديق أصبتم اسمه عمر الفاروق قرن من حديد أصبتم اسمه ابن عفان ذو النورين قتل مظلوما يؤتى كفلين من الرحمة معاوية و ابنه ملكا الأرض المقدسة و السفاح و سلام المنصور و جابر و الأمين و أمير الغضب كلهم من بني كعب بن لؤي كلهم صالح لا يوجد مثله قال الذهبي : له طرق عن ابن عمر و لم يرفعه أحد
و أخرج الواقدي عن أبي جعفر الباقر قال : أول من كسا الكعبة الديباج يزيد بن معاوية
مات في أيام يزيد من الأعلام سوى الذين قتلوا مع الحسين و في وقعة الحرة : أم سلمة أم المؤمنين و خالد بن عرفطة و جرهد الأسلمي و جابر بن عتيك و بريدة بن الحصيب و مسلمة بن مخلد و علقمة بن قيس النخعي الفقيه و مسروق و المسور بن مخرمة و غيرهم رضي الله عنهم
و عدة المقتولين بالحرة من قريش و الأنصار ثلاثمائة و ستة رجال
معاوية بن يزيد 64هـ ـ 64ه
معاوية بن يزيد بن معاوية أبو عبد الرحمن و يقال له : أبو يزيد و يقال أبو ليلى استحلف بعهد أبيه في ربيع الأول سنة أربع و ستين و كان شابا صالحا و لما استخلف كان مريضا فاستمر مريضا إلى أن مات و لم يخرج إلى الباب و لا فعل شيئا من الأمور و لا صلى بالناس و كانت مدة خلافته أربعين يوما و قيل : شهرين و قيل : ثلاثة أشهر و مات و له إحدى و عشرون سنة و قيل : عشرون سنة و لما احتضر قيل له : ألا تستخلف ؟ قال : ما أصبت من حلاوتها فلم أتحمل مرارتها
عبد اله بن الزبير بن العوام 64هـ ـ 64هـ
عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي الأسدي كنيته أبو بكر و قيل : أبو خبيب ـ بضم الخاء المعجمية ـ صحابي ابن صحابي
و أبوه أحد العشرة المشهود لهم بالجنة و أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها و أم أبيه صفية عمة رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولد بالمدينة بعد عشرين شهرا من الهجرة ـ و قيل : في السنة الأولى ـ و هو أول مولود ولد للمهاجرين بعد الهجرة و فرح المسلمون بولادته فرحا شديدا لأن اليهود كانوا يقولون : سحرناهم فلا يولد لهم ولد فحنكه رسول الله صلى الله عليه و سلم بتمرة لاكها و سماه عبد الله و كناه أبا بكر باسم جده الصديق و كنيته و كان صواما قواما طويل الصلاة وصولا للرحم عظيم الشجاعة قسم الدهر ثلاث ليال ليلة يصلي قائما حتى الصباح و ليلة راكعا و ليلة ساجدا حتى الصباح
روي له عن النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثة و ثلاثون حديثا روى عنه أخوه عروة و ابن أبي ملكية و عباس بن سهل و ثابت البناني و عطاء و عبيدة السلماني و خلائق آخرون و كان ممن أبى البيعة ليزيد بن معاوية و فر إلى مكة و لم يدع إلى نفسه لكن لم يبايع فوجد عليه يزيد وجدا شديدا فلما مات يزيد بويع له بالخلافة و أطاعه أهل الحجاز و اليمن و العراق و خراسان و جدد عمارة الكعبة فجعل لها بابين على قواعد إبراهيم و أدخل فيها ستة أذرع من الحجر لما حدثته خالته عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه و سلم و لم يبق خارجا عنه إلا الشام و مصر فإنه بويع بهما معاوية بن يزيد فلم تطل مدته فلما مات أطاع أهلهما ابن الزبير و بايعوه ثم خرج مروان بن الحكم فغلب على الشام ثم مصر و استمر إلى أن مات سنة خمس و ستين و قد عهد إلى ابنه عبد الملك و الأصح ما قاله الذهبي أن مروان لا يعد في أمراء المؤمنين بل هو باغ خارج على ابن الزبير و لا عهده إلى ابنه بصحيح و إنما صحت خلافة عبد الملك من حين قتل ابن الزبير و أما ابن الزبير فإنه استمر بمكة خليفة إلى أن تغلب عبد الملك فجهز لقتاله الحجاج في أربعين ألفا فحصره بمكة أشهرا و رمى عليه بالمنجنيق و خذل ابن الزبير أصحابه و تسللوا إلى الحجاج فظفر به و قتله و صلبه و ذلك يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادى الأولى ـ و قيل : الآخرة ـ سنة ثلاث و سبعين
و أخرج ابن عساكر عن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال : إني لفوق أبي قبيس حين وضع المنجنيق على ابن الزبير فنزلت صاعقة كأني أنظر إليها تدور كأنها حمار أحمر فأحرقت من أصحاب المنجنيق نحوا من خمسين رجلا
و كان ابن الزبير فارس قريش في زمانه له المواقف المشهودة
أخرج أبو يعلى في مسنده [ عن ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه و سلم احتجم فلما فرغ قال له : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد فلما ذهب شربه فلما رجع قال : ما صنعت بالدم ؟ قال : عمدت إلى أخفى موضع فجعلته فيه قال : لعلك شربته ! قال : نعم قال ويل للناس منك و ويل لك من الناس ] فكانوا يرون أن القوة التي به من ذلك الدم
و أخرج عن نوف البكالي قال : إني لأجد في كتاب الله المنزل أن ابن الزبير فارس الخلفاء
و قال عمرو بن دينار : ما رأيت مصليا أحسن صلاة من ابن الزبير و كان يصلي في الحجر ـ و المنجنيق يصيب طرف ثوبه ـ فما يلتفت إليه
و قال مجاهد : ما كان باب من العبادة يعجز الناس عنه إلا تكلفه ابن الزبير و لقد جاء سيل طبق البيت فجعل يطوف سباحة
و قال عثمان بن طلحة : كان ابن الزبير لا ينازع في ثلاثة : لا شجاعة و لا عبادة و لا بلاغة و كان صيتا إذا خطب تجاوبه الجبال
و أخرج ابن عساكر عن عروة أن النابغة الجعدي أنشد عبد الله بن الزبير :
( حكيت لنا الصديق لما وليتنا ... و عثمان و الفاروق فارتاح معدم )
( و سويت بين الناس في الحق فاستوى ... فعاد صباحا حالك اللون أسحم )
و أخرج عن هشام بن عروة و خبيب قال : أول من كسا الكعبة الديباج عبد الله بن الزبير و كان كسوتها المسوح و الأنطاع
و أخرج عن عمر بن قيس قال : كان لابن الزبير مائة غلام يتكلم كل غلام منهم بلغه و كان ابن الزبير يكلم كل أحد منهم بلغته و كنت إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجل لم يرد الله طرفه عين و إذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين
و أخرج عن هشام بن عروة قال : كان أول ما أفصح به عمي عبد الله بن الزبير ـ و هو صغير ـ السيف فكان لا يضعه من فيه فكان أبوه إذا سمع ذلك منه يقول : أما و الله ليكونن لك منه يوم و يوم و أيام
و أخرج عن أبي عبيدة قال : جاء عبد الله بن الزبير الأسدي إلى عبد الله بن الزبير بن العوام فقال : يا أمير المؤمنين إن بيني و بينك رحما من قبل فلانة فقال ابن الزبير : نعم هذا كما ذكرت و إن فكرت في هذا أصبت الناس بأسرهم يرجعون إلى أب واحد و إلى أم واحدة فقال : يا أمير المؤمنين إن نفقتي نفدت قال : ما كنت ضمنت لأهلك إنها تكفيك إلى أن ترجع إليهم قال : يا أمير المؤمنين ناقتي قد نقبت قال أنجد بها تبرد خفها و ارفعها بسبت و اخفضها بهلب و سر عليها البردين قال : يا أمير المؤمنين إنما جئتك مستحملا و لم آتك مستوصفا لعن الله ناقة حملتني إليك ! فقال ابن الزبير : إن و راكبها فخرج الأسدي يقول :
( أرى الحاجات عند أبي خبيب ... نكدن و لا أمية في البلاد )
( من الأعياص أو من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد )
( و قلت لصحبتي : أدنوا ركابي ... أفارق بطن مكة في سواد )
( و مالي حين أقطع ذات عرق ... إلى ابن الكاهلية من معاد )
و أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري قال : لم يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رأس إلى المدينة قط و لا يوم بدر و حمل إلى أبي بكر رأس فكره ذلك و أول من حملت إليه الرؤوس عبد الله بن الزبير
و في أيام ابن الزبير كان خروج المختار الكذاب الذي ادعى النبوة فجهز ابن الزبير لقتاله إلى أن ظفر به في سنة سبع و ستين و قتله لعنه الله
مات في أيام ابن الزبير من الأعلام : أسيد بن حضير و عبد الله بن عمرو بن العاص و النعمان بن بشير و سليمان بن صرد و جابر بن سمرة و يزيد بن أرقم و عدي بن حاتم و ابن عباس و أبو واقد الليثي و زيد بن خالد الجهني و أبو الأسود الدؤلي و آخرون
عبد الملك بن مروان بن الحكم 65هـ ـ 86ه
عبد الملك بن مروان : بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب أبو الوليد ولد سنة ست و عشرين بويع بعهد من أبيه في خلافة ابن الزبير فلم تصح خلافته و بقي متغلبا على مصر و الشام ثم غلب على العراق و ما والاها إلى أن قتل ابن الزبير سنة ثلاث و سبعين فصحت خلافته من يومئذ و استوثق له الأمر ففي هذا العام هدم الحجاج الكعبة و أعادها على ما هي عليه الآن و دس على ابن عمر من طعنه بحربة مسمومة فمرض منها و مات
و في سنة أربع و سبعين سار الحجاج إلى المدينة و أخذ يتعنت على أهلها و يستخف ببقايا من فيها من صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم و ختم في أعناقهم و أيديهم يذلهم بذلك كأنس و جابر بن عبد الله و سهل بن سعد الساعدي فإنا لله و إنا إليه راجعون
و في سنة خمس و سبعين حج بالناس عبد الملك الخليفة و سير الحجاج أميرا على العراق
و في سنة سبع و سبعين فتحت هرقلة و هدم عبد العزيز بن مروان جامع مصر و زيد فيه من جهاته الأربع
و في سنة اثنين و ثمانين فتح حصن سنان من ناحية المصيصة و كانت غزوة أرمينية و صنهاجة بالمغرب
و في سنة ثلاث و ثمانين بنيت مدينة واسط بناها الحجاج
و في سنة أربع و ثمانين فتحت المصيصة و أودية من المغرب
و في سنة خمس و ثمانين بنيت مدينة أردبيل و مدينة برذعة بناها عبد العزيز ابن حاتم بن النعمان الباهلي
و في سنة ست و ثمانين فتح حصن بولق و حصن الأخرم و فيها كان طاعون الفتيات و سمي بذلك لأنه بدأ في النساء
و فيها مات الخليفة عبد الملك في شوال و خلف سبعة عشر ولدا
قال أحمد بن عبد الله العجلي : كان عبد الملك أبخر الفم و إنه ولد لستة أشهر
و قال ابن سعد : كان عابدا زاهدا ناسكا بالمدينة قبل الخلافة
و قال يحيى الغساني : كان عبد الملك بن مروان كثيرا ما يجلس إلى أم الدرداء فقالت له مرة : بلغني يا أمير المؤمنين أنك شربت الطلاء بعد النسك و العبادة قال : إي و الله و الدماء قد شربتها
و قال نافع : لقد رأيت المدينة و ما بها شاب أشد تشميرا و لا أفقه و لا أنسك و لا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان
و قال أبو الزناد : فقهاء المدينة : سعيد بن المسيب و عبد الملك بن مروان و عروة ابن الزبير و قبيصة بن ذؤيب
و قال ابن عمر : ولد الناس أبناء و ولد مروان أبا
و قال عبادة بن نسي : قيل لابن عمر : إنكم معشر أشياخ قريش يوشك أن تنقرضوا فمن نسأل بعدكم ؟ فقال : إن لمروان ابنا فيها فاسألوه
و قال سحيم مولى أبي هريرة رضي الله عنه : دخل عبد الملك ـ و هو شاب ـ على أبي هريرة رضي الله عنه فقال أبو هريرة : هذا يملك العرب
و قال عبيدة بن رياح الغساني : قالت أم الدرداء لعبد الملك : ما زلت أتخيل هذا الأمر فيك منذ رأيتك قال : و كيف ذاك ؟ قالت : ما رأيت أحسن منك محدثا و لا أعلم منك مستمعا
و قال الشعبي : ما جالست أحدا إلا وجدت لي عليه الفضل إلا عبد الملك بن مروان فإني ما ذكرته حديثا إلا و زادني فيه و لا شعرا إلا و زادني فيه
و قال الذهبي : سمع عبد الملك من عثمان و أبي هريرة و أبي سعيد و أم سلمة و بريرة و ابن عمر و معاوية روى عنه : عروة و خالد بن معدان و رجاء ابن حيوة و الزهري و يونس بن ميسرة و ربيعة بن يزيد و إسماعيل بن عبيد الله و حريز بن عثمان و طائفة
و قال بكر بن عبد الله المزني : أسلم يهودي اسمه يوسف و كان قرأ الكتب فمر بدار مروان فقال : ويل لأمة محمد من أهل هذه الدار فقلت له : إلى متى ؟ قال : حتى تجيء رايات سود من قبل خراسان
و كان صديقا لعبد الملك بن مروان فضرب يوما على منكبه و قال : اتق الله في أمة محمد إذا ملكتهم فقال : دعني ويحك ما شأني و شأن ذلك ؟ فقال : اتق الله في أمرهم قال : و جهز يزيد جيشا إلى أهل مكة فقال عبد الملك : أعوذ بالله ! أيبعث إلى حرم الله ؟ فضرب يوسف منكبه و قال : جيشك إليهم أعظم
و قال يحيى الغساني : لما نزل مسلم بن عقبة المدينة دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فجلست إلى جنب عبد الملك فقال لي عبد الملك : أمن هذا الجيش أنت ؟ قلت : نعم قال : ثكلتك أمك ! أتدري إلى من تسير ؟ إلى أول مولود ولد في الإسلام و إلى ابن حواري رسول الله صلى الله عليه و سلم و إلى ابن ذات النطاقين و إلى من حنكه رسول الله صلى الله عليه و سلم أما و الله إن جئته نهارا وجدته صائما و لئن جئته ليلا لتجدنه قائما فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبهم الله جميعا في النار فلما صارت الخلافة إلى عبد الملك وجهنا مع الحجاج حتى قتلناه
و قال ابن أبي عائشة : أفضي الأمر إلى عبد الملك و المصحف في حجره فأطبقه و قال : هذا آخر العهد بك
و قال مالك : سمعت يحيى بن سعيد يقول : أول من صلى المسجد ما بين الظهر و العصر عبد الملك بن مروان و فتيان معه كانوا إذا صلى الإمام الظهر قاموا فصلوا إلى العصر فقيل لسعيد بن المسيب : لو قمنا فصلينا كما يصلي هؤلاء فقال سعيد بن المسيب : ليست العبادة بكثرة الصلاة و الصوم و إنما العبادة التفكر في أمر الله و الورع عن محارم الله
و قال مصعب بن عبد الله : أول من سمي في الإسلام عبد الملك عبد الملك ابن مروان و قال يحيى بن بكير : سمعت مالكا يقول : أول من ضرب الدنانير عبد الملك و كتب عليها القرآن و قال مصعب : كتب عبد الملك على الدنانير : { قل هو الله أحد } و في الوجه الآخر [ لا إله إلا الله ] و طوقه بطوق فضة و كتب فيه [ ضرب بمدينة كذا ] و كتب خارج الطوق [ محمد رسول الله أرسله بالهدى و دين الحق ]
و في الأوائل للعسكري بسنده : كان عبد الملك أول من كتب في صدور الطوامير { قل هو الله أحد } و ذكر النبي صلى الله عليه و سلم مع التاريخ فكتب ملك الروم : إنكم أحدثتم في طواميركم شيئا من ذكر نبيكم فاتركوه و إلا أتاكم من دنانيرنا ذكر ما تكرهون فعظم ذلك على عبد الملك فأرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية فشاوره فقال : حرم دنانيرهم و اضرب للناس سككا فيها ذكر الله و ذكر رسوله و لا تعفهم مما يكرهون في الطوامير فضرب الدنانير للناس سنة خمس و سبعين قال العسكري : و أول خليفة بخل عبد الملك و كان يسمى [ رشح الحجارة ] لبخله و يكنى [ أبا الذبان ] لبخره
قال : و هو أول من غدر في الإسلام و أول من نهى عن الكلام بحضرة الخلفاء و أول من نهى عن الأمر بالمعروف
ثم أخرج بسنده عن ابن الكلبي قال : كان مروان بن الحكم ولى العهد عمرو ابن سعيد بن العاص بعد ابنه فقتله عبد الملك و كان قتله أول غدر في الإسلام فقال بعضهم :
( يا قوم لا تغلبوا عن رأيكم فلقد ... جربتم الغدر من أبناء مروانا )
( أمسوا و قد قتلوا عمرا و ما رشدوا ... يدعون غدرا بعهد الله كيسانا )
( و يقتلون الرجال البزل ضاحية ... لكي يؤلوا أمور الناس ولدانا )
( تلاعبوا بكتاب الله فاتخذوا ... هواهم في معاصي الله قرآنا )
و أخرج بإسناد فيه الكديمي و هو متهم بالكذب عن ابن جريج عن أبيه قال : خطبنا عبد الملك بن مروان بالمدينة بعد قتل ابن الزبير عام حج سنة خمس و سبعين فقال بعد حمد الله و الثناء عليه :
أما بعد فلست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان و لا الخليفة المداهن ـ يعني معاوية و لا الخليفة المأفون ـ يعني يزيد ألا و إن من كان قلبي من الخلفاء كانوا يأكلون و يطعمون من هذه الأموال ألا و إني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم تكلفوننا أعمال المهاجرين و لا تعملون مثل أعمالهم ؟ فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا و بينكم هذا عمرو بن سعيد قرابته قرابته و موضعه موضعه قال برأسه هكذا فقلنا بأسيافنا هكذا ألا و إنا نحمل لكم كل شيء إلا وثوبا على أمير أو نصب راية ألا و إن الجامعة التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي و الله لا يفعل أحد فعله إلا جعلتها في عنقه و الله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه ثم نزل
ثم قال العسكري : و عبد الملك أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية و أول من رفع يديه على المنبر
قلت : فتمت له عشرة أوائل منها خمسة مذمومة
و قد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن محمد بن سيرين قال : أول من أحدث الأذان في الفطر و الأضحى بنو مروان فإما أن يكون عبد الملك أو أحدا من أولاده
و أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال : أخبرني غير واحد أن أول من كسا الكعبة بالديباج عبد الملك بن مروان و إن من أدرك ذلك من الفقهاء قالوا : أصاب ما نعلم لها من كسوة أوفق منه
و قال يوسف بن الماجشون : كان عبد الملك إذا قعد للحكم قيم على رأسه بالسيوف
و قال الأصمعي : قيل لعبد الملك : يا أمير المؤمنين عجل عليك الشيب فقال : و كيف لا و أنا أعرض عقلي على الناس في كل جمعة ؟
و قال محمد بن حرب الزيادي : قيل لعبد الملك بن مروان : من أفضل الناس ؟ قال : من تواضع عن رفعة و زهد عن قدرة و أنصف عن قوة
و قال ابن عائشة : كان عبد الملك إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال : اعفني من أربع و قل بعدها ما شئت : لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له و لا تجبني فيما لا أسألك فإن فيما أسألك عنه شغلا و لا تطرني فإني أعلم بنفسي منك و لا تحملني على الرعية فإني إلى الرفق بهم أحوج و قال المدائني : لما أيقن عبد الملك بالموت قال : و الله لوددت أني كنت منذ ولدت إلى يومي هذا حمالا ثم أوصى بنيه بتقوى الله و نهاهم عن الفرقة و الاختلاف و قال : كونوا بني أم بررة و كونوا في الحرب أحرارا و للمعروف منارا فإن الحرب لم تدن منية قبل وقتها و إن المعروف يبقى أجره و ذكره واحلوا في مرارة و لينوا في شدة و كونوا كما قال ابن عبد الأعلى الشيباني :
( إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو حنق وبطش باليد )
( عزت فلم تكسر و إن هي بددت ... فالكسر و التوهين للمتبدد )
يا وليد اتق الله فيما أخلفك فيه إلى أن قال : و انظر الحجاج فأكرمه فإنه هو الذي وطأ لكم المنابر و هو سيفك يا وليد و يدك على من ناوأك فلا تسمعن فيه قول أحد و أنت إليه أحوج منه إليك و ادع الناس إذا مت إلى البيعة فمن قال برأسه هكذا فقل بسيفك هكذا
وقال غيره : لما احتضر عبد الملك دخل عليه ابنه الوليد فتمثل بهذا :
( كم عائد رجلا و ليس يعوده ... إلا ليعلم هل يراه يموت ؟ ! )
فبكى الوليد فقال : ما هذا ؟ أتحن حنين الأمة ؟ إذا أنا مت فشمر و ائتزر و البس جلد النمر و ضع سيفك على عاتقك فمن أبدى ذات نفسه لك فاضرب عنقه و من سكت مات بدائه
قلت : لو لم يكن من مساوىء عبد الملك إلا الحجاج و توليته إياه على المسلمين و على الصحابة رضي الله عنهم يهينهم و يذلهم قتلا و ضربا و شتما و حبسا و قد قتل من الصحابة و أكابر التابعين ما لا يحصى فضلا عن غيرهم و ختم في عنق أنس و غيره من الصحابة ختما يريد بذلك ذلهم فلا رحمة الله و لا عفا عنه و من شعر عبد الملك :
( لعمري لقد عمرت في الدهر برهة ... و دانت لي الدنيا بوقع البواتر )
( فأضحى الذي قد كان مما يسرني ... كلمح مضى في المزمنات الغوابر )
( فيا ليتني لم أعن بالملك ساعة ... ولم أله لي لذات عيش نواضر )
( و كنت كذي طمرين عاش ببلغة ... من الدهر حتى زار ضنك بالمقابر )
و في تاريخ ابن عساكر عن إبراهيم بن عدي قال : رأيت عبد الملك بن مروان و قد أتته أمور أربعة في ليلة فما تنكر و لا تغير وجهه : قتل عبيد الله بن زياد و قتل حبيش بن دلجة بالحجاز و انتقاض ما كان بينه و بين ملك الروم و خرج عمرو بن سعيد إلى دمشق
و فيه عن الأصمعي قال : أربعة لم يلحنوا في جد و لا هزل : الشعبي و عبد الملك بن مروان و الحجاج بن يوسف و ابن القرية
و أسند السلفي في الطيوريات : أن عبد الملك بن مروان خرج يوما فلقيته امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين قال : ما شأنك ؟ قالت : توفي أخي و ترك ستمائة دينار فدفع إلي من ميراثه دينار واحد فقيل هذا حقك فعمي الأمر فيها على عبد الملك فأرسل إلى الشعبي فسأله فقال : نعم هذا توفي فترك ابنتين فلهما الثلثان أربعمائة و أما فلها السدس مائة و زوجة فلها الثمن خمسة و سبعون و اثني عشر أخا فلهم أربعة و عشرون و بقي لها دينار
و قال ابن أبي شيبة في المنصف : حدثنا أبو سفيان الحميري حدثنا خالد بن محمد القرشي قال : قال عبد الملك بن مروان : من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية و من أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية و من أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية
و قال أبو عبيدة : لما أنشد الأخطل كلمته لعبد الملك التي يقول فيها :
( شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا )
قال : خذ بيده يا غلام فأخرجه ثم ألقي عليه من الخلع ما يغمره ثم قال : إن لكل قوم شاعرا و شاعر بني أمية الأخطل و قال الأصمعي : دخل الأخطل على عبد الملك فقال : ويحك ! صف لي السكر قال : أوله لذة و آخره صداع و بين ذلك حالة لا أصف لك مبلغها فقال : ما مبلغها ؟ قال : لملكك يا أمير المؤمنين عندها أهون علي من شسع نعلي و أنشأ يقول :
( إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير )
( خرجت أجر الذيل تيها كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير )
قال الثعالبي : كان عبد الملك يقول : ولدت في رمضان و فطمت في رمضان و ختمت القرآن في رمضان و بلغت الحام في رمضان و وليت في رمضان و أتتني الخلافة في رمضان و أخشى أن أموت في رمضان فلما دخل شوال و أمن مات
و ممن مات في أيام عبد الملك من الأعلام : ابن عمر و أسماء بنت الصديق و أبو سعيد بن المعلى و أبو سعيد الخدري و رافع بن خديج و سلمة بن الأكوع و العرباض بن سارية و جابر بن عبد الله و عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و السائب بن يزيد و أسلم مولى عمر و أبو إدريس الخولاني و شريح القاضي و أبان بن عثمان بن عفان و الأعشى الشاعر و أيوب بن القرية الذي يضرب به المثل في الفصاحة و خالد بن يزيد بن معاوية و زر بن حبيش و سنان بن سلمة ابن المحبق و سويد بن غفلة و أبو وائل و طارق بن شهاب و محمد بن الحنيفة و عبد الله بن شداد بن الهاد و أبو عبيد بن عبد الله بن مسعود وعمرو بن حريث و عمرو بن سلم الجرمي و آخرون
الوليد بن عبد الملك بن مروان 86 هـ 96 ه
الوليد بن عبد الملك : أبو العباس قال الشعبي : كان أبواه يترفانه فشب بلا أدب
قال روح بن زنباع : دخلت يوما على عبد الملك ـ و هو مهموم ـ فقال : فكرت فيمن أوليه أمر العرب فلم أجده فقلت : أين أنت من الوليد ؟ قال : إنه لا يحسن النحو فسمع ذلك الوليد فقام من ساعته و جمع أصحاب النحو و جلس معهم في بيت ستة أشهر ثم خرج و هو أجهل مما كان فقال عبد الملك : أما إنه قد أعذر
و قال أبو الزناد : كان الوليد لحانا قال على منبر المسجد النبوي : يا أهل المدينة
و قال أبو عكرمة الضبي : قرأ الوليد على المنبر يا ليتها كانت القاضية و تحت المنبر عمر بن عبد العزيز و سليمان بن عبد الملك فقال سليمان : وددتها و الله
و كان الوليد جبارا ظالما
و أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن شوذب قال : قال عمر بن عبد العزيز ـ و كان الوليد في الشام و الحجاج بالعراق و عثمان بن جبارة بالحجاز و قرة بن شريك بمصر ـ امتلأت الأرض و الله جورا
و أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن إبراهيم بن أبي زرعة أن الوليد قال له : أيحاسب الخليفة ؟ قال : يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أم داود ؟ إن الله جمع له النبوة و الخلافة ثم توعده في كتابه فقال : { يا داود } الآية
لكنه أقام الجهاد في أيامه و فتحت في خلافته فتوحات عظيمة و كان مع ذلك يختن الأيتام ويرتب لهم المؤدبين و يرتب للزمنى من يخدمهم و للأضراء من يقودهم و عمر المسجد النبوي و وسعه ورزق الفقهاء و الضعفاء و الفقراء و حرم عليهم سؤال الناس و فرض لهم ما يكفيهم و ضبط الأمور أتم ضبط
و قال ابن أبي علبة : رحم الله الوليد ! و أين مثل الوليد ؟ افتتح الهند و الأندلس و بنى مسجد دمشق و كان يعطيني قطع الفضة أقسمها على قراء مسجد بيت المقدس
ولي الوليد الخلافة بعهد من أبيه في شوال سنة ست و ثمانين ففي سنة سبع و ثمانين شرع في بناء جامع دمشق و كتب بتوسيع المسجد النبوي و بنائه و فيها فتحت بيكند و بخارى و سردانية و مطمورة و قميقم و بحيرة الفرسان عنوة و فيها حج بالناس عمر ابن عبد العزيز و هو أمير المدينة فوقف يوم النحر غلطا و تألم لذلك
و في سنة ثمان و ثمانين فتحت جرثومة و طوانة
و في سنة تسع و ثمانين فتحت جزيرتا منورقة و ميورقة
و في سنة إحدى و تسعين فتحت نسف و كش و شومان و مدائن و حصون من بحر أذربيجان
و في سنة اثنين و تسعين فتح إقليم الأندلس بأسره و مدينة أرماييل و قتربون
و في سنة ثلاث و تسعين فتحت الديبل و غيرها ثم الكرح و برهم و باجة و البيضاء و خوارزم و سمرقند و الصغد
و في سنة أربع و تسعين فتحت كابل و فرغانة و الشاش و سندرة و غيرها
و في سنة خمس و تسعين فتحت الموقان و مدينة الباب
و في سنة ست و تسعين فتحت طوس و غيرها و فيها مات الخليفة الوليد في نصف جمادى الآخرة و له إحدى و خمسون سنة
قال الذهبي : أقام الجهاد في أيامه و فتحت فيها الفتوحات العظيمة كأيام عمر بن الخطاب
قال عمر بن عبد العزيز : لما وضعت الوليد في لحده إذا هو يركض بين أكفانه ـ يعني ضرب الأرض برجله و من كلام الوليد : لو لا أن الله ذكر آل لوط في القرآن ما ظننت أن أحدا يفعل هذا
مات في أيام الوليد من الأعلام : عتبة بن عبد السلمي و المقدام بن معد يكرب و عبد الله بن بشر المازني و عبد الله بن أبي أوفى و أبو العالية و جابر بن زيد و أنس بن مالك و سهل بن سعيد و السائب بن يزيد و السائب بن خلاد و خبيب بن عبد الله بن الزبير و بلال بن أبي الدرداء و سعيد بن المسيب و أبو سلمة بن عبد الرحمن و سعيد بن جبير شهيدا قتله الحجاج لعنه الله و إبراهيم النخعي و مطرف و إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف و العجاج الشاعر و آخرون
سليمان بن عبد الملك بن مروان 96 هـ 99 ه
سليمان بن عبد الملك : أبو أيوب كان من خيار ملوك بني أمية
