كتاب : المختصر في أخبار البشر
المؤلف : أبو الفداء
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وثلاثمائة فيها مات أبو علي بن المحتاج، صاحب جيوش خراسان بعد أن عزله الأمير نوح عن خراسان، فخرج لذلك عن طاعته نوح ولحق بركن الدولة بن بويه، ومات في خدمته.
ما جرى في هذه السنة بين المعز العلوي وعبد الرحمن الأموي صاحب الأندلسوفي هذه السنة أنشأ عبد الرحمن الناصر الأموي مركباً كبيراً، لم يعمل مثله، وسير فيه بضائع لتباع في بلاد الشرق، ويعتاض عنها، فلقي في البحر مركباً فيه رسول من صقليه إِلى المعز العلوي، ومعه مكاتبات إِليه، فقطع عليهم المركب الأندلسي وأخذهم بما معهم، وبلغ المعز فجهز أسطولا إِلى الأندلس، واستعمل عليه الحسن بن علي عامله على صقلية، فوصلوا إلى المرية وأحرقوا جميع ما في ميناها من المراكب، وأخذوا ذلك المركب الكبير المذكور، بعد عوده من الإسكندرية، وفيه جوار مغنيات وأمتعة لعبد الرحمن، وصعد أسطول المعز إِلى البر فقتلوا ونهبوا ورجعوا سالمين إِلى المهدية، ولما جرى ذلك، جهز عبد الرحمن أسطولاٌ إِلى بلاد إِفريقية، فوصلوا إِليها، فقصدهم عساكر المعز فرجعوا إِلى الأندلس بعد قتال جرى بينهم.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
فيها سار سيف الدولة بن حمدان إِلى بلاد الروم، فغنم وسبى وفتح عدة حصون، ورجع إِلى أذنة فأقام بها، ثم ارتحل إِلى حلب. وفيها توفي أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد غلام ثعلب المعروف بالمطرز، أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صحب أبا العباس ثعلباً زماناً فعرف به، وللمطرز المذكور عدة مصنفات، وكانت ولادته سنة إحدى وستين ومائتين، وكان اشتغاله بالعلوم، قد منعه عن اكتساب الرزق، فلم يزل مضيقَاً عليه، وكان لسعة روايته وكثرة حفظه يكذبه أدباء زمانه في أكثر نقل اللغة، ويقولون: لو طار طائر يقول أبو عمر المذكور: حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي ويذكر في معنى ذلك شيئاً، وكان يلقي تصانيفه من حفظه، حتى أنه أملى في اللغة ثلاثين ألف ورقة، فلهذا الإكثار نسب إِلى الكذب. ثم دخلت سنة ست وأربعين وثلاثمائة في هذه السنة مات السلار المرزبان صاحب أذربيجان، وملك بعده ابنه حسان، وكان لمرزبان أخ يسمى وهشوذان. فشرع في الإفساد بين أولاد أخيه، حتى وقع ما بينهم وتقاتلوا، وبلغ عمهم وهشوذان ما أراد، وقد ذكر ابن الأثير في حوادث هذه السنة أن البحر نقص ثمانين باعاً، فظهرت فيه جزائر وجبال لم تعرف قبل ذلك. وفيها توفي أبو العباس محمد بن يعقوب الأموي النيسابوري، المعروف بالأصم وكان عالي الإسناد في الحديث، وصحب الربيع بن سليمان صاحب الشافعي، وأبو إسحاق إِبراهيم بن محمد الفقيه البخاري الأمين.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وثلاثمائة.
مسير جيوش المعز العلوي إِلى أقاصي المغرب فيها عظم أمر أبي الحسن، جوهر عبد المعز، فصار في رتبة الوزارة، وسيره المعز في صفر هذه السنة، في جيش كثيف إِلى أقاصي المغرب، فسار إلى تاهرت، ثم سار منها إِلى فاس في جمادى الآخرة، وبها صاحبها أحمد بن بكر، فأغلق أبوابها، فنازلها جوهر وقاتل أهلها، فلم يقدر عليها، ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط، وسلك تلك البلاد جميعها، ثم عاد إِلى فاس ففتحها عنوة وكان مع جوهر زيري بن مناذ الصنهاجي، وكان شريكه في الإمرة، وكان فتح فاس في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. وفيها توفي أبو الحسن علي بن البوشجي الصوفي بنيسابور، وهو أحد المشهورين منهم. وفيها توفي أبو الحسن محمد من ولد أبي الشوارب، قاضي بغداد، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وأبو علي الحسين بن علي النيسابوري. وأبو محمد عبد الله الفارسي النحوي، أخذ النحو عن المبرد.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة فيها توفي أبو بكر بن سليمان الفقيه الحنبلي، المعروف بالنجاد، وعمره خمس وتسعون سنة، وجعفر بن محمد الخلدي الصوفي، وهو من أصحاب الجنيد، وفيها انقطعت الأمطار وغلت الأسعار في كثير من البلاد.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وثلاثمائة فيها وقع الخلف بين أولاد المرزبان، فاضطروا إِلى مساعدة عمهم وهشوذان، فكاتبوه وصالحوه، وقدموا عليه فغدر بهم، وأمسك حسان وناصراً ابني أخيه وأمهما وقتلهم. في هذه السنة غزا سيف الدولة ابن حمدان بلاد الروم في جمع كثير، ففتح وأحرق وقتل وغنم وبلغ إِلى خرشنه وفي عوده أخذت الروم عليه الضائق واستردوا ما أخذه، وأخذوا أثقاله وأكثروا القتل في أصحابه، وتخلص سيف الدولة في ثلاثمائة نفس. وكان قد أشار عليه أرباب المعرفة بأن لا يعود على الطريق، فلم يقبل، وكان سيف الدولة معجباً بنفسه، يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً، لئلا يقال إِنه أصاب برأي غيره. وفي هذه السنة أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاة. وفيها انصرف حجاج مصر من الحج فنزلوا وادياً وباتوا فيه، فأتاهم السيل ليلاً وأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم، فألقاهم في البحر. وفي هذه السنة أو قريب من هذه السنة، توفي أبو الحسن التيناتي، نسبة إِلى التينات، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وله كرامات مشهورة. وفيها مات أنوجور بن الإخشيد صاحب مصر، وأقيم أخوه علي بن الإخشيد مكانه.
ثم دخلت سنة خمسين وثلاثمائة.
موت صاحب خراسان وفي هذه السنة يوم الخميس حادي عشر شوال، تقنطر بالأمير عبد الملك بن نوح الساماني فرسه، فوقع عبد الملك إِلى الأرض فمات من ذلك، فثارت الفتنة بخراسان بعده، وولي مكانه أخوه منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان.
وفاة صاحب الأندلس وفي هذه السنة توفي عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل، في رمضان، وكانت مدة إِمارته خمسين سنة ونصفاً، وعمره ثلاث وسبعون سنة، وكان أبيض أشهل حسن الوجه، وهو أول من تلقب من الأمويين أصحاب الأندلس بألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وكان من قبله يخاطبون، ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف، وبقي عبد الرحمن كذلك إلى أن مضى من إِمارته سبع وعشرون سنة، فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق، وظهور الخلفاء العلويين بإفريقية ومخاطبتهم بأمير المؤمنين أمر حينئذ أن يلقب بالناصر لدين الله، ويخطب له بأمير المؤمنين، وأمه أم ولد اسمها مدنة ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحكم بن عبد الرحمن وتلقب بالمستنصر وخلف عبد الرحمن أحد عشر ولداً ذكراً.
وفي هذه السنة تولى قضاء القضاة ببغداد أبو العباس عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، والتزم كل سنة أن يؤدي مائتي ألف درهم، وهو أول من ضمن القضاء. وكان ذلك في أيام معز الدولة بن بويه، ولم يسمع بذلك قبلها، ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد. وفيها توفي أبو شجاع فاتك وكان رومياً، وأخذه الإخشيد صاحب مصر من سيده بالرملة، وارتفعت مكانته عنده، وكان رفيق كافور، فلما مات الإخشيد وصار كافور أتابك ولده، أنف فاتك من ذلك، وكانت الفيوم إِقطاعة، فانتقل وقام بها، وكثرت أمراضه لوخم الفيوم، فعاد إلى مصر كرهاً المرض، وكان كافور يخافه ويخدمه، وكان المتنبي إِذ ذلك بمصر عند كافور، فاستأذنه، ومدح فاتك المذكور بقصيدته التي أولها:
لا خيل عندك تُهديها ولا مال ... فليسعد النطق إِن لم يسعد الخال
كفاتك ودخول الكاف منقصة ... كالشمس قلت وما للشمس أمثال
ولما توفي فاتك رثاه المتنبي بقصيدته التي أولها:
الحزن يقلق والتجملُ يردعُ ... والدمع بينهما عصيٌ طيع
ومنها:
إِني لأجبن من فراق أحبتي ... وتحس نفسي بالحمام فأشجع
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يتوقع
ومن يغالط في الحقيقة نفسه ... ويسومها طلب المحال فتطمع
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفناء فتتبع
ثم دخلت سنة إِحدى وخمسين وثلاثمائة، وفي هذه السنة سارت الروم مع الدمستق وملكوا عين زربى بالأمان فقتلوا بعض أهلها وأطلقوا أكثرهم.
استيلاء الروم على حلب وعودهم عنها بغير سبب
وفي هذه السنة استولت الروم على مدينة حلب، دون قلعتها، وكان قد سار إِليها الدمستق، ولم يعلم به سيف الدولة إِلا عند وصوله، فلم يلحق سيف الدولة أن يجمع، وخرج فيمن معه وقاتل الدمستق، فقُتل غالب أصحابه وانهزم سيف الدولة في نفر قليل، وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب تسمى الدارين، فوجد الدمستق فيها ثلاثمائة بدرة من الدراهم، وأخذ لسيف الدولة ألف وأربعمائة بغل، ومن السلاح ما لا يحصى، وملكت الروم الحواضر وحصروا المدينة وثلموا السور، وقاتلهم أهل حلب أشد قتال، فتأخر الروم إِلى جبل جوشن.
ثم وقع بين أهل حلب ورجالة الشرطة فتنة، بسبب نهب كان وقع بالبلد، فاجتمع بسبب ذلك الناس، ولم يبق على الأسوار أحد، فوجد الروم السور خالياً، فهجموا البلد وفتحوا أبوابه وأطلقوا السيف في أهل حلب، وسبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة، فلما لم يبق معهم ظهر يحمل الغنائم، أمر الدمستق فأحرقوا ما بقي بعد ذلك، وأقام الدمستق تسعة أيام ثم ارتحل عائداً إِلى بلاده ولم ينهب قرايا حلب، وأمرهم بالزراعة ليعود من قابل إِلى حلب في زعمه.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة استولى ركن الدولة بن بويه على طبرستان وجرجان. وفيها كتب عامة الشيعة بأمر معز الدولة على المساجد، ما هذه صورته لعن الله معاوية بن أبي سفيان، ولعن من غصب فاطمة فدكا، ومن منع أن يدفن الحسن عند قبر جده، ومن نفى أبا ذر الغفاري، ومن أخرج أبا العباس عن الشورى.
فلما كان من الليل حكه بعض الناس، فأشار الوزير المهلبي على معز الدولة أن يكتب موضع المحي لعن الله الظالمين لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يذكر أحد في اللعن إِلا معاوية، ففعل ذلك. وفي هذه السنة في ذي القعدة سارت جيوش المسلمين إِلى صقلية، ففتحوا طبرمين، وهي من أمنع الحصون وأشدها على المسلمين بعد حصار سبعة أشهر ونصف، وسميت طبرمين المعزية نسبة إِلى المعز العلوي. وفيها فتحت الروم حصن دلوك بالسيف وثلاثة حصون مجاورة له.
وفي هذه السنة في شوال أسرت الروم أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان من منبج، وكان متقلداً بها. وفيها توفي أبو بكر محمد بن الحسن النقاش المقري، صاحب كتاب شفاء الصدور.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة توفي الوزير المهلبي أبو محمد، وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً عاقلاً ذا فضل. وفيها في عاشر المحرم أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم، وأن يظهروا النياحة، وأن يخرج النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه قد شققن ثيابهن ويلطمن وجوههن، على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك. ولم يقدر السنية على منع ذلك لكثرة الشيعة، والسلطان معهم. وفيها عزل ابن أبي الشوارب عن القضاء. وأَبطل ما كان التزم به من الضمان. وفيها قتل الروم ملكهم، وملكوا غيره، وصار ابن شمشقيق دمستقاً، وفيها في ثامن ذي الحجة، أمر معز الدولة بإِظهار الزينة في البلد والفرح، كما يفعل في الأعياد، فرحاً بعيد غد يرخم، وضربت الدبادب والبوقات.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة سار معز الدولة واستولى على الموصل ونصيبين، بعد أن انهزم ناصر الدولة من بين يديه، ثم وقع بينهما الاتفاق، وضمن ناصر الدولة الموصل بمال ارتضاه معز الدولة، فرحل معز الدولة ورجع إلى بغداد.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وثلاثمائة وفي هذه السنة سار ملك الروم إِلى المصيصة، فحاصرها وفتحها عنوة بالسيف، يوم السبت ثالث عشر رجب، ووضع السيف في أهلها، ثم رفع السيف وأخذ من بقي أسرى، ونقلهم إِلى بلد الروم، وكان أهلها نحو مائتي ألف إِنسان، ثم سار إِلى طرسوس، فطلب أهلها الأمان فأمنهم، وتسلم طرسوس وسار أهلها عنها في البر والبحر، وسير ملك الروم معهم من يحميهم، حتى وصلوا إِلى إنطاكية، وجعل جامع طرسوس اصطبلا، وأحرق المنبر، وعمر طرسوس حصنها وتراجع إِليها بعض أهلها وتنصر بعضهم، ثم عاد ملك الروم إِلى القسطنطينية.
مخالفة أهل إنطاكية على سيف الدولة بن حمدان
في هذه السنة أطاع أهل إنطاكية بعض المقدمين، الذين حضروا من طرسوس، وخالفوا سيف الدولة، وكان اسم المقدم الذي أطاعوه رشيقاً فسار إِلى جهة حلب، وقاتل عامل سيف الدولة قرعويه، وكان سيف الدولة بميافارقين فأرسل سيف الدولة عسكراً مع خادمه بشارة فاجتمع قرعويه العاعل بحلب مع بشارة، وقاتلا رشيق، فقتل رشيق وهرب بأصحابه، ودخلوا إنطاكية.
وفي هذه السنة قتل المتنبي الشاعر وابنه، قتلهما الأعراب وأخذوا ما معهما، واسمه أحمد بن الحسين بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الكندي، ومولده سنة ثلاث وثلاثمائة في الكوفة، بمحلة تسمى كندة، فنسب إِليها، وليس هو من كندة، التي هي قبيلة، بل هو جُعْفي القبيلة، بضم الجيم وسكون العين المهملة، ويقال إِنّ المتنبي كان سقاء بالكوفة، وفي ذلك يقول بعضهم يهجو المتنبي بأبيات منها:
أي فضل لشاعر يطلب الفض ... ل من الناس بكرة وعشيا
عاش حينا يبيع في الكوفة الما ... ء وحينا يبيع ماء المحيا
ثم قدم المتنبي إِلى الشام في صباه، واشتغل بفنون الأدب، ومهر فيها، وكان من المكثرين لنقل اللغة، والمطلعين عليها وعلى غريبها، لا يسأل عن شيء إلا واستشهد فيه بكلام العرب، حتى قيل إِن الشيخ أبا علي الفارسي صاحب كتاب الإيضاح قال له يوماً: كم لنا من الجموع على وزن فعلى، فقال المتنبي في الحال: حجلى وظربى. قال أبو علي فطالعت كتب اللغة ثلاث ليال على أن أجد لهما ثالثاً فلم أجد، وحسبك من يقول في حقه أبو علي هذه المقالة، وأما شعره فهو النهاية ورزق فيه السعادة، وإنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في برية السماوة، وتبعه خلق كثير من بني كلب، وغيرهم، فخرج إِليه لؤلؤ نائب الإخشيدية بحمص، فأسر المتنبي وتفرق عنه أصحابه، وحبسه طويلا ثم استتابه وأطلقه، ثم التحق المتنبي بسيف الدولة بن حمدان في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ثم فارقه واتصل بمصر سنة ست وأربعين، فمدح كافوراً الإِخشيدي، ثم هجاه وفارقه سنة خمسين وقصد عضد الدولة ببلاد فارس ومدحه، ثم رجع قاصداً الكوفة، فقتل بقرب النعمانية، وهي من الجانب الغربي من سواد بغداد عند دير العاقول، قتلته العرب، وأخذوا ما معه. وفيها توفي محمد بن حبان أبو حاتم بن أحمد بن حبان البستي صاحب التصانيف المشهورة، حبان بكسر الحاء المهملة والباء الموحدة ثم ألف ونون.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
خروج الروم إلى بلاد الإسلام في هذه السنة، خرجت الروم ووصلوا إلى آمد وحصروها، ثم انصرفوا عنها إِلى قرب نصيبين، وغنموا، وهرب أهل نصيبين، ثم ساروا من الجزيرة إِلى الشام ونازلوا إنطاكية وأقاموا عليها مدة طويلة، ثم رحلوا عنها إِلى طرسوس. وفي هذه السنة استفك سيف الدولة بن حمدان بن عمه أبا فراس ابن حمدان من الأسر، وكان بينه وببن الروم الفداء، فخلص عدة من المسلمين من الأسر.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
موت معز الدولة وولاية ابنه بختيار في هذه السنة سار معز الدولة إِلى واسط، وجهز الجيوش لمحاربة عمران بن شاهين صاحب البطيحة، وحصل له إِسهال، فلما قوي به عاد إِلى بغداد، وترك العسكر في قتال عمران بن شاهين، ثم تزايد به المرض بعد وصوله إِلى بغداد، فلما أحس بالموت، عهد إِلى ابنه بختيار، ولقبه عز الدولة، وأظهر معز الدولة التوبة وتصدق بأكثر ماله وأعتق مماليكه، وتوفي ببغداد في ثالث عشر ربيع الآخر من هذه السنة، بعلة الذرب، ودفن بباب التبن، في مقابر قريش، وكانت إمارته إِحدى وعشرين سنة، وأحد عشر شهراً. ولما مات معز الدولة استقر ابنه عز الدولة بختيار في الإمارة، وكتب بختيار إِلى العسكر بمصالحة عمران بن شاهين، وعودهم إِلى بغداد، ففعلوا ذلك، وكان معز الدولة مقطوع اليد، قيل إِنها قطعت بكرمان في بعض حروبه، ومعز الدولة هو الذي أنشأ السعاة ببغداد لأعلام أخيه ركن الدولة بالأحوال سريعاً، فنشأ في أيامه فضل ومرعوش وفاقا جميع السعاة، وكان كل واحد منهما يسير في اليوم نيفاً وأربعين فرسخاً، وتعصبت لهما الناس، وكان أحدهما ساعي السنية والآخر ساعي الشيعة، ولما تولى بختيار، أساء السيرة واشتغل باللعب واللهو وعشرة النساء، والمغنيين وبغى كبائر الديلم شرهاً إِلى إِقطاعاتهم.
القبض على ناصر الدولة بن حمدان
وفي هذه السنة، قبض ابن ناصر الدولة أبو تغلب، على أبيه ناصر الدولة، وحبسه وكان سبب قبضه، أن ناصر الدولة كان قد كبر وساءت أخلاقه، وضيق على أولاده وأصحابه وخالفهم في أغراضهم فضجروا منه، حتى وثب عليه ابنه أبو تغلب فقبضه في هذه السنة في أواخر جمادى الأولى، ووكل به من يخدمه، ولما فعل أبو تغلب ذلك خالفه بعض أخوته، فاحتاج أبو تغلب إِلى مداراة بختيار ليعضده، فضمن أبو تغلب البلاد لبختيار بألف ألف ومائتي ألف درهم.
وفاة وشمكير في هذه السنة مات وشمكير بن زيار أخو مرداويج بأن حمل عليه وهو في الصيد، خنزير مجروح، فقامت به فرسه فسقط إلى الأرض فمات، فقام بالأمر بعده ابنه بيستون بن وشمكير بن زيار، وقيل إِن موته كان سنة سبع وخمسين في المحرم.
وفاة كافور وفيها مات كافور الإخشيدي وكان خصياً أسود من موالي محمد بن طغج الإخشيدي صاحب مصر، واستولى كافور على ملك مصر والشام بعد موت أولاد الإخشيد، فإنه ملك بعد الإخشيد ابنه أنوجور، والأمر جميعه إِلى كافور، ثم مات أنوجور سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فأقام كافور أخاه علياً بن الإخشيد، فتوفي علي ابن الإخشيد المذكور، وهو صغير، في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة فاستقل كافور بالمملكة من هذا التاريخ وكان كافور شديد السواد، واشتراه الإخشيد بثمانية عشر ديناراً وقصده المتنبي ومدحه، وحكى المتنبي قال: كنت إِذا دخلت على كافور، أنشده يضحك لي، ويبش في وجهي إِلى أن أنشدته:
ولما صار ود الناس خبا ... جزيتَ على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه ... لعلمي أنه بعض الأنام
قال: فما ضحك بعدها في وجهي إِلى أن تفرقنا، فعجبت من فطنته وذكائه، ولم يزل كافور مستقلاً بالأمر حتى توفي في هذه السنة يوم الثلاثاء لعشرين بقين من جمادى الأولى بمصر، وقيل كانت وفاته سنة سبع وخمسين، ودفن بالقرافة الصغرى، وكان يدعى له على المنابر بمكة والحجاز جميعه، والديار المصرية، وبلاد الشام، وكان تقدير عمره خمساً وستين سنة، ووقع الخلف فيمن ينصب بعده، واتفقوا على أبي الفوارس أحمد بن علي بن الإخشيد وخطب له في جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلاثمائة.
وفاة سيف الدولة وفيها مات سيف الدولة، أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي الربعي، وكان موته بحلب في صفر، وحمل تابوته إِلى ميافارقين، فدفن بها، وكان مولده في ذي الحجة سنة ثلاث وثلاثمائة وكان مرضه عسر البول، وهو أول من ملك حلب من بني حمدان، أخذها من أحمد بن سعيد الكلابي نائب الإخشيد وقيل إن أول من ولى حلب من بني حمدان، الحسين بن سعيد، وهو أخو أبي فراس حمدان وكان سيف الدولة شجاعاً كريماً، وله شعر فمنه ما قاله في أخيه ناصر الدولة:
وهبت لك العلياء وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بيني وبين أخي فرق
وما كان لي عنها نكول وإنما ... تجاوزت عن حقي فتم لك الحق
أما كنت ترضى أن أكون مصلياً ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وله:
قد جرى في دمعه دمه ... فإلى كم أنت تظلمه
رد عنه الطرف منك فقد ... جَرحنه منك أسهمه
كيف يستطيع التجلد من ... خطرات الوهم تؤلمه
ولما توفي سيف الدولة، ملك بلاده بعده ابنه سعد الدولة شريف، وكنيته أبو المعالي بن سيف الدولة بن حمدان.
وفي هذه السنة توفي أبو علي محمد بن إِلياس، صاحب كرمان. وفي هذه السنة توفي أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف الأموي، الكاتب الأصفهاني صاحب كتاب الأغاني، وجده مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهو أصفهاني الأصل بغدادي المنشأ، وروى عن عالم كثير من العلماء، وكان عالماً بأيام الناس والأنساب والسير، وكان على أمويته متشيعاً، قيل إِنه جمع كتاب الأغاني في خمسين سنة وحمله إِلى سيف الدولة، فأعطاه ألف دينار، واعتذر إِليه، له غيره مصنفات عدة، وصنف كتباً لبني أمية أصحاب الأندلس، وسيرها إِليهم سراً وجاءه الإنعام منهم سراً، وكان منقطعاً إِلى الوزير المهلبي، وله فيه مدائح، وكانت ولادته سنة أربع وثمانين ومائتين، وأسماء الكتب التي صنفها لبني أمية: نسب بني عبد شمس، وأيام العرب ألف وسبع مائة يوم، وجمهرة النسب ونسب بني سنان.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة في هذه السنة استولى عضد الدولة ابن ركن الدولة بن بويه على كرمان بعد موت صاحبها علي بن إِلياس.
قتل أبي فراس بن حمدان وفي هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس وكان مقيماً بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي بن سيف الدولة وحشة، وطلبه أبو المعالي، فانحاز أبو فراس إلى صدد فأرسل أبو المعالي عسكر مع قرعويه، أحد قواد عسكره، فكبسوا أبا فراس في صدد، وقتلوه، وكان أبو فراس خال أبي المعالي وابن عمه، واسم أبي فراس الحارث بن أبي العلا سعيد بن حمدان بن حمدون وهو ابن عم ناصر الدولة، وسيف الدولة أسر بمنبج كما ذكرناه، وحمل إِلى القسطنطينية، وأقام في الأسر أربع سنين، وله في الأسر أشعار كثيرة، وكانت منبج إِقطاعه. وقال ابن خالويه. لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه، فأرسله إِليه وقاتله، فقتل في صدد وقيل بقي مجروحاً أياماً،َ ومات، وكان مولده سنة عشرين وثلاثمائة. وفي مقتله في صدد يقول بعضهم:
وعلمني الصد من بعده ... عن النوم مصرعه في صدد
فسقيا لها إِذ حوت شخصه ... وبعداً لها حيث فيها ابتعد
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات المتقي لله إِبراهيم بن المقتدر في داره أعمى مخلوعاً، ودفن فيها. وفيها توفي علي بن قيدار الصوفي في النيسابوري.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
ملك المعز العلوي مصر في هذه السنة، سير المعز لدين الله أبو تميم معد بن إِسماعيل المنصور بالله ابن القائم محمد بن المهدي عبيد الله القائد أبا الحسين، جوهر أغلام، والده المنصور، وجوهر رومي الجنس، فسار جوهر المذكور، في جيش كثيف إلى الديار المصرية، فاستولى عليها، وكان سبب ذلك أنه لما مات كافور الإِخشيدي، اختلفت الأهواء في مصر، وتفرقت الآراء، فبلغ ذلك المعز، فجهّز العسكر إِليها، فهربت العساكر الإِخشيدية من جوهر المذكور قبل وصوله، ووصل القائد جوهر إِلى الديار المصرية سابع عشر شعبان، وأقيمت الدعوة للمعز في الجامع العتيق في شوال، وكان الخطيب أبا محمد عبد الله بن الحسين الشمشاطي، وفي جمادى الأولى من سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، قدم جوهر إِلى جامع ابن طولون وأمر فأذن فيه بحي على خير العمل، ثم أذّن بعده بذلك في الجامع العتيق، وجهر في الصلاة يبسم الله الرحمن الرحيم ولما استقر جوهر بمصر شرع في بناء القاهرة.
ملك عسكر المعز دمشق وغيرها من البلاد ولما استقر قدم جوهر بمصر، سيّر جمعاً كثيراً مع جعفر بن فلاج إلى الشام، فبلغ الرملة، وبها للحسن بن عبد الله بن طغج، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لعسكر المعز، وأسر ابن طغج وغيره من القواد، فسيرهم جوهر إِلى المعز، واستولى عساكر المعز على تلك البلاد، وجبوا أموالها.
ثم سار جعفر بن فلاج بالعساكر إِلى طبرية، فوجد أهلها قد أقاموا الدعوة للمعز قبل وصوله. فسار عنها إِلى دمشق، فقاتله أهلها فظفر بهم، وملك دمشق ونهب بعضهما، وكف عن الباقين، وأقام الخطبة يوم الجمعة للمعز لدين الله العلوي، لأيام خلت من المحرم، سنة تسع وخمسين، وقطعت الخطبة العباسية، وجرى في أثناء هذه السنة بعد إِقامة الخطبة العلوية، فتنة بين أهل دمشق وجعفر بن فلاج، ووقع بينهم حروب، وقطعوا الخطبة العلوية، ثم استظهر جعفر بن فلاج واستولى على دمشق، فزالت الفتن واستقرت دمشق للمعز لدين الله العلوي.
اختلاف أولاد ناصر الدولة وموت أبيهم كان أبو تغلب وأبو البركات، وأختهما فاطمة، أولاد ناصر الدولة، من زوجته فاطمة بنت أحمد الكردية، وكانت مالكة أمر ناصر الدولة، فاتفقت مع ابنها أبي تغلب، وقبضوا على ناصر الدولة على ما ذكرناه، وكان لناصر الدولة ابن آخر اسمه حمدان، كان ناصر الدولة قد أقطعه الرحبة وماردين وغيرهما، فلما قبض ناصر الدولة، كاتب ابنه حمدان يستدعيه، ليتقوى به على المذكورين، فظفر أولاده بالكتاب، فخوفوا أباهم وحذروه، وبلغ ذلك حمدان، فعادى أخوته، وكان أشجعهم، ولما خاف أبو تغلب من أبيه ناصر الدولة، نقله إِلى قلعة كواشي، وحبسه بها، وبقي ناصر الدولة محبوساً بها شهوراً، ومات ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحارث بن لقمان التغلبي المذكور، بقلعة كواشي، في ربيع الأول من هذه السنة، ووقع بين حمدان بن ناصر الدولة، وبين أخويه أبي تغلب وأبي بركات حروب كثيرة، قتل فيها أبو البركات، قتله أخوه حمدان. ثم قوي أبو تغلب على أخيه حمدان وطرده عن بلاده، واستولى عليها، وكان يلقب أبو تغلب بن ناصر الدولة المذكور، عدة الدولة الغضنفر أبا تغلب.
ما فعله الروم بالشام في هذه السنة دخل ملك الروم إِلى الشام، ولم يمنعه أحد، فسار في البلاد إلى طرابلس، وفتح قلعة عرقة بالسيف، ثم قصد حمص، وقد أخلاها أهلها، فأحرقها ورجع إِلى بلاد الساحل، فأتى عليها نهباً وتخريباً، وملك ثمانية عشر منبراً، وأقام في الشام شهرين، ثم عاد إِلى بلاده، ومعه من الأسرى والغنائم ما يفوق الحصر.
استيلاء قرعويه على حلب في هذه السنة استولى قرعويه غلام سيف الدولة على حلب، وأخرج ابن أستاذه أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان منها، فسار أبو المعالي إِلى عند والدته بميافارقين، وأقام عندها، ثم جرى بينهما وحشة، ثم اتفقا بعدها، ثم سار أبو المعالي فعبر الفرات وقصد حماة وأقام بها. وفي هذه السنة طلب سابور بن أبي طاهر القرمطي من أعمامه، أن يسلموا الأمر إِليه، فحبسوه ثم أخرج ميتاً في منتصف رمضان.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
ما ملكه الروم من البلاد في هذه السنة، سارت الروم إِلى الشام، ففتحوا إنطاكية بالسيف، وقتلوا أهلها، وغنموا وسبوا، ثم قصدوا حلب، وقد تغلب عليها قرعويه، غلام سيف الدولة بن حمدان، بعد طرد ابن أستاذه أبي المعالي عنها، فتحصن قرعويه بالقلعة، وملك الروم مدينة حلب وحصروا القلعة، ثم اصطلحوا على مال يحمله قرعويه إلى ملك الروم في كل سنة، وكانت المصالحة بحمل المال المقرر على حلب وما معها من البلاد، وهي حماة وحمص وكفر طاب والمعرة وأفامية وشيزر وما بين ذلك، ودفع أهل حلب الرهائن بالمال إِلى الروم، فرحلت الروم عن حلب، وعادت المسلمون إِليها.
وفيها رسل ملك الروم إِلى ملاز كرد من أرمينية جيشاً، فحصروها وفتحوها، عنوة بالسيف، وصارت البلاد كلها مسبية، ولا يمنع الروم عنها مانع.
قتل ملك الروم
كان قد غلب على ملك الروم رجل ليس من بيت المملكة، واسمه نقفور وخرج إلى بلاد الإسلام وفتح من الشام وغيره ما ذكرناه، وطمع في ملك جميع الشام وعظمت هيبته، وكان قد قتل الملك الذي قبله، وتزوج امرأته، ثم أراد أن يخصي أولادها الذين من بيت الملك، لينقطع نسلهم، ويبقى الملك في نسل نقفور المذكور وعقبه، فعظم ذلك على أمهم التي هي زوجة نقفور، فاتفقت مع الدمستق على قتله، وأدخلت الدمستق مع جماعة في زي النساء إِلى كنيسة متصلة بدار نقفور، فلما نام نقفور وغلقت الأبواب قامت زوجته ففتحت الباب الذي إِلى جهة الكنيسة، ودعت الدمستق، فدخل على نقفور وهو نائم، فقتله وأراح الله المسلمين من شره، وأقام الدمستق أحد أولادها الذي من بيت الملك في الملك، والدمستق عندهم اسم لكل من يلي بلاد الروم التي هي شرقي خليج قسطنطينية.
استيلاء أبي تغلب بن ناصر الدولة على حران في هذه السنة سار أبو تغلب إِلى حَران وحاصرها مدة وفتحها بالأمان، فاستعمل على حران البرقعيدي، وهو من أكابر أصحاب بني حَمْدان، ثم عاد أبو تغلب إِلى المَوْصل.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة اصطلح قرعويه مع ابن أستاذه أبي المعالي، وخطب له بحلب، وكان أبو المعالي حينئذ بحمص، وخطب أيضاً بحمص وحلب للمعز لدين الله العلوي، صاحب مصر، وخطب بمكة للمطيع، وبالمدينة النبوية للمعز، وخطب أبو محمد الموسوي والد الشريف الرضي خارج المدينة للمطيع.
وفي هذه السنة مات محمد بن داود الدينوري، المعروف بالرقي وهو من مشاهير مشايخ الصوفية، والقاضي أبو العلا محارب بن محمد بن محارب، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالفقه والكلام.
ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة.
ملك القرامطة دمشق في هذه السنة، في ذي القعدة، وصلت القرامطة إِلى دمشق، وبلغ خبرهم جعفر ابن فلاج، نائب المعز لدين الله، فاستهان بهم، فكبسوه خارج دمشق وقتلوه، وملكوا دمشق وأمنوا أهلها، ثم ساروا إِلى الرملة فملكوها، ثم اجتمع إليهم خلق من الإخشيدية. فقصدوا مصر، ونزلوا بعين شمس، وجرى بنيهم وبين المغاربة وجوهر قتال، انتصرت فيه القرامطة، ثم انتصرت المغاربة، فرحلت القرامطة وعادوا إلى الشام، وكان كبير القرامطة حينئذ اسمه الحسن بن أحمد بن بهرام.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة، الصاحب أبا القاسم ابن عباد. وفيها مات أبو القاسم سليمان بن أيوب الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة بأصفهان، وكان عمره مائة سنة. وفيها توفي السري الرفاء الشاعر الموصلي ببغداد.
ثم دخلت سنة إِحدى وستين وثلاثمائة في هذه السنة وصلت الروم إِلى الجزيرة والرها ونصيبين، فغنموا وقتلوا، ووصل المسلمون إلى بغداد مستصرخين، فثارت العامة. وجرى في بغداد فتن كثيرة، واستغاثوا إِلى بختيار وهو في الصيد، فوعدهم الخروج إِلى الغزاة، وأرسل بختيار يطلب من الخليفة المطيع مالاً، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإِن أحببتم اعتزلت، فتهدده بختيار، فباع الخليفة قماشه وغير ذلك، حتى حمل إِلى بختيار أربعمائة ألف درهم، فأنفقها بختيار وأخرجها في مصالح نفسه، وبطل حديث الغزاة، وشاع في الناس أن الخليفة صودرَ.
مسير المعز لدين الله العلوي إِلى مصر وفي هذه السنة سار المعز من إفريقية، في أواخر شوال واستعمل على بلاد إفريقية يوسف، ويسمى بلكين بن زيري بن مناذ الصنهاجي، وجعل على بلاد صقلية أبا القاسم علي بن الحسين بن علي بن أبي الحسين، وعلى طرابلس الغرب عبد الله بن يخلف الكتامي، واستصحب المعز معه أهله وخزانته، وفيها أموال عظيمة، حتى سبك الدنانير وعملها مثل الطواحين، وشالها على جمال، ولما وصل إلى برقة ومعه محمد بن هاني الشاعر الأندلسي، قتل غيلة، لا يدري من قتله، وكان شاعراً مجيداً، وغالي في مدح المعز حتى كفر في شعره، فمما قاله:
ما شئتَ لا ما شاءَتِ الأقدار ... فاحكمْ فأنتَ الواحد القهار
ثم سار المعز حتى وصل إِلى الإسكندرية في أواخر شعبان، سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، وأتاه أهل مصر وأعيانها فلقيهم وأكرمهم، ودخل القاهرة خامس شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة، تم الصلح بين منصور بن نوح الساماني، صاحب خراسان وبين ركن الدولة بن بويه، على أن يحمل ركن الدولة إِليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج منصور بابنة عضد الدولة. وفيها ملك أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان قلعة ماردين، سلمها إِليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كل ما لأخيه فيها من مال وسلاح.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فيها وصل الدمستق إلى جهة ميافارقين، فنهب واستهان بالمسلمين، فجهز أبو تغلب بن ناصر الدولة، أخاه هبة الله بن ناصر الدولة، في جيش، فالتقوا مع الدمستق، فانهزمت الروم، وأخذ الدمستق أسيراً، وبقي في الحبس عند أبي تغلب، ومرض فعالجه أبو تغلب، فلم ينجع فيه، ومات الدمستق في الحبس.
غير ذلك من الحوادثفي هذه السنة استوزر عز الدولة، بختيار، محمد بن بقية، فعجب الناس. من ذلك، لأن ابن بقية كان رضيعاً في نفسه من أهل أوانا، وكان أبوه أحد الزراعين. وفي هذه السنة حصلت الوحشة بين بختيار وبين أصحابه من الديلم والأتراك.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
خلع المطيع وخلافة ابنه الطايعكان بختيار قد سار إِلى الأهواز، وتخلف سبكتكين التركي عنه ببغداد، فأوقع بختيار بمن معه من الأتراك، واحتاط على إِقطاع سبكتكين، فخرج عليه سبكتكين ببغداد فيمن بقي معه من الأتراك، ونهب دار بختيار ببغداد؛ ولما حكم سبكتكين، رأى المطيع عاجزاً من المرض، وقد ثقل لسانه، وتعذرت الحركة عليه، وكان المطيع يستر ذلك، فلما انكشف لسبكتكين، دعاه إِلى أن يخلع نفسه من الخلافة، ويسلمها إِلى ولده الطايع، فأجاب إِلى ذلك، وخلع المطيع لله المفضل نفسه، في منتصف ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وكانت مدة خلافته تسعاً وعشرين سنة وخمسة أشهر غير أيام.
وبويع الطايع لله وهو رابع عشرينهم، واسمه عبد الكريم بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد أحمد، وكنية الطايع المذكور أبو بكر، واستقر أمره.
