كتاب : مقدمة ابن خلدون
المؤلف : ابن خلدون
هي علوم بكيفية استعدادات، تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر: إما بغير معين، أو بمعين من الأمور السماوية، والأول هو ال!سر، والثاني هو الطلسمات. ولما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع، لما فيها من الضرر، ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره، كانت كتبها كالمفقودة بين الناس. إلا ما وجد فى كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام، مثل النبط والكلدانيين، فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع ولا جاؤوا بالأحكام، إنما كانت كتبهم مواعظ وتوحيداً لله وتذكيراً بالجنة والنار. وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين، وفي أهل مصر من القبط وغيرهم. وكان لهم فيها التآليف والآثار. ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل، مثل الفلاحة النبطية لابن وحشية من أوضاع أهل بابل، فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه. ووضعت بعد ذلك الأوضاع، مثل مصاحف الكواكب السبعة، وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها. ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة، فتصفح كتب القوم واستخرج الصناعة، وغاص في زبدتها واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف. وأكثر الكلام فيها وفي صناعة السيمياء، لأنها من توابعها، ولأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما تكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه.
ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات، فلخص جميع تلك الكتب وهذبها، وجمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم، ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده.
ولنقدم هنا مقدمة يتبثين لك منها حقيقة السحر، وذلك أن النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع، فهي مختلفة بالخواص. وهي أصناف، كل صنف مختص بخاصية واحده بالنوع لا توجد في الصنف الآخر. وصارت تلك الخواص فطرة وجبلة لصنفها. فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لها خاصية تستعد بها للانسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية، حتى يصير ملكاً في تلك اللمحة التي انسلخت فيها.
وهذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه، وهي في تلك الحالة محلة للمعرفة الربانية ومخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه وتعالى كما مر. وما يتبع ذلك من التأثير في الأكوان. ونفوس السحرة لها خاصية التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب، للتصرف فيها، والتأثير بقوة نفسانية أو شيطانية. فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي وخاصية ربانية. ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية. وهكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر.
والنفوس الساحرة على مراتب ثلاثة يأتي شرحها: فأوله المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين، وهذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر، والثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد، ويسمونه الطلسمات، وهو أضعف رتبة من الأولى، والثالث تأثير في القوى المتخيلة. يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة، فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويلقي فيها أنواعاً من الخيالات والمحاكاة وصوراً مما يقصده من ذلك، ثم ينزلها إلى الحس من الراؤون بقوة نفسه المؤثرة فيه، فينظرها الراؤون كأنها في الخارج، وليس هناك شيء من ذلك، كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك. ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة.
هذا تفصيل مراتبه. ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها. وإنما تخرج إلى الفعل بالرياضة. ورياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الافلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلل، فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له. والوجهة إلى غير الله كفر. فلهذا كان السحر كفراً والكفر من مواده وأسبابه كما رأيت. ولهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر، هل هو لكفره السابق على فعله، أو لتصرفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان، والكل حاصل منه. ولما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لها حقيقة في الخارج، والمرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر: هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل، فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين، والقائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة. فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر، بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب. والله أعلم.
واعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه، وقد نطق به القرآن. قال الله تعالى: " ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر، وما أنزل على الملكين ببابل، هاروت وماروت، وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر، فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه، وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر، حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله، وجعل سحره في مشط ومشاقة وجف طلعة ودفن في بئر ذروان، فأنزل الله عز وجل عليه في المعوذتين: " ومن شر النفاثات في العقد " . قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرا على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت.
وأما وجود السحر في أهل بابل، وهم الكلدانيون من النبط والسريانين فكثير، ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار. وكان للسحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة. ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون ويتناغون فيه وبقي من آثار ذلك في البرابي بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك. ورأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه وحاوله موجودة بالمسحور، وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التآليف والتفريق. ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عيناً أو معنى. ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء، ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلاً بالعقد واللزام، وأخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك، استشعاراً للعزيمة بالعزم. ولتلك البنية والأسماء السيئة خبيثة، تخرج منه مع النفخ، متعلقة بريقه الخارج من فيه بالنفث، فتنزل عنها أرواح خبيثة، ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر. وشاهدنا أيضاً من المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد، ويتكلم عليه في سره، فإذا هو مقطوع متخرق. ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج، فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الارض. وسمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه ويقع ميتاً وينقب عن قلبه فلا يوجد في حشاه، ويشير إلى الرمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء. وكذلك سمعنا أن بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فتمطر الأرض المخصوصة. وكذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة، وهي: رك رف د، أحد العددين مائتان وعشرون، والآخر مائتان وأربعة وثمانون، ومعنى المتحابة أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف وثلث وربع وسدس وخمس وأمثالها، إذا جمع كان مساوياً للعدد الآخر صاحبه، فتسمى لأجل ذلك المتحابة.
ونقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثراً في الألفة بين المتحابين واجتماعهما إذا وضع لهما تمثالان. أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها، ناظرة إلى القمر نظر مودة وقبول، ويجعل طالع الثاني سابع الأول، ويوضع على أحد التمثالين أحد العددين والآخر على الآخر. ويقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه، أعني المحبوب، ما أدري، الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء، فيكون لذلك من التآليف العظيم بين المتحابين ما لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر. قاله صاحب الغاية وغيره من أئمة هذا الشأن، وشهدت له التجربة.
وكذا طابع الأسد، ويسمى أيضاً طابع الحصى، وهو أن يرسم في قالب هند إصبع صورة أسد شائلاً ذنبه، عاضاً على حصاة، قد قسمها بنصفين، وبين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها إلى فيه، وعلى ظهره صورة عقرب تدب. ويتحين برسمه حول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد، بشرط صلاح النيرين وسلامتهما من النحوس. فإذا وجد ذلك وعثر عليه، طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب، وغمس بعد في الزعفران محلولاً بماء الورد، ورفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبر عنه. وكذلك للسلاطين فيه من القوة والعزعلى من تحت أيديهم ذكر ذلك أيضاً أهل هذا الشأن في الغاية وغيرها، وشهدت له التجربة. وكذلك وفق المسدس المختص بالشمس، ذكروا أنه يوضع عند حلول الشمس في شرفها وسلامتها من النحوس، وسلامة القمر، بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة وقبول، ويصلح فيه ما يكون في مواليد الملوك من الأدلة الشريفة، ويرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب. فزعموا أن له أثراً في صحابة الملوك وخدمتهم، ومعاشرتهم. وأمثال ذلك كثير.
وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة، وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها. وذكر لنا: أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتاباً في ذلك وسماه بالسر المكتوم، وأنه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه، والإمام لم يكن من أئمة الشأن فيما نظن، ولعل الأمر بخلاف ذلك. وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين، وهم الذين ذكرت أولاً أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق، ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فينبعج. ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج، لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام، يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم متسترون بذلك في الغاية خوفاً على أنفسهم من الحكام. لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك، وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك لروحانية الجن والكواكب، سطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها وأن بهذه الرياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم، وأن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع والحيوان والرقيق، ويعبرون عن ذلك بقولهم إنما نفعل فيما يمشي فيه الدرهم أي ما يملك ويباع ويشترى من سائر المتملكات، هذا ما زعموه. وسألت بعضهم فأخبرني به. وأما أفعالهم فظاهرة موجودة، وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك.
هذا شأن السحر والطلسمات وآثارهما في العالم، فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر والطلمسات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية، واستدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية، بأن لها آثاراً في بدنها على غير المجرى الطبيعي وأسبابه الجسمانية، بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح، تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح والسرور، ومن جهة التصورات النفسانية أخرى، كالذي يقع من قبل التوهم. فإن الماشي على حرف حائط أو على جبل منتصب، إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك. ولهذا تجد كثيراً من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا يخافون السقوط.
فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية، وتصورها للسقوط من أجل الوهم. وإذا كان ذلك أثراً للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية، فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها، إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة، لأنها غيرحالة في البدن ولا منطبعة فيه، فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام.
وأما التفرقة عندهم بين السحر والطلمسات، فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين، وصاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب وأسرار الأعداد وخواص الموجودات وأوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر، كما يقوله المنجمون، ويقولون: السحر اتحاد روح بروح، والطلسم، اتحاد روح بجسم، ومعناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية. والطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب، ولذلك يستعين صاحبه، في غالب الأمر بالنجامة. والساحر عندهم غير مكتسب لسحره، بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير. والفرق عندهم بين المعجزة والسحر، أن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير، فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك. والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية، وبإمداد الشياطين في بعض الأحوال، فبينهما الفرق في المعقولية والحقيقة والذات في نفس الأمر، وإنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة وهي وجود المعجزة لصاحب الخير، وفي مقاصد الخير، وللنفوس المتمحصة للخير والتحدي بها على دعوى النبوة. والسحر إنما يوجد لصاحب الشر، وفي أفعال الشر في الغالب، من التفريق بين الزوجين وضرر الأعداء وأمثال ذلك، وللنفوس المتمحصة للشر. هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين.
وقد يوجد لبعض المتصوفة وأصحاب الكرامات تأئير أيضاً في أحوال العالم وليس معدوداً من جنس السحر، وإنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم ونحلتهم من آثار النبوة وتوابعها. ولهم في المدد الإلهي حظ عظيم على قدر حالهم وإيمانهم وتمسكهم بكلمة الله. وإذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر فلا يأتيها لأنه متقيد فيما يأتيه ويذره للأمر الإلهي. فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق وربما سلب حاله. ولما كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهية، فلذلك لا يعارضها شيء، من السحر.
وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا يأفكون، وذهب سحرهم واضمحل كأن لم يكن. وكذلك لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين، ومن شر النفاثات في العقد. قالت عائشة رضي الله عنها: فكان لا يقرؤها على عقدة من العقد التي سحر فيها إلا انحلت. فالسحر لا يثبت مع اسم الله وذكره بالهمة الإيمانية. وقد نقل المؤزخون أن زركش كاويان وهي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجاً بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق. ووجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم.
وهو فيما يزعم أهل الطلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب، وأن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم اصلاً. إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتمسكهم بكلمة الله، فانحل معها كل عقد سحري ولم يثبت، وبطل ما كانوا يعملون. وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات والشعبذة وجعلته كله باباً واحداً محظوراً. لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا، أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا، وما لاديهمنا في شيء منهما. فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر، كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع، ويلحق به الطلسمات، لأن آثرهما واحد، كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير، فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله، فيكون حينئذ ذلك الفعل محظوراً على نسبته في الضرر. وإن لم يكن مهماً علينا ولا فيه ضرر، فلا أقل من تركه قربة إلى الله، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة باباً واحداً لما فيها من الضرر، وخصته بالحظر والتحريم.
واما الفرق عندهم بين المعجزة والسحر، فالذي ذكره المتكلمون أنه راجع إلى التحدي، وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه. قالوا: والساحر مصروف عن مثل هذا التحدي، فلا يقع منه. ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية، لأن صفة نفسها التصديق، فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذباً وهو محال، فإذاً لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق. وأما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه، فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين. فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير، وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشر ولا يستعمل في أسباب الشر، وكأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما. والله يهدي من يشاء، وهو القوي العزيز، لارب سواه.
ومن قبيل هذه التأثيرات النفسانية الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان، عندما يستحسن بعينه مدركاً من الذوات أو الأحوال، ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به، فيؤثر فساده. وهو جبلة فطرية، أعني هذه الإصابة بالعين. والفرق بينها وبين التأثيرات النفسانية أن صدوره فطري جبلي لا يتخلف ولا يرجع اختياز صاحبه ولا يكتسبه، وسائر التأثيرات، وإن كان منها ما لا يكتسب، فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها، والفطري منها قوة صدورها لا نفس صدورها، ولهذا قالوا: القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل، والقاتل بالعين لا يقتل. وما ذلك إلا لأنه ليس مما يريده ويقصده أو يتركه، وإنما هو مجبور في صدوره عنه. والله أعلم بما في الغيوب ومطلع على ما في السرائر.
الفصل التاسع والعشرون
علم أسرار الحروف
وهو المسمى لهذا العهد بالسيميا. نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة، فاستعمل استعمال العام في الخاص. وحدث هذا العلم في الملة بعد صدرمنها، وعند ظهور الغلاة من التصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس، وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر، وتدوين الكتب والاصطلاحات، ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه. وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب، وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء، فهي سارية في الأكوان على هذا النظام. والأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره وتعرب عن أسراره، فحدث لذلك علم أسرار الحروف، وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله. تعددت فيه تآليف البوني وابن العربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما. وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان.ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو: فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه، وقسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر. واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلاً وانفعالاً بذلك الصنف، فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية وهوائية ومائية وترابية على حسب تنوع العناصر، فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب. ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنفد. فتعين لعنصر النار حروف سبعة: الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال، وتعين لعنصر الهواء سبعة أيضا: الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء، وتعين لعنصر الماء أيضاً سبعة: الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين، وتعين لعنصر التراب أيضاً سبعة: الدال والحاء واللام والعين والراء والخاء والشين.
والحروف النارية لدفع الأمراض الباردة ولمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها، إما حساً أو حكماً، كما في تضعيف قوى المريخ في الحروب والقتل والفتك. والمائية أيضاً لدفع الأمراض الحارة من حميات وغيرها، ولتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حساً أوحكماً، كتضعيف قوى القمر وأمثال ذلك.
ومنهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية: فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعاً وطبعاً فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضاً، كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد، والكاف على اثنين في مرتبة العشرات، والراء على اثنين في مرتبة المئين. وكالذي بينها وبين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة، وبين الأربعة والاثنين نسبة الضعف. وخرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف، وامتزج التصرف من السر الحرفي والسر العددي لأجل التناسب الذي بينهما. فأفا سر التناسب الذي بين هذه الحروف وأمزجة الطبائع، أو بين الحروف والأعداد، فأمر عسير على الفهم، إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات، وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف.
قال البوني: ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي، وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي. وأما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركبة فيها وتأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواتراً. وقد يظن أن تصرف هؤلاء وتصرف أصحاب الطلسمات واحد، وليس كذلك، فإن حقيقة الطلسم وتأثيره على ما حققه أهله أنه قوى روحانية من جوهر القهر، تفعل فيما له ركب فعل غلبة وقهر، بأسرار فلكية ونسب عددية وبخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم، مشدودة فيه بالهمة، فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية، وهو عندهم كالخميرة المركبة من هواثية وأرضية ومائية ونارية حاصلة في جملتها، تخيل وتصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها وتقلبه إلى صورتها. وكذلك الإكسير للأجسام المعدنية، كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة. ولذلك يقولون موضوع الكيمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية. ويقولون: موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية. والطبائع السفلية جسد والطبائع العلوية روحانية. وتحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات وأهل الأسماء، بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بالذات، إلا أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك وربطها بالصور أو بالنسب العددية، حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته، فعل الخميرة فيما حصلت فيه. وتصرف أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل بهم بالمجاهدة والكشف من النور الإلهي والإمداد الرباني، فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية، ولا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية ولا غيرها، لأن مدده أعلى منها.
ويحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك. وأهون بها وجهة ورياضة. بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى، وليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب. وإنما التصرف حاصل لهم بالعرض، كرامة من كرامات الله لهم. فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله وحقائق الملكوت، الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف، واقتصر على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف والكلمات، وتصرف بها من هذه الحيثية وهؤلاء هم أهل السيمياء في المشهور - كان إذاً لا فرق بينه وبين صاحب الطلسمات، بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية وقوانين مرتبة. وأما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة، وليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة. وقد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب، فيعين لذكر الأسماء الحسنى، أو ما يرسم من أوفاقها، بل ولسائر الأسماء، أوقاتاً تكون من حظوظ الكوكب الذي يناسب ذلك الاسم، كما فعله البوني في كتابه الذي سماه الأنماط. وهذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية، وهي برزخية الكمال الأسمائي، وإنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة. وإثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة. فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة، وتلقى تلك المناسبة تقليداً، كان عمله بمثابة عمل صاحب الطلسم، بل هو أوثق منه كما قلناه. وكذلك قد يمزج أيضاً صاحب الطلسمات عمله وقوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات والكواكب، إلأ أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة، وإنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية، من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات، من جواهر وأعراض وذوات ومعان، والحروف والأسماء من جملة ما فيه.
فلكل واحد من الكواكب قسم منها يخصه، ويبنون عى ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سور القرآن وآيه على هذا النحو، كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية. والظاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم. فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها، وتصفحت الدعوات التي تصفنتها، وتقسيمها على ساعات الكواكب السبعة، ثم وقفت على الغاية، وتصفحت قيامات الكواكب التي فيها، وهي الدعوات التي تختص بكل كوكب، ويسمونها قيامات الكواكب، أي الدعوة التي يقام له بها، شهد له ذلك: إما بأنه من مادتها، أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع وبرزخ. العلم قضى بذلك كله. " وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " . وليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت، فقد ثبت ان السحرحق مع حظره. لكن حسبنا من العلم ما علمنا.ومن فروع علم السيمياء عندهم استخراج الأجوبة من الأسئلة، بارتباطات بين الكلمات حرفية، يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية، وإنما هي شبه المعاياة والمسائل السيالة. ولهم في ذلك كلام كثير من أدعية وأوراد. وأعجبه زايرجه العالم للسبتي، وقد تقدم ذكرها. ونبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها وجدولها المكتوب حولها ثم نكشف عن الحق فيها وأنها ليست من الغيب، وإنما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل. وليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا أصح النسخ منها في ظاهر الامر. والله الموفق بمنه. وهي هذه:
يقول سبيتي ويحمد ربه ... مصل على هاد إلى الناس أرسلا
محمد المبعوث خاتم الأنبيا ... ويرضى عن الصحب ومن لهم تلا
ألا هذه زايرجة العالم الذي ... تراه بحيكم وبالعقل قد حلا
فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه ... ويدرك أحكاماً تدبرها العلا
ومن أحكم الربط فيدرك قوة ... ويدرك للتقوى وللكل حصلا
ومن أحكم التصريف يحكم سره ... ويعقل نفسه وصح له الولا
وفي عالم الأمر تراه محققاً ... وهذا مقام من بالآذكار كملا
فهذي سرائرعليكم بكتمها ... أقمها دوائر وللحاء عدلا
فطاء ٌلها عرش وفيه نقوشنا ... بنظم ونثر قد تراه مجدولا
ونسب دوائر كنسبة فلكها ... وارسم كواكباً لآدراجها العلا
وأخرج لأوتار وارسم حروفها ... وكوربمثله على حد من خلا
أقم شكل زيرهم وسو بيوته ... وحقق بهامهم ونورهم جلا
وحصل علوماٌ للطباع مهندساً ... وعلماً لموسيقى والأرباع مثلا
وسو لموسيقى وعلم حروفهم ... وعلم بآلات فحقق وحصلا
وسو دوائرها ونسب حروفها ... وعالمها أطلق والإقليم جدولا
أميرٌ لنا فهو نهاية دولة ... زناتية آبت وحكمٌ لها خلا
وقطر لأندلس فابن لهودهم ... وجاء بنو نصر وظفرهم تلا
ملوكٌ وفرسانٌ وأهلٌ لحكمة ... فإن شئت نصبهم وقطرهم حلا
ومهدي توحيد بتونس حكمهم ... ملوكٌ وبالشرق بالأوفاق نزلا
واقسم على القطر وكن متفقداً ... فإن شئت للروم فبالحر شكلا
ففنش وبرشنون الراء حرفهم ... وإفرنسهم دال وبالطاء كملا
ملوك كناوة دلوا لقافهم ... وإعراب قومنا بترقيق أعملا
فهندٌ حباشي وسند فهرمس ... وفرسٌ ططاري وما بعدهم طلا
فقيصرهم جاء ويزدجردهم ... لكاف وقبطيهم بلامه طولا
وعباس كلهم شريفٌ معظمٌ ... ولكن تركي بذا الفعل عطلا
فإن شئت تدقيق الملوك وكلهم ... فختم بيوتاً ثم نسب وجدولا
على حكم قانون الحروب وعلمها ... وعلم طبائعها وكله مثلا
فمن علم العلوم تعلم علمنا ... ويعلم أسرار الوجود وأكملا
فيرسخ علمه ويعرف ربه ... وعلم ملاحيم بحاميم فصلا
وحيث أتى اسمٌ والعروض يشقه ... فحكم الحكيم فيه قطعا ليقتلا
وتأتيك أحرف فسو لضربها ... وأحرف سبيويه تأتيك فيصلا
فمكن بتنكير وقابل وعوضن ... بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا
وفي العقد والمجزور يعرف غالباً ... وزد لمح وصفيه في العقل فعلا
واختر لمطلع وسويه رتبةً ... واعكس بجذريه وبالدور عدلا
ويدركها المرء فيبلغ قصده ... وتعطي حروفها وفي نظمها انجلا
إذا كان سعدٌ والكواكب أسعدت ... فحسبك في الملك ونيل اسمه العلا
وإيقاع دالهم بمرموز ثمة ... فنسب دنادينا تجد فيه منهلا
وأوتارزيرهم فللحاء بمهم ... ومثناهم المثلث بجيمه قد جلا
وأدخل بأفلاك وعدل بجدول ... وأرسم أباجاد وباقيه جملا
وجوز شذوذ النوتجري ومثله ... أتى في عروض الشعرعن جملة ملا
فأصلٌ لديننا وأصل لفقهنا ... وعلمٌ لنحونا فاحفظ وحصلا
فادخل لفسطاط على الوفق جذره ... وسبح باسمه وكبرو هللا
فتخرج أبياتاً وفي كل مطلب ... بنظم طبيعي وسرمن العلا
وتفنى بحصرها كذا حكم عدهم ... فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا
فتخرج أبياتاً وعشرون ضعفت ... من الألف طبعياً فيا صاح جدولا
تريك صنائعاً من الضرب أكملت ... فصح لك المنى وصح لك العلا
وسجع بزيرهم وأثني بنقرة ... أقمها دوائر الزير وحصلا
أقمها بأوفاق وأصل لعدها ... من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا
43ك - ا ك و ك ح و ا 5عم له ر لا سع كط ا ل م ن ح ع ف و ل منافرة.
الكلام على استخراج نسبة الأوزان وكيفياتهاومقادير المقابل منها وقوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلي موضع المعلق من امتزاج طبائع وعلم طب أو صناعة الكيميا:
أيا طالباً للطب مع علم جابر ... وعالم مقدار المقادير بالولا
إذا شئت علم الطب لا بد نسبة ... لأحكام ميزان تصادف منهلا
فيشفى عليلكم والإكسير محكم ... وأمزاج وضعكم بتصحيح انجلا
الطب الروحانيوشئت إيلاوش 565 ودهنه بحلا ... لبهرام برجيس وسبعة أكملا
لتحليل أوجاع البوارد صححوا ... كذلك والتركيب حيث تنقلا
كد منع مهم 355 وهح 6 صح لهاي ود ا آ ا وهح وى سكره لا ل ح مههت مههه ع ع مى مرح ح 2242 ل ك عا عر.
مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك وبنيهموعلم مطاريح الشعاعات مشكل ... وضلع قسيها بمنطقة جلا
ولكن في حج مقام إمامنا ... ويبدو إذا عرض الكواكب عدلا
بدال مراكز بين طول وعرضها ... فمن أدرك المعنى علا ثم فوضلا
مواقع تربيع وسه مسقط ... لتسديسهم تثليث بيت التي تلا
يزاد لتربيع وهذا قياسه ... يقيناً وجذره وبالعين أعملا
ومن نسبة الربعين ركب شعاعك ... بصاد وضعفة وتربيعه انجلا
اختص صح ص ع 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك والقانون مطرد عمله ولم ير أعجب منه.
