كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير
في هذه السنة غزا عبد الكبير بن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب من درب الحدث، فأتاه ميخائيل البطريق، وطاراذ الأرمني البطريق في تسعين ألفاً، فخاف عبد الكبير، ومنع الناس من القتال، ورجع بهم، فأراد المهدي قتله، فشفع فيه فحبسه.
وفيها عزل المهدي محمد بن سليمان عن البصرة، وسائر أعماله، واستعمل صالح بن داود مكانه.
وفيها سار المهدي ليحج، فلما بلغ العقبة ورأى قلة الماء خاف أن الماء لا يحمل الناس، وأخذته أيضاً حمى، فرجع، وسير أخاه صالحاً ليحج بالناس، ولحق الناس عطشٌ شديد حتى كادوا يهلكون، وغضب المهدي على يقطين لأنه صاحب المصانع.
وفيها عزل عبد الله بن سليمان عن اليمن عن سخطة، ووجه من يستقبله، ويفتش متاعه، ويحصي ما معه، واستعمل على اليمن منصور بن يزيد بن منصور، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وكان العمال من تقدم ذكرهم، وعلى الموصل محمد بن الفضل.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي إلى سرقسطة، بعد أن كان قد سير إليها ثعلبة بن عبيد في عسكر كثيف، وكان سليمان بن يقظان، والحسين ابن يحيى قد اجتمعا على خلع طاعة عبد الرحمن، كما ذكرنا، وهما بها، فقاتلهما ثعلبة قتالاً شديداً، وفي بعض الأيام عاد إلى مخيمه، فاغتنم سليمان غرته، فخرج إليه، وقبض عليه، وأخذه، وتفرق عسكره، واستدعى سليمان قارله ملك الإفرنج، ووعده بتسليم البلد وثعلبة إليه، فلما وصل إليه لم يصبحبيده غير ثعلبة، فأخذه وعاد إلى بلاده، وهو يظن أنه يأخذ به عظيم الفداء، فأهمله عبد الرحمن مدة، ثم وضع من طلبه من الفرج، فأطلقوه.
فلما كان هذه السنة سار عبد الرحمن إلى سرقسطة، وفرق أولاده في الجهات ليدفعوا كل مخالف، ثم يجتمعون بسرقسطة، فسبقهم عبد الرحمن إليها، وكان الحسين بن يحيى قد قتل سليمان بن يقظان، وانفرد بسرقسطة، فوافاه عبد الرحمن على أثر ذلك، فضيق على أهلها تضييقاً شديداً.
وأتاه أولاده من النواحي، ومعهم كل من كان خالفهم، وأخبروه عن طاعة غيرهم، فرغب الحسين في الصلح، وأذعن للطاعة، فأجابه عبد الرحمن، وصالحه، وأخذ ابنه سعيداً رهينة، ورجع عنه، وغزا بلاد الفرنج، فدوخها، ونهب وسبى وبلغ قلهرة، وفتح مدينة فكيرة، وهدم قلاع تلك الناحية، وسار إلى بلاد البشكنس، ونزل على حصن مثمين الأقرع، فافتتحه، ثم تقدم إلى ملدوثون بن اطلال، وحصر قلعته، وقصد الناس جبلها، وقاتلوهم فيها، فملكوها عنوةً وخربها ثم رجع إلى قرطبة.
وفيها ثارت قتنة بين بربر بلنسية وبربر شنت برية من الأندلس، وجرى بينهم حروب كثيرة قتل فيها خلق كثيرة من الطائفتين، وكانت وقائعهم مشهورة.
وفيها مات شيبان بن عبد الرحمن أبو معاوية التميمي النحوي البصري؛ وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون؛ وعيسى بن علي بن عبد الله بن عباس عم المنصور، وقيل: مات سنة ثلاث وستين، وكان عمره ثمانياً وسبعين سنة، وقيل ثمانين سنة؛ وسعيد بن عبد العزيز الدمشقي، وسلام بن مسكين النمري الأزدين أبو روح؛ والمبارك بن فضالة بن أبي أمية القرشي، مولى عمر بن الخطاب.
ثم دخلت سنة خمس وستين ومائة
ذكر غزو الروم
في هذه السنة سير المهدي ابنه الرشيد لغزو الروم صائفة، في جمادى الآخرة، في خمسة وتسعين ألفاً وتسعمائة وثلاثة وتسعين رجلاً، ومعه الربيع، فوغل هارون في بلاد الروم، ولقيه عسكر لقيظاً قومس القوامسة، فبارزه يزيد بن مزيد الشيباني فأثخنه يزيد وانهزمت الروم، وغلب يزيد على عسكرهم.وساروا إلى الدمستق، وهو صاحب المسالح، فحمل لهم مائة ألف دينار وثلاثة وتسعين ألفاً وأربعمائة وخمسين ديناراً، ومن الورق أحداً وعشرين ألف ألف درهم وأربعة عشر ألفاً وثمانمائة درهم.
وسار الرشيد حتى بلغ خليج القسطنطينية، وصاحب الروم يومئذٍ عطسة امرأة أليون، وذلك أن ابنها كان صغيراً قد هلك أبوه وهو في حجرها، فجرى الصلح بينها وبين الرشيد على الفدية، وأن تقيم له الأدلاء والأسواق في الطريق، وذلك أنه دخل مدخلاً ضيقاً مخوفاً، فأجابته إلى ذلك، ومقدار الفدية سبعون ألف دينار كل سنة، ورجع عنها.
وكانت الهدنة ثلاث سنين، وكان مقدار ما غنم المسلمون إلى أن اصطلحوا خمسة آلاف رأس سبي وستمائة وثلاثة وأربعين رأساً؛ ومن الدواب الذلل بأدواتها عشرين ألف رأس، وذبح من البقر مائة ألف رأس، وقتل من الروم، في الوقائع، أربعة وخمسون ألفاً، وقتل من الأسارى صبراً ألفان وتسعون أسيراً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل خلف بن عبد الله عن الري، ووليها عيسى مولى جعفر.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن المنصور، وكان العمال من تقدم ذكرهم، غير أن البصرة كان على أحداثها والصلاة بها روح بن حاتم؛ وكان على كور دجلة والبحرين، وعمان وكسكر، والأهواز، وفارس، وكرمان المعلى مولى المهدي، وكان على الموصل أحمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها غدر الحسين بن يحيى بسرقسطة، فنكث مع عبد الرحمن، فسير إليه عبد الرحمن غالب بن ثمامة بن علقمة في جند كثيف، فاقتتلوا، فأسر جماعة من أصحاب الحسين فيهم ابنه يحيى، فسيرهم إلى الأمير عبد الرحمن، فقتلهم، وأقام ثمامة بن علقمة على الحسين يحصره؛ ثم إن الأمير عبد الرحمن سار سنة ست وستين ومائة إلى سرقسطة بنفسه، فحصرها، وضايقها، ونصب عليها المجانيق ستة وثلاثين منجنيقاً، فملكها عنوة، وقتل الحسين أقبح قتلة، ونفى أهل سرقسطة منها ليمين تقدمت منه، ثم ردهم إليها.
وفيها مات يزيد بن منصور بن عبد الله بن يزيد بن شهر بن مثوب، وهو من ولد شهر ذي الجناح الحميري، خال المهدي، وقد كان ولي اليمن والبصرة والحج.
وفيها توفي فتح بن الوشاح الموصلي الزاهد.
ثم دخلت سنة ست وستين ومائةفي هذه السنة أخذ المهدي البيعة لولده هارون الرشيد بولاية العهد، بعد أخيه موسى الهادي، ولقبه الرشيد. وفيها عزل عبيد الله بن الحسن العنبري عن قضاء البصرة، واستقضي خالد بن طليق بن عمران بن حصين، فاستعفى أهل البصرة منه.
ذكر القبض على يعقوب بن داودوفي هذه السنة سخط المهدي على وزيره يعقوب بن داود طهمان؛ وكان أول أمرهم أن داود بن طهمان، وهو أبو يعقوب، كان يكتب لنصر بن سيار، هو وإخوته، فلما كان أيام يحيى بن زيد كان داود يعلمه ما يسمعه من نصر، فلما طلب أبو مسلم الخراساني بدم يحيى بن زيد أتاه داود، لما كان بينه وبين يحيى، فآمنه أبو مسلم في نفسه، وأخذ ماله الذي استفاد أيام نصر.
فلما مات داود خرج أولاده أهل أدب وعلم، ولم يكن لهم عند بني العباس منزلة، فلم يطمعوا في خدمتهم لحال أبيهم من كتابة نصر، وأظهروا مقالة الزيدية، ودنوا من آل الحسين، وطمعوا أن تكون لهم دولة، فكان داود يصحب إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أحياناً، وخرج معه هو وعدة من إخوته، فلما قتل إبراهيم طلبهم المنصور، فأخذ يعقوب وعلياً وحبسهما، فلما توفي المنصور أطلقهما المهدي مع من أطلقه، وكان معهما الحسن بن إبراهيم، فاتصل إلى المهدي بسببه، كما تقدم ذكره، وقيل: اتصل به بالسعاية بآل علي، ولم يزل أمره يرتفع، حتى استوزره.
وكان المهدي يقول: وصف لي يعقوب في منامي، فقيل لي: استوزره، فلما رأيته رأيت الخلقة التي وصفت لي، فاتخذته وزيراً، فلما ولي الوزارة أرسل إلى الزيدية، فجمعهم وولاهم أمور الخلافة في المشرق والمغرب، ولذلك قال بشار بن برد:
بني أميّةً هبّوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقبو بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين النّاي والعود
فحسده موالي المهدي، وسعوا به، وقيل له: إن الشرق والغرب في يد يعقوب وأصحابه، وإنما يكفيه أن يكتب إليهم فيثوروا في يوم واحد فيأخذوا الدنيا لإسحاق بن الفضل.
فملأ ذلك قلب المهدي، ولما بني المهدي عيساباذ أتاه خادم من خدمه فقال له: إن أحمد بن إسماعيل بن علي قال لي: أبنى متنزهاً أنفق عليه خمسين ألف ألف من بيت المال ؟ فحفظها المهدي، ونسي أحمد بن إسماعيل، وظن أن يعقوب قالها، فبينما يعقوب بين يديه إذ لببه فضرب به الأرض، وقال: ألست القائل كيت وكيت ؟ فقال: والله ما قتله ولا سمعته ! قال: وكان السعاة يسعون بيعقوب ليلاً، ويتفرقون وهم يعتقدون أنه يقبضه بكرةً، فإذا أصبح غدا عليه، فإذا نظر إليه تبسم وسأله عن مبيته.
وكان المهدي مستهتراً بالنساء، فيخوض يعقوب معه في ذلك فيفترقان عن رضى؛ ثم إنه كان ليعقوب برذونٌ كان يركبه، فخرج يوماً من عند المهدي وعليه طيلسان يتقعقع من كثرة دقة، والبرذون مع الغلام، وقد نام الغلام، فركب يعقوب، وأراد تسوية الطيلسان، فنفر من قعقعته، فسقط، فدنا من دابته، فرفسه، فانسكر ساقه، فانقطع عن الركوب، فعاده المهدي من الغد، ثم انقطع عنه، فتمكن السعاة منه، فأظهر المهدي السخط عليه، ثم أمر به فسجن في سجن نصر، وأخذ عماله وأصحابه فحبسوا.
وقال يعقوب بن داود: بعث إلي المهدي يوماً، فدخلت عليه وهو في مجلس مفروش بفرش مورد على بستان فيه شجر، ورؤوس الشجر مع صحن المجلس، وقد اكتسى ذلك الشجر بالأزهار من الخوخ والتفاح، فما رأيت شيئاً أحسن منه، وعنده جارية عليها نحو ذلك الفرش ما رأيت أحسن منها، فقال لي: يا يعقوب ! كيف ترى مجلسنا هذا ؟ قلت: على غاية الحسن، فمتع الله أمير المؤمنين به؛ قال: هو لك بما فيه وهذه الجارية ليتم سرورك به؛ قال: فدعوت له، ثم قال لي: يا يعقوب، ولي إليك حاجة أحب أن تضمن لي قضاءها؛ قلت: الأمر لأمير المؤمنين، وعلي السمع والطاعة؛ فاستحلفني بالله وبرأسه، فحلفت لأعملن بما قال، فقال: هذا فلان بن فلان من ولد علي بن أبي طالب، وأحب أن تكفيني مؤونته وتريحني منه وتعجل ذلك؛ قلت: أفعل؛ فأخذته وأخذت الجارية وجميع ما في المجلس، وأمر لي بمائة ألف درهم، فلشدة سروري بالجارية صيرتها في مجلس بيني وبينها ستر، وأدخلت العلوي إلي وسألته عن حاله، فأخبرني، وإذا هو أعقل الناس وأحسنهم إبانةً عن نفسه؛ ثم قال: ويحك يا يعقوب، تلقى الله بدمي، وأنا رجل من ولد فاطمة بنت محمد، صلى الله عليه وسلم ! قتل: لا والله، فهل فيك أنت خيرٌ ؟ قال: إن فعلت خيراً شكرت، ولك عندي دعاء واستغفار.
فقلت: أي الطرق أحب إليك ؟ قال: كذا وكذا، فأرسلت إلى من يثق إليه العلوي، فأخذه وأعطيته مالاً، وأرسلت الجارية إلى المهدي تعلمه الحال، فأرسل إلى الطريق، فأخذ العلوي وصاحبه والمال.
فلما كان الغد استحضرني المهدي وسألني عن العلوي، فأخبرته أني قتلته، فاستحلفني بالله وبرأسه، فحلفت له، فقال: يا غلام أخرج إلينا ما في هذا البيت، فأخرج العلوي وصاحبه والمال، فبقيت متحيراً، وامتنع مني الكلام فما أدري ما أقول، فقال المهدي: قد حل لي دمك، ولكن احبسوه في المطبق ولا أذكر به.
فحبست في المطبق، واتخذ لي فيه بئر، فدليت فيها، فبقيت مدة لا أعرف عددها، وأصبت ببصري.
قال: فإني لكذلك إذ دعي بي، وقيل لي: سلم على أمير المؤمنين ! فسلمت؛ قال: أي أمير المؤمنين أنا ؟ قلت: المهدي، قال رحم الله المهدي. قلت: فالهادي، قال: رحم الله الهادي. قلت: فالرشيد، قال: نعم ! سل حاجتك. قلت: المقام بمكة، فما بقي في مستمتعٌ لشيء ولا بلاغ، فأذن لي، فسرت إلى مكة، قال: فلم تطل أيامه بها حتى مات.
وكان يعقوب قد ضجر بموضعه قبل حبسه، وكان أصحاب المهدي يشربون عنده، فكان يعقوب ينهاه عن ذلك، ويعظه، ويقول: ليس على هذا استوزرتني، ولا عليه صحبتك، أبعد الصلوات الخمس في المسجد الجامع يشرب عندك النبيذ ؟ فضيق على المهدي حتى قيل:
فدع عنك يعقوب بن داود جانباً ... وأقبل على صهباء طيّبة النّشر
وقال يعقوب يوماً للمهدي في أمر أراده: هذا، والله، السرف ! فقال المهدي: ويحك يا يعقوب، إنما يحسن السرف بأهل الشرف، ولولا السرف لم يعرف المكثرون من المقلين.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة سار المهدي إلى جرجان، وجعل على قضائه أبا يوسف يعقوب بن إبراهيم وفيها أمر المهدي بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، ببغال وإبل، ولم يكن هنالك بريد قبل ذلك.
وفيها اضطربت خراسان على المسيب بن زهير، فولاها الفضل بن سليمان الطوسي أبا العباس، وأضاف إليه سجستان، فاستخلف على سجستان تميم بن سعيد بن دعلج.
وفيها أخذ المهدي داود بن روح بن حاتم، وإسماعيل بن مجالد، ومحمد بن أبي أيوب المكي، ومحمد بن طيفور، في الزندقة، فاستتابهم، وخلى سبيلهم، وبعث داود إلى أبيه، وهو على البصرة، وأمره بتأديبه.
وفيها استعمل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله على المدينة، وكان على مكة والطائف عبيد الله بن قثم.
وفيها عزل منصور بن يزيد بن منصور عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان الربعي.
وفيها أطلق المهدي عبد الصمد بن علي من حبسه؛ وحج بالناس إبراهيم بن يحيى، وكان على الكوفة هاشم بن سعيد، وعلى البصرة روح بن حاتم؛ وعلى قضائها خالد بن طليق؛ وعلى كور دجلة، وكسكر، وأعمال البصرة والبحرين، والأهواز، وفارس، وكرمان، المعلى مولى المهدي؛ وعلى مصر إبراهيم بن صالح؛ وعلى إفريقية يزيد بن حاتم؛ وعلى طبرستان، والرويان، وجرجان يحيى الحرشي؛ وعلى دنباوند وقومس فراشة مولى المهدي؛ وعلى الري سعد مولاه؛ وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي، وقيل موسى بن كعب الخثعمي؛ وعلى قضائها علي بن مسهر بن عمير، ولم يكن في هذه السنة صائفة، للهدنة التي كانت فيها.
وفيها قتل بشار بن برد الشاعر الأعمى على الزندقة، وكان خلق ممسوح العينين.
وفيها توفي الجراح بن مليح الرؤاسي، وهو والد وكيع.
وفيها توفي المبارك بن فضالة، وحماد بن سلمة البصري.
وفيها قتل عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ابن أخيه المغيرة بن الوليد بن معاوية بن هشام، وهذيل بن الصميل، وسمرة بن جبلة، لأنهم اجتمعوا على خلعه مع العلاء بن حميد القشيري، فتقرب بهم.
ثم دخلت سنة سبع وستين ومائةفي هذه السنة سار موسى الهادي إلى جرجان في جمع كثير وجهاز لم يتجهز أحد بمثله لمحاربة ونداد هرمز، وشروين، صاحبي طبرستان، وجعل المهدي على رسائل موسى أبان بن صدقة، ومحمد بن جميل على جنده، ونفيعاً مولى المنصور على حجابته، وعلي بن عيسى بن ماهان على حرسه، فسير الهادي الجنود إليهما، وأمر عليهم يزيد بن مزيد، فحاصرهما.
وفيها توفي عيسى بن موسى بالكوفة، فأشهد روح بن حاتم على وفاته القاضي وجماعة من الوجوه، ودفن، وكان عمره خمساً وستين سنة، ومدة ولايته العهد ثلاثاً وعشرين سنة، وقد تقدم ذكر ولايته العهد وعزله عنه.
وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة، فأخذ يزيد بن الفيض، فأقر، فحبس، فهرب، فلم يقدر عليه. وكان المتولي لأمر الزنادقة الكلوذاني.
وفيها عزل المهدي أبا عبيد الله معاوية بن عبيد الله عن ديوان الرسائل وولاه الربيع.
وفيها كان الوباء ببغداد والبصرة، وفشا في الناس سعال شديد.
وفيها توفي أبان بن صدقة، كاتب الهادي، فوجه المهدي مكانه أبا خالد الأحول.
وفيها أمر المهدي بالزيادة في المسجد الحرام، ومسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، فدخلت فيه دور كثيرة، وكان المتولي لبنائه يقطين بن موسى، فبقي البناء فيه إلى أن توفي المهدي، وكذلك أمر بالزيادة في المسجد الجامع بالموصل، ورأيت لوحاً فيه ذكر ذلك، وهو في حائط الجامع، سنة ثلاث وستمائة وهو باقٍ.
وفيها عزل يحيى الحرشي عن طبرستان والرويان، وما كان إليه، ووليه عمر بن العلاء، وولي جرجان فراشة مولى المهدي.
وفيها أظلمت الدنيا لثلاث مضين من ذي الحجة، حتى تعالى النهار، ولم يكن صائفة، للهدنة، وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهو على المدينة، ثم توفي بعد فراغه من الحج بأيام، وتولى مكانه إسحاق بن عيسى بن علي.
وفيها طعن عقبة بن سلم الهنائي، اغتاله رجل بخنجر، فمات ببغداد.
وكان على اليمن سليمان بن يزيد الحارثي، وعلى اليمامة عبد الله بن مصعب الزبيري؛ وكان على البصرة محمد بن سليمان، وعلى قضائها عمر بن عثمان التيمي؛ وعلى الموصل أحمد بن إسماعيل الهاشمي، وقيل موسى بن كعب، وباقي الأمصار كما تقدم.
وفي هذه السنة توفي جعفر الأحمر أبو شيبة؛ والحسن بن صالح بن حبي وكان شيعياً عابداً؛ وسعيد بن عبد الله بن عامر التنوخي؛ وحماد ابن سلمة؛ وعبد العزيز بن مسلم.
وفيها أفسد العرب في بادية البصرة بين اليمامة والبحرين، وقطعوا الطريق، وانتهكوا المحارم، وتركوا الصلاة، فأرسل المهدي إليهم جيشاً، فقاتلهم، واشتد القتال، وصبر العرب، فظفروا، وقتلوا عامة العسكر المنفذ إليهم، فقويت شوكتهم وزاد شرهم.
ثم دخلت سنة ثمان وستين ومائةفي هذه السنة، في رمضان، نقض الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، وكان من أوله إلى أن نقضوه اثنان وثلاثون شهراً، فوجه علي بن سليمان، وهو على الجزيرة وقنسرين، يزيد بن البدر بن البطال في خيل، فغنموا وظفروا.
ذكر الخوارج بالموصل
وفيها خرج بأرض الموصل خارجي اسمه ياسين من بني تميم، فخرج إليه عسكر الموصل، فهزمهم، وغلب على أكثر ديار ربيعة والجزيرة، وكان يميل إلى مقالة صالح بن مسرح الخارجي، فوجه إليه المهدي أبا هريرة محمد بن فروخ القائد وهرثمة بن أعين مولى بني ضبة، فحارباه، فصبر لهما، حتى قتل وعدة من أصحابه، وانهزم الباقون.
ذكر مخالفة أبي الأسود بالأندلسفي هذه السنة ثار أبو الأسود محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الفهري بالأندلس، وكان من حديثه: أنه كان في سجن عبد الرحمن بقرطبة من حين هرب أبوه، وقتل أخوه عبد الرحمن، على ما تقدم، وحبس أبو الأسود، وتعامى في الحبس، فصار يحاكي العميان، ولا يطرف عينه لشيء، وبقي دهراً طويلاً، حتى صح عند الأمير عبد الرحمن الأموي ذلك.
وكان في أقصى السجن سرداب يفضي إلى النهر الأعظم يخرج منه المسجونون، فيقضون حوائجهم من غسل وغيره، وكان الموكلون يهملون أبا الأسود لعماه، فإذا رجع من النهر يقول: من يدل الأعمى على موضعه ؟ وكان مولى له يحادثه على شاطئ النهر، ولا ينكر عليه، فواعده أن يأتيه بخيل يحمله عليها، فخرج يوماً ومولاه ينتظره، فعبر النهر سباحة، وركب الخيل، ولحق بطليطلة، فاجتمع له خلق كثير، فرجع بهم إلى قتال عبد الرحمن الأموي، فالتقيا على الوادي الأحمر بقسطلونة، واشتد القتال، ثم انهزم أبو الأسود، وقتل من أصحابه أربعة آلاف سوى من تردى في النهر، واتبعه الأموي يقتل من لحق، حتى جاوز قلعة الرباح، ثم جمع، وعاد إلى قتال الأموي، في سنة تسع وستين، فلما أحس بمقدمة الأموي انهزم أصحابه، وهو معهم، فأخذ عياله، وقتل أكثر رجاله، وبقي إلى سنة سبعين، فهلك بقرية من أعمال طليطلة.
وقام بعده أخوه قاسم، وجمع جمعاً، فغزاه الأمير، فجاء إليه بغير أمان فقتله.
ذكر عدة حوادثوفيها هلك شيلون ملك جليقية، فولوا مكانه اذفونش، فوثب عليه مورقاط، فقتله، فاختل أمرهم، فدخل عليهم نائب عبد الرحمن بطليطلة في عساكره، فقتل، وغنم، وسبى ثم عاد سالماً.
وفيها توفي أبو القاسم بن واسول مقدم الخوارج الصفرية بسجلماسة فجاءةً في صلاة العشاء الآخرة، وكان إمارته اثنتي عشرة سنة وشهراً، وولي بعده ابنه إلياس.
وفيها سير المهدي سعيداً الحرشي في أربعين ألفاً إلى طبرستان.
وفيها مات عمر الكلوذاني، صاحب الزنادقة، وولي مكانه محمد بن عيسى بن حمدوية، فقتل من الزنادقة خلقاً كثيراً.
وحج بالناس علي بن المهدي الذي يقال له ابن ريطة.
وفيها توفي يحيى بن سلمة بن كهيل، وعبيد الله بن الحسن العنبري، قاضي البصرة، ومندل بن علي، ومحمد بن عبد الله بن علاثة بن علقمة القاضي، والحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قد استعمله المنصور على المدينة خمس سنين، ثم عزله، وحبسه ببغداد، وأخذ ماله. فلما ولي المهدي أخرجه ورد عليه ماله، وكان جواداً إلا أنه كان منحرفاً عن أهل بيته، مائلاً إلى المنصور.
وفيها توفي بشر بن الربيع، وعبثر بن القاسم، عبثر بفتح العين المهملة، وبالباء الموحدة، والثاء المثلثة.
المجلد الرابع
حوادث سنة تسع وستين ومائة
ذكر موت المهدي
في هذه السنة مات المهدي أبوعبد الله محمد بن عبد الله المنصور بماسبذان، وسبب خروجه إليها أنه قد عزم على خلع ابنه موسى الهادي والبيعة للرشيد بولاية العهد وتقديمه على الهادي، فبعث إليه، وهوبجرجان، في المعنى، فلم يفعل. فبعث إليه في القدوم عليه، فضرب الرسول، وامتنع من القدوم عليه، فسار المهدي يريده، فلما بلغ ماسبذان أكل طعامأن ثم قال إني داخل إلى البهو أنام، فلا توقظوني، حتى أكون أنا الذي أنتبه، فدخله، فنام ونام أصحابه، فاستيقظوا ببكائه، فأتوه مسرعين، فقال: وقف على الباب رجل فقال:كأني بهذا القصر قد باد أهله ... وأوحش منه ربعه ومنازله
وصار عميد القوم من بعد بهجة ... وملك إلى قبر علية جناد له
فلم يبق إلا ذكره وحديثه ... تنادي عليه معولات حلائله
فبقي بعد ذلك عشرة أيام ومات.
وقد اختلف في سبب موته فقيل إنه كان يتصيد، فطردت الكلاب ظبيأن وتبعته، فدخل باب خربة، ودخلت الكلاب خلفه، ثم تبعها فرس المهدي، فدخلها فدق الباب ظهره، فمات من ساعته.
وقيل: بل بعثت جارية من جواريه إلى ضرة لها بإناء فيه سم، فدعا به المهدي فأكل منه، فخافت الجارية أن تقول إنه مسموم، فمات من ساعته.
وقيل: بل عمدت حسنة جارية له إلى كمثرى فأهدته إلى جارية أخرى كان المهدي يتخطاهأن وسمت منه كمثراة هي أحسن الكمثرى، فاجتاز بالمهدي، فدعا به وكان يحب الكمثرى، فأخذ تلك الكمثرى المسمومة، فأكلهأن فلما وصلت إلى جوفه صاح: جوفي جوفي! فسمعت صوته، فجاءت تلطم وجهها وتبكي وتقول: أردت أن أنفرد بك، فقتلتك! فمات من يومه، ورجعت حسنة وعلى قبتها المسوح، فقال أبوالعتاهية في ذلك:
رحن في الوشي وأقبل ... ن عليهن المسوح
كل نطاح من الدن ... يات له يوم نطوح
لست بالباقي ولوعم ... رت ما عمر نوح
فعلى نفسك نح إن ... كنت لا بد تنوح
وكان موته في المحرم لثمان بقين منه، وكانت خلافته عشر سنين وشهراً؛ وقيل عشر سنين وأربعين يومأن وتوفي وهوابن ثلاث وأربعين سنة، ودفن تحت جوزة كان يجلس تحتهأن وصلى عليه ابنه الرشيد؛ وكان أبيض طويلأن وقيل أسمر بإحدى عينيه نكتة بياض.
ذكر بعض سيرتهكان المهدي، إذا جلس للمظالم، قال: أدخلوا علي القضاة، فلولم يكن ردي المظالم إلا للحياء منهم لكفى.
وسعتب المهدي على بعض القواد غير مرة وقال له في آخر ذلك: إلى متى تذنب؟ قال: إلى إبد نسيء ويبقيك الله، فتعفوعنا. فاستحيا منه ورضي عنه.
وقال مسور بن مساور: ظلمني وكيل المهدي، وغصبني ضيعة لي، فكتب إلى المهدي أتظلم، فوصلت الرقعة وعنده عمه العباس، ومحمد بن علاثة، وعافية القاضي، فاستدناني المهدي، وسألني عن حالي، فذكرته، فقال: أترضى بأحد هذين؟ قلت: نعم! فاستدناني حتى التزقت بالفراش، وحاكمني، فقال له القاضي: أطلقها له يا أمير المؤمنين! قال: قد فعلت؛ فقال عمه العباس: والله لهذا المجلس أحب إلي من عشرين ألف ألف درهم. وخرج المهدي متنزهأن ومعه عمر بن ربيع مولاه، فانقطعا في الصيد من العسكر، وأصاب المهدي جوع، فقال: هل من شيء؟ فقيل له: نرى كوخأن فقصدوه، فإذا فيه نبطي، وعنده مبقلة، فسلموا عليه، فرد السلام، فقالوا: هل من طعام؟ فقال: عندي ربيثاء، وهونوع من الصحناة، وعندي خبز شعير. فقال المهدي: إن كان عندك زيت، فقد أكملت. قال: نعم،وكراث؛ فأتاهما بذلك، فأكلا حتى شبعا. فقال المهدي لعمر بن ربيع: قل في هذا شعراً؛ فقال:
إن من يطعم الربيثاء بالزي ... ت وخبز الشعير بالكراث
لحقيق بصفعة أوبثنيتي ... ن لسوء الصنيع أوبثلاث
فقال المهدي: بئس ما قلت! إمنا هو:
لحقيق ببدرة أوبثنيتي ... ن لحسن الصنيع أوبثلاث
قال: ووافهم العسكر، والخزائن، والخدم، فأمر للنبطي بثلاث بدر وسأنصرف.
وقال الحسن الوصيف: أصابتنا ريح شديدة أيام المهدي ، حتى ظننا أنها أسوقنا إلى المحشر، فخرجت أطلب المهدي، فوجدته واضعاً خده على الأرض وهويقول: اللهم احفظ محمداً في أمته! اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم! اللهم إن كنت أخذت هذا العالم بذنبي، فهذه ناصيتي بين يديك. قال: فما لبثنا إلا يسيراً حتى انكشفت الريح وزال عنا ما كنا فيه.
ولما حضرت القاسم بن مجاشع التميمي الروزي الوفاة أوصى إلى المهدي، فكتب: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم) آل عمران: 18 الآية؛ ثم كتب: والقاسم يشهد بذلك، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله، وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده. فعرضت الوصية على المهدي بعد موته، فلما بلغ إلى هذا الموضع رمي بهأن ولم ينظر فيها.
وقال الربيع: رأيت المهدي يصلي في بهوله في ليلة مقمرة، فما أدري أهو احسن أم البهو أم القمر أم ثيابه، فقرأ: (فهل عسيتهم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) محمد 22.
قال: فتمم صلاته، ثم التفت وقال: يا ربيع! قلت لبيك! قال: علي بموسى؛ فقلت في نفسي: من موسى؟ ابنه أم موسى بن جعفر، وكان محبوساً عندي؟ فجعلت أفكر، فقلت: ما هوإلا موسى ابن جعفر، فأحضرته، فقطع صلاته، ثم قال: يا موسى! إني قرأت هذه الآية، فخفت أن أكون قد قطعت رحمك، فوثق لي أنك لا تخرج علي. قال: نعم، فوثق له فخلاه.
وقال محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: رأيت فيما يرى النائم، في آخر سلطان بني أمية، كأني دخلت مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفعت رأسي، فنظرت في الكتاب الذي في المسجد بالفسيفساء، فإذا فيه: مما أمر به أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وإذ قائل يقول: يمحوهذا الكتاب ويكتب مكانه اسمه رجل من بني هاشم يقال له محمد. قلت: فأنا من بني هاشم، واسمي محمد، فابن من؟ قال: ابن عبد الله. قال: قلت: فأنا ابن عبد اله، فابن من؟ قال: ابن محمد، قلت: فأنا ابن محمد، فابن من؟ قال: ابن علي. قلت: فأنا ابن علي، فابن من؟ قال: ابن عبد الله. قلت: فأنا ابن عبد الله، فابن من؟ قال: ابن عباس، فلولم يبلغ العباس ما شككت أني صاحب الأمر.
قال: فتحدثت بها ذلك الزمان، ونحن لا نعرف المهدي، حتى ولي المهدي، فدخل مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرفع رأسه، فرأى اسم الوليد، فقال: أرى اسم الوليد إلى اليوم؛ فدعا بكرسي، فألقي في صحن المسجد، وقال: ما أنا ببارح حتى يمحى ويكتب اسمي مكانه؛ ففعل ذلك، وهوجالس.
وخرج المهدي يطوف بالبيت ليلأن فسمع أعرابية تقول: قومي مقترون، نبت عنهم العيون، وفدحتهم الديون، وعضتهم السنون؛ بادت رجالهم، وذهبت أموالهم، وكثرت عيالهم؛ أبناء سبيل وأنضاء طريق؛ وصية الله، ووصية الرسول، فهل من آمر لي بخير، كلأه الله في سفره، وخلفه في أهله! قال: فأمر لها بخمسمائة درهم.
وقال المهدي: ما توسل أحد إلي بوسيلة هي أقرب من تذكيري يداً سلفت مني إليه أتبعها أختهأن وأحسن ربهأن فإن منع الأواخر يقطع شكر الأوائل.
وكان بشار بن برد قد هجا صالح بن داود، أخا يعقوب، حين ولي البصرة فقال:
هم حملوا فوق المنابر صالحاً ... خاك فضجت من أخيك المنابر
فبلغ يعقوب هجاؤه، فدخل على المهدي فقال له: إن هذا الأعمى المشرك قد هجا أمير المؤمنين. قال: وما قال؟ قال: يعفيني أمير المؤمنين من إنشاده. فأبى أن يعفيه. فأنشده:
خليفة يزني بعماته ... يلعب بالدبوق والصولجان
أبدلنا الله به غيرة ... ودس موسى في حر الخيزران
فوجه في حمله، فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفوعنه، فوجه إليه من يلقيه في البطيحة في الحمارة.
وماتت الياقوتة بنت المهدي، وكان معجباً بها لا يطيق الصبر عنهأن حتى إنه كان يلبسها لبسة الغلمان، ويركبها معه، فلما ماتت وجد عليهأن وأمر أن لا يحجب عنه أحد، فدخل الناس يعزونه وأجمعوا على أنهم لم يسمعوا تعزية أبلغ ولا أوجر من تعزية شبيب بن سيبة، فإنه قال: يا أمير المؤمنين! ما عند الله خير منك، وثواب الله خير لك منهأن وأنا أسأل الله أن لا يحزنك، ولا يفتنك، وأن يعطيك على ما رزئت أجرأن ويعقبك صبرأن ولا يجهد لك بلاء، ولا ينزع منك نعمة، وأحق ما صبر عليه مالا سبيل إلى ردة.
ذكر خلافة الهاديوبويع لابنه موسى الهادي في اليوم الذي مات فيه المهدي، وهومقيم بجرجان، يحارب أهل طبرستان؛ ولما توفي المهدي كان الرشيد معه بماسبذان، فأتاه الموالي والقواد، وقالوا له: إن علم الجند بوفاة المهدي لم تأمن الشغب، والرأي أن تنادي فيهم بالرجوع، حتى تواريه ببغداد.
فقال هارون: ادعوا إلي أبي يحيى بن خالد، وكان يحيى يتولى ما كان إلى الرشيد من أعمال المغرب، من الأنبار إلى إفريقية، فاستدعي يحيى إلى الرشيد، فقال: ما تقول فيما رأى هؤلاء؟ وأخيره الخبر. قال: لا أرى ذلك، لأن هذا لا يخفي، ولا آمن، إذا علم الجند، أن يتعلقوا بمحمله، ويقولوا: لا نخلي حتى نعطى لثلاث سنين وأكثر، ويتحكموا ويشتطوأن ولكني أرى أن يوارى، رحمه الله، هاهنأن وتوجه نصيراً إلى أمير المؤمنين الهادي الخاتم والقضيب، والتعزية، والتهنئة، فإن الناس لا ينكرون خروجه، إذ هوعلى بريد الناحية، وأن تأمر لمن تبعك من الجند بجوائز مائتين مائتين، وتنادي فيهم بالرجوع فلا تكون لهم همة سوى أهلهم.
ففعل ذلك، فلما قبض الجند الدراهم تنادوا: بغداد بغداد! وأسرعوا إليهأن فلما بلغوها وعلموا خبر المهدي أتوا باب الربيع، وأحرقوه، وأخرجوا من كان في الحبوس، وطالبوا بالأرزاق.
فلما قدم الرشيد بغداد أرسلت الخيزران إلى الربيع وإلى يحيى بن خالد تستدعيهما لتشاورهما في ذلك، فأما الربيع فدخل عليها؛ وأما يحيى فامتنع لما يعلم من غيرة الهادي؛ وجمع الأموال حتى أعطى الجند لسنتين فسكتوا.
وكتب الهادي إلى الربيع كتاباً يتهدده بالقتل؛ وكتب إلى يحيى يشكره، ويأمره بأن يقوم بأمر الرشيد.
وكان الربيع يود يحيى ويثق به. فاستشاره فيما يفعل خوفاً من الهادي، فأشار عليه بأن يرسل ولده الفضل إلى طريق الهادي بالهدايا والتحف، ويعتذر إليه، ففعل، ورضي الهادي عنه.