أحوال المعز العلوي وفي هذه السنة سارت القرامطة إِلى ديار مصر، وجرى بينهم وبين المعز حروب، آخرها أن القرامطة انهزمت، وقتل منهم خلق كثير، وأرسل المعز في أثرهم عشرة آلاف فارس، فسارت القرامطة إِلى الإِحساء والقطيف، ولما انهزمت القرامطة وفارقوا الشام، أرسل المعز لدين الله القائد ظالم بن موهوب العقيلي إِلى دمشق فدخلها، وعظم حاله وكثرت جموعه. ثم وقع بين أهل دمشق والمغاربة وعاملهم المذكور فتن كثيرة، وأحرقوا بعض دمشق، وعامت الفتن بينهم إِلى سنة أربع وستين وثلاثمائة.
حال بختيار لما جرى لبختيار وسبكتكين والأتراك ما ذكرناه، انحدر سبكتكين بالأتراك إِلى واسط، وأخذوا معهم الخليفة الطايع، والمطيع وهو مخلوع، فمات المطيع بدير العاقول، ومرض سبكتكين ومات أيضاً، وحملا إِلى بغداد، وقدم الأتراك عليهم أفتكين وهو من أكابر قوادهم، وساروا إِلى واسط، وبها بختيار، فنزلوا قريباً منه، ووقع القتال بين الأتراك وبختيار قريب خمسين يوماً، والظفر للأتراك ورُسُل بختيار متتابعة إِلى ابن عمه عضد الدولة، بالحث والإسراع، وكتب إِليه:
فإِن كنتُ مأكولاً فكن أنت آكلي ... وإلا فأدركني ولما أمزق
فسار عضد الدولة إِليه، وخرجت هذه السنة والحال على ذلك. وفي هذه السنة انتهى تاريخ ثابت بن قره، وابتدأه من خلافة المقتدر، سنة خمس وتسعين ومائتين.
ثم دخلت سنة أربع وستين وثلاثمائة.
استيلاء عضد الدولة على العِراق والقبض على بختيار، في هذه السنة سار عضد الدولة بعساكر فارس، لما أتاه مكاتبات بختيار كما ذكرناه، فلما قارب واسط، رجع أفتكين والأتراك إِلى بغداد، وصار عضد الدولة من الجانب الشرقي، وأمر بختيار أن يسير في الجانب الغربي إِلى نحو بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد، وقاتلوا عضد الدولة، فانهزمت الأتراك وقتل بينهم خلق كثير، وكانت الوقعة بينهم رابع عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وسار عضد الدولة فدخل بغداد، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم، فرده عضد الدولة إِلى بغداد، فوصل الخليفة إِلى بغداد في الماء، ثامن رجب من هذه السنة.
ولمّا استقر عضد الدولة ببغداد، شغبت الجند على بختيار يطلبون أرزاقهم، ولم يكن قد بقي مع بختيار شيء من الأموال، فأشار عضد الدولة على بختيار أن يغلق بابه، ويتبرأ من الإمرة، ليصلح الحال مع الجند. ففعل بختيار ذلك، وصرف كتابه وحجابه، فأشهد عضد الدولة الناس على بختيار، أنه عاجز وقد استعفى من الإمرة، عجزاً عنها، ثم استدعى عضد الدولة بختيار وأِخوته إِليه، وقبض عليهم في السادس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، واستقر عضد الدولة ببغداد، وعظم أمر الخليفة وحمل إِليه مالاً كثيراً وأمتعة.
عود بختيار إلى ملكه لما قبض بختيار، كان ولده المرزبان بالبصرة متولياً لها، فلما بلغه قبض والده كتب إِلى ركن الدولة يشكو إليه ذلك، فلما بلغ ركن الدولة ذلك، عظم عليه حتى ألقى نفسه إلى الأرض، وامتنع عن الأكل والشرب، حتى مرض وأنكر على عضد الدولة أشد الإِنكار. فأرسل عضد الدولة يسأل أباه في أن يعوض بختيار مملكة فارس، فأراد ركن الدولة قتل الرسول وقال: إِن لم يعد بختيار إِلى مملكته وإلا سرت إِليه بنفسي، وكان قد سيّر عضد الدولة أبا الفتح بن العميد إِلى والده ركن الدولة أيضاً، في تلطيف الحال، فرده ركن الدولة أقبح رد، فلما رأى عضد الدولة اضطراب الأمور عليه بسبب غضب أبيه، اضطر إلى امتثال أمره، فأخرج بختيار من محبسه، وخلع عليه، وأعاده إِلى ملكه وسار عضد الدولة إِلى فارس في شوال من هذه السنة.
استيلاء أفتكين على دمشق كان أفتكين من موالي معز الدولة بن بويه، وكان تركياً، فلما انهزم من بختيار عند قدوم عضد الدولة، حسبما ذكرناه، سار إلى حمص، ثم إِلى دمشق، وأميرها ريان الخادم، من جهة المعز العلوي فاتفق أهل دمشق مع أفتكين وأخرجوا ريان الخادم، وقطعوا خطبة المعز في شعبان، واستولى أفتكين على دمشق، فعزم المعز العلوي على المسير من مصر إِلى الشام لقتال أفتكين، فاتفق مرت المعز في تلك الأيام على ما نذكره وتولى ابنه العزيز، فجهز القائد جوهراً إِلى الشام. فوصل إلى دمشق وحصر أفتكين بها فأرسل أفتكين إِلى القرامطة فساروا إِلى دمشق، فلما قربوا منها رحل جوهر عائداً إلى جهة مصر فسار أفتكين والقرامطة في أثره، واجتمع معهم خلق عظيم فلحقوا جوهراً قرب الرملة، فرأى جوهر ضعفه عنهم، فدخل عسقلان، فحصروه بها حتى أشرف جوهر وعسكره على الهلاك من الجوع، فراسل جوهر أفتكين، وبذل له أموالاً عظيمة في أن يمن عليه ويطلقه، فرحل عنه أفتكين.
وسار جوهر إِلى مصر، وأعلم العزيز بصورة الحال، فخرج العزيز بنفسه وسار إِلى الشام، فوصل إِلى ظاهر الرملة، وسار إِليه أفتكين والقرامطة، والتقوا، وجرى بينهم قتال شديد، وانهزم أفتكين والقرامطة، وكثر فيهم القتل والأسر، وجعل العزيز لمن يحضر أفتكين مائة ألف دينار، وتم أفتكين هارباً حتى نزل ببيت مفرج بن دغفل الطائي فأمسكه مفرج بن دغفل المذكور، وكان صاحب أفتكين، وحضر مفرج إلى العزيز وأعلمه بأسر أفتكين، وطلب منه المال فأعطاه ما ضمنه، وأرسل معه من أحضر أفتكين، فلما حضر أفتكين ممسوكاً بين يدي العزيز أطلقه ونصب له خيمة، وأطلق من كان في الأسر من أصحابه، وحمل العزيز إِليه أموالاً وخلعاً، ثم عاد العزيز إِلى مصر وأفتكين صحبته، على أعظم ما يكون من المنزلة، وبقي كذلك حتى مات أفتكين بمصر.
ثم دخلت سنة خمس وستين وثلاثمائة.
وفاة المعز العلوي وولاية ابنه العزيز في هذه السنة توفي المعز لدين الله أبو تميم معد بن المنصور بالله إِسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي عبيد الله العلوي الحسيني بمصر، في سابع عشر ربيع الأول وولد بالمهدية من إِفريقية، حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة فيكون عمره خمساً وأربعين سنة وستة أشهر تقريباً، وكان مغواً بالنجوم، ويعمل بأقوال المنجمين، وكان فاضلا، ولما مات المعز أخفى العزيز ابنه موته، وأظهره في عيد النحر من هذه السنة، وبايعه الناس.
غير ذلك من الحوادث
في أواخر هذه السنة وأول التي بعدها سار أبو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي الحسين أمير صقلية إِلى الغزوة ففتح مدينة مسينة ثم عدى إِلى كتنه ففتحها، وفتح قلعة جلوى وبث سراياه في نواحي قلورية، وغنم وسبى وفتح غير ذلك من تلك البلاد. وفيها خطب للعزيز العلوي بمكة. وفيها توفي ثابت بن سنان ابن قرة الصابي صاحب التاريخ. وفيها وقيل بل في سنة ست وستين وثلاثمائة، وقيل في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة توفي أبو بكر واسمه محمد بن علي بن إِسماعيل القفال الشاشي الفقيه الشافعي إِمام عصره، لم يكن بما وراء النهر في وقته مثله، رحل إِلى العراق والشام والحجاز، وأخذ الفقه عن ابن سريج، وروى عن محمد بن جرير الطبري وأقرانه، وروى عنه الحاكم بن منده، وجماعة كثيرة، وأبو بكر القفال المذكور، هو والد قاسم صاحب كتاب التقريب، الذي ينقل عنه في النهاية والوسيط والبسيط، وذكره الغزالي في الباب الثاني من كتاب الرهن، كنه قال أبو القاسم، وهو غلط، وصوابه القاسم وهذا التقريب غير التقريب الذي لسليم الرازي، فإِن التقريب الذي للقاسم بن القفال الشاشي قليل الوجود، بخلاف تقريب سليم الرازي. والشاشي منسوب إِلى الشاش، وهي مدينة وراء نهر سيحون في أرض الترك، وأبو بكر محمد الشاشي المذكور، غير أبي بكر محمد الشاشي صاحب العمدة، والكتاب المستظهري الذي سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمس مائة المتأخر عن الشاشي القفال المذكور.
ثم دخلت سنة ست وستين وثلاثمائة.
وفاة ركن الدولة وملك عضد الدولة في هذه السنة في المحرم، توفي ركن الدولة الحسن بن بويه، واستخلف على مماليكه ابنه عضد الدولة، وكان عمر ركن الدولة قد زاد على سبعين سنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سنة، وأصيب به الدين والدنيا جميعاً لاستكمال خلال الخير فيه، وعقد لولده، فخر الدولة على همدان، وأعمال الجبل، لولده مزيد الدولة على أصفهان وأعمالها، وجعلهما تحت حكم أخيهما عضد في هذه البلاد.
مسير عضد الدولة إِلى العراق وفيها بعد وفاة ركن الدولة، سار عضد الدولة إِلى العراق، فخرج بختيار إِلى قتاله، فاقتتلا بالأهواز، وخامر أكثر جيش بختيار عليه، فانهزم بختيار إِلى واسط، وبعث عضد الدولة عسكراً فاستولوا على البصرة، ثم سار بختيار إِلى بغداد، وسار عضد الدولة إلى البصرة، وتلك النواحي، وقرر أمورها، واستمر الحال على ذلك حتى خرجت هذه السنة.
ابتداء دولة آل سبكتكين وفي هذه السنة ملك سبكتيكين مدينة غزنة. وكان سبكتكين من غلمان أبي إِسحاق بن البتكين، صاحب جيش غزنة للسامانية، وكان سبكتكين مقدماً عند مولاه أبي إِسحاق، لعقله وشجاعته، فلما مات أبو إِسحاق ولم يكن له ولد، اتفق العسكر وولوا سبكتكين عليهم لكمال صفات الخير فيه، وحلفوا له وأطاعوه، ثم إِن سبكتكين عظم شأنه وارتفع قدره وغزا بلاد الهند واستولى على بُسْت وفصْدار.
غير ذلك من الحوادث فيها مات منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان، صاحب خراسان وما وراء النهر في منتصف شوال، في بخارى، وكانت ولايته نحو خمس عشرة سنة، وولي الأمر بعده ابنه نوح بن منصور، وعمره نحو ثلاث عشرة سنة وفيها مات القاضي منذر بن سعيد البلوطي، قاضي قضاة الأندلس، وكان إِماماً فقيهاً خطيباً شاعراً ذا دين متين، وفيها قبض عضد الدولة على أبي الفتح بن العميد وزير أبيه وسمل عينه الواحدة، وقطع أنفه، وكان أبو الفتح ليلة قبض، قد أمسى مسروراً، وأحضر ندماءه، وأظهر من الآلات الذهبية والزجاج المليح، وأنواع الطيب، ما ليس لأحد مثله، وشربوا وعمل شعراً، وغني له به وهو:
دعوت المنى ودعوتُ العلى ... فلما أجابا دعوتُ القَدَح
وقلت لأيام شرخ الشبابِ ... إِلي فهذا أوان الفرح
إِذا بلغ المرء آماله ... ليس له بعدها مقترح
فطاب عليه وشرب حتى سكر ونام، فقبض عليه في السحر من تلك الليلة.
وفاة الحكم الأموي صاحب الأندلس الملقب بالمستنصر
في هذه السنة. توفي الحكم بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان الأموي، صاحب الأندلس وكانت إِمارته خمسٍ عشرة سنة، وخمسة أشهر، وعمره ثلاثاً وستين سنة وسبعة أشهر، وكان فقيهاً عالماً بالتاريخ، وغيره، وعهد إِلى ابنه هشام بن الحكم، وعمره عشر سنين ولقبه المؤيد بالله فلما مات بايع الناس ابنه هشاماً، ولما بويع المؤيد هشام بالخلافة، وكان عمره عشرة أعوام، فتولى حجابته وتنفيذ أموره أبو عامر محمد بن عبد الله بن أبي عامر محمد ابن الوليد بن يزيد المعافري القحطاني، ويلقب أبو عامر المذكور، بالمنصور، واستولى على الدولة وحجب المؤكد، ولم يترك أحداً يصل إِليه ولا يراه واستبد بالأمر، وأصل المنصور بن أبي عامر المذكور من الجزيرة الخضراء من الأندلس، من قرية من أعمالها تسمى طرش، واشتغل المنصور بالعلوم في قرطبة وكانت له نفس شريفة، فبلغ معالي الأمور، واجتمعت عنده الفضلاء وأكثر الغزو والجهاد في الفرنج، حتى بلغت عدة غزواته نيفاً وخمسين غزوة، ومن عجائب الاتفاقات أن صاعد بن الحسن اللغوي، أهدى إِلى المنصور المذكور أيلاً مربوطاً في رقبته بحبل، وأحضر مع الأيل أبياتاً يمتدح المنصور فيها، وكان المنصور قد أرسل عسكراً لغزو الفرنج، وملكهم إِذ ذاك اسمه غرسية بن سانجة، والأبيات كثيرة منها:
عبد نشلت بضبعه وعرسته ... في نعمة أهدى إليك بأيل
سمته غرسية وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفاؤلي
فلأن قبلت فتلك أسنى نعمة ... أسدى بها ذو منحة وتطول
فقضى الله في سابق علمه، أن عسكره أسروا غرسية في ذلك اليوم الذي أُهدي فيه الأيل بعينه، وكان أسر غرسية. وهذه الواقعة في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، وبقي المنصور على منزلته حتى توفي في سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
عود شريف إلى ملك حلب فيها عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة إِلى ملك حلب، وسببه أنه لما جرى بين قرعويه وبين أبي المعالي ما قدمنا ذكره من استيلاء قرعويه على حلب، ومقام أبي المعالي بحماة، وصل إِلى أبي المعالي وهو بحماة، مارقطاش مولى أبيه من حصن برزية وخدمه وعمر له مدينة حمص، بعد ما كان قد أخربها الروم، وكان لقرعويه مولى يقال له بكجور وقد جعله قرعويه نائبه، فقوي بكجور واستفحل أمره، وقبض على مولاه قرعويه، وحبسه في قلعة حلب، واستولى بكجور على حلب وكاتب أهلها أبا المعالي، فسار أبو المعالي إِلى حلب، وأنزل بكجور بالأمان، وحلف له أنه يوليه حمص، فنزل بكجور وولاه أبو المعالي حمص، واستقر أبو المعالي مالكاً لحلب.
غير ذلك في هذه السنة توفي بهستون بن وشمكير بجرجان، واستولى على طبرستان وعلى جرجان أخره قابوس بن وشمكير بن زيار. وفيها توفي يوسف بن الحسن الجنابي القرمطي صاحب هجر، ومولده سنة ثمانين ومائتين، وتولى أمر القرامطة بعده سنة نفر شركة، وسموا السادة.
ثم دخلت سنة سبع وستين وثلاثمائة.
استيلاء عضد الدولة على العراق وغيره وقتل بختيار وفي هذه السنة سار عضد الدولة إِلى العراق. وكتب إِلى بختيار يقول له اخرج عن هذه البلاد، وأنا أعطيك أي بلاد اخترت غيرها. فمال بختيار إِلى ذلك، وأرسل له عضد الدولة خلعة فلبسها، وسار بختيار إلى نحو الشام، ودخل عضد الدولة بغداد واستقر فيها، وقتل ابن بقية وزير بختيار وصلبه، ورثاه أبر الحسن الأنباري بقصيدته المشهورة التي منها:
علو في الحياة وفي الممات ... لحق أنت إِحدى المعجزات
كأن الناسَ حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
مَدَدْتَ يديكَ نحوهم اقتفاء ... كمدهما إِليهم في الهباتِ
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضم علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... الأكفان ثوب السافياتِ
لعظمك في النفوس تبيتُ ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلا ... كذلك كنت أيام الحياةِ
وسار مع بختيار، حمدان بن ناصر الدولة، فأطمعه حمدان في ملك الموصل، وحسن له ذلك، وهون عليه أمر أخيه أبي تغلب، فسار بختيار إِلى جهة الموصل، فأرسل أبو تغلب يقول لبختيار: إِن سلمت إِليّ أخي حمدان، صرت معك وقاتلت عضد الدولة، وأخرجته من العراق، فقبض بختيار على حمدان، وحبله وسلمه إِلى أخيه أبي تغلب، وارتكب فيه من الغدر أمراً شنيعاً، فحبسه أخوه أبو تغلب واجتمع أبو تغلب بعساكره مع بختيار، وقصدا عضد الدولة، فخرج عضد الدولة من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت، ثامن شوال من هذه السنة، فهزمهما عضد الدولة وأمسك بختيار أسيراً فقتله، ثم سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها وهرب أبو تغلب إِلى نحو ميافارقين، فأرسل عضد الدولة جيشاً في طلبه ومقدمهم أبو الوفاء فلما وصلوا إِلى ميافارقين هرب أبو تغلب إلى بدليس، وتبعه عسكر عضد الدولة، فهرب إلى نحو بلاد الروم. فلحقه العسكر، وجرى بينهم قتال، فانتصر أبو تغلب وهزم عسكر عضد الدولة، ثم سار أبو تغلب إِلى حصن زياد، ويعرف الآن بخرت برت، ثم سار إلى آمد، وأقام بها، وفيها توفي ظهير الدولة بهستون ابن وشمكير، وملك بعده أخوه شمس المعالي قابوس بن وشمكير.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة البغدادي، وكان قاضي السندية وغيرها من أعمال بغداد، وكان إِحدى عجائب الدنيا في سرعة البديهة بالجواب عن جميع ما يسأل عنه، في أفصح لفظ وأملح سجَع. وكان مختصاً بصحبة الوزير المهلبي، وكان رؤساء العصر يلاعبونه ويكتبون إِليه المسائل المضحكة، فيكتب الجواب من غير توقف، وكان الوزير المهلبي يغري به جماعة يضعون له الأسئلة الهزلية ليجيب عنها، فمن ذلك ما كتب إليه به العباس بن المعلى الكاتب، ما يقول القاضي وفقه الله تعالى، في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولداً جسمه للبشر ووجهه للبقر، وقد قبض عليهما، فما يرى القاضي فيهما؟ فكتب الجواب بديهاً: هذا من أعدل الشهود على اليهود، بأنهم شربوا العجل في صدورهم فخرج من أيورهم، وأرى أن يناط برأس اليهودي رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل، ويسحبا على الأرض وينادى عليهما، ظلماتٌ بعضها فوق بعض والسلام. والسندية: قرية على نهر عيسى، بين بغداد والأنبار، وينسب إِليها سندواني، ليحصل الفرق بين النسبة إِليها وبين النسبة إِلى بلاد السند.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وثلاثمائة فيها فتح أبو الوفا مقدم عسكر عضد الدولة ميافارقين بالأمان، فلما سمع أبو تغلب بفتحها، سار عن آمد نحو الرحبة، ثم سار عسكر عضد الدولة مع أبي الوفاء، ففتحوا آمد واستولى عضد الدولة على جميع ديار بكر، ثم استولى على ديار مضر - بالضاد المعجمة - والرحب، ولما استولى عضد الدولة على جميع مملكة أبي تغلب، واستخلف أبا الوفاء على الموصل، وسار عضد الدولة ودخل بغداد. وأما أبو تغلب فإنه سار إِلى دمشق، وكان قد تغلب على دمشق قسام وهو شخص كان يثق إِليه أفتكين ويقدمه، فاستولى قسام على دمشق، وكان يخطب فيها للعزيز صاحب مصر، فلما وصل أبو تغلب إِلى دمشق، قاتله قسام ومنعه من دخول دمشق، فسار أبو تغلب إلى طبرية.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي القاضي أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي مصنف شرح كتاب سيبويه، وكان فاضلا فقيهاً مهندساً منطقياً وعمره أربع وثمانْون سنة، وولي بعده أبو محمد بن معروف، الحكم بالجانب الشرقي ببغداد.
ثم دخلت سنة تسع وستين وثلاثمائة.
مقتل أبي تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان كان أبو تغلب قد سار عن دمشق إِلى طبرية، كما ذكرناه، ثم سار إِلى الرملة في المحرم من هذه السنة، وكان بتلك الجهة دغفل بن مفرج الطائي، وقائد من قواد العزيز اسمه الفضل، ومعه عسكر قد جهزه العزيز إِلى الشام، فساروا لقتال أبي تغلب، ولم يبق مع أبي تغلب غير سبع مائة رجل من غلمانه، وغلمان أبيه، فولى أبو تغلب منهزماً، وتبعوه فأخذوه أسيراً، فقتله دغفل وبعث برأسه إِلى العزيز بمصر، وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة، وزوجته بنت عمه سيف الدولة، فحملهما بنو عقيل إلى حلب، وبها ابن سيف الدولة فترك أخته عنده، وأرسل جميلة بنت ناصر الدولة إِلى بغداد، فاعتقلت في حجرة في دار عضد الدولة.
وفاة عمران بن شاهين صاحب البطيحة وأخباره وولاية ابنه الحسن بن عمران كان عمران بن شاهين من أهل بلدة تسمى الجامدة، فجنى جنايات وخاف من السلطان فهرب إِلى البطيحة، وأقام بين القصب والآجام، واقتصر على ما يصيده من السمك وطيور الماء، واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص، فقوي بهم، فلما استفحل أمره واشتدت شوكته، اتخذ له معاقل على التلال التي بالبطيحة، وغلب على تلك النواحي واستولى عليها في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة في أيام معز الدولة، فأرسل إِلى قتاله معز الدولة العسكر مرة ثم أخرى، فلم يظفر به، ومات معز الدولة وعسكره محاصر عمران المذكور، وتولى بختيار، فأمر العسكر بالعود إِلى بغداد، فعادوا ثم جرى بين بختيار وبين عمران عدة حروب، فلم يظفر منه بشيء، وطلبه الملوك والخلفاء، وبذلوا جهدهم بأنواع الحيل، فلم يظفروا منه بشيء ومات في مملكته في هذه السنة، في المحرم فجأة حتف أنفه، وكانت مدة ولايته من حين ابتداء أمره، قريب أربعين سنة، ولما مات تولى مكانه على البطيحة ابنه الحسن بن عمران بن شاهين، فطمع فيه عضد الدولة، وأرسل إِليه عسكراً، ثم اصطلحوا على مال يحمله الحسن بن عمران إِلى عضد الدولة في كل سنة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة سار عضد الدولة إِلى بلاد أخيه فخر الدولة، لوحشة جرت بينهما، فهرب فخر الدولة، ولحق بشمس المعالي قابوس بن وشمكير، فأكرمه قابوس إِلى غاية ما يكون، وملك عضد الدولة بلاد أخيه فخر الدولة علي، وهي همدان والري وما بينهما من البلاد، ثم سار عضد الدولة إِلى بلاد حسنويه الكردي فاستولى عليها أيضاً، ولحق عضد الدولة في هذه السفرة صرع، فكتمه وصار كثير النسيان لا يذكر الشيء إِلا بعد جهد، وكتم ذلك أيضَاً، وهذا دأب الدنيا لا تصفو لأحد.
وفي هذه السنة أرسل عضد الدولة جيشاً إِلى الأكراد الهكارية، من أعمال الموصل، فأوقع بهم وحاصرهم، فسلموا قلاعهم إِليه، ونزلوا مع العسكر إِلى الموصل، وفيها تزوج الطائع لله ابنة عضد الدولة. وفيها توفي الحسين بن زكريا اللغوي صاحب كتاب المجمل في اللغة، وغيره. وفيها توفي ثابت بن إِبراهيم الحرافي المتطبب الصابي، وكان حاذقَاً في الطب.
ثم دخلت سنة سبعين وثلاثمائة فيها توفي الأحدب المزور، كان يكتب على خط كل أحد، فلا يشك المكتوب عنه أنه خطه، وكان عضد الدولة يوقع بخطه بين الملوك الذين يريد الإِيقاع بينهم، بما يقتضيه الحال في الإفساد بينهم. وفيها ورد على عضد الدولة هدية من صاحب اليمن، فيها قطعة واحدة من العنبر، وزنها ستة وخمسون رطلاً بالبغدادي.
وفيها توفي الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة اللغوي الإمام المشهور، كان فقيهاً شافعي المذهب فغلبت عليه اللغة، واشتغل بها، وصنف في اللغة كتاب التهذيب، ويكون أكثر من عشرة مجلدات، وله تصنيف في غريب الألفاظ التي يستعملها الفقهاء. وولد سنة اثنتين وثمانين ومائتين، والأزهري منسوب إِلى جده الأزهر.
ثم دخلت سنة إِحدى وسبعين وثلاثمائة وفيها استولى عضد الدولة على بلاد جرجان وطبرستان، وأجلى عنها صاحبها قابوس بن وشمكير ومعه فخر الدولة علي أخو عضد الدولة، وكان ذلك بسبب أن عضد الدولة، طلب من قابوس أن يسلم إليه أخاه فخر الدولة علياً، فامتنع قابوس عن ذلك. وفيها قبض عضد الدولة على القاضي المحسن بن علي التنوخي الحنفي، وكان شديد التعصب على الشافعي، يطلق لسانه فيه. وفيها أفرج عضد الدولة عن أبي إِسحاق إِبراهيم الصابي، وكان قد قبض عليه سنة سبع وستين بسبب أنه كان ينصح في المكاتبات لصاحبه بختيار، وهذا من العجب فإنه ما ينبغي أن تجعل مناصحة الإنسان لصاحبه وعدم مخامرته ذنباً. وفيها أرسل عضد الدولة القاضي أبا بكر محمد بن الطيب الأشعري، المعروف بابن الباقلاني، إِلى ملك الروم في جواب رسالة وردت عليه منه. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن إِبراهيم بن إِسماعيل الإِسماعيلي، الفقيه الشافعي الجرجاني، والإمام محمد بن أحمد بن عبد الله المروزي، الفقيه الشافعي، وكان عالماً بالحديث وغيره، وروى صحيح البخاري عن الفريري.
ثم دخلت سنة اثنتين وسيعين وثلاثمائة في هذه السنة سير العزيز بالله العلوي صاحب مصر، جيشاً مع بكتكين إِلى الشام، فوصلوا إِلى فلسطين، وكان قد استولي عليها مفرج بن الجراح، وكثر جمعه، فجرى بينهم قتال شديد، فانهزم ابن الجراح وجماعته، وكثر القتل والنهب فيهم، ثم سار بكتكين إِلى دمشق، فقاتله قسام المتولي عليها، فغلبه بكتكين وملك دمشق، وأمسك قساماً وأرسله إِلى العزيز بمصر، واستقر بدمشق وزالت الفتن.
وفاة عضد الدولة في ثامن شوال من هذه السنة، مات عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه، بمعاودة الصرع مرة بعد أخرى، وحمل إلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه فدفن به، وكانت ولايته بالعراق خمس سنين ونصفاً، وكان عمره سبعاً وأربعين سنة، وقيل إِنه لما احتضر لم ينطق لسانه إِلا بتلاوة " ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه " وكان عاقلا فاضلا، حسن السياسة شديد الهيبة، وهو الذي بنى على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم سوراً، وله شعر فمنه أبيات منها بيت لم يفلح بعده والأبيات هي:
ليس شرب الراح إِلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزاتُ الكأس من مطلعها ... ساقياتُ الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلابُ القدر
وكان عضد الدولة محباً للعلوم وأهلها، فقصده العلماء من كل بلد، وصنفوا له الكتب، منها الإيضاح في النحو، والحجة في القراءات والملكي في الطب، والتاجي في تاريخ الديلم. وغير ذلك، ولما توفي عضد الدولة اجتمع القواد والأمراء على ولده. كاليجار المرزبان، فبايعوه، وولوه الإمارة ولقبوه صمصام الدولة، وكان أخوه شرف الدولة شيرزبك بن عضد الدولة بكرمان، فلما بلغه موت أبيه سار إِلى فارس وملكها، وقطع خطبة أخيه صمصام الدولة.
غير ذلك من الحوادث فيها قَتَل أبو الفرج محمد بن عمران بن شاهين أخاه الحسن بن عمران صاحب البطيحة، واستولى أبو الفرج عليها.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة وفي هذه السنة توفي مؤيد الدولة بويه بن ركن الدولة حسن بن بويه بالخوانيق، وكان قد أقره أخوه عضد الدولة على ما كان بيده، وزاد عليه مملكة أخيهما فخر الدولة، وكان عمر مؤيد الدولة ثلاثاً وأربعين سنة، وكان أخوه فخر الدولة علي، مع قابوس بن وشمكير بن زيار كما ذكرناه، فلما مات مؤيد الدولة اتفق قواد عسكره على طاعة فخر الدولة، وكتبوا إِليه وسار فخر الدولة علي إِليهم، وعاد إِلى ملكه، واستقر فيه بغير منة لأحد ولا قتال، وذلك في رمضان هذه السنة، ووصلت إِلى فخر الدولة الخلع من الخليفة والعهد بالولاية.
ولاية بكجور دمشق كنا قد ذكرنا أن بكجور مولى قرعويه قبض على أستاذه قرعويه، وملك حلب ثم سار أبو المعالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فأخذ حلب من بكجور وولاه حمص إِلى هذه السنة، فكاتب العزيز صاحب مصر، وسأله في ولاية دمشق، فأجابه العزيز إِلى مصر، فسلمها إِلى بكجور في رجب، واستقر بكجور في ولاية دمشق، وأساء السيرة فيها.
غير ذلك من الحوادث وفيها اتفق كبراء عسكر عمران بن شاهين فقتلوا أبا الفرج محمد بن عمران لسوء سيرته، وأقاموا أبا المعالي بن الحسن بن عمران بن شاهين، وكان صغيراً، فدبر أمره المظفر بن علي الحاجب، وهو أكبر قواد جده عمران، ثم بعد مدة أزال المظفر الحاجب المذكور أبا المعالي، وسيره هو وأمه إِلى واسط، واستولى المظفر المذكور على ملك البطيحة، واستقل فيها، وانقرض بيت عمران بن شاهين. وفيها في ذي الحجة توفي يوسف بلكين بن زيري أمير إِفريقية، وتولى بعده ابنه المنصور ابن يوسف بن زيري، وأرسل إِلى العزيز بالله هدية عظيمة قيمتها ألف ألف دينار.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وثلاثمائة في هذه السنة ولى أبو طريف عليان ابن ثمال الخفاجي حماية الكوفة وهي أول إِمارة بني ثمال. وفيها توفي أبو الفتح محمد بن الحسين الموصلي الحافظ المشهور. وفيها توفي بميافارقين الخطيب أبو يحيى عبد الرحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة، صاحب الخطب المشهورة، وكان إِماماً في علوم الأدب، ووقع الإجماع على أنه ما عمل مثل خطبه، وصار خطيباً بحلب مدة، وبها اجتمع بالمتنبي، ثم اجتمع بالمتنبي في خدمة سيف الدولة بن حمدان، وكان الخطيب المذكور رجلا صالحاً، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: مرحباً يا خطيب الخطباء، كيف تقول: كأنهم لم يكونوا للعيون قرة، ولم يعدوا في الأحياء مرة. قال الخطيب تتمة هذه الخطبة وهي المعروفة بخطبة المنام، وأدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفل في فيه، فبقي الخطيب بعد هذه الرؤيا ثلاثة أيام لم يطعم طعاماً ولا يشتهيه، ويوجد من فيه مثل رائحة المسك. ولم يعش بعد ذلك إِلا أياماً يسيرة وكان مولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وفي هذه السنة قصدت القرامطة الكوفة، مع نفرين من الستة الذي سموهم السادة، ففتحوها ونهبوها، فجهز صمصام الدولة بن عضد الدولة إِليهم جيشاً، فانهزمت القرامطة، وكثر القتل فيهم، وانحرفت هيبتهم، وقد حكى ابن الأثير في حوادث هذه السنة، والعهدة على الناقل، أنه خرج في هذه السنة بعُمان طائر من البحر كبير، أكبر من الفيل، ووقف على تل هناك وصاح بصوت عال، ولسنان فصيح، قد هرب، قالها ثلاث مرات، ثم غاص في البحر فعل ذلك، ثلاثة أيام ولم ير بعد ذلك.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وثلاثمائة.
ملك شرف الدولة
بن عضد الدولة العراق وقبضه على أخيه صمصام الدولةفي هذه السنة سار شرف الدولة شيرزيك بن عضد الدولة، من الأهواز إلى واسط، فملكها، وأشار أصحاب صمصام الدولة عليه بالمسير إلى الموصل أو غيرها، فأبى صمصام الدولة، وركب بخواصه وحضر إِلى عند أخيه شرف الدولة مستأمناً، فلقيه شرف الدولة، وطيب قلبه فلما خرج من عنده، غدر به وقبض عليه، وسار شرف الدولة شيرزيك حتى دخل بغداد في رمضان، وأخوه صمصام الدولة معتقل معه، وكانت إِمارة صمصام الدولة ببغداد ثلاث سنين، ثم نقله إِلى فارس، فاعتقله في قلعة هناك.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي المظفر الحاجب صاحب البطيحة، وولى بعده ابن أخته أبو الحسن علي بن نصر، بعهد من المظفر، ووصل إِليه التقليد من بغداد بالبطيحة، ولقب مهذب الدولة، فأحسن السيرة، وبذل الخير والإِحسان، وفيها توفي ببغداد أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، صاحب الإِيضاح، وقد جاوز تسعين سنة، وقيل كان معتزلياً، ولد في مدينة فسا، واشتغل ببغداد، وكان إِمام وقته في علم النحو، ودار البلاد، وأقام بحلب عند سيف الدولة بن حمدان مدة، ثم انتقل إِلى بلاد فارس، وصحب عضد الدولة، وتقدم عنده، ومن تصانيفه كتاب التذكير، وهو كبير، وكتاب المقصور والمدود، وكتاب الحجة في القراءات، وكتاب العوامل المائة، وكتاب المسائل الحلبيات، وغير ذلك.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وثلاثمائة ودخلت سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة فيها سير العزيز صاحب مصر العلوي، عسكراً مع القائد منير الخادم إِلى دمشق، ليعزل بكجور، عنها، ويتولاها، فلما قرب منها خرج بكجور وقاتله عند داريا، ثم انهزم بكجور، ودخل البلد، وطلب الأمان، فأجابه منير إِلى ذلك، فسار بكجور إلى الرقة، فاستولى عليها، واستقر منير في إِمارة دمشق، وأحسن السيرة في أهلها. وفي هذه السنة في المحرم، أهدى الصاحب بن عباد، ديناراً وزنه ألف مثقال، إِلى فخر الدولة علي بن ركن الدولة حسن وعلى الدينار مكتوب:
وأحمر يحكي الشمس شكلاً وصورة ... فأوصافها مشتقة من صفاتهِ
فإن قيل دينارٌ فقد صدق اسمه ... وإن قيل ألف فهو بعضُ سماته
بديعٌ ولم يطبعْ على الدهرِ مثلهُ ... ولا ضربتَ أضرابه لسراتهَ
وصار إِلى شاهان شاه انتسابُهُ ... على أنه مستصغرُ لعفاتهِ
يخبر أن يبقى سنيناً كوزنه ... لتستبشر الدنيا بطول حياتهِ
وفي هذه السنة توفي أبو حامد محمد بن محمد بن أحمد بن إِسحاق الحاكم النيسابوري صاحب التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وفيها أرسل شرف الدولة، محمد الشيرازي، ليسمل أخاه صمصام الدولة المرزبان، فوصل إِلى القلعة التي بها صمصام الدولة محبوساً بعد موت شرف الدولة، وسمل صمصام الدولة فأعماه.
وفاة شرف الدولة في هذه السنة في مستهل جمادى الآخرة، توفي الملك شرف الدولة أبو الفوارس شيرزيك بن عضد الدولة بالاستسقاء، وحمل إِلى مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فدفن به، وكانت إِمارته بالعراق سنتين وثمانية أشهر، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة وخمسة أشهر، ولما مات استقر في الإمارة موضعه أخوه أبو نصر بهاء الدولة، وقيل اسمه خاشاذ بن عضد الدولة، وخلع عليه الطائع وقلده السلطنة.
الفتنة ببغداد وفي هذه السنة، وقعت الفتنة أيضاً بين الأتراك والديلم، ودام القتال بينهم خمسة أيام وبهاء الدولة في داره، يراسلهم في الصلح فلم يسمعوا، ودام ذلك بينهم اثني عشر يوماً، ثم صار بهاء الدولة مع الأتراك فضعفت الديلم، وأجابوا إِلى الصلح، ثم من بعد ذلك أخذ أمر الأتراك في القوة، وأمر الديلم في الضعف.
هرب القادر إِلى البطيحة في هذه السنة هرب أبو العباس أحمد بن الأمير إِسحاق بن المقتدر إِلى البطيحة، فاحتمى فيها، وكان سببها أن الأمير إِسحاق بن المقتدر والدالقادر، لما توفي جرى بين ابنه أحمد الذي تسمى فيما بعد بالقادر، وبين أخت له، منازعة على ضيعة، وكان الطائع قد مرض وشفي، فسعت بأخيها المذكور إِلى الطائع، وقالت: إِن أخي شرع في طلب الخلافة عند مرضك، فتغير الطائع على أخيها أحمد، وأرسل ليقبضه، فهرب المذكور واستتر، ثم سار إِلى البطيحة، فنزل على مهذب الدولة صاحب البطيحة، فأكرمه مهذب الدولة، ووسع عليه وبالغ في خدمته.
عود بني حمدان إِلى الموصل كان ابنا ناصر الدولة، وهما أبو الطاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين، في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة ببغداد، فلما توفي شرف الدولة، وملك أخوه بهاء الدولة، استأذناه في المسير إِلى الموصل، فأذن لهما بهاء الدولة في ذلك، فسار أبو طاهر وأبو عبد الله الحسين المذكوران إِلى الموصل، فقاتلهما العامل الذي بها، واجتمع إليهما المواصلة، فاستوليا على الموصل، وطردا عاملها، والعسكر الذي قاتلهما إِلى بغداد، واستقرا في الموصل. وفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد ابن العباس السلمي النقاش، وكان من متكلمي الأشعرية.
ثم دخلت سنة ثمانين وثلاثمائة.