ولي الخلافة بعهد من أبيه بعد أخيه في جمادى الآخرة سنة ست و تسعين
روى قليلا عن أبيه و عبد الرحمن بن هبيرة
روى عنه ابنه عبد الواحد و الزهري
وكان فصيحا مفوها مؤثرا للعدل محبا للغزو و مولده سنة ستين
من محاسنه : أن عمر بن عبد العزيز كان له كالوزير فكان يمتثل أوامره في الخير فعزل عمال الحجاج و أخرج من كان في سجن العراق و أحيا الصلاة لأول مواقيتها و كان بنو أمية أماتوها بالتأخير
قال ابن سيرين : يرحم الله سليمان ! افتتح خلافته بإحيائه الصلاة لمواقيتها و اختتمها باستخلافه عمر بن عبد العزيز
و كان سليمان ينهى عن الغناء و كان من الأكلة المذكورين أكل في مجلس سبعين رمانة و خروفا و ست دجاجات و مكوك زبيب طائفي
قال يحيى الغساني : نظر سليمان في المرآة فأعجبه شبابه و جماله فقال : كان محمد صلى الله عليه و سلم نبيا و كان أبو بكر صديقا و كان عمر فاروقا و كان عثمان حييا و كان معاوية حليما و كان يزيد صبورا و كان عبد الملك سائسا و كان الوليد جبارا و أنا الملك الشاب فما دار الشهر حتى مات
و كانت وفاته يوم الجمعة عاشر صفر سنة تسع و تسعين و فتح في أيامه جرجان و حصن الحديد و سردانية و شقى و طبرستان و مدينة السقالبة
مات في أيامه من الأعلام : قيس بن أبي حازم و محمود بن لبيد و الحسن بن الحسين بن علي و كريب مولى ابن عباس و عبد الرحمن بن الأسود النخعي و آخرون
قال عبد الرحمن بن حسان الكناني : مات سليمان غازيا بدابق فلما مرض قال لرجاء بن حيوة : من لهذا الأمر بعدي ؟ أستخلف ابني ؟ قال ابنك غائب قال : فابني الآخر ؟ قال : صغير قال : فمن ترى ؟ قال : أرى أن تستخلف عمر بن عبد العزيز قال : أتخوف إخوتي لا يرضون قال : تولي عمر و من بعده يزيد بن عبد الملك و تكتب كتابا و تختم عليه و تدعوهم إلى بيعته مختوما قال : لقد رأيت فدعا بقرطاس فكتب فيه العهد و دفعه إلى رجاء و قال : اخرج إلى الناس فليبايعوا على ما فيه مختوما فخرج فقال : إن أمير المؤمنين يأمركم أن تبايعوا لمن في هذا الكتاب قالوا : و من فيه ؟ قال : هو مختوم لا تخبروا بمن فيه حتى يموت ؟ قالوا لا نبايع فرجع إليه فأخبره فقال : انطلق إلى صاحب الشرط و الحرس فاجمع الناس و مرهم بالبيعة فمن أبى فاضرب عنقه فبايعوا قال رجاء : فبينما أنا راجع إذا هشام فقال لي : يا رجاء قد علمت موقعك منا و أن أمير المؤمنين قد صنع شيئا ما أدري ما هو ؟ و إني تخوفت أن يكون قد أزالها عني فإن يكن قد عدلها عني فأعلمني ما دام في الأمر نفس حتى أنظر فقلت سبحان الله ! يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه ؟ لا يكون ذلك أبدا ثم لقيت عمر بن عبد العزيز فقال لي : يا رجاء إنه قد وقع في نفسي أمر كبير من هذا الرجل أتخوف أن يكون قد جعلها إلي و لست أقوم بهذا الشأن فأعلمني ما دام في الأمر نفس لعلي أتخلص منه ما دام حيا قلت : سبحان الله ! يستكتمني أمير المؤمنين أمرا أطلعك عليه ؟
ثم مات سليمان و فتح الكتاب فإذا فيه العهد لعمر بن عبد العزيز فتغيرت وجوه بني عبد الملك فلما سمعوا [ و بعده يزيد بن عبد الملك ] تراجعوا فأتوا عمر فسلموا عليه بالخلافة فعقر به فلم يستطع النهوض حتى أخذوا بضبعيه فدنوا به إلى المنبر و أصعدوه فجلس طويلا لا يتكلم فقال لهم رجاء : ألا تقومون إلى أمير المؤمنين فتبايعوه فبايعوه و مد يده إليهم ثم قام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إني لست بفارض و لكني منفذ و لست بمبتدع و لكني متبع و إن من حولكم من الأمصار و المدن إن هم أطاعوا كما أطعتم فأنا واليكم و إن هم أبوا فلست لكم بوال ثم نزل فأتاه صاحب المراكب فقال : ما هذا ؟ قال مركب الخليفة قال : لا حاجة لي فيه ائتوني بدابتي فأتوه بدابته و انطلق إلى منزله ثم دعا بدواة و كتب بيده إلى عمال الأمصار
قال رجاء : كنت أظن أنه سيضعف فلما رأيت صنعه في الكتاب علمت أنه سيقوى
يروى أن مروان بن عبد الملك وقع بينه وبين سليمان في خلافته كلام فقال له سليمان : يا بن اللخناء ففتح مروان فاه ليجيبه فأمسك عمر بن عبد العزيز بفيه و قال أنشدك الله إمامك و أخوك و له السن فسكت و قال : قتلتني و الله لقد زدت في جوفي أحر من النار فما أمسى حتى مات
و أخرج ابن أبي الدنيا عن زياد بن عثمان أنه دخل على سليمان بن عبد الملك لما مات ابنه أيوب فقال يا أمير المؤمنين إن عبد الرحمن بن أبي بكر كان يقول : من أحب البقاء فليوطن نفسه على المصائب
عمر بن عبد العزيز بن مروان 99 هـ ـ 101 ه
عمر بن عبد العزيز بن مروان : الخليفة الصالح أبو حفص خامس الخلفاء الراشدين
قال سفيان الثوري : الخلفاء خمسة : أبو بكر و عمر و عثمان و علي و عمر بن عبد العزيز أخرجه أبو داود في سننه
ولد عمر بحلوان قرية بمصر و أبوه أمير عليها سنة إحدى و قيل : ثلاث و ستين و أمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب و كان بوجه عمر شجة ضربته دابة في جبهته ـ و هو غلام ـ فجعل أبوه يمسح الدم عنه و يقول : إن كنت أشج بني أمية إنك لسعيد أخرجه ابن عساكر
و كان عمر بن الخطاب يقول : من ولدي رجل بوجهه شجة يملأ الأرض عدلا أخرجه الترمذي في تاريخه فصدق ظن أبيه فيه
و أخرج ابن سعد أن عمر بن الخطاب قال : ليت شعري ! من ذو الشين من ولدي الذي يملؤها عدلا كما ملئت جورا
و أخرج عن ابن عمر قال : كنا نتحدث أن الدنيا لا تنقضي حتى يلي رجل من آل عمر يعمل بمثل عمل عمر فكان بلال بن عبد الله بن عمر بوجهه شامة و كانوا يرون أنه هو حتى جاء الله بعمر بن عبد العزيز
روى عمر بن عبد العزيز عن أبيه و أنس و عبد الله بن جعفر بن أبي طالب و ابن قارظ و يوسف بن عبد الله بن سلام و عامر بن سعد و سعيد بن المسيب و عروة بن الزبير و أبي بكر بن عبد الرحمن و الربيع بن سمرة و طائفة
روى عنه : الزهري و محمد بن المنكدر و يحيى بن سعد الأنصاري و مسلمة بن عبد الملك و رجاء بن حيوة و خلائق كثيرون
جمع القرآن و هو صغير و بعثه أبوه إلى المدينة يتأدب بها فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم فلم توفي أبوه طلبه عبد الملك إلى دمشق و زوجه ابنته فاطمة
و كان قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضا إلا أنه كان يبالغ في التنعم فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم و الاختيال في المشية فلما ولي الوليد الخلافة أمر عمر على المدينة فوليها من سنة ست و ثمانين إلى سنة ثلاث و تسعين و عزل فقدم الشام ثم إن الوليد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من العهد و أن يعهد إلى ولده فأطاعه كثير من الأشراف طوعا و كرها فامتنع عمر بن عبد العزيز و قال لسليمان : في أعناقنا بيعة و صمم فطين عليه الوليد ثم شفع فيه بعد ثلاث فأدركوه و قد مالت عنقه فعرفها له سليمان فعهد إليه بالخلافة
قال زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه : ما صليت وراء إمام بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا الفتى ـ يعني عمر بن عبد العزيز ـ و هو أمير على المدينة قال زيد بن أسلم : فكان يتم الركوع و السجود و يخفف القيام و القعود له طرق عن أنس أخرجه البيهقي في سننه و غيره
و سئل محمد بن علي بن الحسين عن عمر بن عبد العزيز فقال : هو نجيب بني أمية و إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده
و قال ميمون بن مهران : كانت العلماء مع عمر بن العزيز تلامذه
و أخرج أبو نعيم بسند صحيح عن رياح بن عبيدة قال : خرج عمر بن عبد العزيز إلى الصلاة و شيخ متوكئ على يده فقلت في نفسي : إن هذا الشيخ جاف فلما صلى و دخل لحقته فقلت : أصلح الله الأمير ! من الشيخ الذي كان يتكئ على يدك ؟ قال يا رياح رأيته ؟ قلت نعم قال : ما أحسبك إلا رجلا صالحا ذاك أخي الخضر أتاني فأعلمني أني سألي هذه الأمة و أني سأعدل فيها
و أخرج أيضا عن أبي هشام أن رجلا جاء إلى عمر بن عبد العزيز فقال : رأيت النبي صلى الله عليه و سلم في النوم و أبو بكر عن يمينه و عمر عن شماله فإذا رجلان يتخصمان و أنت بين يديه جالس فقال لك : يا عمر إذا علمت فاعمل هذين لأبي بكر و عمر فاستحلف له عمر بالله لرأيت هذا فحلف له فبكى عمر
بويع بالخلافه بعهد من سليمان في صفر سنة تسع و تسعين كما تقدم فمكث فيها سنتين و خمسة أشهر نحو خلافة الصديق رضي الله عنه ملأ فيها الأرض عدلا ورد المظالم و سن السنن الحسنة و لما قرئ كتاب العهد باسمه عقر و قال : و الله إن هذا الأمر ما سألته الله قط ؟ و قدم إليه صاحب المراكب مركب الخليفة فأبى و قال : ائتوني ببغلتي قال الحكم بن عمر : شهدت عمر بن عبد العزيز حين جاءه أصحاب المراكب يسألونه العلوفة ورزق خدمتها ؟ قال : ابعث بها إلى أمصار الشام يبيعونها فيمن يريد و اجعل أثمانها في مال الله تكفيني بغلتي هذه الشهباء
و قال عمر بن ذر : لما رجع عمر من جنازة سليمان قال له مولاه : ما لي أراك مغتما ؟
قال : لمثل ما أنا فيه فليغتم ليس أحد من الأمة إلا و أنا أريد أن أوصل إليه حقه غير كاتب إلي فيه و لا طالبه مني
و عن عمرو بن مهاجر و غيره أن عمر لما استخلف قام في الناس و أثنى عليه ثم قال :
أيها الناس إنه لا كتاب بعد القرآن و لا نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم ألا و إني لست بفارض و لكني منفذ و لست بمبتدع و لكني متبع و لست بخير من أحدكم و لكني أثقلكم حملا و إن الرجل الهارب من الإمام الظالم ليس بظالم ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
و عن الزهري قال : كتب عمر بن عبد العزيز إلى سالم بن عبد الله يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب في الصدقات فكتب إليه بالذي سأل و كتب إليه إنك إن عملت بمثل عمل عمر في زمانه و رجاله في مثال زمانك و رجالك كنت عند الله خيرا من عمر
و عن حماد أن عمر لما استخلف بكى فقال : يا أبا فلان أتخشى علي ؟ قال : كيف حبك للدرهم ؟ قال : لا أحبه قال : لا تخف فإن الله سيعنيك
و عن مغيرة قال : جمع عمر حين استخلف بني مروان فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كانت له فدك ينفق منها و يعول منها على صغير بني هاشم و يزوج منها أيمهم و إن فاطمة سألته أن يجعلها لها ؟ فأبى فكانت كذلك حياة أبي بكر ثم عمر ثم أقطعها مروان ثم صارت لعمر بن عبد العزيز فرأيت أمرا منعه رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة ليس لي بحق و إني أشهدكم أني قد رددتها على ما كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و عن الليث قال : لما ولي عمر بدأ بلحمته و أهل بيته فأخذ ما بأيديهم و سمى أموالهم مظالم
و قال أسماء بن عبيد : دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال : يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطوننا عطايا فمنعتناها و لي عيال و ضيعة أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي لما يصلح عيالي ؟ فقال عمر : أحبكم من كفانا مؤنته ثم قال له : أكثر ذكر الموت فإن كنت في ضيق من العيش و سعه عليك و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك
و قال فرات بن السائب : قال عمر بن عبد العزيز لامرأته فاطمة بنت عبد الملك ـ و كان عندها جوهر أمر لها به أبوها لم ير مثله ـ : اختاري إما أن تردي حليك إلى بيت المال و إما أن تأذني لي في فراقك فإني أكره أن أكون أنا و أنت و هو في بيت واحد قالت : لا بل أختارك عليه و على أضعافه فأمر به فحمل حتى وضع في بيت مال المسلمين فلما مات عمر و استخلف يزيد قال لفاطمة : إن شئت رددته إليك قالت : لا و الله ما أطيب به نفسا في حياته و أرجع فيه بعد موته
و قال عبد العزيز : كنت بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه : إن مدينتنا قد خربت فإن رأى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالا نرمها به فعل فكتب إليه عمر : إذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل ونق طرقها من الظلم فإنه مرمتها و السلام
و قال إبراهيم السكوني : قال عمر بن عبد العزيز : ما كذبت منذ علمت أن الكذب شين على أهله
و قال قيس بن جبير : مثل عمر في بني أمية مثل مؤمن آل فرعون
و قال ميمون بن مهران : إن الله كان يتعاهد الناس بنبي بعد نبي و إن الله تعاهد الناس بعمر بن عبد العزيز
و قال وهب بن منبه : إن كان في هذه الأمة مهدي فهو عمر بن عبد العزيز
و قال محمد بن فضالة : مر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز براهب في الجزيرة فنزل إليه الراهب و لم ينزل لأحد قبله و قال : أتدري لم نزلت إليك ؟ قال : لا قال : لحق أبيك إنا نجده في أئمة العدل بموضع رجب من الأشهر الحرم ففسره أيوب بن سويد بثلاثة متوالية : ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم : أبي بكر و عمر و عثمان و رجب منفرد منها عمر بن عبد العزيز
و قال حسن القصاب : رأيت الذئاب ترعى مع الغنم بالبادية في خلافة عمر بن عبد العزيز فقلت : سبحان الله ذئب في غنم لا يضرها ! فقال الراعي : إذا صلح الرأس فليس على الجسد بأس
و قال مالك بن دينار : لما ولي عمر بن عبد العزيز قالت رعاء الشاء : من هذا الصالح الذي قام على الناس خليفة ؟ عدله كف الذئاب عن شائنا
و قال موسى بن أعين : كنا نرعى الشاء بكرمان في خلافة عمر بن عبد العزيز فكانت الشاة و الذئب ترعى في مكان واحد فبينا نحن ذات ليلة إذ عرض الذئب للشاة فقلت : ما نرى الرجل الصالح إلا قد هلك فحسبوه فوجدوه مات تلك الليلة
و قال الوليد بن مسلم : بلغنا ان رجلا كان بخراسان قال : أتاني آت في المنام فقال : إذا قام أشج بني مروان فانطلق فبايعه فإنه إمام عدل فجعلت أسأل كلما قام خليفة حتى قام عمر بن عبد العزيز فأتاني ثلاث مرات في المنام فارتحلت إليه فبايعته
و عن حبيب بن هند الأسلمي قال : قال لي سعيد بن المسيب : إنما الخلفاء ثلاثة : أبو بكر و عمر و عمر بن عبد العزيز قلت له : أبو بكر و عمر قد عرفناهما فمن عمر ؟ قال : إن عشت أدركته و إن مت كان بعدك قلت و مات ابن المسيب قبل خلافة عمر
و قال ابن عون : كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال : نهى عنه إمام الهدى يعني عمر بن عبد العزيز
و قال الحسن : إن كان مهدي فعمر بن عبد العزيز و إلا فلا مهدي إلا عيسى ابن مريم
و قال مالك بن دينار : الناس يقولون : مالك زاهد إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها
و قال يونس بن أبي شبيب : شهدت عمر بن عبد العزيز و إن حجزة إزاره لغائبة في عكنه ثم رأيته بعد ما استحلف و لو شئت أن أعد أضلاعه من غير أن أمسها لفعلت
و قال ولده عبد العزيز : سألني أبو جعفر المنصور : كم كانت غلة أبيك حين أفضت الخلافة إليه ؟ قلت : أربعين ألف دينار قال : فكم كانت حين توفي ؟ قلت أربعمائة دينار و لو بقي لنقصت
و قال مسلمة بن عبد الملك : دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه فإذا عليه قميص وسخ فقلت لفاطمة ينت عبد الملك : ألا تغسلون قميصه ؟ قالت : و الله ما له قميص غيره
قال أبو أمية الخصي غلام عمر : دخلت يوما على مولاتي فغدتني عدسا فقلت : كل يوم عدس ؟ قالت : يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين
قال : و دخل عمر الحمام يوما فأطلى فولي عانته بيده
قال : و لما احتضر بعثني بدينار إلى أهل الدير و قال : إن بعتموني موضع قبري و إلا تحولت عنكم فأتيتهم فقالوا : لولا أنا نكره أن يتحول عنا ما قبلناه
و قال عون بن المعمر : دخل عمر على امرأته فقال : يا فاطمة عندك درهم أشتري به عنبا ؟ فقالت : لا و قالت : و أنت أمير المؤمنين لا تقدر على درهم تشتري به عنبا ؟ ! قال : هذا أهون علينا من معالجة الأغلال غدا في جهنم
و قالت فاطمة امرأته : ما أعلم أنه اغتسل لا من جنابة و لا من احتلام منذ استخلف الله حتى قبضه
و قال سهل بن صدقة : لما استخلف عمر سمع في منزله بكاء فسألوا عن ذلك فقالوا : إن عمر خير جواريه فقال : قد نزل بي أمر قد شغلني عنكم فمن أحب أن أعتقه أعتقته و من أحب أن أمسكه أمسكته و إن لم يكن مني إليها حاجة فبكين إياسا منه قالت فاطم امرأته : كان إذ دخل البيت ألقى نفسه في مسجده فلا يزال يبكي و يدعو حتى تغلبه عيناه ثم يستيقظ فيفعل مثل ذلك ليلته أجمع
و قال الوليد بن أبي السائب : ما رأيت أحدا قط أخوف من عمر و قال سعيد بن سويد : صلى عمر بالناس الجمعة ـ و عليه قميص مرفوع الجيب من بين يديه و من خلفه ـ فقال له رجل : يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبست فنكس مليا ثم رفع رأسه فقال : إن أفضل القصد عند الجدة و أفضل العفو عند القدرة
و قال ميمون بن مهران : سمعت عمر يقول : لو أقمت فيكم خمسين عاما ما استكملت فيكم العدل إني لأريد الأمر و أخاف أن لا تحمله قلوبكم فأخرج معه طمعا من الدنيا فإن أنكرت قلوبكم هذا سكنت إلى هذا
و قال إبراهيم بن ميسرة : قلت لطاووس : هو المهدي ـ يعني عمر بن عبد العزيز ـ قال هو مهدي و ليس به إنه لم يستكمل العدل كله
و قال عمر بن أسيد : و الله ما مات عمر حتى جعل الرجل يأتينا بالمال العظيم فيقول : اجعلوا هذا حيث ترون فما يبرح بماله كله قد أغنى عمر الناس
و قالت جويرية : دخلنا على فاطمة ابنة علي بن أبي طالب رضي الله عنها فأثنت على عمر بن عبد العزيز و قالت : لو كان بقي لنا ما احتجنا بعد إلى أحد
و قال عطاء بن أبي رباح : حدثتني فاطمة امرأة عمر أنها دخلت عليه و هو في مصلاه تسيل دموعه على لحيته فقالت : يا أمير المؤمنين ألشيء حدث ؟ قال : يا فاطمة إني تقلدت من أمر أمة محمد صلى الله عليه و سلم أسودها و أحمرها فتفكرت في الفقير الجائع و المريض الضائع و العاري المجهود و المظلوم المقهور و الغريب الأسير و الشيخ الكبير و ذي العيال الكثير و المال القليل و أشباههم في أقطار الأرض و أطراف البلاد فعلمت أن ربي سائلي عنهم يوم القيامة فخشيت أن لا تثبت لي حجة فبكيت
و قال الأوزاعي : إن عمر بن عبد العزيز كان جالسا في بيته و عنده أشراف بني أمية فقال : أتحبون أن أولي كا رجل منكم جندا ؟ فقال رجل منهم : لم تعرض علينا ما لا تفعله ؟ قال : ترون بساطي هذا ؟ إني لأعلم أنه يصير إلى و فناء و إني أكره أن تدنسوه بأرجلكم فكيف أوليكم أعراض المسلمين و أبشارهم ؟ هيهات لكم هيهات ! فقالوا له : لم ؟ أما لنا قرابة ؟ أما لنا حق ؟ قال : ما أنتم و أقصى رجل من المسلمين عندي في هذا الأمر إلا سواء إلا رجلا من المسلمين حبسه عني طول شقته
و قال حميد : أملى علي الحسن رسالة إلى عمر بن عبد العزيز فأبلغ ثم شكا الحاجة و العيال فأمر بعطائه
و قال الأوزاعي : كان عمر بن عبد العزيز : إذا أراد أن يعاقب رجلا حبسه ثلاثة أيام ثم عاقبه كراهة أن يعجل في أول غضبه
و قال جويرية بن أسماء : قال عمر بن عبد العزيز : إن نفسي تواقة لم تعط من الدنيا شيئا إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه فلما أعطيت ما لا شيء فوقه من الدنيا تاقت نفسي إلى ما هو أفضل منه ـ يعني الجنة ـ
و قال عمرو بن مهاجر : كانت نفقة عمر بن عبد العزيز كل يوم درهمين و قال يوسف بن يعقوب الكاهلي : كان عمر يلبس الفروة الكبل و كان سراج بيته على ثلاث قصبات فوقهن طين
و قال عطاء الخراساني : أمر عمر غلامه أن يسخن له ماء فانطلق فسخن قمقما في مطبخ العامة فأمر عمر أن يأخذ بدرهم حطبا يضعه في المطبخ
و قال عمر بن مهاجر : كان عمر يسرج عليه الشمعة ما كان في حوائج المسلمين فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه
و قال الحكم بن عمر : كان للخليفة ثلاثمائة حرسي و ثلاثمائة شرطي فقال عمر للحرس : إن لي عنكم بالقدر حاجزا و بالأجل حارسا من أقام منكم فله عشرة دنانير
و من شاء فليلحق بأهله
و قال عمرو بن مهاجر : اشتهى عمر بن عبد العزيز تفاحا فأهدى له رجل من أهل بيته تفاحا فقال : ما أطيب ريحه و أحسنه ! أرفعه يا غلام للذي أتى به و أقرئ فلانا السلام و قل له : إن هديتك وقعت عندنا بحيث نحب فقلت : يا أمير المؤمنين ابن عمك و رجل من أهل بيتك و قد بلغك أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يأكل الهدية فقال : ويحك ! إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه و سلم هدية و هي لنا اليوم رشوة
و قال إبراهيم بن ميسرة : ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب أحدا في خلافته غير رجل واحد تناول من معاوية فضربه ثلاثة أسواط
و قال الأوزاعي : لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان يجري عليهم من أرزاق الخاصة كلموه في ذلك فقال : لن يتسع مالي لكم و أما هذا المال فإنما حقكم فيه كحق رجل بأقصى برك الغماد
و قال أبو عمر : كتب عمر بن عبد العزيز برد أحكام من أحكام الحجاج مخالفة لأحكام الناس
و قال يحيى الغساني : لما ولاني عمر بن عبد العزيز الموصل قدمتها فوجدتها من أكثر البلاد سرقة و نقبا فكتبت إليه أعلمه حال البلد و أسأله : آخذ الناس بالظنة و أضربهم على التهمة أو آخذهم بالبنية و ما جرت عليه السنة فكتبت إلي أن آخذ الناس بالبينة و ما جرت عليه السنة فإن لم يصلحهم الحق فلا أصلحهم الله قال يحيى : ففعلت ذلك فما خرجت من الموصل حتى كانت من أصلح البلاد و أقلها سرقة و نقبا
و قال رجاء بن حيوة : سمرت ليلة عند عمر فغشي السراج ـ و إلى جانبه و صيف ـ قلت : ألا أنبهه ؟ قال : لا قلت : أفلا أقوم ؟ قال : ليس من مروءة الرجال استخدامه ضيفه فقام إلى بطة الزيت و أصلح السراج ثم رجع و قال : قمت و أنا عمر بن عبد العزيز و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز
و قال نعيم كاتبه : قال يا عمر : إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة
و قال مكحول لو حلفت لصدقت ما رأيت أزهد و لا أخوف لله من عمر بن عبد العزيز و قال سعيد بن أبي عروية : كان عمر بن عبد العزيز إذا ذكر الموت اضربت أوصاله
و قال عطاء : كان عمر بن عبد العزيز يجمع في كل ليلة الفقهاء فيتذاكرون الموت و القيامة ثم يبكون حتى كأن بين أيديهم جنازة
و قال عبيد الله بن العيزار : خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين فقال : أيها الناس أصلحوا أسراركم تصلح علانيتكم و اعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم و اعلموا أن رجلا ليس بينه و بين آدم أب حي لعرق له في الموت و السلام عليكم
و قال وهيب بن الورد : اجتمع بنو مروان إلى باب عمر بن عبد العزيز فقالوا لابنه عبد الملك : قل لأبيك : إن من كان قلبه من الخلفاء كان يعطينا و يعرف لنا موضعنا و إن أباك قد حرمنا ما في يديه فدخل على أبيه فأخبره فقال لهم : إن أبي يقول لكم : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم
و قال الأوزاعي : قال عمر بن عبد العزيز : خذوا من الرأي ما يصدق من كان قبلكم و لا تأخذوا ما هو خلاف لهم فإنهم خير منكم و أعلم
و قال : قدم جرير فطال مقامه بباب عمر بن عبد العزيز و لم يلتفت إليه فكتب إلى عون بن عبد الله و كان خصيصا بعمر :
( يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني )
( أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن )
و قال جويرية بن أسماء : لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه بلال بن أبي بردة فهنأه و قال : من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها و من كانت زانته فقد زنتها و أنت كما قال مالك بن أسماء :
( و تزيدين أطيب الطيب طيبا ... أنت تمسيه أين مثلك أينا ؟ )
( و إذا الدار زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
قال جعونة : لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل عمر يثني عليه فقال : يا أمير المؤمنين لو بقي كنت تعهد إليه ؟ قال : لا قال : و لم و أنت تثني عليه ؟ قال : أخاف أن يكون زين في عيني منه ما زين في عين الوالد من ولده
و قال غسان عن رجل من الأزد : قال رجل لعمر بن عبد العزيز : أوصني قال : أوصيك بتقوى الله و إيثاره تخف عنك المؤونة و تحسن لك من الله المعونة
و قال أبو عمرو : دخلت ابنة أسامة بن زيد على عمر بن عبد العزيز فقام لها و مشى إليها ثم أجلسها في مجلسه و جلس بين يديها و ما ترك لها حاجة إلا قضاها
و قال الحجاج بن عنبسة : اجتمع بنو مروان فقالوا : لو دخلنا على أمير المؤمنين فعطفناه علينا بالمزاح فدخلوا فتكلم رجل منهم فمزح فنظر إليه عمر فوصل له رجل كلامه بالمزاح فقال : لهذا اجتمعتم ؟ لأخس الحديث و لما يورث الضغائن ؟ إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتاب الله فإن تعديتم ذلك ففي السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن تعديتم ذلك فعليكم بمعاني الحديث
و قال إياس بن معاوية بن قرة : ما شبهت عمر بن عبد العزيز إلا برجل صناع حسن الصنعة ليس له أداة يعمل بها يعني لا يجد من يعينه
و قال عمر بن حفص : قال لي عمر بن عبد العزيز : إذا سمعت كلمة من امرئ مسلم فلا تحملها على شيء من الشر ما وجدت لها محملا من الخير
و قال يحيى الغساني : كان عمر ينهي سليمان بن عبد الملك عن قتل الحرورية و يقول : ضمنهم الحبس حتى يحدثوا توبة فأتي سليمان بحروري فقال له سليمان : هيه فقال الحروري : و ماذا أقول ؟ يا فاسق بن الفاسق فقال سليمان : علي بعمر بن عبد العزيز فلما جاء قال : اسمع مقالة هذا فأعادها الحروري فقال سليمان لعمر : ماذا ترى عليه ؟ فسكت قال : عزمت عليك لتخبرني بماذا ترى عليه قال : أرى عليه أن تشتمه كما شتمك قال : ليس الأمر كذلك فأمر به سليمان فضربت عنقه و خرج عمر فأدركه خالد صاحب الحرس فقال : ياعمر كيف تقول لأمير المؤمنين ما أرى عليه إلا أن تشتمه كما شتمك ؟ و الله لقد كنت متوقعا أن يأمرني بضرب عنقك قال : و لو أمرك لفعلت ؟ قال : إي و الله فلما أفضت الخلافة إلى عمر جاء خالد فقام مقام صاحب الحرس فقال عمر : يا خالد ضع هذا السيف عنك و قال : اللهم إني قد وضعت لك خالدا فلا ترفعه أبدا ثم نظر في وجوه الحرس فدعا عمرو بن مهاجرالأنصاري و قال : يا عمرو و الله لتعلمن أنه ما بيني و بينك قرابة إلا قرابة الإسلام و لكن سمعتك تكثر تلاوة القرآن و رأيتك تصلي في موضع تظن أن لا يراك أحد فرأيتك تحسن الصلاة و أنت رجل من الأنصار خذ هذا السيف فقد وليتك حرسي
