كتاب:السيرة النبوية
المؤلف:أبو الحاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي
ربيعة بن أكثم بن سخبرة و ثقف بن عمرو بن سميط و رفاعة بن مسروح و عبد
الله بن الهبيب و مسعود بن قيس بن خلدة و محمود بن مسلمة بن خالد بن عدي
بن مجدعة و أبو الضياح بن ثابت بن النعمان بن أمية و مبشر بن عبد المنذر
بن الزنبر بن زيد بن أمية بن سفيان بن الحارث و الحارث بن حاطب و عروة بن
مرة بن سراقة و أوس بن القائد و أنيف بن حبيب و ثابت بن أثلة و عمارة بن
عقبة بن حارثة بن غفار و بشر بن البراء بن معرور و كان سبب موته أكله من
الشاة المسمومة
وعند فراغ المسلمين من خيبر قدم جعفر بن أبي طالب من
أرض الحبشة فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و الله ! ما أدري بأي
الأمرين أنا أشد فرحا بفتح خيبر أو قدوم جعفر ] ! ثم قام إليه فقبل ما بين
عينيه
فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم سار إلى وادي القرى
فحاصر أهله ليالي و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم غلام له أهداه رفاعة
بن زيد الجذامي فبينا هو يضع رحل رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ أتاه
سهم غرب فقتله فقال المسلمون : هنيئا له الجنة ! فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ كلا و الذي نفسي بيده ! إن شملته الآن تحترق عليه في النار
و كان غلها من فيء المسلمين ] فسمعها رجل من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! أصبت شراكين لنعلين لي ! و قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : [ يبدلك الله مثلها في النار ]
ثم
استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم الحجاج بن علاط السلمي و قال : يا
رسول الله ! إن لنا مالا بمكة فأذن لي فأذن له فقال : يا رسول الله ! و أن
أقول ؟ قال فقل قدم الحجاج بمكة و إذا قريش بثنية البيضاء يستمعون الأخبار
و قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد سار إلى خيبر و قد كانوا
عرفوا أنها أكثر أرض الحجاز ريفا و منعة و رجالا فلما رأوه قالوا : يا
حجاج ! أخبرنا فإنه قد بلغنا أن القاطع سار إلى خيبر فقال الحجاج : عندي
من الخبر ما يسركم ! قالوا : ما هي يا حجاج ؟ فقال هزم هزيمة لم تسمعوا
بمثلها قط و أسر محمدا أسرا فقالوا : لن نقتله حتى نبعث به إلى مكة
فيقتلونه بين أظهرهم بمن كان قتل من رجالهم فقاموا و صاحوا بمكة : جاءكم
الخبر و هذا محمد إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فقال الحجاج : أعينوني
على مالي بمكة و على غرمائي فإني أقدم خيبر فأصيب من فيء محمد و أصحابه
قبل أن يسبقني التجار فلما سمع العباس بن عبد المطلب الخبر أقبل حتى وقف
على جنب الحجاج بن علاط قال : يا حجاج ! ما هذا الخبر الذي جئتنا به ؟ قال
: و هل عندك حفظا لما وضعت عندك ؟ قال : نعم قال : استأخر عني حتى ألقاك
على خلاء فإني في جمع مالي كما ترى فانصرف حتى إذا فرغ الحجاج من جمع ماله
و أراد الخروج لقي العباس فقال : احفظ علي حديثي فإني أخشى الطلب قال افعل
قال : و الله ! إني تركت ابن أخيك عروسا على ابنة ملكهم صفية بنت حيي و
لقد افتتح خيبر فصارت له و لأصحابه له قال : ما تقول يا حجاج ! قال : أي و
الله ! فاكتم علي ثلاثا و لقد أسلمت و ما جئت إلا لآخذ مالي فرقا من أن
أغلب عليه فإذا مضى ثلاث فأظهر أمرك فإن الأمر و الله على ما تحب ! ثم خرج
الحجاج بماله فلما كان اليوم الثالث من خروجه لبس العباس حلة و تخلق و أخذ
عصاه ثم خرج حتى طاف بالكعبة فلما رأوه قالوا : يا أبا الفضل ! هذا و الله
التجلد لحر المصيبة قال كلا و الذي حلفتم به لقد افتتح محمد خيبر و أصبح
عروسا على ابنة ملكهم و أحرز أموالهم و ما فيها قالوا : من جاء بهذا الخبر
؟ قال : الرجل الذي جاءكم بما جاءكم به و لقد دخل عليكم و أخذ ماله و
انطلق فلحق برسول الله صلى الله عليه و سلم ليصحبه و يكون معه قالوا : يا
لعباد الله انفلت عدو الله و الله لو علمنا لكان لنا و له شأن فلم يلبثوا
أن جاءهم الخبر بذلك
و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم في رجوعه
من خيبر إلى المدينة نزل بعض المنازل ثم قال : من يكلؤنا اللية ؟ فقال
بلال : أنا يا رسول الله ! فنزل رسول الله بالناس و ناموا و قام بلال يصلي
فصلى ما شاء الله أن يصلي ثم استند إلى بعيره و استقبل الفجر يرمقه فغلبته
عيناه فنام فلم يوقظهم إلا حر الشمس و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
أول أصحابه هبا فقال : [ ماذا صنعت يا بلال ] ! فقال : يا رسول الله ! أخذ
بنفسي الذي أخذ بنفسك قال : [ صدقت ] ثم اقتاد رسول الله صلى الله عليه و
سلم بعيره غير كثير ثم أناخ فتوضأ و توضأ الناس معه ثم أمر بلالا فأقام
الصلاة فصلى بالناس فلما سلم أقبل على الناس فقال : [ إذا نسيتم الصلاة
فصلوها إذا ذكرتموهما فإن الله يقول : { أقم الصلوة لذكري } ]
ثم
قدم رسول الله المدينة و أبو هريرة أسلم و قدم المدينة و النبي صلى الله
عليه و سلم بخيبر و عليها سباع بن عرفطة الغفاري فصلى مع سباع الغداة في
مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه يقرأ { ويل للمطففين الذين إذا
اكتالوا } ـ الآية و كان عمرو بن أمية الضمري خطب أم حبيبة بنت أبي سفيان
إلى النجاشي لرسول الله صلى الله عليه و سلم و هم بأرض الحبشة حيث حمل
كتاب النبي صلى الله عليه و سلم فزوجها النجاشي من رسول الله صلى الله
عليه و سلم على مهر أربعمائة من عنده و كان الذي زوجها خالد بن سعيد بن
العاص و بعثها النجاشي مع من بقي من المسلمين بأرض الحبشة إلى المدينة في
سفينتين فلما بلغوا الجار ركبوا الظهر حتى قدموا على رسول الله صلى الله
عليه و سلم عند انصرافه من خيبر و رد رسول الله صلى الله عليه و سلم ابنته
علي أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول و قدم عمرو بن العاص زائرا لرسول
الله صلى الله عليه و سلم و مسلما عليه من عند النجاشي و كان قد أسلم بأرض
الحبشة و معه عثمان بن طلحة العبدري و خالد بن الوليد بن المغيرة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشير بن سعد سرية إلى بني مرة في ثلاثين رجلا فقتلوا و رجع وحده إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا بكر الصديق سرية إلى نجد و معه سلمة بن الأكوع
و بعث صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الليثي إلى بني الملوح في
رمضان في مائة و ثلاثين رجلا فأغاروا عليهم و استاقوا النعم و الشاء و
جاءوا بها إلى المدينة ونذروا لخروج العدو خلفهم فجاء السيل و حال الوادي
بينهم و بين المسلمين و رجعوا إلى المدينة بالغنائم
ثم بعث رسول
الله صلى الله عليه و سلم عمر بن الخطاب سرية في ثلاثين رجلا إلى أرض
هوزان فخرج معه بدليل من بني هلال فكانوا يسيرون بالليل و يكمنون بالنهار
حتى ملكوا هوازن و نذر القوم و هربوا و لم يلق عمر كيدا ثم رجع
ثم
بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم بشير بن سعد إلى جناب في شوال معه حسيل
بن نويرة فأصابوا نعما و انهزم جمع عيينة بن حصن إلى المدينة
ثم
أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يعتمر في ذي القعدة عمرة القضاء
لما فاتهم من العام الأول من عمرة الحديبية و عزم أن ينكح ميمونة فبعث أبا
رافع و رجلا من الأنصار من المدينة إلى ميمونة ليخطبها له ثم أحرم و ساق
سبعين بدنة في سبعمائة رجل و استعمل على المدينة ناجية بن جندب الأسلمي و
تحدثت قريش أن محمدا و أصحابه في عسر و جهد و حاجة فقدم صلى الله عليه و
سلم مكة و عبد الله بن رواحة أخذ بخطام ناقته يقول :
( خلوا بني الكفار عن سبيله ... خلوا فكل الخير في رسوله )
( يا رب إني مؤمن بقيله ... أعرف حق الله في قبوله )
( نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله )
( ضربا يزيل الهام عن مقيله ... و يذهل الخليل عن خليله )
و اصطفت قريش عند دار الندوة لينظروا إليه و إلى أصحابه فلما دخل رسول
الله صلى الله عليه و سلم المسجد اضطبع بردائه و أخرج عضده اليمنى و قال :
[ رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ] ! ثم استلم الركن فخب ثلاثا و
مشى أربعا و خب المسلمون معه و استلم الركن و هرول بين الصفا و المروة
ليرى المشركون أن به قوة ثم حلق و نحر البدن فكانت البدنة عن عشرة و أقام
رسول الله صلى الله عليه و سلم بمكة ثلاثا و تزوج ميمونة بها و هي حل و هو
حرام فأتاه حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبد ود في نفر من قريش قد
وكلته بإخراج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة و قالوا : إنه قد
انقضى أجلك فاخرج عنا ! فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من مكة
بالمسلمين و خلف أبا رافع مولاه على ميمونة حتى أتاه بها بسرف فبنى بها و
هما حلالان ثم رجع إلى المدينة
ثم بعث صلى الله عليه و سلم بعد
رجوعه من مكة بخمسين رجلا ابن أبي العوجاء السلمي في سرية إلى بني سليم
فلقيهم بنو سليم على حرة فأصيب أصحابه و نجا هو بنفسه فقدم المدينة
[ حدثنا أحمد بن علي بن المثنى التميمي بالموصل ثنا عبد الواحد بن غياث
ثنا حماد بن سلمة عن قتادة و ثابت و حميد عن أنيس قال : غلا السعر على عهد
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا : يا رسول الله ! سعر لنا فقال : إن
الله هو القابض و الباسط المسعر الرزاق و إني أرجو أن ألقى الله و ليس أحد
منكم يطالبني بمظلمة في نفس و لا مال ]
قال : في أول هذه السنة غلا
السعر على المسلمين فأتوا النبي صلى الله عليه و سلم يسعر لهم فكره رسول
الله صلى الله عليه و سلم ذلك ثم قال : [ لا تباغضوا و لا تحسدوا و لا
تدابروا و كونوا عباد الله إخوانا ] ثم قال : [ لا يسوم الرجل على سوم
أخيه و لا يبيع حاضر لباد دعو الناس يرزق بعضهم من بعض ]
ثم طلق
رسول الله صلى الله عليه و سلم سودة بنت زمعة فقعدت له على طريقه بين
المغرب و العشاء ثم قالت : يا رسول الله ! ارجعني فو الله ما بي حب الرجال
! لكني أحب أن أحشر في أزواجك و يومي لعائشة ! فردها رسول الله صلى الله
عليه و سلم
ثم توفيت زينب بنت رسول الله غسلتها سودة بنت زمعة و أم سلمة بنت أبي أمية زوجتا رسول الله صلى الله عليه و سلم
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم غالب بن عبد الله الليثي سرية إلى
بني ليث في بضعة عشر رجلا فقتل مقاتلهم و سبى ذراريهم و ساق نعمهم و
مواشيهم إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن
العاص إلى جيفر و عباد ابني الجلندي بعمان فصدقا بالنبي صلى الله عليه و
سلم و اقرأ بما جاء به و صدق عمرو بن العاص أموالهم و أخذ الجزية من
المجوس
ثم صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم المنذر بن ساوى
العبدي و كتب إليه كتابا مع العلاء بن الحضرمي [ بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد رسول الله إلى المنذر ابن ساوى سلام عليك فإني أحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن كتابك جاءني و رسلك و أنه من صلى صلاتنا و
استقبل قبلتنا فإنه مسلم له ما للمسلم و عليه ما على المسلم و من أبى
فعليه الجزية فصالحهم العلاء بن الحضرمي على أن على المجوس الجزية لا تؤكل
ذبائحهم و لا تنكح نساؤهم ]
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم
كعب بن عمير الغفاري سرية في خمسة عشر رجلا حتى انتهى ذات أطلاح من ناحية
الشام قريبا من مغار و كانوا من قضاعة فوجد بها جمعا كثيرا فدعاهم إلى
الإسلام فأبوا أن يجيبوا و قتلوا أصحاب كعب جميعا و نجا هو بنفسه حتى قدم
المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم شجاع بن وهب سرية إلى
بني عامر قبل نجد في أربعة و عشرين رجلا فأغار عليهم فجاءوا نعما و شاء
فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا و نفلهم النبي صلى الله عليه و سلم بعيرا
بعيرا
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم زيد بن حارثة إلى مؤتة
ناحية الشام فأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا و قال : [ إن أصيب زيد فجعفر
بن أبي طالب على الناس و إن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس ] و
تجهز الناس معه فخرج معه قريبا من ثلاثة آلاف من المسلمين و مضى حتى نزل
معان من أرض الشام فبلغهم أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في مائة ألف
من الروم فأقام المسلمون بمعان ليلتين ينظرون في أمرهم فشجع الناس عبد
الله بن رواحة و قال : يا قوم ! و الله إن التي تكرهون هي التي خرجتم من
أجلها ـ الشهادة ! و لا نقاتل الناس بعدد و لا قوة إنما نقاتلهم بهذا
الدين الذي أكرمنا الله به فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنين إما ظهور و إما
شهادة فقال الناس : قد و الله صدق ابن رواحة ! ثم رحلوا فلما كانوا بالقرب
من بلقاء لقيهم جموع هرقل في الروم فلما دنا العدو انحاز المسلمون إلى
قرية يقال لها مؤتة فتعبأ لهم المسلمون و جعلوا على ميمنتهم رجلا من بني
عذرة يقال له قطبة بن قتادة و على ميسرتهم رجلا من الأنصار من بني سعد بن
هريم يقال له عبادة ابن مالك ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا فقاتل
زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قتل ثم أخذها جعفر
فقاتل بها حتى ألحمه القتال فاقتحم عن فرسه الشقراء و عرقبها و قاتل حتى
قتل و فيه اثنتان و سبعون ما بين ضربة بالسيف و طعنة بالرمح ثم أخذ عبد
الله بن رواحة الراية و تقدم بها و هو على فرسه فقاتل حتى قتل و أخذ
الراية ثابت بن أقرم و قال : يا معشر المسلمين ! اصطلحوا على رجل منكم
قالوا : أنت قال : ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد فأخذ
خالد الراية و دافع القوم و حاشى بهم ثم انصرف بالناس فنعى رسول الله صلى
الله عليه و سلم الناس جعفر بن أبي طالب و زيد بن حارثة و عبد الله بن
رواحة قبل أن يجيء خبرهم ثم قال صلى الله عليه و سلم : [ اصنعوا لآل جعفر
طعاما فإنه قد جاءهم ما يشغلهم ] و قدم خالد بن الوليد بالمسلمين فتلقاهم
رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون و الصبيان يحثون على الجيش
التراب و يقولون : أفررتم في سبيل الله ! و رسول الله صلى الله عليه و سلم
يقول : [ ليسوا بالفرارين و لكنهم الكرارون ]
ثم بعث رسول الله صلى
الله عليه و سلم عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل و هم قضاعة و كانت أم
العاص بن وائل قضاعية فأراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يتألفهم
بذلك فخرج في سراة المهاجرين و الأنصار ثم استمد رسول الله صلى الله عليه
و سلم بأبي عبيدة ابن الجراح على المهاجرين و الأنصار فيهم أبو بكر و عمر
فلما اجتمعوا و اختلف أبو عبيدة و عمرو بن العاص في الإمامة فقال
المهاجرون : أنت أمير أصحابك و أبو عبيدة أميرنا فأبى عمرو بن العاص و قال
: أنتم لي مدد فقال أبو عبيدة : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لي
: [ إذا قمت على أصحابك فتطاوعا و إنك إن عصيتني لأطيعنك ] فأطاعه أبو
عبيدة بن الجراح و كانوا يصلون خلف عمرو بن العاص و فيها صلى بهم و هو جنب
فلما قدموا على رسول الله أخبره الخبر فقال عمرو : لقيت من البرد شدة و
إني لو اغتسلت خشيت الموت ! فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمرو
: يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قال الله { و لا تقتلوا أنفسكم } ـ
الآية
و في هذا الشهر كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى خزاعة بن بديل و بشر و سروات بني عمرو يدعوهم إلى الله و يعرض عليهم الإسلام
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا قتادة سرية إلى غطفان في ستة عشر رجلا فبيتوهم و أصابوا نعما و شياه و رجعوا إلى المدينة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة من
المهاجرين و الأنصار قبل جهينة و زودهم جراب تمر فأصابهم جوع شديد و كان
أبو عبيدة يعطيهم حفنة حفنة ثم أعطاهم تمرة تمرة ثم ضرب لهم البحرة بدابة
يقال لها العنبر فأكلوا منها شهرا ثم أخذ أبو عبيدة ضلعا فنصبه فمر راكب
البعير تحته فلما رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبروه فقال :
[ هو رزق رزقتموه من الله هل عندكم منه شيء ] ؟ و سمى هذا الجيش جيش الخبط
و ذلك أنهم جاعوا فكانوا يأكلون الخبط حتى صارت أشداقهم كأشداق الإبل
ثم استشار عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لي أرضا بخيبر
لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني ؟ قال : [ إن شئت حبست أصلها
و تصدقت بها ] فحبس عمر أصلها و تصدق بها ـ و لا تباع و لا توهب و لا تورث
ـ في الفقراء و الغرباء و ما بقي أنفق في سبيل الله و ابن السبيل لا جناح
على وليها أن يأكل منها بالمعروف و أن يعطي طريفا عنه غير متمول فيه ثم إن
بكر بن عبد مناة بن كنانة خرجت على خزاعة و هم على ماء لهم بأسفل مكة
فقاتلوا فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذلك قال للمسلمين : [
كأنكم بأبي سفيان قد قدم لتجديد العهد بيننا ] ! و كان بديل بن ورقاء
بالمدينة فخرج إلى مكة راجعا فلما بلغ عسفان لقيه أبو سيفان و كانت قريش
قد بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لتجديد العهد فقال له أبو
سفيان : من أين أقبلت يا بديل ؟ قال : سرت إلى خزاعة قال : جزت بمحمد ؟
قال : لا ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة فدخل على ابنته أم حبيبة فلما
ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم طوته عنه فقال : يا
بنيتي ! ما أدري أرغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه ؟ قالت : هذا فراش
رسول الله صلى الله عليه و سلم و أنت رجل مشرك نجس ! فلم أحب أن تجلس على
فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم خرج أبو سفيان حتى أتى النبي صلى
الله عليه و سلم فكلمه فلم يرد عليه شيئا فذهب إلى أبي بكر فكلمه أن يكلم
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : ما أنا بفاعل ثم خرج حتى أتى عمر
فكلمه فقال عمر : أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ! و
الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم بهم ثم خرج أبو سفيان حتى دخل على علي
بن أبي طالب و عنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم و عندها
الحسن ابنها يدب فقال : يا علي ! إنك أمس القوم بي رحما و أقربهم منى
قرابة و قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت اشفع لي إلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال : ويحك يا أبا سفيان ! لقد عزم رسول الله صلى الله عليه و
سلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه فالتفت إلى فاطمة فقال : هل لك أن
تأمري ابنك هذا أن يجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر قالت :
ما بلغ ذلك ابني أن يجير بين الناس قال : يا أبا الحسن ! إني أرى الأمور
قد اشتدت علي ما تنصح لي ؟ قال : و الله ! ما أعلم شيئا يغني عنك و لكن قم
فأجر بين الناس و الحق بأرضك قال : و ترى ذلك يغني عني شيئا ؟ قال : و
الله ما أدري ! فقام أبو سفيان في المسجد فقال : أيها الناس ! إني قد أجرت
بين الناس ـ ثم خرج فلما قدم على قريش مكة قالوا : ما وراءك ؟ قال : جئت
محمدا فكلمته قال : فو الله ما رد علي بشيء ! ثم جئت ابن أبي قحافة فلم
أجد فيه خيرا ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أعدى العدو ثم جئت عليا فوجدته
ألين القوم و قد أشار علي برأي صنعته فو الله ! ما أدري هل يغنيني شيئا أم
لا ! قالوا : و بما ذا أمرك ؟ قال : أمرني أن أجير بين الناس ففعلت قالوا
: فهل أجاز محمد ذلك ؟ قال : لا قالوا : ويحك ! و الله إن زاد علي بن أبي
طالب على أن لعب بك ! و الله ما يغني عنك ما فعلت !
ثم عزم رسول
الله صلى الله عليه و سلم على المسير إلى مكة و أمرهم بالجد و التهيؤ و
قال : [ اللهم ! خذ العيون و الأخبار عن قريش ] فلما صح ذلك منه و من
المسلمين كتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبر بالذي قد أجمع عليه
رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم أعطاه امرأة من مزينة و جعل لها جعلا
على أن تبلغه قريشا فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت و أخبر
الله رسوله صلى الله عليه و سلم بما فعل حاطب فبعث رسول الله صلى الله
عليه و سلم علي بن أبي طالب و الزبير بن العوام و قال : أدركا امرأة من
مزينة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش يحذرهم ما قدمنا عليه فخرجا حتى
أدركاها بالحليفة فاستنزلا و التمسا في رحلها فلم يجدا شيئا فقال لها علي
: إن أحلف بالله أن رسول الله صلى الله عليه و سلم ما كذب و لا كذبنا إما
أن تخرجي الكتاب و إلا نكشفنك فلما رأت الجد قالت : أعرض عني فأعرض عنها
علي فحلت قرون رأسها و استخرجت الكتاب فدفعته إليه فجاء به رسول الله صلى
الله عليه و سلم فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم حاطبا فقال : [ يا
حاطب ! ما حملك على هذا ] ؟ قال : يا رسول الله ! و الله إني لمؤمن بالله
و رسوله ما غيرت و لا بدلت و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا
عشيرة و كان لي بينهم أهل و ولد فقال عمر : دعني أضرب عنقه فإن الرجل قد
نافق فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ و ما يدريك يا عمر ! لعل الله قد
اطلع يوم بدر إلى أهل بدر فقال : اعلموا ما شئتم فقد غفرت لكم ]
ثم
خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم من المدينة و استخلف على المدينة أبا
رهم كلثوم بن حصين بن عبيد بن خلف الغفاري و ذلك لعشر مضين من رمضان فصام
رسول الله صلى الله عليه و سلم فصام المسلمون و مع رسول الله صلى الله
عليه و سلم عشرة آلاف من المسلمين و لم يعقد الألوية و لا نشر الرايات
فلما بلغ الكديد ـ و الكديد ما بين عسفان و أمج أفطر و أفطر المسلمون و قد
كان عيينة بن حصن الفزاري لحق رسول الله بالعرج و لحقه الأقرع بن حابس
التميمي في نفر من أصحابهما فقال عيينة : يا رسول الله ! و الله ما أرى
آلة الحرب و لا تهيئة الإجرام فأين تتوجه ؟ قال : رسول الله صلى الله عليه
و سلم : [ حيث شاء الله ] فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم مر
الظهران قد عميت الأخبار على قريش فلا يأتيهم خبر عن رسول الله صلى الله
عليه و سلم و لا يدرون ما هو فاعل خرج أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام و
بديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار و ينظرون هل يرون خبرا أو يسمعون به فقال
العباس بن عبد المطلب : يا صباح قريش ! و الله لئن دخل رسول الله صلى الله
عليه و سلم عنوة قبل أن يأتوه فاستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر !
فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه و سلم البيضاء و مضى عليها حتى
أتى الأراك و قال هل أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة
فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخرجوا إليه و يستأمنوه قبل
أن يدخلها عنوة فبينما هو يسير إذ سمع كلام أبي سفيان و هو يقول : و الله
ما رأيت كالليلة نيرانا قط و عسكرا فقال بديل بن ورقاء : هذه و الله نيران
خزاعة ! فقال أبو سفيان : خزاعة و الله الأم و أذل من أن تكون هذه نيرانها
و عسكرها ! فلما عرف العباس صوتهم قال : يا أبا حنظلة ! فعرف أبو سفيان
صوته فقال : أبو الفضل ؟ قال : نعم قال : ما لك ؟ قال فداك أبي و أمي ويحك
يا أبا سفيان ! هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! قال : واصباح قريش !
قال : فما الحيلة ـ فداك أبي و أمي ؟ قال العباس : أما و الله لئن ظفر بك
ليضربن عنقك ! فاركب عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه و
سلم فركب أبو سفيان خلف العباس و رجع صاحباه إلى مكة فكلما مر العباس بنار
من نيران المسلمين قالوا : من هذا ؟ و إذا رأوه قالوا : بغلة رسول الله
صلى الله عليه و سلم و العباس عليها عمه فلما مر بنار عمر ابن الخطاب قال
: من هذا ؟ و قام إليه فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة قال : أبو سفيان
عدو الله ! الحمد لله الذي أمكن منك من غير عقد و لا عهد ! ثم خرج يشتد
نحو رسول الله صلى الله عليه و سلم و ركض العباس بالبغلة فسبقه إلى رسول
الله فاقتحم العباس على باب القبة و دخل على رسول الله صلى الله عليه و
سلم و دخل عليه عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ! هذا أبو سفيان قد
أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد ! فدعني أضرب عنقه فقال العباس : يا رسول
الله ! إني قد أجرته ثم جلس العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و
أكثر عمر في شأن أبي سفيان فقال العباس : مهلا يا عمر ! أما والله لو كان
من رجال بنيي عدي بن كعب ما قلت هذا و لكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد
مناف ! فقال عمر : مهلا يا عباس : فو الله لإسلامك يوم أسلمت أحب إلي من
إسلام الخطاب لو أسلم ! و ما بي إلا أني عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم من إسلام الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : [ اذهب به يا عباس إلى رحلك إذا أصبحت فأتني به ] فذهب به العباس
إلى رحله فبات عنده فلما أصبح غدا به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ ويحك يا أبا سفيان ! ألم
يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ] ؟ قال : بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و
أكرمك و أوصلك ! والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى شيئا !
قال : [ ويحك يا أبا سفيان ! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ] ؟ قال :
بأبي أنت و أمي ! ما أحلمك و أكرمك و أوصلك ! أما هذه فإن في النفس منها
شيئا حتى الآن فقال العباس : ويحك ! أسلم قبل أن يضرب عنقك فتشهد أبو
سفيان شهادة و أسلم فقال العباس : يا رسول الله ! إن أبا سفيان رجل يحب
الفخر فاجعل له شيئا قال : [ نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! ومن أغلق
عليه بابه فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن ] ! فلما أراد أبو سفيان أن
ينصرف قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ يا عباس احبسه احبسه بمضيق
الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها ] فخرج به العباس فحبسه
حيث أمر به رسول الله صلى الله عليه و سلم و مرت القبائل على راياتها كلما
مرت قبيلة قال أبو سفيان : من هؤلاء يا عباس ؟ فيقول العباس : سليم فيقول
أبو سفيان : ما لي ولسليم ! ثم مرت به القبيلة فقال : من هؤلاء ؟ فقال
العباس : مزينة قال : ما لي و لمزينة ـ حتى مرت القبائل لا تمر به قبيلة
إلا سأله عنها فإذا أخبره قال : ما لي و لبني فلان حتى مر رسول الله صلى
الله عليه و سلم في الخضراء كتيبة رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها
المهاجرون و الأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد قال : سبحان الله يا
عباس ! من هؤلاء ؟ قال : هذا رسول الله صلى الله عليه و سلم في المهاجرين
و الأنصار ! قال : و لا حد بها و لا قبل و لا طاقة يا أبا الفضل ! لقد
أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ! فقال العباس : يا أبا سفيان ! إنه لنبوة
! قال : فنعم إذا قال العباس : أرحلك إلى قومك فخرج أبو سفيان حتى إذا دخل
مكة صرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ! هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به
! فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ! فقامت إليه هند بنت عتبة فأخذت بشاربه
و قالت : اقتلوا
الحميت الدسم الأحمش ! فقال أبو سفيان : لا يغرنكم
هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم بما لا قبل لكم به من دخل دار أبي سفيان فهو
آمن ! قالوا : قبحك الله ! و ما تغني دارك ؟ قال : و من أغلق عليه بابه
فهو آمن ! و من دخل المسجد فهو آمن فتفرق الناس إلى دورهم و إلى المسجد
و لما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم ذا طوى فرق جنوده فبعث عليا من
ثنية المدنيين و بعث الزبير من الثنية التي تطلع على الحجون و بعث خالد بن
الوليد من الليط و أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم طريق أذاخر أمرهم أن
لا يقاتلوا أحدا إلا من قاتلهم فبلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم أن
صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و عبد الله بن زمعة و سهيل ابن عمرو قد
جمعوا جماعة من القريش و الأحابيش بالخندمة ليقاتلوا رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلقيهم خالد بن الوليد بمن معه من المسلمين ناوشوهم فقتل منهم
خالد بن الوليد ثلاثة وعشرين رجلا و هو معهم و قتل من المشركين كرز بن
جابر الفهري فمن ههنا اختلف الناس في فتح مكة عنوة كان أم صلحا
فلما
بلغ أبا قحافة قدوم النبي صلى الله عليه و سلم مكة قال لابنة له من أصغر
ولده : أي بنيتي ! اظهري بي على ظهر قبيس و كان نظره قد كف إذ ذلك فقال :
أي بنية ! ما ترين ؟ قالت : أرى سوادا مجتمعا قال : تلك الخيل ثم قالت :
والله قد انتشر السواد ! فقال : والله لقد دفعت الخيل سرعى إلى بيتي !
فانحبطت به و تلقته الخيل قبل أن يصل إلى بيته و دخل رسول الله صلى الله
عليه و سلم من أذاخر مكة على رأسه مغفر من حديد عليه عمامة سوداء و لم يلق
أحد من المسلمين قتالا إلا ما كان من خالد بن الوليد و كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم أمر بقتل ستة أنفس من المشركين قبل قدومهم إلى مكة و قال
: [ أي موضع رأيتم هؤلاء فاقتلوهم ] : عبد الله بن سعد بن أبي سرح و عبد
الله بن خطل رجل من بني تميم بن غالب و الحويرث بن نقيذ بن وهب بن عبد بن
قصي و مقيس بن صبابة الليثي و سارة مولاة كانت لبعض بني عبد المطلب فأما
عبد الله بن سعد بن ابي سرح ففر إلى عثمان بن عفان و كان أخاه في الرضاعة
فغيبه عثمان حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستأمنه و أما
الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب و أما ابن خطل فتعلق بأستار الكعبة
يلوذ بها فقال النبي صلى الله عليه و سلم : اقتلوه فقتله سعيد بن المخزومي
و أبو بررة تحت الأستار اشتركا في دمه و أما مقسيس فقتله نميلة بن عبد
الله ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لايقتل قرشي صبرا بعد
اليوم ] ! و نزل النبي صلى الله عليه و سلم الأبطح و ضرب لنفسه فيه قبة و
جاءته أم هانئ بنت أبي طالب فوجدت رسول الله صلى الله عليه و سلم يغتسل في
جفنة فيها أثر العجين و فاطمة ابنته تستره بثوب فلمل اغتسل أخذ ثوبه فتوشح
به ثم صلى ثماني ركعات من الضحى ثم انصرف إليها فقال مرحبا مرحبا و أهلا
بأم هانئ ! ما الذي جاء بك ؟ قالت رجلان من أصهاري من بني مخزوم و قد
أجرتهما و أراد علي قتلهما ـ و كانت أم هانئ تحت هبيرة بن أبي وهب
المخزومي ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أجرنا من أجرت يا أم
هانئ ] ! ثم إن عمير بن وهب قال : يا رسول الله ! إن صفوان بن أمية سيد
قومه و قد خرج هاربا منك ليقذف نفسه في البحر فآمنه قال : هو آمن قال : يا
رسول الله ! أعطني شيئا يعرف به أمانك فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و
سلم عمامته التي دخل بها مكة فخرج عمير بها حتى أدرك صفوان بن أمية بجدة و
هو يريد أن يركب البحر فقال : يا صفوان فداك أبي و امي ! أذكرك الله في
نفسك أن تهلكها ! فهذا أمان من رسول الله صلى الله عليه و سلم جئتك به قال
: ويلك ! اغرب عني قال : أي صفوان فداك أبي و أمي ! أوصل الناس و أبر
الناس و أحلم الناس و خير الناس ابن عمتك رسول الله صلى الله عليه و سلم
عزه عزك و شرفه شرفك و ملكه ملكك قال صفوان : و يلك ! إني أخافه على نفسي
فأعطاه العمامة و خرج به معه فلما وقف على رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال : يا رسول الله ! هذا زعم أنك قد آمنتني قال : [ صدق ] قال : فاجعلني
بالخيار شهرين قال : [ أنت بالخيار أربعة أشهر ]
ثم جاء رسول الله
صلى الله عليه و سلم و طاف بالبيت سبعا على بعيره يستلم الركن بمحجنه ثم
طاف بين الصفا و المروة ثم دعا عثمان بن طلحة الحجبي فأخذ مفتاح الكعبة و
فتحه ثم دخله و صلى فيه ركعتين بين الأسطوانتين بينه و بين الجدار ثلاثة
أذرع ثم خرج فوقف على بابها و هو يقول : [ لا إله إلا الله و حده لا شريك
له صدق و عده و نصر عبده و هزم الأحزاب و حده ألا ! كل مأثرة أو دم أو مال
يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة و سقاية الحاج ألا ! و قتيل الخطأ مثل
العمد بالسوط و العصا فيه الدية مغلظة مائة ناقة منها أربعون في بطونها
أولادها يا معشر قريش ! إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية و تعظمها
بالآباء الناس من آدم و آدم من تراب ] ثم تلا هذه الآية { ياأيها الناس
إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم
عند الله أتقاكم } الآية ثم قال : [ يا أهل مكة ! ما ترون أني فاعل بكم ؟
] قالوا : خيرا أخ كريم و ابن أخ كريم ثم قال : [ اذهبوا فأنتم الطلقاء ]
! فقام إليه علي بن أبي طالب و مفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله !
اجعل الحجابة مع السقاية فلتكن إلينا جميعا فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : [ أين عثمان بن طلحة الحجبي ؟ ] فدعاه فقال : [ هل لك مفتاحك ] ؟
فدفعه إليه
فلما كان الغد من فتح مكة عدت خزاعة على رجل من هذيل
فقتلوه و هو مشرك فقام رسول الله صلى الله عليه و سلم خطيبا فقال : [ أيها
الناس ! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض فهي حرام إلى يوم
القيامة لا يحل لامرىء يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك دما ] ثم قال : [
إن الله حبس عن مكة الفيل و سلك عليها رسوله و إنها لم تحل لأحد قبلي و
إنما أحلت لي ساعة من نهار و إنها لا تحل لأحد بعدي لا ينفر صيدها و لا
يختلي شوكها و لا يحل ساقطتها إلا لمنشد ] فقال العباس : إلا الإذخر !
فإنا نجعله في بيوتنا و قبورنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [
إلا الإذخر ] و كانت أم حكيم بنت الحارث بن هشام تحت عكرمة بن أبي جهل و
فاخنة بنت الوليد تحت صفوان بن أمية فلما أسلمتا قالت أم حكيم لرسول الله
صلى الله عليه و سلم و سألته أن يستأمن عكرمة فآمنه و قد كان خرج إلى
اليمن فلحقته باليمن حتى جاءت به وأسلم عكرمة و صفوان فأقرهما رسول الله
صلى الله عليه و سلم عندهما على النكاح الأول الذي كانا عليه
ثم أمر
رسول الله صلى الله عليه و سلم كل من كان في بيته صنم أن يكسره فكسروا
الأصنام كلها و كسر خالد بن الوليد العزى ببطن نخلة و هدم بيته فقال النبي
صلى الله عليه و سلم : [ تلك العزى لا تعبد أبدا ] و كسر عمرو بن العاص
سواع ثم قال النبي للسادن : كيف رأيت ؟ قال : أسلمت لله و كسر سعد بن زيد
الأشهلي المناة بالمشلل
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم حول
مكة الناس يدعون إلى الله و لم يأمرهم بقتال و كان ممن بعث خالد بن الوليد
وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعيا و لم يبعثه مقاتلا و معه سليم و مدلج و
قبائل من غيرهم فلما نزلوا بغميصاء و هي من مياه بني جذيمة و كانت بنو
جذيمة قد أصابوا في الجاهلية عوف بن عبد أبا عبد الرحمن بن عوف و الفاكه
بن المغيرة كانا أقبلا تاجرين من اليمن حتى إذا نزلا بهم قتلوهما و أخذوا
أموالهما فلما كان الإسلام بلغ خالد بن الوليد إليهم و رآه القوم أخذوا
السلاح فقال لهم خالد : ضعوا السلاح فإن القوم أسلموا فوضع القوم السلاح
لقول خالد فلما وضعوها أمر بهم خالد فكتفوا ثم عرضهم على السيف فلما انتهى
الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رفع يديه إلى السماء و قال : [
اللهم أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد ثم دعا رسول الله صلى الله عليه و
سلم علي بن أبي طالب فقال : يا علي اخرج إلى هؤلاء القوم و انظر في أمرهم
و اجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ] فخرج علي حتى جاءهم و معه مال قد بعثه به
رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم ودى لهم الدماء و ما أصيب من الأموال
حتى لم يبق لهم شيء من دم و لا مال إلا وداه و بقيت معه بقية فقال لهم علي
: بقي لكم من دم أو مال لم يود إليكم ؟ قالوا : لا قال : فإني أعطيكم هذه
البقية من المال احتياطا رسول الله صلى الله عليه و سلم مما لا يعلم و لا
تعلمون ففعل ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره قال : [
أصبت ]
ثم إن هوزان لما سمعت بجمع رسول الله صلى الله عليه و سلم و
دخوله مكة اجتمعت مع ثقيف و جشم و سعد بن بكر و كان في بني جشم دريد بن
الصمة و هو شيخ كبير ليس فيه إلا التيمن برأيه و بعلمه بالحرب و في ثقيف
قارب بن الأسود بن مسعود و في بني بكر سبيع بن الحارث و كان جماع أمر
الناس إلى مالك بن عوف فأجمع مالك بالناس على المسير إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم فساروا حتى إذا أتوا بأوطاس و معه الأموال و الأبناء و
النساء فقال دريد بن الصمة : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس قال : نعم
مجال الخيل ! لا حزن و لا سهل دهس مالي أسمع رغاء الإبل و نهاق الحمير و
بكاء الصغير و يعار الشاء ! قالوا : ساق مالك بن عوف بأوطاس مع الناس
أموالهم و نساءهم وأبناءهم فقال : أين مالك ؟ فقيل : هذا مالك فقال دريد
يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام ما لي أسمع
رغاء البعير و نهاق الحمير وبكاء الصغير فقال مالك : سقت مع الناس أموالهم
و أبناءهم و نساءهم قال : و لم ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله و
ماله ليقاتل عنهم فانقض به فقال : و هل يرد القوم شيء ! إنها إن كانت لك
لم ينفعك إلا رجل بسيفه و رمحه و إن كانت عليك فضحت في أهلك و مالك ما
فعلت كعب و كلاب ؟ قال مالك لم يشهد منهم أحد قال : غاب الحد و الجد لو
كان علاء و رفعة لم تغب عنه كعب و لا كلاب يا مالك ! لا تصنع بتقديم
البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئا ارفعهم في متمنع بلادهم و عليا
قومهم ثم الق الصباء على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك و إن
كانت عليك ألفاك ذلك و قد أحرزت مالك و أهلك قال : تلك و الله لا أفعل
لتطيعنني يا معشر هوزان أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري و كره
أن يكون فيها لدريد ذكر ورأي قالوا : أطعناك فقال مالك للقوم : إذا
رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا عليهم شد رجل واحد و جاء الخبر رسول
الله صلى الله عليه و سلم فبعث عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي فدخل في
الناس فأقام فيهم حتى سمع و علم من كلام مالك و أمر هوزان ما كان و ما
أجمعوا له ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره
و قيل
لرسول الله صلى الله عليه و سلم : إن عند صفوان بن أمية أدرعا فأرسل إليه
فقال : [ يا أبا أمية ! أعرنا سلاحك نلقى فيها عدونا ] فقال صفوان : أغضبا
؟ قال : لا بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك قال : ليس بهذا بأس فأعطاه
مائة درع بما يصلحها من السلاح و سأله النبي صلى الله عليه و سلم أن يكفيه
حملها فحملها صفوان لرسول الله صلى الله عليه و سلم و خرج رسول الله صلى
الله عليه و سلم من مكة معه ألفان من أهل مكة و عشرة آلاف من أصحاب الذين
فتح الله بهم مكة و استعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية
أميرا و كان مقامه صلى الله عليه و سلم بمكة خمس عشرة ليلة يقصر فيها
الصلاة فبينا الناس مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يسيرون إذ مروا
بسدرة قال أبو قتادة الليثي : يا رسول الله ! اجعل هذه ذات أنواط كما
للكفار ذات أنواط ـ و كان للكفار سدرة يأتونها كل سنة و يعقلون عليها
أسلحتهم و يعكفون عليها و يذبحون عندها ـ فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : [ الله أكبر ! قلتم و الذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل : { إجعل
لنا إلها كما لهم آلهة } ! لتركبن سنن من قبلكم ]
فلما بلغ رسول
الله صلى الله عليه و سلم وادي حنين و انحدر المسلمون في الوادي قرب الصبح
و هو واد أجوف و قد كمن المشركون لهم في شعابه و مفارقه فأعدوا للقتال
فبينا رسول الله صلى الله عليه و سلم ينحدر و المسلمون بالوادي إذ اشتدت
عليهم الكتائب من المشركين شد رجل واحد و انهزم المسلمون راجعين لا يعرج
أحد و انحاز رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات اليمين ثم قال : [ أين
أيها الناس ! هلموا أنا رسول الله ! أنا محمد بن عبد الله ] ! و احتملت
الإبل بعضها بعضا و مع رسول الله صلى الله عليه و سلم رهط من المهاجرين و
الأنصار و أهل بيته فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يعطفون على
شيء قال : [ يا عباس ! اصرخ : يا معشر الأنصار ! يا أصحاب السمرة ] !