قتل باد
صاحب ديار بكر وابتداء دولة بني مروان
في هذه السنة طمع باد صاحب ديار بكر في ابني ناصر الدولة، وهما أبو طاهر إبراهيم، وأبو عبد الله الحسين، المستوليان علي الموصل، فقصدهما، وجرى بينهم قتال شديد، قتل فيه باد، وحمل رأسه إِليهما، وكان باد المذكور، خال أبي علي بن مروان، فلما قتل باد، سار أبو علي بن أخته إِلى حصن كيفا، وكان بالحصن امرأة خال باد المذكور وأهله، فقال لامرأة باد: قد أنفذني خالي إِليك في مهم، فلما صعد إِليها أعلمها بهلاك خاله، وأطمعها في الترويج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره، ونزل أبو علي بن مروان، وصلك بلاد خاله حصناً حصناً، حتى ملك ما كان لخاله جميعه، وجرى بينه وبين بي طاهر وأبي عبد الله ابني العزيز ناصر الدولة حروب، ثم مضى أبو علي بن مروان إِلى مصر، وتقلد من الخليفة العزيز بالله العلوي ولاية حلب، وتلك النواحي، وعاد إلى مكانه من ديار بكر، وأقام بتلك الديار إِلى أن اتفق بعض أهل آمد مع شيخهم عبد البر، فقتلوا أبا علي بن مروان المذكور، عند خروجه من باب البلد بالساكين، وكان المتولي لقتله رجلا من أهل آمد، يقال له ابن دمنة، فلما قُتل أبو علي بن مروان، استولى عبد البر شيخ آمد عليها، وزوج ابن دمنة بابنته، فوثب ابن دمنة فقتل عبد البر أيضاً، واستولى ابن دمنة على آمد واستقر فيها، وكان لأبي علي ابن مروان، أخ يقال له ممهد الدولة، فلما قتل أبو علي، سار ممهد الدولة بن مروان إلى ميافارقين، فملكها وملك غيرها، من بلاد أخيه، وكان في جماعة ممهد الدولة رجل اسمه شموه، وهو من أكابر العسكر، فعمل دعوة لممهد الدولة وقتله فيها، واستولى شروه على غالب بلاد بني مروان، وذلك في سنة اثنتين وأربعمائة، وكان لممهد الدولة أخ آخر اسمه أبو نصر أحمد، وكان قد حبسه أخوه أبو علي بن مروان، بسبب رؤيا رآها، وهو أنه رأى أن الشمس في حجره، وقد أخذها منه أخوه أبو نصر، فحبسه لذلك، فلما قتل ممهد الدولة، أخرج أبو نصر من الحبس، واستولى على أرزن، وفي ذلك جميعه، وأبوهم مروان باق وهو أعمى، مقيم بأرزن عند قبر ولده أبي علي، ولما استقر أمر أبي نصر، انتقض أمر شروه، وخرجت البلاد عن طاعته، واستولى أبو نصر على سائر بلاد ديار بكر، ودامت أيامه، وحسنت سيرته، وبقي كذلك من سنة اثنتين وأربعمائة إلى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
ملك أبي الذواد الموصل في هذه السنة، أعني سنة ثمانين وثلاثمائة استولى أبو الذواد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده، بعد قتال جرى بينهما، واستقر أمر أبي الذواد بالموصل. ثم دخلت سنة إِحدى وثمانين وثلاثمائة.
القبض على الطائع لله في هذه السنة قبض بهاء الدولة بن عضد الدولة، على الطائع لله عبد الكريم، وكنيته أبو بكر بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد بن الموفق بن المتوكل، بسبب طمع بهاء الدولة في مال الطائع، ولما أراد بهاء الدولة ذلك، أرسل إِلى الطائع وسأله الإذن ليجدد العهد به، فجلس الطائع على كرسي ودخل بعض الديلم، كأنه يريد تقبيل يد الخليفة، فجذبه عن سريره، والخليفة يقول: إِنا لله وإنا إليه راجعون. ويستغيث، فلا يغاث، وحمل الطائع إِلى دار بهاء الدولة، وأشهد عليه بالخلع، وكانت خلافته سبع عشرة سنة وثمانية أشهر. وأياماً، ولما تولى القادر حُمل إليه الطائع، فبقي عنده مكرماً إِلى أن توفي الطائع سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ليلة الفطر، وكان مولده سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ولم يكن للطائع في ولايته من الحكم ما يستدل به على حاله، وكان في الناس الذين حضروا القبض على الطائع الشريف الرضي، فبادر بالخروج من دار الخلافة، وقال في ذلك أبياتاً من جملتها:
أمسيت أرحم من كنت أغبطه ... لقد تقارب بين العز والهون
ومنظر كان بالسراء يضحكني ... يا قرب ما عاد بالضراء يبكيني
هيهات أعثر بالسلطان ثانية ... قد ضل عندي ولاج السلاطين
خلافة القادر باللّه
أبي العباس أحمد بن الأمير وإسحاق بن المقتدر بن المعتضد
وهو خامس عشرينهم، وكان مقيماً بالبطيحة. كما ذكرناه، فأرسل إِليه بهاء الدولة، خواص أصحابه ليحضروه، ولما قرب من بغداد خرج بهاء الدولة وأعيان الناس لملتقاه، ودخل القادر دار الخلافة ثاني عشر شهر رمضان، وبايعه الناس، وخطب له ثالث عشر رمضان. وكانت مدة مقام القادر في البطيحة، عند مهذب الدولة، سنتين وأحد عشر شهراً. وكان مهذب الدولة محسناً إِلى القادر بالله، ولما توجه من عنده، حمل إِليه مهذب الدولة أموالاً كثيرة.
قتل بكجور وموت سعد الدولة كنا قد ذكرنا استيلاء منير الخادم من جهة العزيز على دمشق، ومسير بكجور عنها إِلى الرقة، فلما كان هذه السنة، سار بكجور إِلى قتال سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، واقتتلا قتالاً شديداً، وهرب بكجور وأصحابه، وكثر القتل فيهم، ثم أمسك بكجور وأحضر أسيراً إِلى سعد الدولة فقتله، ولقي بكجور عاقبة بغيه وكفره، إحسان مولاه، ولما قتله سار سعد الدولة إِلى الرقة، وبها أولاد بكجور وأمواله، وحصرها فطلبوا الأمان، وحلفوا سعد الدولة على أن لا يتعرض إِليهم، ولا إلى مالهم، فبذل سعد الدولة اليمين لهم، فلما سلموا الرقة إِليه، وخرجوا منها، غدر بهِم سعد الدولة، وقبض على أولاد بكجور وأخذ ما معهم من الأموال، وكانت شيئاً كثيراٌ. فلما عاد سعد الدولة إِلى حلب، لحقه فالج في جانبه اليمين، فأحضر الطبيب ومد إليه يده اليسرى، فقال الطبيب: يا مولانا هات اليمين. فقال سعد الدولة: ما تركت لي اليمين يميناً، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيام ومات في هذه السنة، واسم سعد الدولة المذكور شريف، وكنيته أبو المعالي بن سيف الدولة بن علي بن حمدان بن حمدون الثعلبي. وقبل موته عهد إِلى ولده أبي الفضائل بن سعد الدولة، وجعل مولاه لؤلؤاً يدبر أمره.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، وصل بسيل ملك الروم إلى الشام، ونازل حمص ففتحها ونهبها، ثم سار إِلى شيزر فنهبها، ثم سار إِلى طرابلس، فحصرها مدة، ثم عاد إِلى بلاد الروم. وفي هذه السنة توفي القائد جوهر الذي فتح مصر للمعز العلوي، معزولا عن وظيفته.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فيها شغبت الجند على بهاء الدولة بسبب استيلاء أبي الحسن بن المعلم على الأمور كلها، فقبض بهاء الدولة على ابن المعلم وسلمه إلى الجند فقتلوه.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة في هذه السنة استولى على بخارى بغراخان، واسمه هارون بن سليمان أيلك خان، وكان له كاشغر وبلا صاغون إِلى حد الصين، فقصد بخارى، وجرى بينه وبين الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني حروب انتصر فيهما بغراخان، وملك بخارى، وخرج منها الأمير نوح مستخفياً، فعبر النهر إِلى أمل الشط، وأقام الأمير نوح المذكور بها، ولحق به أصحابه، وبقي يستدعي أبا علي بن سيمجور صاحب جيش خراسان، فلم يأته وعصي عليه، ومرض بغراخان في بخارى، فارتحل عنها راجعاً نحو بلاده، فمات في الطريق، وكان بغراخان ديناً حسن السيرة، وكان يحب أن يكتب عنه مولى رسول الله، وولي أمرة الترك بعده طغان خان أبو نصر أحمد بن علي خان، ولما رحل بغراخان عن بخارى ومات، بادر الأمير نوح فعاد إِلى بخارى، واستقر في ملكه وملك آبائه.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وثلاثماثة في هذه السنة لما عاد نوح إلى بخارى، اتفق أبو علي بن سيمجور صاحب جيش خراسان، وفائق، على حرب نوح، فكتب نوح إِلى سبكتكين وهو بغزنة يعلمه الحال، وولاه خراساَن، فسار سبكتكين عن غزنة ومعه ولده محمود إِلى نحو خراسان، وخرج نوح من بخارى، فاجتمعوا وقصدوا أبا علي بن سيمجور وفائقاً، واقتتلوا بنواحي هراة، فانهزم أبو علي وأصحابه، وتبعهم عسكر نوح وسبكتكين. يقتلون فيهم، ولما استقر أمر نوح بخراسان، استعمل عليها محمود بن سبكتكين.
وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن نافع، وكان من الصالحين، بقي سبعين سنة لا يستند إلى حائط ولا إِلى مخدة. وأبو الحسن علي بن عيسى النحوي، المعروف بالرماني، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين، وله تفسير كبير، ومحمد بن العباس بن أحمد القزاز، سمع وكتب كثيراً، وخطه حجة في صحة النقل، وجودة الضبط.
وفيها توفي أيضاً أبو إسحاق إِبراهيم بن هلال الكاتب الصابي المشهور، وكان عمره إِحدى وتسعين سنة، وكان قد زمن وضاقت الأمور به، وقلت عليه الأموال، كان كاتب إِنشاء ببغداد لمعز الدولة، ثم كتب لبختيار، وكانت تصدر عنه مكاتبات إِلى عضد الدولة تؤلمه، فحقد عليه، فلما ملك عضد الدولة بغداد حبسه مدة، ثم أطلقه، وأمره عضد الدولة أن يصنف له كتاباً في أخبار الدولة الديلمية، فصنف له كتاباً وسماه التاجي، ونقل إِلى عضد الدولة عنه، أن بعض أصحاب أبي إسحاق، دخل عليه وهو يؤلف في التاجي، فسأله عما يعمل؟ فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فحرك ذلك عضد الدولة وأهاج حقده، فأبعده وأحرمه، ولم يزل الصابي على دينه، فجهد عليه معز الدولة أن يسلم فلم يفعل، وكان مع ذلك يحفظ القرآن، ولما مات الصابي المذكور رثاه الشريف الرضي فليم على ذلك. فقال: إِنما رثيت فضيلته.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وثلاثمائة وفي هذه السنة عاد أبو علي ابن سيمجور إِلى خراسان، وقاتل محمود بن سبكتكين، وأخرجه عنها، ثم سار سبكتكين ومحمود ابنه بالعساكر، واقتتلوا مع أبي علي بطرس فهزموه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء عن ابن سيمجور:
عصى السلطان فابتدرت إِليه ... رجال يقلعون أبا قبيس
وصير طوس معقله فكانت ... عليه طوس أشأم من طويس
ثم إِن أبا علي طلب الأمان من نوح، فأمنه وسار إِليه، فلما وصل إِلى بخارى، قبض نوح على أبي علي وأصحابه وحبسهم، حتى مات أبو علي في الحبس.
وفاة ابن عباد في هذه السنة مات الصاحب أبو القاسم إِسماعيل بن عباد وزير فخر الدولة، علي بن ركن الدولة، بالري، ونقل إِلى أصفهان ودفن بها، وكان الصاحب المذكور أوحد زمانه، علماً وفضلا وتدبيراً وكرماً، وكان عالماً بأنواع العلوم، وجمع من الكتب ما لم يجمعه غيره، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له صاحب ابن العميد. ثم طلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه. ثم سمي به كل من ولي الوزارة، وكان أولاً وزيراً لمؤيد الدولة بن ركن الدولة، فلما مات مؤيد الدولة، واستولى أخوه فخر الدولة على مملكته، أقر الصاحب بن عباد على وزارته، وعظمت منزلته عنده، وصنف الصاحب عدة كتب، منها المحيط في اللغة، والكافي في الرسائل، وكتاب الإمامة، يتضمن فضائل علي وصحة إمامة من تقدمه، وكتاب الوزارة، وله النظم الجيد، وكان مولده في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة بإصطخر وقيل بالطالقان، وهي طالقان قزوين، لا طالقان خراسان، وكان عباد أبو الصاحب وزير ركن الدولة، وتوفي عباد في سنة أربع أو خمس وثلاثين وثلاثمائة وفي هذه السنة توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المعروف بالدار قطني. وكان حافظاً إِماماً فقيهاً، مذهب الشافعي، وكان يحفظ كثيراً من دواوين الشعراء منها ديوان السيد الحميري، فنسب إِلى التشيع لذلك، وخرج من بغداد إلى مصر، وأقام عند أبي الفضل جعفر بن الفضل، وزير كافور الإخشيدي. وحصل للدارقطني منه مال جزيل، وكان متقناً في علوم كثيرة، إِماماً في علوم القرآن، وكان مولده في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وكانت وفاته ببغداد، والدار قطني نسبة إِلى دار القطن، وكانت محلة كبيرة ببغداد.
وفيها توفي أبو محمد يوسف بن الحسن بن عبد الله، بن المرزبان السيرافي النحوي الفاضل بن الفاضل، شرح أبوه الحسن بن عبد الله، كتاب سيبويه، وظهر له فيه ما لم يظهر لغيره، وصنف بعده كتاب الإقناع، ومات الحسن المذكور قبل إِتمامه، فكمله ولده يوسف المذكور. ثم صنف عدة كتب مشهورة، مثل شرح أبيات كتاب سيبويه، وشرح إِصلاح المنطق، وسيراف فرضة فارس، وليس بها زرع، ولا ضرع، وأهلها زجاة، ومنها ينتهي الإنسان إِلى حصن ابن عمارة على البحر، من أمنع الحصون. ويقال إِن صاحبها هو الذي يقول الله تعالى في حقه: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً " " الكهف: 79 " وكان اسم ذلك الملك الجُلُندي بضم الجيم واللام وسكون النون وفتح الدال المهملة وبعدها ألف.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وثلاثمائة.
وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم
وفي هذه السنة لليلتين بقيتا من رمضان، توفي العزيز بالله أبو منصور نزار بن المعز معد بن المنصور إِسماعيل العلوي الفاطمي، صاحب مصر. وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر بمدينة بليس وكان قد برز إِليها لغزو الروم، وكان موته بعدة أمراض، منها القولنج. وكانت خلافته إِحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصف شهر. ومولده بالمهدية، وكان قد ولى كتابته رجلاً نصرانياً يقال له عيسى بن نسطورس، واستناب بالشام رجلاً يهودياً اسمه ميشا، فاستطالت النصارى واليهود بسببهما على المسلمين، فعمد أهل مصر إِلى قراطيس، فعملوها على صورة امرأة، ومعها قصة وجعلوها في طريق العزيز فأخذها العزيز وفيها مكتوب بالذي وأعز اليهود بميشا، والنصارى بعيسى بن نطورس، وأذل المسلمين بك، إِلا كشفت عنده فقبض على عيسى النصراني المذكور، وصادره، وكان العزيز يحب العفو ويستعمله. ولما مات العزيز بويع ابنه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي الخلافة وعمره إِحدى عشرة سنة، وقام بتدبير ملكه خادم أبيه رجوان، وكان خصياً أبيض فضبط الملك وحفظه للحاكم إِلى أن كبر، ثم قتل الحاكم أرجوان المذكور.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات أبو دواد بن المسيب، أمير الموصل، وولي بعده أخوه المقلد بن المسيب. وفيها توفي منصور بن يوسف بلكين بن زيري الصنهاجي أمير إِفريقية، وكان ملكاً كريماً شجاعاً، وتولى بعده ابنه باديس بن منصور. وفيها توفي أبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي، صاحب قوت القلوب. روى أنه صنف كتابه قوت القلوب، وكان قوته إِذ ذاك عروق البدري، وكان صالحاً مجتهداً في العبادة، ولم يكن من أهل مكة، وإنما كان من أهل الجبل، وسكن مكة فنسب إِليها، وقدم بغداد فوعظ وخلط في كلامه، فهجروه. وكان مما خلط فيه وحفظ عليه، أنه قال: ليس على المخلوقين أضر من الخالق. ومنع من الكلام بعد ذلك، وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة من هذه السنة.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
ابتداء دولة بن حماد ملوك بجاية من كتاب الجمع والبيان في أخبار القيروان. في هذه السنة أعني سنة سبع وثمانين وثلاثمائة عقد باديس بن منصور بن بلكين صاحب إِفريقية، في شهر صفر، الولاية لعمه حماد بن بلكين على أشير وخرج إِليها حماد، فاتسعت ولاية حماد وكثر دخله وعظم شأنه، واجتمع له العساكر والأموال، وبقي كذلك إِلى سنة خمس وأربعمائة فأظهر حماد الخلاف على ابن أخيه باديس وخرج عن طاعته وخلعه، وسار كل منهما بجموعه إِلى الآخر واقتتلا في أول جمادى الأولى سنة ست وأربع مائة، فانهزم حماد هزيمة شنيعة، بعد قتال شديد جرى بين الفريقين، ولما انهزم حماد التجأ إلى قلعة مغيلة، ثم سار حماد إلى مدينة دكمة ونهبها ونقل منها الزاد إِلى القلعة المذكورة، وعاد إِليها وتحصن بها وباديس نازل بالقرب منه محاصر له، ودام الحال كذلك حتى توفي باديس فجأة، نصف ليلة الأربعاء آخر ذي القعدة سنة ست وأربع مائة.
وتولى بعد باديس ابنه المعز بن باديس. واستمر حماد على الخلف معه كما كان مع أبيه، حتى اقتتل المعز بن باديس وحماد في سنة ثمان وأربع مائة بموضع يقال له ينني، فانهزم حماد بعد قتال شديد هزيمة قبيحة، وبعد هذه الهزيمة لم يعد حماد إِلى قتال، واصطلح مع المعز المذكور، على أن يقتصر حماد على ما في يده، وهو عمل ابن علي وما وراءه من أشير وتاهرت، واستقر للقائد بن حماد المسيلة وطبنة ومرسى الدجاجي وزواوة ومقرة ودكمة وغير ذلك، وبقي حماد وابنه القائد كذلك حتى توفي حماد في نصف سنة تسع عشرة وأربع مائة، واستقر في الملك بعده ابنه القائد بن حماد وبقي القائد في الملك حتى توفي في سنة ست وأربعين وأربعمائة في شهر رجب.
ولما توفي القائد ملك بعده ابنه محسن بن القائد بن حماد، فأساء السيرة، وخبط وقتل جماعة من أعمامه، فخرج عن طاعة محسن المذكور، ابن عمه بلكين ابن محمد بن حماد، واقتتل معه فقتل بلكين محسناً المذكور وملك موضعه في ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربع مائة، وبقي حتى غدر ببلكين المذكور الناصر بن علناس بن حماد، وأخذ منه الملك في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة، واستقر الناصر بن علناس بن حماد في الملك حتى توفي في سنة إِحدى وثمان وأربعمائة.
وملك بعده ابنه المنصور بن الناصر وبقي في الملك حتى توفي في سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، وملك بعده ابنه باديس بن المنصور، وأقام باديس مدة يسيرة وتوفي، وملك بعده أخوه العزيز بالله بن المنصور، وبقي العزيز في الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، وملك بعده ابنه يحيى بن العزيز بالله، وبقي في الملك حتى سار عبد المؤمن من الغرب الأقصى وملك بجاية. قال ابن الأثير في الكامل: إِن ذلك كان في سنة سبع وأربعين وخمس مائة، وكان آخر من ملك منهم يحيى بن العزيز بالله بن المنصور بن الناصر بن علناس بن حماد بن بلكين، وانقرضت دولة بني حماد في السنة المذكورة، وكان ينبغي أن نذكر ذلك مبسوطاً مع السنين، وإنما جمعناه لقلته لينضبط.
موت نوح صاحب ما وراء النهر في هذه السنة مات الرضي الأمير نوح بن منصور بن نوح بن ناصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. في رجب، واختلّ بموته ملك آل سامان، ولما توفي قام بالأمر بعده ابنه أبو الحارث منصور بن نوح.
موت سبكتكين وفي هذه السنة توفي سبكتكين في شعبان، وكان مقامه ببلخ، فلما طال مرضه ارتاح إِلى هوى غزنهَ، فسار عن بلخ إِليها فمات في الطريق، فنقل ميتاً ودفن بغزنة، وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة. وكان عادلاً خيراً، ولما حضرته الوفاة عهد إِلى ولده إِسماعيل، وكان محمود أكبر منه، فملك إِسماعيل وكان بينه وبين أخيه محمود قتال في تلك المدة، ثم انتصر محمود وانهزم إِسماعيل وانحصر في قلعة غزنة، وحاصره محمود، فنزل إِسماعيل بالأمان، فأحسن إِليه محمود وأكرمه وكان مدة ملك إِسماعيل سبعة أشهر.
وفاة فخر الدولة وفي هذه السنة، توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة، أبي علي الحسن بن بويه، بقلعة طبرك، في شعبان، وأقعدوا في الملك بعده ولده مجد الدولة أبا طالب رستم، وعمره أربع سنين، واتفق الأمراء على ذلك، وكان المرجع في تدبير الملك إِلى والدة أبي طالب المذكور.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفي أبو الوفاء محمد بن محمد المهندس الحاسب البوزجاني، أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، ومولده في رمضان سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ببوزجان، وهي بلدة من خراسان، بين هراة ونيسابور، ثم قدم العراق. وفيها توفي الحسن بن إِبراهيم بن الحسين من ولد سليمان بن زولاق، وهو مصري الأصل، وكان فاضلاً في التاريخ، وله فيه مصنفات، وله كتاب خطط مصر، وكتاب قضاة مصر، وله غير ذلك من المصنفات، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري، العلامة، وكنيته أبو أحمد، صاحب التصانيف الكثيرة في اللغة والأمثال وغيرها، وكان أبو أحمد المذكور من أهل عسكر مكرم، وهي مدينة من كور الأهواز، وكان مولده في شوال سنة ثلاث وتسعين ومائتين، وأخذ العلم عن أبي بكر بن دريد، ومن جملة تصانيفه كتاب في علم المنطق، وكتاب الزواجر، وكتاب المختلف والمؤتلف، وكتاب الحكم والأمثال.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
قتل صمصام الدولة في هذه السنة، في ذي الحجة، قتل صمصام الدولة، أبو كاليجار المرزبان بن عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة حسن بن بويه بسبب شغب الديلم عليه، وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة وسبعة أشهر، ومدة ولايته بفارس تسع سنين وثمانية أيام. قال القاضي شهاب الدين بن أبي الدم: إِن صمصام الدولة المذكور، لما خرج من الاعتقال، وملك في سنة ثمانين وثلاثمائة كان أعمى من حين سمل واستمر في الملك، وكان منه ما تقدم ذكره، حتى قتل في هذه السنة وهو أعمى. وفيها توفي محمد بن الحسن بن المظفر المعروف بالحاتمي، أحد الأعلام، وكان إِماماً في الأدب واللغة وهو صاحب الرسالة الحاتمية التي بيّن فيها سرقة المتنبي ونسبة الخاتمي إِلى حاتم بعض أجداده.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
القبض على الأمير منصور بن نوح وولاية أخيه في هذه السنة، اتفق أعيان عسكر منصور الساماني، مع بكتورون، وفائق، وخلعوا منصوراً بن نوح، وأمر بكتورون به، ولم يراقب الله ولا إِحسان مواليه إِليه، وأقاموا في الملك أخاه عبد الملك، وهو صبي صغير، وكان مدة ملك منصور سنة وسبعة أشهر.
ملك محمود بن سبكتكين خراسان
ولما وقع من بكتورون وفائق ما وقع في حق منصور بن نوح، كتب محمود بن سبكتكين يلومهما على ذلك وسار إِليهما، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم بكتورون وفائق، وتبعهم محمد يقتل في عسكرهم، حتى أبعدوا في الهرب، واستولى محمود على ملك خراسان، وقطع منها خطبة السامانية.
انقراض دولة السامانية وفي هذه السنةِ انقرضت دولة السامانية، فإِن محمود بن سبكتكين لما ملك خراسان وقطع خطبتهم، اتفق ببخارى مع عبد الملك بن نوح بكتورون، وفائق، وأخذوا في جمع العساكر، فاتفق أن فائقاً مات في تلك المدة، وكان هو المشار إِليه، فضعفت نفوسهم بموته، وبلغ ذلك أيلك خان، واسمه أرسلان، فسار في جمع الأتراك إِلى بخارى، وأظهر المودة، لعبد الملك والحمية له، فظنوه صادقاً، وخرج إِليه بكتورون وغيره من الأمراء والقواد، فقبض عليهم وسار حتى دخل بخارى، عاشر ذي القعدة من هذه السنة. ثم قبض على عبد الملك بن نوح وحبسه حتى مات في الحبس، وحبس معه أخاه منصور الذي سملوه وباقي بني سامان، وانقرضت دولة بني سامان.
وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض، وكانت من أحسن الدول سيرة وعدلا، وهذا عبد الملك هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إِسماعيل بن أحمد بن أسد بن سامان. فسبحان من لا يزول ملكه، وكان ابتداء دولتهم في سنة إِحدى وستين ومائتين، وانقرضت في هذه السنة، أعني سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة في هذه السنة وقيل بل في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة توفي أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي اللغوي، كان إِماماً في علوم شتى، وخصوصاً في اللغة، وله عدة مصنفات منها: كتابه المجمل في اللغة، ووضع المسائل الفقهية، وهي مسألة في المقامة الطيبية، وكان مقيماً بهمذان وعليه اشتغل البديع الهمذاني صاحب المقامات.
ثم دخلت سنة إِحدى وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب بن رافع بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يزيد بالتصغير بن عبد الله بن زيد، من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلد المذكور أعور وأخوه أبو الذواد محمد بن المسيب، هو أول من استولى منهم على الموصل، وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة حسبما تقدم ذكره، ثم ملكها بعده أخوه المقلد المذكور، في سنة ست وثمانين وثلاثمائة واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه الأتراك بالأنبار، وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلد بن المسيب.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن الحجاج الشاعر، بطريق النيل. وكان شاعراً مشهوراً، ذا مجون وخلاعة، وتولى حسبة بغداد مدة، وكان من كبار الشيعة، وأوصى أن يدفن عند مشهد موسى بن جعفر، وأن يكتب على قبره " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " " الكهف: 18 " ، ولما مات بالنيل، نقل إِلى بغداد ودفن كما أوصى، والنيل بلدة على الفرات بيِن بغداد والكوفة، وأصل اسم هذا الموضع، أن الحجاج بن يوسف حفر به نهراً مخرجه من الفرات، وعليه قرى، وسماه باسم نيل مصر.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة غزا السلطان محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فغنم وأسر وسبى كثيراً، وعاد إِلى غزنة سالماً غانماً. وفي هذه السنة جرى بين قرواش بن المقلد بن المسبب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب، انتصر فيها قرواش أولاً، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة. وفي هذه السنة توفي أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق، صاحب الأصول.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان، وانتزعها من يد صاحبها، خلف بن أحمد، وبقي خلف بن أحمد المذكور في الجوزخان بعد ذلك أربع سنين، ثم نقله يمين الدولة محمود إِلى جودين، واحتاط عليه هناك حتى أدركه أجله، سنة تسع وتسعين، وكان خلف المذكور مشهوراً بطلب العلم، وله تفسير من أكبر الكتب.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة توفي أبو عامر محمد، الملقب بالمنصور، أمير الأندلس، وكان قد عظم شأنه، وأكثر الغزوات، وضبط البلاد، وكانت ولايته في سنة ست وستين وثلاثمائة حسبما ذكرناه هناك، فكانت مدة ولايته نحواً من سبع وعشرين سنة، ولم يكن للمؤيد خليفة الأندلس معه من الأمر شيء، ولما توفي المنصور بن أبي عامر المذكور، تولى بعده ابنه أبو مروان عبد الملك بن المنصور المذكور، وتلقب بالمظفر وجرى في الغزو وسياسة الملك عن هشام المؤيد، على قاعدة أبيه، وبقي عبد الملك المذكور في الولاية سبع سنين، فتكون وفاته في سنة أربعمائة.
ولما توفي عبد الملك المظفر المذكور، قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر المذكور، وتلقب عبد الرحمن المذكور بالناصر، فخلط ولم يزل مضطرب الأمور مدة أربعة أشهر، فخرج على المؤيد، ابن عمه محمد بن هشام على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، فخلع هشام وقُتل عبد الرحمن المذكور وصُلب.
وفي هذه السنة كثرت العيارون والمفسدون والفتن ببغداد. وفيها استعمل الحاكم العلوي صاحب مصر والشام على دمشق، أبا محمد الأسود، ولما استقر في قصر الإِمارة بدمشق وحكم، أشْهَر إِنساناً مغربياً ونادى عليه، هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ثم أخرجه من دمشق.
وفيها توفي ببغداد عثمان بن جني النحوي الموصلي، مصنف اللمع وغيره، ومولده سنة اثنتين وثلاثمائة وفيها توفي القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري، وكان إِماماً فاضلاً ذا فنون كثيرة، والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي، وهو محدث مشهور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله السلامي الشاعر البغدادي، فمن شعره في عضد الدولة:
فبشرت آمالي بملك هو الورى ... ودار هي الدنيا ويوم هو العمر
وله في الدرع:
يا ربَّ سابغة حبتني نعمة ... كافأتها بالسوء غير مفند
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكل مهندِ
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة خروج البطيحة عن ملك مهذب الدولة في هذه السنة استولى على البطيحة وغيرها إِنسان يقال له أبو العباس بن واصل. وكان رجلاً قد تنقل في خدم الناس، ثم خدم مهذب الدولة صاحب البطيحة، فتقدم عنده حتى جهز معه جيشاً، فاستولى على البصرة وسيراف، فلما فتحهما ابن واصل المذكور، وغنم أموالاً عظيمة، قويت نفسه، وخلع طاعة مهذب الدولة مخدومه، ثم قصده، فانهزم مهذب الدولة عن البطيحة، واستولى ابن واصل على بلاد مهذب الدولة وأمواله وكانت عظيمة، ونهب ما كان مع مهذب الدولة من المال، وقصد مهذب الدولة بغداد، فلم يمكن من الدخول إِليها، وهذا خلاف ما اعتمده مهذب الدولة المذكور، مع القادر لما هرب من بغداد إِليه، فإِن مهذب الدولة بالغ في الخدمة والإِحسان إِليه.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة قلد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، نقابة العلويين بالعراق، وقضاء القضاة والمظالم، وكتب عهده بذلك من شيراز، ولقبّه الطاهر ذا المناقب، فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة، وأمضى ما سواه.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة عود مهذب الدولة إِلى البطيحة كان أبو العباس بن واصل لما استولى على البطايح، قد أقام بها نائباً، وسار هو إِلى نحو البصرة، فلم يتمكن نائبه من المقام بها، وخرج أهل البطيحة عن طاعته، فأرسل عميد الجيوش وهو أمير العراق من جهة بهاء الدولة، عسكراً في السفن مع مهذب الدولة إِلى البطيحة، فلما دخلها لقيه أهل البلاد وسروا بقدومه، وسلموا إليه جميع الولايات، واستقر عليه لبهاء الدولة، في كل سنة خمسون ألف دينار، واشتغل عنه ابن واصل بحرب غيره.
وفي هذه السنة فتح يمين الدولة محمود بن سبكتكين مدينة بهاطية من أعمال الهند وهي وراء الملتان، وهي مدينة حصينة عالية السور.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة سار يمين الدولة ففتح الملتان، ثم سار إِلى نحو بيدا ملك الهند، فهرب إلى قلعته المعروفة بكاليجار فحصره بها، ثم صالحه على مال حمله إِليه، وألبس ملك الهند خلعته، واستعفى من شد المنطقة، فلم يعفه يمين الدولة منها فشدها على كره.
غير ذلك من الحوادث
وفي هذه السنة قُلد الشريف الرضي نقابة الطالبيين ولقب بالرضي، ولقب أخوة المرتضى فعل ذلك بهاء الدولة. وفيها توفي محمد بن إِسحاق بن محمد ابن يحيى بن منده الأصفهاني، صاحب التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة قتل ابن واصل في هذه السنة وقع بين بهاء الدولة وأبي العباس بن واصل حروب، آخرها أن أبا العباس انهزم إِلى البصرة ثم انهزم عنها، فأُسر وحُمل إِلى بهاء الدولة، فأمر بقتله قبل وصوله إِليه، وطيف برأس أبي العباس بن واصل المذكور بخورستان وكان قتله بواسط عاشر صفر.
خبر أبي ركوة في هذه السنة، خرج على الحاكم بمصر، إِنسان أموي من ولد هشام بن عبد الملك، يسمى أبا ركوة، لحمله ركوة على كتفه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فكثر جمعه وملك برقة، وجهز إِليه الحاكم جيشاً فهزمه أبو ركوة، وغنم ما في ذلك الجيش، وقوى به، وسار أبو ركوة إِلى الصعيد واستولى عليه، فعظم ذلك على الحاكم إِلى الغاية، فأحضر عساكر الشام، واستخدم عساكر كثيرة، واستعمل عليهم فضل بن عبد الله، وأرسله إِلى أبي ركوة، فجرى بينهم قتال عظيم، وآخره أن عساكر الحاكم انتصرت، وهربت جموع أبي ركوة، وأُخذ أسيراً فقتله الحاكم وصلبه، وطيف برأسه.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة، سار يمين الدولة محمود إلى الهند، وأوغل فيه وغزا وفتح. وفي هذه السنة استعملت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة - وكان إليها الحكم بمملكة ابنها - أبا جعفر ابن شمتر يار، المعروف بابن كاكوية، على أصفهان، فاستقر فيها قدمه وعظم شأنه وإنما قيل له ابن كاكوية، لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة المذكورة، وكاكوية هو الخال بالفارسية.
وفي هذه السنة توفي عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر.
وفيها توفي البديع أبو الفضل أحمد بن الحسين الهمذاني صاحب المقامات المشهورة التي عمل الحريري على منوالها المقامات الحريرية.
وفيها توفي أبو نصر إِسماعيل بن أحمد الجوهري، مصنف كتاب الصحاح في اللغة المعروف بصحاح الجوهري وهو كتاب شهرته تغني عن ذكره، وإسماعيل المذكور هو من فاراب وهي مدينة ببلاد الترك، من وراء النهر، وتسمى هذا الزمان أطرار وكان المذكور إِماماً في اللغة العربية، قدم إِلى نيسابور وتوفي بها، وكان يكتب خطاً حسناً منسوباً من الطبقة العالية.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم العلوي قد ولاه الرحبة، ثم انتقلت عنه، وصار أمرها إِلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب. وفيها توفي علي بن عبد الرحمن بن أحمد بن يونس المصري، صاحب الزيج الحاكمي، المعروف بزيج بن يونس، وهو زيج كبير في أربع مجلدات، وذكر أن الذي أمر بعمله العزيز أبو الحاكم.
ثم دخلت سنة أربعمائة في هذه السنة عاد يمين الدولة وغزا الهند وغنم وعاد.
؟؟؟أخبار المؤيد الأموي خليفة الأندلس
قد تقدم في سنة ست وستين وثلاثمائة ذكر موت الحاكم صاحب الأندلس، وولاية ابنه المؤيد هشام بن الحكم المنتصر بن عبد الرحمن الناصر بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم طريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر المؤيد لما ولي الخلافة عشر سنين، فاستولى على تدبير المملكة أبو عامر محمد بن أبي عامر، وبقي المؤيد محجوباً عن الناس، واستمر المؤيد هشام المذكور في الخلافة إِلى سنة تسع وتسعين وثلاثمائة فخرج عليه في السنة المذكورة، محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، في جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وثلاثمائة واجتمع عليه الناس وبايعوه بالخلافة، وقبض على المؤيد وحبسه في قرطبة وتلقب محمد المذكور بالمهدي، واستمر في الخلافة، فخرج عليه سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، فهرب محمد بن هشام بن عبد الجبار المذكور، واستولى سليمان على الخلافة في أوائل شوال من هذه السنة أعني سنة أربعمائة، ثم جمع المهدي محمد بن هشام جمعاً وقصد سليمان بقرطبة، فهرب سليمان وعاد محمد المهدي المذكور إِلى الخلافة في منتصف شوال من هذه السنة المذكورة، ثم اجتمع كبار العسكر وقبضوا على المهدي محمد المذكور، وأخرجوا المؤيد من الحبس، وأعادوه إِلى الخلافة في سابع ذي الحجة من هذه السنة، أعني سنة أربعمائة، وأحضروا المهدي المذكور بين يديه، فأمر بقتله، فقتل، واستمر المزيد في الخلافة، وقام بتدبير أمره واضح العامري ثم قبض المؤيد على واضح المذكور وقتله، فكثرت الفتن على المؤيد، واتفقت البربر مع سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وسار وحصر المؤيد بقرطبة، وملكها سليمان عنوة، وأخرج المؤيد من القصر، ولم يتحقق للمؤيد خبر بعد ذلك، وبُويع سليمان بالخلافة في منتصف شوال من سنة ثلاث وأربعمائة، وتلقب بالمستعين بالله، ثم كان من سليمان وأخبار الأندلس ما سنذكره إِن شاء الله تعالى في سنة سبع وأربعمائة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة بنى أبو محمد بن سهلان، سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة، وكان قد أضر في آخر عمره.
وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر، وأبو الفتح علي بن محمد البستي، الكاتب الشاعر، صاحب التجنيس.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة فيها سار أيلك خان ملك الترك، من سمرقند، بجيوشه لقتال أخيه طغان خان، فوصل إلى أوزكند وسقط عليه ثلج منعه من المسير إِليه، فعاد إِلى سمرقند.
الخطبة العلوية بالكوفة والموصل في هذه السنة خطب قرواش بن المقلد بن المسيب أمير بني عقيل، للحاكم بالله العلوي صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها. وكان ابتداء الخطبة بالموصل، الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدت بعظمته أركان النصب، وأطلع بقدرته شمس الحق من الغرب، فكتب بهاء الدولة إِلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إِلى حرب قرواش فسار إِليه، وأرسل قرواش يعتذر وقطع خطبة العلويين.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة وقع الحرب بين بني مزيد وبني دبيس، بسبب أن أبا الغنائم محمد بن مزيد، كان مقيماً عند بني دبيس، في جزيرتهم، بنواحي خورستان لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم محمد بن مزيد، أحد وجوه بني دبيس، ولحق بأخيه أبي الحسن بن مزيد، فسار إِليهم أبو الحسن بن مزيد، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم محمد بن مزيد، وهرب أخوه أبو الحسن.