و قال شعيب : حدثت أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز دخل على أبيه فقال يا أمير المؤمنين : ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها أو سنة فلم تحيها ؟ فقال أبوه : رحمك الله و جزاك من ولد خيرا يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة و عروة عروة و متى أردت مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا يكثر فيه الدماء و الله لزوال الدنيا أهون علي من أن يراق في سببي محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتي أبيك يوم من أيام الدنيا إلا و هو يميت فيه بدعة و يحيى سنة ؟
و قال معمر : قال عمر بن عبد العزيز : قد أفلح من عصم من المراء و الغضب و الطمع
و قال أرطأة بن المنذر : قيل لعمر بن عبد العزيز : لو اتخذت حرسا و احترزت في طعامك و شرابك فقال : اللهم إن كنت تعلم أني أخاف شيئا دون يوم القيامة فلا تؤمن خوفي
و قال عدي بن الفضل : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب فقال اتقوا الله أيها الناس و أجملوا في الطلب فإن كان لأحدكم رزق في رأس جبل أو حضيض أرض يأته
و قال أزهر : رأيت عمر بن عبد العزيز يخطب الناس و عليه قميص مرقوع
و قال عبد الله بن العلاء : سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب في الجمع بخطبه واحدة يرددها و يفتتحها بسبع كلمات : الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمد عبده و رسوله من يطع الله و رسوله فقد رشد و من يعص الله و رسوله فقد غوى ثم يوصى بتقوى الله و يتكلم ثم يختم خطبته الأخيرة بهؤلاء الآيات : { يا عبادي الذين أسرفوا } إلى تمامها
و قال حاجب بن خليفة البرجمي : شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب و هو خليفة فقال في خطبته : ألا إن ما سن رسول الله صلى الله عليه و سلم و صاحباه فهو دين نأخذ به و ننتهي إليه و ما سن سواهما فإنا نرجئه
أسند جميع ما قدمته أبو نعيم في الحلية
و أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال : دخلنا على عمر بن عبد العزيز يوم العيد ـ و الناس يسلمون عليه ـ و يقولون : تقبل الله منا و منك يا أمير المؤمنين فيرد عليهم و لا ينكر عليهم
قلت : هذا أصل حسن للتهنئة بالعيد و العام و الشهر
و أخرج عن جعونة قال : ولى عمر بن عبد العزيز عمرو بن قيس السكوني الصائفة فقال : اقبل من محسنهم و تجاوز مسيئهم و لتكن في أولهم فتقتل و لا في آخرهم فتفشل و لكن كن وسطا حيث يرى مكانك و يسمع صوتك
و أخرج عن السائب بن محمد قال : كتب الجراح بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز : إن أهل خراسان قوم ساءت رعيتهم و إنه لا يصلحهم إلا السيف و السوط فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ذلك فكتب إليه عمر : أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أن أهل خراسان قد ساءت رعيتهم و أنه لا يصلحهم إلا السيف و السوط فقد كذبت بل يصلحهم العدل و الحق فابسط ذلك فيهم و السلام
و أخرج عن أمية بن زيد القريشي قال : كان عمر بن عبد العزيز إذا أملى علي كتابه قال : اللهم إني أعوذ بك من شر لساني
و أخرج عن صالح بن جبير قال : ربما كلمت عمر بن عبد العزيز في الشيء فيغضب فأذكر أن في الكتاب مكتوبا اتق غضبة الملك الشاب فأرفق به حتى يذهب غضبه فيقول لي بعد ذلك : لا يمنعك يا صالح ماترى منا أن تراجعنا في الأمر إذا رأيته
و أخرج عن عبد الحليم بن محمد المخزومي قال : قدم جرير بن عيطة بن الخطفي على عمر بن عبد العزيز فذهب ليقول فنهاه عمر فقال : إنما أذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : أما رسول الله صلى الله عليه و سلم فاذكره فقال :
( إن الذي ابتعث النبي محمدا ... جعل الخلافة للأمير العادل )
( رد المظالم حقها بيقينها ... عن جورها و أقام ميل المائل )
( و الله أنزل في القرآن فريضة ... لابن السبيل و للفقير العائل )
( إني لأرجو منك خيرا عاجلا ... و النفس مغرمة بحبي العاجل )
فقال له عمر : ما أجد لك في كتاب الله حقا قال : بلى يا أمير المنؤمنين إنني ابن سبيل فأمر له من خاصة ماله بخمسين دينارا
و في الطيوريات أن جرير بن عثمان الرحبي دخل مع أبيه على عمر بن عبد العزيز فسأله عمر عن حال ابنه ثم قال له : علمه الفقه الأكبر قال : و ما الفقه الأكبر ؟ قال : القناعة و كف الأذى
و أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن محمد بن كعب القرظي قال : دعاني عمر ابن عبد العزيز فقال : صف لي العدل فقلت بخ ! سألت عن أمر جسيم كن لصغير الناس أبا و لكبيرهم ابنا و للمثل منهم أخا و للنساء كذلك و عاقب الناس على قدر ذنوبهم و على قدر أجسادهم و لا تضربن لغضبك سوطا واحدا فتعد من العادين
و أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري أن عمر بن عبد العزيز كان يتوضأ مما مست النار حتى كان يتوضأ من السكر
و أخرج عن وهيب أن عمر بن عبد العزيز قال : من عد كلامه من عمله قل كلامه
و قال الذهبي : أظهر غيلان القدر في خلافة عمر بن عبد العزيز فاستتابه فقال : لقد كان كنت ضالا فهديتني فقال عمر : اللهم إن كان صادقا و إلا فاصلبه واقطع يديه و رجليه فنفذت فيه دعوته فأخذ في خلافة هشام بن عبد الملك و قطعت أربعته و صلب بدمشق في القدر
و قال غيره : كان بنو أمية يسبون علي بن أبي طالب في الخطبة فلما ولي عمر ابن عبد العزيز أبطله و كتب إلى نوابه بإبطاله و قرأ مكانه : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } الآية فاستمرت قراءتها في الخطبة إلى الآن
و قال القالي في أماليه : حدثنا أبو بكر بن الأنباري حدثنا أحمد بن عبيد قال : قال عمر بن عبد العزيز قبل خلافته :
( انه الفؤاد عن الصبا ... و عن انقياد للهوى )
( فلعمر ربك إن في ... شيب المفارق و الجلا )
( لك و اعظا لو كنت تت ... عظ اتعاظ ذوي النهى )
( حتى متى لا ترعوي ... و إلى متى و إلى متى ؟ )
( ما بعد أن سميت كه ... لا و استبلت اسم الفتى )
( بلي الشباب و أنت إن ... عمرت رهن للبلى )
( و كفى بذلك زاجرا ... للمرء من غي كفى )
فائدة : قال الثعالبي في لطائف المعارف : كان عمر بن الخطاب أصلع و عثمان و علي و مروان بن الحكم و عمر بن عبد العزيز ثم انقطع الصلع عن الخلفاء
فائدة : قال الزبير بن بكار : قال الشاعر في فاطمة بنت عبد الملك بن مروان زوجة عمر بن عبد العزيز :
( بنت الخليفة و الخليفة جدها ... أخت الخلائف و الخليفة زوجها )
قال : فلم تكن امرأة تستحق هذا النسب إلى يومنا هذا غيرها
قلت : و لا يقال في غيرها هذا إلى يومنا هذا
ذكر مرضه و وفاته
قال أيوب : لعمر بن عبد العزيز : لو أتيت المدينة فإن مت دفنت في موضع القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب إلا النار أحب إلي من أن يعلم الله مني أني أراني لذلك الموضع أهلاو قال الوليد بن هشام : قيل لعمر في مرضه : ألا تتداوى ؟ فقال : لقد علمت الساعة التي سقيت فيها و لو كان شفائي أن أمسح شحمة أذني أو أوتي بطيب فأرفعه إلى أنفي ما فعلت و قال عبيد بن حسان : لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال : أخرجوا عني فقعد مسلمة و فاطمة على الباب فسمعوه يقول : مرحبا بهذه الوجوه ليست بوجوه إنس و لا جان ثم قال { تلك الدار الآخرة } الآية ثم هدأ الصوت فدخلوا فوجدوه قد قبض رضي الله عنه
و قال هشام : لما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال الحسن البصري : مات خير الناس
و قال خالد الربعي : إنا نجد في التوراة أن السموات و الأرض تبكي على عمر ابن عبد العزيز أربعين صباحا
و قال يوسف بن ماهك : بينا نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا كتاب رق من السماء فيه : بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار
و قال قتادة : كتب عمر بن عبد العزيز إلى ولي العهد من بعده :
بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر إلى يزيد بن عبد الملك : سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد : فإني كتبت و أنا دنف من وجعي و قد علمت أني مسؤول عما و ليت يحاسبني عليه مليك الدنيا و الآخرة و لست أستطيع أن أخفي عليه من عملي شيئا فإن رضي عني فقد أفلحت و نجوت من الهوان الطويل و إن سخط علي فيا ويح نفسي إلى ما أصير أسأل الله لا إله إلا هو أن يجيرني من النار برحمته و أن يمن علي برضوانه و الجنة فعليك بتقوى الله الرعية الرعية فإنك لن تبقى بعدي إلا قليلا و السلام أسند هذا كله أبو نعيم في الحلية
توفي عمر رضي الله عنه بدير سمعان ـ بكسر السين ـ من أعمال حمص لعشر بقين ـ و قيل : لخمس بقين ـ من رجب سنة إحدى و مائة و له حينئذ تسع و ثلاثون سنة و ستة أشهر و كانت وفاته بالسم كانت بنو أمية قد تبرموا به لكونه شدد عليهم و انتزع من أيديهم كثيرا مما غصبوه و كان قد أهمل التحرز فسقوه السم
قال مجاهد : قال لي عمر بن عبد العزيز : ما يقول الناس في ؟ قلت : يقولون مسحور قال : ما أنا بمسحور و إني لأعلم الساعة التي سيقت فيها ثم دعا غلاما له فقال له : و يحك ! ما حملك على أن تسقيني السم ؟ قال : ألف دينار أعطيتها و على أن أعتق قال : هاتها قال : فجاء بها فألقاها في بيت المال و قال : اذهب حيث لا يراك أحد
مات في أيامه من الأعلام : أبو أمامة سعد بن سهل بن حنيف و خارجة بن زيد بن ثابت و سالم بن أبي الجعد و يسر بن سعيد و أبو عثمان النهدي و أبو الضحى و شهر بن حوشب الشامي و حنش بن عبد الله الصنعاني و مسلم بن يسار البصري و عيسى بن طلحة بن عبد الله القريشي التيمي أحد أشراف قريش و عقلائها و علمائها
يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم 101هـ ـ 105 ه
يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم : أبو خالد الأموي الدمشقي
ولد سنة إحدى و سبعين و ولي الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز بعهد من أخيه سليمان كما تقدم
و قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما ولي يزيد قال : سيروا بسيرة عمر بن عبد العزيز فأتى بأربعين شيخا فشهدوا له ما على الخلفاء حساب و لا عذاب
و قال ابن الماجشون : لما مات عمر بن عبد العزيز قال يزيد : و الله ما عمر بأحوج إلى الله مني فأقام أربعين يوما يسير بسيرة عمر بن عبد العزيز ثم عدل عن ذلك
و قال سليم بن بشير : كتب عمر بن عبد العزيز إلى يزيد بن عبد الملك حين احتضر : سلام عليك أما بعد فإني لا أراني إلا لما بي فالله الله في أمة محمد فإنك تدع الدنيا لمن لا يحمدك و تفضي إلى من لا يعذرك و السلام
و في سنة اثنتين خرج يزيد بن المهلب على الخلافة فوجه إليه مسلمة بن عبد الملك بن مروان فهزم يزيد و قتل و ذلك بالعقير موضع بقرب كربلاء
قال الكلبي : نشأت و هم يقولون : ضحى بنو أمية يوم كربلاء بالدين و يوم العقير بالكرم مات يزيد في أواخر شعبان سنة خمس و مائة
و ممن مات في خلافته من الأعلام : الضحاك بن مزاحم و عدي بن أرطأة و أبو المتوكل الناجي و عطاء بن يسار و مجاهد و يحيى بن وثاب مقرئ الكوفة و خالد بن معدان و الشعبي عالم العراق و عبد الرحمن حسان بن ثابت و أبو قلابة الجرمي و أبو بردة بن أبي موسى الأشعري و آخرون
هشام بن يزيد بن عبد الملك 105 هـ ـ 125ه
هشام بن عبد الملك : أبو الوليد ولد سنة نيف و سبعين و استخلف بعهد من أخيه يزيد
قال مصعب الزبيري : رأى عبد الملك في منامه أنه بال في المحراب أربع مرات فسأل سعيد بن المسيب فقال : يملك من ولده لصلبه أربعة فكان آخرهم هشام
و كان هشام حازما عاقلا كان لا يدخل بيت ماله مالا حتى يشهد أربعون قسامة : لقد أخذ من حقه و لقد أعطى لكل ذي حق حقه
و قال الأصمعي : أسمع رجل مرة هشاما كلاما فقال له : يا هذا ليس لك أن تسمع خليفتك
قال : و غضب مرة على رجل فقال : و الله لقد هممت أن أضربك سوطا
و قال سحبل بن محمد : ما رأيت أحدا من الخلفاء أكره إليه الدماء و لا أشهد عليه من هشام
و عن هشام أنه قال : ما بقي شيء من لذات الدنيا إلا و قد نلته إلا شيئا واحدا أخا أرفع مؤنة التحفظ فيما بيني و بينه
و قال الشافعي لما بنى هشام الرصافة بقنسرين أحب أن يخلو يوما لا يأتيه فيه غم فما انتصف النهار حتى أتته ريشة بدم من بعض الثغور فأوصلت إليه فقال : و لا يوما واحدا !
و قيل : إن هذا البيت له و لم يحفظ له سواه :
( إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال )
مات في ربيع الآخرة سنة خمس و عشرين و مائة
و في سنة سبع من أيامه فتحت قيصرية الروم بالسيف و في سنة ثمان فتحت خنجرة على يد البطال الشجاع المشهور و في سنة اثنتي عشرة فتحت خرشنة في ناحية ملطية
و ممن مات في أيامه من الأعلام : سالم بن عبد الله بن عمر و طاووس و سليمان بن يسار و عكرمة مولى ابن عباس و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق و كثير عوه الشاعر و محمد بن كعب القرظي و الحسن البصري و محمد ابن سيرين و أبو الطفيل عامر بن واثلة الصحابي آخرهم موتا و جرير و الفرزدق و عطية العوفي و معاوية بن قرة و مكحول و عطاء بن أبي رباح و أبو جعفر الباقر و وهب بن منبه و سكينة بنت الحسين و الأعرج و قتادة و نافع مولى ابن عمر و ابن مقرئ الشام و ابن كثير مقرئ مكة و ثابت البناني و مالك بن دينار و ابن محيض المقرئ و ابن شهاب الزهري و خلائق آخرون
و من أخبار هشام : أخرج ابن عساكر عن إبراهيم بن أبي عبلة قال : أراد هشام ابن عبد الملك أن يوليني خراج مصر فأبيت فغضب حتى اختلج وجهه و كان في عينيه الحول فنظر إلي نظر منكر و قال : لتلين طائعا أو لتلين كارها فأسكت عن الكلام حتى سكن غضبه فقلت : يا أمير المؤمنين أتكلم ؟ قال : نعم قلت : إن الله قال في كتابه العزيز : { إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها } الآية فو الله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبين و لا أكرههن إذ كرهن و ما أنا بحقيق أن تغضب علي إذ أبيت و تكرهني إذ كرهت فضحك و أعفاني
و أخرج عن خالد بن صفوان قال : و فدت على هشام بن عبد الملك فقال : هات يا ابن صفوان قلت : إن ملكا من الملوك خرج متنزها إلى الخورنق و كان ذا علم مع الكثرة و الغلبة فنظر و قال لجلسائه : لمن هذا ؟ قالوا : للملك قال : فهل رأيتم أحدا أعطي مثل ما أعطيت ؟ و كان عنده رجل من بقايا حملة الحجة فقال : إنك قد سألت عن أمر أفتأذن لي بالجواب ؟ قال : نعم قال : أرأيت ما أنت فيه أشيء لم تزل فيه أم شيء صار ميراثا و هو زائل عنك إلى غيرك كما صار إليك ؟ قال : كذا هو قال : فتعجب بشيء يسير لا تكون فيه إلا قليلا و تنقل عنه طويلا فيكون عليك حسابا قال : ويحك فأين المهرب ؟ و أين المطلب ؟ و أخذته قشعريرة قال : إما أن تقيم في ملكك فتعمل بطاعة الله بما ساءك و سرك و إما أن تنخلع من ملكك و تضع تاجك و تلقي عنك أطمارك و تعبد ربك قال : إني مفكر الليلة و أوافيك السحر فلما كان السحر قرع عليه بابه فقال : إني اخترت هذا الجبل و فلوات الأرض و قد لبست علي أمساحي فإن كنت لي رفيقا لا تخالف فلزما الجبل حتى ماتا و فبه يقول عدي بن زيد العبادي :
( أيها الشامت المعير بالدهـ ... ر أأنت المبرأ الموفور ؟ )
( أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام ؟ بل أنت جاهل مغرور )
( من رأيت المنون خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير ؟ )
( أين كسرى الملوك أبو سا ... سان أم أين قلبه سابور )
( و بنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم و لم يبق منهم مذكور )
( و أخو الحضر إذ بناه و إذ دجل ... ة تجبى إليه و الخابور )
( شاده مرمرا و جلله كل ... سا فللطير في ذراة وكور )
( لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور )
( و تذكر رب الخورنق إذ أش ... رف يوما و للهدى تذكير )
( سره ماله و كثرة ما يم ... لك و البحر معرض و السدير )
( فارعوى قلبه و فال : و ما غب ... طة حي إلى الممات يصير )
( ثم بعد الفلاح و الملك و الأم ... ة وارتهم هناك القبور )
( ثم صاروا كأنهم ورق جـ ... ف فألوت به الصبا و الدبور )
قال : فبكى حتى اخضلت لحيته و أمر بابنتيه و طي فرشه و لزم قصره فأقبلت الموالي و الحشم على خالد بن صفوان و قالوا : ما أردت إلى أمير المؤمنين ؟ أفسدت عليه لذته فقال : إليكم عاهدت أن لا أخلو بملك إلا ذكرته الله تعالى
الوليد بن يزيد بن عبد الملك 125هـ ـ 126ه
الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم : الخليفة الفاسق أبو العباس
ولد سنة تسعين فلما احتضر أبوه لم يمكنه أن يستخلفه لأنه صبي فعقد لأخيه هشام و جعل هذا ولي العهد من بعد هشام فتسلم الأمر عند موت هشام في ربيع الآخر سنة خمس و عشرين و مائة و كان فاسقا شريبا للخمر منتهكا حرمات الله أراد الحج ليشرب فوق ظهر الكعبة فمقته الناس لفسقه و خرجوا عليه فقتل في جمادى الآخرة سنة ست و عشرين
و عنه أنه لما حوصر قال : ألم أزد في أعطياتكم ؟ ألم أرفع عنكم المؤن ؟ ألم أعط فقراءكم ؟ فقالوا : ما ننقم عليك في أنفسنا لكن ننقم عليك انتهاك ما حرم الله و شرب الخمر و نكاح أمهات أولاد أبيك و استخفافك بأمر الله
و لما قتل و قطع رأسه و جيء به يزيد الناقص نصبه على رمح فنظر إليه أخوه سليمان بن يزيد فقال : بعدا له أشهد أنه كان شروبا للخمر ماجنا فاسقا و لقد راودني على نفسي
و قال المعافي الجريري : جمعت شيئا من أخبار الوليد و من شعره الذي ضمنه ما فجر به من خرقه و سخافته و ما صرح به من الإلحاد في القرآن و الكفر بالله
و قال الذهبي لم يصح عن الوليد كفر و لا زندقة بل اشتهر بالخمر و التلوط فخرجوا عليه لذلك
و ذكر الوليد مرة عند المهدي فقال رجل : كان زنديقا فقال المهدي : مه خلافة الله عنده أجل من أن يجعلها في زنديق
و قال مروان بن أبي حفصة : كان الوليد من أجمل الناس و أشدهم و أشعرهم
و قال أبو الزناد : كان الزهري يقدح أبدا عند هشام في الوليد و يعيبه و يقول : ما يحل لك إلا خلعه فما يستطيع هشام و لو بقي الزهري إلى أن يملك الوليد لفتك به
و قال الضحاك بن عثمان : أراد هشام أن يخلع الوليد و يجعل العهد لولده فقال الوليد :
( كفرت يدا من منعم لو شكرتها ... جزاك بها الرحمن بالفضل و المن )
( رأيتك تبني جاهدا في قطيعتي ... و لو كنت حزم لهدمت ما تبني )
( أراك على الباقين تجني ضغينة ... فيا ويحهم إن مت من شر ما تجني )
( كأني بهم يوما و أكثر قيلهم ... ألا ليت أنا حين يا ليت لا تغني )
و قال حماد الراوية : كنت يوما عند الوليد فدخل عليه منجمان فقالا : نظرنا فيما أمرتنا فوجدناك تملك سبع سنين قال حماد : فأردت أن أخدعه فقلت : كذبا و نحن أعلم بالأثار و ضروب العلم و قد نظرنا في هذا فوجدناك تملك أربعين سنة فأطرق ثم قال : لا ما قالا يكسرني و لا ما قلت يغرني و الله لأجبين المال من حلة جباية من يعيش الأبد و لأصرفنه في حقه صرف من يموت الغد
و قد ورد في مسند أحمد حديث [ ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو أشد على هذه الأمة من فرعون لقومه ]
و قال ابن فضل الله في المسالك : الوليد بن يزيد الجبار العنيد لقبا ما عداه و لقما سلكه فما هداه فرعون ذلك العصر الذاهب و الدهر المملوء بالمعاتب يأتي يوم القيامة يقدم قومه فيوردهم النار و يرديهم العار و بئس الورد المورود و المورد المردي في ذلك الموقف المشهود رشق المصحف بالسهام و فسق و لم يخف الآثام
و أخرج الصولي عن سعيد بن سليم قال : أنشد بن ميادة الوليد بن يزيد شعره الذي يقول فيه :
( فضلتم قريشا غير آل محمد ... و غير بني مروان أهل الفضائل )
فقال له الوليد : أراك قد قدمت علينا آل محمد فقال ابن ميادة : ما أراه يجوز غير ذلك و ابن ميادة هذا هو القائل في الوليد أيضا من قصيدة طويلة :
( هممت بقول صادق أن أقوله ... و إني على رغم العداة لقائله )
( رأيت الوليد بن اليزيد مباركا ... شديدا بأعباء الخلافة كاهله )
يزيد بن الوليد بن عبد الملك [ الناقص ] 126 هـ ـ 126ه
يزيد الناقص : أبو خالد بن الوليد بن عبد الملك لقب بالناقص لكونه نقص الجند من أعطياتهم وثب على الخلافة و قتل ابن عمه الوليد و تملك
و أمه شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد و أم فيروز بنت شيرويه بن كسرى و أم شيرويه بنت خاقان ملك الترك و أم أم فيرون بنت قيصر عظيم الروم فلهذا قال يزيد يفتخر :
( أنا ابن كسرى و أبي مروان ... و قيصر جدي و جدي خاقان )
قال الثعالبي : أغرق الناس في الخلافة من طرفيه
و لما قتل يزيد الوليد قام خطيبا فقال :
أما بعد إني و الله ما خرجت أشرا و لا بطرا و لا طعما و لا حرصا على الدنيا و لا رغبة في الملك و إني لظلوم نفسي إن لم يرحمني ربي و لكن خرجت غضبا لله و لدينه و داعيا إلى كتابه و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم حين درست معالم الهدى و طفىء نور أهل التقوى و ظهر الجبار المستحل الحرمة و الراكب البدعة فلما رأيت ذلك أشفقت إذ غشيكم ظلمة لا تقلع عنكم على كثرة من ذنوبكم و قسوة من قلوبكم و أشفقت أن يدعو كثيرا من الناس إلى ما هو عليه فيجيبه فاستخرت لله في أمري و دعوت من أجابني من أهلي و أهل ولايتي فأراح الله منه البلاد و العباد ولاية من الله و لا حول و لا قوة إلا بالله أيها الناس : إن لكم عندي إن وليت أموركم أن لا أضع لبنة على لبنه و لا حجرا على حجر و لا أنقل مالا من بلد حتى أسد ثغره و أقسم بين مصالحه ما تقوون به فإن فضل فضل رددته إلى البلد الذي يليه حتى تستقيم المعيشة و تكونوا فيه سواء فإن أردتم بيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم و إن ملت فلا بيعة لي عليكم و إن رأيتم أحدا أقوى مني عليها فأردتم بيعته فأنا أول من يبايعه و يدخل في طاعته و أستغفر الله لي و لكم
و قال عثمان بن أبي العاتكة : أول من خرج بالسلاح في العيدين يزيد بن الوليد خرج يومئذ بين صفين من الخيل عليهم السلاح من باب الحصن إلى المصلى
و عن أبي عثمان الليثي قال يزيد الناقص : يا بني أمية إياكم و الغناء فإنه ينقص الحياء و يزيد في الشهوة و يهدم المروءة و إنه لينوب عن الخمر و يفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لابد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا
و قال ابن عبد الحكم : سمعت الشافعي رحمه الله يقول : لما ولي يزيد بن الوليد دعا الناس إلى القدر و حملهم عليه و قرب أصحاب غيلان
و لم يمتع يزيد بالخلافة بل مات من عامه في سابع ذي الحجة فكانت خلافته ستة أشهر ناقصة و كان عمره خمسا و ثلاثين سنة و قيل : ستا و أربعين سنة و يقال : إنه مات بالطاعون
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك 126 هـ ـ 127 ه
إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك : أبو إسحاق بويع بالخلافة بعد موت أخيه يزيد الناقص فقيل : إنه عهد إليه و قيل : لا
قال برد بن سنان : حضرت يزيد بن الوليد و قد احتضر فأتاه قطن فقال : أنا رسول من وراء بابك يسألونك بحق الله لما و ليت أمرهم أخاك إبراهيم فغضب فقال : أنا أولي بإبراهيم ؟ ثم قال : يا أبا العلاء إلى من ترى أعهد ؟ قلت : أمر نهيتك عن الدخول فيه فلا أشير عليك في آخره قال : و أغمي عليه حتى حسبته قد مات فقعد قطن فافتعل كتابا بالعهد على لسان يزيد و دعا ناسا فاستشهدهم عليه و لا و الله ما عهد يزيد شيئا
و مكث إبراهيم في الخلافة سبعين ليلة ثم خلع : خرج عليه مروان بن محمد و بويع فهرب إبراهيم ثم جاء و خلع نفسه من الأمر و سلمه إلى مروان و بايع طائعا
و عاش إبراهيم بعد ذلك إلى سنة اثنتين و ثلاثين فقتل فيمن قتل من بني أمية في وقعة السفاح
و في تاريخ ابن عساكر سمع إبراهيم من الزهري و حكى عن عمه هشام و حكى عنه ابنه يعقوب و أمه أم ولد و هو أخو مروان الحمار لأمه
و كان خلعه يوم الإثنين لأربع عشرة خلت من صفر سنة سبع و عشرين و مائة
و قال المدائني : لم يتم لإبراهيم أمر كان قوم يسلمون عليه بالخلافة و قوم يسلمون عليه بالإمرة و أبى قوم أن يبايعوا له و قال بعض شعرائهم :
( نبايع إبراهيم في كل جمعة ... ألا غن أمرا أنت واليه ضائع )
و قال غيره : كان نقش خاتم إبراهيم [ إبراهيم يثق بالله ]
مروان بن محمد بن مروان بن الحكم [ الحمار ] 127 هـ ـ 132 ه
مروان الحمار : آخر خلفاء بني أمية أبو عبد الملك بن محمد بن مروان بن الحكم و يلقب بالجعدي نسبة إلى مؤدبه الجعد بن درهم و بالحمار لنه كان لا يجف له لبد في محاربة الخارجين عليه
كان يصل السير بالسير و يصبر على مكاره الحرب و يقال في المثل : فلان أصبر من حمار في الحروب فلذلك لقب به وقيل : لأن العرب تسمي كل مائة سنة حمارا فلما قارب ملك بني أمية مائة سنة لقبوا مروان بالحمار لذلك
ولد مروان بالجزيرة و أبوه متوليها سنة اثنتين و سبعين و أمه أم ولد
و ولي قبل الخلافة ولايات جليلة و افتتح قونية سنة خمس و مائة
و كان مشهورا بالفروسية و الإقدام و الرجولة و الدهاء و العسف فلما قتل الوليد و بلغه ذلك و هو على أرمينية دعا إلى بيعة من رضيه المسلمون فبايعوه فلما بلغه موت يزيد أنفق الخزائن و سار فحارب إبراهيم فهزمه و بويع مروان و ذلك في نصف صفر سنة سبع و عشرين و استوثق له الأمر فأول ما فعل أمر بنبش يزيد الناقص فأخرجه من قبره و صلبه لكونه قتل الوليد
ثم إنه لم يتهن بالخلافة لكثرة من خرج عليه من كل جانب إلى سنة اثنتين و ثلاثين فخرج عليه بنو العباس و عليهم عبد الله بن علي عم السفاح فسار لحربهم فالتقى الجمعان بقرب الموصل فانكسر مروان فرجع إلى الشام فتبعه عبد الله ففر مروان إلى مصر فتبعه صالح أخو عبد الله فالتقيا بقرية بوصير فقتل بها في ذي الحجة من السنة
مات في أيامه من الأعلام : السدي الكبير و مالك بن دينار الزاهد و عاصم ابن أبي النجود المقري و يزيد بن أبي حبيب و شيبة بن نصاح المقري و محمد بن المنكدر و أبو جعفر يزيد بن القعقاع مقرىء المدينة و أبو أيوب السختياني و أبو الزناد و همام بن منبه و واصل بن عطاء المعتزلي
و أخرج الصولي عن محمد بن صالح قال : لما قتل مروان الحمار قطع رأسه و وجه به إلى عبد الله بن علي فنظر غليه و غفل فجاءت هرة فاقتلعت لسانه و جعلت تمضغه فقال عبد الله بن علي : لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان في فم هرة لكفانا ذلك
السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 132 هـ ـ 136 ه
السفاح : أول خلفاء بني العباس أبو العباس بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم
ولد سنة ثمان و مائة ـ و قيل : سنة أربع ـ بالحميمة من ناحية البلقاء و نشأ بها و بويع بالكوفة و أمه ريطة الحارثية
حدث عن أخيه إبراهيم بن محمد الإمام
و روى عنه عمه عيسى بن علي و كان أصغر من أخيه المنصور
أخرج أحمد في مسنده [ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع من الزمان و ظهور من الفتن يقال له السفاح فيكون إعطاؤه المال حثيا ]
و قال عبيد الله العيشي : قال أبي سمعت الأشياخ يقولون : و الله لقد أفضت الخلافة إلى بني العباس و ما في الأرض أحد أكثر قارئا للقرآن و لا أفضل عابدا و لا ناسكا منهم
قال ابن جرير الطبري : كان بدء أمر بني العباس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلم العباس عمه أن الخلافة تؤول إلى ولده فلم يزل ولده يتوقعون ذلك
و عن رشدين بن كريب أن أبا هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنيفة خرج إلى الشام فلقي محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فقال : يا ابن عم إن عندي علما أريد أن أنبذه إليك فلا تطلعن عليه أحدا إن هذا الأمر الذي ترتجيه الناس فيكم قال : قد علمته فلا يسمعنه منك أحد
و روى المدائني عن جماعة أن الإمام محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال : لنا ثلاثة أوقات : موت يزيد بن معاوية و رأس المائة و فتق بإفريقية فعند ذلك تدعو لنا دعاة ثم تقبل أنصارنا من المشرق حتى ترد خيولهم المغرب فلما قتل يزيد بن أبي مسلم بإفريقية و نقضت البربر بعث محمد الإمام رجلا إلى خراسان و أمره أن يدعو إلى الرضى من آل محمد صلى الله عليه و سلم و لا يسمي أحدا ثم وجه أبا مسلم الخراساني و غيره و كتب إلى النقباء فقبلوا كتبه ثم لم ينشب أن مات محمد فعهد إلى ابنه إبراهيم فبلغ خبره مروان فسجنه ثم قتله فعهد إلى أخيه عبد الله و هو السفاح فاجتمع إليه شيعتهم و بويع بالخلافة بالكوفة في ثالث ربيع الأول سنة اثنتين و ثلاثين و مائة و صلى بالناس الجمعة و قال في الخطبة : الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه فكرمه و شرفه و عظمه و اختاره لنا و أيده بنا و جعلنا أهله و كهفه و حصنه و القوام به و الذابين عنه ثم ذكر قرابتهم في آيات القرآن إلى أن قال : فلما قبض الله نبيه قام بالأمر أصحابه إلى أن وثب بنو حرب و مروان فجاروا و استأثروا فأملى الله لهم حينا حتى آسفوه فانتقم منهم بأيدينا ورد علينا حقنا ليمن بنا على الذين استضعفوا في الأرض و ختم بنا كما افتتح بنا و ما توفيقنا أهل البيت إلا بالله يا أهل الكوفة أنتم محل محبتنا و منزل مودتنا لم تفتروا عن ذلك و لم يثنكم عنه تحامل أهل الجور فأنتم أسعد الناس بنا و أكرمهم علينا و قد زدت في أعطياتكم مائة مائة فاستعدوا فأنا السفاح المبيح و الثائر المبير
و كان عيسى بن علي إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة يقول : إن أربعة عشر رجلا خرجوا من دارهم يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم شديدة قلوبهم
و لما بلغ مروان مبايعة السفاح خرج لقتاله فانكسر كما تقدم ثم قتل و قتل في مبايعة السفاح من بني أمية و جندهم ما لا يحصى من الخلائق و توطدت له الممالك إلى أقصى المغرب
قال الذهبي : بدولته تفرقت الجماعة و خرج عن الطاعة ما بين تاهرت و طبنة إلى بلاد السودان و جميع مملكة الأندلس و خرج بهذه البلاد من تغلب عليها و استمر ذلك
مات السفاح بالجدري في ذي الحجة سنة ستة و ثلاثين و مائة و كان قد عهد إلى أخيه أبي جعفر و كان في سنة أربع و ثلاثين قد انتقل إلى الأنبار و صيرها دار الخلافة
و من أخبار السفاح : قال الصولي : من كلامه : إذا عظمت القدرة قلت الشهوة و قل تبرع إلا معه حق مضاع
و قال : إن من أدنياء الناس و وضعائهم من عد البخل حزما و الحلم ذلا
و قال : إذا كان الحلم مفسدة كان العفو معجزة و الصبر حسن إلا على ما أوقع الدين و أوهن السلطان و الأناة محمودة إلا عند إمكان الفرصة
قال الصولي : و كان السفاح أسخى الناس ما وعد عدة فأخرها عن وقتها و لا قام من مجلسه حتى يقضيها
و قال له عبد الله بن حسن مرة : سمعت بألف درهم و ما رأيتها قط فأمره بها فأحضرت و أمر بحملها معه إلى منزله
قال : و كان نقش خاتمه [ الله ثقة عبد الله و به يؤمن ] و قل ما يروى له من الشعر
و قال سعيد بن مسلم الباهلي : دخل عبد الله بن حسن على السفاح مرة و المجلس غاص ببني هاشم و الشيعة و وجوه الناس و معه مصحف فقال : يا أمير المؤمنين أعطنا حقنا الذي جعله الله لنا في هذا المصحف قال له : إن عليا جدك كان خيرا مني و أعدل ولي هذا الأمر أفأعطى جديك الحسن و الحسين ـ و كانا خيرا منك ـ شيئا ؟ و كان الواجب أن أعطيك مثله فإن كنت فعلت فقد أنصفتك و إن كنت زدتك فما هذا جزائي منك فانصرف و لم يحر جوابا و عجب الناس من جواب السفاح
قال المؤرخون : في دواة بني العباس افترقت كلمة الإسلام و سقط اسم العرب من الديوان وأدخل الأتراك في الديوان و استولت الديلم ثم الأتراك و صارت لهم دولة عظيمة و انقسمت ممالك الأرض عدة أقسام و صار بكل قطر قائم يأخذ الناس بالعسف و يملكهم بالقهر
قالوا : و كان السفاح سريعا إلى سفك الدماء فأتبعه في ذلك عماله بالمشرق و المغرب و كان مع ذلك جوادا بالمال
مات في أيامه من الأعلام : زيد بن أسلم و عبد الله بن أبي بكر بن حزم و ربيعة الرأي فقيه أهل المدينة و عبد الملك بن عمير و يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي و عبد الحميد الكاتب المشهور قتل ببوصير مع مروان و منصور بن المعتمر و همام بن منبه
أبو جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس 136 هـ
ـ 158 هالمنصور أبو جعفر : عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس و أمه سلامة البربرية أم ولد ولد سنة خمس و تسعين و أدرك جده و لم يرو عنه
و روى عن أبيه و عن عطاء بن يسار و عنه ولده المهدي و بويع بالخلافة بعهد من أخيه و كان فحل بني العباس هيبة و شجاعة و حزما و رأيا و جبروتا جماعا للمال تاركا اللهو و اللعب كامل العقل جيد المشاركة في العلم و الأدب فقيه النفس قتل خلقا كثيرا حتى استقام ملكه و هو الذي ضرب أبا حنيفة رحمه الله على القضاء ثم سجنه فمات بعد أيام و قيل : إنه قتله بالسم لكونه أفتى بالخروج عليه و كان فصيحا بليغا مفوها خليقا للإمارة و كان غاية في الحرص و البخل فلقب [ أبا الدوانيق ] لمحاسبته العمال و الصناع على الدوانيق و الحبات
أخرج الخطيب [ عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : منا السفاح و منا المنصور و منا المهدي ]
قال الذهبي : منكر منقطع
و أخرج الخطيب و ابن عساكر و غيرهما من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : [ منا السفاح و منا المنصور و منا المهدي ]
قال الذهبي : إسناده صالح
و أخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل [ عن محمد بن جابر عن الأعمش عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم ! قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : منا القائم و منا المنصور و منا السفاح و منا المهدي فأما القائم فتأتيه الخلافة و لم يهرق فيها محجمة من دم و أما المنصور فلا ترد له راية و أما السفاح فهو يسفح المال و الدم و أما المهدي فيملؤها عدلا كما ملئت ظلما ]
و عن المنصور قال : رأيت كأني في الحرم و كأن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الكعبة و بابها مفتوح فنادى مناد : أين عبد الله ؟ فقام أخي أبو العباس حتى صار على الدرجة فأدخل فما لبث أن خرج و معه قناة عليها لواء أسود قدر أربعة أذرع ثم نودي : أين عبد الله ؟ فقمت على الدرجة فأصعدت و إذا رسول الله صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمر و بلال فعقد لي و أوصاني بأمته و عمني بعمامة فكان كورها ثلاثة و عشرين و قال : خذها إليك أبا الخلفاء إلى يوم القيامة
تولى المنصور الخلافة في أول سنة سبع و ثلاثين و مائة فأول ما فعل أن قتل أبا مسلم الخراساني صاحب دعوتهم و ممهد مملكتهم
و في سنة ثمان و ثلاثين و مائة كان دخول عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي إلى الأندلس و استولى عليها و امتدت أيامه و بقيت الأندلس في يد أولاده إلى بعد الأربعمائة و كان عبد الرحمن هذا من أهل العلم و العدل و أمه بربرية
قال أبو المظفر الأبيوردي : فكانوا يقولون : ملك الدنيا ابنا بربريتين : المنصور و عبد الرحمن بن معاوية
و في سنة أربعين شرع في بناء مدينة بغداد
و في سنة إحدى و أربعين كان ظهور الراوندية القائلين بالتناسخ فقتلهم المنصور و فيها فتحت طبرستان
قال الذهبي : في سنة ثلاث و أربعين شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث و الفقه و التفسير فصنف ابن جريج بمكة و مالك الموطأ بالمدينة و الأوزاعي بالشام و ابن أبي عروبة و حماد بن سلمة و غيرهما بالبصرة و معمر باليمن و سفيان الثوري بالكوفة و صنف ابن إسحاق المغازي و صنف أبو حنيفة رحمه الله الفقه و الرأي ثم بعد يسير صنف هشيم و الليث و ابن لهيعة ثم ابن المبارك و أبو يوسف و ابن وهب و كثر تدوين العلم و تبويبه و دونت كتب العربية و اللغة و التاريخ و أيام الناس و قبل هذا العصر كان الأئمة يتكلمون من حفظهم أو يروون العلم من صحف صحيحة غير مرتبة
و في سنة خمس و أربعين كان خروج الأخوين محمد و إبراهيم ابني عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب فظفر بهما المنصور فقتلهما و جماعة كثيرة من آل البيت فإنا لله و إنا إليه راجعون
و كان المنصور أول من أوقع الفتنة بين العباسين و العلويين و كانوا قبل شيئا واحدا و آذى المنصور خلقا من العلماء ممن خرج معهما أو أمر بالخروج قتلا و ضربا و غير ذلك : منهم أبو حنيفة و عبد الحميد بن جعفر و ابن عجلان و ممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور مالك بن أنس رحمه الله و قيل له : إن في أعناقنا بيعة للمنصور فقال : إنما بايعتكم مكرهين و ليس على مكره يمين
و في سنة ست و أربعين كانت غزوة قبرس
و في سنة سبع و أربعين خلع المنصور عمه عيسى بن موسى من ولاية العهد و كان السفاح عهد إليه من بعد المنصور و كان عيسى هو الذي حارب له الأخوين فظفر بهما فكافأه بأن خلعه مكرها و عهد إلى ولده المهدي
و في سنة ثمان و أربعين توطدت الممالك كلها للمنصور و عظمت هيبته في النفوس و دانت له الأمصار و لم يبق خارجا عنه سوى جزيرة الأندلس فقط فإنها غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية الأموي المرواني لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل الأمير فقط و كذلك بنوه
و في سنة تسع و أربعين فرغ من بناء بغداد
و في سنة خمسين خرجت الجيوش الخراسانية عن الطاعة مع الأمير استاذ سيس و استولى على أكثر مدن خراسان و عظم الخطب و استفحل الشر و اشتد على المنصور الأمر و بلغ ضريبة الجيش الخراساني ثلاثمائة ألف مقاتل ما بين فارس و راجل فعمل معهم أجشم المروزي مصافا فقتل أجشم و استبيح عسكره فتجهز لحربهم خازم بن خزيمة في جيش عرمرم يسد الفضاء فالتقى الجمعان و صبر الفريقان و كانت وقعة مشهورة يقال : قتل فيها سبعون ألفا و انهزم أستاذ سيس فالتجأ إلى جبل و أمر الأمير خازم في العام الآتي بالأسرى فضربت أعناقهم و كانوا أربعة عشر ألفا ثم حاصروا أستاذ سيس مدة ثم سلم نفسه فقيده و أطلقوا أجناده و كان عددهم ثلاثين ألفا انتهى
و في سنة إحدى و خمسين بنى الرصافة و شيدها
و في سنة ثلاث و خمسين ألزم المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال فكانوا يعملونها بالقصب و الورق و يلبسونها السوداء فقال أبو دلامة :
( و كنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس )
( تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جللت بالبرانس )
و في سنة ثمان و خمسين أمر المنصور نائب مكة بحبس سفيان الثوري و عباد بن كثير فحبسا و تخوف الناس أن يقتلهما المنصور إذا ورد الحج فلم يوصله الله مكة سالما بل قدم مريضا و مات و كفاهما الله شره و كانت وفاته بالبطن في ذي الحجة و دفن بين الحجون و بين بئر ميمون و قال سلم الخاسر :
( قفل الحجيج و خلفوا ابن محمد ... رهنا بمكة في الضريح الملحد )
( شهدوا المناسك كلها و إمامهم ... تحت الصفائح محرما لم يشهد )
و من أخبار المنصور أخرج ابن عساكر بسنده أن أبا جعفر المنصور كان يرحل في طلب العلم قبل الخلافة فبينا هو يدخل منزلا من المنازل قبض عليه صاحب الرصد فقال : زن درهمين قبل أن تدخل قال : خل عني فإني رجل من بني هاشم قال : زن درهمين فقال : خل عني فإني من بني عم رسول الله صلى الله عليه و سلم قال زن درهمين قال : خل عني فإني رجل قارىء لكتاب الله قال : زن درهمين قال : خل عني فإني رجل عالم بالفقه و الفرائض قال : زن درهمين فلما أعياه أمره وزن الدرهمين فرجع و لزم جمع المال و التدنق فيه حتى لقب بأبي الدوانيق
و أخرج عن الربيع بن يونس الحاجب قال : سمعت المنصور يقول : الخلفاء أربعة : أبو بكر و عمر و عثمان و علي و الملوك أربعة : معاوية و عبد الملك و هشام و أنا
و أخرج عن مالك بن أنس قال : دخلت على أبي جعفر المنصور فقال : من أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قلت : أبو بكر و عمر قال أصبت و ذلك رأي أمير المؤمنين
و أخرج عن إسماعيل الفهري قال : سمعت المنصور في يوم عرفة على منبر عرفة يقول في خطبته :
أيها الناس : إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه و رشده و خازنه على فيئه أقسمه بإرادته و أعطيه بإذنه و قد جعلني الله عليه قفلا : إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم و إذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني فارغبوا إلى الله أيها الناس و سلوه في هذا البيت الشريف الذي وهب لكم فيه من فضله ما أعلكم في كتابه إذ يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } أن يوفقني للصواب و يسددني للرشاد و يلهمني الرأفة بكم و الإحسان إليكم و يفتحني لإعطائكم و قسم أرزاقكم بالعدل فإنه سميع مجيب و أخرجه الصولي و زاد في أوله أن سبب هذه الخطبة أن الناس بخلوه و زاد في آخره : فقال بعض الناس : أحال أمير المؤمنين بالمنع على ربه
و أخرج عن الأصمعي و غيره أن المنصور صعد المنبر فقال :
الحمد لله أحمده و أستعينه و أومن به و أتوكل عليه و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فقام : إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين أذكر من أنت في ذكره فقال : مرحبا مرحبا لقد ذكرت جليلا و خوفت عظيما و أعوذ بالله أن أكون ممن إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم و الموعظة منا بدت و من عندنا خرجت و أنت يا قائلها فأحلف بالله ما أردت بها و إنما أردت أن يقال : قام فقال فعوقب فصبر فاهون بها من قائلها و اهتبلها من الله ويلك ! إني قد غفرتها و إياكم معشر الناس و أمثالها و أشهد أن محمدا عبده و رسوله فعاد إلى خطبته فكأنما يقرؤها من قرطاس
و أخرج من طرق أن المنصور قال لابنه المهدي : يا أبا عبد الله الخليفة لا يصلحه إلا التقوى و السلطان لا يصلحه إلا الطاعة و الرعية لا يصلحها إلا العدل و أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة و أنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه
و قال : لا تبر من أمرا حتى تفكر فيه فإن فكرة العاقل مرآته تريه قبيحة و حسنه
و قال : أي بني استدم النعمة بالشكر و المقدرة بالعفو و الطاعة بالتألف و النصر بالتواضع و الرحمة للناس
و أخرج [ عن مبارك بن فضالة قال : كنا عند المنصور فدعا برجل و دعا بالسيف فقال المبارك : يا أمير المؤمنين سمعت الحسين يقول : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا كان يوم القيامة قام مناد من عند الله ينادي ليقم الذين أجرهم على الله فلا يقوم إلا من عفا ] فقال المنصور : خلوا سبيله
و أخرج عن الأصمعي قال : أتى المنصور برجل يعاقبه فقال : يا أمير المؤمنين الانتقام عدل و التجاوز فضل و نحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ أرفع الدرجتين فعفا عنه
و أخرج عن الأصمعي قال : لقي المنصور أعرابيا بالشام فقال أحمد الله يا أعرابي الذي رفع عنكم الطاعون بولايتنا أهل البيت قال : إن الله لا يجمع علينا حشفا و سوء كيل ولايتكم و الطاعون
و أخرج عن محمد بن منصور البغدادي قال : قام بعض الزهاد بين يدي المنصور فقال : إن الله أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك ببعضها و اذكر ليلة تبيت في القبر لم تبت قبلها ليلة و اذكر ليلة تمخض عن يوم لا ليلة بعده فأفحم المنصور و أمر له بمال فقال : لو احتجت إلى مالك ما وعظتك
و أخرج عن عبد السلام بن حرب أن المنصور بعث إلى عمرو بن عبيد فجاءه فأمر له بمال فأبى أن يقبله فقال المنصور : و الله لتقبلنه فقال : و الله لا أقبله فقال له المهدي : قد حلف أمير المؤمنين فقال : أمير المؤمنين أقوى على كفارة اليمين من عمك فقال له المنصور : سل حاجتك ؟ قال : أسألك أن لا تدعوني حتى آتيك و لا تعطني حتى أسألك فقال : علمت أني جعلت هذا ولي عهدي فقال يأتيه الأمر يوم يأتيه و أنت مشغول
و أخرج عن عبد الله بن صالح قال : كتب المنصور إلى سوار بن عبد الله قاضي البصرة : انظر التي تخاصم فيها فلان القائد و فلان التاجر فادفعها إلى القائد فكتب إليه سوار : إن البينة قد قامت عندي أنها للتاجر فلست أخرجها من يده إلا ببينة فكتب إليه المنصور : و الله الذي لا إله إلا هو لتدفعنها إلى القائد فكتب إليه سوار : و الله الذي لا إله إلا هو لا أخرجتها من يد التاجر إلا بحق فلما جاءه الكتاب قال : ملأتها و الله عدلا و صار قضاتي تردني إلى الحق
و أخرج من وجه آخر أن المنصور وشي إليه بسوار فاستقدمه فعطس المنصور فلم يشمته سوار فقال ما يمنعك من التشميت ؟ قال : لأنك لم تحمد الله فقال قد حمدت الله في نفسي قال شمتك في نفسي قال : ارجع إلى عملك فإنك إذا لم تحابني لم تحاب غيري
و أخرج عن نمير المدني قال : قدم المنصور المدينة و محمد بن عمران الطلحي على قضائه و أنا كاتبه فاستعدى الجمالون على المنصور في شيء فأمرني أن أكتب إليه بالحضور و إنصافهم فاستعفيت فلم يعفني فكتبت الكتاب ثم ختمته و قال : و الله لا يمضي به غيرك فمضيت به إلى الربيع فدخل عليه ثم خرج فقال للناس إن أمير المؤمنين يقول لكم : إني قد دعيت إلى مجلس الحكم فلا يقومن معي أحد ثم جاء هو و الربيع فلم يقم له القاضي بل حل رداءه و اختبى به ثم دعا بالخصوم فادعوا فقضى لهم على الخليفة فلما فرغ قال له المنصور : جزاك الله عن دينك أحسن الجزاء قد أمرت لك بعشرة آلاف دينار
و أخرج عن محمد بن حفص العجلي قال : ولد لأبي دلامة ابنة فغدا على المنصور فأخبره و أنشد :
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم لقيل : اقعدوا يا آل عباس )
( ثم ارتقوا في شعاع الشمس كلكم ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس )
ثم أخرج أبو دلامة خريطة فقال المنصور : ما هذه ؟ قال أجعل فيها ما تأمر لي به فقال : املؤوها له دراهم فوسعت ألفي درهم
و أخرج عن محمد بن سلام الجمحي قال : قيل للمنصور هل من بقي من لذات الدنيا شيء لم تنله ؟ قال : بقيت خصلة أن أقعد في مصطبة و حولي أصحاب الحديث يقول المستملي : من ذكرت رحمك الله فغدا عليه الندماء و أبناء الوزراء بالمحابر و الدفاتر فقال لستم بهم إنما هم الدنسة ثيابهم المشققة أرجلهم الطويلة شعورهم برد الآفاق و نقلة الحديث
و أخرج عن عبد الصمد بن علي أنه قال للمنصور : لقد هجمت بالعقوبة حتى كأنك لم تسمع بالعفو قال : لأن بني مروان لم تبل رممهم و آل أبي طالب لم تغمد سيوفهم و نحن بين قوم قد رأونا أمس سوقة و اليوم خلفاء فليس تتمهد هيبتنا في صدورهم إلا بنسيان العفو و استعمال العقوبة
و أخرج عن يونس بن حبيب قال : كتب زياد بن عبد الله الحارثي إلى المنصور يسأله الزيادة في عطائه و أرزاقه و أبلغ في كتابه فوقع المنصور في القصة : إن الغنى و البلاغة إذا اجتمعتا في رجل أبطرتاه و أمير المؤمنين يشفق عليك من ذلك فاكتف بالبلاغة
و أخرج عن محمد بن سلام قال : رأت جارية المنصور قميصه مرقوعا فقالت : خليفة و قميصه مرقوع فقال : ويحك ! أما سمعت قول ابن هرمة :
( قد يدرك الشرف الفتى و رادؤه ... خلق و جيب قميصه مرقوع )
و قال العسكري في الأوائل : كان المنصور في ولد العباس كعبد الملك في بني أمية في بخله رأى بعضهم عليه قميصا مرقوعا فقال : سبحان من ابتلى أبا جعفر بالفقر في ملكه ! و حدا به سلم الحادي فطرب حتى كاد يسقط من الراحلة فأجازه بنصف درهم فقال : لقد حدوت بهشام فأجازني بعشرة آلاف فقال : ما كان له أن يعطيك ذلك من بيت المال يا ربيع و كل به من يقبضها منه فما زالوا به حتى تركه على أن يحدو به ذهابا و إيابا بغير شيء
و في كتاب الأوائل للعسكري : كان ابن هرمة شديد الرغبة في الخمر فدخل على المنصور فأنشده :
( له لحظات من خفا في سريرة ... إذا كرها فيها عقاب و نائل )
( فأم الذي أمنت آمنة الردى ... و أم الذي حاولت بالثكل ثاكل )
فأعجب به المنصور و قال : ما حاجتك ؟ قال : تكتب إلى عاملك بالمدينة أن لا يحدني إذا وجدني سكران فقال : لا أعطل حدا من حدود الله قال : تحتال لي فكتب إلى عامله : من أتاك بابن هرمة سكران فاجلده مائة و اجلد ابن هرمة ثمانين
فكان العون إذا مر به و هو سكران يقول : من يشتري مائة بثمانين ؟ و يتركه و يمضي قال : و أعطاه المنصور في هذه المرة عشرة آلاف درهم و قال له : يا إبراهيم احتفظ بها فليس لك عندنا مثلها فقال : إني ألقاك على الصراط بها بختمة الجهبذ
و من شعر المنصور و شعره قليل :
( إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن تترددا )
( و لا تهمل العداء يوما بقدرة ... و بادرهم أن يملكوا مثلها غدا )
و قال عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي : كنت أطلب العلم مع أبي جعفر المنصور قبل الخلافة فأدخلني منزله فقدم إلي طعاما لا لحم فيه ثم قال : يا جارية عندك حلواء ؟ قالت : لا قال : و لا التمر ؟ قالت : لا فاستلقى و قرأ { عسى ربكم أن يهلك عدوكم } الآية فلما ولي الخلافة وفدت إليه فقال : كيف سلطاني من سلطان بني أمية ؟ قلت : ما رأيت في سلطانهم من الجور شيئا إلا رأيته في سلطانك فقال : إنا لا نجد الأعوان قلت : قال عمر بن عبد العزيز : إن السلطان بمنزلة السوق يجلب إليها ما ينفق فيها فإن كان برا أتوه ببرهم و إن كان فاجرا أتوه بفجورهم فأطرق
و من كلام المنصور : الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة خلال : إفشاء السر و التعرض للحرم و القدح في الملك أسنده الصولي
و قال : إذا مد عدوك إليك يده فاقطعها إن أمكنك و إلا فقبلها أسنده أيضا
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : مما يؤثر من ذكاء المنصور انه دخل المدينة فقال للربيع : اطلب لي رجلا يعرفني دور الناس فجاءه رجل فجعل يعرفه الدور إلا انه لا يبتدئ به حتى يسأله المنصور فلما فارقه أمر له بألف درهم فطالب الرجل الربيع بها فقال : ما قال لي شيئا و سيركب فذكره فركب مرة أخرى فجعل يعرفه و لا يرى موضعا للكلام فلما أراد أن يفارقه قال الرجل مبتدئا : وهذه يا أمير المؤمنين دار عاتكة التي يقول فيها الأحوص :
( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى و بك الفؤاد موكل )
فأنكر المنصور ابتداءه فأمر القصيدة على قلبه فإذا فيها :
( و أراك تفعل ما تقول و بعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل )
فضحك و قال : و يلك يا ربيع ! أعطه ألف درهم
و أسند الصولي عن إسحاق الموصلي قال : لم يكن المنصور يظهر لندمائه بشرب ولا غناء بل يجلس و بينه و بين الندماء ستارة و بينهم و بينها عشرون ذراعا و بينهما و بينه كذلك و أول من ظهر للندماء من خلفاء بني العباس المهدي
و أخرج الصولي عن يعقوب بن جعفر قال : قال المنصور لقثم بن العباس بن عبد الله بن العباس و كان عامله على اليمامة و البحرين : ما القثم ؟ و من أي شيء أخذ ؟ فقال : لا أدري فقال : اسمك اسم هاشمي لا تعرفه أنت و الله جاهل قال : فإن رأى أمير المؤمنين أن يفيدنيه قال : القثم الذي ينزل بعد الأكل و يقثم الأشياء : يأخذها و يثلمها
روي أن المنصور ألح عليه ذباب فطلب مقاتل بن سليمان فسأله لم خلق الله الذباب ؟ قال : ليذل به الجبارين و قال محمد بن علي الخراساني : المنصور أول خليفة قرب المنجمين و عمل بأحكام النجوم و أول خليفة ترجمت له الكتب السريانية و الأعجمية بالعربية ككتاب كليلة ودمنة و إقليدس و هو أول من استعمل مواليه على الأعمال و قدمهم على العرب و كثر ذلك بعده حتى زالت رئاسة العرب و قيادتها و هو أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس و ولد علي و كان قبل ذلك أمرهم واحدا
أحاديث من رواية المنصور
قال الصولي : كان المنصور أعلم الناس بالحديث و الأنساب مشهورا بطلبه
قال ابن عساكر في تاريخ دمشق : حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي حدثنا أبو محمد الجوهري حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن الشخير حدثنا أحمد بن إسحاق أبو بكر الملحمي حدثنا أبو عقيل أنس بن سلم الأنطرطوشي حدثني محمد بن إبراهيم السلمي عن المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم [ كان يتختم في يمينه ]
و قال الصولي : [ حدثنا محمد بن زكريا اللؤلؤي حدثنا جهنم بن السباق الرياحي حدثني بشر بن المفضل سمعت الرشيد يقول : سمعت المهدي يقول : سمعت المنصور يقول : حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا و من تأخر عنها هلك ]