فنادى العباس و كان امرأ جسيما شديد الصوت : يا معشر الأنصار ! يا أصحاب
السمرة ! فأجابوا لبيك لبيك ! و كان الرجل من المسلمين يذهب ليثني بعيره
فلا يقدر على ذلك فيأخذ درعه فيقذفها في عنقه ثم يأخذ سيفه و ترسه ثم
يقتحم عن بعيره فيخلي سبيل بعيره و يؤم الصوت حتى ينتهي إلى رسول الله صلى
الله عليه و سلم حتى اجتمع على رسول الله صلى الله عليه و سلم مائة رجل و
استقبلوا الناس و قاتلوا و كانت الدعوة أول ما كانت : يا للأنصار ! ثم
جعلت أخيرا فقالوا : يا للخزرج ! و كانوا صبرا عند الحرب فأشرف رسول الله
صلى الله عليه و سلم في ركابه و نظر إلى مجتلد القوم فقال : [ الآن حمي
الوطيس ] ! و إذ رجل من هوازن على جمل أحمر في يده راية سوداء و في رأسه
رمح طويل أمام الناس و هوازن خلفه فإذا أدرك طعن برمحه و إذا فاته رفعه
لمن وراءه و يتبعونه فأهوى إليه علي بن أبي طالب و رجل من الأنصار يريدانه
فأتاه علي من خلفه فضرب الجمل فوقع على عجزه و وثبت الأنصار على الرجل
فضربوه ضربة أطن بها قدمه بنصف ساقه و اختلف الناس و كان شعار المهاجرين
يومئذ : يا بني عبد الرحمن ! و شعار الخزرج : يا بني عبد الله ! و شعار
الأوس : يا بني عبيد الله
و كانت أم سليم بنت ملحان مع زوجها أبي
طلحة فالتفت رسول الله صلى الله عليه و سلم و هي حازمه وسطها و معها جمل
أبي طلحة فقالت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله [ صلى الله عليه و سلم ] !
اقتل هؤلاء الذين ينهزمون عنك كما تقتل هؤلاء الذين يقاتلونك فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : [ أويكفى الله يا أم سليم ] ! و إنها يومئذ
لحبلى بعبد الله بن أبي طلحة و معها خنجر فقال لها أبو طلحة : ما هذا
الخنجر معك يا أم سليم ؟ قالت : خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين
بعجت بطنه فقال أبو طلحة : يا رسول الله ! ألا تسمع ما تقوله أم سليم
و رأى أبو قتادة رجلين يقتتلان : مسلم و مشرك فإذا رجل من المشركين يريد
أن يعين صاحبه فأتاه أبو قتادة فضرب يده فقطعها فاعتنقه المشرك بيده
الثانية و صدره فقال أبو قتادة : و الله ! ما تركني حتى وجدت ريح الموت !
فلولا أن الدم تزفه يقتلني فسقط و ضربته فقتلته ثم انهزم المشركون و أخذ
المسلمون يكتفون الأسارى فلما وضعت الحرب أوزارها قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ من قتل قتيلا فله سلبه ] فقال رجل من أهل مكة : يا رسول
الله ! لقد قتلت قتيلا ذا سلب و أجهضني عنه القتال فلا أدري من سلبه !
فقال رجل من أهل مكة : يا رسول الله ! أنا سلبته فأرضه مني عن سلبه فقال
أبو بكر الصديق : أيعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله تقاسمه سلبه !
رد عليه سلبه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ صدق أبو بكر رد عليه
سلبه ] فرد عليه قال أبو قتادة : فبعته فاشتريت به مخرفا في المدينة لأنه
أول مال تأثلته في الإسلام
و كان على راية الأحلاف من ثقيف يوم حنين
قارب بن الأسود فلما رأى الهزيمة أسند رايته إلى شجرة و هرب و كان على
راية بني مالك ذو الخمار فلما قتل أخذها عثمان بن عبد الله و أقامها
للمشركين فقتل عثمان و انحاز المشركون منهزمين إلى الطائف و عسكر بعضهم
بأوطاس
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم الخيول في آثارهم فأدرك
ربيعة بن رفيع دريد ابن الصمة و هو في شجار على راحلته فأخذ بخطام جمله و
هو يظن أنه امرأة فلما أناخه إذ شيخ كبير و إذا هو دريد و لا يعرفه الغلام
فكان ربيعة غلاما قال دريد ماذا تريد بي قال : أقتلك ! قال : و من أنت ؟
قال : أنا ربيعة بن رفيع السلمي و ضربه ربيعة بسيف فلم يقدر شيئا فقال له
دريد : بئس ما أسلحتك أمك ! خذ سيفي هذا من مؤخر رحلي في الشجار ثم أضرب و
أرفع عن العظام و أخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أقتل الرجال ثم إذا أتيت
أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمة بسيفه
ثم أمر رسول الله صلى
الله عليه و سلم بالسبايا و الأموال فجمعت بالجعرانة و بعث في آثار من
توجه قبل أوطاس أبا عامر الأشعري فأدرك الناس بعض من انهزم فساروا يرمون
كل من لقوه و رمي أبا عامر بسهم فقتل و أخذ برايته بعده أبو موسى فقاتلهم
ففتح له و هزمهم الله
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى
الطائف و فيها مالك بن عوف و قد عسكر جماعة من المشكرين و على مقدمة خيل
رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد فرأى رسول الله صلى الله
عليه و سلم امرأة مقتولة فقال : [ من قتل هذه ] ؟ قال : خالد بن الوليد
فقال لرجل : [ أدرك خالدا و قل له : يقول لك رسول الله صلى الله عليه و
سلم : لا تقتلوا امرأة و لا ولدا و لا عسيفا ] فلما بلغ رسول الله صلى
الله عليه و سلم الطائف نزل قريبا فلم يقدر المسلمون على أن يدخلوا حائطا
فضرب معسكره رسول الله صلى الله عليه و سلم عند مسجده الذي بالطائف اليوم
و حاصرهم بضع عشرة ليلة و أمر بقطع أعنابهم و قاد رجلا من هذيل من بني ليث
وهو أول دم أقيد في الإسلام ثم نصب المنجنيق على حصنهم حتى فتحه الله عليه
و كان في أيامه يقصر الصلاة
و قد كان مع رسول الله صلى الله عليه و
سلم مولى لخالته فاختة بنت عمرو بن عائذ يقال له ماتع مخنث يدخل على نساء
رسول الله صلى الله عليه و سلم فسمعه رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو
يقول لخالد بن الوليد : يا خالد ! إن فتح رسول الله صلى الله عليه و سلم
غدا فلا تفلتن منك بادية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع و تدبر بثمان فقال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ هذا يفطن لما سمع به ثم قال لنسائه :
لا يدخلن عليكن ] ! فحجب عن بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم انصرف
رسول الله صلى الله عليه و سلم من الطائف إلى الجعرانة فقال له سراقة بن
جعشم المدلجي : يا رسول الله ! ترد الضالة حوضي فهل فيه أجر إن أنا سقيتها
؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ في كل كبد حري أجر ] و نهى رسول
الله صلى الله عليه و سلم عن وطء الحبالى حتى يضعن و بينما النبي صلى الله
عليه و سلم قاعد بالجعرانة و معه ثوب و قد أظل به مع ناس من أصحابه إذ
جاءه أعرابي ـ عليه جبة ـ متضمخ بطيب فقال : يا رسول الله ! كيف ترى برجل
أحرم بعمرة في جبة بعد ما تضمخ بطيب ؟ و إذا النبي صلى الله عليه و سلم
مخمر الوجه يغط فلما سري عنه قال : [ أين الذي سألني عن العمرة آنفا ؟ ]
فأتي به فقال : [ أما الطيب فاغسله عنك و أما الجبة فانزعها ثم اصنع في
عمرتك ما تصنع في حجتك ] و قسم رسول الله صلى الله عليه و سلم الغنائم
بالجعرانة بين المسلمين فأصاب كل رجل أربعا من الإبل و أربعين شاة و من
كان فارسا أخذ سهمه و سهمي فرسه ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم
وبرة من سنام بعيره ثم قال : [ أيها الناس ! إني و الله ما لي من فيئكم و
لا هذه الوبرة إلا الخمس والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط و المخيط فإن
الغلول يكون على أهله نارا و شنارا يوم القيامة ] ! فجاءه رجل من الأنصار
بكبة خيوط من شعر قال : يا رسول الله ! أخذت هذه الكبة أخيط بها بردعة
بعير لي فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما نصيبي منها فلك ]
فقال : أما إذا بلغت هذه فلا حاجة لي فيها
ثم أسلم مالك بن عوف و
قال : يا رسول الله ! ابعثني أضيق على ثقيف فاستعمله رسول الله صلى الله
عليه و سلم على من أسلم من قومه من تلك القبائل و من تبعه من بني سليم
فكان يقاتل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلا أغار عليهم
ثم جاء وفد هوازن راغبين في الإسلام ـ بعد أن قسم لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم السبي ـ فأسلموا
ثم أعطى رسول الله صلى الله عليه و سلم المؤلفة تألفا فأعطى جويطب بن عبد
العزى مائة من الإبل و أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل و أعطى صفوان
ابن أمية مائة من الإبل و أعطى حكيم بن حزام مائة من الإبل و أعطى مالك بن
عوف مائة من الإبل و أعطى عباس بن مرداس السلمي شيئا دونهم فقال فيه
أبياتا و لم يعط الأنصار منها شيئا فقال قائل الأنصار : ألا ! إن رسول
الله صلى الله عليه و سلم قد لقي قومه فانطلق سعد بن عبادة فدخل على رسول
الله صلى الله عليه و سلم و قال : يا رسول الله ! الأنصار قد وجدوا في
أنفسهم مما رأوك صنعت في هذه العطايا قال : [ فأين أنت من ذلك يا سعد ] ؟
قال : ما أنا إلا رجل من قومي قال : [ فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة ]
فخرج سعد فنادى في قومه : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمركم أن
تجتمعوا في هذه الحظيرة فقاموا سراعا و قام سعد على باب الحظيرة فلم
يدخلها إلا رجل من الأنصار و قد رد أناسا ثم أتى النبي صلى الله عليه و
سلم فقال : هذه الأنصار قد اجتمعت لك فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه
و سلم و قال : [ يا معشر الأنصار ! ما مقالة بلغتني عنكم ؟ أكثرتم فيها !
ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله ؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله ؟ ألم
تكونوا أعداء فألف الله بينكم ] ؟ قالوا : بلى قال : [ أفلا تجيبوني ] ؟
قالوا : إليك المن و الفضل قال : [ أما و الله لو شئتم لقلتم و صدقتم :
جئتنا طريدا فآويناك و مخذولا فنصرناك و عائلا فآسيناك و مكذبا فصدقناك !
أوجدتم في أنفسكم من لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا و و كلتكم إلى
إيمانكم أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة و البعير و تذهبون برسول الله إلى
رحالكم ! فالذي نفس محمد بيده ! لو سلك الناس واديا و سلكت الأنصار شعبا
لسلكت شعب الأنصار و لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار إن الأنصار كرشي و
عيتبي اللهم اغفر للأنصار و أبناء الأنصار و لأبناء أبنائهم ] ! فبكى
القوم حتى أخضلوا لحاهم و قالوا : رضينا بالله و برسوله حظا و قسما و
نصيبا ! ثم تفرق الأنصار و في هذه المقالة قال ذو الخويصرة : يا رسول الله
! اعدل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ شقيت إن لم أعدل ] ثم علقت
الأعراب برسول الله صلى الله عليه و سلم يسألونه حتى ألجأوه إلى شجرة
عظيمة و خطفت رداءه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ ردوا علي
ردائي فو الذي نفس محمد بيده لو كانت عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم
لا تجدوني كذوبا و لا جبانا و لا بخيلا ]
ثم خرج رسول الله صلى الله
عليه و سلم من الجعرانة معتمرا فاعتمر منها فبات بالجعرانة و استخلف على
مكة عتاب بن أسيد أميرا و خلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس و يعلمهم القرآن
و كانت هذه العمرة في ذي القعدة
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه و
سلم من الجعرانة يريد المدينة فسلك في وادي سرف حتى خرج على سرف ثم على مر
الظهران حتى قدم المدينة في بقعة ذي القعدة
ثم تزوج رسول الله صلى
الله عليه و سلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية فاستعاذت من رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال لها رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قد
عذت بعظيم ! الحقي بأهلك ] و فارقها و حج بالناس عتاب بن أسيد
و ولد
إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم من مارية القبطية في ذي الحجة
فوقع في قلب النبي صلى الله عليه و سلم منه شيء فجاء جبريل عليه السلام
فقال : [ السلام عليك يا إبراهيم ] ! فسرى عن رسول الله صلى الله عليه و
سلم و تنافست نساء الأنصار فيه أيتهن ترضعه فدفعه رسول الله صلى الله عليه
و سلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد و زوجها ابن مبذول فكانت ترضعه و حلق
رسول الله صلى الله عليه و سلم رأسه يوم السابع و تصدق بوزن شعره فضة على
المساكين و عق عنه بكبشين و عاش ستة عشر أشهر
أخبرنا محمد بن
الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن المتوكل بن أبي السري ثنا عبد
الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور عن ابن
عباس قال : لم أزل حريصا أن عمر بن الخطاب عن المرأتين من أزواج النبي صلى
الله عليه و سلم اللتين قال الله لهما { إن تتوبا إلى الله فقد صغت
قلوبكما } فقال عمر : واعجبا لك يا ابن عباس ! ثم قال : هي عائشة و حفصة ـ
ثم أنشأ يسوق الحديث فقال : كنا معشر قريش قوما نغلب النساء فلما قدمنا
المدينة وجدناهم قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم و كان
منزلي في بني أمية بن زيد في العوالي قال فتغضبت يوما على امرأتي فإذا هي
تراجعني فأنكرت أن تراجعني فقال : ما تنكر أن أراجعك ! فو الله إن أزواج
النبي صلى الله عليه و سلم ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم إلى الليل !
فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت : أتراجعين على رسول الله صلى الله عليه و
سلم ؟ قالت : نعم و تهجره إحدانا اليوم إلى الليل قال : قد خاب من فعل ذلك
منكم و خسر أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسول الله صلى الله
عليه و سلم فإذا هي قد هلكت فلا تراجعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و
لا تسأليه شيئا و سليني ما بدا لك و لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم و أحب
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم منك ـ يريد عائشة قال : و كان لي جار
من الأنصار و كنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فينزل
يوما و أنزل يوما فيأتيني بخبر الوحي و غيره و آتيه بمثل ذلك و كنا نتحدث
أن غسان تنعل الخيل لتغزونا قال : فنزل صاحبي يوما ثم أتاني عشاء فضرب على
بابي ثم ناداني ؟ فخرجت إليه فقال : حدث أمر عظيم ! فقلت : و ماذا ؟ أجاءت
غسان ؟ قال : لا بل أعظم من ذلك و أطول ! طلق رسول الله صلى الله عليه و
سلم نساءه فقلت : خابت حفصة و خسرت قد كنت أظن هذا كائنا فلما صليت الصبح
شددت علي ثيابي ثم نزلت فدخلت على حفصة فإذا هي تبكي فقلت : أطلقكن رسول
الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : لا أدري هوذا معتزل في هذه المشربة قال
: فأتيت غلاما له أسود فقلت : استأذن لعمر فدخل الغلام ثم خرج إلي و قال :
قد ذكرتك به و لم يقل شيئا فانطلقت حتى أتيت المسجد فإذا قوم حول المنبر
جلسوا يبكي بعضهم إلى بعض قال : فجلست قليلا ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام
فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي و قال : قد ذكرتك له فصمت فرجعت ثم
جلست إلى المنبر ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم
خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فسكت فوليت مدبرا فإذا الغلام يدعوني و يقول :
ادخل قد أذن لك فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فإذا هو
متكئ على رمل حصير قد أثر بجنبه فقلت : أطلقت يا رسول الله صلى الله عليه
و سلم نساءك ؟ قال : فرفع رأسه إلي و قال : [ لا ] فقلت : الله أكبر ! لو
رأيتنا يا رسول الله و كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا المدينة
وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم فتغضبت على امرأتي
يوما فإذا هي تراجعني فأنكرت ذلك عليها فقالت لي : أتنكر أن أراجعك ! فو
الله إن أزواج النبي صلى الله عليه و سلم ليراجعنه و تهجره إحداهن اليوم
إلى الليلة ! قال : فقلت : قد خاب من فعل ذلك منهن و خسر ! أتأمن إحداهن
أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت ! قال : فتبسم رسول الله
صلى الله عليه و سلم ! فقلت : يا رسول الله ! فدخلت على حفصة فقلت لها :
لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لا تسأليه شيئا و سليني ما بدا
لك و لا يغرنك أن كانت جارتك أوسم و أحب إلى رسول الله صلى الله عليه و
سلم منك قال : فتبسم رسول الله أخرى فقلت : أستأنس يا رسول الله ؟ قال : [
نعم ] قال : فجلست فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت فيه شيئا يرد
البصر إلا أهبة ثلاثة فقلت : يا رسول الله ادع الله أن يوسع على أمتك فقد
وسع الله على فارس و الروم و هم لا يعبدونه قال : فاستوى جالسا ثم قال : [
أو في شك أنت يا ابن الخطاب ! أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة
الدنيا ] فقلت : استغفر لي يا رسول الله ! و كان أقسم أن لا يدخلن عليهن
شهرا من شدة مودجته عليهن حتى عاتبه الله
قال الزهري : [ فأخبرني
عروة عن عائشة قالت : فلما مضى تسع و عشرون ليلة دخل علي رسول الله صلى
الله عليه و سلم بدأ بي فقلت : يا رسول الله ! إنك أقسمت أن لا تدخل علينا
شهرا و إنك دخلت من تسع و عشرين أعدهن فقال : إن الشهر تسع و عشرون ثم قال
: يا عائشة ! إني ذاكر لك أمرا فلا أراك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك !
قلت : ثم قرأ علي الآية { يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحيوة
الدنيا و زينتها } ـ إلى قوله : { عظيما } قالت عائشة : قد علم و الله أن
أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه فقلت : أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله
و رسوله و الدار الآخرة ]
قال : في أول هذه السنة هجر رسول الله صلى
الله عليه و سلم نساءه شهرا و كان السبب في ذلك أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم ذبح ذبحا فأمر عائشة أن تقسم بين أزواجه فأرسلت إلى زينب بنت
جحش نصيبها فردته قال : [ زيديها ] فزادتها ثلاثا كل ذلك ترده فقالت عائشة
: قد أقمأت وجهك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أنتن أهون على
الله من أن تغضبن لا أدخل عليكن شهرا ] ! فدخل عليهن بعد مضي تسع و عشرون
يوما
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علقمة بن مجزز في صفر إلى الحبشة فانصرف و لم يلق كيدا
و في هذه السرية أمر علقمة أصحابه أن يوقدوا نارا عظيما ثم أمرهم أن
يقتحموا فيها فتحرزوا و أبوا ذلك فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من
أمركم بمعصية الله فلا تطيعوه ]
ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم وفد في ربيع الأول و نزل على رويفع بن ثابت البلوي
و قدم وفد بني ثعلبة بن منقذ و فيها وفد سعد هذيم
و قدم الداريون من لخم عشرة أنفس : هانئ بن حبيب و الفاكه بن النعمان و
حبلة بن مالك و أبو هند بن بر و أخوه الطيب بن بر و تميم بن أوس و نعيم
ابن أوس و يزيد بن قيس و عروة بن مالك و أخوه مرة بن مالك و أهدوا إلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم راوية خمر فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : [ إن الله قد حرم الخمر ] فأمروا ببيعها فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ إن الذي حرم شربها حرم بيعها ]
و قدم وفد بني أسد فقالوا : يا رسول الله ! قدمنا عليك قبل أن ترسل إلينا رسولا فنزلت هذه الآية { يمنون عليك أن أسلموا }
و قدم عروة بن مسعود بن معتب الثقفي على رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأسلم ثم استأذن أن يرجع إلى قومه فيدعوهم إلى الإسلام فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : [ هم قاتلوك ] ! قال : أنا أحب إليهم من بكار أولادهم
فأذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج إلى قومه و دعاهم إلى الإسلام
و أذن بالصبح على غرفة فرماه رجل من بني ثقيف بسهم فقتله
و بعث رسول
الله صلى الله عليه و سلم الضحاك بن سفيان الكلابي إلى القرطاء سرية
فأصابهم بغدير الزج و كتب إليهم النبي صلى الله عليه و سلم كتابا فأبوا و
رقعوا كتابهم بأسفل دلوهم
و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم علي
بن أبي طالب سرية إلى الفلس من بلاد طيء في ربيع الآخر فأغار عليهم و سبى
منهم نساء فيهن أخت عدي بن حاتم
ثم نعى رسول الله صلى الله عليه و
سلم النجاشي للناس في رجب و قال : [ صلوا على صاحبكم ] فقام فصلى هو و
أصحابه و صفوا خلفه و كبر عليه أربعا
في شدة الحر و جدب من
البلاد حين طاب الثمار و أحبت الظلال و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم
قلما يخرج في غزوة إلا ورى بغيرها غير غزوة تبوك هذه فإنه أمر التأهب لها
لبعد الشقة و شدة الزمان و حض رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل الغنى
على النفقة و الحملان في سبيل الله و رغبهم في ذلك و حمل رجال من أهل
الغنى و احتسبوا و أنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد أعظم
من نفقته ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و
هم البكاؤن و هم سبعة نفر فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و
كانوا أهل حاجة فقال : { لا أجد ما أحملكم عليه و أعينهم تفيض من الدمع
حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } و جاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فاعتذروا
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بعذرهم و هم بنو غفار و قد كان نفر من
المسلمين أبطأ بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى تخلفوا عنه
من غير شك و لا ارتياب منهم كعب بن مالك أخو بني سلمة مرارة بن الربيع أخو
بني عمرو بن عوف و هلال بن أمية أخو بني واقف و أبو خيثمة أخو بني سالم و
كانوا نفر صدق و لا يتهمون في إسلامهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم
من المدينة و ضرب معسكره على ثنية الوداع و ضرب عبد الله بن أبي سلول
معسكره أسفل منه و خلف رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب على
أهله و أمره بالإقامة فيهم و استخلف على المدينة سباع بن عرفطة أخا بني
غفار فقال المنافقون : و الله ما خلفه علينا إلا استثقالا له فلما سمع ذلك
علي أخذ سلاحه ثم خرج حتى لحق رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل
بالجرف و قال : يا نبي الله ! زعم المنافقون أنك إنما خلفتني استثقالا ؟
فقال : [ كذبوا و لكني خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك
! ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ] !
فرجع علي إلى المدينة و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم و تخلف عنه عبد
الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين فلما نزل رسول الله صلى الله عليه و
سلم بالحجر استقى الناس من بئرها فلما راحوا منها قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ لا تشربوا من مائها شيئا و لا تتوضأوا منه للصلاة و ما كان
من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا ] ثم دعا رسول الله
صلى الله عليه و سلم فأرسل الله السحاب فأمطر حتى ارتوى الناس و توضأوا ثم
إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نزل في بعض المنازل فضلت ناقته فخرج
أصحابه في طلبها فقال بعض المنافقين : أليس محمد يزعم أنه نبي و يخبركم
بخبر السماء و هو لا يدري أين ناقته ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم
: [ و الله ما أعلم إلا ما علمني الله ! و قد علمني أنها في الوادي بين
شعب كذا و كذا قد حبستها شجرة بزمامها ] قال : فانطلقوا حتى تأتوا بها
فذهبوا فجاءوا بها ثم سار رسول الله صلى الله عليه و سلم فجعل يتخلف عنه
الرجل فيقولون : و الله يا رسول الله ! تخلف فلان فيقول : دعوه فإن يكن
فيه خير فسيلحقه الله بكم حتى قيل له : يا رسول الله ! تخلف أبو ذر و أبطأ
به بعيره فقال : دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم فلما أبطأ على أبي
ذر بعيره أخذ متاعه على ظهره و ترك بعيره ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى
الله عليه و سلم ماشيا و نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض منازله
فنظر ناظر من المسلمين فقال : يا رسول الله ! رجل على الطريق يمشي وحده !
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كن أبا ذر ! فلما تأمله القوم قالوا
: يا رسول الله هذا والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [
رحم الله أبا ذر يعيش وحده و يموت وحده و يبعث وحده ] فانتهى رسول الله
صلى الله عليه و سلم إلى تبوك فلما أتاها أتاه يحنة ابن رؤبة صاحب أيلة و
صالح على رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعطاه الجزية و أتاه أهل جرباء
و أذرح فأعطوه الجزية و كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم لكل كتابا و هو
عندهم فكتب ليحنة بن رؤبة [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذه أمنة من الله و
من محمد النبي صلى الله عليه و سلم ليحنة بن رؤبة و أهل بلده و سيارته في
البر والبحر فهم في ذمة الله و ذمة محمد النبي صلى الله عليه و سلم و من
كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر فمن أحدث منهم حدثا فإنه
لا يحول ماله دون نفسه و إنه طيب للناس ممن أخذه و إنه لا يحل أن يمنعوا
ماء يردونه و لا طريقا يريدونه من بر و بحر ] و كتب جهيم بن الصلب بأمر
رسول الله صلى الله عليه و سلم
و كتب لأهل جرباء و أذرح [ بسم الله
الرحمن الرحيم ـ هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه و سلم لأهل أذرح
أنهم آمنون بأمان الله و أمان محمد و أن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية
طيبة و الله كفيل عليهم بالنصح و الإحسان و من لجأ إليهم من المسلمين ] و
قد كان أبو خيثمة أحد بني سالم رجع بعد أن خرج رسول الله صلى الله عليه و
سلم من المدينة إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما في
حائط قد رشت كل واحدة منهما عريشها و بردت له ماء و هيأت له فيه طعاما
فلما دخل أبو خيثمة قام على باب العريشين و نظر إلى امرأتيه و ما صنعتا له
فقال : رسول الله صلى الله عليه و سلم في الريح و الحر و أبو خيثمة في
ظلال باردة و طعام مهيأ و امرأة حسناء في ماله مقيم ! ما هذا بالنصف ! ثم
قال : و الله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه
و سلم ! فهيأتا له زادا ثم قدم ناضحه فارتحله ثم خرج في طلب رسول الله صلى
الله عليه و سلم فبينا أبو خيثمة يسير إذ لحقه عمير بن وهب الجمحي في
الطريق يطلب رسول الله صلى الله عليه و سلم فترافقا حتى إذا دنوا من تبوك
قال أبو خيثمة لعمير بن وهب : إن لي ذنبا فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي
رسول الله صلى الله عليه و سلم ففعل عمير ثم سار أبو خيثمة حتى إذا دنا من
رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل بتبوك قال الناس : هذا راكب على
الطريق مقبل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كن أبا خيثمة ! فقالوا
: يا رسول الله ! هو و الله أبو خيثمة ! فلما أناخ أقبل و سلم على رسول
الله صلى الله عليه و سلم ثم أخبره الخبر فقال له رسول الله صلى الله عليه
و سلم خيرا و دعا له بخير ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا خالد
بن الوليد و بعثه إلى أكيدر دومة و هو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة و
كان ملكا عليهم و كان نصرانيا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالد :
إنك ستجده يصيد بقر الوحش فخرج خالد بن الوليد حتى إذا كان من حصنه بمنظر
العين في ليلة مقمرة صاءفة و هو على سطح له و معه امرأته فباتت البقر تحك
قرونها بباب القصر فقالت له امرأته : هل رأيت مثل هذا قط ؟ قال : لا و
الله ! قالت : فمن يترك هذا ؟ قال : لا أحد فنزل أكيدر دومة و أمر بفرسه
فأسرج و ركب في نفر من أهل بيته و معه أخوه حسان فلما خرجوا بمطاردهم
تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم معهم خالد بن الوليد فقتلوا
أخاه حسانا و قد كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد و بعث
به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما قدم به على رسول الله صلى الله
عليه و سلم جعل المسلمون يلمسونه بأيديهم و يعجبون منه فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : [ اتعجبون من هذا ! و الذي نفس محمد بيده ! لمناديل سعد
بن معاذ في الجنة أحسن من هذا ] ثم إن خالدا قدم بأكيدر على رسول الله صلى
الله عليه و سلم فحقن له دمه و صالحه على الجزية ثم خلى سبيله و رجع إلى
قريته
و افتقد رسول الله صلى الله عليه و سلم كعب بن مالك فقال : ما
فعل كعب بن مالك ؟ فقال رجل من بني سلمة : يا رسول الله ! حبسه برداه
والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل : بئس والله ما قلت ! و الله يا رسول
الله ما علمنا منه إلا خيرا ! فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام
رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة يقصر الصلاة و لم
يجاوزها ثم انصرف قافلا إلى المدينة و كان في الطريق ماء يخرج من وشل ما
يروي الراكب و الراكبين و الثلاثة بواد يقال له : المشقق فقال رسول الله
صلى الله عليه و سلم : [ من سبقنا إلى ذلك الماء فلا يستقين منه شيئا حتى
آتيه ] فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه و سلم وضع يده فيها فجعل ينصب
في يده ما شاء الله أن ينصب ثم مجه فيه و دعا الله بما شاء أن يدعو فانخرق
من الماء فشرب الناس و استقوا حاجتهم منه فقال رسول الله صلى الله عليه و
سلم : [ لئن بقيتم ـ أو بقي منكم ـ لتسمعن بهذا الوادي و هو أخصب ما بين
يديه و ما خلفه ] و ذلك الماء فوارة تبوك اليوم
ثم أن رسول الله صلى
الله عليه و سلم نزل بعض المنازل و مات عبد الله ذو البجادين فحفروا له و
نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم في حفرته و أبو بكر و عمر يدليانه إليه
و هو يقول : [ أدليا لي أخاكما ] فأدلوه إليه فلما هيأه لشقه قال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : [ اللهم ! إنك قد أمسيت عنه راضيا فارض عنه ]
فقال عبد الله بن مسعود : يا ليتني كنت صاحب الحفرة
و كان المسلمون
يقولون : لا جهاد بعد اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لا
ينقطع الجهاد حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام ] و جعل رسول الله صلى
الله عليه و سلم من تبوك إلى المدينة مساجد في منازله معروفة إلى اليوم
فأولها مسجد تبوك و مسجد بثنية مدران و مسجد بذات الزراب و مسجد بالأخضر و
مسجد بذات الخطمى و مسجد بذات البتراء و مسجد بالشق و مسجد بذي الجيفة و
مسجد بالصدر و مسجد وادي القرى و مسجد الرقعة و مسجد بذي مروة و مسجد
بالفيفاء و مسجد بذي خشب
ثم قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم
المدينة و كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين ثم جلس للناس
فلما فعل ذلك جاء المخلفون فيهم كعب بن مالك و مرارة ابن الربيع و هلال بن
أمية و غيرهم فجعلوا يعتذرون إليه و يحلفون له و كانوا بضعة و ثمانين رجلا
فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم يقبل منهم على نيتهم و يكل سرائرهم
إلى الله حتى جاء كعب بن مالك فسلم عليه فتبسم رسول الله صلى الله عليه و
سلم تبسم المغضب ثم قال : [ تعال ] ! فجاء كعب بن مالك يمشي حتى جلس بين
يديه فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : [ ما خلفك ! ألم تكن ابتعت ظهرك
] ؟ قال : بلى يا رسول الله ! و الله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا
لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر و لقد أعطيت جدلا و إن لي لسانا و لكن و
الله ! لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كاذبا لترضين به عني و ليوشكن الله
أن يسخطك علي و لئن حدثتك حديثا صادقا تجد علي فيه و إني لأرجو عقبى الله
فيه لا و الله ما كان لي عذر ! و الله ما كنت قط أقوى و أيسر مني حين
تخلفت عنك ! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ أما هذا فقد صدق قم
حتى يقضي الله فيك ] فقام و ثار معه رجال من بني سلمة و اتبعوه و قالوا :
ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا و لقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم كما اعتذر إليه المخلفون و قد كان كافيك ذنبك
استغفار رسول الله صلى الله عليه و سلم لك و جعلوا ينوبونه حتى أراد أن
يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و يكذب نفسه ثم قال لهم : هل لقي
هذا أحد غيري ؟ قالوا : نعم رجلان قالا مثل ما قلت و قال لهما مثل ما قال
لك قال : و من هما ؟ قالوا مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الواقفي
ثم نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن كلام هؤلاء الثلاثة فأما مرارة و
هلال فقعدا في بيوتهما و أما كعب بن مالك فكان أشب القوم و أجلدهم وكان
يخرج و يشهد الصلاة مع المسلمين و يطوف في الأسواق و لا يكلمه في الأسواق
و لا يكلمه أحد و يأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم و يسلم عليه و هو في
مجلسه بعد الصلاة و يقول في نفسه : هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا !
ثم يصلي قريبا منه و يسارقه النظر فإذا أقبل كعب على صلاته نظر إليه رسول
الله صلى الله عليه و سلم و إذا التفت نحوه أعرض عنه حتى طال ذلك عليه من
جفوة المسلمين
ثم مر كعب حتى تسور جدار أبي قتادة ـ و هو ابن عمه و
أحب الناس إليه ـ فسلم عليه فلم يرد عليه السلام فقال له : يا أبا قتادة !
أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله و رسوله ؟ فسكت فعاد ينشده فسكت فعاد
ينشده فقال : و الله و رسوله أعلم ففاضت عينا كعب و وثب فتسور الجدار ثم
غدا إلى السوق فبينا هو يمشي و إذا نبطي من نبط الشام يسأل عنه ممن قدم
بالطعام يبيعه بالمدينة و هو يقول : من يدل على كعب بن مالك ؟ فجعل الناس
يشيرون إليه حتى جاء كعبا فدفع إليه كتابا من ملك غسان في سرقة حرير فيه :
أما بعد فإنه بلغنا أن صاحبك قد جفاك و لم يجعلك الله بدار هوان و لا
مضيعة فالحق بنا نواسك فلما قرأ كعب الكتاب : و هذا من البلاء أيضا قد بلغ
بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل الشرك ثم عمد بالكتاب إلى تنور فسجره
به ثم أقام على ذلك حتى إذا مضى أربعون ليلة أتاه رسول رسول الله صلى الله
عليه و سلم فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تعتزل
امرأتك ! فقال كعب : أطلقها أم ماذا ؟ قال : بل اعتزلها و لا تقربها و
أرسل إلى مرارة و هلال بمثل ذلك فقال كعب لامرأته : الحقي بأهلك فكوني
عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض و جاءت امرأة هلال بن أمية
فقالت : يا رسول الله ! إن هلال بن أمية شيخ كبير ضائع لا خادم له أفتكره
أن أخدمه قال : [ لا و لكن لا يقربنك ] ! قالت : و الله يا رسول الله ما
به من حركة إلي ! و الله ما زال يبكي منذ كان أمره ما كان إلى يومه هذا و
الله لقد تخوفت على بصره فلبثوا بعد ذلك عشر ليال حتى كمل خمسون ليلة من
حين نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم المسلمين عن كلامهم فصلى كعب بن
مالك الصبح على ظهر بيت من بيوته على الحال التي ذكر الله منه : ضاقت عليه
الأرض و ضاقت عليه نفسه إذا سمع صوت صارخ أوفى على سلع يقول بأعلى صوته :
يا كعب بن مالك ! أبشر فخرج كعب الله ساجدا و عرف أنه قد جاء الفرج و أخبر
رسول الله صلى الله عليه و سلم بتوبة الله عليهم حين صلى الصبح ثم جاء
كعبا الصارخ بالبشرى فنزع ثوبيه فكساهما إياه ببشارته و استعار ثوبين
فلبسهما ثم انطلق يؤم رسول الله صلى الله عليه و سلم و تلقاه الناس
يتهنأونه بالتوبة و يقولون : ليهنك توبة الله عليك ! حتى دخل المسجد و
رسول الله صلى الله عليه و سلم جالس حوله الناس فقام إليه طلحة بن عبيد
الله فحياه و هنأه فلما سلم كعب على رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له
رسول الله صلى الله عليه و سلم و وجهه يبرق بالسرور : [ أبشر بخير يوم مر
عليك منذ ولدتك أمك ] ! فقال كعب : أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله
؟ قال [ بل من عند الله ] ! ثم جلس بين يديه فقال : يا رسول الله ! إن من
توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله و رسوله فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك ] فقال : إني ممسك سهمي
الذي بخيبر ثم قال : يا رسول الله ! إن الله قد نجاني بالصدق فإن توبتي
إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما بقيت فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه
و سلم { لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار } ـ إلى قوله : {
إن الله هو التواب الرحيم }
ثم لاعن رسول الله صلى الله عليه و سلم
بين عويمر بن الحارث بن عجلان ـ و هو الذي يقال له عاصم ـ و بين امرأته
بعد العصر في المسجد في شعبان وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم
فقال : يا رسول الله ! لو أحدنا رأى امرأته على فاحشة كيف يصنع ؟ إن تكلم
تكلم بأمر عظيم ! و أن سكت سكت على مثل ذلك ! فلم يجبه رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما كان بعد ذلك أتى النبي صلى الله عليه و سلم فقال : يا
رسول الله ! إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به ! فأنزل هذه الآيات { و الذين
يرمون أزواجهم } ـ حتى ختم الآيات فدعا رسول الله صلى الله عليه و سلم
عاصما فتلا عليه و وعظه و ذكره و أخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب
الآخرة فقال عاصم : لا و الذي بعثك ! ما كذبت عليها ثم دعا بامرأته فوعظها
و ذكرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة قالت : لا و الذي بعثك بالحق
! فبدأ بعاصم فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين و الخامسة أن لعنة
الله عليه إن كان من الكاذبين و أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم فوضع
يده على فيه عند الخامسة و قال : احذر فإنها موجبة ! ثم ثنى بامرأته فشهدت
أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين و الخامسة أن غضب الله عليها إن كان
من الصادقين ثم فرق بينهما و أحق الولد بالأم
و ماتت أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم في شعبان و غسلتها صفية بنت عبد المطلب و نزل في حفرتها علي و الفضل و أسامة
و ورد على رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب ملوك حمير في رمضان مقرين
بالإسلام فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاب جوابهم و بعثه مع
عمرو بن حزم [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من محمد رسول الله صلى الله عليه
و سلم ـ إلى شرحبيل بن عبد كلال و الحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين و معافر
و همدان أما بعد فقد رفع رسولكم و أعطيتم من المغانم خمس الله و ما كتب
الله على المؤمنين من العشر في العقار و ما سقت السماء إذا كان سيحا أو
بعلا ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق و ما سقى بالرشاء و الدالية ففيه نصف
العشر إذا بلغ خمسة أوسق و في كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ
أربعا و عشرين فإذا زادت واحدة على أربع و عشرين ففيها ابنة مخاض فإن لم
توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر إلى أن تبلغ خمسا و ثلاثين فإن زادت واحدة
على خمس و ثلاثين ففيها ابنة لبون إلى أن تبلغ خمسا و أربعين فإن زادت
واحدة على خمس و أربعين ففيها حقة طروقة الجمل إلى أن تبلغ ستين فإن زادت
على الستين واحدة ففيها جذعة إلى أن تبلغ خمسا و سبعين فإن زادت واحدة على
خمس و سبعين ففيها ابنتا لبون إلى أن تبلغ تسعين فإن زادت واحدة على
التسعين ففيها حقتان طروقتا الجمل إلى أن تبلغ عشرين و مائة فما زاد على
عشرين و مائة ففي كل أربعين بنت لبون وفي كل خمسين حقة طروقة الجمل وفي كل
ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة و في أربعين باقورة بقرة و في كل أربعين
شاة سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين و مائة فإذا زادت على عشرين و مائة واحدة
ففيها شاتان إلى أن تبلغ مائتين فإن زادت واحدة فثلاث إلى أن تبلغ
ثلاثمائة فإن زادت ففي كل مائة شاة شاة و لا تؤخذ في الصدقة بهرمة و لا
عجفاء و لا ذات عوار و لا تيس الغنم و لا يجمع بين متفرق و لا يفرق بين
مجتمع خشية الصدقة و ما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية و
في كل خمس أوراق من الورق خمسة دراهم و ما زاد ففي كل أربعين درهما درهم و
ليس فيما دون خمس أواق شيء و في كل أربعين دينارا دينار و إن الصدقة لا
تحل لمحمد و لا أهل بيته إنما هي الزكاة يزكى بها أنفعهم في فقراء
المؤمنين و في سبيل الله و ليس في رقيق و لا مزرعة و لا عمالها شيء إذا
كانت تؤدى صدقتها من العشر و ليس في عبد المسلم و لا فرسه شيء و إن أكبر
الكبائر عند الله يوم القيامة الإشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حق
و الفرار في سبيل الله يوم الزحف و عقوق الوالدين و رمي المحصنة و تعلم
السحر و أكل الربا و أكل مال اليتيم و إن العمرة هي الحج الأصغر و لا يمس
القرآن إلا طاهر و لا طلاق قبل إملاك و لا عتاق حتى يبتاع و لا يصلين أحد
منكم في ثوب واحد ليس على منكبيه شيء و لا يحتبين في ثوب واحد ليس بين
فرجه و بين السماء شيء ولا يصلين أحدكم في ثوب واحد و شقه باد و لا يصلين
أحد منكم عاقصا شعره و إن من اعتبط مؤمنا قتلا عن بينه فهو قود إلا أن
يرضى أولياء المقتول و إن في النفس الدية مائة من الإبل و في الأنف إذا
أوعب جدعه الدية و في اللسان الدية و في الشفتين الدية و في البيضتين
الدية وفي الذكر الدية و في المأمومة ثلث الدية و في الجائفة ثلث الدية و
في الرجل الواحدة نصف الدية و في الصلب الدية و في العينين الدية و في
المنقلة خمس عشرة من الإبل و في السن خمس من الإبل و في الموضحة خمس من
الإبل و إن الرجل يقتل بالمرأة و على أهل الذهب ألف دينار ] فقرئ الكتاب
على أهل اليمن
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل
إلى اليمن و ذكر أنه صلى الله عليه و سلم صلى الغداة ثم أقبل على الناس
بوجهه فقال : [ يا معشر المهاجرين و الأنصار ! أيكم ينتدب إلى اليمن ] ؟
فقام عمر بن الخطاب فقال : أنا يا رسول الله ! فسكت عنه ثم قال : [ يا
معشر المهاجرين و الأنصار ! أيكم ينتدب إلى اليمن ] ؟ فقام معاذ بن جبل
فقال : أنا يا رسول الله ! فقال : [ يا معاذ أنت لها ! يا بلال لها ! يا
بلال ائتني بعمامتي ] ! فأتاه بعمامته فعمم بها رأسه ثم خرج رسول الله صلى
الله عليه و سلم و المهاجرون و الأنصار يشيعون معاذ و هو راكب و رسول الله
صلى الله عليه و سلم يمشي إلى جانب راحلته ثم قال : [ يا معاذ ! أوصيك
بتقوى الله و صدق الحديث و أداء الأمانة و ترك الخيانة و الأمر بالمعروف و
النهي عن المنكر و خفض الجناح و حفظ الجار و لين الكلام و رد السلام و
التفقه في القرآن و الجزع من الحساب و حب الآخرة على الدنيا يا معاذ ! لا
تفسد أرضا و لا تشتم مسلما و لا تصدق كاذبا و لا تكذب صادقا ولا تعص إماما
و إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله
فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم و
ليلتهم فإذا فعلوا ذلك فأخبرهم أن الله تعالى قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من
أمولهم فترد على فقرائهم فإذا أطاعوا بها فخذ منهم و توق كرائم أموال
الناس يا معاذ ! إني أحب لك ما أحب لنفسي و أكره لك ما أكره لها يا معاذ !