وفي هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز، وكان أميراً من جهة بهاء الدولة على العسكر، وعلى الأمور ببغداد، وكانت ولايته ثمان سنين وأربعة أشهر وأياماً. وعمره تسع وأربعون سنة، وكان أبوه أستاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، واتصل عميد الجيوش بخدمة بهاء الدولة، فلما فسد حال بغداد من الفتن، أرسله بهاء الدولة إِلى بغداد، فأصلح الأمور وقمع المفسدين، فلما مات عميد الجيوش، استعمل بهاء الدولة موضعه على بغداد فخر الملك، أبا غالب.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة أخبار صالح بن مرْداس
وملكه حلب وأخبار ولده إلى سنة اثنتَين وسبعين وأربعمائة
وكان ينبغي أن نذكر ذلك مبسوطاً في السنين، ولكن لقلته كان يضيع ولا ينضبط فلذلك أوردنا في هذه السنة جملة، كما فعلنا مثل ذلك في عدة قصص من هذا التاريخ فنقول: إِننا ذكرنا ملك أبي المعالي شريف الملقب بسعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان لحلب، إِلى أن توفي بالفالج، وهو مالكها، على ما شرحناه في سنة إِحدى وثمانين وثلاثمائة، ولما توفي أبو المعالي سعد الدولة المذكور، أقيم أبو الفضائل ولد سعد الدولة مكان أبيه، وقام بتدبيره، لؤلؤ، أحد موالي سعد الدولة، ثم استولى أبو نصر بن لؤلؤ المذكور علي أبي الفضائل بن سعد الدولة، وأخذ منه حلب، واستولى عليها، وخطب للحاكم العلوي بها، ولقب الحاكم أبا نصر بن لؤلؤ المذكور، مرتضى الدولة. واستقر في ملك حلب، وجرى بينه وبين صالح بن مرداس الكلابي وبني كلاب وحشة وقصص يطول شرحها، وكانت الحرب بينهم سجالاً، وكان لابن لؤلؤ غلام اسمه فتح، وكان دزدار قلعة حلب، فجرى بينه وبين أستاذه ابن لؤلؤ وحشة في الباطن، حتى عصى.
فتح المذكور في قلعة حلب على أستاذه، واستولى عليها، وكاتب فتح المذكور الحاكم العلوي بمصر، ثم أخذ فتح من الحاكم صيدا وبيروت، وسلم حلب إِلى نواب الحاكم، فسار مولاه ابن لؤلؤ إِلى إنطاكية وهي للروم، فأقام معهم بها، وتنقلت حلب بأيدي نواب الحاكم، حتى صارت بيد إِنسان من الحمدانية، يعرف بعزيز الملك، وبقي المذكور نائب الحاكم بحلب، حتى قتل الحاكم، وولي الظاهر لاعزاز دين الله، العلوي، فتولى من جهة الظاهر العلوي المذكور على مدينة حلب، إِنسان يعرف بابن ثعبان وولي القلعة خادم يعرف بموصوف، فقصدهما صالح بن مرداس، أمير بني كلاب، فسلم إِليه أهل البلد مدينة حلب، لسوء سيرة المصريين فيهم، وصعد ابن ثعبان إِلى القلعة، وحصرها صالح بن مرداس، فسلمت إِليه قلعة حلب أيضاً، في سنة أربع عشرة وأربعمائة واستقر صالح مالكاً لحلب، وملك معها من بعلبك إِلى عانة وأقام صالح بن مرداس بحلب، مالكاً لما ذكر ست سنين، فلما كان سنة عشرين وأربعمائة، جهز الظاهر العلوي جيشاً لقتال صالح المذكور، ولقتال حصان أمير بني طيئ وكان قد استولى حسان المذكور على الرملة. وتلك البلاد، وكان مقدم عسكر المصريين اسمه أنوش تكين، فاتفق صالح وحسان على قتال أنوش تكين، وسار صالح من حلب إلى حسان، واجتمعا على الأردن عند طبرية ووقع بينهم القتال، فقتل صالح بن مرداس وولده الأصغر، ونفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح بن مرداس، وسار إِلى حلب، فملكها، وكان لقب أبي كامل المذكور، شبل الدولة وبقي شبل الدولة بن صالح مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وذلك في أيام المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر.
فجهزت العساكر من مصر إِلى شبل الدولة، ومقدمهم رجل يقال له الدزبري بكسر الدال المهملة وسكون الزاي المعجمةَ وباء موحدة وراء مهملة ويا مثناة من تحت وهو أنوش تكين المذكور، وكان يلقب الدزبري.
نقلت ذلك من تاريخ ابن خلكان فاقتتلوا مع شبل الدولة عند حماة، في شعبان سنة تسع وعشرين وأربعمائة فقتل شبل الدولة، وملك الدزبري حلب في رمضان من السنة المذكورة. وملك الشام جميعه، وعظم شأن الدزبري وكثر ماله، وتوفي الدزبري بحلب سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
وكان لصالح بن مرداس ولد بالرحبة، يقال له: أبو علوان ثمال، ولقبه معز الدولة، فلما بلغه وفاة الدزبري سار ثمال بن صالح المذكور إِلى حلب وملك مدينة حلب، ثم ملك قلعتها في صفر سنة أربع وثلاثين وأربعمائة وبقي معز الدولة ثمال بن صالح المذكور، مالكاً لحلب إِلى سنة أربعين وأربعمائة، فأرسل إليه المصريون جيشاً، فهزمهم ثمال، ثم أرسلوا إِليه جيشاً آخر، فهزمهم ثمال أيضاً ثم صالح ثمال المذكور المصريين، ونزل لهم عن حلب فأرسل المصريون رجلاً من أصحابهم يقال له الحسن بن علي بن ملهم ولقبوه مكين الدولة، فتسلم حلب من ثمال بن صالح بن مرداس، في سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وسار ثمال إِلى مصر، وسار أخوه عطية بن صالح بن مرداس إِلى الرحبة، وكان لنصر الملقب بشبل الدولة الذي قتل في حرب الدزبري ولد يقال له محمود، فكاتبه أهل حلب، وخرجوا عن طاعة ابن ملهم، فوصل إِليهم محمود، واتفق معه أهل حلب، وحصروا ابن ملهم في جمادى الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، فجهز المصريون جيشاً لنصرة ابن ملهم، فلما قاربوا حلب، رحل محمود عنها هارباً، وقبض ابن ملهم على جماعة من أهل حلب، وأخذ أموالهم، ثم سار العسكر في أثر محمود بن نصر بن صالح المذكور، فاقتتلوا وانتصر محمود وهزمهم، ثم عاد محمود إِلى حلب فحاصرها، وملك المدينة والقلعة، في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن ملهم ومقدم الجيش، وهو ناصر الدولة، من ولد ناصر الدولة بن حمدان، فسار إِلى مصر واستقر محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس مالكاً لحلب.
ولما وصل ابن ملهم وناصر الدولة إِلى مصر، وكان ثمال بن صالح بن مرداس قد سار إِلى مصر كما ذكرنا، جهز المصريون ثمال بن صالح بجيش، لقتال ابن أخيه محمود بن شبل الدولة فسار ثمال بن صالح إِلى حلب وهزم محمود بن أخيه، وتسلم ثمال بن صالح بن مرداس حلب، في ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين أربعمائة ثم توفي ثمال في حلب سنة أربع وخمسين في ذي القعدة، وأوصى بحلب لأخيه عطية، الذي كان سار إِلى الرحبة كما ذكرناه.
فسار عطية بن صالح من الرحبة، وملك حلب في السنة المذكورة، وكان محمود بن شبل الدولة، لما هرب من عمه ثمال من حلب، سار إِلى حران، فلما مات ثمال، وملك أخوه عطية حلب، جمع محمود عسكراً وسار إلى حلب، فهزم عمه عطية عنها وسار عطية إِلى الرقة فملكها، ثم أُخذت منه، فسار عطية إِلى الروم، وأقام بقسطنطينية حتى مات بها.
وملك محمود بن نصر بن صالح بن مرداس حلب، في أواخر سنة أربع وخمسين وأربعمائة ثم استوَلى محمود على أرتاح، وأخذها من الروم في سنة ستين، ومات محمود المذكور في ذي الحجة سنة ثمان وستين وأربعمائة في حلب، مالكاً لها.
وملك حلب بعده ابنه نصر بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس، ثم قتل التركمان نصراً المذكور، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى، في سنة تسع وستين وأربعمائة وملك حلب بعده أخوه سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وبقي سابق بن محمود المذكور، مالكاً لحلب إِلى سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة وأخذ حلب منه شرف الدولة، مسلم بن قريش، صاحب الموصل على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة، كتب ببغداد محضر بأمر القادر، يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر، وكتب فيه جماعة من العلويين والقضاة، وجماعة من الفضلاء، وأبو عبد الله بن النعمان فقيه الشيعة، ونسخة المحضر المذكورة هذا ما شهد به الشهود، أن معد بن إِسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، منتسب إلى ديصان بن سعيد، الذي ينسب إِليه الديصانية، وأن هذا الناجم بمصر هو منصور ابن نزار المتلقب بالحاكم، حكم الله عليه بالبوار والدمار، ابن معد بن إِسماعيل بن عبد الرحمن بن سعيد، لا أسعده الله، وأن من تقدمه من سلفه، الأرجاس الأنجاس، عليهم لعنة الله، ولعنة اللاعنين، أدعياء خوارج لا نسب لهم في ولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأن ما ادعوه من الانتساب إِليه، زور وباطل، وأن هذا الناجم في مصر، هو وسلفه، كفّار وفسّاق، زنادقة ملحدون معطلون، وللإِسلام جاحدون، أباحوا الفروج وأحلوا الخمور، وسبوا الأنبياء، وادعوا الربوبية وتضمن المحضر المذكور نحو ذلك، أضربنا عنه، وفي آخره كتب في شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وأربعمائة وفيها اشتد أذى خفاجة للحجاج، وقطعوا عليهم الطريق.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة قتل قابوس في هذه السنة، قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير بن زيار، بسبب تشديده على أصحابه، وعدم التجاوز عن ذنوبهم، فخرجوا عن طاعته وحصروه، واستدعوا ولده منوجهر بن قابوس، فأقاموه عليهم، وكان بجرجان، ثم اتفق مع أبيه قابوس، فانقطع قابوس في قلعة يعبد الله، فلم يطب للعسكر الذين خلعوه، وعاودوا منوجهر في قتله، فسكت فمضوا إِلى قابوس، وأخذوا جميع ما عنده من ملبوس، وتركوه حتى مات بالبرد، وكان قابوس المذكور كثير الفضائل، عظيم السياسة، شديد الأخذ، قليل العفو، وكان عالماً بالنجوم وغيرها، وله أشعار حسنة، فمن شعره:
قلْ للذي بصروف الدهرِ عيرنا ... هلْ عاند الدهر ُإِلا مَنْ له خطرُ
ففي السماء نجوم ما لها عدد ... وليسَ يكسف إِلا الشمسُ والقمر
وفي هذه السنة مات ملك الترك، أيلك خان، وملك بعده أخوه طغان خان، وكان أيلك خان خيراً عادلاً محباً للدين وأهله.
وفاة بهاء الدولة في هذه السنة في عاشر جمادى الآخرة، توفي بهاء الدولة أبو نصر خاشاذ بن عضد الدولة بن بويه بتتابع الصرع، مثل مرض أبيه عضد الدولة، وكان موت بأرجان، وملك العراق وعمره اثنتان وأربعون سنة وتسعة أشهر، وملكه أربع وعشرون سنة.
ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة. وفيها كان استيلاء سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر على قرطبة، وبويع بالخلافة على ما قدمنا ذكره، في سنة أربعمائة، ولما استولى على قرطبة عدم المؤيد هشام، فلم يتحقق له خبر بعد هذه السنة، وسنذكر ما قيل في ظهوره إِن شاء الله تعالى وإن ذلك كان تنويجاً لا حقيقة له.
وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الباقلاني، واسمه محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر، وكان أبو بكر المذكور، على مذهب أبي الحسن الأشعري، وهو ناصر طريقته، ومؤيد مذهبه، وسكن ببغداد، وصنف التصانيف للكثيرة في علم الكلام، وانتهت إِليه الرئاسة في مذهبه، ونسبة الباقلاني إلى بيع الباقلاء، وهي نسبة شاذة مثل صنعاني.
ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة في هذه السنة أيضاً عاد يمين الدولة محمود، فغزا الهند وأوغل في بلادهم وغنم وفتح وعاد إِلى غزنة. وفيها عاثت خفاجة، ونهبوا سواد الكوفة، وطلع عليهم العسكر وقتل منهم وأسر.
وفي هذه السنة توفي أبو الحسن علي بن سعيد الأصطخري، وهو من شيوخ المعتزلة، وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة في هذه السنة، كانت الحرب بين أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي، وبين مضر وحسان ونبهان وطراد بني دبيس، وكان آخر تلك الحرب، أن مضر بن دبيس، كبس أبا الحسن ابن مزيد المذكور، فهزمه واستولى ابن دبيس على خيل أبي الحسن وأمواله وهرب أبو الحسن إِلى بلد النيل.
وفيها توفي الحافظ محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نعيم الضبي الطهماني، المعروف بابن الحاكم النيسابوري إِمام أهل الحديث في عصره، والمؤلف فيه الكتب التي لم يسبق إِلى مثلها، سافر في طلب الحديث، وبلغت عدة شيوخه نحو ألفين، وصنف عدة مصنفات، منها الصحيحان، والأمالي، وفضائل الشافعي، وإنما عُرف أبوه بالحاكم، لأنه تولى القضاء بنيسابور.
وفيها قتل طائفة من عامة الدينور، قاضيهم أبا القاسم يوسف بن أحمد بن كج، الفقيه الشافعي، قاضي الدينور، قتلوه خوفاً منه، وله وجه في المذهب، وصنف كتباً كثيرة، وجمع بين رئاستي العلم والدنيا.
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة وفاة باديس في هذه السنة، توفي باديس بن منصور بن يوسف بلكين بن زيري، أمير إِفريقية. وولي بعده إِمرة إِفريقية ابنه المعز بن باديس، وعمره ثمان سنين، ووصلت إِليه الخلع والتقليد من الحاكم العلوي، ولقبه شرف الدولة، وهذا المعز بن باديس هو الذي حمل أهل المغرب على مذهب الإمام مالك، وكانوا قبله على مذهب أبي حنيفة.
وفي هذه السنة غزا يمين الدولة محمود الهند على عادته، فتاه الدليل، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر فغرق كثير ممن معه، وبقي فيه أياماً، حتى تخلص، وعاد إِلى خراسان.
وفي هذه السنة عَزَل سلطان الدولة بن بهاء الدولة نائبه بالعراق، فخر الملك، أبا غالب، وقتله سلخ ربيع الأول من هذه السنة، وكان عمر فخر الملك اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكانت مدة ولايته على العراق خمس سنين وأربعة أشهر وأياماً، ووجد له من المال ألف ألف دينار عيناً، غير العروض. وغير ما نهب، وكان قبضه بالأهواز. ثم استوزر سلطان الدولة بن بهاء الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان.
وفيها توفي أبو نصر قرا خان صاحب تركستان، وقيل في سنة ثمان ورأبعمائة على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى. وفيها توفي الشريف الحسيني الملقب بالرضي، وهو محمد بن الحسين بن موسى بن إِبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، المعروف بالموسوي، صاحب ديوان الشعر، حكي أنه تعلم النحو من ابن السيرافي النحوي، فذاكره ابن السيرافي على عادة التعليم، وهو صبي، فقال: إذا قلنا رأيت عمر فما علامة النصب في عمرو؟ فقال الرضي: بغض علي. أراد السيرافي النصب الذي هو الإعراب، وأراد الرضي الذي هو بغض علي، فأشار إِلى عمرو بن العاص وبغضه لعلي، فتعجب الحاضرون من حدة ذهنه، وكانت ولادته سنة تسع وخمسين وثلاثمائة ببغداد.
وفيها توفي الإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني، إِمام أصحاب الشافعي، وكان عمره إِحدى وستين سنة وأشهراً، قدم بغداد في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلاثمائة فقيه، وطبق الأرض بالأصحاب، وله عدة مصنفات منها: في المذهب التعليقة الكبرى، وهو من إسفرائين وهي بلدة بخراسان بنواحي نيسابور، على منتصف الطريق إِلى جرجان.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة فيها غزا يمين الدولة محمود الهند على عادته، ووصل إِلى قشمير، وقنوج، وبلغ نهر كنك وفتح عدة بلاد وغنم أموالاً وجواهر عظيمة، وعاد إِلى غزنة مؤيداً منصوراً.
انقراض الخلافة الأموية من الأندلس
وتفرق ممالك الأندلس، وأخبار الدولة العلوية بها
في هذه السنة، خرج بالأندلس على المستعين بالله سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، شخص من القواد يقال له خيران العامري، لأنه كان من أصحاب المؤيد، فلما ملك سليمان الأموي قرطبة، خرج عنه خيران المذكور، وسار في جماعة كثيرة من العامريين، وكان علي بن حمود العلوي مستولياً على سبتة، وبينه وبين الأندلس عدوة المجاز، وكان أخوه القاسم بن حمود مستولياً على الجزيرة الخضراء من الأندلس، ولما رأى علي بن حمود العلوي خروج خيران على سليمان، عبر من سبتة إِلى مالقة، واجتمع إِليه خيران وغيره من الخارجين على سليمان الأموي، وكان أمر هشام المؤيد الخليفة الأموي قد اختفى عليهم، من حين استولى ابن عمه سليمان المذكور على قرطبة، في سنة ثلاث وأربعمائة، على ما قدمنا ذكره. وأخرج المؤيد من القصر، فلم يطلع للمؤيد على خبر، فاجتمع خيران وغيره إِلى علي بن حمود العلوي بالمكتب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وبايعوا علي بن حمود العلوي على طاعة المؤيد الأموي، إِن ظهر خبره، وساروا إلى سليمان بقرطبة، وجرى بينهم قتال شديد، انهزم فيه سليمان الأموي، وأخذ أسيراً، وأحضر هو وأخوه وأبوهما الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وكان الحكم أبو سليمان المذكور، متخلياً عن الملك للعبادة، وملك علي بن حمود العلوي قرطبة، ودخلها في هذه السنة أعني سنة سبع وأربعمائة، وقصد القواد وعلي ابن حمود القصر، طمعاً في أن يجدوا المؤيد، فلم يقفوا له على خبر، فقتل علي بن حمود العلوي سليمان وأباه وأخاه، ولما قدم الحكم بن سليمان للقتل، قال له علي ابن حمود: يا شيخ قتلتم المؤيد؟ فقال: والله ما قتلناه، وإنه حي يرزق، فحينئذ أسرع علي بن حمود في قتله، وأظهر علي بن حمود موت المؤيد، ودعا الناس إلى نفسه فبايعوه، وتلقب بالمتوكل على الله، وقيل الناصر لدين الله، وهو علي بن حمود بن أبي العيش ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إِدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم.
ثم إن خيران خرج عن طاعته، لأنه إِنما وافقه طمعاً في أن يجد المؤيد محبوساً في قصر قرطبة، ليعيده إِلى الخلافة، فلما لم يجده، سار خيران عن قرطبة يطلب أحداً من بني أمية ليقيمه في الخلافة، فبايع شخصاً من بني أمية ولقبه المرتضى، وهو عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مستخفياً بمدينة جيان، واجتمع إِلى عبد الرحمن المذكور أهل شاطبة وبلنسية وطرطوشة مخالفين على علي بن حمود العلوي، فلم ينتظم لعبد الرحمن المذكور أمر، وجمع علي بن حمود جموعه، وقصد المسير إِليهم من قرطبة، وبرز العساكر إِلى ظاهرها، ودخل علي بن حمود الحمّام، ليخرج منها ويسير بالعساكر فوثب عليه غلمانه وقتلوه في الحمّام. وكان قتل علي بن حمود في أواخر ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة، فلما علمت العساكر بقتله، دخلوا البلد، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، ومدة ولايته سنة وتسعة أشهر.
ثم ولي بعده أخوه القاسم بن حمود، وكان أكبر من أخيه علي بعشرين عاماً، وقيل بعشرة أعوام، ولقب القاسم بالمأمون، وبقط القاسم بن حمود مالكاً لقرطبة وغيرها، إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. ثم سار القاسم من قرطبة إلى إشبيلية، فخرج عليه ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود بقرطبة، ودعا الناس إلى نفسه، وخلع عمه، فأجابوه، وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وتلقب يحيى بالمعتلي، وبقي بقرطبة حتى سار إِليه عمه القاسم من إِشبيلية، فخرج يحيى بن علي بن حمود من قرطبة إِلى مالقة، والجزيرة الخضراء، فاستولى عليهما، وذلك في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، في ذي القعدة، ودخل القاسم بن حمود قرطبة في التاريخ المذكور، وجرى بين أهل قرطبة وبين القاسم قتال شديد، وأخرجوه عن قرطبة، وبقي بينهم القتال نيفاً وخمسين يوماً، ثم انتصر أهل قرطبة وانهزم القاسم بن حمود، وتفرق عنه عسكره، وسار إِلى شريش، فقصده ابن أخيه يحيى بن علي بن حمود، وأمسك عمه القاسم بن حمود وحبسه، حتى مات القاسم في الحبس، بعد موت يحيى.
ولما جرى ذلك خرج أهل إِشبيلية عن طاعة القاسم، وابن أخيه يحيى، وقدموا عليهم قاضي إِشبيلية أبا القاسم محمد بن إِسماعيل بن عباد اللخمي، وبقي إِليه أمر إشبيلية وكانت ولاية القاسم بن حمود بقرطبة إِلى أن أمسك وحبس ثلاثة أعوام، وشهوراً، وبقي محبوساً إِلى أن مات سنة إِحدى وثلاثين وأربعمائة وقد أسنّ.
ثم أقام أهل قرطبة رجلاً من بني أمية اسمه عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، ولقب عبد الرحمن المذكور المستظهر بالله وهو أخو المهدي محمد بن هشام، وبويع في رمضان، وقتلوه في ذي القعدة، كل ذلك في سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولما قتل المستظهر، بويع بالخلافة محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد الرحمن الناصر، ولقب محمد المذكور المستكفي، ثم خلع المستكفي المذكور بعد سنة وأربعة أشهر، فهرب وسم في الطريق فمات.
ثم اجتمع أهل قرطبة على طاعة يحيى بن علي بن حمود العلوي، وكان بمالقة، يخطب له بالخلافة، ثم خرجوا عن طاعته في سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وبقي يحيى كذلك مدة، ثم سار من مالقة إِلى قرمونة. وأقام بها محاصراً لإشبيلية وخرجت للقاضي أبا القاسم بن عباد خيل، وكمن بعضهم، فركب يحيى لقتالهم، فقتل في المعركة، وكان قتل يحيى المذكور في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ولما خلع أهل قرطبة طاعة يحيى كما ذكرنا، بايعوا لهشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي ولقبوه بالمعتد بالله، وكان ذلك في سنة ثماني عشرة وأربعمائة حسبما ذكرنا، وجرى في أيامه فتن وخلافات من أهل الأندلس يطول شرحها، حتى خلع هشام المذكور سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وسار هشام مخلوعاً إِلى سليمان بن هود الجذامي، فأقام عنده إِلى أن مات هشام سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
ثم أقام أهل قرطبة بعد هشام شخصاً من ولد عبد الرحمن الناصر أيضاً واسمه أمية، ولما أرادوا ولاية أمية، قالوا له: نخشى عليك أن تقتل فإن السعاد قد ولت عنكم يا بني أمية. فقال: بايعوني اليوم، واقتلوني غداً، فلم ينتظم له أمر، واختفى فلم يظهر له خبر بعد ذلك.
ثم إِن الأندلس اقتسمها أصحاب الأطراف والرؤساء، وصاروا مثل ملوك الطوائف، وأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحسن بن جهور، وكان من وزراء الدولة العامرية، وبقي كذلك إِلى أن مات سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمر قرطبة بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور. وأما إِشبيلية فاستولى عليها قاضيها أبو القاسم محمد بن إِسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر ولما انقسمت مملكة الأندلس، شاع أن المؤيد هشام بن الحكم الذي اختفى خبره قد ظهر وسار إِلى قلعة رباح، وأطاعه أهلها، فاستدعاه ابن عباد إِلى إِشبيلية، فسار إليه، وقام بنصره، وكتب بظهوره إِلى ممالك الأندلس، فأجاب أكثرهم، وخطبوا له وجددت بيعته في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وبقي المؤيد حتى ولي المعتضد بن عباد، فأظهر موت المؤيد، والصحيح أن المؤيد لم يظهر خبر مذ عدم من قرطبة، في سنة ثلاث وأربعمائة على ما قدمنا ذكره، وإما كان إِظهار المؤيد من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره.
وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب سابور المذكور بالمنصور، ثم انتقلت من بعده إِلى أبي بكر محمد بن عبد الله بن مسلمة، المعروف بابن الأفطس، وتلقب محمد المذكور بالمظفر، وأصل ابن الأفطس المذكور من بربر مكناسة، لكن ولده أبوه بالأندلس. فلما توفي محمد المذكور، صار ملك بطليموس بعده لولده عمر بن محمد وتلقب بالمتوكل، واتسع ملكه، وقتل صبراً مع ولديه، عند تغلب أمير المسلمين يوسف بن تاشفين على الأندلس، وكان اسم ولديه اللذين قتلا معه، الفضل والعباس.
وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، ثم صارت إِلى إِسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن ذي النون، وتلقب بالظافر بحول الله، وأصله من البربر، ثم ملك بعده ولده يحيي بن إِسماعيل، ثم أخذت الفرنج منه طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام هو بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف.
وأما سرقسطة والثغر الأعلى، فصارت في يد منذر بن يحيى، ثم صارت سرقسطة وما معها بعده لولده يحيى بن منذر بن يحيى، ثم صارت لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي، وتلقب بالمستعين بالله، ثم صارت بعده لولده أحمد بن سليمان بن محمد بن أحمد، ثم ولى بعده ابنه عبد الملك بن أحمد، ثم ولي بعده ابنه أحمد بن عبد الملك، وتلقب بالمستنصر بالله. وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمسمائة، فصارت بلادهم جميعها للملثمين.
وأما طرطوشة فوليها لبيب بن الفتى العامري. وأما بلنيسة فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز المغافري، ثم انضاف إِليه المرية، ثم ملك بعده ابنه محمد بن عبد العزيز، ثم غدر به صهره المأمون بن ذي النون، وأخذ الملك من محمد بن عبد العزيز في سنة سبع وخمسين وأربعمائة.
وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري. وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق بن أبي الحسين مجاهد العامري. وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت لأبي عبد الرحمن منهم، إِلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد. ثم عصى بها نائبها عليه، ثم صارت للملثمين.
وأما المرية فملكها خيران العامري، ثم ملك المرية بعده زهير العامري، واتسع ملكه إِلى شاطبة، ثم قتل وصارت مملكته إِلى المنصور عبد العزيز بن عبد الرحمن المنصور بن أبي عامر، ثم انتقلت حتى صارت للملثمين.
وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود العلوي، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها بالخلافة، إِلى أن أخذها منهم باديس ابن حبوس صاحب غرناطة.
وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكس الصنهاجي فهذه صورة تفرق ممالك الأندلس، بعد ما كانت مجتمعة لخلفاء بني أمية، وقد نظم أبو طالب عبد الجبار المعروف بالمثنى الأندلسي، من أهل جزيرة شقراء، أرجوزة تحتوي على فنون من العلوم، وذكر فيها شيئاً من التاريخ يشتمل على تفرق ممالك الأندلس، فمن ذلك قوله:
لما رأى أعلامُ أهل قُرطبة ... أن الأمور عندهم مضطربَه
وعدمت شاكلة للطاعة ... استعلمت آراءها الجماعة
فقدموا الشيخَ من آل جهور ... المكتنى بالحزم والتدبرِ
ثم ابنه أبا الوليد بعده ... وكانْ يحدوا في السداد قصده
فجاهرت لجورها الجهاوره ... وكل قطر حل فيه فاقره
والثغر الأعلى قامَ فيه منذر ... ثم ابنُ هود بعدُ فيما يذكر
وابن يعيش ثار في طليطله ... ثم ابن ذي النون تصفى الملك له
وفي بطليموس انتزا سابور ... وبعده ابن الأفَطس المنصور
وثار في إِشبيلية بنو عباد ... والكذب والفتونُ في ازدياد
وثار في غرناطة حبوس ... ثم ابنه من بعده باديس
وآل معن ملكوا المريه ... بسيرة محمودة مُرْضيه
وثار في شرق البلاد الفتيان ... العامريون ومنهم خيران
ثم زهيرٌ والفتى لبيبُ ... ومنهم مجاهد اللبيب
سلطانه رسى بمرسى دانيه ... ثم غزا حتى إلى سردانيه
ثم أقامت هذه الصقالبه ... لابن أبي عامر هم بشاطبه
وحل ما ملكهم بلنسيه ... وثار آل طاهر بمرسيه
وبلد البيت لآل قاسم ... وهو حتى الآن فيه حاكم
وابن رزين جاره في السهلة ... أمهل أيضاً ثم كل المهله
ثم استمرت هذه الطوائِف ... يخلفهم من آلهم خوالف
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أعني سنة سبع وأربعمائة، قتلت الشيعة بإفريقية، وتتبع من بقي منهم فقتلوا، وكان سببه أن المعز بن باديس ركب في القيروان، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم فقيل له: هؤلاء رافضة، يسبون أبا بكر وعمر، فقال المعز رضي الله عن أبي بكر وعمر، فثارت بهم الناس، وأقاموا الفتنة وقتلوهم طمعاً في النهب.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة في هذه السنة مات قرا خان ملك تركستان، وقيل إِن وفاته كانت في سنة ست وأربعمائة، ومدينة تركستان كاشغر، ولما كان قرا خان مريضاً، سارت جيوش الصين من الترك والخطابية إِلى بلاده، فدعا قرا خان الله تعالى في أن يعافيه ليقاتلهم، ثم يفعل به ما شاء، فتعافى وجمع العساكر وسار إِليهم، وهم زهاء ثلاثمائة ألف خركاة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم ما لا يحصى، وعاد إِلى بلا ساغون، فمات بها عقيب وصوله، وكان عادلاً ديناً، وما أشبه قصته هذه بقصة سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، في غزوة الخندق، لما جرح في وقعة خندق، وسأل الله أن يحييه إِلى أن يشاهد غزوة بني قريظة، فاندمل جرحه حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل بني قريظة، وسبيهم، فانتقض جرح سعد ومات رضي الله عنه، ولما مات قرا خان، واسمه أبو نصر أحمد بن طغان خان علي ملك أخوه أبو المظفر أرسلان خان.
وفاة مهذب الدولة صاحب البطيحة وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن بن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثمائة وهو الذي هرب إليه القادر بالله، وسبب موته أنه افتصد، فورم ساعده، واشتد بسبب ذلك به المرض، فلما أشرف على الموت، وثب ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبد الله بن يمني، فقبض على ابن مهذب الدولة، واسمه أحمد، فدخلت أمه على مهذب الدولة قبل موته، فأعلمته بما جرى على ابنه فقال لها مهذب الدولة أي شيء أقدر أن أعمل وأنا على هذا الحال. ومات من الغد، ووليٍّ الأمر أبو محمد ابن أخت مهذب الدولة المذكور، وضرب ابن مهذب الدولة ضرباً شديداً، فمات أحمد بن مهذب الدولة من ذلك الضرب بعد ثلاثة أيام من موت أبيه، ثم حصل لأبي محمد ذبحة فمات منها، فكان مدة ملكه دون ثلاثة أشهر. فولي البطيحة بعده الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة، ثم قبض عليه سلطان الدولة، في سنة ست عشرة وأربعمائة، وأرسل سلطان الدولة صدقة بن فارس المازديادي فملك البطيحة.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة مات علي بن مزيد الأسدي وصار الأمير بعده ابنه دبيس بن علي بن مزيد. وفي هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمعت فيهم العامة، وكثرت العيارون والمفسدون في بغداد، ونهبوا الأموال. وفيها قدم سلطان الدولة إِلى بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، وكان جده عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات.
ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة. في هذه السنة غزا يمين الدولة الهند، على عادته، فقتل وغنم وفتح وعاد إِلى غزنة مظفراً منصوراً. وفيها مات عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، صاحب المؤتلف والمختلف. وفيها توفي أرسلان خان أبو المظفر بن طغان خان علي، ولما توفي مَلِكَ بلاد ما وراء النهر قدر خان، يوسف ابن بغراخان هارون بن سليمان، وتوفي قدر خان المذكور في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائة، وفيها توفي وثاب بن سابق النميري صاحب حران وملك بلاده بعده ولده شبيب بن وثاب.
ثم دخلت سنة إِحدى عشرة وأربعمائة موت الحاكم بأمر الله في هذه السنة، لثلاث بقين من شوال، فقد الحاكم بأمر الله أبو علي منصور ابن العزيز بالله العلوي، صاحب مصر، وكان فَقْده بأن خرج يطوف بالليل على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي وتوجه إِلى شرقي حلوان، ومعه ركابيان فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب ليوصلهم ما أطلق لهم من بيت المال، ثم عاد الركابي الآخر وأخبر أنه خلف الحاكم عند العين والمقصبة، فخرج جماعة من أصحابه لكشف خبره، فوجدوا عند حلوان حمار الحاكم، وقد ضربت يده بسيف، وعليه سرجه ولجامه، وأتبعوا الأثر، فوجدوا ثياب الحاكم فعادوا ولم يشكوا في قتله، وكان سبب قتله: أنه تهدد أخته، فاتفقت مع بعض القواد، وجهزوا عليه من قتله، وكان عمر الحاكم ستاً، وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وولايته خمساً وعشرين سنة وأياماً، وكان جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، وكان يصدر عنه أفعال متناقضه، يأمر بالشيء ثم ينتهي عنه.
وولي الخلافة بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله، أبو الحسن علي بن منصور الحاكم بأمر الله، وبويع له بالخلافة. في اليوم السابع من قتل الحاكم، وهو إذ ذاك صبي وكتبت الكتب إِلى بلاد مصر والشام بأخذ البيعة له، وجمعت عمته أخت الحاكم، واسمها ست الملك، الناس، ووعدتهم وأحسنت إِليهم ورتبت الأمور وباشرت تدبير الملك بنفسها، وقويت هيبتها عند الناس، وعاشت بعد قتل الحاكم أربع سنين وماتت.
ملك شرف الدولة
بن، بهاء الدولة بن عضد الدولة العراقوفي هذه السنة، في ذي الحجة شغبت الجند ببغداد على سلطان الدولة فأراد الإنحدار إِلى واسط، فقال الجند له: إِما أن تجعل عندنا ولدك، وإما أخاك مشرف الدولة، فاستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق، وسار سلطان الدولة عن بغداد إِلى الأهواز، واستوزر في طريقه ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة من ذلك، وأرسل سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فسار إِليه واقتتلا، فانتصر مشرف الدولة وأمسك ابن سهلان، وسمله، فلما سمع سلطان الدولة بذلك، ضعفت نفسه وهرب إِلى الأهواز في أربعمائة فارس، واستقر مشرف الدولة بن بهاء الدولة في ملك العراق، وقطعت خطبة سلطان الدولة، وخطب لمشرف الدولة في أواخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة، في الموصل، قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه، فيما بعد، وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إِلى الموصل، وخدم المقلد ابن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه ثم قتله، وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:
وليلِ كوجهِ البرقعيدي مظلم ... ورد أغانيه وطولِ قرونهِ
سريت ونومي فيه نوم مشردٍ ... كعَقلِ سليمَانَ بن فهد ودينهِ
علي أولق فيه التفات كأنه ... أبو جابر في خطبهِ وجنونهِ
إِلى أن بدا نور الصباح كأنه ... سنا وجه قرواش وضوء جبينه
وكان من حديث هذه الأبيات، أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش، وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر، وكان حاجباً لقرواش، فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه، فقال هذه الأبيات البديهية.
وفيها اجتمع غريب بن معن ودبيس بن علي بن مزيد، وأتاهم عسكر من بغداد، وجرى بينهم وبين قرواش قتال، فانهزم قرواش، وامتدت يد نواب السلطان إِلى أعماله، فأرسل قرواش يسأل الصفح عنه.
وفيها على ما حكاه ابن الأثير في حوادث هذه السنة، في ربيع الآخر نشأت سحابة بإفريقية شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة وهلك كل من أصابته. ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة فيها مات صدقة بن فارس المازياري أمير البطيحة، وضمنها أبو نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان، واستقر فيها، وأمنت به الطرق. وفيها توفي علي بن هلال، المعروف بابن البواب، المشهور بجودة الخط، وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وكان عنده علم، وكان يقص بجامع المدينة ببغداد، ويقال له ابن الستري أيضاً، لأن أباه كان بواباً، والبواب يلازم ستر الباب، فلهذا نسب إِليه أيضاً، وكان شيخه في الكتابة محمد بن أسد بن علي القارئ الكاتب البزار البغدادي. وتوفي ابن البواب ببغداد، ودفن بجوار أحمد بن حنبل.
وفيها توفي أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي صاحب طبقات الصوفية. وفيها توفي علي بن عبد الرحمن الفقيه البغدادي، المعروف بصريع الدلاء، قتيل الغواشي ذي الرقاعتين، الشاعر المشهور، وله قصيدة في المجون فمنها قوله:
وليس يخرا في الفراش عاقلٌ ... والفرش لا ينكر فيها من فسى
من فاته العلم وأخطاه الغنى ... فذاك والكلب على حال سوا
وقدم مصر في السنة التي توفي فيها، ومدح الظاهر لإعزاز دين الله.
أخبار اليمن
من تاريخ اليمن لعمارة قال: وفي هذه السنة، أعني سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، استولى نجاح على اليمن حسبما سبقت الإشارة إليه، في سنة ثلاث ومائتين، ونجاح المذكور مولى مرجان، ومرجان مولى حسين بن سلامة، وحسين مولى رشد، ورشد مولى زياد، وكان لنجاح عدة من الأولاد منهم: سعيد الأحول، وجياش، ومعارك، وغيرهم وبقي نجاح في ملك اليمن حتى توفي في سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة. قيل إن الصليحي أهدى إليه جارية جميلة، فسمت نجاحاً ومات بالسم.