و قال الصولي : [ حدثنا محمد بن موسى حدثنا سليمان بن أبي شيخ حدثنا أبو سفيان الحميري سمعت المهدي يقول : حدثني أبي عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا أمرنا أميرا و فرضنا له فرضا فما أصاب من شيء فهو غلول ]
و قال الصولي : [ حدثنا جبلة بن محمد حدثنا أبي عن يحيى بن حمزة الحضرمي عن أبيه قال : ولاني المهدي القضاء فقال : اصلب في الحكم فإن أبي حدثني عن أبيه عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يقول الله : و عزتي و جلالي لأنتقمن من الظالم في عاجله و آجله و لأنتقمن ممن رأى مظلوما يقدر أن ينصره فلم يفعل ] و قال الصولي : [ حدثنا محمد بن العباس ابن الفرج حدثني أبي عن الأصعمي حدثني جعفر بن سليمان عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : كل سبب و نسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي و نسبي ] و قال الصولي : حدثنا أبو إسحاق محمد بن هرون بن عيسى حدثنا الحسن بن عبيد الله الحصيبي حدثنا إبراهيم بن سعيد حدثني المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال : سمعت علي بن أبي طالب يقول : لا تسافروا في محاق الشهر و لا إذا كان القمر في العقرب
مات في أيام المنصور من الأعلام : ابن المقفع و سهيل بن أبي صالح و العلاء بن عبد الرحمن و خالد بن يزيد المصري الفقيه و داود بن أبي هند و أبو حازم سلمة بن دينار الأعرج و عطاء بن أبي مسلم الخراساني و يونس بن عبيد و سليمان الأحول و موسى بن عقبة صاحب المغازي و عمرو بن عبيد المعتزلي و يحيى بن سعيد الأنصاري و الكلبي و أبو إسحاق و جعفر بن محمد الصادق و الأعمش و شبل بن عباد مقرئ مكة و محمد بن عجلان المعدني الفقيه و محمد ابن عبد الرحمن بن أبي ليلى و ابن جريج و أبو حنيفة و حجاج بن أرطأة و حماد الراوية و رؤبة الشاعر و الجريري و سليمان التميمي و عاصم الأحول و ابن شبرمة الضبي و مقاتل بن حبان و مقاتل بن سليمان و هاشم بن عروة و أبو عمرو بن العلاء و أشعب الطماع و حمزة بن حبيب الزيات و الأوزاعي و خلائق آخرون
المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور 158هـ ـ 169ه
المهدي : أبو عبد الله محمد بن المنصور ولد بأيذج سنة سبع و عشرين و مائة و قيل : سنة ست و عشرين و أمه أم موسى بنت منصور الحميرية
و كان جوادا ممدحا مليح الشكل محببا إلى الرعية حسن الاعتقاد تتبع الزنادقة و أفنى منهم خلقا كثيرا و هو أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة و الملحدين روى الحديث عن أبيه و عن مبارك بن فضالة حدث عنه يحيى بن حمزة و جعفر بن سليمان الضبعي و محمد بن عبد الله الرقاشي و أبو سفيان سعيد بن يحيى الحميري قال الذهبي : و ما علمت قيل فيه جرحا و لا تعديلا
و أخرج ابن عدي من حديث عثمان مرفوعا [ المهدي من ولد العباس عمي ] تفرد به محمد بن الوليد مولى بني هاشم و كان يضع الحديث و أورد الذهبي هنا حديث ابن مسعود مرفوعا : [ المهدي يواطىء اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي ] أخرجه أبو داود و الترمذي و صححه
و لما شب المهدي أمره أبوه على طبرستان و ما والاها و تأدب و جالس العلماء و تميز ثم إن أباه عهد إليه فلما مات بويع بالخلافة و وصل الخبر إليه ببغداد فخطب الناس فقال : إن أمير المؤمنين عبد دعي فأجاب و أمر فأطاع و اغرورقت عيناه فقال : قد بكى رسول الله صلى الله عليه و سلم عند فراق الأحبة و لقد فارقت عظيما و قلدت جسيما فعند الله أحتسب أمير المؤمنين و به أستعين على خلافة المسلمين أيها الناس أسروا مثل ما تعلنون من طاعتنا نهبكم العافية و تحمدوا العاقبة و اخفضوا جناح الطاعة لمن نشر معدلته فيكم و طوى الإصر عنكم و أهال عليكم السلامة من حيث رآه الله مقدما ذلك و الله لأفنين عمري بين عقوبتكم و الإحسان إليكم
قال نفطويه : لما حصلت الخزائن في يد المهدي أخذ في رد المظالم فأخرج أكثر الذخائر ففرقها و بر أهله و مواليه
و قال غيره : أول من هنأ المهدي بالخلافة و عزاه بأبيه أبو دلامة فقال :
( عيناي واحدة ترى مسرورة ... بأميرها جذلى و أخرى تذرف )
( تبكي و تضحك تارة و يسوءها ... ما أنكرت و يسرها ما تعرف )
( فيسوءها موت الخليفة محرما ... و يسرها أن قام هذا الأرأف )
( ما إن رأيت كما رأيت و لا أرى ... شعرا أسرحه و آخر ينتف )
( هلك الخليفة يا لدين محمد ... و أتاكم من بعده من يخلف )
( أهدى لهذا الله فضل خلافة ... و لذاك جنات النعيم تزخرف )
و في سنة تسع و خمسين بايع المهدي بولاية العهد لموسى الهادي ثم من بعده لهارون الرشيد ولديه
و في سنة ستين فتحت أربد من الهند عنوة و فيها حج المهدي فأنهى إليه حجبة الكعبة أنهم يخافون هدمها لكثرة ما عليها من الأستار فأمر بها فجردت و اقتصر على كسوة المهدي و حمل إلى المهدي الثلج إلى مكة قال الذهبي : لم يتهيأ ذلك لملك قط
و في سنة إحدى و ستين أمر المهدي بعمارة طريق مكة و بنى بها قصورا و عمل البرك و أمر بترك المقاصير التي في جوامع الإسلام و قصر المنابر و صيرها على مقدار منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم
و في سنة ثلاث و ستين و ما بعدها كثرت الفتوح بالروم
و في سنة ست و ستين تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ و أمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية و من اليمن و مكة إلى الحضرة بغالا و إبلا
قال الذهبي : و هو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق
و فيها و فيما بعدها جد المهدي في تتبع الزنادقة و إبادتهم و البحث عنهم في الأفاق و القتل على التهمة
و في سنة سبع و ستين أمر بالزيادة الكبرى في المسجد الحرام و أدخل في ذلك دورا كثيرة
و في سنة تسع و ستين مات المهدي : ساق خلف صيد فاقتحم الصيد خربة و تبعه الفرس فدق ظهره في بابها فمات لوقته و ذلك لثمان بقين من المحرم و قيل : إنه مات مسموما و قال سلم الخاسر يرثيه :
( و باكية على المهدي عبرى ... كأن بها و ما جنت جنونا )
( و قد خمشت محاسنها و أبدت ... غدائرها و أظهرت القرونا )
( لئن بلي الخليفة بعد عز ... لقد أبقى مساعي ما بلينا )
( سلام الله عدة كل يوم ... على المهدي حين ثوى رهينا )
( تركنا الدين و الدنيا جميعا ... بحيث ثوى أمير المؤمنينا )
و من أخبار المهدي : قال الصولي : لما عقد المهدي العهد لولده موسى قال مروان بن أبي حفصة :
( عقدت لموسى بالرصافة بيعة ... شد الإله بها عرى الإسلام )
( موسى الذي عرفت قريش فضله ... و لها فضيلتها على الأقوام )
( بمحمد بعد النبي محمد ... حي الحلال و مات كل حرام )
( مهدي أمته الذي أمست به ... للذل آمنة و للآعلام )
( موسى ولي عهد الخلافة بعده ... جفت بذاك مواقع الأقلام )
و قال آخر :
( يا بن الخليفة إن أمة أحمد ... تاقت إليك بطاعة أهواؤها )
( و لتملأن الأرض عدلا كالذي ... كانت تحدث أمة علماؤها )
( حتى تمنى لو ترى أمواتها ... من عدل حكمك ما ترى أحياؤها )
( فعلى أبيك اليوم بهجة ملكها ... و غدا عليك إزارها و رداؤها )
و أسند الصولي أن امرأة اعترضت المهدي فقالت : يا عصبة رسول الله صلى الله عليه و سلم انظر في حاجتي فقال المهدي : ما سمعتها من أحد قط ! اقضوا حاجتها و أعطوها عشرة آلاف درهم
و قال قريش الختلي : رفع صالح بن عبد القدوس البصري إلى المهدي في الزندقة فأراد قتله فقال : أتوب إلى الله و أنشده لنفسه :
( ما يبلغ الأعداء من جاهل ... مما يبلغ الجاهل من نفسه )
( و الشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه )
فصرفه فلما قرب من الخروج رده فقال : ألم تقل و الشيخ لا يترك أخلاقه ؟ قال : بلى قال : فكذلك أنت لا تدع أخلاقك حتى تموت ثم أمر بقتله
و قال زهير : قدم على المهدي بعشرة محدثين : منهم فرج بن فضالة و غياث بن إبراهيم ـ و كان المهدي يحب الحمام ـ فلما أدخل غياث قيل له : حدث أمير المؤمنين فحدثه عن فلان عن أبي هريرة مرفوعا [ لا سبق إلا في حافر أو نصل ] و زاد فيه [ أو جناح ] فأمر له المهدي بعشرة آلاف درهم فلما قام قال : أشهد أن قفاك قفا كذاب و إنما استجلبت ذلك ثم أمر بالحمام فذبحت
و روي أن شريكا دخل على المهدي فقال له : لابد من ثلاث : إما أن تلي القضاء أو تؤدب ولدي و تحدثهم أو تأكل عندي أكلة ؟ ففكر ساعة ثم قال : الأكلة أخف علي فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكر و غير ذلك فأكل فقال الطباخ : لا يفلح بعدها قال فحدثهم بعد ذلك و علمهم العلم و ولي القضاء لهم
و أخرج البغوي في الجعديات عن حمدان الأصبهاني قال : كنت عند شريك فأتاه ابن المهدي فاستند و سأل عن حديث فلم يلتفت شريك ثم أعاد فعاد فقال : كأنك تستخف بأولاد الخلفاء قال : لا و لكن العلم أزيد عند أهله من أن يضيعوه فجثا على ركبتيه ثم سأله فقال شريك : هكذا يطلب العلم و من شعر المهدي ما أنشده الصولي :
( ما يكف الناس عنا ... ما يمل الناس منا )
( إنما همتهم أن ... ينبشوا ما قد دفنا )
( لو سكنا بطن أرض ... فلكانوا حيث كنا )
( و هم إن كاشفونا ... في الهوى يوما مجنا )
و أسند الصولي عن محمد بن عمارة قال : كان المهدي جارية شغف بها و هي كذلك إلا أنها تتحاماه كثيرا فدس إليها من عرف ما في نفسها فقالت : أخاف أن يملني و يدعني فأموت فقال المهدي في ذلك :
( ظفرت بالقلب مني ... غادة مثل الهلال )
( كلما صح لها ود ... ي جاءت باعتلال )
( لا لحب الهجر مني ... و التنائي عن وصال )
( بل لإبقاء على ح ... بي لها خوف الملال )
و له نديمة عمر بن بزيع :
( رب تمم لي نعمي ... بأبي حفص نديمي )
( إنما لذة عيشي ... في غناء و كروم )
( و جوار عطرات ... و سماع و نعيم )
قلت : شعر المهدي أرق و ألطف من شعر أبيه و أولاده بكثير
و أسند الصولي عن ابن كريمة قال : دخل المهدي إلى حجرة جارية على غفلة فوجدها و قد نزعت ثيابها و أرادت لبس غيرها فلما رأته غطت بيدها فقصرت كفها عنه فضحك و قال :
( نظرت في القصر عيني ... نظرة وافق حيني )
ثم خرج فرأى بشارا فأخبره و قال : أجز فقال بشار :
( سترته إذا رأتني ... دونه بالراحتين )
( فبدا لي منه فضل ... تحت طي العكنتين )
و أسند عن إسحاق الموصلي قال : كان المهدي في أول أمره يحتجب عن الندماء تشبها بالمنصور نحوا من سنة ثم ظهر لهم فأشير عليه أن يحتجب فقال إنما اللذة مع مشاهدتهم
و أسند عن مهدي بن سابق قال : صاح رجل بالمهدي و هو في موكبه :
( قل للخليفة : حاتم لك خائن ... فخف الإله و أعفنا من حاتم )
( إن العفيف إذا استعان بخائن ... كان العفيف شريكه في المأثم )
فقال المهدي : يعزل كل عامل لنا يدعى حاتما
و أسند أبي عبيدة قال : كان المهدي يصلي بنا الصلوات الخمس في المسجد الجامع بالبصرة لما قدمها فأقيمت الصلاة يوما فقال أعرابي : ليست طهر و قد رغبت في الصلاة خلفك فأمر هؤلاء بانتظاري فقال : انتظروه و دخل المحراب فوقف إلى أن قيل : قد جاء الرجل فكبر فعجب الناس من سماحة أخلاقه
و أسند عن إبراهيم بن نافع أن قوما من أهل البصرة تنازعوا إليه في نهر من أنهار البصرة فقال : إن الأرض لله في أيدينا للمسلمين فما لم يقع له ابتياع منها يعود ثمنه على كافتهم و في مصلحتهم فلا سبيل لأحد عليه فقال القوم : هذا النهر لنا بحكم رسول الله صلى الله عليه و سلم لأنه قال : [ من أحيا أرضا ميتة فهي له ] و هذه موات فوثب المهدي عند ذكر النبي صلى الله عليه و سلم حتى ألصق خده بالتراب و قال : سمعت لما قال وأطعت ثم عاد و قال : بقي أن تكون هذه الأرض مواتا حتى لا أعرض فيها و كيف تكون مواتا و الماء محيط بها من جوانبها ؟ فإن أقاموا البينة على هذا سلمت
و أسند عن الأصمعي قال : سمعت المهدي على منبر البصرة يقول : إن الله أمركم بأمر بدأفيه بنفسه و ثنى بملائكته فقال : { إن الله وملائكته يصلون على النبي } آثره بها من بين الرسل إذا خصكم بها من بين الأمم
قلت : و هو أول من قال ذلك في الخطبة و قد استسنها الخطباء إلى اليوم
و لما مات قال أبو العتاهية و قد علقت المسوح على قباب حرمه :
( رحن في الموشى و أصبحن ... عليهن المسوح )
( كل نطاح من الدهر ... له يوم نطوح )
( لست بالباقي و لو عم ... رت ما عمر نوح )
( نح على نفسك يا مس ... كين إن كنت تنوح )
ذكر أحاديث من رواية المهدي
قال الصولي : حدثني أحمد بن محمد بن صالح التمار حدثنا يحيى بن محمد القريشي حدثنا أحمد بن هشام حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن مسلم المدائني ـ و هو ثقة صدوق ـ قال : سمعت المهدي يخطب فقال : حدثنا شعبة [ عن علي بن زيد بن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم خطبة من العصر إلى مغيربان الشمس حفظها من حفظها و نسيها من نسيها فقال : ألا إن الدنيا حلوة خضرة ] الحديث بطوله
و قال الصولي : حدثنا إسحاق بن إبراهيم القزاز حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد حدثني أبو يعقوب بن حفص الخطابي سمعت المهدي يقول : حدثني أبي عن أبيه [ عن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه أن وفدا من العجم قدموا على رسول الله صلى الله عليه و سلم ـ و قد أحفوا لحاهم و أعفوا شواربهم ـ فقال النبي صلى الله عليه و سلم : خالفوهم أعفوا لحاكم و أحفوا شواربكم ] و إخفاء الشارب أخذ ما سقط على الشفة منه و وضع المهدي يده على أعلى شفته
و قال : منصور بن مزاحم و محمد بن يحيى بن حمزة عن يحيى بن حمزة قال : صلى بنا المهدي المغرب فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم فقلت : يا أمير المؤمنين ما هذا ؟
قال حدثني أبي عن أبيه عن ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه و سلم جهر ببسم الله الرحمن الرحيم فقلت للمهدي : نأثره عنك ؟ قال : نعم
قال الذهبي : هذا إسناد متصل لكن ما علمت أحدا احتج بالمهدي و لا بأبيه في الأحكام تفرد به محمد بن الوليد مولى بن هاشم و قال ابن عدي : كان يضع الحديث
قلت : لم ينفرد به بل وجدت له متابعا
مات في أيام المهدي من الأعلام : شعبة و ابن أبي ذئب و سفيان الثوري و إبراهيم بن أدهم الزاهد و داود الطائي الزاهد و بشار بن برد أول شعراء المحدثين و حماد بن سلمة و إبراهيم بن طهمان و الخليل بن أحمد صاحب العروض
الهادي موسى بن المهدي بن المنصور 169 هـ ـ 170 ه
الهادي : أبو محمد موسى بن المهدي بن المنصور و أمه أم ولد بربرية اسمها الخيزران ولد بالري سنة سبع و أربعين و مائة و بويع بالخلافة بعد أبيه بعهد منه
قال الخطيب : و لم يل الخلافة قبله أحد في سنة فأقام فيها سنة و أشهرا و كان أبوه أوصاه يقتل الزنادقة فجد في أمرهم و قتل منهم خلقا كثيرا و كان يسمى موسى أطبق لأن شفته العليا كانت تقلص فكان أبوه وكل به في صغره خادما كلما رآه مفتوح الفم قال : موسى أطبق فيفيق على نفسه و يضم شفتيه فشهر بذلك
قال الذهبي : و كان يتناول المسكر و يلعب و يركب حمارا فارها و لا يقيم أبهة الخلافة و كان مع ذلك فصيحا قادرا على الكلام أديبا تعلوه هيبة و له سطوة و شهامة
و قال غيره : كان جبارا و هو أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة و الأعمدة و القسي الموترة فاتبعه عماله به في ذلك و كثر السلاح في عصره
مات في ربيع الأخر سنة سبعين و مائة و اختلف في سبب موته فقيل : إنه دفع نديما له من جرف على أصول قصب قد قطع فتعلق النديم به فوقع فدخلت قصبة في منخره فماتا جميعا و قيل : أصابته قرحة في جوفه و قيل : سمته أمه خيزران لما عزم على قتل الرشيد ليعهد إلى ولده و قيل : كانت أمه حاكمة مستبدة بالأمور الكبار و كانت المواكب تغدو إلى بابها فزجرهم عن ذلك و كلهما بكلام وقح و قال : لئن وقف ببابك أمير لأضربن عنقه ! أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو سبحة ؟ فقامت ما تعقل من الغضب فقيل : إنه بعث إليها بطعام مسموم فأطعمت منه كلبا فانتثر فعملت على قتله لما وعك بأن غموا وجهه ببساط جلسوا على جوانبه و خلف سبعة بنين
و من شعر الهادي في أخيه هارون لما امتنع من خلع نفسه :
( نصحت لهارون فرد نصحتي ... و كل امرئ لا يقبل النصح نادم )
( و أدعوه للأمر المؤلف بيننا ... فيبعد عنه و هو في ذاك ظالم )
( و لولا انتظاري منه يوما إلى غد ... لعاد إلى ما قلته و هو راغم )
و من أخبار الهادي : أخرج الخطيب عن الفضل قال : غضب الهادي على رجل فكلم فيه فرضي فذهب يعتذر فقال له الهادي : إن الرضا قد كفاك مؤنة الاعتذار
و أخرج عن عبد الله بن مصعب قال : دخل مروان بن أبي حفصة على الهادي فأنشده مديحا له حتى إذا بلغ قوله :
( تشابه يوما بأسه و نواله ... فما أحد يدري لأيهما الفضل )
فقال له الهادي : أيما أحب إليك ثلاثون ألف معجلة أو مائة ألف تدور في الديوان ؟ قال : تعجل الثلاثون ألفا و تدور المائة ألفا قال : بل تعجلان لك جميعا فحمل له ذلك
و قال الصولي : لا تعرف امرأة ولدت خليفتين إلا الخيزران أم الهادي و الرشيد و ولادة بنت العباس العبسية زوج عبد الملك بن مروان ولدت الوليد و سليمان و شاهفرند بنت فيروز بن يزدجرد بن كسرى ولدت للوليد بن عبد الملك يزيد الناقص و إبراهيم و وليا الخلافة قلت : يزاد على ذلك باي خاتون سرية المتوكل الأخير ولدت العباس و حمزة و وليا لاخلافة و كزل سريته أيضا ولدت داود و سليمان و ولياها
ثم قال الصولي : لا يعرف خليفة ركب البريد إلا الهادي من جرجان إلى بغداد
قال : و كان نقش خاتمه [ الله ثقة موسى وبه يؤمن ]
قال الصولي : و لسلم الخاسر في الهادي بمدحه :
( موسى المطر ... غيث بكر )
( ثم انهمر ... ألوى المرر )
( كم اعتسر ... و كم قدر )
( ثم غفر ... عدل السير )
( باقي الأثر ... خير و شر )
( نفع و ضر ... خير البشر )
( فرع مضر ... بدر بدر )
( لمن نظر ... هو الوزر )
( لمن حضر و المف ... تخر لمن غبر )
قال : و هذا على جزء جزء مستفعلن مستفعلن و هو أول من عمله و لم نسمع من قبله شعرا على جزء جزء
و أسند الصولي عن سعيد بن سلم قال : إني لأرجو أن يغفر الله للهادي بشيء رأيته منه : حضرته يوما و أبو الخطاب السعدي ينشده قصيدة في مدحه إلى أن قال :
( يا خير من عقدت كفاه حجزته ... و خير من قلدته أمرها مضر )
فقال له الهادي : إلا من ويلك ؟ قال سعيد : و لم يكن استثنى في شعره فقلت : يا أمير المؤمنين إنما يعني من أهل هذا الزمان ففكر الشاعر فقال :
( إلا النبي رسول الله ... إن له فضلا و أنت بذالك الفضل تفتخر )
فقال : الآن أصبت و أحسنت و أمر له بخمسين ألف درهم
و قال المدائني : عزى الهادي رجلا في ابن له فقال : سرك و هو فتنة و بلية و يحزنك و هو ثواب و رحمة
و قال الصولي : قال سلم الخاسر في الهادي جامعا بين العزاء و الهناء :
( لقد قام موسى بالخلافة و الهدى ... و مات أمير المؤمنين محمد )
( فمات الذي غم البرية فقده ... و قام الذي يكفيك من يتفقد )
و قال مروان بن أبي حفصة كذلك :
( لقد أصبحت تختال في كل بلدة ... بقبر أمير المؤمنين المقابر )
( و لو لم تسكن بابنه بعد موته ... لما برحت تبكي عليه المنابر )
( و لو لم يقم موسى عليها لرجعت ... حنينا كم حن الصفايا العشائر )
حديث من رواية الهادي
قال الصولي : حدثني محمد بن زكريا هو الغلابي حدثني محمد بن عبد الرحمن المكي حدثنا قسورة بن السكن الفهري حدثنا المطلب بن عكاشة المري قال : قدمنا على الهادي شهودا على رجل شتم قريشا و تخطى إلى ذكر النبي صلى الله عليه و سلم فجلس لنا مجلسا أحضر فيه فقهاء زمانه و أحضر الرجل فشهدنا عليه فتغير وجه الهادي ثم نكس رأسه ثم رفعه فقال : سمعت أبي المهدي يحدث عن أبيه المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن عباس قال : من أراد هوان قريش أهانه الله و أنت يا عدو الله لم ترض بأن أردت ذلك من قريش حتى تخطيت إلى ذكر النبي صلى الله عليه و سلم اضربوا عنقه أخرجه الخطيب من طريق الصولي و الحديث هكذا في هذه الرواية موقوف و قد ورد مرفوعا من وجه آخر
مات في أيام الهادي من الأعلام : نافع قارئ أهل المدينة و غيره
الرشيد هارون بن المهدي بن المنصور 170هـ ـ 193 ه
الرشيد : هارون أبو جعفر بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد علي بن عبد الله بن العباس استخلف بعهده من أبيه عند موت أخيه الهادي ليلة السبت لأربع عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبعين و مائة
قال الصولي : هذه الليلة ولد له فيها عبد الله المأمون و لم يكن في سائر الزمان ليلة مات فيها خليفة و قام خليفة و ولد خليفة إلا هذه الليلة و كان يكنى أبا موسى فتكنى بأبي جعفر حدث عن أبيه و جده و مبارك بن فضالة و روى عنه ابنه المأمون و غيره و كان من أميز الخلفاء و أجل ملوك الدنيا و كان كثير الغزو و الحج كما قال فيه أبو المعالي الكلابي :
( فمن يطلب لقاءك أو يرده ... فبالحرمين أو أقصى الثغور )
( ففي أرض العدو على طمر ... و في أرض الترفه فوق كور )
مولده بالري ـ حين كان أبوه أميرا عليها و على خراسان ـ و في سنة ثمان و أربعين و مائة
و أمه أم ولد تسمى الخيزران و هي أم الهادي و فيها يقول مروان بن أبي حفصة :
( يا خيزران هناك ثم هناك ... أمسى يسوس العالمين ابناك )
و كان أبيض طويلا جميلا مليحا فصيحا له نظر في العلم و الأدب
و كان يصلي في خلافته في كل يوم مائة ركعة إلى أن مات لا يتركها إلا لعلة و يتصدق من صلب ماله يوم بألف درهم
و كان يحب العلم و أهله و يعظم حرمات الإسلام و يبغض المراء في الدين و الكلام في معارضة النص
و بلغه عن بشر المريسي القول بخلق القرآن فقال لئن ظفرت به لأضربن عنقه
و كان يبكي على نفسه و على إسرافه و ذنوبه سيما إذا وعظ و كان يحب المديح و يجيز عليه الأموال الجزيلة و له شعر
دخل عليه مرة ابن السماك الواعظ فبالغ في احترامه فقال له ابن السماك : تواضعك في شرفك أشرف من شرفك ثم وعظه فأبكاه
و كان يأتي بنفسه إلى بيت الفضيل بن عياض
قال عبد الرزاق : كنت مع الفضل بمكة فمر هارون فقال فضيل : الناس يكرهون هذا و ما في الأرض أعز علي منه لو مات لرأيت أمورا عظاما
قال أبو معاوية الضرير : ما ذكرت النبي صلى الله عليه و سلم بين يدي الرشيد إلا قال : صلى الله على سيدي و حدثته بحديثه صلى الله عليه و سلم [ و وددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيى فأقتل ] فبكى حتى انتحب
و حدثته يوما حديث [ احتج آدم و موسى ] و عنده رجل من وجوه قريش فقال القريشي : فأين لقيه ؟ فغضب الرشيد و قال : النطع و السيف زنديق يطعن في حديث النبي صلى الله عليه و سلم
قال أبو معاوية : فما زلت أسكنه أقول : يا أمير المؤمنين كانت منه نادرة حتى سكن
و عن أبي معاوية أيضا قال : أكلت مع الرشيد يوما ثم صب على يدي رجل لا أعرفه ثم قال الرشيد : تدري من يصب عليك ؟ قلت : لا قال : أنا إجلالا للعلم
و قال المنصور بن عمار : ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة : الفضيل بن عياض و الرشيد و آخر
و قال عبيد الله القواريري : لما لقي الرشيد الفضيل قال له : يا حسن الوجه أنت المسؤول عن هذه الأمة حدثنا ليث عن مجاهد { وتقطعت بهم الأسباب } قال : الوصلة التي كانت بينهم في الدنيا فجعل هارون يبكي و يشهق
و من محاسنه أنه لما بلغه موت ابن المبارك جلس للعزاء و أمر الأعيان أن يعزوه في ابن المبارك
قال نفطويه : كان الرشيد يقتفي آثار جده أبي جعفر إلا في الحرص فإنه لم ير خليفة قبله أعطى منه : أعطى مرة سفيان بن عيينة مائة ألف و أجاز إسحاق الموصلي مرة بمائتي ألف و أجاز مروان بن أبي حفصة مرة على قصيدة خمسة آلاف دينار و خلعة و فرسا من مراكبه و عشرة من رقيق الروم
و قال الأصمعي : قال لي الرشيد : يا أصمعي ما أغفلك عنا و أجفاك لنا ! قلت : و الله يا أمير المؤمنين ما لاقتني بلاد بعدك حتى أتيتك فسكت فلما تفرق الناس قال : ما لاقتني ؟ قلت :
( كفاك كف ما تليق درهما ... جوادا و أخرى تعطي بالسيف الدما )
فقال : أحسنت و هكذا فكن و قرنا في الملا و علمنا في الخلا و أمر لي بخمسة آلاف دينار
و في مروج المسعودي قال : رام الرشيد أن يوصل ما بين بحر الروم و بحر القزم مما يلي الفرما فقال له يحيى بن خالد البرمكي : كان يختطف الروم الناس من المسجد الحرام و تدخل مراكبهم إلى الحجاز فتركه
و قال الجاحظ : اجتمع للرشيد ما لم يجتمع لغيره : وزراؤه البرامكة و قاضيه أبو يوسف رحمه الله و شاعره مروان بن أبي حفصة و نديمه العباس بن محمد عم أبيه و حاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس و أعظمهم و مغنيه إبراهيم الموصلي و زوجته زبيدة
و قال غيره : كانت أيام الرشيد كلها خير كأنها من حسنها أعراس
و قال الذهبي : أخبار الرشيد يطول شرحها و محاسنه جمة و له أخبار في اللهو و اللذات المحظورة و الغناء سامحه الله
مات في أيامه من الأعلام : مالك بن أنس و الليث بن سعد و أبو يوسف صاحب أبي حنيفة و القاسم بن معن و مسلم بن خالد الزنجي و نوح الجامع و الحافظ أبو عوانة اليشكري و إبراهيم بن سعد الزهري و أبو اسحاق الفزاري و إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي و أسد الكوفي من كبار أصحاب أبي حنيفة و إسماعيل بن عياش و بشر بن المفضل و جرير بن عبد الحميد و زياد البكائي و سليم المقرئ صاحب حمزة و سيبويه إمام العربية و ضيغم الزاهد و عبد الله العمري الزاهد و عبد الله بن المبارك و عبد الله بن إدريس الكوفي و عبد العزيز بن أبي حازم و الدراوردي و الكسائي شيخ القراء و النحاة و محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة ـ كلاهما في يوم و علي بن مسهر و غنجار و عيسى بن يوسف السبعي و الفضيل بن عياض و ابن السماك الواعظ و مروان بن أبي حفصة الشاعر و المعافى بن عمران الموصلي و معتمر بن سليمان و المفضل بن فضالة قاضي مصر و موسى بن ربيعة أبو الحكم المصري أحد الأولياء و النعمان بن عبد السلام الأصبهاني و هشيم و يحيى بن أبي زائدة و يزيد بن زريع و يونس بن حبيب النحوي و يعقوب بن عبد الرحمن قارئ المدينة و صعصة بن سلام عالم الأندلس أحد أصحاب مالك و عبد الرحمن بن القاسم أكبر أصحاب مالك و العباس بن الأحنف الشاعر المشهور و أبو بكر بن عياش المقري و يوسف بن الماجشون و خلائق آخرون كبار