وكان الربيع قد أوصى إلى يحيى بن خالد، وأخذت البيعة للهادي ببغداد، وكتب الرشيد إلى الآفاق بوفاة المهدي، واخذ البيعة للهادي، وسار نصير الوصيف إلى الهادي بجرجان، فعلم بوفاة المهدي والبيعة له، فنادى الرحيل وركل على البريد مجدأن فبلغ بغداد في عشرين يومأن ولما قدمها استوزر الربيع.
وفي هذه السنة أيضاً هلك الربيع.
وفيها اشتد طلب المهدي للزنادقة، فقتل منهم جماعة علي بن يقطين، وقتل أيضاً يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب؛ وكان سبب قتله أنه أتى به إلى المهدي، فأقر بالزندقة، فقال: لوكان ما تقول حقاً لكنت حقيقاً أن تتعصب لمحمد، ولولا محمد من كنت! أما والله لولا أني جعلت على نفسي أن لا أقتل هاشمياً لقتلتك.
قم قال للهادي: أقسمت عليك إن وليت هذا الأمر لتقتلنه! ثم حبسه، فلما مات المهدي قتله الهادي؛ وكذلك أيضاً كان عهده إليه بقتل ولد لداود بن علي بن عبد الله بن عباس كان زنديقأن فمات في الحبس قبل المهدي.
ولما قتل يعقوب أدخل أولاده على الهادي، فأقرت ابنته فاطمة أنها حبلى من أبيهأن فخوفت، فماتت من الفزع.
ذكر ظهور الحسين بن علي بن الحسنوفي هذه السنة ظهر الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة، وهوالمقتول بفخ عند مكة.
وكان سبب ذلك أن الهادي استعمل على المدينة عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فلما وليها أخذ أبا الزفت الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن، ومسلم بن جندب، الشاعر الهذلي، وعمر بن سلام، مولى آل عمر، على شراب لهم، فأمر بهم، فضربوا جميعأن وجعل في أعناقهم حبال، وطيف بهم في المدينة، فجاء الحسين بن علي إلى العمري وقال له: قد ضربتهم ولم يكن لك أن تضربهم لأن أهل العراق لا يرون به بأسأن فلم تطوف بهم؟ فأمر بهم فردوأن وحبسهم.
ثم إن الحسين بن علي، ويحيى بن عبد الله بن الحسن، كفلا الحسن بن محمد، فأخرجه العمري من الحبس، وكان قد ضمن بعض آل أبي طالب بعضأن وكانوا يعرضون، فغاب الحسن بن محمد عن العرض يومين، فأحضر الحسين بن علي ويحيى بن عبد الله، وسألهما عنه، وأغلظ لهمأن فحلف له يحيى أنه لا ينام حتى يأتيه به، أويدق عليه باب داره، حتى يعلم أنه جاءه به.
فلما خرجا قال له الحسين: سبحان الله! ما دعاك إلى هذا؟ ومن أين تجد حسناً؟ حلفت له بشيء لا تقدر عليه. فقال: والله لا منت حتى أضرب عليه باب داره بالسيف. فقال له الحسين: إن هذا ينقض ما كان بيننا وبين أصحابنا في الميعاد.
وكانوا قد تواعدوا على ألا يظهروا بمنى وبمكة في الوسم، فقال يحيى: قد كان ذلك؛ فانطلقا وعملا في ذلك في ليلتهم، وخرجوا آخر الليل، وجاء يحيى حتى ضرب على العمري باب داره، فلم يجده، وجاؤوا فاقتحموا المسجد وقت الصبح. فلما صلى الحسين الصبح أتاه الناس، فبايعوه على كتاب الله وسنة نبيه للمرتضى من آل محمد؛ وجاء خالد البريدي في مائتين من الجند، وجاء العمري، ووزير بن إسحاق الأزرق، ومحمد بن واقد الشروي، ومعهم ناس كثير، فدنا خالد منهم، فقام إليه يحيى وإدريس ابنا عبد الله بن الحسن، فضربه يحيى على أنفه فقطعه، ودار له إدريس من خلفه، فضربه فصرعه، ثم قتلاه، فانهزم أصحابه ودخل العمري في المسودة، فحمل عليهم أصحاب الحسين، فهزمزهم من المسجد، وانتهبوا بيت المال، وكان فيه بضعة عشر ألف دينار، وقيل سبعون ألفأن وتفرق الناس وأغلق أهل المدينة أبوابهم.
فلما كان الغد اجتمع عليهم شيعة بني العباس فقاتلوهم، وفشت الجراحات في الفريقين، واقتتلوا إلى الظهر، ثم افترقوا؛ ثم إن مباركاً التركي أتى شيعة بني العباس من الغد، وكان قدم حاجأن فقاتل معهم، فاقتتلوا أشد قتال إلى منتصف النهار، ثم تفرقوأن ورجع أصحاب الحسين إلى المسجد، وواعد مبارك الناس الرواح إلى القتال؛ فلما غفلوا عنه ركب رواحله وانطلق، وراح الناس فلم يجدوه، فقاتلوا شيئاً من قتال إلى المغرب، ثم تفرقوا.
وقيل إن مباركاً أرسل إلى الحسين يقول له: والله لأن أسقط من السماء فتخطفني الطير أيسر علي من أن تشوكك شوكة، أوأقطع من رأسك شعرة، ولكن لا بد من الأعذار، فتبيتني، فإلي منهزم عنك. فوجه إليه الحسن، وخرج إليه في نفر، فلما دنوا من عسكره صاحوا وكبروأن فانهزم هو وأصحابه.
وأقام الحسين وأصحابه أياماً يتجهزون، فكان مقامهم بالمدينة أحد عشر يومأن ثم خرجوا لست بقين من ذي القعدة، فلما خرجوا عاد الناس إلى المسجد، فوجدوا فيه العظام التي كانوا يأكلون وآثارهم، فدعوا عليهم.
ولما فارق المدينة قال: يا أهل المدينة! لا خلف الله عليكم بخير. فقالوا: بل أنت لا خلف الله عليك ولا ردك علينا! وكان أصحابه يحدثون في المسجد، فغسله أهل المدينة.
ولما أتى الحسين مكة أمر فنودي: أيما عبد أتانا فهوحر. فأتاه العبيد. فانتهى الخبر إلى الهادي، وكان قد حج تلك السنة رجال من أهل بيته، منهم: سليمان بن المنصور، ومحمد بن سليمان بن علي، والعباس بن محمد بن علي، وموسى وإسماعيل ابنا عيسى بن موسى، فكتب الهادي إلى محمد بن سليمان بتوليته على الحرب، وكان قد سار بجماعة وسلاح من البصرة لخوف الطريق، فاجتمعوا بذي طوى، وكانوا قد احرموا بعمرة، فلما قدموا مكة طاقوا وسعوأن وحلوا من العمرة، وعسكروا بذي طوى، وأنضم إليه من حج من شيعتهم ومواليهم وقوادهم.
ثم إنهم اقتتلوا يوم التروية، فانهزم أصحاب الحسين، وقتل منهم، وجرح، وانصرف محمد بن سليمان ومن معه إلى مكة، ولا يعلمون ما حال الحسين، فلما بلغوا ذا طوى لحقهم رجل من أهل خراسان يقول: البشرى، البشرى، هذا رأس الحسين! فأخرجه، وبجبهته ضربة طولى، وعلى قفاه ضربة أخرى، وكانوا قد نادوا الأمان، فجاء الحسن بن محمد بن عبد الله، أبوالزفت، فوقف خلف محمد بن سليمان، والعباس بن محمد، فأخذه موسى بن عيسى، وعبد الله بن العباس بن محمد، فقتلاه، فغضب محمد بن سليمان غضباً شديدأن وأخذ رؤوس القتلى، فكانت مائة رأس ونيفأن وفيها رأس الحسن بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وأخذت أخت الحسين، فتركت عند زينب بنت سليمان؛ وغضب على موسى بن عيسى كيف قتل الحسن بن محمد، وقبض أمواله، فلم تزل بيده حتى مات؛ وغضب على مبارك التركي، وأخذ ماله، وجعله سائس الدواب، فبقي كذلك حتى مات المهدي.
وأفلت من المنهزمين إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، فأتى مصر وعلى بريدها واضح مولى صالح بن المنصور، وكان شيعياً لعلي، فحمله على البريد إلى أرض المغرب، فوقع بأرض طنجة، بمدينة وليلة، فاستجاب له من بها من البربر. فضرب الهادي عنق واضح وصلبه.
وقيل: إن الرشيد هوالذي قتله. وإن الرشيد دس إلى إدريس الشماخ اليمامي، مولى المهدي، فأتاه وأظهر أنه من شيعتهم. وعظمه، وآثره على نفسه، فمال إليه إدريس، وأنزله عنده، ثم إن إدريس شكا إليه مرضاً في أسنانه، فوصف له دواء، وجعل فيه سمأن وأمره أن يستن به عند طلوع الفجر، فأخذه منه وهرب الشماخ؛ ثم استعمل إدريس الدواء، فمات منه، فولى الرشيد الشماخ بريد مصر.
ولما مات إدريس بن عبد الله خلف مكانه إبنه إدريس وأعقب بهأن وملكوهأن ونازعوا بني أمية في إمارة الأندلس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وحملت الرؤوس إلى الهادي، فلما وضع رأس الحسين بين يدي الهادي قال: كأنكم قد جئتم برأس طاغوت من الطواغيت! إن أقل ما أجزيكم به أن أحرمكم جوائزكم، فلم يعطهم شيئاً.
وكان الحسين شجاعأن كريمأن قدم على المهدي، فأعطاه أربعين ألف دينار، ففرقها في الناس ببغداد والكوفة، وخرج من الكوفة لا يملك ما يلبسه إلا فرواً ليس تحته قميص.
ذكر عدة حوادث
وغزا الصائفة هذه السنة معيوف بن يحيى من درب الراهب، وقد كانت الروم قبل ذلك جاؤوا مع بطريقهم إلى الحدث، فهرب الوالي وأهل السوق، فدخلها الروم، فقصدهم معيوف فبلغ مدينة أشنة، فغمن وسبى.
وحج بالناس هذه السنة سليمان بن منصور؛ وكان على المدينة عمر بن عبد العزيز العمري؛ وعلى مكة والطائف عبيد الله بن قثم؛ وعلى اليمن إبراهيم بن سلم بن قتيبة؛ وعلى اليمامة والبحرين سويد بن أبي سويد القائد الخراساني؛ وعلى عمان الحسن بن نسيم الحواري؛ وعلى الكوفة موسى بن عيسى؛ وعلى البصرة محمد بن سليمان، وعلى جرجان الحجاج مولى الهادي؛ وعلى قومس زياد بن حسان؛ وعلى طبرستان والرويان صالح بن شيخ بن عميرة الأسدي؛ وعلى أصبهان طيفور مولى الهادي؛ وعلى الموصل هاشم ين سعيد بن خالد، فأساء السيرة في أهلهأن فعزله الهادي وولاها عبد الملك بن صالح الهاشمي.
وفيها خرج الجزيرة حمزة بن مالك الخزاعي، وعلى خراجها منصور ين زياد، فسير جيشاً إلى الخارجي، فالتقوا بباعربايأن من بلد الموصل، فهزمهم الخارجي وغمن أموالهم، وقوي أمره، في رجلان، وصحباه، ثم اغتالاه فقتلاه.
وفيها مات مطيع بن إياس الليثي الكناني الشاعر؛ وأبوعبيد الله معاوية بن عبد الله بن بشار الأشعري، مولاهم، وكان وزير المهدي، وقيل مات سنة سبعين ومائة.
وفيها توفي نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المقرئ، صاحب القراءة، أحد القراء السبعة؛ والربيع بن يونس، صاحب المنصور، مولاه.
حوادث سنة سبعين ومائة
ذكر ما جرى للهادي في خلع الرشيد
كان الهادي قد جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر، وكان السبب في ذلك أن الهادي لما عزم على خلعه ذكر لقواده، فأجابه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وعبد الله بن مالك، وعلي بن عيسى وغيرهم، فخلعوا هارون، وبايعوا لجعفر، ووضعوا الشيعة، فتكلموا في ذلك، وتنقصوا بالرشيد في مجلس الجماعة، وقالوا لا نرضى به، وصعب أمرهم، وأمر الهادي أن لا يسار بين يدي هارون بالحربة، فاجتنبه الناس، وتركوا السلام عليه.وكان يحيى بن خالد بن برمك يتولى أمور الرشيد بأمر الهادي، فقيل للهادي: ليس عليك من أخيك خلاف إمنا يحيى يفسده؛ فبعث إليه، وتهدده، ورماه بالكفر، ثم إنه استدعاه ليلة، فخاف، وأوصى، وتحنط، وحضر عنده، فقال له: يا يحيى! مالي وما لك؟ قال: ما يكون من العبد إلى مولاه إلا طاعته. قال: لم تدخل بيني وبين أخي وتفسده علي؟ قال: من أنا حتى أدخل بينكما؟ إمنا صيرني المهدي معه، ثم أمرتني أنت بالقيام بأمره، فانتهيت إلى أمرك. فسكن غضبه.
وقد كان هارون طاب نفساً بالخلع، فمنعه يحيى عنه. فلما أحضره الهادي، وقال له في ذلك، قال يحيى: يا أمير المؤمنين! إنك إن حملت الناس على نكث الأيمان هانت عليهم أيمانهم، وإن تركتهم على بيعة أخيك ثم بايعت لجعفر بعده، كان ذلك أوكد للبيعة. قال: صدقت، وسكت عنه.
فعاد أولئك الذين بايعوه من القواد والشيعة، فحملوه على معاودة الرشيد بالخلع، فاحضر يحيى وحبسه، فكتب إليه: إن عندي نصيحة؛ فأحضره، فقال له: يا أمير المؤمنين! أرأيت إن كان الأمر الذي لا يبلغه، ونسأل الله أن يقدمنا قبله، يعني موت الهادي، أتظن الناس يسلمون الخلافة لجعفر، وهولم يبلغ الحنث، أويرضون به لصلاتهم، وحجهم، وغزوهم؟ قال: ما أظن ذلك! قال: يا أمير المؤمنين! أفنأمن أن يسموإليها أكابر أهلك، مثل فلان، ويطمع فيها غرهم، فتخرج من ولد أبيك؟ والله لوأن هذا الأمر لم يعقده المهدي لأخيك، لقد كان ينبغي أن تعقده أنت له، فكيف بأن تحله عنه وقد عقده المهدي له! ولكني أرى أن تقر الأمر على أخيك، فإذا بلغ جعفر أتيته بالرشيد، فخلع نفسه له وبايعه. فقبل قوله، وقال: نبهتني على أمر لم أنتبه له. وأطلقه.
ثم إن أولئك القواد عاودوا القول فيه، فأرسل الهادي إلى الرشيد في ذلك، وضيق عليه؛ فقال له يحيى: استأذنه في الصيد، فإذا خرجت فأبعد، ودافع الأيام! ففعل ذلك وأذن له، فمضى إلى قصر بني مقاتل، فأقام أربعين يومأن فأنكر الهادي أمره، وخافه، فكتب إليه بالعود، فتعلل عليه، فأظهر الهادي شتمه، وبسط مواليه وقواده فيه ألسنتهم؛ فلما طال الأمر عاد الرشيد، وقد كان الهادي في أول خلافته جلس، وعنده نفر من قواده، وعنده الرشيد، وهوينظر إليه، ثم قال له: يا هارون! كأني بك وأنت تحدث نفسك بتمام الرؤيأن ودون ذلك خرط القتاد.
فقال له هارون: يا موسى إنك إن تجبرت وضعت، وإن تواضعت رفعت، وإن ظلمت قتلت وإن أنصفت سلمت، وإني لأرجوأن يفضي الأمر إلي، فأنصف من ظلمت، وأصل من قطعت، وأجعل أولادك أعلى من أولادي، وأزوجهم بناتي، وأبلغ ما تحب من حق الإمام المهدي.
فقال له الهادي: ذلك الظن بأنك يا أبا جعفر، ادن مني! فدنا منه، وقبل يده، ثم أرد العود إلى مكانه، فقال: لا والشيخ الجليل، والملك النبيل، اعني المنصور، لا جلست إلا معي؛ فأجلسه في صدر مجلسه، ثم أمر أن يحمل إليه ألف ألف دينار، وأن يعمل إليه نصف الخراج، وقال لإبراهيم الحراني: اعرض عليه ما في الخزائن من مالنأن وما أخذ من أهل بيت اللعنة، يعني بني أمية، فيأخذ منه ما أراد، فليأخذ منه ما أراد. ففعل ذلك. فقام عنه.
وسئل الرشيد عن الرؤيأن فقال: قال المهدي: رأيت في منامي كأني دفعت إلى موسى وإلى هارون قضيبأن فأورق من قضيب موسى أعلاه، وأوراق قضيب هارون من أوله إلى آخره، فعبرت لهما أنهما يملكان معأن فأما موسى فقتل أيامه، وأما هارون فيبلغ آخر ما عاش خليفة، وتكون أيامه أحسن أيام، ودهره أحسن دهر؛ فكان كذلك.
وذكر أن الهادي خرج إلى حديثه الموصل، فمرض بهأن واشتد مرضه، وانصرف، وكتب إلى جميع عماله شرقاً وغرباً بالقدوم إليه، فلما ثقل أجمع القواد الذين كانوا بايعوا جعفرأن وتآمروا في قتل يحيى بن خالد، وقالوا: إن صار الأمر إليه قتلنأن وعزموا على ذلك، ثم قالوا: لعل الهادي يفيق، فما عذرنا عنده؟ فأمسكوأن ولما اشتد مرض الهادي أرسلت الخيزران إلى يحيى تأمره بالاستعداد، فأحضر يحيى كتابأن فكتبوا الكتب من الرشيد إلى العمال بوفاة الهادي، وأنه قد ولاهم ما كان ويكون، فلما مات الهادي سيرت الكتب.
وقيل إن يحيى كان محبوساً. وكان الهادي قد عزم على قتله تلك الليلة، وإن هرثمة بن أعين هوالذي أقعد الرشيد، على ما سنذكره.
ولما مات الهادي قالت الخيزران: قد كنا نتحدث أنه يموت في هذه الليلة خليفة، ويملك خليفة، ويولد خليفة، فمات الهادي، وولي الرشيد، وولد المأمون، وكانت الخيزران قد أخذت العلم من الأوزاعي؛ وكان موت الهادي بعيساباذ.
ذكر وفاة الهاديوفي هذه السنة توفي الهادي موسى بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس في شهر ربيع الأول.
واختلف في سبب وفاته، فقيل كان سببها قرحة كانت في جوفه؛ وقيل مرض بحديثه الموصل، وعاد مريضاً فتوفي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وقيل إن وفاته كانت من قبل جوار لأمه الخيزران كانت أمرتهن بقتله، وكان سبب أمرها بذلك أنه لما ولي الخلافة كانت تستبد بالأمور دونه، وتسلك به مسلك المهدي، حتى مضى أربعة أشهر، فانثال الناس إلى بابهأن وكانت المواكب تغدو وتروح إلى بابهأن فكلمته يوماً في أمر لم يجد إلى إجابتها سبيلأن فقالت: لا بد من إجابتي إليه، فإنني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. فغضب الهادي وقال: ويلي على ابن الفاعلة! قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها لك. قالت: إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً؛ قال: لا أبالي والله، وغضبت فقامت مغضبة، فقال: مكانك والله، وإلا أنا نفي من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي لأضربن عنقه، ولأقبضن ماله. ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك؟ أما لك مغزل يشغلك، أومصحف يذكرك، أوبيت يصونك؟ إياك! وإياك! لا تفتحي بابك لمسلم ولا ذمي. فانصرفت وهي لا تعقل، فلم تنطق عنده بعدها.
ثم إنه قال لأصحابه: أيما خير أنا أم أنتم، وأمي أم أمهاتكم؟ قالوا: بل أنت وأمك خير. قال: فأيكم يحب أن يتحدث الرجال بخبر أمه، فيقال: فعلت أم فلان، وصنعت؟
قالوا: لا نحب ذلك. قال: فما بالكم تأتون أمي، فتتحدثون بحديثها؟ فلما سمعوا ذلك انقطعوا عنها.
ثم بعث بأرز، وقال: قد استطبتهأن فكلي منها. فقيل لها: أمسكي حتى تنظري! فجاؤوا بكلب، فأطعموه، فسقط لحمه لوقته، فأرسل إليها: كيف رأيت الأرز؟ قالت: طيباً. قال: ما أكلت منهأن ولوأكلت منها لاسترحت منك، متى أفلح خليفة له أم! وقيل: كان سبب أمرها بذلك أن الهادي لما جد في خلع الرشيد والبيعة لابنه جعفر خافت الخيزران على الرشيد، فوضعت جواريها عليه لما مرض، فقتلنه بالغم والجلوس على وجهه، فمات، فأرسلت إلى يحيى بن خالد تعلمه بموته.
ذكر وفاته ومبلغ سنه
وصفته وأولاده
كانت وفاته ليلة الجمعة للنصف من ربيع الأول، وقيل لأربع عشرة خلت من ربيع الأول؛ وقيل لست عشرة منه؛ وقيل كانت خلافته سنة وثلاثة أشهر؛ وقيل كان أربعة عشر شهراً؛ وكان عمره ستاً وعشرين سنة، وقيل ثلاثاً وعشرين سنة، وصلى عليه الرشيد.وكانت كنيته أبا محمد، وأمه الخيزران، أم ولد، ودفن بعيساباذ الكبرى في بستانه.
وكان طويلأن جسيماً أبيض، مشرباً حمرة، وكانت بشفته العليا نقص وتقلص.
وكان المهدي قد وكل به خادماً يقول له: موسى أطبق، فيضم شفته، فلقب: موسى أطبق.
وكان له من الأولاد تسعة: سبعة ذكور، وابنتان، فمن الذكور جعفر، وهوالذي كان يريد البيعة له، والعباس، وعبد الله، وإسحاق، وإسماعيل، وسليمان، وموسى بن موسى الأعمى، كلهم لأمهات أولاد، والابنتان أم عيسى كانت عند المأمون، وأم العباس وكانت تلقب نونة.
ذكر بعض سيرتهتأخر الهادي عن المظالم ثلاثة أيام، فقال له الحراني: يا أمير المؤمنين! إن العامة لا تحتمل هذا. فقال لعلي بن صالح: إيذن للناس علي بالجفلى لا بالنقري، فخرج من عنده ولم يفهم قوله، ولم يجسر على مراجعته، فأحضر أعرابيأن فسأله عن ذلك، فقال: الجفلى أن تأذن لعامة الناس، فأذن لهم، فدخل الناس عن آخرهم، ونظر في أمورهم إلى الليل، فلما تقوض المجلس له علي بن صالح ما جرى له، وسأله مجازاه الأعرابي، فأمر له بمائة ألف درهم؛ فقال علي: يا أمير المؤمنين! إنه أعرابي، ويغنيه عشرة آلاف. فقال: يا علي أجود أنأن وتبخل أنت! وقيل: خرج يوماً إلى عيادة أمه الخيزران، وكانت مريضة، فقال له عمر بن ربيع: يا أمير المؤمنين! ألا أدلك على ما هوأنفع لك من هذا؟ تنظر في المظالم. فرجع إلى دار المظالم، وأذن للناس، وأرسل إلى أمه يتعرف أخبارها.
وقيل: كان عبد الله بن مالك يتولى شرطة المهدي؛ قال: فكان المهدي يأمرني بضرب ندماء الهادي ومغنيه، وحبسهم صيانة له عنهم، فكنت أفعل، وكان الهادي يرسل إلي بالتخفيف عنهم، ولا أفعل، فلما ولي الهادي أيقنت بالتلف، فاستحضرني يومأن فدخلت إليه متحنطاً متكفناً وهوعلى كرسي، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت، فقال: لا سلم الله عليك! أتذكر يوم بعثت إليك في أمر الحراني وضربه، فلم تجبني، وفي فلا وفلان، فعدد ندماءه؛ فلم تلتفت إلى قولي. قلت: نعم! أفتأذن في ذكر الحجة؟ قال: نعم. قلت: نشدتك الله أيسرك أنك وليتني ما ولاني المهدي وأمرتني بما أمر فبعث إلي بعض بنيك بما يخالف أمرك، فاتبعت أمره وخالفت أمرك؟ قال: لا! قلت: فكذلك أنا لك، وكذا كنت لأبيك.
فاستدناني، فقبلت يده، ثم أمر لي بالخلع، وقال: وليتك ما كنت تتولاه، فامض راشداً! فصرت إلى منزلي مفكراً في أمري وأمره، وقلت: حدث يشرب، والقوم الذين عصيته في أمرهم ندماؤه، ووزراؤه، وكتابه، فكأني بهم حين يغلب عليه الشراب قد أزالوه عن رأيه.
قال: فإني لجالس، وعندي بنية لي، والكانون بين يدي، ورقاق أشطره بكامخ، وأسخنه، وأطعم الصبية، وآكل، وإذا بوقع الحوافر، فظننت أن الدنيا قد زلزلت لوقعهأن ولكثرة الضوضاء، فقلت: هذا ما كنت أخافه.
وإذا الباب قد فتح، وإذا الخدم قد دخلوأن وإذا الهادي في وسطهم على دابته، فلما رأيته وثبت، فقبلت يده ورجله، وحافر دابته، فقال لي: يا أبا عبد الله! إني فكرت في أمرك، فقلت يسبق إلى وهمك أنني، إذا شربت وحولي أعداؤك، أزالوا حسن رأيي فيك، فيقلقك ذلك، فصرت إلى منزلك لأونسك، وأعلمك أن ما كان عندي لك من الحقد قد زال، فهات وأطعمني مما كنت تأكل لتعلم أني قد تحرمت بطعامك، فيزول خوفك.
فأدنيت إليه من ذلك الرقاق والكامخ، فأكل، ثم قال: هاتوا الزلة التي أزللتها لعبد الله من مجلسي، فأدخلت إلي أربعمائة بغل موقرة دراهم وغيرهأن فقال: هذه لك، فاستعن بها على أمرك، واحفظ هذه البغال عندك لعلي أحتاج إليها لبعض أسفاري؛ ثم انصرف.
قيل: وكان يعقوب بن داود يقول: ما لعربي ولا لعجمي عندي ما لعلي بن عيسى بن ماهان، فأنه دخل إلي الحبس، وقال لي: أمرني أمير المؤمنين الهادي أن أضربك مائة سوط.
فأقبل يضع السوط على يدي ومنكبي يمسني به مساً إلى أن عد مائة سوط، ثم خرج، فقال: ، فقال له الهادي: ما صنعت به؟ قال: صنعت الذي أمرتني به، وقد مات الرجل. فقال الهادي: إنا لله وإنا إليه راجعون، فضحتني، والله، عند الناس، يقولون: قتل يعقوب بن داود؛ فلما رأى شدة جزعه قال: هو، والله، حي يا أمير المؤمنين. قال: الحمد لله على ذلك.
وقيل: كان إبراهيم بن سلم بن قتيبة من الهادي بمنزلة عظيمة، فمات له ولد، فأتاه الهادي يعزيه، فقال له: يا إبراهيم! سرك وهو عدو وفتنة، وحزنك وهو صلاة ورحمة. فقال: يا أمير المؤمنين! ما بقي مني جزء فيه حزن، إلا وقد امتلأ عزاء فلما مات إبراهيم صارت منزلته لسعيد بن سلم.
قيل: كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي يلقب الجزري قد تزوج رقية بنت عمروالعثمانية، وكانت قبله تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي، فأرسل إليه، وحمل إليه، وقال له: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين؟ قال: ما حرم الله على خلقه إلا نساء جدي، صلى الله عليه وسلم، فأما غيرهن فلأن ولا كرامة، فشجه بمحضرة كانت في يده، وجلده خمسمائة سوط، وأراده أن يطلقهأن فلم يفعل، وكان قد غشي عليه من الضرب، وكان في يده خاتم نفيس، فأهوى بعض الخدم على الخاتم ليأخذه، فقبض على يده فوقهأن فصاح؛ وأتي الهادي، فأراه يده، فغضب، وقال: تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بأبي وقولك لي ما قلت؟ قال: سله، واستحلفه أن يصدقك؛ ففعل. فأخبره الخادم وصدقه، فقال: أحسن الله، أشهد أنه ابن عمي، ولولم يفعل ذلك لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه.
قيل: وكان المهدي قد قال للهادي يومأن وقد قدم إليه زنديق، فقتله، وأمر بصلبه: يا بني، إذا صار الأمر إليك فتجرد لهذه العصابة، يعني أصحاب ماني، فإنها تدعوالناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيأن والعمل للآخرة، ثم تخرجها من هذا إلى تحريم اللحوم، ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجأن ثم تخرجها إلى عبادة اثنين: أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق، لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب وجرد السيف فيهأن وتقرب بأمرها إلى الله، فإني رأيت جدي العباس، رضي الله عنه، في المنام قلدني سيفين لقتل أصحاب الاثنين.
فلما ولي الهادي قال: لأقتلن هذه الفرقة. وأمر أن يهيأ له ألف جذع. فمات بعد هذا القول بشهرين.
قيل: وكان عيسى بن دأب من أكثر أهل الحجاز أدبأن وأعذبهم ألفاظأن وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد قبله، وكان يدعوله بما يتكئ عليه في مجلسه، وما كان يفعل ذلك بغيره، وكان يقول له: ما استطلت بك يوماً ولا ليلأن ولا غبت عن عيني إلا تمنيت أن لا أرى غيرك؛ وأمر له بثلاثين ألف دينار في دفعة واحدة، فلما أصبح ابن دأب أرسل قهرمانه إلى الحاجب في قبضهأن فقال الحاجب: هذا ليس إلي، فانطلق إلى صاحب التوقيع، وإلى الديوان، فعاد إلى ابن دأب فأخبره، فقال: اتركها.
فبيمنا الهادي في مستشرف له ببغداد رأى دأب وليس معه إلا غلام واحد، فقال للحراني: ألا ترى ابن دأب ما غير حاله، وقد وصلناه ليرى أثرنا عليه؟ فقال: إن أمرتني عرضت له بالحال. فقال: لأن هوأعلم بحاله. ودخل ابن دأب، وأخذ في حديثه، فعرض له الهادي بشيء وقال: أرى ثوبك غسيلأن وهذا شتاء يحتاج فيه إلى الجديد. فقال: باعي قصير! فقال: وكيف، وقد صرفنا إليك ما فيه صلاح شأنك؟ فقال: ما وصل إلي شيء. فدعا صاحب بيت مال الخاصة فقال: عجل الساعة ثلاثين ألف دينار؛ فأحضرت وحملت بين يديه.
ذكر خلافة الرشيد بن المهدي
وفي هذه السنة بويع للرشيد هارون بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بالخلافة في الليلة التي مات فيها الهادي، وكان عمره، حين ولي، اثنتين وعشرين سنة، وأمه الخيزران أم ولد، يمانية، جرشية؛ وكان مولده بالري في آخر ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة؛ وقيل: ولد مستهل محرم سنة تسع وأربعين. وكان مولد الفضل بن يحيى البرمكي قبله بسبعة أيام، وأرضعت أم ابن يحيى الرشيد، وأرضعت الخيزران الفضل بلبان الرشيد.
ولما مات الهادي كان يحيى بن خالد البرمكي محبوسأن في قول بعضهم، وكان الهادي عازماً على قتله، فجاء هرثمة بن أعين إلى الرشيد فأخرجه وأجلسه للخلافة، فأرسل الرشيد إلى يحيى، فأخرجه من الحبس، واستوزره، وأمر بإنشاء الكتب إلى الأطراف بجلوسه للخلافة وموت الهادي.
وقيل: لما مات الهادي جاء يحيى بن خالد إلى الرشيد، وهونائم في فراشه، فقال له: قم يا أمير المؤمنين! فقال: كم تروعني إعجاباً منك بخلافتي، فكيف يكون حالي مع الهادي إن بلغه هذا؟ فأعلمه بموته، وأعطاه خاتمه، فبيمنا هويكلمه إذ أتاه رسول آخر يبشره بمولود، فسماه عبد الله، وهوالمأمون؛ ولبس ثيابه وخرج، فصلى على الهادي بعيساباذ، وقتل أبا عصمة وسار إلى بغداد.
وكان سبب قتل أبي عصمة أن الرشيد كان سائراً هو وجعفر بن الهادي، فبلغا قنطرة من قناطر عيساباذ، فقال له أبوعصمة: مكانك حتى يجوز ولي العهد! فقال الرشيد: السمع والطاعة للأمير! ووقف حتى جاز جعفر، فكان هذا سبب قتله.
ولما وصل الرشيد إلى بغداد، وبلغ الجسر، دعا الغواصين، وقال: كان المهدي قد وهب لي خاتماً شراؤه مائة ألف دينار، يسمى الجبل، فأتاني رسول الهادي يطلب الخاتم وأنا هاهنأن فألقيته في الماء؛ فغاصوا عليه وأخرجوه، فسر به.
ولما مات الهادي هجم خزيمة بن حازم تلك الليلة على جعفر بن الهادي فأخذه من فراشه، وقال له: لتخلعنها أولأضربن عنقك؛ فأجاب إلى الخلع وركب من الغد خزيمة، وأظهر جعفراً للناس فأشهدهم بالخلع، وأحل الناس من بيعتهم، فحظي بها خزيمة.
ذكر عدة حوادثوفيها ولد الأمين، واسمه محمد، في شوال، فكان المأمون أكبر منه. وفيها استوزر الرشيد يحيى بن خالد، وقال له: قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم فيها بما ترى، واعزل من رأيت، واستعمل من رأيت، ودفع إليه خاتمه. فقال إبراهيم الموصلي في ذلك:
ألم تر أن الشمس كانت سقيمة ... فلما ولي هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندي ... فهارون واليها ويحيى وزيرها
وكان يحيى يصدر عن أمر الخيزران أم الرشيد.
وفيها توفي يزيد بن حاتم المهلبي، والي إفريقية، واستخلف عليها ابنه داود، وانتقضت جبال باجة، وخرج فيها الإباضية، فسير إليهم داود جيشأن فظفر بهم الإباضية، وهزمزهم، فجهز إليهم جيشاً آخر، فهزمت الإباضية، فتبعهم الجيش، فقتلوا منهم، فأكثروأن وبقي داود أميراً إلى أن استعمل الرشيد عمهم روح بن حاتم المهلبي أميراً على إفريقية؛ وكانت إمارة داود تسعة أشهر.
وفيها عزل الرشيد عمر بن عبد العزيز العمري عن المدينة، على ساكنها السلام، واستعمل عليها إسحاق بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ظهر من كان مستخفيأن منهم طباطبا العلوي، وهوإبراهيم بن إسماعيل، وعلي بن الحسين بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وبقي نفر من الزنادقة لم يظهروأن منهم: يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض.
وفيها عزل الرشيد الثغور كلها عن الجزيرة وقنسرين، وجعلها حيزاً واحدأن وسميت العواصم، وأمر بعمارة طرسوس على يدي فرج الخادم التركي ونزلها الناس.
وحج بالناس الرشيد، وقسم بالحرمين عطاء كثيراً؛ وقيل إنه غزا الصائفة بنفسه، وغزا الصائفة سليمان بن عبد الله البكائي.
وكان على مكة والطائف عبد الله بن قثم؛ وعلى الكوفة موسى بن عيسى؛ وعلى البصرة والبحرين واليمامة وعمان والأهواز وفارس محمد بن سليمان بن علي؛ وكان على خراسان الفضل بن سليمان الطوسي، وعلى الموصل عبد الملك.
وفيها أوقع عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس ببرابر نفزة، فأذلهم وقتل فيهم.
وفيها أمر عبد الرحمن ببناء جامع قرطبة، وكان موضعه كنيسة، وأخرج عليه مائة ألف دينار.
حوادث سنة إحدى وسبعين ومائة
ذكر وفاة عبد الرحمن الأموي
وفيها مات عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، صاحب الأندلس، في ربيع الآخر، وقيل سنة اثنتين وسبعين ومائة، وهوأصح، وكان مولده بأرض دمشق، وفيها بالعلياء من ناحية تدمر، سنة ثلاث عشرة ومائة، وكان موته بقرطبة، وصلى عليه ابنه عبد الله، وكان عهد إلى ابنه هشام، وكان هشام بمدينة ماردة والياً عليهأن وكان ابنه سليمان بن عبد الرحمن، وهوالأكبر، بطليطلة والياً عليهأن فلم يحضرا موت أبيهمأن وحضره عبد الله المعروف بالبلنسي، وأخذ البيعة لأخيه هشام، وكتب إليه بنعي أبيه وبالإمارة، فسار إلى قرطبة.
وكانت دولة عبد الرحمن ثلاثاً وثلاثين سنة واشهرأن وكانت كنيته أبا المطرف، وقيل: أبا سليمان، وقيل: أبا زيد، وكان له من الولد: أحد عشر ذكرأن وتسع بنات، وكانت أمه بربرية من سبي إفريقية.
وكان أصهب، خفيف العارضين، طويل القامة، نحيف الجسم، أعور، له ضفيرتان، وكان فصيحاً لسنأن شاعرأن حليمأن عالمأن حازمأن سريع النهضة في طلب الخارجين عليه، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ولا ينفرد في الأمور برأيه، شجاعاً مقداماً بعيد الغور، شديد الحذر، سخيأن جوادأن يكثر لبس البياض، وكان يقاس بالمنصور في حزمه وشدته، وضبط المملكة.
وبنى الرصافة بقرطبة تشبهاً بجده هشام حيث بنى الرصافة بالشام، ولما سكنها رأى فيها نخلة منفردة، فقال:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسح ويستمري السماكين بالوبل
وقصده بنوأمية من المشرق، فمن المشهورين: عبد الملك بن عمر بن مروان، وهوقعدد بني أمية، وهوالذي كان سبب قطع الدعوة العباسية بالأندلس، على ما تقدم، وكان معه أحد عشر ولداً له.
ذكر إمارة ابنه هشامكان عبد الرحمن قد عهد إلى ابنه هشام، ولم يكن أكبر ولده، فإن سليمان كان أكبر منه، وإمنا كان يتوسم فيه الشهامة، والاضطلاع بهذا الأمر، فلهذا عهد إليه.