مقامات الملوك المقام الأول5 المقام الثاني مح مههم صع عر المقام الثالث ع ع والمقام الرابع للح المقام الخامس لاى المقام السادس ع بير المقام السابع عره خط الاتصال والانفصال ع 1 5 مح ط ق مح محح خط الانفصال الوتر للجميع وتابع الجر والتام الاتصال والانفصال الواجب التام في الاتصالات إقامة الأنوار الجزر المجيب في العمل إقامة السؤال عن الملوك مقام الا ولا
الانفعال الروحاني والانقياد الربانيأيا طالب السر لتهليل ربه ... لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا
تطيعك أخيار الأنام بقلبهم ... كذلك ريسهم وفي الشمس أعملا
ترى عامة الناس إليك تقيدوا ... وما قلته حقا وفي الغيرأهملا
طريقك هذا السيل والسبل الذي ... أقوله غيركم ونصركموا اجتلى
إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى ... وديناً متيناً أوتكن متوصلا
كذي النون والجنيد مع سر صنعة ... وفي سر بسطام أراك مسربلا
وفي العالم العلوي تكون محدثا ... كذا قالت الهند وصوفية الملا
طريق رسول الله بالحق ساطع ... وما حكم صنع مثل جبريل أنزلا
فبطشك تهليل وقوسك مطلع ... ويوم الخميس البدء والأحد انجلى
وفي جمعة أيضاً بالأسماء مثله ... وفي اثنين للحسنى تكون مكملا
وفي طائه سر في هائه إذا ... أراك بها مع نسبة الكل أعطلا
وساعة سعد شرطهم في نقوشها ... وعود ومصطكى بخور تحصلا
وتتلو عليها آخر الحشر دعوة ... والإخلاص والسبع المثاني مرتلا
اتصال أنوار الكواكب بلعاني لا هي ى لا ظ غ لد سع ق صح م ف وى
وفي يدك اليمنى حديد وخاتم ... وكل برأسك وفي دعوة فلا
وآية حشر فاجعل القلب وجهها ... واتلو إذا نام إلا نام ورتلا
هي السر في الأكوان لا شيء غيرها ... هي الآية العظمى فحقق وحصلا
تكون بها قطباً إذ جدت خدمة ... وتدرك أسراراً من العالم العلا
سري بها ناجى ومعروف قبله ... وباح بها الحلاج جهراً فأعقلا؟
وكان بها الشبلي يدأب دائماً ... إلى أن رقى فوق المريدين واعتلى
فصف من الأدناس قلبك جاهداً ... ولازم لأذكار وصم وتنقلا
فما نال سر القوم إلامحقق ... عليم بأسرار العلوم محصلا
مقامات المحبة وميل النفوسوالمجاهدة والطاعة والعبادة وحب وتعشق وفناء الفناء وتوجه ومراقبة وخلة وأئمة الانفعال الطبيعي:
لبرجيس في المحبة الوفق صرفوا ... بقزدير أو نحاس الخلط أكملا
وقيل بفضة صحيحاً رأيته ... فجعلك طالعاً خطوطه ماعلا
توخ به زيادة النور للقمر ... وجعلك للقبول شمسه أصلا
ويومه والبخور عود لهندهم ... ووقت لساعة ودعوته ألا
ودعوته بغاية فهي أعملت ... وعن طسيمان دعوة ولها جلا
وقيل بدعوة حروف لوضعها ... بحر هواء أومطالب أهلا
فتنقش أحرفاً بدال ولامها ... وذلك وفق للمربع حصلا
إذا لم يكن يهوى هواك دلالها ... فدال ليبدو واو زينب معطلا
فحسن لبائه وبائهم إذا ... هواك وباقيهم قليلة جملا
ونقش مشاكل بشرط لوضعهم ... وما زدت أنسبه لفعلك عدلا
ومفتاح مريم ففعلهما سوا ... فبوري وبسطامي بسورتها تلا
وجعلك بالقصد وكن متفقداً ... أدلة وحشي لقبضة ميلا
فاعكس بيوتها بألف ونيف ... فباطنها سر وفي سرها انجلا
فصل في المقامات للنهايةلك الغيب صورة من العالم العلا ... وتوجدها دار أو ملبسها الحلا
ويوسف في الحسن وهذا شبيهه ... بنثر وترتيل حقيقة أنزلا
وفي يده طول وفي الغيب ناطق ... فيحكى إلى عود يجاوب بلبلا
وقد جن بهلول بعشق جمالها ... وعند تجليها لبسطام أخذلا
ومات أجليه وأشرب حبها ... جنيد وبصرى والجسم أهملا
فتطلب في التهليل غايته ومن ... بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا
ومن صاحب الحسنى له الفوز بالمنى ... ويسهم بالزلفى لدى جيرة العلا
وتخبر بالغيب إذا جدت خدمة ... تريك عجائباً بمن كان موئلا
فهذا هو الفوز وحسن تناله ... ومنها زيادات لتفسيرها تلا
الوصية والتختموالإيمان والإسلام والتحريم والإلهية
فهذا قصيدنا وتسعون عده ... ومازاد خطبة وختماً وجدولا
عجبت لأبيات وتسعون عدها ... تولد أبياتاً وماحصرها انجلا
فمن فهم السر فيفهم نفسه ... ويفهم تفسيراً تشابه أشكلا
حرام وشرعي لإظهار سرنا ... لناس وإن خصوا وكان التأهلا
فإن شئت أهليه فغلظ يمينهم ... وتفهم برحلة ودين تطولا
لعلك أن تنجو وسامع سرهم ... من القطع والافشا فترأس بالعلا
فنجل لعباس لسره كاتم ... فنال سعادات وتابعه علا
وقام رسول الله في الناس خاطبا ... فمن يرأس عرشاً فذلك أكملا
وقد ركب الأرواح أجساد مظهر ... فآلت لقتلهم بدق تطولا
إلى العالم العلوي يفنى فناؤنا ... ويلبس أثواب الوجود على الولا
فقد تم نظماً وصلى إلهنا ... على خاتم الرسل صلاة بها العلا
وصلى إله العرش ذو المجد والعلا ... على سيد ساد الأنام وكملا
محمد الهادي الشفيع إمامنا ... وأصحابه أهل المكارم والعلا
كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائلمن زايرجة العالم بحول الله منقولاً عمن لقيناه من القائمين عليها: السؤال له ثلاثمائة وستون جواباً عدة الدرج، وتختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار، وتناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد.
تنبيه تركيب حروف الاوتار والجدول على ثلاثة أصول: حروف عربية تنقل على هيآتها، وحروف برسم الغبار. وهذه تتبدل: فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة، فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثانية من مرتبة العشرات، وكلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبينه، ومنها حروف برسم الزمام كذلك، غير أن رسم الزمام يعطي نسبة ثانية، فهي بمنزلة واحد ألف وبمنزلة عشرة، ولها نسبة من خمسة بالعربي، فاستحق البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرسم وحرفان في الرسم، فاختصروا من الجدول بيوتاً خالية. فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعة حسبت في العدد في طول الجدول، وإن لم تزد على أربعة لم يحسب إلا العامر منها.
والعمل في السؤال يفتقر إلى سبعة أصول: عدة حروف الأوتار وحفظ أدوارها بعد طرحها، اثني عشر اثني عشر، وهي ثمانية أدوار في الكامل وستة في الناقص أبداً.
ومعرفة درج الطالع وسلطان البرج، والدور الأكبر الأصلي، وهو واحد أبداً. وما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصلي، وما يخرج من ضرب الطالع والدور في سلطان البرج. وإضافة سلطان البرج للطالع والعمل جميعه ينتج عن ثلائة أدوار مضروبة في أربعة، تكون اثني عشر دوراً. ونسبة هذه الثلاثة الأدوار التي هي كل دور من أربعة نشأة وثلاثية، كل نشأة لها ابتداء. ثم إنها تضرب أدواراً رباعية أيضاً ثلاثية. ثم إنها من ضرب ستة في اثنين، فكان لها نشأة، يظهر ذلك في العمل. ويتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج، وهي في الأدوار، إما أن تكون نتيجة أو أكثر إلى ستة.
فأول ذلك نفرض سؤالاً عن الزايرجة ، هل هي علم قديم، أو محدث بطالع أول درجة من القوس أثناء حروف الأوتار؟ ثم حروف السؤال. فوضعنا حروف وتر رأس القوس ونظيره من رأس الجوزاء. وثالثه وتر رأس الدلو إلى حد المركز، وأضفنا إليه حروف السؤال، ونظرنا عدتها وأقل ما تكون ثمانية وثمانين، وأكثر ما تكون ستة وتسعين، وهي جملة الدور الصحيح، فكانت في سؤالنا ثلاثة وتسعين. ويختصر السؤال إن زاد عن ستة وتسعين، بأن يسقط جميع أدواره الإثني عشرية، ويحفظ ما خرج منها وما بقي، فكانت في سؤالنا سبعة أدوار، الباقي تسعة، أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة، فإن بلغها لم تثبت لها عدة ولا دور.
ثم تثبت أعدادها أيضاً إن زاد الطالع عن أربعة وعشرين في الوجه الثالث، ثم تثبت الطالع وهو واحد، وسلطان الطالع وهو أربعة، والدور الأكبر وهو واحدة واجمع ما بين الطالع والدور وهو اثنان في هذا السؤال، واضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانية، وأضف السلطان للطالع فيكون خمسة، فهذه سبعة أصول. فما خرج من ضرب الطالع والدور الأكبر في سلطان القوس، مما لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانية من أسفل الجدول صاعداً وإن زاد على اثني عشر طرح أدواراً، وتدخل بالباقي في ضلع ثمانية، وتعلم على منتهى العدد والخمسة المستخرجة من السلطان والطالع، يكون الطالع في ضلع السطح المبسوط الأعلى من الجدول، وتعد متوالياً خمسات أدواراً، وتحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة، وهي ألف أو باء أو جيم أو زاي. فوقع العدد في عملنا على حرف الألف وخلف ثلاثة أدوار، فضربنا ثلاثة في ثلاثة كانت تسعة، وهو عدد الدور الأول. فأثبته واجمع ما بين الضلعين: القائم والمبسوط يسكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول، وإن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها، فلا يعتبر وتستمر على أدوارك. وادخل بعدد ما في الدور الأول، وذلك تسعة في صدر الجدول مما يلي البيت الذي اجتمعا فيه، وهي ثمانية، ماراً إلى جهة اليسار، فوقع على حرف لام ألف ولا يخرج منها أبداً حرف مركب. وإنما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزمام، فعلم عليها بعد نقلها من بيت القصيد، واجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر، ادخل بها في حروف الأوتار، وأثبت ما وقع عليه العدد وعلم عليه من بيت القصيد. ومن هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعي، وذلك أن تجمع حروف الدور الأول وهو تسعة لسلطان البرج وهو أربعة تبلغ ثلاثة عشر، أضعفها بمثلها تكون ستة وعشرين، أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السؤال الباقي خمسة وعشرون.
فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول، ثم ثلاثة وعشرون مرتين، ثم اثنان وعشرون مرتين، على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم. ولا تقف على أربعة وعشرين لطرح ذلك الواحد أولاً. ثم ضع الدور الثاني وأضف حروف الدور الأول إلى ثمانية، الخارجة من ضرب الطالع والدور في السلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة. فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأول وعلم عليه، وادخل في صدر الجدول بسبعة عشر، ثم بخمسة. ولا تعد الخالي، والدور عشرون، فوجدنا حرف ثاء خمسمائة، وإنما هو نون لأن دورنا في مرتبة العشرات، لكانت الخمسمائة بخمسين لأن دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين. فأثبت نوناً ثم أدخل بخمسة أيضاً من أوله. وانظر ما حاذى ذلك من السطح تجد واحداً، فقهقر العدد واحداً يقع على خمسة، أضف لها واحداً لسطح تكن ستة. أثبت واواً وعلم عليها من بيت القصيد أربعة، وأضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر، أضف لها الباقي من الدور الثاني وهو خمسة تبلغ سبعة عشر، وهو ما للدور الثاني. فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار، فوقع العدد على واحد. أثبت الألف وعلم عليها من بيت القصيد وأسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدة الخارج من الدور الثاني، وضع الدور الثالث وأضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر، الباقي واحد. انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد وادخل في بيت القصيد بثلاثة عشر، وخذ ما وقع عليه العدد وهو " ق " وعلم عليه. وأدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار وأثبت ما خرج، وهو سين، وعلم عليه من بيت القصيد، ثم أدخل مما يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر وهو واحد، فخذ مما يلي حرف سين من الأوتار فكان " ب) " أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد. وهذا يقال له: الدور المعطوف، وميزانه صحيح، وهو أن تضعف ثلاثة عشر بمثلها، وتضيف إليها الواحد الباقي من الدور تبلغ سبعة وعشرين، وهو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد. وأدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر، وانظر ما قابله من السطح وأضعفه بمثله، وزد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر، فكان حرف جيم، وكانت للجملة سبعة، فذلك حرف زاي فأثبتناه وعلمنا عليه من بيت القصيد. وميزانه أن تضعف السبعة بمثلها وزد عليها الواحد الباقي من ثلاثة عشر يكن خمسة عشر، وهو الخامس عشر من بيت القصيد وهذا آخر أدوار الثلاثيات، وضع الدور الرابع وله من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السابق، فاضرب الطالع مع الدور في السلطان، وهذا الدور آخر العمل في البيت الأول من الرباعيات.
فاضرب على حرفين من الأوتار واصعد بتسعة في ضلع ثمانية وادخل بتسعة من دور الحرف الذي أخذته آخراً من بيت القصيد، فالتاسع حرف راء، فأثبته وعلم عليه. وادخل في صدر الجدول بتسعة وانظر ما قابلها من السطح يكون " ج " ، قهقر العدد واحداً يكون ألف وهو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته وعلم عليه. وعد مما يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضاً أثبته وعلم عليه واضرب على حرف من الأوتار، وأضعف تسعة بمثلها تبلغ ثمانية عشر، ادخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين. وادخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على " س " أثبتها وعلم عليها اثنين، وأضف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر. أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السطح ألف أثبتها وعلم عليها ستة، وضع الدور الخامس وعدته سبعة عشر الباقي خمسة. اصعد بخمسة في ضلع ثمانية واضرب على حرفين من الأوتار وأضعف خمسة بمثلها، وأضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة وعشرون، ادخل بها في حروف الأوتار تقع على " ب " أثبتها وعلم عليها اثنين وثلاثين واطرح من سبعة عشر اثنين التي هي في أس اثنين وثلاثين الباقي خمسة عشر. ادخل في حروف الأوتار تقف على " ق " أثبتها وعلم عليها ستة وعشرين، وأدخل في صدر الجدول بست وعشرين تقف على اثنين بالغبار، وذلك حرف " ب " أثبته وعلم عليه أربعة وخمسين، وأضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السادس، وعدته ثلاثة عشر، الباقي منه واحد، فتبين إذ ذاك أن دور النظم من خمسة وعشرين، فإن الأدوار خمسة وعشرون وسبعة عشر وخمسة وثلاثة عشر وواحد، فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة وعشرين، وهو الدور في نظم البيت، فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد. ولكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدمناه، لأنه دور ثان من نشأة تركيبية ثانية، بل أضفنا الأربعة التي من أربعة وخمسين الخارجة على حروف " ب " من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة، تضيف خمسة إلى ثلاثة عشر التي للدور تبلغ ثمانية عشر، أدخل بها في صدر الجدول وخذ ما قابلها من السطح وهو ألف، أثبته وعلم عليه من بيت القصيد اثني عشر واضرب على حرفين من الأوتار. ومن هذا الجدول تنظر أحرف السؤال، فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره وعلم عليه من حروف السؤال ليكون داخلاً في العدد في بيت القصيد، وكذلك تفعل بكل حرف حرف بعد ذلك مناسباً لحروف السؤال، فما خرج منها زده على بيت القصيد من آخره وعلم عليه، ثم أضف إلى ثمانية عشر ما علمته على حرف الألف من الآحاد، فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين. أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء، أثبته وعلم عليه من بيت القصيد، ستة وتسعين وهو نهاية الدور في الحرف الوتري. فاضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السابع، وهو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الاختراعين. ولهذا الدور من العدد تسعة، تضيف لها واحداً تكون عشرة للنشأة الثانية، وهذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دوراً، إذا كان من هذه النسبة، أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر. فاصعد في ضلع ثمانية وتسعين وادخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة، وإنما هي خمسون، نون مضاعفة بمثلها، وتلك " ق " أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد اثنين وخمسين، وأسقط من اثنين وخمسين اثنين، وأسقط تسعة التي للدور الباقي واحد وأربعون، فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته. وكذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحداً، فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلم عليه من بيت القصيد علامتين. علامة على الأف الأخير الميزاني، وأخرى على الألف الأولى فقط، والثانية أربعة وعشرون واضرب على حرفين من الأوتار، وضع الدور الثامن وعدته سبعة عشر الباقي خمسة، أدخل في ضلع ثمانية وخمسين وأدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين، أثبتها وعلم عليها. وأدخل في الجدول بخمسة، وخذ ما قابلها من السطح، وذلك واحد، أثبته وعلم عليه.
من البيت ثمانية وأربعين، وأسقط واحداً من ثمانية وأربعين للأس الثاني وأضف إليها خمسة، الدور. الجملة اثنان وخمسون. أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف " ب " غبارية وهي مرتبة مئينية لتزايد العدد، فتكون مائتين وهي حرف راء، أثبتها وعلم عليها من القصيد أربعة وعشرين، فانتقل الأمر إلى ستة وتسعين إلى الابتداء وهو أربعة وعشرون، فأضف إلى أربعة وعشرين خمسة، الدور، وأسقط واحداً تكون الجملة ثمانية وعشرين. أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية، أثبت " 2 " وعلم عليها وضع الدور التاسع، وعدده ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد. وليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد، ولأنه من النشأة الثانية، ولأنه أول الثلث الثالث من مربعات البروج وآخر الستة الرابعة من المثلثات. فاضرب ثلاثة عشر التي للدور في أربعة التي هي مثلثات البروج السابقة، الجملة اثنان وخمسون، أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غبارية، وإنما هي مئينية لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد والعشرات، فأثبته مائتين راء، وعلم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين، وأضف إلى ثلاثة عشر، الدور، واحد الأس، وأدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية، فعلم عليها ثمانية وعشرين، واطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة اضرب على حرفين من الأوتار، وادخل بسبعة تقف على حرف لام، أثبته وعلم عليه من البيت. وضع الدور العاشر وعدده تسعة، وهذا ابتداء المثلثة الرابعة، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة، تكون خلاء فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء. اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين، وإنما كانت تضرب في اثنين، وأدخل في الجدول بستة وثلاثين تقف على أربعة زمامية وهي عشرية، فأخذناها أحادية لقلة الأدوار، فأثبت حرف دال، وإن أضفت إلى ستة وثلاثين واحد الأس كان حدها من بيت القصيد، فعلم عليها، ولو دخلت بالتسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية، فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة وهو المقصود. ولو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر التي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زمامي وهو عشري، فاطرح منه اثنين تكرار التسعة، الباقي ثمانية نصفها المطلوب. ولو دخلت في صدر الجدول بسبعة وعشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زمامية، والعمل واحد.
ثم أدخل بتسعة في بيت القصيد وأثبت ما خرج وهو ألف، ثم اضرب تسعة في ثلاثة التي هي مركب تسعة الماضية وأسقط واحدا وأدخل في صدر الجدول بستة وعشرين، وأثبت ما خرج وهو مائتان بحرف راء وعلم عليه من بيت القصيد ستة وتسعين. واضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور الحادي عشر وله سبعة عشر الباقي خمسة، اصعد في ضلع ثمانية بخمسة وتحسب ما تكرر عليه المشي في الدور الأول، وأدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال، فخذ ما قابله من السطح وهو واحد، فأدخل بواحد في بيت القصيد تكن سين، أثبتة وعلم عليه أربعة. ولو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة. وأضعف سبعة عشر بمثلها وأسقط واحداً وأضعفها بمثلها وزدها أربعة تبلغ سبعة وثلاثين، أدخل بها في الأوتار تقف على ستة أثبتها وعلم عليها، وأضعف خمسة بمثلها. وأدخل في البيت تقف على لام أثبتها وعلم عليها عشرين، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع الدور الثاني عشر وله ثلاثة عشر الباقي واحد، اصعد في ضلع ثمانية بواحد، وهذا الدور آخر الأدوار وآخر الاختراعين وآخر المربعات الثلاثية وآخر المثلثات الرباعية. والواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زمامية، وإنما هي آحاد ثمانية، وليس معنا من الأدوار إلا واحد، فلو زاد عن أربعة من مربعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلثات اثني عشر لكانت " ح " ، وإنما هي " د " ، فأثبتها وعلم عليها من بيت القصيد أربعة وسبعين، ثم انظر ما ناسبها من السطح تكن خمسة، أضعفها بمثلها للأس تبلغ عشرة، أثبت " ى " وعلم عليها، وانظر في أي المراتب وقعت: وجدناها في الرابعة، دخلنا بسبعة في حروف الأوتار، وهذا المدخل يسمى التوليد الحرفي فكانت " ف " ، أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور، الجملة ثمانية. أدخل بها في الاوتار تبلغ " س " أثبتها وعلم عليها ثمانية، واضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور، فإنها آخر مربعات الأدوار بالمثلثات تبلغ أربعة وعشرين، أدخل بها في بيت القصيد وعلم على ما يخرج منها وهو مائتان وعلامتها ستة وتسعون، وهو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفية، واضرب على حرفين من الأوتار وضع النتيجة الأولى ولها تسعة. وهذا العدد يناسب أبداً الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدواراً وذلك تسعة، فاضرب تسعة في ثلاثة التي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار، وأضف لها واحداً الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية وعشرين، فادخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفاً، أثبته وعلم عليه ستة وتسعين.
وإن ضربت سبعة التي هي أدوار الحروف التسعينية في أربعة وهي الثلاثة الزائدة على تسعين، والواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك، واصعد في ضلع ثمانية بتسعة وادخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زمامية. واضرب تسعة فيما ناسب من السطح، وذلك ثلاثة، وأضف لذلك سبعة، عدد الأوتار الحرفية، واطرح واحداً الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة وثلاثين، ادخل بها في البيت تبلغ خمسة، فأثبتها وأضف تسعة بمثلها وادخل في صدر الجدول بثمانية عشر، وخذ ما في السطح وهو واحد، ادخل به في حروف الأوتار تبلغ " م " أثبته وعلم عليه، واضرب على حرفين من الأوتار. وضع النتيجة الثانية ولها سبعة عشر الباقي خمسة، فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة واضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر، أضف لها واحداً الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة، وادخل بستة عشر في بيت القصيد تبلغ " ت " أثبته وعلم عليه أربعة وستين، وأضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين، وزد واحداً الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة، ادخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زمامية، وانظر ما في السطح تجد واحداً أثبته وعلم عليه من بيت القصيد وهو التاسع أيضاً من البيت، وادخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة وهي عشرات، فأثبت لام وعلم عليه وضع النتيجة الثالثة وعددها ثلاثة عشر الباقي واحد. فانقل في ضلع ثمانية بواحد وأضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين، وواحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر، وواحد النتيجة تكن ثمانية عشر، ادخل بها في حروف الأوتار تكن لاماً أثبتها فهذا آخر العمل.
والمثال في هذا السؤال السابق: أردنا أن نعلم أن هذه الزايرجة علم محدث أو قديم، بطالع أول درجة من القوس، أثبتنا حروف الأوتار، ثم حروف السؤال، ثم الأصول، وهي عدة الحروف ثلاثة وتسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة، الطالع واحد، سلطان القوس أربعة، الدور الأكبر واحد، درج الطالع مع الدور اثنان، ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية، إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد.
سؤال، عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجد مثلاً
حروف الأوتار: ص ط 5 رث ك ه م ص ص ون ب ه س ا ن ل م ن ص ع ف ص ورس ك ل م ن ص ع ف ض ق رس ت، خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص روح رو ح ل ص ك ل م ن ص اب ج ده وزح ط ى.
حروف السؤال 1 ل ز ا ى ر ج ة ع ل م م ح دث ام ق د ى م الدور الأول 9 الدور الثاني 17 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي ا الدور الرابع 9 الدور الخامس 17 الباقي ه الدور السادس 13 الباقي ا الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي ا الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي ا النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي ا ه ع حح و66 في اى 6 ذ.....21 س ....1 ن....22 و.... 2 غ.... 23 ا.... 3 ر.... 24 ل.... 4 ا.... 25 ع.... 5 ى.... 26 ظ.... 6 ب.... 27 ى.... 7 ش.... 28 م.... 8 ك.... 29 ا.... 9 ض....30 ل.... 10 ب.... 31 خ.... 11 ط.... 32 ل.... 12 ه....33 ق.... 13 ا....34 ح.... 14 ل....35 ز.... 15 ج....36 ت.... 16 د....37 ف.... 17 م....38 ص.... 18 ث....39 ن.... 19 ل.... 40 ا.... 20 ا.... 41 ف و ز ا و س ر ر ا ا س ا ب ا ر ق ا ع ا ر ص ح ر ح ل د ا ر س ا ل د ى و س ر ا د م ن ا ل ل.
دورها على خمسة وعشرين ثم على ثلاثة وعشرين مرتين ثم على واحد وعشرين مرتتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت وتنتقل الحروف جميعاً والله أعلم ن ف ر و ح روح ا ل ودس اد ر رس ره ا ل درى س وا ن س د روا ب لا ام رب و ا ا ل ع ل ل.
هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة. وللقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة. وعندهم أن السر في استخراج الجواب منظوماً من الزايرجة، إنما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب وهو: سؤال عظيم الخلق البيت، ولذلك يخرج الجواب على رويه. وأما الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم. فمن طرائقهم في استخراج الأجوبة ما ننقله عن بعض المحققين منهم.
فصل في الاطلاع على الأسرار الخفيةمن جهة الارتباطات الحرفية: اعلم أرشدنا الله وإياك أن هذه الحروف أصل الأسئلة في كل قضية، وإنما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكلية، وهي ثلاثة وأربعون حرفاً كما ترى والله علام الغيوب ا و ل ا ع ظ س ا ل م خ ى د ل ز ق ت ا ر ذ ص ف ن غ ش ا ك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج ه د ن ل، ا.
وقد نظمها بعض الفضلاء في بيت جعل فيه كل حرف مشدد من حرفين وسماه القطب فقال:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطة الجد مثلا
فإذا اردت استنتاج المسألة فاحذف ما تكرر من حروفها وأثبت ما فضل منه. ثم احذف من الأصل وهو القطب لكل حرف فضل من المسألة حرفاً يماثله، وأثبت ما فضل منه. ثم امزح الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأول من فضله، والثاني من فضل المسألة. وهكذا إلى أن يتم الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر، فتضع البقية على ترتيبها. فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقاً لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح، فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدل بها الموازين الموسيقية وتكمل الحروف ثمانية وأربعين حرفاً، فتعمر بها جدولاً مربعاً يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني، وتنقل البقية على حالها، وهكذا إلى أن تتم عمارة الجدول. ويعود السطر الأول بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة، ثم تخرج وتر كل حرف بقسمة مربعة على أعظم جزء يوجد له، وتضع الوتر مقابلاً لحرفه، ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية، وتعرف قوتها الطبيعية وموازينها الروحانية وغرائزها النفسانية وأسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك، وهذه صورته.
ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة، واحذر ما يلي الأوتاد وكذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة. وهذا الخارج هو أول رتب السريان. ثم تأخذ مجموع العناصر وتحط منها أسوس المولدات، يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية، فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد وهي عناصر الإمداد، يخرج أفق النفس الأوسط، وتطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط.
وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة. ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أول رتب السريان، ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان، فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبداً في رابع مرتبة السريان، يخرج أول عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، والثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل، والرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل. فتجمع عوالم التفصيل وتحط من عالم الكل، تبقى العوالم المجردة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول، ويقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني، وما انكسر فهو الثالث، ويتعين الرابع هذا في الرباعي. وإن شئت أكثر من الرباعي فتستكثر من عوالم التفصيل ومن رتب السريان ومن الأوفاق بعد الحروف. والله يرشدنا وإياك. وكذلك إذا قسم عالم التجريد على أول رتب السريان خرج الجزء الأول من عالم التركيب، وكذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون. فافهم وتدبر والله المرشد المعين.
ومن طريقهم أيضاً في استخراج الجواب، قال بعض المحققين منهم: اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه، أن علم الحروف جليل يتوصل العالم به لما لا يتوصل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم، وللعمل به شرائط تلتزم. وقد يستخرج العالم أسرار الخليقة وسرائر الطبيعة، فيطلع بذلك على نتيجتي الفلسفة، أعني السيميا وأختها، ويرفع له حجاب المجهولات ويطلع بذلك على مكنون خبايا القلوب. وقد شهدت جماعة بأرض المغرب، ممن اتصل بذلك، فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرف في الوجود بتأييد الله.
واعلم أن ملاك كل فضيلة الاجتهاد وحسن الملكة مع الصبر، مفتاح كل خير، كما أن الخرق والعجلة رأس الحرمان، فأقول: إذا أردت ان تعلم قوة كل حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد، وهذا أول مدخل من علم الحروف، فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد، فتلك الدرجة التي هي مناسبة للحرف هي قوته في الجسمانيات. ثم اضرب العدد في مثله تخرج لك قوته في الروحانيات وهي وتره. وهذا في الحروف المنقوطة لا يتم بل يتم لغير المنقوطة، لأن المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد.
واعلم أن لكل شكل من أشكال الحروف شكلاً في العالم العلوي أعني الكرسي، ومنها المتحرك والساكن والعلوي والسفلي كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج.
واعلم أن قوى الحروف ثلاثة أقسام: الأول وهو أقلها قوة تظهر بعد كتابتها، فتكون كتابته لعالم روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم، فمتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية وجمع همة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام. الثاني قوتها في الهيئة الفكرية وذلك ما يصدر عن تصريف الروحانيات لها، فهي قوة في الروحانيات العلويات، وقوة شكلية في عالم الجسمانيات. الثالث وهو يجمع الباطن، أعني القوة النفسانية على تكوينه، فتكون قبل النطق به صورة في النفس، بعد النطق به صورة في الحروف وقوة في النطق.
وأما طبائعها فهي الطبيعيات المنسوبة للمتولدات في الحروف وهي الحرارة واليبوسة، والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة والبرودة والرطوبة، فهذا سر العدد اليماني، والحرارة جامعة للهواء والنار وهما: " 1 ه ط م ف ش ذ ج ز ك س ق، ظ " ، والبرودة جامعة للهواء والماء " ب و ى ن ص ت ض دح ل ع رخ غ " واليبوسة جامعة للنار والأرض " 1ه ط م ف ش ذ ب وى ن ص ت ض " فهذه نسبة حروف الطبائع وتداخل أجزاء بعضها في بعض. وتداخل أجزاء العالم فيها علويات وسفليات بأسباب الأمهات الأول، أعني الطبائع الأربع المنفردة، فمتى أردت استخراح مجهول من مسئلة ما، فحقق طالع السائل أو طالع مسئلته واستنطق حروف أوتارها الأربعة: الأول والرابع والسابع والعاشر مستوية مرتبة، واستخرج أعداد القوى والأوتار كما سنبين، واحمل وانسب واستنتج الجواب يخرج لك المطلوب، إما بصريح اللفظ أو بالمعنى. وكذلك في كل مسئلة تقع لك. بيانه: إذا أرددت أن تستخرج قوى حروف الطالع، مع اسم السائل والحاجة، فاجمع أعدادها بالجمل الكبير، فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي، وهو أقوى هذه الأوتاد، فأسقط من كل برج حرفي التعريف، وانظر ما يخص كل برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها، واحذف أجزاء الكسر في النسب الاستنطاقية كلها وأثبت تحت كل حرف ما يخصه من ذلك، ثم أعداد حروف العناصر الأربعة وما يخصها كالأول. وارسم ذلك كله أحرفاً ورتب الأوتاد والقوى والقرائن سطراً ممتزجاً. وكسر واضرب ما يضرب لاستخراج الموازين، واجمع واستنتج الجواب يخرج لك الضمير وجوابه. مثاله افرض أن الطالع الحمل كما تقدم، ترسم " ح م ل " : فللحاء من العدد ثمانية لها النصف والربع والثمن " دب ا " الميم لها من العدد أربعون، لها النصف والربع والثمن والعشر ونصف العشر إذا آردت التدقيق " م ك ى5 د ب " اللام لها من العدد ثلاثون، لها النصف والثلثان والثلث والخمس والسدس والعشر " ك ى وه ج " . وهكذا تفعل بسائر حروف المسألة والاسم من كل لفظ يقع لك. وأما استخراح الأوتار فهو أن تقسم مربع كل حرف على أعظم جزء يوجد له. مثاله: حرف " د " له من الأعداد أربعة مربعها ستة عشر، اقسمها على أعظم جزء يوجد لها وهو اثنان يخرج وتراً لدال ثمانية. ثم تضع كل وترمقابلاً لحرفه. ثم تستخرج النسب العنصرية، كما تقدم في شرح الاستنطاق، ولها قاعدة تطرد في استخراجها من طبع الحروف وطبع البيت الذي يحل فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح. والله أعلم.
فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفيةبالقوانين الحرفية: وذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته، وما الموافق لبرئه منه، فمر السائل أن يسمى ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة، لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك. ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع والعناصر والسائل واليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة، وإلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل، وفعلت به كما نبين. فأقول مثلاً: سمى السائل فرساً فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة. بيانه: أن للفاء من العدد ثمانين ولها " م ك ي ح ب " ثم الراء لها من العدد مائتان " ق ن ك ى " ثم السين لها من العدد ستون ولها " م ل ك " فالواو عدد تام له " د ج ب " والسين مثله ولها " م ل ك " . فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين، فاحكم لأكثركما حروفاً بالغلبة على الآخر، ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب وحروفه دون بسط، وكذلك اسم الطالب واحكم للأكثر والأقوى بالغلبة.
وصفة قوى استخراج العناصر.
فتكون الغلبة هنا للتراب وطبعه البرودة، واليبوسة طبع السوداء، فتحكم على المريض بالسوداء. فإذا ألفت من حروف الاستنطاق كلاماً على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق، ويوافقه من الأدوية حقنة، ومن الأشربة شراب الليمون. هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس وهو مثال تقريبي مختصر. وأما استخراج قوى العناصر من الأسما العلمية فهو أن تسمي مثلاً محمداً، فترسم أحرفه مقطعة، ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك، يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف والعدد. ومثاله.
فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء، لأن عدد حروفه عشرون حرفاً، فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور، وهكذا يفعل بجيم الأسماء. حينئذ تضاف إلى أوتارها، أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة، أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب، الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة وهو هذا:
سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن ... غرائب شك ضبطه الجد مثلا
وهو وتر مشهور لاستخراج المجهولات، وعليه كان يعتمد ابن الرقام وأصحابه.
وهو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية. وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعاً ممتزجاً بألفاظ السؤال على قانون صنعة التكسير. وعدة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة وأربعون حرفاً، لأن كل حرف مشدد من حرفين.
ثم تحفف ما تكرر عند المزج من الحروف ومن الأصل، لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله، وتثبت الفضلين سطراً ممتزجاً بعضه ببعض الحروف. الأول من فضلة القطب والثاني من فضلة السؤال، حتى يتم الفضلتان جميعاً، فتكون ثلاثة وأربعين، فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية وأربعين، لتعدل بها الموازين الموسيقية، ثع تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح، ثم عمر بما مزجت جدولاً مربعاً يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني.
وعلى هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه، وتتوالى الحروف في القطر على نسبه الحركة. ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلاً لحرفه، ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية، لتعرف قوتها الطبيعية وموازينها الروحانية وغرائزها النفسانية وأسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك. وصفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنظر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته وطبيعة البيت الذي حل فيه، فإن اتفقت فحسن، وإلا فاستخرج بين الحرفين نسبة. ويتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية. وتحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينه كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية. ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم. واحذر ما يلي الأوتاد. وكذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة. وهذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان. ثم تأخذ مجموع العناصر وتحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية، فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد وهي عناصر الإمداد، يخرج أفق النفس الأوسط. وتطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط. وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة. ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى، فتحمل عليه أول رتب السريان، ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان.
ثم تضرب مجمرع أجزاء العناصر الأربعه أبداً في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل، والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل، وكذلك الثالث والرابع، فتجمع عوالم التفصيل وتحط من عالم الكل، تبقى العوالم المجردة، فتقسم على الأفق الأعلى يخرح الجزء الأول. ومن هنا يطرد العمل في التامة. وله مقامات في كتب ابن وحشية والبوني وغيرهما. وهذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن وغيره من فنون الحكمة الإلهية، وعليه مدار وجمع الزيارج الحرفيه والصنعة الإلهية والنيرجات الفلسفية. واللة الملهم وبه المستعان وعليه التكلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الفصل الثلاثون
علم الكيمياء
وهوعلم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة، ويشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك، فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك، حتى من الفضلات الحيوانية كالعظام والريش والبيض والعذرات فضلاً عن المعادن. ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل، مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير وجمد الذائب منها بالتكليس، وإمهاء الصلب بالقهر والصلابة وأمثال ذلك. وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونة الإكسير، وأنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل، مثل الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهباً إبريزاً. ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا اصطلاحاتهم بالروح، وعن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد. فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب والفضة هو علم الكيمياء.
وما زال الناس يؤلقون فيها قديماً وحديثاً. وربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها. وإمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها: علم جابر، وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز. وزعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علماً جميع ما فيها. والطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء. وكتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم، وجعله قريناً لكتابه الآخر في السحر والطلسمات الذي سماه غاية الحكيم. وزعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم، ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع.
وكلامه في ذلك الكتاب، وكلامهم أجمع في تآليفهم، هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك. ونحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز والألغاز. ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية، على حروف المعجم، من أبدع ما يجيء في الشعر، ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة، فلا تكاد تفهم. وقد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها، وليس بصحيح، لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطإ ما يذهبون إليه، حتى ينتحله. وربما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم. ومن المعلوم البين أن خالداً من الجيل العربي، والبداوة إليه أقرب، فهو بعيد عن العلوم والصنائع بالجملة، فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها؟ وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم، اللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن.
وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون، لأبي السمح في هذه الصناعة، وكلاهما من تلاميذ مسلمة، فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقة من التأمل. قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض: والمقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة، قد ذكرها الأولون واقتص جميعها أهل الفلسفة، من معرفة تكوين المعادن وتخلق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن، فمنعنا اشتهارها من ذكرها. ولكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فنبدأ بمعرفته. فقد قالوا: ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولاً ثلاث خصال: أولها هل تكون، والثانية من أي تكون، والثالثة من أي كيف تكون؟ فإذا عرف هذه الثلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم. فأما البحث عن وجودها والاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير. وأما من أي شيء تكون، فإنما يريدون بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل، وإن كان العمل موجوداً من كل شي بالقوة لأنها من الطبائع الأربع، منها تركبت ابتداءً وإليها ترجع انتهاءً. ولكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة ولا يكون بالفعل، وذلك أن منها ما يمكن تفصيلها ومنها ما لا يمكن تفصيلها. فالتي يمكن
تفصيلها تعالج وتدبروهي التي تخرج من القوة إلى الفعل ، والتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط، وإنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض، وفضل قوة الكبير منها على الصغير. فينبغي لك - وفقك الله - أن تعرف أوفق الاحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل وجنسه وقوته وعمله وما يدبرمن الحل والعقد والتنقية والتكليس والتنشيف والتقليب، فإن من لم يعرف هذه الاصول التي هي عماد هذه الصنعة، لم ينجح ولم يظفر بخيرأبداً.
وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أويكتفي به وحده وهل هو واحدٌ في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحداً فسمي حجرأ. وينبغي لك أن تعلم كيفية عمله وكمية أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الروح فيه وإدخال النفس عليه، وهل تقدر النارعلى تفصيلها منه بعد تركيبها. فإن لم تقدرفلآي علة وما السبب الموجب لذلك، فإن هذا هو المطلوب فافهم.
واعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس وزعمت انها المدبرة للجسد والحاملة له والدافعة عنه والفاعلة فيه. وذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات وبرد فلم يقدرعلى الحركة والامتناع من غيره، لأنه لا حياة فيه ولا نور. وإنما ذكرت الجسد والنفس، لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغداء والعشاء، وقوامه وتمامه بالنفس الحية النورانية، التي بها يفعل العظائم والأشياء المتقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها. وإنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه، ولو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتضاد، ولم تقدر النفس على الخروج من بدنه، ولكان خالدا باقيا. فسبحان مدبر الأشياء تعالى.
واعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء، فيضية، محتاجة إلى الانتهاء. وليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان، لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضاً، وصارت شيئاً واحداً، شبيها بالنفس في قوتها وفعلها، وبالجسد في تركيبه ومجسته، بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها. فيا عجباً من أفاعيل الطبائع، أن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها، فلذلك قلت: قويٌ وضعيف. وإنما وقع التغييروالفناء في التركيب الأول للاختلاف، وعدم ذلك في الثاني للاتفاق.
وقد قال بعض الأولين: التفصيل والتقطيع في هذا العمل حياة وبقاء، والتركيب موتٌ وفناءٌ. وهذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله: حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود،لآنه ما دام على تركيبه الأول، فهو فان لا محالة، فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء. والتركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل والتقطيع. فإذا التفصيل والتقطيع في هذ العمل خاصة. فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة، لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة لها، وذلك أنة لا وزن له فيه. وسترى ذلك إن شاء الله تعالى.
وقد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ بالغليظ، وإنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح والأجساد، لأن الأشياء تتصل بأشكالها. وذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق وأيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية. وقد يتصور في العقل أن الآحجار أقوى وأصبر على النار من الآرواح ، كما ترى أن الذهب والحديد والنحاس أصبر على النار من الكبريت والزئبق وغيرهما من الارواح. فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها، فلما أصابها حر الكيان قلبها أجساداً لزجة غليظة، فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها وتلزجها. فإذا أفرطت النار عليها، صيرتها أرواحأ، كما كانت أول خلقها. وإن تلك الأرواح اللطيفة، إذا اصابتها النار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها، فينبغي لك أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة، وصير الآرواح في هذا الحال، فهو أجل ما تعرفه.
أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها. وإنما اشتعلت لكثرة رطوبتها،ولآن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار، ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى. وكذلك الآجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها وغلظها. وإنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض وماء صابر على النار، فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء. وذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه، ودخول بعضه في بعض على غير التحليل والموافقة، فصار ذلك الانضمام والتداخل مجاورةً لا ممازجةً، فسهل بذلك افتراقهما، كالماء والدهن وما أشبههما. وإنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع وتقابلها. فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها.
وينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط، التي هي طبائع هذه الصناعة، موافقة بعضها لبعض، مفصلة من جوهر واحد، يجمعها نظام واحد بتدبير واحد، لا يدخل عليه غريب في الجزء منه، ولا في الكل، كما قال الفيلسوف: إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع وتأليفها ولم تدخل عليها غريبا، فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه، إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها، فمن أدخل عليها غريبأ فقد زاغ عنها ووقع في الخطإ.
واعلم أن هذه الطبيعة، إذا حل بها جسد من قرائنها، على ما ينبغي في الحل،حتى يشاكلها في الرقة واللطافة، انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى ، لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج، وحل الأجساد لا يكون بغير الآرواح. فافهم هداك الله هذا القول.
واعلم هداك الله ان هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل ولا ينتقض، وهو الذي يقلب الطبائع ويمسكها، ويظهر لها ألوانأ وأزهارا عجيبة. وليس كل جسد يحل خلاف هذا، هو الحل التام لأنه مخالف للحياة، وإنما حله بما يوافقه ويدفع عنه حرق النار، حتى يزول عن الغلظ، وتنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة والغلظ. فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل والتلطيف، ظهرت لها هنالك قوة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ. وكل عمل لا يرى له مصداق فى أوله، فلا خيرفيه. واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها، والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها، وإنما أفردت الحر والبرد لآنهما فاعلان، والرطوبة واليبس منفعلان، وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الآجسام وتتكون، وإن كان الحر أكثر فعلاً في ذلك من البرد، لأن البرد ليس له نقل الآشياء ولا تحركها، والحر هو علة الحركة. ومتى ضعفت علة الكون، وهو الحرارة، لم يتم منها شيء أبداً كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم بردٌ أحرقته وأهلكته. فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال، ليقوى به كل ضد على ضده ويدفع عنه حر النار. ولم يحذر الفلاسفة أكثر شيء إلا من النيران المحرقة. وأمرت بتطهير الطبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفى آفاتها وأوساخها عنها، وعلى ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم، فإنما عملهم إنما هو مع النار أولاً، وإليها يصير آخراً، فلذلك قالوا: إياكم ! والنيران المحرقات، وإنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها، فتجمع على الجسد آفتين، فتكون أسرع لهلاكه. وكذلك كل شىء إنما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضاد طبائعه واخلافه، فيتوسط بين شيئين، فلم يجد ما يقويه ويعينه إلا قهرته الآفة وأهلكته. واعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الألفة،أعني بذلك النار العنصرية، فاعلمه.
ولنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة، فقد اختلفوا فيه. فمنهم من زعم أنه في الحيوان ، ومنهم من زعم أنه في النبات، ومنهم من زعم أنه في المعادن، ومنهم من زعم أنه في الجميع. وهذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها، لأن الكلام يطول جدا. وقد قلت فيما تقدم: إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهوكذلك، فنريد أن تعلم من أي شي يكون العمل بالقوة والفعل، فنقصد إلى ما قاله الحراني، إن الصبغ كله احد صبغين: إما صبغ جسد، كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه، وهو مضمحل منتقض التركيب، والصبغ الثاني تقليب الجوهرمن جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه، كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه، وقلب الحيوان والنبات إلى نفسه حتى يصير التراب نباتأ والنبات حيوانا، ولا يكون إلا بالروح الحي والكيان الفاعل، الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان. فإذا كان هذا هكذا، فنقول: إن العمل لا بد أن يكون إما في الحيوان وإما في النبات، وبرهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما. فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة والقوة، ولذلك قل خوض الحكماء فيه. وأما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث ونهايتها، وذلك أن المعدن يستحيل نباتاً، والنبات يستحيل حيواناً، والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف منه، إلا أن ينعكس راجعاً إلى الغلظ، وأنه أيضاً لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح الحية غيره، والروح ألطف ما في العالم، ولم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها. فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ وكثافة، وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النبات، فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه. والروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيراً، وذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس، وليس للكامنة غيرقبول الغذاء وحده. ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء. كذلك النبات عند الحيوان، فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر. فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسراً.
واعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساماً من الآمهات التي هي الطبائع، والحديثة التي هي المواليد، وهذا معروث متيسر الفهم. فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساماً حيةً وأقساماً ميتةً، فجعلوا كل متحرك فاعلًا حياً، وكل ساكن مفعولاً ميتاً. وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذائبة وفي العقاقير المعدنية، فسموا كل شيء يذوب في النارويطير ويشتعل حياً، وما كان على خلاف ذلك سموه ميتا. فأما الحيوان والنبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعاً حياً، وما لم ينفصل سموه ميتاً، ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية.
فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولًا أربعةً ظاهرةً للعيان، ولم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان ، فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه وأخذوه ودبروه، فتكيف لهم منه الذي أرادوا. وقد يتكيف مثل هذا في المعادن والنبات بعد جمع العقاقير وخلطها، ثم تفصل بعد ذلك. فأما النبات، فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مثل الآشنان، وأما المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس، إذا مزجت ودبرت، كان منها ما له تأثير. وقد دبرنا كل ذلك، فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر. فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان، وطريق وجوده. إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد، وكذا ما تركب منه فهو ألطف منه، كالنبات من الأرض. وإنما كان النبات ألطف من الآرض، لأنه إنما يكون من جوهره الصافي وجسمه اللطيف، فوجب له بذلك اللطافة والرقة. وكذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب. وبالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعاً غيره. فافهم هذا القول فإنه لا يكاد يخفى، إلا على جاهل بين الجهالة ومن لا عقل له. فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر وأعلمتك وأنا أبين لك وجوه تدابيره، حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف، إن شاء الله سبحانه. التدبير على بركة الله: خذ الحجر الكريم، فأودعه القرعة والإنبيق، وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء والأرض والماء، وهي الجسد والروح والنفس والصبغ. فإذا عزلت الماء عن التراب، والهواء عن النار، فارفع كل واحد في إنائه على حدة، وخذ الهابط أسفل الإناء، وهو الثفل فاغسله بالنار الحارة، حتى تذهب النار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه، وبيضه تبييضاً محكماً وطير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه، فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضاد. ثم اعمد إلى تلك الطبائع الاول الصاعدة منه، فطهرها أيضاً من السواد والتضاد، وكرر عليها الغسل والتصعيد حتى تلطف وترق وتصفو. فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك، فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل. وذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج والتعفين: فأما التزويج، فهو اختلاط اللطيف بالغليظ، وأما التعفين فهو التمشية والسحق، حتى يختلط بعضه ويصير شيئاً واحداً لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء. فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف، وتقوى الروح على مقابلة النار وتصبر عليها، وتقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها. وإنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه، ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئاً واحداً ووجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح والفساد والبقاء والثبوت، ما يعرض للجسد لموضع الامتزاج.
وكذلك النفس إذا امتزجت بهما، ودخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين، أعني الروح والجسد، وصارت هي وهما شيئاً واحداً لا اختلاف فيه، بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه واتفقت أجزاؤه. فإذا لقي هذا المركب الجسد المحلول، وألح عليه النار، وأظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه، ذاب في الجسد المحلول. ومن شأن الرطوبة الاشتعال وتعلق النار بها، فإذا أرادت النار التعلق بها، منعها من الأتحاد بالنفس ممازجة الماء لها. فإن النار لا تتحد بالذهن حتى يكون خالصاً. وكذلك الماء من شأنه النفور من النار. فإذا ألحت عليه النار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه، فمنعه من الطيران، فكان الجسد علة لإمساك الماء، والماء علة لبقاء الذهن، والدهن علة لثبات الصبغ، والصبغ علة لظهور الدهن، وإظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها ولا حياة فيها. فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل. وهذه التصفية التي سألت عنها وهي التي سمتها الحكماء بيضة، وإياها يعنون لا بيضة الدجاج. واعلم أن الحكماء لم تسمها بهذا الاسم لغير معنى بل اشبهتها. ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوماً وليس عنده غيري، فقلت له: أيها الحكيم الفاضل، أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة؟ أختياراً منهم لذلك، أم لمعنى دعاهم إليه؟ فقال: بل لمعنى غامض! فقلت: ايها الحكيم، وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصناعة، حتى شبهوها وسموها بيضة؟ فقال لشبهها وقرابتها من المركب، ففكر فيه، فإنه سيظهر لك معناه. فبقيت بين يديه مفكراً لا أقدر على الوصول إلى معناه. فلما رأى ما بي من المكر، وأن نفسي قد مضت فيها، أخذ بعضدي وهزني هزة خفيفة، وقال لي: يا أبا بكر، ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان، عند امتزاج الطبائع وتأليفها. فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة، وأضاء لي نور قلبي وقوي عقلي على فهمه. فنهضت شاكراً لله عليه إلى منزلي، وأقمت على ذلك شكلاً هندسياً يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة. وأنا واضعه لك في هذا الكتاب.
مثال ذلك، أن المركب إذا تم وكمل، كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء، إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء، كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار، وكذلك الطبيعتان الآخريان: الأرض والماء، فأقول: إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة فهما متشابهان. ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزوح، فإذا أردنا ذلك فإنا نأخد أقل طبائع المركب، وهي طبيعة اليبوسة، ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة وندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة، وتقبل قوتها. وكأن في هذا الكلام رمزاً ولكنه لا يخفى عليك. ثم تحمل عليهما جميعاً مثليهما من الروح وهو الماء، فيكون الجميع ستة أمثال ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلاً من طبيعة الهواء التي هي النفس، وذلك ثلاثة أجزاء، فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة. وتجعل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين، فتجعل أولاً الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبعة الهواء، وهما ضلعا " ا ح د " ، وسطح أبجد وكذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء والهواء ضلعا هزوح، فأقول: إن سطح أبجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفساً، وكذلك " بج " من سطح المركب. والحكماء لم تسم شيئاً باسم شيء إلا لشبهه به. والكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة، وهي المنعقدة من الطبائع العلوية والسفلية. والنحاس هو الذي أخرج سواده وقطع حتى صار هباء، ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسياً، والمغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح. وتخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار، والفرفرة لون أحمر فإن يحدثه الكيان. والرصاص حجر، ثلاث قوى مختلفة الشخوض ولكنها متشاكلة ومتجانسة. فالواحدة روحانية نيرة صافية وهي الفاعلة، والثانية نفسانية وهي متحركة حساسة، غير أنها أغلظ من الأولى ومركزها دون مركز الأولى، والثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها، وهي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعاً والمحيطة بهما. وأما سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة، إلباساً على الجاهل، ومن عرف المقدمات استغنى، عن غيرها. فهذا جميع ما سألتني عنه وقد بعثت به إليك مفسراً ونرجو بتوفيق الله أن تبلغ أملك والسلام.