إذا أحدثت ذنبا فأحدث له توبة السر بالسر و العلانية بالعلانية يا معاذ !
يسر و لا تعسر واذكر الله عند كل حجر و مدر يشهد لك يوم القيامة يا معاذ !
عد المريض و أسرع في حوائج الأرامل و الضعفاء و جالس المساكين و الفقراء و
أنصف الناس من نفسك و قل الحق حيث كان و لا يأخذك في الله لومة لائم و
القني على الحال التي فارقتني عليها ] فقال معاذ : بأبي و أمي أنت يا رسول
الله ! لقد حملتني أمرا عظيما فادع الله لي على ما قلدتني عليه فدعا له
رسول الله صلى الله عليه و سلم قم ودعه و انصرف رسول الله صلى الله عليه و
سلم إلى المدينة و أصحابه ثم أردفه بأبي موسى الأشعري فلما قدم صنعاء صعد
منبرها فحمد الله و أثنى عليه ثم قرأ عليهم عهده ثم نزل فأتاه صناديد
صنعاء فقالوا : يا معاذ ! هذا نزل قد هيأناه لك و هذا منزل فرغناه لك قال
: بهذا أوصاني حبيبي أوصاني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا تأخذك في
الله لومة لائم وخلع رسول الله صلى الله عليه و سلم معاذ بن جبل من ماله
لغرمائه حيث اشتدوا عليه و بعثه إلى اليمن و قال : [ لعل الله يجبرك ] !
و قدم وفد كلاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاثة عشر نفرا فيهم لبيد بن ربيعة
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سرية مع جماعة من العرب ليس فيهم من
المهاجرين أحد و لا من الأنصار إلى بني تميم فأغار عليهم و سبى منهم
النساء و الولدان و أخذ منهم عشرين رجلا فقدم بهم المدينة فوضع رسول الله
صلى الله عليه و سلم لحسان منبرا فقام عليه فقال رسول الله صلى الله عليه
و سلم : [ إن الله يؤيد حسانا بروح القدس ] فقال القوم : شاعرهم أشعر من
شاعرنا و خطيبهم أخطب من خطيبنا
و قدم وفد الطائف و نزلوا دار
المغيرة بن شعبة و طلبوا الصلح فأمر النبي صلى الله عليه و سلم خالد بن
سعيد بن العاص أن يكتب لهم كتاب الصلح
و مرض عبد الله بن أبي سلول
في ليال بقين من شوال و مات في ذي القعدة و كان النبي صلى الله عليه و سلم
يعوده فلما مات جاء ابنه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا
رسول الله ! أعطني قميصك أكفنه فيه فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم
قميصه و أتى قبره فصلى عليه فنزلت الآية { و لا تصل على أحد منهم مات أبدا
و لا تقم على قبره }
و قدم وفد بني فزارة و هم بضعة عشر رجلا فيهم خارجة بن حصن
و قدم وفد بني عذرة ثلاثة عشر رجلا و نرلوا على المقداد بن عمرو
و فرض الله تعالى الحج على من استطاع إليه سبيلا فبعث رسول الله صلى الله
عليه و سلم أبا بكر يحج بالناس من المدينة في ثلاثمائة نفس و بعث معه
عشرين بدنة مفتولة قلائدها ففتلها عائشة بيدها و قلدها و أشعرها وساق أبو
بكر لنفسه خمس بدنات و حج معه عبد الرحمن بن عوف فلما بلغ العرج و ثوب
بالصبح سمع أبو بكر خلفه رغوة و أراد أن يكبر الصلاة فوقف عن التكبير و
قال : هذه رغوة ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم الجدعاء لقد بدا لرسول
الله صلى الله عليه و سلم في الحج فلعله أن يكون رسول الله صلى الله عليه
و سلم فنصلي معه ! فإذا علي عليها فقال أبو بكر : أمير أم رسول ؟ فقال :
لا بل رسول الله صلى الله عليه و سلم أرسلني ببراءة أقرأها على الناس في
مواقف الحج فقدموا مكة فقرأ على الناس سورة براءة حتى ختمها فلما كان يوم
عرفة قام أبو بكر فخطب الناس و عرفهم مناسكهم حتى إذا فرغ قام علي فقرأها
على الناس حتى ختمها فلما كان يوم النحر خطب أبو بكر الناس و حدثهم عن
إفاضتهم و نحرهم و مناسكهم فلما فرغ قام علي فقرأ على الناس براءة حتى
ختمها لينبذ إلى كل ذي حق حقه و ذي عهد عهده و أن لا يحج بعد هذا العام
مشرك و لا يطوف بالبيت عريان فلما كان يوم النفر الأول قام أبو بكر و خطب
الناس و حدثهم كيف ينفرون و كيف يرمون فعلمهم مناسكهم فلما فرغ قام علي
فقرأعلى الناس براءة حتى ختمها ثم رجعوا إلى المدينة
[ حدثنا
محمد بن إسحاق بن خزيمة ثنا محمد بن بشار ثنا أبو عامر ثنا قرة بن خالد عن
أبي جمرة الضبعي قال : قلت لابن عباس : إن لي جرة ينبذ لي فيها فإذا أطلت
الجلوس مع القوم خشيت أن أفتضح من حلاوته قال : قدم وفد عبد القيس على
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : مرحبا بالوفد غير خزايا و لا ندامي
! قالوا : يا رسول الله ! إن بينا و بينك المشركين من مضر و إنا لا نصل
إليك إلا في أشهر الحرام فحدثنا جملا من الأمر إذا أخذنا به دخلنا الجنة و
ندعو إليه من وراءنا فقال : آمركم بأربع و أنهاكم عن أربع : الإيمان بالله
و هل تدرون ما الإيمان بالله ؟ فقالوا : الله و رسوله أعلم قال : شهادة أن
لا إله إلا الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و صوم رمضان و إن تعطوا
الخمس من المغنم و أنهاكم عن النبيذ في الدباء و النقير و الحنتم و المزقت
]
قال : في أول هذه السنة قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله
عليه و سلم فلما دنوا من المدينة تركوا رواحلهم و بادروا إلى النبي صلى
الله عليه و سلم و نزل عبد الله بن الأشج العبدي فعقل راحلته و نزع ثيابه
فلبسها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : [ إن فيك لخصلتين يحبهما الله و رسوله : الحلم و الأناة ] ـ سألوه
عما ذكرنا
ثم بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد إلى
بني عبد المدان في شهر ربيع الأول و هم بنو الحارث بن كعب و أسلموا وأخذ
الصدقة من أغنيائهم و ردها على فقرائهم
ثم بعث رسول الله صلى الله
عليه و سلم عمرو بن حزم عاملا على نجران فخرج و أقام عندهم يعلمهم السنة و
معالم الإسلام إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو على نجران
و قدم عدي بن حاتم الطائي و معه صليب من ذهب فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله ]
و قدم بعده وفد طيء فيهم زيد الخيل و هو رأسهم
ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي فبعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى هدم ذي الخلصة فهدمها
ثم قدم وفد الأزد رأسهم صرد بن عبد الله في بضعة عشر رجلا فبعثه رسول الله
صلى الله عليه و سلم إلى جرش فافتتحها و كان عاملا للنبي صلى الله عليه و
سلم
و ولد محمد بن عمرو بن حزم بنجران فكتب عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم بذلك و أخبره أنه سماه محمدا و كناه أبا سليمان
وقدم وفد سلامان و هم سبعة نفر رأسهم حبيب السلاماني
و قدم وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة فقال : يا محمد ! إن جعلت لي الأمر بعدك
آمنت بك وصدقتك وفي يد رسول الله صلى الله عليه و سلم جريدة فقال النبي :
[ و لو سألتني هذه الجريدة ماأعطيتكها ! و لن تعدوا أمر الله فيك و لئن
أدبرت ليعقرنك الله إني لأراك الذي أريت ] و ذلك أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم قال : [ بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب فأهمني
شأنهما فأوحي إلي في المنام أن أنفخها فنفختهما فطارا فأولتهما الكذابين :
أحدهما العنسي و الآخر مسيلمة صاحب اليمامة ]
و قدم وفد غسان و وفد
عبس و وفد كندة و وفد محارب و وفد خولان وكان النبي صلى الله عليه و سلم
إذا قدم عليه الوفود لبس أحسن ثيابه و أمر أحبابه بذلك
و قدم وفد
مراد رأسهم فروة بن مسيك المرادي و استعمله رسول الله صلى الله عليه و سلم
على مراد و مذحج و بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم خالد بن الوليد على
الصدقات إليهم و كتب لهم كتابا بذلك و [ دخل أبو ذر على رسول الله صلى
الله عليه و سلم المسجد و هو جالس و حده فقال : يا أبا ذر ! إن للمسجد
تحية قال : و ما تحيته يا رسول الله ؟ قال : ركعتان فقام فركعهما ثم قال :
إنك أمرتني بالصلاة فما الصلاة ؟ قال : خير موضوع فمن شاء أقل و من شاء
أكثر ! فقال : يا رسول الله ! أي الأعمال أحب إلى الله ؟ قال : إيمان
بالله و جهاد في سبيله قال : فأي المؤمنين أكملهم إيمانا ؟ قال : أحسنهم
خلقا قال : فأي المسلمين أفضل ؟ قال : من سلم المسلمون من لسانه و يده قال
: فأي الهجرة أفضل ؟ قال : من هجر السوء قال : فأي الليل أفضل ؟ قال : جوف
الليل الغابر قال : فأي الصلاة أفضل ؟ قال : طول القنوت قال : فأي الرقاب
أفضل قال : أغلاها ثمنا و أنفسها عند أهلها قال : فأي الجهاد أفضل ؟ قال :
من عقر جواده و أهريق دمه قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : جهد من مقل إلى
فقير في سر قال : فما الصوم أفضل ؟ قال : فرض مجزي و عند الله أضعاف كثيرة
قال : فأي آية مما أنزلها الله عليك أفضل ؟ قال : آية الكرسي قال : يا
رسول الله ! كم النبيون قال : مائة ألف و أربعة و عشرون ألف نبي قال : كم
المرسلون منهم ؟ قال : ثلاثمائة و ثلاثة عشر جما غفيرا قال : من كان أول
الأنبياء ؟ قال : آدم قال : و كان من الأنبياء مرسلا ؟ قال : نعم خلق الله
آدم بيده و نفخ فيه من روحه ثم سواه و كلمه قبلا ثم قال : يا أبا ذر !
أربعة من الأنبياء سريانيون : آدم و شيث و خنوخ ـ و هو إدريس و هو أول من
خط بالقلم ـ و نوح و أربعة من العرب : هود و صالح و شعيب و نبيك محمد و
أول الأنبياء آدم و آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم و أول نبي من أنبياء
بني إسرائيل مو سى و آخرهم عيسى و بينهما ألف نبي قال : يا رسول الله ! كم
أنزل الله من كتاب ؟ قال : مائة كتاب و أربعة كتب أنزل على شيث خمسين
صحيفة و على إدريس ثلاثين صحيفة و أنزل على إبراهيم عشر صحائف و أنزل على
موسى قبل التوراة عشر صحائف و أنزل التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان
قال : يا رسول الله ! فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : كانت أمثالا كلها :
أيها الملك المسلط المبتلي المغرور ! إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على
بعض و لكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها و لو كانت من كافر و
على العاقل مالم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها
ربه و ساعة يحاسب فيها نفسه و ساعة يتفكر فيها في صنع الله عز و جل و ساعة
يخلوا فيها لحاجته من الحلال فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات و استجمام
للقلوب و على العاقل أن يكون بصيرا بزمانه مقبلا على شأنه حافظا للسانه
فإنه من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه و على العاقل أن يكون
طالبا لثلاث : مرمة لمعاش و تزود لمعاد و تلذذ في غير محرم و قال : يا
رسول الله ! فما كانت صحف موسى ؟ قال : كانت عبرأ كلها : عجبت لمن أيقن
بالموت ثم يفرح و عجبت لمن أيقن بالقدر ثم ينصب و عجبت لمن أيقن بالحساب
غدا ثم لا يعمل قال : هل أنزل الله عليك شيئا مما كان في صحف إبراهيم و
موسى ؟ قال : يا أبا ذر تقرأ { قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى } ـ
الآية قال : يا رسول الله ! أوصني قال : أوصيك بتقوى الله فإنه زين لأمرك
قال : زدني قال : عليك بطول الصمت فإنه مطردة للشيطان عنك و عون لك على
أمر دينك و إياك و الضحك فإنه يميت القلوب و يذهب نور الوجه قال : زدني
قال : أحب المساكين و مجالستهم قال : زدني قال : قل الحق و لو كان مرا قال
: زدني قال : لا تخف في الله لومة لائم قال : زدني قال : ليحجزك عن الناس
ما تعلم من نفسك و لا تجد عليهم فيما يأتي ثم قال : يا أبا ذر ! كفى للمرء
غيا أن يكون فيها خصال : يعرف من الناس ما يجهل من نفسه و يتجسس لهم ما هو
فيه و يؤذي جليسه فيما لا يعنيه يا أبا ذر ! لا عقل كالتدبير و لا ورع
كالكف و لا حسب كحسن الخلق ]
ثم بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه
سرية إلى اليمن في شهر رمضان قال : يا رسول الله ! كيف أصنع قال : [ إذا
نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك فإن قاتلوك فلا تقاتلهم حتى يقتلوا
منكم قتيلا فإن قتلوا منكم قتيلا فلا تقاتلوهم حتى تروهم أناة فإذا أتيتهم
فقل لهم : هل لكم أن تخرجوا من أموالكم صدقة فتردونها على فقرائكم فإن
قالوا : نعم فلا تبغ منهم غير ذلك و لأن يهدي الله على يديك رجلا واحدا
خير لك مما طلعت عليه الشمس ]
و نزلت على رسول الله صلى الله عليه و
سلم { لا يستوي القعدون من المؤمنين و المجهدون } فجاء عبد الله بن أم
مكتوم فقال : يا رسول الله صلى الله عليه و سلم ! إني أحب الجهاد في سبيل
الله و لكن بي ما ترى قد ذهب بصري قال زيد بن ثابت : فثقلت فخذه على فخذي
حتى خشيت أن ترضها : ثم قال : غير أولي الضرر
و قدم العاقب و السد
من نجران فكتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا صالحهم عليه ـ فهو
في أيديهم إلى اليوم و قالا : يا رسول الله ! ابعث علينا رجلا أمينا نعطه
ما سألتنا فقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق
أمين ] فاستشرف لها الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح و مات أبو عامر الراهب
عند هرقل فاختلف كنانة بن عبد ياليل و علقمة بن علاثه في ميراثه فقضي
برسول الله صلى الله عليه و سلم لكنانة بن عبد ياليل
و قدم الأشعث
بن قيس وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في قومه فبعث معه رسول
الله صلى الله عليه و سلم زياد بن لبيب البياضي إلى البحرين ليأخذ منهم
الصدقات
[ و بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم قاعد مع أصحابه إذ
طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر و
لا يعرفه منهم أحد حتى جلس إلى نبي الله صلى الله عليه و سلم فوضع ركبته
إلى ركبته و وضع كفه على فخذه ثم قال : يا محمد ! أخبرني عن الإسلام ؟ قال
: أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله و تقيم الصلاة و تؤتي
الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال : صدقت ! فعجب
المسلمون منه يسأله و يصدقه ثم قال : أخبرني عن الإيمان قال : أن تؤمن
بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر كله خيره و شره قال
: صدقت قال : أخبرني عن الإحسان قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن
تراه فإنه يراك قال : فأخبرني عن الساعة قال : ما المسؤول عنها بأعلم بها
من السائل قال : فأخبرني عن أماراتها قال : أن تلد الأمة ربتها و أن ترى
الحفاة العراة يتطاولون في البنيان قال : ثم انطلق فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ]
ثم إن النبي صلى
الله عليه و سلم أراد أن يحج حجة الوداع فأذن في الناس أنه خارج فقدم
الدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن بأتم برسول الله صلى الله عليه و سلم حتى
أتى ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر فأرسلت إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم : كيف أصنع ؟ قال : [ اغتسلي واستثفري بثوب و
أخرى ] ثم صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في المسجد و أمر ببدنة أن
تشعر و سلت عنها الدم ثم ركب القصواء فلما استوت به ناقته على البيداء أهل
و إن بين ييديه وخلفه و عن يمينه و يساره من الناس ما بين راكب و ماش و
رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرهم فأهل : لبيك ! اللهم لبيك ! لا
شريك لك لبيك ! إن الحمد و النعمة لك والملك لا شريك لك و أهل الناس معه
فمنهم من أهل مفردا و منهم من أهل قارنا حتى قدم رسول الله صلى الله عليه
و سلم مكة من الثنية فلما دخل مكة توضأ إلى الصلاة ثم دخل من باب بني شيبة
فلما أتى الحجر استلمه ورمل ثلاثا و مشى أربعا ثم تقدم إلى مقام إبراهيم
فقرأ { و اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } و جعل المقام بينه و بين البيت و
صلى ركعتين فقرأ فيهما { قل هو الله أحد } و { قل يا أيها الكافرون } ثم
رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما رقى على الصفا قرأ
{ إن الصفا و المروة من شعائر الله } و قال : [ أبدأ بما بدأ الله ] فلما
رقى عليها و رأى البيت استقبل القبلة و قال : [ لا إله إلا الله وحده لا
شريك له له الملك و له الحمد و هو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده
أنجز وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده ـ قال ذلك ثلاث مرات فلما نزل
إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي خب حتى إذا صعد مشى فلما أتى
المروة صعد عليها و فعل عليها ما فعل على الصفا حتى إذا كان آخر طواف على
المروة فقال : لو استقبلت ما استدبرت لم أسق الهدي و لجعلتها عمرة فمن كان
منكم ليس معه هدي فليحل و ليجعلها عمرة ] فقال سراقة ابن مالك بن جعشم :
يا رسول الله ! لعامنا هذا أو للأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه و سلم
بين أصابعه و قال : [ دخلت العمرة في الحج ـ مرتين ـ لا بل للأبد ]
و قدم علي من اليمن فوجد فاطمة قد لبست ثياب صبغ و اكتحلت فأنكر ذلك عليها
فقالت : أبي أمرني بهذا ! ثم قال النبي صلى الله عليه و سلم لعلي : [ بم
فرضت الحج ] ؟ قال : قلت : اللهم ! إني أهل بما أهل به رسولك فقال رسول
الله صلى الله عليه و سلم : [ فإن معي الهدي فلا تحل ] فكان الهدي الذي
قدم به علي بن أبي طالب من اليمن و الذي أتى به النبي صلى الله عليه و سلم
ماءة فحل الناس و قصروا إلا النبي صلى الله عليه و سلم و من كان معه هدي
و [ اعتل سعد بن أبي وقاص فدخل عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فبكى
سعد فقال له النبي صلى الله عليه و سلم : ما يبكيك فقال : خشيت أن أموت
بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة ! فقال النبي صلى الله عليه و
سلم : اللهم اشف سعدا ـ ثلاثا فقال : يا رسول الله ! إن لي مالا كثيرا و
أنعما و مورثتي بنت لي واحدة أفأوصي بمالي كله ؟ قال : لا قال : فالنصف ؟
قال : لا قال : الثلث ؟ قال : الثلث و الثلث كثير إنك إن صدقت مالك صدقة و
إن نفقتك على عيالك صدقة و ما تأكل امرأتك من طعامك صدقة و أن تدع أهلك
بخير خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس اللهم ! أمض لأصحابي هجرتهم و لا
تردهم على أعقابهم ] لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله
عليه و سلم أن مات بمكة
فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى و أهل
الناس بالحج فصلى بهم الظهر و العصر و المغرب و العشاء و الصبح بمنى ثم
مكث قليلا حتى طلعت الشمس و أمر بقبة له فضربت له بنمرة ثما سار رسول الله
صلى الله عليه و سلم و لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما
كانت قريش تصنع في الجاهلية فجاز رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى جاء
عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر
بالقصواء فرحلت له فلما أتى بطن الوادي خطب الناس وقال في خطبته : [ إن
دماءكم و أموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا !
ألا ! كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع و دماء الجاهلية موضوعة
فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله و استحللتم فروجهن بكلمة
الله و لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن
ضربا غير مبرح و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف و قد تركت فيكم مالن
تضلوا بعدي إن اعتصمتم به : كتاب الله و أنتم تسألون عني فماذا أنتم
قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت و أديت و نصحت فقال بأصبعه السبابة
يرفعها إلى السماء : اللهم اشهد ] ! ثم أذن و أقام فصلى الظهر ثم أقام
فصلى العصر و لم يصل بينهما شيئا ثم ركب حتى أتى الموقف فجعل بطن القصواء
إلى الصخرة و جعل جبل المشاة بين يديه و استقبل القبلة فلم يزل واقفا ـ و
المسلمون معه ـ حتى غربت الشمس و ذهبت الصفرة قليلا ثم أردف أسامة بن زيد
خلفه و دفع رسول الله صلى الله عليه و سلم و قد شفق للقصواء الزمام و يقول
بيده اليمنى : أيها الناس السكينة ! كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها
قليلا حتى تصعد فلما أتى المزدلفة صلى بها المغرب و العشاء بأذان واحد و
إقامتين و لم يسبح بينهما شيئا ثم اضطجع حتى طلع الفجر و صلى الفجر حين
تبين له الصبح بأذان و إقامة ثم ركب القصواء حتى أتىالمشعر الحرام فاستقبل
القبلة و دعا و كبر و هلل ثم لم يزل واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن
تطلع الشمس و أردف الفضل بن عباس حتى أتى محسر فسلك الطريق الوسطى التي
تخرج إلى الجمرة الكبرى فلما أتى الجمرة رماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة
رماهامن بطن الوادي بمثل حصى الخذف ثم انصرف إلى المنحر فنحر ثلاثا و ستين
بدنة بيده ثم أعطى عليا فنحر ماغير منها و أشركه في هدية و أمر من كل بدنة
ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها و شربا من مرقها ثم ركب رسول
الله صلى الله عليه و سلم القصواء فأتى البيت فطاف طواف الزيارة ثم قال :
يا بن عبد المطلب انزعوا فلولا أن يغلبكم الناس لنزعت معكم فناولوه دلوا
من زمزم فشرب منه ثم رجع صلى الله عليه و سلم إلى منى و صلى الظهر بها ثم
أقام بها أيام منى ثم ودع البيت و خرج إلى المدينة حتى دخلها و المسلمون
معه فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم و بعض صفر
أخبرنا أبو
يعلى حدثنا أحمد جميل المروزي ثنا عبد الله بن المبارك أنا معمر عن يونس
عن الزهري أخبرني أنس بن مالك أن المسلمين بينما هم في صلاة الفجر يوم
الإثنين و أبو بكر يصلي لهم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه و سلم قد
كشف ستر حجر عائشة فنظر إليهم و هم صفوف في صلاتهم ثم تبسم و نكص أبو بكر
على عقبيه ليصل الصف و ظن أن رسول الله صلى الله عليه و سلم يريد أن يخرج
إلى الصلاة وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاته فرحا برسول الله صلى الله
عليه و سلم حين رأوه فأشار إليهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن اقضوا
صلاتكم ثم دخل الحجرة و أرخى الستر بينه و بينهم و توفي في ذلك اليوم
قال : أول ما اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم كان ذلك يوم الأربعاء
لليلتين بقيتا من صفر و هو في بيت ميمونة حتى أغمي عليه من شدة الوجع
فاجتمع عنده نسوة من أزواجه و العباس بن عبد المطلب و أم سلمة و أسماء بنت
عميس الخثعمية و هي أم عبد الله بن جعفر و أم الفضل بنت الحارث و هي أخت
ميمونة فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أغمي عليه فلدوه و
هو مغمر فلما أفاق قال : [ من فعل هذا ] ؟ قالوا : يا رسول الله ! عمك
العباس قال : [ هذا عمل نساء جئن من ههنا ] و أشار إلى أرض الحبشة فقالوا
: يا رسول الله ! أشفقن أن يكون بك ذات الجنب فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ ما كان الله ليعذبني بذلك الداء ] ثم قال : [ لا يبقين أحد
في الدار إلا لد إلا العباس ]
فلما ثقل برسول صلى الله عليه و سلم
العلة استأذنت عائشة أزواجه أن تمرضه في بيتها فأذن لها فخرج رسول الله
صلى الله عليه و سلم بين رجلين رسول الله صلى الله عليه و سلم بين رجلين
تخط رجلاه في الأرض : بين عباس و علي حتى دخل بيت عائشة فلما دخل بيتها
اشتد وجعه فقال : [ أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى
الناس ] فأجلسوه في مخضب لحفصة ثم صب عليه من تلك القرب حتى جعل يشير
إليهن بيده أن فعلتن ثم قال : [ ضعوا لي في المخضب ماء ] ففعلوا فذهب
لينوء فأغمي عليه ثم أفاق قال : [ و ضعوا لي في المخضب ماء ] ففعلوا ثم
ذهب لينوء فأغمي عليه فأفاق و قال : [ أصلى الناس بعد ] ؟ قالوا : لا يا
رسول الله و هم ينتظرونك و الناس عكوف ينتظرون رسول الله صلى الله عليه و
سلم ليصلي بهم العشاء الآخرة فقال : [ مروا أبا بكر أن يصلي بالناس ]
فقالت عائشة : يا رسول الله ! إن أبا بكر رجل رقيق و إنه إذا قدم مقامك
بكى فقال : [ مروا أبا بكر يصلي بالناس ] ثم أرسل إلى أبا بكر فأتاه
الرسول فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمرك أن تصلي بالناس
فقال أبو بكر : يا عمر ! صل بالناس ! فقال : أنت أحق إنما أرسل إليك رسول
الله صلى الله عليه و سلم فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام
ثم وجد رسول
الله صلى الله عليه و سلم من نفسه خفة فخرج لصلاة الظهر بين العباس و علي
و قال لهما : [ أجلساني عن يساره ] فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى
الله عليه و سلم و هو جالس و الناس يصلون بصلاة أبي بكر ثم وجد خفة صلى
الله عليه و سلم فخرج فصلى خلف أبي بكر قاعدا في ثوب واحد ثم قام و هو
عاصب رأسه بخرقة حتى صعد المنبر ثم قال : [ و الذي نفسي بيده ! إني لقائم
على الحوض الساعة ] ثم قال : [ إن عبدا عرضت عليه الدنيا و زينتها فاختار
الآخرة ] فلم يفطن لقوله إلا أبو بكر فذرفت عيناه و بكى و قال : بأبي و
أمي ! نفديك بآبائنا و أمهاتنا و أنفسنا و أموالنا ! فقال رسول الله صلى
الله عليه و سلم : [ إن أمن الناس علي في بدنه و دينه و ذات يده أبو بكر و
لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا و لكن أخوة الإسلام سدوا كل خوخة
في المسجد إلا خوخة أبي بكر ] ثم نزل و دخل البيت و هي آخر خطبة خطبها
رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلما كان يوم الإثنين كشف الستارة من
حجرة عائشة و الناس صفوف خلف أبي بكر و كأن وجهه ورقة مصحف فتبسم رسول
الله صلى الله عليه و سلم فأشار إليهم أن مكانكم و ألقى السجف و توفي آخر
ذلك اليوم و كان ذلك اليوم لاثنتي عشرة خلون من شهر ربيع الأول
و
كان مقامه بالمدينة عشر حجج سواء و كانت عائشة تقول : توفي رسول الله صلى
الله عليه و سلم في بيتي و يومي و بين سحري و نحري و كان أحدنا بدعاء إذا
مرض فذهبت أعوذ فرفع رأسه إلى السماء و قال : [ في الرفيق الأعلى ] و مر
عبد الرحمن ابن أبي بكر و في يده جريدة خضراء رطبة فنظر إليه فظننت أن له
بها حاجة فأخذتها فمضغت رأسها ثم دفعتها إليه فاستن بها ثم ناولنيها و
سقطت من يده فجمع الله بين ريقي و ريقه في آخر يوم من الدنيا و أول يوم من
الآخرة
و كان أبو بكر في ناحية المدينة فجاء فدخل على رسول الله صلى
الله عليه و سلم و هو مسجى فوضع فاه على جبين رسول الله صلى الله عليه و
سلم و جعل يقبله و يبكي و يقول : بأبي و أمي ! طبت حيا و طبت ميتا ! فلما
خرج و مر بعمر بن الخطاب و عمر يقول : ما مات رسول الله صلى الله عليه و
سلم و لا يموت حتى يقتل المنافقين و يخزيهم ! و كانوا قد رفعوا رؤسهم لما
رأوا أبا بكر فقال أبو بكر لعمر : أيها الرجل ! اربع على نفسك فإن رسول
الله صلى الله عليه و سلم قد مات ألم تسمع الله يقول : { إنك ميت و إنهم
ميتون } و قال : { و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخلدون }
ثم أتى أبو بكر المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس ! إن
كان محمد إلهكم الذي تعبدون فإن إلهكم قد مات و إن كان إلهكم الذي في
السماء فإن إلهكم لم يمت ثم تلا { و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله
الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ـ حتى ختم الآية و قد استيقن
المؤمنون بموت محمد صلى الله عليه و سلم
و قد كان لعبد المطلب بن
هاشم من الأولاد ستة عشرا ولدا : عشرة ذكور منهم تسعة عمومة رسول الله صلى
الله عليه و سلم و واحد والد رسول الله صلى الله عليه و سلم و ست من
الإناث عمات رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأما أولاد عبد المطلب
الذكور منهم : عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه و سلم
و الزبير بن عبد المطلب و أبو طالب بن عبد المطلب و العباس ابن عبد المطلب
و ضرار بن عبد المطلب و حمزة بن عبد المطلب والمقوم بن عبد المطلب وأبو
لهب بن عبد المطلب والحارث بن عبد المطلب و الغيداق بن عبد المطلب
فأما عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم يكن ولد غير رسول
الله صلى الله عليه و سلم لا ذكر و لا أنثى و توفي قبل أن يولد رسول الله
صلى الله عليه و سلم
و أما الزبير بن عبد المطلب فكنيته أبو الطاهر من أجلة القريش و فرسانها من المبارزين و كان متعالما يقول الشعر فيجيد
و أما أبو طالب بن عبد المطلب فإن اسمه عبد مناف و كان هو و عبد الله والد
رسول الله صلى الله عليه و سلم لأم واحدة و كان أبو طالب وصى عبد المطلب
لابنه في ماله بعده و في حفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم و بعده على من
كان يتعهده عبد المطلب في حياته و مات أبو طالب قبل أن يهاجر رسول الله
صلى الله عليه و سلم إلى المدينة بثلاث سنين و أربعة أشهر
و أما
العباس فكنيته أبو الفضل و كان إليه السقاية و زمزم في الجاهلية فلما
افتتح رسول الله صلى الله عليه و سلم مكة دفعها إليه يوم الفتح و جعلها
إليه و مات العباس بن عبد المطلب سنة اثنتين و ثلاثين في خلافة عثمان بن
عفان
و أما ضرار فإنه كان يقول الشعر و يجيده ومات قبل الإسلام و لا عقب له
و أما حمزة فكنيته أبو ليلى و قد قيل : أبو عمارة و استشهد يوم أحد قتله
وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم في شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان حمزة أكبر
من النبي صلى الله عليه و سلم بسنتين
و أما المقوم فكان من رجالات قريش و أشدائها هلك قبل الإسلام و لم يعقب
و أما أبو لهب فإن اسمه عبد العزى و كنيته أبو عتبة و إنما كني أبا لهب
لجماله و كان أحول يعادي رسول الله صلى الله عليه و سلم من بين عمومته و
يظهر له حسده إلى أن مات عليه
و أما الحارث ـ و هو أكبر ولد عبد المطلب ـ اسمه كنيته و هو ممن شهد حفر زمزم مع عبد المطلب قديما
و أما الغيداق فإنه كان من أسد قريش و أجلادها و مات قبل الوحي و لم يعقب
و أما بنات عبد المطلب فإن إحداهن عاتكة بنت عبد المطلب و أميمة بنت عبد
المطلب و البيضاء و هي أم حكيم و أروى بنت عبد المطلب و صفية بنت عبد
المطلب و برة بنت عبد المطلب
و أما عاتكة فإنها كانت عند أبي أمية بن المغيرة المخزومي
و أما أميمة فإنها كانت عند جحش بن رئاب الأسدي
و أما البيضاء فإنها كانت عند كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس
و أما صفية فكانت عند العوام بن خويلد بن أسد
و أما برة فإنها كانت عند عبد الأسد بن هلال المخزومي
و أما أروى فكانت عند عمير بن عبد مناف بن قصي
و لم يسلم من عمات النبي صلى الله عليه و سلم إلا صفية و هي والدة الزبير
بن العوام و توفيت صفية في خلافة عمر بن الخطاب ـ فهذا ما يجب أن يعلم من
ذكر عمات رسول الله صلى الله عليه و سلم
و أما نساء رسول الله صلى
الله عليه و سلم فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج خديجة بنت خويلد
بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بمكة قبل الوحي و رسول الله
صلى الله عليه و سلم ابن خمس و عشرين سنة وكانت خديجة قبله تحت عتيق بن
عائذ بن عبد الله بن عمر ابن مخزوم و ولد له منها أولاده إلا إبراهيم و
توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة
ثم تزوج بعد موت خديجة سودة بنت زمعة
بن قيس بن عبد شمس بن عبدود ابن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي و أمها
الشموس بنت قيس بن زيد بن عمرو بن لبيد بن خراش بن عامر بن غنم بن عدي بن
النجار خطبها رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى عمها وقدان بن عبد شمس
وكانت قبل ذلك تحت السكران بن عمرو أخي سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي و
كانت امرأة ثقيلة ثبطة و هي التي وهبت يومها لعائشة و قالت : لا أريد مثل
ما تريد النساء و توفيت سودة سنة خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله
عليه و سلم عائشة بنت أبي بكر بن أبي قحافة الصديق في شوال و هي ينت ست
وبنى و هي بنت و هي بنت تسع بعد الهجرة و توفيت عائشة ليلة الثلاثاء لسبع
عشرة ليلة خلت من رمضان سنة سبع و خمسين و صلى عليها أبو هريرة و دفنت
بالبقيع و لم يتزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم بكرا غيرها
ثم
تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم حفصة بنت عمر بن الخطاب في شعبان و
أمها زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح و كانت قبل ذلك تحت
خنيس ابن حذافة بن قيس و ذلك في سنة ثلاث من الهجرة و توفيت حفصة بنت عمرو
سنة خمس و أربعين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذه
السنة في شهر رمضان زينب بنت خزيمة بن الحارث بن عبد الله بن عمرو بن عبد
مناف بن هلال بن عامر بن صعصعة التي يقال لها : أم المساكين و كانت قبله
تحت الطفيل بن الحارث و هي أول من لحقت بالنبي صلى الله عليه و سلم من
نسائه
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في السنة الرابعة من
الهجرة أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم و
ماتت أم سلمة سنة تسع و خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و
سلم في سنة خمس زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن
غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة و كانت قبل ذلك عند زيد بن حارثة مولى رسول
الله صلى الله عليه و سلم و توفيت زينب هذه سنة عشرين
ثم اصطفى رسول
الله صلى الله عليه و سلم صفية بنت حيي بن أخطب في سنة سبع و هي من بني
إسرائيل و كانت قبله عند كنانة بن أبي الحقيق سباها رسول الله صلى الله
عليه و سلم فاصطفاها و كانت ممن اصطفاها و أعتقها و تزوج بها و ماتت صفية
بنت حيي سنة خمسين
ثم تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم في آخر
هذه السنة أم حبيبة بنت أبي سفيان من حرب وكانت قبله تحت عبيد الله بن جحش
و كانت بأرض الحبشة مع زوجها مهاجرة فمات زوجها عبيد الله بن جحش فبعث
رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ليخطبها
لرسول الله صلى الله عليه و سلم و كان وليها في تلك الناحية إذ كان سلطانا
و لم يكن ولى بتلك الناحية والسلطان ولي من لا ولي له و كان الذي تولى
الخطبة عليها و السعي في أمرها سعيد بن العاص وكان وليها حينئذ بالبعد
فخرجت أم حبيبة مع جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة إلى رسول الله صلى الله
عليه و سلم و ماتت أم حبيبة سنة أربع و أربعين
تزوج رسول الله صلى
الله عليه و سلم ميمونة بنت الحارث بن حزن بن بجير بن الهرم بن رويبة بن
عبد الله بن عامر بن صعصعة و كانت قبله تحت أبي رهم بن عبد العزى من بني
عامر بن لؤي و ماتت ميمونة سنة ثمان و ثمانين و هي خالة عبد الله بن عباس
لأن أم عباس أم الفضل أخت ميمونة
تزوج رسول الله صلى الله عليه و
سلم جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية ـ و كانت قبله عند صفوان بن
تميم ـ سباها رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة بني المصطلق فصارت
لثابت بن قيس بن الشماس فاشتراها رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعتقها
و توفيت جويرية في شهر ربيع الأول سنة ست و خمسين فصلى عليها مروان بن
الحكم
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم أسماء بنت النعمان الجونية و لم يدخل بها ثم طلقها و ردها إلى أهلها
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عمرة بنت يزيد الكلابية و طلقها قبل أن يدخل بها
و تزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة بنت الضحاك بن سفيان الكلابية
فاستعاذت من رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها رسول الله صلى الله
عليه و سلم : [ تعوذت بعظيم فالحقي بأهلك ]
و تزوج رسول الله صلى
الله عليه و سلم ريحانة بنت عمرو القرظية فرأى بها بياضا قدر الدرهم ثم
طلقها و لم يدخل بها فماتت بعد ذلك بأربعة أشهر
و قد أعطى المقوقس
ملك الإسكندرية لرسول الله صلى الله عليه و سلم جارية يقال لها مارية
القبطية فأولدها رسول الله صلى الله عليه و سلم إبراهيم ابنه
و خرج
رسول الله صلى الله عليه و سلم من الدنيا يوم خرج و عنده تسع نسوة : عائشة
بنت أبي بكر الصديق و حفصة بنت عمر بن الخطاب و سودة بنت زمعة بن قيس بن
عبد شمس و أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب و زينب بنت جحش بن رئاب و أم
سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة وميمونة بنت الحارث بن حزن و جويرية بنت
الحارث بن أبي ضرار و صفية بنت حيي بن أخطب
و أما أولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فهم كلهم من خديجة بنت خويلد بن أسد إلا إبراهيم فإنه من مارية القبطية
و أما أولاد رسول الله صلى الله عليه و سلم فأولهم عبد الله و هو أكبرهم و
الطاهر و الطيب و القاسم و قد قيل : إن عبد الله هو الطاهر و هو أول مولود
ولد لرسول الله صلى الله عليه و سلم حتى قالت قريش : صار محمد أبتر لأن
ابنه توفي أنزل الله { إن شانئك هو الأبتر }
و بنات رسول الله صلى
الله عليه و سلم زينب و أم كلثوم و رقية و فاطمة رضي الله عنهن فأما زينب
بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجها رسول الله صلى الله عليه و سلم