ولما توفي أبوه كان هوبماردة متولياً لهأن وناظراً في أمرهأن وكان أخوه سليمان، وهوأكبر منه، بمدينة طليطلة، وكان يروم الأمر لنفسه، ويحسد أخاه هشاماً على تقديم والده له عليه، وأضمر له الغش والعصيان؛ وكان أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي حاضراً بقرطبة عند والده. فلما توفي جدد عبد الله البيعة لأخيه هشام، بعد أن صلى على والده، وكتب إلى أخيه هشام يعرفه موت والده، والبيعة له، فسار من ساعته إلى قرطبة، فدخلها في ستة أيام، واستولى على الملك، وخرج عبد الله إلى داره، مظهراً لطاعته، وفي نفسه غير هذأن وسنذكر ما كان منه إن شاء الله تعالى.
ذكرالصحصح الخارجيوفيها خرج الصحصح الخارجي بالجزيرة، وكان عليها أبوهريرة، فوجه عسكراً إلى الصحصح، فلقوه، فهزمهم، وسار الصحصح إلى الموصل فلقيه عسكرها بباجرمى، فقتل منهم كثيرأن ورجع إلى الجزيرة، فغلب على ديار ربيعة، فسير الرشيد إليه جيشاً فلقوه بدورين، فقتلوه، وعزل الرشيد أبا هريرة عن الجزيرة.
ذكر قتل روح بن صالحوفيها استعمل الرشيد على صدقات بني تغلب روح بن صالح الهمداني، وهومن قواد الموصل، فجرى بينه وبين تغلب خلاف، فجمع جمعأن وقصدهم، فبلغهم الخبر، فاجتمعوأن وساروا إلى روح، فبيتوه، فقتل هو وجماعة من أصحابه، فسمع حاتم بن صالح، وهوبالسكير، فجمع جمعاً كثيرأن وسار إلى تغلب، فبيتهم، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وأسر مثلهم.
وفيها عزل الرشيد بن الملك بن صالح الهاشمي عن الموصل، واستعمل عليها إسحاق بن محمد.
ذكر استعمال روح بن حاتم على إفريقيةوفيها استعمل الرشيد على إفريقية روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، لما بلغه وفاة أخيه يزيد بن حاتم بهأن على ما ذكرناه، فقدمها في رجب، وكان داود بن يزيد أخيه على إفريقية، فلما وصل عمه روح ساد داود إلى الرشيد، فاستعمله.
قال روح: كنت عاملاً في فلسطين، فأحضرني الرشيد، فوصلت وقد بلغه موت أخي يزيد، فقال: أحسن الله عزاءك في أخيك، وقد وليتك مكانه لتحفظ صنائعه ومواليه.
فسار إليهأن ولم تزل البلاد معه آمنة، ساكنة من فتنة، لأن أخاه يزيد كان قد أكثر القتل في الخوارج بإفريقية فذلوا.
ثم توفي روح بالقيروان، ودفن إلى جانب قبر أخيه يزيد، وكانت وفاته في رمضان سنة أربع وسبعين ومائة؛ ولما استعمل المنصور يزيد بن حاتم على إفريقية، استعمل أخاه روحاً على السند فقيل له: يا أمير المؤمنين لقد باعدت ما بين قبريهما؛ فتوفي يزيد بالقيروان، ثم وليها روح، فتوفي بها ودفن إلى جانب أخيه يزيد.
وكان روح أشهر بالشرق من يزيد، ويزيد أشهر بالغرب من روح لطول مدة ولايته، وكثرة خروجه فيها والخارجين عليه.
ذكر عدة حوادثفيها قدم أبوالعباس الفضل بن سليمان الطوسي من خراسان، واستعمل الرشيد عليها جعفر بن محمد بن الأشعث، فلما قدم خراسان سير ابنه العباس إلى كابل، فقاتل أهلها حتى افتتحهأن ثم افتتح سانهار، وغمن ما كان بها.
وفيها قتل الرشيد أبا هريرة محمد بن فروخ، وكان على الجزيرة، فوجه إليه الرشيد أبا حنيفة حرب بن قيس، فأحضره إلى بغداد وقتله.
وفيها أمر الرشيد بإخراج الطالبيين من بغداد إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، خلا العباس بن الحسن بن عبد الله بن علي بن أبي طالب.
وفيها خرج الفضل بن سعيد الحروري فقتله أبوخالد المروروذي.
وفيها قدم روح بن حاتم إفريقية. وحج بالناس هذه السنة عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائة
ذكر خروج سليمان وعبد الله على هشام
في هذه السنة، وقيل سنة ثلاث وسبعين ومائة، وهوالصحيح، خرج سليمان وعبد الله ابنا عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، أمير الأندلس، عن طاعة أخيهما هشام بالأندلس، وكان هشام قد ملك بعد أبيه، كما ذكرناه، فلما استقر له الملك كان معه أخوه عبد الله المعروف بالبلنسي، وكان هشام يؤثره ويبره ويقدمه، فلم يرض عبد الله إلا بالمشاركة في أمره.ثم إنه خاف من أخيه هشام، فمضى هارباً إلى أخيه سليمان، وهوبطليطلة، فلما خرج من قرطبة أخرج هشام جمعاً في أثره ليردوه فلم يلحقوه، فجمع هشام عساكره، وسار إلى طليطلة، فحضر أخويه بهأن وكان سليمان قد جمع وحشد خلقاً كبيرأن فلما حصرهما هشام سار سليمان من طليطلة وترك ابنه وأخاه عبد الله يحفظان البلد، وسار هوإلى قرطبة ليملكهأن فعلم هشام الحال، فلم يتحرك، ولا فارق طليطلة بل أقام يحصرها.
وسار سليمان، فوصل إلى شقندة، فدخلهأن وخرج إليه أهل قرطبة مقاتلين ودافعين عن أنفسهم.
ثم إن هشاماً سير في أثره ابنه عميد الملك، في قطعة من الجيش، فلما قاربه مضى سليمان هاربأن فقصد مدينة ماردة، فخرج إليه الوالي بها لهشام، فحاربه، فانهزم سليمان، وبقي هشام على طليطلة شهرين وأياماً محاصراً لها ثم عاد عنهأن وقد قطع أشجارها وسار إلى قرطبة، فأتاه أخوه عبد الله بغير أمان، فأكرمه وأحسن إليه.
فلما دخلت سنة أربع وسبعين سير هشام ابنه معاوية في جيش كثيف إلى تدمير، وبها سليمان، فحاربه، وخربوا أعمال تدمير، ودوخوا أهلها ومن بهأن وبلغوا البحر، فخرج سليمان من تدمير هاربأن فلجأ إلى البرابر بناحية بلنسية، فاعتصم بتلك الناحية الوعرة المسلك، فعاد معاوية إلى قرطبة.
ثم أن الحال استقر بين هشام وسليمان أن يأخذ سليمان أهله وأولاده وأمواله ويفارق الأندلس، وأعطاه هشام ستين ألف دينار مصالحة عن تركة أبيه عبد الرحمن، فسار إلى بلد البرابر فأقام به.
ذكر خروج جماعة على هشام أيضاً
وفيها خرج بالأندلس أيضاً سعيد بن الحسين بن يحيى الأنصاري بشاغنت، من أقاليم طرطوشة، في شرق الأندلس؛ وكان قد التجأ إليها حين قتل أبوه، كما تقدم، ودعا إلى اليمانية، وتعصب لهم، فاجتمع لهم خلق كثير وملك مدينة طرطوشة، وأخرج عامله يوسف القيسي، فعارضه موسى بن فرتون، وقام بدعوة هشام، ووافقته مضر، فاقتتلأن فانهزم سعيد وقتل، وسار موسى إلى سرقسطة فملكهأن فخرج عليه مولى للحسين بن يحيى اسمه جحدر في جمع كثير فقاتله وقتل موسى.
وخرج أيضاً مطروح بن سليمان بن يقظان بمدينة برشلونة، وخرج معه جمع كثير، فملك مدينة سرقسطة ومدينة وشقه، وتغلب على تلك الناحية، وقوي أمره، وكان هشام مشغولاً بمحاربة أخويه سليمان وعبد الله.
ذكر عدة حوادث
وفيها عزل الرشيد إسحاق بن محمد عن الموصل، واستعمل سعيد بن سلم الباهلي، وعزل الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة، وهوابن أخي معن بن زائدة، عن أرمينية، واستعمل عليها أخاه عبيد الله بن المهدي.
وفيها غزا الصائفة إسحاق بن سليمان بن علي.
وفيها وضع الرشيد على أهل السواد العشر الذي كان يؤخذ منهم بعد النصف.
وحج بالناس يعقوب بن المنصور.
وفيها مات الفضل بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس، وهوأخوعبد الملك؛ وتوفي سليمان بن بلال مولى ابن أبي عتيق؛ وتوفي أبويزيد رباح بن يزيد اللخمي الزاهد، بمدينة القيروان، وكان مجاب الدعوة.
حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائةفيها توفي محمد بن سليمان بن علي بالبصرة، فأرسل الرشيد من قبض تركته، وكانت عظيمة من المال والمتاع، والدواب، فحملوا منه ما يصلح للخلافة، وتركوا مال لا يصلح.
وكان من جملة ما أخذوا ستون ألف ألف، فلما قدموا بذلك عليه أطلق منه للندماء والمغنين شيئاً كبيرأن ورفع الباقي إلى خزانته.
وكان سبب أخذ الرشيد تركته أن أخاه جعفر بن سليمان كان يسعى به إلى الرشيد حسداً له، ويقول: إنه لا مال له، ولا ضيعة إلا وقد أخذ أكثر من ثمنها ليتقوى به على ما تحدث به نفسه، يعني الخلافة، وإن أمواله حل طلق لأمير المؤمنين؛ وكان الرشيد يأمر بالاحتفاظ بكتبه، فلما توفي محمد بن سليمان أخرجت كتبه إلى جعفر أخيه، واحتج عليه بهأن ولم يكن له أخ لأبيه وأمه غير جعفر، فأقر بهأن فلهذا قبضت أمواله.
وفيها ماتت الخيزران أم الرشيد، فحمل الرشيد جنازتهأن ودفنها في مقابر قريش، ولما فرغ من دفنها أعطى الخاتم الفضل بن الربيع، وأخذه من جعفر بن يحيى بن خالد.
وفيها استقدم الرشيد جعفر بن محمد بن الأشعث من خراسان، واستعمل عليها ابنه العباس بن جعفر؛ وحج بالناس الرشيد، أحرم من بغداد.
وفيها مات مورقاط ملك جليقية، من بلاد الأندلس، وولي بعده برمند بن قلورية القس، ثم تبرأ من الملك، وترهب، وجعل ابن أخيه في الملك، وكان ملك ابن أخيه سنة خمس وسبعين ومائة.
وفيها توفي سلام بن أبي مطيع بتشديد اللام؛ وجريرية بن أسماء بن عبيد البصري؛ ومروان بن معاوية بن الحارث بن أسماء الفزاري، أبوعبد الله، وكان موته بمكة فجاءة.
حوادث سنة أربع وسبعين ومائةوفيها استعمل الرشيد إسحاق بن سليمان على السند ومكران.
وفيها استقضى الرشيد يوسف بن أبي يوسف، وأبوه حي.
وفيها هلك روح بن حاتم، وسار الرشيد آل الجودي، ونزل بقردي وبازبدى من أعمال جزيرة ابن عمر، فابتنى بها قصراً.
وغزا الصائفة عبد الملك بن صالح.
وحج بالناس الرشيد، فقسم في الناس مالاً كثيراً.
وفيها عزل علي بن مسهر عن قضاء الموصل، وولي القضاء بها إسماعيل بن زياد الدولابي.
حوادث سنة خمس وسبعين ومائةفي هذه السنة عقد الرشيد لابنه محمد بن زبيدة بولاية العهد، ولقبه الأمين، وأخذ له البيعة وعمره خمس سنين.
وكان سبب البيعة أن خاله عيسى بن جعفر بن المنصور جاء إلى الفضل بن يحيى بن خالد، فسأله في ذلك، وقال له: إنه ولدك، وخلافته لك. فوعده بذلك، وسعى فيهأن حتى بايع الناس له بولاية العهد.
وفيها عزل الرشيد عن خراسان العباس بن جعفر، وولاها خالداً الغطريف بن عطاء.
وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح فبلغ أقريطية؛ وقيل غزاها عبد الملك نفسه، فأصابهم برد شديد سقط منه كثير من أيدي الجند وأرجلهم.
وفيها سار يحيى بن عبد الله بن حسن بن حسن ين علي إلى الديلم، فتحرك هناك؛ وحج بالناس هذه السنة هارون الرشيد.
ذكر ظفر هشام بأخويه ومطروحوفيها فرغ هشام بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، من أخويه سليمان وعبد الله، وأجلاهما عن الأندلس، فلما خلا سره منهما انتدب لمطروح ابن سليمان بن يقظان، فسير إليه جيشاً كثيفأن وجعل عليهم أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، فساروا إلى مطروح، وهوبسرقسطة، فحصروه بهأن فلم يظفروا به، فرجع أبوعثمان عنه، ونزل بحصن طرسونة، بالقرب من سرقسطة، وبث سراياه على أهل سرقسطة يغيرون ويمنعون عنهم الميرة.
ثم إن مطروحاً خرج في بعض الأيام، آخر النهار، يتصيد، فأرسل البازي على طائر، فاقتنصه، فنزل مطروح ليذبحه بيده، ومعه صاحبان له قد انفرد بهما عن أصحابه، فقتلاه واحتزا رأسه وأتيا به أبا عثمان، فسار إلى سرقسطة، فكاتبه أهلها بالطاعة، فقبل منهم، وسار إليها فنزلهأن وأرسل رأس مطروح إلى هشام.
ذكر غزاة هشام بالأندلسثم إن أبا عثمان لما فرغ من مطروح أخذ الجيش، وسار بهم إلى بلاد الفرنج، فقصد ألية، والقلاع، فلقيه العدو، فظفر بهم، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وفتح الله عليه.
وفيها سير هشام أيضاً يوسف بن بخت في جيش إلى جليقية، فلقي ملكهم وهوبرمند الكبير، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وانهزمت الجلالقة، وقتل منهم عالم كثير.
وفيها انقاد أهل طليطلة إلى طاعة الأمير فآمنهم.
وفيها سجن هشام أيضاً ابنه عبد الملك لشيء بلغه عنه، فبقي مسجوناً حياة أبيه وبعض ولاية أخيه، فتوفي محبوساً سنة ثمان وتسعين ومائة.
ذكر عدة حوادثوفيها خرج بخراسان حصين الخارجي، وهومن موالي قيس بن ثعلبة، من أهل أوق، وكان على سجستان عثمان بن عمارة، فأرسل جيشأن فلقيهم حصين، فهزمهم، ثم أتى خراسان وقصد باذغيس، وبوشنج، وهراة، وكتب الرشيد إلى الغطريف في طلبه، فسير إليه الغطريف داود بن يزيد في اثني عشر ألفأن فلقيهم حصين في ستمائة، فهزمهم، وقتل منهم خلقاً كثيراً.
ثم سار في خراسان إلى أن قتل سنة سبع وسبعين ومائة.
وفيها مات الليث بن سعد الفقيه بمصر؛ ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم أبوالعنبس الشعر.
وفيها توفي المسيب بن زهير بن عمر بن مسلم الضبي، وقيل سنة ست وسبعين، وكان على شرط المنصور والمهدي، وولاه المهدي خراسان.
وفيها ولد إدريس بن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
حوادث سنة ست وسبعين ومائة
ذكر ظهور يحيى بن عبد الله بالديلم
في هذه السنة ظهر يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بالديلم واشتدت شوكته، وكثر جموعه، وأتاه الناس من الأمصار، فاغتم الرشيد لذلك، فندب إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألفأن وولاه جرجان وطبرستان والري وغيرهمأن وحمل معه الأموال، فكاتب يحيى بن عبد الله، ولطف به، وحذره، وأشار عليه، وبسط أمله.ونزل الفضل بالطالقان، بمكان يقال له أشب، ووالى كتبه إلى يحيى، وكاتب صاحب الديلم، وبذل له ألف ألف درهم على أن يسهل له خروج يحيى بن عبد الله، فأجاب يحيى إلى الصلح، على أن يكتب له الرشيد أماناً بخطه يشهد عليه فيه القضاة، والفقهاء، وجلة بني هاشم، ومشايخهم، منهم: عبد الصمد بن علي، فأجابه الرشيد إلى ذلك، وسر به، وعظمت منزلة الفضل عنده وسير الأمان مع هدايا وتحف، فقدم يحيى مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما احب، وأمر له بمال كثير.
ثم أن الرشيد حبسه، فمات في الحبس، وكان الرشيد قد عرض كتاب أمان يحيى على محمد بن الحسن الفقيه، وعلى أبي البختري القاضي، فقال محمد: الأمان صحيح، فحاجه الرشيد، فقال محمد: وما يصنع بالأمان لوكان محاربأن ثم ولي وكان آمناً؟ وقال أبوالبختري: هذا أمان منتقض من وجه كذا؛ فمزقه الرشيد.
ذكر ولاية عمر بن مهران مصروفيها عزل الرشيد موسى بن عيسى عن مصر، ورد أمرها إلى جعفر بن يحيى بن خالد، فاستعمل عليها جعفر عمر بن مهران.
وكان سبب عزله أن الرشيد بلغه أن موسى عازم على الخلع، فقال: والله لا أعزله إلا بأخس من على بابي! فأمر جعفر، فأحضر عمر بن مهران، وكان أحول، مشوة الخلق، وكان لباسه خسيسأن وكان يردف غلامه خلفه، فلما قال له الرشيد: أتسير إلى مصر أميراً؟ قال: أتولاها على شرائط، إحداها أن يكون إذني إلى نفسي، إذا أصلحت البلاد انصرفت، فأجابه إلى ذلك.
فسار، فلما وصل إليها أتى دار موسى فجلس في أخريات الناس، فلما تفرقوا قال: ألك حاجة؟ قال: نعم! ثم دفع إليه الكتب، فلما قرأها قال: هل يقدم أبوحفص، أبقاه الله؟ قال: أنا أبوحفص. قال موسى: لعن الله فرعون حيث قال: (أليس لي ملك مصر؟) الزخرف: 51 ثم سلم له العمل، فقدم عمر إلى كاتبه أن لا يقبل هدية إلا ما يدخل في الكيس، فبعث الناس بهداياهم، فلم يقبل دابة، ولا جارية، ولم يقبل إلا المال والثياب، فأخذهأن وكتب عليها أسماء أصحابهأن وتركها.
وكان أهل مصر قد اعتادوا المطل بالخراج، وكسره، فبدأ عمر برجل منهم فطالبه بالخراج، فلواه، فأقسم أن لا يؤديه إلا بمدينة السلام، فبذل الخراج، فلم يقبله منه، وحمله إلى بغداد فأدى الخراج بها؛ فلم يمطله أحد، فأخذ النجم الأول، والنجم الثاني؛ فلما كان النجم الثالث وقعت المطاولة والمطل وشكوا الضيق، فأحضر تلك الهدايا وحسبها لأربابهأن وأمرهم بتعجيل الباقي، فأسرعوا في ذلك، فاستوفي خراج مصر عن آخره، ولم يفعل ذلك غيره، ثم انصرف إلى بغداد.
ذكر الفتنة بدمشقوفي هذه السنة هاجت الفتنة بدمشق بين المضرية واليمانية، وكان رأس المضرية أبوالهيذام، واسمه عامر بن عمارة بن خريم الناعم بن عمروبن الحارث بن خارجه بن سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان المري، أحد فرسان العرب المشهورين.
وكان سبب الفتنة أن عاملاً للرشيد بسجستان قتل أخاً لأبي الهيذام، فخرج أبوالهيذام بالشام، وجمع جمعاً عظيمأن وقال يرثي أخاه:
سأبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولسنا كمن ينعي أخاه بغيره ... يعصرها من ماء مقلته عصراً
وإنا أناس ما تفيض دموعنا ... على هالك منا وإن قصم الظهرا
ولكنني أشفي الفؤاد بغارة ... ألهب في قطري كتائبها جمراً
وقيل إن هذه الأبيات لغيره والصحيح أنها له، ثم إن الرشيد احتال عليه بأخ له كتب إليه فأرغبه، ثم شد عليه فكتفه، وأتى به الرشيد فمن عليه وأطلقه.
وقيل: كان أول ما هاجت الفتنة في الشام أن رجلاً من بني القين خرج بطعام له يطحنه في الرحا بالبقاء، فمر بحائط رجل من لخم أوجذام، وفيه بطيخ وقثاء، فتناول منه، فشتمه صاحبه، وتضاربأن وسار القيني؛ فجمع صاحب البطيخ قوماً من أهل اليمن ليضربوه إذا عاد، فلما عاد ضربوه وأعانه قوم آخرون، فقتل رجل من اليمانية، وطلبوا بدمه، فاجتمعوا لذلك.
وكان على دمشق حينئذ عبد الصمد بن علي، فلما خاف الناس أن يتفاقم ذلك أجتمع أهل الفضل والرؤساء ليصلحوا بينهم، فأتوا بني القين فكلموهم، فأجابوهم إلى ما طلبوأن فأتوا اليمانية فكلموهم، فقالوا: انصرفوا عنا حتى ننظر؛ ثم ساروأن فبيتوا بني القين، فقتلوا منهم ستمائة، وقيل ثلاثمائة، فاستنجدت القين قضاعة وسليحأن فلم ينجدوهم، فاستنجدت قيساً فأجابوهم، وساروا معهم إلى الصواليك من أرض البلقاء، فقتلوا من اليمانية ثمامنائة، وكثر القتال بينهم فالتقوا مرات.
وعزل عبد الصمد عن دمشق، واستعمل عليها إبراهيم بن صالح بن علي، فدام ذلك الشر بينهم نحوسنتين، والتقوا بالبثنية، فقتل من اليمانية نحوثماني مائة، ثم اصطلحوا بعد شر طويل.
ووفد إبراهيم بن صالح على الرشيد، وكان ميله مع اليمانية، فوقع في قيس عند الرشيد، فاعتذر عنهم عبد الواحد بن بشر النصري من بني نصر، فقبل عذرهم، ورجعوأن واستخلف إبراهيم بن صالح على دمشق ابنه إسحاق، وكان ميله أيضاً مع اليمانية، فأخذ جماعة من قيس، فحبسهم، وضربهم وحلق لحاهم، فنفر الناس، ووثبت غسان برجل من ولد قيس بن العبسي فقتلوه، فجاء أخوه إلى ناس من الزواقيل بحوران، فاستنجدهم فأنجدوه وقتلوا من اليمانية نفراً.
ثم ثارت اليمانية بكليب بن عمروبن الجنيد بن عبد الرحمن، وعنده ضيف له، فقتلوه، فجاءت أم الغلام بثيابه إلى أبي الهيذام، فألقتها بين يديه، فقال: انصرفي حتى ننظر، فإني لا أخبط خبط العشواء، حتى يأتي الأمير ونرفع إليه دماءنأن فإن نظر فيها وإلا فأمير المؤمنين ينظر فيها.
ثم أرسل إسحاق فأحضر أبا الهيذام، فحضر، فلم يأذن له؛ ثم إن أناساً من الزواقيل قتلوا رجلاً من اليمانية، وقتلت اليمانية رجلاً من سليم، ونهبت أهل تلفياثأن وهم جيران محارب، فجاءت محارب إلى أهل الهيذام، فركب معهم إلى إسحاق في ذلك، فوعدهم الجميل فرضي، فلما انصرف أرسل إسحاق إلى اليمانية يغريهم بأبي الهيذام، فاجتمعوأن وأتوا أبا الهيذام من باب الجابية، فخرج إليهم في نفر يسير، فهزمهم، واستولى على دمشق، وأخرج أهل السجون عامة.
ثم إن أهل اليمانية استجمعت، واستنجدت كلبأن وغيرهم، فأمدوهم، وبلغ الخبر أبا الهيذام، فأرسل إلى المضرية، فأتته الأمداد وهويقاتل اليمانية عند باب تومأن فانهزمت اليمانية.
ثم إن اليمانية أتت قرية لقيس عند دمشق، فأرسل أبوالهيذام إليهم الزواقيل، فقاتلوهم، فانهزمت اليمانية أيضأن ثم لقيهم جمع آخر، فانهزموا أيضأن ثم أتاهم الصريخ: أدركوا باب تومأن فأتوه، فقاتلوا اليمانية، فانهزمت أيضأن فهزموهم في يوم واحد أربع مرات، ثم رجعوا إلى أبي الهيذام.
ثم أرسل إسحاق إلى أبي الهيذام يأمره بالكف، ففعل، وأرسل إلى اليمانية: قد كففته عنكم، فدونكم الرجل فهوغار؛ فأتوه من باب شرقي متسللين، فأتى الصريخ أبا الهيذام، فركب في فوارس من أهله، فقاتلهم، فهزمهم.
ثم بلغه خبر جمع آخر لهم على باب تومأن فأتاهم، فهزمهم أيضاً؛ ثم جمعت اليمانية أهل الأردن والخولان وكلباً غيرهم، وأتى الخبر أبا الهيذام، فأرسل من يأتيه بخبرهم، فلم يقف لهم على خبر في ذلك، وجاؤوا من جهة أخرى كان آمناً منها لبناء فيها.
فلما انتصف النهار ولم ير شيئاً فرق أصحابه، فدخلوا المدينة، ودخلها معهم، وخلف طليعة، فلما رآه إسحاق قد دخل أرسل إلى ذلك البناء فهدمه، وأمر اليمانية بالعبور، ففعلوأن فجاءت الطليعة إلى أبي الهيذام، فأخبروه الخبر، وهوعند باب الصغير، ودخلت اليمانية المدينة وحملوا على أبي الهيذام، فلم يبرح، وأمر بعض أصحابه أن يأتي اليمانية من ورائهم، ففعلوأن فلما رأتهم اليمانية تنادوا: الكمين الكمين، وانهزموأن وأخذ منهم سلاحاً وخيلاً.
فلما كان مستهل صفر جمع إسحاق الجنود، فعسكروا عند قصر الحجاج، وأعلم أبوالهيذام أصحابه، فجاءته القين وغيرهم، واجتمعت اليمن إلى إسحاق، فالتقى بعض العسكر فاقتتلوأن فانهزمت اليمانية وقتل منهم، ونهب أصحاب أبي الهيذام بعض داريأن وأحرقوا فيها ورجعوأن وأغار هؤلاء، فنهبوا وأحرقوأن واقتتلوا غير مرة، فانهزمت اليمانية أيضاً.
فأرسلت ابنة الضحاك بن رمل السكسكي، وهي يمانية، إلى أبي الهيذام تطلب منه الأمان، فأجابهأن وكتب لها؛ ونهب القرى التي لليمانية بنواحي دمشق وأحرقهأن فلما رأت اليمانية ذلك أرسل إليه ابن خارجة الحرشي وابن عزة الخشني، وأتاه الأوزاع والأوصاب، ومقرأن وأهل كفر سوسية، والحميريون، وغيرهم يطلبون الأمان، فآمنهم، فسكن الناس وأمنوا.
وفرق أبوالهيذام أصحابه، وبقي في نفر يسير من أهل دمشق، فطمع فيه إسحاق، فبذل الأموال للجنود ليواقع أبا الهيذام، فأرسل العذافر السكسكي في جمع إلى أبي الهيذام، فقاتلوهم، فانهزم العذافر.
ودامت الحرب بين أبي الهيذام وبين الجنود من الظهر إلى المساء؛ وحملت خيل أبي الهيذام على الجند، فجالوا ثم تراجعوا وانصرفوأن وقد جرح منهم أربعمائة، ولم يقتل منهم أحد، وذلك نصف صفر.
فلما كان الغد لم يقتتلوا إلى المساء، فلما كان آخر النهار تقدم إسحاق في الجند، فقاتلهم عامة الليل، وهم بالمدينة، واستمد أبوالهيذام أصحابه، وأصبحوا من الغد فاقتتلوا والجند في اثني عشر ألفأن وجاءتهم اليمانية، وخرج أبوالهيذام من المدينة، فقال لأصحابه، وهم قليلون: أنزلوأن فنزلوأن وقاتلوهم على باب الجابية، حتى أزالوهم عنه.
ثم إن جمعاً من أهل حمص أغاروا على قرية لأبي الهيذام، فأرسل طائفة من أصحابه إليهم، فقاتلوهم، فانهزم أهل حمص، وقتل منهم بشر كثير، وأحرقوا قرى في الغوطة لليمانية، وأحرقوا داريأن ثم بقوا نيفاً وسبعين يوماً لم تكن حرب.
فقدم السندي، مستهل ربيع الآخر، في الجنود من عند الرشيد فأتته اليمانية تغريه بأبي الهيذام، وأرسل أبوالهيذام إليه يخبره أنه على الطاعة، فأقبل حتى دخل دمشق، وإسحاق بدار الحجاج، فلما كان الغد أرسل السندي قائداً في ثلاثة آلاف، وأخرج إليهم أبوالهيذام ألفأن فلما رآهم القائد رجع إلى السندي، فقال: أعط هؤلاء ما أرادوأن فقد رأيت قوماً الموت أحب إليهم من الحياة؛ فصالح أبوالهيذام، وأمن أهل دمشق والناس.
وسار أبوالهيذام إلى حوران، وأقام السندي بدمشق ثلاثة أيام، وقدم موسى بن عيسى والياً عليهأن فلما دخلها أقام بها عشرين يومأن واغتمن غرة أبي الهيذام فأرسل من يأتيه به، فكبسوا داره، فخرج هو وابنه خريم وعبد له، فقاتلوهم، ونجا منهم وانهزم الجند.
وسمعت خيل أبي الهيذام، فجاءته من كل ناحية، وقصد بصرى، وقاتل جنود موسى بطرف اللجاة، فقتل منهم، وانهزموأن ومضى أبوالهيذام، فلما أصبح أتاه خمسة فوارس فكلموه، فأوصى أصحابه بما أراد، وتركهم ومضى، وذلك لعشر بقين من رمضان سنة سبع وسبعين ومائة.
وكان أولئك النفر قد أتوه من عند أخيه يأمره بالكف، ففعل، ومضى معهم، وأمر أصحابه بالتفرق، وكان آخر الفتنة، ومات أبوالهيذام سنة اثنتين وثمانين ومائة.
هذا ما أردنا ذكره على سبيل الاختصار.
خريم بضم الخاء المعجمة، وفتح الراء. وحارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. ونشبه بضم النون، وسكون الشين المعجمة وبعدها باء موحدة. وبغيض بالباء الموحدة، وكسر الغين المعجمة، وآخره ضاد معجمة، وريث بالراء، والياء تحتها نقطتان، وآخره ثاء مثلثة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الملك بن عبد الواحد بجيش صاحب الأندلس، بلاد الفرنج، فبلغ ألية، والقلاع، فغمن، وسلم.
وفيها استعمل هشام ابنه الحكم على طليطلة، وسيره إليهأن فضبطهأن وأقام بهأن وولد له بها ابنه عبد الرحمن بن الحكم، وهوالذي ولي الأندلس بعد أبيه.
وفيها استعمل الرشيد على الموصل الحاكم بن سليمان.
وفيها خرج الفضل الخارجي بنواحي نصيبين، فأخذ من أهلها مالأن وسار إلى دارا وآمد وارزن، فأخذ منهم مالأن وكذلك فعل بخلاط، ثم رجع إلى نصيبين، وأتى الموصل، فخرج إليه عسكرهأن فهزمهم على الزاب، ثم عادوا لقتاله، فقتل الفضل وأصحابه.
وفيها مات الفرج بن فضالة، وصالح بن بشر المري القارئ، وكان ضعيفاً في الحديث.
وفيها توفي عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمروبن حزم أبوطاهر الأنصاري، وكان قاضياً ببغداد.
وفيها توفي نعيم بن ميسرة النحوي الكوفي، وأبوالأحوص، وأبوعوانة، واسمه الوضاح مولى يزيد بن عطاء الليثي، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين.
حوادث سنة سبع وسبعين ومائة
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
وفيها سير هشام، صاحب الأندلس، جيشاً كثيفأن واستعمل عليهم عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، فدخلوا بلاد العدو، فبلغوا أربونة، وجرندة، فبدأ بجرندة، وكان بها حامية الفرنج، فقتل رجالهأن وهدم أسوارها وأبراجهأن وأشرف على فتحهأن فرحل عنها إلى أربونة ففعل مثل ذلك، وأوغل في بلادهم، ووطئ أرض شرطانية، فاستباح حريمهأن وقتل مقاتليها وجاس البلاد شهوراً يخرب الحصون، ويحرق ويغمن، قد أجفل العدومن بين يديه هاربأن وأوغل في بلادهم، ورجع سالماً معه من الغنائم ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وهي من أشهر مغازي المسلمين بالأندلس.ذكر استعمال الفضل بن روح بن حاتم على إفريقيةوفي هذه السنة، وهي سنة سبع وتسعين، استعمل الرشيد على إفريقية الفضل بن روح بن حاتم، وكان الرشيد لما توفي روح استعمل بعده حبيب بن نصر المهلبي، فسار الفضل إلى باب الرشيد، وخطب ولاية إفريقية، فولاه، فعاد إليهأن فقدم في المحرم سنة سبع وسبعين ومائة، فاستعمل على مدينة تونس ابن أخيه المغيرة بن بشر بن روح، وكان غارأن فاستخف بالجند.
وكان الفضل أيضاً قد أوحشهم، وأساء السيرة معهم، بسبب ميلهم إلى نصر بن حبيب الوالي قبله، فاجتمع من بتونس، وكتبوا إلى الفضل يستعفون من ابن أخيه، فلم يجبهم عن كتابهم، فاجتمعوا على ترك طاعته، فقال لهم قائد من الخراسانية يقال له محمد بن الفارسي: كل جماعة لا رئيس لها فهي إلى الهلاك أقرب، فانظروا رجلاً يدبر أمركم. قالوا: صدقت؛ فاتفقوا على تقديم قائد منهم يقال له عبد الله بن الجارود يعرف بعبدويه الأنباري، فقدموه عليهم، وبايعوه على السمع والطاعة، وأخرجوا المغيرة عنهم، وكتبوا إلى الفضل يقولون: إنا لن نخرج يداً عن طاعة، ولكنه أساء السيرة، فأخرجناه، فول علينا من نرضاه.
فاستعمل عليهم ابن عمه عبد الله بن يزيد بن حاتم وسيره إليهم. فلما كان على مرحلة من تونس أرسل إليه ابن الجارود جماعة لينظروا في أي شيء قدم ولا يحدثوا حدثاً إلا بأمره، فساروا إليه، وقال بعضهم لبعض: إن الفضل يخدعكم بولاية هذأن ثم ينتقم منكم بإخراجكم أخاه؛ فعدوا على عبد الله بن يزيد فقتلوه، وأخذوا من معه من القواد أسارى، فأضطر حينئذ عبد الله بن الجارود ومن معه إلى القيام والجد في إزالة الفضل، فتولى ابن الفارسي الأمر، وصار يكتب إلى كل قائد بإفريقية ومتولي مدينة يقول له: إنا نظرنا في صنيع الفضل في بلاد أمير المؤمنين، وسوء سيرته، فلم يسعنا إلا الخروج عليه لنخرجه عنأن ثم نظرنا فلم نجد أحداً أولى بنصيحة أمير المؤمنين، لبعد صوته، وعطفه على جنده منك، فرأينا أن نجعل نفوسنا دونك، فإن ظفرنا جعلناك أميرنأن وكتبنا إلى أمير المؤمنين نسأله ولايتك، وإن كانت الأخرى لم يعلم أحد إننا إردناك، والسلام.
فأفسد بهذا كافة الجند على الفضل، وكثر الجمع عندهم، فسير إليهم الفضل عسكرا كثيرأن فخرجوا إليه، فقاتلوه، فانهزم عسكره وعاد إلى القيروان منهزمأن وتبعهم أصحاب ابن الجارود، فحاصروا القيروان يومهم ذلك، ثم فتح أهل القيروان الأبواب، ودخل ابن الجارود وعسكره في جمادي الآخرة سنة ثمان وسبعين ومائة، وأخرج الفضل من القيروان، ووكل به وبمن معه من أهله أن يوصلهم إلى قابس، فساروا يومهم، ثم ردهم ابن الجارود، وقتل الفضل بن روح بن حاتم.
فلما قتل الفضل غضب جماعة من الجند، واجتمعوا على قتال ابن الجارود، فسير إليهم عسكرأن فانهزم عسكره، وعاد إليه بعد قتال شديد واستولى أولئك الجند على القيروان، وكان ابن الجارود بمدينة تونس، فسار إليهم وقد تفرقوا بعد دخول القيروان، فوصل إليهم ابن الجارود، فلقوه واقتتلوأن فهزمهم ابن الجارود وقتل جماعة من أعيانهم، فانهزموأن فلحقوا بالأربس، وقدموا عليهم العلاء بن سعيد والي بلد الزاب وساروا إلى القيروان.
ذكر ولاية هرثمة بن أعين بلاد إفريقيةاتفق وصول يحيى بن موسى من عند الرشيد لما قصد العلاء ومن معه القيروان؛ وكان سبب وصوله أن الرشيد بلغه ما صنع ابن الجارود، وإفساده إفريقية، فوجه هرثمة بن أعين ومعه يحيى بن موسى، لمحله عند أهل خراسان، وأمر أن يتقدم يحيى، ويلطف بابن الجارود ويستعمله ليعاود الطاعة قبل وصول هرثمة، فقدم يحيى القيروان، فجرى بينه وبين ابن الجارود كلام كثير، ودفع إليه كتاب الرشيد، فقال: أنا على السمع والطاعة، وقد قرب مني العلاء بن سعيد ومعه البربر، فإن تركت القيروان وثب البربر فملكوهأن فأكون قد ضيعت بلاد أمير المؤمنين، ولكني أخرج إلى العلاء فإن ظفر بي فشأنكم والثغور، وإن ظفرت به انتظرت قدوم هرثمة فأسلم البلاد إليه، وأسير إلى أمير المؤمنين.