انتهى كلام ابن بشرون، وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيميا والسيمياء والسحر في القرن الثالث وما بعده.
وانت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الرمز والألغاز التي لا تكاد تبين ولا تعرف، وذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية. والذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء، وهو الحق الذي يعضده الواقع، أنها من جنس آثار النفوس الروحانية، وتصرفها في عالم الطبيعة: إما من نوع الكرامة، إن كانت النفوس خيرة، أو من نوع السحر، إن كانت النفوس شريرة فاجرة. فأما الكرامة فظاهرة، وأما السحر، فلأن الساحر، كما ثبت في مكان تحقيقه، يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية. ولا بد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها، كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر والنبات، وبالجملة من غير مادتها المخصوصة بها، كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصي، وكما ينقل عن سحرة السودان والهنود في قاصية الجنوب، والترك في قاصية الشمال، أنهم يسحرون الجو للأمطار وغير ذلك.
ولما كانت هذه تخليقاً للذهب في غير مادته الخاصة به، كان من قبيل السحر، والمتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة. ومن كان قبلهم من حكماء الأمم، إنما نحوا هذا المنحى، ولهذا كان كلامهم فيه ألغازاً حذراً عليها من إنكار الشرائع على السحر وأنواعه، لا أن ذلك يرجع إلى الصنانة بها، كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك. وانظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم، وسمى كتابه في السحر والطلسمات غاية الحكيم، إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه، لأن الغاية أعلى من الرتبة، فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات. ومن كلامه في الفنين يتبين ما قلناه، ونحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية. والله العليم الخبير.
الفصل الحادي والثلاثون
في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
هذا الفصل ومابعده مهم، لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن. وضررها في الدين كثير، فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها. وذلك أن قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله، الحسي منه وماوراء الحسي، تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل. وهؤلاء يسمون فلاسفة، جمع فيلسوف، وهو باللسان اليوناني محب الحكمة. فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه، ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل، وسموه بالمنطق. ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل، إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولاً صوراً منطبقة على جميع الأشخاص، كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع. وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل. ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى، وقد تميزت عنها في الذهن، فتجرد منها معان أخرى وهي التي اشتركت بها، ثم تجرد ثانياً، إن شاركها غيرها، وثالثاً، إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية، المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص، ولا يكون منها تجريد بعد هذا، وهي الأجناس العالية.
وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني. فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة، وطلب تصور الوجود كما هو، فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض، ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني، ليحصل تصور الوجود تصوراً صحيحاً مطابقاً إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر. وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية، والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم، لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي، وإنما التصديق وسيلة له، وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه، فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام، وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو. ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين. وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه، وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم، أنهم عثروا أولاً: على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس، ثم ترقى إدراكهم قليلاً فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس بالحيوانات، ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل. ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية. ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان، ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر، تسع مفصلة ذواتها جمل وواحد أول مفرد وهو العاشر. ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس، وتخلقها بالفضائل، وأن ذلك ممكن للإنسان، ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره، وميله إلى المحمود منها، واجتنابه للمذموم بفطرته، وأن ذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة، وأن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي، وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم.
وإمام هذه المذاهب، الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها، فيما بلغنا في هذه الأحقاب، هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون، وهو معلم الإسكندر ويسمونه: المعلم الأول على الإطلاق، يعنون معلم صناعة المنطق، إذ لم تكن قبله مهذبة. وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها. ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء، لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات.
ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رايه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المتقدمين، لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة، وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها، وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة، وأبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما.
واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه. فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب، فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله، فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك " ويخلق ما لا تعلمون " ، وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين، المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل والعقل، المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء. وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات، ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه، فهي قاصرة وغير وافية بالغرض. أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي، فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم، وبين ما في الخارج غير يقيني، لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة، والموجودات الخارجية متشخصة بموادها. ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي، الفهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك، فدليله شهوده لا تلك البراهين، فأين اليقين الذي يجدونه فيها؟ وربما يكون تصرف الذهن أيضاً في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية، فيكون الحكم حينئذ يقينياً بمثابة المحسوسات. إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج، لكمال الانطباق فيها، فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك. إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها، إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه، فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في دينا ولا معاشنا فوجب علينا تركها.
وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة، فإن ذواتها مجهولة رأساً، ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا. ونحن لا ندرك الذوات الروحانية، حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة، إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها، وخصوصاً في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد، وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه.
وقد صرح بذلك محققوهم، حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه، لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية. وقال كبيرهم أفلاطون: إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين، وإنما يقال فيها بالأحق والأولى، يعني الظن. وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط، فيكفينا الظن الذي كان أولاً، فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها، ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات، وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم.
وأما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين، فقول مزيف مردود، وتفسيره أن الإنسان مركب من جزأين: أحدهما جسماني والآخر روحاني ممتزج به، ولكل واحد من الجزأين مدارك مختضة به، والمرك فيهما واحد، وهو الجزء الروحاني، يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية، إلأ أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة، والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس. وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه. واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة، كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات، فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ. فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة، حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها، وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم، وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة.
والمتصوفة كثيراً ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة، فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية ومداركها، حتى الفكر من الدماغ، ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية، فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبرعنها. وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم، وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم.
فأما قولهم: إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه، فباطل كما رأيته، إذ البراهين والأدلة من جملة المدارك الجسمانية، لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر. ونحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها، لأنها منازعة له قادحة فيه. وتجد الماهر منهم عاكفاً على كتاب الشفاء والإشادات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره، يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها، ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها، ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها. ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة.
والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات، ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي، وقد رأيت فساده. وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك، إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة، وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس.
وأما قولهم: إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضاً، لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركاً آخر للنفس من غير واسطة، وأنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجاً شديداً، وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية، ولا بد، بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة.
وأما قولهم: إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه، فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط، في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه، وبينا فساد ذلك، وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانياً أو جسمانياً. والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكاً ذاتياً له مختصاً بصنف من المدارك، وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا، وليس بعام الإدراك في الموجودات كلها، إذ لم تنحصر، وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجاً شديداً، كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوئه. ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها، هيهات هيهات لما توعدون. وأما قولهم: إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم، فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها، لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية وألوانها.
وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الإدراكات الجسمانية والروحانية. فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط، الذي هو على مقاييس وقوانين. وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع، على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق، فأمر لا يحيط به مدارك المدركين. وقد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدإ والمعاد ما معناه: إن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس، لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة، فلنا في البراهين عليه سعة. وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان، لأنه ليس على نسبة واحدة، وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية، فلينظر فيها، ولنرجع في أحواله إليها.
فهذا العلم، كما رأيته، غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها، مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها. وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة، والحجاج لتحصيل ملكة الجودة، والصواب في البراهين. وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية، وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية، وهم كثيراً ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها، فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات، لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار. هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت. فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها، وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه، ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها. والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه. وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الفصل الثاني والثلاثون
في إبطال صناعة النجوم
وضعف مداركها وفساد غايتها هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات قي عالم العناصر قبل حدوثها، من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة. فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية. فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله، إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم والظن. وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن، فيحتاج تكرره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم. وربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها كانت بالوحي وهو رأي فائل، وقد كفونا مؤونة إبطاله.ومن أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء، عليهم الضلاة والسلام، أبعد الناس عن الصنائع، وأنهم لا يتعرضون للأخبار عن الغيب إلأ أن يكون عن الله، فكيف يدعون استنباطه بالصناعة، ويشيرون بذلك لتابعيهم من الطق. وأما بطليموس ومن تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية، قال لأن فعل النيرين وأثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحداً جحده، مثل فعل الشمس في تبدل الفصول وأمزجتها ونضج الثمار والزرع وغير ذلك، وفعل القمر في الرطوبات والماء وإنضاج المواد المتعفنة وفواكه القناء وسائر أفعاله.
ثم قال: ولنا فيما بعدهما من الكواكب طريقتان: الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة، إلا أنه غير مقنع، للنفس. والثانية الحدس والتجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة، فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القرآن في قوته ومزاجه، فتعرف موافقته له في الطبيعة، أو ينقص عنها فتعرف مضادته. ثم إذا عرفنا قواها مفرعة عرفناها مركبة وذلك عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وغيرهما، ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضاً إلى النير الأعظم.
وإذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء، وذلك ظاهر. والمزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحتها من المولدات، وتتخلق به النطف والبزر فتصير حالاً للبدن المتكون عنها، وللنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه، ولما يتبع النفس والبدن من الأحوال، لأن كيفيات البزرة والنطفة كيفيات لما يتولد عنهما وينشأ منهما. قال وهو مع ذلك ظني وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضاً من القضاء الإلهي يعني القدر، إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن، والقضاء الإلهي سابق على كل شيء. هذا محصل كلام بطليموس وأصحابه، وهو منصوص في كتابه الأربع وغيره. ومنه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة. وذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصورة والغاية، على ما تبين في موضعه. والقوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط والجزء العنصري هو القابل. ثم إن القوى النجومية ليست هى الفاعل بجملتها، بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب والنوع التي في النطفة، وقوى الخاصة التي تميز بها صنف صنف من النوع وغير ذلك.
فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها، إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن. ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين، وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن. والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصناعة، فإذا فقد هذا الحدس والتخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك. هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده ولم تعترضه آفة، وهذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها، ولما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه.
ومدرك بطليموس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف، لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى من الكواكب، ومستولية عليها، فقل أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال، وهذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة. ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل، إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله، بطريق استدلالي كما رأيته. واحتج له أهل علم الكلام، بما هو غني عن البيان، من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية، والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير، فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف. والقدرة الإلهية رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علواً وسفلاً، سيما والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ مما سوى ذلك.
والنبوات أيضاً منكرة لشأن النجوم وتأثيراتها. واستقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله: " إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته " ، وفي قوله: " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي. فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب " ، الحديث الصحيح.
فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع، وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل، مع ما لها من المضار في العمران الإنساني، بما تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيتي، فيلهبج بذلك من لا معرفة له، ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك. فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها. ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع، وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء المتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة. وقد شاهدنا من ذلك كثيراً فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران، لما ينشأ عنها من المضار في الدين والدول، ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعياً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم. فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما، وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما، فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشر والمضار.
هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره. وليعلم من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها، فلا يمكن أحداً من أهل الملة تحصيل علمها ولا ملكتها، بل إن نظر فيها ناظر وظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر. فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها، وصار المولع بها من الناس، وهم الأقل وأقل من الأقل، إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستراً عن الناس وتحت ربقة الجمهور، مع تشعب الصناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم، فكيف يحصل منها على طائل؟.
ونحن نجد الفقه الذي عم نفعه ديناً ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة وعكف الجمهورعلى قراءته وتعليمه، ثم بعد التحقيق والتجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعددها، إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال. فكيف يعلم مهجور للشريعة، مضروب دونه سد الحظر والتحريم، مكتوم عن الجمهور، صعب المآخذ، محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من الناظر، فأين التحصيل والحذق فيه مع هذه كلها. ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة وقلة حملته، فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه. والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً.
ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء، وقال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس:
أستغفر الله كل حين ... قد ذهب العيش والهناء
أصبح في تونس وأمسي ... والصبح لله والمساء
الخوف والجوع والمنايا ... يحدثها الهرج والوباء
والناس في مرية وحرب ... وماعسى ينفغ المراء
فأحمدي يرى علياً ... حل به الهلك والتواء
وآخر قال سوف يأتي ... به إليكم صباً رخاء
والله من فوق ذا وهذا ... يقضي لعبديه مايشاء
ياراصد الخنس الجواري ... ما فعلت هذه السماء
مطلتمونا وقد زعمتم ... أنكم اليوم أملياء
مر خميس على خميس ... وجاء سبت وأربعاء
ونصف شهر وعشر ثان ... وثالث ضمه القضاء
ولا نرى غير زور قول ... أذاك جهل أم ازدراء
إنا إلى الله قد علمنا ... أن ليس يستدفع القضاء
رضيت بالله لي إلهاً ... حسبكم البدر أو ذكاء
ما هذه الأنجم السواري ... إلا عباديد أو إماء
يقضى عليها وليس تقضي ... ومالها في الورى اقتضاء
ضلت عقول ترى قديماً ... ما شأنه الجرم والفناء
وحكمت فى الوجود طبعاً ... يحدثه الماء والهواء
لم تر حلواً إزاء مر ... تغذ وهمو تربة وماء
الله ربي ولست أدري ... ما الجوهر الفرد والخلاء
ولا الهيولى التي تنادي ... ما لي عن صورة عراء
ولا وجود ولا انعدام ... ولا ثبوت ولا انتفاء
ولست أدري ما الكسب إلا ... ما جلب البيع والشراء
وإنما مذهبي وديني ... ما كان والناس أولياء
إذ لا فصول ولا أصول ... ولا جدال ولا ارتياء
ما تبع الصدر واقتفينا ... يا حبذا كان الاقتفاء
كانوا كما يعلمون منهم ... ولم يكن ذلك الهذاء
يا أشعري الزمان إني ... أشعرني الصيف والشتاء
أنا أجزي بالشر شراً ... والخير عن مثله جزاء
وإنني إن أكن مطيعاً ... فلست أعصي ولي رجاء
وإنني تحت حكم بار ... أطاعه العرش والثراء
ليس انتصار لكم ولكن ... أتاحه الحكم والقضاء
لو حدث الأشعري عمن ... له إلى رأيه انتماء
لقال أخبرهم بأني ... مما يقولونه براء
الفصل الثالث والثلاثون
في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها
وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها اعلم أن كثيراً من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع، ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه، فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاق ومعاناة الصعاب وعسف الحكام وخسارة الأموال في النفقات، زيادة على النيل من غرضه والعطب آخراً إذا ظهر على خيبة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وإنما أطعمهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة، فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهباً والنحاس والقصدير فضة، ويحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة، ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج، المسماة عندهم بالجحر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك.وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء، بعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها، ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب. ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراح مائها أو ترابها. فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته، حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير، ويزعمون أنه إذا القي على الفضة المحماة بالنار عادت ذهباً، أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على حسب ما قصد به في عمله.
ويزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة، حصل فيها بذلك العلاج الخاص والتدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها، وتقلبه إلى صورتها ومزاجها، وثبت فيه ما حصل فيها من الكيفيات والقوى، كالخميرة للخبز، تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة، ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء. وكذا إكسير الذهب والفضة فيما يحصل فيه من المعان، يصرفه إليهما ويقلبة إلى صورتهما.
هذا محصل زعمهم على الجملة، فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق والمعاش فيه، ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم، ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها، إذ هي في الأكثر تشبه المعمى. كتأليف جابر بن حيان في رسائله السبعين، ومسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم، والطغرائي والمغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم وأمثالها، ولا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها.
فاوضت يوماً شيخنا أبا البركات التلفيفي، كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التآليف فيها، فتصفحه طويلاً، ثم رده إلي وقال لي، وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة. ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط. إما الظاهرة، كتمويه الفضة بالذهب، أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزأين أو ثلاثة، أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن لصناعة، مثل تبييض النحاس وتليينه بالزوق المصعد، فيجيء جسماً معدنياً شبيهاً بالفضة، ويخفى إلا على النقاد المهرة، فيقدر أصحاب هذه الدلس، مع دلستهم هذه، سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويهاً على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسؤاهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس ، فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاساً في الفضة وفضة في الذهب، ليستخلصها لنفسه، فهو سارق وأشر من السارق.
ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار، يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم، بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة، والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في طلبهما، فيحصلون من ذلك على معاش. ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة، إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة، فيفرون إلى موضع آخر، ويستجدون حالاً آخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم. ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم. وهذا الصنف لا كلام معهم، لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة، ولا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم، وتناولهم من حيث كانوا، وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم، لأن فيه إفساداً للسكة التي تعم بها البلوى، وهي متمول الناس كافة. والسلطان مكلف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها. وأما من انتحل هذه الصناعة، ولم يرض بحال الدلسة، بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم، وإنما يطلب إحالة الفضة للذهب، والرصاص والنحاس والقصدير إلى الفضة بذلك النحو مع العلاج، وبالإكسير الحاصل عنده، فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم لذلك. مع أنا لا نعلم أن أحداً من أهل العلم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية. إنما تذهب أعمارهم في التدبير والفهر والصلابة والتصعيد والتكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها. ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم، ممن تم له الغرض منها أو وقف إلى الوصول، يقنعون باستماعها والمفاوضة فيها، ولا يستريبون في تصديقها، شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به، فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه، وقالوا إنما سمعنا ولم نر. هكذا شأنهم في كل عصر وجيل.
واعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم، وقد تكلم الناس فيها من المتقدمين والمتأخرين. فلننقل مذاهبهم في ذلك، ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه، فنقول: إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة، وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين: هل هي مختلفات بالفصول، وكلها أنواع قائمة بأنفسها، أو أنها مختلفة بخواص من الكيفيات، وهي كلها أصناف لنوع واحد؟ فالذي ذهب إليه أبو نصر الفارابي، وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد، وأن اختلافها إنما هو بالكيفيات، من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان، من الصفرة والبياض والسواد، وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد. والذي ذهب إليه ابن سينا، وتابعه عليه حكماء المشرق، أنها مختلفة بالفصول، وانها أنواع متباينة، كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته، له فصل وجنس شأن سائر الأنواع. وبنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض، لإمكان تبدل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصنعة.
فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخد. وبنى أبو علي ابن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة واستحالة وجودها، بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه، وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل. والفصول مجهولة الحقائق رأساً بالتصور، فكيف يحاول انقلابها بالصنعة. وغلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول. ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه، إنما هو إعداد المادة لقبوله خاصة. والفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه، كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء.
ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته، قال: وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات، مع الجهل بفصولها، مثل العقرب من التراب والنتن، ومثل الحيات المتكونة من الشعر، ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر. وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكراً بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون ، فما المانع إذاً من العثور على مثل ذلك في الذهب والفضة، فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة. ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها. انتهى كلام الطغرائي بمعناه. وهذا الذي ذكره في الرد على ابن سينا صحيح. لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة، مأخذاً آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين، لا الطغرائي ولا ابن سينا. وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى إحالته ذهباً أو فضة، ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر. لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله، وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين، دورة الشمس الكبرى. فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة، فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته، وذلك هو الإكسير على ما تقدم.
واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية، فلا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة، إذ لو كانت متكافئة في النسبة لمأ تم امتزاجها، فلا بد من الجزء الغالب على الكل. ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية، هي الفاعلة لكونه، الحافظة لصورته. ثم كل متكون في زمان، فلا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور، حتى ينتهي إلى غايته. وانظر شأن الإنسان في طور النطفة، ثم العلقة، ثم المضغة، ثم التصوير، ثم الجنين، ثم المولود، ثم الرضيع، ثم ثم إلى نهايته. ونسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها، وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الآخر، وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر. فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين، وما ينتقل فيه من الأحوال، فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن، ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم.
ومن شرط الصناعة أبداً تصور ما يقصد إليه بالصنعة. فمن الأمثال السائرة للحكماء: أول العمل آخر الفكرة، وآخر الفكرة أول العمل. فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور، واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة، ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز، وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها. وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط، والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك. وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني. ونحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفة تخليقه في رحمه، وعلم ذلك علماً محصلاً بتفاصيله، حتى لا يشذ منه شيء عن علمه، سألنا له تخليق هذا الإنسان، وأنى له ذلك!!.
ولنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول: حاصل صناعة الكيمياء، وما يدعونة بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعة المعدنية بالفعل إلى الصناعي، ومحاذاتها به، إلى أن يتم كون الجسم المعدني، أو تخليق مادة بقوى وأفعال وصورة مزاجية تفعل في الجسم فعلاً طبيعياً فتصيره وتقلبه إلى صورتها. والفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية، التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها، أو فعل المادة ذات القوى فيها، تصوراً مفصلاً واحدة بعد أخرى. وتلك الأحوال لا نهاية لها، والعلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها، وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات.
هذا محصل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته، وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطبيعة، إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها. وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك، وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته. وذلك أن حكمة الله في الحجرين، وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس ومتمولاتهم. فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك، وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء. وله وجه آخر من الاستحالة أيضاً، وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد. فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح، وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً، لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته، في كون الفضة والذهب وتخلقهما. وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات، مثاله في الطبيعة كالعقرب والنحل والحية وتخليقها، فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم. وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها، وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء إلى هلم جرا، ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة. ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه، وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا، وأما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك، فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد، والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع. والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى، فهو تكوين وصلاح، والتكوين أصعب من الفساد، فلا يقاس الإكسير بالخميرة. وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها، مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم، فليست من باب الصنائع الطبيعية، ولا تتم بأمر صناعي. وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما، هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق، وما كان من ذلك للحلاج وغيره، وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك. وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى. وهذا كلام جابر في رسائله. ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه. وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع. فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشباً أو حيواناً فيما عدا مجرى تخليقه، كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع، فكذلك من طلب الكيمياء طلباً صناعياً ضيع ماله وعمله. ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم، لأن نيله إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع، فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد، ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة، أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء. قال تعالى: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني، فتنفخ فيها، فتكون طيراً بإذني " !. وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها. فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره، فتكون عنده معارة. وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها، فلا تتم في يد غيره.
ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً، فقد تبين أنها إنما تقغ بتأثير النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحراً. ولهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها ألغازاً، لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة. وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها. والله بما يعملون محيط.
وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش، وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية، كالفلاحة والتجارة والصناعة، فيستصحب العاجز ابتغاءه من هذه، ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها. وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران. وللناس أقوال كثيرة - حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها. فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء، فكان من أهل الغنى والثروة، والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه. وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفرس المولعة بطرقها وانتحالها. والله الرزاق، ذو القوة المتين، لا رب سواه.
الفصل الرابع والثلاثون
في أن كثرة التآليف في العلوم..
عائقة عن التحصيل اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم، وتعدد طرقها، ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك. وحينئذ يسلم له منصب التحصيل، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها. ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها، فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل. ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية، مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية، وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه. ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم، والإحاطة بذلك كله، وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد. والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها، والعمر ينقضي في واحد منها.ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط، لكان الأمر دون ذلك بكثير، وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً، ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه، فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها. ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه، وجميع ما كتب عليه، وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم، وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك. وكيف يطالب به المتعلم، وينقضي عمره دونه، ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر؟، مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد، من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام، ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة، لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما، لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه. ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين، سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف، ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء. وهذا نادر من نوادر الوجود، وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله، فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة، فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة؟ ولكن الله يهدي من يشاء.
الفصل الخامس والثلاثون
في المقاصد التي ينبغي اعتمادها
بالتأليف وإلغاء ما سواهااعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً، ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً، إما بغير وسط أو بوسط، حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها. فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر: إما على وجه التعليم، أو على وجه المفاوضة، تصقل الأفكار في تصحيحها. وذلك البيان إنما يكون بالعبارة، وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف، وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر، وإن كان معظمها وأشرفها العلوم، فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم. وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدي بها ما في الضمير، لمن توارى أو غاب شخصه وبعد، أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه. وهذا البيان منحصر في الكتابة، وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات، فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي، فلهذا، كانت في الرتبة الثانية واحداة فسمي هذا البيان. يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف، فهو أشرفها. وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة، لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر، وهؤلاء هم المؤلفون. والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير، ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأجيال عن الأمم والدول. وأما العلوم الفلسفية، فلا اختلاف فيها، لأنها إنما تأتي على نهج واحد، فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية، في تصور الموجودات على ما هي عليه، جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها. فإن هذه العلوم لا تختلف، وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل، أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر. ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها، ويسمى ذلك قلماً وخطاً. فمنها الخط الحميري، ويسمى المسند، وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين، وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر كما يخالف لغتهم. وإن الكل عربياً. إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك. ولكل منهما قوانين كلية مستقراة من عبارتهم غير قوانين الآخرين. وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة. ومنها الخط السرياني، وهو كتابة النبط والكلدانيين. وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم، وهذا وهم، ومذهب عامي. لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع، وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة، فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثيرمن البلداء في اللغة العربية، فيقولون: العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع، وهذا وهم. ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم. ومنها الخط اللطيني، خط اللطينيين من الروم، ولهم أيضاً لسان مختص بهم. ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها. مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم. وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى. أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا، وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما. وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما، فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني. وأما اللطيني فكان الروم، وهم أهل ذلك اللسان، لما أخذوا بدين النصرانية، وهو كله من التوراة، كما سبق في أول الكتاب، ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم، ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق. وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها. وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية، وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها. ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي اعتمادها وإلغاء ما سواها، فعدوها سبعة:
أولها استنباط العلم بموضرعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله، أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره، لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف، لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة، كما وقع في الأصول في الفقه. تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها، ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها، وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن.