ثم ملك بعد نجاح بنوه، وكبيرهم سعيد الأحول بن نجاح، وبقي الأمر فيهم بعد موت نجاح سنتين وغلب عليهم الصليحي، على ما سنذكره في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، فهرب بنو نجاح إِلى دهلك وجزائرها، ثم افترقوا منها فقدم جياش متنكراً إِلى زبيد، وأخذ منها وديعة كانت له، ثم عاد إِلى دهلك مدة ملك الصليحي. وأما سعيد الأحوال، فقدم إِلى زبيد أيضاً، بعد عود أخيه جياش عنها، واستتر بها، وأرسل واستدعى جياشاً من دهلك، وبشره بانقضاء ملك الصليحي، وأن ذلك قد قرب أوانه، فقدم جياش إِلى زبيد في اليوم التاسع من ذي القعدة، سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، وقصدا الصليحي، وكان الصليحي قد سار إِلى الحج، فلحقاه عند أم الدهيم، وبير أم معبد، وبغتاه وقتلاه في ثاني عشر ذي القعدة، من السنة المذكورة، ومعه عسكر كثير، فلم يشعروا إِلا بقتل الصليحي، وكذلك قتل مع الصليحي أخوه عبد الله بن محمد، وحز سعيد رأس الصليحي ورأس أخيه عبد الله، واحتاط على امرأة الصليحي، وهي أسماء بنت شهاب، وسار عائداً إِلى زبيد، وكان لأسماء ابن يقال له الملك المكرم، وكان مالكاً بعض حصون اليمن، ودخل سعيد بن نجاح وأخوه جياش زبيد في أواخر سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة والرأسان قدامهما، أمام هودج أسماء بنت شهاب، وأنزل سعيد أسماء بدار في زبيد، ونصب الرأسين قبالتها، واستوسق الأمر بتهامة لسعيد بن نجاح، واستمرت أسماء مأسورة إِلى سنة خمس وسبعين وأربعمائة، فأرسلت أسماء بالخفية كتاباً إِلى ابنها المكرم تستوحيه، فجمع المكرم، واسمه أحمد بن علي الصليحي، جموعاً وسار من الجبال إِلى زبيد، وجرى بينه وبين سعيد بن نجاح قتال شديد، فانتصر الملك المكرم، وهرب سعيد، ومن سلم معه إِلى دهلك، واستولى المكرم على زبيد، وأنزل رأسي الصليحي وأخيه ودفنهما، وبنى عليهما مشهداً وولى المكرم على زبيد خاله أسعد بن شهاب، وماتت أسماء المذكورة، بعد ذلك في صنعاء سنة سبع وسبعين وأربعمائة.
ثم عاد بنو نجاح من دهلك وملكوا زبيد، وأخرجوا أسعد بن شهاب منها في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ثم غلب عليهم الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي، وملك زبيد وقتل سعيد بن نجاح في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة، وقيل سنة ثمانين، ونصب رأسه مدة، ولما قتل سعيد في السنة المذكورة، هرب أخوه جياش إِلى الهند، وأقام جياش في الهند ستة أشهر، ثم عاد إِلى زبيد فملكها، في بقايا سنة إِحدى وثمانين المذكورة، وكان قد اشترى من الهند جارية هندية، فأقدمها معه وهي حبلى منه، فلما حصل في زبيد ولدت له ابنه الفاتك بمن جياش، وبقي المكرم في الجبال يوقع الغارات على بلاد جياش، ولم يبق له من القدرة على غير ذلك. ولم يزل جياش مالكاً لتهامة من اليمن، من سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، إِلى سنة ثمان وتسعين وأربعمائة، فمات في أواخرها، وقيل إِن موته كان في سنة خمسمائة، وترك عدة أولاد منهم: الفاتك ابن الهندية، ومنصور، وإبراهيم، فتولى بعده ابنه فاتك بن جياش، وخالف عليه أخوه إبراهيم، ثم مات فاتك في سنة ثلاث وخمسمائة وخلف ولده منصوراً، فاجتمعت عليه عبيد أبيه فاتك وملكوه وهو دون البلوغ، فقصده عمه إِبراهيم وقاتله، فلم يظفر إِبراهيم بطائل، وثار في زبيد عم الصبي عبد الواحد بن جياش، وملك زبيد، فاجتمع عبيد فاتك على منصور واستنجدوا وقصدوا زبيد، وقهروا عبد الواحد، واستقر منصور بن فاتك في الملك بزبيد، ثم ملك بعد منصور بن فاتك، ولده فاتك بن منصور بن فاتك. ثم ملك بعد فاتك الأخير المذكور ابن عمه، واسمه أيضاً فاتك بن محمد بن فاتك بن جياش بن نجاح، مولى مرجان، في سنة إِحدى وثلاثين وخمسمائة، واستقر فاتك بن محمد المذكور في ملك اليمن، من السنة المذكورة، حتى قتله عبيد في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وهو آخر ملوك اليمن من بني نجاح.
ثم تغلب على اليمن في سنة أربع وخمسين وخمسمائة، علي بن مهدي، على ما سنذكره إِن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة فيها كان الصلح بين مشرف الدولة وأخيه سلطان الدولة، واستقر الحال على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة وكرمان وفارس لسلطان الدولة. وفيها استوزر مشرف الدولة أبا الحسن بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه المهيار وغيره من الشعراء، وبنى مارستان بواسط، وجعل عليه وقوفاً عظيمة، وكان يسأل في الوزارة ويمتنع، فألزمه مشرف الدولة بها في هذه السنة.
وفيها توفي علي بن عيسى السكري. شاعر السنة وسمي بذلك لإكثاره من مدح الصحابة ومناقضته شعراء الشيعة، وفيها توفي عبد الله بن المعلم فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة في هذه السنة استولى علاء الدولة أبو جعفر بن كاكوية على همذان وأخذها من صاحبها سماء الدولة أبي الحسن بن شمس الدولة، من بني بويه، ولما ملك علاء الدولة همذان، سار إِلى الدينور، فملكها، ثم ملك شابور خواشت، أيضاً وقْويت هيبته وضبط المملكة. وفي هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره الرخجي، واستوزر أبا القاسم المغربي، واسمه الحسين، الذي تقدم ذكره أنه كان وزير القرواش، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، وسار إِلى مصر وولد له أبو القاسم المذكور بها، سنة سبعين وثلاثمائة ثم قتل الحاكم أباه، فهرب أبو القاسم إِلى الشام وتنقْل في الخدم.
وفي هذه السنة غزا يمين الدولة محمود بلاد الهند، وأوغل فيه وفتح وغنم وعاد سالماً. وفي هذه السنة توفي القاضي عبد الجبار وقد جاوز التسعين، وكان متكلماً معتزلياً، وله تصانيف مشهورة في علم الكلام.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة وفاة سلطان الدولة في هذه السنة، في شوال، توفي الملك سلطان الدولة، أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة، بشيراز، وعمره اثنتان وعشرون سنة وأشهر.
فاستولى أخوه قوّام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة ملك كرمان، على مملكة فارس، وكان أبو كاليجار بن سلطان الدولة بالأهواز، فسار إِلى عمه واقتتلا، فانهزم عمه أبو الفوارس، واستولى أبو كاليجار بن سلطان الدولة على شيراز وسائر مملكة أبيه بفارس، ثم أخرجه عمه أبو الفوارس عنها، ثم عاد أبو كاليجار فملكها ثانياً، وهزم عمه قوّام الدولة، وملك شيراز، واستفر في ملك أبيه.
وفيها توفي علي بن عبيد الله بن عبد الغفار السمساني اللغوي، كان فيمن يعلم اللغة، وكتب الأدب التي عليها خطه، مرغوب فيها.
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة، في هذه السنة عاد أيضاً يمين الدولة إِلى غزو بلاد الهند، وأوغل فيه، وفتح مدينة الصنم المسمى بسومنات، وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إِليه، وكان له من الوقوف ما يزيد على عشرة آلاف ضيعة، وقد اجتمع في بيت الصنم من الجواهر والذهب ما لا يحصى، فقتل يمين الدولة فيها من الهنود ما لا يحصى وغنم تلك الأموال، وأوقد على الصنم ناراً حتى قدر على كسره، من صلابة حجره، وكان طوله خمسة أذرع، منها ثلاثة بارزة، وذراعان في البناء، وأخذ بعض الصنم معه إِلى غزنة، وجعله عتبة للجامع.
وفاة مشرف الدولة وفي هذه السنة، في ربيع الأول توفي مشرف الدولة، أبو علي بن بهاء الدولة، وعمره ثلاث وعشرون سنة وأشهر، وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوماً، وكان عادلاً حسن السيرة. وفيها قتل علي بن محمد التهامي الشاعر، المشهور، صاحب المرثية المشهورة التي عملها في ولد صغير له مات، التي منها:
حكم المنية في البريةِ جاري ... ما هذه الدنيا بدار قرارِ
طُبعتْ على كَدر وأنتَ تُريدها ... صفواً من الأقذاء والأكدارِ
ومكلف الأيام ضد طباعها ... متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ
ووصل التهامي المذكور إِلى القاهرة، متخفياً، ومعه كتب من حسان بن مفرج ابن دغفل البدوي، إلى بني قرة، فعلم بأمره وحبس في خزانة البنود، ثم قتل بها محبوساً في التاريخ المذكور، والتهامي منسوب إِلى تهامة، وهي تطلق على مكة، ولذلك قيل للنبي صلى الله عليه وسلم تهامي، لأنه منها، وتطلق على البلاد التي بين الحجاز وأطراف اليمن.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة في هذه السنة تسلط الأتراك في بغداد فأكثروا مصادرات الناس، وعظم الخطب، وزاد الشر، ودخل في الطمع العامة والعيارون، وذلك بسبب موت شرف الدولة وخلو بغداد من سلطان. وفيها توفي أبو بكر عبد الله بن أحمد بن عبد الله الفقيه الشافعي، المعروف بالقفال، وعمره تسعون سنة، وله التصانيف النافعة، وكان يعمل الأقفال، ماهراً في عملها، واشتغل على كبر، وفاق أهل زمانه، يقال كان عمره لما ابتدأ بالاشتغال ثلاثين سنة، وأبو بكر القفال المذكور غير أبي بكر القفال الشاشي، المقدم ذكره في سنة خمس وستين وثلاثمائة، والقفال المذكور اسمه عبد الله، وكنيته أبو بكر، وأما القفال الشاشي المقدم الذكر، اسمه وكنيته أبو بكر.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
ملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة بغداد في هذه السنة سار جلال الدولة من البصرة إِلى بغداد، وكان قد استدعاه الجند بأمر الخليفة، لما حصل من النهب والفتن ببغداد، لخلوها من السلطان، فدخلها ثالث رمضان، وخرج الخليفة القادر لملتقاه، وحلفه واستوثق منه، واستقر جلال الدولة في ملك بغداد.
وفي هذه السنة توفي الوزير أبو القاسم الغربي الذي تقدم ذكره، وعمره ست وأربعون سنة. وفيها سقط بالعراق بَرَدٌ كبار، وزن البَرَدة، رطل ورطلان بالبغدادي، وأصغره كالبيضة. وفيها نقضت الدار التي بناها معز الدولة بن بويه ببغداد، وكان قد غرم عليها ألف ألف دينار، وبذل في حكاكة سقف منها ثمانية آلاف دينار.
وفي هذه السنة أعني سنة ثماني عشرة وأربعمائة، توفي الأستاذ أبو إسحاق إِبراهيم بن محمد بن إِبراهيم بن مروان الاسفرائيني، ويلقب ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، أخذ عنه الكلام عامة شيوخ نيسابور، وأقر أهل خراسان له بالعلم، وله التصانيف الجليلة في الأصول والرد. على الملحدين، وهو أحد من بلغ حد الاجتهاد من العلماء، لتبحره في العلوم، واختلف إِلى مجلسه أبو القاسم القشيري، وأكثر الحافظ أبو بكر البهيقي الرواية عنه.
وفيها توفي أبو القاسم بن طباطبا الشريف، وله شعر جيد، واسمه أحمد بن محمد بن إِسماعيل بن إِبراهيم طباطبا بن إِسماعيل بن إِبراهيم بن الحسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، نقيب الطالبيين بمصر، وكان من أكابر رؤسائها، وطباطبا لقب جده، لقّب بذلك لأنه كان يلثغ، فيجعل القاف طاء، طلب يوماً قماشه، فقال غلامه: أجيب دراعة، فقال: لا، طباطبا يريد قباقيا فبقي عليه لقباً، ومن شعره:
كأن نجوم الليل سارتْ نهارها ... فوافت عشاء وهي أنضاء أسفارِ
وقد خيمتْ كي تستريح ركابها ... فلا فلكُ جارٍ ولا كوكب ساري
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة في هذه السنة، في ذي القعدة توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة، صاحب كرمان، فسار ابن أخيه أبو كاليجار ابن سلطان الدولة، صاحب فارس، إِلى كرمان، واستولى عليها بغير حرب.
ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة في هذه السنة استولى يمين الدولة محمود بن سبكتكين على الري وقبض على مجد الدولة بن فخر الدولة علي بن ركن الدولة حسن بن بويه، صاحب الري، وكان سبب ذلك أن مجد الدولة اشتغل عن تدبير المملكة، بمعاشرة النساء ومطالعة الكتب، فشغبت عليه جنده، فبعث يشكو جنده إِلى يمين الدولة محمود، وعلم محمود بعجزه، فبعث إِليه عسكراً قبضوا على مجد الدولة، واستولى على الري. وفي هذه السنة كان قتل صالح بن مرداس أمير بني كلاب، صاحب حلب على ما سبق ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة وفي هذه السنة توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير بن زيار، وملك بعده ابنه أنوشروان بن منوجهر.
ثم دخلت سنة إِحدى وعشرين وأربعمائة.
؟؟وفاة السلطان محمود
وفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي محمود بن سبكتكين، ومولده في عاشورا سنة ستين وثلاثمائة، وكان مرضه إِسهالاً وسوء مزاج، وبقي كذلك نحو سنتين، وكان قوي النفس، فلم يضع جنبه في مرضه، بل كان يستند إِلى مخدته حتى مات، كذلك وأوصى بالملك لابنه محمد بن محمود، وكان أصغر من مسعود، فقعد محمد في الملك، وكان أخوه مسعود بأصفهان، فسار نحو أخيه محمد، فاتفق أكابر العسكر وقضوا على محمد، وحضر مسعود فتسلم المملكة، واستقر فيها وأطلق أخاه محمداً، وأحسن إِليه. ثم قبض مسعود على القواد الذين قبضوا أخاه محمداً، وسعوا لمسعود في المملكة. وهذا عاقبة غدرهم.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكراً، فاستولى على التيز ومكران.
ملك الروم مدينة الرها وكانت الرها لعطير، من بني نمير، فاستولى أبو نصر بن مروان صاحب ديار بكر على حران، وجهز من قتل عطيراً صاحب الرها، فأرسل صالح بن مرداس يشفع إلى أبي نصر بن مروان في أن يرد الرها إِلى ابن عطير ابن والي شيل، بينهما نصفين فقبل شفاعته وسلمها إِليهما في سنة ست عشرة وأربعمائة، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة، فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم، وباعه حصته من الرها، بعشرين ألف دينار وعدة قرى، وحضر الروم وتسلموا برج ابن عطير، فهرب أصحاب ابن شبل، واستولى الروم على البلد، وقتلوا المسلمين وخربوا المساجد.
وفاة القادر باللّه
خلافة القائم بأمر اللّه
وهو سادس عشرينهمفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي القادر بالله أبو العباس أحمد بن الأمير إِسحاق بن المقتدر، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إِحدى وأربعون سنة وشهر، ولما مات القادر بالله، جلس في الخلافة ابنه القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بن القادر، وكان أبوه قد عهد إِليه وبايع له بالخلافة، فجددت البيعة وأرسل القائم أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار، فأخذ البيعة عليه للقائم، وخطب له في بلاده.
ملك الروم قلعة فامية في هذه السنة، سارت الروم ومعهم حسان بن مفرج الطائي، وهو مسلم، وكان قد هرب إليهم حين انهزم على الأدرن من عسكر الظاهر العلوي، فسار مع الروم إلى الشام، وعلى رأس حسان المذكور علم فيه صليب، ووصلوا إلى فامية، فكبسوها وغنموا ما فيها، وملكوا قلعتها، وأسروا وسبوا.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة: فيها شغبت الجند ببغداد على جلال الدولة، ونهبوا داره وأخرجوه من بغداد، وكتبوا إلى الملك أبي كاليجار يستدعونه إلى بغداد، فتأخر، وكان قد خرج جلال الدولة إلى عكبرا، ثم وقع الاتفاق وعاد جلال الدولة إلى بغداد. وفي هذه السنة توفي قدر خان يوسف بن بغراخان هروبن بن سليمان، وصح بلاد التيرة من الكفر، وكان قد ملك بلاد ما وراء النهر في سنة تسع وأربعمائة، ولما مات قدر خان ملك بعده ابنه عمر بن قدر خان.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة. فيها قبض مسعود بن محمود على شهر يوش صاحب ساوه، وقم، وتلك النواحي، وكان قد كثر أفاه على حجاج خراسان، وغيرهم، فأرسل مسعود عسكراً إليه فقبضوا عليه، وأمر به فصلب على سور ساوة.
وفيها توفي أحمد بن الحسين الميمندي وزير السلطان محمود، وأبيه مسعود، أقول: ينبغي تحقيق ذلك. فإنه ورد أن محموداً قتل وزيره المذعور، فيتأمل ذلك. وفيها توفي القاضي ابن السماك، وعمره خمس وتسعون سنة.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين أربعمائة فيها فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستي وما جاورها من بلاد الهند، وكانت حصينة، وقصدها أبوه مراراً فلم يقدر على فتحها، فطم مسعود خندقها بالشجر والقصب السكر، وفتحها الله عليه، فقتل أهلها وسبى ذراريهم. وفيها توفي بدران بن المقلد صاحب نصيبين، فقصد ولده قريش، عمه قرواشاً فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، واستقر قريش بها.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة فيها انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد، وعظم أمر العيارين وصاروا يأخذون أموال الناس ليلا ونهاراً، ولا مانع لهم، والسلطان جلال الدولة عاجز عنهم لعدم امتثال أمره، والخليفة أعجز منه، وانتشرت العرب في البلاد، فنهبوا النواحي وقطعوا الطريق.
وفيها وصلت الروم إلى ولاية حلب، فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح ابن مرداس، وتصاففوا واقتتلوا، فانهزمت الروم، وتبعهم إلى إعزاز، وغنم منهم وقتل.
وفيها قصدت خفاجة الكوفة فنهبوها. وفيها توفي أحمد بن كليب الشاعر، وكان يهوى أسلم بن أحمد بن سعيد، فمات كمداً في هواه، فمن قوله فيه:
وأسلمني في هوا ... ه أسلم هذا الرشا
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى
ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
وفاة الظاهر صاحب مصر في هذه السنة منتصف شعبان، توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن، علي ابن الحاكم أبي علي منصور العلوي بمصر، وعمره ثلاث وثلاثون سنة، وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وأياماً، وكان له مصر والشام، والخطبة بإفريقية. وكان جميل السيرة، منصفاً للرعية، ولما مات ولى بعده ابنه أبو تميم معد، ولقب بالمستنصر بالله، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، وهذا المستنصر هو الذي خطب له ببغداد، على ما سنذكره في سنة خمسين وأربعمائة إن شاء الله تعالى، وهو الذي وصل إليه الحسن بن الصباح الإسماعيلي، وخاطبه في إقامة دعوته بخراسان وبلاد العجم، وقال له: إن فقدت فمن الإمام بعدك؟ فقال المستنصر: ابني نزار.
فتح السويداء كان الروم قد أحدثوا عمارتها، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها، فسار إليها ابن وثاب وابن عطية مع عسكر كثيف من عند نصر الدولة بن مروان وفتحوا السويداء عنوة.
مقتل يحيى الإدريسي
وسياق أخبار من ملك بعده من أهل بيته إلى آخرهم.في هذه السنة، أعني سنة سبع وعشرين وأربعمائة، قتل يحيى بن علي بن حمود، حسبما تقدم في سنة سبع وأربعمائة، ولما قتل يحيى، تولى بعده أخوه إدريس بن علي بن حمود، وتلقب بالمتأيد، واستقر بمالقة حتى توفي في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ثم ملك بعده أخوه القاسم بن محمد ابن عم إدريس المذكور، وبقي القاسم مدة، ثم ترك الملك وتزهد، فملك بعده الحسن بن يحيى ابن علي بن حمود، وتلقب الحسن المذكور بالمستنصر، وبقي في الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، ثم ملك بعد الحسن المذكور أخوه إدريس بن يحيى، وتلقب بالعالي، وكان العالي المذكور، فاسد التدبير، وكان يدخل الأراذل على حريمه، ولا يخببهن منهم، وسلك نحو ذلك من السلوك، فخلعه الناس وبايعوا ابن عمه محمد بن إدريس بن علي بن حمود، فاستقر محمد المذكور في الملك، وتلقب بالمهدي، وأسمك ابن عمه العالي وسجنه، وبقي محمد المهدي المذكور حتى توفي في سنة خمس وأربعين وأربعمائة. وكان المهدي المذكور آخر من ملك منهم تلك البلاد، وانقرضت دولتهم في السنة المذكورة، أعني سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وقيل بل إن العامة أخرجوا العالي بعد موت محمد المهدي وملكوه، فلما مات انقرضت دولتهم، وفي أيام خلافة المهدي محمد بن إدريس المذكور، قام من بني عمه شخص اسمه محمد بن القاسم بن حمود، بالجزيرة الخضراء، وتلقب محمد بن القاسم المذكور بالمهدي أيضاً، واجتمعت عليه البرابر، ثم افترقوا عنه فمات بعد أيام يسيره، وقيل مات غماً، ولما مات محمد بن القاسم المذكور بن حمود، وهو آخر من ملك منهم الجزيرة الخضراء، انقرضت ملوكهم. وفي هذه السنة أعني سنة سبع وعشرين وأربعمائة، توفي رافع بن الحسين بن معن، وكان حازماً شجاعاً، وكانت يده مقطوعة، قطعت غلطاً في عربدة على الشرب، وله شعر حسن، فمنه:
لها ريقة أستغفر الله إنها ... ألذ وأشهى في النفوس من الخمر
وصارم طرف لا يزايل جفنه ... ولم أر سيفاً قط في جفنه يفري
فقلت لها والعين تحدج بالضحى ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
أليس من الخسران أن لياليا ... تمر بلا وصل وتحسب من عمري
وفيها وقيل في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة، توفي أبو إسحاق الشيخ أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ويقال الثعالبي، وكان أوحد زمانه في علم التفسير، وله كتاب العرائس في قصص الأنبياء عليهم السلام، وله غير ذلك، وروى عن جماعة، وهو صحيح النقل.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. فيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم، صاحب عمان، وقام ابنه مقامه. وفيها توفي مهيار الشاعر وكان مجوسياً، فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وصحب الشريف الرضي، فقال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية، فقال: كيف. قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شعرك، فمن شعره من جملة قصيدة يذم فيها العرب، قبل النبي صلى الله عليه وسلم قوله:
ما برحت مظلمة دنياكم ... حتى أضاء كوكب في هاشم
نبلتم به وكنتم قبله ... سراً يموت في ضلوع كاتم
ثم قضى مسلماً من ريبه ... فلم يكن من غدركم بسالم
نقضتم عهوده في أهله ... وجزتم عن سنن المراسم
وقد شهدتم مقتل ابن عمه ... خير مصل بعده وصائم
وما استحل باغياً إمامكم ... يزيد بألطف من ابن فاطم
وها إلى اليوم الظباء خاضبة ... من دمهم مناسر القشاعم
وأشعار مهيار المذكور مشهورة. وفيها توفي أبو الحسين أحمد بن محمد ابن أحمد القدوري الحنفي، ولد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة بالعراق، وارتفع جاهه، وصنف كتابه المسمى بالقدوري المشهور، ونسبته إلى القدور جمع قدر، قال القاضي شمس الدين ابن خلكان: ولا أعلم وجه نسبته إليها. وفيها توفي الشيخ الرئيس أبو علي الحسن بن عبد الله بن سينا البخاري، وكان والده من أهل بلخ، وانتقل منها إلى بخارى في أيام الأمير نوح ابن منصور الساماني، ثم تزوج امرأة بقرية أفشنة، وقطن بها، وولد له الشيخ الرئيس وأخوه بهاء، وختم الرئيس القرآن وهو ابن عشر سنين، وقرأ الحكمة على أبي عبد الله الناتلي، وحل إقليدس والمجسطي، واشتغل في الطب، وأتقن ذلك كله، وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان ببخارى ثم انتقل منها إلى كركنج، وهي بالعربي الجرجانية، ثم انتقل إلى أماكن شتى حتى أتى إلى جورجان، فاتصل به أبو عبد الله الجورجاني، أكبر أصحاب الشيخ الرئيس المذكور، ثم انتقل إلى الري واتصل بخدمة مجد الدولة ابن فخر الدولة أبي الحسن علي بن ركن الدولة حسن بن بويه، ثم خدم شمس المعالي قابوس بن وشمكير، ثم فارقه وقصد علاء الدولة بن كاكويه بأصفهان وخدمه، وتقدم عنده، ثم إن الرئيس المذكور مرض بالصرع والقولنج، وترك الحمية ومضى إلى همذان وهو مريض، ومات بهمذان في هذه السنة، وكان عمره ثمانياً وخمسين سنة، ومصنفاته وفضائله مشهورة، وقد كفر الغزالي ابن سينا المذكور، وصرح الغزالي بذلك في كتابه الموسوم بالمنقذ من الضلال، وكذلك كفر أبا نصر الفارابي، ومن الناس من يرى رجوع ابن سينا إلى الشرائع واعتقادها، وحكى الرئيس أبو علي المذكور، في المقالة الأولى من الفن الخامس، من طبيعيات الشفاء قال: وقد صح عندي بالتواتر ما كان ببلاد جورجان في زماننا من أمر حديد، لعله يزن مائة وخمسين منا نزل من الهواء فنشب في الأرض. ثم نبا نبوة الكرة التي يرمى بها الحائط، ثم عاد فنشب في الأرض، وسمع الناس لذلك صوتاً عظيماً هائلاً، فلما تفقدوا أمره ظفروا به وحملوه إلي وإلى جورجان، ثم كاتبه سلطان خراسان محمود ابن سبكتكين، يرسم بإنفاذه أو إنفاذ قطعة منه، فتعذر نقله لثقله، فحاولوا كسر قطعة منه، فما كانت الآلات تعمل فيه إلا بجهد، وكانت كل آلة تعمل فيه تنكسر، لكنهم فصلوا منه آخر الأمر شيئا، فأنفذوه إليه، ورام أن يطبع منه سيفاً فتعذر عليه، وحكى أن جملة ذاك الجوهر، كان ملتئماً من أجزاء جاورشية صغار، مستديرة، التصق بعضها ببعض، قال: وهذا الفقيه عبد الواحد الجورجاني صاحبي شاهد ذلك كله. ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة. فيها قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب، في قتاله لعسكر مصر، الذين كان مقدمهم الدزيري على ما قدمنا ذكره، في سنة اثنتين وأربعمائة وفيها هادن المستنصر بالله العلوي ملك الروم، على أن يطلق خمسة آلاف أسير، ليمكن من عمارة قمامة التي كان قد خربها الحاكم في أيام خلافته، فأطلق الأسرى وأرسل من عمر قمامة، وأخرج ملك الروم عليها أموالاً عظيمة جليلة. وفيها توفي أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي النيسابوري، صاحب التواليف المشهورة، وكان إمام وقته، ومن جملة تواليفه المشهورة: يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وكان مولده سنة خمسين وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة فيها توفي أبو علي الحسين الرخجي، وزير ملوك بني بويه، ثم ترك الوزارة، وكان في عطلته يتقدم على الوزراء. وفيها توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة. وفيها توفي أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصفهاني الحافظ، والفضل بن منصور بن الطريف الفارقي، الأمير الشاعر، وله ديوان حسن. ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. فيها ملك الملك أبو كاليجار البصرة.
أخبار عمان
لما توفي أبو القاسم بن مكرم صاحب عمان، ولي بعده ابنه أبو الجيش، وقد صاحب جيش أبيه علي بن هطال، وكان أبو الجيش يحترم ابن هطال، ويقوم له إذا حضر، وكان لأبي الجيش أخ يقال له المهذب، ينكر على أخيه أبي ابن الجيش قيامه لابن هطال، وإكرامه، فعمل ابن هطال دعوة للمهذب، فلما عمل السكر في المهذب، حدثه ابن هطال وقال له: إن قمت معك وملكتك وأخرجت أخاك أبا الجيش، ما تعطيني؟ فبذل المهذب له الإقطاعات الجليلة، والمبالغة في الإكرام، فطلب ابن هطال خطه بذلك، فكتبه المهذب، وأصبح ابن هطال، فاجتمع بأبي الجيش وعرفه أن أخاه المهذب يسعى في أخذ الملك منه، وقال: قد رغبني وكتب خطه لي، وأخرج الخط، فأمر أبو الجيش بالقبض على أخيه المهذب، ثم قتله، وبعد ذلك بقليل مات أبو الجيش وله أخ صغير يقال له أبو محمد، فطلبه ابن هطال من أمه ليجعله في الملك، فلم تسلمه إليه. وقالت: ولدي غير ما يصلح، أفتصل أنت بالملك، فاستولى ابن هطال على عمان، وأساء السيرة، وبلغ ذلك الملك أبا كاليجار، فأعظمه وأرسل جيشاً إلى عمان، وخرجت الناس عن طاعة علي بن هطال، فقتله خادم له وفراش واستفر الأمر لأبي محمد بن أبي القاسم بن مكرم في هذه السنة.
وفي هذه السنة توفي شبيب بن وثاب النميري صاحب الرقة، وسروج، وحران، وفيها توفي أبو نصر موسكان، كاتب إنشاء مسعود، وولده محمود بن سبكتكين، وكان من الكتاب المفلقين ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة ابتداء الدولة السلجوقية وسياقة أخبارهم متتابعة في هذه السنة توطد ملك طغريل بك وأخيه داود ابني ميكائيل بن سلجوق ابن دقاق، وكان جدهم دقاق رجلاً شهماً من مقدمي الأتراك، وولد له سلجوق، فانتشأ وظهرت عليه إمارات النجابة، فقدمه يبغو ملك الترك إذ ذاك، وقوى أمره وصار له جماعة كثيرة، فتغير يبغو عليه، فخاف سلجوق منه فسار بجماعته وبكل من يطيعه من دار الكفر إلى دار الإسلام، وذلك لما قدره الله تعالى من سعادته وسعادة ولده، وأقام بنواحي جند، وهي بليدة وراء بخارى - بجيم مفتوحة ونون ساكنة ودال مهملة - وصار يغزو الترك الكفار، وكان لسلجوق من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى. وتوفي سلجوق بجند وعمره مائة وسبع سنين، وبقي أولاده على ما كان عليه أبوهم من غزو كفار الترك، فقتل ميكائيل في الغزاة شهيداً، وخلف من الأولاد يبغو، وطغريل بك، وجغروبك داود، ثم ارتحلوا ونزلوا على فرسخين من بخارى، فأساء أمير بخارى جوارهم، فالتجأوا إلى بغراخان ملك تركستان، واستقر الأمر بين طغريل بك وأخيه داود أن لا يجتمعا عند بغراخان، بل إذا حضر أحدهما أقام الآخر في البيوت، خوفاً من الغدر بهما، واجتهد بغراخان على اجتماعهما عنده فلم يفعلا، فقبض على طغريل بك، وأرسل عسكراً إلى أخيه داود، فاقتتلوا فانهزم عسكر بغراخان، وكثر القتل فيهم، وقصد داود موضع أخيه طغريل بك وخلصه من الأسر، ثم عادا إلى جند وأقاما بها حتى انقرضت الدولة السامانية، وملك أيلك خان بخارا، فعظم عنده محل أرسلان بن سلجوق، ثم سار أيلك خان عنها وبقي ببخارى علي تكين، ومعه أرسلان بن سلجوق، حتى عبر محمود بن سبكتكين نهر جيحون
وقصد بخارى، فهرب علي تكين من بخارى، وأما أرسلان وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل، واجتمعوا عن السلطان محمود، فكاتب السلطان محمود أرسلان واستماله ورغبه، فقدم أرسلان بن سلجوق عليه فقبضه السلطان محمود في الحال، وكب خركاواته، وأشار أرسلان الجاذب على محمود أن يغرق السلجوقية، جماعة أرسلان المذكور في نهر جيحون، فأبى، فأشار بقطع إبهاماتهم بحيث لا يقدرون على رمي النشاب، فلم يقبل محمود ذلك، وأمر بهم فعبرا نهر جيحون وفرقهم في نواحي خراسان إلى أصفهان، ووضع عليهم الخراج، فجارت العمال عليهم، وامتدت الأيدي إلى أموالهم، وأولادهم، فانفصل منهم جماعة عن خراسان إلى أصفهان: وجرى بينهم وبين علاء الدولة بن كاكويه حرب، ثم ساروا إلى أذربيجان، وهؤلاء: كانوا جماعة أرسلان بن سلجوق، وبقي اسمهم هناك الترك العرية، وبذلك سمى كل جماعتهم، وسار طغريل بك وأخواه داود ويبغو من خراسان إلى بخارى، فسار علي تكين بعسكره وأوقع بهم، وقتل عدة كثيرة من جمائعهم فألجأتهم الضرورة إلى العود إلى خراسان، فعبرا نهر جيحون، وخيموا بظاهر خوارزم، سنة ست وعشرين وأربعمائة، واتفقوا مع خوارزمشاه هرون بن الطيطاش وعاهدهم ثم غدر بهم خوارزمشاه وكبسهم، فأكثر خوارزم إلى جهة مرو، فأرسل إليهم مسعود أب السلطان محمود جيشاً فهزمهم، وجرى بين عسكر مسعود منازعة على الغنيمة، وأدت إلى قتال بينهم، وأشار داود بالعود إلى جهة العسكر، فعادوا فوجدوا الاختلاف والقتال بينهم، فأوقع السلجوقية بعسكر مسعود وهزموهم، وأكثروا القتل فبهم واستردوا ما كان أخذوه منهم، وتمكنت هيبتهم من قلوب عسكر مسعود، فكاتبهم السلطان مسعود واستمالهم، فأرسلوا إليه يظهرون الطاعة ويسألونه أن يطلق عمه أرسلان بن سلجوق، الذي قبضه السلطان محمود، فأحضر مسعود أرسلان المذكور إلى عنده ببلخ، فطلبهم ليحضروا فامتنعوا، فأعاده إلى محبسه، وعادت الحرب بينهم، وهزموا عسكر مسعود مرة بعد أخرى، وقوى أمرهم واستولوا على غالب خراسان، وفرقوا النواب في النواحي، وخطب لطغريل بك في نيسابور، وسار داود إلى هراة، وهرب عساكر مسعود وتقدموا من خراسان إلى غزنة، وأعلموا مسعود بتفاقم الحال، فسار مسعود بجميع عساكره وقيوله من غزنة اليهم إلى خراسان، وبقي كل ماتبع السلجوقية إلى مكان، ساروا عنه إلى غيره، وطال البيكار على عسكر مسعود، وقلت الأقوات عليهم، وآخر ذلك أن السلجوقية ساروا إلى البرية، فتبعهم مسعود بتلك العساكر العظيمة مرحلتين، فضجرت العساكر من طول البيكار، وكان لعسكر خراسان إذ ذاك ثلاث سنين في البيكار، ونزل العسكر بمنزلة قليلة المياه، وكان الزمان حاراً، فجرى بينهم الفتن بسبب الماء، ومشى بعض العسكر إلى بعض في التخلي عن مسعود، ووقع بينهم الخلاف، فعادت السلجوقية عليهم فانهزمت عساكر مسعود أقبح هزيمة، وثبت السلطان مسعود في جمع قليل، ثم ولى منهزماً، وغنم السلجوقية منهم ما لا يدخل تحت الإحصاء، وقسم داود ذلك على أصحابه وآثرهم على نفسه، وعاد السلجوقية إلى خراسان، فاستولوا عليها، وثبتت قدمهم بخراسان وخطب لهم على منابرها، وذلك في أواخر سنة إحدى وثلاثين وأبعمائة، وسنذكر باقي أخبارهم إن شاء الله تعالى.
قبض مسعود وقتله
ولما انهزم عسكر مسعود من السلجوقية على ما ذكرنا، وهرب مسعود وعسكره عن خراسان إلى غزنة، فوصل إليها في شوال سنة إحدى وثلاثين و أربعمائة وقبض على مقدم عسكره شباوشي وعلى عدة من الأمراء، وسير ولده مودود إلى بلخ ليرد عنها داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان مسير مودرد إلى بلخ في هذه السنة، أعني سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وسار مسعود إلى بلاد الهند ليشتي بها على عادة والده، وعبر سيحون فنهب أنوشتكين أحد قواد عسكره بعض الخزاين، واجتمع إليه جمع، وألزم محمداً أخا مسعود بالقيام بالأمر، فقام على كره، وبقي مسمعود في جماعة من العسكر، والتقى الفريقان في منتصف ربيع الآخر من سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، واقتتلوا أشد قتال فانهزم مسعود وجماعته، وتحصن مسعود في رباط، فحصروه، فخرج إليهم فأرسله أخوه محمد إلى قلعة كيدي، وحمل مع مسعود أهله وأولاده وأمر بإكرامه وصيانته، ولما استقر محمد بن محمود في إشبكتكين في الملك فوض مر دولته إلى ولده أحمد، وكان فيه خبط وهوج، فقتل عمه مسعود بن محمود في قلعة كيدي بغير علم أبيه، ولما علم أبوه محمد بذلك شق عليه وساء ذلك، وكان السلطان مسعود كثير الصدقة، تصدق مرة في رمضان بألف ألف درهم، وكان كثير الإحسان إلى العلماء، فقصدوه وصنفوا له التصانيف الكثيرة، وكان يكتب خطاً حسناً، وكان ملكه عظيماً فسيحاً، ملك أصفهان والري وطبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الران وكرمان وسجستان .والسند والرخج وغزنة وبلاد الغور. وأطاعه أهل البر والبحر.
ملك مودود بن مسعود وقتله عمه محمداً لما قتل مسعود، كان ابنه مودود بن مسعود بخراسان في حرب السلجوقية، فلما بلغه خبر قتل أبيه مسعود، عاد مجداً بعساكره إلى خزنة، ووقع القتال بينه وبين عمه محمد، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه مودود وعلى ولده أحمد، وعلى أنوشتكين الذي نهب الخزائن، و أقام محمد المذكور، وكان أنوشتكين خصياً وأصله من بلخ، فقتلهم وقتل جميع أولاد عمه محمد، خلا عبد الرحيم، وكذلك قتل كل من دخل في القبض على والده مسعود، ودخل مودود إلى غزنة في ثالث عشرين شعبان من هذه السنة، واستقر الأمر لمودود بغزنة، وسلك حسن السيرة، وثبتت قدمه في الملك، وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة له.
وفي هذه السنة توفي المظفر محمد بن الحسن بن أحمد المروزي بشهر زور.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة فيها في المحرم توفي علاء الدولة أبو جعفر بن شهريار، المعروف بابن كاكويه، وكان شجاعاً ذا رأي، وقام بأصفهان بعده ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز، وهو أكبر أولاده، سار ولده كرشاسف بن علاء الدولة إلى همذان، فأقام بها و أخذها لنفسه.