وكان قصده المغالطة، فإن ظفر بالعلاء منع هرثمة عن البلاد، فعلم يحيى ذلك، وخلا بابن الفارسي، وعاتبه على ترك الطاعة، فاعتذر، وحلف أنه عليهأن وبذل من نفسه المساعدة على ابن الجارود، فسعى ابن الفارسي في إفساد حاله، واستمال جماعة من أجناده، فأجابوه، وكثر جمعه، وخرج إلى قتال ابن الجارود، فقال ابن الجارود لرجل من أصحابه اسمه طالب: إذا تواقفنا فإنني سأدعوا ابن الفارسي لأعاتبه فأقصده أنت وهوغافل فاقتله! فأجابه إلى ذلك، وتواقف العسكران، ودعا ابن الجارود محمد بن الفارسي وكلمه، وحمل طالب عليه وهوغافل فقتله، وانهزم أصحابه، وتوجه يحيى بن موسى إلى هرثمة بطرابلس.
وأما العلاء بن سعيد فإنه لما علم الناس بقرب هرثمة منهم كثر جمعه، وأقبلوا إليه من كل ناحية، وسار إلى ابن الجارود، فعلم ابن الجارود أنه لا قوة له به، فكتب إلى يحيى بن موسى يستدعيه ليسلم إليه القيروان، فسار إليه في جند طرابلس في المحرم سنة تسع وسبعين ومائة، فلما وصل قابساً تلقاه عامة الجند، وخرج ابن الجارود من القيروان مستهل صفر، وكانت ولايته سبعة أشهر.
وأقبل العلاء بن سعيد ويحيى بن موسى يستبقان إلى القيروان، كل منهما يريد أن يكون الذكر له فسبقه العلاء ودخلهأن وقتل جماعة من أصحاب ابن الجارود، وسار إلى هرثمة وسار ابن الجارود أيضاً إلى هرثمة، فسيره هرثمة إلى الرشيد، وكتب إليه يعلمه أن العلاء كان سبب خروجه، فكتب الرشيد يأمره بإرسال العلاء إليه، فسيره، فلما وصل لقيه صلة كثيرة من الرشيد وخلع، فلم يلبث بمصر إلا قليلاً حتى توفي.
وأما ابن الجارود فاعتقل ببغداد، وسار هرثمة إلى القيروان، فقدمها في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، فآمن الناس وسكنهم، وبنى القصر الكبير بالمنستير سنة ثمانين ومائة، وبنى سور مدينة طرابلس مما يلي البحر.
وكان إبراهيم بن الأغلب بولاية الزاب، فأكثر الهدية إلى هرثمة ولاطفه، فولاه هرثمة ناحية من الزاب فحسن أثره فيها.
ثم إن عياض بن وهب الهواري وكليب بن جميع الكلبي جمعاً جموعأن وأراد قتال هرثمة، فسير إليهما يحيى بن موسى في جيش كثير، ففرق جموعهمأن وقتل كثيراً من أصحابهمأن وعاد إلى القيروان.
ولما رأى هرثمة ما بإفريقية من الاختلاف واصل كتبه إلى الرشيد يستعفي، فأمره بالقدوم عليه إلى العراق، فسار عن إفريقية في رمضان سنة إحدى وثمانين ومائة، فكانت ولايته سنتين ونصفاً.
ذكر الفتنة بالموصلوفيها خالف العطاف بن سفيان الأزدي على الرشيد، وكان من فرسان أهل الموصل، واجتمع عليه أربعة آلاف رجل، وجبي الخراج، وكان عامل الرشيد على الموصل محمد بن العباس الهاشمي، وقيل عبد الملك بن صالح، والعطاف غالب على الأمر كله، وهويجبي الخراج، وأقام على هذا سنتين، حتى خرج الرشيد إلى الموصل فهدم سورها بسببه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل الرشيد جعفر بن يحيى عن مصر، واستعمل عليها إسحاق بن سليمان، وعزل حمزة بن مالك عن خراسان، واستعمل عليها الفضل بن يحيى البرمكي مضافاً إلى ما كان إليه من الأعمال، وهي الري وسجستان وغيرهما.
وفيها غزا الصائفة عبد الرزاق بن عبد الحميد التغلبي.
وفيهأن في المحرم، هاجت ريح شديدة وظلمة، ثم عادت مرة ثانية في صفر. وحج بالناس الرشيد.
وفيها توفي عبد الواحد بن زيد، وقيل سنة ثمان وسبعين.
وفيها توفي شريك بن عبد الله النخعي، وجعفر بن سليمان.
حوادث سنة ثمان وسبعين ومائة
ذكر الفتنة بمصر
وفي هذه السنة وثبت الحوفية بمصر على عاملهم إسحاق بن سليمان، وقاتلوه، وأمده الرشيد بهرثمة بن أعين، وكان عامل فلسطين، فقاتلوا الحوفية، وهم من قيس وقضاعة، فأذعنوا بالطاعة، وأدوا ما عليهم للسلطان، فعزل الرشيد إسحاق عن مصر، واستعمل عليها هرثمة مقدار شهر، ثم عزله واستعمل عليها عبد الملك بن صالح.ذكر خروج الوليد بن طريف الخارجيوفيها خرج الوليد بن طريف التغلبي بالجزيرة، ففتك بإبراهيم بن خازم ابن خزيمة بنصيبين، ثم قويت شوكة الوليد، فدخل إلى أرمينية، وحصر خلاط عشرين يومأن فافتدوا منه أنفسهم بثلاثين ألفاً.
ثم سار إلى أذربيجان، ثم إلى حلوان وأرض السواد، ثم عبر إلى غرب دجلة، وقصد مدينة بلد، فافتدوا منه بمائة ألف، وعاث في أرض الجزيرة فسير إليه الرشيد يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، وهوابن معن بن زائدة، فقال الوليد:
ستعلم يا يزيد إذا التقينا ... بشط الزاب أي فتىً يكون
فجعل يزيد يخاتله ويماكره، وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد فقالوا للرشيد: إمنا يتجافى يزيد عن الوليد للرحم، لأنهما كلاهما من وائل، وهونوا أمر الوليد، فكتب إليه الرشيد كتاب مغضب، وقال له: لووجهت أحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنك مداهن، متعصب، وأقسم بالله إن أخرت مناجزته لأوجهن إليك من يحمل رأسك؛ فلقي الرشيد عشية خميس في شهر رمضان سنة تسع وسبعين، فيقال: جهد عطشاً حتى رمى بخاتمه في فيه، وجعل يلوكه ويقول: اللهم إنها شدة شديدة، فاسترها! وقال لأصحابه: فداكم أبي وأمي إمنا هي الخوارج، ولهم حملة، فاثبتوأن فإذا انقضت حملتهم فاحملوا عليهم فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا.
فكان كما قال، حملوا عليهم حملة، فثبت يزيد ومن معه من عشيرته، ثم حمل عليهم فانكشفوأن فيقال: إن أسد بن يزيد كان شبيهاً بأبيه جداً لا يفصل بينهما إلا ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره، منحرفة على جبهته، فكان أسد يتمنى مثلهأن فهوت إليه ضربة، فأخرج وجهه من الترس، فأصابته في ذلك الموضع، فيقال لوخطت على ضربة أبيه ما عدا.
واتبع الوليد بن طريف، فلحقه، فاحتز رأسه، فقال بعض الشعراء:
وائل بعضهم يقتل بعضاً ... لا يغل الحديد إلا الحديد
فلما قتل الوليد صبحتهم أخته ليلى بنت طريف، مستعد، عليها الدرع، فجعلت تحمل على الناس، فعرفت، فقال يزيد: دعوها! ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسهأن ثم قال: اعزبي، عزب الله عليك، فقد فضحت العشيرة؛ فاستحيت وانصرفت وهي تقول ترثي الوليد:
بتل تباثاً رسم قبر كأنه ... على علم فوق الجبال منيف
تضمن جوداً حاتمياً ونائلاً ... وسورة مقدام وقلب حصيف
ألا قاتل الله الجثى كيف أضمرت ... فتىً كان بالمعروف غير عفيف
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد ... فيا رب خيل فضها وصفوف
ألا يا لقومي للنوائب والردى ... ودهر ملح بالكرام عنيف
وللبدر من بين الكواكب قد هوى ... وللشمس همت بعده بكسوف
فيا شجر الخابور ما لك مورقاً ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
فتىً لا يحب الزاد إلا من التقى ... ولا المال إلا من قنا وسيوف
ولا الخيل إلا كل جرداء شطبة ... وكل حصان باليدين عروف
فلا تجزعا يا ابني طريف فإنني ... أرى الموت نزالاً بكل شريف
فقدناك فقدان الربيع فليتنا ... فديناك من دهمائنا بألوف
وقال مسلم بن الوليد في قتل ورفق يزيد في قتاله من قصيدة هذه الأبيات:
يفتر عند افترار الحرب مبتسماً ... إذا تغير وجه الفارس البطل
موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به ... كالموت مستعجلاً يأتي على مهل
وهي حسنة جداً.
ذكر غزو الفرنج والجلالقة بالأندلسفيها سير هشام صاحب الأندلس عسكراً مع عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فغزا الية والقالع، فغمن وسلم.
وسير أيضاً جيشاً آخر مع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد الجلالقة، فخرب دار ملكهم أدفنش وكنائسه، وغمن. فلما قفل المسلمون ضل الدليل بهم، فنالهم مشقة شديدة، ومات منهم بشر كثير، ونفقت دوابهم، وتلفت آلاتهم، ثم سلموا وعادوا.
ذكر فتنة تاكرناوفيها هاجت فتنة تاكرنا بالأندلس، وخلع بربرها الطاعة، وأظهروا الفساد، وأغاروا على البلاد، وقطعوا الطريق، فسير هشام إليهم جنداً كثيفاً عليهم عبد القادر بن أبان بن عبد الله، مولى معاوية بن أبي سفيان، فقصدوها وتابعوا قتال من فيها إلى أن أبادوهم قتلاً وسبيأن وفر من بقي منهم فدخل في سائر القبائل، وبقيت كورة تاكرنا وجبالها خالية من الناس سبع سنين.
ذكر عدة حوادثوفيها غزا الصائفة معاوية بن زفر بن عاصم، وغزا الشاتية سليمان بن راشد، ومعه البند بطريق صقلية.
وحج بالناس هذه السنة محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي.
وفيها فوض الرشيد أمور دولته كلها إلى يحيى بن خالد البرمكي.
وفيها وصل الفضل بن يحيى إلى خراسان، وغزا ما وراء النهر من بخارى، فحضر عنده صاحب أشروسنة، وكان ممتنعاً؛ وبنى الفضل بخراسان المساجد والرباطات.
وفيها توفي عبد الوارث بن سعيد، والمفضل بن يونس، وجعفر بن سليمان الضبعي.
حوادث سنة تسع وسبعين ومائة
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
وفيها سير هشام صاحب الأندلس جيشاً كثيفاً عليهم عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث، إلى جليقية، فساروا حتى انتهوا إلى استرقة، وكان أذفونش، ملك الجلالقة، قد جمع وحشد، وأمده ملك البشكنس، وهم جيرانه، ومن يليهم من المجوس، وأهل تلك النواحي، فصار في جمع عظيم، فأقدم عليه عبد الملك، فرجع أذفونش هيبة له، وتبعهم عبد الملك يقفوأثرهم، ويهلك كل من تخلف منهم، فدوخ بلادهم، وأوغل فيهأن وأقام فيها يغمن، ويقتل، ويخرب، وهتك حريم أذفونش، ورجع سالماً.
وكان قد سير هشام جيشاً آخر من ناحية أخرى، فدخلوا أيضاً على ميعاد من عبد الملك، فأخربوأن ونهبوأن وغمنوأن فلما أرادوا الخروج من بلاد العدواعترضهم عسكر للفرنج فنال منهم، وقتل نفراً من المسلمين ثم تخلصوأن وسلموأن وعادوا سالمين سوى من قتل منهم.
ذكر عدة حوادثفيها عاد الفضل بن يحيى من خراسان، فاستعمل الرشيد منصور بن يزيد بن منصور الحميري، خال المهدي؛ واعتمر الرشيد في شهر رمضان، شكراً لله تعالى على قتل الوليد بن طريف، وعاد إلى المدينة فأقام بها إلى وقت الحج، وحج بالناس، ومشى من مكة إلى منى ثم إلى عرفات، وشهد المشاعر كلها ماشيأن ورجع على طريق البصرة.
وفيها خرج بخراسان حمزة بن أترك السجستاني.
وفيها توفي حماد بن زيد درهم الأظدي، ولاهم أبوإسماعيل، ومالك بن أنس الأصبحي، الإمام أستاذ الشافعي.
وفيها توفي مسلم بن خالد الزنجي أبوعبد الله الفقيه المكي، وصحبه الشافعي قبل مالك، وأخذ عنه الفقه، وإمنا قيل له الزنجي لأنه كان أبيض مشرباً بحمرة، وعباد بن عباد بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي البصري، وأبوالأحوص سلام بن سليم الحنفي سلام بتشديد اللام.
حوادث سنة ثمانين ومائة
ذكر وفاة هشام
وفيها مات هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، صاحب الأندلس، في صفر، وكانت إمارته سبع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام، وقيل تسعة أشهر، وقيل سبعة أشهر، وكان عمره تسعاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وكنيته أبوالوليد؛ وكانت أمه أم ولد.كان أبيض أشهل، مشرباً بحمرة، بعينيه حول، وخلف خمسة بنين؛ وكان عاملاً حازمأن ذا رأي وشجاعة وعدل، خيرأن محباً لأهل الخير والصلاح، شديداً على الأعداء، راغباً في الجهاد.
ومن أحسن عمله أنه أخرج مصدقاً يأخذ الصدقة على كتاب الله وسنة نبيه أيام ولايته، وهوالذي تمم بناء الجامع بمدينة قرطبة، وكان أبوه قد مات قبل فراغه منه، وبنى عدة مساجد معه، وبلغ من عز الإسلام في أيامه وذل الكفر أن رجلاً مات في أيامه، فأوصى أن يفك أسير من مسلمين من تركته، فطلب ذلك، فلم يوجد في دار الكفار أسير يشتري ويفك لضعف العدو وقوة المسلمين.
ومناقبه كثيرة قد ذكرها أهل الأندلس كثيرأن وبالغوا حتى قالوا كان يشبه في سيرته بعمر بن عبد العزيز، رحمه الله.
ذكر ولاية ابنه الحكم ولقبه المنتصرولما مات استخلف بعده ابنه الحكم، وكان الحكم صارمأن حازمأن وهوأول من استكثر من المماليك بالأندلس، وارتبط الخيل ببابه، وتشبه بالجبابرة.
وكان يباشر الأمور بنفسه، وكان فصيحأن شاعرأن ولما ولي خرج عليه عماه سليمان وعبد الله، وكان في بر العدوة الغربية، فعبر عبد الله البلنسي إلى الأندلس، فتولى بلنسية، وتبعه أخوه سليمان، وكان بطنجة، وأقبلا يؤلبان الناس على الحكم، ويثيران الفتنة، فتحاربوا مدة والظفر للحكم.
ثم إن الحكم ظفر بعمه سليمان، فقتله سنة أربع وثمانين ومائة، وأما عبد الله فأقام ببلنسية، وقد كف عن الفتنة، وخاف، فراسل الحكم في الصلح، فأجابه إلى ذلك، فوقع الصلح بينهما سنة ست وثمانين، وزوج أولاد عبد الله بأخواته، وسكنت الفتنة.
ولما اشتغل الحكم بالفتنة مع عميه اغتمن الفرنج الفرصة، فقصدوا بلاد الإسلام، وأخذوا مدينة برشلونة واتخذوها دارأن ونقلوا أصحابهم إليهأن وتأخرت عساكر المسلمين عنهأن وكان أخذها سنة خمس وثمانين ومائة.
ذكر غزو الفرنج بالأندلس
في هذه السنة سير الحكم، صاحب الأندلس، جيشاً مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج، فدخل البلاد، وبث السرايا ينهبون، ويقتلون، ويحرقون البلاد، وسير سرية، فجازوا خليجاً من البحر كان الماء قد جزر عنه، وكان الفرنج قد جعلوا أموالهم وأهليهم وراء ذلك الخليج، ظناً منهم أن أحداً لا يقدر أن يعبر إليهم، فجاءهم ما لم يكن في حسابهم، فغمن المسلمون جميع مالهم، وأسروا الرجال وقتلوا منهم فأكثروأن وسبوا الحريم، وعادوا سالمين إلى عبد الكريم.
وسير طائفة أخرى، فخربوا كثيراً من بلاد فرنسية، وغمن أموال أهلهأن وأسروا الرجال، فأخبره بعض الأسرى أن جماعة من ملوك الفرنج قد سبقوا المسلمين إلى واد وعر المسلك على طريقهم، فجمع عبد الكريم عساكره، وسار على تعبئة، وجد السير، فلم يشعر الكفار إلا وقد خالطهم المسلمون، فوضعوا السيف فيهم، فانهزموا وغنم ما معهم، وعاد سالماً هو ومن معه.
ذكر ولاية علي بن عيسى خراسانوفيها عزل الرشيد منصور بن يزيد عن خراسان، واستعمل عليها علي بن عيسى بن ماهان، فوليها عشر سنين، وفي ولايته خرج حمزة بن أترك الخارجي أيضأن فجاء إلى بوشنج، فخرج إليه عمرويه بن يزيد الأزدي، وكان على هراة، في ستة آلاف، فقاتله، فهزمه حمزة، وقتل من أصحابه جماعة، ومات عمرويه في الزحام، فوجه علي بن عيسى ابنه الحسين في عشرة آلاف، فلم يحارب حمزة، فعزله، وسير عوضه ابنه عيسى بن علي فقاتل حمزة، فهزمه حمزة، فرده أبوه إليه أيضأن فقاتله بباخرز، وكان حمزة بنيسابور، فانهزم حمزة، وبقي أصحابه، وبقي في أربعين رجلأن فقصد قهستان.
وأرسل عيسى أصحابه إلى أوق وجوين، فقتلوا من بها من الخوارج، وقصد القرى التي كان أهلها يعينون حمزة، فأحرقهأن وقتل من فيهأن حتى وصل إلى زرنج، فقتل ثلاثين ألفاً ورجع، وخلف بزرنج عبد الله بن العباس النسفي، فجبى الأموال وسار بهأن فلقيه حمزة بأسفزار، فقاتله، فصبر له عبد الله ومن معه من الصغد، فانهزم حمزة، وقتل كثير من أصحابه، وجرح في وجهه، واختفى هو ومن سلم من أصحابه في الكروم، ثم خرج وسار في القرى يقتل، ولا يبقي على أحد.
وكان علي بن عيسى قد استعمل طاهر بن الحسين على بوشنج، فسار إليه حمزة، وانتهى إلى مكتب فيه ثلاثون غلاماً؛ فقتلهم؛ وقتل معلمهم، وبلغ طاهراً الخبر، فأتى قرية فيها قعد الخوارج، وهم الذين لا يقاتلون، ولا ديوان لهم، فقتلهم طاهر، وأخذ أموالهم؛ وكان يشد الرجل منهم في شجرتين، ثم يجمعهمأن ثم يرسلهمأن فتأخذ كل شجرة نصفه، فكتب القعد إلى حمزة بالكف، فكف وواعدهم، وأمن الناس مدة، وكانت بينه وبين أصحاب علي بن عيسى حروب كثيرة.
ذكر عدة حوادثوفيها سار جعفر بن يحيى بن خالد إلى الشام للعصبية التي بها ومعه القواد والعساكر والسلاح والأموال، فسكن الفتنة، وأطفأ النائرة، وعاد الناس إلى الأمن والسكون.
وفيها أخذ الرشيد الخاتم من جعفر بن عيسى، فدفعه إلى أبيه يحيى بن خالد.
وفيها ولى جعفراً خرسان وسجستان، ثم عزله عنها بعد عشرين ليلة، واستعمل عليها عيسى بن جعفر، وولى جعفر بن يحيى الحرس.
وفيها هدم الرشيد سور الموصل بسبب العطاف بن سفيان الأزدي، سار إليها بنفسه، وهدم سورهأن وأقسم ليقتلن من لقي من أهلهأن فأفتاه القاضي أبويوسف، ومنعه من ذلك؛ وكان العطاف قد سار عنها نحوأرمينية فلم يظفر به الرشيد، ومضى إلى الرقة فاتخذها وطناً.
وفيها عزل هرثمة بن أعين عن إفريقية، واستقدمه إلى بغداد واستخلفه جعفر بن يحيى على الحرس.
وفيها كانت بمصر زلزلة عظيمة سقط منها رأس منارة الاسكندرية.
وفيها خرج حراشة الشيباني بالجزيرة، فقتله مسلم بن بكار العقيلي. وفيها خرجت المحمرة بجرجان.
وفيها عزل الفضل بن يحيى عن طبرستان، والرويان، ووليها عبد الله بن خازم، وولي سعيد بن سلم الجزيرة، وغزا الصائفة محمد بن معاوية بن زفر بن عاصم.
وفيها سار الرشيد إلى الحيرة، وابتنى بها المنازل، فأقطع أصحابه القطائع فثار بهم أهل الكوفة، وأساؤوا مجاورته، فعاد إلى بغداد.
وحج بالناس هذه السنة موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي.
وفيها استعمل الرشيد على الموصل يحيى بن سعيد الحرشي، فأساء السيرة في أهلهأن وظلمهم، وطالبهم بخراج سنين مضت، فجلا أكثر أهل البلد.
وفي هذه السنة توفي المبارك بن سعيد الثوري أخوسفيان؛ وسلمه الأحمر؛ وسعيد بن خيثم، وأبوعبيدة عبد الوارث بن سعيد؛ وعبد العزيز بن أبي حازم، وتوفي وهوساجد؛ وأبوضمرة أنس عن عياض الليثي المدني.
وفيها أمر الرشيد ببناء مدينة عين زربة وحصنها. وسير إليها جنداً من أهل خراسان وغيرهم، فأقطعهم بها المنازل.
حوادث سنة إحدى وثمانين ومائة
ذكر ولاية محمد بن مقاتل إفريقية
وفي هذه السنة استعمل الرشيد على إفريقية محمد بن مقاتل بن حكيم العكي، لما استعفى منها هرثمة بن أعين، على ما ذكرناه، سنة سبع وسبعين ومائة؛ وكان محمد هذا رضيع الرشيد، فقدم القيروان أول رمضان، فتسلمهأن وعاد هرثمة إلى الرشيد؛ فلما استقر فيها لم يكن بالمحمود السيرة، فاختلف الجند عليه، واتفقوا على تقديم مخلد بن مرة الأزدي، واجتمع كثير من الجند والبربر وغيرهم، فسير إليه محمد بن مقاتل جيشأن فقاتلوه، فانهزم مخلد واختفى في مسجد، فأخذ وذبح.وخرج عليه بتونس تمام بن تميم التميمي في جمع كثير، وساروا إلى القيروان في رمضان سنة ثلاث وثمانين، وخرج إليه محمد بن مقاتل العكي في الذين معه، فاقتتلوا بمنية الخيل، فانهزم ابن العكي إلى القيروان وسار تمام فدخل القيروان وأمن ابن العكي، على أن يخرج عن إفريقية، فسار في رمضان إلى طرابلس.
فجمع إبراهيم بن الأغلب التميمي جمعاً كثيرأن وسار إلى القيروان منكراً لما فعله تمام، فلما قاربها سار عنها إلى تونس، ودخل إبراهيم إلى القيروان، وكتب إلى محمد بن مقاتل يعلمه الخبر، جمعاً وسار إلى القيروان، ظناً منه أن الناس يكرهون محمداً ويساعدونه عليه.
فلما وصل قال ابن الأغلب لمحمد: إن تماماً انهزم مني وأنا في قلة، فلما وصلت إلى البلاد تجدد له طمع لعلمه أن الجند يخذلونك، والرأي أن أسير أنا ومن معي من أصحابي فنقاتله؛ ففعل ذلك، وسار إليه فقاتله، فانهزم تمام، وقتل جماعة من أصحابه، ولحق بمدينة تونس، فسار إبراهيم ابن الأغلب إليه ليحصره، فطلب منه الأمان فأمنه.
ذكر ولاية إبراهيم بن الأغلب إفريقيةلما استقر الأمر لمحمد بن مقاتل ببلاد إفريقية، وأطاعة تمام، كره أهل البلاد ذلك، وحملوا إبراهيم بن الأغلب على أن كتب إلى الرشيد يطلب منه ولاية إفريقية، فكتب إليه في ذلك، وكان على ديار مصر، كل سنة مائة ألف دينار تحمل إلى إفريقية معونة، فنزل إبراهيم عن ذلك، وبذل أن يحمل كل سنة أربعين ألف دينار، فأحضر الرشيد ثقاته واستشارهم فيمن يوليه إفريقية، وذكر لهم كراهة أهلها ولاية محمد بن مقاتل، فأشار هرثمة بإبراهيم بن الأغلب، وذكر له ما رآه من عقله ودينه وكفايته، وأنه قام بحفظ إفريقية على ابن مقاتل، فولاه الرشيد في المحرم سنة أربع وثمانين ومائة، فانقمع الشر، وضبط الأمر، وسير تمامأن وكل من يتوثب الولاة، إلى الرشيد، فسكنت البلاد، وابتنى مدينة سماها العباسية بقرب القيروان، وانتقل إليها بأهله وعبيده.
وخرج عليه، سنة ست وثمانين ومائة، رجل من أبناء العرب بمدينة تونس، اسمه حمديس، فنزع السواد، وكثر جمعه، فبعث إليه ابن الأغلب عمران بن مخلد في عساكر كثيرة، وأمره أن لا يبقي على أحد منهم إن ظفر بهم. فسار عمران، والتقوا واقتتلوأن وصار أصحاب حمديس يقولون: بغداد! بغداد! وصبر الفريقان، فانهزم حمديس ومن معه، وأخذهم السيف، فقتل منهم عشرة آلاف رجل، ودخل عمران تونس.
ثم بلغ ابن الأغلب أن إدريس بن إدريس العلوي قد كثر جمعه بأقاصي المغرب، فأراد قصده، فنهاه أصحابه وقالوا: اتركه ما تركك؛ فأعمل الحيلة، وكاتب القيم بأمره من المغاربة، واسمه بهلول بن عبد الواحد، وأهدى إليه، ولم يزل به حتى فارق إدريس وأطاع إبراهيم، وتفرق جمع إدريس، فكتب إلى إبراهيم يستعطفه، ويسأله الكف عن ناحيته، ويذكر له قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكف عنه.
ثم إن عمران بن مخلد، المقدم ذكره، وكان من بطانة إبراهيم بن الأغلب، وينزل معه في قصره، ركب يوماً مع إبراهيم وجعل يحدثه، فلم يفهم من حديثه شيئاً لاشتغال قلبه بمهم كان له، فاستعاد الحديث من عمران فغضب وفارق إبراهيم، وجمع جمعاً كثيرأن وثار عليه، فنزل بين القيروان والعباسية، وصارت القيروان وأكثر بلاد إفريقية معه.
فخندق إبراهيم على العباسية، وامتنع فيهأن ودامت الحرب بينهما سنة كاملة، فسمع الرشيد الخبر، فأنفذ إلى إبراهيم خزانة مال، فلما صارت إليه الأموال أمر منادياً ينادي: من كان من جند أمير المؤمنين فليحضر لأخذ العطاء. ففارق عمران أصحابه وتفرقوا عنه، فوثب عليهم أصحاب إبراهيم، فانهزموأن فنادى إبراهيم بالأمان والحضور لقبض العطاء، فحضروا فأعطاهم، وقلع أبواب القيروان وهدم في سورها.
وأما عمران، فسار حتى لحق بالزاب، فأقام به حتى مات إبراهيم، وولى بعده ابنه عبد الله فأمن عمران، فحضر عنده، وأسكنه معه، فقيل لعبد الله: أن هذا ثأر بأبيك، ولا نأمنه عليك؛ فقتله.
ولما انهزم عمران سكن الشر بإفريقية، وأمن الناس، فبقي كذلك إلى أن توفي إبراهيم في شوال سنة ست وتسعين ومائة وعمره ست وخمسون سنة، وإمارته اثنتا عشرة سنة وأربعة أشهر وعشرة أيام.
ذكر ولاية عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب إفريقيةولما توفي إبراهيم بن الأغلب ولي بعده ابنه عبد الله، وكان عبد الله غائباً بطرابلس قد حصره البربر، على ما نذكره سنة ست وتسعين ومائة، فعهد إليه أبوه بالإمارة، وأمر ابنه زيادة الله بن إبراهيم أن يبايع لأخيه عبد الله بالإمارة، فكتب إلى أخيه بموت أبيه، وبالإمارة، ففارق طرابلس، ووصل إلى القيروان، فاستقامت الأمور، ولم يكن في أيامه شر، ولا حرب، وسكن الناس فعمرت البلاد وتوفي في ذي الحجة سنة إحدى ومائتين.
ذكر من خالف بالأندلس على صاحبهاوفي هذه السنة خالف بهلول بن مرزوق، المعروف بأبي الحجاج في ناحية الثغر من بلاد الأندلس، ودخل سرقسطة وملكهأن فقدم على بهلول فيها عبد الله بن عبد الرحمن، عم صاحبها الحكم، ويعرف بالبلنسي، وكان متوجهاً إلى الفرنج.
وخالف فيها عبيدة بن حميد بطليطلة، وأمر الحكم القائد عمروس بن يوسف، وهوبمدينة طلبيرة، أن يحارب أهل طليطلة فكان يكثر قتالهم، وضيق عليهم؛ ثم إن عمروس بن يوسف كاتب رجالاً من أهل طليطلة يعرفون ببني مخشي، واستمالهم، فوثبوا على عبيدة بن حميد وقتلوه، وحملوا رأسه إلى عمروس، فسير الرأس إلى الحكم، وأنزل بني مخشي عنده، وكان بينهم وبين البربر الذين بمدينة طلبيرة ذحول، فتسور البربر عليهم فقتلوهم، فسير عمروس رؤوسهم مع رأس عبيدة إلى الحكم وأخبره الخبر.... من باب آخر، فمن دخل منهم عدل به إلى موضع آخر فقتلوه، حتى قتل منهم سبع مائة رجل، فاستقامت تلك الناحية.
ذكر عدة حوادثفيها غزا الرشيد أرض الروم، فافتتح حصن الصفصاف وفيها غزا عبد الملك بن صالح أرض الروم، فبلغ أنقرة، وافتتح مطمورة.
وفيها توفي حمزة بن مالك.
وفيها غلبت المحمرة على خراسان.
وفيها أحدث الرشيد في صدر كتبه الصلاة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وحج بالناس الرشيد.
وفي هذه السنة كان الفداء بين الروم والمسلمين، وهوأول فداء كان أيام بني العباس، وكان القاسم بن الرشيد هوالمتولي له، وكان الملك فغفور، ففرح بذلك الناس، ففودي بكل أسير في بلاد الروم، وكان الفداء باللامس، على جانب البحر، بينه وبين طرسوس اثنا عشر فرسخأن وحضر ثلاثون ألفاً من المرتزقة مع أبي سليمان، فخرج الخادم، متولي طرسوس، وخلق كثيراً من أهل الثغور، وغيرهم من العلماء والأعيان، وكان عدة الأسرى ثلاثة آلاف وسبعمائة، وقيل أكثر من ذلك.
وفيها توفي الحسن بن قحطبة، وهومن قواد المنصور، هو وأبوه، وكان عمره أربعاً وثمانين سنة؛ وعبد الله بن المبارك المروزي، توفي في رمضان بهيت وعمره ثلاث وستون سنة؛ وعلي بن حمزة أبوالحسن الأزدي، المعروف بالكسائي المقرئ، النحوي، بالري، وقيل مات سنة ثلاث وثمانين.
وفيها توفي مروان بن سليمان بن يحيى بن أبي حفصة الشاعر، وكان مولده سنة خمس ومائة.
وفيها توفي أبويوسف القاضي، واسمه يعقوب بن إبراهيم، وهوأكبر أصحاب أبي حنيفة. وفيها توفي يعقوب بن داود بن عمر بن طهمان، مولى عبد الله بن خازم السلمي، وكان يعقوب وزير المهدي، وهاشم بن البريد؛ ويزيد ابن زريع؛ وحفص بن ميسرة الصنعني من صنعاء دمشق.
البريد بفتح الباء الموحدة، وكسر الراء، وبالياء تحتها نقطتان.
حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائة
في هذه السنة بايع الرشيد لعبد الله المأمون بولاية العهد بعد الأمين، وولاه خراسان وما يتصل بها إلى همذان، ولقبه المأمون، وسلمه إلى جعفر بن يحيى.
وهذا من العجائب، فإن الرشيد قد رأى ما صنع أبوه وجده المنصور بعيسى بن موسى، حتى خلع نفسه من ولاية العهد، وما صنع أخوه الهادي ليخلع نفسه من العهد، فلولم يعاجله الموت لخلعه، ثم هويبايع للمأمون بعد الأمين، وحبك الشيء يعمي ويصم.
وفيها حملت ابنة خاقان ملك الخزر إلى الفضل بن يحيى، فماتت ببرذعة فرجع من معها إلى أبيها فأخبروه أنها قتلت غيلة، فتجهز إلى بلاد الإسلام.
وغزا الصائفة عبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، فبلغ أفسوس، مدينة أصحاب الكهف.
وفيها سملت الروم عيني ملكهم قسطنطين بن أليون، وأقروا أمه ريني وتلقب عطسة. وحج بالناس موسى بن عيسى بن موسى، وكان على الموصل هرثمة بن أعين.
وفيها جاز سليمان بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، إلى بلاد الأندلس من الشرق، وتعرض لحرب بن أخيه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، صاحب البلاد، فسار إليه الحكم في جيوش كثيرة، وقد اجتمع إلى سليمان كثير من أهل الشقاق ومن يريد الفتنة، فالتقيا واقتتلأن واشتدت الحرب، فانهزم سليمان واتبعه عسكر الحكم، وعادت الحرب بينهم ثانية في ذي الحجة، فانهزم فيها سليمان، واعتصم بالوعر والجبال، فعاد الحكم.
ثم عاد سليمان فجمع برابر، وأقبل إلى جانب إستجة، فسار إليهم الحكم، فالتقوا واقتتلوا سنة ثلاث وثمانين ومائة، واشتد القتال، فانهزم سليمان، واحتمى بقرية، فحصره الحكم، وعاد سليمان منهزماً إلى ناحية قريش.
وفيها كان بقرطبة سيل عظيم، فغرق كثير من ربضها القبلي، وخرب كثير منه، ويلغ السيل شقندة.
وفي هذه السنة مات جعفر الطيالسي المحدث، وعمار بن محمد ابن أخت سفيان الثوري، وعبد العزيز بن محمد بن أبي عبيد الدراوردي، مولى جهينة، وكان أبوه من دار ابجرد، فاستثقلوا نسبته إليها فقالوا دراوردي.
وفيها توفي دراج أبوالسمح واسمه عبد الله بن السمح، وقيل عبد الرحمن بن السمح بن أسامة التجيبي، المصري، وكان مولده سنة خمس وعشرين ومائة؛ وعفيف بن سالم الموصلي.
حوادث سنة ثلاث وثمانين ومائة
ذكر غزو الخزر بلاد الإسلام
وفيها خرج الخزر بسبب ابنة خاقان من باب الأبواب، فأوقعوا بالمسلمين وأهل الذمة، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وانتهكوا أمراً عظيماً لم يسمع بمثله في الأرض؛ فولى الرشيد أرمينية يزيد بن مزيد مضافاً إلى أذربيجان، ووجهه إليهم، وأنزل خزيمة بن خازم نصيبين ردءاً لأهل أرمينية. وقيل إن سبب خروجهم أن سعيد بن سلم قتل المنجم السلمي فدخل ابنه بلاد الخزر، واستجاشهم على سعيد، فخرجوا ودخلوا أرمينية من الثلمة، فانهزم سعيد، وأقاموا نحوسبعين يومأن فوجه الرشيد خزيمة بن خازم، ويزيد بن مزيد، فأصلحا ما أفسد سعيد، وأخرجا الخزر وسدا الثلمة.ذكر عدة حوادثوفيها استقدم الرشيد علي بن عيسى من خراسان، ثم رده عليها من قبل ابنه المأمون وأمره بحرب أبي الخصيب.
وفيها خرج بنسا من خراسان أبوالخصيب وهيب بن عبد الله النسائي. وحج بالناس العباس بن الهادي.
وفيها مات موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ببغداد في حبس الرشيد.
وكان سبب حبسه أن الرشيد اعتمر في شهر رمضان من سنة تسع وسبعين ومائة، فلما عاد إلى المدينة، على ساكنها السلام، دخل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، يزوره، ومعه الناس، فلما انتهى إلى القبر وقف فقال: السلام عليك يا رسول الله، يا ابن عم، افتخاراً على من حوله، فدنا موسى بن جعفر فقال: السلام عليك يا أبه، فتغير وجه الرشيد وقال: هذا الفخر يا أبا الحسن جداً؛ ثم أخذه معه إلى العراق، فحبسه عند السندي بن شاهك، وتولت حبسه أخت السندي بن شاهك، وكانت تتدين، فحكت عنه أنه كان إذا صلى العتمة حمد الله ومجده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثم يقوم فيصلي، حتى يصلي الصبح، ثم يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثم يرقد، ويستيقظ قبل الزوال، ثم يتوضأ ويصلي، حتى يصلي العصر، ثم يذكر الله، حتى يصلي المغرب، ثم يصلي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات.
وكانت إذا رأته قالت: خاب قوم تعرضوا لهذا الرجل الصالح! وكان يلقب الكاظم لأنه كان يحسن إلى من يسيء إليه، كان هذا عادته أبدأن ولما كان محبوساً بعث إلى الرشيد برسالة أنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا ينقضي عنك معه يوم من الرخاء، حتى ينقضيا جميعاً إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون.
وفيها كانت بالأندلس فتنة وحرب بين قائد كبير يقال له أبوعمران وبين بهلول بن مرزوق، وهومن أعيان الأندلس، وكان عبد الله البلنسي مع أبي عمران، فانهزم أصحاب بهلول، وقتل كثير منهم.