من أبي العاص بن الربيع فولدت له أمامة بنت أبي العاص و هي التي كان رسول
الله صلى الله عليه و سلم يصلي و هو رافعها على عاتقه فإذا ركع وضعها و
إذا قام رفعها و ماتت أمامة و لم تعقب
و أما رقية بنت رسول الله صلى الله عليه و سلم فكانت عند عتبة بن أبي لهب
و أما كلثوم فكانت عند عتيبة بن أبي لهب فلما نزلت { تبت يدا أبي لهب }
أمرهما أبوهما ان يفارقاهما حينئذ لم يحرم الله تزويج المسلمين من نساء
المشركين و لا حرم على المسلمات أن يتزوجهن المشركون ثم حرم الله ذلك على
المسلمين و المسلمات
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم رقية
بنته عثمان بن عفان و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ بمكة و خرجت
معه إلى أرض الحبشة و ولدت له هناك عبد الله بن عثمان و به يكنى عثمان ثم
توفيت رقية عند عثمان بن عفان مرجع رسول الله صلى الله عليه و سلم من بدر
و دفنت بالمدينة و ذلك أن عثمان استأذن رسول الله صلى الله عليه و سلم في
التخلف عند خروجه إلى بدر لمرض ابنته رقية و توفيت رقية يوم قدوم زيد بن
حارثة العقيلي من قبل يوم بدر
ثم زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم عثمان بن عفان ابنته أم كلثوم فماتت و لم تلد
و زوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فاطمة علي بن أبي طالب بالمدينة
فولدت من علي الحسن و الحسين و محسنا و أم كلثوم و زينب ليس لعلي من فاطمة
إلا الخمس
فأما أم كلثوم فزوجها علي من عمر فولدت لعمر زيدا و رقية
و أما زيد فأتاه حجر فقتله و أما رقية بنت عمر فولدت لإبراهيم بن نعيم بن
عبد الله النحام جارية فتوفيت و لم تعقب
و أما زينب بنت علي فولدت لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب جعفرا ـ و كان يكنى به ـ الأكبر و أم كلثوم و أم عبد الله
و كان ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الصدقات حتى توفي عدي بن
حاتم على قومه و مالك بن نوبرة على بني الحنظلة و قيس بن عاصم على بني
منقر و الزبرقان بن بدر على بني سعد و كعب بن مالك بن أبي القيس على أسلم
و غفار و جهينة و الضحاك بن سفيان على بني كلاب و عمرو بن العاص على عمان
و المهاجر بن أبي أمية على صنعاء و زياد بن لبيد على حضرموت
أخبرنا عمر بن سعيد بن سنان الطائي ـ يخبر بإسناد ليس له في القلب وقع ـ
ثنا سفيان بن وكيع بن الجراح ثنا جميع بن عمرو بن عبد الرحمن العجلي أملاه
علينا من كتابه ثنا رجل من بني تميم من ولد أبي هالة زوج خديجة يكنى أبا
عبد الله عن ابن لأبي هالة عن الحسن بن علي قال : سألت خالي هند بن أبي
هالة ـ و كان وصافا ـ من حديث النبي صلى الله عليه و سلم و أنا أشتهي أن
يصف لي منها شيئا أتعلق به فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم فخما
مفخما يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر أطول من المربوع و أقصر من
المشذب عظيم الهامة رجل الشعر إن انفرقت عقيصته فرق و إلا فلا يجاوز شعره
شحمة أذنيه إذا هو وفره أزهر اللون واسع الجبين أزج الحواجب سوابغ في غير
قرن بينهما عرق يدره الغضب أقنى العرنين له نور يعلوه يحسبه من لم يتأمله
أشم كث اللحية سهل الخدين ضليع الفم أشنب مفلج الأسنان دقيق المسربة كأن
عنقه جيد دمية في صفاء الفضة معتدل الخلق بادن متماسك سواء البطن و الصدر
عريض الصدر بعيد ما بين المنكبين ضخم الكراديس أنور المتجرد موصول ما بين
اللبة و السرة بشعر يجري كالخط عاري اليدين و البطن مما سوى ذلك أشعر
الذراعين و المنكبين و أعالي الصدر طويل الزندين رحب الراحة شثن الكفين و
القدمين سائر أو سائل ـ شك ابن سعيد ـ الأطراف خمصان الأخمصين مسيح
القدمين ينبو عنهما الماء إذا زال زال قلعا يخطو تكفيا و يمشي هونا ذريع
المشية إذا مشى كأنما ينحط من صبب و إذا التفت التفت جميعا خافض الطرف
نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى السماء جل نظره الملاحظة يسوق أصحابه
يبدأ من لقي بالسلام
قال : قلت : صف لي منطقه فقال : كان رسول الله
صلى الله عليه و سلم متواصل الأحزان دائم الفكرة ليست له راحة طويل السكت
لا يتكلم في غير حاجة يفتتح الكلام و يختمه بأشداقه ويتكلم بجوامع الكلم
فضل لا فضول و لا تقصير دمث ليس بالجافي و لا بالمهين يعظم النعمة و إن
دقت لا يذم شيئا غير أن لا يذم ذواقا و لا يمدحه و لا تغضبه الدنيا و ما
كان لها فإذا نوزع الحق لم يعرفه أحد و لم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر لا
يغضب لنفسه و لا ينتصر لها إذا أشار بكفه كلها و إذا تعجب قلبها و إذا
تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن كفه اليسرى و إذا غضب أعرض و أشاح
و إذا فرح غض طرفه جل ضحكه التبسم و يفتر عن مثل حب الغمام ـ قال الحسن :
فكتمها الحسين زمانا ثم حدثته فوجدته قد سبق إليه و سأله عما سألته
قال الحسين : فسألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : كان
دخوله لنفسه مأذون له في ذلك كان إذا أوى إلى منزله جزأ نفسه ثلاثة أجزاء
: جزء لله و جزءا لأهله و جزءا لنفسه ثم جزأ جزءا بينه و بين الناس فيرد
ذلك بالخاصة على العامة و لا يدخر عنهم شيئا و كان من سيرته في جزء الأمة
إيثار أهل الفضل بإذنه و قسمه على قدر فضلهم في الدين فمنهم ذو الحاجة و
منهم ذو الحاجتين و منهم ذو الحوائج فيتشاغل بهم و يشغلهم فيما يصلحهم و
إلا معه من مسألتهم يلائمهم و يخبرهم بالذي ينبغي لهم و يقول : ليبلغ
الشاهد منكم الغائب و أبلغوا في الحاجة من لا يستطيع إبلاغها فإن من أبلغ
سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها يثبت الله قدميه يوم القيامة لا يذكر
عنده إلا ذلك و لا يقبل من أحد غيره يدخلون روادا و لا يفترقون إلا عن
ذواق و يخرجون أذلة
قال : فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه قال :
كان يخزن لسانه إلا فيما يعنيه و يؤلفهم و لا ينفرهم و يكرم كريم القوم و
يوليه عليهم و يحذر الناس و يحترس منهم من غير أن يطهر على أحد بسره و
يتفقد أصحابه ويسأل الناس عما في الناس و يحسن الحسن و يقويه و يقبح
القبيح و يوهنه معتدل الأمر غير متخلف لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا
لكل حال عنده عتاد و لا يقصر عن الحق و لا يجاوزه الذين يلونه من الناس
خيارهم و أفضلهم عنده أعمهم نصيحة و أعظمهم عنده منزلة أحسنهم مؤاساة و
مؤازرة
قال : فسألته عن مجلسه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و
سلم لا يجلس و لا يقوم إلا على ذكر لا يوطن الأماكن و ينهى عن إيطانها و
إذا جلس إلى قوم جلس حيث انتهى المجلس و يأمر بذلك و يعطي كل جلسائه نصيبه
لا يحسب جليسه أن أحدا أكرم عليه منه من جالسه أوقاومه لحاجة صابره حتى
يكون هو المتصرف و من سأله عن حاجة لم يرده إلا بها أو بميسور من القول قد
وسع الناس منه بسطه و خلقه فصار الناس أبا و صاروا في الحق عنده سواء
مجلسه مجلس حلم و حياء و صبر و أمانة لا ترفع فيه الأصوات و لا تؤبن فيه
الحرم و لا تنثى فلتاته متعادلين يتفاضلون فيه بالتقوى متواضعين يوقرون
الكبير و يرحمون الصغير و يؤثرون ذوي الحاجة و يحفظون الغريب
قال :
فسألته عن سيرته في جلسائه فقال : كان رسول الله صلى الله عليه و سلم دائم
البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ و لا غليظ و لا صخاب و لا فحاش و لا
عياب و لا مزاح يتغافل عما لا يشتهي و لا يؤنس معه و لا يخيب فئة قد نزه
نفسه من ثلاث : كان لا يذم أحدا و لا يطلب عورته و لا يتكلم إلا فيما رجا
ثوابه و إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤسهم الطير و إذا سكت تكلموا و
لا يتنازعون عنده الحديث من تكلم صمتوا له حتى يفرغ جل حديثه عندهم حديث
أوليهم يضحك مما يضحكون من و يتعجب مما يعجبون منه و يصبرللغريب على
الجفوة في منطقه حتى أن كان أصحابه يسجلبونهم و يقول : إذا رأيتم طالب
حاجة يطلبها فارفده و لا يقبل الثناء إلا من مكافئ و لا يقطع على أحد
حديثه حتى يجوره فيقطعه بنهي أو قيام
قال : و سألته : كيف كان سكوت
رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : كان سكوته على أربعة : على الحلم
و الحذر و التقدير و التفكر فأما تقديره ففي تسوية النظر و الاستماع بين
الناس و أما تفكره ففيما يبقى و يفنى و جمع له الحلم في الصبر فكان لا
يغضبه شيء و لا يستنفزه و جمع له الحذر في أربعة : أخذه بالحسن ليقتدي به
و تركه القبيح ليتناهى عنه و إجهاده الرأي فيما يصلح أمته و القيام فيما
يجمع لهم فيه خير الدنيا و الآخرة
قال أبو حاتم : قد ذكر جمل ما
يحتاج إليه من مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مبعثه و أيامه و
هجرته إلى أن قبضه الله إلى جنته ثم إنا ذاكرون بعده الخلفاء الأربعة
بأيامه و جمل ما يحتاج إليه من أخبارهم ليكون ذلك طريقا للمتأسين بهم إذ
المصطفى صلى الله عليه و سلم أمر بذلك الحديث حيث قال : [ عليكم بسنتي و
سنة الخلفاء الراشدين من بعدي و عضوا عليها بالنواجذ و إياكم و محدثات
الأمور ! فإن كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة ] ـ جعلنا الله و إياكم من
المتبعين لسنة المبادرين إلى لزوم طاعته إنه الفعال لما يريد بكم
آخر مولد رسول الله صلى الله عليه و سلم و مبعثه
قال الشيخ أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد التميمي : و اسمه عبد الله و
لقبه عتيق و اسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن
مرة ابن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن
مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان و أم أبي بكر أم الخير
بنت صخر بن عامر بن كعب ـ أخو عمرو بن كعب ـ بن سعد بن تيم بن مرة بن لؤي
بن غالب
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة اللخمي بعسقلان ثنا محمد بن
المتوكل ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن
عتبة عن ابن عباس قال : كنت عند عبد الرحمن بن عوف في خلافة عمر بن الخطاب
فلما كان في آخر حجة حجها عمر أتاني عبد الرحمن بن عوف في منزلي عشاء فقال
: لو شهدت أمير المؤمنين اليوم و جاءه رجل و قال : يا أمير المؤمنين ! إني
سمعت فلانا يقول : لو مات أمير المؤمنين لبايعت فلانا فقال عمر : إني
لقائم العشية في الناس و محذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا
المسلمين أمرهم فقلت : يا أمير المؤمنين : إن الموسم يجمع رعاع الناس و
غوغاءهم و إنهم الذين يغلبون على مجلسك و إني أخشى أن تقول فيهم اليوم
مقالة لا يعونها و لا يضعونها مواضعها و أن يطيروا بها كل مطير و لكن أمهل
يا أمير المؤمنين حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة و دار الهجرة فتخلص
بالمهاجرين و الأنصار و تقول ما قلت متمكنا فيعون مقالتك و يضعونها
مواضعها قال عمر : أما و الله لأقومن به في أول مقام أقومه بالمدينة ! قال
ابن عباس : فلما قدمنا المدينة و جاء يوم الجمع هجرت لما حدثني عبد الرحمن
ابن عوف فوجدت سعيد بن زيد بن نفيل قد سبقني بالهجرة جالسا إلى جنب المنبر
فجلست إلى جنبه تمس ركبتي ركبته فلما زالت الشمس خرج علينا عمر فقلت و هو
مقبل : أما و الله ليقولن اليوم أمير المؤمنين على هذا المنبر مقالة لم
يقل عليه أحد قبله قال : فغضب سعيد بن زيد فقال : و أي مقال يقول لم يقل
قبله ؟ فلما ارتقى عمر المنبر أخذ المؤذن في أذانه فلما فرغ من أذانه قام
عمر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فإني أريد أن
أقول مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلى فمن عقلها و
وعاها فليحدث بها حيث تنتهي به راحلته و من خشى أن لا يعيها فإني لا أحل
لأحد أن يكذب علي : إن الله بعث محمدا صلى الله عليه و سلم بالحق و أنزل
عليه الكتاب و كان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها و وعيناها فرجم رسول
الله صلى الله عليه و سلم و رجمنا بعده و إني خائف أن يطول بالناس زمان
فيقول قائل : ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله
ألا ! و إن الرجم على من أحصن إذا زنى و قامت عليه البينة أو كان الحمل أو
الاعتراف ثم إنا قد كنا نقرأ { و لا ترغبوا عن آبائكم } ثم إن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم
فإنما أنا عبد فقولوا : عبد الله و رسوله ] ثم إنه بلغني أن فلانا منكم
يقول : لو قد مات أمير المؤمنين لقد بايعت فلانا فلا يغتر امرؤ أن يقول :
إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فقد كانت كذلك ألا و إن الله وقى شرها و دفع عن
الإسلام و المسلمين ضرها و ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر و
إنه كان من خيرنا حين توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم إن عليا و
الزبير و من تبعهما تخلفوا عنا في بيت فاطمة و تخلف عنا الأنصار في سقيفة
بني ساعدة و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت : يا أبا بكر ! انطلق بنا
إلى إخواننا من الأنصار فانطلقا نؤمهم فلقينا رجلين صالحين من الأنصار
شهدا بدرا فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين ؟ قلنا : نريد إخواننا
هؤلاء الأنصار قالا : فارجعوا فامضوا أمركم بينكم فقلت : و الله لنأتينهم
! فأتيناهم فإذا هم مجتمعون في سقيفة بني ساعدة بين أظهرهم رجل مزمل قلت :
من هذا ؟ قالوا : سعد بن عبادة قال : قلت : ما شأنه ؟ قالوا : وجع فقام
خطيب الأنصار فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فنحن
الأنصار و كتيبة الإسلام و أنتم يا معشر قريش رهط منا و قد دفت إلينا دافة
منكم و إذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا و يحضنونا بأمر دوننا و قد كنت
زورت في نفسي مقالة أريد أن أقوم بها بين يدي أبي بكر و كنت أدارئ من أبي
بكر بعض الحد و كان أوقر مني و أحلم فلما أردت الكلام قال : على رسلك !
فكرهت أن أغضبه فحمد الله أبو بكر و أثنى عليه و و الله ما ترك كلمة قد
كنت زورتها إلا جاء بها أو بأحسن منها في بديهته ثم قال : أما بعد ! و أما
ما ذكرتم فيكم من خير يا معشر الأنصار فأنتم له أهل و لم تعرف العرب هذا
الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب دارا و نسبا و لقد رضيت لكم
أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح
فو الله ما كرهت مما قال شيئا غير هذه الكلمة كنت لأن أقدم فتضرب عنقي لا
يقربني ذلك إلى إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر فلما قضى
أبو بكر مقالته قام رجل من الأنصار فقال : أنا جذيلها المحكك و عذيقها
المرجب منا أمير و منكم أمير يا معشر قريش و إلا أجلنا الحرب فيما بيننا و
بينكم خذعة قال معمر : فقال قتادة : قال عمر : فإنه لا يصلح سيفان في غمد
و لكن منا الأمراء و منكم الوزراء قال معمر عن الزهري في حديثه : فارتفعت
الأصوات بيننا و كثر اللغط حتى أشفقت الاختلاف فقلت : يا أبا بكر ! ابسط
يدك أبايعك فبسط يده فبايعته و بايعه المهاجرون و بايعه الأنصار قال : و
نزونا على سعد بن عبادة حتى قال قائل منهم : قتلتم سعدا قال قلت : قتل
الله سعدا ! و أنا و الله ما أرينا فيما حضرنا أمرا كان أقوى من مبايعة
أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم أن يحدثوا بعدنا بيعة فأما أن نتابعهم على
ما لا نرضى و إما أن نخالفهم فيكون فسادا فلا يغرن امرأ يقول : كانت بيعة
أبي بكر فلتة و قد كانت كذلك إلا أن الله وقى شرها و ليس فيكم من يقطع
إليه الأعناق مثل أبي بكر فمن بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين فإنه لا
يبايع هو و لا الذي بايعه بعده قال الزهري : و أخبرني عروة أن الرجلين
اللذين لقياهما من الأنصار عويم بن ساعدة و معن بن عدي و الذي قال : [ أنا
جذيلها المحكك و عذيقها المرجب ] الحباب بن المنذر
قال أبو حاتم :
نظر المسلمون إلى أعظم أركان الدين و عماد الإسلام للمؤمنين فوجدوها
الصلاة المفروضة وإن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولى أبا بكر إقامتها
في الأوقات المعلومات فرضي المسلمون للمسلمين ما رضي لهم رسول الله صلى
الله عليه و سلم فبايعوه طائعين في سائر الأركان و بايعوه في السر و
الإعلان
فلما كان اليوم الثاني قام عمر بن الخطاب على المنبر فتكلم
قبل أبي بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها الناس ! إني
قد قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت إلا مني و ما جدتها في كتاب الله و لا
كانت عهدا عهده إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم و لكني قد كنت أرى أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم سيأمرنا بقول يكون آخرنا و إن الله قد أبقى
فيكم كتابه الذي به هدى رسوله فإن اعتصمتم به هداكم الله لما كان قد هدى
به أهله و إن الله قد جمع أمركم على خيركم : صاحب رسول الله صلى الله عليه
و سلم و ثاني اثنين إذ هما في الغار فقوموا إليه فبايعوه فبايع الناس أبا
بكر بيعة العامة بعد بيعة السقيفة
ثم تكلم أبو بكر فحمد الله و أثنى
عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد أيها الناس ! فإني قد وليت عليكم و لست
بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني الصدق أمانة و الكذب خيانة و
الضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله و القوي فيكم ضعيف
عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا
ضربهم بالبلاء و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء أطيعوني ما
أطعت الله و رسوله فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم قوموا إلى
صلاتكم يرحمكم الله
فلما فرغ الناس من بيعة أبي بكر و هو يوم
الثلاثاء أقبلوا على جهازه صلى الله عليه و سلم فاختلفوا في غسله فقالوا :
و الله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه و سلم من ثيابه كما نجرد
موتانا أو نغسله و عليه ثيابه فلما اختلفوا ألقى الله عليهم السبات حتى ما
منهم أحد إلا و ذقته في صدره ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت ـ لا يدري من
هو أن اغسلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و عليه ثيابه فقاموا فغسلوه و
عليه قميصه فأسنده علي إلى صدره فكان العباس و الفضل و القثم يقلبونه و
كان أسامة بن زيد و شقران مولياه يصبان عليه الماء و علي يغسله و يدلكه من
ورائه لا يفضي بيده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يقول : بأبي
أنت و أمي ! ما أطيبك حيا و ميتا ! و لم ير من رسول الله صلى الله عليه و
سلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص و لا عمامة أدرج فيها إدراجا
ثم دخل الناس يصلون عليه أرسالا بدأ به الرجال حتى إذا فرغوا أدخل النساء
ثم أدخل الصبيان ثم أدخل العبيد و لم يؤم الناس على رسول الله صلى الله
عليه و سلم أحد و كان أبو عبيدة بن الجراح يحفر كحفر أهل مكة و كان أبو
طلحة زيد ابن سهيل يحفر كحفر أهل المدينة و كان يلحد فدعا العباس بن عبد
المطلب رجلين فقال لأحداهما : اذهب إلى أبي عبيدة و قال : للآخر : اذهب
إلى أبي طلحة فقال : اللهم ! خر لرسولك فوجد صاحب أبي طلحة أبا طلحة فجاء
به فلحد برسول الله صلى الله عليه و سلم و كان المسلمون اختلفوا في دفنه
فقائل يقول : ندفنه في مسجده و قائل يقول : ندفنه مع أصحابه فقال أبو بكر
: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ ما قبض نبي إلا دفن حيث
يقبض ] فرفع فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم الذي توفي عليه فحفر أبو
طلحة تحته ثم دفن صلى الله عليه و سلم ليلة الأربعاء حين زاغت الشمس و نزل
في قبر رسول الله صلى الله عليه و سلم علي بن أبي طالب و الفضل بن العباس
و قثم بن العباس و شقران مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم و طرح تحته
قطيفة و كان آخرهم عهدا به قثم بن العباس و كان المغيرة بن شعبة يقول : لا
بل أنا و كان يحكي قصة
ثم قام أبو بكر في الناس خطيبا بعد خطبته
الأولى فقال : الحمد لله أحمده و أومن بوحدانيته و أستعينه على أمركم كله
سره و علانيته نعوذ بالله مما يأتي به الليل و النهار و ترتكب عليه السر و
الجهار و أشهد أن لا إله إلا الله حافظا و نصيرا و أن محمدا عبده و رسوله
بالحق بشيرا و نذيرا قدام الساعة فمن أطاعه رشد و من عصاه هلك و شرد
فعليكم أيها الناس بتقوى الله ! فإن أكيس الكيس التقوى و إن أحمق الحمق
الفجور فاتبعوا كتاب الله و اقبلوا نصيحته و اقتدوا بسنة رسوله و خذوا
شريعته فإن الله يقبل التوبة عن عباده و يعفو عن السيئات و هو الحكيم
العليم { و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا } ـ الآية و احذروا
الخطايا التي لكل بني آدم فيها نصيب و تزودوا للآخرة فإن المصير إليها
قريب و لكن خيركم من اتبع طاعة الله و اجتنب معصيته فاحذروا يوما لا ينفع
فيه من حميم و لا شفيع و لا حميم يطاع و ليعمل عامل ما استطاع من عمل
يقربه إلى ربه و اعملوا من قبل أن لا تقدروا على العمل و إن الله لو شاء
لخلقكم سدى و لكن جعلكم أئمة هدى فاتبعوا ما أمركم الله به و اجتنبوا ما
نهاكم عنه و اعملوا الخير فإن قليله كثير نام مبارك و اتقوا الله حق تقاته
و احذروا ما حذركم في كتابه و توقوا معصيته خشية من عقابه فليس فيها رغبة
لأحد و استعفوا عما حرم الله و أمر باجتنابه و إياكم و المحقرات فإنها
تقرب إلى الموجبات واعملوا قبل أن لا تعلموا و توبوا من الخطايا التي لا
يغسلها إلا الله برحمته وصلوا على نبيكم كما أمركم ربكم ثم قال : أيها
الناس ! إن الذي رأيتم مني لم يكن على حرص على ولايتكم ولكني خفت الفتنة و
الإختلاف فدخلت فيها و هأنذا و قد رجع الأمر إلى أحسنه و كفى الله تلك
الثائرة و هذا أمركم إليكم تولوا من أحببتم من الناس و أنا أجبيكم على ذلك
وأكون كأحدكم فأجابه الناس : رضينا بك قسما و حظا إذ أنت ثاني اثنين مع
رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو بكر : اللهم ! صل على محمد و
السلام على محمد و رحمة الله و بركاته اللهم ! إنا نستعينك و نستغفرك و
نثني عليك و لا نكفرك و نؤمن بك و نخلع من يكفرك
ثم نزل و استقام له
الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بايعه الناس و رضوا به و سموه
خليفة رسول الله إلا شرذمة مع علي بن أبي طالب تخلفوا عن بيعته
و
كان أسامة بن زيد يقول : أمرني رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أغير
صباحا على أهل أبني ثم أمر أبو بكر أن يبعثوا بعث أسامة بن زيد فقال له
الناس : إن العرب قد انتفضت عليك و إنك لا تصنع بتفرق المسلمين عنك شيئا
قال : و الذي نفس أبي بكر بيده ! لو ظننت أن السباع أكلتني بهذه القرية
لأنفذت هذا البعث الذي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بإنفاذه ثم قال
أبو بكر لأسامة : إن تخلف معي عمر بن الخطاب فافعل فأذن له أسامة فتخلف
عمر مع ابي بكر و مضى أسامة حتى أوطأهم ثم رجع فسمع به المسلمون فخرجوا
مسرورين بقدومه و لوائه معقود حتى دخل المسجد فصلى ركعتين ثم دخل بيته
ولواءه معقود و يقال : إنه لم يحمل اللواء حتى توفي و وضعه في بيته
ثم كتب أبو بكر الصديق كتابا إلى معاذ بن جبل يخبره بموت رسول الله صلى
الله عليه و سلم و بعثه مع عمار بن ياسر و قد كان معاذ أتى اليمن فبينا هو
ذات ليلة على فراشه إذا هو بهاتف يهتف عند رأسه : يا معاذ ! كيف يهنئك
العيش و محمد في سكرات الموت ؟ فوقف فزعا ما ظن إلا أن القيامة قد قامت
فلما رأى السماء مصحية و النجوم ظاهرة استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم
نودي الليلة الثانية : يا معاذ ! كيف يهنئك العيش و محمد بين أطباق الثرى
؟ فجعل معاذ يده على رأسه و جعل يتردد في سكك صنعاء و ينادي بأعلى صوته :
يا أهل اليمن ! ذروني لا حاجة لي في جواركم فما شر الأيام يوم جئتكم و
فارقت رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فخرج الشبان من الرجال و العواتق
من النساء و قالوا : يا معاذ ! ما الذي دهاك ؟ فلم يلتفت إليهم و أتى
منزله وشد على راحلته و أخذ جرابا فيه سويق و أداوة من ماء ثم قال : لا
أنزل عن ناقتي هذه إن شاء الله إلا لوقت صلاة حتى آتي المدينة فبينا هو
على ثلاثة مراحل من المدينة إذ لقيه عمار فعرفه بالبعير قال : اعلم يامعاذ
أن محمدا قد ذاق الموت و فارق الدنيا فقال معاذ : يا أيها الهاتف في هذا
الليل القار من أنت يرحمك الله ! قال : أنا عمار بن ياسر قال : و أين تريد
؟ قال : هذا كتاب أبي بكر إلى معاذ يعلمه أن محمدا قد مات و فارق الدنيا
قال معاذ : فإلى من المهتدى والمشتكى ؟ فمن لليتامى و الأرامل و الضعفاء ؟
ثم سار و رجع عمار معه و جعل يقول : نشدتك بالله كيف أصحاب محمد قال :
تركتهم كنعم بلا راع قال : كيف تركت المدينة قال : تركتها وهي أضيق على
أهلها من الخاتم فلما كان قريبا من المدينة سمعت عجوزا و هي تذكر رسول
الله صلى الله عليه و سلم و هي تبكي فقالت : يا عبد الله ! لو رأيت ابنته
فاطمة و هي تبكي و تقول : يا أبتاه ! إلى جبريل ننعاه ! يا أبتاه ! انقطع
عنا أخبار السماء و لا ينزل الوحي إلينا من عند الله أبدا فدخل معاذ
المدينة ليلا و أتى باب عائشة فدق عليها الباب فقالت : من هذا الذي يطرق
بنا ليلا ؟ قال : أنا معاذ بن جبل ففتحت الباب فقال : يا عائشة ! كيف رأيت
رسول الله صلى الله عليه و سلم عند شدة وجعه ؟ قالت : يا معاذ ! لو رأيت
رسول الله صلى الله عليه و سلم يصفار مرة و يحمار أخرى يرفع يدا و يضع
أخرى لما هنأك العيش طول أيام الدنيا ! فبكى معاذ حتى خشي أن يكون الشيطان
قد استفزه ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم و أتى أصحاب محمد صلى الله
عليه و سلم
ثم ظهر طليحة في أرض بني أسد و مالت فزارة فيها عيينة بن
حصن بن بدر مرتدين عن الإسلام و بايعه بنو عامر على مثل ذلك و تربصوا
ينظرون الوقعة بين المسلمين و بين بني أسد و فزارة و قد كان أمر رسول الله
صلى الله عليه و سلم الذين بعثهم على الصدقات قد جمعوا ما كان على الناس
منها فلما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فأما عدي بن حاتم
فتمسك بالإسلام و بقي في يده الصدقات و كذلك الزبرقان بن بدر و أما مالك
بن نويرة فأرسل ما في يده و قال لقومه : قد هلك هذا الرجل فشأنكم بأموالكم
و قد كانت طيء و بنو سعد كلمهما عدي بن حاتم و الزبرقان بن بدر فقالا ـ و
هما كانا أحزم رأيا و أفضل في الإسلام رغبة من مالك بن نويرة ـ لقومهما :
لا تعجلوا فإنه ليكونن لهذا الأمر قائم فإن كان ذلك كذلك ألقاكم و لم
تبدلوا دينكم و لم تعزلوا أمركم و إن كان الذي تطلبون فلعمري إن ذلك
أموالكم بأيديكم لا يغلبنكم عليها أحد غيركم و سكناهم بذلك حتى أتاهم خبر
الناس و اجتماعهم على أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و بيعة
المسلمين إياه فبعثا ما بأيديهم من الصدقة إلى أبي بكر فلم يزل أبو بكر
يعرف فضلهما على من سواهما من المسلمين
و جاء العباس و فاطمة إلى
أبي بكر يلتمسان ميراثهما من النبي صلى الله عليه و سلم و هما حينئذ
يطلبان أرضه من فدك و سهمه من خيبر فقال لهما أبو بكر : إني سمعت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نورث ما تركناه صدقة ] إنما يأكل
محمد من هذا المال و إني و الله لا أدع أمرا رأيت رسول الله صلى الله عليه
و سلم يصنعه فيه إلا صنعته فيه فهرجته فاطمة و لم تكلمه حتى ماتت
ثم جهز أبو بكر الجيش ليقاتل من كفر من العرب فترك إعطاء الصدقات و ارتد
عن الإسلام فقال له عمر : كيف تقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله و
قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا
بحقها و حسابهم على الله ] فقال أبو بكر : و الله لأقاتلن من فرق بين
الصلاة و الزكاة و الذي نفس أبي بكر بيده ! لو منعوني عقالا أو عناقا ـ
كانو يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه حتى آخذها
قال عمر : فلما رأيت شرح صدر أبي بكر لقتالهم علمت أنه الحق فأمر أبو بكر
على الناس خالد بن الوليد و أمر ثابت بن قيس بن شماس على الناس الأنصار و
جمع أمر الناس إلى خالد بن الوليد ثم أمرهم أن يسيروا و سار معهم مشيعا
حتى نزل ذا القصة من المدينة على بريد وأميال فضرب معسكره و عبأ جيشه ثم
تقدم إلى خالد بن الوليد و قال : إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم
أذانا للصلاة فأمسكوا عنها حتى تسألوهم ما الذي يعلمون و إن لم تسمعوا
الأذان فشنوا الغارة و اقتلوا و حرقوا ثم أمر خالد بن الوليد أن يصمد
لطليحة و هو على ماء من مياه بني أسد و كان طليحة يدعي النبوة و ينسج
للناس الأكاذيب و الأباطيل و يزعم أن جبريل يأتيه و كان يقول للناس : أيها
الناس ! إن الله لا يصنع بتعفير وجوهكم و قبح أدباركم شيئا الأنصار و
اذكروا الله قعودا و قياما و جعل يعيب الصلاة وهو يقول : إن الصريح تحت
الرغوة و كان أول ما ابتلى من الناس طليحة أنه أصلب هو و أصحابه العطش في
منزلهم فيه فقال طليحة فيما شجع لهم من أباطيله : اركبوا علالا يعني فرسا
و اضربوا أميالا تجدوا قلالا ففعلوا فوجدوا ماء فافتتن الأعراب به ثم قال
أبو بكر لخالد بن الوليد : لآتيك من ناحية خيبر إن شاء الله فيمن بقي من
المسلمين و أراد أبو بكر أن يبلغ الخبر الناس بخروجه إليهم ثم ودع خالدا و
رجع إلى المدينة و مضى خالد بالناس و كانت بنو فزارة و أسد يقولون : والله
! لا نبايع أبا الفصيل ـ يعنون أبا بكر و كانت طيء على إسلامها لم تزل عنه
مع عدي بن حاتم و مكنف بن زيد الخيل فكانا يكالبانها و يقولان لبني فزارة
: والله ! لا نزال نقاتلكم إن شاء الله فلما قرب خالد بن الوليد من القوم
و بعث عكاشة بن محصن و ثابت بن أقرم أخا بني العجلان طليعة أمامه و خرج
طليحة بن خويلد المتنبئ و أخوه سلمة بن خويلد أيضا طليعة لمن وراءهما
فالتقيا عكاشة بن محصن و ثابت بن أقرم فانفرد طليحة بعكاشة و سلمة بن
خويلد بثابت فأما سلمة فلم يلبث ثابتا أن قتله ثم صرخ طليحة و قال : يا
سلمة ! أعني على الرجل فإنه قاتلي فاكتنفا عكاشة حتى قتلاه و كرا راجعين
إلى من وراءهما فلما وصل خالد و المسلمون إلى ثابت بن أرقم و عكاشة بن
محصن و هما قتيلان عظم ذلك على المسلمين وراءهم ثم مضى خالد حتى نزل على
طيء في خللهم سلمى فضرب معسكره و انضم إليه من كان من المسلمين في تلك
القبائل ثم تهيأ للقتال و سار إلى طليحة وهو على مائة و التقى معه طليحة
في سبعمائة رجل من بني فزارة فاقتتلوا قتالا شديدا و طليحة متلفف في كساء
له بفناء بيت له من شعر يتنبأو يسجع فهز عيينة بن حصن الحرب و شد القتال
ثم كر على طليحة فقال : هل جاءك جبريل بعد ؟ قال : لا فرجع عيينة و قاتل
حتى إذا هزته الحرب كر عليه ثانية و قال : لا أبا لك ! هل جاءك جبريل بعد
؟ قال : نعم ! قال : فماذا قال لك قال : قال لي : إن لك رحى كرحاه و حديثا
لا تنساه قال عيينة : أظن الله أنه قد علم أنه سيكون لك حديث لا تنساه يا
بني فزارة هكذا فانصرفوا فهذا والله كذاب فانصرف و انصرفت معه فزارة و
انهزم الناس و كان طليحة قد أعد فرسا له عنده و هيأ بعيرا لامرأته النوار
ثم اجتمعت إليه فزارة و هم مبارزون فقالوا : ما تأمرنا فلما سمع منهم ذلك
استوى على فرسه و حمل امرأته على البعير ثم نجا بها و قال لهم : من استطاع
منكم أن يفعل كما فعلت و ينجو بأهله فليفعل ثم سلك الحوشية حتى لحق بالشام
و انصرفت فزارة و قتل منهم من قتل ثم دخلت القبائل في الإسلام على ما
كانوا عليه من قبل
فلما فرغ خالد من بيعتهم أوثق عيينة بن حصن و قرة
بن هبيرة بن سلمة و بعث بهما إلى أبي بكر فلما قدما عليه قال قرة : يا
خليفة رسول الله ! إني كنت مسلما و إن عند عمرو بن العاص من إسلامي شهادة
قد مر بي فأكرمته و قربته و كان عمرو بن العاص هو الذي جاء بخبر الأعراب و
ذلك أن عمرا كان على عمان فلما أقبل راجعا إلى المدينة مر بهوازن و قد
انتقضوا و فيهم سيدهم قرة بن هبيرة فنزل عليه عمرو بن العاص فنحر له و
أقراه و أكرمه فلما أراد عمرو الرحيل خلى به قرة بن هبيرة و قال : يا عمرو
! إنكم معشر قريش إن أنتم كففتم عن أموال الناس و تركتموها لهم ـ يريد
الصدقات ـ فقمن أن يسمع لكم الناس و يطيعوا فإن أنتم أبيتم إلا أخذ
أموالهم فإني و الله ما أرى العرب مقرة بذلك لكم و لا صابرة عليه حتى
تنازعكم أمركم و يطلبوا ما في أيديكم فقال عمرو بن العاص : أبالعرب تخوفنا
موعدك أقسم بالله ! لأوطئنه عليك الخيل ثم مضى عمرو حتى قدم المدينة على
أبي بكر و أخبره الخبر قبل خروج خالد إليهم فتجاوز أبو بكر عن قرة ابن
هبيرة و عيينة بن حصن و حقن لهما دماءهما
و لما فرغ خالد بن الوليد
من بيعة بني عامر و بني أسد قال : إن الخليفة قد عهد إلي أن أسير إلى أرض
بني غانم فسار حتى نزل بأرضهم و بث فيها السرايا فلم يلق بها جمعا و أتى
بمالك بن نويرة في رهط من بني تميم و بني حنظلة فأمر بهم فضربت أعناقهم و
تزوج مكانه أم تميم و امرأة مالك بن نويرة فشهد أبو قتادة لمالك بن نويرة
بالإسلام عند أبي بكر ثم رجع خالد يؤم المدينة فلما قدمها دخل المسجد و
عليه درع معتجرا بعمامة و عليه قباء عليه صدأ الحديد قد غرز في عمامته
أسهما فقام إليه عمر بن الخطاب فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال :
أقتلت امرأ مسلما مالك بن نويرة ثم تزوجت امرأته ؟ و الله ! لنرجمك
بأحجارك و خالد بن الوليد لا يكلمه و لا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل
رأى عمر حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر و اعتذر إليه أنه لم يعلم فعذره
أبو بكر و تجاوز عنه ما كان منه في حربه تلك فخرج خالد من عنده و عمر جالس
في المسجد فقال : هلم إلي ابن أم شملة ! فعرف أن أبا بكر قد رضي عنه فلم
يكلمه فقام فدخل بيته
ثم ماتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و
سلم بعد أبيها بستة أشهر فدفنها علي ليلا و لم يؤذن به أبا بكر و لا عمر و
كان لعلي جهة من الناس حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن
علي فلما رأى انصراف الناس ضرع علي إلى مصالحة أبي بكر فأرسل إلى أبي بكر
أن ائتنا و لا تأتنا معك بأحد و كره أن يأتيه عمر لما علم من شدته فقال
عمر : لا تأتهم وحدك فقال أبو بكر : و الله ! لآتينهم وحدي و ما عسى أن
يصنعوا بي ؟ فانطلق أبو بكر و حده حتى دخل على علي و قد جمع بني هاشم عنده
فقام علي و حمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أما بعد ! فإنه لم
يمنعنا أن نبايعك إنكارا لفضيلتك و لا نفاسة عليك بخير ساقه الله إليك و
لكنا كنا نرى أن لنا في هذا حقا فاستبددت به علينا ثم ذكر قرابته من رسول
الله صلى الله عليه و سلم و حقهم و لم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر
فلما صمت علي تشهد أبو بكر فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال :
أما بعد ! و الله لقرابة رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب إلي أن أصل من
قرابتي و إني و الله ما أعلم في هذه الأمور التي كانت بيني و بين علي إلا
الخير و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا نورث ما
تركنا صدقة إنما يأكل آل محمد من هذه المال قوتا ] و إني و الله لا أدع
أمرا صنع فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلا صنعته إن شاء الله ثم قال
: موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر الظهر أقبل على الناس ثم عذر عليا
ببعض ما اعتذر به ثم قام علي فعظم من حق أبو بكر و ذكر فضيلته و سابقته ثم
مضى إلى أبي بكر فبايعه و أقبل الناس على علي فقالوا : أصبت و أحسنت
ثم توفي عبد الله بن أبي بكر الصديق و كان أصابه سهم بالطائف مع النبي صلى
الله عليه و سلم رماه ابن محجن ثم دمل الجرح فمات في شوال بعد الظهر و نزل
حفرته عبد الرحمن بن أبي بكر و عمر بن الخطاب و طلحة بن عبيد الله و دخل
عمر على أبي بكر و هو آخذ بلسانه ينصنصه فقال له عمر : يا خليفة رسول الله
صلى الله عليه و سلم ! الله الله ! فقال أبو بكر : هذا أوردني الموارد
فلما دخل شهر ذي الحجة حج عمر بن الخطاب سنة إحدى عشرة و اشترى مولاه أسلم في حجته تلك ثم رجع إلى المدينة
ثم وجه أبو بكر خالد بن الوليد إلى اليمامة و كان مسيلمة قد تنبأ بها في
حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم و كان أمره ضعيفا ثم وفد إلى النبي
صلى الله عليه و سلم و رجع إلى قومه فشهد رجال بن عنفوة لأهل اليمامة أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أشركه في الأمر فعظم فتنته عليهم
و خرج خالد بن الوليد بالمهاجرين و الأنصار حتى إذا دنا من اليمامة نزل
واديا من أوديتهم فأصاب في ذلك الوادي مجاعة بن مرارة في عشرين رجلا منهم
كانوا خرجوا يطلبون رجلا من بني تميم و كان أصاب لهم دما في الجاهلية فلم
يقدروا بذلك الوادي فلم ينبههم إلا خيل المسلمين قد وقفت عليهم فقالوا :
من القوم ؟ فقالوا : بنو حنيفة قال : فلا أنعم لكم علينا ثم نزلوا
فاستوثقوا منهم فلما أصبح دعاهم خالد بن الوليد فقال : يا بني حنيفة ! ما
تقولون ؟ فقالوا : منا نبئ و منكم نبئ فعرضهم خالد على السيف حتى بقي
سارية ابن عامر و مجاعة بن مرارة فقال له سارية : يا أيها الرجل ! إن كنت
تريد هذه القرية فاستبق هذا الرجل و أوثق مجاعة في الحديد و دفعه أم تميم