وفي هذه السنة ملك السلطان طغريل بك جرجان وطبرستان.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة أمر المستنصر العلوي أهل دمشق بالخروج عن طاعة الدزبري، فخرجوا عليه وسار الدزبري إلى حماة، فعصي عليه أهلها، فكاتب مقلد بن منقذ الكفرطابي، فحضر إليه في نحو ألفي رجل من كفر طاب، واحتمى به وسار عن حماة إلى حلب فدخلها وأقام بها مدة، وتوفي الدزبري في منتصف جمادى الآخرة من هذه السنة، وقد تقدم ذكر وفاته في سنة اثنتين وأربعمائة، وكان الدزبري يلقب بأمير الجيوش، واسمه أنوشتكين. والد زبري - بكسر الدال المهملة والباء الموحدة وبينهما زاء منقوطة ساكنة وفي الاخر راء مهملة - هذه السنة إلى دزبر بن رويتم الديلمي، ولما مات الدزبري في هذه السنة فسد أمر الشام وزال النظام وطمعت العرب، وخرجوا في نواحي الشام، فخرج صاحب الرحبة أبو علوان ثمال، ولقبه معز الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي وسار إلى حلب وملكها، وعاد حسان بن مفرج الطائي فاستولى على فلسطين، وقد تقدم ذكر مسيره إلى قسطنطينية وعوده في سنة اثنتبن وعشرين وأربعمائة.
وفيها سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكراً إلى عمان، فملكوا أصحاب مدينة عمان. وفيها توفي أبو منصور بهرام الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار، ومولده سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان حسن السيرة، وبنى دار الكتب بفيروز آباد، وجعل فيها سبعة آلاف مجلد.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فيها ملك السلطان طغريل بك خوارزم، وكانت خوارزم من جملة مملكة محمود بن سبكتكين، ثم صارت مسعود ابنه ونائبه فيها الطيطاش حاجب أبيه محمود، ومات الطيطاش فولاها مسعود ابنه هارون بن الطيطاش، ولقبه خوارزمشاه، ثم قتل هرون، قتله جماعة من غلمانه عند خروجه إلى الصيد، فاستولى على البلد رجل يقال له عبد الجبار، ثم وثب غلمان هارون على عبد الجبار فقتلوه، وولوا البلد إسماعيل بن الطيطاش أخا هارون، فسار شاه ملك بن علي، وكان ملك بعض أطراف تلك البلاد فاستولى على خوارزم، وهزم إسماعيل عنها، ثم سار طغريل بك إلى خوارزم فاستولى عليها، وانهزم شاه ملك عنها، واستقرت في ملك طغريل بك في هذه السنة، ثم سار طغريل بك ستولى على الجبل في هذه السنة أيضاً.
الوحشة بين القائم وجلال الدولة في هذه السنة لما افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد، أخذها جلال الدولة، وكانت العادة أن تحمل إلى الخلفاء، لا يعارضهم فيها الملوك، فأرسل القائم إلى جلال الدولة في ذلك مع أبي الحسن الماوردي، فلم يلتفت جلال الدولة إليه، فعزم القائم على مفارقة بغداد، فلم يتم له ذلك.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة في رجب، خرج بمصر رجل اسمه سكين، وكان يشبه الحاكم خليفة مصر، فادعى أنه الحاكم، واتبعه جماعة يعتقدون رجعة الحاكم، وقصدوا دار الخليفة وقت الخلوة وقالوا: هذا الحاكم، فارتاع من كان بالباب في ذلك الوقت، ثم ارتابوا به فقبضوا على سكين، وصلب مع أصحابه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
وفاة جلال الدولة وفي هذه السنة في شعبان توفي جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه ببغداد، وكان مرضه ورماً في كبده، وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهراً، ولما مات جلال الدولة كان ابنه الملك العزيز أبو بكر منصور بواسط، فكاتبه الجند فيما يحمله إليهم، فلم ينتظم له أمر، فسار يطلب النجدة، وقصد الملوك مثل قرواش وأبي الشوك، فلم ينجده أحد، فقصد نصر الدولة بن مرران وتوفي عنده بميا فارقين، سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، فلما لم ينتظم لابن جلال الدولة أمر، كاتب الملك أبو كاليجار عسكر بغداد، فاستقر الأمر لأبي كاليجار ابن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدرلة ابن ركن الدولة ابن بويه، وخطبوا له ببغداد في صفر سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
غير ذلك من الحوادث في هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين وأربعمائة فتح عسكر مودود بن مسعود بن محمود عدة حصون، من بلاد الهند، وفيها أسلم من الترك خمسة آلاف خركاة، وتفرقوا في بلاد الإسلام، ولم يتأخر عن الإسلام سوى الخطا والتتر وهم بنواحي الصين. وفي هذه السنة ترك شرف الدولة ملك الترك لنفسه بلاد بلاساغون، وكاشغر، وأعطى أخاه أرسلان تكين كثيراً من بلاد الترك، وأعطي أخاه بغراخان أطرار وأسبيجاب، وأعطى عمه طغان فرغانة بأسرها، وأعطى علي تكين بخارى وسمر قند، وغيرهما، وقنع شرف الدولة المذكور من أهله المذكورين بالطاعة له.
وفي هذه السنة قطع المعز بن باديس بإفريقية خطبة العلويين خلفاء مصر، وخطب للقائم العباسي خليفة بغداد، ووصلت إليه من القائم الخلع والأعلام على طريق القسطنطينية في البحر.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيها خطب للملك أبي كاليجار في صفر ببغداد، وخطب له أيضاً أبو الشوك ببلاده، ودبيس بن مرثد ببلاده، ونصر الدولة بن مروان بديار بكر، وسار الملك أبو كاليجار إلى بغداد ودخلها في رمضان من هذه السنة، وزينت بغداد لقدومه.
وفيها أمر الملك أبو كاليجار ببناء سور مدينة شيراز، فبني وأحكم بناؤه، ودوره اثنا عشر ألف ذراع، في ارتفاع ثمانية أذرع، وله أحد عشر باباً، وفرغ منه في سنة أربعين وأربعمائة.
وفيها توفي الشريف المرتضي أبو القاسم أخو الشريف الرضي، ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة وولي نقابة العلويين بعده عدنان ابن أخيه الرضي.
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين الصيمري شيخ أصحاب أبي حنيفة، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة. وفيها توفي أبو الحسين محمد ابن علي البصري المعتزلي صاحب التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة. فيها أرسل السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بن ميكائيل، فاستولى على همذان وأخذها من كرشاسف بن علاء الدولة ابن كاكويه، واستولى على الدينور وأخذها من أبي الشوك، ثم استولى على الصيمرة.
وفي هذه السنة توفي أبو الشوك، واسمه فارس بن محمد بن عنان، بقلعة السيروان، ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي، وصاروا مع مهلهل بن محمد أخي أبي الشوك. وفيها قتل عيسى بن موسى الهمذاني صاحب أربل، قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى، فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار، وعاد قرواش إلى الموصل.
وفيها وقع الوباء في الخيل وعم البلاد. وفيها توفي أحمد بن يوسف المنازي وزر لأبي نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر، وترسل إلى القسطنطينية، وكان من أعيان الفضلاء والشعراء، وجمع المنازي المذكور، كتباً كثيرة وأوقفها على جامع ميافارقين وجامع آمد، وهي إلى قريب كانت موجودة بخزائن الجامعين، وكان قد اجتاز في بعض أسفاره بوادي بزاعا، فأعجبه حسنه فقال فيه:
وقانا لفحة الرمضاء واد ... وقاه مضاعف النبت العميم
نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم
تروع حصاه حالية العذارى ... فيلمس جانب العقد النظيم
والمنازي منسوب إلى مناز جهر، مدينة عند خرتبرت، وهي غير مناز كرد التي من عمال خلاط.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة فيها ملك مهلهل بن محمد عنان أخو أبي الشوك قرميسين والدينور بعد ما كان قد استولى عليهما أخو طغرلبك على ما تقدم ذكره. وفي هذه السنة توفي عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين، وكان الجويني إماماً في الشافعية، تفقه على أبي الطيب سهل بن محمد الصعلوكي، وهو صاحب وجه في المذهب، وكان عالماً أيضاً بالأدب وغيره من العلوم، وهو من بني ستبس، بطن من طي.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة في هذه السنة استولى عسكر الملك أبي كاليجار على البطيحة، وأخذوها من صاحبها أبي نصر بن الهيثم، وهرب ابن الهيثم إلى زبرب. وفيها كان بالعراق غلاء عظيم، حتى أكل الناس الميتة، وببغداد حتى خلت الأسواق. وفيها توفي عبد الواحد بن محمد المعروف بالمطرز الشاعر، وأبو الخطاب الشبلي الشاعر. وفيها مات بغراخان محمد بن قدرخان يوسف، وقبض على أخيه عمر بن قدرخان يوسف، وماتا جميعاً مسمومين في هذه السنة، وكان قد ملك عمر المذكور في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة حسبما تقدم، فسار شمس الملك طفقاج خان أبو إسحاق إبراهيم بن نصر أيلك خان من سمرقند، وملك بلادهما. وتوفي طفقاج سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة.
موت أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيم في هذه السنة توفي الملك أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة ابن بهاء الدولة ابن عضد الدولة ابن ركن الدولة ابن بويه، في رابع جمادى الأولى بمدينة جناب من كرمان، وكان قد سار إلى بلاد كرمان، لخروج عامله بهرام الديلمي عن طاعته، ومرض من قصر مجاشع، وتم سايراً، وقويت به الحمى وضعف عن الركوب، فركب في محفة، فتوفي في جناب، وكان عمره أربعين سنة وشهوراً، وكان ملكه العراق أربع سنين وشهرين، ولما توفي نهبت الأتراك الخزائن والسلاح والدواب من العسكر. وكان معه ولده أبو منصور فلاستون بن أبي كاليجار فعاد إلى شيراز وملكها. ولما وصل خبر وفاة أبي كاليجار إلى بغداد وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خسره فيروز بن أبي كاليجار، جمع الجند واستحلفهم واستولى على بغداد، ثم أرسل الملك الرحيم عسكراً إلى شيراز، فقبضوا على أخيه أبي منصور فلا ستون، وعلى والدته في شوال هذه السنة، وخطب للملك الرحيم بشيراز، ثم سار الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان، فلقيه من بها من الجند وأطاعوه، ومن جملتهم كرشاسف بن علاء الدولة صاحب همذان، فإنه كان قد قدم إلى الملك أبي كاليجار لما أخذ منه إبراهيم ينال أخو طغريل بك همذان.
غير ذلك من الحوادث
في هذه السنة توفي محمد بن محمد بن غيلان البزار وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي أخرجها الدارقطني، وهي من أعلى الحديث وأحسنه.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة فيها جمع فلاستون بن أبي كاليجار جمعاً بعد أن خلص من الاعتقال، واستولى على بلاد فارس، وفيها جرى بين طغرلبك وأخيه إبراهيم ينال وحشة أدت إلى قتال بينهما، فانهزم إبراهيم ينال وعصي بقلعة سرماح، فحصره بها طغرلبك واستنزله قهراً. وفيها أرسل ملك الروم إلى السلطان طغرلبك هدية عظيمة، وطلب منه المعاهدة فأجابه إليها، وعمر مسجد القسطنطينية، وأقام فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، ودانت الناس له وتمكن ملكه وثبت. وفيها أفرج السلطان طغرلبك عن أخيه ينال وتركه معه.
وفاة مودود في هذه السنة في رجب توفي أبو الفتح مودود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، وعمره تسع وعشرون سنة، وملك تسع سنين وعشرة أشهر، وكان موته بغزنة، واستقر في الملك بعده عمه عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، وكان مودود قد حبس عمه المذكور، فخرج موته واستقر في الملك ولقب شمس دين الله سيف الدولة.
غير ذلك فيها سار الباسيري كبير الأتراك ببغداد، وملك الأنبار، وأظهر العدل وحسن السيرة، ولما قرر قواعدها عاد إلى بغداد. وفيها ملك عسكر خليفة مصر العلوي مدينة حلب، وأخذوها من ثمال بن صالح بن مرداس الكلابي على ما قدمنا ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة. وفيها وقعت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وعظم الأمر حتى بطلت الأسواق؛ وشرع أهل الكرخ في بناء سور عليهم محيطاً بالكرخ، وشرع السنية من القلابين ومن يجري مجراهم في بناء سور على سوق القلابين، وكان الأذان بأماكن الشيعة بحي على خير العمل، وبأماكن السنية الصلاة خير من النوم. وفيها توفي أبو بكر منصور بن جلال الدولة، وله شعر حسن.
دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في هذه السنة سار السلطان طغرلبك من خراسان، وحاصر أصفهان، وبها صاحبها أبو منصور بن علاء الدولة بن كاكويم به، وطال محاصرته قريب سنة، وأخذها بالأمان ودخل السلطان طغرلبك أصفهان في المحرم سنة ثلاث وأربعين، واستطابها ونقل إليها ما كان له بالري من سلاح ذخائر.
حال قرواش مع أخيه وفيها استولى أبو كامل بركة بن المقلد على أخيه قرواش بن المقلد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة، وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبه زعيم الدولة.
مسير العرب من جهة مصر إلى جهة إفريقية
وهزيمة المعز بن باديسفي هذه السنة لما قطع المعز بن باديس خطبة العلويين من إفريقية، وخطب للعباسيين، عظم ذلك على المستنصر العلوي، وأرسل إلى المعز بن باديس في ذلك، فأغلظ ابن باديس في الجواب، وكان وزير المستنصر الحسن بن علي اليازوري، ويازور من أعمال الرملة، فاتفقا على إرسال زغبة ورياح، وهما قبيلتان من العرب، وكان بينهم حرب فأصلح المستنصر بينهم، وجهزهم بالأموال، فساروا واستولوا على برقة، فسار إليهم المعز بن باديس فهزموه وساروا إلى إفريقية، وقطعوا الأشجار وحصروا المدن ونزل بأهل إفريقية من البلاء ما لم يعهدوا مثله. ثم جمع المعز ما يزيد على ثلاثين ألف فارس والتقى معهم فهزموه أيضاً، ودخل المعز القيروان مهزوماً. ثم جمع المعز وخرج إليهم والتقوا وجرى بينهم قتال عظيم، ثم انهزمت عساكر المعز وكثر القتل فيهم، وانهزم المعز ووصلت العرب إلى القيروان، ونزلوا بمصلى القيروان، وأقام العرب يحاصرون البلاد وينهبونها إلى سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وانتقل المعز إلى المهدية في رمضان سنة تسع وأربعين وأربعمائة، ونهبت العرب القيروان.
غير ذلك من الحوادث فيها سار مهلهل بن محمد بن عنان أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك، فأحسن إليه طغرلبك وأقره على بلاده، ومن جملتها السيروان، ودقوقا وشهرزور، والصامغان، وكان سرحاب بن محمد أخو مهلهل محبوساً عند طغرلبك، فأطلقه لأخيه مهلهل.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة. فيها كانت الفتنة بين السنية والشيعة ببغداد، وعظم الأمر، وأحرق ضريح قبر موسى بن جعفر، وقبر زبيدة، وقبور ملوك بني بويه، وجميع الترب التي حواليها، ووقع النهب، وقصد أهل الكرخ إلى خان الحنفيين، وقتلوا مدرس الحنفيين أبا سعيد السرخسي، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء، ثم صارت الفتنة إلى الجانب الشرقي فاقتتل أهل باب الطاق وسوق يحيى والأساكفة.
وفاة زعيم الدولة بركة بن المقلد وفي هذه السنة توفي بركة بن المقلد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلد، وكان بدران بن المقلد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده، وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل، فاعتقله بها.
غير ذلك من الحوادث فيها وقت العصر ظهر ببغداد سكب له ذؤابة، غلب نوره على الشمس، وسار سيراً بطيئاً، ثم انقض. وفيها وصل رسول طغرلبك إلى الخليفة بالهدايا. وفيها عاد طغرلبك عن أصفهان إلى الري. وفيها كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز، وكان قد استخلفه بها أبو منصور بن أبي كاليجار.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة قتل عبد الرشيد في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، قتله الحاجب طغريل، وكان حاجباً لمودود بن مسعود، فأقره عبد الرشيد وقدمه، فطمع في الملك وخرج على عبد الرشيد المذكور، فانحصر عبد الرشيد بقلعة غزنة، وحصره طغريل حتى سلمه أهل القلعة، فقتله طغريل وتزوج ببنت السلطان مسعود كرهاً، ثم اتفقت كبراء الدولة ووثبوا على طغريل فقتلوه، وأقاموا فرخزاد بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، وكان محبوساً في بعض القلاع فأحضر وبويع له، وقام بتدبر الأمر بين يديه خرخير، وكان أميراً على الأعمال الهندية، فقدم وتتبع كل من كان أعان على قتل عبد الرشيد فقتله.
وفاة قرواش في هذه السنة مستهل رجب، توفي معتمد الدولة أبو منيع قرواش بن المقلد ابن المسيب العقيلي، الذي كان صاحب الموصل، محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل، وقيل إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور، أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه، وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن فمنه:
لله در النائبات فإنها ... صدأ القلوب وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة فطبعتني ... سيفاً وأطلق صرفهن عراري
وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم هذا. فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة، وقال مرة. ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.
غير ذلك من الحوادث فيها قبض على أبي هشام بن خميس بن معن صاحب تكريت، أخوه عيسى ابن خميس، وسجنه واستولى على تكريت. وفيها في حوادث هذه السنة زلزلت خورستان وغيرها زلازل كثيرة، وكان معظمها بأرجان، فانفرج من ذلك جبل كبير قريب من أرجان، وظهر وسطه درجة بالآجر والجص، فتعجب الناس من ذلك، وكذلك كانت الزلازل بخراسان وكان أشدها ببيهق، وخرب سور قصبة بيهق، وبقي خراباً حتى عمره نظام الملك في سنة أربع وستين وأربعمائة، ثم خربه أرسلان أرغو. ثم عمره مجد الملك البلاساني.
وفي هذه السنة كانت الفتنة ببغداد بين السنية والشيعة، وأعادت الشيعة الآذان بحي على خير العمل، وكتبوا في مساجدهم محمد وعلي خير البشر.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة فيها عماد أبو منصور فلاستون ابن الملك أبي كاليجار، واستولى على شيراز وأخذها من أخيه أبي سعيد بن أبي كاليجار، ولما استقر أبو منصور في شيراز خطب فيها للسلطان طغرلبك، ولأخيه الملك الرحيم، ولنفسه بعدهما. ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة فيها سار طغرلبك إلى أذربيجان وقصد تبريز فأطاعه صاحبها وهشوذان وخطب له فيها وحمل إليه ما أرضاه، وذلك فعل أصحاب تلك النواحي، ولما استقر له أذربيجان على ما ذكرنا سار إلى أرمينية وقصد ملازكرد وهي للروم، وحصرها فلم يملكها، وعبر إلى الروم وغزا في الروم ونهب وقتل وأثر فيهم آثاراً عظيمة.
غير ذلك وفي هذة السنة حصلت الوحشة بين البساسيري والخليفة القائم.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة فيها قتل الأمير أبو حرب سليمان بن نصر الدولة بن مروان، صاحب الجزيرة، قتله عبيد الله بن أبي طاهر البشنوي الكردي غيلة.
غير ذلك فيها ثارت جماعة من السنية ببغداد، وقصدوا دار الخلافة، وطلبوا أن يؤذن لهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، فأذن لهم، وزاد شرهم، ثم استأذنوا في نهب دور البساسيري وكان غائباً في واسط، فأذن لهم الخليفة بذلك، فقصدوا دور البساسيري ونهبوا وأحرقوها، وأرسل الخليفة إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري، فأبعده وقدم الملك الرحيم من واسط إلى بغداد، وسار البساسيري إلى جهة دبيس بن مرثد لمصاهرة بينهما.
الخطبة في بغداد لطغرلبك فيها سار طغرلبك حتى نزل حلوان، فعظم الإرجاف ببغداد، وأرسل قواد بغداد يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابهم طغرلبك إلى ذلك، وتقدم الخليفة القائم بذلك، فخطب له بجوامع بغداد لثمان بقين من رمضان هذه السنة، ثم أرسل طغرلبك واستأذن في دخول بغداد، فتوجهت إليه الرسل فحلفوه للخليفة القائم وللملك الرحيم، فحلف لهما، وسار طغرلبك فدخل بغداد ونزل بباب الشماسية.
وثوب العامة بعسكر طغرلبك والقبض على الملك الرحيم ولما وصل طغرلبك إلى بغداد دخل عسكره يتحوجون، فجرى بين بعضهم وبين السوقية هوشة، وثارت أهل تلك المحلة على من فيها من الغز عسكر طغرلبك ونهبوهم، ثارت الفتنة بينهم ببغداد وخرجت العامة إلى وطاقات طغرلبك، فركب عسكره وتقاتلوا، فانهزمت العامة، وأرسل طغرلبك يقول: إن كان هذا من الملك الرحيم فهو لا يقدر على الحضور إلينا، وإن كان برئا من هذا، فلا غناء عن حضوره، فأرسل الخليفة القائم إلى الملك الرحيم أن يخرج هو وكبار القواد، وهم في أمان الخليفة وذمامه، فخرجوا إلى طغرلبك فقبض على الملك الرحيم وعلى القواد الذين صحبته، فعظم ذلك على الخليفة القائم، وأرسل إلى طغرلبك في أمرهم، وشكا من عدم حرمته وعدم الالتفات إلى أمانه، فأفرج طغرلبك عن بعض القواد، واستمر بالباقين وبالملك الرحيم في الاعتقال، وهذا الملك الرحيم آخر من استولى على العراق من ملوك بني بويه، وكان أول من استولى منهم على العراق وبغداد معز الدولة أحمد بن بويه، ثم ابنه بختيار بن معز الدولة، ثم ابن عمه عضد الدولة، ثم فناخسرو ابن ركن الدولة بن بويه، ثم ابنه صمصام الدولة بن كاليجار المرزبان بن عضد الدولة، ثم أخوه شرف الدولة شيزريك بن عضد الدولة، ثم أخوه بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة، ثم ابنه سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة، ثم أخوه شرف الدولة ابن بهاء الدولة، ثم أخوه جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة، ثم ابن أخيه أبو كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، ثم ابنه الملك الرحيم خسره فيروز ابن أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه وهو آخرهم.
غير ذلك من الحوادث فيها وقعت الفتنة بين الشافعية والحنابلة ببغداد، فأنكرت الحنابلة على الشافعية الجهر بالبسملة، والقنوت في الصبح، والترجيع في الأذان، ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة. فيها تزوج الخليفة القائم ببنت داود أخي طغرلبك. وفيها وقعت حرب بين عبيد المعز بن باديس، وبين عبيد ابنه تميم بن المعز بالمهدية، فانتصرت عبيد تميم وقتلوا في عبيد المعز وأخرجوهم من المهدية.
ابتداء دولة الملثمين والملثمون من عدة قبائل، ينتسبون إلى حمير، وكان أول مسيرهم من اليمن في أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سيرهم إلى جهة الشام، وانتقلوا إلى مصر، ثم إلى المغرب مع موسى بن نصير، وتوجهوا مع طارق إلى طنجة، وأحبوا الانفراد فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية، فلما كانت هذه السنة، توجه رجل منهم اسمه جوهر من قبيلة جدالة إلى إفريقية، طالباً الحج، فلما عاد استصحب معه فقيهاً من القيروان يقال له عبد الله بن ياسين الكزولي، ليعلم تلك القبائل دين الإسلام، فإنه لم يبق فيهم غير الشهادتين والصلاة في بعضهم.
فتوجه عبد الله بن ياسين مع جوهر حتى أتيا قبيلة لمتونة، وهي القبيلة التي منها يوسف بن تاشفين أمير المسلمين، ودعياها إلى العمل بشرائع الإسلام، فقالت لمتونة: أما الصلاة والصوم والزكاة فقريب، وأما قولكما من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنا يرجم، فهذا أمر لا نلتزمه، اذهبا عنا.
فمضى جوهر وعبد الله بن ياسين إلى جدالة قبيلة جوهر، فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل التي حولهم إلى شرائع الإسلام. فأجاب أكثرهم، وامتنع أقلهم، فقال ابن ياسين للذين أجابوا إلى شرائع الإسلام: يجب عليكم قتال المخالفين لشرائع الإسلام، فأقيموا لكم أميراً، فقالوا: أنت أميرنا فامتنع ابن ياسين وقال لجوهر: أنت الأمير. فقال جوهر: أخشى من تسلط قبيلتي على الناس، ويكون وزر ذلك علي.
ثم اتفقا على أبي بكر بن عمر رأس قبيلة لمتونة، فإنه سيد مطاع، ليلزم لمتونة قبيلته، فأتيا أبا بكر بن عمر وعرضا عليه ذلك فقبل، فعقد له البيعة، وسماه ابن ياسين أمير المسلمين، اجتمع إليه كل من حسن إسلامه، وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد، وسماهم المرابطين، فقتلوا من أهل البغي والفساد ومن لم يجب إلى شرائع الإسلام نحو ألفي رجل، فدانت لهم قبائل الصحراء، وقويت شوكتهم، وتفقه منهم جماعة على عبد الله بن ياسين.
ولما استبد أبو بكر بن عمر وعبد الله بن ياسين بالأمر، داخل جوهر الحسد، فأخذ في إفساد الأمر، فعقد له مجلس وحكم عليه بالقتل لكونه شق العصا، وأراد محاربة أهل الحق، فصلى جوهر ركعتين، وأظهر السرور بالقتل طلباً للقاء الله تعالى، وقتلوه، ثم جرى بين المرابطين وبين أهل السوس قتال، فقتل في تلك الحرب عبد الله بن ياسين الفقيه، ثم سار المرابطون إلى سجلماسة واقتتلوا مع أهلها، فانتصر المرابطون واستولوا على سجلماسة وقتلوا أصحابها، ولما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتوني، وهو من بني عم أبي بكر بن عمر، وذلك في سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
ثم استخلف أبو بكر على سجلماسة ابن أخيه وبعث يوسف بن تاشفين ومعه جيش من المرابطين إلى السوس، ففتح على يديه، كان يوسف بن تاشفين رجلا ديناً حازماً مجرباً داهية، واستمر الأمر كذلك إلى أن توفي أبو بكر بن عمر في سنة اثنتين وستين وأربعمائة، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين وملكوه عليهم ولقبوه بأمير المسلمين، ثم سار إلى المغرب وافتتحها حصناً حصناً، وكان غالبها لزناتة، ثم إن يوسف قصد موضع مراكش، وهو قاع صفصف لا عمارة فيه فبنى فيه مدينة مراكش، واتخذها مقراً ملكه، وملك البلاد المتصلة بالمجماز مثل سبتة وطنجة وسلا وغيرها، وكثرت عساكره، ويقال للمرابطين الملثمين أيضاً، قيل إنهم كانوا يتلثمون على عادة العرب، فلما ملكوا ضيقوا لثامهم، كأنه ليتميزوا به، وقيل بل إن قبيلة لمتونة خرجوا غائرين على عدو لهم، وألبسوا نساءهم لبس الرجال ولثموهن، فقصد بعض أعدائهم بيوتهم، فرأوا النساء ملثمين فظنوهن رجالا، فلم يقدموا عليهن، واتفق وصول رجالهم في ذلك التاريخ فأوقعوا بهم، فتبركوا باللثام وجعلوه سنة من ذلك التاريخ، فقيل لهم الملثمون.
مسير طغرلبك عن بغداد لما أقام طغرلبك ببغداد، ثقلت وطأة عسكره على الرعية إلى الغاية، فرحل طغرلبك عن بغداد عاشر ذي القعدة من هذه السنة، أعني سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وأياماً، لم يلق الخليفة فيها، وتوجه طغرلبك إلى نصيبين، ثم سار منها إلى ديار بكر التي هي لابن مروان.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة توفي أمير الكاتب البيهقي، كان من رجال الدنيا.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة عود طغرلبك إلى بغداد
فيها عاد طغرلبك إلى بغداد بعد أن استولى على الموصل وأعمالها، وسلمها إلى أخيه إبراهيم ينال، ولما قارب طغرلبك الفقص خرج لتلقيه كبراء بغداد، مثل عميد الملك وزير طغرلبك ببغداد، ورئيس الرؤساء، ودخل بغداد وقصد الاجتماع بالخليفة القائم، فجلس له الخليفة وعليه البردة على سرير عمال عن الأرض نحو سبعة أذرع، وحضر طغرلبك في جماعته، وأحضر أعيان بغداد وكبراء العسكر، وذلك يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة من هذه السنة، فقبل طغريل بك الأرض، ويد الخليفة، ثم جلس على كرسي. ثم قال له رئيس الرؤساء: إن الخليفة قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده، ورد إليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، واعرف نعمته عليك، وخلع على طغريل بك وأعطى العهد، فقبل الأرض ويد الخليفة ثانياً وانصرف، ثم بعث طغريل بك إلى الخليفة خمسين ألف دينار، وخمسين مملوكاً من الأتراك، ومعهم خيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها.
غير ذلك فيها قبض المستنصر العلوي خليفة مصر على وزيره اليازوري، وهو الحسن بن عبد الله، وكان قاضياً في الرملة على مذهب أبي حنيفة، ثم تولى الوزارة، ولما قبض وجد له مكاتبات إلى بغداد. وفيها توفي أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري الأعمى وله نحو ست وثمانين سنة، ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وقيل ست وستين وثلاثمائة، واختلف في عماه، والصحيح أنه عمي في صغره من الجدري، وهو ابن ثلاث سنين، وقيل ولد أعمى، وكان عالماً لغوياً شاعراً، ودخل بغداد سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأقام بها سنة وسبعة أشهر، واستفاد من علمائها، ولم يتلمذ أبو العلاء لأحد أصلا، ثم عاد إلى المعرة ولزم بيته، وطبق الأرض ذكره، ونقلت عنه أشعار وأقوال علم بها فساد عقيدته، ونسب إلى التمذهب بمذهب الهنود، لتركه أكل اللحم خمساً وأربعين سنة، وكذلك البيض واللبن، وكان يحرم إيلام الحيوان، وله مصنفات كثيرة، أكثرها ركيكة، فهجرت لذلك، وكان يظهر الكفر ويزعم أن لقوله باطناً، وأنه مسلم في الباطن فمن شعره المؤذن بفساد عقيدته قوله:
عجبت لكسري وأشياعه ... وغسل الوجوه ببول البقر
وقول النصارى إله يضام ... ويظلم حيا ولا ينتصر
وقول اليهود إله يحب ... رسيس الدماء وريح القتر
وقوم أتوا من أقاصي البلد ... لرمي الجمار ولثم الحجر
فوا عجباً من مقالاتهم ... أيعمى عن الحق كل البشر
ومن ذلك قوله:
زعموا أنني سأبعث حيا ... بعد طول المقام في الأرماس
وأجوز الجنان أرتع فيها ... بين حور وولدة أكياس
أي شيء أصاب عقلك يا مس ... كين حتى رميت بالوسواس
ومن ذلك:
أتى عيسى فبطل شرع موسى ... وجاء محمد بصلاة خمس
وقالوا لا نبي بعد هذا ... فضل القوم بين غد وأمس
ومهما عشت في دنياك هذي ... فما تخليك من قمر وشمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وإن قلت الصحيح أطلت همسي
ومن ذلك قوله:
تاه النصارى والحنيفة ما اهتدت ... ويهود هطرى والمجوس مضلله
قسم الورى قسمين هذا عاقل ... لا دين فيه ودين لا عقل له
وفي هذه السنة توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً خطيباً إماماً في عدة علوم. وفيها توفي أياز غلام محمود سبكتكين، وله مع محمود أخبار مشهورة. وفيها مات أبو أحمد عدنان بن الشريف الرضي نقيب العلويين.
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة الخطبة بالعراق للمستنصر العلوي
خليفة مصر وما كان إلى قتل البساسيري
في هذه السنة سار إبراهيم ينال بعد انفصاله عن الموصل إلى همذان، وسار طغرلبك من بغداد في إثر أخيه أيضاً إلى همذان، وتبعه من كان ببغداد من الأتراك فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران العقيلي في مائتي فرس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع، وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي، فركب الخليفة القائم لابساً للسواد. وعلى كتفه البردة وبيده سيف، وعلى رأسه اللواء وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، وسرى النهب إلى باب الفردوس من ثأره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء، لقريش بن بدران: يا علم الدين، أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية، على نفسه وماله وأهله وأصحابه فأعطى قريش محضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحلبة، وسارا معه، فأرسل البساسيري، إلى قريش وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ وكانا قد تعاهدا على المشاركة، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر، ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويبقى الخليفة القائم عند قريش، وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً. ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس، وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها، وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها وأجرى لها الجراية؛ وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو. فقال له البساسيري. أنت قدرت فما عفوت وأنت صاحب طيلسان، وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، وكانوا قد ألبسوا رئيس الرؤساء استهزاء به طرطوراً من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود وطافوا به إلى النجمي وهو يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " " آل عمران: 26 " فلما مر رئيس الرؤساء بتلك الحالة على أهل الكرخ بصقوا في وجهه، لأنه كان يتعصب عليهم. ثم ألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه وجعل في كفه كلابان من حديد، وصلب وبقي إلى آخر النهار ومات، وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر، يعرفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي وهو ممن هرب من البساسيري فبرد فعل البساسيري وخوف من عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بخلاف ما أمله، ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصر فملكهما، وأما طغريل بك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم ينال، وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغريل بك انتصر على أخيه إبراهيم ينال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغريل بك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة.
عود الخليفة القائم إلى بغداد وقتل البساسيري
وكان ذلك في السنة القابلة سنة إحدى وخمسين، فقدم ذكر هذه الواقعة في هذه السنة لتكون أخبارها متتابعة إلى منتهاها فنقول: إنه لما فرغ طغريل بك من أمم أخيه إبراهيم ينال وقتله، سار إلى العراق لرد الخليفة إلى مقر ملكه، وأرسل إلى البساسيري يقول: رد الخليفة إلى مكانه، وأنا أرضى منك بالخطبة، ولا أدخل العراق، فلم يجب البساسيري إلى ذلك. فسار طغريل بك، فلما قارب إلى بغداد انحدر منها خدم البساسيري وأولاده في دجلة، وكان دخول البساسيري وأولاده سنة خمسين سادس ذي القعدة، وخروجهم من بغداد في سنة إحدى وخمسين سادس ذي القعدة أيضاً، ووصل طغريل بك إلى بغداد وأرسل في طلب الخليفة القائم إلى مهارس، فسار مهارس والخليفة إلى بغداد في السنة المذكورة، أعني سنة إحدى وخمسين في حادي عشر ذي القعدة وأرسل طغريل بك الخيام العظيمة والآلات لملتقى الخليفة القائم، ووصل الخليفة إلى النهروان رابع وعشرين ذي القعدة وخر طغريل بك لتلقيه واجتمع به واعتذر عن تأخره بعصيان أخيه إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وسار مع الخليفة ووقف طغريل بك في الباب النوبي مكان الحاجب. وأخذ بلجام بغلة الخليفة حتى صار على باب حجرته، ودخل الخليفة إلى داره يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين، ثم أرسل طغريل بك جيشاً خلف البساسيري، ثم سار طغريل بك في إثرهم، واقتتل الجيش والبساسيري. ثامن ذي الحجة، فقتل البساسيري، وانهزم أصحابه وحمل رأسه إلى طغريل بك وأخذت أموال البساسيري مع نسائه وأولاده ثم أرسل طغريل بك رأس البساسيري إلى دار الخلافة فصلب قبالة الباب النوبي، وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة. واسمه أرسلان، وهو منسوب إلى مدينة بسا بفارس، وكان سيد هذا لمملوك من بسا، فقيل له البساسيري لذلك، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا ومنها أبو علي الفارسي النحوي.
غير ذلك من الحوادث وفي هذه السنة أعني سنة خمسين وأربعمائة توفي شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي صاحب الجزيرة، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة، وفيها توفي الملك الرحيم أبو نصر خسره فيروز آخر ملوك بني بويه بعد أن نقل من قلعة السيروان إلى قلعة الري، فمات بها مسجوناً وهو الملك الرحيم بن أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدول بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه. وفيها توفي القاضي أبو الطيب الطبري الفقيه الشافعي وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، ودفن عند قبر أحمد بن حنبل. وفيها توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، وله تصانيف كثيرة منها، الحاوي المشهور، وعمره ست وثمانون سنة، أخذ الفقه عن أبي حامد الإسفراييني وغيره ومن مصنفاته تفسير القرآن والنكت والعيون والأحكام السلطانية وقانون الوزارة، والماوردي نسبة إلى بيع ماء الورد. وفيها كانت زلزلة عظيمة لبثت ساعة بالعراق والموصل، فخربت كثيراً وهلك فيها الجم الغفير.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وفاة فرخزاد صاحب غزنة في هذه السنة وقيل في سنة تسع وأربعين، توفي الملك فرخزاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بالقولنج، وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود، فأحسن السيرة، وغزا الهند وفتح حصوناً. وكان ديناً، ولما استقر في ملك غزنة صالح داود بن ميكائيل بن سلجوق صاحب خراسان.
وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلان في هذه السنة في رجب توفي داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو طغريل بك، وعمره سبعون سنة، صاحب خراسان وهو مقاتل آل سبكتكين، ولما توفي داود ملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان وكان لداود من البنين ألب أرسلان، وياقوتي وقاروت بك وسليمان، فتزوج طغريل بك بأم سليمان امرأة أخيه.
غير ذلك من الحوادث فيها قدم طغريل بك إلى بغداد، وأعاد الخليفة، وقتل البساسيري حسبما ذكرنا. وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني، وهو الذي ينسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور ببغداد.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة فيها ملك محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس حلب، على ما تقدم ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة. وفيها سار طغريل بك من بغداد إلى بلاد الجبل في ربيع الأول، وجعل الأمير برسق شحنة ببغداد. وفيها توفيت والدة القائم وهي جارية أرمنية، قيل اسمها قطر الندى.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وفاة المعز صاحب إفريقية وفي هذه السنة توفي المعز بن باديس، بضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعاً وأربعين سنة، وكان عمره لما ملك قيل إحدى عشرة سنة، وقيل ثمان سنين، وملك بعده ابنه تميم بن المعز، ولما مات المعز طمعت أصحاب البلاد بسبب العرب وتغلبهم على بلاد إفريقية كما قدمنا ذكره.
وفاة قريش صاحب الموصل وفيها توفي قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، بخروج دم من حلقه وأنفه وأذنيه، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.
وفاة نصر الدولة بن مروان وفي هذه السنة توفي نصر الدولة أبو نصر أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر - وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وإمارته اثنتين وخمسين سنة، لأن تملكه كان في سنة اثنتين وأربعمائة كما قدمنا ذكره في سنة ثمانين وثلاثمائة، واستولى أبو نصر على أموره وبلاده استيلاء تاماً، وتنعم تنعماً لم يسمع بمثله، وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار، وأكثر، وملك خمسمائة سرية، سوى توابعهن وخمسمائة خادم، وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وأرسل طباخين إلى مصر حتى تعلموا الطبخ هناك وقدموا عليه، وغرم على ذلك جملة، ووزر له أبو القاسم المغربي وفخر الدولة بن جهير، ووفد إليه الشعراء وأقام عنده العلماء، ولما مات نصر الدولة المذكور، خلف ابنين نصراً وسعيداً ابني المذكور، فاستقر في الأمر بعده ابنه نصر بن أحمد بميافارقين، وملك أخوه سعيد بن أحمد آمد.