وفيها توفي يونس بن حبيب النحوي المشهور، أخذ العلم عن أبي عمروبن العلاء وغيره، وكان عمره قد زاد على مائة سنة.
وفيها مات موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ ومحمد بن صبيح أبوالعباس المذكر، المعروف بابن السماك؛ وهشيم بن بشير الواسطي توفي في شعبان، وكان ثقة إلا أنه كان يصحف؛ ويحيى بن زكرياء بن أبي زائدة، قاضي المدائن بهأن وكان عمره ثلاثاً وستين سنة؛ ويوسف بن يعقوب بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون.
صبيح بفتح الصاد المهملة، وكسر الباء الموحدة. وبشير بفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المعجمة.
حوادث سنة أربع وثمانين ومائةوفيها ولى الرشيد حماداً البربري اليمن ومكة وولى داود بن يزيد بن حاتم المهلبي السند، ويحيى الحرشي الجبل ومهرويه الرازي طبرستان، وقام بأمر إفريقية إبراهيم بن الأغلب، فولاه إياها الرشيد.
وفيها خرج أبوعمروالشاري، فوجه إليه زهيراً القصاب فقتله بشهرزور.
وفيها طلب أبوالخصيب الأمان فأمنه علي بن عيسى بن ماهان. وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي؛ وكان على الموصل وأعمالها يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني.
وفيها سار عبد الله بن عبد الرحمن البلنسي إلى مدينة أشقة من الأندلس، فنزل بها مع أبي عمران، ومع العرب، فسار إليهم بهلول بن مرزوق، وحاصرهم فيهأن فتفرق العرب عنهم، ودخل بهلول مدينة أشقة، وسار عبد الله إلى مدينة بلنسية فأقام بها.
وفيها توفي المعافى بن عمران الموصلي، الأزدي، وقيل سنة خمس وثمانين.
وفيها توفي عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن الخطاب الذي يقال له العابد؛ وعبد السلام بن شعيب بن الحجاب الأزدي، وعبد الأعلى بن عبد الله الشامي المصري من بني شامة بن لؤي؛ وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أبومحمد.
حوادث سنة خمس وثمانين ومائةفي هذه السنة قتل أهل طبرستان مهرويه الرازي، وهو واليها، فولى الرشيد مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي.
وفيها قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج القلعة.
وفيها عاث حمزة الخارجي بباذغيس، فقتل عيسى بن علي بن عيسى من أصحابه عشرة آلاف، وبلغ عيسى كابل وزابلستان.
وفيها غدر أبوالخصيب ثانية، وغلب على أبيورد، وطوس، ونيسابور، وحصر مرو، ثم انهزم عنها وعاد إلى سرخس، وعاد أمره قوياً.
وفيها استأذن جعفر بن يحيى في الحج والمجاورة، فأذن له، فخرج في شعبان واعتمر في رمضان وأقام بجدة مرابطاً إلى أن حج.
وفيها جمع الحكم صاحب الأندلس عساكره، وسار إلى عمه سليمان بن عبد الرحمن، وهوبناحية فريش، فقاتله، فانهزم سليمان، وقصد ماردة، فتبعه طائفة من عسكر الحكم فأسروه فلما حضر عند الحكم قتله، وبعث برأسه إلى قرطبة، وكتب إلى أولاد سليمان وهم بسرقسطة كتاب أمان، واستدعاهم، فحضروا عنده بقرطبة.
وفيها وقعت في المسجد الحرام صاعقة قتلت رجلين. وحج بالناس فيها منصور بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي.
وفيها مات عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ولم يكن سقط له سن، وقيل كانت أسنانه قطعة واحدة من أسفل وقطعة واحدة من فوق، وهوقعدد بني عبد مناف لأنه كان في القرب إلى عبد مناف بمنزلة يزيد بن معاوية، وبين موتهما ما يزيد على مائة وعشرين سنة.
وفيها ملك الفرنج، لعنهم الله، مدينة برشلونة بالأندلس، وأخذوها من المسلمين، ونقلوا حماة ثغورهم إليهأن وتأخر المسلمون إلى ورائهم.
وكان سبب ملكهم إياها اشتغال الحكم صاحب الأندلس بمحاربة عمية عبد الله وسليمان على ما تقدم.
وفيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد على طريق الموصل.
وفيها مات يقطين بن موسى ببغداد.
وفيها أيضاً توفي يزيد بن مزيد بن زائدة الشيباني، وهوابن أخي معن بن زائدة، بمدينة برذعة، وولي مكانه أسد بن يزيد، وكان يزيد ممدحأن جوادأن كريمأن شجاعأن وأكثر الشعراء مراثيه، ومن أحسن ما قيل في المرائي ما قاله أبومحمد التميمي رثاء له، فأثبته لجودته:
أحقاً أنه أودى يزيد ... تبين أيها الناعي المشيد
أتدري من نعيت وكيف فاهت ... به شفتاك كان بها الصعيد
أحامي المجد والإسلام أودى ... فما للأرض ويحك لا تميد
تأمل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد
وهل مالت سيوف بني نزار ... وهل وضعت عن الخيل اللبود
وهل تسقي البلاد عشار مزن ... بدرتها وهل يخضر عود
أما هدت لمصرعه نزار ... بلى! وتقوض المجد المشيد
وحل ضريحه إذ حل فيه ... طريف المجد والحسب التليد
أما والله ما تنفك عيني ... عليك بدمعها أبداً تجود
فإن تجمد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جمود
أبعد يزيد تختزن البواكي ... دموعأن أويصان لها خدود
لتبكك قبة الإسلام لما ... وهت أطنابها ووهى العمود
ويبكك شاعر لم يبق دهر ... له نسباً وقد كسد القصيد
فمن يدعوالإمام لكل خطب ... ينوب وكل معضلة تؤود
ومن يحمي الخميس إذا تعايا ... بحيلة نفسه البطل النجيد
فإن يهلك يزيد فكل حي ... فريس للمنية أوطريد
ألم تعجب له! إن المنايا ... فتكن به وهن له جنود
قصدن له وكن يحدن عنه ... إذا ما الحرب شب لها وقود
لقد عزى ربيعة أن يوماً ... عليها مثل يومك لا يعود
وكان الرشيد إذا سمع هذه المرثية بكى، وكان يستجيدها ويستحسنها.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم الإمام بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ببغداد؛ وعبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير؛ والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن عياش المخزومي، ويعرف بالحزامي، وكان مولده سنة أربع وعشرين ومائة؛ وحجاج الصواف، وهوأبن أبي عثمان ميسرة.
عياش بالشين المعجمة، والياء المثناة من تحت، الحزامي بالحاء المهملة، والزاي.
حوادث سنة ست وثمانين ومائة
ذكر اتفاق الحكم وعمه عبد الله
في هذه السنة اتفق الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، أمير الأندلس، وعمه عبد الله بن عبد الرحمن البلنسي.وسبب ذلك أن عبد الله لما سمع بقتل أخيه سليمان عظم عليه، وخاف على نفسه، ولزم بلنسية ولم يفارقهأن ولم يتحرك لإثارة فتنة، وأرسل إلى الحكم يطلب المسالمة، والدخول في طاعته، وقيل بل الحكم أرسل إليه رسلأن وكتب إليه يعرض عليه المسالمة، ويؤمنه، وبذل له الأرزاق الواسعة، ولأولاده، فأجاب عبد الله إلى الاتفاق، واستقرت القاعدة بينهم على يد يحيى بن يحيى، صاحب مالك، وغيره من العلماء؛ وزوج الحكم أخواته من أولاد عمه عبد الله، وسار إليه عبد الله، فأكرمه الحكم، وعظم محله، وأجرى له ولأولاده الأرزاق الواسعة والصلات السنية.
وقيل إن المراسلة في الصلح كانت هذه السنة، واستقر الصلح سنة سبع وثمانين ومائة.
ذكر حج الرشيد وأمر كتاب ولاية العهدفي هذه السنة حج بالناس هارون الرشيد، سار إلى مكة من الأنبار، فبدأ بالمدينة، فأعطى فيها ثلاثة أعطية، هوعطاء، ومحمد الأمين عطاء، وعبد الله المأمون عطاء، وسار إلى مكة فأعطى أهلهأن فبلغ ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار.
وكان الرشيد قد ولى الأمين العراق والشام، وإلى آخر المغرب، وضم إلى المأمون من همذان إلى آخر المشرق، ثم بايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، ولقبه المؤتمن، وضم إليه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان في حجر عبد الملك بن صالح، وجعل خلعه وإثباته إلى المأمون.
ولما وصل الرشيد إلى مكة، ومعه أولاده، الفقهاء والقضاة والقواد، كتب كتاباً أشهد فيه على محمد الأمين، وأشهد فيه من حضر بالوفاء للمأمون، وكتب كتاباً للمأمون أشهدهم عليه فيه بالوفاء للأمين، وعلق الكتابين في الكعبة، وجدد العهود عليهما في الكعبة؛ ولما فعل الرشيد ذلك قال الناس قد ألقى بينهم شراً وحرباً، وخافوا عاقبة ذلك، فكان ما خافواه.
ثم إن الرشيد في سنة تسع وثمانين شخص إلى قرماسين ومعه المأمون، وأشهد على نفسه من عنده من القضاة والفقهاء أن جميع ما في عسكره من الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون، وجدد له البيعة عليهم، وأرسل إلى بغداد فجدد له البيعة على محمد الأمين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار علي بن عيسى بن ماهان من مروإلى نسا لحرب أبي الخصيب، فحاربه فقتله وسبى نساءه وذراريه، واستقامت خراسان.
وفيها توفي خالد بن الحارث، وبشر بن المفضل، وأبوإسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري.
وفيها مات عبد الله بن صالح بن عبد الله بن عباس بسلمية في ربيع الأول.
وفيها توفي علي بن عباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس في رجب وعمره خمس وستون سنة وستة أشهر، وهوابن أخي السفاح والمنصور.
وفيها توفي عمر بن يونس منصرفة من الحج باليمامة.
وفيها توفي عباد بن عباد بن العوام الفقيه ببغداد؛ وتوفي شقران بن علي الزاهد بالأندلس، وكان فقيهاً.
وفيها توفي راشد مولى عيسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وكان قد دخل المغرب مع إدريس بن عبد الله بن الحسن؛ وقام بعده بأمر البربر أبوخالد يزيد بن إلياس.
حوادث سنة سبع وثمانين ومائة
ذكر إيقاع الرشيد بالبرامكة
وفي هذه السنة أوقع الرشيد بالبرامكة وقتل جعفر بن يحيى.وكان سبب ذلك أن الرشيد كان لا يصبر عن جعفر وعن أخته عباسة بنت المهدي، وكان يحضرهما إذا جلس للشرب، فقال لجعفر: أزوجكها ليحل لك النظر إليها ولا تقربهأن فإني لا أطيق الصبر عنها؛ فأجابه إلى ذلك، فزوجها منه، وكانا يحضران معه، ثم يقوم عنهمأن وهما شابان، فجامعها جعفر، فحملت منه، فولدت له غلامأن فخافت الرشيد، فسيرته مع حواضن له إلى مكة، فأعطته الجواهر والنفقات.
ثم إن عباسة وقع بينها وبين بعض جواريها شر، فأنهت أمرها وأمر الصبي إلى الرشيد، فحج هارون هذه السنة، وبحث عن الأمر، فعلمه، وكان جعفر يصنع للرشيد طعاماً بعسفان، إذا حج، فصنع ذلك، ودعاه فلم يحضر عنده، فكان ذلك أول تغير أمرهم.
وقيل: كان سبب ذلك أن الرشيد دفع يحيى بن عبد اله بن الحسن بن الحسن بن علي إلى جعفر بن يحيى بن خالد، فحبسه، ثم دعا به ليلة، وسأله عن بعض أمره، فقال له: اتق الله في أمري، ولا تتعرض أن يكون غداً خصمك محمد، صلى الله عليه وسلم، فوالله ما أحدثت حدثأن ولا آويت محدثاً.
فرق له، وقال: اذهب حيث شئت من بلاد الله. قال: فكيف أذهب ولا آمن أن أؤخذ؟ فوجه معه من أداه إلى مأمنه.
وبلغ الخبر الفضل بن الربيع من عين كانت له من خواص جعفر، فرفعه إلى الرشيد، فقال: ما أنت وهذا؟ فعله عن أمري. ثم أحضر جعفراً للطعام، فجعل يلقمه ويحادثه، ثم سأله عن يحيى، فقال: هوبحاله في الحبس. فقال: بحياتي؟ ففطن جعفر، فقال: لا وحياتك!، وقص عليه أمره، وقال: علمت أنه لا مكروه عنده. فقال: نعم ما فعلت! ما عدوت ما في نفسي. فلما قام عنه قال: قتلني الله إن لم أقتلك! فكان من أمره ما كان.
وقيل: كان من الأسباب أن جعفراً ابتنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، فرفع ذلك إلى الرشيد، وقيل هذه غرامته على دار، فما ظنك بنفقاته وصلاته وغير ذلك؟ فاستعظمه.
وكان من الأسباب أيضاً ما لا تعده العامة سببأن وهوأقوى الأسباب، ما سمع من يحيى بن خالد وهويقول، وقد تعلق بأستار الكعبة في حجته هذه: اللهم إن كان رضاك أن تسلبني نعمك عندي فاسلبني! اللهم إن كان رضاك أن تسلبني مالي وأهلي وولدي فاسلبني، إلا الفضل؛ ثم ولى، فلما كان عند باب المسجد رجع، فقال مثل ذلك، وجعل يقول: اللهم إنه سمج بمثلي أن يستثني عليك، اللهم والفضل.
وسمع أيضاً يقول في ذلك المقام: اللهم إن ذنوبي جمة عظيمة لا يحصيها غيرك. اللهم إن كنت تعاقبني فاجعل عقوبتي بذلك في الدنيأن وإن أحاط ذلك بسمعي وبصري وولدي ومالي، حتى يبلغ رضاك، ولا تجعل عقوبتي في الآخرة، فاستجيب له.
فلما انصرفوا من الحج ونزلوا الأنبار، ونزل الرشيد العمر نكبهم.
وكان أول ما ظهر من فساد حالهم أن علي بن عيسى بن ماهان سعى بموسى بن يحيى بن خالد، واتهمه في أمر خراسان، وأعلم الرشيد أنه يكاتبهم ليسير إليهم، ويخرجهم عن الطاعة، فحبسه ثم أطلقه.
وكان يحيى بن خالد يدخل على الرشيد بغير إذن، فدخل عليه يوماً وعنده جبرئيل بن يختيشوع الطبيب، فسلم، فرد الرشيد رداً ضعيفأن ثم أقبل الرشيد على جبرئيل، فقال: أيدخل عليك منزلك أحد بغير إذن؟ قال: لا! قال: فما بالنا يدخل علينا بغير إذن؟ فقال يحيى: يا أمير المؤمنين ما ابتدأت ذلك الساعة، ولكن أمير المؤمنين خصني به، حتى إن كنت لأدخل وهوفي فراشه مجردأن وما علمت أن أمير المؤمنين كره ما كان يحب، فإذا قد علمت فإني سأكون عنده في الطبقة التي تجعلني فيها؛ فاستحيا هارون، وقال: ما أردت ما تكره.
وكان يحيى إذا دخل على الرشيد قام له الغلمان، فقال الرشيد لمسرور: مر الغلمان لا يقومون ليحيى إذا دخل الدار، فدخلها فلم يقومونأن فتغير لونه، وكانوا بعد ذلك إذا رأوه أعرضوا عنه.
فلما رجع الرشيد من الحج نزل العمر الذي عند الأنبار، سلخ المحرم، وأرسل مسروراً الخادم ومعه جماعة من الجند إلى جعفر ليلأن وعنده ابن بختيشوع المتطبب، وأبوزكار المغني، وهوفي لهوه وأبوزكار يغني:
فلا تبعد، فكل فتىً سيأتي ... عليه الموت يطرق أويغادي
وكل ذخيرة لا بد يوماً ... وإن كرمت تصير إلى نفاد
قال مسرور: فقلت له: يا أبا الفضل، الذي جئت له هو والله ذاك، قد طرقك، أجب أمير المؤمنين، فوقع على رجلي يقبلهأن وقال: حتى ادخل فأوصي، فقلت: أما الدخول فلا سبيل إليه، وأما الوصية فاصنع ما شئت. فأوصى بما أراد، وأعتق مماليكه.
وأتتني رسل الرشيد تستحثني، فمضيت به إليه، فأعلمته وهوفي فراشه، فقال: ائتني برأسه، فأتيت جعفراً فأخبرته، فقال: الله الله! والله ما أمرك بما أمرك به إلا وهوسكران، فدافع حتى أصبح، أوراجعه في ثانية. فعدت لأراجعه، فلما سمع حسي قال: يا ماص بظر أمه، ائتني برأسه! فرجعت إليه فأخبرته، فقال: آمره. فرجعت، فحذفني بعمود كان في يده، وقال: نفيت من المهدي، إن لم تأتني برأسه لأقتلنك! قال: فخرجت فقتلته وحملت رأسه إليه، وأمر بتوجيه من أحاط بيحيى وولده وجميع أسبابه، وحول الفضل بن يحيى ليلأن فحبس في بعض منازل الرشيد، وحبس يحيى في منزله، وأخذ مالهم من مال، وضياع، ومتاع، وغير ذلك، وأرسل من ليلته إلى سائر البلاد في قبض أموالهم ووكلائهم ورقيقهم وأسبابهم وكل ما لهم.
فلما أصبح أرسل جيفة جعفر إلى بغداد، وأمر أن ينصب رأسه على جسر، ويقطع بدنه قطعتين، تنصب كل قطعة على جسر؛ ولم يعرض الرشيد لمحمد بن خالد بن برمك وولده وأسبابه، لأنه علم براءته مما دخل فيه أهله؛ وقيل كان يسعى بهم؛ ثم حبس يحيى وبنيه الفضل ومحمداً وموسى محبساً سهلأن ولم يفرق بينهم وبين عدة من خدمهم، ولا ما يحتاجون إليه من جارية وغيرها.
ولم تزل حالهم سهلة حتى قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح، فعمهم بسخطه، وجدد له ولهم التهمة عند الرشيد، فضيق عليهم.
ولما قتل جعفر بن يحيى قيل لأبيه: قتل الرشيد ابنك! قال: كذلك يقتل ابنه؛ قيل: وقد أخرب ديارك؛ قال: كذلك تخرب دياره؛ فلما بلغ ذلك الرشيد قال: قد خفت أن يكون ما قاله لأنه ما قال شيئاً إلا ورأيت تأويله.
قال سلام الأبرش: دخلت على يحيى بن خالد وقت قبضه، وقد هتكت الستور، وجمع المتاع، فقال: هكذا تقوم القيامة؛ قال: فحدثت الرشيد فأطرق مفكراً.
وكان قتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة، وكانت الوزارة إليهم سبع عشرة سنة، ولما نكبوا قال الرقاشي، وقيل أبونواس:
الآن استرحنا واستراحت ركابنا ... وأمسك من يحدو ومن كان يحتدي
فقل للمطايا قد أمنت من السرى ... وطي الفيافي فدفداً بعد فدفد
وقل للمنايا: قد ظفرت بجعفر ... ولن تظفري من بعده بمسود
وقل للعطايا بعد فضل تعطلي ... وقل للرزايا كل يوم تجددي
ودونك سيفاً برمكياً مهنداً ... أصيب بسيف هاشمي مهند
وقال يحيى بن خالد لما نكب: الدنيا دول، والمال عارية، ولنا بمن قبلنا أسوة، وفينا لمن بعده عبرة.
ووقع يحيى على قصة محبوس: العدوان أربقه، والتوبة تطلقه.
وقال جعفر بن يحيى: الحظ سمط الحكمة به تفصل شذورها وينظم منثورها.
قال ثمامة: قلت لجعفر، ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم محيطاً بمعناك، مخبراً عن مغزاك، مخرجاً من الشركة، غير مستعان عليه بالفكرة.
ذكر القبض على عبد الملك بن صالحوفي هذه السنة غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان سبب ذلك أنه لوكان له ولد اسمه عبد الرحمن، وبه كان يكنى، وكان من رحال الناس، فسعى بأبيه هو وقمامة كاتب أبيه وقالا للرشيد: إنه يطلب الخلافة، ويطمع فيها؛ فأخذه، وحبسه عند الفضل بن الربيع، وأحضره يومأن حين سخط عليه، وقال له: أكفراً بالنعمة، وجحوداً لجليل المنة والتكرمة؟ فقال: يا أمير المؤمنين! لقد بؤت إذا بالندم، وتعرضت لاستحلال النقم، وما ذاك إلا بغي حاسدنأن فنسي فيك مودة القرابة وتقديم الولاية؛ إنك، يا أمير المؤمنين، خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أمته، وأمينه على عترته، لك عليها فرض الطاعة، وأداء النصيحة، ولها عليك العدل في حكمهأن والغفران لذنوبهأن والتثبت في حادثها.
فقال له الرشيد: أتضع لي من لسانك، وترفع لي من جنانك؟ هنا كاتبك قمامة يخبر بغلك وفساد نيتك، فاسمع كلامه.
فقال عبد الملك: أعطاك ما ليس في عقده، ولعله لا يقدر أن يعضهني أويبهتني بما لم يعرفه مني.
فأحضر قمامة فقال له الرشيد: تكلم غير هائب ولا خائف! فقال: أقول إنه عازم على الغدر بك والخلاف عليك. فقال عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي من يبهتني في وجهي؟ فقال الرشيد: فهذا ابنك عبد الرحمن يخبرني بعتوك، وفساد نيتك، ولوأردت أن أحتج عليك لم أجد أعدل من هذين الاثنين لك، فلم تدفعهما عنك؟ فقال عبد الملك: هومأمور، أوعاق مجبور، فإن كان مأموراً فمعذور، وإن كان عاقاً ففاجر كفور، أخبر الله، عز وجل، بعداوته، وحذر منه بقوله: (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) التغابن: 14 فنهض الرشيد وهويقول: ما أمرك إلا قد وضح، ولكني لا أعجل، حتى أعلم الذي يرضي الله، عز وجل، فيك، فإنه الحكم بيني وبينك.
فقال عبد الملك: رضيت بالله حكمأن وبأمير المؤمنين حاكمأن فإني أعلم أنه لن يؤثر هواه على رضى ربه.
وأحضر الرشيد يوماً آخر، فكان مما قال له:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: أما والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع، وعارضها قد بلع، وكأني بالوعيد قد أورى زناداً يسطع، فأقلع عن براجم بلا معاصم، ورؤوس بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً بني هاشم، فبي والله سهل لكم الوعر، وصفا لكم الكدر، وألقت إليكم الأمور أزمتهأن فنذار لكم نذار قبل حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل.
فقال بعد الملك: اتق الله، يا أمير المؤمنين، فيما ولاك من رعيته التي استرعاك، ولا تجعل الكفر مكان الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد نخلت لك النصيحة، ومحضت لك الطاعة، وشددت أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك مشتغلأن فالله،! فالله في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته، بظن أوضح الكتاب بعضهه، أوببغي باغ ينهس اللحم، ويلغ الدم، فقد والله سهلت لك الوعور، وذللت لك الأمور، وجمعت على طاعتك القلوب في الصدور، فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق لك قمته، كنت فيه كما قال أخوبني جعفر بن كلاب، يعني لبيداً:
ومقام ضيق فرجته ... ببناني ولسان وجدل
لويقوم الفيل أوفياله ... زل عن مثل مقامي وزحل
فقال له الرشيد: والله لولا إبقائي على بني هاشم لضربت عنقك؛ ثم أعاده إلى محبسه.
فدخل عبد الله بن مالك على الرشيد، وكان على شرطته، فقال له: والله العظيم، يا أمير المؤمنين، ما علمت عبد الملك إلا ناصحأن فعلام حبسته؟ فقال: بلغني عنه أوحشني ولم آمنه أن يضرب بين ابني هذين، يعني الأمين والمأمون، فإن كنت ترى أن نطلقه من الحبس أطلقناه. فقال: أما إذا حبسته، فلست أرى في قرب المدة أن تطلقه، ولكن تحبسه محبساً كريماً. قال: فإني أفعل؛ فأمر الفضل بن الربيع أن يمضي إليه، وينظر ما يحتاج إليه فيوظفه له، ففعل.
ولم يزل عبد الملك محبوسأن حتى مات الرشيد، فأخرجه الأمين واستعمله على الشام، فأقام بالرقة، وجعل لمحمد الأمين عهد الله لئن قتل وهوحي لا يعطي المأمون طاعة أبدأن فمات قبل الأمين؛ وكان ما قال للأمين: إن خفت فالجأ إلي فوالله لأصوننك.
وقال الرشيد يوماًً لعبد الملك: ما أنت لصالح! قال: فلمن أنا؟ قال: لمروان الجعدي.
قال: ما أبالي أي الفلحين غلب علي. وأرسل الرشيد يوماً إلى يحيى بن خالد بن برمك: إن عبد الملك أراد الخروج علي ومنازعتي في الملك. وعلمت ذلك، فأعلمني ما عندك فيه، فإنك إن صدقتني أعدتك إلى حالك.
فقال: والله ما اطلعت من عبد الملك على شيء من هذأن ولواطلعت عليه لكنت صاحبه دونك، لأن ملكك كان ملكي، وسلطانك كان سلطاني، والخير والشر كان فيه علي ولي، وكيف يطمع عبد الملك في ذلك مني، وهل كان إذا فعلت به ذلك، يفعل معي أكثر من فعلك؟ وأعيذك بالله أن تظن بي هذا الظن، ولكنه كان رجلاً محتملاً يسرني أن يكون في اهلك مثله، فوليته لما حمدت أثره ومذهبه، وملت إليه لأدبه واحتماله.
فلما أتاه الرسول بهذا أعاده عليه فقال له: إن أنت لم تقر عليه قتلت الفضل ابنك.
فقال له: أنت مسلط علينأن فافعل ما أردت، فأخذ الرسول الفضل فأقامه، فودع أباه وقال له: ألست راضياً عني؟ قال: بلى، فرضي الله عنك، ففرق بينهما ثلاثة أيام، فلما لم يجد عندهما في ذلك شيئاً جمعهما.
ذكر غزو الروموفي هذه السنة دخل القاسم بن الرشيد أرض الروم في شعبان، فأناخ على قرة، وحصرها، ووجه العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، فحصر حصن سنان، حتى جهد أهلهأن فبعث إليه الروم ثلاثمائة وعشرين أسيراً من المسلمين على أن يرحل عنهم، فأجابهم ورحل عنهم صلحاً.
ومات علي بن عيسى في هذه الغزاة بأرض الروم، وكان يملك الروم حينئذ امرأة اسمها ريني، فخلعتها الروم وملكت نقفور، وتزعم الروم إنه من أولاد جغنة بن غسان، وكان، قبل أن يملك، يلي ديوان الخراج، وماتت ريني بعد خمسة أشهر من خلعها.
فلما استوثقت الروم لنقفور كتب إلى الرشيد: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مكان البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أضعافها إليهأن لكن ذلك ضعف النساء، وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد ما حصل لك من أموالهأن وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ الرشيد الكتاب استفزه الغضب، حتى لم يقدر أحد أن ينظر إليه دون أن يخاطبه، وتفرق جلساؤه، فدعا بدواة، وكتب على ظهر الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم؛ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام.
ثم سار من يومه حتى نزل على هرقلة ففتح وغمن وأحرق وخرب، فسأله نقفور المصالحة على خراج يحمله كل سنة، فأجابه في ذلك.
فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض نقفور العهد، وكان البرد شديدأن فأمن رجعة الرشيد إليه، فلما جاء الخبر بنقضه ما جسر أحد على إخبار الرشيد، خوفاً على أنفسهم من العود في مثل ذلك البرد، وإشفاقاً من الرشيد، فاحتيل له بشاعر من أهل جنده، وهوأبومحمد عبد الله بن يوسف، وقيل هوالحجاج بن يوسف التميمي، فقال أبياتاً منها:
نقض الذي أعطيته نقفور ... فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه ... فتح أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح يؤمنا ... بالنصر فيه لواؤك المنصور
في أبيات غيرها. فلما سمع الرشيد ذلك قال: أوقد فعل ذلك نقفور؟ وعلم أن الوزراء قد احتالوا له في ذلك، فرجع إلى بلاد الروم في أشد زمان وأعظم كلفة، حتى بلغ بلادهم، فأقام بها حتى شفي واشتفى وبلغ ما أراد.
وقيل: كان فعل نقفور وهذه الأبيات سبباً لسير الرشيد وفتح هرقلة، على ما نذكره سنة تسعين ومائة إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل إبراهيم بن عثمان بن نهيكوفيها قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وسبب قتله أنه كان كثيراً ما يذكر جعفر بن يحيى والبرامكة، ويبكي عليهم إلى أن خرج من البكاء إلى حد طالبي الثأر، فكان إذا شرب النبيذ مع جواريه أخذ سيفه، ويقول: واجعفراه! واسيداه! والله لأقتلن قاتلك ولأثأرن بدمك.
فلما كثر هذا منه جاء ابنه فأعلم الرشيد هوخصي كان لإبراهيم، فأحضر إبراهيم وسقاه نبيذاً فلما أخذ منه النبيذ قال له: إني قد ندمت على قتل جعفر بن يحيى، ووددت أني خرجت من ملكي وأنه كان بقي لي، فما وجدت طعم النوم مذ فارقته.
فلما سمعها إبراهيم أسبل دموعه وقال: رحم الله أبا الفضل! والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله، وأوطئت العشوة في أمره، وأين يوجد في الدنيا مثله؟ فقال الرشيد: قم! عليك لعنة الله يا ابن اللخناء؛ فقام وما يعقل ما يطأن فما كان بين هذا وبين أن دخل عليه ابنه فضربه بالسيف إلا ليال قلائل.
ذكر ملك الفرنج مدينة تطيلة بالأندلسفي هذه السنة ملك الفرنج مدينة تطيلة بالأندلس؛ وسبب ذلك أن الحكم صاحب الأندلس استعمل على ثغور الأندلس قائداً كبيراً من أجناده، اسمه عمروس بن يوسف، فاستعمل ابنه يوسف على تطيلة، وكان قد انهزم من الحكم أهل البيت من الأندلس أولوقوة وبأس، لأنهم خرجوا عن طاعته، فالتحقوا بالمشركين، فقوي أمرهم، واشتدت شوكتهم، وتقدموا إلى مدينة تطيلة فحصروهأن وملكوها من المسلمين، فأسروا أميرها يوسف بن عمروس، وسجنوه بصخرة قيس.
واستقر عمروس بن يوسف بمدينة سرقسطة ليحفظها من الكفار، وجمع العساكر، وسيرها مع ابن عم له، فلقي المشركين، وقاتلهم، ففض جمعهم، وهزمهم، وقتل أكثرهم، ونجا الباقون منكوبين، وسار الجيش إلى صخرة قيس، فحصروها وافتتحوهأن ولم يقدر المشركون على منعها منهم، لما نالهم من الوهن بالهزيمة؛ ولما فتحها المسلمون خلصوا يوسف بن عمروس أمير الثغر، وسيروه إلى أبيه؛ وعظم أمر عمروس عند المشركين، وبعد صوته فيهم، وأقام في الثغر أميراً عليه.
ذكر إيقاع الحكم بأهل قرطبةكان الحكم في صدر ولايته تظاهر بشرب الخمر والانهماك في اللذات، وكانت قرطبة دار علم، وبها فضلاء في العلم والورع، منهم: يحيى بن يحيى الليثي، راوي موطإ مالك عنه، وغيره، فثار أهل قرطبة، وأنكروا فعله، ورجموه بالحجارة، وأرداوا قتله، فامتنع منهم بمن حضر من الجند وسكن الحال.
ثم بعد أيام اجتمع وجوه أهل قرطبة وفقهاؤهأن وحضروا عند محمد بن القاسم القرشي المرواني، عم هشام بن حمزة، وأخذوا له البيعة على أهل البلد، وعرفوه أن الناس قد ارتضوه كافة، فاستنظر ليلة ليرى رأيه، ويستخير الله، سبحانه وتعالى، فانصرفوأن فحضر عند الحكم، وأطلعه على الحال، وأعلمه أنه على بيعته، فطلب الحكم تصحيح الحال عنده، فأخذ معه بعض ثقات الحكم، وأجلسه في قبة في داره، وأخفى أمره، وحضر عنده القوم يستعملون منه هل تقلد أمرهم أم لأن فأراهم المخافة على نفسه، وعظم الخطب عليهم، وسألهم تعداد أسمائهم ومن معهم، فذكروا له جميع من معهم من أعيان البلد، وصاحب الحكم يكتب أسماءهم؛ فقال لهم محمد بن القاسم: يكون هذا الأمر يوم الجمعة، إن شاء الله، في المسجد الجامع.
ومشى إلى الحكم مع صاحبه، فأعلماه جلية الحال، وكان ذلك يوم الخميس، فما أتى عليه الليل حتى حبس الجماعة المذكورين عن آخرهم، ثم أمر بهم، بعد أيام، فصلبوا عند قصره، وكانوا اثنين وسبعين رجلأن منهم: أخويحيى بن يحيى، وابن أبي كعب، وكان يومهم يوماً شنيعأن فتمكنت عداوة الناس للحكم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة هاجت العصبية بالشام بين المضرية واليمانية، فأرسل الرشيد فأصلح بينهم.
وفيها زلزلت المصيصة، فانهدم سورهأن ونضب ماؤها ساعة من الليل.
وفيها خرج عبد السلام بآمد، فحكم، فقتله يحيى بن سعيد العقيلي.
وفيها أغزى الرشيد ابنه القاسم الصائفة، فوهبه لله، وجعله قرباناً له وولاه العواصم. وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها توفي الفضيل بن عياض الزاهد، وكان مولده بسمرقند، وانتقل إلى مكة فمات بها.
وفيها توفي المعمر بن سليمان بن طرخان التيمي أبومحمد البصري. وكان مولده سنة ست أوسبع ومائة؛ وعمر بن عبيد الطنافسي الكوفي.
وفيها توفي أبومسلم معاذ الهراء النحوي، وقيل كنيته أبوعلي، وعند أخذ الكسائي النحو، وولد أيام يزيد بن عبد الملك.
حوادث سنة ثمان وثمانين ومائةفي هذه السنة غزا إبراهيم بن جبرئيل الصائفة، فدخل أرض الروم من درب الصفصاف، فخرج إليه نقفور ملك الروم، فأتاه من ورائه أمر صرفه عنه، ولقي جمعاً من المسلمين، فجرح ثلاث جراحات، وقتل من الروم، فيما قيل، أربعون ألفاً وسبعمائة.
وفيها رابط القاسم بن الرشيد بدابق. وحج بالناس فيها الرشيد، فقسم أموالاً كثيرة، وهي آخر حجة حجها في قول بعضهم.
وفيها توفي جرير بن عبد الحميد الضبي الرازي وله ثمان وسبعون سنة.
وفيها توفي العباس بن الأحنف الشاعر، وقيل سنة ثلاثة وتسعين، ومات أبوه الأحنف سنة خمسين ومائة.
وفيها توفي شهيد بن عيسى بالأندلس وعمره ثلاث وتسعون سنة؛ وكان دخوله الأندلس مع عبد الرحمن بن معاوية.
شهيد بضم الشين المعجمة، وفتح الهاء.
حوادث سنة تسع وثمانين ومائة
ذكر مسير هارون الرشيد إلى الري
وفي هذه السنة سار الرشيد إلى الري؛ وسبب ذلك أن الرشيد لما استعمل علي بن عيسى بن ماهان على خراسان ظلم أهلهأن وأساء السيرة فيهم، فكتب كبراء أهلها وأشرافها إلى الرشيد يشكون سوء سيرته وظلمه، واستخفافه بهم، وأخذ أموالهم. وقيل للرشيد: إن علي بن عيسى قد أجمع على الخلاف، فسار إلى الري في جمادى الأولى، ومعه ابناه عبد الله المأمون والقاسم، وكان قد جعله ولي عهد بعد المأمون، وجعل أمره إلى المأمون إن شاء أقره، وإن شاء خلعه، وأحضر القضاة والشهود وأشهدهم أن جميع ما في عسكره في الأموال والخزائن والسلاح والكراع وغير ذلك للمأمون وليس له فيه شيء.وأقام الرشيد بالري أربعة أشهر حتى أتاه علي بن عيسى من خراسان، فلما قدم عليه أهدى له الهدايا الكثيرة، والأموال العظيمة، وأهدى لجميع من معه من أهل بيته، وولده، وكتابه، وقواده من الطرف والجواهر، وغير ذلك، ورأى الرشيد خلاف ما كان يظن فرده إلى خراسان.
ولما أقام الرشيد بالري سير حسيناً الخادم إلى طبرستان، وكتب معه أماناً لشروين أبي قارن، وأماناً لوندا هرمز، جد مازيار، وأماناً لمرزبان بن جستان صاحب الديلم، فقدم جستان ووندا هرمز، فأكرمهما، وأحسن إليهما، وضمن وندا هرمز السمع والطاعة، وأداء الخراج عن شروين.