امرأته و قال : استوصي به خيرا و ضرب عنق سارية بن عامر ثم سار بالمسلمين
حتى نزل على كثيب مشرف على اليمامة و ضرب معسكره هناك و خرج أهل اليمامة
مسيلمة و تصاف الناس و كان خالد جالسا على سريره و مجاعة مكبل عنده و
الناس على مصافهم إذ رأى بارقة في بني حنيفة فقال خالد : أبشروا يا معشر
المسلمين ! قد كفاكم الله عدوكم و اختلف القوم فكر مجاع إليه و هو مكبل
فقال : كلا و الله إنها الهندوانية خشوا من تحطمها فأبرزوها للشمس لتلين
لهم فكان كما قال فلما التقى الناس كان أول من خرج رجال بن عنفوة فقتل و
اقتتل المسلمون قتالا شديدا حتى انهزم المسلمون و خلص أصحاب مسيلمة إلى
الرحال و دخلوا فسطاط خالد بن الوليد و فيه مجاعة مكبلا عند أم تميم امرأة
خالد فحمل عليها رجل بالسيف فقال مجاعة : أنا لها جار فنعمت الحرة عليكم
بالرجال فرحبلوا الفسطاط بالسيف ثم إن المسلمين تداعوا فقال ثابت بن قيس
بن شماس : بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين اللهم إني أبرأ إليك مما
يصنع هؤلاء المسلمون ثم أخذ سيفه حتى جالد به حتى قتل و رأى زيد بن الخطاب
انكشاف المسلمين عن رحالهم فتقدم فقاتل حتى قتل و قام البراء بن مالك أخو
أنس بن مالك و كان البراء ـ فيما يقال ـ إذا حضر البأس أخذه انتفاض حتى
يقعد عليه الرجال ثم يبول في سراويله فإذا بال صار مثل السبع فلما رأى ما
صنع المسلمون من الانكشاف و ما رأى من أهل اليمامة أخذه الذي كان يأخذه
حتى قعد عليه الرجال فلما بال وثب فقال : أين يا معشر المسلمين ؟ أنا
البراء بن مالك هلموا إلي فاجتمع عنده جماعة من المسلمين فقاتل القوم
قتالا شديدا حتى خلصوا إلى محكم اليمامة و هو محكم بن الطفيل فلما بلغه
القتال قال : يا معشر حنيفة ! الآن و الله تستحقب الكرائم غير رضيات و
ينكحن غير حظيات فما كان عندكم من حسب فأخرجوه ثم تقدم فقاتل قتالا شديدا
فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر بسهم فوضعه في نحره فقتله و زحف المسلمون حتى
ألجأوهم إلى الحديقة و فيها مسيلمة فقال البراء بن مالك : يا معشر
المسلمين ! ارموني عليهم في الحديقة فقال الناس : لا تفعل يا براء ! فقال
: و الله أفعل فاحتمل حتى أشرف على الجدار فاقتحم فقاتلهم حتى فتحها الله
للمسلمين و دخل عليهم المسلمون و قتل مسيلمة اشترك وحشي بن حرب مولى جبير
بن مطعم و رجل من الأنصار في قتله فرماه و حشي بحربته و ضربه الأنصاري
بسيف فكان وحشي يقول : ربك أعلم أينا قتله ! قتلت : خير الناس و شر الناس
فلما فرغ المسلمون من مسيلمة و أتى خالدا الخبر فخرج بمجاعة في الحديد
يرسف معه ليدله على مسيلمة و كان يكشف القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل و
كان رجلا و سيما فقال خالد : هذا صاحبكم فقال مجاعة : لا ! هذا و الله خير
منه و أكرم هذا محكم اليمامة ثم دخلوا الحديقة و قلبا القتلى فإذا رويجل
أصيفر أخينس فقال مجاعة : إنه و الله ما جاءك إلا سرعان الناس و إن جماهير
الناس في الحصون فقال : و يلك ما تقول ؟ قال : و الله إن ذلك لحق فهلم
أصالحك على قومي فصالحه خالد بن الوليد على الصفراء و البيضاء و الحلقة و
نصف السبي ثم قال لمجاعة : امض إلى القوم فاعرض ما صنعت فانطلق إليهم ثم
قال للنساء : البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون ثم انتهى إلى خالد قال :
إنهم لم يرضوا على مصالحتك عليه و لكن إن شئت شيئا صنعت و عرضت على القوم
! قال : ما هو ؟ قال : تأخذ ربع السبي ربعا قال خالد : قد فعلت ! قال : قد
صالحتك فلما فرغا دخلوا الحصن فإذا ليس رجل واحد رماهم إلا النساء و
الصبيان فقال خالد لمجاعة : خدعتني قال : قومي
ثم بعث أبو بكر إلى
خالد بن الوليد بسلمة بن سلامة بن وقش يأمره أن لا يستبقي من بني حنيفة
رجلا قد أنبت فأتاه سلمة و قد فرغ خالد من الصلح
ثم إن خالدا قد بعث
وفدا من بني حنيفة إلى أبي بكر فقدموا عليه فقال أبو بكر : و يحكم ! ماهذا
الرجل الذي استزل منكم ما استزل قالوا : يا خليفة رسول الله ! قد كان الذي
بلغك و كان امرءا لم يبارك الله له و لا لعشيرته فيه قال أبو بكر : على
ذلك ما دعاكم إليه ؟ قالوا : كان يقول : يا ضفدع نقي نقي ! لا الشراب
تمنعين و لا الماء تكدرين لنا نصف الأرض و لقريش نصف الأرض و لكن قريشا
قوم يعتدون فقال أبو بكر : سبحان الله سبحان الله فلما فرغ خالد من الصلح
نزل واديا من أودية اليمامة فبينما هو قاعد إذ دخل عليه رجل من بني حنيفة
يقال له سلمة بن عمير فقال لمجاعة : استأذن لي على الأمير فإن لي إليه
حاجة فأتى عليه مجاعة ثم قال مجاعة : إني و الله لأعرف الشر في وجهه ثم
نظر فإذا هو مشتمل على السيف فقال : ما لك لعنك الله ! أردت أن تستأصل بني
حنيفة و الله لئن قتلته ما ترك في بني حنيفة صغير و لا كبير إلا قتل
فانقلب الرجل و معه سيفه فوقع في حائط من حوائط اليمامة و حبس به المسلمون
فدخلوا خلف الحائط فقتل
و كان من استشهد من المسلمين يوم اليمامة من
قريش ممن يحضرنا ذكرهم أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة و سالم مولى أبي حذيفة
و شجاع بن وهب بن ربيعة و مالك بن عمرو و يزيد بن قيس و صفوان بن أمية بن
عمرو و أخوه مالك بن أمية و الطفيل بن عمرو الدوسي و جبير بن مالك و أمه
بحينة و يزيد بن أوس و حيي بن حارثة و الوليد بن عبد شمس بن المغيرة و
حكيم بن حزام بن أبي وهب و زيد بن الخطاب بن نفيل و عبد الله بن عمرو بن
بحرة و عبد الله بن الحارث بن قيس و أبو قيس بن الحارث و عبد الله بن
مخرمة بن عبد العزى و عبد الله بن سهيل بن عمرو و سليط بن سليط بن عمرو و
عمرو بن أوس بن سعد بن أبي سرح و ربيعة بن أبي خرشة و منقذ بن عمرو بن
عطية و عبد الله بن الحارث بن رخصة
و استشهد من الأنصار يوم اليمامة
ثابت بن قيس بن شماس و عباد بن بشر ابن وقش و رافع بن سهل و عبد الله بن
عتيك و حاجب بن زيد و سهل بن عدي و مالك بن أوس و معن موليان لهم وفروة بن
العباس و كليب بن تميم و عامر بن ثابت و بشر بن عبد الله و عبد الله بن
عبد الله بن أبي بن سلول و عبد الله بن عتبان و ثابت بن هزال و أسيد بن
يربوع و أوس بن ورقة و سعد بن حارثة بن لوذان و سماك بن خرشة أبو دجانة و
سعد بن حمار و عقبة بن عامر بن نابي و ضمرة بن عياض و عبد الله بن أنيس و
مسعود بن سنان و حبيب بن زيد و أبو حبة بن غزية بن عمرو و عمارة بن حزم بن
زيد و يزيد بن ثابت بن الضحاك بن زيد رمي بسهم فمات في الطريق و ثابت بن
خالد بن عمرو بن خنساء و فروة بن النعمان بن الحارث و عائذ بن ماعص الزرقي
و حبيب بن عمرو بن محصن
ثم انصرف خالد بن الوليد بالمسلمين حتى قدم
المدينة على أبي بكر و ارتدت ربيعة بالبحرين فيمن ارتد من العرب إلا
الجارود بن عمرو بن خنش بن معلى فإنه ثبت على الإسلام فيمن تبعه من قومه
وقالت ربيعة بعضها لبعض : نرد الملك إلى المنذر بن ساوى و كان المنذر
ملكهم في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فبعث رسول الله صلى الله
عليه و سلم العلاء بن الحضرمي فأسلم المنذر و أقام العلاء بها إلى أن قبض
رسول الله صلى الله عليه و سلم فملك ربيعة المنذر بن النعمان بن المنذر بن
ساوى و جمع جمعهم على الارتداد فلما بلغ أبا بكر خبرهم بعث إليهم العلاء
بن الحضرمي و أمره بثمامة بن أثال الحنفي و كان قد أسلم ثمامة و أسلم بنو
سحيم معه فلما مر العلاء بثمامة بن أثال معه من اتبعه من قومه من بني سحيم
و سارت ربيعة إليهم فحاصروهم بجواثا ـ حصن بالبحرين و أصاب المسلمون جهدا
شديدا من الجوع حتى كادوا أن يهلكوا فخرج عبد الله بن حذف ليلة من الليالي
يتجسس أخبارهم و يجيء المسلمين بالخبر فأتى الحصن و احتال في دخوله فوجدهم
سكارى فرجع فأخبر المسلمين أن القوم سكارى لا غناء بهم فبيتهم العلاء بن
الحضرمي فيمن معه من المسلمين و قاتلوهم قتالا شديدا حتى فتح الله على
المسلمين حصنهم و قسم العلاء بن الحضرمي الغنيمة بالبحرين و جمع بها صلاة
الجمعة
و خرج الأسود بن كعب العنسي في كندة فباع الناس و المهاجر بن
أبي أمية أميرها و سمعت كندة بذلك و اتفقت أيضا مع من اتبع الأسود على
نصره و كان على حضرموت زياد بن لبيد البياضي فلما رأى ذلك منهم بيتهم
بالليل و قتل منهم أربعة من الملوك في محاجرهم : جمدا و محوصا و مشرحا و
أبضعة ثم كتب المهاجر بن أبي أمية إلى أبي بكر يخبره بانتفاض الناس و
يستمد منه فبعث أبو بكر عكرمة بن أبي جهل في جيش معه إلى المدينة و كانت
قطعة من كندة ثبتت على الإسلام مع زياد بن لبيد و قطعة مع المهاجر بن أبي
أمية و زياد بن أبي لبيد بالحرب فلما اشتد عليهم الحصار نزل إليهم الأشعث
بن قيس و سألهم الأمان على دمه و أهله و ماله حتى يقدموه على أبي بكر فيرى
فيه رأيه و أن يفتح النجير ففعلوا ذلك و فتح النجير و استزلوا من فيه من
الملوك و ضربت أعناقهم و استوثقوا من الأشعث بن قيس و بعثوا به إلى أبي
بكر مع السبي وقتل الأسود بن كعب العنسي في بيته فلما قدم الأشعث على أبي
بكر قال أبو بكر : فما تأمرني أن أصنع فيك فإنك فعلت ما علمت ؟ قال الأشعث
: تمن علي وتفكني من الحديد و تزوجني أختك فإني قد راجعت و أسلمت قال أبو
بكر : قد فعلت فزوجه أخته فروة بنت أبي قحافة
ثم قدم أهل البحرين
على أبي بكر يفتدون سباياهم أربعمائة فخطب أبو بكر الناس فقال : أيها
الناس ! ردوا على الناس سباياهم لا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن
يغيب عنه منهم أحد ثم جاء جابر بن عبد الله أبا بكر فقال : إن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال : [ إن جاءنا مال من البحرين أعطيناك هكذا و هكذا
] فحرز له أبو بكر [ هكذا ] خمسمائة درهم فأعطاه من مال البحرين ألفا و
خمسمائة درهم ثم اعتمر أبو بكر في رجب و خرج هو و عبد الرحمن بن صبيحة على
راحلتين و استخلف على المدينة عمر بن الخطاب و قدما مكة ضحوة و خرج منها
قبل الليل و مات أبو مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب و تزوج عمر ابن
الخطاب عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ثم خرج أبو بكر سنة اثنتي عشرة و
استخلف على المدينة عثمان بن عفان و خرج لليلتين بقيتا من ذي القعدة و
أحرم من ذي الحليفة و قدم مكة لسبع خلون من ذي الحجة و كان قد ساق معه عشر
بدنات فخطبهم قبل التروية بيوم في المسجد الحرام و أمرهم بتقوى الله و
نهاهم عن معصيته المسلمين و عظم عليهم حرمة الإسلام و أمرهم بالقصد في
مسيرهم و الترفق و تلا عليه آيات من القرآن ثم قال : من استطاع منكم أن
يصلي الظهر بمنى غدا فليفعل ثم حج لهم و نحر البدن و رمى الجمار ماشيا
ذاهبا و جائيا
و مات أبو العاص بن الربيع في ذي الحجة و كان يسمى جرو البطحاء و أوصى إلى الزبير بن العوام فزوج الزبير ابنته علي بن أبي طالب
ثم قفل أبو بكر من الحج إلى المدينة فلما قدمها كتب إلى خالد بن الوليد
يريد العراق و قد قيل : إنه قد قدم المدينة ثم خرج إلى العراق فلما بلغ
خالد بن الوليد إلى قريات من السواد يقال لهن بانقياء باروسما و أليبس
صالح أهلها و كان الذي صالحه عليها ابن صلوبا فقبل منهم الجزية و كتب له
كتابا ـ بسم اله الرحمن الرحيم : هذا كتاب من خالد بن الوليد لابن صلوبا
السوادي و منزله بشاطئ الفرات أنك آمن بأمان الله ممن حقن دمه بإعطاء
الجزية و قد أعطيت عن نفسك و من كان في قريتك ألف درهم فقبلناها و رضي من
معي من المسلمين بها عنك فلك ذمة الله و ذمة محمد صلى الله عليه و سلم و
ذمم المسلمين على ذلك و شهد هشام بن الوليد ثم أقبل خالد حتى نزل الحيرة و
كان عليها قبيصة بن إياس بن حية الطائي أميرا لكسرى فخرج إليه بأشرافهم
فقال لهم خالد : أدعوكم إلى الله و إلى الإسلام فإن أجبتم إليه فأنتم من
المسلمين لكم ما لهم و عليكم ما عليهم و إن أبيتم فالجزية فإن أبيتم
الجزية فقد أتيتك بأقوام أحرص على الموت منكم على الحياة جاهدناكم حتى
يحكم الله بيننا و بينكم فقال له قبيصة بن إياس : ما لنا بحربك من حاجة بل
نقيم على ديننا و نعطيك الجزية فصالحهم على تسعين ألف درهم كل سنة فكانت
أول جزية و قعت بالعراق هذه و التي صالح عليها ابن صلوبا
و بعث أبو
بكر بعد قفوله من الحج الجنود إلى الشام فبعث عمرو بن العاص إلى فلسطين
فأخذ طريق المعرقة على أيلة و بعث يزيد بن أبي سفيان و أبا عبيدة ابن
الجراح و شرحبيل بن حسنة إلى الشام و أمرهم أن يسلكوا التبوكية على
البلقاء من علياء الشام و بعث خالد بن سعيد بن العاص على ربع من الأرباع
فلم يزل عمر بن الخطاب بأبي بكر حتى عزله و أمر مكانه ابن أبي سفيان و خرج
أبو بكر مع يزيد بن أبي سفيان يوصيه و يزيد راكب قال : أيها الأمير ! إما
أن تركب و إما أن أنزل ! فقال : ما أنت بنازل و لا أنا براكب أليست خطاي
هذه في سبيل الله ! ثم قال : يا يزيد ! إنكم ستقدمون بلادا فإذا أكلتم
الطعام فسموا الله على أولها و احمدوه على آخرها و ستجدون قوما حبسوا
أنفسهم في الصوامع فدعوهم و ما حبسوا أنفسهم و ستجدون أقواما قد اتخذ
الشيطان على رؤوسهم مقاعد يعني الشمامة ـ فاضربوا تلك الأعناق و لا تقتلن
كبيرا هرما و لا امرأة و لا وليدا و لا تعقرن بهيمة إلا لنفع و لا تخربن
عمرانا و لا تقطعن بحرا إلا لنفع و لا تغل و لا تغدر و لا تخن { و لينصرن
الله من ينصره إن الله لقوي عزيز } أقرئك السلام و أستودعك الله ! ثم
انصرف أبو بكر و مضى يزيد بن أبي سفيان و تبعه شرحبيل بن حسنة و أبو عبيدة
بن الجراح فردا فردا و نزل عمرو بن العاص في قصره بغمر العربات و نزل
الروم بثنية جلق بأعلى فلسطين في سبعين ألفا عليهم تذراق أخو هرقل لأبيه و
أمه فكتب عمرو بن العاص إلى أبي بكر يذكر له أمر الروم و يستمده فكتب أبو
بكر إلى خالد بن الوليد و هو يأمره أن يمد أهل الشام فيمن معه من أهل
القوة و يستخلف على ضعفة الناس رجلا منهم فلما أتاه كتاب أبي بكر قال خالد
هذا عمل الأعيسر ابن أم شملة ـ يعني عمر بن الخطاب ـ حسدني أن يكون فتح
العراق على يدي فسار خالد بأهل القوة من الناس و رد الضعفاء و النساء إلى
المدينة و أمر عليهم عمير بن سعد الأنصاري واستخلف على من أسلم بالعراق من
ربيعة و غيرهم المثنى بن حارثة الشيباني فلما بلغ خالد بمن معه عين النمر
أغار على أهلها فأصاب منهم و رابط حصنا بها فيه مقاتلة لكسرى حتى استنزلهم
و ضرب أعناقهم و سبى منهم سبايا كثيرة وكان من تلك السبايا أبو عمرة والد
عبد الأعلى بن أبي عمرة و يسار جد محمد بن إسحاق و حمران بن أبان مولى
عثمان و أبو عبيد مولى المعلى و خير مولى أبي داود الأنصاري و أبو عبد
الله مولى زهرة
فأراد خالد المسير و التمس دليلا فدل على رافع بن
عميرة الطائي فقال له خالد : انطلق بالناس فقال له رافع : إنك لا تطيق ذلك
بالجنود و الأثقال و الله إن الراكب المفرد ليخافها على نفسه و ما يسلكها
إلا مغررا ! إنها لخمس ليال جياد و لا يصاب فيها ماء مع مضلتها قال له
خالد : ويحك ! ألا بد لي منها ؟ إنه قد أتاني من الأمير عزمة بذلك فمر
بأمرك فقال رافع : استكثروا من الماء من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على
ماء فليفعل فإنها المهالك إلا ما دفع الله فتأهب المسلمون و سار خالد بمن
معه فلما بلغوا آخر يوم من المفازة قال خالد لرافع بن عميرة : ويحك يا
رافع ! ما عندك ؟ قال : أدركت الري ـ إن شاء الله ! فلما دنا من العلمين
قال رافع للناس : انظروا هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل فلم يروا شيئا
فقال : إنا لله و إنا إليه راجعون ! هلكتم و الله إذا و هلكت ! انظروا
فاطلبوها فطلبوا فوجدوها قد قطعت و بقي منها بقية فلما رآها المسلمون
كبروا و كبر رافع بن عميرة ثم قال : احفروا في أصلها فحفروا فاستخرجوا
عينا فشربوا حتى روي الناس ثم اتصل بعد ذلك لخالد المنازل فقال رافع : فو
الله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة ! وردتها مع أبي و أنا غلام فلما
بلغ الخالد و المسلمون إلى سوي أغار على أهله و هم بهراء قبيل الصبح و إذا
جماعة منهم يشربون الخمر في جفنة لهم قد اجتعوا عليها و مغنيهم يقول :
( ألا عللاني قبل جيش أبي بكر ... لعل منايانا قريب و لا ندري )
فقتلهم خالد بن الوليد و قتل مغنيهم و سال دمه في تلك الجفنة ثم سار خالد
حتى أغار على غسان بمرج راهط حتى نزل على قناة بصرى و عليها أبو عبيدة بن
الجراح و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان و خرج خالد بن سعيد ابن
العاص بمرج الصفر في يوم مطير يستمطر فيه فتعاوى عليه أعلاج الروم فقتلوه
و اجتمع خالد بن الوليد و شرحبيل بن حسنة و يزيد بن أبي سفيان معهم حتى
صالحته بصرى على الجزية و فتحها الله للمسلمين فكانت تلك أول مدينة فتحت
بالشام ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص و عمرو مقيم
بالعربات من غور فلسطين و سمع الروم باجتماع المسلمين لعمرو ابن العاص
فانكشفوا عن جلق إلى أجنادين و أجنادين بلد بين الرملة و بيت جبرين من أرض
فلسطين و سار المسلمون إلى أجنادين و كان الأمراء أربعة و الناس أرباعا
إلا عمرو بن العاص كان يزعم أنه جميعهم
فلما اجتمعت العساكر و تدانت
بعث صاحب الروم رجلا عربيا ليأتي بخبر المسلمين فخرج الرجل و دخل مع
المسلمين و أقام فيهم يوما و ليلة لا ينكر ثم أتى الروم فقالوا له : ما
وراءك ؟ فقال : أما بالليل فرهبان و أما بالنهار ففرسان و لو سرق ابن
ملكهم قطعوا يده و لو زنى رجموه لإقامة الحق فيهم
ثم تزاحف الناس
فاقتتلوا قتالا شديدا فقال صاحبهم لهم : لفوا رأسي في ثوب قالوا له : و لم
؟ قال : يوم موقف البئيس لا أحب أن أراه ما رأيت في الدنيا أشد منه و كانت
الهزيمة على الروم فلقد قتل صاحبهم و إنه لملفف في ثوبه و كان لليلتين
بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة فقتل بأجنادين من المسلمين : نعيم بن
عبد الله النحام و هشام بن العاص بن وائل و عمرو بن عكرمة و الطفيل بن
عمرو الدوسي و عبد الله بن عمرو حليف لهم و جندب بن عمرو بن حممة الدوسي و
ضرار بن الأزور و طليب بن عمرو بن وهب و سلمة بن هشام بن المغيرة و هبار
بن سفيان بن الأسود و الحارث بن الحارث و الحجاج بن الحارث و قيس بن صخر و
نعيم بن عامر
و هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح
بن عبد الله بن فرط ابن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك
بن النضر بن كنانة ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن
عدنان أبو حفص العدوي و أم عمر حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن
عمر بن مخزوم أخت أبي جهل بن هشام [ حدثنا محمد بن القاسم الدقاق بالمصيصة
: ثنا يوسف بن سعيد بن مسلم ثنا هارون بن زياد الحنائي ثنا الحارث بن عمير
عن حميد عن أنس قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : اقتدوا باللذين من
بعدي : أبي بكر و عمر ]
قال أبو حاتم : فلما حانت منية أبي بكر رحمة
الله عليه اغتسل قبلها يوم الإثنين لسبع خلون من جمادى الأخرة و كان يوما
باردا فحم خمسة عشر يوما حتى قطعته العلة عن حضور الصلاة و كان يأمر عمر
بن الخطاب أن يصلي بالناس و كان الناس يعودونه و هو في منزله الذي أقطع له
النبي صلى الله عليه و سلم وجاه دار عثمان بن عفان اليوم فبينا هو في ليلة
من الليالي عند نسائه أسماء بنت عميس و حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي
زهير و بناته أسماء و عائشة و ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر إذ قالت عائشة :
أتريد أن تعهد إلى الناس عهدا ؟ قال : نعم قالت : فبين للناس حتى يعرفوا
الوالي بعدك قال : نعم قالت عائشة : إن أولى الناس بهذا الأمر بعدك عمر و
قال عبد الرحمن بن أبي بكر : إن قريشا تحب ولاية عثمان بن عفان و تبغض
ولاية عمر لغلظه فقال أبو بكر : نعم الوالي عمر و ما هو بخير له أن يلي
أمة محمد أما إنه لا يقوى عليهم غيره إن عمر رآني لينا فاشتد و لو كان
واليا للان لأهل اللين و اشتد على أهل الريب فلما أصبح دعا نفرا من
المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر منهم عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن
عوفو سعد بن أبي وقاص و سعيد بن زيد فقال لعبد الرحمن بن عوف : يا أبا
محمد أخبرني عن عمر ! فقال : يا خليفة رسول الله ! هو والله أفضل من رأيك
فيه من رجل و لكن فيه غلظة فقال لعبد الرحمن بن عوف ذلك لأنه رآني لينا
فاشتد و لو آل إليه الأمر لترك كثيرا مما هو عليه اليوم إني إذ غضبت على
الرجل أراني الرضاعنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه لا تذكر يا أبا محمد
مما ذكرت لك شيئا قال : نعم ثم دعا عثمان بن عفان فقال : يا أبا عبد الله
! أخبرني عن عمر فقال أنت أخبر به فقال أبو بكر : فعلي ذلك قال : إن علمي
أن سريرته خير من علانيته و أن ليس فينا مثله قال : يرحمك الله يا أبا عبد
الله ! لا تذكر مما ذكرت لك شيئا قال : أفعل فقال له أبو بكر : لو تركته
ما عدوتك و ما أدري لعلي تاركه و الخيرة له أن لا يلي أمركم و لوددت أني
خلو من أمركم و أني كنت فيمن مضى من سلفكم ثم قال لعثمان : اكتب : هذا
ماعهد عليه أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه فذهب
عنه فكتب عثمان : أما بعد فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و لم آلكم خيرا
ثم فاق أبو بكر فقال : اقرأ علي فقرأ عليه ذكر عمر فكبر أبو بكر فقال :
جزاك الله عن الإسلام خيرا ! ثم رفع أبو بكر يديه فقال : اللهم ! وليته
بغير أمر نبيك و لم أرد بذلك إلا صلاحهم و خفت عليهم الفتنة فعملت فيهم
بما أنت أعلم به و قد حضر من أمري ما قد حضر فاجتهدت لهم الرأي فوليت
عليهم خيرهم لهم و أقواهم عليهم و أحرصهم على رشدهم و لم أرد محاباة عمر
فاجعله من خلفائك الراشدين يتبع هدى نبي الرحمة و هدى الصالحين بعده و
أصلح له رعيته و كتب بهذا العهد إلى الشام إلى المسلمين إلى أمراء الأجناد
أن قد و ليت عليكم خيركم و لم آل لنفسي و لا للمسلمين خيرا
و أو صى
أن تغسله أن أسماء بنت عميس ثم نادى عمر بن الخطاب فقال له : إني مستخلفك
على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يا عمر : إن الله حقا في الليل
لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله في الليل و إنها لا تقبل
نافلة حتى تؤدى الفريضة ياعمر ! إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم
القيامة باتباعهم الحق و ثقله عليهم و حق لميزان لا يوضع فيه غير الحق أن
يكون ثقيلا يا عمر ! إنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم
الباطل و حق لميزان لا يوضع فيه غير الباطل أن يكون خفيفا ياعمر ! إنما
نزلت آية الرخاء مع آية الشدة و آية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن
راغبا راهبا فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله فيها ما ليس لك و لا ترهب رهبة
تلقى فيها يديك يا عمر ! إنما ذكر الله أهل النار بأسوإ أعمالهم ردا عليهم
ما كان من خير فإذا ذكرتهم قلت : لأرجو أن لا أكون منهم و إنما ذكر أهل
الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان من سيئ فإذا ذكرتهم قلت : أي
عمل من أعمالهم أعمل ! فإن حفظت و صيتي فلا يكونن غائب أحب إليك من الحاضر
من الموت و لست بمعجزه
و توفي أبو بكر رضي الله عنه ليلة الإثنين
لسبع خلت من جمادى الآخرة و له يوم مات اثنتان و ستون سنة و كانت خلافته
سنتين و ثلاثة أشهر و اثنان و عشرون يوما و كان مرضه خمس عشرة ليلة و
غسلته أسماء بنت عميس و كفن في ثلاث أثواب و نزل في قبره عمر بن الخطاب و
عثمان بن عفان و طلحة بن عبيد الله و عبد الرحمن بن أبي بكر و دفن ليلا
بجنب رسول الله صلى الله عليه و سلم و أراد ابن عمر أن ينزل قبر أبي بكر
مع أبيه فقال له عمر : قد كفيت و كان أبو قحافة بمكة فسمع الهائعة فقال :
ماهذا ؟ فقيل : مات ابنك فقال : رزء جليل فإلى من عهد ؟ قالوا : لعمر :
صاحبه و ورثه أبو قحافة السدس و كان من عمال أبي بكر يوم توفي عتاب بن
أسيد على مكة وعثمان بن أبي العاص على الطائف و العلاء بن الحضرمي على
البحرين و يعلى بن أمية على خولان و مهاجر بن أبي أمية على صنعاء و زياد
بن لبيد على حضرموت و عمرو بن العاص على فلسطين و على الشام أربعة نفر من
الأجياد : خالد بن الوليد و أبو عبيدة بن الجراح و شرحبيل بن حسنة و يزيد
بن أبي سفيان و مات أبو كبشة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم في اليوم
الذي دفن فيه أبو بكر
ثم قام عمر بن الخطاب في الناس خطيبا و هي أول
خطبة خطبها بعدما استخلف فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : أيها
الناس ! إني لا أعلمكم من نفسي شيئا تجهلونه أنا عمر بن الخطاب و قد علمتم
من هيئتي و شأني و إن بلاء الله عندي في الأمور كلها حسن و قد فارقني رسول
الله صلى الله عليه و سلم و هو عني راض بحمد الله و لم يجد علي في شيء من
خلقي و أنا أسعد الناس بذلك إن شاء الله و قمت لخليفته من بعده بحق الطاعة
و أحسنت له المؤازرة و لم أحرص على القيام عليكم كالذي حرص علي و لكن
خليفتكم المتوفى أوصى إلي بالخلافة عليكم برضى منكم و آلوه الهمة ذلكم و
إياكم و لولا الذي أرجو أن يأجرني الله في قيامي عليكم لم أقم عليكم و
لنحيته عن نفسي و وليته غيري و قد كنت أرى فيكم أمورا على عهد نبيكم صلى
الله عليه و سلم كدت أكرها و يسوءني منكم فقد رأيتم تشددي فيها و الأمر
الذي أمربه من فوقي أريد طاعة الله و إقامة الدين فأطعتكم قد علمتم ـ أو
من علم ذلك منكم ـ أني قد كنت أفعل ذلك و ليس لي عليكم من سلطان و اكن أهن
في شيءمنه و قد ولاني الله اليوم أمركم و لقد علمت أني أفع بحضرتكم لكم
فإني أسأل الله ربي أن يعينني عليه و أن يحرسني عندما بقي كما حرسني عند
غيره و أن يلقنني العقل في قسمكم كالذي أمر به ثم إني مسلم و عبد من عبيده
ضعيف إلا ماأعان الله و لن يغير الذي وليت من خلافتكم من خلقي شيئا إن شاء
الله و إنما العظمة لله ليس للعباد منها شيء فلا يقولن أحد منكم : إن عمر
بن الخطاب تغير لما ولي أمر المسلمين فمن ظلمته مظلمة فإني أعطيه الحق من
نفسي و أتقدم عليكم و أبين لكم أمري أيما رجل كانت له حاجة إلى أمير
المؤمنين أو ظلم بمظلمة أو عتب علينا في حق فليؤذني فإنما أنا امرؤ منكم و
لم يحملني سلطاني الذي أنا عليه أن أتعظم عليكم و أغلق بابي دونكم و أترك
مظالمكم بينكم وإذا منع الله أهل الفاقة منكم اليوم شيئا بعد اليوم فإنما
هو فيء الله الذي أفاءه عليكم لست و إن كنت أمير المؤمنين و لن أخفي إبقاء
إن كان بيني و بين أحد منكم خصومة أقاضيه إلى أحدكم ثم أقنع بالذي يقضي
بيننا فاعلموا ذاك و إنكم قوم مسلمون على شريعة الإسلام ثم عليكم بتقوى
الله في سركم و علانيتكم و حرماتكم التي حرم الله عليكم من دمائكم و
أموالكم و أعراضكم و أعطوا الحق من أنفسكم و لا يحملن بعضكم بعضا إلى أن
يوقع إلى السلطان شأنه فليستعد بي فإنه ليس بيني و بين أحد من الناس هوادة
من منع نفسه حقا واجبا عليه أو استحيل من دماء المسلمين و أعراضهم و
أبشارهم فأنا أقتص منه وإن كان يدلي إلي بقرابة قريبة ثم إنكم ـ معشر
العرب ـ في كثير منكم جفاء في الدين و خرق في الأمور إلا من عصمة الله
برحمة و إني قد جعلت بسبيل أمانة عظيمة أنا مسؤول عنها و إنكم أيها الناس
لن تغنوا عني من الله شيئا و إني حثيث على صلاحكم عزيز علي ماعنتم حريص
علي معافاتكم و إقامة أموركم و إنكم إناء من حصل في سبيل الله عامتكم أهل
بلد لا زرع فيها و لا ضرع إلا ما جاء الله به إليه و إن الله قد و عدكم
كرامة كبيرة و دنيا بسيطة لكم و إني مسؤول عن أمانتي و ما أنا فيه و لا
أستطيع ما بعد منها إلا بالأمناء و أهل النصح منكم للشاهد و الغائب و لست
أجعل أمانتي إلى أحد ليس لها بأهل و لن أوليه ذلك و لا أجعله إلا من تكون
رغبته في أداء الأمانة و التوقير للمسلمين أولئك أحق بها ممن سواهم اللهم
صل على محمد عبدك و رسولك و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
و
لما ورد كتاب أبي بكر الشام على أمراء الأجناد باستخلاف عمر بايعوه و
أطاعوه ثم ساروا إلى فحل من أرض الأردن و قد اجتمع بها الروم و المسلمون
عليهم الأمراء الأربعة و خالد بن الوليد على مقدمة الناس فلما نزلت الروم
بيسان بثقوا أنهارها وهي أرض سبخة فكانت وحلة فغشيها المسلمون و لم يعلموا
بما فعلت الروم فزلقت فيها خيولهم ثم سلمهم الله و التقوا هم و الروم بفحل
فاقتتلوا فهربت الروم و دخل المسلمون فحلا و انكشفت الروم إلى دمشق و غنم
المسلمون غنائم كثيرة
و كتب خالد بن الوليد إلى عمر أن الناس قد
اجترأوا على الشراب فاستشار عمر أصحابه عليا و عثمان و الزبير و سعدا فقال
علي : إذا شرب سكر وإذا سكر افترى و إذا افترى فعليه ثمانون فأثبت عمر
الحد ثمانين
ثم كانت وقعة الجسر و ذلك أن المثنى بن حارثة الشيباني
قدم على عمر ابن الخطاب من العراق و قال يا أمير المؤمنين ! إنا بأرض فارس
قد نلنا منهم و اجترأنا عليهم و معي من قومي جماعة فابعث معي ناسا من
المجاهدين و الأنصار يجاهدون في سبيل الله فقام عمر بن الخطاب فحمد الله و
أثنى عليه ثم دعا الناس إلى الجهاد و رغبهم فيه و قال : إنكم أيها الناس
قد أصبحتم في دار غير مقام بالحجاز و قد وعدكم الله على لسان نبيه كنوز
كسرى و قيصر فسيروا إلى أرض فارس فسكت الناس لما ذكرت فارس فقام أبو عبيد
بن مسعود الثقفي فقال : ياأمير المؤمنين ! أنا أول من انتدب من الناس حتى
اجتمعوا و أجمعوا على المسير ثم قال : يأمير المؤمنين ! اجتمع الناس أمر
عليهم رجلا من المهاجرين أو من الأنصار فقال : لا أومر عليهم إلا أول من
انتدب منهم فأمر أبا عبيدة فقال : إنه لم يمنعني أن أستعمل عليهم سليط بن
قيس إلا أنه رجل فيه عجلة إلى القتال فأخاف أن يوقع الناس موقعا يهلككم
فاستشره ثم سار أبو عبيد مع المثنى بن حارثة الشيباني و المسلمون معهما
حتى إذا انتهى إلى بلاد قومه قام معه ربيعة فسار بهم و سارأبوعبيده بالناس
حتى نزلوا باليمن و فيها مسلحة الأعاجم فاقتتلوا بها قتالا شديدا فانهزمت
العجم ثم بعث أبو عبيد بمن معه من المسلمين فالتقيا فاقتتلوا فهزم
الجالنوس و أصحابه و دخل أبو عبيد باروسما حصنا لهم و نزل هو و أصحابه فيه
ثم بعث الأعاجم ذا الحاجب و كان رئيس الأعاجم رستم فلما بلغ أبا عبيد
مسيرهم إليه انحاز بالناس حتى عبر الفرات فنزل في المروحة و أقبلت الأعاجم
حتى نزلت خلف الفرات ثم إن أبا عبيد حلف : ليقطعن إليهم الفرات فناشده
سليط بن قيس و قال : أنشدك الله في المسلمين أن تدخلهم هذا المدخل ! فإن
العرب تفر وتكر فاجعل للناس مجالا فأبي أبو عبيد و قال : جبنت و الله يا
سليط ! قال : و الله ما جبنت ! ولكن قد أشرت عليك بالرأي فاصنع بما بدا لك
فعمد أبو عبيد إلى الجسر الذي عقد له ابن صلوبا فعبر عليه المسلمون فلما
التقوا شد عليهم الفيل فلما رأى أبوعبيد ما يصنع الفيل قال : هل لهذه
الدابة من مقتل ؟ قالوا : نعم إذا قطع مشفرها ماتت فشد على الفيل فضرب
مشفره فبرك عليه الفيل فقتله و هرب المسلمون منهزمين فسبقهم عبد الله ابن
مرثد الخثعمي إلى الجسر فقطعه فقال له الناس : لم فعلت هذا ؟ قال :
لتقاتلوا عن أميركم
و لما قتل أبو عبيد أخذ الراية المثنى بن حارثة
فانحازوا و رجعت الفرس و نزل المثنى بن حارثة أليس و تفرق الناس فلحقوا
بالمدينة فأول من قدم المدينة بخبر الناس عبد الله بن حصين الخطمي فجزع
المسلمون من المهاجرين و الأنصار بالفرار و كان عمر يقول : لا تجزعوا !
أنا فئتكم إنما انحزتم إلي
و كان ممن قتل بالجسر : أبو عبيد بن
مسعود الثقفي و ابنه جبر بن أبي عبيد و أسعد بن سلامة و سلمة بن أسلم بن
حريش و الحارث بن عدي بن مالك و الحارث بن مسعود بن عبدة و مسلم بن أسلم و
خزيمة بن أوس و أنيس بن أوس بن عتيك بن عامر و عمر بن أبي اليسر و سلمة بن
قيس و زيد بن سراقة بن كعب و المنذر بن قيس و ضمرة بن غزية بن عمرو و سهل
بن عتيك و ثعلبة بن عمرو بن محصن و حج بالناس عمر بن الخطاب السنة الرابعة
عشرة
فلما دخلت السنة الرابعة عشرة سار المسلمون إلى دمشق و خالد بن
الوليد على مقدمة الناس و قد اجتمعت الروم إلى رجل منهم يقال له باهان
بدمشق فعزل عمر بن الخطاب خالد بن الوليد و أمر أبو عبيدة بن الجراح على
جميع الناس فاستحى أبو عبيدة أن يقرى خالدا الكتاب و قال : أصبر حتى يفتح
بن دمشق فاقتتلوا قتالا شديدا و انهزم الروم و تحصنوا فرابطها المسلمون
حتى فتحت صلحا و أعطوا الجزية و كان قد أخذ الأبواب عنوة و جرى الصلح على
يدي خالد وكتب الكتاب باسمه و لحق باهان بهرقل و كان ذلك في رجب و مدة
حصاره دمشق ستة أشهر فلما فرغ المسلمون من دمشق أقرأ أبو عبيدة خالدا
الكتاب فانصرف خالد إلى المدينة و قد قيل : إن الصلح جرى على يد أبي عبيدة
ثم خرج عمر على الناس فقال : إني وجدت من عبيد الله ابن ريح شراب و
إني سائل عنه فإن كان مسكرا جلدته قال السائب بن يزيد : فشهدته بعد ذلك
يحده و كان الذي حده عبد الرحمن بن عبد ثم ضرب أبا محجن الثقفي و ربيعة بن
أمية بن خلف المخزومي و حدهم في الخمر
ثم أمر عمر من كان بالبلدان التي افتتحت أن يصلوا فيها التراويح في شهر رمضان و صلى بالناس بالمدينة كذلك
ثم قدم جرير بن عبد الله البجلي من اليمن على عمر في ركب من بجيلة فقال
لهم عمر : إنكم قد علمتم ما كان من المصيبة في إخوانكم بالعراق فسيروا
إليهم و أنا أخرج لكم من كان منكم في قبائل العرب قالوا نفعل يا أمير
المؤمنين فأخرج إليهم قيسا و كندة و عرينة و أمر عليهم جرير بن عبد الله
البجلي فسار بهم إلى الكوفة فلما بلغ قريبا من المثنى بن حارثة كتب له
المثنى : أقبل إلي إنما أنت لي مدد فكتب إليه جرير : إني لست فاعلا إلا أن
يأمرني بذلك أمير المؤمنين : أنت أمير و أنا أمير ! ثم سار جرير نحو الجسر
فلقيه مهران بن باذان عند النخيلة فاقتتلوا قتالا شديدا و شد المنذر بن
حسان على مهران فطعنه فوقع عن دابته و اقتحم عليه جرير بن عبد الله فاحتز
رأسه فاشتركا جميعا في سلبه
ثم إن عمر بن الخطاب أمر سعد بن أبي
وقاص على العراق و معه ستة آلاف رجل و كتب إلى المثنى بن حارثة و جرير بن
عبد الله أن اجتمعا إلى سعد فسار سعد بالمسلمين و سار المنذر و جرير إليه
حتى نزل سعد بشراف و شتا بها و اجتمع إليه الناس و تزوج سعد امرأة المثنى
سلمى بنت حفصة ثم حج بالناس عمر بن الخطاب
فلما دخلت السنة الخامسة
عشرة كان فيها وقعة اليرموك و ذلك أن الروم سار بهم هرقل حتى نزل أنطاكية
و معه من المستعربة لخم وجذام و بلقين و بلى و عاملة و غسان و من معه من
أهل أرمينية بشر كثير فأقام بأنطاكية و سار أبو عبيدة بن الجراح في
المسلمين إليهم في أربعة و عشرين ألفا و كان الروم مائة ألف فالتقوا
باليرموك فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كانت نساء قريش يضربن بالسيوف و كان
أبو سفيان بن حرب تحت راية ابنه يزيد فجعل ينادي في المعركة : يا نصر الله
! اقترب حتى أنزل الله نصره و هزم الروم فقتل من الروم و من معه من أهل
أرمينية و المستعربة سبعون ألفا و قتل الله الصقلار و باهان رئيسين لهم
ثم بعث أبو عبيدة بن الجراح عياض بن غنم في طلبهم فسلك الأعماق حتى بلغ
ملطية فصالح أهلها على الجزية فسمع هرقل بذلك فبعث إلى ملطية فساق من فيها
من المقاتلة و أمر بها فأحرقت
و كان ممن قتل باليرموك من المسلمين :
عمرو بن سعيد بن العاص و أبان ابن سعيد بن العاص و عبد الله بن سفيان بن
عبد الأسد و سعيد بن الحارث بن قيس
و لما حسر عن سعد بن أبي وقاص
الشتاء سار بالمسلمين يريد القادسية و كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
يستمده فبعث إليه عمر المغيرة بن شعبة في أربعمائة رجل مددا لسعد من
المدينة و كتب إلى أبو عبيدة بن الجراح أن أمد سعدا بألف رجل من عندك ففعل
أبو عبيدة ذلك و أمر عليهم عياض بن غنم الفهري و سمع بذلك رستم فخرج بنفسه
مع من عنده من الأعاجم يريد سعدا و حج عمر بالناس
فلما كانت السنة
السادسة عشرة أراد عمر بن الخطاب أن يكتب التأريخ فاستشار أصحاب النبي صلى
الله عليه و سلم منهم من قال : من النبوة و منهم من قال : من الهجرة و
منهم من قال : من الوفاة فأجمعوا على الهجرة و كتب التأريخ لسنة ست عشرة
من الهجرة
فلما وصل إلى سعد بن أبي وقاص المغيرة بن شعبة سار
بالمسلمين إلى رستم حتى نزل قادس قرية إلى جنب العذيب و أقبل رستم في ستين
ألفا من الجموع ممن أحصى في ديوانه سوى التبغ و الرقيق حتى نزل القادسية و
بينهم و بين المسلمين جسر القادسية و سعد في منزله وجع قد خرج به قرح شديد
فبعث رستم إلى سعدا أن ابعث إلي رجلا جلدا أكلمه فبعث إليه المغيرة ابن
شعبة ففرق المغيرة رأسه أربع فرق ثم عقص شعره و لبس برديه و أقبل حتى
انتهى إلى رستم من وراء الجسر مما يلي العراق و المسلمون من الناحية
الأخرى مما يلي الحجاز فلما دخل عليه المغيرة قال له رستم : إنكم معشر
العرب ! كنتم أهل شقاء و جهد و كنتم تأتوننا من بين تاجر و أجير و وافد
فأكلتم من طعامنا و شربتم من شرابنا و استظلتم بظلالنا فذهبتم فدعوتم
أصحابكم و جئتم تؤذوننا و إنما مثلكم مثل رجل له حائط من عنب فرأى فيه أثر
ثعلب فقال : و ما بثعلب واحد ! فانطلق ذلك الثعلب حتى دعا الثعالب كلها
إلى ذلك الحائط فلما اجتمعن فيه جاء صاحب الحائط فرآهن فسد الحجر الذي
دخلن منه ثم قتلهن جميعا و أنا أعلم إنما حملكم على هذا ـ معشر العرب !