وفاة أمير مكة في هذه السنة توفي شكر العلوي الحسيني أمير مكة، وله شعر حسن فمنه:
قوض خيامك عن أرض تضام بها ... وجانب الذل إن الذل مجتنب
وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة فيها تزوج طغريل بك ببنت الخليفة القائم، وكان العقد في شعبان بظاهر تبريز، وكان الوكيل في تزويجها من جهة القائم عميد الملك، وفيها استوزر القائم فخر الدولة أبا نصر بن جهير بعد مسيره عن ابن مروان. وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، الفقيه الشافعي، صاحب كتاب لشهاب، وكتاب الأنباء عن الأنبياء، وتواريخ الخلفاء وكتاب خطط مصر. تولى قضاء مصر من جهة الخلفاء العلويين مصريين، وتوجه منهم رسولا إلى جهة الروم، والقضاعي منسوب إلى قضاعة، وهو من حمير، وينسب إلى قضاعة قبائل كثير منها: كلب وبلى وجهينة وعدوة وغيرهم، وقيل: قضاعة بن معد بن عدنان.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة أخبار اليمن
من تاريخ اليمن عمارة قال: وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة تكامل جميع اليمن لعلي بن القاضي محمد بن علي الصليحي، وكان القاضي محمد والد علي الصليحي المذكور، سني المذهب، وله الطاعة في رجال حراز، وهم أربعون ألفاً ببلاد اليمن، فتعلم ابنه علي المذكور مذهب الشيعة، وأخذ أسرار الدعوة عن عامر بن عبد الله الرواحي، وكان عامر المذكور من أهل اليمن، وهو أكبر دعاة المستنصر الفاطمي خليفة مصر، فصحبه علي بن محمد الصليحي وتعلم منه أسرار الدعوة، فلما دنت من عامر الوفاة، أسند أمر الدعوة إلى علي المذكور، فقام بأمر الدعوة أتم قيام وصار علي بن محمد الصليحي المذكور دليلا لحجاج اليمن، يحج بهم على طريق الطائف وبلاد السرو، وبقي على ذلك عدة سنين، وفي سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ترك دلالة الحجاج وثار بستين رجلا، وصعد إلى رأس مشاف، وهو أعلى ذروة من جبال حراز، ولم يزل يستفحل أمره شيئًا فشيئاً، حتى ملك جميع اليمن في هذه السنة، أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة. ولما تكامل لعلي الصليحي ملك اليمن، ولى على زبيد أسعد بن شهاب بن علي الصليحي، وأسعد المذكور هو أخو زوجته أسماء بنت شهاب، وابن عم علي المذكور. وبقي علي الصليحي مالكاً لجميع اليمن حتى حج، فقصده بنو نجاح وقتلوه بغتة، بالهجم علب بضيعة يقال لها أم الدهيم وبيرام معبد، في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة، فلما قتل الصليحي المذكور، استقرت التهائم لبني نجاح واستقر بصنعاء ابن الصليحي المذكور، وهو أحمد بن علي بن القاضي محمد الصليحي، وكان يلقب أحمد المذكور بالملك المكرم، ثم جمع المكرم المذكور العرب وقصد سعيد بن نجاح بزبيد، وجرى بينهما قتال شديد، فانهزم سعيد بن نجاح إلى جهة دهلك، وملك أحمد المذكور زبيد في سنة خمس وسبعين وأربعمائة، ثم عاد ابن نجاح وملك زبيد في سنة تسع وسبعين وأربعمائة، ثم عاد أحمد المكرم وقتل سعيد في سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
ثم ملك جياش أخو سعيد وبقي أحمد المكرم على ملك صنعاء حتى مات المكرم في سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ولما مات أحمد المكرم بن علي بن القاضي محمد بن علي الصليحي تولى بعده ابن عمه أبو حمير سبأ بن أحمد بن المظفر ابن علي الصليحي في السنة المذكورة، أعني سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وبقي سباً متولياً حتى توفي في سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وهو آخر الملوك الصليحيين.
ثم بعد موت سبأ أرسل من مصر علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة، فوصل إلى جبال اليمن في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وقام بأمر الدعوة والمملكة التي كانت بيد سبأ، وبقي ابن نجيب الدولة حتى أرسل الآمر الفاطمي خليفة مصر وقبض على ابن نجيب الدولة المذكور، بعد سنة عشرين وخمسمائة، وانتقل الملك والدعوة إلى آل الزريع بن العباس بن المكرم. وآل الزريع هم أهل عدن، وهم من همذان بن جشم، وهؤلاء بنو للمكرم يعرفون بآل الذيب، وكانت عدن لزريع بن العباس بن المكرم، ولعمه مسعود بن المكرم، فقتلا على زبيد مع الملك المفضل، فولى بعدهما ولداهما، وهما أبو السعود بن زريع وأبو الغارات ابن مسعود، وبقيا حتى ماتا، وولى بعدهما محمد بن أبي الغارات، ثم ولى بعده ابنه على بن محمد بن أبي الغارات.
ثم استولى على الملك والدعوة سبأ بن أبي السعود بن زريع، وبقي حتى توفي في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، ثم تولى ولده الأعز علي بن سبأ، وكان مقام علي بالدملوة، فمات بالسل، وملك بعده أخره المعظم محمد بن سبأ، ثم ملك بعده ابنه عمران بن محمد بن سبأ، وكانت وفاة محمد بن سبأ في سنه ثمان وأربعين وخمسمائة، ووفاة عمران بن محمد بن سبأ في شعبان سنة ستين وخمسمائة وخلف عمران ولدين طفلين هما، محمد وأبو السعود ابنا عمران. وممن ولي الأمر من الصليحيين، زوجة أحمد المكرم، وهي الملكة ولقبها الحرة، واسمها سيدة بنت أحمد بن جعفر بن موسى الصليحي، ولدت سنة أربعين وأربعمائة وربتها أسماء بنت شهاب، وتزوجها ابن أسماء أحمد المكرم بن علي الصليحي سنة إحدى وستين وأربعمائة، وطالت مدة الحرة المذكورة، وولاها زوجها أحمد المكرم الأمر في حياته، فقامت بتدبير المملكة والحروب، واشتغل زوجها بالأكل والشرب، ولما مات زوجها وتولى ابن عمه سبأ استمرت هي في الملك، ومات سبأ وتولى ابن نجيب الدولة في أيامها، واستمرت بعده حتى توفيت الحرة المذكورة. في سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة وممن كان له شركة في الملك: الملك المفضل أبو البركات بن الوليد الحميري صاحب تعز، وكان المفضل المذكور يحكم بين يدي الملكة الحرة وكان يحتجب حتى لا يرجى لقاؤه، ثم يظهر ويدبر الملك حتى يصل إليه القوي والضعيف، وبقي المفضل كذلك حتى توفي في شهر رمضان سنة أربع وخمسمائة، وملك معامل المفضل وبلاده بعده ولده منصور، ويقال له الملك المنصور بن المفضل، واستمر المنصور بن المفضل في ملك أبيه من تاريخ وفاته إلى سنة سبع وأربعين وخمسمائة، فابتاع محمد بن سبأ بن أبي السعود منه المعامل التي كانت للصليحيين بمائة ألف دينار، وعدتها ثمانية وعشرون حصناً، وبلداً، وأبقى المنصور بن المفضل لنفسه تعز، وبقي المنصور في ملكها حتى توفي بعد أن ملك نحو ثمانين سنة. وسنذكر بقية أخبار اليمن في سنة أربع وخمسين وخمسمائة إن شاء الله تعالى.
دخول طغريل بك بابنة الخليفة وفي هذه السنة أعني سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قدم طغريل بك إلى بغداد ودخل بابنة الخليفة، وحصل من عسكره الأذية لأهل بغداد لإخراجهم من دورهم وفسقهم بنسائهم أخذاً باليد.
وفاة طغريل بك في هذه السنة بعد دخول طغريل بك بابنة الخليفة، سار من بغداد في ربيع الأول إلى بلد الجبل، فوصل إلى الري فمرض وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان من هذه السنة، وعمره سبعون سنة تقريباً، وكان طغريل بك عقيماً لم يرزق ولداً، واستقرت السلطنة بعده لابن أخيه ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق.
غير ذلك فيها دخل الصليحي صاحب اليمن إلى مكة مالكاً لها، فأحسن السيرة، وجلب إليها الأقوات، وفيها كان بالشام زلزلة عظيمة خرب بها كثير من البلاد، وانهدم بها سور طرابلس. وفيها ولي أمير الجيوش بدر مدينة دمشق للمستنصر العلوي خليفة مصر، ثم ثار به الجند ففارقها. وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة أحمد بن مروان صاحب آمد من ديار بكر.
ثم دخلت سنة ست وخسمين وأربعمائة القبض على الوزير عميد الملك وقتله
في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري، وزير عمه طغريل بك، بسبب سعي نظام الملك وزير ألب أرسلان به، فقبض ألب أرسلان على عميد الملك وحبسه في مروروز، فلما مضى على عميد الملك في الحبس سنة، أرسل ألب أرسلان إليه غلامين ليقتلا فدخل عميد الملك ورع أهله وصلى ركعتين وخرق خرقه من طرف كمه وعصب عينيه بها، فقتلاه بالسيف وقطع رأسه وحملت جثته إلى كندر فدفن عند أبيه، وكان عمره نيفاً وأربعين سنة، وكان عميد الملك خصياً. لأن طغريل بك أرسله ليخطب له امرأة فتزوجها عميد الملك، فخصاه طغريل بك لذلك، وكان عميد الملك كثير الوقيعة في الشافعي، حتى خاطب طغريل بك في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأمر له بذلك فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمة خراسان، منهم أبو القاسم القشيري وأبو المعالي الجويني، وأقام بمكة أربع سنين ولهذا لقب إمام الحرمين، ومن العجب أن ذكر عبد الملك ومخاصيه، دفن بخوارم لما خصي، ودمه سفح بمرو، وجسده دفن بكندر، ورأسه ما عدا قحفه دفن بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك.
غير ذلك في هذه السنة ملك ألب أرسلان قلعة ختلان، ثم سار إلى هراة فحاصر عمه بيغو بن ميكائيل بن سلجوق بها، وملكها وأخرج عمه، ثم أحسن إليه وأكرمه، ثم سار إلى صغائيان فملكها أيضاً بالسيف، وكان اسم صاحبها موسى، فأخذ أسيراً وفي هذه السنة أمر ألب أرسلان بعود بنت الخليفة القائم إلى بغداد وكانت قد سارت إلى طغريل بك إلى الري بغير رضى الخليفة. وفيه هذه السنة عصى قطلومش بن أرسلان بن سلجوق على ألب أرسلان، فأرسل إليه ونهاه عن ذلك وعرفه أنه يرعى له القرابة والرحم، فلم يلتفت قطلومش إلى ذلك، فسار إليه ألب أرسلان إلى قرب الري، والتقى العسكران واقتتلوا فانهزم عسكر قطلومش وهرب إلى جهة قلعة كردكوه، فلما انقضى القتال وجد قطلومش ميتاً، قيل إنه مات من الخوف، فعظم موته على ألب أرسلان وبكى عليه، وقعد للعزاء وعظم عليه فقده فسلاه نظام الملك، ودخل ألب أرسلان مدينة الري في آخر المحرم من هذه السنة، وهذا قطلومش السلجوقي هو جد الملوك أصحاب قونية، وأقصرا وملطية، إلى أن استولى التتر على مملكتهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وكان قطلومش مع أنه رجل تركي عارفاً بعلم النجوم، وقد أتقنه.
وفي هذه السنة شاع ببغداد والعراق وخوزستان وكثير من البلاد، أن جماعة من الأكراد خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداء وسمعوا منها لطماً شديداً وعويلا كثيراً، وقائلا يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله قلع أصله، فصدق ذلك ضعفاء العقول من الرجال والنساء، حتى خرجوا إلى المقابر يلطمن وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك، قال ابن الأثير: ولقد جرى ونحن في الموصل وغيرها من تلك البلاد في سنة ستمائة مثل هذا، وهو أن الناس أصابهم وجع كثير في حلوقهم فشاع أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل مأتماً أصابه هذا المرض، فكان النساء وأوباش الناس يلطمون على عنقود ويقولون يا أم عنقود اعذرينا، قد مات عنقود ما درينا.
وإنما أوردنا هذا لأن رعاع الناس إلى يومنا هذا وهو سنة سبعمائة وخمس عشرة يقولون بأم عنقود وحديثها، ليعلم تاريخ هذا الهذيان من متى كان. وفيها توفي أبو القاسم علي بن برهان الأسد النحوي، المتكلم، وكان له اختيار في الفقه وكان يمشي في الأسواق مكشوف الرأس. ولم يقبل من أحد شيئاً، وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار، وكان قد جاوز ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة وفيها عبر ألب أرسلان جيحون وسار إلى جند وصبران، وهما عند بخارى، وقبر جده سلجوق بجند، فخرج صاحب جند إلى طاعته، فأقره على مكانه، ووصل إلى كركنج خوارزم، وسار منها إلى مرو. وفيها ابتدأ نظام الملك بعمارة المدرسة النظامية ببغداد.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وفيها أقطع ألب أرسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدار بن المقلد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار وتكريت زيادة على الموصل. وفيها توفي أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الخسروجردي، وكان إماماً في الحديث والفقه على مذهب الشافعي، وكان زاهداً ومات بنيسابور ونقل إلى بيهق، وبيهق قرى مجتمعة بنواحي نيسابور على عشرين فرسخاً منها، وكان البيهقي من خسرو جرد وهي - قرية من بيهق - وكان البيهقي أوحد زمانه، رحل في طلب الحديث إلى العراق والجبال والحجاز، وصنف شيئاً كثيراً، وهو أول من جمع نصوص الشافعي في عشر مجلدات، ومن مشهور مصنفاته السنن الكبير والسنن الصغير ودلائل النبوة، وكان قانعاً من الدنيا بالقليل، ومولده في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة. وقال إمام الحرمين في حقه: ما من شافعي المذهب إلا وللشافعي عليه منة، إلا أحمد البيهقي، فإن له على الشافعي منة، لأنه كان أكثر الناس نصر المذهب الشافعي. وفيها توفي أبو علي محمد ابن الحسين بن الحسن بن الفراء الحنبلي، وعنه انتشر مذهب أحمد بن حنبل، وهو مصنف كتاب الصفات، أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، وكان ابن التميمي الحنبلي يقول: لقد خرى أبو يعلي بن الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء.
وفيها توفي الحافظ أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده المرسي، وكان إماماً في اللغة، صنف فيها المحكم، وهو كتاب مشهور، وله غيره عدة مصنفات وكان ضريراً، وتوفي بدانية من شرق الأندلس، وعمره نحو ستين سنة.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها في ذي القعدة فرغت عمارة المدرسة النظامية، وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي واجتمع الناس فتأخر أبو إسحق عن الحضور لأنه سمع شواذاً أن أرض المدرسة مغصوبة، ولما تأخر ألقي الدرس بها إلى يوسف بن الصباغ صاحب كتاب الشامل مدة عشرين يوماً، ثم اجتهدوا بأبي إسحاق فلم يزالوا به حتى درس فيها.
ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة فيها كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة حتى طلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من الردم عالم عظيم، وزال البحر عن الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس أرضه يلتقطون فرجع الماء عليهم وأهلك خلقاً كثيراً. وفيها توفي الشيخ أبو منصور عبد الملك بن يوسف، وكان من أعيان الزمان.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة فيها احترق جامع دمشق بسبب فتنة وقعت بين المغاربة والمشارقة، فضربت دار مجاورة للجامع بالنار، فاتصلت النار بالجامع، وعجز الناس عن إطفائها، فأتى الحريق على الجامع، فدثرت محاسنه، وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة في هذه السنة توفي طفغاج خان ملك ما وراء النهر، واسمه أبو إسحاق إبراهيم بن نصر أيلك خان، وملك بعده ابنه شمس الملك نصر بن طفغاج، وبقي شمس الملك حتى توفي، ولم يقع لي تاريخ وفاته، وملك بعده أخوه حصر خان بن طفغاج، ثم ملك بعده ابنه أحمد، وبقي أحمد المذكور حتى قتل سنة ثمان وثمانين وأربعمائة على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها كان بمصر غلاء شديد حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وانتزح منها من قدر على الانتزاح، واحتاج خليفة مصر المستنصر العلوي إلى إخراج الآلات وبيعها، فأخرج من خزانته ثمانين ألف قطعة بلور كبار، وخمساً وسبعين ألف قطعة من الديباج وأحد عشر ألف كزغندو، وعشرين ألف سيف محلى، ووصل من ذلك مع التجار إلى بغداد.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة فيها قطع محمود بن نصر بن صالح ابن مرداس صاحب حلب خطب المستنصر العلوي، وخطب للقائم العباسي خليفة بغداد. وفيها سار السلطان ألب أرسلان إلى ديار بكر، فأتى صاحبها نصر بن أحمد بن مروان إلى طاعته وخدمته، ثم سار ألب أرسلان حتى نزل على حلب، فبذل صاحبها محمود بن نصر بن صالح بن مرداس له الطاعة، بدون أن يطئ بساطه، فلم يرض ألب أرسلان بذلك، فخرج محمود ووالدته ليلا، ودخلا على السلطان ألب أرسلان فأحسن إليهما، وأقر محموداً على مكانه بحلب.
وفيها سار ملك الروم أرمانوس بالجموع العظيمة من أنواع الروم والروس والجركس وغيرهم حتى وصل إلى ملاز كرد، فسار إليه ألب أرسلان وسأل الهدنة من ملك الروم فامتنع واقتتل الجمعان، فولى الروم منهزمين، وقتل منهم ما لا يحصى وأخذ الملك أرمانوس أسيراً، فشرط ألب أرسلان عليه شروطاً من حمل المال والأسرى والهدنة، فأجاب أرمانوس إليها، فأطلقه ألب أرسلان وحمله إلى مأمنه.
وفيها قصد يوسف بن أبق الخوارزمي وهو من أمراء ملكشاه بن ألب أرسلان الشام، وفتح مدينة الرملة وبيت المقدس، وأخذهما من نواب الخليفة المستنصر، صاحب مصر، ثم حصر دمشق وضيق على أهلها ولم يملكها.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الغوراني الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره. وفيها توفي أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون الأندلسي القرطبي، وكان من أبناء الفقهاء بقرطبة ثم انتقل وخدم المعتضد بن عباد صاحب إشبيلية، وصار عنده وزيره. ولابن زيدون المذكور الأشعار الفائقة منها:
بيني وبينك ما لو شئت لم يضع ... سراً إذا ذاعت الأسرار لم يذع
يا بائعاً حظه مني ولو بذلت ... لي الحياة بحظي منه لم أبع
يكفيك أنك لو حملت قلبي ما ... لم تستطعه قلوب الناس يستطع
ته أحتمل واستطل أصبر وأعز أهن ... وول أقبل وقل أسمع ومر أطع
ومن قصائده المشهورة قصيدته النونية التي منها:
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا ... يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
وفيها في ذي الحجة توفي ببغداد الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي صاحب المصنفات الكثيرة، وكان إمام الدنيا في زمانه، وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وصنف تاريخ بغداد، الذي ينبئ عن إطلاع عظيم، وكان من المتجرين، وكان فقيهاً فغلب عليه الحديث والتاريخ، ومولده في جمادى الآخر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة وكان الخطيب المذكور في وقته حافظ الشرق، وأبو عمرو يوسف بن عبد البر صاحب الاستيعاب حافظ الغرب، وماتا في هذه السنة، ولم يكن للخطيب عقب، وصنف أكثر من ستين كتاباً، وأوقف جميع كتبه رحمه الله. وأما ابن عبد البر المذكور، فهو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري القرطبي، كان إمام وقته في الحديث، ألف كتاب الاستيعاب في أسماء الصحابة، وصنف كتاب التمهيد، على موطأ مالك، تصنيفاً لم يسبق إليه، وكتاب الدرر في المغازي والسير، وغير ذلك، وكان موفقاً في التأليف معاناً عليه، وسافر من قرطبة إلى شرق الأندلس، وتولى قضاء أشبونه وشنترين وصنف لمالكها المظفر بن الأفطس، كتاب بهجة المجالس، في ثلاثة أسفار جمع فيه أشياء مستحسنة تصلح للمحاضرة، ومما ذكره في الكتاب المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أنه دخل الجنة ورأى فيها عذقاً مدلى فأعجبه وقال: لمن هو؟ فقيل: لأبي جهل. فشق عليه ذلك وقال: ما لأبي جهل والجنة؟ والله لا يدخلها أبداً، فلما أتاه عكرمة بن أبي جهل مسلماً. فرح به وتأول ذلك العذق، ابنه عكرمة.
ومن ذلك ما روي عن جعفر بن محمد الصادق، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن كلباً أبقع يلغ في دمه، فكان شمر بن أبي جوشن، قاتل الحسين، وكان أبرص. فتفسرت رؤياه بعد خمسين سنة.
ومنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا أبا بكر، رأيت كأني وأنت نرقى في درجة فسبقتك بمرقانين ونصف، فقال أبو بكر يا رسول الله، يقبضك الله إلى رحمته، وأعيش بعدك سنتين ونصفاً.
ومنه أن بعض أهل الشام قص على عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: رأيت كأن الشمس والقمر اقتتلا، ومع كل واحد منهما فريق من النجوم، فقال عمر: أيهما كنت؟ قال مع القمر. قال: مع الآية الممحوة، والله لا توليت لي عملا. فقتل الرائي المذكور على صفين، وكان مع معاوية.
ومنه أن عائشة رضي الله عنها رأت كأن ثلاثة قمر سقطن في حجرها. فقال لها أبوها أبو بكر رضي الله عنهما: يدفن في بيتك ثلاثة من خيار أهل الأرض. فل دفن فيه النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: هذا أحد أقمارك. ولغرابة ذلك أوردناه.
وتوفي الحافظ بن عبد البر المذكور في مدينة شاطبة من الأندلس في هذه السنة، أعني سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وفيها توفيت كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي التي تروي صحيح البخاري بمكة. وإليها انتهى علو الإسناد الصحيح.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة وفاة بن عمار قاضي طرابلس وفي هذه السنة في رجب، توفي القاضي أبو طالب بن عمار قاضي طرابلس، وكان قد استولى عليها واستبد بأمرها فقام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن ابن عمار، فضبط البلد أحسن ضبط.
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة مقتل السلطان ألب أرسلان في هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد، إلى ما وراء النهر، وعقد على جيحون جسراً وعبره، في نيف وعشرين يوماً، وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس ولما عبر السلطان ألب أرسلان النهر مد سماطاً في بليدة هناك يقال لها قرير، وبتلك البليدة حصن على شاطئ جيحون، فأحضر إليه مستحفظ ذلك الحصن، ويقال له يوسف الخوارزمي، مع غلامين يحفظانه وكان قد ارتكب جريمة في أمر الحصن، فأمر السلطان أن تضرب له أربعة أوتاد، ويشد بأطرافه إليها. فقال له يوسف: يا مخنث، مثلي يقتل هذه القتلة؟ فغضب السلطان وأخذ القوس والنشاب وقال للغلامين: خلياه ورمام بسهم، فأخطأه ولم يكن يخطئ سهمه، فوثب يوسف على السلطان بسكين كانت معه، فقام السلطان عن السدة فوقع على وجهه، فضربه يوسف بالسكين، ثم جرح شخصاً آخر واقفاً على رأس السلطان يقال له سعد الدولة، ثم ضرب بعض الفراشين يوسف المذكور بمزربة على رأسه فقتله ثم قطعه الأتراك، فقال السلطان وهو مجروح: لما كان أمس صعدت على تل فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش، فقلت في نفسي: أنا ملك الدنيا، وما يقدر أحد علي فعجزني الله بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله وأستقيله من ذلك الخاطر، وكان جرح السلطان في سادس عشر ربيع الأول، وتوفي في عاشر ربيع الآخر من هذه السنة، وعمره أربعون سنة وشهور وأيام، وكانت مدة ملكه مذ خطب له بالسلطنة إلى أن توفي تسع سنين وستة أشهر وأياماً وأوصى بالسلطنة لابنه ملك شاه وكان في صحبته، فحلف جميع العسكر لملك شاه، واستقر في السلطنة.
وكان المتولي على الأمر نظام الملك وزير السلطان ألب أرسلان، وعماد ملكشاه بالعسكر من بلاد ما وراء النهر إلى خراسان، وأرسل إلى بغداد وإلى الأطراف، فخطب له فيها على قاعدة أبيه ألب أرسلان، واستمر نظام الملك على وزارته ونفوذ أمره، ولما استقر ملك ملكشاه خرج عمه قاروت بك صاحب كرمان عن طاعته، وسار إليه فالتقى الجمعان فانهزم عسكر قاروت بك وأتي به إلى ملكشاه أسيراً، فأمر به فخنق وأقر كرمان على أولاده، ولما انتصر ملكشاه كثرت أذية العسكر للبلاد ففوض ملكشاه الأمور إلى نظام الملك، وحلف له وزاده من الإقطاعات على ما كان بيده مواضع من جملتها مدينة طوس ولقبه ألقابا من جملتها أتابك، وأصلها أطابك، ومعناه الوالد الأمين فأحسن نظام الملك السياسة والتدبير.
أخبار المستنصر العلوي خليفة مصر
وقتل ناصر الدولة.فنقول: كانت قد استولت والدة المستنصر العلوي خليفة مصر على الأمر، فضعف أمر الدولة، وصارت العبيد حزباً، والأتراك حزباً، وجرت بينهم حروب، وكان ناصر الدولة وهو من أحفاد ناصر الدولة بن حمدان من أكبر قواد مصر، والمشار إليه، فأجمعت إليه الأتراك وجرى بينهم وبين العبيد عدة وقعات، وحصر ناصر الدولة مصر وقطع الميرة عنها براً وبحراً، فغلت الأسعار بها وعدم ما كان بخزائن المستنصر، حتى أخرج العروض كما تقدم ذكره وعدم المتحصل بسبب انقطاع السبيل، ثم استولى ناصر الدولة على مصر وانهزمت العبيد وتفرقت في البلاد، واستبد ناصر الدولة بالحكم، وقبض على والدة المستنصر وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرق عن المستنصر أولاده وأهله.
وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، حتى بقي المستنصر يقعد على حصيرة، لا يقدر على غير ذلك. وكان غرضه في ذلك أن يخطب للخليفة القائم العباسي، ففطن بفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، فاتفق مع جماعة على قتل ناصر الدولة، وقصدوه في داره فخرج ناصر الدولة إليهم مطمئناً بقوته، فضربوه بسيوفهم حتى قتلوه، وأخذوا رأسه ثم قتلوا فخر العرب أخا ناصر الدولة، وتتبعوا جميع من بمصر من بني حمدان فقتلوهم عن آخرهم، وكان قتلهم في هذه السنة أعني سنة خمس وستين وبقي الأمر بمصر مضطرباً ولما كان سنة سبع وستين وأربعمائة ولى الأمر بمصر أمير الجيوش بدر الجمالي، وقتل الدكز والوزير ابن كدينة، واستقامت الأمور كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
غير ذلك فيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك القشيري النيسابوري، مصنف الرسالة، وغيرها، وكان فقيهاً أصولياً مفسراً كاتباً ذا فضائل جمة. وكان له فرس قد أهدي إليه فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً ومات بعد أسبوع، ومولده سنة سنة ست وسبعين وثلاثمائة، وكان إماماً في علم التصوف، وقرأ أصول الدين على أبي بكر بن فورك، وعلى ابن إسحاق الإسفراييني، وله تفسير حسن، وله شعر حسن فمنه:
إذا ساعدتك الحال فارقب زوالها ... فما هي إلا مثل حلبة أشطر
وإن قصدتك الحادثات ببوسها ... فوسع لها ذرع التجلد واصبر
وفيها توفي علي بن الحسين بن علي بن المفضل الكاتب المعرف بصردر الشاعر المشهور، وكان أبوه يلقب بشحنة صردر، فما بلغ ولده المذكور وأجاد في الشعر قيل صردر، ومن جيد شعره قوله:
تسائل عن ثمامات بحزوي ... وبأن الرمل يعلم ما عنينا
فقد كشف الغطاء فما نبالي ... أصرحنا بذكرك أم، كنينا
ألا لله طيف منك يسقى ... بكاسات الري زوراً ومينا
مطيته طوال الليلة جفني ... فكيف شكا إليك وجا وأينا
فأمسينا كأنا ما افترقنا ... وأصبحنا كأنا ما التقينا
ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة، وفي هذه السنة زادت دجلة وجاءت السيول حتى غرق الجانب الشرقي، وبعض الغربي، ودخل الماء إلى المنازل من فوق ونبع من البلاليع، وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد، ومشهد باب التين، وهلك في ذلك خلق كثير.
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة فيها وصل بدر الجمالي إلى مصر وكان بدر متولي سواحل الشام، فأرسل إليه المستنصر العلوي يشكو حاله واختلال دولته، فركب البحر في قرة الشتاء في زمن لا يسلك البحر فيه، فمن الله تعالى عليه بالسلامة، ووصل بدر إلى مصر وقبض على الأمراء والقواد الذين كانوا قد تغلبوا، وأخذ أموالهم وحملها إلى المستنصر، وأقام منار الدولة وشيد من أمرها ما كان قد درس، ثم سار إلى الإسكندرية ودمياط وأصلح أمورهما، ثم عاد إلى مصر وسار إلى الصعيد وقهر المفسدين، وقرر قواعد البلاد وأحسن إلى الرعية، فعمرت البلاد وعادت مصر وأعمالها إلى أحسن ما كانت عليه.
وفاة القائم في هذه السنة ليلة الخميس ثالث عشر شعبان، توفي القائم بأمر الله عبد الله وكنيته أبو جعفر بن القادر أحمد بن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد أحمد، وكان قد لحق القائم ماشراً فافتصد، فانفجر فصاده وهو نائم، وخرج منه دم كثير وهو لا يشعر، ولم يكن عنده أحد، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأحضر الوزير ابن جهير والقضاة وأشهدهم أنه جعل ابن ابنه عبد الله بن ذخيرة الدين محمد بن القائم ولي عهده، وتوفي القائم وعمره ست وسبعون سنة وثلاثة أشهر وأيام، وكانت خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وقيل عمره ست وتسعون سنة وأشهر.
/بسم الله الرحمن الرحيم
خلافة المقتدي بأمر الله
وهو سابع عشرينهم، لما توفي القائم بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك والوزير بن جهير والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ، ونقيب النقباء، وطراد الزينبي والقاضي أبو عبد الله الدامغاني وغيرهم، من الأعيان، فبايعوه بالخلافة، ولم يكن للقائم ولد ذكر سواء، فإن محمد بن القائم وكان يلقب ذخيرة الدين توفي في حياة أبيه القائم، وكان لمحمد بن القائم لما توفي جارية اسمها أرجوان فلما توفي محمد ورأت أرجوان ما نال القائم من المصيبة بانقطاع نسله، ذكرت أنها حامل من محمد ابنه، فولدت عبد الله المقتدي، إلى ستة أشهر من موت محمد، فاشتد فرح القائم به وعظم سروره، فلما بلغ المقتدي الحلم جعله القائم ولي عهده.
غير ذلك من الحوادث وفيها جمع ملكشاه ونظام الملك جماعة من المنجمين، وجعلوا النيروز عند نزول الشمس، أول الحمل. وكان النيروز قبل ذلك عند نزول الشمس نصف الحوت. وفيها عمل السلطان ملكشاه الرصد، واجتمع في عمله جماعة من الفضلاء منهم عمر الخيام وأبو المظفر الإسفرائيني وميمون بن النجيب الواسطي، وأخرج عليه من الأموال جملاً عظيمة، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة فبطل.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة. فها ملك أتسز دمشق. كنا قد ذكرنا سنة إحدى وستين ملك أتسز الرملة، وحصاره دمشق، ثم رحل عنها وعاودهم في أيام إدراك الغلات، حتى ضعف عسكر دمشق وتسلمها أتسز في هذه السنة، وقطع الخطبة العلوية، فلم يخطب بعدها في دمشق لهم وأقام الخطبة العباسية يوم جمعة، لست بقين من ذي القعدة من هذه السنة، وخطب للمقتدي بأمر الله، ومنع من الأذان بحي على خير العمل.
ذكر غير ذلكوفي هذه السنة توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن متويه الواحدي، المفسر، مصنف الوسيط والبسيط والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري ويقال له المتوي نسبة إلى جده متويه، والواحدي نسبة إلى الواحد بن ميسرة، وكان أستاذ عصره في النحو والتفسير وشرح ديوان المتنبي، وليس في الشروح مثله جودة، وكان الواحدي تلميذ الثعلبي، وتوفي الواحدي بعد مرض طويل في هذه السنة بنيسابور.
وفيها توفي الشريف الهاشمي العباس أبو جعفر مسعود بن عبد العزيز، المعروف بالبياضي الشاعر، وله أشعار حسنة فمنها:
كيف يذوي عشب أشوا ... قي ولي طرف مطير
إن يكن في العشق حر ... فأنا العبد الأسير
أو على الحسن زكاة ... فأنا ذاك الفقير
ومنها:
يا من لبست لبعده ثوب الضنا ... حتى خفيت به عن العواد
وأنست بالسهر الطويل فأنسيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي
إن كان يوسف بالجمال مقطع الأيدي فأنت مفتت الأكباد وقيل له البياضي لأن بعض أجداده كان مع جماعة من بني العباس، وكلهم قد لبسوا أسود غيره، فسأل الخليفة عنه وقال من ذلك البياضي، فبقي عليه لقباً.
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة فيها سار أتسز المتولي على دمشق إلي مصر وعاد مهزوماً إلى الشام. قيل كانت هزيمته لقتال جرى بين الفريقين، وقيل بل انهزم بغير قتال، وهلك جماعة من أصحابه.
وفي هذه السنة أورد ابن الأثير موت محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب، أقول: لكني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم أن محموداً المذكور مرض في سنة شع وستين وأربعمائة، وحدث به قروح في المعى، مات بها، ولحقه في أواخر عمره من البخل ما لا يوصف، ولما مات في السنة المذكورة، ملك حلب بعده ابنه نصر بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس الكلابين فمدحه ابن جيوش بقصدية منها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها ... فلا افترقت ما افتر عن ناظرٍ شفر
ضميرك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر
وكان لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظني أن سيخلفها نصر
وكان عطية بن جيوش على محمود إذا مدحه، ألف دينار، فأعطاه نصر ألف دينار، مثل ما كان يعطيه أبوه محمود، وقال: لو قال: وغالب ظني أن سيضعفها نصر لأضعفتها له، وكان نصر يدمن شرب الخمر فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه حلب وهم بالحاضر، وأراد قتالهم فضربه واحد منهم بسهم نشاب فقتله، ولما قتل نصر ملك حلب أخوه سابق بن محمود، ولم يذكر ابن الأثير تاريخ قتل نصر متى كان. ثم إني وجدت في تاريخ حلب، تأليف كمال الدين المعروف بابن العديم تاريخ قتل نصر المذكور، قال: وفي يوم عيد الفطر سنة ثمان وستين وأربعمائة عيّد نصر بن محمود وهو في أحسن زي وكان الزمان ربيعاً، واحتفل الناس في عيدهم وتجملوا بأفخر ملابسهم، ودخل عليه ابن جيوش فأنشده قصيدة منها:
صفت نعمتان خصتاك وعمتا ... حديثهما حتى القيامة يؤثر
فجلى نصر فشرب إلى العصر، وحمله السكر على الخروج إلى الأتراك وسكناهم في الحاضر، وأراد أن ينهبهم وحمل عليهم، فرماه تركي بسهم في حلقه فقتله، وكان قتله يوم الأحد مستهل شوال، سنة ثمان وستين وأربعمائة، ولما قتل نصر ملك حلب بعده أخوه سابق ابن محمود.
وفيها توفي طاهر بن أحمد بن باب شاذ النحوي المصري، توفي بأن سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر، فمات لوقته.
ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة فيها توفي عبد الرحيم بن محمد بن إسحاق الأصفهاني الحافظ، له يهوياقيم تصانيف كثيرة منها: تاريخ أصفهان، وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصفهان، يقال لهم العبد رحمانية.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة استيلاء تنش على دمشق في هذه السنة ملك تاج الدولة تنش بن السلطان ألب أرسلان دمشق، وسببه أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام، وما يفتحه، فسار تاج الدولة تنش إلى حلب وكان قد أرسل بدر الجمالي أمير الجيوش بمصر عسكراً إلى حصار أتسز بدمشق، فأرسل أتسز يستنجد تنش وهو نازل على حلب يحاصرها، فسار تنش إلى دمشق، فلما قرب منها رحل عنها عسكر مصر كالمنهزمين، فلما وصل إلى دمشق ركب أتسز لملتقاه بالقرب من المدينة، فأنكر تنش عليه تأخره عن الطلوع إلى لقائه، وقبض على أتسز وقتله وملك تنش دمشق، وأحسن السيرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة فيها غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة بلاد الهند، فأوغل فيها وفتح وغنم وعاد إلى غزنة سالماً.
ملك مسلم بن قريش مدينة حلب في هذه السنة، سار شرف الدولة بن قريش بن بدران بن المقلد بن السميب صاحب الموصل إلى حلب، فحصرها، فسلم البلد إليه في سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن نصر بن صالح بن مرداس وتسلم القلعة.
ذكر غير ذلكوفيها توفي نصر بن أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، وملك بعده ابنه سور بن نصر ودبر دولته ابن الأنباري. وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن جيوش. الشاعر المشهور، وقد تقدم ذكر مديحه لنصر بن محمود صاحب حلب.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة ودخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة فيها كانت فتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلة. وفيها أرسل الخليفة المقتدي الشيخ أبا إسحاق الشيرازي رسولاً إلى السلطان ملكشاه، وإلى نظام الملك، فسار من بغداد إلى خراسان، ليشكو من عميد العراق أبي الفتح بن أبي الليث، فأكرم السلطان ونظام الملك الشيخ أبا إسحاق، وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجوبني مناظرة بحضرة نظام الملك، وعاد بالإجابة إلى ما التمسه الخليفة، ورفعت يد العميد عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة.