ورجع الرشيد إلى العراق، ودخل بغداد في آخر ذي الحجة. فلما مر بالجسر أمر بإحراق جثة جعفر بن يحيى، ولم ينزل بغداد، ومضى من فوره إلى الرقة، ولما جاز بغداد قال: والله إني لأطوي مدينة ما وضع بشرق ولا غرب مدينة أيمن ولا أيسر منهأن وإنها لدار مملكة بني العباس ما بقوأن وحافظوا عليهأن ولا رأى أحد من آبائي سوءاً ولا نكبة منهأن ولنعم الدار هي، ولكني أريد المناخ على ناحية أهل الشقاق والنفاق، والبغض لأئمة الهدى، والحب لشجرة اللعنة بني أمية مع ما فيها من المارقة، والمتلصصة ومخيفي السبيل، ولولا ذلك ما فارقت بغداد ما حييت. فقال العباس بن الأحنف في طي الرشيد بغداد:
ما أنحنا حتى ارتحلنا فمانف ... رق بين المناخ والارتحال
ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا ... فقرنا وداعهم بالسؤال
ذكر الفتنة بطرابلس الغربفي هذه السنة كثر شغب أهل طرابلس الغرب على ولاتهم، وكان إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، قد استعمل عليهم عدة ولاة، فكانوا يشكون من ولاتهم، فيعزلهم، ويولي غيرهم، فاستعمل عليهم هذه السنة سفيان بن المضاء، وهي ولايته الرابعة، فاتفق أهل البلد على إخراجه عنهم، وإعادته إلى القيروان، فزحفوا إليه، فأخذ سلاحه، وقاتلهم هو وجماعة ممن معه، فأخرجوه من داره، فدخل المسجد الجامع، فقاتلهم فيه، فقتلوا أصحابه، ثم أمنوه، فخرج عنهم في شعبان من هذه السنة، فكانت ولايته سبعاً وعشرين يوماً.
واستعمل الجند الذين بطرابلس على البلد وأهله إبراهيم بن سفيان التميمي.
ثم وقع بين الأبناء بطرابلس أيضاً وبين قوم يعرفون ببني أبي كنانة وبني يوسف حروب كثيرة، وقتال، حتى فسدت طرابلس، فبلغ ذلك إبراهيم بن الأغلب، فأرسل جمعاً من الجند، وأمرهم أن يحضروا الأبناء وبني أبي كنانة، وبني يوسف، فأحضروهم عنده بالقيروان في ذي الحجة، فلما قدموا عليه سألوه العفوعنهم في الذي فعلوه، فعفا عنهم، فعادوا إلى بلدهم.
ذكر عدة حوادثفيها كان الفداء بين المسلمين والروم، فلم يبق بأرض الروم مسلم إلا فودي به.
وحج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
وفيها ولى الرشيد عبد الله بن مالك طبرستان والري ودنباوند وقومس وهمذان، وهومتوجه إلى الري، فقال أبوالعتاهية في مسيره إليهأن وكان الرشيد ولد بها:
إن أمين الله في خلقه ... حن به البر إلى مولده
ليصلح الري وأقطارها ... ويمطر الخير بها من يده
وفيها مات محمد بن الحسن الشيباني الفقيه، صاحب أبي حنيفة، وحميد بن عبد الرحمن بن حميد الرؤاسي أبوعوف، وسابق بن عبد الله الموصلي، وكان من الصالحين البكائين من خشية الله تعالى.
حوادث سنة تسعين ومائة
ذكر خلع رافع بن الليث بن نصر
وفي هذه السنة ظهر رافع بن الليث بن نصر بما وراء النهر مخالفاً للرشيد بسمرقند.وكان سبب ذلك أن يحيى بن الأشعث بن يحيى الطائي تزوج ابنة لعمه أبي النعمان، وكانت ذات يسار ولسان، ثم تركها بسمرقند، وأقام ببغداد، واتخذ السراري، فلما طال ذلك عليهأن أرادت التخلص منه، وبلغ رافعاً خبرهأن فطمع فيها وفي مالهأن فدس إليها من قال لها: إنه لا سبيل إلى الخلاص من زوجها إلا أن تشهد عليها قوماً أنها أشركت بالله، ثم تتوب، فينفسخ نكاحهأن وتحل للأزواج، ففعلت ذلك، وتزوجها رافع. فبلغ الخبر يحيى بن الأشعث، فشكا إلى الرشيد، فكتب إلى علي بن عيسى بن ماهان يأمره أن يفرق بينهمأن وأن يعاقب رافعأن ويجلده الحد، ويقيده ويطوف به في سمرقند على حمار ليكون عظة لغيره، ففعل به ذلك، ولم يحده، وطلقها رافع وحبس بسمرقند، فهرب من الحبس، فلحق بعلي بن عيسى ببلخ، فأراد ضرب عنقه، فشفع فيه عيسى بن علي بن عيسى، وأمره بالانصراف إلى سمرقند، فرجع إليهأن ووثب بعامل علي بن عيسى عليها، فقتله، واستولى عليها فوجه إليه ابنه، فلقيه، فهزمه رافع، فأخذ علي بن عيسى في جمع الرجال والتأهب لمحاربته، وانقضت السنة.
ذكر فتح هرقلةفي هذه السنة فتح الرشيد هرقلة، وأخربها؛ وكان سبب مسيره إليها ما ذكرناه سنة سبع وثمانين ومائة، من غدر نقفور، وكان فتحها في شوال، وكان حصرها ثلاثين يومأن وسبى أهلهأن وكان قد دخل البلاد في مائة ألف وخمسة وثلاثين ألفاً من المرتزقة، سوى الأتباع والمتطوعة، ومن لا ديوان له، وأناخ عبد الله بن مالك على ذي الكلاع، ووجه داود بن عيسى بن موسى سائراً في أرض الروم في سبعين ألفاً يخرب وينهب، ففتح الله عليه، وفتح شراحيل بن معن بن زائدة حصن الصقالبة ودلسة، وافتتح يزيد بن مخلد الصفصاف وملقونية، واستعمل حميد بن معيوف على سواحل الشام ومصر، فبلغ قبرس، فهدم واحرق وسبى من أهلها سبعة عشر ألفاً فأقدمهم الرافقة، فبيعوا بهأن وبلغ فداء أسقف قبرس ألفي دينار.
ثم سار الرشيد إلى طوانة، فنزل بهأن ثم رحل عنهأن وخلف عليها عقبة بن جعفر.
وبعث نقفور بالخراج والجزية عن رأسه أربعة دنانير، وعن رأس ولده دينارين، وعن بطارقته كذلك، وكتب نقفور إلى الرشيد في جارية من سبي هرقلة كان خطبها لولده، فأرسلها إليه.
ذكر عدة حوادثوخرج في هذه السنة خارجي من ناحية عبد القيس، يقال له سيف بن بكير، فوجه إليه الرشيد محمد بن يزيد ين مزيد، فقتله بعين النورة.
وفيها نقض أهل قبرس العهد، فعزاهم معيوف بن يحيى، فسبى أهلها. وحج بالناس عيسى بن موسى الهادي.
وفيها اسلم الفضل بن سهل على يد المأمون، وقيل بل أسلم أبوه سهل على يد المهدي، وكان محبوسأن وقيل أسلم الفضل وأخوه الحسن على يد يحيى بن خالد، فاختاره يحيى لخدمة المأمون، فلهذا كان الفضل يرعى البرامكة، ويثني عليهم، ولقب بذي الرئاستين لأنه تقلد الوزارة والسيف، وكان يتشيع، وهوالذي أشار على المامون بالعهد لعلي بن موسى الرضي، عليه السلام.
وكان على الموصل هذه السنة خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، ولما دخل الموصل أنكسر لواؤه في باب المدينة، فتطير منه، وكان معه أبوالشيص الشاعر، فقال في ذلك:
ما كان منكسر اللواء لطيرة ... تخشى ولا أمر يكون مويلا
لكن هذا الرمح أضعف ركنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فسري عن خالد وفيها غزا الرشيد الصائفة، واستخلف المأمون بالرقة، وفوض إليه الأمور، وكتب إليه الآفاق بذلك، ودفع إليه خاتم المنصور تيمناً به، ونقشه: الله ثقتي آمنت به.
وفيها خرجت الروم إلى عين زربي، والكنيسة السوداء وأغاروأن فاستنقذ أهل المصيصة ما كان معهم من الغنيمة.
وفيها توفي أسد بن عمروبن عامر أبوالمنذر البجلي الكوفي، صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي يحيى بن خالد بن برمك محبوساً بالرافقة في المحرم وعمره سبعون سنة، وعمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري.
حوادث سنة إحدى وتسعين ومائة
ذكر الفتنة من أهل طليطلة
وهو وقعة الحفرة
في هذه السنة أوقع الأمير الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، بأهل طليطلة، فقتل منهم ما يزيد على خمسة آلاف رجل من أعيان أهلها.وسبب ذلك أن أهل طليطلة كانوا قد طمعوا في الأمراء، وخلعوهم مرة بعد أخرى، وقويت نفوسهم بحصانة بلدهم وكثرة أموالهم، فلم يكونوا يطيعون أمراءهم طاعة مرضية، فلما أعيا الحكم شأنهم أعمل الحيلة في الظفر بهم، فاستعان في ذلك بعمروس بن يوسف المعروف بالمولد، وكان قد ظهر في هذا الوقت بالثغر الأعلى، فأظهر طاعة الحكم، ودعا إليه، فاطمأن إليه بهذا السبب، وكان من أهل مدينة وشقة، فاستحضره فحضر عنده، فأكرمه الحكم، وبالغ في إكرامه، وأطلعه على عزمه في أهل طليطلة وواطأه على التدبير عليهم، فولاه طليطلة، وكتب إلى أهلها يقول: إني قد اخترت لكم فلانأن وهومنكم، لتطمئن قلوبكم إليه، وأعفيتكم ممن تكرهون من عمالنا وموالينأن ولتعرفوا جميل رأينا فيكم.
فمضى عمروس إليهم، ودخل طليطلة، فأنس به أهلهأن واطمأنوا إليه، وأحسن عشرتهم، وكان أول ما عمل عليهم من الحيلة أن أظهر لهم موافقتهم على بغض بني أمية، وخلع طاعتهم، فمالوا إليه، ووثقوا بما يفعله؛ ثم قال لهم: إن سبب الشر بينكم وبين أصحاب الأمير إمنا هواختلاطهم بكم، وقد رأيت أن أبني بناء أعتزل فيه أنا وأصحاب السلطان رفقاً بكم؛ فأجابوه إلى ذلك، فبنى في وسط البلد ما أراد.
فلما مضى لذلك مدة كتب الأمير الحكم إلى عامل له على الثغر الأعلى سراً يأمره أن يرسل إليه يستغيث من جيوش الكفرة، وطلب النجدة والعساكر، ففعل العامل ذلك فحشد الحكم الجيوش من كل ناحية، واستعمل عليهم ابنه عبد الرحمن لدخولهأن فأتاه، وهوعندهأن الخبر من ذلك العامل أن عساكر الكفرة قد تفرقت، وكفى الله شرهأن فتفرق العسكر، وعزم عبد الرحمن على العود إلى قرطبة، فقال عمروس عند ذلك لأهل طليطلة: قد ترون نزول ولد الحكم إلى جانبي، وإنه يلزمني الخروج إليه وقضاء حقه، فإن نشطتم لذلك وإلا سرت إليه وحدي؛ فخرج معه وجوه أهل طليطلة، فأكرمهم عبد الرحمن، وأحسن إليهم.
وكان الحكم قد أرسل مع ولده خادماً له، ومعه كتاب لطيف إلى عمروس، فأتاه الخادم، وصاحه، وسلم الكتاب إليه من غير أن يحادثه، فلما قرأ عمروس الكتاب رأى فيه كيف تكون الحيلة على أهل طليطلة، فأشار إلى أعيان أهلها بأن يسألوا عبد الرحمن الدخول إليهم ليرى هو وأهل عسكره كثرتهم، ومنعتهم، وقوتهم، فظنوه ينصحهم، ففعلوا ذلك، وأدخلوا عبد الرحمن البلد، ونزل مع عمروس في داره، وأتاه أهل طليطلة أرسالاً يسلمون عليه.
وأشاع عمروس أن عبد الرحمن يريد أن يتخذ لهم وليمة عظيمة، وشرع في الاستعداد لذلك، وواعدهم يوماً ذكره، وقرر معهم أن يدخلون من باب، ويخرجون من آخر ليقل الزحام، ففعلوا ذلك.
فلما كان اليوم المذكور أتاه الناس أفواجأن فكان كلما دخل فوج، أخذوا وحملوا إلى جماعة من الجند على حفرة كبيرة في ذلك القصر، فضربت رقابهم عليها؛ فلما تعالى النهار أتى بعضهم فلم ير أحدأن فقال: أين الناس؟ فقيل: إنهم يدخلون من هذا الباب، ويخرجون من الباب الآخر، فقال: ما لقيني منهم أحد، وعلم الحال، وصاح، وأعلم الناس هلاك أصحابهم، فكان سبب نجاة من بقي منهم، فذلت رقابهم بعدهأن وحسنت طاعتهم بقية أيام الحكم وأيام ولده عبد الرحمن، ثم انجبرت مصيبتهم، وكثروأن فلما هلك عبد الرحمن وولي ابنه محمد عاجلوه بالخلع على ما نذكره.
ذكر عصيان أهل ماردة على الحكم وما فعله بأهل قرطبةوفيها عصى أصبغ بن عبد اله، ووافقه أهل مدينة ماردة من الأندلس، على الحكم، وأخرجوا عامله، واتصل الخبر بالحكم، فسار إليها وحاصرهأن فبيمنا هومجد في الحصار أتاه الخبر عن أهل قرطبة أنهم أعلنوا العصيان له، فرجع مبادرأن فوصل إلى قرطبة في ثلاثة أيام، وكشف عن الذين أثاروا الفتنة، فصلبهم منكسين، وضرب أعناق جماعة، فارتدع الباقون بذلك، واشتدت كراهيتهم له.
ولم يزل أهل مادرة تارة يطيعون، ومرة يعصون إلى سنة اثنتين وتسعين، فضعف أمر أصبغ لأن الحكم تابع إرسال الجيوش إليه، واستمال جماعة من أعيان أهل ماردة وثقاته من أصحابه، فمالوا إليه، وفارقوا اصبغ، حتى أخوه، فتحير أصبغ، وضعفت نفسه، فأرسل يطلب الأمان فأمنه الحكم، ففارق ماردة، وحضر عند الحكم، وأقام عنده بقرطبة.
ذكر غزو الفرنج بالأندلسفي هذه السنة تجهز لذريق ملك الفرنج بالأندلس، وجمع جموعه ليسير إلى مدينة طرطوشة ليحصرهأن فبلغ ذلك الحكم، فجمع العساكر وسيرها مع ولده عبد الرحمن فاجتمعوا في جيش عظيم، وتبعهم كثير من المتطوعة، فساروأن فلقوا الفرنج في أطراف بلادهم قبل أن ينالوا من بلاد المسلمين شيئأن فاقتتلوا وبذل كل من الطائفتين جهده، واستنفد وسعه، فأنزل الله تعالى نصره على المسلمين، فانهزم الكفار، وكثر القتل فيهم، والأسر، ونهبت أموالهم وأثقالهم، وعاد المسلمون ظافرين غامنين.
ذكر عصيان حزم على الحكمفي هذه السنة خالف حزم بن وهب بناحية باجة، ووافقه غيره، وقصدوا لشبونة، وكان الحكم يسمي حزمأن في كتبه، النبطي، فلما سمع الحكم خبره سير إليه ابنه هشاماً في جمع كثير، فأذله ومن معه، وقطع الأشجار وضيق عليهم، حتى أذعنوا لطلب الأمان فأمنه.
ذكر عزل علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان وولاية هرثمةوفيها عزل الرشيد علي بن عيسى بن ماهان عن خراسان؛ وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قتل ابنه عيسى، فلما قتل جزع عليه أبوه، فخرج عن بلخ إلى مرومخافة عليها أن يسير إليها رافع بن الليث ليأخذهأن وكان ابنه عيسى قد دفن في بستان، في داره ببلخ، أموالاً عظيمةً قيل كانت ثلاثين ألف ألف، ولم يعلم بها أبوه ولم يطلع عليها إلا جارية له، فلما سار علي بن عيسى إلى مروأطلعت الجارية على ذلك بعض الخدم، وتحدث به الناس، واجتمعوأن ودخلوا البستان، ونهبوا المال، وبلغ الرشيد الخبر، فقال: خرج عن بلخ عن غير أمري، وخلف مثل هذا المال، وهويزعن أنه قد باع حلي نسائه، فيما أنفق على محاربة رافع! فعزله، واستعمل هرثمة بن أعين.
وكان قد نقم الرشيد عليه ما كان يبلغه من سوء سيرته وإهانته أعيان الناس واستخفافه بهم، فمن ذلك أنه دخل عليه يوماً الحسين بن مصعب والد طاهر بن الحسين، وهشام بن فرخسرو، فسلما عليه، فقال للحسين: لا سلم الله عليك يا ملحد بن الملحد، والله إني لأعرف ما أنت عليه من عداوة الإسلام، والطعن في الدين، ولم أنتظر بقتلك إلا أمر الخليفة، ألست المرجف بي في منزلي هذا بعد أن ثملت من الحزم، وزعمت أنك جاءتك كتب من بغداد بعزلي؟ اخرج إلى سخط الله لعنك الله، فعن قريب ما يكون منهأن فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره، وأمر بإخراجه فأخرج.
وقال لهشام بن فرخسرو: صارت دارك دار الندوة، يجتمع إليك السفهاء تطعن على الولادة، سفك الله دمي إن لم أسفك دمك! فاعتذر إليه، فلم يعذره فأخرجه.
فأما الحسين فسار إلى الرشيد، فاستجار به وشكا إليه فأجاره؛ وأما هشام فإنه قال لبنت له: إني أخاف الأمير على دمي وأنا مفض إليك بأمر إن أنت أظهرته قتلت، وإن أنت كتمته سلمت. قالت: وما هو؟ قال: قد عزمت على أن أظهر أن الفالج قد أصابني، فإذا كان في السحر، فاجمعي جواريك، واقصدي فراشي وحركيني، فإذا رأيت حركتي تقلت فصيحي أنت وجواريك، واجمعي إخواتك فأعلميهم علتي، ففعلت ما أمرهأن وكانت عاقلة، فأقام مطروحاً على فراشه حيناً إلى أن جاء هرثمة واليأن فركب إلى لقائه، فرآه علي بن عيسى بن ماهان، فقال: إلى أين؟ فقال: أتلقى الأمير أبا حاتم. قال: ألم تكن عليلاً؟ فقال: وهب الله العافية، وعزل الطاغية في ليلة واحدة، فعلى هذا تكون ولاية هرثمة ظاهرة.
وقيل: بل كانت ولايته سرأن لم يطلع الرشيد عليها أحدأن فقيل: إنه لما أراد عزل علي بن عيسى استدعى هرثمة، وأسر إليه ذلك، وقال له: إن علي بن عيسى قد كتب يستمدني بالعساكر والأموال، فأظهر للناس أنك تسير إليه نجدة له. وكتب له الرشيد كتاباً بولايته بخط يده، وأمر أن يكتبوا له إلي علي بن عيسى بأنه قد سير هرثمة نجدة له.
فسار هرثمة ولا يعلم بأمره أحد، حتى ورد نيسابور، فلما وردها استعمل أصحابه على كورهأن وسار مجداً يسبق الخبر، فأتى مرو والتقاه علي بن عيسى، فاحترمه هرثمة، وعظمه، حتى دخل البلد، ثم قبض عليه وعلى أهله وأصحابه وأتباعه وأخذ أمواله فبلغت ثمانين ألف ألف؛ وكانت خزائنه وأثاثه على ألف وخمسمائة بعير، فأخذ الرشيد ذلك كله؛ وكان وصول هرثمة إلى خراسان سنة اثنتين وتسعين، فلما فرغ هرثمة من أخذ أموالهم أقامهم لمطالبة الناس، وكتب إلى الرشيد بذلك، وسير علي بن عيسى إليه على بعير بغير وطاء ولا غطاء.
ذكر عدة حوادثفيها خرج خارجي يقال له ثروان بن سيف بناحية حولايأن وتنقل في السواد، فوجه إليه طوق بن مالك، فهزمه طوق، وجرحه وقتل عامة أصحابه.
وفيها خرج أبوالنداء بالشام، فسير الرشيد في طلبه يحيى بن معاذ، وعقد له على الشام.
وفيها ظفر حماد البربري بهيصم اليماني.
وفيها أرسل أهل نسف إلى رافع بن الليث يسألونه أن يوجه إليهم من يعينهم على قتل عيسى بن علي بن عيسى، وعلي بن عيسى، فأرسل إليهم جمعأن فقتلوا عيسى وحده في ذي القعدة.
وفيها غزا يزيد بن مخلد الهبيري أرض الروم في عشرة آلاف، فأخذت الروم عليه المضيق، فقتلوه وخمسين رجلأن وسلم الباقون، وكان ذلك على مرحلتين من طرسوس.
وفيها استعمل الرشيد على الصائفة هرثمة بن أعين قبل أن يوليه خراسان، وضم إليه ثلاثين ألفاً من أهل خراسان، ورتب الرشيد بدرب الحدث عبد الله بن مالك، وبمرعش سعيد بن سلم بن قتيبة، فأغارت الروم عليهأن فأصابوا من المسلمين، وانصرفوأن ولم يتحرك سعيد من موضعه؛ وبعث محمد بن يزيد بن مزيد إلى طرسوس.
وأقام الرشيد بدرب الحدث ثلاثة أيام من رمضان، وعاد إلى الرقة، وأمر الرشيد بهدم الكنائس بالثغور، وأخذ أهل الذمة بمخالفة هيئة المسلمين في لباسهم، وركوبهم، وأمر هرثمة ببناء طرسوس وتمصيرهأن ففعل، وتولى ذلك فرج الخادم بأمر الرشيد، وسير إليها جنداً من أهل خراسان ثلاثة آلاف، ثم أشخص إليهم ألفاً من أهل المصيصة، وألفاً من أهل أنطاكية، وتم بناؤها سنة اثنتين وتسعين ومائة، وبنى مسجدها.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن العباس بن محمد بن علي، وكان أميراً على مكة؛ وكان على الموصل محمد بن الفضل بن سليمان.
وفيها توفي الفضل بن موسى السيناني أبوعبد الله المروزي، مولى بني قطيعة، وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة.
السيناين بكسر السين المهملة، وبالياء المثناة من تحت، وبالنون قبل الألف، ثم بنون بعده، منسوب إلى سينان وهي قرية من قرى مرو.
حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائة
ذكر مسير الرشيد إلى خراسان
فيها سار الرشيد من الرقة إلى بغداد يريد خراسان لحرب رافع بن الليث، وكان مريضاً واستخلف على الرقة ابنه القاسم، وضم إليه خزيمة بن خازم، وسار من بغداد إلى النهروان لخمس خلون من شعبان، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وأمر المأمون بالمقام ببغداد. فقال الفضل بن سهل للمأمون، حين أراد الرشيد المسير إلى خراسان: لست تدري ما يحدث بالرشيد، وخراسان ولايتك ومحمد الأمين المقدم عليك، وإن أحسن ما يصنع بك أن يخلعك، وهوابن زبيدة وأخواله بنوهاشم، وزبيدة وأموالهأن فاطلب إلى أمير المؤمنين أن تسير معه؛ فطلب إليه ذلك، فأجابه بعد امتناع.
فلما سار الرشيد سايره الصباح الطبري، فقال له: يا صباح لا أظنك تراني أبدأن فدعا؛ فقال: ما أظنك تدري ما أجد. قال الصباح: لا والله؛ فعدل عن الطريق، واستظل بشجرة، وأمر خواصه بالبعد، فكشف عن بطنه. فإذا عليه عصابة حرير، فقال: هذه علة أكتمها الناس كلهم، ولكل واحد من ولدي علي رقيب، فمسرور رقيب المأمون، وجبرائيل بن بختيشوع رقيب الأمين، وما منهم أحد إلا وهويحصي أنفاسي، ويستطيل دهري، وإن أردت أن تعلم ذلك، فالساعة أدعوبدابة فيأتوني بدابة أعجف قطوف لتزيد بي علتي، فاكتم علي ذلك. فدعا له بالبقاء، ثم طلب الرشيد دابة، فجاؤوا بها على ما وصف، فنظر إلى الصباح وركبها.
ذكر عدة حوادثوفيها تحركت الخرمية بناحية أذربيجان، فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف، فقتل وسبى وأسر، ووافه بقرماسين، فأمره بقتل الأسرى، وبيع السبي.
وفيها قدم يحيى بن معاذ على الرشيد بأبي النداء، فقتله.
وفيها فارق جماعة من القواد رافع بن الليث، وصاروا إلى هرثمة، منهم عجيف بن عنبسة وغيره.
وفيها استعمل الرشيد على الثغور ثابت بن نصر بن مالك، فافتتح مطمورة. وفيها كان الفداء بالبذندون. وفيها خرج ثروان الحروري بطف البصرة، فقاتل عامل السلطان بها.
وفيها مات عيسى بن جعفر بن المنصور بالدسكرة، وهويريد اللحاق بالرشيد.
وفيها قتل الرشيد الهيصم الكناني وحج بالناس هذه السنة العباس بن عبد الله بن جعفر بن المنصور.
وفيها كان وصول هرثمة إلى خراسان، كما تقدم، وحصر هرثمة رافع بن الليث بسمرقند، وضايقه، واستقدم طاهر بن الحسين فحضر عنده وخلت خراسان لحمزة الخارجي، حتى دخلهأن وصار يقتل، ويجمع الأموال، ويحملها إليه عمال هراة وسجستان، فخرج إليه عبد الرحمن النيسابوري، فاجتمع إليه نحوعشرين ألفأن فسار إلى حمزة فقاتله قتالاً شديداً فقتل من أصحاب حمزة خلقأن وسار خلفه حتى بلغ هراة، وكان ذلك سنة أربع وتسعين، فكتب إليه المأمون، فرده وأدام هرثمة على حصار سمرقند حتى فتحهأن على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ وقتل رافع بن الليث وجماعة من أقربائه، واستعمل على ما وراء النهر بن يحيى، فعاد، وكان قتله رافعاً سنة خمس وتسعين.
وفي هذه السنة توفي عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي الكوفي، ويوسف بن أبي يوسف القاضي.
وفيها كان الفداء الثاني بين المسلمين والروم، وكان القيم به ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي، وكان عدة الأسرى من المسلمين ألفين وخمسمائة أسير.
حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائة
ذكر موت الفضل بن يحيى
في هذه السنة مات الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك في الحبس بالرقة، وكانت علته أنه أصابه ثقل في لسانه وشقه، فعولج أشهرأن فبرأن وكان يقول: ما أحب أن يموت الرشيد لأن أمري قريب من أمره.فلما صح من علته، وتحدث، عادته العلة، واشتدت عليه، وانعقد لسانه وطرفه، فمات في المحرم، وصلى عليه إخوانه في القصر الذي كانوا فيه، ثم أخرج فصلى عليه الناس، وجزع الناس عليه. وكان موته قبل الرشيد بخمسة أشهر وهوابن خمس وأربعين سنة؛ وكان من محاسن الدنيا لم ير في العالم مثله؛ ولاشتهار أخباره، وأخبار أهله، وحسن سيرتهم لم نذكرها.
وفيها مات سعيد الطبري المعروف بالجوهري.
وفيها كانت وقعة بين هرثمة وأصحاب رافع كان الظفر لهرثمة، وافتتح بخاري، وأسر بشيراً أخاص رافع، فبعث به إلى الرشيد.
ذكر موت الرشيدوفي هذه السنة مات الرشيد أول جمادى الآخرة لثلاث خلون منه، وكانت قد اشتدت علته بالطريق بجرجان، فسار إلى طوس فمات بها.
قال جبرائيل بن بختيشوع: كنت مع الرشيد بالرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، أتعرف حاله في ليلته، ثم يحدثني وينبسط إليّ، ويسألني عن أخبار العامة، فدخلت عليه يومأن فسلمت عليه، فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته عابساً مفكراً مهمومأن فوقفت ملياً من النهار، وهوعلى تلك الحال، فلما طال ذلك أقدمت فسألته عن حاله، وما سببه؟ فقال: إن فكري وهمي لرؤيا رأيتها في ليلتي هذه قد أفزعتني، وملأت صدري. فقلت: فرجت عني، يا أمير المؤمنين؛ ثم قبلت يده ورجله، وقلت: الرؤيا إمنا تكون لخاطر أوبخارات ردية، وتهاويل السوداء، وهي أضغاث أحلام.
قال: فإني أقصها عليك، رأيت كأني جالس على سريري هذأن إذ بدت من تحتي ذراع أعرفهأن وكف أعرفهأن لا أفهم اسم صاحبهأن وفي الكف تربة حمراء. فقال لي قائل اسمعه ولا أرى شخصه: هذه التربة التي تدفن فيها؛ فقلت: وأين هذه التربة؟ قال: طوس، وغابت اليد، وانقطع الكلام.
فقلت: أحسبك لما أخذت مضجعك فكرت في خراسان، وما ورد عليك منهأن وانتقاض بعضهأن فذلك الفكر أوجب هذه الرؤيا.
فقال: كان ذلك؛ فأمرته باللهو والانبساط، ففعل، ونسينا الرؤيأن وطالت الأيام، ثم سار إلى خراسان لحرب رافع، فلما صار ببعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تزيد، حتى دخلنا طوس، فبينا هويمرض في بستان في ذلك القصر الذي هوفيه، إذ ذكر تلك الرؤيأن فوثب متحاملاً يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه نسأله، فقال: أتذكر رؤياي بالرقة في طوس؟ ثم رفع رأسه إلى مسرور فقال: جئني من تربة هذا البستان! فأتاه بها في كفه حاسراً عن ذراعه، فلما نظر إليه قال: هذه والله الذراع التي رأيتها في منامي، وهذه الكف بعينهأن وهذه التربة الحمراء ما خرمت شيئاً؛ وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بعد ثلاثة أيام.
قال أبوجعفر: لما سار الرشيد عن بغداد إلى خراسان بلغ جرجان في صفر، وقد اشتدت علته، فسير ابنه المأمون إلى مرو، وسير معه من القواد عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وأسد بن يزيد، والعباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث، والسندي الحرشي، ونعيم بن حازم، وسار الرشيد إلى طوس واشتد به الوجع، حتى ضعف عن الحركة، فلما أثقل أرجف به الناس، فبلغه ذلك، فأمر بمركوب ليركبه ليراه الناس، فأتي بفرس فلم يقدر على النهوض، فأتي ببرذون فلم يطق النهوض، فأتي بحمار فلم ينهض، فقال: ردوني! صدق والله الناس.
ووصل إليه، وهو بطوس، بشير بن الليث أخو رافع أسيرأن فقال الرشيد: والله لو لم يبق من أجلي إلا أن أحرك شفتي بكلمة لقلت اقتلوه. ثم دعا بقصاب، فأمر به، ففصل أعضاءه، فلما فرغ منه أغمي عليه، وتفرق الناس عنه.
فلما أيس من نفسه أمر بقبره، فحفر في موضع من الدار التي كان فيها، وأنزل إليه قومأن فقرأوا فيه القرآن حتى ختموأن وهوفي محفة على شفير القبر، يقول: ابن آدم تصير إلى هذا؛ وكان يقول في تلك الحال: واسوأتاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الهيثم بن عدي: لما حضرت الرشيد الوفاة غشي عليه، ففتح عينيه منها فرأى الفضل بن الربيع على رأسه، فقال: يا فضل:
أحين دنا ما كنت أرجو دنوه ... رمتني عيون الناس من كل جاني
فأصبحت مرحوماً وكنت محسداً ... فصبراً لي مكروه أمن العواقب
سأبكي على الوصل الذي كان بيننا ... وأندب أيام السرور الذواهب
قال سهل بن صاعد: كنت عند الرشيد وهو يجود بنفسه، فدعا بملحفة غليظة، فاجتبى بهأن وجعل يقاسي ما يقاسي، فنهضت، فقال: اقعد، فقعدت طويلاً لا يكلمني ولا أكلمه، فنهضت، فقال: أين سهل؟ فقلت: ما يتسع قلبي يا أمير المؤمنين، يعاني من المرض ما يعاني، فلواضطجعت، يا أمير المؤمنين، فضحك ضحك صحيح، ثم قال: يا سهل! اذكر في هذه الحال قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم ... شماساً وصبراً شدة الحدثان
ثم مات، وصلى عليه ابنه صالح، وحضر وفاته الفضل بن الربيع، وإسماعيل بن صبيح، ومسرور وحسين ورشيد.
وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وشهرين وثمانية عشر يومأن وقيل ملك ثلاثاً وعشرين سنة وشهراً وستة عشر يومأن وكان عمره سبعاً وأربعين سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام، وكان جميلأن وسيماً أبيض، جعداً قد وخطه الشيب؛ قال: وكان في بيت المال لما توفي تسعمائة ألف ألف ونيف.
ذكر ولاة الأمصار أيام الرشيد
ولاة المدينة
إسحاق بن عيسى بن علي، عبد الملك صالح بن علي، محمد بن عبد الله، موسى بن عيسى بن موسى، إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، علي بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبد الله بن مصعب، بكار بن عبد اله بن مصعب، محمد بن علي، أبوالبختري وهب بن منبه.ولاة مكةالعباس بن محمد بن إبراهيم، سليمان بن جعفر بن سليمان، موسى بن عيسى بن موسى، عبد الله بن محمد بن إبراهيم، عبد الله بن قثم بن العباس، عبيد الله بن قثم، عبد الله بن محمد بن عمران، عبيد الله بن محمد بن إبراهيم، العباس بن موسى بن عيسى، علي بن موسى بن عيسى، محمد بن عبد الله العثماني، حماد البربري، سليمان بن جعفر بن سليمان، الفضل بن العباس بن محمد، أحمد بن إسماعيل بن علي.
ولاة الكوفةموسى بن عيسى بن موسى، محمد بن إبراهيم، عبيد الله بن محمد بن إبراهيم، يعقوب بن أبي جعفر، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، إسحاق بن الصباح الكندي، موسى بن عيسى بن موسى، العباس بن عيسى بن موسى، موسى بن عيسى بن موسى، جعفر بن أبي جعفر.
ولاة البصرةمحمد بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، خزيمة بن خازم، عيسى بن جعفر، جرير بن يزيد، جعفر بن سليمان، جعفر بن أبي جعفر، عبد الصمد بن علي، مالك بن علي الخزاعي، إسحاق بن سليمان بن علي، سليمان بن أبي جعفر، عيسى بن جعفر، الحسن بن جميل مولى أمير المؤمنين، عيسى بن جعفر بن أبي جعفر، جرير بن يزيد، عبد الصمد بن علي، إسحاق بن عيسى بن علي.
ولاة خراسانأبو العباس الطوسي، جعفر بن محمد بن الأشعث، العباس بن جعفر، الغطريف بن عطاب، سليمان بن راشد على الخراج، حمزة بن مالك، الفضل بن يحيى بن خالد، منصور بن يزيد بن منصور، جعفر بن يحيى، وخليفته بها علي بن عيسى بن ماهان، هرثمة بن أعين، العباس بن جعفر للمأمون بهأن علي بن الحسن بن قحطبة.
ذكر نسائه وأولادهقيل: تزوج زبيدة، وهي أم جعفر بنت جعفر بن المنصور، وأعرس بها سنة خمس وستين ومائة، فولدت محمداً الأمين، وماتت سنة ست وعشرين ومائتين.
وتزوج أمه العزيز أم ولد الهادي، فولدت له علي بن الرشيد. وتزوج أم محمد بنت صالح المسكين. وتزوج العباسة بنت سليمان بن المنصور. وتزوج عزيزة ابنة خاله الغطريف. وتزوج العثمانية، وهيس ابنة عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمروبن عثمان بن عفان، وجدة أبيها فاطمة بنت الحسين بن علي.
ومات الرشيد عن أربع مهائر: زبيدة، وأم محمد بنت صالح، وعباسة، والعثمانية.
وكان قد ولد له من الذكور: محمد الأمين من زبيدة، وعبد الله المأمون، لأم ولد اسمها مراجل، والقاسم المؤتمن، وأبوإسحاق محمد المعتصم، وصالح، وأبوعيسى محمد، وأبويعقوب محمد، وأبوالعباس محمد، وأبوسليمان محمد، وأبوعلي محمد، وأبومحمد، وهواسمه، وأبوأحمد محمد، كلهم لأمهات أولاد.
وله من البنات سكينة، وأم حبيب، وأروى، وأم الحسن، وأم محمد، وهي حمدونة، وفاطمة، وأم أبيهأن وأم أبيهأن وأم سلمة، وخديجة، وأم القاسم، ورملة، وأم جعفر، وأم علي، والعالية، وريطة، كلهن لأمهات أولاد.
ذكر بعض سيرتهقيل: كان الرشيد يصلي كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيأن إلا من مرض، وكان يتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم بعد زكاته، وكان إذا حج حج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاثمائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة.
وكان يطلب العمل بآثار المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه للمال، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك.
وكان يحب الشعر الشعراء، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، وكان يحب المديح، لا سيما من شاعر فصيح، ويجزل العطاء عليه، ولما مدحه مروان بن أبي حفصة بقصيدته التي منها:
وسدت بهارون الثغور فأحكمت ... به من أمور المسلمين المرائر
أعطاه خمسة آلاف دينارن وخلعة، وعشرة من الرقيق الرومي، وبرذون من خاص مركبه.
وقيل: كان مع الرشيد ابن أبي مريم المديني، وكان مضحاكاً فكهأن يعرف أخبار أهل الحجاز، وألقاب الأشراف، ومكايد المجان فكان الرشيد لا يصبر عنه، وأسكنه في قصره، فجاء ذات ليلة وهونائم، فقام الرشيد إلى صلاة الفجر، فكشف اللحاف عنه وقال: كيف أصبحت؟ فقال: ما أصبحت بعد، اذهب إلى عملك. قال: قم إلى الصلاة! قال: هذا وقت صلاة أبي الجارود، وأنا من أصحاب أبي يوسف. فمضى الرشيد يصلي، وقام ابن أبي مريم وأتى الرشيد فرآه يقرأ في الصلاة: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) يس: 22 فقال: ما أدري والله! فما تمالك الرشيد أن ضحك، ثم قال له وهومغضب: في الصلاة أيضاً! قال: وما صنعت؟ قال: قطعت علي صلاتي. قال: والله ما فعلت، إمنا سمعت منك كلاماً غمني حين قلت: : وما لي لا أعبد الذي فطرني؟ ( فقلت: لا أدري: فعاد الرشيد فضحك ثم قال له: إياك والقرآن والدين ولك ما شئت بعدهما.