و من الحوادث في أيامه : في سنة خمس و سبعين افترى عبد الله بن مصعب الزبيري على يحيى بن عبد الله بن حسن العلوي أنه طلب إليه أن يخرج معه على الرشيد فباهله يحيى بحضرة الرشيد و شبك يده في يده و قال قل : اللهم إن كنت تعلم أن يحيى لم يدعني إلى الخلافة و الخروج على أمير المؤمنين هذا فكلني إلى حولي و قوتي و اسحتني بعذاب من عندك آمين رب العالمين فتلجلج الزبيري و قالها ثم قال يحيى مثل ذلك و قاما فمات الزبيري ليومه
و في سنة ست و سبعين فتحت مدينة دبسة على يد الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك ابن صالح العباسي
و في سنة تسع و سبعين اعتمر الرشيد في رمضان و دام على إحرامه إلى أن حج و مشى من مكة إلى عرفات
و في سنة ثمانين كانت الزلزلة العظمى سقط منها رأس منارة الإسكندرية
و في سنة إحدى و ثمانين فتح حصن الصفصاف عنوة و هو الفاتح له
و في سنة ثلاث و ثمانين خرج الخزر على أرمينية فأوقعوا بأهل الإسلام و سفكوا و سبوا أزيد من مائة ألف نسمة و جرى على الإسلام أمر عظيم لم يسمع قبله مثله
و في سنة سبع و ثمانين أتاه كتاب من ملك الروم [ نقفور ] بنقص الهدنة التي كانت عقدت بين المسلمين و بين الملكة [ ريني ] ملكة الروم
و صورة الكتاب : من [ نقفور ] ملك الروم إلى [ هارون ] ملك العرب : أما بعد : فإن الملكة التي قبلي كانت أقامتك مقام الرخ و أقامت نفسها مقام البيذق فحملت إليك من أموالها أحمالا و ذلك لضعف النساء و حمقهن فإذا قرأت كتابي فأردد ما حصل قبلك من أموالها و إلا فالسيف بيننا و بينك فلما قرأ الرشيد الكتاب استشاط غضبا حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إلى وجهه دون أن يخاطبه و تفرق جلساؤه من الخوف و استعجم الرأي على الوزير فدعا الرشيد بدواة و كتب على ظهر كتابه :
[ بسم الله الرحمن الرحيم من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم قد قرأت كتابك ياابن الكافرة و الجواب ما تراه لا ما تسمعه ]
ثم سار ليومه فلم يزل حتى نازل مدينة هرقل و كانت غزوة مشهورة و فتحا مبينا فطلب نقفور الموادعة و التزم بخراج يحمله كل سنة فأجيب فلما رجع الرشيد إلى الرقة نقض الكلب العهد لإياسه من كره الرشيد في البرد فلم يجترئ أحد أن يبلغ الرشيد نقضه بل قال عبد الله بن يوسف التيمي :
( نقض الذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور )
( أبشر أمير المؤمنين فإنه ... غنم أتاك به الإله كبير )
و قال أبو العتاهية أبياتا و عرضت على الرشيد فقال : أوقد فعلها ؟ فكر راجعا في مشقة شديدة حتى أناخ بفنائه فلم يبرح حتى بلغ مراده و حاز جهاده
و في ذلك يقول أبو العتاهية :
( ألا نادت هرقلة بالخراب ... من الملك الموفق للصواب )
( غدا هارون يرعد بالمنايا ... و يبرق بالمذكرة القضاب )
( و رايات يحل النصر فيها ... تمر كأنها قطع السحاب )
و في سنة تسع و ثمانين فادى الروم حتى لم يبق بممالكهم في الأسر مسلم
و في سنة تسعين فتح هرقلة و بث جيوشه بأرض الروم فافتتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة و افتتح يزيد بن مخلد ملقونية و سار حميد بن معيوف إلى قبرس فهدم و حرق و سبى من أهلها ستة عشر ألفا
و في سنة اثنتين و تسعين توجه الرشيد نحو خراسان فذكر محمد بن الصباح الطبري أن أباه شيع الرشيد إلى النهروان فجعل يحادثه في الطريق إلى أن قال : يا صباح لا أحسبك تراني بعدها فقلت : بل يردك الله سالما ثم قال : و لا أحسبك تدري ما أجد فقلت : لا و الله فقال : تعال حتى أريك و انحرف عن الطريق و أومأ إلى الخواص فتنحوا ثم قال : أمانة الله يا صباح أن تكتم علي و كشف عن بطنه فإذا عصابة حرير حوالي بطنه فقال : هذه علة أكتمها الناس كلهم و لكل واحد من ولدي علي رقيب فمسرور رقيب المأمون و جبريل بن بختيشوع رقيب الأمين و نسيت الثالث ما منهم أحد إلا و يحصي أنفاسي و يعد أيامي و يستطيل دهري فإن أردت أن تعرف ذلك فالساعة أدعو ببرذون فيجيئون به أعجف ليزيد في علتي ثم دعا ببرذون فجاؤوا به كما وصف فنظر إلي ثم ركبه وودعني و سار إلى جرجان ثم رحل منها في صفر سنة ثلاث و تسعين و هو عليل إلى طوس فلم يزل بها إلى أن مات
و كان الرشيد بايع بولاية العهد لابنه محمد في سنة خمس و سبعين و لقبه الأمين و له يومئذ خمس سنين لحرص أمه زبيدة على ذلك قال الذهبي : فكان هذا أول وهن جرى في دولة الإسلام من حيث الإمامة ثم بايع لابنه عبد الله من بعد الأمين في سنة اثنتين و ثمانين و لقبه المأمون و ولاه ممالك خراسان بأسرها ثم بايع لابنه القاسم من بعد الأخوين في سنة ست و ثمانين و لقبه المؤتمن و ولاه الجزيرة و الثغور و هو صبي فلما قسم الدنيا من هؤلاء الثلاثة قال بعض العقلاء : لقد ألقى بأسهم بينهم و غائلة ذلك تضر بالرعية و قالت الشعراء في البيعة المدائح ثم إنه علق نسخة البيعة في البيت العتيق و في ذلك يقول إبراهيم الموصلي :
( خير الأمور مغبة ... و أحق أمر بالتمام )
( أمر قضى أحكامه ال ... رحمن في البيت الحرام )
و قال عبد الملك بن صالح في ذلك :
( حب الخليفة حب لا يدين له ... عاصي الإله و شار يلقح الفتنا )
( الله قلد هارونا سياسته ... لما اصطفاه فأحيا الدين و السننا )
( و قلد الأرض هارون لرأفته ... بنا أمينا و مأمونا و مؤتمنا )
قال بعضهم : و قد زوى الرشيد الخلافة عن ولده المعتصم لكونه أميا فساقها الله إليه و جعل الخلفاء بعده كلهم من ذريته و لم يجعل من نسل غيره من أولاد الرشيد خليفة و قال سلم الخاسر في العهد للأمين :
( قل للمنازل بالكثيب الأعفر ... أسقيت غادية السحاب الممطر )
( قد بايع الثقلان مهدي الهدى ... لمحمد بن زبيدة ابنة جعفر )
( قد وفق الله الخليفة إذ بنى ... بيت الخلافة للهجان الأزهر )
( فهو الخليفة عن أبيه و جده ... شهدا عليه بمنظر و بمخبر )
فحشت زبيدة فاه جوهرا باعه بعشرين ألف دينار
فصل في نبذ من أخبار الرشيد عفا الله عنه
أخرج السلفي في الطيوريات بسنده عن ابن المبارك قال : لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي فراودها عن نفسها فقالت : لا أصلح لك إن أباك قد طاف بي فشغف بها فأرسل إلى أبي يوسف فسأله : أعندك في هذا شيء ؟ فقال : يا أمير المؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئا ينبغي أن تصدق لا تصدقها فإنها ليست بمأمونة قال ابن المبارك : فلم أدر ممن أعجب : من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين و أموالهم يتحرج عن حرمة أبيه أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين أو من هذا فقيه الأرض و قاضيها ! قال : اهتك حرمة أبيك و اقض شهوتك و صيره في رقبتي
و أخرج أيضا عن عبد الله بن يوسف قال : قال الرشيد لأبي يوسف : إني اشتريت جارية و أريد أن أطأها الآن قبل الاستبراء فهل عندك حيلة ؟ قال : نعم تهبها لبعض ولدك ثم تتزوجها
و أخرج عن ابن إسحاق بن راهوية قال : دعا الرشيد أبا يوسف ليلا فأفتاه فأمر له بمائة ألف درهم فقال أبو يوسف : إن رأى أمير المؤمنين أمر بتعجيلها قبل الصبح فقال : عجلوها فقال بعض من عنده : إن الخازن في بيته و الأبواب مغلقة فقال أبو يوسف : فقد كانت الأبواب مغلقة حين دعاني ففتحت
و أسند الصولي [ عن يعقوب بن جعفر قال : خرج الرشيد في السنة التي ولي الخلافة فيها حتى غزا أطراف الروم و انصرف في شعبان فحج بالناس آخر السنة و فرق بالحرمين مالا كثيرا و كان رأى النبي صلى الله عليه و سلم في النوم فقال له : إن هذا الأمر صائر إليك في هذا الشهر فاغز و حج و وسع على أهل الحرمين ] ففعل هذا كله و أسند عن معاوية بن صالح عن أبيه قال : أول شعر قاله الرشيد أنه حج سنة ولي الخلافة فدخل دارا فإذا في صدر بيت منها بيت شعر قد كتب على حائط :
( ألا يا أمير المؤمنين أما ترى ... فديتك هجران الحبيب كبيرا )
فدعا بدواة و كتب تحته بخطه :
( بلى و الهدايا المشعرات و ما مشى ... بمكة مرفوع الأظل حسيرا )
و أخرج عن سعيد بن مسلم قال : كان فهم الرشيد فهم العلماء أنشده العماني في صفة فرس :
( كأن أذنيه إذا تشوفا ... قادمة أو قلما محرفا )
فقال الرشيد : دع كأن و قل : تخال أذنيه حتى يستوي الشعر
و أخرج عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال : حلف الرشيد أن لا يدخل إلى جارية له أياما و كان يحبها فمضت الأيام و لم تسترضه فقال :
( صد عني إذ رآني مفتتن ... و أطال الصبر لما أن فطن )
( كان مملوكي فأضحى مالكي ... إن هذا من أعاجيب الزمن )
ثم أحضر أبو العتاهية فقال : أجزهما فقال :
( عزة الحب أرته ذلتي ... في هواه و له وجه حسن )
( فلهذا صرت مملوكا له ... و لهذا شاع ما بي و علن )
و أخرج ابن عساكر عن ابن علية قال : أخذ هارون الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه فقال له الزنديق : لم تضرب عنقي ؟ قال له : أريح العباد منك قال : فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلها ما فيها حرف نطق به ؟ قال فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري و عبد الله بن المبارك ينخلانها فيخرجانها حرفا حرفا ؟
و أخرج الصولي عن ابن إسحاق الهاشمي قال : كنا عند الرشيد فقال : بلغني أن العامة يظنون في بغض علي بن أبي طالب و و الله ما أحب أحدا حبي له و لكن هؤلاء أشد الناس بغضا لنا و طعنا علينا و سعيا في فساد ملكنا بعد أخذنا بثأرهم و مساهمتنا إياهم ما حويناه حتى إنهم لأميل إلى بني أمية منهم إلينا فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل و السابقون إلى الفضل و لقد حدثني [ أبي المهدي عن أبيه المنصور عن محمد بن علي عن أبيه ابن عباس أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقول في الحسن و الحسين : من أحبهما فقد أحبني و من أبغضهما فقد أبغضني ] وسمعه يقول : [ فاطمة سيدة نساء العالمين غير مريم ابنة عمران و آسية بنت مزاحم ]
روي أن ابن السماك دخل على الرشيد يوما فاستقى فأتى بكوز فلما أخذه قال : على رسلك يا أمير المؤمنين لو منعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها ؟ قال : بنصف ملكي قال : اشرب هنأك الله تعالى قال : أسألك لو منعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتري خروجها ؟ قال : بجميع ملكي قال : إن ملكا قيمته شربة ماء و بولة لجدير أن لا ينافس فيه فبكى هارون بكاء شديدا
و قال ابن الجوزي قال الرشيد لشيبان : عظني قال : لأن تصحب من يخوفك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب من يؤمنك حتى يدركك الخوف فقال الرشيد : فسر لي هذا قال : من يقول لك : أنت مسؤول عن الرعية فاتق الله أنصح لك ممن يقول : أنتم أهل بيت مغفور لكم و أنتم قرابة نبيكم صلى الله عليه و سلم فبكى الرشيد حتى رحمه من حوله و في كتاب الأوراق للصولي بسنده : لما ولي الرشيد الخلافة و استوزر يحيى بن خالد قال إبراهيم الموصلي :
( ألم تر أن الشمس كانت مريضة ... فلما أتى هارون أشرق نورها )
( تلبست الدنيا جمالا بملكه ... فهارون واليها و يحيى وزيرها )
فأعطاه مائة ألف درهم و أعطاه يحيى خمسين ألفا
و لداود بن رزين الواسطي فيه :
( بهارون لاح النور في كل بلدة ... و قام به في عدل سيرته النهج )
( إمام بذات الله أصبح شغله ... فأكثر ما يعنى به الغزو و الحج )
( تضيق عيون الخلق عن نور وجهه ... إذا ما بدا للناس منظره البلج )
( تفسحت الآمال في جود كفه ... فأعطى الذي يرجوه فوق الذي يرجو )
و قال القاضي الفاضل في بعض رسائله : ما أعلم أن لملك رحلة قط في طلب العلم إلا للرشيد فإنه رحل بولديه الأمين و المأمون لسماع الموطأ على مالك رحمه الله قال : و كان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين قال : ثم رحل لسماعه السلطان صلاح الدين بن أيوب إلى الإسكندرية فسمعه على ابن طاهر بن عوف و لا أعلم لهما ثالثا
و لمنصور النمري فيه :
( جعل القران إمامه و دليله ... لما تخيره القران ذماما )
و له فيه من قصيدة :
( إن المكارم و المعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع )
و يقال : إنه أجازه عليها بمائة ألف
و قال الحسين بن فهم : كان الرشيد يقول : من أحب ما مدحت به إلي :
( أبو أمين و مأمون و مؤتمن ... أكرم به والدا برا و ما ولدا )
و قال إسحاق الموصلي : دخلت على الرشيد فأنشدته :
( و آمرة بالبخل قلت لها : اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل )
( أرى الناس خلان الجواد و لا أرى ... بخيلا له في العالمين خليل )
( و إني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال : بخيل )
( و من خير حالات الفتى لو علمته ... إذا نال شيئا أن يكون ينيل )
( عطائي عطاء المكثرين تكرما ... و مالي كما قد تعلمين قليل )
( و كيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... و رأي أمير المؤمنين جميل )
فقال : لا كيف إن شاء الله يا فضل أعطه مائة ألف درهم لله در أبيات يأتينا بها ! ما أجود أصولها و أحسن فصولها ! فقلت : يا أمير المؤمنين كلامك أحسن من شعري فقال : يا فضل أعطه مائة ألف أخرى
و في الطوريات بسنده إلى إسحاق الموصلي قال أبو العتاهية لأبي نواس : البيت الذي مدحت به الرشيد لوددت أني كنت سبقتك به إليه :
( قد كنت خفتك ثم آمنني ... من أن أخافك خوفك الله )
و قال محمد بن علي الخراساني : الرشيد أول خليفة لعب بالصوالجة و الكرة و رمى النشاب في البرجاس و أول خليفة لعب بالشطرنج من بني العباس
و قال الصولي : هو أول من جعل للمغنين مراتب و طبقات
و من شعر الرشيد يرثي جاريته هيلانة أورده الصولي :
( قاسيت أوجاعا و أخزانا ... لما استخص الموت هيلانا )
( فارقت عيشي حين فارقتها ... فما أبالي كيف ما كانا )
( كانت هي الدنيا فلما ثوت ... في قبرها فارقت دنيانا )
( قد كثر الناس و لكنني ... لست أرى بعدك إنسانا )
( و الله لا أنساك ما حركت ... ريح بأعلى نجد أغصانا )
و له أيضا أنشده الصولي :
( يا ربة المنزل بالفرك ... و ربة السلطان و الملك )
( ترفقي بالله في قتلنا ... لسنا من الديلم و الترك )
مات الرشيد في الغزو بطوس من خراسان و دفن بها في ثالث جمادى الآخرة سنة ثلاث و تسعين و مائة و له خمس و أربعون سنة و صلى عليه ابنه صالح
قال الصولي : خلف الرشيد مائة ألف ألف دينار و من الأثاث و الجوهر و الورق و الدواب ما قيمته مائة ألف ألف دينار و خمسة و عشرون ألف دينار
و قال غيره : غلط جبريل بن بختيشوع على الرشيد في علته في علاج عالجه به كان سبب منيته فهم أن يفصل أعضاءه فقال : انظرني إلى غد فإنك تصبح في عافية فمات ذلك اليوم
و قيل : إن الرشيد رأى مناما أنه يموت بطوس فبكى و قال : احفروا لي قبرا فحفر له ثم حمل في قبة على جمل و سيق به حتى نظر إلى القبر فقال : ياابن آدم تصير إلى هذا ؟ و أمر قوما فنزلوا فختموا فيه ختمة و هو في محفة على شفير القبر و لما مات بويع لولده الأمين في المعسكر ـ و هو حينئذ ببغداد ـ فأتاه الخبر فصلى بالناس الجمعة و خطب و نعى الرشيد إلى الناس و بايعوه و أخذ رجاء الخادم البرد و القضيب و الخاتم و سار على البريد في اثني عشر يوما من مرو حتى قدم بغداد في نصف جمادى الآخرة فدفع ذلك إلى الأمين و لأبي الشيص يرثي الرشيد :
( غربت في الشرق شمس ... فلها عيني تدمع )
( ما رأينا قط شمسا ... غربت من حيث تطلع )
و قال أبو نواس جامعا بين العزاء و الهناء :
( جرت جوار بالسعد و النحس ... فنحن في مأتم و في عرس )
( القلب يبكي و العين ضاحكة ... فنحن في وحشة و في أنس )
( يضحكنا القائم الأمين و يب ... كينا وفاة الإمام بالأمس )
( بدران بدر أضحى ببغداد في ال ... خلد و بدر بطوس في الرمس )
و مما رواه الرشيد من الحديث قال الصولي : [ حدثنا عبد الرحمن بن خلف حدثني جدي الحصين بن سليمان الضبي سمعت الرشيد يخطب فقال في خطبته : حدثني مبارك بن فضالة عن الحسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اتقوا النار و لو بشق تمرة ] حدثني محمد بن علي [ عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه و سلم نظفوا أفواهكم فإنها طريق القرآن ]
الأمين محمد بن هارون الرشيد 193هـ ـ 198ه
الأمين : محمد أبو عبد الله بن الرشيد كان ولي عهد أبيه فولي الخلافة بعده و كان من أحسن الشباب صورة أبيض طويلا جميلا ذا قوة مفرطة و بطش و شجاعة معروفة يقال : إنه قتل مرة أسدا بيده و له فصاحة و بلاغة و أدب و فضيلة لكن كان سيء التدبير كثير التبذير ضعيف الرأي أرعن لا يصلح للإمارة فأول ما بويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للعب بالكرة ثم في سنة أربع و تسعين عزل أخاه القاسم عما كان الرشيد ولاه و وقعت الوحشة بينه و بين أخيه المأمون و قيل إنه الفضل بن الربيع علم أن الخلافة إذا أفضت إلى المأمون لم يبق عليه فأغر الأمين به و حثه على خلعه و أن يولي العهد لأبنه موسى و لم بلغ المأمون عزل أخيه القاسم قطع البريد عن الأمين و أسقط اسمه من الطرز و الضرب ثم أمن الأمين أرسل إليه يطلب منه أن يقدم موسى على نفسه و يذكر أنه قد سماه الناطق بالحق فرد المأمون ذلك و أباه و خامر الرسول معه و بايعه بالخلافة سرا ثم كان يكتب إليه بالأخبار و يناصحه من العراق و لما رجع و أخبر الأمين بامتناع المأمون أسقط اسمه من ولاية العهد و طلب الكتاب الذي كتبه الرشيد و جعله بالكعبة فأحضره و مزقه وقويت الوحشة و نصح الأمين أولو الرأي و قال له خزيمة بن خازم : يا أمير المؤمنين لن ينصحك من كذبك و لن يغشك من صدقك لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك و لا تحملهم على نكث العهد فينكثوا ببيعتك و عهدك فإن الغادر مغلول و الناكث مخذول فلم ينتصح و أخذ يستميل القواد بالعطاء و بايع بولاية العهد لابنه موسى و لقبه الناطق بالحق و هو إذ ذاك طفل رضيع فقال بعض الشعراء في ذلك :
( أضاع الخلافة غش الوزير ... و فسق الأمير و جهل المشير )
( لواط الخليفة أعجوبة ... و أعجب منه حلق الوزير )
( فهذا يدوس و هذا يداس ... كذاك لعمري خلاف الأمور )
( فلو يستعفان هذا بذاك ... لكانا بعرضة أمر ستير )
( و أعجب من ذا و ذا أننا ... نبايع للطفل فينا الصغير )
( و من ليس يحسن غسل استه ... و لم يخل من بوله حجر ظير )
( و ما ذاك إلا بفضل و بكر ... يريدان طمس الكتاب المنير )
( و ما ذان لولا انقلاب الزما ... ن في العير هذان أو في النفير )
و لما تيقن المأمون خلعه تسمى بإمام المؤمنين و كوتب بذلك و ولي الأمين علي بن عيسى بن ماهان بلاد الجبال همذان و نهاوند و قم و أصبهان في سنة خمس و تسعين فخرج علي بن عيسى من بغداد في نصف جمادى الآخر و معه الجيش لقتال المأمون في أربعين ألفا في هيئة لم ير مثلها و أخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون بزعمه فأرسل المأمون لقتاله طاهر بن الحسين في أقل من أربعة آلاف فكانت الغلبة له و ذبح علي و هزم جيشه و حملت رأسه إلى المأمون فطيف بها في خراسان و سلم على المأمون بالخلافة و جاء الخبر الأمين و هو يتصيد السمك فقال للذي أخبره : ويلك ! دعني فإن كوثرا صاد سمكتين و أنا ما صدت شيئا بعد و قال عبد الله بن صالح الجرمي : لما قتل أرجف الناس ببغداد إرجافا شديدا و ندم الأمين على خلعه أخاه وطمع الأمراء فيه و شغبوا جندهم لطلب الأرزاق من الأمين و استمر القتال بينه و بين أخيه و بقي أمر الأمين كل يوم في الإدبار لا نهماكه في اللعب و الجهل و أمر المأمون في ازدياد إلى أن بايعه أهل الحرمين و أكثر البلاد بالعراق و فسد الحال على الأمين جدا و تلف أمر العسكر و نفذت خزائنه و ساءت أحوال الناس بسبب ذلك و عظم الشر و كثر الخراب و الهدم من القتال و رمي المجانيق و النفط حتى درست محاسن بغداد و عملت فيها المراثي و من جملة ما قيل في بغداد :
( بكيت دما على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق )
( أصابتها من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق )
و دام حصار بغداد خمسة عشر شهرا و لحق غالب العباسيين و أركان الدولة بجند المأمون و لم يبق مع الأمين يقاتل عنه إلا غوغاء بغداد و الحرافشة إلى أن استهلت سنة ثمان و تسعين فدخل طاهر بن الحسين بغداد بالسيف قصرا فخرج الأمين بأمه و أهله من القصر إلى مدينة المنصور و تفرق عامة جنده و غلمانه و قل عليهم القوت و الماء
قال محمد بن راشد : أخبرني إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين بمدينة المنصور قال : فطلبني ليلة فقال : ما ترى طيب هذه الليلة و حسن القمر و ضوءه في الماء ؟ فهل لك في الشراب ؟ قلت : شأنك فشربنا ثم دعا بجارية اسمها ضعف فتطيرت من اسمها فأمرها أن تغني فغنت بشعر النابغة الجعدي :
( كليب لعمري كان أكثر ناصرا ... و أيسر ذنبا منك ضرج بالدم )
فتطير بذلك و قال : غني غير هذا فغنت :
( أبكى فراقهم عيني فأرقها ... إن التفرق للأحباب بكاء )
( ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا و ريب الدهر عداء )
( فاليوم أبكيهم جهدي و أندبهم ... حتى أؤوب و ما في مقلتي ماء )
فقال لها : لعنك الله ! ما تعرفين غير هذا ؟ فقالت : ظننت أنك تحب هذا ثم غنت :
( أما ورب السكون و الحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك )
( ما اختلف الليل و النهار و لا ... دارت نجوم السماء في الفك )
( إلا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك )
( و ملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان و لا بمشترك )
فقال لها : قومي لعنك الله ! فقامت فعثرت في قدح بلور له قيمة فكسرته فقال : ويحك يا إبراهيم ! أما ترى ؟ و الله ما أظن أمري إلا قرب فقلت : بل يطيل الله عمرك و يعز ملكك فسمعت صوتا من دجلة : { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } فوثب محمد مغتما و قتل بعد ليلتين أخذ و حبس في موضع ثم أدخل عليه قوم من العجم ليلا فضربوه بالسيف ثم ذبحوه من قفاه و ذهبوا برأسه إلى طاهر فنصبها على حائط بستان و نودي : هذا رأس المخلوع محمد و جرت جثته بحبل ثم بعث طاهر بالرأس و البرد و القضيب و المصلى و هو من سعف مبطن إلى المأمون و اشتد على المأمون قتل أخيه و كان يجب أن يرسل إليه حيا ليرى فيه رأيه فحقد بذلك على طاهر بن الحسين و أهمله نسيا منسبا إلى أن مات طريدا بعيدا و صدق قول الأمين فإنه كان كتب بخطه رقعة إلى طاهر بن الحسين لما انتدب لحربه فيها : يا طاهر ما قام لنا منذ قمنا قائم بحقنا فكان جزاؤه عندنا إلا السيف فانظر لنفسك أو دع : يلوح بأبي مسلم و أمثاله الذين بذلوا نفوسهم في النصح لهم فكان مآلهم القتل منهم و لإبراهيم بن المهدي في قتل الأمين :
( عوجا بمغنى طل داثر ... بالخلد ذات الصخر و الآجر )
( و المرمر المسنون يطلى به ... و الباب باب الذهب الناضر )
( و أبلغا عني مقالا إلى ال ... مولى عن المأمور و الآمر )
( قولا له : با ابن ولي الهدى ... طهر بلاد الله من طاهر )
( لم يكفه أن حز أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر )
( حتى أتى يسحب أوصاله ... في شطن هذا مدى السائر )
( قد برد الموت على جفنه ... فطرفه منكسر الناظر )
و مما قيل فيه :
( لم نبكيك ؟ لماذا ؟ للطرب ... يا أبا موسى و ترويج اللعب )
( و لترك الخمس في أوقاتها ... حرصا منك على ماء العنب )
( و شنيف أنا لا أبكي له ... و على كوثر لا أخشى العطب )
( لم تكن تصلح للملك و لم ... تعطك الطاعة بالملك العرب )
( لم نبكيك لما عرضتنا ... للمجانيق و طورا للسلب )
و لخزيمة بن الحسن على لسان زبيدة قصيدة يقول فيها :
( أتى طاهر لا طهر الله طاهرا ... فما طاهر فيما أتى بمطهر )
( فأخرجني مكشوفة الوجه حاسرا ... و أنهب أموالي و أخرب أدؤري )
( يعز على هارون ما قد لقيته ... و مربي من ناقص الخلق أعور )
( تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر )
قال ابن جرير : لما ملك الأمين اتباع الخصيان و غالى بهم و صيرهم لخلوته و رفض النساء و الجواري
و قال غيره : لما ملك وجه إلى البلدان في طلب الملهين و أجرى لهم الأرزاق و اقتنى الوحش و السباع و الطيور و احتجب عن أهل بيته و أمرائه و استخف بهم و محق ما في بيوت الأموال و ضيع الجواهر و النفائس و بنى عدة قصور للهو في أماكن و أجاز مرة من غنى له :
( هجرتك حتى قلت : لا يعرف القلى ... و زرتك حتى قلت : ليس له صبر )
بملء زورقة ذهبا و عمل خمس حراقات ـ جمع حراقة : بالفتح و التشديد ضرب من السفن فيها مرامي نيران يرمي به العدو ـ على خلقه الأسد و الفيل و العقاب و الحية و الفرس و أنفق في عملها أموالا فقال أبو نواس :
( سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب )
( فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكبا ليث غاب )
( أسدا باسطا ذراعيه يهوي ... أهرت الشدق كالح الأنياب )
قال الصولي : حدثنا أبو العيناء حدثنا محمد بن عمرو الرومي قال : خرج كوثر خادم الأمين ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجعل الأمين يمسح الدم عن وجهه ثم قال :
( ضربوا قرة عيني ... و من أجلي ضربوه )
( أخذ الله لقلبي ... من أناس أحرقوه )
و لم يقدر على زيادة فأحضر عبد اللع بن التيمي الشاعر فقال له : قل عليهما فقال :
( ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه )
( و صله حلو و لكن ... هجره مر كريه )
( من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه )
( مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه )
فأوقر له ثلاث بغال دراهم فلما قتل الأمين جاء التيمي إلى المأمون و امتدحه فلم يأذن له فالتجأ إلى الفضل بن سهل فأوصله إلى المأمون فلما سلم عليه قال : هيه يا تيمي :
( مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه )
فقال التيمي :
( نصر المأمون عبد الله ... لما ظلموه )
( نقض العهد الذي قد ... كان قدما أكدوه )
( لم يعالمه أخوه ... بالذي أوصى أبوه )
فعفا عنه و أمر له بعشرة آلاف درهم
و قيل : إن سليمان بن منصور رفع إلى الأمين أن أبا نواس هجاه فقال : يا عم أقتله بعد قوله :
( أهدى الثناء إلى الأمين محمد ... ما بعده بتجارة متربص )
( صدق الثناء على الأمين محمد ... و من الثناء تكذب و تخرص )
( قد ينقص البدر المنير إذا استوى ... و بهاء نور محمد ما ينقص )
( و إذا بنو المنصور عد خصالهم ... فمحمد يا قوتها المتخلص )