وثانيها: أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه، لتصل الفائدة لمستحقها. وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول، وهو فصل شريف.
وثالثها: أن يعثر المتأخر على غلط اوخطإ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته، ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه، فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده، إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار، وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه، فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك.
ورابعها: أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله، ولا يبقى للنقص فيه مجال.
وخامسها: أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة، فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها، ويجعل كل مسألة في بابها، كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم، وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك ، فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة. فنجد في كل باب مسائل من غيره. واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده.
وسادسها: أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض ا لفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله، فيفعل ذلك، ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم، كما وقع في علم البيان. فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة، تننه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم، فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة، وصارت أصولاً لفن البيان، ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم.
وسابعها: أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك، بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر، إن وقع، مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول.
فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها. وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعيين سلوكها في نظر العقلاء، مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس، من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه، أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه، أو يبدل الصواب بالخطأ، أو يأتي بما لا فائدة فيه. فهذا شأن الجهل والقحة. ولذا قال أرسطو، لما عدد هذه المقاصد، وانتهى إلى آخرها فقال: وما سوى ذلك ففصل أو شره، يعني بذلك الجهل والقحة. نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه. والله يهدي للتي هي أقوم.
الفصل السادس والثلاثون
في أن كثرة الاختصارات..
الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليمذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والانحاء في العلوم، يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصرمسأئله وأدلتها، باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن. فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم. وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان، فاختصروها تقريباً للحفظ، كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم. وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، وهو من سوء التعليم كما سيأتي. ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعل بتتمع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها. لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات، إذا تم على سداده، ولم تعقبه آفة، فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة مايقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة. وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين، فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها. " ومن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له " . والله سبحانه وتعالى أعلم.
الفصل السابع والثلاثون
في وجه الصواب في تعليم العلوم
وطريق إفادتهاعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً، إذا كان على التدريج، شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب. ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه، حتى ينتهي إلي آخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها جزئية وضعيفة. وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله. ثم يرجع به إلى الفن ثانية، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفى الشرح والبيان، ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته. ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته. هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات. وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته، ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه، ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله، فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً. ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة، إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية. ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً، بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه، حتى تتم الملكة في الاستعداد، ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن. وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهوحينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها، وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه. وإنما أتى ذلك من سوء التعليم. ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره. لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خلط عليه الأمر عجزعن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم. والله يهدي من يشاء.
وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها، لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها. وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان، كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة، لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره، وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه. والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً، فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر، فيستغلقان معاً ويستصعبان، ويعود منهما بالخيبة. وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجدر بتحصيله. والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
الفكر الإنساني
واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك، فإن تلفيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة، ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة. وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها، وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة، فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته، وهو وجدان حركة للنفس، في البطن الأوسط من الماغ. تارة يكون مبدءاً للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب، وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوجه إلى المطلوب. وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته، فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما، أسرع من لمح البصر إن كان واحداً. وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً، ويصير إلى الظفر بمطلوبه. هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشرمن بين سائر الحيوانات.
ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطيعة الفكرية النظرية، تصفه ليعلم سداده من خطئه. لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً، إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج، فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض. فالمنطق، إذا، مر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها، ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر. ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق، ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى، فإن ذلك أعظم معنى. ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها، فتفضي بهم لطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه.
ثم من دون هذا الأمر الصناعي، الذي هو المنطق، مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ، ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان بالخطاب. فلا بد أيها المتعلم من مجاوزتك هذه الحجب كلها إلى الفكر في مطلوبك.
فأولاً: دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها، ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة، ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناضة المنطق، ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه. وليس كل أحد يتجاوز هذه للمراتب بسرعة، ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة ، بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات، فقعد عن تحصيل المطلوب. ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله.
فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أوتشغيب بالشبهات في ذهنك، فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات، واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه. وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه، واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك، متعرضاً للفتح من الله، كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون. فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك، وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه. وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها، فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي، ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان.
وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها، وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح، فلا تتميز جهة الحق منها، إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع، فيستمر ما حصل من الشك والارتياب، وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله. وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين، سيما من سبقت له عجمة في لسانه، فربطت على ذهنه، أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له، فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع، فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها، ولا يكاد يخلص منها. والذريعة إلى إدرك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه، إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى. وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر، فيساوقه لذلك في الأكثر. فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى، متى أعوزك فهم المسائل، تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب. واللة الهادي إلى رحمته، وما العلم إلا من عند الله.
؟الفصل الثامن والثلاثون ؟في أن العلوم الآلية لا توسع فيها الأنظار ولا تفرع المسائل اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات، كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام، وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم، كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة. وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين. فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار، فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة. وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط. ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل، لأن ذلك يخرج بها عن المقصود، إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير. فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً، مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها. وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها، مع أن شأنها أهم، والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة، فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني.
وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق، لا بل وأصول الفقه، لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها. وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو، وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق، لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل. فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل، فمتى يظفرون بالمقاصد، فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده. فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل، ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً. وكل ميسر لما خلق له.
الفصل التاسع والثلاثون
في تعليم الولدان
واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه.اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه. واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان، باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات. فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب، إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه، فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة.
وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر، أمم المغرب، في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة. وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره. فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم. وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يراعونه في التعليم. إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم. فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب.
ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة، لو كان فيها سند لتعليم العلوم. لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم، ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول. وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم.
وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب، ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها، إلا أن عنايتهم بالقرآن، واستظهار الولدان إياه، ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه، وعنايتهم بالخط تبع لذلك. وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس، لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس، واستقروا بتونس، وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك.
وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا، ولا أدري بم عنايتهم منها. والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده، كما تعلم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان. وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة، ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه، ويبتغيه من أهل صنعته.
فأما أهل إفريقية والمغرب، فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة، وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله، فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها. وليس لهم ملكة في غير أساليبه، فلا يحصل لصاحبه ملكة فى اللسان العربي، وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب، لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه، فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل، إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة، لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله.
وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل وممارسة العربية من أول العمر، حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي. وقصروا في سائر العلوم، لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها. فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر، على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس. قال: " لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة، فساداً للغة، ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين، ثم ينتقل إلى درس القرآن، فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة " ثم قال: " ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر، غيره أهم عليه منه " . قال: " ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه " . ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان، إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي، أبو بكر رحمه الله، وهو لعمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد، من تقديم دراسة القرآن، إيثاراً للتبرك أو الثواب، وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم ، فيفوته القرآن، لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم. فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة، فألقته بساحل البطالة، فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم، وقبوله التعليم، لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغزب والمشرق. ولكن الله يحكم ما يشاء، لا معقب لحكمه سبحانه.
الفصل الأربعون
في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم، سيما في أصاغر الولد، لأنه من سوء الملكة. ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم، سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره، خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلمه المكر والخديعة لذلك، وصارت له هذه عادة وخلقاً، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله.وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها، فارتكس وعاد في أسفل السافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف، واعتبره في كل من يملك أمرة عليه. ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به. وتجد ذلك فيهم استقراء. وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج، ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد، وسببه ما قلناه. فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب. وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه، الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين: " لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً " . ومن كلام عمر رضي الله عنه: " من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله " . حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب، وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له، فإنه أعلم بمصلحته.
ومن أحسن مذاهب التعليم، ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده. قال خلف الأحمر: بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال: " يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين. أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم، إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد، إذا حضروا مجلسه. ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه، فتميت ذهنه. ولا تمعن في مسامحته، فيستحلي الفراغ ويألفه. وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. انتهى " .
الفصل الحادي والأربعون
في أن الرحلة في طلب العلوم..
ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل: تارة علماً وتعليماً وإلقاءً، وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة. إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً. فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها. والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم. ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين. فلقاء أهل العلوم، وتعدد المشايخ، يفيده تمييز الاصطلاحات، بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل. وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات. ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم. وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية. فالرحلة لا بد منها في طلب العلم، لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.الفصل الثاني والأربعون
في أن العلماء من بين البشر..
أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكري والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن، أموراً كلية عامة، ليحكم عليها بأمر على العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا آفة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها، بما اعتادوه من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة، وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك، كالأحكام الشرعية، فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة، فتطلب مطابقة ما في الخارج لها، عكس الأنظار في العلوم العقلية، التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج. فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها. والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها، فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها.ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر، إذ كما اشتبها في أمر واحد، فلعلهما اختلفا في أمور، فتكون العلماء، لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة، أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم. ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران، لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم، إلى مثل شأن الفقهاء، من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط. والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس، لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم، ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه، كالسابح لا يفارق البر عند الموج .قال الشاعر:
فلا توغلن إذا ماسبحت ... فإن السلامة في الساحل
فيكون مأموناً من النظر في سياسته، مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه، فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره، باستقامة نظره. وفوق كل ذي علم عليم. ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مألوفة الغلط، لكثرة ما فيها من الانتزاع، وبعدها عن المحسوس، فإنها نظر في المعقولات الثواني. ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني. وأما النظر في المعقولات الأول، وهي التي تجريدها قريب، فليس كذلك، لإنها خيالية، وصور المحسوسات. حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل الثالث والأربعون
في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم، وليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية، إلا في القليل النادر. وإن كان منهم العربي في نسبه، فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته، مع أن الملة عربية، وصاحب شريعتها عربي. والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة، لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة، وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه، كان الرجال ينقلونها في صدورهم، وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة، بما تلقوة من صاحب الشرع وأصحابه. والقوم يرمئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين، ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة.وجرى الأمر على ذلك زمن الصحاية والتابعين وكانوا يسموق المختصين بحمل ذلك. ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين، لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً، فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء، إشارة إلى هذا. فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله، لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه. ومن الحديث، الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح قال صلى الله عليه وسلم: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي " . فلما، بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية، وتقييد الحديث مخافه ضياعه، ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه، ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان، فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية، وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس، واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها: من معرفة قوانين العربيه وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد، فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم، فاندرجت في جملة الصنائع.
وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها. والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر، الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف، لإنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس، فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما، وكلهم عجم في أنسابهم. وإنما ربوا في اللسان العربي، فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب، وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم.
وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق.
وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف، وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين. ولم يقم بحفظ العلم وتدوييه إلا الأعاجم. وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: " لو تعلق العلم بأكناف السماء، لناله قوم من أهل فارس " .
وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم، والنظر فيه، فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها، مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع. والرؤساء ابداً يستنكفون عن الصنائع والمهن، وما يجر إليها، ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين. وما زالوا يرون لهم حق القيام به، فإنه دينهم وعلومهم، ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار. حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم، صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك، بما هم عليه من البعد عن نسبتها، وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم، في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية. فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم.
وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه.
واستقر العلم كله صناعة، فاختصت بالعجم وتركها العرب، وانصرفوا عن انتحالها، فلم يحملها إلا المعربون من العجم، شأن الصنائع كما قلناه أولاً. فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر. فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة، التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع، ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة. واختص العلم ألامصار الموفورة الحضارة. ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع. وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر، لما هناك من حضارة بالدولة التي فيها، فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر. وقد دلنا إلى ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف، وصلت إلينا إلى هذه البلاد، وهو سعد الدين التفتازاني. وأما غيره من العجم، فلم نر لهم، من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين طوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة. فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة. والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل والحمد لله.
الفصل الرابع والأربعون
في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان
قصرت بصاحبها في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربيوالسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية، من بين العلوم الشرعية، التى هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤدية لها، وهي كلها في الخيال، وبين العلوم العقلية، وهي في الذهن. واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني، يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم، وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك. والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر، وروابط وختام عن المعاني. ولا بد في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها، وجودة الملكة لناظر فيها، وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص. وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة، بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها، شأن البديهي والجبلي، زال، ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم، أو خف، ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط. هذا كله إذا كان التعليم تلقيناً وبالخطاب والعبارة. وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم، كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب، وبين الألفاظ المقولة في الخيال. لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة. وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة، وإن عرف بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة، ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه، من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول. وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمه ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني. وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط. هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة. والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم. ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها، وكانت أمية النزعة والشعار، فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب وصيروا علومهم الشرعية صناعة، بعد أن كانت نقلاً فحدثت فيهم الملكات، وكثرت الدواوين والتآليف، وتشوفوا إلى علوم الأمم .فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم، وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم، وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباء منثوراً. وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب، ودواوينها المسطرة بخطهم، واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن، لدروسها وذهاب العناية بها. وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان، وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد، قإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة، صار مقصراً في اللغة العربية، لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل، فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعه أخرى، وهو ظاهر. وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر. إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية، كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم، فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم، ولا ايكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية. وكذا أيضاً شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي. ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التقاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني. وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك، بتمام ملكته، وإنه صار له فهم الأقوال من الخط، والمعاني من الأقوال، كالجبلة الراسخة، وارتفعت الححب بينه وبين المعاني. وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة، وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة، كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم، إلا أنه في النادر. وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم، كان باع العربي أطول وملكته أقوى، لما عند المستعجم من الفتور بالعجمه السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن
علماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.لماء الإسلام أكثرهم العجم، لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم. وأما عجمة اللغة فليست من ذلك، وهي المرادة هنا. ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم. والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه، ومن غير خطه الذي يعرف ملكته. فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه. وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج، وسائر من ليس من أهل اللسان العربي. وفي ذلك آيات للمتوسمين.
الفصل الخامس والأربعون
في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة: وهي اللغة والنحو والبيان والأدب. ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة، إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغتهم، فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة. وتتفاوت قي التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام، حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً. والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو، إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجهل أصل الإفادة. وكان من حق علم اللغة التقدم، لولا ان أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها، لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه، فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر. فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة، إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة، وليست كذلك اللغة. واللة سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.علم النحواعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ، عن القصد بإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم. وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد، لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني. مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف، ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى. وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب. وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة، ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب. وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت، أي الأوضاع، اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها. إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا.
فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك، الذي كان في أيدي الأمم والدول، وخالطوا العجم، تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم. والسمع أبو الملكات اللسانية، ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها، لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها، فينغلق القرآن والحديث على المفهوم ، فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة، شبه الكليات والقواعد، يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه. مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب، والمبتدأ مرفوع. ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات، فاصطلحوا على تسميته إعراباً، وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك. وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم، فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة، واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو. وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة، ويقال بإشارة علي رضي الله عنه، لأنه رأى تغير الملكة، فأشار عليه بحفظها، ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة، ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد، أحوج ما كان الناس إليها، لذهاب تلك الملكة من العرب. فهذب الصناعة وكمل أبوابها. وأخذها عنه سيبويه، فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها، ووضع فيها كتابه المشهور، الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده. ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين، يحذون فيها حذو الإمام في كتابه.
ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها، في الكوفة والبصرة: المصرين القديمين للعرب. وكثرت الأدلة والحجاج بينهم، وتباينت الطرق في التعليم، وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن، باختلافهم في تلك القواعد، وطال ذلك على المتعلمين. وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار، فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل، كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله، أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين، كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له. وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى، وابن معطي في الأرجوزة الألفية. وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها، وطرق التعليم فيها مختلفة، فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين. والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك.
وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران، ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر، منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها، استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة. وتكلم على الحروف والمفردات والجمل، وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب. وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها، وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل، الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه، فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه. والله يزيد في الخلق ما يشاء
علم اللغةهذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية. وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي، في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب، واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه. ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم، حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ، فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم، ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية، فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين، خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث، فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين. وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي. ألف فيها كتاب العين، فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها، من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي، وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي.
وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة، وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين، وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد. لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين، فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية. ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك. ثم الثالث والرابع. ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين، فيكون واحداً، فتكون كلها أعداداً على توالي الأعداد من واحد إلى سبعة وعشرين، فتجمع كما هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الاخير وتضرب المجموع في نصف العدة. ثم تضاعف، لأجل قلب الثنائي، لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب، فيكون الخارج جملة الثنائيات.
وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً، فتكون ثلاثية. فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية، وهي ستة وعشرون حرفاً، بعد الثنائية، فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد، ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة، جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية، فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم. وكذلك في الرباعي والخماسي. فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه، ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف. واعتمد فيه ترتيب المخارج، فبدأ بحروف الحلق، ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس، ثم الشفة، وجعل حروف العلة آخراً، وهي الحروف الهوائية. وبدأ من حروف الحلق بالعين، لأنه الأقصى منها. فلذلك سمي كتابه بالعين، لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا، وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ. ثم بين المهمل منها من المستعمل، وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله، ولحق به الثنائي لقلة دورانه، وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب، فكانت أوضاعه أكثر لدورانه. وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه.
وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس، في المائه الرابعة، فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله، وكثيراً من شواهد المستعمل، ولخصه للحفظ أحسن تلحيص.
وألف الجوهري من المشارقة، كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم، فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة، لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم، فيجعل ذلك باباً. ثم يأتي بالحروف أول الكلمة، على ترتيب حروف المعجم أيضاً، ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها. وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل.
ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية، في دوله علي بن مجاهد، كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب، وعلى نحو ترتيب كتاب العين. وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها، فجاء من أحسن الدواوين. ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس. وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها، فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة.
ولكراع من أئمة اللغة كتاب المنجد، ولابن دريد كتاب الجمهرة ولابن الأنباري كتاب الزاهر.
هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه. وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها، إلا أن وجه الحصر فيها خفي، ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت. ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز، وسماه أساس البلاغة، بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ، فيما تجوزت به من المدلولات، وهو كتاب شريف الإفادة.
ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم، ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة. بها، فرق ذلك عندنا، بين الوضع والاستعمال، واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ، كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض، ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب، ومن الإنسان بالأزهر، ومن الغنم بالأملح، حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب. واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي، وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة، وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه، أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه. فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب، حتى يشهد له استعمال العرب لذلك. وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره، حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها، وهو أشر من اللحن في الإعراب وافحش. وكذلك آلف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها، وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك، فهو مستوعب للأكثر. وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن، المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال، تسهيلاً لحفظها على الطالب، فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما. وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ. والله الخلاق العليم، لا رب سواه.
فصل: واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة، إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني، لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد، ولم يعرف أحد منهم. وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله، على ما عرف استعماله في ماء العنب، باعتبار الإسكار الجامع. لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله. وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل، وهو محكم، وعلى هذا جمهور الأئمة. وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم. لكن القول بنفيه أرجح. ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية، لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور، واللغة إثبات أن اللفظ كذا، لمعنى كذا، والفرق في غاية ظهور.
علم البيانهذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة، وهو من العلوم اللسانية، أنه متعلق بالألفاظ وما تفيده. ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني. وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي: إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض، والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف، وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة، وبدل عليها بتغير إدركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات. وهذه كلها هي صناعة النحو. ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات، المحتاجة للدلالة، أحوال المتخاطبين أو الفاعلين، وما يقتضيه حال الفعل، وهو محتاج إلى الدلالة عليه، لأنه من تمام الإفادة، وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه. وإذا لم يشتمل على شيء منها، فليس من جنس كلام العرب، فإن كلامهم واسع، ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة.
ألا ترى أن قولهم: " زيد جاءني " مغاير لقولهم " جاءني زيد " من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم. فمن قال: جاءني زيد، أفاد أن اهتمامه بالمجيء، قبل الشخص المسند إليه، ومن قال: زيد جاءني، أفاد أن اهتمامه بالشخص، قبل المجيء المسند. وكذا التعبير عن أجزاء الجملة، بما يناسب المقام، من موصول أو مبهم أو معرفة. وكذا تأكيد الإسناد على الجملة، كقولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم، متغايرة كلها في الدلالة، وإن استوت من طريق الإعراب، فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن، والثاني المؤكد ب إن يفيد المتردد، والثالث يفيد المنكر، فهي مختلفة. وكذلك تقول: جاءني الرجل، ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه، وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال. ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية، وهي التي لها خارج تطابقة أولاً، وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه. تم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب: فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف، أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب. ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما. ثم قد يدل باللفط ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً، كما تقول: زيد أسد، فلا تريد حقيقة الأسد لمنطوقه، وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد، وتسمى هذه استعارة.
وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه، كما تقول: زيد كثير رماد القدور، وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف، لأن كثره الرماد ناشئة عنهما، فهي دالة عليهما. وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب، وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه، فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات، وجعل على ثلاثة أصنات: الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال، التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال، ويسمى علم البلاغة، والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان. وألحقوا بهما صنفاً آخر، وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق: إما بسجع يفصله، أو تجنيس يشابه بين ألفاظه، أو ترصيع يقطع أوزانه، أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه، لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد، وأمثال ذلك، ويسمى عندهم علم البديع.
وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان، وهو اسم الصنف الثاني، لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه. ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها. ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه، على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب، وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان، فجعل هذا الفن من بعض أجزائه. وأخذه المتأخرون من كتابه، ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد، كما فعله السكاكي في كتاب التبيان، وابن مالك في كتاب المصباح، وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص، وهو أصغر حجماً من الإيضاح، والعناية به لهذا العهد، عند أهل المشرق، في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره. وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة، وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية، والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران. والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه. أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق، كتفسير الزمخشري، وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله. وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة، وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية، وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً. وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب، وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ، وأن علم البديع سهل المأخذ. وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما. وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق، وكتاب العمدة له مشهور. وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه. واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة، وهي أعلى مراتب الكمال، مع الكلام فيما يختص بالألفاظ، في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها، وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه. وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته، فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه.
فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك، لأنهم فرسان الكلام وجهابذته، والذوق عندهم، موجود بأوفر ما يكون وأصحه. وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون، وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه، حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة. ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة، مع وفور بضاعته من البلاغة. فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة، حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه، أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده، فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب، للظفر بشيء من الإعجاز، مع السلامة من البدع والأهواء. والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
علم الأدبهذا العلم لا موضوع له، ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور، على أساليب العرب ومناحيهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة، من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو، مبثوثة أثناء ذلك، متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه، لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه، فيحتاج إلى تقديم جميع مايتوقف عليه فهمه.
ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط، وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية، فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم، ليكون قائماً على فهمها. وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها. وكتب المحدثين في ذلك كثيرة.
وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن، لما هو تابع للشعر، إذ الغناء إنما هو تلحينه. وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به، حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه، فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة. وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو، كتابه في الأغاني، جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم. وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد، فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه. ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم، في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال، ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه، وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها، وأنى له بها. ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان. والله الهادي للصواب.
الفصل السادس والأربعون
في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة، إذ هي ملكمات في اللسان، للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التراكيب. فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة، للتعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة.فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم، يسمع كلام أهل جيله، وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها، فيلقنها أولاً، ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك. ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم.
هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال.
وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذوها عن غيرهم. ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم. وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل، صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب، فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم، ويسمع كيفيات العرب أيضاً، فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه، فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى. وهذا معنى فساد اللسان العربي.
ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم. ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم. وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة، فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم. وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية. والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق.
الفصل السابع والأربعون
في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة
مغايرة للغة مضر ولغة حميروذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري، ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول، فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد. إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق، لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها. ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى بساط الحال محتاجاً إلى ما يدل عليه. وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه، فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته، وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع. وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات، في تراكيب الألفاظ وتأليفها، من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب. وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة. ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه، فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: " أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً " . واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة: " إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم: زيد قائم، وإن زيداً قائم، وإن زيداً لقائم والمعنى واحد. فقال له: إن معانيها مختلفة، فالأول: لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد، والثاني: لمن سمعه فتردد فيه، والثالث: لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال.
وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد. ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق، حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت، وأن اللسان العربي فسد، اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه. وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم، وألقاها القصور في أفئدتهم ، وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى، والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد، وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم، وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم، والشاعر المفلق على أساليب لغتهم. والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك. ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط، الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب، وهو بعض من أحكام اللسان، وإنما وقعت العناية بلسان مضر، لما فسد بمخالطتهم الأعاجم، حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب، وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً، فانقلب لغة أخرى.
وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بغته وهما أصلا الدين والملة، فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به، فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانييه. وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل، سماه أهله بعلم النحو، وصناعة العربية، فأصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوياً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقياً. ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه، نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها. ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً.
ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته. تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة، ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها، كما يزعم بعضهم في اشتقاق " القيل " في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا، وليس ذلك بصحيح. ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها، كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر، من أجل الشريعة كما قلناه، حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء، وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه.
ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد، حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف، فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار، كما هو مذكور في كتب العربية، أنه من أقصى اللسان وما فوقة من الحنك الأعلى. وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف، وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي، بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف، وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق، حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم. حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها. وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف. ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها، فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور، ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور. وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم، وهم من أعقاب مضر، وسائر الجيل معهم من بني كهلان، فى النطق بهذه القاف، أسوة. وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة، ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين، ولعلها لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها. وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من قرأ في أم القرآن " اهدنا الصراط المستقيم " بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاتة، ولم أدر من أين جاء هذا، فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها، وإنما تناقلوها من لحن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح. وأهل الجيل أيضاً لم يستحدثوها، إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار. فهذا يرجح، فيما يوجد من اللغة لديهم، أنه من لغة سلفهم. هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقاً وغرباً في النطق بها، وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري. والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة، وأن مخرج القاف متسع، فأوله من أعلى الحنك وآخره مما يلي الكاف. فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار، والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي. وبهذا يندفغ ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن، فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك. وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك، فوجهه ما قلناه. نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه، شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم، وأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم. ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين. ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك، لما كانت قريبة المخرج من الكاف، ولم تدغم. ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف، وجهي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد، وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف. على أنها حرف مستقل، وهو بعيد. والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه. ثم إنهم يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول. وفيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها، لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل، وأنها شعارهم الخاص بهم، دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول، ولغة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك كله. وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف، وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم، وإنهم ينطقون بها كذلك ، فليست من لغة العرب. ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج. فتفهم ذلك. والله الهادي المبين.
الفصل الثامن والأربعون
في أن لغة أهل الحضر والأمصار..
لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة، ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي عن لغة مضر أبعد.فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر، يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً. وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم، فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب، وكذا أهل الأندلس معهما، وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه. وهذا معنى اللسان واللغة. وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد.
وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل، فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة. فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد، لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه. وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم. فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى. واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والاندلس والمشرق. أما إفريقية والمغرب، فخالطت العرب فيها البرابرة من العجبم لوفور عمرانها بهم، ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل، فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم، وصارت لغة أخرى ممتزجة. والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه، فهي عن اللسان الأول أبعد. وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم، وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع، ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى. وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة. وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم، تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره، وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم. والله يخلق ما يشاء ويقدر.
الفصل التاسع والأربعون
في تعلم اللسان المضري
اعلم أن ملكة اللسان المضري، لهذا العهد، قد ذهبت وفسدت. ولغة أهل الجيل كلهم مغايرة للغة مضر التي نزل بها القرآن، وإنما هي لغة أخرى من امتزاج العجمة بها كما قدمناه. إلا أن اللغات لما كانت ملكات كما مر كان تعلمها ممكناً، شأن سائر الملكات. ووجه التعليم لمن يبتغي هذه الملكة ويروم تحصيلها أن يأخذ نفسه بحفظ كلامهم القديم الجاري على أساليبهم من القرآن والحديث، وكلام السلف، ومخاطبات فحول العرب في أسجاعهم وأشعارهم، وكلمات المولدين أيضاً في سائر فنونهم، حتى يتنزل لكثرة حفظه لكلامهم من المنظوم والمنثور منزلة من نشأ بينهم ولقن العبارة عن المقاصد منهم، ثم يتصرف بعد ذلك في التعبير عما في ضميره على حسب عباراتهم، وتآليف كلماتهم، وما وعاه وحفظه من آساليبهم وترتيب ألفاظهم، فتحصل له هذه الملكة بهذا الحفظ والاستعمال، ويزداد بكثرتهما رسوخاً وقوة. ويحتاج مع ذلك إلى سلامة الطبع والتفهم الحسن لمنازع العرب وأساليبهم في التراكيب ومراعاة التطبيق بينها وبين مقتضيات الأحوال. والذوق يشهد بذلك، وهو ينشأ ما بين هذه الملكة والطبع السليم فيهما كما يذكر بعد. وعلى قدر المحفوظ وكثرة الاستعمال تكون جودة المقول المصنوع نظماً ونثراً. ومن حصل على هذه الملكات، فقد حصل على لغة مضر، وهو الناقد البصير بالبلاغة فيها، وهكذا ينبغي أن يكون تعلمها. والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه.الفصل الخمسون
في أن ملكة هذا اللسان غير صناعة العربية
ومستغنية عنها في التعليم والسبب في ذلك أن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة ومقاييسها خاصة. فهوعلم بكيفية، لا نفس كيفية. فليست نفس الملكة، إنما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علماً، ولا يحكمها عملاً. مثل أن يقول بصير بالخياطة، غير محكم لملكتها، في التعبير عن بعض أنواعها: الخياطة هي أن تدخل الخيط، في خرت الإبرة، ثم تغرزها في لفقي الثوب مجتمعين، وتخرجها من الجانب الأخر بمقدار كذا، ثم تردها إلى حيث ابتدأت، وتخرجها قدام منفذها الأول بمطرح ما بين الثقبين الأولين، ثم يتمادى على وصفه إلى آخر العمل، ويعطي صورة الحبك والتنبيت والتفتيح وسائر أنواع الخياطة وأعمالها. وهو إذا طولب أن يعمل ذلك بيده لا يحكم منه شيئاً.وكذا لو سئل عالم بالنجارة عن تفصيل الخشب فيقول: هو أن تضع المنشار على رأس الخشبة وتمسك بطرفه، وآخر قبالتك ممسك بطرفه الآخر وتتعاقبانه بينكما، وأطرافه المضرسة المحددة تقطع ما مرت عليه ذاهبة وجائية، إلى أن ينتهي إلى آخر الخشبة. وهو لو طولب بهذا العمل أوشيء منه لم يحكمه.
وهكذا العلم بقوانين الإعراب مع هذه الملكة في نفسها، فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل وليس هو نفس العمل. وكذلك تجد كثيراً من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية المحيطين علماً بتلك القوانين، إذا سئل في كتابة سطرين إلى أخيه أو في مودته أو شكوى ظلامة أو قصد من قصوده، أخطأ فيها الصواب وأكثر من اللحن، ولم يجد تأليف الكلام لذلك، والعبارة عن المقصود فيه على أساليب اللسان العربي. وكذا نجد كثيراً ممن يحسن هذه الملكة ويجيد الفنين من المنظوم والمنثور، وهو لا يحسن إعراب الفاعل من المفعول، ولا المرفوع من المجرور، ولا شيئاً من قوانين صناعة العربية.
فمن هنا يعلم أن تلك الملكة هي غير صناعة العربية، وأنها مستغنية عنها بالجملة. وقد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب بصيراً بحال هذه الملكة، وهو قليل واتفاقي، وأكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه. فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط، بل ملأ كتابه من أمثال العرب وشواهد أشعارهم وعباراتهم، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة، فتجد العاكف عليه والمحصل له، تد حصل على خط من كلام العرب واندرج في محفوظه في أماكنه ومفاصل حاجاته. وتنبه به لشأن الملكة، فاستوفى تعليمها، فكان أبلغ في الإفادة.
ومن هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا، فيحصل على علم اللسان صناعة ولا يحصل عليه ملكة. وأما المخالطون لكتب المتأخرين العارية من ذلك، إلا من القوانين النحوية، مجردة عن أشعار العرب وكلامهم، فقلما يشعرون لذلك بأمر هذه الملكة أو يتنبهون لشأنها، فتجدهم يحسبون أنهم قد حصلوا على رتبة في لسان العرب، وهم أبعد الناس عنه. وأهل صناعة العربية بالأندلس ومعلموها أقرب إلى تحصيل هذه الملكة وتعليمها ممن سواهم، لقيامهم فيها على شواهد العرب وأمثالهم، والتفقه في الكثير من التراكيب في مجالس تعليمهم، فيسبق إلى المبتدىء كثير من الملكة أثناء التعليم، فتنطبع النفس بها وتستعد إلى تحصيلها وقبولها.
وأما من سواهم من أهل المغرب وإفريقية وغيرهم، فأجروا صناعة العربية مجرى العلوم بحثاً، وقطعوا النظر عن التفقه في تراكيب كلام العرب، إلا إن أعربوا شاهداً أو رجحوا مذهباً، من جهة الاقتضاء الذهني، لا من جهة محامل اللسان وتراكيبه. فأصبحت صناعة العربية كأنها من جملة قوانين المنطق العقلية أو الجدل، وبعدت عن مناحي اللسان وملكته وأفاد ذلك حملتها في هذه الأمصار وآفاقها البعد عن الملكة بالكلية، وكأنهم لا ينظرون في كلام العرب. وما ذلك إلا لعدولهم عن البحث في شواهد اللسان وتراكيبه وتمييز أساليبه، وغفلتهم عن المران في ذلك للمتعلم، فهو أحسن ما تفيده الملكة في اللسان. وتلك القوانين إنما هي وسائل للتعليم، لكنهم أجروها على غير ما قصد بها، وأصاروها علماً بحتاً وبعدوا عن ثمرتها. وتعلم ما قررناه في هذا الباب، أن حصول ملكة اللسان العربي إنما هو بكثرة الحفظ من كلام العرب، حتى يرتسم في خياله المنوال الذي نسجوا عليه تراكيبهم فينسج هوعليه. ويتنزل بذلك منزلة من نشأ معهم وخالط عباراتهم في كلامهم، حتى حصلت له الملكة المستقرة في العبارة عن المقاصد على نحو كلامهم. والله مقدر الأمور كلها، والله أعلم بالغيب.
الفصل الحادي والخمسون
في تفسير لفظة الذوق
في مصطلح أهل البيان وتحقيق معناه وبيان أنها لا تحصل غالباً للمستعربين من العجماعلم أن لفظة الذوق يتداولها المعتنون بفنون البيان، ومعناها حصول ملكة البلاغة للسان. وقد مر تفسير البلاغة، وأنها مطابقة الكلام للمعنى من جميع وجوهه، بخواص تقع للتراكيب في إفادة ذلك. فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المفيدة لذلك، على أساليب العرب وأنحاء مخاطباتهم، وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت معاناته لذلك بمخالطة كلام العرب، حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه أمر التركيب، حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإن سمع تركيباً غير جارى على ذلك المنحى، مجه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر، بل وبغير فكر، إلا بما استفاده من حصول هذه الملكة. فإن الملكات إذا استقرت ورسخت في محالها ظهر كأنها طبيعة وجبلة لذلك المحل. ولذلك يظن كثير من المغفلين ممن لم يعرف شأن الملكات، أن الصواب للعرب في لغتهم إعراباً وبلاغة أمر طبيعي. ويقول: كانت العرب تنطق بالطبع وليس كذلك، وإنما هي ملكة لسانية في نظم الكلام تمكنت ورسخت فظهرت في بادىء الرأي أنها جبلة وطبع.
وهنه الملكة كما تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها أهل صناعة البيان فإن هذه القوانين إنما تفيد علماً بذلك اللسان، ولا تفيد حصول الملكة بالفعل في محلها، وقد مر ذلك. وإذا تقرر ذلك فملكة البلاغة في اللسان تهدي البليغ إلى وجود النظم وحسن التركيب الموافق لتراكيب العرب في لغتهم ونظم كلامهم. ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعينة والتراكيب المخصوصة، لما قدر عليه ولا وافقه عليه لسانه، لأنه لا يعتاده ولا تهديه إليه ملكته الراسخة عنده. وإذا عرض عليه الكلام، حائداً عن أسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه، وعلم أنه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم. وإنما يعجز عن الاحتجاج بذلك، كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية، فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء. وهذا أمر وجداني حاصل بممارسة كلام العرب، حتى يصير كواحد منهم.
ومثاله: لو فرضنا صبياً من صبيانهم، نشأ وربي في جيلهم، فإنه يتعلم لغتهم ويحكم شأن الإعراب والبلاغة فيها، حتى يستولي على غايتها. وليس من العلم القانوني في شيء، وإنما هو بحصول هذه الملكة في لسانه ونطقه. وكذلك تحصل هذه الملكة لمن بعد ذلك الجيل، بحفظ كلامهم وأشعارهم وخطبهم والمداومة على ذلك، بحيث يحصل الملكة ويصير كواحد ممن نشأ في جيلهم وربي بين أحيائهم. والقوانين بمعزل عن هذا. واستعير لهذه الملكة، عندما ترسخ وتستقر، اسم الذوق الذي اصطلح عليه أهل صناعة البيان والذوق إنما هو موضوع لإدراك الطعوم. لكن لما كان محل هذه الملكة في اللسان، من حيث النطق بالكلام، كما هو محل لإدراك الطعوم، استعير لها اسمه. وأيضاً فهو وجداني اللسان، كما أن الطعوم محسوسة له، فقيل له ذوق. وإذا تبين لك ذلك، علمت منه أن الأعاجم الداخلين في اللسان العربي الطارئين عليه المضطرين إلى النطق به لمخالطة أهله، كالفرس والروم والترك بالمشرق وكالبربر بالمغرب، فإنه لا يحصل لهم هذا الذوق لقصور حظهم في هذه الملكة التي قررنا أمرها، لأن قصاراهم بعد طائفة من العمر وسبق ملكة أخرى إلى اللسان، وهي لغاتهم، أن يعتنوا بما يتداوله أهل المصر بينهم في المحاورة من مفرد ومركب، لما يضطرون إليه من ذلك. وهذه الملكة قد ذهبت لأهل الأمصار، وبعدوا عنها كما تقدم. وإنما لهم في ذلك ملكة أخرى وليست هذ ملكة اللسان المطلوبة. ومن عرف أحكام تلك الملكة من القوانين المسطرة في الكتب، فليس من تحصيل الملكة في شيء، إنما حصل أحكامها كما عرفت. وإنما تحصل هذه الملكة بالممارسة والاعتياد والتكرر لكلام العرب. فإن عرض لك ما تسمعه، من أن سيبويه والفارسي والزمخشري وأمثالهم من فرسان الكلام كانوا أعجاماً مع حصول هذه الملكة لهم، فاعلم أن أإولئك القوم الذين نسمع عنهم إنما كانوا عجماً في نسبهم فقط. أما المربى والنشأة فكانت بين أهل هذه الملكة من العرب ومن تعلمها منهم، فاستولوا بذلك من الكلام على غاية لا وراءها، وكأنهم في أول نشأتهم بمنزلة الأصاغر من العرب الذين نشأوا في أجيالهم، حتى أدركوا كنه اللغة وصاروا من أهلها. فهم وإن كانوا عجماً في النسب فليسوا بأعاجم في اللغة والكلام، لأنهم أدركوا الملة في عنفوانها واللغة في شبابها، ولم تذهب آثار الملكة منها ولا من أهل الأمصار. ثم عكفوا على الممارسة والمدارسة لكلام العرب حتى استولوا على غايته.
واليوم الواحد من العجم، إذا خالط أهل اللسان العربي بالأمصار، فأول ما يجد تلك الملكة المقصودة من اللسان العربي ممتحية الآثار. ويجد ملكتهم الخاصة بهم ملكة أخرى مخالفة لملكة اللسان العربي. ثم إذا فرضنا أنه أقبل على الممارسة لكلام العرب وأشعارهم بالمدارسة والحفظ ليستفيد تحصيلها، فقل أن يحصل له ما قدمناه من أن الملكة إذا سبقتها ملكة أخرى في المحل، فلا تحصل إلا ناقصة مخدوشة. وإن فرضنا عجمياً في النسب سلم من مخالطة اللسان العجمي بالكلية، وذهب إلى تعلم هذه الملكة بالحفظ والمدارسة، فربما يحصل له ذلك، لكنه من الندور بحيث لا يخفى عليك بما تقرر. وربما يدعي كثير ممن ينظر في هذه القوانين البيانية حصول هذا الذوق له بها، وهو غلط أو مغالطة، وإنما حصلت له الملكة إن حصلت في تلك القوانين البيانية، وليست من ملكة العبارة في شيء. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الفصل الثاني والخمسون
في أن أهل الأمصار على الإطلاق قاصرون
في تحصيل هذه الملكة اللسانية التي تستفاد بالتعليم ومن كان منهم أبعد عن اللسان العربي كان حصولها له أصعب وأعسر والسبب في ذلك ما يسبق إلى المتعلم، من حصول ملكة منافية للملكة المطلوبة، بما سبق إليه من اللسان الحضري الذي أفادتة العجمة، حتى نزل بها اللسان عن ملكته الأولى إلى ملكة أخرى هي لغة الحضر لهذا العهد ولهذا نجد المعلمين يذهبون إلى المسابقة بتعليم اللسان للولدان. وتعتقد النحاة أن هذه المسابقة بصناعتهم، وليس كذلك، وإنما هي بتعليم هذه الملكة بمخالطة اللسان وكلام العرب. نعم صناعة النحو أقرب إلى مخالطة ذلك. وما كان من لغات أهل الأمصار أعرق في العجمة وأبعد عن لسان مضر قصر بصاحبه عن تعلم اللغة المصرية وحصول ملكتها لتمكن المنافاة حينئذ. واعتبر ذلك في أهل الأمصار.فأهل إفريقية والمغرب لما كانوا أعرق في العجمة وأبعد عن اللسان الأول، كان لهم قصور تام في تحصيل ملكته بالتعليم. ولقد نقل ابن الرقيق أن بعض كتاب القيروان كتب إلى صاحب له: يا أخي ومن لا عدمت فقده، أعلمني أبو سعيد كلاماً أنك كنت ذكرت أنك تكون مع الذين تأتي، وعاقنا اليوم فلم يتهيأ لنا الخروج. وأما أهل المنزل الكلاب من أمير الشين فقد كذبوا هذا باطلاً، ليس من هذا حرفاً واحداً. وكتابي إليك وأنا مشتاق إليك إن شاء الله. وهكذا كانت ملكتهم في اللسان المضري، وسببه ما ذكرنا.
وكذلك أشعارهم كانت بعيدة عن الملكة نازلة عن الطبقة، ولم تزل كذلك، لهذا العهد. ولهذا ما كان لإفريقية من مشاهير الشعراء، إلا ابن رشيق وابن شرف. وأكثر ما يكون فيها الشعراء طارئين عليها، ولم تزل طبقتهم في البلاغة حتى الآن مائلة إلى القصور. وأهل الأندلس أقرب منهم إلى تحصيل هذه الملكة، بكثرة معاناتها وامتلائهم من المحفوظات اللغوية نظماً ونثراً. وكان فيهم ابن حيان المؤرخ إمام أهل الصناعة في هذه الملكة ورافع الراية لهم فيها، وابن عبد ربه والقسطلي وأمثالهم من شعراء ملوك الطوائف، لما زخرت فيها بحار اللسان والأدب وتداول ذلك فيهم مئين من السنين، حتى كان الانفضاض والجلاء أيام تغلب النصرانية. وشغلوا عن تعلم ذلك، وتناقص العمران فتناقص لذلك شأن الصنائع كلها، فقصرت الملكة فيهم عن شأنها حتى بلغت الحضيض.
وكان من آخرهم صالح بن شريف، ومالك بن المرحل من تلاميذ الطبقة الإشبيليين بسبتة وكانت دولة بني الأحمر في أولها، وألقت الأندلس أفلاذ كبدها، من أهل تلك الملكة بالجلاء إلى العدوة، من عدوة إشبيلية إلى سبتة، ومن شرق الأندلس إلى إفريقية. ولم يلبثوا إلى أن انقرضوا وانقطع سند تعليمهم في هذه الصناعة، لعسر قبول العدوة لها وصعوبتها عليهم، بعوج ألسنتهم ورسوخهم في العجمة البربرية، وهي منافية لما قلناه.
ثم عادت الملكة من بعد ذلك إلى الأندلس كما كانت، ونجم بها ابن سيرين وابن جابر وابن الجياب وطبقتهم، ثم إبراهيم الساحلي الطويجن وطبقتة، وقفاهم ابن الخطيب من بعدهم الهالك لهذا العهد شهيداً بسعاية أعدائه. وكان له في اللسان ملكة لا تدرك واتبع أثره تلميذه من بعده. وبالجملة فشأن هذه الملكة بالأندلس أكثر، وتعليلها أيسر وأسهل، بما هم عليه لهذا العهد كما قدمناة من معاناة علوم اللسان ومحافظتهم عليها وعلى علوم الأدب وسند تعليمها. ولأن أهل اللسان العجمي الذين تفسد ملكتهم إنما هم طارئون عليهم. وليست عجمتهم أصلاً للغة أهل الأندلس والبربر في هذه العدوة، وهم أهلها ولسانهم لسانها إلا في الأمصار فقط. وهم فيها منغمسون في بحر عجمتهم ورطانتهم البربرية، فيصعب عليهم تحصيل الملكة اللسانية بالتعليم بخلاف أهل الاندلس. واعتبر ذلك بحال أهل المشرق لعهد الدولة الأموية والعباسية، فكان شأنهم شأن أهل الأنذلس في تمام هذه الملكة وإجادتها، لبعدهم لذلك العهد عن الأعاجم ومخالطتهم إلا في القليل. فكان أمر هذه الملكة في ذلك العهد أقوم، وكان فحول الشعراء والكئاب لعهدهم أوفر لتوفر العرب وأبنائهم بالمشرق.
وانظر ما اشتمل عليه كتاب الأغاني من نظمهم ونثرهم، فإن ذلك الكتاب هو كتاب العرب وديوانهم، وفيه لغتهم وأخبارهم وأيامهم، وملتهم العربية وسير نبيهم صلى الله عليه وسلم وآثار خلفائهم وملوكهم، وأشعارهم وغناؤهم وسائر مغانيهم له، فلا كتاب أوعب منه لأحوال العرب. وبقي أمر هذه الملكة مستحكماً في المشرق في الدولتين، وربما كانت فيهم أبلغ ممن سواهم ممن كان في الجاهلية كما نذكره بعد. حتى تلاشى أمر العرب ودرلست لغتهم وفسد كلامهم وانقضى أمرهم ودولتهم، وصار الأمر للأعاجم والملك في أيديهم والتغلب لهم. وذلك في دولة الديلم والسلجوقية. وخالطوا أهل الأمصار وكثروهم فامتلأت الأرض بلغاتهم، واستولت العجمة على أهل الأمصار والحواضر حتى بعدوا عن اللسان العربي وملكته، وصار متعلمها منهم مقصراً عن تحصيلها. وعلى ذلك نجد لسانهم لهذا العهد في فني المنظوم والمنثور، وإن كانوا مكثرين منه. والله يخلق ما يشاء ويختار، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق لا رب سواه.
الفصل الثالث والخمسون
في انقسام الكلام إلى فني النظم والنثر
اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنين في الشعر المنظوم، وهو الكلام الموزون المقفى ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على روي واحد وهو القافية. وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام. فأما الشعر، فمنه المدح والهجاء والرثاء. وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعاً، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعاً، ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقاً ولا يقطع أجزاء، بل يرسل إرسالاً من غير تقييد بقافية ولا غيرها. ويستعمل في الخطب والدعاء وترغيب الجمهور وترهيبهم.
وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارخ عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقًا ولا مسجعاً. بل تفصيل آيات ينتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها. ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بعدها، ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى: " الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم " وقال: " قد فصلنا الآيات " . وتسمى آخر الآيات فيه فواصل، إذ ليست أسجاعاً، ولا التزم فيها ما يلتزم في السجع، ولا هي أيضاً قواف. واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه، واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني.
وانظر هذا ما قاله المفسرون في تعليل تسميتها بالمثاني، يشهد لك الحق برحجان ما قلناه.
واعلم أن لكل واحد من هذه الفنون أساليب تختص به عند أهله لا تصلح للفن الآخر، ولا تستعمل فيه، مثل النسيب المختص بالشعر، والحمد والدعاء المختص بالخطب، والدعاء المختص بالمخاطبات وأمثال ذلك. وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينة في المنثور من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. وصار هذا المنثور إذا تأملته من باب الشعر وفنه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخرون من الكتاب على هذه الطريقة واستعملوها في المخاطبات السلطانية، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفن الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطبات السلطانية لهذا العهد عند الكتاب الغفل جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غير صواب من جهة البلاغة، لما يلاحظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أحوال المخاطب والمخاطب.
وهذا الفن المنثور المقفى أدخل المتأخرون فيه أساليب الشعر، فوجب أن تنزه المخاطبات السلطانية عنه، إذ أساليب الشعر تباح فيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل، والإطناب في الأوصاف وضرب الأمثال وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. والتزام التقفية أيضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان، وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه. والمحمود في المخاطبات السلطانية الترسل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع إلا في الأقل النادر. وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب أو إيجاز أو حذف أو إثبات أو تصريح أو إشارة وكناية واستعارة.
وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على أساليب الشعر فمذموم، وما حمل عليه أهل العصر إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم لذلك عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة وانفساح خطوته. وولعوا بهذا المسجع، يلفقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه. ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالإسجاع والألقاب البديعية، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثر من أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى إنهم ليخلون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيس أو مطابقة، لا يجتمعان معها، فيرجحون ذلك الصنف من التجنيس. ويدعون الإعراب ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس. فتأمل ذلك وانتقد بما قدمناه لك، تقف على صحة ما ذكرناه. والله الموفق للصواب، بمنه وكرمه، والله تعالى أعلم.
الفصل الرابع والخمسون
في أنه لا تتفق الإجادة..