الجهد الذي أصابكم فارجعوا عنا عامكم هذا فإنكم شغلتمونا عن عمارة بلادنا
و نحن نوقر لكم ركائبكم قمحا و تمرا و نأمر لكم بكسوة فارجعوا عنا فقال
المغيرة بن شعبة : لا يذكر منا جهد إلا و قد كنا في مثله أو أشد أفضلنا في
أنفسنا عيشا الذي يقتل ابن عمه و يأخذ ماله فيأكله نأكل الميتة و الدم و
العظام فلم نزل على ذلك حتى بعث الله فينا نبينا و أنزل عليه الكتاب
فدعانا إلى الله و إلى ما بعثه به فصدقه به منا مصدق و كذبه منا مكذب
فقاتل من صدقه من كذبه حتى دخلنا في دينه من بين موقن و مقهور حتى استبان
لنا أنه صادق و أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فأمرنا أن نقاتل من
خالفنا و أخبرنا أن من قتل منا على ذلك فله الجنة و من عاش ملك و ظهر على
من خالفه و نحن ندعوك إلى أن تؤمن بالله و رسوله و تدخل في ديننا فإن فعلت
كانت لك بلادك و لا يدخل عليك فيها إلا من أحببت و عليك الزكاة و الخمس و
إن أبيت ذلك فالجزية و إن أبيت ذلك قاتلناك حتى يحكم الله بيننا و بينك
قال له رستم : ما كنت أظن أن أعيش حتى أسمع هذا منكم معشر العرب ! لا أمسي
غدا حتى أفرغ منكم و أقتلكم كلكم ثم أمر بالمعبر أن يسكر فبات ليلته يسكر
بالزرع و القصب و التراب حتى أصبح و قد تركه جسرا و عبأ سعد ابن أبي وقاص
الجيش فجعل خالد بن عرفطة على جماعة الناس و جعل الميمنة جرير بن عبد الله
البجلي و على الميسرة قيس بن مكشوح المرادي و زحف إليهم رستم و زحف إليه
المسلمون و كان سعد في الحصن معه أبو محجن الثقفي محبوس حبسه سعد في شرب
الخمر فاقتتل المسلمون قتالا شديدا و الخيول تجول و كان مع سعد أم ولده
فقال لها أبو محجن و سعد في رأس الحصن ينظر إلى الجيش كيف يقاتلون :
أطلقيني و لك عهد الله و ميثاقه لئن لم أقتل لأرجعن إليك حتى تجعلي الحديد
في رجلي ! فاطلقته و حملته على فرس لسعد بلقاء و خلت سبيله فجعل أبو محجن
يشد على العدو و يكر و سعد ينظر فوق الحصن يعرف فرسه و ينكره
و كان
عمرو بن معد يكرب مع المسلمين فجعل يحرض الناس على القتال و يقول : يا
معشر المسلمين ! كونوا أسودا إن الفارسي تيس و كان في الأعلاج رجل لا يكاد
يسقط له نشابه فقصد نحوه و جاءه الفارسي و رماه بنشابة فأصابت ترسه و حمل
عليه عمرو فاعتنقه و ذبحه فاستلبه سوارين من ذهب و منطقة من ذهب و يلمقا
من ديباج و حمل رستم على المسلمين فقصده هلال بن علقمة التميمي فرماه رستم
بنشابة فأصاب قدمه فشكها إلى ركاب سرجه و حمل عليه هلال بن علقمة فضربه
فقتله و احتز رأسه و ولت الفرس و اتبعتهم المسلمون يقتلونهم فلما رأى محجن
الهزيمة رجع إلى القصر و أدخل رجليه في قيده فلما نزل سعد من رأس الحصن
رأى فرسه قد عرقت فعرف أنها قد ركبت فسأل أم ولده عن ذلك فأخبرته خبر أبي
محجن فخلى سبيله و نهض سعد بالمسلمين خلفهم و انتهى الفرس إلى دير قرة
فنزل عليهم سعد بالمسلمين و وافى عياض بن غنم في مدده من أهل الشام و هم
ألف رجل فأسهم له سعد و لأصحابه من المسلمين مما أصابوا بالقادسية وكان
الناس قد أجبنوا سعدا و قالوا : أجبنت عن محاربة الأعداء فاعتذر إلى الناس
و أراهم ما به من القروح في فخذيه حتى سكت الناس
ثم أنهزم الفرس من
دير قرة إلى المدائن و حملوا ما معهم من الذهب و الفضة و الحرير و الديباج
و السلاح و خلوا ما سوى ذلك فبعث سعد خالد بن عرفطة في طلبهم معه أصحابه و
أردفه بعياض بن غنم في أصحابه و جعل على مقدمة الناس هاشم بن عتبة بن أبي
وقاص على ميمنتهم جرير بن عبد الله البجلي و على ميسرتهم زهرة بن حوية
التميمي و تخلف عنهم بنفسه لما به من الوجع ثم أفاق سعد من وجعه و برئ و
اتبع الناس بمن معه من المسلمين فأدركهم دون دجلة على بهرسير فطلبوا
المخاضة فلم يهتدوا لها فقال علج من أهل المدائن لسعد : أنا أدلكم على
مخاضة تدركونهم قبل أن يمنعوا السير فخرج بهم على المخاضة فكان أول من خاض
المخاضة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص في رجله فلما جاز تبعه خيله ثم أجاز
عياض بن غنم بخيله ثم تتابع الناس فخاضوا حتى جازوا و يقال : إن تلك
المخاضة لم تعرف إلى الساعة فبلغ المسلمون إلى ساباط طويل مظلم و خشوا أن
يكون فيه كمين للعدو فأخذوا يتجابنون فكان أول من دخله بجيشه هاشم بن عتبة
بن أبي وقاص فلما جاز لاح للناس بسيفه فعرفوا أنه ليس فيه شيء يخافونه ثم
أجاز خالد بن عرفطة بخيله ثم لحق سعد بالناس حتى انتهوا إلى جلولاء و بها
جماعة من الفرس و كانت بها وقعة جلولاء الله و هزم الله الفرس و أصاب
المسلمون بها من الغنائم أكثر مما أصابوا بالقادسية
و كتب سعد إلى
عمر \ الخطاب يخبر بفتح الله على المسلمين فكتب إليه عمر أن قف مكانك و لا
تطلب غير ذلك فكتب إليه سعد إنما هي سربة أدركناها و الأرض بين أيدينا
فكتب إليه عمر : أقم مكانك و لا تتبعهم و أعد للمسلمين دار هجرة و منزل
جهاد و لا تجعل بيني و بين المسلمين بحرا فنزل سعد بالأنبار فاجتووها و
أصابهم بها حمى فكتب إلى عمر يخبره بذلك فكتب إلى سعد أنه لا يصلح العرب
إلا حيث يصلح البعير والشاء في منابت العشب فانظر فلاة إلى جنب بحر فأنزل
المسلمين بها واجعلها دار هجرة فسار سعد حتى نزلة بكويفة فلم يوافق الناس
الكون بها من كثرة الذباب و الحمى فبعث سعد عثمان ابن حنيف فارتاد لهم
موضع الكوفة اليوم فنزلها سعد بالناس و خط مسجدها و اختط فيها للناس الخطط
و كوف الكوفة و استعمل سعد على المدائن رجلا من كندة يقال له شرحبيل بن
السمط
ثم كتب عمر إلى سعد أن ابعث إلى أرض الهند ـ يريد البصرة ـ
جندا لينزلوها فبعث إليها سعد عتبة بن غزوان في ثمانمائة رجل حتى نزلها و
هو الذي بصر البصرة و اختط المنازل و بنى مسجد الجامع بالقصب و كان فتح
البصرة صلحا و افتتح عتبة بن غزوان الأبلة و الفرات
و ميسان و من سبي ميسان والد الحسن و أرطبان جد ابن عون
ثم خرج عتبة حاجا و أمر المغيرة بن شعبة أن يصلي بالناس إلى أن يرجع فحج و
رجع فمات في الطريق قبل أن يصل إلى البصرة فأقر عمر المغيرة ابن شعبة على
الصلاة و ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة بالبصرة و هو أول مولود ولد بها
و خرج عمر بن الخطاب و خلف عثمان بن عفان على المدينة فلما قدم الشام نزل
بالجابية فقام فيها خطيبا لهم ثم أراد عمر الرجوع إلى الحجاز فقال له رجل
من اليهود : يا أمير المؤمنين ! لا ترجع إلى بلادك حتى يفتح الله عليك
إيلياء فبينا عمر كذلك إذ نظر إلى كردوس خيل مقبل فلما دنوا من المسلمين
سلوا السيوف فقال عمر : هم قوم يستأمنون فآمنوهم فأقبلوا و إذا هم أهل
إيلياء فصالحوه على الجزية و فتحوها له و كتب إلى عمر كتاب عهد بذلك و رجم
بالجابية امرأة أقرت على نفسها بالزنا
ثم رجع إلى المدينة و دون لهم
الديوان و غرب أبا محجن الثقفي إلى باضع و تزوج صفية بنت أبي عبيد على مهر
أربعمائة درهم و حج بالناس عمر استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما
دخلت السنة السابعة عشرة كتب عمر إلى البلدان بمواقيت الصلاة و وضعت ما
بين مكة و المدينة مياها للسابلة و اتخذ دارا بالمدينة و جعل فيها الدقيق
و السويق للمنقطع و الضيف إذا نزل
و ولى عمر المغيرة على البصرة
فسار المغيرة إلى الأهواز فصالحوه على ألفي ألف درهم و ثمانمائة ألف درهم
ثم ارتدوا فغزاهم بعد ذلك أبو موسى الأشعري إلى أن افتتحها يقال : عنوة و
قد قيل : صلحا
و بعث أبو عبيدة بن الجراح عمرو بن العاص إلى قنسرين
فصالح أهل حلب و منبج و أنطاكية و افتتح سائر أرض قيصر عنوة و يقال : إن
في هذه السنة افتتح أبو موسى الأشعري الرهاء و سمسياط صلحا
ثم أراد
عمر الخروج إلى الشام فخرج حتى إذا بلغ سرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة
بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة و أخبروه أن الأرض وبية
فقال عمر لابن عباس : اجمع إلي المهاجرين الأولين فجمعهم له و استشارهم
فاختلفوا عليه فمنهم القائل : خرجت لوجه تريد فيه الله و الدار الآخرة و
لا نرى أن نصدك عنه و منهم من يقول : لا نرى أن تقدم عليه و تقدم الناس
فلما اختلفوا عليه قال : قوموا عني ثم جمع الأنصار و استشارهم فسلكوا طريق
المهاجرين فلما اختلفوا عليه قال : قوموا عني ثم جمع مهاجرة الفتح
فاستشارهم فلم يختلف عليهم منهم اثنان قالوا جميعا : ارجع بالناس فإنه
بلاء و فناء فقال عمر لابن عباس : أخبر الناس أن أمير المؤمنين يقول : إني
مصبح على ظهر فاصبحوا عليه فأصبح عمر على ظهر و أصبح الناس عليه فقال :
أيها الناس ! إني راجع فارجعوا فقال له أبو عبيدة بن الجراح : يا أمير
المؤمنين ! أفرارا من قدر الله ؟ قال : نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله
لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ! أرأيت لو أن رجلا هبط واديا له عدوتان :
إحداهما خصبة و الأخرى جدبة أليس يرعى من يرعى الجدبة بقدر الله و يرعى من
يرعى الخصبة بقدر الله ؟ ثم خلا به بناحية دون الناس فبينا الناس على ذلك
إذ لحقهم عبد الرحمن بن عوف و كان متخلفا و لم يشهد معهم يومهم الأمس فقال
: ما شأن الناس ؟ فأخبره الخبر فقال : عندي من هذا علم فقال عمر : ما عندك
؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ إذا سمعتم بهذا
الوباء ببلد فلا تقدموا عليه و إذا وقع و أنتم به فلا تخرجوا فرارا منه ]
لا يخرجنكم إلا ذلك فقال عمر فلله الحمد فانصرفوا أيها الناس ! فانصرف بهم
و رجع أمراء الأجناد إلى أعمالهم
ثم اعتمر فب رجب و أمر بتوسيع
المسجد و تجديد أنصاب الحرم و تزوج بمكة بنت حفص بن المغيرة فأخبر أنها
عاقر فطلقها قبل أن يدخل بها و أقام بمكة عشرين ليلة و رجع إلى المدينة
و بعث أبو عبيدة خالد بن الوليد فغلب على أرض البقاع فصالحه أهل بعلبك ثم
خرج أبو عبيدة يريد حمص و قدم خالدا أمامه فقاتلوا قتالا شديدا ثم هزمت
الروم حتى دخلوا مدينتهم فحاصرهم المسلمون فسألوه الصلح عن أموالهم و
أنفسهم و كنائسهم فصالح المسلمون حمص على مائة ألف دينار و سبعين ألف
دينار و أخذ سائر مدائن حمص عنوة
و بعد موت عتبة بن غزوان والي
البصرة أمر عمر على البصرة أبا موسى الأشعري و كان المغيرة على الصلاة بها
فشهد أبو بكرة و شبل بن معبد البجلي و نافع بن كلدة و زياد على المغيرة
بما شهدوا فبعث عمر إلى أبي موسى الأشعري أن أشخص إلى المغيرة ففعل ذلك
أبو موسى
ثم تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب و هي من فاطمة و دخل بها في شهر ذي القعدة ثم حج و استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما دخلت السنة الثامنة عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة فاستسقى لهم عمر و
أخذ بيد العباس و قال : اللهم إنا نستسقي بعم رسول الله صلى الله عليه و
سلم فما زال العباس قائما إلى جنبه و عيناه تهملان وعمر يلح في الدعاء حتى
سقوا فسمى هذه السنة سنة الرمادة و أجرى عمر الأقوات على المسلمين و كان
يرزق الضعفاء القوت و نهى عن الحكرة حاطبا و غيره
و كان طاعون عمواس
فتفانى الناس فيه فكتب عمر إلى أبي عبيدة : إنك أنزلت الناس أرضا عميقة
فارفعهم إلى أرض مرتفعة فسار أبو عبيدة بالناس حتى نزل بالجابية ثم قام
أبو عبيدة خطيبا فقال : أيها الناس ! إن هدا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم
و موت الصالحين قبلكم و إن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم له منه حظه فمات
من يومه و استخلف على الناس معاذ بن جبل فقام معاذ خطيبا بعده فقال : أيها
الناس ! إن هذا الوجع رحمة ربكم و دعوة نبيكم و موت الصالحين قبلكم إن
معاذا يسأل الله أن يقسم له حظه ثم لأهل بيته فطعن ابنه عبد الرحمن بن
معاذ فمات ثم طعن معاذ في راحته فكان يقبل ظهر كفه و كان يقول : ماأحب أن
لي بما فيك من الدنيا شيئا ثم مات و استخلف على الناس عمرو بن العاص فقام
فيهم خطيبا فقال : أيها الناس ! إن هذا الوجع إذا وقع يشتعل اشتعال النار
فارتفعوا عنه في الجبال
فمات في طاعون عمواس : يزيد بن أبي سفيان و الحارث بن هشام بن المغيرة و سهيل بن عمرو و عتبة بن سهيل
فلما بلغ عمر بن الخطاب موت أبي عبيدة بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان أمر
معاوية بن أبي سفيان على جند دمشق و خراجها و أمر شرحبيل بن حسنة على جند
الأردن و خراجها و غرب عمر بن ربيعة بن أمية إلى خيبر و لحق بأرض الروم و
تنصر فلم يغرب عمر بعد ذلك رجلا في شيء من عمله
و لا عن عمر بين رجل
و امرأته و رجم ساحرا بالبقيع ثم حج عمر بالناس فلما تقدم بمكة أخر المقام
مقام إبراهيم ـ و كان ملصقا بالبيت ـ في موضعه الذي هو فيه اليوم و رجع
إلى المدينة
فلما دخلت السنة التاسعة عشرة كتب عمر إلى سعد بن أبي
وقاص أن ابعث من عندك جندا إلى الجزيرة وأمر عليهم أحد الثلاثة : خالد بن
عرفطة أو هاشم بن عتبة بن أبي وقاص أو عياض بن غنم فلما قرأ سعد الكتاب
قال : لم يؤخر أمير المؤمنين عياض بن غنم آخر الثلاثة إلا أن له فيه هوى
فولاه جيشا و بعث معه عمر بن سعد و عثمان بن أبي العاص فخرج عياض بن غنم
إلى الجزيرة و نزل بجنده على الرهاء و صالح أهلها على الجزيرة و صالحت
حران حين صالحه الرهاء و وجه عياض عمر بن سعد إلى رأس العين و سار بنفسه
في بقية الناس إلى دارا ونصيبين فنزل عليهما حتى افتتحهما ثم افتتح الموصل
صالحه عليها اهلها
و زاد عمر في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم زاد فيه من ناحية دار مروان و أدخل فيه دار العباس و سوى أعمدته وسقفه
و بعث سعد جرير بن عبد الله البجلي إلى حلوان فافتتحها عنوة وافتتح هاشم
بن عتبة ماسبذان عنوة و في هذه السنة فتح أبو موسى جنديسابور و السوس صلحا
ثم أمر عمر أبا موسى بجرير بن عبد الله فافتتحوا رامهرمز صلحا ثم سار أبو
موسى إلى التستر حتى فتحها و افتتح قم وقاشان ثم افتتح معاوية بن أبي
سفيان قيسارية و الرملة و ما بينهما فأقر ه عمر عليهما و حج بالناس عمر و
في هذه السنة افتتحت تكريت
فلما دخلت سنة عشرين رجفت المدينة
بالزلزلة و شكى أهل الكوفة سعدا و زعموا أنه لا يحسن يصلي فاستقدمه عمر و
سأله فقال : إني أركن في الأوليين و أحذف في الآخرتين فقال : كذاك الظن
فيك يا أبا إسجاق ثم عزل عمر قدامة بن مظعون عن البحرين و دخل أبو بحرية
الكندي عبد الله بن قيس بلاد الروم و أغار و هو أول من دخلها و افتتح مصر
و الإسكندرية عمرو بن العاص عنوة ـ و قد فتحت سنة إحدى و عشرين ـ و غنم
بها غنائم كثيرة ثم رجع فلما بلغ بلهيب قرية من قرى الريف أرسل صاحب
الإسكندرية إلى عمرو بن العاص أني قد كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي
منكم : فارس و الروم فإن أحببت أن أعطيك الجزية على أن ترد علي من السبي
فعلت فبعث إليه عمرو بن العاص أن من ورائي أميرا لا أستطيع أن أنفذ أمرا
دونه فإن شئت أن أمسك عنك و تمسك عني حتى أكتب إليه بالذي عرضت علي فعلت
فإن قبل ذلك قبلته و إن أمرني بغير ذلك مضيت لأمره فقال : نعم فكتب عمرو
إلى عمر فكتب إليه عمر : أما بعد فقد جاءني كتابك تذكر فيه أن صاحب
الإسكندرية عرض عليك الجزية على أن ترد عليه ما أصبت من سبي أرضه و لعمري
لجزية قائمة تكون لنا و لمن بعدنا من المسلمين أحب إلي من فيء يقسم ثم
كأنه لم يكن فاعرض على صاحب الإسكندرية أن يعطيك الجزية على أن تخيروا من
في أيديكم من سبيهم بين الإسلام و بين دين قومهم فمن اختار الإسلام فهم من
المسلمين له ما لهم و عليه ما عليهم و من اختار دين قومه وضع عليه من
الجزية ما يوضع على أهل دينه و أما من تفرق من سبيهم فبلغ المدينة و مكة و
اليمن فأنا لا نقدر على ردهم فلا نحب أن نصالحهم على ما لا نفي به فبعث
عمرو بن العاص إلى صاحب الإسكندرية يعلمه بالذي كتب أمير المؤمنين فقال :
قد قبلت فجمعوا ما بأيديهم من السبي و اجتمعت النصارى فكانوا يخيرون الرجل
بين الإسلام و النصرانية فإن اختار الإسلام كبر المسلمون و انحاز إليهم و
إن اختار النصرانية نخرت النصارى ثم حازوه إليهم و وضعوا عليه الجزية
ثم كتب عمرو بن العاص إلى عمر : أما بعد يا أمير المؤمنين ! فإنا قدرنا
على البحر و إن شئت أن تركبه ركبت فكتب إليه عمر أن صف لي كيف حاله و حال
من ركبه فكتب إليه عمرو بن العاص أنه خلق شديد يحل فيه خلق ضعيف دود على
عود إن استمسك به فزع و إن خر غرق فكتب إلى عمرو بن العاص : ما كان الله
ليسألني عن أمري من المسلمين الذين حملتهم فيه لا حاجة لنا به
و
توفي بلال بن رباح مؤذن رسول الله صلى الله عليه و سلم بدمشق و دفن في
المقبرة عند باب الصغير ثم أخرج عمر يهود الحجاز من نجران إلى الكوفة و
قال : كان النبي صلى الله عليه و سلم يقول : [ لئن عشت لأخرجن اليهود من
جزيرة العرب ] ثم قال لهم : من كان له منكم عهد من رسول الله صلى الله
عليه و سلم فليأت بعهده حتى ننفذه و من لم يكن له عهده فإني أجليه لأن
النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ أقركم ما أقركم الله ] و قد أذن الله
بإجلائكم إلا أن يأتي رجل منكم بعهد أو بينة من النبي صلى الله عليه و سلم
أنه أقره فأقره و قد فعلتم بمظهر ابن رافع الحارثي ما فعلتم و ذلك أن مظهر
بن رافع خرج بأعلاج له من الشام حتى إذا كان بخيبر دخل قوم من اليهود و
أعطوا غلمانه السلاح و حرضوهم على قتله فقتلوه فأجلى عمر اليهود من الحجاز
و قسم خيبر على ثمانية عشر سهما ثم بعث إلى فدك أبا حبيبة الحارثي و مضى
إلى وادي القرى و أنفذ ظعن خيبر و وادي القرى على ما كان رسول الله صلى
الله عليه و سلم سماها إلا أنه فرقها و صارت في أيدي أهلها تباع و تورث
بدا بأزواج النبي صلى الله عليه و سلم ففرض لكل امرأة منهن اثني عشر ألفا
و فرض لأهل بدر صبيهم و حليفهم و مولاهم خمسة آلاف خمسة آلاف و فرض
للأنصار صبيهم و حليفهم و مولاهم أربعة آلاف أربعة آلاف
ثم مات أسيد بن حضير في شعبان و دفن بالبقيع
و مات هرقل ملك الروم و أقعد مكانه قسطنطين ثم أغارت الحبشة على أهل بلجة
فأصابوهم و قدم الصريخ على عمر فبعث علقمة بن مجزز المدلجي في عشرين مركبا
إلى الحبشة فأغاروا عليهم و لم يحمل بعدها مسلما في البحر
ثم عزل
عمر أبا موسى عن البصرة و ولها عثمان بن أبي العاص و أمرهما أن يطاوعا
فنزل عثمان توج و مصرها و بعث سوار بن همام العبدي إلى سابور فقتل بعقبة
الطين
ثم ماتت زينب بنت جحش زوجة رسول الله صلى الله عليه و سلم
فسأل عمر : من يغسلها ؟ فقالت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم : نحن
نغسلها فغسلنها و صلى عليها عمر و كبر أربعا فلما أتى بسريرها أمر عمر
بثوب فمد على قبرها و أمر أسامة بن زيد و ابن أخيها محمد بن عبد الله بن
جحش و محمد بن طلحة بن عبيد الله فدخل قبرها و لحدوا لها و قام عمر على
قبرها حتى سوى عليها و رش على قبرها الماء ثم انصرف و حج عمر بالناس
فلما دخلت السنة الحادية و العشرين مات خالد بن الوليد بحمص و أوصى إلى عمر بن الخطاب
ثم كان فتح نهاوند و أميرها النعمان بن مقرن و ذلك أن أهل الري و أصبهان و
همذان و نهاوند تعاقدوا و تعاهدوا و قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه و
سلم نبي العرب الذي أقام لها دينها مات و إن ملكهم من بعده ملك يسيرا ـ
يعني أبا بكر ـ ثم هلك و إن عمر قد طال ملكه و مكثه و تأخر أمره حتى جيش
إليكم الجيوش في بلادكم و ليس بمنقطع عنكم حتى تسيروا إليهم في بلادهم
فتقتلوهم فلما بلغ الخبر أهل الكوفة من المسلمين كتبوا إلى عمر فلما أخذ
عمر الصحيفة مشى بها إلى منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو باك و
جعل ينادي : أين المسلمون ! أين المهاجرون و الأنصار من ههنا من المسلمين
! فلم يزل ينادي حتى امتلأ عليه المسجد رجالا ثم صعد المنبر فحمد الله و
أثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس ! فإن الشيطان قد جمع لكم جموعا
كثيرة و أقبل بها عليكم ألا ! و إن أهل الري و أصبان و أهل همذان و أهل
نهاوند أمم مختلفة ألوانها و أديانها ألا ! و إنهم تعاقدوا و تعاهدوا على
أن يسيروا إليكم فيقتلوكم ألا ! و إن هذا يوم له ما بعده من الأيام ألا !
فاشيروا علي برأيكم فقام طلحة بن عبيد الله فحمد الله و أثنى عليه ثم قال
: أما بعد يا أمير المؤمنين ! فقد حنكتك البلايا و عجمتك التجارب و قد
ابتليت يا أمير المؤمنين و اختبرت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك
إلا عن خيار و أنت يا أمير المؤمنين ميمون النقيبة مبارك الأمر فمرنا نطع
و ادعنا نجب و احملنا نركب فأثنى عمر على طلحة خيرا ثم جلس فقام عثمان ابن
عفان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : يا أمير المؤمنين ! إني أرى أن تكتب
إلى أهل الشام فيسيرون إليك من شامهم و تكتب إلى أهل اليمن فيسيرون من
يمنهم و تسير أنت بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين فإنك لو
فعلت ذلك كنت أنت الأعز الأكبر و إن هذا يوم له ما بعده من الأيام و اثنى
عليه عمر فجلس فقام علي بن أبي طالب فحمد الله و اثنى عليه ثم قال : اما
بعد يا أمير المؤمنين ! فإنك إن تكتب إلى أهل الشام أن يسيروا إليك من
شامهم إذا تسير الروم إلى ذراريهم فتسبيهم و إن تكتب إلى أهل اليمن أن
يسيروا إليك من يمنهم إذا تسير الحبشة إلى ذراريهم فتسبيهم و إن سرت أنت
بمن معك من أهل هذين الحرمين إلى هذين المصرين إذا و الله انتقضت عليك
الأرض من أقطارها و أكنافها و كان و الله يا أمير المؤمنين من تخلف وراءك
من العورات و العيالات أهم إليك مما بين يديك من العجم و الله يا أمير
المؤمنين ! لو أن العجم نظروا إليك عيانا إذا لقالوا : هذا عمر هذا إريس
العرب و كان و الله أشد لحربهم و جرأتهم عليك و أما ما كرهت من مسير هؤلاء
القوم فإن الله أكره لمسيرهم منك و هو أقدر على تغيير ما كره و أما ما
ذكرت من كثرتهم فإنا كنا ما نقاتل مع نبينا بالكثرة و لكنا نقاتل معه
بالنصرة من السماء و أنا أرى يا أمير المؤمنين رايا من تلقاء نفسي رأيي أن
تكتب إلى أهل البصرة فيفترقوا على ثلاث فرق : فرقة نقيم في أهل عهودهم بأن
لا ينتقضوا عليهم و فرقة تقيم من ورائهم في ذراريهم و فرقة تسير إلى
إخوانهم بالكوفة مددا لهم فطبق عمر ثم أهل مكبرا يقول : الله أكبر الله
أكبر ! هذا رأي هذا رأي ! كنت أحب أن أتابع صدق ابن أبي طالب لو خرجت
بنفسي لنقضت علي الأرض من اقطارها و لو أن العجم نظروا إلي عيانا ما زالوا
عن العرص حتى يقتلوني أو أقتلهم أشر علي يا علي بن أبي طالب برجل أوليه
هذا الأمر ! قال : مالي و لهم ! هم أهل العراق و فدوا عليك ورأوك و رأيتهم
و توسمتهم و أنت أعلمنا بهم قال عمر : إن شاء الله لأولين الراية غدا رجلا
يكون لأول أستة يلقاها و هو النعمان بن مقرن المزني ثم دعا عمر السائب بن
الأقرع الكندي فقال : يا سائب ! أنت حفيظ على الغنائم بأن تقاسمها فإن
الله أغنم هذا الجيش شيئا فلا تمنعوا أحدا حقا هو له ثكلتك أمك يا سائب !
و إن هذا الجيش هلك فاذهب عني في عرض الأرض فلا أنظر إليك بواحدة فإنك
تجيئني بذكر هذا الجيش كلما رأيتك ثم كتب إلى أهل الكوفة : سلام عليكم أما
بعد فقد استعملت عليكم النعمان بن مقرن المزني فإن قتل النعمان فعليكم
حذيفة بن اليمان العبسي فإن قتل حذيفة فعليكم عبد الله بن قيس الأشعري أبو
موسى فإن قتل أبو موسى فعليكم جرير بن عبد الله البجلي فإن قتل جرير
فعليكم المغيرة بن شعبة الثقفي فإن قتل المغيرة فعليكم الأشعث بن قيس
الكندي
ثم كتب عمر إلى النعمان بن مقرن : فإن في جندك رجلين : عمرو
بن معد يكرب المدحجي و طليحة بن خويلد الأسدي فأحضرهما و شاورهما في الحرب
و إياك أن توليها عملا فإن كل صانع أعلم بصناعته
فلما ورد عليه
الكتاب سار بالناس فالتقى المسلمون و المشركون بنهاوند فأقبل المشركون
يحمون أنفسهم و خيولهم ثلاثا ثم نهض إليهم المسلمون يوم الأربعاء فاقتتلوا
قتالا شديدا حتى كثرت القتلى و فشت الجرحى و الصرعى في الفريقين جميعا ثم
حجز بينهما الليل و رجع الفريقان إلى عسكر يهما و بات المسلمون و لهم أنين
من الجراحات يعصبون بالخرق و يبكون حول مصاحفهم و بات المشركون في معازفهم
و خمورهم ثم غدوا يوم الخميس فاقتتل المشركون و قاتلوا قتالا شديدا حتى
كثرت القتلى و فشت الجرحى في الفريقين جميعا ثم حجز بينهما الليل و رجع
الفريقان إلى عسكريهما و بات المسلمون لهم أنين من الجراحات يعصبون بالخرق
و يبكون حول مصاحفهم و بات المشركون في معازفهم و خمورهم
ثم غدا
النعمان بن مقرن يوم الجمعة ـ و كان رجلا قصيرا أبيض ـ على برذون أبيض قد
أعلم بالبياض فجعل يأتي راية يحرضهم على القتال و يقول : الله الله في
الإسلام أن تخذلوه فإنكم باب بين المسلمين و بين المشركين فإن كسر هذا
الباب دخلوا على المسلمين يا أيها الناس ! إني هاز لكم الراية مرة
فليتعاهد الرجل الخيل في حزمها و أعنتها ألا ! و إني هاز لكم الثانية
فلينظر كل رجل منكم إلى موقف فرسه و مضرب رمحه ووجه مقاتله ألا ! و إني
هاز لكم الثالثة و مكبر فكبروا الله و اذكروه و مستنصر فاستنصروه ألا !
فحامل فاحملوا فقال رجل : قد سمعنا مقالتك و حفظنا و صيتك فأخبرنا بأي
النهار يكون ذلك يكون ذلك حتى يكونوا على آلة و عدة قال النعمان : ليس
يمنعني أن يكون ذلك من أول النهار إلا شيء شهدته من رسول الله صلى الله
عليه و سلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا غزا فلم يقاتل أول
النهار لم يعجل بالقتال حتى تزول الشمس و تهب الرياح و يطيب القتال و تحضر
الصلاة و ينزل النصر من السماء مع مواقيت الصلاة في الأرض فمكث المسلمون
ينظرون إلى الراية و يراعونها حتى إذا زالت الشمس عن كبد السماء هز
النعمان الراية هزة فانتزعوا المخالي عن الخيول و قرطوها الأعنة و أخذوا
أسيافهم بأيمانهم و الأترسة بشمائلهم و صلى كل رجل منهم ركعتين يبادر بهما
ثم هز النعمان الراية ثانيا فوضع كل رجل منهم رمحه بين أذني فرسه و لزمت
الرجال منهم نحور الخيل و جعل كل رجل يقول لصاحبه : أي فلان ! تنح عني
لأوطئك بفرسي إني أرى وجه مقاتلي إني غير راجع إن شاء الله حتى أقتل أو
يفتح الله علي ثم هز الثالثة فكبر فجعل الناس يكبرون الأول فالأول الأدنى
فالأدنى و قذف الله الرعب في قلوب المشركين حتى أن أرجلهم كانت تخفق في
الركب فلم يستطع منهم أحد أن يوتر قوسه ثم ولوا مدبرين و حمل النعمان و
حمل الناس فكان النعمان أول قتيل قتل من المسلمين جاءه سهم فقتله فجاء
أخوه معقل بن مقرن فغطى عليه بردا له ثم أخذ الراية و إنها لتنضح دما من
دماء من قتله بها النعمان قبل أن يقتل فهزم الله المشركين و فتح على
المسلمين و بايع الناس لحذيفة بن اليمان فجمع السائب بن الأقرع الغنائم
كأنها الأكام فجاءه دهقان من دهاقينهم فقال : هل لك أن تؤمنني على دمي و
دم أهل بيتي و دم كل ذي رحم لي و أدلك على كنز عظيم ؟ قال : نعم قال :
خذوا المكاتل و المعاول فامشوا فمشوا معه حتى انتهى إلى مكان قال : احفروا
فحفروا فإذا هم بصخرة قال : اقلعوها فقلعوا فإذا هم بسفطين من فصوص يضيء
ضوءها كأنها شهب تتلألأ فأعطى السائب كل ذي حق حقه من الغنائم و حمل
السفطين حتى قدم بهما على عمر فلما نظر عمر إلى السائب ولى باكيا ثم أقبل
يقول : يا سائب ! ويحك ! ما وراءك ؟ ما فعلت ؟ ما فعل المسلمون ؟ قال
السائب : خير يا أمير المؤمنين ! هزم الله المشركين و فتح للمسلمين قال :
و يحك يا سائب ! و الله ما أتت ليلة بعد ليلة بات فيها رسول الله صلى الله
عليه و سلم فينا ميتا مثل البارحة ! لا و الله مابت البارحة إلا تقديرا !
فما فعل النعمان ابن مقرن ؟ قال : استشهد يا أمير المؤمنين فبكى عمر ثم
قال : يرحم الله النعمان ـ ثلاثا ثم قال : مه ! قال : لا و الذي أكرمك
بالخلافة و ساقها إليك ! ما قتل بعد النعمان أحد نعرفه فبكى عمر بكاء
شديدا ثم قال : الضعفاء لكن الله أكرمهم بالشهادة و ساقها إليهم أدفنتم
إخوانكم ؟ لعلكم غلبتم على أجسادهم و خليتم بين لحمومهم و الكلاب و السباع
! أخشى أن يكونوا أصيبوا بأرض مضيعة
قال السائب : هون عليك يا أمير
المؤمنين ! فقد أكرمهم الله بالشهادة و ساقها إليهم ثم قال عمر : أعطيت كل
ذي حق حقه ؟ فقال : نعم فنفض عمر رداءه ثم ولى باكيا فأخذ السائب بطرف
ردائه ثم قال : اجلس يا أمير المؤمنين ! فإن لي إليك حاجة قال : و ما
حاجتك ؟ ألم تخبرني أنك أعطيت كل ذي حق حقه ؟ قال : بلى قال : فما حاجتك
إلي ؟ فأبدى له عن السفطين فصوصهما كأنها شهب تتلألأ فقال عمر : ماهذا ؟
فأخبره السائب خبر الدهان فصعد فيها بصره و خفضه ثم قال : ادع لي عليا و
عبد الرحمن بن عوف و ابن مسعود و عبد الله بن الأرقم فلما اجتمعوا عنده
قال السائب : لم يكن لي هم إلا أن أنفلت من عمر فركبت راحلة لي و أتيت
الكوفة فوالله ما جفت بردعة راحلتي حتى أتاني كتاب عمر : عزمت عليك إن كنت
قاعدا لا قمت و إن كنت قائما لا قعدت إلا على راحلتك ثم العجل العجل !
فقلت للرسول : هل كان في الإسلام حدث ؟ قال : لا قلت : فما حاجته إلي ؟
قال : لا أدري فركبت راحلتي حتى أتيت عمر فلما نظر إلي أقبل علي بدرته
يضربني بها حتى سبقته إلى غيره و هو يقول : مالي ولك يا ابن أم مليكة !