قال أحمد بن حنبل : إني لأرجو أن يرحم الله الأمين بإنكاره على إسماعيل بن علية فإنه أدخل عليه فقال له : يا ابن الفاعلة أنت الذي تقول : كلام الله مخلوق ؟
قال المسعودي : ما ولي الخلافة إلى و وقتنا هذا هاشمي ابن هاشمية سوى علي بن أبي طالب و ابنه الحسن و الأمين فإن أمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور و اسمها أمة العزيزة و زبيدة لقب لها
و قال إسحاق الموصلي : اجتمعت في الأمين خصائل لم تكن في غيره كان أحسن الناس وجها و أسخاهم و أشرف الخلفاء أبا و أما حسن الأدب عالما بالشعر لكن غلب عليه الهوى و اللعب و كان مع سخائه بالمال بخيلا بالطعام جدا
و قال أبو الحسن الأحمر : كنت ربما أنسيت البيت الذي يستشهد في النحو فينشدنيه و ما رأيت في أولاد الملوك أذكى منه و من المأمون و كان قتله في المحرم سنة ثمان و تسعين و مائة و له سبع و عشرون سنة
مات في أيامه من الأعلام : إسماعيل بن علية و غندر و شقيق البلخي الزاهد و أبو معاوية الضرير و مؤرج السدوسي و عبد الله بن كثير المقرئ و أبو نواس الشاعر و عبد الله بن وهب صاحب مالك و ورش المقرئ و وكيع و آخرون
و قال علي بن محمد النوفلي و غيره : لم يدع للسفاح و لا للمنصور و لا للمهدي و لا للهادي و لا الرشيد على المنابر بأوصافهم و لا كتبت في كتبهم حتى ولي الأمين فدعي له بالأمين على المنابر و كتب عنه : من عبد الله محمد أمير المؤمنين و كذا قال العسكري في الأوائل أول من دعي له بلقبه على المنابر الأمين
و من شعر الأمين يخاطب أخاه المأمون و يعيره بأمه لما بلغ عنه أنه لما بلغه عنه أنه يعدد مثالبه و يفضل نفسه عليه أنشده الصولي :
( لا تفخرن عليك بعد بقية ... والفخر يكمل للفتى المتكامل )
( و إذا تطاولت الرجال بفضلها ... فأربع فإنك لست بالمتطاول )
( أعطاك ربك ما هويت و إنما ... تلقى خلاف هواك عند مراجل )
( تعلو المنابر كل يوم آملا ... ما لست من بعدي إليه بواصل )
( فتعيب من يعلو عليك بفضله ... و تعيد في حقي مقال الباطا )
قلت : هذا نظم عال فإن كان له فهو أحسن من نظم أخيه و أبيه
قال الصولي : و مما رواه جماعة له في خادمه كوثر و قد سقاه و هو على بساط نرجس و البدر قد طلع و قد رواه بعضهم للحسين بن الضحاك الخليع و كان نديمه لا يفارقه :
( وصف البدر حسن ... وجهك حتى خلت أني أراه لست أراكا )
( و إذا ما تنفس النرجس الغ ... ض توهمته نسيم ثناكا )
( خدع للمني تعللني في ... ك بإشراق ذا و نكهة ذاكا )
( لأقيمن ما حييت على الشكر لهذا و ذاك إذ حكياكا )
و له في خادمة أيضا :
( ما يريد الناس من ص ... ب بمن يهوى كثيب )
( كوثر ديني و دنيا ... ي و سقمي و طبيبي )
( أعجز الناس الذي يلح ... ى محبا في حبيب )
و له لما يئس من الملك و علا عليه طاهر :
( يا نفس قد حق الحذر ... أين المفر من القدر ؟ )
( كل امرئ مما يخا ... ف و يرتجيه على خطر )
( من يرتشف صفو الزما ... ن يغص يوما بالكدر )
و أسند الصولي أن الأمين قال لكتابه : اكتب [ من عبد الله محمد أمير المؤمنين إلى طاهر بن الحسين : سلام عليك أما بعد فإن الأمر قد خرج بيني و بين أخي إلى هتك الستور و كشف الحرم و لست آمن أن يطمع في هذا الأمر السحيق البعيد لشتات ألفتنا و اختلاف كلمتنا و قد رضيت أن تكتب لي أمانا لأخرج إلى أخي فإن تفضل علي فأهل لذلك و إن قتلني فمروة كسرت مروة و صمصامة قطعت صمصامة و لأن يفترسني السبع أحب إلي أن ينبحني الكلب ] فأبى طاهر عليه
و أسند عن إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي قال : كان أبي يكلم الأمين و المأمون بكلام يتفصحان به و يقول : كان أولاد الخلفاء من بني أمية يخرج بهم إلى البدو حتى يتفصحوا و أنتم أولى بالفصاحة منهم
قال الصولي : و لا نعرف للأمين رواية في الحديث إلا هذا الحديث الواحد : حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال : رأيت عند الحسين بن الضحاك جماعة من بني هاشم فيهم بعض أولاد المتوكل فسألوه عن الأمين و أدبه فوصف الحسين أدبا كثيرا قيل : فالفقه قال المأمون أفقه منه قيل : فالحديث قال : ما سمعت منه حديثا إلا مرة فغنه نعي إليه غلام له مات بمكة فقال : [ حدثني أبي عن أبيه عن المنصور عن أبيه عن علي بن عبد الله عن ابن عباس عن أبيه سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول : من مات محرما حشر ملبيا ]
قال الثعالبي في لطائف المعارف : كان أبو العيناء يقول : لو نشرت زبيدة ضفائرها ما تعلقت إلا بخليفة أو ولي عهد فإن المنصور جدها و السفاح أخو جدها و المهدي عمها و الرشيد زوجها و الأمين ابنها و المأمون و المعتصم ابنا زوجها و الواثق و المتوكل ابنا ابن زوجها و أما ولاة العهود فكثيرة
و نظيرتها من بني أمية عاتكة بنت يزبد بن معاوية : يزيد أبوها و معاوية جدها و معاوية بن يزيد أخوها و مروان بن الحكم حموها و عبد الملك زوجها و يزيد ابنها و الوليد بن يزيد ابن ابنها و الوليد و هشام و سليمان بنو زوجها و يزيد و إبراهيم ابنا الوليد بن عبد الملك ابنا ابن زوجها
المأمون عبد الله بن هارون الرشيد 198 هـ ـ 218ه
المأمون : عبد الله ابن العباس بن الرشيد ولد سنة سبعين و مائة في ليلة الجمعة منتصف ربيع الأول و هي الليلة التي مات فيها الهادي و استخلف أبوه و أمه أم ولد اسمه مراجل ماتت في نفاسها به و قرأ العلم في صغره
سمع الحديث من أبيه و هشيم و عباد بن العوام و يوسف بن عطية و أبي معاوية الضرير و إسماعيل بن علية و حجاج الأعور و طبقتهم
و أدبه اليزيدي و جمع الفقهاء من الآفاق و برع في الفقه و العربية و أيام الناس و لما كبر عني بالفلسفة و علوم الأوائل و مهر فيها فجره ذلك إلى القول بخلق القرآن
روى عنه : ولد الفضل و يحيى بن أكثم و جعفر بن أبي عثمان الطيالسي و الأمير عبد الله بن طاهر و أحمد بن الحارث الشيعي و دعبل الخزاعي و آخرون
و كان أفضل رجال بني العباس حزما و عزما و حلما و علما و رأيا و دهاء و هيبة و شجاعة و سؤددا و سماحة و له محاسن و سيرة طويلة لو لا ما أتاه من محنة الناس في القول بخلق القرآن و لم يل الخلافة من بني العباس أعلم منه و كان فصيحا مفوها و كان يقول : معاوية بعمره و عبد الملك بحجاجه و أنا بنفسي
و كان يقال : لبني العباس فاتحة و واسطة و خاتمة فالفاتحة السفاح و الواسطة المأمون و الخاتمة المعتضد و قيل : إنه ختم في بعض الرمضانات ثلاثا و ثلاثين ختمة و كان معروفا بالتشيع و قد حمله ذلك على خلع أخيه المؤتمن و العهد بالخلافة إلى علي الرضى كما سنذكره
قال أبو معشر المنجم : كان المأمون أمارا بالعدل فقيه النفس يعد من كبار العلماء
و عن الرشيد قال : إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور و نسك المهدي و عزة الهادي و لو أشاء أن أنسبه إلى الرابع ـ يعني نفسه ـ لنسبته و قد قدمت محمدا عليه و إني لأعلم أنه منقاد إلى هواه مبذر لما حوته يده يشاركه في رأيه الإماء و النساء و لو لا أم جعفر و ميل بني هاشم لقدمت عبد الله عليه
استقل المأمون بالأمر بعد قتل أخيه سنة ثمان و تسعين و هو بخراسان و اكتنى بأبي جعفر
قال الصولي : و كانوا يحبون هذه الكنية لأنها كنية المنصور و كان لها في نفوسهم جلالة و تفاؤل بطول عمر من كني بها كالمنصور و الرشيد
و في سنة إحدى و مائتين خلع أخاه المؤتمن من العهد و جعل ولي العهد من بعده علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق حمله على ذلك إفراطه في التشيع حتى قيل : إنه هم أن يخلع نفسه و يفوض الأمر إليه و هو الذي لقبه الرضى و ضرب الدراهم باسمه و زوجه ابنته و كتب إلى الآفاق بذلك و أمر بترك السواد و لبس الخضرة فاشتد ذلك على بني العباس جدا و خرجوا عليه و بايعوا إبراهيم بن المهدي و لقب [ المبارك ] فجهز المأمون لقتاله و جرت أمور و حروب و سار المأمون إلى نحو العراق فلم ينشب علي الرضى أن مات في سنة ثلاث فكتب المأمون إلى أهل بغداد يعلمهم أنهم ما نقموا عليه إلا ببيعته لعلي و قد مات فردوا جوابه أغلظ جواب فسار المأمون و بلغ إبراهيم بن المهدي تسلل الناس من عهده فاختفى في ذي الحجة فكانت أيامه سنتين إلا أياما و بقي في اختفائه مدة ثمان سنين
و وصل المأمون بغداد في صفر سنة أربع فكلمه العباسيون و غيرهم في العود إلى لبس السواد و ترك الخضرة فتوقف ثم أجاب إلى ذلك
و أسند الصولي أن بعض آل بيته قالت : إنك على بر أولاد علي بن أبي طالب و الأمر فيك أقدر منك على برهم و الأمر فيهم فقال : إنما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولي لم يول أحدا من بني هاشم شيئا ثم عمر ثم عثمان كذلك ثم ولي علي فولى عبد الله بن عباس البصرة و عبيد الله اليمن و معبدا مكة و قثم البحرين و ما ترك أحدا منهم حتى ولاه شيئا فكانت هذه منة في أعناقنا حتى كافأته في ولده بما فعلت
و في سنة عشر تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل و بلغ جهازها ألوفا كثيرة و قام أبوها بخلع القواد و كلفتهم مدة سبعة عشر يوما و كتب رقاعا فيها أسماء ضياع له و نثرها على القواد و العباسيين فمن وقعت في يده رقعة باسم ضيعة تسلمها و نثر صينية ملئت جوهرا بين يدي المأمون عندما زفت إليه
و في سنة إحدى عشرة أمر المأمون بأن ينادي : برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير و أن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب
و في سنة اثنتي عشر أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافا إلى تفضيل علي على أبي بكر و عمر فاشمأزت النفوس منه و كاد البلد يفتتن و لم يلتئم له من ذلك ما أراد فكف عنه إلى سنة ثمان عشرة
و في سنة خمس عشرة سار المأمون إلى غزو الروم ففتح حصن قرة عنوة و حصن ماجدة ثم سار إلى دمشق ثم عاد في سنة ست عشرة إلى الروم و افتتح عدة حصون ثم عاد إلى دمشق ثم توجه إلى مصر و دخلها فهو أول من دخلها من الخلفاء العباسين ثم عاد في سنة سبع عشرة إلى دمشق و الروم
و في سنة ثمان عشرة امتحن الناس بالقول بخلق القرآن فكتب إلى نائبه على بغداد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي ابن عم طاهر بن الحسين في امتحان العلماء كتابا يقول فيه : و قد عرف أمير المؤمنين أن الجمهور الأعظم و السواد الأكبر من حشوة الرعية و سفلة العامة ممن لا نظر له و لا روية و لا استضاءة بنور العلم و برهانه أهل جهالة بالله و عمى عنه و ضلالة عن حقيقة دينه و قصور أن يقدروا الله حق قدره و يعرفوه كنه معرفته و يفرقوا بينه و بين خلقه و ذلك أنهم ساووا بين الله و بين ما أنزل من القرآن فأطبقوا على أنه قديم لم يخلقه الله و يخترعه و قد قال الله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } فكل ما جعله الله فقد خلقه كما قال الله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } و قال : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } فأخبر أنه قصص الأمور أحدثه بعدها و قال : { أحكمت آياته ثم فصلت } و الله محكم كتابه و مفصله فهو خالقه و مبتدعه ثم انتسبوا إلى السنة و أظهروا أنهم أهل الحق و الجماعة و أن من سواهم أهل الباطل و الكفر فاستطالوا بذلك و غروا به الجهال حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب و التخشع لغير الله إلى موافقتهم فتركوا الحق إلى باطلهم و اتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم إلى أن : قال فرأى أمير المؤمنين أن أولئك شر الأمة المنقوصون من التوحيد حظا و أوعية الجهالة و أعلام الكذب و لسان إبليس الناطق في أوليائه و الهائل على أعدائه من أهل دين الله و أحق من يتهم في صدقه و تطرح شهادته و لا يوثق به من عمي عن رشده و حظه من الإيمان بالله و بالتوحيد و كان عما سوى ذلك أعمى و أضل سبيلا و لعمر أمير المؤمنين أن أكذب الناس من كذب على الله و وحيه و تخرص الباطل و لم يعرف الله حق معرفته فأجمع من بحضرتك من القضاة فأقرأ عليهم كتابنا و امتحنهم فيما يقولون و اكشفهم عما يعتقدون في خلقه و إحداثه و أعلمهم أني غير مستعين في عملي ولا واثق بمن لا يوثق بدينه فإذا أقروا بذلك و وافقوا فمرهم بنص من بحضرتهم من الشهود و مسألتهم عن علمهم في القرآن و ترك شهادة من لم يقر أنه مخلوق و اكتب إلينا بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مسألتهم و الأمر لهم بمثل ذلك
و كتب المأمون إليه أيضا في إشخاص سبعة أنفس و هم : محمد بن سعد كاتب الواقدي و يحيى بن معين و أبو خيثمة و أبو مسلم مستملي يزيد بن هارون و إسماعيل بن داود و إسماعيل بن أبي مسعود و أحمد بن إبراهيم الدورقي فأشخصوا إليه فامتحنهم بخلق القرآن فأجابوه فردهم من الرقة إلى بغداد و سبب طلبهم أنهم توقفوا أولا ثم أجابوه تقية
و كتب إلى إسحاق بن إبراهيم بأن يحضر الفقهاء و مشايخ الحديث و يخبرهم بما أجاب به هؤلاء السبعة ففعل ذلك فأجابه طائفة و امتنع آخرون فكان يحيى بن معين و غيره يقولون : أجبنا خوفا من السيف
ثم كتب المأمون كتابا آخر من جنس الأول إلى إسحاق و أمره بإحضار من امتنع فأحضر جماعة منهم : أحمد بن حنبل و بشر بن الوليد الكندي و أبو حسان الزيادي و علي بن أبي مقاتل و الفضل بن غانم و عبيد الله القواريري و علي بن الجعد و سجادة و الذيال بن الهيثم و قتيبة بن سعد و سعدوية الواسطي و إسحاق بن أبي إسرائيل وابن الهرس و ابن علية الأكبر و محمد بن نوح العجلي و يحيى بن عبد الرحمن العمري و أبو نصر التمار و أبو معمر القطيعي و محمد بن حاتم بن ميمون و غيرهم و عرض عليهم كتاب المأمون فعرضوا و وروا و لم يجيبوا و لم ينكروا فقال لبشر بن الوليد : ما تقول ؟ قال : قد عرفت أمير المؤمنين غير مرة قال : و الآن فقد تجدد من أمير المؤمنين كتاب قال : أقول : كلام الله قال : لم أسألك عن هذا أمخلوق هو ؟ قال : ما أحسن غير ما قلت لك و قد استعهدت أمير المؤمنين أن لا أتكلم فيه ثم قال لعلي بن أبي مقاتل : ما تقول ؟ قال : القرآن كلام الله و إن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا و أطعنا و أجاب أبو حسان الزيادي بنحو من ذلك ثم قال لأحمد بن حنبل : ما تقول ؟ قال : كلام الله قال : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله لا أزيد على هذا ثم امتحن الباقين و كتب بجواباتهم و قال ابن البكاء الأكبر : أقول : القرآن مجعول و محدث لورود النص بذلك فقال له إسحاق بن إبراهيم : و المجعول مخلوق ؟ قال : فالقرآن مخلوق ؟ قال : لا أقول مخلوق ثم وجه بجواباتهم إلى المأمون
فورد عليه كتاب المأمون : بلغنا ما أجاب به متصنعة أهل القبلة و ملتمسو الرئاسة فيما ليسوا له بأهل فمن لم يجب أنه مخلوق فامنعه من الفتوى و الرواية و يقول في الكتاب : فأما ما قال بشر فقد كذب لم يكن جرى بين أمير المؤمنين و بينه عهد أكثر من إخباره أمير المؤمنين من اعتقاده كلمة الإخلاص و القول بأن القرآن مخلوق فادع به إليك فإن تاب فأشهر أمره و إن أصر على شركة و دفع أن يكون القرآن مخلوقا بكفره و إلحاده فاضرب عنقه و ابعث إلينا برأسه وكذلك إبراهيم بن المهدي فامتحنه فإن أجاب و إلا فاضرب عنقه و أما علي بن أبي مقاتل فقل له : ألست القائل لأمير المؤمنين إنك تحلل و تحرم ؟ و أما الذيال فأعلمه أنه كان في الطعام الذي يسرقه من الأنبار ما يشغله و أما أحمد بن يزيد أبو العوام و قوله [ إنه لا يحسن الجواب في القرآن ] فأعمله أنه صبي في عقله لا في سنه جاهل يحسن الجواب إذا أدب ثم إن لم يفعل كان السيف من وراء ذلك و أما أحمد بن حنبل فأعلمه أن أمير المؤمنين قد عرف فحوى مقالته و استدل على جهله و أفنه بها و أما الفضل بن غانم فأعلمه أنه لم يخف على أمير المؤمنين ما كان فيه بمصر و ما اكتسب من الأموال في أقل من سنة يعني في ولاية القضاء و أما الزيادي فأعلمه أنه كان منتحلا ولاء أول دعي فأنكر أبو حسان أن يكون مولى لزياد ابن أبيه و إنما قيل له [ الزيادي ] لأمر من الأمور قال : و أما أبو نصر التمار فإن أمير المؤمنين شبه خساسة عقله بخساسة مدجره و أما ابن نوح ـ و المعروف بأبي معمر ـ و ابن حاتم فأعلمهم أنهم مشاغيل بأكل الربا عن الوقوف على التوحيد و إن أمير المؤمنين لو لم يستحل محاربتهم في الله إلا لإربائهم و ما نزل به كتاب الله في أمثالهم لا ستحل ذلك فكيف بهم و قد جمعوا مع الإرباء شركا و صاروا للنصارى شبها ؟ و أما ابن شجاع فأعلمه أنك صاحبه بالأمس و المستخرج منه ما استخرجته من المال الذي كان استحله من مال علي بن هشام و أما سعدويه الواسطي فقل له : قبح الله رجلا بلغ به التصنع للحديث و الحرص على الرئاسة فيه أن يتمنى وقت المحنة ! و أما المعروف بسجادة و إنكاره أن يكون سمع ممن كان يجالس العلماء القول بأن القرآن مخلوق فأعلمه أن في شغله بإعداد النوى و حكه لإصلاح سجادته و بالودائع التي دفعها إليه علي بن يحيى و غيره ما أذهله عن التوحيد و أما القواريري ففيما تكشف من أحواله و قبوله الرشا و المصانعات ما أبان عن مذهبه و سوء طريقته و سخافة عقله و دينه و أما يحيى العمري فإن كان من ولد عمر بن الخطاب فجوابه معروف و أما محمد بن الحسن بن علي بن عاصم فإنه لو كان مقتديا بمن مضى من سلفه لم ينتحل النحلة التي حكيت عنه و إنه بعد صبي محتاج إلى أن يعلم و قد كان أمير المؤمنين وجه إليك المعروف بأبي مسهر بعد أن نصه أمير المؤمنين عن محنته في القرآن فجمجم عنها و تلجلج فيها حتى دعا له أمير المؤمنين بالسيف فأقر ذميما فأنصصه عن إقراره فإن كان مقيما عليه فأشهر ذلك و أظهره و من لم يرجع عن شركه ـ ممن سميت بعد بشر و ابن المهدي ـ فاحملهم موثقين إلى عسكر أمير المؤمنين ليسألهم فإن لم يرجعوا فاحملهم على السيف قال : فأجابوا كلهم عند ذلك إلا أحمد بن حنبل و سجادة و محمد بن نوح و القواريري فأمر بهم إسحاق فقيدوا ثم سألهم من الغد ـ و هم في القيود ـ فأجاب سجادة ثم عاودهم ثالثا فأجاب القواريري و وجه بأحمد بن حنبل و محمد بن نوح إلى الروم
ثم بلغ المأمون أن الذين أجابوا إنما أجابوا مكرهين فغضب و أمر بإحضارهم إليه فحملوا إليه فبلغتهم وفاة المأمون قبل وصولهم إليه و لطف الله بهم و فرج عنهم و أما المأمون فمرض بالروم فلما اشتد مرضه طلب ابنه العباس ليقدم عليه و هو يظن أنه لا يدركه فأتاه و هو مجهود و قد نفذت الكتب إلى البلدان فيها : من عبد الله المأمون و أخيه أبي إسحاق الخليفة من بعده بهذا النص فقيل : إن ذلك وقع بأمر المأمون و قيل : بل كتبوا ذلك وقت غشي أصابه
و مات المأمون يوم الخميس لاثنتي عشرة بقيت من رجب سنة ثمان عشرة بالبذندون من أقصى الروم و نقل إلى طرسوس فدفن بها
قال المسعودي : كان نزل على عين البذندون فأعجبه برد مائها و صفاؤه و طيب حسن الموضع و كثرة الخضرة فرأى فيها سمكة كأنها سبيكة فضة فأعجبته فلم يقدر أحد يسبح في العين لشدة بردها فجعل لمن يخرجها سيفا فنزل فراش فاصطادها وطلع فاضطربت و فرت إلى الماء فتنضح صدر المأمون و نحره و ابتل ثوبه ثم نزل الفراش ثانية فأخذها فقال المأمون : تقلى الساعة ثم أخذته رعدة فغطي باللحف ـ و هو يرتعد و يصيح ـ فأوقدت حوله نار فأتى بالسمكة فما ذاقها لشغله بحاله ثم أفاق المأمون من غمرته فسأل عن تفسير المكان بالعربي ؟ قيل : مد رجليك فتطير به ثم سأل عن اسم البقعة فقيل : الرقة و كان فيما عمل من مولده أنه يموت بالرقة فكان يتجنب نزول الرقة فرقا من الموت فلما سمع هذا من الروم عرف و أيس و قال : يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه و لما وردت وفاته بغداد قال أبو سعيد المخزومي :
( هل رأيت النجوم أغنت عن المأ ... مون أو عن ملكه المأسوس )
( خلفوه بعرصتي طرسوس ... مثل ما خلفوا أباه بطوس )
قال الثعالبي : لا يعرف أب و ابن من الخلفاء أبعد قبرا من الرشيد و المأمون
قال : و كذلك خمسة من أولاد العباس تباعدت قبورهم أشد تباعد و لم ير الناس مثلهم : فقبر عبد الله بالطائف و عبيد الله بالمدينة و الفضل بالشام و قثم بسمرقند و معبد بإفريقية
فصل في نبذ من أخبار المأمون
قال نفطويه : حدثنا حامد بن العباس بن الوزير قال : كنا بين يدي المأمون فعطس فلم نشمته فقال : لم لا تشمتونني ؟ قلنا : أجللناك يا أمير المؤمنين قال : لست من الملوك التي تتجال عن الدعاءو أخرج ابن عساكر عن أبي محمد اليزيدي قال : كنت أؤدب المأمون فأتيته يوما ـ و هو داخل ـ فوجهت إليه بعض الخدم يعلمه بمكاني فأبطأ ثم و جهت إليه آخر فأبطأ فقلت : إن هذا الفتى ربما تشاغل بالبطالة فقيل : أجل و مع هذا إنه إذا فارقك تعرم على خدمه و لقوا منه أذى شديدا فقومه بالأدب فلما خرج أمرت بحمله فضربته سبع درر قال : فإنه ليدلك عينيه من البكاء إذ قيل : هذا جعفر بن يحيى قد أقبل فأخذ منه منديلا فدخل فقمت عن المجلس و خفت أن يشكوني إليه فأقبل عليه بوجهه و حدثه حتى أضحكه ثم خرج فجئت فقلت : لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر فقال لي : يا أبا محمد ما كنت أطلع الرشيد على هذه فكيف بجعفر ؟ إني أحتاج إلى أدب
و أخرج عن عبد الله بن محمد التيمي قال : أراد الرشيد سفرا فأمر الناس أن يتأهبوا لذلك و أعلمهم أنه خارج بعد الأسبوع فمضى الأسبوع و لم يخرج فاجتمعوا إلى المأمون فسألوه أن يستعلم ذلك و لم يكن الرشيد يعلم أن المأمون يقول الشعر فكتب إليه المأمون :
( يا خير من دبت المطي به ... و من تقدى بسرجه فرس )
( هل غاية في المسير نعرفها ... أم أمرنا في المسير ملتبس ؟ )
( ما علم هذا إلا إلى ملك ... من نوره في الظلام نقتبس )
( إن سرت سار الرشاد متبعا ... و إن تقف فالرشاد محتبس )
فقرأها الرشيد فسر بها و وقع فيها : يا بني ما أنت و الشعر إنما الشعر ارفع حالات الدنى و أقل حالات السرى [ تقدى : أي استمر ]
و أخرج الأصمعي قال : كان نقش خاتم المأمون [ عبد الله بن عبد الله ]
و أخرج عن محمد بن عبد الله قال : لم يحفظ القرآن أحد من الخلفاء إلا عثمان بن عفان و المأمون قلت : و قد رددت هذا الحصر فيما تقدم
و أخرج عن ابن عيينة قال : جمع المأمون العلماء و جلس للناس فجاءت امرأة فقالت : يا أمير المؤمنين مات أخي و خلف ستمائة دينار أعطوني دينارا و قالوا : هذا نصيبك قال : فحسب المأمون ثم كسر الفريضة ثم قال لها : هذا نصيبك فقال له العلماء : كيف علمت يا أمير المؤمنين ؟ فقال : هذا الرجل خلف ابنتين ؟ قالت نعم قال : فلهن الثلثان أربعمائة و خلف والدة فلها السدس مائة و خلف زوجة فلها الثمن خمسة و سبعون و بالله ألك اثنا عشر أخا ؟ قالت : نعم قال : أصابهم ديناران ديناران و أصابك دينار
و أخرج عن محمد بن حفص الأنماطي قال : تغدينا مع المأمون في يوم عيد فوضع على مائدته أكثر من ثلثمائة لون قال : فكلما وضع لون نظر المأمون إليه فقال : هذا نافع لكذا ضار لكذا فمن كان منكم صاحب بلغم فليجتنب هذا و من كان منكم صاحب صفراء فليأكل من هذا و من غلبت عليه السوداء فلا يعرض لهذا و من قصد قلة الغذاء فليقتصر على هذا فقال له يحيى بن أكثم : يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته أو في النجوم كنت هرمس في حسابه أو في الفقه كنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في علمه أو ذكر السخاء كنت حاتم طيء في صفته أو صدق الحديث كنت أبا ذر في لهجته أو الكرم فأنت كعب بن مامة في فعاله أو الوفاء فأنت السموأل بن عاديا في وفائه فسر بهذا الكلام و قال : إن الإنسان إنما فضل بعقله و لو لا ذلك لم يكن لحم أطيب من لحم و لا دم أطيب من دم
و أخرج عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكمل من المأمون بت عنده ليلة فانتبه فقال : يا يحيى انظر أيش عند رجلي ؟ فنظرت فلم أر شيئا فقال : شمعة فتبادر الفراشون فقال : انظروا فنظروا فإذا تحت فراشه حية بطوله فقتلوها فقلت : قد انضاف إلي كمال أمير المؤمنين علم الغيب فقال : معاذا الله ! و لكن هتف بي هاتف الساعة و أنا نائم فقال :
( يا راقد الليل انتبه ... إن الخطوب لها سرى )
( ثقة الفتى بزمانه ... ثقة محللة العرى )
فانتبهت فعلمت أن قد حدث أمر إما قريب و إما بعيد فتأملت ما قرب فكان ما رأيت
و أخرج عن عمارة بن عقيل قال : قال لي ابن أبي حفصة الشاعر : أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر ؟ فقلت : من ذا يكون أفرس منه ؟ و الله إنا لننشد أول البيت فيسبق إلى آخره من غير أن يكون سمعه قال : إني أنشدته بيتا أجدت فيه فلم أره تحرك له و هو هذا :
( أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلا ... بالدين و الناس في الدنيا مشاغيل )
فقلت له : ما زدت على أن جعلته عجوزا في محرابها في يدها سبحة فمن يقوم بأمر الدنيا إذا كان مشغولا عنها ؟ و هو المطوق لها ! ألا قلت كما قال عمك في الوليد :
( فلا هو في الدنيا يضيع نصيبه ... و لا عرض الدنيا عن الدين شاغله )
قال ابن عساكر : أخبرنا أبو العز بن كادش حدثنا محمد بن الحسين حدثنا المعافى بن زكريا حدثنا محمد بن محمود بن أبي الأزهر الخزاعي حدثنا الزبير بن بكار حدثني النضر بن شميل قال : دخلت على المأمون بمرو و علي أطمار فقال لي : يا نضر أتدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق قال : لا و لكنك تتقشف فتجارينا الحديث فقال المأمون : [ حدثني هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها و جمالها كان فيه سداد من عوز ]
قلت : صدق قول أمير المؤمنين عن هشيم [ حدثني عوف الأعرابي عن الحسن أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : إذا تزوج الرجل المرأة لدينها و جمالها كان فيه سداد [ بالكسر ] من عوز ]
وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا و قال : السداد لحن يا نضر ؟ قلت : نعم ههنا و إنما لحن هشيم و كان لحانا فقال : ما الفرق بينهما ؟ قلت : السداد بالفتح القصد في السبيل و السداد بالكسر البلغة و كل ما سددت به شيئا فهو سداد قال : أفتعرف العرب ذلك ؟
قلت : نعم هذا العرجي من ولد عثمان يقول :
( أضاعوني و أي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة و سداد ثغر )
فأطرق المأمون مليا ثم قال : قبح الله من لا أدب له ! ثم قال : أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب قلت : قول ابن بيض في الحكم بن مروان :