وقيل: استعمل يحيى بن خالد رجلاً على بعض أعمال الخراج، فدخل على الرشيد يودعه، وعنده يحيى وجعفر، فقال لهما الرشيد: أوصياه! فقال يحيى: وقر واعمر! وقال جعفر: أنصف وانتصف! فقال الرشيد: اعدل وأحسن.
وقيل: حج الرشيد مرة، فدخل الكعبة، فرآه بعض الحجبة وهوواقف على أصابعه يقول: يا من يملك حوائج السائلين، ويعلم ضمير الصامتين، فإن لكل مسأله منك رداً حاضرأن وجواباً عتيدأن ولكل صامت منك علم محيط، ناطق بمواعيدك الصادقة، وأياديك الفاضلة، ورحمتك الواسعة، صل على محمد، وعلى آل محمد، واغفر لنا ذنوبنأن وكفر عنا سيئاتنا يا من لا تضره الذنوب، ولا تخفى عليه العيوب، ولا تنقصه مغفرة الخطايأن يا من كبس الأرض على الماء، وسد الهواء بالسماء، واختار لنفسه أحسن الأسماء، صل على محمد وعلى آل محمد، وخر لي في جميع أموري يا من خشعت له الأصوات، بأنواع اللغات، يسألونه الحاجات، إن من حاجتي إليك أن تغفر لي ذنوبي، إذا توفيتني وصيرت في لحدي، وتفرق عني أهلي وولدي، اللهم لك الحمد حمداً يفضل كل حمد كفضلك على جميع الخلق؛ اللهم! صل على محمد، وعلى آل محمد، صلاة تكون له رضى وصل عليه صلاة تكون له ذخراً وأجزه عنا الجزاء لا أوفى؛ اللهم: أحينا سعداء، وتوفنا شهداء، واجعلنا سعداء مرزوقين، ولا تجعلنا أشقياء مرجومين.
وقيل دخل ابن السماك على الرشيد، فبيمنا هوعنده إذ طلب ماء، فلما أراد شربه قال له ابن السماك: مهلأن يا أمير المؤمنين، بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لومنعت هذه الشربة بكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي. قال: اشرب؛ فلما شرب قال: أسألك بقرابتك من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لومنعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشتريها؟ قال: بجميع ملكي. قال: إن ملكاً لا يساوي شربة ماء وخروج بولة لجدير أن لا ينافس فيه! فبكى الرشيد.
وقيل: كان الفضيل بن عياض يقول: ما من نفس أشد علي موتاً من هارون الرشيد، ولوددت أن الله زاد من عمري في عمره؛ فعظم ذلك على أصحابه؛ فلما مات، وظهرت الفتن، وكان من المأمون ما حمل الناس عليه من القول بخلق القرآن، قالوا: الشيخ أعلم بما تكلم به.
وقال محمد بن منصور البغدادي: لما حبس الرشيد أبا العتاهية جعل عليه عيناً يأتيه بما يقول: فرآه يوماً قد كتب على الحائط:
أما والله إن الظلم لؤم ... وما زال المسيء هوالظلوم
إلى ديان يوم الدين بمضي ... وعند الله تجتمع الخصوم
فأخبر بذلك الرشيد، فبكى، وأحضره، واستحله، وأعطاه ألف دينار.
وقال الأصمعي: صنع الرشيد يوماً طعاماً كثيراً وزخرف مجالسه، وأحضر أبا العتاهية، فقال له: صف لنا ما نحن فيه من نعيم هذه الدنيا؛ فقال:
عش ما بدا لك سالماً ... في ظل شاهقة القصور
فقال: أحسنت! ثم قال: ماذا؟ فقال:
يسعى عليك بما اشتهي ... ت لدى الرواح وفي البكور
فقال: أحسنت! ثم ماذا؟ فقال:
فإذا النفوس تقعقعت ... في ظل حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ... ما كنت إلا في غرور
فبكى الرشيد. وقال الفضل بن يحيى: بعث إليك أمير المؤمنين لتسره فحزنته. فقال: دعه، فإنه رآنا في عميً، فكره أن يزيدنا.
خلافة الأمين
وفي هذه السنة بويع الأمين بالخلافة في عسكر الرشيد، صبيحة الليلة التي توفي فيها؛ وكان المأمون حينئذ بمرو، فكتب حمويه مولى المهدي، صاحب البريد، إلى نائبه ببغداد، وهوسلام بن مسلم، يعلمه بوفاة الرشيد، فدخل أبومسلم على الأمين فعزاهن وهنأه بالخلافة، فكان أول الناس فعل ذلك.
وكتب صالح بن الرشيد إلى أخيه الأمين يخبره بوفاة الرشيد، مع رجاء الخادم، وأرسل معه الخاتم، والقضيب، والبردة، فلما وصل رجاء انتقل الأمين من قصره بالخلد إلى قصر الخلافة، وصلى بالناس الجمعة، ثم صعد المنبر فنعى الرشيد وعزى نفسه والناس، ووعدهم الخير، وأمن الأبيض والأسود، وفرق في الجند الذين ببغداد رزق أربعة وعشرين شهرأن ودعا إلى البيعة، فبايعه جلة أهل بيته، وكل عم ابنه، وأمر سليمان بن المنصور بأخذ البيعة على القواد وغيرهم، وأمر السندي أيضاً بمبايعة من عداهم.
ذكر ابتداء الاختلاف بين الأمين والمأمونفي هذه السنة ابتدأ الاختلاف بين الأمين والمأمون ابني الرشيد.
وكان سبب ذلك أن الرشيد لما سار إلى خراسان، وأخذ البيعة للمأمون على جميع من في عسكره من القواد وغيرهم، وأقر له بجميع ما معه من الأموال وغيرهأن على ما سبق ذكره، عظم على الأمين ذلك، ثم بلغه شدة مرض الرشيد، فأرسل بكر بن المعتمر، وكتب معه كتبأن وجعلها في قوائم صناديق المطبخ، وكانت منقورة، وألبسها جلود البقر، وقال: لا تظهرن أمير المؤمنين، ولا غيره، على ذلك، ولوقتلت، فإذا مات فادفع إلى كل إنسان منهم ما معك.
فلما قدم بكر بن المعتمر طوس بلغ هارون قدومه، فدعا به، وسأله عن سبب قدومه، فقال: بعثني الأمين لآتيه بخبرك؛ قال: فهل معك كتاب؟ قال: لا؛ فأمر بما معه ففتش، فلم يصيبوا شيئأن فأمر به فضرب، فلم يقر بشيء، فحبسه، وقيده، ثم أمر الفضل بن الربيع بتقريره، فإن أقر وإلا ضرب عنقه؛ فقرره، فلم يقر بشيء، ثم غشي على الرشيد، فصاح النساء، فأمسك الفضل على قتله، وحضر عند الرشيد، فأفاق وهوضعيف قد شغل عن بكر وغيره ثم مات.
وكان بكر قد كتب إلى الفضل يسأله أن لا يعجل في أمره بشيء، فإن عنده أشياء يحتاج إلى عملهأن فأحضره الفضل، وأعلمه بموت الرشيد، وسأله عما عنده، فخاف أن يكون الرشيد حيأن فلما تيقن موته أخرج الكتب التي معه، وهي كتاب إلى أخيه المأمون يأمره بترك الجزع، وأخذ البيعة على الناس لهما ولأخيهما المؤتمن، ولم يكن المأمون حاضرأن كان بمرو؛ وكتاب إلى أخيه صالح يأمره بتسيير العسكر وأصحاب ما فيه، وأن يتصرف هوومن معه برأي الفضل؛ وكتاب إلى الفضل يأمره بالحفظ ولا احتياط على ما معه من الحرم والأموال وغير ذلك، وأقر كل من كان له عمل على عمله، كصاحب الشرطة والحرس والحجابة.
فلما قرأوا الكتب تشاوروا هم والقواد في اللحاق بالأمين، فقال الفضل بن الربيع: لا أدع ملكاً حاضراً لآخر ما أدري ما يكون من أمره. وأمر الناس بالرحيل، فرحلوا محبة منهم لأهلهم ووطنهم، وتركوا العهود التي كانت أخذت عليهم للمأمون.
فلما بلغ المأمون ذلك جمع من عنده من قواد أبيه، وهم: عبد الله بن مالك، ويحيى بن معاذ، وشبيب بن حميد بن قحطبة، والعلاء مولى هارون، وهوعلى حجابته، والعباس بن المسيب بن زهير، وهوعلى شرطته، وأيوب بن أبي سمير، وهوعلى كتابته، وعبد الرحمن بن عبد الملك بن صالح، وذوالرياستين، وهوأعظمهم عنده قدرأن وأخصهم به، واستشارهم، فأشاروا أن يلحقهم في ألفي فارس جريدة، فيردهم، فخلا به ذوالرياستين، وقال: إن فعلت ما أشار به هؤلاء جعلوك هدية إلى أخيك، ولكن الرأي أن تكتب إليهم كتاباً وتوجه رسولاً يذكرهم البيعة، ويسألهم الوفاء، ويحذرهم الحنث وما فيه دنيا وآخرة.
ففعل ذلك؛ ووجه سهل بن صاعد، ونوفلاً الخادم، ومعهما كتاب، فلحقا الجند والفضل بنيسابور، فأوصلا إلى الفضل كتابه، فقال: إمنا أنا واحد من الجند؛ وشد عبد الرحمن بن جبلة الأنباري على سهل بالرمح ليطعنه، فأمره على جنبه، وقال له: قل لصاحبك: لوكنت حاضراً لوضعته في فيك. وسب المأمون.
فرجعا إليه بالخبر، فقال ذوالرياستين: أعداء استرحت منعهم، ولكن أفهم عني أن هذه الدولة لم تكن قط أعز منها أيام المنصور. فخرج عليه المقنع وهويدعي الربوبية، وقيل طلب بدم أبي مسلم، فضعضع العسكر بخروجه بخراسان، وخرج بعده يوسف البرم، وهوعند المسلمين كافر، فتضعضعوا أيضاً له، فأخبرني أنت، أيها الأمير، كيف رأيت الناس عندما ورد عليهم خبر رافع؟ قال: رأيتهم اضطربوا اضطراباً شديداً. قال: فكيف بك وأنت نازل في أخوالك وبيعتك في أعناقهم؛ كيف يكون اضطراب أهل بغداد؟ اصبر، وأنا أضمن لك الخلافة.
قال المأمون: قد فعلت، وجعلت الأمر إليك، فقم به.
قال ذوالرياستين: والله لأصدقنك، إن عبد الله بن مالك ومن معه من القواد إن قاموا لك بالأمر كانوا أنفع مني برياستهم المشهورة، وبما عندهم من القوة على الحرب، فمن قام بالأمر كنت خادماً له، حتى تبلغ أملك وترى رأيك.
وقام ذوالرياستين وأتاهم في منازلهم، وذكرهم ما يجب عليهم من الوفاء، قال: فكأني جئتهم بجيفة على طبق. فقال بعضهم: هذا لا يحل، اخرج! وقال بعضهم: من الذي يدخل بين أمير المؤمنين وأخيه؟ فجئت وأخبرته، فقال: قم بالأمر! قال: قلت له: قرأت القرآن، وسمعت الأحاديث، وتفقهت في الدين، فأرى أن تبعث إلى من بحضرتك من الفقهاء، فتدعوهم إلى الحق والعمل به وإحياء السنة، وتقعد على الصوف، وترد المظالم.
ففعل ذلك جميعه، وأكرمه القواد والملوك، وأبناء الملوك، وكان يقول للتميمي: نقيمك مقام موسى بن كعب؛ وللربعي: نقيمك مقام أبي داود، وخالد بن إبراهيم؛ ولليماني: نقيمك مقام قحطبة، ومالك بن الهيثم؛ وكل هؤلاء نقباء الدولة العباسية. ووضع عن خراسان ربع الخراج، فحسن ذلك عند أهلهأن وقالوا: ابن أختنأن وابن عم نبينان وأما الأمين، فلما سكن الناس ببغداد أمر ببناء ميدان حول قصر المنصور، بعد بيعته بيوم، للوالجة واللعب؛ فقال شاعرهم:
بنى أمين الله ميداناً ... وصير الساحة بستاناً
وكانت الغزلان فيه باناً ... يهدي إليه فيه غزلانا
وأقام المأمون يتولى ما كان بيده من خراسان والري، وأهدى إلى الأمين، وكتب إليه وعظمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة دخل هرثمة بن أعين حائط سمرقند، فأرسل رافع بن الليث إلى الترك، فأتوه، وصار هرثمة بين رافع والترك، ثم إن الترك انصرفوأن فضعف رافع.
وفيها قدمت زبيدة امرأة الرشيد من الرقة إلى بغداد، فلقيها ابنها الأمين بالأنبار، ومعه جمع من بغداد من الوجوه، وكان معه أخوه ابن الرشيد.
وفيها قتل نقفور ملك الروم في حرب برجان، وكان ملك سبع سنين، وملك بعده ابنه استبراق، وكان مجروحأن فبقي شهرين، ومات فملك بعده ميخائيل بن جورجس، ختنه على أخته.
وفيها عزل الأمين أخاه القاسم المؤتمن عن الجزيرة، وأقره على قنسرين والعواصم، واستعمل على الجزيرة خزيمة بن خازم. وحج بالناس هذه السنة داود بن عيسى بن موسى بن محمد، وهوأمير مكة.
وفيها توفي صقلاب بن زياد الأندلسي وهومن أصحاب مالك، وكان فقيهاً زاهداً.
وفي هذه السنة مات مروان بن معاوية الفزازي، وقيل سنة أربع وتسعين ومائة، في ذي الحجة.
وفيها توفي إسماعيل بن علية، وأبوبكر بن عياش، وله ست وتسعون سنة، عياش بالياء المثناة من تحت، والشين المعجمة.
حوادث سنة أربع وتسعين ومائة
ذكر خلاف أهل حمص على الأمين
في هذه السنة خالف أهل حمص على الأمين، وعلى عامهم إسحاق بن سليمان، فانتقل عنهم إلى سلمية، فعزله الأمين واستعمل مكانه عبد الله بن سعيد الحرشي، فقتل عدة من وجوههم، وحبس عدة، وألقى النار في نواحيهأن فسألوا الأمان فأجابهم، ثم هاجوا بعد ذلك فقتل عدة منهم.ذكر ظهور الخلاف بين الأمين والمأمونوفي هذه السنة أمر الأمين بالدعاء على المنابر لابنه موسى.
وكان السبب في ذلك أن الفضل بن الربيع لما قدم العراق من طوس، ونكث عهد المأمون، أفكر في أمره، وعلم أن المأمون إن أفضت إليه الخلافة، وهوحي، لم يبق عليه، فسعى في إغراء الأمين، وحثه على خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بولاية العهد، ولم يكن ذلك في عزم محمد الأمين، فلم يزل الفضل يصغر عنده أمر المأمون، ويزين له خلعه، وقال له: ما تنتظر بعبد الله والقاسم، فإن البيعة كانت لك قبلهمأن وإمنا أدخلا فيها بعدك.
ووافقه على هذا علي بن عيسى بن ماهان، والسندي وغيرهمأن فرجع الأمين إلى قولهم.
ثم إنه أحضر عبد الله بن خازم، فلم يزل في مناظرته حتى انقضى الليل، وكان مما قال عبد الله: أنشدك الله، يا أمير المؤمنين، أن تكون أول الخلفاء نكث عهدهن ونقض ميثاقه، ورد رأي الخليفة قبله؛ فقال: اسكت! فعبد الملك كان أفضل منك رأيأن وأكمل نظرأن يقول: لا يجتمع فحلان في أجمة.
ثم جمع القواد عليهم خلع المأمون، فأبوا ذلك، وربما ساعده قوم حتى بلغ إلى خزيمة بن خازم فقال: يا أمير المؤمنين! لم ينصحك من كذبك، ولم يغشك من صدقك، لا تجرئ القواد على الخلع فيخلعوك، ولا تحملهم على نكث العهد فينكثوا عهدك وبيعتك، فإن الغادر مخذول، والناكث مغلول.
فأقبل الأمين على علي بن عيسى بن ماهان، فتبسم، وقال: لكن شيخ الدعوة، ونائب هذه الدولة لا يخالف على إمامه، ولا يوهن طاعته.
ثم رفعه إلى موضع لم يرفعه إليه قبلهأن لأنه كان هووالفضل بن الربيع يعينانه على الخلع؛ ولج الأمين في خلع المأمون، حتى إنه قال يوماً للفضل بن الربيع: يا فضل! أحياة مع عبد الله؟ لا بد من خلعه؛ والفضل يعده، وهويقول: فمتى ذلك؟ إذا غلب خراسان وما فيها؛ فأول ما فعله أن كتب إلى جميع العمال بالدعاء لابنه موسى بالإمرة، بعد الدعاء للمأمون وللمؤتمن.
فلما بلغ ذلك المأمون، مع عزل المؤتمن عما كان بيده، أسقط اسم الأمين من الطراز، وقطع البريد عنه.
وكان رافع بن الليث بن نصر بن سيار، لما بلغه حسن سيرة المأمون، طلب الأمان، فأجابه إلى ذلك، فحضر عند المأمون، وأقام هرثمة بسمرقند، ومعه طاهر بن الحسين، ثم قدم هرثمة على المأمون، فأكرمه، وولاه الحرس، فأنكر ذلك كله الأمين؛ فكان مما وتر عليه أن كتب إلى العباس بن عبد الله بن مالك، وهوعامل المأمون على الري، يأمره أن ينفذ بغرائب غروس الري؛ يريد امتحانه، فبعث إليه بما أمره، وكتم ذلك عن المأمون وذي الرياستين، فبلغ المأمون، فعزله بالحسن بن علي المأموني.
ثم وجه الأمين إلى المأمون أربعة أنفس، وهم: العباس بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي، وعيسى بن جعفر بن المنصور، وصالح صاحب المصلى، ومحمد بن عيسى بن نهيك، ويطلب إليه أن يقدم ابنه موسى على نفسه ويحضر عنده، فقد استوحش لبعده؛ فبلغ الخبر المأمون فكتب إلى عماله بالري، ونيسابور وغيرهمأن يأمرهم بإظهار العدة والقوة، ففعلوا ذلك، وقدم الرسل على المأمون، وأبلغوه الرسالة؛ وكان ابن ماهان أشار بذلك، وأخبر الأمين أن أهل خراسان معه.
فلما سمع المأمون هذه الرسالة استشار الفضل بن سهل فقال له: أحضر هشاماً والد علي وأحمد ابني هشام، واستشره، فأحضره، واستشاره، فقال له: إمنا أخذت البيعة علينا على أن لا تخرج من خراسان، فمتى فعل محمد ذلك، فلا بيعة له في اعناقنأن والسلام عليك، يا أمير المؤمنين، ورحمة الله وبركاته، ومتى هممت بالمسير إليه تعلقت بك بيميني، فإذا قطعت تعلقت بيساري، فإذا قطعت تعلقت بلساني، فإذا ضربت عنقي كنت أديت ما علي.
فقوي عزم المأمون على الامتناع، فأحضر العباس، وأعلمه أنه لا يحضر، وأنه لا يقدم موسى على نفسه؛ فقال العباس بن موسى: ما عليك أيها الامير من ذلك، فهذا جدي عيسى بن موسى قد خلع فما ضره؛ فصاح به ذوالرياستين: اسكت! إن جدك كان أسيراً في أيديهم، وهذا بين أخواله وشيعته.
ثم قاموأن فخلا ذوالرياستين بالعباس بن موسى واستماله، ووعده إمرة الموسم، ومواضع من مصر، فأجاب إلى بيعه المأمون، وسمي المأمون، ذلك الوقت، بالإمام، فكان العباس يكتب إليهم بالاخبار من بغداد.ورجع الرسل إلى الامين، فأخبروه بامتناع المأمون، وألح الفضل وعلي بن عيسى على الأمين في خلع المأمون والبيعة لابنه موسى بن الأمين؛ وكان الأمين قد كتب إلى المأمون يطلب منه أن ينزل عن بعض كور خراسان، وأن يكون له عنده صاحب البريد يكاتبه بالأخبار، فاستشار المأمون خواصه وقواده، فأشاروا باحتمال هذا الشر، والإجابة إليه، خوفاً من شر هون أعظم منه.
فقال لهم الحسن بن سهل: أتعلمون أن الأمين طلب ما ليس له؟ قالوا: نعم! ويحتمل ذلك لضرر منعه؛ قال: فهل تثقون بكفه بعد إجابته، فلا يطلب غيرها؟ قالوا: لا! قال: فإن طلب غيرهأن فما ترون؟ قالوا: مننعه، فهذا خلاف ما سمعناه من قول الحكماء، قال: استصلح عاقبة أمرك باحتمال ما عرض من مكروهه في يومك، ولا تلتمس هدنة يومك بإخطار أدخلته على نفسك في غدك. فقال المأمون لذي الرياستين: ما تقول أنت؟ فقال: أسعدك الله، هل تؤمن أن يكون الأمين طالبك بفضل قوتك ليستظهر بها عليك؟ بل إمنا أشار الحكماء بحمل ثقل ترجون به صلاح العاقبة.
فقال المأمون: بأيثار دعة الاجل صار إلى فساد العاقبة في دنياه وآخرته؛ فامتنع المأمون من إجابته إلى ما طلب؛ وأنفذ المأمون ثقته إلى الحد، فلا يمكن أحداً من العبور إلى بلاده إلا مع ثقة من ناحيته، فحضر أهل خراسان أن يستمالوا برغبة أورهبة، وضبط الطرق بثقات أصحابه، فلم يمكنوا من دخول خراسان إلا من عرفوه، وأتى بجواز، أوكان تاجراً معروفأن وفتشت الكتب.
وقيل: لما اراد الأمين أن يكتب إلى المأمون يطلب بعض كور خراسان، قال له إسماعيل بن صبيح: يا أمير المؤمنين! إن هذا مما يقوي التهمة، وينبه على الحذر، ولكن أكتب إليه فأعلمه حاجتك، وما تحب من قربه والاستعانة به على ما ولاك الله، وتسأله القدوم عليك، لترجع إلى رأيه فيما تفعل.
فكتب إليه بذلك، وسير الكتاب مع نفر، وأمرهم أن يبلغوا الجهد في إحضاره، وسير معهم الهدايا الكثيرة؛ فلما حضر الرسل عنده، وقرأ الكتاب أشاروا عليه بإجابة الأمين، وأعلموه ما في إجابته من المصلحة العامة والخاصة؛ فأحضر ذا الرياستين، وأقرأه الكتاب، واستشاره، فأشار عليه بملازمة خراسان، وخوفه من القرب من الأمين؛ فقال: لا يمكنني مخالفته وأكثر القواد والاموال معه، والناس مائلون إلى الدرهم، والدينار لا يرغبون في حفظ عهد ولا أمانة، ولست في قوة حتى أمتنع، وقد فارق جيغويه الطاعة، والتوى خاقان ملك التبت، وملك الكابل قد استعد للغارة على ما يليه، وملك اتردبنده قد منع الضريبة، ومالي بواحد من هذه الأمور بد، ولا أرى إلا تخلية ما أنا فيه، واللحاق بخاقان ملك الترك، والاستجارة به لعليّ آمن على نفسي.
فقال ذوالرياستين: إن عاقبة الغدر شديدة وتبعة البغي غير مأمونة، ورب مقهور قد عاد قاهرأن وليس النصر بالكثرة والقلة، والموت أيسر من الذل والضيم، وما أرى أن تصير إلى أخيك متجرداً من قوادك وجندك، كالرأس الذي فارق بدنه، فتكون عنده كبعض رعيته، يجري عليك حكمه من غير أن تبلي عذراً في قتال، واكتب إلى جيغويه وخاقان، فولهما بلادهمأن وابعث إلى ملك كابل ببعض هدايا خراسان، ووادعه، واترك لملك اترابنده ضريبته، ثم اجمع أطرافك، وضم جندك، وأضرب الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا لحقت بخاقان.
فعرف المأمون صدقه، ففعل ما أشار به، فرضي أولئك الملوك العصاة، وضم جنده، وجمعهم عنده، وكتب إلى الأمين: أما بعد، فقد وصل إليّ كتاب أمير المؤمنين، وإمنا أنا عامل من عماله، وعون من اعوانه، أمرني الرشيد بلزوم هذا الثغر ومكايدة من كايد أهله من عدوأمير المؤمنين، ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين، أعظم غناء عنه المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، فإن كنت مغتبطاً بقربه، مسروراً بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أمير المؤمنين أن يقرني على عملي ويعفيني من الشخوص إليه فعل إن شاء الله. والسلام.
فلما قرأ الأمين كتاب المأمون علم أنه لا يتابعه على ما يريده؛ فكتب إليه يسأله أن ينزل عن بعض كور خراسان، كما تقدم ذكره، فلما امتنع المأمون أيضاً من إجابته إلى ما طلب، أرسل جمعاً ليناظروه في منع ما طلب منه، فلما وصلوا إلى الري منعوأن ووجدوا تدبيره محكمأن وحفظوا في حال سفرهم وإقامتهم من أن يخبروا ويستخبروأن وكانوا معدين لوضع الأخبار في العامة، فلم يمكنهم ذلك؛ فلما رجعوا أخبروا الأمين بما رأوا.
وقيل إن الأمين لما عزم على خلع المأمون، وزين له ذلك الفضل وابن ماهان، دعا يحيى بن سليم، وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف تفعل ذلك مع ما قد أكد الرشيد من بيعته، وأخذ الشرائط والأيمان في الكتاب الذي كتبه؟ فقال الأمين: إن رأي الرشيد كان فلتةً شبهها عليه جعفر بن يحيى، فلا ينفعنا ما نحن فيه إلا بخلعه وقلعه واحتشاشه.
فقال يحيى: إذا كان رأي أمير المؤمنين خلعه، فلا تجاهره فيستنكر الناس ذلك، ولكن تستدعي الجند بعد الجند، والقائد بعد القائد، وتؤنسهما بالألطاف والهدايأن وتفرق ثقاته ومن معه، وترغبهم بالأموال، فإذا وهنت قوته، واستفرغت رجاله، أمرته بالقدوم عليك، فإن قدم صار إلى الذي تريد منه، وإن أبى كنت قد تناولته وقد كل حده وانقطع عزه.
فقال الأمين: أنت مهذار خطيب، ولست بذي رأي مصيب، قم فالحق بمدادك وأقلامك.
وكان ذوالرياستين الفضل بن سهل قد اتخذ قوماً يثق بهم ببغداد، يكاتبونه بالاخبار، وكان الفضل بن الربيع قد حفظ الطرق، وكان أحد أولئك النفر إذا كاتب ذا الرياستين بما تجدد ببغداد، سير الكتاب مع امرأة، وجعله في عود اكفاف، وتسير كالمجتازة من قرية إلى قرية، فلما ألح الفضل بن الربيع في خلع المأمون أجابه الأمين إلى ذلك وبايع لولده موسى في صفر، وقيل في ربيع الأول، سنة خمس وتسعين ومائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسماه الناطق بالحق، ونهى عن ذكر المأمون والمؤتمن على المنابر، وأرسل إلى الكعبة بعض الحجبة، فأتاه بالكتابين اللذين وضعهما الرشيد في الكعبة بيعة الأمين والمأمون، فأحضرهما عنده فمزقهما الفضل.
فلما أتت الأخبار إلى المأمون بذلك قال لذي الرياستين: هذه أمور أخبر الرأي عنهأن وكفانا أن نكون مع الحق.
فكان أول ما دبره ذوالرياستين، حين بلغه ترك الدعاء للمأمون وصح عنده، أن جمع الأجناد الذين كان اتخذهم بجنبات الري مع الاجناد الذين كانوا بهأن وأمدهم بالأقوات وغيرها؛ وكانت البلاد عندهم قد أجدبت، فأكثر عندهم ما يريدونه، حتى صاروا في أرغد عيش، وأقاموا بالحد لا يتجاوزونه، ثم أرسل إليهم طاهر بن الحسين بن مصعب بن زريق بن أسعد أبا العباس الخزاعي أميراً فيمن من قواده وأجناده، فسار مجداً حتى ورد الري، فنزلهأنفوضع المسالح والمواصل، فقال بعض شعراء خراسان:
رمى أهل العراق ومن عليها ... إمام العدل والملك الرشيد
بأحزم من نشا رأياً وحزماً ... وكيداً نافذاً مما يكيد
بداهية تأدى خنفقيق ... يشيب لهول صولتها الوليد
فأما الأمين فإنه وجه عصمة بن حماد بن سالم إلى همذان في ألف رجل، وأمره أن يوجه مقدمته إلى ساوة، ويقيم بهمذان؛ وجعل الفضل بن الربيع، وعلي بن عيسى يبعثان الأمين ويغريانه بحرب المأمون.
ولما بايع الأمين لولده موسى جعله في حجر علي بن عيسى، وجعل على شرطه محمد بن عيسى بن نهيك، وعلى حرسه عثمان بن عيسى بن نهيك، وعلى رسائله علي بن صالح صاحب المصلى.
ذكر خلاف أهل تونس على ابن الأغلبفي هذه السنة عصى عمران بن مجالد الربيعي، وقريش بن التونسي بتونس على إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية واجتمع فيها خلق كثير، وحصر إبراهيم بن الأغلب بالقصر، وجمع من أطاعه، وخالف عليه أيضاً أهل القيروان في جمادى الآخرة، فكانت بينهم وقعة وحرب قتل فيها جماعة من رجال ابن الأغلب.
وقدم عمران بن مجالد فيمن معه، فدخل القيروان عاشر رجب، وقدم قريش من تونس غليه، فكانت بينهم وبين ابن الأغلب وقعة في رجب، فانهزم أصحاب ابن الأغلب، ثم التقوا في العشرين منه فانهزموا ثانية أيضأن ثم التقوا ثالثة فيه أيضأن فكان الظفر بن الأغلب، وأرسل عمران بن مجالد إلى أسد بن الفرات الفقيه ليخرج معهم، فامتنع، فاعاد الرسول يقول له: تخرج معنأن وإلا أرسلت إليك من يجر برجلك؛ فقال أسد للرسول: قل له: واله إن خرجت لأقولن لناس إن القاتل والمقتول في النار. فتركه.
ذكر عصيان أهل ماردة وغزو الحكم بلاد الفرنجفي هذه السنة عاود أهل ماردة الخلاف على الحكم بن هشام، أمير الأندلس، وعصوا عليه، فسار بنفسه إليهم، وقاتلهم، ولم تزل سراياه وجيوشه تتردد وتقاتلهم هذه السنة، وسنة خمس، وسنة ست وتسعين ومائة.
وطمع الفرنج في ثغور المسلمين، وقصدوها بالغارة، والقتل، والنهب والسبي، وكان الحكم مشغولاً بأهل ماردة، فلم يتفرغ للفرنج، فأتاه الخبر بشدة الأمر على أهل الثغر، وما بلغ العدومنهم، وسمع أن امرأة مسلمة أخذت سبية، فنادت: واغوثاه، يا حكم! فعظم الأمر عليه، وجمع عسكره واستعد وحشد وسار إلى بلد الفرنج سنة ست وتسعين ومائة، وأثخن في بلادهم، وافتتح عدة حصون، وخرب البلاد، ونهبهأن وقتل الرجال، وسبى الحريم، ونهب الأموال، وقصد الناحية التي كانت بها تلك المرأة، فأمر لهم من الأسرى بما يفادون به أسراهم، وبالغ في الوصية في تخليص تلك المرأة فتخلصت من الأسر، وقتل باقي الأسرى؛ فلما فرغ من غزاته قال لأهل الثغور: هل أغاثكم الحكم؟ فقالوا: نعم، ودعوا له، واثنوا عليه خيرأن وعاد إلى قرطبة مظفراً.
ذكر عدة حوادثوفيها وثبت الروم على ملكهم ميخائيل، فهرب، وترهب، وكان ملك نحوسنتين، وملك بعده أليون القائد.
وكان على الموصل إبراهيم بن العباس استعمله الأمين.
وفي هذه السنة قتل شقيق اللخي في غزاة كولان من بلاد الترك.
وفيها مات الوليد بن مسلم صاحب الأوزاعي، وقيل سنة خمس وتسعين ومائة، وكان مولده سنة عشر ومائة.
وفيها مات حفص بن غياث النخعي، قاضي الكوفة، وكان مولده سنة سبع عشرة ومائة. غياث بالغين المعجمة.
وفيها توفي عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وكان مولده سنة ست عشرة ومائة، وكان قد اختلط في آخر عمره، وكان حديثه صحيحاً إلى أن اختلط.
وفيها توفي سيبويه النحوي، واسمه عمروبن عثمان بن قنبر أبوبشير، وقيل: كان توفي سنة ثلاث وثمانين ومائة، وقيل: كان عمره قد زاد على أربعين سنة، وقيل كان عمره اثنتين وثلاثين سنة.
وفيها توفي يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص وعمره أربع وسبعون سنة.
حوادث سنة خمس وتسعين ومائة
ذكر قطع خطبة المأمون
في هذه السنة أمر الأمين بإسقاط ما كان ضرب لأخيه المأمون من الدراهم والدنانير بخراسان، في سنة أربع وتسعين ومائة، لأنها لم يكن عليها اسم الأمين، وأمر فدعي لموسى بن أمين على المنابر، ولقبه الناطق بالحق، وقطع ذكر المأمون لقول بعضهم، وكان موسى طفلاً صغيرأن ولابنه الآخر عبد الله، ولقبه القائم بالحق.ذكر محاربة علي بن عيسى وطاهرثم إن الامين أمر علي بن عيسى بن ماهان بالمسير لحرب المأمون.
وكان سبب مسيره، دون غيره، أن ذا الرياستين كان له عين عند الفضل بن الربيع يرجع إلى قوله ورأيه، فكتب ذوالرياستين إلى ذلك الرجل يأمره أن يشير بإنفاذ ابن ماهان لحربهم، وكان مقصوده أن ابن ماهان لما ولي خراسان أيام الرشيد، أساء السيرة في أهلهأن فظلمهم، فعزله الرشيد لذلك، ونفر أهل خراسان عنه، وأبغضوه، فأراد ذوالرياستين أن يزداد أهل خراسان جداً في محاربة الأمين وأصحابه.
ففعل ذلك الرجل ما أمر به ذوالرياستين، فأمر الأمين ابن ماهان بالمسير.
وقيل: كان سببه أن علياً قال للأمين إن أهل خراسان كتبوا إليه يذكرون أنه إن قصدهم هوأطاعوه، وانقادوا له، وإن كان غيره، فلا! فأمره بالمسير، وأقطعه كور الجبل كلها: نهاوند، وهمذان، وقم، وأصبهان وغير ذلك، وولاه حربها وخراجهأن وأعطاه الاموال، وحكمه في الخزائن، وجهز معه خمسين ألف فارس،وكتب إلى أبي دلف القاسم بن إدريس بن عيسى العجلي، وهلال بن عبد الله الحضرمي بالانضمام إليه، وأمده بالأموال والرجال شيئاً بعد شيء.
فلما عزم على المسير من بغداد ركب إلى باب زبيدة أم الأمين ليودعهأن فقالت له: يا علي! إن أمير المؤمنين وإن كان ولدي وإليه انتهت شفقتي، فإني على عبد الله منعطفة، مشفقة، لما يحدث عليه من مكروه، وأذى، وإمنا ابني ملك نافس أخاه في سلطانه وغاره على ما في يده، والكريم يأكل لحمه، ويميقه غيره، فاعرف لعبد الله حق ولادته، وأخوته، ولا تجبهه بالكلام، فإنك لست به بنظير، ولاتقتسره اقتسار العبيد ولا توهنه بقيد، ولاغل، ولا تمنع عنه جارية، ولا خادمأن ولا تعنف عليه في السير، ولا تساوه في المسير، ولاتركب قبله، وخذ بركابه، وإن شتملك فاحتمل منه.
ثم دفعت إليه قيداً من فضة، وقالت: إن صار إليك فقيده بهذا القيد! فقال لها: سأفعل مثل ما أمرت.
ثم خرج علي بن عيسى في شعبان، وركب الأمين يشيعه، ومعه القواد والجنود، وذكر مشايخ بغداد أنهم لم يروا عسكراً أكثر رجالأن وأفره كراعاً. وأتم عدة وسلاحاً من عسكره، ووصاه الأمين، وأمره إن قاتله المأمون أن يحرص على أسره.
ثم سار فلقيه القوافل عند حلولاء، فسألهم، فقالوا له: إن طاهراً مقيم بالري يعرض أصحابه، ويرم آلته، والأمداد تأتيه من خراسان، ووهويستعد للقتال، فيقول: إمنا طاهر شوكة من أغصاني، وما مثل طاهر يتولى الجيوش؛ ثم قال لأصحابه: ما بينكم وبين أن ينقصف انقصاف الشجر من الريح العاصف، إلا أن يبلغه عبورنا عقبة همذان، فإن السخال لا تقوى على النطاح، والبغال لا صبر لها على لقاء الأسد، وإن أقام تعرض لحد السيف وأسنة الرماح، وإذا قاربنا الري ودنونا منهم فت ذلك على أعضادهم.
ثم أنفذ الكتب إلى ملوك الديلم وطبرستان، وما ولاها من الملوك، يعدهم الصلات، وأهدى لهم التيجان والأسورة وغيرهأن وأمرهم أن يقطعوا طريق خراسان، فأجابوه إلى ذلك؛ وسار حتى أتى أول أعمال الري، وهوقليل الاحتيال، فقال له جماعة من أصحابه: لوأركبت العيون وعملت خندقاً لأصحابك، وبعثت الطلائع لأمنت البيات، وفعلت الرأي، فقال: مثل طاهر لا يستعد له، وإن حاله يؤول إلى أمرين: إما أن يتحصن بالري فيبيته أهلهأن فيكفونا أمره، وغما أن يرجع ويتركهأن إذا قربت خيلنا منه، فقالوا له: لوكان عزمه تركها والرجوع لفعل، فإننا قد قربنا منه فلم يفعل.