وفيها توفي أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، قتله مماليكه الأتراك بكرمان.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة فيها في جمادى الآخرة توفي الشيخ أبو إسحاق إبراهيم ابن علي الشيرازي الفيروز أبادي، وفيررز أباد بلدة بفارس، ويقال هي مدينة جون. وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وقيل سنة ست وتسعين، وكان أوحد عصره علماً وزهداً وعبادة، ولد بفيروز أباد ونشأ بها، ودخل شيراز وقرأ بها الفقه، ثم قدم إلى البصرة، ثم إلى بغداد في سنة خمس عشرة وأربعمائة وكان إمام وقته في المذهب والخلاف والأصول وصنف المهذب، والتنبيه والتلخيص، والنكت، والتبصير، واللمع، ورؤوس المسائل. وكان فصيحاً، وله نظم حسن فمنه:
سألت الناس عن خل وفي ... فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر ... فإن الحر في الدنيا قليل
وله:
جاء الربيع وحسن وردة ... ومضى الشتاء وقبح برده
فاشرب على وجه الحبي ... ب ووجنتيه وحسن خده
وكان مستجاب الدعوة مطرح التكلف، ولما توجه إلى خراسان في رسالة الخليفة قال: ما دخلت بلدة ولا قرية إلا وكان خطيبها وقاضيها تلميذي، ومن جملة أصحابي. وفيها توفي أبو الحجاج بن يوسف بن سليمان الأعلم الشنتمري، رحل إلى قرطبة واشتغل بها. وكان إماماً في العربية والأدب وشرح الحماسة، ونسبته إلى شنتمرية، مدينة بالأندلس.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة فيها سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه، إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك وقيل أكسب، والأول أصح، جد الملوك الأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم، وانحصر في آمد، ونزل الأمير أرتق على آمد، فحصره فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكنه من الخروج من آمد فأذن له أرتق، وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به، ثم سير السلطان عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير بعسكر كثيف، وسير معه، أقسنقر قسيم الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا أقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى سلطان، فقدم شرف الدولة إليه، وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيح، وكان قد ذهبت أمواله، فاقترض شرف الدولة مسلم، ما خدم به السلطان، وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه التي نجا عليه في المعركة. المشهور وكان اسم الفرس بشاراً، وكان سابقاً، وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً، فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب، فرضي السلطان على مسلم، وخلع عليه وأقره على بلاده.
فتح سلمان بن قطلومش أنطاكية في هذه السنة سار سلمان بن قطلومش السلجوقي صاحب قونية، وأقصرا، وغيرهما من بلاد الروم، فملك مدينة أنطاكية بمخامرة الحاكم فيها من جهة النصارى، وكانت أنطاكية بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، فافتتحها سليمان في هذه السنة.
قتل شرف الدولة مسلم وملك أخيه إبراهيم لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية وأرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب، يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً، فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية، ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وقد قدمنا ذكر مقتله لتتبع الحادثة بعضها بعضاً، وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب أحول، واتسع ملك مسلم بن قريش المذكور، وزاد ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج وديار ربيعة ومضر من الجزيرة وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل، وغيرهم، وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة، بالأمر والعدل، ولما قتل، قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة، بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.
وفي هذه السنة ولد لملكشاه ولد بسنجار، فسماه أحمد، ثم غلب عليه اسم سنجر لكونه ولد بسنجار، وهو السلطان سنجر على ما تجيء أخباره، كذا نقله المؤرخون، والذي يغلب على ظني أنه سماه على عادة الترك، فإنهم يسمون صنجر، ومعناه يطعن، والناس يقولونه بالسين.
وفيها توفي أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد الصباغ الفقيه الشافعي، صاحب الشامل والكامل، وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف، بعد أن أضر عدة سنين، ومولده سنة أربعمائة، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغدادي، المعروف بابن القفال، وهو من شيوخ أصحاب الشافعي، وكان إليه القضاء بباب الأزج.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة فيها ملك الفرنج طليطلة من الأندلس بعد أن حاصرها الأدفونش سبع سنين، وكان سبب ذلك تفرق ممالك الأندلس على ما تقدم ذكره في سنة سبع وأربعمائة.
وفي هذه السنة استولى فخر الدولة بن جهير على آمد، ثم على ميافارقين، ثم على جزيرة ابن عمر، وهي بلاد بني مروان وأخذها من منصور بن نصر بن مروان وهو آخر من ملك منهم، وانقرضت بأخذ الجزيرة منه مملكة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه.
وفيها سار أمير الجيوش بدر الجمالي بجيوش مصر، فحصر دمشق وبها تاج الدولة تنش، وضيق عليه، فلم يظفر بشيء، فارتحل عائداً إلى مصر.
وفيها في ربيع الآخر توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله ابن يوسف الجويني ومولده في الكامل سنة عشرة وأربعمائة، وفي تاريخ ابن أبي الدم أن مولده سنة تسع عشرة وأربعمائة، وهو إمام العلماء في وقته، وله عدة مصنفات منها: نهاية المطلب في دراية المذهب، سافر إلى بغداد، ثم إلى الحجاز وأقام بمكة والمدينة أربع سنين يدرس ويفتي ويصنف، وأم بالناس في الحرمين الشريفين، فسمي لذلك إمام الحرمين، ثم رجع إلى نيسابور وجعل إليه الخطابة، ومجلس الذكر، والتدريس، وبقي على ذلك ثلاثين سنة، وحظي عند نظام الملك، وله عدة تلاميذ من الفضلاء كالغزالي وأبي القاسم الأنصاري وأبي الحسن علي الطبري، وهو المعروف بالكيا الهراس، وكان إمام الحرمين قد ادعى الاجتهاد المطلق، لأن أركانه كانت حاصلة له، ثم عاد إلى اللائق وتقليد الإمام الشافعي، لعلمه أن منصب الاجتهاد قد مضت سنوه.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة قتل سليمان بن قطلومش لما قتل سليمان مسلم بن قريش في سنة ثمان وسبعين، على ما ذكرناه في سنة سبع وسبعين، أرسل سليمان إلى ابن الحبيبي العباسي مقدم أهل حلب، يطلب تسليم حلب، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحبيبي، استدعى تنش صاحب دمشق بن السلطان ألب أرسلان، أخا السلطان ملكشاه، فسار تنش إلى حلب، وكان مع تنش أرتق بن أكسك، وقد فارق خدمة ملكشاه، خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، على ما قدمنا ذكره، وجرت الحرب بين تنش وابن سليمان بن قطلومش فانهزم عسكر سليمان، وثبت سليمان، فقيل إن سليمان انهزم عسكره، أخرج سكيناً وقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، وكان سليمان قد أرسل جثة مسلم بن قريش على بغل، ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه في السنة الماضية، في سادس صفر، فأرسل تنش جثة سليمان في هذه السنة في سادس صفر ملفوفة في إزار إلى حلب، ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحبيبي بالمماطلة، إلى أن يرد مرسوم ملكشاه في أمر حلب بما يراه، فحاصر تنش حلب وضيق على أهلها وملكها، فاستجار ابن الحبيبي بالأمير أرتق بن أكسك، فأجاره، وأما قلعة حلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش، سالم بن مالك بن بدارن بن المقلد بن المسيب، العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فحاصر تنش سبعة عشر يوماً فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.
وصول السلطان ملكشاه إلى حلب
كان ابن الحبيبي قد كاتب السلطان في أمر حلب، فسار إليها من أصفهان، في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حرّان، وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن، قريش وسار إلى الرها، وهي بيد الروم من حين اشتروها من ابن عطير، كما قدمنا ذكره فحصرها وملكها، وسار إلى قلعة جعبر، واسمها الدوسرية، ثم عرفت بقلعة جعبر لطول مدة ملك جعبر لها، وبها صاحبها سابق الدين جعبر القشير المذكور، وهو شيخ أعمى فأمسكه وأمسك ولديه، وكانا يقطعان الطريق ويخيفان السبيل، ثم صار إلى منبج فملكها، وسار إلى حلب فلما قاربها رحل أخوه تنش عن حلب على البرية، وتوجه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حلب وتسلمها، وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي، على أن يعوضه بقلعة جعبر، فسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده ويد أولاده، إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولما نزل السلطان ملكشاه بحلب، أرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني صاحب شيزر، ودخل في طاعته وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه السلطان إلى المسالمة وترك قصده، وأقر عليه شيزر، ولما ملك السلطان ملكشاه حلب، سلمها إلى قسيم الدولة أقسنقر، ثم ارتحل السلطان إلى بغداد على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غير ذلك من الحوادثوفي هذه السنة في ربيع الأول توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مرثد الأسدي، صاحب الحلة والنيل. وغيرهما، وكان فاضلاً وله شعر جيد. واستقر مكانه ولده صدقة، ولقب سيف الدولة.
ملك يوسف بن تاشفين غرناطة من الأندلس
وانقراض دولة الصنهاجية منها:في هذه السنة عدّى البحر يوسف بن تاشفين أمير المسلمين، من سبتة إلى الجزيرة الخضراء بسبب استيلاء الفرنج على بلاد الأندلس، واجتمع إليه أهل الأندلس، مثل المعتمد بن عباد وغيره من ملوك الأندلس، وجرى بينهم وبين الأدفونش قتال شديد، نصر الله فيه المسلمين، وانهزم الفرنج وقتل منهم ما لا يحصى، حتى جمعوا من رؤوسهم تلاً وأذنوا عليه، وملك يوسف غرناطة، وأخذها من صاحبها عبد الله بن بلكين بن باديس بن حبوس بن مالس بن بلكين بن زبري الصنهاجي.
من تاريخ القيروان قال: وأول من حكم من الصناهجة في غرناطة راوي بن بلكين، ثم تركها وعاد إلى إفريقية في سنة عشر وأربعمائة، فملك غرناطة ابن أخيه حبوس بن مالس بن بلكين، وبقي بها حتى توفي في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس بن حبوس، وبقي حتى توفي، وولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين بن حبوس، ودام فيها حتى أخذها منه يوسف بن تاشفين في هذه السنة.
وذكر صاحب تاريخ القيروان أن أخذ يوسف غرناطة، كان في سنة ثمانين وأربعمائة.
ولنرجع إلى ذكر ابن تاشفين. ثم إن يوسف بن تاشفين عبر البحر إلى سبتة، وأخذ معه عبد الله صاحب غرناطة المذكور، وأخاه تميماً إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه يوسف بن تاشفين من الأندلس. وفيها سار ملكشاه عن حلب ودخل بغداد في ذي الحجة وهو أول قدومه إلى بغداد، ثم خرج إلى الصيد، فصاد من الوحوش شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى بغداد واجتمع بالخليفة المقتدي، وأقام ببغداد إلى صفر من سنة ثمانين، وعاد إلى أصفهان. وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة، مسلم بن قريش مدينة الرحبة، وأعمالها، وحران وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا بنت ألب أرسلان. وفيها كانت زلازل عظيمة حتى فارق الناس ديارهم، وفيها توفي الشريف أبو نصر الزيني العباسي، نقيب الهاشميين وهو محدث مشهور على الإسناد.
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة وسنة إحدى وثمانين وأربعمائة فيها توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة، وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وهو الأقوى. ولكن تابعنا ابن الأثير وإيراده وفاة المذكور في هذه السنة، وكان ملكه في سنة إحدى وخمسين وأربعمائة، وكان حسن السيرة حازماً، ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود بن إبراهيم، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه. وفيها جمع أقسنقر صاحب حلب عساكره وسار إلى قلعة شيزر، وصاحبها نصر بن علي بن منقذ، وضيق عليه ونهب الربض، ثم صالحه ابن منقذ المذكور، فعاد أقسنقر إلى حلب.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة فيها سار السلطان ملكشاه بجيوش لا تحصى كثرة، إلى ما وراء النهر، وعبر جيحون وسار إلى بخارى، وملك ما على طريقه من البلاد، ثم ملك بخارى، ثم سار إلى سمرقند فملكها وأسر صاحبها أحمد خان وأكرمه، ثم سار السلطان إلى كاشغر فبلغ إلى بوزكند، وأرسل إلى ملك كاشغر يأسره بإقامة الخطبة له والسكة، فأجاب إلى ذلك، وسار ملك كاشغر وحضر عند السلطان ملكشاه، فأكرمه السلطان وعظمه وأعاده إلى ملكه، ثم رجع السلطان إلى خراسان.
ذكر غير ذلك:فيها عمرت منارة جامع حلب، وقام بعملها القاضي أبو الحسن بن الخشاب، وكان بحلب ليت نار قديم، ثم صار أتون حمام، فأخذ ابن الخشاب المذكور حجارته وبنى بها المأذنة المذكورة، فسعى بعض حسدة ابن الخشاب به إلى أقسنقر، وقال: إن هذه الحجارة لبيت المال، فأحضره أقسنقر وحدثه في ذلك، فقال ابن الخشاب: يا مولانا إني عملت بهذه الحجارة معبداً للمسلمين، وكتبت عليه اسمك، فإن رسمت غرِّمت ثمنها. فأجابه أقسنقر إلى إتمام ذلك، من غير أن يأخذ منه شيئاً. وفيها توفي عاصم بن محمد بن الحسن البغدادي من أهل الكرخ، وكان مطبوعاً كيسّاً وله شعر حسن فمنه:
ماذا على متلوّن الأخلاق ... لو زارني فأبثه أشواقي
وأبوح بالشكوى إليه تذللاً ... وأفضُّ ختم الدمع من آماقي
أسر الفؤاد ولم يرق لموثق ... ما ضره لو منَّ بالإطلاق
إن كان قد لسعت عقارب صدغه ... قلبي فإن رضا به ترياقي
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة فيها توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير، بالموصل، في المحرم، منها، وكان مولده بالموصل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتنقل في الخدم، فخدم بركة بن المقلد حتى قبض على أخيه حقرواش، ثم سار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة ثمال بن صالح بن مرداس، ثم مضى إلى نصر الدولة أحمد بن مروان، صاحب ديار بكر، فوزر له ثم وزر لولده، ثم سار إلى بغداد فولي وزارة الخليفة، ثم سار مع السلطان ملكشاه، ففتح له ديار بكر وأخذها من بني مروان.
وفي هذه السنة في شعبان كان صعود الحسن بن الصباح مقدم الإسماعيلية على قلعة الألموت وظهور دعوته.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة فيها تولى عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير وزارة الخليفة المقتدي.
ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس في هذه السنة سار يوسف بن تاشفين أمير المسلمين من مراكش إلى سبتة وأقام بها، وسير العساكر مع شير بن أبي بكر إلى الأندلس، فعبروا البحر وأتوا إلى مدينة مرسية، فملكوها وأخذوها من صاحبها أبي عبد الله بن طاهر، ثم ساروا إلى مدينة شاطبة ودانية فملكوهما، وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج، ثم أخلوها فملكها عسكر أمير المسلمين، وعمرها، وكان يوسف أمير المسلمين، قد ملك غرناطة فيما قبل، على ما تقدم ذكره، ثم سار إلى أشبيلية، فحصروها وبها صاحبها، المعتمد بن عباد، فملكوها وأخذوا المعتمد بن عباد صاحبها، وأرسلوه إلى يوسف بن تاشفين فحبسه حتى مات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولما فرغ شير وعساكر يوسف بن تاشفين من إشبيلية ساروا إلى المرية، وكان بها صاحبها، محمد بن صمادح بن معن، فلما بلغه أخذ إشبيلية، ومسير العسكر إليه، مات غماً وكمداً، ولما مات سار ولده الحاجب بن محمد بن صمادح بأهله وماله عن المرية في البحر، إلى بلاد بني حماد، المتاخمين لإفريقية فأحسنوا إليهم، ثم قصد شير بطليوس فأخذها من صاحبها عمر بن الأفطس، وكان عمر بن الأفطس ممن أعان شير على ابن عباد حتى ملك إشبيلية، ثم رجع ابن الأفطس إلى بطليوس، فسار إليه شير وملكها منه، وأخذ عمر بن الأفطس وولديه الفضل والعباس ابني عمر المذكور فقتلهم صبراً، ولم يترك شير من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها المستعين بالله بن هود يهادي يوسف بن تاشفين ويخدمه، قبل أن يقصد بلاد الأندلس فرعى له ذلك حتى أنه أوصى ابنه علي بن يوسف بن تاشفين عند موته، بترك التعرض إلى بلاد بني هود.
استيلاء الفرنج على صقلية
قد تقدم ذكر فتح صقلية، وتوارد الولاة عليها من جهة ابن الأغلب، ثم من جهة الخلفاء العلويين، فلما كان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة كان الأمير على صقلية أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن الحسين، من جهة العزيز خليفة مصر، فأصاب يوسف المذكور فالج، وبطل جانبه الأيسر، فاستناب ابنه جعفر بن يوسف وبقي جعفر أميراً بصقلية إلى سنة عشر وأربعمائة، فثار به أهل صقلية وحصروه بقصره لسوء سيرته، وكان أبو يوسف حينئذ حياً، مفلوجاً فخرج، إلى أهل صقلية في محفة فبكوا عليه وشكوا ابنه جعفر، وسألوا أن يولي عليهم ابنه أحمد، المعروف بالأكحل، ففعل يوسف ذلك، ثم سير يوسف ابنه جعفر إلى مصر، وسار هو بعده، ومعهما أموال جليلة، وكان ليوسف المذكور من الدواب أربعة عشر ألف حجرة سوى البغال وغيرها، واستمر الأكحل في صقلية، وأحسن السيرة، وبث السرايا في بلاد الكفار، وأطاعه جميع قلاع صقلية وبلادها التي للمسلمين.
ثم حصل بين الأكحل وبين أهل صقلية وحشة، فسار بعض أهل صقلية إلى إفريقية، إلى المعز ابن باديس فأرسل المعز بن باديس إلى صقلية جيشاً مع ابنه عبد الله بن المعز بن باديس في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فحصروا الأكحل في الخالصة وقتل الأكحل في الحصار.
ثم إن أهل صقلية كرهوا عسكر المعز، فقاتلوهم، فانهزم عسكر المعز وابنه عبد الله وقتل منهم ثمانمائة رجل، ورجعوا في المراكب إلى إفريقية وولى أهل صقلية عليهم أخا الأكحل واسمه الصمصام بن يوسف، واضطربت أحوال أهل صقلية عند ذلك واستولى الأراذل، ثم أخرجوا الصمصام وانفرد كل إنسان ببلد، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة المعروف بابن الحواش بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن التمنة بمدينة سيرقوس وقطانية، فوقع بينهم، واستنصر ابن التمنة بالفرنج الذين بمدينة مالطة، واسم ملكهم رجار، وهون عليهم أمر المسلمين، فسار الفرنج وابن التمنة إلى البلاد التي بأيدي المسلمين، في سنة أربع وأربعين وأربعمائة واستولوا على مواضع كثيرة من الجزيرة، وفارق الجزيرة حينئذ خلق كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة إلى المعز بن باديس إلى إفريقية. ثم استولى الفرنج على غالب بلاد صقلية وحصونها، وليس لهم مانع، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت وحصرهما الفرنج، وطال الحصار عليهما حتى أكل أهلهما الميتة، فسلم أهل جرجنت أولاً وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، ثم أذعنوا، وملك رجار جميع الجزيرة في هذه السنة، أعني سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ثم مات رجار قبل سنة تسعين، وتولى بعده ولده وسلك طريقة ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب والجاندارية وغير ذلك، وأسكن في الجزيرة الفرنج مع المسلمين، وأكرم المسلمين ومنع من التعدي عليهم وقربهم.
وصول السلطان ملكشاه إلى بغداد في هذه السنة في رمضان، وصل السلطان ملكشاه إلى بغداد، ووصل إليه أخوه تنش من دمشق، وأقسنقر من حلب، ووصل إليه غيرهما من زعماء الأطراف وعمل الميلاد ببغداد، واحتفل له الناس احتفالاً عظيماً، وأكثر الشعراء من وصف تلك الليلة. وفي هذه السنة أمر ملكشاه بعمل الجامع المعروف بجامع السلطان ببغداد، وعمل قبلته بهرام منجمه، وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ أمراء السلطان الكبار بعمل مساكن لهم ببغداد، بحيث إذا قدموا إلى بغداد ينزلون فيها. فتفرق شملهم بالموت والقتل بعد ذلك عن قريب. وفيها توفي الأمير أرتق ابن أكسك التركماني، جد الملوك أصحاب ماردين، مالكاً للقدس منذ قدم إلى تنش حسبما تقدم ذكره، ولما توفي أرتق استقرت القدس لولديه إيلغازي وسقمان ابني أرتق، إلى أن سار الأفضل أمير الجيوش من مصر، وأخذ القدس منهما فسار إيلغازي وسقمان إلى الشرق، فكان منهما ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة: استيلاء تنش على حمص وغيرها كان السلطان ملكشاه قد أمر أقسنقر بمساعدة أخيه تنش على ملك الشام، وما بأيدي خليفة مصر العلوي، من البلاد، فسار أقسنقر مع تنش، ونزل على حمص، بها صاحبها خلف بن ملاعب، فملك تنش حمص، وأمسك ابن ملاعب وولديه، ثم سار تنش إلى عزقة فملكها ثم سار إلى أفامية فملكها.
مقتل نظام الملك الحسن بن علي بن إسحاق
وسببه أنه حصل بين ملكشاه وبين نظام الملك وحشة، فلما كان عاشر رمضان من هذه السنة، بعد الإفطار، وهم بالقرب من نهاوند، وقد انصرف نظام الملك إلى خيمة حرمه، وثب عليه صبي ديلمي في صورة مستعط، وضرب نظام الملك بسكين فقضى عليه، وأدرك أصحاب نظام الملك ذلك الصبي فقتلوه، وحصل للعسكر بسبب مقتله شوشة، فركب السلطان وسكن العسكر، وكان نظام الملك قد كبر، فإن مولده سنة ثمان وأربعمائة، وكان قتله بتدبير من السلطان ملكشاه، ومات السلطان ملكشاه بعده بخمسة وثلاثين يوماً على ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكان نظام الملك من أبناء الدهاقين بطوس، وماتت أم نظام الملك وهو رضيع فكان يطوف به والده على المرضعات فيرضعنه حسبة، ثم انتشأ نظام الملك وتعلم العربية، وسمع الحديث، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به حتى خدم طغريل بك وصار وزيره، واستمر على وزارته، ولما صار الملك إلى ألب أرسلان كان نظام الملك مع ابنه ملكشاه بن ألب أرسلان، وقام بأمره حتى صارت السلطنة إلى ملكشاه، فبلغ نظام الملك من المنزلة ما لم يبلغه غيره من الوزراء، وقرب العلماء وبنى المدارس في سائر الأمصار، وأسقط المكوس وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان قد فعله عميد الملك الكندري كما تقدم ذكره، وأوصافه كثيرة حسنة رحمه الله تعالى.
وفاة السلطان ملكشاه كان السلطان ونظام الملك قد سارا عن بغداد في العام الماضي إلى أصفهان فعادا من أصفهان في هذه السنة متجهين إلى بغداد، فقتل نظام الملك بالقرب من نهاود، كما ذكر، وأتم السلطان السير ودخل بغداد، في الرابع والعشرين من رمضان هذه السنة، ثم خرج السلطان ملكشاه من بغداد إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً بحمى محرقة، وتوفي ليلة الجمعة نصف شوال، وهو ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، وكان مولده في سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى بلاد اليمن، وحملت له ملوك الروم الجزية ولم يفته مطلب، وكانت أيامه أيام عدل وسكون وأمن، فعمرت البلاد ودرت الأرزاق، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وكان غاوياً بالصيد، وكان يتصدق بعدد كل وحش يصيده بدينار، وصاد مرة صيداً كثيراً تقديره عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار.
ملك الملك محمود بن ملكشاه
وحال أخيه بركيارق بن ملكشاه:لما مات السلطان ملكشاه، أخفت زوجته تركان خاتون موته، وفرقت الأموال في الأمراء، وسارت بهم إلى أصفهان، واستحلفت العسكر لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وخطب له في بغداد وغيرها، وكان تاج الملك هو الذي يدير الأمر بين يدي تركان خاتون، وأما أخوه بركيارق، فإنه هرب من أصفهان لما وصلت تركان خاتون إليها، وانضم إلى بركيارق النظامية لبغضهم تاج الملك، لأنه هو الذي سعى في نظام الملك حتى كان من قتله ما كان، فقوي بركيارق بهم، فأرسلت تركان خاتون عسكراً إلى بركيارق والنظامية، فاقتتلوا بالقرب من بروجرد فانهزم عسكر خاتون وسار بركيارق في أثرهم وحصرهم بأصفهان، وكان تاج الملك في عسكر تركان خاتون، فأخذ أسيراً، وأراد بركيارق الإحسان إلى تاج الملك وأن يوليه الوزارة، فوثبت النظامية عليه فقتلوه، وكان تاج الملك المذكور ذا فضائل جمة، وخرجت هذه السنة والأمر على ذلك.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة فيها خرج من أصفهان الحسن بن نظام الملك إلى بركيارق، وهو محاصر لأصفهان، فأكرمه وولاه وزارته، ولقبه عز الملك. وفيها تحرك تنش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه أقسنقر صاحب حلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية، وبزان صاحب الرها وسار تنش ومعه أقسنقر فافتتح نصيبين عنوة، ثم قصد الموصل، وكنا ذكرنا في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة، مسلم بن قريش صاحب الموصل وحلب وغيرهما، استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم، ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها، فلما قصد تنش في هذه السنة الموصل، خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد، انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبرا، وملك تنش الموصل، واستناب تنش على الموصل علي بن مسلم بن قريش، وأمه ضيفة عمة تنش، وأرسل تنش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها، ثم سار تنش واستولى على ديار بكر، وسار إلى أذربيجان وكان قد استولى بركيارق على كثير منها، فسار بركيارق إلى عمه تنش ليمنعه، فقال أقسنقر: نحن إنما أطعنا تنش لعدم قيام أحد من أولاد السلطان ملكشاه، أما إذا كان بركيارق ابن السلطان قد تملك فلا نكون مع غيره، وخلى أقسنقر تنش ولحق ببركيارق، فضعف تنش لذلك وعاد إلى الشام.
ذكر غير ذلك:في هذه السنة ملك عسكر المستنصر بالله العلوي خليفة مصر مدينة صور.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة في هذه السنة يوم الجمعة رابع عشر المحرم خطب لبركيارق ببغداد.
وفاة المقتدي بأمر الله في هذه السنة توفي الخليفة المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن محمد ذخيرة الدين بن القائم، مات فجأة يوم السبت خامس عشر المحرم، وكان عمر المقتدي ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وخلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله، وكان المقتدي قوي النفس عظيم الهمة.
خلافة المستظهر باللهوهو ثامن عشرينهم، لما توفي المقتدي كان بركيارق قد قدم إلى بغداد، فأخذت البيعة عليه للمستظهر بالله أبي العباس أحمد وبايعه الناس، وكان عمر المستظهر لما بويع بالخلافة ست عشرة سنة وشهرين، قتل أقسنقر والخطبة لتنش ببغداد
لما عاد تنش من أذربيجان إلى الشام، أخذ في جمع العساكر، وكثرت جموعه، وجمع أقسنقر العسكر بحلب، وأمده بركيارق بالأمير كربغا، فاجتمع كربغا مع أقسنقر، والتقوا مع تنش عند نهر سبعين، قريباً من تل سلطان، وبينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا فخامر بعض عسكر أقسنقر وصار مع تنش وانهزم الباقون، وثبت أقسنقر فأخذ أسيراً وأحضر إلى تنش، فقال تنش لأقسنقر: لو ظفرت أبي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك. قال تنمق: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي به فقتل أقسنقر صبراً. وسار تنش إلى حلب فملكها المؤمنين أاسربوازار وقتله، وأسر كربغا وأرسله إلى حمص فسجنه بها، ثم استولى تنش على حران والرها، ثم سار تنش إلى بلاد الجزرية فملكها، ثم ملك ديار بكر خلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها. ثم سار إلى همذان فملكها، وأرسل يطلب الخطبة ببغداد من المستظهر بالله فأجيب إلى ذلك، ولما بلغ بركيارق استيلاء عمه تنش على أذربيجان سار إلى أربل ومنها إلى بلد شرحاب الكردي ابن بدر، إلى أن قرب من عسكر عمه تنش، ولم يكن مع بركيارق غير ألف رجل، وكان مع عمه خمسون ألف رجل، فسارت فرقة من معسكر تنش فكبسوا بركيارق، فهرب إلى أصفهان، وكانت تركان خاتون قد ماتت، على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، فدخل بركيارق أصفهان وبها أخوه محمود، فلما دخل بركيارق أصفهان احتاط عليه جماعة من كبراء عسكر أخيه محمود وأرادوا أن يسملوا بركيارق، فلحق محموداً جدري قوى، فتوقفوا في أمر بركيارق لينظروا ما يكون من محمود، فمات محمود من ذلك في سلخ شوال من هذه السنة، فكان هذا فرحاً بعد شدة لبركبارق، وكان مولد محمود سنة ثمانين وأربعمائة في صفر. ثم إن بركيارق جدر بعد محمود وعوفي فاجتمعت عليه العساكر، وكان منه ومن تنش ما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وفاة أمير الجيوش في هذه السنة في ربيع الأول توفي بمصر أمير الجيوش بدر الجمال، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه، ولما مات قام بما كان إليه من الأمر ابنه الأفضل.
وفاة المستنصر العلوي في هذه السنة في ثامن ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسين علي الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم، وكانت خلافة المستنصر ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب له البساسيري ببغداد، ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً أخرج فيها أمواله وذخائره، حتى لم يبق له غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر غير خاشع، ولما مات ولي خلافة مصر بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله.
ذكر غير ذلك:وفي هذه السنة توفي أمير مكة محمد بن أبي هاشم الحسيني، وقد جاوز سبعين سنة. وتولى بعده الأمير قاسم بن أبي هاشم. وفي هذه السنة في رمضان توفيت تركان خاتون امرأة ملكشاه، التي قدمنا ذكرها، وكانت قد برزت من أصفهان لتتصل بتاج الدولة تنش، فمرضت وعادت إلى أصفهان وماتت، ولم يكن قد بقي معها غير قصبة أصفهان.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة: مقتل صاحب سمرقند في هذه السنة اجتمع قواد عسكر أحمد خان صاحب سمرقند، وقبضوا عليه بسبب زندقته، ولما قبضوه أحضروا الفقهاء والقضاة، وأقاموا خصوماً ادعوا عليه الزنذقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، وأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه وأجلسوا ابن عمه مسعود مكانه، قدرخان، واسمه جبريل بن عمر، المقدم الذكر في سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، وقتل السلطان سنجر جبريل المذكور، وولي مكانه محمد خان بن سليمان بن داود بن إبراهيم بن طفغاج وله نيف وعشرون سنة، واستمر في ولايته إلى سنة خمس عشرة وخمسمائة، ولم يقع لنا خبر أحد منهم بعد المذكور.
مقتل تنش
لما انهزم بركيارق من تنش ودخل أصفهان حسب ما ذكرنا، استولى تنش على بلاد أذربيجان ونهب جرباذقان، ثم سار إلى الري وبركيارق مريض بالجدري، فلما عوفي سار بالعساكر من أصفهان إلى عمه تنش، والتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تنش وثبت هو، فقتل في صفر من هذه السنة، واستقامت السلطنة لبركيارق وإذا أراد الله تعالى أمراً فلا مرد له، وإلا فلو تبع بركيارق لما كبسه عسكر تنش، وهرب إلى أصفهان مائة فارس، أخذوه لأنه بقي على باب أصفهان عدة أيام لا يمكن من الدخول إليها، فلما دخلها أراد الأمراء أن يسملوه، فاتفق أن أخاه محموداً حمّ ثاني يوم وصوله وجدّر فمات، وقام هو مقامه ثم جدر، ولو قصده عمه تنش قبل دخوله أصفهان، أو وقت مرض أخيه، أو وقت مرضه، لملك البلاد، ولله سر في علاه، وإنما كلام الغوى ضرب من الهذيان.
ذكر حال رضوان ودقاق أبي تنش وكان دقاق في الوقعة مع أبيه لما قتل، وأما رضوان فبلغه مقتل أبيه وهو بالقرب من هيت متوجهاً للاستيلاء على العراق، فلما بلغه مقتل أبيه رجع إلى حلب، وبها من جهة والده تنش أبو القاسم حسن بن علي الخوارزمي، ولحق برضوان جماعة من قواد أبيه، ثم لحقه بحلب أخوه دقاق، وكان معه أيضاً أخواه الصغيران أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم حسن الخوارزمي كالضيوف، وهو المستولي على البلد، ثم إن رضوان كبس أبا القاسم الخوارزمي نصف الليل واحتاط عليه وطيب قلبه، وخطب لرضوان بحلب، وكان مع رضوان الأمير باغي سيان بن محمد التركماني صاحب أنطاكية، ثم سار رضوان بمن معه إلى ديار بكر للاستيلاء عليها، وقصد سروج، فسبقه إليها سقمان بن أرتق واستولى على سموج، ومنع رضوان عنها، فسار رضوان إلى الرها واستولى عليها، وأطلق قلعة الرها لباغي سيان التركماني صاحب أنطاكية، ثم وقع الاختلاف في عسكر رضوان بين باغي سيان وجناح الدولة، وكان جناح الدولة مزوجاً بأم رضوان، وهو من أكبر القواد، فعاد رضوان إلى حلب وسار، باغي سيان إلى أنطاكية ومعه أبو القاسم الخوارزمي، ودخل رضوان إلى حلب.
وأما دقاق فكاتبه ساوتكين الخادم، الوالي بقلعة دمشق يستدعيه سراً ليملكه دمشق، فهرب دقاق من حلب سراً وجد السير، فأرسل أخوه رضوان خيلاً خلفه فلم يدركوه، ووصل دقاق إلى دمشق، فسلمها إليه ساوتكين، واستبش به، ووصل إلى دقاق طغتكين ومعه جماعة من خواص تنش، فإن طغتكين كان مع تنش في الوقعة وأسر ثم خلص من الأسر، ووصل إلى دمشق فلقيه دقاق وأكرمه، وكان طغتكين زوج والدة دقاق، واتفق دقاق وطغتكين على ساوتكين الخادم فقتلاه، ثم سار باغي سيان التركماني صاحب أنطاكية إلى دقاق، ووصل إلى دمشق ومعه أبو القاسم حسن الخوارزمي الذي كان مستولياً على حلب، فجعله وزيراً لدقاق.
ذكر غير ذلك من الحوادث:وفي هذه السنة، توفي المعتمد بن عباد، صاحب إشبيلية وغيرها من الأندلس، مسجوناً بأغمات، وأخباره مشهورة، وله أشعار حسنة. قال صاحب القلائد. إن المعتمد بن عباد لما كان مسجوناً بأغمات، دخل عليه من بنيه يوم عيد، من يسلم عليه ويهنيه، وفيهم بناته وعليهن أطمار كأنها كسوف وهن أقمار، وأقدامهن حافية، وآثار نعمتهن عافية، فقال المعتمد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً ... فجاءك العيد في أغمات مأسوراً
ترى بناتك في الأطمار جائعة ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا
يطأن في الطين والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا
لا خدّ إلا تشكى الجدب ظاهره ... وليس إلا مع الأنفاس ممطورا
قد كان دهرك أن تأمره ممتثلاً ... فردك الدهر منهياً ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به ... فإنما بات بالأحلام مغرورا
ولأبي بكر بن اللبانة يرثي المعتمد بن عباد المذكور من قصيدة طويلة وهي:
لكل شيء من الأشياء ميقات ... وللمنا من منايا هن غايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمس ... ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده ... وربما قمرت بالبيدق الشاة
ومنها:
من كان بين الندا والبأس أنصله ... هندية وعطاياه هنيدات
رماه من حيث لم تستره سابغة ... دهر مصيباته نبل مصيبات
لهفي على آل عباد فإنهم ... أهلة ما لها في الأفق هالات
تمسكت بعرى اللذات ذاتهم ... يا بئس ما جنت اللذات والذات
ومنها:
فجعت منها بإخوان ذوي ثقة ... فأتوا وللدهر في الإخوان آفات
واعتضت في آخر الصحراء طائفة ... لغاتهم في جميع الكتب ملغاة
يعني البربر أعني ابن تاشفين وعسكره.
وفيها سار أبو حامد الغزالي إلى الشام وترك التدريس في النظامية لأخيه نيابة عنه، وتزهد ولبس الخشن، وزار القدس وحج، ثم عاد إلى بغداد وسار إلى خراسان.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي، وهو مصنف الجمع بين الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً، ومولده قبل العشرين وأربعمائة، وهو من أهل ميورقة، وكان عالماً بالحديث، سمع بالمغرب ومصر والشام والعراق، وكان نزهاً عفيفاً، وله تاريخ، كراسة واحدة أو كراستان، ختمه بخلافة المقتدي.
وفيها توفي علي بن عبد الغني المقري الضرير الحصري القيرواني، الشاعر المشهور. سافر من القيروان إلى الأندلس، ومدح المعتمد، وغيره، ثم سار إلى طنجة من بر العدوة، فتوفي بها، وله أشعار جيدة منها قصيدته التي منها:
يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده
رقد السمار فأرقه ... أسف للبين يردده
ومنها:
هاروت يعنعن فن السح ... ر إلى عينيك ويسنده
وإذا أغمدت اللحظ قتل ... ت فكيف وأنت تجرده
ما أشرك فيك القلب فل ... في نار الهجر تخلده
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة ذكر ملك كربوغا الموصل كان تنش قد حبس كربوغا بحمص لما قتل أقسنقر، كما قدمنا ذكره في سنة سبع وثمانين وأربعمائة، وبقي كربوغا في الحبس حتى أرسل بركيارق إلى رضوان، صاحب حلب يأمره بإطلاقه فأطلقه وأطلق أخاه الطنطاش، واجتمع على كربوغا البطالون وقصد نصيبين وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه، ثم غدر كربوغا بمحمد وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تنش على ما ذكرناه، فلما ضاق عليه الأمر هرب علي بن مسلم المذكور من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلة، وتسلم كربوغا الموصل بعد حصار تسعة أشهر، ثم إن الطنطاش استطال على أخيه كربرغا، فأمر بقتله، فقتل الطنطاش في ثالث يوم استولى كربوغا على الموصل وأحسن كربرغا السيرة فيها. وفيها استولى عسكر خليفة مصر العلوي على القدس، في شعبان، وأخذوه من إيلغازي وسقمان بن أرتق.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة ذكر مقتل أرسلان أرغون كان للسلطان ملكشاه أخ اسمه أرسلان أرغون بن ألب أرسلان، وكان مع أخيه ملكشاه، فلما مات ملكشاه سار أرسلان أرغون واستولى على خراسان، وكان شديد العقوبة لغلمانه، كثير الإهانة لهم، وكانوا يخافونه عظيماً، فدخل عليه غلام له وليس عنده أحد، فأنكر عليه أرسلان أرغون تأخره عن الخدمة، وأخذ الغلام يعتذر فلم يقبل عذره، فوثب الغلام وقتل أرسلان أرغرن بسكين،، وكان مقتله في المحرم من هذه السنة، ولما قتل أرسلان أرغون سار بركيارق إلى خراسان واستولى عليها، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بتلك البلاد وسلم بركيارق خراسان إلى أخيه السلطان سنجر بن ملكشاه، وجعل وزيره أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي.
ذكر ابتداء دولة بيت خوارزم شاه