( تقول لي و العيون هاجعة ... : أقم علينا يوما فلم أقم )
( أي الوجوه انتجعت ؟ قلت لها ... : لأي وجه إلا إلى الحكم ؟ )
( متى يقل حاجبا سرداقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم )
( قد كنت أسلمت فيك مقتبلا ... هيهات أدخل فأعطني سلمي )
أسلمت : أسلفت مقتبلا : آخذا قبيلا : أي كفيلا
قال أنشدني أنصف بيت قالته العرب قلت : قول ابن أبي عروبة المديني :
( إني و إن كان ابن عمي عاتبا ... لمزاحم من خلفه و ورائه )
( و مفيد نصري و إن كان أمرأ ... متزحزحا في أرضه و سمائه )
( و أكون والي سره و أصونه ... حتى يحن إلي وقت أدائه )
و إذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا إلى جربائه (
) و إذا دعا باسمي ليركب مركبا صعبا قعدت له على سيسائه (
) و إذا أتى من وجهه بطريقة لم أطلع فيما وراء خبائه (
) و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل : يا ليت أن علي حسن ردائه (
قال : أنشدني أقنع بيت العرب فأنشدته قول ابن عبدل :
) إني امرؤ لم أزل و ذاك من الله أديبا أعلم الأدبا (
) أقيم بالدار ما اطمأن بي ال دار و إن كنت نازحا طربا (
) لا أحتوي الصديق و لا أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا (
) أطلب ما يطلب الكريم من ال رزق بنفسي و أجمل الطلبا (
) إني رأيت الفتى الكريم إذا رغبته في صنيعة رغبا (
و العبد لا يطلب العلاء و لا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا )
( مثل الحمار الموقع السوء لا ... يحسن شيئا إلا إذا ضربا )
( و لم أجد عروة العلائق إلا ال ... دين لما اختبرت و الحسبا )
( قد يرزق الخافض المقيم و ما ... شد بعيس رحلا و لا قتبا )
( و يحرم الرزق المطية و الرحـ ... ل و من لا يزال مغتربا )
قال : أحسنت يا نضر و أخذ القرطاس فكتب شيئا لا أدري ما هو ثم قال : كيف تقول أفعل من التراب ؟ قلت : أترب قال : و من الطين ؟ قلت : طن قال : فالكتاب ماذا ؟ قلت : مترب مطين قال : هذه أحسن من الأول فكتب لي بخمسين ألف درهم ثم أمر الخادم أن يوصلني إلى الفضل بن سهل فمضيت معه فلما قرأ الكتاب قال : يا نضر لحنت أمير المؤمنين قلت : كلا ! و لكن هيشم لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه فأمر لي من عنده بثلاثين ألفا فخرجت إلى منزلي بثمانين ألفا
و أخرج الخطيب عن محمد بن زياد الأعرابي قال : قال : بعث إلي المأمون فصرت إليه و هو في بستان يمشي مع يحيى بن أكثم فرأيتهما موليين فجلست فلما أقبلا قمت فسملت عليه بالخلافة فسمعته يقول ليحيى : يا أبا محمد ما أحسن أدبه رآنا موليين فجلس ثم رآنا مقبلين فقام ثم رد علي السلام فقال : أخبرني عن قول هند بنت عتبة :
( نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق مشي قطا الهمارق )
من طارق هذا ؟ فنظرت في نسبها فلم أجده فقلت : يا أمير المؤمنين ما أعرفه في نسبها فقال : إنما أرادت النجم و انتسبت إليه لحسنها من قول الله تعالى : { والسماء والطارق } فقلت : فأيده يا أمير المؤمنين فقال : أنا بؤبؤ هذا الأمر و ابن بؤبؤه ثم رمى إلي بعنبرة كان يقلبها في بعتها بخمسة آلاف درهم
و أخرج عن أبي عبادة قال : كان المأمون أحد ملوك الأرض و كان يجب له هذا الاسم على الحقيقة
و أخرج عن ابن أبي دؤاد دخل رجل من الخوارج على المأمون فقال له المأمون : ما حملك على خلافنا ؟ قال : آية في كتاب الله قال : و ما هي ؟ قال : قوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : نعم قال : و ما دليلك ؟ قال : إجماع الأمة قال : فكما رضيت بإجماعهم في التنزيل بإجماعهم في التأويل قال : صدقت السلام عليك يا أمير المؤمنين
و أخرج ابن عساكر عن محمد بن منصور قال : قال المأمون : من علامة الشريف أن يظلم من فوقه و يظلمه من هو دونه
و أخرج عن سعيد بن مسلم قال : قال المأمون : لوددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في العفو ليذهب عنهم الخوف و يخلص السرور إلى قلوبهم
و أخرج عن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : وقف رجل بين يدي المأمون قد جنى جناية فقال له : و الله لأقتلنك فقال : يا أمير المؤمنين تأن علي فإن الرفق نصف العفو قال : و كيف و قد حلفت لأقتلنك ؟ فقال : لأن تلقى الله حانثا خيرا من أن تلقاه قاتلا فخلى سبيله
و أخرج الخطيب عن أبي الصلت عبد السلام بن صالح قال : بت عند المأمون ليلة فنام القيم الذي كان يصلح السراج فقام المأمون و أصلحه و سمعته يقول : ربما أكون في المتوضأ فيشتمني الخدام و يفترون علي و لا يدرون أني أسمع فأعفو عنهم
و أخرج الصولي عن عبد الله بن البواب قال : كان المأمون يحلم حتى يغيظنا و جلس مرة يستاك على دجله من وراء ستر ـ و نحن قيام بين يديه ـ فمر ملاح و هو يقول أتظنون أن هذا المأمون ينبل في عيني ـ و قد قتل أخاه ـ قال : فو الله ما زاد على أن تبسم و قال لنا : ما الحيلة عندكم حتى أنبل في عين هذا الرجل الجليل ؟
و أخرج الخطيب عن يحيى بن أكثم قال : ما رأيت أكرم من المأمون بت عنده ليلة فأخذه سعال فرأيته يسد فاه بكم قميصه حتى لا أنتبه
و كان يقول : أول العدل أن يعدل الرجل في بطانته ثم الذين يلونهم حتى يبلغ إلى الطبقة السفلى
و أخرج ابن عساكر عن يحيى بن خالد البرمكي قال : قال لي المأمون : يا يحيى اغتنم قضاء حوائج الناس فإن الفلك أدور و الدهر أجور من أن يترك لأحد حالا أو يبقي لأحد نعمة
و أخرج عن عبد الله بن محمد الزهري قال : قال المأمون : غلبة الحجة أحب إلي من غلبة القدرة لأن غلبة القدرة تزول بزوالها و غلبة الحجة لا يزيلها شيء
و أخرج عن العتبي قال : سمعت المأمون يقول : من لم يحمدك على حسن النية لم يشكرك على جميل الفعل
و أخرج عن أبي العالية قال : سمعت المأمون يقول : ما أقبح اللجاجة بالسلطان و أقبح من ذلك الضجر من القضاة قبل التفهيم و أقبح منه سخافة الفقهاء بالدين و أقبح منه البخل بالأغنياء و المزاح بالشيوخ و الكسل بالشباب و الجبن يالمقاتل
و أخرج عن علي بن عبد الرحيم المروزي قال : قال المأمون : أظلم الناس لنفسه من يتقرب إلى من يبعده و يتواضع لمن لا يكرمه و يقبل مدح من لا يعرفه و أخرج عن مخارق قال : أنشدت المأمون قول أبي العتاهية :
( و إني لمحتاج إلى ظل صاحب ... يروق و يصفو إن كدرت عليه )
فقال لي : أعد فأعدت سبع مرات فقال لي : يا مخارق خذ مني الخلافة و اعطني هذا الصاحب
و أخرج عن هدبة بن خالد قال : حضرت غداء المأمون فلما رفعت المائدة جعلت ألتقط ما في الأرض فنظر إلي المأمون فقال : أما شعبت ؟ قال : بلى و لكن حدثني حماد بن سلمة عن ثابت البناني [ عن أنس سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : من أكل ما تحت مائدة أمن من الفقر ] فأمر لي بألف دينار
و أخرج عن الحسن بن عبدوس الصفار قال : لما تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل أهدي الناس إلى الحسن فأهدى له رجل فقير مزودين في أحدهما ملح و في الآخر أشنان و كتب إليه : جعلت فداك ! خفة البضاعة قصرت ببعد الهمة و كرهت أن تطوى صحيفة أهل البر و لا ذكر لي فيها فوجهت إليك بالمبتدإ ليمينه و بركته و بالمختوم به لطيبه و نظافته فأخذ الحسن المزودين و دخل بهما على المأمون فاستحسن ذلك و أمر بهما ففرغا و ملئا دنانير
أخرج الصولي عن محمد بن القاسم قال : سمعت المأمون يقول : أنا و الله ألذ العفو حتى أخاف أن لا أوجر عليه و لو علم الناس مقدار محبتي للعفو لتقربوا إلي بالذنوب
و أخرج الخطيب عن منصور البرمكي قال : كان للرشيد جارية و كان المأمون يهواها فبينما هي تصب على الرشيد من إبريق معها و المأمون خلفه إذا أشار إليها بقبلة فزجرته بحاجبها و أبطأت غن الصب فنظر إليها هارون فقال : ما هذا ؟ فتلكأت عليه فقال إن لم تخبريني لأقتلنك فقلت : أشار إلي عبد الله بقبلة فالتفت إليه و إذا هو قد نزل به من الحياء و الرعب ما رحمه الله منه فاعتنقه و قال : أتحبها ؟ قال : نعم قال : قم فادخل بها في تلك القبة فقام فلما خرج قال له : قل في هذا شعرا فقال :
( ظبي كنيت بطرفي ... عن الضمير إليه )
( قبلته من بعيد ... فاعتل من شفتيه )
( ورد أحسن رد ... بالكسر من حاجبيه )
( فما برحت مكاني ... حتى قدرت عليه )
و أخرج ابن عساكر عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال : سمعت بعض النخاسين يقول : عرضت على المأمون جارية شاعرة فصيحة متأدبة شطرنجية فساومته في ثمنها بألفي دينار فقال المأمون : إن هي أجازت بيتا أقول ببيت من عندها اشتريها بما تقول و زدتك فأنشد المأمون :
( ماذا تقولين فيمن شفه أرق ... من جهد حبك قد صار حيرانا ؟ )
فأجازته :
( إذا وجدنا محبا قد أضر به ... داء الصبابة أوليناه إحسانا )
و أخرج الصولي عن الحسن الخليع قال : لما غضب علي المأمون و منعني رزقا لي علمت قصيدة أمتدحه به و دفعتها إلى من أوصلها إليه و أولها :
( أجرني فإني قد ظمئت إلى الوعد ... متى تنجر الوعد المؤكد بالعهد )
( أعيذك من خلف الملوك و قد ترى ... تقطع أنفاسي عليك من الوجد )
( أيبخل فرد الحسن عني بنائل ... قليل و قد أفردته بهوى فرد )
إلى أن قال :
( رأى عبد الله خير عباه ... فملكه و الله أعلم بالعبد )
( ألا إنما المأمون للناس عصمة ... مفرقة بين الضلالة و الرشد )
فقال المأمون : قد أحسن إلا أنه القائل :
( أعيناي جودا و أبكيا لي محمدا ... و لا تذخرا دمعا عليه و أسعدا )
( فلا تمت الأشياء بعد محمد ... و لا زال الملك فيه مبددا )
( و لا فرح المأمون بالملك بعده ... و لا زال في الدينا طريدا مشردا )
فهذا بذاك و لا شيء عندنا فقال له الحاجب : فأين عادة أمير المؤمنين في العفو ؟ فقال : أما هذا فنعم فأمر له بجائزة ورد رزقه عليه
و أخرج عن علية عن حماد بن إسحاق قال : لما قدم المأمون بغداد جلس للمظالم كل يوم أحد إلى الظهر
و أخرج عن محمد بن العباس قال : المأمون يحب لعب الشطرنج شديدا و يقول : هذا يشحذ الذهن و اقترح فيها و كان يقول : لا أسمعن أحدا يقول : تعال حتى نلعب و لكن يقول : نتداول أو نتناقل و لم يكن حاذقا بها
و كان يقول : أنا أدبر الدنيا فأتسع لذلك و أضيق عن تدبير شبرين في شبرين
و أخرج عن ابن أبي سعيد قال : هجا دعبل المأمون فقال :
( إني من القوم الذين سيوفهم ... قتلت أخاك و شرفتك بمقعد )
( شادوا بذكرك بعد طول خموله ... و استنفذوك من الحضيض الأوهد )
فلما سمعها المأمون لم يزد على أن قال : ما أقل حياء دعبل ! متى كنت خاملا و قد نشأت في حجر الخلفاء ؟ و لم يعاقبه
و أخرج من طرق عدة أن المأمون كان يشرب النبيذ
و أخرج عن الجاحظ قال : كان أصحاب المأمون يزعمون أن لون وجهه وجسده لون واحد سوى سياقية فإنهما صفراوان كأنهما طليتا بالزعفران
و أخرج عن إسحاق الموصلي قال : قال المأمون : ألذ الغناء ما طرب له السامع خطأ كان أو صوابا
و أخرج عن علي بن الحسين قال : كان محمد بن حامد واقفا على رأس المأمون و هو يشرب فاندفعت عريب فغنت الشعر النابغة الجعدي :
( كحاشية البرد اليماني المسهم )
فأنكر المأمون أن لا يكون ابتدأت بشيء فأمسك القوم فقال : نفيت من الرشيد لئن لم أصدق عن هذا لأقرن بالضرب الوجيع عليه ثم لأعاقبن عليه أشد العقوبة و لئن صدقت لأبلغن الصادق أمله فقال محمد بن حامد : أنا يا سيدي أو مأت إليها بقبلة فقال : الآن جاء الحق صدقت أتحب أن أزواجك بها ؟ قال : نعم فقال المأمون : الحمد لله العالمين و صلى الله على سيدنا محمد و آله الطيبين لقد زوجت محمد بن حامد عريب مولاتي و مهرتها عنه أربعمائة درهم على بركة الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلم خذ بيدها فقامت معه فصار المعتصم إلى الدهليز فقال له : الدلالة قال : لك ذاك قال : دلالتي أن تغنيني الليلة فلم تزل تغنيه إلى السحر و ابن حامد على الباب ثم خرجت فأخذت بيده و مضت عليه
و أخرج عن ابن أبي دؤاد قال : أهدي ملك الروم إلى المأمون هدية فيها مائتا رطل مسك و مائتا جلد سمور فقال : أضعفوها له ليعلم عز الإسلام
و أخرج عن إبراهيم بن الحسن قال : قال المدائني للمأمون : إن معاوية قال : بنو هاشم أسود و أحداء و نحن أكثر سيدا فقال المأمون : إنه قد أقر و ادعى فهو في ادعائه خصم و في إقراره مخصوم
و أخرج عن أبي أمامة قال : حدثني بعض أصحابنا أن أحمد بن أبي خالد قرأ القصص يوما على المأمون فقال : فلان الثريدي ـ و هو اليزيدي ـ فضحك المأمون و قال : يا غلام هات طعاما لأبي العباس فإنه أصبح جائعا فاستحيى و قال : ما أنا بجائع و لكن صاحب القصة أحمق نقط الياء بنقط الثاء فقال : على ذلك فجاءه بطعام فأكل حتى انتهى ثم عاد فمر في قصة [ فلان الحمصي ] فقال : الخبيصي فضحك المأمون و قال : يا غلام جامة فيها خبيص فقال : إن صاحب القصة كان أحمق فتح اليم فصارت كأنها سنتان فضحك و قال : لولا حمقها لبقيت جائعا
و أخرج عن أبي عباد قال : ما أظن الله خلق نفسا هي أنبل من نفس المأمون و لا أكرم
و كان قد عرف شره أحمد بن أبي علي خالد فكان إذا وجهه في حاجة غداة قبل أن يرسله
و رفع إليه في القصة : إن رأى أمير المؤمنين أن يجري على ابن خالد نزلا فإنه يعين الظالم بأكله فأجرى عليه المأمون ألف درهم كل يوم لمائدته
و كان مع هذا يشره إلى طعام الناس فقال دعبل الشاعر :
( شكرنا الخليفة إجراءه ... على ابن أبي خالد نزله )
( فكف أذاه عن المسلمين ... و صير في بيته شغله )
و أخرج عن ابن أبي دؤاد قال : سمعت المأمون يقول لرجل : إنما هو غدر أو يمن قد وهبتهما لك و لا تزال تسيء و تذنب و أغفر حتى يكون العفو هو الذي يصلحك
و أخرج عن الجاحظ قال : قال ثمامة بن أشرس : ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى البرمكي و المأمون
و أخرج السفلي في الطيوريات عن حفص المدائني قال : أتى المأمون بأسود قد ادعى النبوة و قال : أنا موسى بن عمران فقال له المأمون : إن موسى بن عمران أخرج يده من جيبه بيضاء أخرج يدك بيضاء حتى أومن بك فقال الأسود : إنما جعل ذلك لموسى لما قال له فرعون : أنا ربكم الأعلى فقل أنت كما قال فرعون حتى أخرج يدي بيضاء و إلا لم تبيض
و أخرج أيضا أن المأمون قال : ما انفتق علي فتق إلا وجدت سببه جور العمال
و أخرج ابن عساكر عن يحيى بن أكثم قال : كان المأمون يجلس للمناظرة في الفقه يوم الثلاثاء فجاء رجل عليه ثياب قد شمرها و نعله في يده فوقف على طرف البساط و قال : السلام عليكم فرد عليه المأمون فقال أخبرني عن هذا المجلس الذي أنت فيه جلسته باجتماع الأمة أم بالمغالبة و القهر ؟ قال : لا بهذا و لا بهذا بل يتولى أمر المسلمين من عقد لي و لأخي فلما صار الأمر إلي علمت أني محتاج إلى اجتماع كلمة المسلمين في المشرق و المغرب على الرضا بي رأيت متى خليت الأمر اضرب حبل الإسلام و مرج أمرهم و تنازعوا و بطل الجهاد و الحج و انقطعت السبل فقمت حياطة للمسلمين إلى أن يجتمعوا على رجل يرضون به فأسلم إليه الأمر فمتى اتفقوا على رجل خرجت له من الأمر فقال : السلام عليكم و رحمة الله و بركاته و ذهب
و أخرج عن محمد بن المنذر الكندي قال : حج الرشيد فدخل الكوفة فطلب المحدثين فلم يتخلف إلا عبد الله بن إدريس و عيسى بن يونس فبعث إليهما الأمين و المأمون فحدثهما ابن إدريس بمائة حديث فقال المأمون : يا عم أتأذن لي أن أعيدها من حفظي ؟ قال : افعل فأعادها فعجب من حفظه
و قال بعضهم : استخرج المأمون كتب الفلاسفة و اليونان من جزيرة قبرس هكذا ذكره الذهبي مختصرا
و قال الفاكهي : أول من كسا الكعبة الديباج الأبيض المأمون و استمر ذلك بعده إلى أيام الخليفة الناصر إلا أن محمود بن سبكتكين كساها في خلال هذه المدة دبياجا أصفر
و من كلام المأمون : لا نزهة ألذ من النظر في عقول الرجال
و قال : أعيت الحيلة في الأمر إذا أقبل أن يدبر و إذا أدبر أن يقبل
و قال : أحسن المجالس ما نظر فيه إلى الناس
و قال : الناس ثلاثة مثل الغذاء لابد منه على كل حال و منهم كالدواء يحتاج إليه في حال المرض و منهم كالداء مكروه على حال
و قال : ما أعياني جواب أحد مثل ما أعياني جواب رجل من أهل الكوفة قدمه أهله فشكا عاملهم فقلت : كذبت بل هو رجل عادل فقال : صدق أمير المؤمنين و كذبت أنا قد خصصتنا به في هذه البلدة دون باقي البلاد [ خذه ] و استعمله على بلد آخر يشملهم من عدله و إنصافه مثل الذي شملنا فقلت : قم في غير حفظ الله و عزلته عنكم
و من شعر المأمون :
( لساني كتوم لأسراركم ... و دمعي نموم لسري مذيع )
( فلولا دموعي كتمت الهوى ... و لولا الهوى لم يكن لي دموع )
و له في الشطرنج :
( أرض مربعة حمراء من أدم ... ما بين إلفين معروفين بالكرم )
( تذاكر الحرب فاحتلا لها حيلا ... من غير أن يأثما فيها بسفك دم )
( هذا يغير على هذا و ذاك على ... هذا بغير و عين الحزم لم تنم )
( فانظر إلى فطن جالت بمعرفة ... في عسكرين بلا طبل و لا علم )
و أخرج الصولي عن محمد بن عمرو قال : دخل أصرم بن حميد على المأمون ـ و عنده المعتصم ـ فقال : يا أصرم صفني و أخي و لا تفضل واحدا منا على صاحبه فأنشد بعد قليل :
( رأيت سفينة تجري ببحر ... إلى بحرين دونها البحور )
( إلى ملكين ضوؤهما جميعا ... سواء حار دونها البصير )
( كلا الملكين يشبه ذاك هذا ... و ذا هذا و ذاك و ذا أمير )
( فإن يك ذاك ذا و ذاك هذا ... فلي في ذا و ذاك معا سرور )
( رواق المجد ممدود على ذا ... و هذا وجهه بدر منير )
ذكر أحاديث من رواية المأمون
قال البيهقي : سمعت الإمام أبا عبد الله الحاكم قال : سمعت أبا أحمد الصيرفي سمعت جعفر بن أبي عثمان الطيالسي يقول : صليت العصر في الرصافة خلف المأمون في المقصورة يوم عرفة فلما سلم كبر الناس فرأيت المأمون خلف الدرابزين و هو يقول : لا يا غوغاء لا يا غوغاء غدا سنة أبي القاسم صلى الله عليه و سلم فلما كان يوم الأضحى حضرت إلى الصلاة فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : الله أكبر كبيرا و الحمد لله كثيرا و سبحان الله بكرة و أصيلا [ حدثنا هشيم بن بشير حدثنا ابن شبرمة عن الشعبي عن البراء بن عازب عن أبي بردة بن دينار قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : من ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم قدمه و من ذبح بعد أن يصلي فقد أصاب السنة ] الله أكبر كبيرا و الحمد لله كثيرا و سبحان الله بكرة و أصيلا اللهم أصلحني و استصلحني و أصلح على يديقال الحاكم : هذا حديث لم نكتبه إلا عن أبي أحمد و هو عندنا ثقة المأمون و لم يزل في القلب منه شيء حتى ذاكرت به أبا الحسن الدارقطني فقال : هذه الرواية عندنا صحيحة عن جعفر فقلت : هل من متابع به لشيخنا أبي أحمد ؟ فقال : نعم ثم قال : حدثني الوزير أبو الفضل جعفر بن الفرات حدثني أبو الحسين محمد بن عبد الرحمن الروزباذي حدثنا محمد بن عبد الملك التاريخي ـ قال الدارقطني : و ما فيهم إلا ثقة مأمون ـ حدثنا جعفر الطيالسي حدثنا يحيى بن معين قال : سمعت المأمون فذكر الخطبة و الحديث و قال الصولي : حدثنا جعفر الطيالسي حدثنا يحيى بن معين قال : خطبنا المأمون ببغداد يوم الجمعة و وافق يوم عرفة فلما سلم كبر الناس فأنكر التكبير ثم وثب حتى نأخذ بخشب المقصورة و قال : يا غوغاء ما هذا التكبير في غير أيامه ؟ حدثنا هشيم عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس أن الرسول الله صلى الله عليه و سلم ما زال يلبي حتى رمى جمرة العقبة و التكبير في غد ظهرا عند انقضاء التلبية إن شاء الله تعالى
و قال الصولي [ حدثنا أبو القاسم البغوي حدثنا أحمد بن إبراهيم الموصلي قال كنا عند المأمون فقام إليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الخلق عيال الله فأحب عباد الله إلى الله عز و جل أنفعهم لعياله ] فصاح المأمون : و قال : اسكت أنا أعلم بالحديث منك حدثنيه يوسف بن عطية الصفار [ عن ثابت عن أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : الخلق عيال الله فأحب عباد الله أنفعهم لعياله ] أخرجه من هذا الطريق ابن عساكر و أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده و غير من طرق عن يوسف بن عطية
و قال الصولي : حدثنا المسيح بن حاتم العكلي حدثنا عبد الجبار بن عبد الله قال سمعت المأمون يخطب فذكر في خطبته الحياء فوصفه و مدحه ثم قال : [ حدثنا هشيم عن منصور عن الحسن عن أبي بكرة و عمران بن حصين قالا : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الحياء من الإيمان و الإيمان في الجنة و البذاء من الجفاء و الجفاء في النار ] أخرجه ابن عساكر من طريق يحيى بن أكثم عن المأمون
و قال الحاكم : [ حدثنا الحسين بن تميم حدثنا الحسين بن فهم حدثنا يحيى بن أكثم القاضي قال : قال لي المأمون يوما : يا يحيى إني أريد أن أحدث فقلت : و من أولى بهذا من أمير المؤمنين ؟ فقال : ضعوا لي منبرا فصعد و حدث فأول حديث حدثنا به : عن هشيم عن أبي الجهم عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار ] ثم حدث بنحو من ثلاثين حديثا ثم نزل فقال لي : يا يحيى كيف رأيت مجلسنا ؟ قلت أجل مجلس يا أمير المؤمنين تفقه الخاصة و العامة فقال : لا و حياتك ما رأيت لكم حلاوة و إنما المجلس لأصحاب الخلقان و المحابر
و قال الخطيب : حدثنا أبو الحسن علي بن القاسم الشاهد حدثنا أبو علي الحسن بن محمد بن عثمان حدثنا الحسين بن عبيد الله الأبزاري حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : لما فتح المأمون مصر قال له قائل : الحمد لله يا أمير المؤمنين الذي كفاك أمر عدوك و أدان لك العراقين و الشامات و مصر و أنت ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت له : ويحك ! إلا أنه بقيت لي خلة و هو أن أجلس في مجلس و يستملي يحيى فيقول لي : من ذكرت رضي الله عنك ؟ فأقول : [ حدثنا الحمادان حماد بن سلمة و حماد بن زيد قالا : حدثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : من عال ابنتين أو ثلاثا أو أختين أو ثلاثا حتى يمتن أو يموت عنهن كان معي كهاتين في الجنة ] و أشار بالمسبحة و الوسطى
قال الخطيب : في هذا الخبر غلط فاحش و يشبه أن يكون المأمون رواه عن رجل عن الحمادين و ذلك أن مولد المأمون سنة سبعين ومات حماد بن سلمة في سنة سبع و ستين قبل مولده بثلاث سنين و أما حماد بن زيد فمات في تسع و سبعين
و قال الحاكم حدثنا بن يعقوب بن إسماعيل الحافظ حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال : وقف المأمون يوما للأذان و نحن وقوف بين يديه إذ تقدم إليه رجل غريب بيده محبرة فقال : يا أمير المؤمنين صاحب حديث منقطع به فقال له المأمون : إيش تحفظ في باب كذا ؟ فلم يذكر فيه شيئا فما زال المأمون يقول : حدثنا هشيم و حدثنا حجاج و حدثنا فلان حتى ذكر الباب ثم سأله عن باب ثان فلم يذكر فيه شيئا فذكره المأمون ثم نظر إلى أصحابه فقال : يطلب أحدهم الحديث ثلاثة أيام ثم يقول : أنا من أصحاب الحديث أعطوه ثلاث دراهم
و قال ابن عساكر : حدثنا محمد بن إبراهيم الغزي حدثنا أبو بكر محمد بن إسماعيل بن السري التفليسي حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي أخبرني عبيد الله بن محمد الزاهد العكبري حدثنا عبد الله بن محمد بن مسيح حدثنا محمد بن المغلس حدثنا محمد بن السري القنطري حدثنا علي بن عبد الله قال : قال يحيى بن أكثم : بت ليلة عند المأمون فانتبهت في جوف الليل و أنا عطشان فتقلبت فقال : يا يحيى ما شأنك ؟ قلت : عطشان فوثب من مرقده فجاءني بكوز من ماء فقلت : يا أمير المؤمنين ألا دعوت بخادم ألا دعوت بغلام ؟ قال : لا [ حدثني أبي عن أبيه عن جده عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم سيد القوم خادمهم ] و قال الخطيب : [ حدثنا الحسن بن الحسن بن عثمان الواعظ حدثنا جعفر بن محمد بن الحاكم الواسطي حدثني أحمد بن الحسن الكسائي حدثنا سليمان بن الفضل النهرواني حدثني يحيى بن أكثم فذكر نحوه إلا أنه قال : حدثني الرشيد حدثني المهدي حدثني المنصور عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس حدثني جرير بن عبد الله سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : سيد القوم خادمهم ]
و قال ابن عساكر : [ حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد حدثنا القاضي أبو المظفر هناد بن إبراهيم النسفي حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن سليمان الغنجار حدثنا أبو أحمد علي بن محمد بن عبد الله المروزي حدثنا أبو العباس عيسى بن محمد بن عيسى بن عبد الرحمن الكاتب حدثني محمد بن قدامة بن إسماعيل صاحب النضر بن شميل حدثنا أبو حذيفة البخاري قال : سمعت المأمون أمير المؤمنين يحدث عن أبيه عن جده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم : قال : مولى القوم منهم ] قال محمد بن قدامة : فبلغ المأمون أن أبا حذيفة حدث بهذا عنه فأمر له بعشرة آلاف درهم و في أيام المأمون أحصيت أولاد العباس فبلغوا ثلاثة و ثلاثين ألفا ما بين ذكر و أنثى و ذلك في سنة مائتين
و في أيامه مات من الأعلام : سفيان بن عيينة و الإمام الشافعي و عبد الرحمن بن مهدي و يحيى بن سعيد القطان و يونس بن بكير ـ راوي المغازي ـ و أبو مطيع البلخي صاحب أبي حنيفة رحمه الله و معروف الكرخي الزاهد و إسحاق بن بشر صاحب كتاب المبتدأ و إسحاق بن الفرات ـ قاضي مصر ـ من أجلة أصحاب مالك و أبو عمرو الشيباني اللغوي و أشهب صاحب مالك و الحسن بن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة و حماد بن أسامة الحافظ و روح بن عبادة و زيد بن الحباب أبو داود الطيالسي و الغازي بن قيس من أصحاب مالك و أبو سليمان الداراني الزاهد المشهور و علي الرضى بن موسى الكاظم و الفراء إمام العربية و قتيبة بن مهران صاحب الإمالة و قطرب النحوي و الواقدي و أبو عبيدة معمر بن المثنى و النضر بن شميل و السيدة نفيسة و هشام أحد النحاة الكوفيين و اليزيدي و يزيد بن هارون و يعقوب بن إسحاق الحضرمي قارىء البصرة وعبد الرزاق و أبو العتاهية الشاعر و أسد السنة و أبو عاصم النبيل و الفريابي و عبد الملك بن الماجشون و عبد الله بن الحكم و أبو زيد الأنصاري صاحب العربية و الأصمعي و خلائق آخرون