أعن ديني تفارقني أم النار توردني ؟ قلت : دعني عنك يا أمير المؤمنين ! لا
تقتلني غما قال عمر : فإنك لما خرجت من عندي فأويت إلى فراشي جاءني ملائكة
من عند ربي في جوف الليل فرموني بسفطين هذين فإذا حملتهما فإذا نار توقد
على جنبي فجعلت أتأخر و جعلوا يدفعونني إليهما حتى تعاهدت ربي في هذا : إن
هو تركني حتى أصبح لأقسمن على من أفاء الله عليه أخرج بهما من عندي لا
حاجة لي بهما بعهما بعطية المقاتلة و الذرية فإن لم تصب إلا عطية أحد
الفريقين فبع ثم اقسمهما على من أفاء الله عليه والله لئن شكا المسلمون
قبل أن تقسم بينهم لأجعلنك نكالا لمن بعدك قال السائب : فخرجت بهما من
عنده حتى قدمت الكوفة فأخرجتهما إلى الزحمة فأبديت عنهما فلاح ضوءهما
كأنهما شهب تلألأ فجعل لا يأتي عليهما قوم إلا صفقوا تعجبا منهما حتى
أتاني عمر بن حريث فلما نظر إليهما استامني بهما فقلت : بعطية المقاتل و
الذرية فما كلمني حتى صفق على يدي و أوجبت له البيع فخرج بهما إلى الحيرة
فباع أحدهما بعطية المقاتل و الذرية و استفضل الآخر ربحا فكان أول شيء
اعتقله بالكوفة مالا
ثم سار المغيرة بالمسلمين إلى مدينة آذربيجان
فصالحه أهلها على ثمانمائة ألف درهم في كل سنة ثم غزا حذيفة بن اليمان
الدينور فافتتحها عنوة و كانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت ثم غزا حذيفة ماه
سندان فافتتحها عنوة و كانت قبل ذلك فتحت لسعد فانتقضت ثم غزا حذيفة همذان
فافتتحها عنوة
ثم ولى عمر عمار بن ياسر الكوفة على الصلاة و الحرب و
عبد الله بن مسعود على بيت المال و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض فشكا
أهل الكوفة عمارا و قالوا رجل لا يعلم فاستعفى عمار و دعا عمر جبير بن
مطعم خاليا ليوليه الكوفة و قال له : لا تذكره لأحد فبلغ المغيرة بن شعبة
أن عمر قد خلا بجبير بن مطعم فرجع إلى امرأته و قال لها : اذهبي إلى امرأة
جبير بن مطعم فأعرضي عليها متاع السفر فأتتها فعرضت عليها فاستعجمت عليها
ثم قالت : ائتيني به فلما استيقن المغيرة بذلك جاء إلى عمر و قال : بارك
الله لك فيمن وليت و أخبره أنه ولى جبير بن مطعم فقال عمر : لا أدري ما
أصنع ؟ فولى المغيرة بن شعبة الكوفة فلم يزل عليها إلى أن مات عمر
ثم مضى عمرو بن العاص إلى برقة طرابلس ففتحها و صالح أهل برقة على اثني
عشر ألف دينار و بعث عقبة بن نافع الفهري فافتتح لعمر زويلة بالصلح و كان
بين برقة و زويلة صلح للمسلمين
و حج عمر بالناس و استخلف على المدينة زيد بن ثابت
فلما دخلت السنة الثانية و العشرين فتح المغيرة بن شعبة آذربيجان صلحا على
ثمانمائة ألف درهم المسلمون و دخل معاوية أرض الروم الصائفة في عشرة آلاف
ثم اعتمر عمر و ساق معه عشر بدنات و نحرها في منحر رسول الله صلى الله
عليه و سلم و معه من الصحابة عبادة بن الصامت و أبو ذر و أبو أيوب و شداد
بن أوس و كان نافع بن عبد الحارث عامله على مكة فتلقاه نافع فقال عمر : من
خلفت على أهل الوادي ؟ فقال : ابن أبزى رجل من الموالي قال عمر : أمولى
أيضا ؟ قال : يا أمير المؤمنين ! إنه قارئ للقرآن علم بالفرائض فقال عمر :
سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله عز و جل يرفع بهذا القرآن
اقواما و يضع به آخرين ]
فلما دخلت السنة الثالثة و العشرون فتح
معاوية عسقلان صلحا و قد قيل : إن الذي فتح في هذه السنة فتحها قرظة بن
كعب الأنصاري لعمر و لا يصح عندي
ثم كان غزوة أصطخر الأولى و ذلك أن
عثمان بن أبي العاص أقام بتوج و توفي قتادة بن النعمان الظفري فصلى عليه
عمر و نزل حفرته أخوه لأمه أبو سعيد الخدري و محمد بن مسلمة و الحارث بن
خزمة
ثم حج بالناس عمر و أذن لأزواج النبي صلى الله عليه و سلم أن
يحججن معه فبينا هو بالأبطح إذ أقبل راكب يسأل عن عمر فدل عليه فلما رآه
بكى و جعل يقول :
( جزى الله خيرا من أمير و باركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق )
( قضيت أمورا ثم غادرت بعدها ... بوائج في أكمامها لم تفتق )
( أبعد قتيل بالمدينة أظلمت ... له الأرض تهتز العضاة بأسوق )
( فمن يسع أو يركب جناحي نعامة ... ليدرك ما قدمت بالأمس يسبق )
( فما كنت أخشى أن تكون وفاته ... بكفي سبنتي أزرق العين مطرق )
و كان جبير بن مطعم يقول : بينا أنا واقف مع عمر بعرفات إذ قال رجل : يا
خليفة الله ! فقال رجل خلفي : قطع الله لحيتك ! والله لا يقف أمير
المؤمنين بعد هذا العام أبدا ! قال جبير : فالتفت فإذا هو رجل من لهب و
لهب بطن من الأزد و بينا نحن نرمي الجمار و إذا رمى إنسان فأصاب رأس عمر
فشجه فقال رجل خلفي قطع الله لحيتك ! ما أرى أمير المؤمنين إلا سيقتل قال
جبير : فالتفت فإذا هو ذلك اللهبي ثم رجع عمر من مكة إلى المدينة و قام في
الناس فقال : إني رأيت كأن ديكا أحمر نقرني نقرتين و لا أراه إلا لحضور
أجلي ثم خرج يوما إلى السوق و هو متكئ على يد عبد الله بن الزبير إذ لقيه
أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة فقال لعمر : ألا تكلم مولاي أن يضع عني من
خراجي ؟ قال : وكم خراجك ؟ قال : دينار قال : ما أفعل ! إنك لعامل و إن
هذا لشيء يسير ثم قال له عمر : ألا تعمل لي رحى ؟ قال : بلى فلما ولى عمر
قال أبو لؤلؤة : أعمل لك رحى يتحدث بها من بين المشرق و المغرب قال ابن
الزبير : فوقع في قلبي قوله ذلك فلما كان وقت النداء بالفجر خرج عمر إلى
الصلاة و ذلك يوم الأربعاء لأربع ليال بقين من ذي الحجة و اضطجع له أبو
لؤلؤة فقام عمر فجعل يقول بين الصفوف : فاستووا استووا ! فلما كبر طعنه
أبو لؤلؤة ثلاث طعنات في وتينه فقال عمر قتلني الخبيث ! ثم أخذ بيد عبد
الرحمن فقدمه فصلى عبد الرحمن بالناس الصبح و قرأ { إنا أعطيناك الكوثر }
و { إذا جاء نصر الله } ثم دخل عبد الرحمن على عمر و عنده علي و عثمان و
سعد و ابن عباس المسلمون فقال : يا ابن عباس : من قتلني ؟ قال : أبو لؤلؤة
قال عمر : الحمد لله الذي لم يجعل موتي برجل يدعي الإسلام ثم سكت عمر
كالمطرق فقالوا : ألاننبه للصلاة ! فقيل ! الصلاة يا أمير المؤنين ! فقال
: نعم و لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة ثم صلى و جرحه يثعب دما ثم أقبل
على علي فقال : اتق الله يا علي ! إن وليت من أمور الناس شيئا فلا تحملن
بني هاشم على رقاب الناس و أنت يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئا فلا
تحملن بني أبي معيط على رقاب الناس و أنت يا زبير يا سعد ! إن وليتما من
أمر الناس فلا تحملان أقاربكما على رقاب الناس ثم قال : إني نظرت في أمر
الناس فلم أر عندهم شقاقا إلا أن يكون فيكم و إن الأمر إلى الستة نفر :
عثمان و علي و عبد الرحمن و سعد و طلحة و الزبير فتشاوروا ثلاثا و كان
طلحة غائبا في مال له فقال عمر : إني مصرت لكم الأمصار و دونت لكم
الدواوين و إني تركتكم على الواضحة إنما أتخوف أحد رجلين إما رجل يرى أنه
أحق بالملك من صاحبه فيقاتله أو رجل يتأول القرآن على غير تأويله و إني
قرأت في كتاب الله [ الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من
الله و الله عزيز حكيم ] ألا ! فلا تهلكوا عن آية الرجم فقد رجم رسول الله
صلى الله عليه و سلم و رجمنا معه و لولا أن يقول الناس : زاد عمر في كتاب
الله لكتبتها في يدي فقد قرأناها بكتاب الله
ثم دعا بكتاب [ بسم
الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى الخليفة من بعدي :
سلام عليك فإني أحمد الله الذي لاإله إلا هو أما بعد فإني أوصيك بتقوى
الله و بالمهاجرين { الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم } ـ الآية فتعرف
فضيلتهم و تقسم عليهم فيئهم و أوصيك { بالذين تبوؤا الدار و الإيمان } ـ
الآية فهؤلاء الأنصار تعرف فضلهم و تقسم عليهم فيئهم و أولئك { الذين
جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا } ـ الآية
و خرج أبو لؤلؤة على
وجه يريد البقيع و طعن في طريقه اثني عشر رجلا فخرج خلفه عبيد الله بن عمر
فرأى أبا لؤلؤة و الهرمزان و جفينة و كان نصرانيا و هم يتناجون بالبقيع
فسقط منهم خنجر له رأسان و نصابه في وسطه فقتل عبيد الله أبا لؤلؤة و
الهرمزان و جنيفة ثلاثتهم فجرى بين سعد بن أبي وقاص و بين عبيد الله في
شأن جفينة ملاحاة و كذلك بين علي بن أبي طالب و بينه في شأن الهرمزان حتى
قال علي بن أبي طالب : إن وليت من هذا الأمر شيئا قتلت عبيد الله
بالهرمزان
ثم أرسل عمر إلى عائشة يستأذنها في أن يدفن مع رسول الله
صلى الله عليه و سلم و أبي بكر فأذنت له فقال عمر : أنا أخشى أن يكون ذلك
لمكان السلطان مني فإذا مت فاغسلوني فكفنوني ثم قفوا بي على بيت عائشة و
قولوا : أيلج عمر ؟ فإن قالت نعم فأدخلوني و إن أبت فادفنوني بالبقيع ثم
أرسل عمر فجيء بلبن فشربه فخرج من جرحه فعلم أنه الموت فقال لعبد الله بن
عمر : انظر ما علي من الدين فاحسبه : فقال : ست وثمانون ألفا فقال : إن
وفى لها مال آل عمر فأدها عني من أموالهم و إلا فسل بني عدي بن كعب فإن لم
تف من أموالهم فسل قريشا و لا تعدهم إلى غيرهم و أدها عني
فتوفي عمر
رضي الله عنه و له خمسة و ستون سنة و فعل به ما أمر فأذنت له عائشة و صلى
عليه صهيب و دخل حفرته عثمان بن عفان و عبد الله بن عمر و كانت الخلافة
عشر سنين و ستة أشهر و أربع ليال
و كان له من العمال وقت ما توفي :
على الكوفة المغيرة بن شعبة و على البصرة أبو موسى و على حمص و أعمالها
عمير بن سعد الضمري و على دمشق معاوية بن أبي سفيان و على صنعاء يعلى بن
منية و على الجند عبد الله بن أبي ربيعة و على الطائف سفيان بن عبد الله
الثقفي و على مكة نافع بن عبد الحارث و على مصر عمرو بن العاص ـ رحمهم
الله تعالى أجمعين آمين !
و هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن
أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن
نزار بن معد بن عدنان و كنيته أبو عمرو و قد قيل : أبو عبد الله و يقال :
أبو ليلى و أم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس و أمها
البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
[ أخبرنا أبو
خليفة الفضل بن الحباب الجمحي بالبصرة ثنا علي بن هاشم عن جعفر بن نجيح
المديني ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن
أحدا ارتج و عليه النبي صلى الله عليه و سلم و أبو بكر و عمر و عثمان فقال
النبي صلى الله عليه و سلم : اثبت أحد ! فما عليك إلا نبي و صديق و شهيدان
]
قال أبو حاتم : لما دفن عمر رضي الله عنه تعمد عثمان بن عفان و
علي بن أبي طالب و طلحة بن عبيد الله و الزبير بن العوام و عبد الرحمن و
سعد يتشاورون فأشار عثمان على عبد الرحمن بالدخول في الأمر فأبى عبد
الرحمن و قال : لست بالذي أنافسكم على هذا الأمر و إن شئتم اخترت لكم منكم
واحدا فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فلما ولي ذلك مال الناس كلهم إليه
و تركوا أولئك الآخرين فأخذ عبد الرحمن يتشاور في تلك الليالي الثلاث حتى
إذا كان من الليلة التي بايع عثمان بن عفان من غدها جاء إلى باب المسور بن
مخرمة بعد هوي من الليل فضرب الباب و قال : ألا أراك نائما ؟ والله ماكحلت
منذ الليلة بكثير نوم ادع لي الزبير و سعدا فدعاهما فشاورهما ثم أرسله إلى
عثمان بن عفان فدعاه فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن فلما صلوا الصبح
اجتمعوا و أرسل عبد الرحمن إلى من حضر من المهاجرين و الأنصار و أمراء
الأجناد ثم خطبهم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني نظرت في
أحوال الناس و شاورتهم فلم أجدهم يعدلون بعثمان ثم قال : يا عثمان !
نبايعك على سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم و الخليفتين من بعده ! قال
: نعم فبايعه عبد الرحمن و بايعه المهاجرون و الأنصار و أمراء الأجناد و
المسلمون و ذلك لغرة المحرم
و بعد دفن عمر بثلاثة أيام في هذه السنة
كان فتح همذان ثانيا و كانت قد انتقضت على أميرها المغيرة بن شعبة على رأس
ستة أشهر من مقتل عمر وفي هذه السنة سار إليها أبو موسى الأشعري بأهل
البصرة حتى فتحها صلحا معه البراء ابن عازب و قرظة بن كعب و كان عمر بن
الخطاب قد قتل و حذيفة قد افتتحها و جيشه كان عليها المسلمون ثم انتقضوا
حتى غزاهم أبو موسى و خرج عثمان بن عفان يوم الفطر إلى المصلى يكبر و يجهر
بالتكبير حتى صلى العيد و انصرف و بعث على الحج عبد الرحمن بن عوف فخطبهم
عبد الرحمن قبل التروية بيوم بمكة بعد الظهر فلما زاغت الشمس خرج إلى منى
و حج و نفر النفر الأول و كان قد ساق معه بدنات فنحرها في منحر رسول الله
صلى الله عليه و سلم
فلما دخلت السنة الخامسة و العشرين غزا معاوية
أرض الروم و فتح الحصون و ولد له ابن يزيد بن معاوية ثم نقضت الإسكندرية
الصلح الذي صالحهم عمرو بن العاص عليه فغزاهم عمرو و ظفر بهم و سباهم و
بعث السبي إلى المدينة فردهم عثمان إلى ذمتهم و قال : إنهم كانوا صلحا و
الذرية لا تنقض الصلح و إنما تنقض الصلح المقاتلة و نقض المقاتلة الصلح
ليس يوقع السبي على ذراريهم
ثم عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاص عن
الإسكندرية و مصر و ولاهما عبد الله سعد بن أبي سرح فوجد عمرو من ذلك و
كان بدء الشر بينه و بين عثمان عزله عن مصر و الإسكندرية و كان عمرو قد
بعث جيشه إلى المغرب فأصابوا غنائم كثيرة فلما دخل عبد الله بن سعد مصر
واليا بعث جرائد الخيل إلى المغرب و استشار عثمان في إفريقية و عزل عثمان
سعدا عن الكوفة و ولى عليها الوليد بن عقبة بن أبي معيط فبعث الوليد سلمان
بن ربيعة الباهلي في اثني عشر ألفا إلى برذعة فافتتحها عنوة و قتل و سبى و
غزا البيلقان فصالحوه قبل أن يجيء إلى برذعة و بعث خيله إلى جرزان فصالحوه
و في هذه السنة كانت غزوة سابور الأولى ثم حج عثمان بالناس
قدم
معاوية المدينة وافدا على عثمان و بعث عثمان بن عفان عثمان بن أبي العاص
إلى فارس ففتح سائر الجنود و غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الإفريقية و
معه العبادلة : عبد الله بن عمر و عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمرو
فلقي جرجير في مائتي ألف بموضع يقال له سبيطلة على سبعين ميلا من القيروان
فقتلوا جرجير و سبوا و غنموا فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف مثقال ذهب و سهم
الراجل ألف مثقال و صالحه أهل تلك المدن إلى قيروان على مائة ألف رطل من
ذهب
و اعتمر عثمان و دخل مكة و كان بين الصفا و المروة و حل قبل أن
يصبح ثم رجع إلى المدينة و أمر بتوسعة المسجد الحرام و تجديد أنصاب الحرم
و تزوج عثمان بنت خالد بن أسيد ثم اعتمر عثمان في رجب و خرج معه عبد الله
بن جعفر و الحسين بن علي فمرض الحسين بن علي فأقام عبد الله بن جعفر عليه
بالسقيا و بعث إلى علي يخبره بذلك فخرج علي في نفر من بني هاشم إلى السقيا
فلما دخلها دعا ببدنة فنحرها و حلق رأسه و أقام على الحسين يمرضه فلما فرغ
عثمان من عمرته كلموه بأن يحول الساحل إلى جدة و كانوا قبل ذلك في
الجاهلية يرسون بالشعيبة و قالوا : جدة أقرب إلى مكة و أوسع و أقرب من كل
ناحية فخرج عثمان إلى جدة فرآها و رأى موضعها و أمرهم أن يجعلوها بمكان
الشعيبة فحول الساحل إلى جدة و دخل البحر و قال : إنه مبارك و قال لمن معه
: ادخلوا و لا يدخلها إلا بمئزر ثم خرج عثمان من جدة على طريق يخرجه إلى
عسفان ثم مضى إلى الجار فأقام بها يوما و ليلة ثم انصرف فمر بعلي بن أبي
طالب رضي الله عنه في منصرفه و هو يمرض الحسين مع جماعة من بني هاشم فقال
عثمان : قد أردت المقام عليه حتى تقدم و لكن الحسين عزم علي و جعل يقول :
امض لرهطك فقال علي : ما كان ذلك بشيء يفوتك هل كانت إلا عمرة إنما يخاف
الإنسان فوت الحج فأما العمرة فلا فقال عثمان : إني أحببت أن أدرك عمرة في
رجب فقال علي بن أبي طالب : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم اعتمر
في رجب قط و ما اعتمر عمراته الثلاث إلا في ذي القعدة ثم رجع عثمان إلى
المدينة ثم مضى علي مع الحسين إلى مكة
و افتتح عثمان بن أبي العاص
سابور الثانية على ثلاثة آلاف ألف و ثلاثمائة ألف صلحا و دخل في صلحهم
كازرون و بعث عثمان بن أبي العاص هرم بن حيان العبدي إلى قلعة بجرة على
ذلك و هي يقال لها قلعة الشيوخ فافتتحها عنوة و سبى أهلها و حج بالناس
عثمان بن عفان
استشار عثمان بن عفان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه و سلم في إفريقية فأشاروا عليه بذلك و كان عثمان يكره ذلك لأن عمر
كان يكرهه و يقول : إنها لا تحمل واليا مقتصدا فخرج عبد الله بن أبي سرح و
جلب عثمان إبلا كثيرة من الربذة و سرف و حمل عليها سلاحا كثيرا و سار
المسلمون معها يلحقون بعبد الله بن سعد بن أبي سرح فلما التقى المسلمون و
المشركون ألقى الله في قلوبهم الرعب و فض ذلك الجمع حتى طلبوا الصلح
فصالحهم عبد الله بن أبي سرح على ألفي ألف و خمسمائة ألف و عشرين ألفا
فلما كان العيد خطبهم عثمان و كان صادف العيد يوم الجمعة فقال : من كان من
أهل العالية و أحب أن يجتمع معنا فعل و إلا فليجلس في موضعه فافتتح عثمان
بن أبي العاص أرجان و دارابجرد و صالح أهلها على ألفي ألف و مائة
تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة و كانت على دين النصرانية فلما دخلت عليه
قال لها عثمان : إني شيخ كبير كما ترين قالت : أنا من نساء أحب الأزواج
إليهن الكهول قال : تقومين إلي أو آتيك ؟ قالت : ما جئت من سماوة كلب إليك
إلا و أنا أريد القيام إليك
و غزا معاوية البحر و معه عبادة بن
الصامت معه امرأته أم حرام بنت ملحان الأنصارية فأتى قبرس فتوفيت أم حرام
بها و قبرها هناك ثم كانت فتح فارس الأول على يدي هشام بن عامر و غزا
معاوية قبرس فلحقه عبد الله بن أبي سرح و أهل مصر و غنموا غنائم كثيرة و
غزا جبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم ثم كانت قبرس الآخرة أميرها هشام بن
عامر و اعتمر عثمان في رجب و معه عمرو بن العاص فأتى عثمان بلحم صيد
فأمرهم بأكله فقال له عمرو بن العاص : لا تأكل و لا تأمرنا به فقال عثمان
: لست آكل منه شيئا لأنه صيد من أجلي فكان بين عثمان و عمرو كلام كان ذلك
أول ملاحاة كانت بينهما و في هذه السنة بنى عثمان دار بالزوراء ثم حج
عثمان بالناس
عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة و كان عاملا
عليها سبع سنين و عزل عثمان بن أبي العاص عن فارس و ولى ذلك كله عبد الله
بن عامر بن كريز و هو يومئذ ابن خمس و عشرين سنة فقدم البصرة ثم خرج عبد
الله بن عامر إلى فارس على مقدمته عبيد الله بن معمر التيمي فقتل عبيد
الله و فتح إصطخر الثانية عنوة فقتل و سبى فكان ذلك إصطخر الآخرة و قد قيل
: في هذه السنة فتح سارية بن زنيم الدئلي أصبهان صلحا و عنوة بأهل البصرة
بعثه ابن عامر
و ضاق مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم على الناس
فكلموا عثمان في توسعته فأمر بتوسعته فكان عثمان يركب على راحلته و يقوم
على العمال و هم يعملون حتى يجيء وقت الصلاة فيترك و يصلي بهم و ربما قال
في المسجد و نام فيه حتى جعل أعمدته من حجارة وفرش فيها الرضراض و بناه
بالحجارة المنقوشة و الساج وجعل له ستة أبواب ثم نقضت حلوان الصلح
فافتتحها ابن عامر عنوة و رجم عثمان امرأة من جهينة أدخلت على زوجها فولدت
في ستة أشهر من يوم أدخلت عليه فأمر بها عثمان فرجمت فدخل علي على عثمان
فقال له : إن الله يقول : { حمله و فصله ثلثون شهرا } فأرسل عثمان في
طلبها فوجدها قد رجمت فاعترف الرجل بالغلام و كان من أشبه الناس به
زاد عثمان النداء الثاني على الزوراء حيث كثر الناس و انتقصت آذربيجان فغزاها سعيد بن العاص ففتحها ثم غزا جرجان ففتحها و مات الطفيل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف و سقط خاتم رسول الله صلى الله عليه و سلم في بئر أريس على ميلين من المدينة و كانت من أقل تلك الآبار ماء فطلب فلم يوجد إلى الساعة و غزا ابن عامر في هذه السنة جور فافتتحها و أصاب بها غنائم كثيرة و افتتح الكاريان و الفنسجان من دارابجرد ولم يكونا أدخلا في علم عثمان بن أبي العاص ثم افتتح ابن عامر أردشير خرة عنوة فقتل و سبى و هرب يزدجرد فاتبعه ابن عامر مجاشع بن مسعود السلمي حتى نزل على السيرجان و بعث راشد بن عمرو الجديدي ففتح هرمز و وجه ابن عامر زياد بن الربيع الحارتي إلى سجستان فافتتح زالق و ناشروذ ثم بعث زياد بن الربيع إبراهيم بن بسام مولى بني ليث حتى حاصر مدينة زرنج فصالحوه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب و مات مسعود بن الربيع و كان من أهل بدر و مات الحصين بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف أخو الطفيل بن الحارث ثم حج عثمان بالناس و صلى بمنى أربعا
فتحت أرمينية الآخرة و أميرها حبيب بن مسلمة الفهري و ذلك
أن عثمان كتب إلى حبيب بن مسلمة أن سر من الشام في جيش إلى أرمينية فمضى
حبيب بن مسلمة من ناحية درب الحدث فافتتح خلاط و سراج و وادي المطامير و
مات أبو سفيان بن حرب و هو ابن ثمان و ثمانين سنة ثم خرج ابن عامر إلى
خراسان و على مقدمته الأحنف بن قيس فلقي أهل هراة فهزمهم و افتتح أبرشهر
صلحا و قد قيل : عنوة ثم افتتح طوس و ما حولها ثم صالح أهل سرخس على مائة
ألف و خمسين ألفا
و بعث أبو عامر الأسود بن كلثوم العدوي إلى بيهق
فافتتحها و قتل بها و بعث أهل مرو يطلبون الصلح فصالحهم ابن عامر على ألفي
ألف و مائتي ألف و كان الذي صالحه ماهويه بن أوزمهر مرزبان مرو ثم بعث ابن
عامر الأحنف ابن قيس إلى مرو الروذ و الفارياب و الطالقان و افتتح
طخارستان و قتل منهم ثلاثة عشر نفسا ثم خرج الأحنف إلى بلخ فصالحوه على
أربعمائة ألف درهم ثم أتى خوارزم فلم يطقها فرجع و بعث ابن عامر خليد بن
عبد الله بن زهير الحنفي إلى باذغيس و هراة فافتتحها ثم ارتدوا بعد و غزا
عبد الله ابن سعد بن أبي سرح أرض الروم في ناحية المصيصية و غنم ثم رجع و
حج بالناس عثمان
مات عبد الله بن مسعود بالمدينة و دفن بالبقيع و صلى عليه عثمان بن عفان و مات عبد الرحمن بن عوف و هو ابن خمس و سبعين سنة و مات العباس بن عبد المطلب و هو ابن خمس و ثمانين سنة لأن العباس ولد قبل الفيل بثلاثة سنين و مات عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أرى النداء و مات أبو طلحة الأنصاري زيد بن سهل و غزا معاوية غزوة مضيق القسطنطينية و معه امرأته عاتكة بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف و قد قيل : إن اسمها فاختة و فيها غزا سعيد بن العاص طبرستان
مات المقداد بن عمرو بن ثعلبة على ثلاثة أميال من المدينة و حمل على أعناق الرجال إلى المدينة و صلى عليه عثمان بن عفان و دفن بالبقيع و غزا معاوية ملطية و قرطبة من أرض الروم و جمع قارن جمعا كثيرا ببادغس وهراة و أقبل في أربعين ألفا و قام بأمر الناس عبد الله بن خازم السلمي فلقي قارن و هزم أصحابه و أصابوا سبيا كثيرا ثم بعث ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب إلى سجستان فصالحه صاحب زرنج فأقام عبد الرحمن بها و تحرك أهل إفريقية فزحف إليهم عبد الله بن أبي سرح فكانت إفريقية الثانية و غزا معاوية حصن المرأة من بلاد الروم من ناحية ملطية و حج بالناس عثمان
مات مسطح بن أثاثة من أهل بدر و غزا عبد الله بن سعد بن أبي سرح الصواري من أرض مصر و قاتل منهم مقتلة عظيمة و ذلك أن المسلمين و عدوهم جميعا كانوا في البحر فالتقوا فاقتلوا قتالا شديدا من غير رمي بالسهم و لا طعن بالرمح إنما كان ضرب السيف أو الطعن بالخنجر حتى قتل من أرض الروم خلق كثير و هزم الله الروم منكوبين و انصرف المسلمون غانمين و مات عبادة بن صامت بالرملة و هو ابن اثنتين و سبعين سنة و مات عاقل بن البكير من بني سعد بن الليث من أهل بدر و مات أبو عبس بن جبر بالمدينة و هو من أهل بدر و حج عثمان بالناس
خرج جماعة من أهل مصر إلى عثمان يشكون ابن أبي سرح و يتكلمون منه فكتب
إليه عثمان كتابا و هدده فيه فأبى ابن أبي السرح أن يقبل من عثمان و ضرب
بعض من أتاه من قبل عثمان متظلما و قتل رجلا من المتظلمة فخرج من أهل مصر
سبعمائة رجل فيهم أربعة من الرؤساء : عبد الرحمن بن عديس البلوي و عمرو بن
الحمق الخزاعي و كنانة بن بشر بن عتاب الكندي و سودان بن حمران المرادي
فساروا حتى قدموا المدينة و نزلوا مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم و
شكوا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن
أبي سرح فقام طلحة بن عبيد الله إلى عثمان بن عفان و كلمه الكلام الشديد و
أرسلت إليه عائشة : قدم عليك أصحاب محمد و سألوك عزل هذا الرجل فأبيت ذلك
بواحدة و هذا قد قتل منهم رجلا فأنصفهم منة عاملك و كان عثمان يحب قومه ثم
دخل عليه علي بن أبي طالب فقال : سألوك رجلا مكان رجل و قد ادعوا قبله دما
فاعزله عنهم و اقض بينهم فإن وجب عليه حق فأنصفهم منه فقال لهم عثمان :
اختاروا رجلا أوليه عليكم مكانه فأشار الناس عليه بمحمد بن أبي بكر فقالوا
لعثمان : استعمل علينا محمد بن أبي بكر فكتب عهده و ولاه مصر فخرج محمد بن
أبي بكر واليا على مصر بعهده و معه عدة من المهاجرين و الأنصار ينظرون
فيما بين أهل مصر و بين ابن أبي سرح فلما بلغوا مسيرة ثلاثة ليال من
المدينة إذا هم بغلام أسود على بعير له يخبط البعير خبطا كأنه رجل يطلب أو
يطلب فقالوا له : ما قصتك و ما شأنك كأنك هارب أو طالب ؟ قال : أنا غلام
أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر قالوا : هذا عامله معنا قال : ليس هذا
أريد ـ و مضى فأخبر محمد بن أبي بكر بأمره فبعث في طلبه أقواما فردوه فلما
جاءوا به قال له محمد : غلام من أنت ؟ فأقبل مرة يقول : أنا غلام أمير
المؤمنين و مرة يقول : أنا غلام مروان فعرفه رجل منهم أنه لعثمان فقال له
محمد بن أبي بكر لمن أرسلت ؟ قال : إلى عامل مصر قال : بماذا ؟ قال :
برسالة قال : أمعك كتاب ؟ قال : لا ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا و كان معه
إدواة قد يبست و فيها شيء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا الإدواة
فإذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرح فجمع محمد بن أبي بكر من كان معه
من المهاجرين و الأنصار و غيرهم ثم فك الكتاب بحضرتهم فإذا فيه : إذا أتاك
محمد بن أبي بكر و فلان و فلان فاحتل لقتلهم و أبطل كتابه و قر على عملك و
احبس من يجيء إلي يتظلم منك حتى يأتيك رأيي في ذلك إن شاء الله فلما قرأوا
الكتاب فزعوا و أزمعوا و رجعوا إلى المدينة و ختم محمد بن أبي بكر الكتاب
بخواتم جماعة من المهاجرين معه و دفع الكتاب إلى رجل منهم و انصرفوا إلى
المدينة فلما قدموها جمع محمد بن أبي بكر عليا و طلحة و الزبير و سعدا و
من كان بها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم فك الكتاب بحضرتهم
عليه خواتم من معه من المهاجرين و أخبرهم بقصة الغلام فلم يبق أحد من
المدينة إلا حنق على عثمان و قام أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
فلحقوا بمنازلهم و ما منهم أحد إلا هو مغتم و كانت هذيل و بنو زهرة في
قلوبها ما فيها على عثمان لحال ابن مسعود و كانت بنو مخزوم قد حنقت على
عثمان لحال عمار ابن ياسر و كانت بنو غفار و أحلافها و من غضب لأبي ذر في
قلوبهم ما فيها و أجلب عليه محمد بن أبي بكر من بني تيم و أعانه على ذلك
طلحة بن عبيد الله و عائشة فلما رأى ذلك علي و صح عنده الكتاب بعث إلى
طلحة و الزبير و سعد و عمار و نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
كلهم بدريون ثم جاء معهم حتى دخل على عثمان و معه الكتاب و الغلام و
البعير فقال له : هذا الغلام غلامك ؟ قال : نعم قال : و البعير بعيرك ؟
قال : نعم قال : فأنت كتبت هذا الكتاب ؟ قال : لا و حلف بالله أنه ما كتب
هذا الكتاب و لا أمر به فقال له علي : فالخاتم خاتمك ؟ قال : نعم قال علي
: فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك لا تعلم به ؟ فحلف عثمان
بالله : ما كتبت هذا الكتاب و لا أمرت به و لا وجهت هذا الغلام قط إلى مصر
و أما الخط فعرفوا أنه خط مروان فلما شكوا في أمر عثمان سألوه أن يدفع
إليهم مروان فأبى و كان مروان عنده في الدار و كان خشي عليه القتل فخرج من
عنده علي و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و علموا أن عثمان لا يحلف
باطلا ثم قالوا : لا نسكت إلا أن يدفع إلينا مروان حتى نبحث و نتعرف منه
ذلك الكتاب و كيف يؤمر بقتل رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
بغير حق ! فإن يك عثمان كتب ذلك عزلناه و إن يك مروان كتبه على لسان عثمان
نظرنا ما يكون في أمر مروان و لزموا بيوتهم و فشا الخبر في المسلمين من
أمر الكتاب و فقد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عثمان و خرج من
الكوفة عدي بن حاتم الطائي و الأشتر مالك بن الحارث النخعي في مائتي رجل و
خرج من البصرة حكيم بن جبلة العبدي في مائة رجل حتى قدموا المدينة يريدون
خلع عثمان و حوصر عثمان قبل هلال ذي القعدة بليلة و ضيق عليه المصريون و
البصريون و أهل الكوفة بكل حيلة و لم يدعوه يخرج و لا يدخل إليه أحد إلا
أن تأتيه المؤذن فيقول : الصلاة ! و قد منعوا المؤذن أن يقول : يا أمير
المؤمنين فكان إذا جاء وقت الصلاة بعث أبا هريرة يصلي بالناس و ربما أمر
ابن عباس بذلك فصعد يوما عثمان على السطح فسمع بعض الناس يقول : ابتغوا
إلى قتله سبيلا فقال : و الله ما أحل الله و لا رسوله قتلي سمعت رسول الله
صلى الله عليه و سلم يقول : [ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدى ثلاث : كفر
بعد إسلام أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس ] و ما فعلت من ذلك شيئا
ثم قال : لا أخلف رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمته بإراقة محجمة دم
حتى ألقاه يا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ! أحبكم إلي من كف
عنا لسانه و سلاحه ثم أشرف عليهم فقال : أفيكم علي ؟ قالوا : لا قال :
أفيكم سعد ؟ قالوا : لا فقال : أذكركم بالله هل تعلمون أن رومة لم يكن
يشرب منها أحد إلا بشيء فابتعتها من مالي و جعلتها للغني و الفقير و ابن
السبيل فقالوا : نعم قال : فاسقوني منها ثم قال : ألا أحد يبلغ عليا
فيسقينا ماء ؟ فبلغ ذلك عليا فبعث إليه بثلاث قرب مملوءة فما كادت تصل
إليه حتى خرج في سببها عدة من بني هاشم و بني أمية حتى وصل الماء إليه ثم
قال عثمان : و الله ! لو كنت في أقصى داري ما طلبوا غيري و لو كنت أدناهم
ما جاوزني إلى غيري سنجتمع نحن و هم عند الله و سترون بعدي أمورا تتمنون
أني عشت فيهم ضعف أمري و الله و ما أرغب في أمارتهم و لولا قول رسول الله
صلى الله عليه و سلم لي [ إذا ألبسك الله قميصا و أرادوك على خلعه فلا
تخلعه ] لحبست في بيتي و تركتكم و إمارتكم و و الله ! لو فعلت ما تركوني و
إنهم قد خدعوا و غروا و الله ! لو أقتل لمت لقد كبر سني و رق عظمي و جاوزت
أسنان أهل بيتي و هم على هذا لا يريدون تركي اللهم ! فشتت أمرهم و خالف
بين كلمتهم و انتقم لي منهم و اطلبهم لي طلبا حثيثا و قد استجيب دعاءه في
كل ذلك
ثم أمر عثمان بن عفان عبد الله بن عباس على الحج فحج بالناس
فأمره و بعث إلى الأشتر فدعاه فقال : يا أشتر ! ما يريد الناس ؟ قال :
ثلاث ليس من إحداهن بد إما أن تخلع أمرهم و تقول : هذا أمركم فاختاروا له
من شئتم و إما أن تقص من نفسك فإن أبيتهما فالقوم قاتلوك قال عثمان : إما
أن أخلع لهم أمرهم فما كنت لأخلع سربالا سربلينه الله و الله لأن أقدم
فتضرب عنقي أحب إلي من أخلع أمة محمد صلى الله عليه و سلم بعضها على بعض و
أما أن أقص من نفسي فو الله لقد علمتم أني لم آت شيئا يجب علي القصاص فيه
و أما أن تقتلوني فو الله إن تقتلوني لا تتحابون بعدي ! و لا تقاتلون بعدي
عدوا جميعا و لتختلفن حتى تصيروا هكذا { يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن
يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } ـ الآية ثم أرسل إلى عبد الله بن سلام فجاءه
فقال : الكف الكف ! ثم جاءه زيد بن ثابت فقال : يا أمير المؤمنين ! هذه
الأنصار بالباب فقال عثمان : إن شاءوا أن يكونوا أنصار الله منكم و إلا
فلا ثم جاءه عبد الله بن الزبير فقال : يا أمير المؤمنين ! اخرج فقاتلهم
فإن معك من قد نصر الله بأقل منهم فلم يعرج على قول ابن الزبير ثم قال :
ائتوني برجل منهم أقرأ عليه كتاب الله فأتوه بصعصعة بن صوحان و كان شابا
فقال : ما وجدتم أحدا تأتوني به غير هذا الشاب ! فتكلم صعصعة بكلام فقال
عثمان : { أذن للذين يقتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير } فلما
اشتد بعثمان الأمر أصبح صائما يوم الجمعة و قال : إني رأيت النبي صلى الله
عليه و سلم في المنام فقال لي : [ يا عثمان ! إنك تفطر عندنا الليلة ] ثم
قال علي للحسن و الحسين : اذهبا بسيفكما حتى تقفا على باب عثمان و لا تدعا
أحدا يصل إليه و بعث الزبير ابنه و بعث طلحة ابنه و بعث عدة من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه و سلم أبناءهم يمنعون الناس أن يدخلوا على عثمان و
رماه الناس بالسهام حتى خضب الحسن بالدماء و تخضب محمد بن طلحة و شج قنبر
مولى علي ثم أخذ محمد بن أبي بكر بيد جماعة و تسور الحائط من غير أن يعلم
به أحد من دار رجل من الأنصار حتى دخلوا على عثمان و هو قاعد و المصحف في
حجره و معه امرأته و الناس فوق السطح لا يعلم أحد بدخولهم فقال عثمان
لمحمد بن أبي بكر : والله لو رآك أبوك لساءه مكانك مني ! فرجع محمد و تقدم
إليه سودان بن رومان المرادي و معه مشقص فوجأه حتى قتله و هو صائم ثم
خرجوا هاربين من حيث دخلوا و ذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة مضت من ذي
الحجة و كان تمام حصاره خمسة و أربعين يوما و كانت امرأته تقول : إن شئتم
قتلتموه و إن شئتم تركتموه ! فإنه كان يختم القرآن كل ليلة في ركعة ثم
صعدت إلى الناس تخبرهم و همر الناس عليه فدخلوا و أول من دخل عليه الحسن و
الحسين فزعين و هما لا يعلمان بالكائنة و كانا مشغولين على الباب ينصرانه
و يمنعان الناس عنه فلما دخلوا وجدوا عثمان مذبوحا فانكبوا عليه يبكون و
دخل الناس فوجا فوجا و بلغ الخبر علي بن أبي طالب و طلحة و الزبير و سعدا
فخرجوا مذهلين كادت عقولهم تذهب لعظم الخبر الذي أتاهم حتى دخلوا على
عثمان فوجدوه مقتولا و استرجعوا و قال علي لابنيه : كيف قتل أمير المؤمنين
و أنتما على الباب ؟ قالا : لم نعلم قال : فرفع يده و لطم الحسن و ضرب صدر
الحسين و شتم محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير ثم خرج وهو غضبان يسترجع
فلقيه طلحة بن عبيد الله فقال : ما لك يا أبا الحسن ؟ فقال علي : يقتل
أمير المؤمنين رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم من غير أن تقوم عليه
بينة و لا حجة ! فقال له طلحة : لو دفع مروان إليهم لم يقتلوه فقال علي :
لو خرج مروان إليكم لقتلتموه قبل أن يثبت عليه حكومة ! ثم أتى علي منزله
يسترجع فاشتغل الناس بعضهم ببعض و فزعوا و لم يتوهموا بأن هذه الكائنة
تكون ثم حمل على سريره بين المغرب و العشاء و صلى عليه جبير بن مطعم و
دلته في قبره نائلة بنت الفرافصة و أم البنين بنت عيينة بن حصن بن بدر
الفزاري و دفن ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة و كانت
خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوما
و قتل يوم قتل عثمان من
قريش عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي و عبد الله ابن عبد الرحمن بن العوام
و المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي و قتل معهم غلام لعثمان أسود ـ أربعة
أنفس
و كان عمال عثمان حين قتل : على البصرة عبد الله بن عامر بن
كريز و على الكوفة سعد بن أبي وقاص و على الشام معاوية بن أبي سفيان و على
مصر محمد بن أبي حذيفة و على مكة عبد الله بن الحضرمي و على الطائف القاسم
بن ربيعة الثقفي و على صنعاء يعلى بن منبه و على الجند عبد الله بن أبي
ربيعة
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة
بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن
مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان أبو الحسن الهاشمي و أمه
فاطمة بنت أسد بن هشام بن عبد مناف و هاشم أخو هشام و من زعم أنه أسد بن
هاشم بن عبد مناف فقد وهم
[ أخبرنا محمد بن إسحاق الثقفي ثنا قتيبة
بن سعيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال :
كان علي قد تخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في خيبر و كان به رمد
فقال : أنا أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ! فخرج فلحق بالنبي
صلى الله عليه و سلم فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم : لأعطين الراية ـ أو ليأخذن الراية ـ غدا
رجل يحبه الله و رسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي و ما نرجوه فقالوا :
هذا علي فأعطاه رسول الله صلى الله عليه و سلم ففتح الله عليه ]
قال
أبو حاتم : لما كان من أمر عثمان ما كان قعد علي في بيته و أتاه الناس
يهرعون إليه كلهم يقولون : أمير المؤمنين علي حتى دخلوا عليه داره و قالوا
: نبايعك فإنه لا بد من أمير و أنت أحق فقال علي : ليس ذلك إليكم إنما ذلك
لأهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة فلم يبق أحد من أهل بدر إلا أتى
عليا يطلبون البيعة و هو يأبى عليهم فجاء الأشتر مالك بن الحارث النخعي
إلى علي فقال له : ما يمنعك أن تجيب هؤلاء إلى البيعة ؟ فقال : لا أفعل
إلا عن ملأ و شورى و جاء أهل مصر فقالوا : ابسط يدك نبايعك فو الله ! لقد
قتل عثمان و كان قتله لله رضى فقال علي : كذبتم و الله ما كان قتله لله
رضى ! لقد قتلتموه بلا قود و لا حد و لا غيره و هرب مروان فطلب فلم يقدر
عليه فلما رأى ذلك علي منهم خرج إلى المسجد و صعد المنبر و حمد الله و
أثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا أيها الناس ! رضيتم مني أن أكون عليكم
أميرا ؟ فكان أول من صعد إليه المنبر طلحة فبايعه بيده و كان إصبع طلحة
شلاء فرآه أعرابي يبايع فقال : يد شلاء و أمر لا يتم فتطير علي منها و قال
: ما أخلقه أن يكون كذلك ثم بايعه الزبير و سعد و أصحاب رسول الله صلى
الله عليه و سلم ثم بلغ عليا أن سعدا و ابن عمر و محمد بن مسلمة يذكرون
هنات فقام علي خطيبا فحمد الله و أثنى عليه فقال : أيها الناس ! إنكم
بايعتموني على ما بايعتم عليه أصحابي فإذا بايعتموني فلا خيار لكم علي و
على الإمام الاستقامة و على الرعية التسليم و هذه بيعة عامة فمن ردها رغب
عن دين المسلمين و اتبع غير سبيلهم و لم تكن بيعته إياي فلتة و ليس أمري و
أمركم واحدا أريد الله و تريدونني لأنفسكم و أيم الله ! لأنصحن الخصم و
لأنصفن المظلوم
و قد أكثر الناس في قتل عثمان فمنهم من قد زعم أنه
قتل ظالما و منهم من قد زعم أنه قتل مظلوما و كان الإكثار في ذلك على طلحة
و الزبير قالت قريش : أيها الرجلان ! إنكما قد وقعتما في ألسن الناس في
أمر عثمان فيما وقعتما فيه فقام طلحة في الناس فحمد الله و أثنى عليه و
صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : أيها الناس ! ما قلنا في
عثمان أمس إلا نقول لكم فيه اليوم مثله أنه خلف الدنيا بالتوبة و مال عليه
قوم فقتلوه و أمره إلى الله ثم قام الزبير فحمد الله و أثنى عليه بما هو
أهله و صلى على النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال : يا أيها الناس ! إن
الله اختار من كل شيء شيئا و اختار من الناس محمدا صلى الله عليه و سلم
أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون و اختار
من الشهور رمضان و أنزل فيه القرآن و فرض فيه الصيام و اختار من الأيام
يوم الجمعة فجعله عيدا لأهل الإسلام و اختار من البلدان هذين الحرمين :
مكة و المدينة فجعل بمكة البيت الحرام و جعل بالمدينة حرم رسول الله صلى
الله عليه و سلم و جعل ما بين قبره و منبره روضة من رياض الجنة و اختار من
الشورى التسليم كما اختار هذه الأشياء فأذهبت الشورى بالهوى و التسليم
بالشك قد تشاورنا فرضينا عليا و أما إن قتل عثمان فأمره إلى الله
فلما رأى علي اختلاف الناس في قتل عثمان صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه
ثم قال : أيها الناس ! أقبلوا علي بأسماعكم و أبصاركم إن الناس بين حق و
باطل فلئن علا أمر الباطل لقديما ما فعل و إن يكن الحق قد غاب فلعل و إني
أخاف أن أكون أنا و أنتم قد أصبحنا في فتنة و ما علينا فيها إلا الاجتهاد
الناس اثنان و ثلاثة لا سادس لهم : ملك طار بجناحيه أو نبي أخذ الله بيده
أو عامل مجتهد أو مؤمل يرجو أو مقصر في النار و إن الله أدب هذه الأمة
بأدبين : بالسيف و السوط لا هوادة عند السلطان فيهما فاستتروا و استغفروا
الله فأصلحوا ذات بينكم
ثم نزل و عمد إلى بيت المال و أخرج ما فيه و
فرقه على المسلمين ثم بعث إلى سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و محمد
بن مسلمة فقال : لقد بلغني عنكم هنات فقال سعد : صدقوا ! لا أبايعك و لا
أخرج معك حيث تخرج حتى تعطيني سيفا يعرف المؤمن من الكافر و قال له ابن
عمر : أنشدك الله و الرحم أن تحملني على ما لا أعرف و الله ! لا أبايع حتى
يجتمع المسلمون على من جمعهم الله عليه و قال محمد بن مسلمة : إن رسول
الله صلى الله عليه و سلم أمرني إذا اختلف أصحابه ألا أدخل فيما بينهم و
أن أضرب بسيفي صخر أحد فإذا انقطع أقعد في بيتي حتى تأتيني يد خاطئة أو
منية قاضية و قد فعلت ذلك ثم دعا علي أسامة بن زيد و أراده على البيعة
فقال أسامة : أما البيعة فإنني أبايعك أنت أحب إلي و آثرهم عندي و أما
القتال فإني عاهدت رسول الله صلى الله عليه و سلم أن لا أقاتل رجلا يشهد
أن لا إله إلا الله فلما رآهم علي مختلفين قال : أخرجوني من هذه البيعة و
اختاروا لأنفسكم من أحببتم فسكتوا و قاموا و خرجوا فدخل عليه المغيرة بن
شعبة فقال : يا أمير المؤمنين ! إني مشير عليك بخلال ثلاث فافعل أيها شئت
فقال : ما هي يا أعور ؟ فقال : إني أرى من الناس بعض التثاقل فيك فأرى أن
تأتي بحمل ظهر فتركبه و تركض في الأرض هاربا من الناس فإنهم إذا رأوا ذلك
منك ابتاعوا جمالا أظهر من جمالك و خيولا ثم ركضوا في أثرك حتى يدركوك حيث
ما كنت و يقلدوك هذا الأمر على اجتماع منهم شئت أو أبيت فإن لم تفعل هذا
فأقر معاوية على الشام كله و اكتب إليه كتاب بذلك تذكر فيه من شرفه و شرف
آبائه و أعلمه أنك ستكون له خيرا من عمر و عثمان و اردد عمرو بن العاص على
مصر و اذكر في كتابك شرفه و قدمه فإنه رجل يقع الذكر منه موقعا فإذا ثبت
الأمر أذنت لهما حينئذ في القدوم عليك تستخبرهما عن البلاد و الناس ثم
تبعث بعامين و تقرهما عندك فإن أبيت فاخرج من هذه البلاد فإنها ليست ببلاد
كراع و سلاح
فقال علي : أما ما ذكرت من فراري من الناس فكيف أفر
منهم و قد بايعوني و أما أمر معاوية و عمرو بن العاص فلا يسألني الله عن
إقرارهما ساعة واحدة في سلطاني { و ما كنت متخذ المضلين عضدا } و أما
خروجي من هذه البلاد إلى غيرها فإني ناظر في ذلك فخرج من عنده المغيرة ثم
عاد و هو عازم على الخروج إلى الشام و اللحوق بمعاوية فقال له : يا أمير
المؤمنين ! أشرت عليك بالأمس في رأيي بمعاوية و عمرو إن الرأي أن تعاجلهم
بالنزع فقد عرف السامع من غيره و تستقبل أمرك ثم خرج من عنده فلقيه ابن
عباس خارجا و هو داخل فلم انتهى إليه قال : رأيت المغيرة خارجا من عندك
فيم جاءك ؟ قال : جاءني أمس برأي و اليوم برأي وأخبره بالرأيين فقال ابن
عباس : أما أمس فقد نصحك وأما اليوم فقد غشك قال : فما الرأي ؟ قال ابن
عباس : كان الرأي قبل اليوم قال علي : علي ذلك ! قال : كان الرأي أن تخرج
إلى مكة حتى تدخلها و تدخل دارا من دورها و تغلق عليك بابك فإن الناس لم
يكونوا ليدعوك و إن قريشا كانت تضرب الصعب و الذلول في طلبك لأنها لا تجد
غيرك فأما اليوم فإن بني أمية يستحسون الطلب بدم صاحبهم و يشبهون على
الناس إن يلزموك شعبة من أمره و يلطخونك من ذلك ببعض اللطخ فهم علي
بالنهوض إلى الشام ليزور أهلها و ينظر ما رأى معاوية و ما هو صانع فجاءه
أبو أيوب الأنصاري فقال له : يا أمير المؤمنين ! لو أقمت بهذه البلاد !