في فني المنظوم والمنثور معاً إلا للأقل والسبب في ذلك أنه كما بيناه ملكة في اللسان، فإذا سبقت إلى محله ملكة أخرى، قصرت بالمحل عن تمام الملكة اللاحقة. لأن قبول الملكات وحصولها للطبائع التي على الفطرة الأولى أسهل وأيسر. وإذا تقدمتها ملكة أخرى كانت منازعة لها في المدة القابلة وعائقة عن سرعة القبول، فوقعت المنافاة وتعذر التمام في الملكة. وهذا موجود في الملكات الصناعية كلها على الإطلاق. وقد برهنا عليه في موضعه بنحو من هذا البرهان. فاعتبر مثله في اللغات، فإنها ملكات اللسان، وهي بمنزلة الصناعة. وانظر من تقدم له شيء، من العجمة، كيف يكون قاصراً في اللسان العربي أبداً. فالأعجمي الذي سبقت له اللغة الفارسية لا يستولي على ملكة اللسان العربي، ولا يزال قاصراً فيه ولو تعلمة وعلمه. وكذا البربري والرومي الإفرنجي قل أن تجد أحداً منهم محكماً لملكة اللسان العربي. وما ذلك إلا لما سبق إلى ألسنتهم من ملكة اللسان الآخر، حتى إن طالب العلم من أهل هذه الألسن إذا طلبه بين أهل اللسان العربي ومن كتبهم جاء مقصراً في معارفه عن الغاية والتحصيل، وما أتى إلا من قبل اللسان. وقد تقدم لك من قبل أن الألسن واللغات شبيهة بالصنائع. وقد تقدم لك أن الصنائع وملكاتها لا تزدحم. وإن من سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد أخرى أو يستولي فيها على الغاية. والله خلقكم وما تعلمون.
الفصل الخامس والخمسون
في صناعة الشعر ووجه تعلمه
هذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم، ويوجد في سائر اللغات، إلا أنا الآن إنما نتكلم في الشعر الذي للعرب. فإن أمكن أن يجد فيه أهل الألسن الأخرى مقصودهم من كلامهم، وإلا فلكل لسان أحكام في البلاغة تخصه. وهو في لسان العرب غريب النزعة عزيز المنحى، إذ هو كلام مفصل قطعاً قطعاً، متساوية في الوزن، متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة. وتسمى كل قطعة من هذه القطعات عندهم بيتاً، ويسمى الحرف الأخير الذي تتفق فيه رؤياً وقافية، ويسمى جملة الكلام إلى آخره قصيدة وكلمة. وينفرد كل بيت منه بإفادته في تراكيبه، حتى كأنه كلام وحده، مستقل عما قبله وما بعده. وإذا أفرد كان تاماً في بابه في مدح أو نسيب أو رثاء، فيحرص الشاعر على إعطاء ذلك البيت ما يستقل في إفادته. ثم يستأنف في البيت الآخر كلاماً آخر كذلك، ويسترد للخروج من فن إلى فن ومن مقصود إلى مقصود، بأن يوطىء المقصود الأول ومعانيه، إلى أن يناسب المقصود الثاني، ويبعد الكلام عن التنافر. كما يستطرد من النسيب إلى المدح، ومن وصف البيداء والطلول، إلى وصف الركاب أو الخيل أو الطيف، ومن وصف الممدوح إلى وصف قومه وعساكره، ومن التفجع والعزاء في الرثاء إلى التأبين وأمثال ذلك.ويراعى فيه اتفاق القصيدة كلها في الوزن الواحد، حذراً من أن يتساهل الطبع في الخروج من وزن إلى وزن يقاربه. فقد يخفى ذلك من أجل المقاربة على كثير من الناس. ولهذه الموازين شروط وأحكام تضمنها علم العروض. وليس كل وزن يتفق في الطبع استعملتة العرب في هذا الفن، وإنما هي أوزان مخصوصة يسميها أهل تلك الصناعة البحور. وقد حصروها في خمسة عشر بحراً، بمعنى أنهم لم يجدوا للعرب في غيرها من الموازين الطبيعية نظماً.
واعلم أن فن الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم. وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن ملكاتهم كلها. والملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتياض في كلامهم، حتى يحصل شبه في تلك الملكة.
والشعر من بين فنون الكلام صعب المأخذ على من يريد اكتساب ملكته بالصناعة من المتأخرين، لاستقلال كل بيت منه بأنه كلام تام في مقصوده، ويصلح أن ينفرد دون ما سواه، فيحتاج من أجل ذلك إلى نوع تلطف في تلك الملكة، حتى يفرغ الكلام الشعري في قوالبه التي عرفت له في ذلك المنحى من شعر العرب، ويبرزه مستقلاً بنفسه. ثم يأتي ببيت آخر كذلك، ثم ببيت أخر، ويستكمل الفنون الوافية بمقصوده. ثم يناسب بين البيوت في موالاة بعضها مع بعض بحسب اختلاف الفنون التي في القصيدة. ولصعوبة منحاه وغرابة فنه كان محكاً للقرائح في استجاده أساليبه، وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه. ولا تكفي فيه ملكة الكلام العربي على الإطلاق، بل يحتاج بخصوصه إلى تلطف ومحاولة في رعاية الأساليب التي اختصتة العرب بها وباستعمالها فيه.
ولنذكر هنا مدلول لفظة الأسلوب عند أهل هذه الصناعة وما يريدون بها في إطلاقهم. فاعلم أنها عبارة عندهم عن المنوال الذي تنسج فيه التراكيب، أو القالب الذي يفرغ فيه. ولا يرجع إلى الكلام باعتبار إفادته كمال المعنى الذي هو وظيفة الإعراب، ولا باعتبار إفادته أصل المعنى من خواص التراكيب، الذي هو وظيفة البلاغة والبيان، ولا باعتبار الوزن كما استعمله العرب فيه الذي هو وظيفة العروض. فهذه العلوم الثلاثة خارجة عن هذه الصناعة الشعرية، وإنما ترجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص. وتلك الصورة ينتزعها الذهن من أعيان التراكيب وأشخاصها ويصيرها في الخيال كالقالب أو المنوال، ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند العرب باعتبار الإعراب والبيان، فيرضها فيه رضاً، كما يفعله البناء في القالب أو النساج في المنوال، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية بمقصود الكلام، ويقع على الصورة الصحيحة باعتبار ملكة اللسان العربي فيه، كان لكل فن من الكلام أساليب تختص به وتوجد فيه على أنحاء مختلفة، فسؤال الطلول في الشعر يكون بخطاب الطلول كقوله:
يا دار مية بالعلياء فالسند.
وبكون باستدعاء الصحب للوقوف والسؤال كقوله:
قفا نسأل الدار التي خف أهلها.
أو باستبكاء الصحب على الطلل كقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.
أو بالاستفهام عن الجواب لمخاطب غير معين كقوله:
ألم تسأل فتخبرك الرسوم.
ومثل تحية الطلول بالأمير لمخاطب غير معين بتحيتها كقوله:
حي الديار بجانب الغزل.
أو بالدعاء لها بالسقيا كقوله:
أسفي طلولهم أجش هذيم ... وغدت عليهم نضرة ونعيم
أو بسؤال السقيا لها من البرق كقوله:
يا برق طالع منزلاً بالأبرق ... واحد السحاب لها حداء الأينق
أو مثل التفجع في الرثاء باستدعاء البكاء كقوله:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر ... فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
أو باستعظام الحادث كقوله:
أرأيت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي
أو بالتسجيل على الأكوان بالمصيبة لفقده كقوله:
منابت العشب لاحام ولا راع ... مضى الردى بطويل الرمح والباع
أو بالإنكار على من لم يتفجع له من الجمادات كقول الخارجية:
أياشجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
أو بتهنئة قريعه بالراحة من ثقل وطأته كقوله:
ألق الرماح ربيعة بن نزار ... أوس الردى بقريعك المغوار
وأمثال ذلك كثير في سائر فنون الكلام ومذاهبه. وتنتظم التراكيب فيه بالجمل وغير الجمل، إنشائية وخبرية، أسمية أو فعلية، متفقة وغير متفقة، مفصولة وموصولة، على ما هو شأن التراكيب في الكلام العربي، في مكان كل كلمة من الأخرى. يعرفك فيه ما تستفيده بالارتياض في أشعار العرب، من القالب الكلي المجرد في الذهن، من التراكيب المعينة التي ينطبق ذلك القالب على جميعها. فإن مؤلف الكلام هو كالبناء أو النساج، والصورة الذهنية المنطبقة، كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه. فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً. ولا تقولن إن حرفة قوانين البلاغة كافية في ذلك، لأنا نقول: قوانين البلاغة إنما هي قواعد علمية قياسية، تفيد جواز استعمال التراكيب على هيأتها الخاصة بالقياس. وهو قياس علمي صحيح مطرد، كما هو قياس القوانين الإعرابية. وهذه الأساليب التي نحن نقررها ليست من القياس في شيء، إنما هي هيئة ترسخ في النفس من تتبع التراكيب في شعر العرب جريانها على اللسان، حتى تستحكم صورتها، فيستفيد بها العمل على مثالها والاحتذاء، في كل تركيب من الشعر كما قدمنا ذلك في الكلام بإطلاق. وإن القوانين العلمية من العربية والبيان لايفيد تعليمه بوجه. وليس كل ما يصح في قياس كلام العرب وقوانينه االعلمية استعملوه. وإنما المستعمل عندهم من ذلك أنحاء معروفة يطلع عليها الحافظون كلامهم، تندرج صورتها تحت تلك القوانين القياسية. فإذا نظر في شعر العرب على هذا النحو، وبهذه الأساليب الذهنية، التي تصير كالقوالب، كان نظراً في المستعمل من تراكيبهم، لا فيما يقتضيه القياس. ولهذا قلنا إن المحصل لهذه القوالب في الذهن، إنما هو حفظ أشعار العرب وكلامهم. وهذه القوالب كما تكون في المنظوم تكون في منثور، فإن العرب استعملوا كلامهم في كلا الفنين، وجاءوا به مفصلاً في النوعين. ففي الشعر بالقطع الموزونة والقوافي المقيدة، واستقلال الكلام في كل قطعة، وفي منثور، يعتبرون الموازنة والتشابه بين القطع غالباً، وقد يقيدونه بالأسجاع. وقد يرسلونه، وكل واحد من هذه معروفة في لسان العرب. والمستعمل منها عندهم هو الذي يبني مؤلق الكلام عليه تأليفه، ولا يعرفه إلا من حفظ كلامهم، حتى يتجرد في ذهنه من القوالب المعينة الشخصية، قالب كلي مطلق يحذو حذوه في التأليف، كما يحذو البناء على القالب، والنساج على المنوال. فلهذا كان من تأليف الكلام منفرداً عن نظر النحوي والبياني والعروضي. نعم إن مراعاة قوانين هذه العلوم شرط فيه لا يتم بدونها، فإذا تحصلت هذه الصفات كلها في الكلام اختص بنوع من النظر، لطيف في هذه القوالب، التي يسمونها أساليب. ولا يفيده إلا حفظ كلام العرب نظماً ونثراً. وإذا تقرر معنى الأسلوب ما هو، فلنذكر بعده حداً أورسماً للشعر يفهمنا حقيقته على صعوبة هذا الغرض. فإنا لم نقف عليه لأحد من المتقدمين فيما رأيناه.
وقول العروضيين في حده إنه الكلام الموزون المقفى، ليس بحد لهذا الشعر الذي نحن بصدده، ولا رسم له. وصناعتهم إنما تنظر في الشعر من حيث اتفاق أبياته في عدد المتحركات والسواكن على التوالي، ومماثلة عروض أبيات الشعر لضربها. وذلك نظر في وزن مجرد عن الألفاظ ودلالتها فناسب أن يكون حداً عندهم ونحن هنا ننظر في الشعر باعتبار ما فيه من الإعراب والبلاغة والوزن والقوالب الخاصة. فلا جرم إن حدهم ذلك لا يصلح له عندنا، فلا بد من تعريف يعطينا حقيقته من هذه الحيثية فنقول: الشعر هو الكلام البليغ المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به. فقولنا الكلام البليغ جنس، وقولنا المبني على الاستعارة والأوصاف فصل له عما يخلو من هذه فإنه في الغالب ليس بشعر، وقولنا المفصل بأجزاء متفقة الوزن والروي فصل له عن الكلام المنثور الذي ليس بشعر عند الكل، وقولنا مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده بيان للحقيقة، لأن الشعر لا تكون أبياته إلا كذلك، ولم يفصل به شيء. وقولنا الجاري على الأساليب المخصوصة به، فصل له عما لم يجرمنه على أساليب الشعر المعروفة، فإنه حينئذ لا يكون شعراً، إنما هو كلام منظوم، لأن الشعر له أساليب تخصه، لا تكون للمنثور. وكذ أساليب المنثور لا تكون للشعر، فما كان من الكلام منظوماً وليس على تلك الأساليب، فلا يسمى شعراً. وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا في هذه الصناعة الأدبية يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجربا على أساليب العرب فيه، وقولنا في الحد الجاري على أساليب العرب فصل له عن شعر غير العرب من الأمم، عند من يرى أن الشعر يوجد للعرب ولغيرهم. ومن يرى أنه لا يوجد لغيرهم، فلا يحتاج إلى ذلك، ويقول مكانه الجاري على الأساليب المخصوصة. إذ قد فرغنا من الكلام على حقيقة الشعر، فلنرجع إلى الكلام في كيفية عمله فنقول: اعلم أن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً، أولها: الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب، حتى تنشأ في التفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب. وهذا المحفوظ المختار أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين، مثل ابن أيي ربيعة وكثير وذي الرمة وجرير وأبي نواس وحبيب والبحتري والرضي وأبي فراس. وأكثره شعر كتاب الأغاني، لأنه جمع شعر أهل الطبقة لإسلامية كله، والمختار من شعر الجاهلية. ومن كان خالياً من المحفوظ فنظمه قاصر رديء، ولا يعطيه الرونق والحلاوة إلا كثرة المحفوظ. فمن قل حفظة أو عدم لم يكن له شعر، وإنما هو نظم ساقط. واجتناب الشعر أولى بمن لم يكن له محفوظ. ثم بعد لامتلاء من الحفظ وشحذ القريحة للنسج على المنوال يقبل على النظم، وبالإكثار منه تستحكم ملكته وترسخ. وربما يقال إن من شرطه نسيان ذلك المحفوظ، لتمحى رسومه حرفية الظاهرة، إذ هي صادة عن استعمالها بعينها. فإذا نسيها، وقد تكيفت النفس بها، انتقش الأسلوب فيها، كأنه منوال يأخذ بالنسج عليه بأمثالها من كلمات أخرى ضرورة. ثم لا بد له من الخلوة واستجادة المكان المنظور فيه من المياه والأزهار، وكذا من مسموع لاستنارة القريحة باستجماعها وتنشيطها بملاذ السرور. ثم مع هذا كله فشرطه، أن يكون على جمام ونشاط، فذلك أجمع له وأنشط للقريحة أن تأتي بمثل ذلك منوال الذي في حفظه.
قالوا: وخير الأوقات لذلك أوقات البكر عند الهبوب من النوم وفراغ المعدة ونشاط الفكر، وفي هواء الجمام. وربما قالوا إن من بواعثه العشق والانتشاء، ذكر ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة، وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وإعطاء حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله. قلوا: فإن استصعب عليه بعد هذا كله فليتركه إلى وقت آخر، ولايكره نفسه عليه. وليكن بناء البيت على القافية من أول صوغه ونسجه يضعها، ويبني الكلام عليها إلى آخره، لأنه إن غفل عن بناء البيت على القافية صعب عليه وضعها في محلها. فربما تجيء نافرة قلقة، وإذا سمح الخاطر بالبيت، ولم يناسب الذي عنده فليتركه إلى موضعه الأليق به، فإن كل بيت مستقل بنفسه، ولم تبق إلا المناسبة قليتخير فيها ما يشاء، وليراجع شعره بعد الخلاص منه بالتنقيح والنقد، ولا يضن به على الترك إذا لم يبلغ الإجادة. فإن الإنسان مفتون بشعره، إذ هو نبات فكره واختراع قريحته، ولا يستعمل فيه من الكلام إلا الأفصح من التراكيب. والخالص من الضرورات اللسانية فليهجرها، فإنها تنزل بالكلام عن طبقة البلاغة.
وقد حظر أئمة اللسان على المولد ارتكاب الضرورة، إذ هو في سعة منها بالعدول عنها إلى الطريقة المثلى من الملكة. ويجتنب أيضاً المعقد من التراكيب جهده. وإنما يقصد منها ما كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الفهم وكذلك كثرة المعاني في البيت الواحد فإن فيه نوع تعقيد على الفهم. وإنما المختار منه ما كانت ألفاظة طبقاً على معانيه أو أوفى منها. فإن كانت المعاني كثيرة كان حشواً، واشتغل الذهن بالغوص عليها، فمنع الذوق عن استيفاء مدركه من البلاغة. ولا يكون الشعر سهلاً إلا إذا كانت معانيه تسابق ألفاظه إلى الذهن. ولهذا كان شيوخنا رحمهم اللة يعيبون شعر أبي بكر بن خفاجة، شاعر شرق الأندلس، لكثرة معانيه وازدحامها في البيت الواحد، كما كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري بعده النسج على الأساليب العربية كما مر، فكان شعرهما كلاماً منظوماً نازلاً عن طبقة الشعر، والحاكم بذلك هو الذوق. وليجتنب الشاعر أيضاً الحوشي من الألفاظ والمقعر، وكذلك السوقي المبتذل بالتداول بالاستعمال، فإنه ينزل بالكلام عن طبقة البلاغة. وكذلك المعاني المبتذلة بالشهرة فإن الكلام ينزل بها عن البلاغة أيضاً، فيصير مبتذلاً ويقرب من عدم الإفادة كقولهم: النار حارة والسماء فوقنا. وبمقدار ما يقرب من طبقة عدم الإفادة يبعد عن رتبة البلاغة، إذ هما طرفان. ولهذا كان الشعر في الربانيات والنبويات قليل الإجادة في الغالب، ولا يحذق فيه إلا الفحول. وفي القليل، على العسر، لأن معانيها متداولة بين الجمهور، فتصير مبتذلة لذلك. وإذا تعذر الشعر بعد هذا كله فليراوضه ويعاوده، فإن القريحة مثل الضرع يدر بالامتراء ويجف ويغرر بالترك والإهمال. وبالجملة فهذه الصناعة وتعلمها مستوفى فى كتاب العمدة لابن رشيق، وقد ذكرنا منها ما حضرنا بحسب الجهد. ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بذلك الكتاب ففيه لبغية من ذلك. وهذه نبذة كافية والله المعين. وقد نظم الناس في أمر هذه الصناعة الشعرية ما يجب فيها. ومن أحسن ما قيل في ذلك وأظنه لابن رشيق:
لعن اللة صنعة الشعر ماذا ... من صنوف الجهال فيها لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلاً للسامعين مبينا
ويرون المحال معنى صحيحاً ... وخسيس الكلام شيئاً ثميناً
يجهلون الصواب منه ولايد ... رون للجهل أنهم يجهلونا
فهم عند من سوانا يلامو ... ن وفي الحق عندنا يعذرونا
إنما الشعر ما يناسب في النظ ... م وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضاً ... وأقامت له الصدور المتونا
كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى لو لم يكن أو يكونا
فتناهى من البيان إلى أن ... كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ منه وجوه ... والمعاني ركبن فيه عيونا
قائماً في المرام حسب الأماني ... يتحلى بحسنه المنشدونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً ... رمت فيه مذاهب المشتهينا
فجعلت النسيب سهلاً قريباً ... وجعلت المديح صدقاً مبينا
وتنكبت ماتهجن في السمع ... وإن كان لفظه موزونا
وإذا ما قرضته بهجاء ... عبت فيه مذاهب المرقبينا
فجعلت التصريح منه دواء ... وجعلت التعريض داء دفينا
وإذا ما بكيت فيه على الغا ... دين يوماً للبين والظاعنينا
حلت دون الأسى وذللت ما كا ... ن من الدمع في العيون مصونا
ثم إن كنت عاتباً جئت بالوعد ... وعيداً وبالصعوبة لينا
فتركت الذي عتبت عليه ... حذراً، آمناً، عزيزاً، مهينا
وأصح القريض ما فات في النظم ... وإن كان واضحاً مستبينا
فإذا قيل أطمع الناس طراً ... وإذا ريم أعجز المعجزينا
ومن ذلك أيضاً قول بعضهم وهو الناشي:
الشعرما قومت زيغ صدوره ... وشددت بالتهذيب أس متونه
ورأيت بالإطناب شعب صدوعه ... وفتحت بالإيجاز عور عيونه
وجمعت بين قريبه وبعيده ... ووصلت بين مجمه ومعينه
وعمدت منه سحد أمر يقتضى ... شبهاً به فقرينه بقرينه
وإذا مدحت به جواداً ماجداً ... وقضيته بالشكر حق ديونه
أصفيته بنفيسه ورصينه ... وخصصته بخطيره وثمينه
فيكون جزلاً في مساق صنوفه ... ويكون سهلاً في اتفاق فنونه
وإذا بكيت به الديار وأهلها ... أجريت للمحزون ماء شئونه
وإذا أردت كناية عن ريبة ... باينت بين ظهوره وبطونه
فجعلت سامعة يشوب شكوكه ... بثنائه وظنونه بيقينه
وإذا عتبت على أخ في زلة ... أدمجت شدته له في لينه
فتركته مستأنساً بدماثة ... مستأمناً لوعوثه وحزوبه
وإذا نبذت إلى الذي علقتها ... إذ صارمتك بفاتنات شؤونه
تيمتها بلطيفه ورقيقه ... وشغفتها بخبيه وكمينه
وإذا اعتذرت لسقطة أسقطتها ... وأشكت بين مخيله ومبينه
فيحول ذنبك عندمن يعتده ... عتباًعليه مطالباً بيمينه
الفصل السادس والخمسونفي أن صناعة النظم والنثر إنما هي في الألفاظ لا في المعاني اعلم أن صناعة الكلام نظماً ونثراً إنما هي في الألفاظ لا في المعاني، وإنما المعاني تبع لها وهي أصل. فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر، إنما يحاولها في الألفاظ بحفظ أمثالها من كلام العرب، ليكثر استعماله وجرية على لسانه، حتى تستقر له الملكة في لسان مضر، ويتخلص من العجمة التي ربي عليها في جيله، ويفرض نفسه، مثل وليد ينشأ في جيل العرب ويلقن لغتهم كما يلقنها الصبي، حتى يصير كأنه واحد منهم في لسانهم. وذلك أنا قدمنا أن للسان ملكة من الملكات في النطق يحاول تحصيلها بتكرارها على اللسان حتى تصل شأن الملكات، والذي في اللسان والنطق إنما هو الألفاظ، وأما المعاني فهي في الضمائر. وأيضاً فالمعاني موجودة عند كل واحد وفي طوع كل فكر منها مايشاء ويرضى، فلا تحتاج إلى تكلف صناعة في تأليفها. وتأليف الكلام للعبارة عنها هو المحتاج للصناعة كما قلناه وهو بمثابة القوالب للمعاني. فكما أن الأواني التي يغترف بها الماء من البحر منها آنية الذهب والفضة والصدف والزجاج والخزف، والماء واحد في نفسه. وتختلف الجودة في الأواني المملوءة بالماء باختلاف جنسها لا باختلاف الماء. كذلك جودة اللغة وبلاغتها في الاستعمال تختلف باختلاف طبقات الكلام في تأليفه، باعتبار تطبيقه على المقاصد. والمعاني واحدة في نفسها وإنما الجاهل بتأليف الكلام وأساليبه، على مقتضى ملكة اللسان، إذا حاول العبارة عن مقصوده، ولم يحسن، بمثابة المقعد، الذي يروم النهوض ولا يستطيعه، لفقدان القدرة عليه. والله يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل السابع والخمسونفي أن حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ وجودتها بجودة المحفوظ
قد قدمنا أنه لا بد من كثرة الحفظ، لمن يروم تعلم اللسان العربي، وعلى قدر جودة المحفوظ وطبقته في جنسه وكثرته من قلته، تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ. فمن كان محفوظه من أشعار العرب الإسلاميين شعر حبيب أو العتابي أو ابن المعتز أو ابن هانىء أو الشريف الرضي، أو رسائل ابن المقفع أو سهل ابن هارون أو ابن الزيات أو البديع أو الصابىء، تكون ملكته أجود وأعلى مقاماً ورتبة في البلاغة، ممن يحفظ أشعار المتأخرين مثل شعر ابن سهل أو ابن النبيه أو ترسل البيساني أو العماد لأصبهاني، لنزول طبقة هؤلا عن أولئك. يظهر ذلك للبصير الناقد صاحب الذوق. وعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع، تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما. فبارتقاء المحفوظ فى طبقته من الكلام، ترتقي الملكة الحاصلة لأن الطبع إنما ينسج على منوالها، وتنمو قوى الملكة بتغذيتها. وذلك أن النفس، وإن كانت في جبلتها واحدة بالنوع، فهي تختلف في البشر بالقوة والضعف في الإدراكات.
واختلافها إنما هو باختلاف ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والآلوان التي تكيفها من خارج. فبهذه يتم وجودها، وتخرج من القوة إلى الفعل صورتها. والملكات التي تحصل لها إنما تحصل على التدريج كما قدمناه. فالملكة الشعرية تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة بحفظ الأسجاع والترسيل، والعلمية بمخالطة العلوم والإدراكات والأبحاث والأنظار، والفقهية بمخالطة الفقه وتنظير المسائل وتفريعها وتخريج الفروع على الأصول، والتصوفية الربانية بالعبادات والأذكار وتعطيل الحواس الظاهرة بالخلوة والانفراد عن الخلق ما استطاع، حتى تحصل له ملكة الرجوع إلى حسه الباطن وروحه، وينقلب ربانياً وكذا سائرها. وللنفس في كل واحد منها لون تتكيف به، وعلى حسب ما نشأت الملكة عليه من جودة أو رداءة تكون تلك الملكة في نفسها، فملكة البلاغة العالية الطبقة في جنسها إنما تحصل بحفظ العالي في طبقته من الكلام، ولهذا كان الفقهاء وأهل العلوم كلهم قاصرين في البلاغة، وما ذلك إلا ما يسبق إلى محفوظهم، ويمتلىء به من القوانين العلمية والعبارات الفقهية الخارجة عن أسلوب البلاغة والنازلة عن الطبقة، لأن العبارات عن القوانين والعلوم لا حظ لها في البلاغة، فإذا سبق ذلك المحفوظ إلى الفكر وكثر وتلونت به النفس جاءت الملكة الناشئة عنه في غاية القصور وانحرفت عباراته عن أساليب العرب في كلامهم. وهكذا نجد شعر الفقهاء والنحاة والمتكلمين والنظار وغيرهم ممن لم يمتلىء من حفظ النقي الحر من كلام العرب.
أخبرني صاحبنا الفاضل أبو القاسم بن رضوان كاتب العلامة بالدولة المرينية قال: ذاكرت يوماً صاحبنا أبا العباس بن شعيب كاتب السلطان أبي الحسن، وكان المقدم في البصر باللسان لعهده فأنشدته مطلع قصيدة ابن النحوي ولم أنسبها له وهو هذا:
لم أدر حين وقفت بالأطلال ... ما الفرق بين جديدها والبالي
فقال لي على البديهة: هذا شعر فقيه، فقلت له ومن أين لك ذلك؟ قال من قوله: ما الفرق؟ إذ هي من عبارات الفقهاء، وليست من أساليب كلام العرب، فقلت له: لله أبوك، إنه ابن النحوي.
وأما الكتاب والشعراء فليسوا كذلك، لتخيرهم في محفوظهم ومخالطتهم كلام العرب وأساليبهم في الترسل، وانتقائهم له الجيد من الكلام.
ذاكرت يوماً صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب، وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدر المقدم في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعاباً علي في نظم الشعر متى رمته، مع بصري به وحفظي للجيد من الكلام، من القرآن والحديث وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلاً. وإنما أتيت، والله أعلم بحقيقة الحال، من قبل ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. فإني حفظت قصيدتي الشاطبي الكبرى والضغرى في القرا آت والرسم واستظهرتهما، وتدارست كتابي ابن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيراً من قوانين التعليم في المجالس، فامتلأ محفوظي من ذلك، وخدش وجه الملكة التي استدعيت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها، فنظر إلي ساعة متعجباً ثم قال: لله أنت، وهل يقول هذا إلا مثلك؟.
ويظهر لك من هذا الفصل، وما تقرر فيه سر آخر، وهو إعطاء السبب في أن كلام الإسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية، في منثورهم ومنظومهم. فإنا نجد شعر حسان بن ثابت وعمر بن أبي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان في الرمة والأحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الأموية وصدراً من الدولة العباسية، في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للفلوك أرفع طبقة في البلاغة بكثير من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم. والطبع السليم والذوق الصحيح شاهدان بذلك للناقد البصير بالبلاغة.
والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث، اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما، لكونها ولجت في قلوبهم ونشأت على أساليبها نفوسهم، فنهضت طباعهم وارتقت ملكاتهم في البلاغة عن ملكات من قبلهم من أهل الجاهلية، ممن لم يسمع هذه الطبقة ولا نشأ عليها، فكان كلامهم في نظمهم ونثرهم أحسن ديباجة وأصفى رونقاً من أولئك، وأصفى مبنى وأعدل تثقيفاً بما استفادوه من الكلام العالي الطبقة. وتأمل ذلك يشهد لك به ذوقك إن كنت من أهل الذوق والتبصر بالبلاغة.
ولقد سألت يوماً شيخنا الشريف أبا القاسم قاضي غرناطة لعهدنا، وكان شيخ هذه الصناعة، أخذ بسبتة عن جماعة من مشيختها من تلاميذ الشلوبين، واستبحر في علم اللسان وجاء من وراء الغاية فيه، فسألته يوماً: ما بال العرب الإسلاميين أعلى طبقة في البلاغة من الجاهليين، ولم يكن ليستنكر ذلك بذوقه، فسكت طويلاً ثم قال لي: والله ما أدري! فقلت له: أعرض عليك شيئاً ظهر لي في ذلك، ولعله السبب فيه. وذكرت له هذا الذي كتبت فسكت معجباً، ثم قال لي: يا فقيه هذا كلام من حقه أن يكتب بالذهب. وكان من بعدها يؤثر محلي ويصيخ في مجالس التعليم إلى قولي ويشهد لي بالنباهة في العلوم. والله خلق الإنسان وعلمه البيان.
الفصل الثامن والخمسون
في بيان المطبوع من الكلام
والمصنوع وكيف جودة المصنوع أو قصوله إعلم أن الكلام الذي هو العبارة والخطاب، إنما سره وروحه في إفادة المعنى.وأما إذا كان مهملاً فهو كالموات الذي لا عبرة به. وكمال الإفادة هو البلاغة على ما عرفت من حدها عند أهل البيان لأنهم يقولون هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ومعرفة الشروط والأحكام التي بها تطابق التراكيب اللفظية مقتضى الحال، هو فن البلاغة. وتلك الشروط والأحكام للتراكيب في المطابقة استقريت من لغة العرب وصارت كالقوانين. فالتراكيب بوضعها تفيد الإسناد بين المسندين، بشروط وأحكام جل قوانين العربية. وأحوال هذه التراكيب من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وإضمار وإظهار، وتقييد وإطلاق وغيرها، يفيد الأحكام المكتنفة من خارج الإسناد، وبالمتخاطبين حال التخاطب بشروط وأحكام هي قوانين لفن، يسمونه علم المعاني من فنون البلاغة. فتندرج قوانين العربية لذلك في قوانين علم المعاني لأن إفادتها الإسناد جزء من إفادتها للأحوال المكتنفة بالإسناد. وما قصر من هذه التراكيب عن إفادة مقتضى الحال لخلل في قوانين الإعراب أو قوانين المعاني كان قاصراً عن المطابقة لمقتضى الحال، ولحق بالمهمل الذي هو في عداد الموات.
ثم يتبع هذه الإفادة لمقتضى الحال التفنن في انتقال التركيب بين المعاني بأصناف الدلالات، لأن التركيب يدل بالوضع على معنى، ثم ينتقل الذهن إلى لازمه أو ملزومه أو شبهه، فيكون فيها مجازاً: إما باستعارة، أو كناية كما هو مقرر في موضعه، ويحصل للفكر بذلك الانتقال لذة كما تحصل في الإفادة وأشد. لأن في جميعها ظفر بالمدلول من دليله. والظفر من أسباب اللذة كما علمت. ثم لهذه الانتقالات أيضاً شروط وأحكام كالقوانين صيروها صناعة، وسموها بالبيان. وهي شقيقة علم المعاني المفيد لمقتضى الحال، لأنها راجعة إلى معاني التراكيب ومدلولاتها. وقوانين علم المعاني راجعة إلى أحوال التراكيب انفسها من حيث الدلالة. واللفظ والمعنى متلازمان متضايقان كما علمت. فإذا علم المعاني وعلم البيان هما جزء البلاغة، وبهما كمال الإفادة، فهو مقصر عن البلاغة ويلتحق عند البلغاء بأصوات الحيوانات العجم وأجدر به أن لا يكون عربياً، لأن العربي هو الذي يطابق بإفادته مقتضى الحال. فالبلاغة على هذا هي أصل الكلام العربي وسجيته وروحه وطبيعته.
ثم اعلم أنهم إذا قالوا: " الكلام المطبوع فإنهم يعنون به الكلام الذي كملت طبيعته وسجيته من إفادة مدلوله المقصود منه، لأنه عبارة وخطاب، ليس المقصود منه النطق فقط. بل المتكلم يقصد به أن يفيد سامعه ما في ضميره إفادة تامة، ويدل به عليه دلالة وثيقة. ثم يتبع تراكيب الكلام في هذه السجية التي له بالأصالة ضروب من التحسين والتزيين، بعد كمال الإفادة وكأنها تعطيها رونق الفصاحة من تنميق الأسجاع، والموازنة بين حمل الكلام وتقسيمه بالأقسام المختلفة الأحكام والتورية باللفظ المشترك عن الخفي من معانيه، والمطابقه بين المتضادات، ليقع التجانس بين الألفاظ والمعاني، يحصل للكلام رونق ولذة في الأسماع وحلاوة وجمال كلها زائدة على الإفادة.
وهذه الصنعة موجودة في الكلام المعجز في مواضع متعقلة مثل: " والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى " ، ومثل: " فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى " ، إلى آخر التقسيم في الآية. وكذا: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا " إلى آخر الآية. وكذا: " هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وأمثاله كثير. وذلك بعد كمال الإفادة في أصل هذه التراكيب قبل وقوع هذا البديع فيها. وكذا وقع في كلام الجاهلية منه، لكن عفواً من غير قصد ولاتعمد. ويقال إنه وقع في شعر زهير.
وأما الإسلاميون فوقع لهم عفواً وقصداً، وأتوا منه بالعجائب. وأول من أحكم طريقته حبيب بن أوس والبحتري ومسلم بن الوليد، فقد كانوا مولعين بالصنعة، ويأتون منها بالعجب. وقيل إن أول من ذهب إلى معاناتها بشار بن برد وابن هرمة، وكانا آخر من يسشهد بشعره، في اللسان العربي. ثم اتبعهما عمرو بن كلثوم والعتابي ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأبو نواس. وجاء على آثرهم حبيب والبحتري. ثم ظهر ابن المعتز فختم على البديع والصناعة أجمع. ولنذكر مثالاً من المطبوع الخالي من الصناعة، مثل قول قيس بن ذريح:
وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس في السر خاليا
وقول كثئر:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت عما بيننا وتخلت
لكالمرتجي ظل الغمامة كلها ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
فتأمل هذا المطبوع، الفقيد الصنعة، في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه. فلو جاءت فيه الصنعة من بعد هذا الأصل زادته حسناً.
وأما المصنوع فكثير من لدجن بشار، ثم حبيب وطبقتهما، ثم ابن المعتز خاتم الصنعة الذي جرى المتأخرون بعدهم في ميدانهم، ونسجوا على منوالهم. وقد تعددت أصناف هذه الصنعة عند أهلها، واختلفت اصطلاحاتهم في ألقابها. وكثير منهم يجعلها مندرجة في البلاغة على أنها غير داخلة في الإفادة، وأنها هي تعطي التحسين والرونق. وأما المتقدمون من أهل البديع، فهي عندهم خارجة عن البلاغة. ولذلك يذكرونها في الفنون الأدبية التي لا موضوع لها. وهو رأي ابن رشيق في كتاب العمدة له، وأدباء الأندلس. وذكروا في استعمال هذه الصنعة شروطاً، منها أن تقع من غير تكلف ولا اكتراث في ما يقصد منها. وأما العفو فلا كلام فيه لأنها إذا برئت من التكلف سلم الكلائم من غيب الاستهجان، لأن تكلفها ومعاناتها يصير إلى الغفلة عن التراكيب الأصلية للكلام، فتخل بالإفادة من أصلها، وتذهب بالبلاغة رأساً. ولا يبقى في الكلام إلا تلك التحسينات، وهذا هو الغالب اليوم على أهل العصر وأصحاب الأذواق في البلاغه يسخرون من كلفهم بهذه الفنون، ويعدون ذلك من القصور عن سواه. وسمعت شيخنا الأستاذ أبا البركات البلفيقي، وكان من أهل البصر في اللسان والقريحة في ذوقه يقول: إن من أشهى ما تقترحه علي نفسي أن اشاهد في بعض الأيام من ينتحل فنون هذا البديع في نظمه أو نثره، وقد عوقب بأشد العقوبة، ونودي عليه، يحذر بذلك تلميذه أن يتعاطوا هذه الصنعة، فيكلفون بها، ويتناسون البلاغة. ثم من شروط استعمالها عندهم الإقلال منها وأن تكون في بيتين ثم ثلاثة من القصيد، فتكفي في زينة الشعر ورونقه. والإكثار منها عيب، قاله ابن رشيق وغيره. وكان شيخنا أبو القاسم الشريف السبتي متفق اللسان العربي بالأندلس لوقته يقول: هذه الفنون البديعية إذا وقعت للشاعر أو للكاتب فيقبح أن يستكثر منها، لأنها من محسنات الكلام ومزيناته، فهي بمثابة الخيلان في الوجه يحسن بالواحد والاثنين منها، ويقبح بتعدادها. وعلى نسبة الكلام المنظوم هو الكلام المنثور في الجاهلية والإسلام. وكان أولاً مرسلاً معتبر الموازنة بين جمله وتراكيبه، شاهدة موازنته بفواصله، من غير التزام سجع ولا اكتراث بصنعة. حتى نبغ إبراهيم بن هلال الصابي كاتب بني بويه، فتعاطى الصنعة والتقفية وأتى بذلك بالعجب. وعاب الناس عليه كلفه بذلك في المخاطبات السلطانية. وإنما حمله عليه ما كان في ملوكه من العجمة والبعد عن صولة الخلافة المنفقة لسوق البلاغة. ثم انتشرت الصناعة بعده في منثور المتأخرين ونسي عهد الترسيل وتشابهت السلطانيات والأخوانيات والعربيات بالسوقيات. واختلط المرعي بالهمل. وهذا كله يدلك على أن الكلام المصنوع بالمعاناة والتكليف، قاصر عن الكلام المطبوع، لقلة الاكتراث فيه بأصل البلاغة، والحاكم في ذلك الذوق. الله خلقكم وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
الفصل التاسع والخمسون
في ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر
اعلم أن الشعر كان ديواناً للعرب، فيه علومهم وأخبارهم وحكمهم. وكان رؤساء العرب متنافسين فيه، وكانوا يقفون بسوق عكاظ لإنشاده وعرض كل واحد منهم ديباجته على فحول الشأن وأهل البصر، لتمييز حوكه. حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام، موضع حجهم، وبيت أبيهم إبراهيم، كما فعل امرؤ القيس بن حجر، والنابغة الذبياني، وزهير بن أبي سلمى، وعنترة بن شداد، وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبدة، والأعشى وغيرهم من أصحاب المعلقات السبع. فإنه إنما كان يتوصل إلى تعليق الشعر بها، من كان له قدرة على ذلك بقومه وعصبيته ومكانه في مضر، على ما قيل في سبب تسميتها بالمعلقات. ثم انصرف العرب عن ذلك أول الإسلام ، بما شغلهم من أمر الدين والنبوة والوحي، وما أدهشهم من أسلوب القرآن ونظمه، فأخرسوا عن ذلك وسكتوا عن الخوض في النظم والنثر زماناً. ثم استقر ذلك وأونس الرشد من الملة. ولم ينزل الوحي في تحريم الشعر وحظره، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وأثاب عليه، فرجعوا حينئذ إلى دينهم منه. وكان لعمر بن أبي ربيعة كبير قريش لذلك العهد مقامات فيه عالية وطبقة مرتفعة، وكان كثيراً ما يعرض شعره على ابن عباس فيقف لاستماعه معجباً به. ثم جاء من بعد ذلك الملك الفحل والدولة العزيزة، وتقرب إليهم العرب بأشعارهم يمتدحونهم بها. ويجيزهم الخلفاء بأعظم الجوائز على نسبة الجودة في أشعارهم ومكانهم من قومهم، ويحرصون على استهداء أشعارهم، يطلعون منها على الآثار والأخبار واللغة وشرف اللسان. والعرب يطالبون ولدهم بحفظها. ولم يزل الشاذ هذا أيام بني أمية وصدراً من دولة بني العباس. وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي، في باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة بذلك، والرسوخ فيه والعناية بانتحاله، والتبصر بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه. ثم جاء خلق من بعدهم لم يكن اللسان لسانهم، من أجل العجمة ولقصيرها باللسان، وإنما تعلموه صناعة، ثم مدحوا بأشعارهم أمراء العجم الذين ليس اللسان لهم طالبين معروفهم فقط، لا سوى ذلك من الأغراض، كما فعله حبيب والبحتري والمتنيي وابن هانىء ومن بعدهم إلى هلم جرا. فصار غرض الشعر في الغالب إنما هو للكدية والاستجداء لذهاب المنافع التي كانت فيه للأولين، كما ذكرناه آنفاً. وأنف منه لذلك أهل الهمم والمراتب من المتفخرين، وتغير الحال فيه وأصبح تعاطيه هجنه في الرئاسة ومذمة، هل المناصب الكبيرة. والله مقلب الليل والنهار.
الفصل الستون
في أشعار العرب وأهل الأمصار لهذا العهد
اعلم أن الشعر لا يختص باللسان العربي فقط، بل هو موجود في كل لغة، سواء كانت عربية أو عجمية. وقد كان في الفرس شعراء وفي يونان كذلك، وذكر منهم أرسطو في كتاب المنطق: أوميروس الشاعر وأثنى عليه. وكان في حمير أيضاً شعراء متقدمون. ولما فسد لسان مضر ولغتهم التي دونت مقاييسها وقوانين إعرابها، وفسدت اللغات من بعد بحسب ما خالطها ومازجها من العجمة، فكان لجيل العرب بأنفسهم لغة خالفت لغة سلفهم من مضر في الإعراب جملة، وفي كثير من الموضوعات اللغوية وبناء الكلمات. وكذلك الحضر أهل الأمصار نشأت فيهم لغة أخرى خالفت لسان مضر في الإعراب وأكثر الأوضاع والتصاريف، وخالفت أيضاً لغة الجيل من العرب لهذا العهد. واختلفت هي في نفسها بحسب اصطلاحات أهل الآفاق، فلأهل المشرق وأمصاره لغة غير لغة أهل المغرب وأمصاره، وتخالفهما أيضاً لغة أهل الأندلس وأمصاره.ثم لما كان الشعر موجوداً بالطبع في أهل كل لسان، لأن الموازين على نسبة واحدة في إعداد المتحركات والسواكن وتقابلها، موجودة في طباع البشر، فلم يهجر الشعر بفقدان لغة واحدة وهي لغة مضر، الذين كانوا فحوله وفرسان ميدانه، حسبما اشتهر بين أهل الخليقة. بل كل جيل وأهل كل لغة من العرب المستعجمين والحضر أهل الأمصار، يتعاطون منه ما يطاوعهم في انتحاله ورصف بنائه على مهيع كلامهم. فأما العرب، أهل هذا الجيل، المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر، فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض، على ما كان عليه سلفهم المستعربون، ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأعراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء، ويستطيردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام. وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر، ثم بعد ذلك ينسبون. فأهل أمصار المغرب من العرب يسمون هذه القصائد بالأصمعيات، نسبة إلى الأصمعي، راوية العرب. في أشعارهم. وأهل المشرق من العرب يسمون هذا النوع من الشعر بالبدوي والحوراني والقيسي، وربما يلحنون فيه ألحاناً بسيطة، لا على طريقة الصناعة الموسيقية. ثم يغنون به، ويسمون الغناء به باسم الحوراني، نسبة إلى حوران من أطراف العراق والشام، وهي من منازل العرب البادية ومساكنهم إلى هذا العهد.
ولهم فن آخر كثير التداول في نظمهم يجيئون به مغصناً على أربعة أجزاء، يخالف آخرها الثلاثة في رويه ويلتزمون القافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة، شبيهاً بالمربع والمخمس الذي أحدثه المتأخرون من المولدين. ولهؤلاء العرب في هذا الشعر بلاغة فائقة، وفيهم الفحول والمتأخرون عن ذلك، والكثير من المنتحلين للعلوم لهذا العهد، وخصوصاً علم اللسان، يستنكر هذه الفنون التي لهم إذا سمعها ويمج نظمهم إذا أنشد، ويعتقد أن ذوقه إنما نبا عنها لاستهجانها وفقدان الإعراب منها. وهذ إنما أتى من فقدان الملكة في لغتهم. فلو حصلت له ملكة من ملكاتهم لشهد له طبعه وذوقه ببلاغتها إن كان سليماً من الآفات في فطرته ونظره، وإلا فالإعراب لا مدخل له في البلاغة، إنما البلاغة مطابقة الكلام للمقصود ولمقتضى الحال من الوجود فيه، سواء كان الرفع دالاً على الفاعل والنصب دالاً على المفعول أو بالعكس. وإنما يدل على ذلك قرائن الكلام، كما هو في لغتهم هذه. فالدلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة: فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحت الدلالة، وإذا طابقت تلك الدلالة المقصود ومقتضى الحال صحت البلاغة. ولا عبرة بقوانين النحاة في ذلك. وأساليب الشعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإن غالب كلماتهم موقوفة الآخر. ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب. فمن أشعارهم على لسان الشريف بن هاشم يبكي الجازية بنت سرحان، ويذكر ظعنها مع قومها إلى المغرب:
قال الشريف ابن هاشم علي ... ترى كبدي حرى شكت من زفيرها
يفز للأعلام اين ما رأت خاطري ... يرد غلام البدو يلوي عصيرها
وماذا شكاة الروح مما طرا لها ... غداة وزائع تلف الله خبيرها
يحس إن قطاع عامر ضميرها ... طوى وهند جافي. ذكيرها
وعادت كما خوارة في يد غاسل ... على مثل شوك الطلح عقدوا يسيرها
تجابذوها اثنين والنزع بينهم ... على شوك لعه والبقايا جريرها
وباتت دموع العين ذارفات لشأنها ... شبيه دوار السواني يديرها
تدارك منها النجم حذراً وزادها ... مرون يجي متراكباً من صبيرها
يصب من القيعان من جانب الصفا ... عيون ولجاز البرق في غزيرها
هاذا الغنى حتى تسابيت غزوة ... ناضت من بغداد حتى فقيرها
ونادى المنادي بالرحيل وشددوا ... وعرج عاريها على مستعيرها
وشد لها الأدهم دياب بن غانم ... على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها
وقال لهم حسن بن سرحان غربوا ... وسوقوا النجوع إن كان أنا هوغفيرها
ويركض وبيده شهامه بالتسامح ... وباليمين لايجدوا في مغيرها
غدرني زيان السيح من عابس ... وماكان يرضى زين حمير وميرها
غدرني وهو زعماً صديقي وصاحبي ... وأناليه مامن درقتي مايديرها
ورجع يقول لهم بلال بن هاشم ... بحر البلادالعطشى ما بخيرها
حرام على باب بغداد وأرضها ... داخل ولاعائد ركيزه من نعيرها
تصدف روحي عن بلاد ابن هاشم ... على الشمس أو حول الغظا من هجيرها
وباتت نيران العذارى قوادح ... يلوذ وبجرجان يشدوا أسيرها
ومن قولهم في رثاء أمير رناتة أبي سعدى اليفرني مقارعهم بإفريقية وأرض الزاب ورثاؤهم له على جهة التهكم:
تقول فتاة الحي سعدى وهاضها ... لها في ظعون الباكرين عويل
أيا سائلي عن قبر الزناتي خليفة ... خذ النعت مني لاتكون هبيل
تراه يعالي وادي ران وفوقه ... من الربط عيساوي بناه طويل
أراه يميل النور من شارع النقا ... به الواد شرقاً واليراع دليل
أيا لهف كبدي على الزناتي خليفه ... قد كان لأعقاب الجياد سليل
قتيل فتى الهيجا دياب بن غانم ... جراحه كأفواه المزاد تسيل
أيا جائزاً مات الزناتي خليفه ... لاترحل إلا أن يريد رحيل
ألا واش رحلنا ثلاثين مرة ... وعشراً وستاً في النهار قليل
ومن قولهم على لسان الشريف بن هاشم يذكر عتاباً وقع بينه وبين ماضي بن مقرب:
تبدى ماضي الجبار وقال لي ... أشكر ما نحنا عليك رضاش
أشكر أعد ما بقي ود بيننا ... صرانا عريب عرباً لابسين نماش
نحن غدينا نصدفو ما قضى لنا ... كما صادفت طعم الزباد طشاش
أشكر أعد إلى يزيد ملامه ... ليحدو ومن عمر بلاده عاش
إن كان نبت الشول يلقح بأرضكم ... هنا العرب مازدنا لهن صياش
ومن قولهم في ذكر رحلتهم إلى الغرب وغلبهم زناتة عليه:
وأي جميل ضاع لي في الشريف بن هاشم ... وأي رجال ضاع قبلي جميلها
لقد كنت أنا وياه فى زهو بيتنا ... عناني بحجة وأغباني دليلها
وعدت كأني شارب من مدامة ... من الخمر فهو ماقدر من يميلها
أو مثل شمطامات مظنون كبدها ... غريباً وهي مدوخه عن قبيلها
أتاها زمان السوء حتى تدوحت ... وهي بين عرباً غافلاً عن نزيلها
كذلك أنا مما لحاني من الوجى ... شاكي بكبد باديتها زعيلها
وأمرت قومي بالرحيل وبكروا ... وقووا وشداد الحوايا حميلها
قعدنا سبعة أيام محبوس نجعنا ... والبدو ماترفع عمود يقيلها
نظل على حداب الثنايا نوازي ... يظل الجري فرق النضا ونصيلها
ومن شعر سلطان بن مطفر بن يحيى من الزواودة أحد بطون رياح وأهل الرياسة فيهم، يقولها وهو معتقل بالمهدية في سجن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص أول ملوك إفريقية من الموحدين:
يقول وفي بوح الدجا بعد وهنة ... حرام على أجفان عيني منامها
يا من لقلب حالف الوجد والأسى ... وروح هيامي طال مافي سقامها
حجازية بدوية عربية ... عداوية ولها بعيد مرامها
مولعة بالبدو لاتألف القرى ... سوى عانك الوعسا يؤتي خيامها
غيات ومشتاها بها كل شتوة ... ممحونة بيها وبيها صحيح غرامها
ومرباها عشب الأراضي من الحيا ... يواتي من الخورالخلايا جسامها
تشوق شوق العين مما تداركت ... عليها من السحب السواري غمامها