لأنها الدرع الحصينة و مهاجرة للنبي صلى الله عليه و سلم و بها قبره و
منبره و مادة الإسلام فإن استقامت لك العرب كنت فيها كمن كان و أن تشعب
عليك قوم رميتهم بأعدائهم و إن ألجئت حينئذ إلى المسير سرت و قد أعذرت
فقال علي : إن الرجال و الأموال بالعراق و لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا
ثم أخذ بما أشار عليه أبو أيوب الأنصاري و عزم على المقام بالمدينة و بعث
العمال على الأمصار فبعث عثمان بن حنيف على البصرة أميرا و عمارة بن حسان
ابن شهاب على الكوفة و عبيد الله بن عباس على اليمن و قيس بن سعد على مصر
و سهل بن حنيف على الشام فأما سهل بن حنيف فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك
لقيه خيل من أهل الشام فقالوا له : من أنت ؟ قال : أمير قالوا : على أي
شيء ؟ قال : على الشام قالوا : إن كان عثمان بعثك فحي هلا بك و إن كان
بعثك غيره فارجع قال : ما سمعتم بالذي كان ؟ قالوا : بلى و لكن ارجع إلى
بلدك فرجع إلى علي و إذا القوم أصحاب
و أما قيس بن سعد فإنه انتهى
إلى إيلة فلقيه طلائع فقالوا له : من أنت ؟ فقال أنا من الأصحاب الذين
قتلوا و شردوا من البلاد فأنا أطلب مدينة آوي إليها فقالوا : و من أنت ؟
قال : أنا قيس بن سعد بن عبادة فقالوا : امض بنا فمضى قيس حتى دخل مصر و
أظهر لهم حاله و أخبرهم أنه ولي على مصر فافترق عليه أهل مصر فرقا : فرقة
دخلت في الجماعة و بايعت و فرقة أمسكت و اعتزلت و فرقة قالت : إن قيد من
قتلة عثمان فنحن معه و إلا فلا فكتب قيس بن سعد بجميع ما رأى من أهل مصر
إلى علي
و أما عبيد الله بن عباس فإنه خرج منطلقا إلى اليمن لم
يعانده أحد و لم يصده عنها صاد حتى دخلها فضبطها لعلي و أما عمارة بن حسان
بن شهاب فإنه أقبل عامدا إلى الكوفة حتى إذا كان بزبالة لقيه طليحة بن
خويلد الأسدي و هو خارج إلى المدينة يطلب دم عثمان فقال طليحة : من أنت ؟
قال : أنا عمارة بن حسان بن شهاب قال : ما جاء بك ؟ قال : بعثت إلى الكوفة
أميرا قال : و من بعثك ؟ قال : أمير المؤمنين علي قال : الحق بطيتك فإن
القوم لا يريدون بأميرهم أبي موسى الأشعري بدلا فرجع عمارة إلى علي و
أخبره الخبر و أقام طليحة بزبالة
و أما عثمان بن حنيف فإنه مضى يريد
البصرة و عليها عبد الله بن عامر بن كريز و بلغ أهل البصرة قتل عثمان فقام
ابن عامر فصعد المنبر و خطب و قال : إن خليفتكم قتل مظلوما و بيعته في
أعناقكم و نصرته ميتا كنصرته حيا و اليوم ما كان أمس و قد بايع الناس عليا
و نحن طالبون بدم عثمان فأعدوا للحرب عدتها فقال له حارثة بن قدامة : يا
ابن عامر ! إنك لم تملكنا عنوة و قد قتل عثمان بحضرة المهاجرين و الأنصار
و بايع الناس عليا فإن أقرك أطعناك وإن عزلك عصيناك فقال ابن عامر : موعدك
الصبح فلما أمسى تهيأ للخروج و هيأ مراكبه و ما يحتاج إليه المسلمون و
اتخذ الليل جملا يريد المدينة و استخلف عبد الله بن عامر الحضرمي على
البصرة فأصبح الناس يتشاورون في ابن عامر و أخبروا بخروجه فلما قدم ابن
عامر المدينة أتى طلحة و الزبير فقالا له : لا مرحبا بك و لا أهلا ! تركت
العراق و الأموال و أتيت المدينة خوفا من علي و وليتها غيرك و اتخذت الليل
جملا فهلا أقمت حتى يكون لك بالعراق فئة قال ابن عامر : فأما إذا قلتما
هذا فلكما علي مائة سيف و ما أردتما من المال
ثم أتت أم كلثوم بنت
علي أباها و كانت تحت عمر بن الخطاب فقالت له : إن عبد الله بن عمر رجل
صالح و أنا أتكفل ما يجيء منه لك فلما كان من قدوم ابن عامر المدينة جاء
ابن عمر إليها فقال : يا أماه ! إنك قد كفلت في و أنا أريد الخروج إلى
العمرة الساعة و لست بداخل في شيء يكرهه أبوك غير أني ممسك حتى يجتمع
الناس فإن شئت فأذني و إن شئت فابعثيني إلى أبيك قالت : لا بل اذهب في حفظ
الله و تحت كنفه فانطلق ابن عمر معتمرا
فلما أصبح الناس أتوا عليا
فقالوا : قد حدث البارحة حدث هو أشد من طلحة و الزبير و معاوية قال علي :
ما ذاك ؟ قالوا : خرج ابن عمر إلى الشام فأتى علي السوق و جعل يعد طلابا
ليرد ابن عمر فسمعت أم كلثوم بذلك فركبت بغلتها حتى أتت أباها فقالت : إن
الأمر على غير ما بلغك و حدثته بما ذكر لها ابن عمر فطابت نفس علي بذلك
فما انصرفوا من السوق حتى جاءهم بعض القدام من العمرة و أخبروه أنهم رأوا
ابن عمر و آخر معه على حمارين محرمين بكساءين
ثم كتب علي إلى معاوية
: [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية
بن أبي سفيان سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد
! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان و ما اجتمع الناس عليه من بيعتي
فادخل في السلام كما دخل الناس و إلا فأذن بحرب كما يؤذن أهل الفرقة ـ و
السلام ] و بعث كتابه مع سبرة الجهني و الربيع بن سبرة فلما تقدم سبرة
بكتاب علي و دفعه إلى معاوية جعل يتردد في الجواب مدة فلما طال ذلك عليه
دعا معاوية رجلا من عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طومارا مختوما عنوانه [ من
معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب ] و قال له : إذا دخلت المدينة
فاقبض على أسفل الطومار و أبرزه ـ و أوصاه بما يقول و بعثه مع سبرة رسول
علي فقدما المدينة فرفع العبسي الطومار كما أمر معاوية فخرج الناس ينظرون
إليه و علموا حينئذ أن معاوية معترض معاند فلما دخلا على علي دفع إليه
العبسي الطومار ففض عن خاتمه فلم يجد في جوفه شيئا فقال لسبرة : ما وراءك
؟ قال : تركت قوما لا يرضون إلا بالقود و قد تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت
قميص عثمان فقال علي : أمني يطلبون دم عثمان
ثم كتب إلى أبي موسى
الأشعري و هو على الكوفة [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير
المؤمنين إلى عبد الله بن قيس الأشعري سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله
الذي لا إله إلا هو أما بعد ! فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان و ما
اجتمع الناس عليه من بيعتي فادخل فيما دخل فيه الناس و رغب أهل ملكك في
السمع و الطاعة و اكتب إلي بما كان منك و منهم إن شاء الله ـ و السلام
عليك و رحمته الله و بركاته ] و بعث الكتاب مع معبد الأسلمي فلما قدم معبد
الكوفة دعا أبو موسى الأشعري الناس إلى طاعة علي فأجابوه طائعين و كتب إلى
علي بن أبي طالب [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ لعبد الله علي أمير المؤمنين
من عبد الله بن قيس سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو
أما بعد ! فقد قرأت كتابك و دعوت من قبلي المسلمين فسمعوا و أطاعوا ـ و
السلام عليك و رحمة الله و بركاته ] و دفع كتابه إلى معبد
و كانت
عائشة خرجت معتمرة فلما قضت عمرتها نزلت على باب المسجد و اجتمع إليها
الناس فقالت : أيها الناس ! إن الغوغاء من أهل الأمصار و عبيد أهل المدينة
اجتمعوا على هذا الرجل المقتول بالأمس ظلما و استحلوا البلد الحرام و
سفكوا الدم الحرام فقال عبد الله ابن عامر : ها أنا ذا أول طالب بدمه فكان
أول من انتدب لذلك
و لما كثر الاختلاف بالمدينة استأذن طلحة و
الزبير عليا في العمرة فقال لهما : ما العمرة تريدان و قد قلت لكما قبل
بيعتكما لي : أيكما شاء بايعته فأبيتما إلا بيعتي و قد أذنت لكما فاذهبا
راشدين فخرجا إلى مكة و تبعهما عبد الله بن عامر بن كريز فلما لحقهما قال
لهما : ارتحلا فقد بلغتكما حاجتكما فاجتمعوا مع عائشة بمكة و بها جماعة من
بني أمية
ثم جمع معاوية أهل الشام على محاربة علي و الطلب بالقود من
دم عثمان و احتال في قيس بن سعد بن عبادة و كان واليا على مصر و كتب إلى
علي كتابا يمرغ فيه معاوية فلما قرأ علي الكتاب عزل قيسا و ولى عليها محمد
بن أبي بكر
و خرج قسطنطين بن هرقل بالمراكب يريد المسلمين فسلط الله
عليهم ريحا قاصفا فغرقهم و نجا قسطنطين بن هرقل حتى انتهى إلى سقلية فصنعت
الروم حماما فلما دخله قتلوه فيه و قالوا له : قتلت رجالنا
ثم حج
بالناس عبد الله بن عباس أمره علي على الحج فلما انصرف أجمع طلحة و الزبير
على المسير بعائشة فقال طلحة : ما لنا أمر أبلغ في استمالة الناس إلينا من
شخوص ابن عمر معنا و كان من أمره في عثمان و خلافه له على ما يعلمه من
يعلمه فأتاه طلحة فقال : يا أبا عبد الرحمن ! إن عائشة قصدت الإصلاح بين
الناس فاشخص معنا فإن لك بنا أسوة فقال ابن عمر : أتخدعونني لتخرجوني كما
تخرج الأرنب من جحرها ! إن الناس إنما يخدعون بالوصيف و الوصيفة و
الدنانير و الدراهم و لست من أولئك قد تركت هذا الأمر عيانا و أنا أدعى
إليه في عافية فاطلبوا لأمركم غيري فقال طلحة : يغني الله عنك
و قدم
يعلى بن أمية من اليمن و قد كان عاملا عليها بأربعمائة من الإبل فدعاهم
إلى الحملان فقال له الزبير : دعنا من إبلك هذه و لكن أقرضنا من هذا المال
فأعطاه ستين ألف دينار و أعطى طلحة أربعين ألف دينار فتجهزوا و أعطوا من
خف معهم
تشاوروا في مسيرهم فقال الزبير : عليكم بالشام بها
الأموال و الرجال و قال ابن عامر : البصرة فإن غلبتهم عليها فلكم الشام إن
معاوية قد سبقكم إلى الشام و هو ابن عم عثمان و إن البصرة لي بها صنائع و
لأهلها في طلحة هوى و كانت عائشة تقول : نقصد المدينة فقالوا لها : يا أم
المؤمنين ! دعي المدينة فإن من معك لا يقربون لتلك الغوغاء و اشخصي معنا
إلى البصرة فإن أصلح الله هذا الأمر كان الذي نريد و إلا فقد بلغنا و يقضي
الله فيه ما أحب و كلموا حفصة ابنة عمر أن تخرج معهم فقالت : رأيي تبع
لرأي عائشة فأتاها عبد الله بن عمر فناشدها الله أن تخرج فقعدت و بعثت إلى
عائشة أن أخي حال بيني و بين الخروج فقالت : يغفر الله لابن عمر ثم نادى
منادي طلحة و الزبير : من كان عنده مركب و جهاز و إلا فهذا مركب و جهاز
فحملوا على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب و كانوا نحو ألف نفس و تجهزوا
بالمال و شيعهم نساء النبي صلى الله عليه و سلم و كان كلهن بمكة حاجات إلا
أم سلمة فإنها سارت إلى المدينة فلما بلغوا ذات عرق و دعت أزواج النبي صلى
الله عليه و سلم و بكين و بكى الناس فلما رأوا بكاء أكثر من ذلك اليوم و
سمي يوم النحيب و جعلن يدعون على قتلة عثمان الذين سفكوا في حرم رسول الله
صلى الله عليه و سلم الدم الحرام ثم انصرفن و مضت عائشة و هي تقول : اللهم
! إنك تعلم أني لا أريد إلا الإصلاح فأصلح بينهم
و بعثت أم الفضل
حين خرجت عائشة و من معها من مكة إلى علي رجلا من جهينة قالت له : اقتل في
كل مرحلة بعيرا و علي ثمنه و هذه مائة دينار و كسوة و كتبت معه [ أما بعد
! فإن طلحة و الزبير و عائشة خرجوا من مكة يريدون البصرة ] فقدم المدينة و
أعطى عليا الكتاب فدعا علي محمد بن أبي بكر فقال له : ألا ترى إلى أختك
خرجت مع طلحة و الزبير ! فقال محمد بن أبي بكر : إن الله معك و لن يخذلك و
الناس ناصروك
ثم قام علي فحمد الله و أثنى عليه ثم قال : يا أيها
الناس تهيئوا للخروج إلى قتال أهل الفرقة فإني سائر إن شاء الله إن الله
بعث رسولا صادقا بكتاب ناطق و أمر واضح لا يهلك عنه إلا هالك و إن في
سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم و قد قال رسول الله صلى الله عليه و
سلم [ إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ] انهضوا
إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ذات البين
و بعث علي الحسن بن علي و عمار بن ياسر إلى الكوفة لاستنفارهم فلما قدموا
الكوفة قام أبو موسى الأشعري في الناس و كان وليا عليها و أخبرهم بقدوم
الحسن و استنفاره إياهم إلى أمير المؤمنين على إصلاح البين
و قدم
زيد بن صوحان من عند عائشة معه كتابان من عائشة إلى أبي موسى والي الكوفة
و إذا في كل كتاب منهما [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عائشة أم المؤمنين
إلى عبد الله بن قيس الأشعري ـ سلام عليك ! فإني أحمد إليك الله الذي لا
إله إلا هو أما بعد ! فإنه قد كان من قتل عثمان ما قد علمت و قد خرجت
مصلحة بين الناس فمر من قبلك بالقرار في منازلهم و الرضا بالعافية حتى
يأتيهم ما يحبون من صلاح أمر المسلمين فإن قتلة عثمان فارقوا الجماعة و
أحلوا بأنفسهم البوار ] فلما قرأ الكتابين وثب عمار بن ياسر فقال : أمرت
عائشة بأمر و أمرنا بغيره أمرت أن تقر في بيتها و أمرنا أن نقاتل حتى لا
تكون فتنة فهوذا تأمرنا بما أمرت و ركبت ما أمرنا به ثم قال : هذا ابن عم
رسول الله صلى الله عليه و سلم فاخرجوا إليه ثم انظروا في الحق و من الحق
معه ثم قام الحسن بن علي فقال : يا أيها النا س ! أجيبوا دعوة أميركم و
سيروا إلى أخوانكم لعل الله يصلح بينكم ثم قام هند بن عمرو البجلي فقال :
إن أمير المؤمنين قد دعانا و أرسل إلينا فاتبعوا قوله و انتهوا إلى أمره
فقام حجر بن عدي الكندي فقال : أيها الناس ! أجيبوا أمير المؤمنين و
انفروا خفافا و ثقالا بأموالكم و أنفسكم ثم قال الحسن أيها الناس ! إني
غاد فمن شاء منكم فليخرج معي على الظهر و من شاء فليخرج في الماء فأجابوه
و خرج معه تسعة آلاف نفس بعضهم على البر و بعضهم على الماء و ساروا حتى
بلغوا ذا قار و خرج علي من المدينة معه ستمائة رجل و خلف على المدينة سهل
بن حنيف فالتقى هو و ابنه الحسن مع من خرج معه من الكوفة بذي قار فخرجوا
جميعا إلى البصرة و لم يدخل علي الكوفة و كتب إلى المدينة إلى سهل بن حنيف
أن يقدم عليه و يولي على المدينة أبا حسن المازني و التقى مع طلحة و
الزبير و عائشة بالجلحاء على فرسخين من البصرة و ذلك لخمس خلون من جمادى
الآخرة و كان علي كثيرا ما يقول : يا عجب كل العجب من جمادى و رجب ! فكان
من أمرهم ما كان
و قتل ابن جرموز الزبير ثم أتى عليا يخبره فقال علي
: سمعت رسول الله الله يقول [ قاتل ابن صفية بالنار ] فقال ابن جرموز : إن
قتلنا معكم فنحن معكم في النار و إن قاتلناكم فنحن في النار ! ثم يعج بطنه
بسيفه فقتل نفسه و أما طلحة فرماه مروان بن الحكم بسهم من ورائه فأثبته
فيه و قتله و حمله إلى البصرة فمات بها فقبر طلحة بالبصرة و قتل الزبير
بوادي السباع و كان كعب بن سور قد علق المصحف في عنقه ثم يأتي هؤلاء
فيذكرهم و يأتي هؤلاء فيذكرهم حتى قتل
و كان علي ينادي مناديه : لا
تقتل مدبرا و لا تذفف على جريح و من أغلق بابه فهو آمن و لم يقتل بعد آن
واحدا فلما اطمأن الناس بعث علي بعائشة مع نساء من أهل العراق إلى المدينة
و أقام بالبصرة خمسة عشر يوما ثم خرج إلى الكوفة و ولى على البصرة عبد
الله بن عباس و ولى الولاة في البلدان و كتب إلى المدن بالقرار و الطاعة
ثم إن أبا مسلم الخولاني قال لمعاوية : على ما تقاتل عليا و هو ابن عم
رسول الله صلى الله عليه و سلم و له من القدم و السابقة ما ليس لك و إنما
أنت رجل من الطلقاء ؟ فقال له معاوية : أجل ! و الله ما نقاتل عليا و أنا
لست أدعي في الإسلام مثل الذي له و لكن أقاتله على دم أمير المؤمنين عثمان
بن عفان و أنا أطلبه بدمه فقال أبو مسلم : إني أستخبر لك عن ذلك فركب
راحلته و انتهى إلى الكوفة ثم نزل عن راحلته و أتى عليا ماشيا و الناس
عنده و لا يعرفه أحد فقال : من قتل عثمان ؟ فقال علي : الله قتل عثمان و
أنا معه فخرج أبو مسلم و لم يتكلم و مضى حتى انتهى إلى راحلته فركبها و
لحق بالشام فانتهى إلى معاوية و هو يثقل فقيل له : هذا أبو مسلم قد جاء
فعانقه معاوية و سأله عن سفره و خاف أن يكون قد جاء بشيء مما يكره فقال
أبو مسلم : و الله لتقاتلن عليا أو لنقاتلنه فإنه قد أقر بقتل أمير
المؤمنين عثمان فقام معاوية فرحا و صعد المنبر و اجتمع إليه الناس و حمد
الله و أثنى عليه و قام أبو مسلم خطيبا و حرض الناس على قتال علي فصح خروج
أهل الشام قاطبة على علي و طلبهم إياه بدم عثمان
ثم إن حجر بن
الأدبر قدم على علي فقال : يا أمير المؤمنين ! الجماعة و العدد و المال مع
الأشعث بن قيس بآذربيجان فابعث إليه فليقدم فكتب إليه علي [ بسم الله
الرحمن الرحيم ـ من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد
فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم و احمل ما غللت من المال ] فكتب إليه الأشعث بن
قيس [ أما بعد ! فقد جاءني كتابك بأن أقدم عليك و أحمل ما غللت من مال
الله فما أنت و ذاك ! و السلام ] ثم قال الأشعث : و الله ! لأدعنه بحال
مضيعة و لأفسدن عيه الكوفة ثم ارتحل من آذربيجان و هو يريد معاوية و بلغ
ذلك عليا و شق عليه خروجه إلى معاوية فقال حجر بن الأدبر : يا أمير
المؤمنين ! ابعثني إلى الأشعث بن قيس فأنا أعرف به و أرفق و إن هو خوشن لم
يجب أحدا قال له علي : سر إليه فسار حجر إليه فأدركه بشهر زور فقال له حجر
: يا أبا محمد ! أنشدك الله أن تأتي معاوية و تدع ابن عم رسول الله صلى
الله عليه و سلم فقال الأشعث : أوما سمعت كتابه إلي ؟ فقال حجر : إنك إن
أتيت معاوية أقبلنا جميعا إلى الشام و أنشدك الله ألا نظرت إلى أيتام قومك
و أياماهم ! فإني لا آمن أن يفتضحوا غدا قال : فما تريد يا حجر ؟ قال :
تنحدر معي إلى الكوفة فإنك شيخ العرب و سيدها و المطاع في قومك و سيصير
إليك الأمر فلم يزل به حجر حتى قال : ليصرفوا صدور الركائب إلى الكوفة
فتقدم على علي فسر علي بمجيئه فقال : مرحبا و أهلا بأبي محمد على عجلته
فقال : أمير المؤمنين ! إن هذا ليس بيوم عتاب ثم أقام مع علي بالكوفة و حج
بالناس عبد الله بن عباس بأمر علي ولاه
كتب معاوية إلى علي بن
أبي طالب [ أما بعد فإن الله اصطفى محمدا صلى الله عليه و سلم بعلمه و
جعله الأمين على وحيه و الرسول إلى خلقه و اختار له من المسلمين أعوانا
فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام كان أفضلهم في الإسلام
و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة بعده و خليفة خليفته و الخليفة المظلوم
المقتول رحمة الله عليهم ! و قد ذكر لي أنك تنتفي من دمه فإن كنت صادقا
فأمكنا ممن قتله حتى نقتله به و نحن أسرع إليك إجابة و أطوعهم طاعة و إلا
فإنه ليس لك و لا لأحد من أصحابك عندنا إلا السيف و الذي لا إله غيره !
لنطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال حتى يقتلهم الله أو تلحق أرواحنا
بعثمان و السلام ] فكتب إليه علي [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ من عبد الله
علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ـ أما بعد فإن أخا خولان قدم
علي بكتاب منك يذكر فيه محمدا صلى الله عليه و سلم و ما أنعم الله عليه من
الهدى و الحمد لله على ذلك و أما ما ذكرت من ذكر الخلفاء فلعمري إن مقامهم
في الإسلام كان عظيما و إن المصاب بهم لجرح عظيم في الإسلام و أما ما ذكرت
من قتلة عثمان فإني قد نظرت في هذا الأمر فلم يسعني دفعهم إليك و قد كان
أبوك أتاني حين ولي الناس أبا بكر فقال لي : يا علي ! أنت أحق الناس بهذا
الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم و هات يدك حتى أبايعك فلم أفعل
مخافة الفرقة في الإسلام فأبوك أعرف بحقي منك فإن كنت تعرف من حقي ما كان
يعرفه أبوك فقد قصدت رشدك و إن لم تفعل فسيغني الله عنك و السلام ] فلما
قرأ معاوية الكتاب تهيأ هو و من معه على المسير إلى علي ثم سار يريد
العراق و سار علي من العراق و صلى الظهر بين القنطرة و الجسر ركعتين و بعث
على مقدمته شريح بن هانئ و زياد بن النضر بن مالك أمر أحدهما أن يأخذ على
شط دجلة و الآخر على شط الفرات معهما أكثر من عشرة آلاف نفس و استخلف على
الكوفة أبا مسعود الأنصاري ثم أخذ على طريق الفرات و جعل يقول : إذا
سمعتموني أقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كما أقول و إذا لم
أقل قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما الحرب خدعة فالتقى علي و أهل
الشام بصفين لسبع بقين من المحرم فقام علي خطيبا في الناس فقال : الحمد
لله الذي لا يبرم ما نقض و إن أبرم أمرا لم ينقضه الناقضون مع أن لله ـ و
له الحمد ـ لو شاء لم يختلف اثنان من خلقه و لا تنازعت الأمة في شيء من
أمره و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله { و لو شاء الله ما اقتتلوا و لكن
الله يفعل ما يريد } و قد ساقتنا و هؤلاء المقادير حتى جمعت بيننا في هذا
المكان فنحن من ربنا بمنظر و مستمع و لو شاء الله لجعل الانتقام و كان منه
التغيير حتى يتبين أهل الباطل و يعلم أهل الحق أين مصيره و لكنه جعل
الدنيا دار الأعمال و جعل الآخرة هي دار القرار { ليجزي الذين أساءوا }
الآية ألا ! إنكم تلقون عدوكم غدا فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا فيها من
تلاوة القرآن و سلوه النصر و عليكم بالجد و الحزم و كونوا صادقين ثم قعد
فوثب الناس إلى سيوفهم يهيؤونها و إلى رماحهم يثقفونها و إلى نبالهم
يريشونها ثم جعل على مقدمته شريح بن هانئ الحارثي و الأشتر و على الميمنة
الأشعث بن قيس و على الميسرة عبد الله بن عباس و على الرجالة عبد الله بن
بديل بن ورقاء و على الساقة زياد بن النضر و على ميمنة الرجالة سليمان بن
صرد الخزاعي ثم قام معاوية خطيبا في أهل الشام و اجتمع الناس فقال : الحمد
لله الذي دنا في علوه و علا في دنوه و ظهر و بطن فارتفع فوق كل منظر أولا
و آخرا و ظاهرا و باطنا يقضي فيفصل و يقدر فيغفر و يفعل ما يشاء و إذا
أراد أمرا أمضاه و إذا عزم على أمر قضاه لا يؤامر أحدا فيما يملك و لا
يسئل عما يفعل و هم يسئلون و الحمد لله رب العالمين على ما أحببنا و كرهنا
ثم كانت من قضاء الله أن ساقتنا المقادير إلى هذه الرقعة من الأرض و لقت
بيننا و بين أهل العراق فنحن من الله بمنظر و مستمع و قد قال الله { و لو
شاء الله ما اقتتلوا } ـ الآية فانظروا يا أهل الشام فإنما تلقون غدا
العدو فكونوا على إحدى ثلاث خلال : إما قوما تطلبون ما عند الله بقتالكم
قوما بغوا عليكم و إما قوما تطلبون بدم الخليفة عثمان فإنه خليفتكم و صهر
نبيكم ] و إما قوما تدفعون عن نسائكم و ذراريكم و عليكم بتقوى الله و
الصبر الجميل ! نسأل الله لنا و لكم النصر و أن يفرغ علينا و عليكم الصبر
و أن يفتح بيننا و بين قومنا بالحق و هو خير الفاتحين فأجابه أهل الشام :
طب نفسا ! نموت معك و نحيى معك ثم جعل معاوية أبا الأعور عمرو ابن سفيان
السلمي على مقدمته و حبيب بن مسلمة الفهري على ميمنته و بسر ابن أرطأة على
ميسرته و مسلم بن عقبة على رجالة العسكر فلما كان الغد اقتتلوا قتالا
شديدا فحجز بينهم الليل حتى قاتلوا ثلاثة أيام فقتل من أصحاب علي
بالمبارزة : هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و عمار بن ياسر و عبد الله بن بديل
ابن ورقاء و عمار بن حنظلة الكندي و بشر بن زهير و مالك بن كعب العامري و
طالب بن كلثوم الهمداني و المرتفع بن و ضاح الزبيدي و شريح بن طارق البكري
و أسلم بن يزيد الحارثي و الحارث بن اللجاج الحكمي و عائذ بن كريب الهلالي
و واصل بن ربيعة الشيباني و عائذ بن مسروق الهمداني و مسلم ابن سعيد
الباهلي و محارب بن ضرار المرادي و سليمان بن الحارث الجعفي و سرحبيل بن
يزيد الحضرمي
و قتل من أصحاب معاوية في المبارزة : سرحبيل بن منصور
و عبد الرزاق ابن خالد العبسي و شريح بن الحارث الكلابي و صالح بن المغيرة
الجمحي و حريث بن الصباح الحميري و الحارث بن وداعة الحميري و روق بن
الحارث العكي و المطاع بن المطلب القيني و جلهمة بن هلال الكلبي و الوضاح
بن أزهر السكسكي و وزاع بن سلامان الغساني و المهاجر بن حنظلة الجعفي و
عبد الله بن جرير العكي و مالك بن و ديعة القرشي سوى من قتل من الفريقين
من غير براز
و لما قتل عمار أتى عبد الله بن عمرو معاوية فقال : قتل
عمار فقال عمرو ابن العاص : قتل عمار ! فما سمعت رسول الله صلى الله عليه
و سلم يقول لعمار : [ تقتلك الفئة الباغية ] ! فقال معاوية : أنحن قتلناه
! إنما قتله أهل العراق جاءوا به فطرحوه في سيوفنا و رماحنا و قد قيل :
إنه قتل بصفين سبعون ألفا : من أهل العراق خمسة و عشرون ألفا و من أهل
الشام خمسة و أربعون ألفا فلما اشتدت البلاء بالفريقين و كثر بينهم القتلى
قال عمرو بن العاص لمعاوية : إن هذا الأمر لا يزداد إلا شدة فهل لك إلى
أمر لا يزداد القوم به إلا فرقة إن أعطونا اختلفوا و إن منعونا اختلفوا ؟
فقال معاوية : ما هو ؟ فقال : المصاحف نرفعها و ندعوهم بما فيها فإنهم لا
يقاتلون إلا على ما قد علمت فقال معاوية : افعل ما رأيت فأمر بالمصاحف
فرفعت في الرماح ثم جعلوا ينادون : ندعوكم إلى كتاب الله و الحكم بما فيه
فسر الناس به و كرهوا القتال و أجابوا إلى الصلح و أنابوا إلى الحكومة و
قالوا لعلي : إن القوم يدعونك إلى الحق و إلى كتاب الله فإن كرهنا ذلك
فنحن إذا مثلهم فقال علي : و يحكم ! ما ذلك يريدون و لا يفعلون ثم مشى
الناس بعضهم إلى بعض و أجابوا الصلح والحكومة و تفرقوا إلى دفن قتلاهم و
لم يجد علي بدا من أن يقبل الحكومة لما رأى من أصحابه فحكم أهل الشام عمرو
بن العاص و أراد على أن يحكم ابن عباس فقال الأشعث بن قيس و هو يومئذ سيد
الناس : لا يحكم في هذا الأمر رجلان من قريش و لا افترق الفريقان على هذا
الجمع على حكومة بعد أن كان من القتال بينهما ما كان إلا و أحد الحكمين
منا و تبعه أهل اليمن على ذلك ثم قال الأشعث : لا نرضى إلا بأبي موسى
الأشعري و كتبوا بينهم كتابي الصلح [ بسم الله الرحمن الرحيم ـ هذا ما
تقاضى عليه علي بن أبي طالب و معاوية بن أبي سفيان قاضي علي على أهل
العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و قاضى معاوية على أهل الشام و
من كان معه من شيعته من المسلمين أنا ننزل على حكم الله و كتابه فما و جد
الحكمان في كتاب الله فبهما يتبعانه و ما لم يجدا في كتاب الله فالسنة
العادلة تجمعهما و هما آمنان على أموالهما و أنفسهما و أهاليهما و الأمة
أنصار لهما على الذي يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين ـ و الطائفتان
كلتاهما عليهما عهد الله و ميثاقه أن يفيا بما في هذه الصحيفة على أن بين
المسلمين الأمن و و ضع السلاح و على عبد الله بن قيس و عمرو بن العاص عهد
الله و ميثاقه ليحكما بين الناس بما في هذه الصحيفة على أن الفريقين جميعا
يرجعان سنة فإذا انقضت السنة إن أحبا أن يردا ذلك ردا و إن أحبا زادا
فيهما ما شاء الله اللهم إنا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة ]
و شهد على الصحيفة فريق عشرة أنفس فشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس و عبد
الله بن عباس و سعيد بن قيس المداني و حجر بن الأدبر الكندي و عبد الله بن
الطفيل العامري و عبد الله بن محل العجلي و وقاء بن سمي البجلي و عقبة بن
زيد الأنصاري و يزيد بن حجية التيمي و مالك بن أوس الرحبي
و شهد من
أهل الشام أبو الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة الفهري و المخارق ابن الحارث
الزبيدي و علقمة بن يزيد الحضرمي و سبيع بن يزيد الحضرمي و زمل بن عمرو
العذري و يزيد بن الحر العبسي و حمزة بن مالك الهمداني و عبد الرحمن بن
خالد بن الوليد و عتبة بن أبي سفيان
و كتب يوم الأربعاء سنة سبع و ثلاثين
فانصرف علي بمن معه من أهل العراق و انصرف معاوية بمن معه إلى الشام فقال
عبد الله بن وهب الحرمي ـ و كان من أصحاب علي : لا حكم إلا لله فقال علي :
هذه كلمة حق أريد بها باطل فلما دخل علي الكوفة خرج من كان يقول : لا حكم
إلا لله و نزلوا بحروراء و هم قريب من اثني عشر ألفا فسموا الحرورية و
مناديهم ينادي : أمير القتال شبث بن ربعي التميمي و الأمر بعد الفتح شورى
و البيعة لله و مات خباب بن الأرت بالكوفة
فخرج علي من صفين و ولى
علي سهل بن حنيف فارس فأخرجه أهل فارس فوجه زيادا فرفضوا و صالحوه و أدوا
إليه الخراج ثم إن الخوارج اجتمعت على زيد بن حصين و قالوا له : أنت سيدنا
و شيخنا و عامل عمر بن الخطاب على الكوفة تول أمرنا و جهروا به فقال : ما
كنت لأفعلها فلما أبى عليهم ذلك ذهبوا إلى يزيد بن عاصم المحاربي فعرضوا
عليه أمرهم فأبى عليهم ذلك ثم ذهبوا إلى سعد بن وائل التميمي فأبى عليهم
فأتوا عبد الله بن وهب الراسبي و اجتمعوا عنده بقرب النهروان و خرج إليهم
علي في جمعية فلما أتاهم حمد الله و أثنى عليه ثم قال : إنكم أيها القوم
قد علمتم و علم الله أني كنت للحكومة كارها حتى أشرتم علي بها و غلبتموني
عليها و الله بيني و بينكم شهيد ! ثم كتبنا بيننا و بينهم كتابا و أنتم
على ذلك من الشاهدين فقالت طائفة من القوم : صدقت ـ و رجعوا إلى الجماعة و
بقيت طائفة منهم على قولهم فقال علي : هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا { الذين
ضل سعيهم في الحيوة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } منهم أهل
النهروان و رب الكعبة ! ثم إنهم عبروا الجسر إلى علي ليحاربوه فلما عبروا
الجسر نادى علي في العسكر : استقبلوهم فاستقبلوهم و التقطوهم بالرماح فكان
مع علي جميعة يسيرة إنما جاء علي أن يردهم بالكلام و قد كانت الخوارج
قريبا من خمسة آلاف فلما فرغوا من قتلهم قال علي : اطلبوا لي المخدع
فطلبوه فلم يجدوه فقال : اطلبوا المخدع فو الله ما كذبت و لا كذبت ثم دعا
ببغلته البيضاء فركبها و جعل يقلب القتلى حتى أتى على فضاء من الأرض فقال
: قلبوا هؤلاء فإذا هم برجل ليس له ساعد بين جنبيه ثدي فيه شعرات إذا مدت
امتدت و إذا تركت قلصت [ فقال علي : الله أكبر ! سمعت رسول الله صلى الله
عليه و سلم يقول : يخرج قوم فيهم رجل مخدع اليد و لولا أن تنكلوا عن العمل
لأنبأتكم بما وعدا الله الذين يقاتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه و
سلم ] ثم حج بالناس عبد الله بن عباس