ولما صار بينه وبين الري عشرة فراسخ استشار طاهر أصحابه، وأشاروا عليه ان يقيم بالري، ويدافع القتال إلى أن يأتيه من خراسان المدد، وقائد يتولى الأمور دونه، وقالوا له: إن مقامك بمدينة الري أرفق بأصحابك، وأقدر لهم على الميرة، وأكن من البرد، وتعتصم بالبيوت، وتقدر على المماطلة؛ فقال طاهر: إن الرأي ليس ما رأيتم، إن أهل الري لعلي هائبون، ومن سطوته مشفقون، ومعه من أعراب البوادي وصعاليك الجبال والقرايا كثير، ولست آمن، إن أقمت بالري، أن يثب أهلها بنا خوفاً من علي، وما الرأي إلا نسير إليه، فإن ظفرناوإلا عولنا عليهأن فقاتلناه فيها إلى أن يأتينا مدد.
فنادى طاهر في أصحابه فخرج من الري في أقل من أربعة آلاف فارس، وعسكر على خمسة فراسخ، فأتاه أحمد بن هشام، وكان على شرطة طاهر، فقال له: إن أتانا علي بن عيسى فقال أنا عامل امير المؤمنين، وأقررنا له بذلك، فليس لنا أن نحاربه؛ فقال طاهر: لم يأتيني في ذلك شيء. فقال: دعني وما أريد، فقال: افعل! فصعد المنبر، فخلع محمدأن ودعا للمأمون بالخلافة، وساروا عنهأن وقال له بعض أصحابه: إن جندك قد هابوا هذا الجيش، فلوأخرت القتال إلى أن يشامهم أصحابك، ويأنسوا بهم، ويعرفوا وجه المأخذ في قتالهم، قال: إني لا أوتي من قلة تجربة وحزم، إن أصحابي قليل، والقوم عظيم سوادهم، كثر عددهم، فإن أخرت القتال اطلعوا على قلتنأن واستمالوا من معي برهبة أورغبة، فيخذلني أهل الصبر والحفاظ، ولكن ألف الرجال بالرجال، وأقحم الخيل على الخيل، وأعتمد على الطاعة والوفاء، وأصبر صبر محتسب للخير، حريص على الفوز بالشهادة، فإن نصرنا الله فذلك الذي نريده ونرجوه، وإن يكن الأخرى فلست بأول من قاتل وقتل، وما عند الله أجزل وأفضل.
وقال علي لأصحابه: بادروهم، فإنهم قليلون، ولووجدوا حرارة السيوف، وطعن الرماح لم يصبروا عليها.
وعبى جنده ميمنة وميسرة وقلبأن وعبى عشر رايات مع كل راية مائة رجل، وقدمها راية راية، وجعل بين كل رايتين غلوة سهم، وأرم أمراءها إذا قاتلت الراية الأولى وطال قتالهم أن تتقدم التي تليهأن وتتأخر حتى تستريح، وجعل أصحاب الجواشن أيام الريات، ووقف في شجعان أصحابه.
وعبى طاهر أصحابه كراديس، وسار بهم يحرضهم، ويوصيهم، ويرجيهم، وهرب من اصحاب طاهر نفر إلى علي، فجلد بعضهم، وأهان الباقي، فكان ذلك مما ألب الباقين على قتاله، وزحف الناس بعضهم إلى بعض؛ فقال أحمد بن هشام لطاهر: ألا تذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هوعلينا للمأمون خاصة، معاشر أهل خراسان؟ قال: أفعل، فأخذ البيعة فعلقها على رمح، وقام بين الصفين، وطلب الأمان فأمنه علي بن عيسى، فقال له: ألا تتقي الله، عز وجل، أليس هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة؟ اتق الله، فقد بلغت باب قبرك! فقال علي: من أتاني به فله ألف درهم؛ فشتمه أصحاب أحمد، وخرج من أصحاب علي رجل يقال له حاتم الطائي، فحمل عليه طاهر، وأخذ السيف بيديه وضربه، فصرعه فلذلك سمي طاهر ذا اليمينين.
ووثب أهل الري فاغلقوا باب المدينة، فقال طاهر لأصحابه: اشتغلوا بمن أمامكم عمن خلفكم، فإنه لا ينجيكم إلا الجد والصدق؛ ثم اقتتلوا قتالاً شديدأن وجملت ميمنة علي على ميسرة طاهر، فانهزمت هزيمة منكرة، وميسرته على ميمنة طاهر، فأزالتها أيضاً من موضعهأن فقال طاهر: اجعلوا جدكم وبأسكم على القلب، واحملوا حملة خارجية، فإنكم متى فضضتم منها راية واحدة رجعت أوائلها إلى أواخرها؛ فصبر أصحابه صبراً صادقاً وحملوا على اول رايات القلب، فهزموهم، وأكثروا فيهم القتل، ورجعت الريات بعضها على بعض، فانتفضت ميمنة علي.
ورأى ميمنة طاهر وميسرته ما فعل أصحابهم، فرجعوا على من بإزائهم، فهزموهم وانتهت الهزيمة إلى علي، فجعل ينادي أصحابه: أين أصحاب الخواص، والجوائز، والأسورة، والأكاليل، إلى الكرة بعد الفرة! فرماه رجل من أصحاب طاهر بسهم. فقتله، قيل كان داود سياه، وحمل رأسه إلى طاهر، وشدت يداه على رجليه، وحمل على خشبة إلى طاهر، فأمر به فألقي في بئر، فأعتق طاهر من كان عنده من غلمانه شكراً لله تعالى، وتمت الهزيمة، ووضع أصحاب طاهر فيهم السيوف، وتبعوهم فرسخين واقعوهم فيها اثنتي عشرة مرة في كل ذلك ينهزم عسكر الأمين، وأصحاب طاهر يقتلون ويأسرون حتى حال الليل بينهم وغمنوا غنيمة عظيمة.
ونادى طاهر: من ألقى سلاحه فهوآمن. وطرحوا أسلحتهم ونزلوا عن دوابهم، ورجع طاهر إلى الري، وكتب إلى المأمون وذي الرياستين: بسم اله الرحمن الرحيم، كتابي إلى أمير المؤمنين، ورأس علي بن عيسى بين يدي، وخاتمه في إصبعي، وجنده مصرفون تحت أمري، والسلام؛ فورد الكتاب مع البريد في ثلاث أيام، وبينهما نحومن خمسين ومائتي فرسخ، فدخل ذوالرياستين على المأمون، فهنأه بالفتح، وأمر الناس فدخلوا عليه،فسلموا عليه بالخلافة، ثم وصل رأس علي بعد الكتاب بيومين، فطيف به في خراسان.
ولما وصل الكتاب بالفتح كان المأمون قد جهز هرثمة في جيش كثير ليسيره نجدة لطاهر، فأتاه الخبر بالفتح.
وأما الأمين فإنه أتاه نعي علي بن عيسى وهويصطاد السمك، فقال للذي أخبره: ويلك دعني، فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين، وأنا ما صدت شيئاً بعد.
ثم بعث الفضل إلى نوفل الخادم، وهووكيل المأمون على ملكه بالسواد، والناظر في أمر أولاده ببغداد، وكان للمأمون معه ألف ألف درهم كان قد وصله بها الرشيد، فأخذ جميع ما عنده، وقبض ضياعة وغلاته، فقال بعض شعراء بغداد في ذلك:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير، وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
وما ذاك إلا طريق غرور ... وشر المستلك طرق الغرور
في عدة أبيات تركتها لما فيها من القذف الفاحش، ولقد عجبت لأبي جعفر حيث ذكرها مع ورعه، وندم الأمين على نكثه وغدره، ومشى القواد بعضهم إلى بعض في النصف من شوال، فاتفقوا على طلب الأرزاق والشغب، ففعلوا ذلك، ففرق فيهم مالاً كثيرأن بعد أن قاتلهم عبد الله بن خازم، فمنعه الأمين.
ذكر توجيه عبد الرحمن بن جبلةلما اتصل بالأمين قتل علي بن عيسى، وهزيمة عسكره، وجه عبد الرحمن بن جبلة الأنباري في عشرين ألف رجل نحو همذان، واستعمله عليهأن وعلى كل من يفتحه في أرض خراسان، وأمره بالجد، وأمده بالأموال، فسار حتى نزل همذان، وحصنها وروم سورها.
وأتاه طاهر إلى همذان، فخرج إليه عبد الرحمن على تعبئة، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وصبر الفريقان، وكثر القتل والجراح فيهم، ثم انهزم عبد الرحمن، ودخل همذان، فأقام بها أيامأن حتى قوي أصحابه، واندمل جراحهم، ثم خرج إلى طاهر، فلما رآهم قال لأصحابه: إن عبد الرحمن يريد أن يتراءى لكم، فإذا قربتم منه قاتلكم، فإن هزمتموه ودخل المدينة قاتلكم على خندقهأن وإن هزمكم الستع له المجال، ولكن قفوا قريباً من عسكرنا وخندقنأن فإن قرب منا قاتلناه.
فوقفوا فظن عبد الرحمن أن الهيبة منعتهم، فتقدم إليهم، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وصبر الفريقان، وكثر القتل في أصحاب عبد الرحمن، وجعل يطوف عليهم، ويحرضهم، ويأمرهم بالصبر، ثم إن رجلاً من أصحاب طاهر حمل على صاحب علم عبد الرحمن، فقتله، وزحمهم أصحاب طاهر، فانهزموأن ووضع فيهم أصحاب طاهر السيوف يقتلونهم، حتى انتهوا إلى المدينة، وأقام طاهر على بابها محاصراً لهأن فاشتد بهم الحصار، وضجر أهل المدينة، فخاف عبد الرحمن أن يثب به أهل المدينة مع ما فيه من أصحابه من الجهد، فأرسل إلى طاهر يطلب الأمان لنفسه ولمن معه، فأمنه، فخرج عن همذان.
ذكر استيلاء طاهر على أعمال الجبللما نزل طاهر بباب همذان، وحصر عبد الرحمن بهأن تخوف أن يأتيه كثير بن قادرة من ورائه، وكان بقزوين، فأمر أصحابه بالقيام، وسار في ألف فارس نحوقزوين، فلما سمع به كثير بن قادرة، وكان في جيش كثيف، هرب من بين يديه وأخلى قزوين، وجعل طاهر فيها جندأن واستعمل عليها رجلاً من أصحابه، وأمره أن يمنع من أراد دخولهأن واستولى على سائر أعمال الجبل معها.
ذكر قتل عبد الرحمن بن جبلةفي هذه السنة قتل عبد الرحمن بن جبلة الأنباري؛ وكان سبب قتله أنه لما خرج في أمان طاهر أقام يري طاهراً وأصحابه أنه مسالم لهم، راض بأمانهم، ثم اغترهم، وهم آمنون، فركب في أصحابه، وهجم على طاهر وأصحابه، ولم يشعروأن فثبت له رجالة طاهر، وقاتلوه حتى أخذت الفرسان أهبتهأن أشد قتال رآه الناس، حتى تقطعت السيوف، وتكسرت الرماح، وانهزم عبد الرحمن، وبقي في نفر من أصحابه، فقاتل، وأصحابه يقولون له: قد أمكنك الهرب فاهرب! فقال: لا يرى أمير المؤمنين وجهي منهزماً أبداً! ولم يزل يقاتل حتى قتل.
وانتهى من انهزم من أصحابه إلى عبد الله وأحمد ابني الحرشي، وكانا في جيش عظيم، بقصر اللصوص، قد سيره الأمين معونة لعبد الرحمن، فلما بلغ المنهزمون إليهما انهزما أيضاً في جندهما من غير قتال، حتى دخلوا بغداد، وخلت البلاد لطاهر، فأقبل يحوزها بلدة بلدة، وكورة كورة، حتى انتهى إلى شلاشان من قرى خلوان، فخندق بهأن وحصن عسكره وجمع أصحابه.
ذكر خروج السفيانيفي هذه السنة خرج السفياني، وهوعلي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية، وأمه نفيسة بنت عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب، وكان يقول: أنا من شيخي صفين، يعني علياً ومعاوية، وكان يلقب بأبي المعيطر، لأنه قال يوماً لجلسائه: أي شيء كنية الحرذون؟ قالوا: لا ندري. قال: هوأبوالمعيطر، فلقبوه به.
ولما خرج دعا لنفسه بالخلافة في ذي الحجة، وقوي على سليمان بن المنصور، عامل دمشق، فأخرجه عنهأن وأعانه الخطاب بن وجه الفلس، مولى بني أمية، وكان قد تغلب على صيدا؛ ولما خرج سير إليه الأمين الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، فبلغ الرقة، ولم يسر إلى دمشق.
وكان عمر أبي المعيطر، حين خرج، تسعين سنة، وكان الناس قد أخذوا عنه علماً كثيرأن وكان حسن السيرة،فلما خرج ظلم وأساء السيرة، فتركوا ما نقلوا عنه.
وكان أكبر أصحابه من كلب، وكتب إلى محمد بن صالح بن بيهس الكلابي يدعوه إلى طاعته، ويتهدده إن لم يفعل، فلم يجبه إلى ذلك، فأقبل السفياني على قصد القيسية، فكتبوا إلى محمد بن صالح، فأقبل إليهم في ثلاثمائة فارس من الضباب ومواليه، واتصل الخبر بالسفياني، فوجه إليه يزيد بن هشام في اثني عشر ألفأن فالتقوأن فانهزم يزيد ومن معه، وقتل منهم إلى أن دخلوا أبواب دمشق زيادة على ألفي رجل، وأسر ثلاثة آلاف، فأطلقهم ابن بيهس، وحلق رؤوسهم ولحاهم.
وضعف السفياني، وحصر بدمشق، ثم جمع جمعأن وجعل ابنه القاسم، وخرجوا إلى ابن بيهس فالتقوأن فقتل القاسم وانهزم أصحاب السفياني، وبعث رأسه إلى الأمين، ثم جمع جمعاً آخر، وسيرهم مع مولاه المعتمر، فلقيهم ابن بيهس، فقتل المعتمر، وانهزم اصحابه، فوهن أمر أبي المعتمر، وطمع فيه قيس.
ثم مرض ابن بيهس، فجمع رؤساء بني منير، فقال لهم: ترون ما أصابني من علتي هذه، فارفقوا ببني مروان، وعليكم بمسلمة بن يعقوب بن علي بن محمد بن سعيد بن مسلمة بن عبد الملك، فإنه ركيك، وهوابن أختكم، وأعلموه أنكم لا تتبعون بني أبي سفيان، وبايعوه بالخلافة، وكيدوا به السفياني.
وعاد ابن بيهس إلى حوران، واجتمعت منير على مسلمة، وبذلوا له البيعة، فقبل منهم، وجمع مواليه، ودخل على السفياني، فقبض عليه، وقيده، وقبض على رؤساء بني أمية فبايعوه، وأدنى قيسأن وجعلهم خاصته، فلما عوفي ابن بيهس عاد إلى دمشق فحصرهأن فسلمها إليه القيسية وهرب مسلمة والسفياني في ثياب النساء إلى المزة، وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة، ودخل ابن بيهس دمشق، وغلب عليهأن وبقي بها إلى أنه قدم عبد الله بن طاهر دمشق، ودخل إلى مصر، وعاد إلى دمشق، فأخذ ابن بيهس معه إلى العراق، فمات بها.
ذكر عدة حوادثوكان العامل على مكة والمدينة لمحمد الأمين داود بن عيسى بن موسى، وهوالذي حج بالناس سنة ثلاث وتسعين أيضاً؛ وكان على الكوفة العباس بن الهادي للأمين، وعلى البصرة له أيضاً منصور بن المهدي.
وفيها مات محمد بن خازم، أبومعاوية الضرير، وكان يتشيع، وهوثقة في الحديث.
وفيها توفي أبونواس الحسن بن هانئ الشاعر المشهور، وكان عمره تسعاً وخمسين سنة، ودفن بالشونيزي ببغداد؛ ومحمد بن فضل بن غزوان بن جرير الضبي مولاهم؛ ويوسف بن أسباط أبويعقوب.
حوادث سنة ست وتسعين ومائة
ذكر توجيه الأمين الجيوش إلى طاهر
وعودهم من غير قتال
في هذه السنة سير الأمين أسد بن يزيد بن مزيد، وسير معه عمه أحمد بن مزيد، وعبد الله بن حميد بن قحطبة، إلى حلوان لحرب طاهر.وكان سبب ذلك ما ذكره أسد قال: إنه لما قتل عبد الرحمن أرسل إلي الفضل بن الربيع يستدعيني، فجئته، ودخلت عليه وهوقاعد بيده رقعة قد قرأهأن وقد احمرت عيناه، فاشتد غضبه، وهويقول: ينام نوم الظربان وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه، يخاتل الرعاة والكلاب ترصده، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروي في إمضاء رأي، قد ألهاه كأسه، وشغله قدحه، فهويجري في لهوه، والأيام توضع في هلاكه، قد شمر له عبد الله عن ساق، وفوق له أصوب أسهمه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، وقد عبى له المنايا على ظهور الخيل، وناط له البلاء في أسنة الرماح وشفار السيوف؛ ثم استرجع وتمثل بشعر البعيث:
ومجدولة جدل العنان خريدة ... لها شعر جعد ووجه مقسم
وثغر نقي اللون عذب مذاقه ... يضيء له الظلماء ساعة تبسم
وثديان كالحقين والبطن ضامر ... خميص وجهم ناره تتضرم
لهوت بها ليل التمام ابن خالد ... أمية بهد المركلين عثمثم
طواه طراد الخيل في كل غارة ... لها عارض فيه الأسنة ترزم
يقارع تراك ابن خاقان ليله ... إلى أن يرى الإصباح ما يتلعثم
فيصبح كم طول الطراد وجسمه ... نحيل وأضحي في النعيم أصمم
أباكرها صهباء كالمسك ريحها ... لها أرج في دنها حين يرسم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد ... أمية في الرزق الذي الله يقسم
ثم التفت إلي فقال: أبا الحارث! أنا وإياك نجري إلى غارية إن قصرنا عنها ذممنأن وإن اجتهدنا في بلوغها انقطعنأن وإمنا نحن شعب من أصل إن قوي قوينأن وإن ضعف ضعفنأن إن هذا الرجل قد ألقى بيده القاء الأموالوكعاء، يشاور النساء، ويعتزم على الرؤيأن وقد أمكن ما معه من أهل اللهووالجسارة، فهم يعدونه الظفر، ويمنونه عقب الأيام، والهلاك اسرع إليه من السيل إلى قيعان الوحل، وقد خشيت، والله، أن نهلك بهلاكه، ونعطب بعطبه، وأنت فارس العرب وابن فارسهأن وقد فزع إليك في هذاالأمر ولقاء هذاالرجل، وأطعمه فيما قبلك أمران: أحدهما صدق الطاعة، وفضل النصيحة، والثاني نقيبتك وشدة بأسك، وقد أمرني بإزاحة علل ما عليك، وبسط يدك فيما أحبت، عنير أن الاقتصاد رأس النصيحة، ومفتاح اليمن والبركة، فأنجز حوائجك، وعجل المبادرة إلى عدوك، فإني أرجوأن يوليك اله هذاالفتح، ويلم بك شعث هذه الخلافة والدولة.
فقلت: أنا لطاعة أمير المؤمنين وطاعتك مقدم ولكل ما دخل فيه الوهن على عدوه وعدوك حريص، غير أن المحارب لا يعمل بالغدر، ولا يفتح أمره بالتقصير والخلل، وإمنا ملاك المحارب الجنود، وملاك الجنود المال، والذي أسأل أن يؤمر لأصحابي برزق سنة، وتحمل معهم أرزاق سنة، ويخص أهل الغناء والبلاء، وأبدل من فيهم من الضعفى، وأحمل ألف رجل من معي على الخيل، ولا أسأل عن محاسبة ما افتتحت من المدن والكور. فقال: أشططت، ولا بد من مناظرة أمير المؤمنين.
ثم ركب، وركبت معه، فدخل قبلي على الأمين، وأذن لي فدخلت، فما كان إلا كلمتان حتى غضب وأمر بحبسي.
وقيل: إنه طلب أن يدفع ولدي المأمون، فإن أطاعه، وإلا قتلهمأن فقال الأمين: أنت أعرابي مجنون، أدعوك إلى ولاية أعنة العرب والعجم، وأطعمك خراج كور الجبال إلى خراسان، وأرفع منزلتك على نظرائك من أبناء القواد والملوك، وتدعوني إلى قتل ولدي، وسفك دماء أهل بيتي! إن هذا للخرق والتخليط.
وكان ببغداد ابنان للمأمون مع أمهما أم عيسى ابنة الهادي، وقد طلبهما المأمون من أخيه في حال السلام، فمنعهما من المال الذي كان له، فلما حبس أسداً قال: هل في أهل بيته من يقوم مقامه، فإني أكره أن أفسدهم مع نباهتهم، وما تقدم من طاعتهم ونصيحتهم.
قالوا: نعم عمه أحمد بن مزيد، وهوأحسنهم طريقة، له بأس ونجدة، وبصر بسياسة الحرب، فأنفذ إليه أحضره، فأتى الفضل، فدخل عليه وعنده عبد الله بن حميد بن قحطبة، وهويريده على المسير إلى طاهر وعبد الله يشط. قال أحمد: فلما رآني الفضل رحب بي، ورفعني إلى صدر المجلس، ثم أقبل على عبد الله يداعبه ثم قال:
إنا وجدنا لكم إذ رث حبلكم ... من آل شيبان أماً دونكم وأبا
الأكثرون إذا عد الحصى عدداً ... والأقربون إلينا منكم نسبا
فقال عبد الله: أقسم لكذلك، وفيهم سد الخلل، ونكء العدو، ودفع معرة أهل المعصية عن أهل الطاعة.
فقال له الفضل: إن أمير المؤمنين أجرى ذكرك، فوصفتك له، فأحب اصطناعك والتنويه باسمك، وأن يرفعك إلى منزلة لم يبلغها أحد من أهل بيتك.
ثم مضى ومضيت معه إلى الأمين، فدخلنا عليه، فقال لي في حبس أسد، واعتذر إلي، وأمرني بالمسير إلى حرب طاهر، فقلت: سأبذل في طاعة أمير المؤمنين مهجتي، وأبلغ في جهاد عدوه أفضل ما أمله عندي ورجاه من غنائي وكفايتي، إن شاء الله تعالى.
فأمر الفضل بأن يمكنه من العساكر بأخذ منهم من أراد،وأمره بالجد في المسير والتجهز، فأخذ من العسكر عشرين ألف فارس، وسار معه عبد الله بن حميد بن قحطبة في عشرين ألفاً، وسار بهم إلى حلوان، وشفع في أسد ابن أخيه، فأطلقه، وأقام أحمد وعبد الله بخانقين، وأقام طاهر بموضعه، ودس الجواسيس والعيون، وكانوا يرجفون في عسكر أحمد وعبد الله أن الأمين قد وضع العطاء لأصحابه، وأمر لهم بالأرزاق الوافرة، ولم يزل يحتال في وقوع الاختلاف بينهم، حتى اختلفوأن وانتقض أمرهم، وقاتل بعضهم بعضأن ورجعوا عن خانقين من غير أن يلقوا طاهرأن وتقدم طاهر، فنزل حلوان، فلما نزلها لم يلبث إلا يسيراً حتى أتاه هرثمة في جيش من عند المأمون، ومعه كتاب طاهر، يأمره بتسليم ما حوى من المدن والكور إلى هرثمة، ويتوجه هوإلى الأهواز، ففعل ذلك، وأقام هرثمة بحلوان، وحصنهأن وسار طاهر إلى الأهواز.
ذكر الفضل بن سهل
في هذه السنة خطب للمأمون بإمرة المؤمنين، ورفع منزلة الفضل بن سهل.
وسبب ذلك أنه لما أتاه خبر قتل ابن ماهان وعبد الرحمن بن جبلة، وصح عنده الخبر بذلك، أمر أن يخطب له، ويخاطب بأمير المؤمنين، ودعا الفضل بن سهل وعقد له على المشرق من جبل همذان إلى التبت طولأن ومن بحر فارس إلى بحر الديلم وجرجان عرضأن وجعل له عمالة ثلاثة آلاف درهم، وعقد له لواء على سنان ذي شعبتين ولقبه ذا الرياستين، رياسة الحرب، والقلم، وحمل اللواء علي بن هشام، وحمل القلم نعيم بن حازم، وولي الحسن بن سهل ديوان الخراج.
ذكر عبد الملك بن صالح بن علي وموتهقد ذكرنا قبض الرشيد على عبد الملك بن صالح، وحبسه إياه، فلم يزل محبوساً حتى مات الرشيد، فأخرجه الأمين من الحبس في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين ومائة،وأحسن إليه، فشكر عبد الملك ذلك له.
فلما كان من طاهر ما كان دخل عبد الملك على الأمين، فال له: يا أمير المؤمنين! أرى الناس قد طمعوا فيك، وجندك قد أعيتهم الهوام، وأضعفتهم الحروب، وامتلأت قلوبهم هيبة لعدوهم، فإن سيرتهم إلى طاهر غلب بقليل من معه كثيرهم، وهزم بقوة نيته ضعف نصائحهم ونياتهم، وأهل الشام قوم قد ضرستهم الحرب، وأدبتهم الشدائد، وكلهم منقاد إلي متنازع إلى طاعتي، وإن وجهني أمير المؤمنين اتخذت له منهم جنداً يعظم نكايتهم في عدوه؛ فولاه الأمين الشام والجزيرة وقواه بمال ورجال، وسيره سيراً حثيثاً.
فسار حتى نزل الرقة، وكاتب رؤساء أهل الشام، وأهل القوة، والجلد، والبأس، فأتوه رئيساً بعد رئيس، وجماعة بعد جماعة، فأكرمهم، ومناهم، وخلع عليهم، وكثر جمعه، فمرض واشتد مرضه.
ثم إن بعض جنود خراسان المقيمين في عسكر الشام رأى دابة كانت أخذت منه في وقعة سليمان بن أبي جعفر تحت بعض الزواقيل من أهل الشام أيضأن فتعلق بهأن واجتمع جماعة من الزواقيل والجند، فتضاربوأن واجتمعت الأبناء، وتألبوأن وأتوا الزواقيل وهوغارون، فوضعوا فيهم السيوف، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وتنادى الزواقيل، فركبوا خيولهم، ونشبت الحرب بينهم.
وبلغ ذلك عبد الملك، فوجه إليهم يأمرهم بالكف، لم يفعلوأن واقتتلوا يومهم ذلك قتالاً شديدأن وأكثرت الأبناء القتل في الزواقيل، فأخبر عبد الملك بذلك، وكان مريضاً مدنفأن فضرب بيده على يد، وقال: واذلاه! تستضام العرب في دورها وبالدها! فغضب من كان أمسك عن الشر من الأبناء، وتفاقم الأمر، وقام بأمر الأبناء الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان، وأصبح الزواقيل فاجتمعوا بالرقة، واجتمع الأبناء وأهل خراسان بالرافقة، وقام رجل من أهل حمص فقال: يا أهل حمص! أهون من العطف، والموت أهون من الذل، إنكم قد بعدتم عن بلادكم، ترجون الكثرة بعد القلة، والعزة بعد الذلة، الا في الشر وقعتم، وفي حومة الموت أنختم؛ إن المنايا في شوارب المسودة وقلانسهم، النفير النفير، قبل أن ينقطع السبيل، وينزل لاأمر الجليل، ويفوت المطلب، ويعسر المهرب.
وقام رجل من كلب في غرز ناقته، فقال نحواً من ذلك، ثم قال: ألا وإني سائر، فمت أراد الانصراف فلينصرف معي! ثم سار فسار معه عامة أهل الشام، وأخرقت الزواقيل ما كان التجار قد جمعوه من الأعلاف، وأقبل نصر بن شبث العثيلي، ثم حمل وأصحابه، فقاتل قتالاً شديدأن وصبر الجند لهم، وكان أكثر القتل في الزواقيل لكثير بن قادرة، وأبي الفيل، وداود بن موسى بن عيسى الخراساني، وانهزمت الزواقيل، وكان على حاميتهم يومئذ نصر بن شبث، وعمروبن عبد العزيز السلمي، والعباس بن زفر الكلابي، ثم توفي عبد الملك بن صالح بالرقة في هذه السنة.
ذكر خلع الأمين والمبايعة للمأمون
وعود الأمين إلى الخلاف
فلما مات عبد الملك بن صالح نادى الحسين بن علي بن عيسى بن ماهان في الجند، فجعل الرجالة في السفن، وسار الفرسان على الظهر في رجب، فلما قدم بغداد لقيه القواد وأهل بغداد، وعملت له القباب، ودخل منزله؛ فلما كان جوف الليل بعث إليه الأمين يأمره بالركوب إليه، فقال للرسول: ما أنا بمغن، ولا مسامر، ولا مضحك، ولا وليت له عملاً ولا مالأنفلأي شيء يريدني هذه الساعة.انصرف، فإءذا أصبحت غدوت إليه، إن شاء الله.وأصبح الحسين، فوافى باب الجسر، واجتمع الناس فقال: بيا معشر الأبناء! إن خلافة الله لا تجاوز بالبطر، ونعمته لا تستصحب بالتجبر، وإن محمداص يريد أن يوقع أديانكم، وينقل عزكم إلى غيركم، وهوصاحب الزواقيل،وبالله إن طالت به مدة ليرجعن وبال ذلك عليكم، فاقطعوا أثره قبل أن يقطع آثاركم، وضعوا عزه قبل أن يضع عزكم، فوالله لا ينصره ناصر منكم إلا خذلب، وما عند الله، عز وجل، لأحد هوادة، ولا يراقب على الاستخفاف بعهوده، والحنث بإيمانه.
ثم أمر الناس بعبور الجسر، فعبروأن وصاروا إلى سكة باب خراسان؛ وتسرعن خيول الأمين إلى الحسين، فقاتلوه قتالاً شديدأن فانهزم أصحاب الأمين وتفرقوأن فخلع الحسين الأمين يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من رجب، وأخذ البيعة للمأمون من الغد يوم الاثنين.
فلما كان يوم الثلاثاء وثب العباس بن موسى بن عيسى بن بالأمين، فأخرجه من قصر الخلد، وحبسه بقصر المنصور، وأخرج أمه زبيدة أيضأن فجعلها مع ابنها؛ فلما كان يوم الأربعاء طالب الناس الحسين بالأرزاق وماجوا بعضهم في بعض، فقام محمد بن خالد بباب الشام، فقال: أيها الناس! والله ما أدري بأي سبب يأمر الحسين بن علي علينأن ويتولى هذاالأمر دوننا؟ ما هوبأكبرنا سنأن وما هوبأكبرنا حسبأن ولا بأعظمنا منزلة وغنى، وإني أولكم أنقض عهده، وأظهر الإنكار لفعله، فمن كان على رأيي فليعتزل معي.
وقال أسد الحربي: يا معشر الحربية! هذا يوم له ما بعده، إنكم قد منتم فطال نومكم، وتأخرتم فتقدم عليكم غيركم، وقد ذهب أقوام بخلع الأمين، فاذهبوا أنتم بذكر فكه وإطلاقه.
وأقبل شيخ على فرس فقال: أيها الناس! هل تعتدون على محمد بقطع أرزاقهم؟ قالوا: لا! قال: فهل قصر بأحد من رؤسائكم، وعزل أحداً من قوادكم؟ قالوا: لا! قال: فما بالكم خذلتموه، وأعنتم عدوه على أسره؟ وايم الله ما قتل قوم خليفتهم إلا سلط الله عليهم السيف؛ انهضوا إلى خليفتكم فقاتلوا عنه من أراد خلعه. فنهضوأن وتبعهمأهل الأرباض، فقاتلوا الحسين قتالاً شديدأن فأسر الحسين بن علي، ودخل أسد الحربي على الأمين، فكسر قيوده وأقعده في مجلس الخلافة.
ورأى الأمين أقواماً ليس عليهم لباس الجند، وأمرهم بأخذ السلاح، فانتعبته الغوغاء، ونهبوا غيره، وحمل إليه الحسين أسيرأن فلامه، فأعتذر له الحسين، فأطلقه، وأمره بجمع الجند، ومحاربة أصحاب المأمون، وخلع عليه، وولاه ما وراء بابه، وأمره بالمسير إلى حلوان، فوقفالحسين بباب الجسر، والناس يهنئونه، فلما خف عنه الناس قطع الجسر وهرب، فنادى الأمين في الجند يطلبه، فركبوا كلهم، فأدركوه بمسجد كوثر على فرسخ من بغداد، فقاتلهم فعثر به فرسه، فسقط عنه، فقتل وأخذوا رأسه.
وقيل إن الأمين كان استوزره وسلم إليه خاتمه، وجدد الجند البيعة للامين، بعد قتل الحسين بيوم، وكان قتله خامس عشر رجب، فلما قتل الحسين بن علي هرب الفضل بن الربيع واختفى.
ذكر ما فعله طاهر بالاهوازلما نزل طاهر بشلاشان وجه الحسين بن عمر الرستمي إلى الأهواز وأمره بالحذر، فلما توجه أتت طاهراً عيونه، فأخبروه أن محمد بن يزيدابن حاتم المهلبي، وكان عاملاً للأمين على الأهواز، قد توجه في جمع عظيم يريد جند يسابور ليحمي الأهواز من أصحاب طاهر، فدعا طاهر عدة من أصحابه، منهم: محمد بن طالوت، ومحمد بن العلاء، والعباس بن بخار أخذاه وغيرهم، وأمرهم أن يجدوا السير، حتى يتصل أولهم بآخر أصحاب الرستمي فإن احتاج إلى مدد أمدوه.
فساروا حتى شارفوا الأهواز ولم يلقوا أحداً. وبلغ خبرهم محمد بن يزيد، فسار حتى نزل عسكر مكرم، وصير العمران والماء وراء ظهره، وتخوف طاهر أن يعجل إلى أصحابه، فأمدهم بقريش بن شبل، وتوجه هوبنفسه، حتى كان قريباً منهم، وسير الحسين بن علي المأموني إلى قريش والرستمي، فسارت تلك العساكر حتى أشرفوا على محمد بن يزيد بعسكر مكرم، فاستشار أصحابه في المطاولة والمناجزة، فأشاروا عليه بالرجوع إلى لاأهواز والتحصن بهأن وأن يستدعي الجند من البصرة وقومه الأزد، ففعل ذلك، فسير طاهر وراءه قريش بن شبل، وأمره بمبادرته قبل أن يتحصن بالأهواز، فسبقه محمد بن يزيد، ووصل بعده بيوم قريش، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فالتفت محمد إلى من معه من مواليه، وكان أصحابه قد رجعوا عنه، فقال لمواليه: ما رأيكم؟ إني أرى من معي قد انهزم، ولست آمن خذلانهم ولا أرجورجعتهم، وقد عزمت على النزول والقتال بنفسي، حتى يقضي الله بما أحب، فمن أراد الانصراف فلينصرف، فوالله لئن تبقوا أحب إلي من أن تموتوا.
فقالوا: والله ما أنصفناك إذاص أن تكون قد أعتقتنا من الرق، ورفعتنا من الضعة، وأغنيتنا بعد القلة، ثم نخذلك على هذه الحال، فلعن الله الدنيا والعيش بعدك! ثم نزلوا فعرقبوا دوابهم، وحملوا على أصحاب قريش حملة منكرة، فاكثروا فيهم القتل، وقتل محمد بن يزيد المهلبي، واستولى طاهر على الأهواز وأعمالهأن واستعمل العمال على اليمامة والبحرين وعمان، وقال بعض المهالبة، وجرح في تلك الوقعة عدة جراحات، وقطعت يده:
فلما لمت نفسي غير أني لم أطق ... حراكأن وأني كنت بالضرب مثخناً
ولوسلمت كفاي قاتلت دونه ... وضاربت عنه الطاهري الملعنا
فتىً لا يرى أن يخذل السيف في الوغى ... إذا ادرع الهيجاء في النقع واكتنى
ولما دخل ابن أبي عيينة المهلبي على طاهر ومدحه، فحين انتهى إلى قوله:
ما ساء ظني إلا بواحدة ... في الصدر محصورة عن الكلم
تبسم طاهر، ثم قال: أما والله ساءني من ذلك ما ساءك، وأمني ما ألمك، ولقد كنت كارهاً لما كان، غير أن الحتف واقع، والمنايا نازلة، ولا بد من قطع الأواصر والشكر للأقارب في تأكيد الخلافة، والقيام بحق الطاعة؛ فظن من حضر أنه أراد محمد بن يزيد بن حاتم.
ذكر استيلاء طاهر على واسطثم سار طاهر من الأهواز إلى واسط وبها السندي بن يحيى الحرشي، والهيثم بن شعبة، خليفة خزيمة بن خازم، فجعل طاهر كلما تقدم نحوهم تقوضت المسالح والعمال بين يديه، حتى أتى واسطاً فهرب السندي والهيثم بن شعبة عنهأن واستولى طاهر على واسط، ووجه قائداً من قواده إلى الكوفة عليها العباس بن موسى الهادي، فلما بلغه الخبر خلع الأمين، وبايع المأمون، وكتب بذلك إلى طاهر.
ونزلت خيل طاهر فم النيل، وغلب على ما بين واسط والكوفة، وكتب المنصور بن المهدي، وكان عاملاً لأمين على البصرة، إلى طاهر ببيعته وطاعته، وأتته بيعة المطلب بن عبد الله بن مالك بالموصل للمأمون، وخلع الأمين، وكان هذا جميعه في رجب من هذه السنة، فأقرهم طاهر على أعمالهم وولى داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الهاشمي مكة والمدينة واستعمل يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي على اليمن، ووجه الحارث بن هشام وداود بن موسى إلى قصر ابن هبيرة وأقام طاهر بجرجرايا.
فلما بلغ الأمين خبر عامله بالكوفة، وخلعه، والبيعة للمأمون، وجه محمد بن سليمان القائد، ومحمد بن حماد البربري، وأمرهما أن يبيتا الحارث بن هشام وداود بالقصر، فبلغ الحارث الخير، فركب هووداود، فعبرا في مخاضة في سوراء إليهم، فاوقعا بهم وقعة شديدة فاقتتلوا قتالاً شديداً وانهزم أهل بغداد.
ووجه الأمين أيضاً الفضل بن موسى بن عيسى الهاشمي عاملاً على الكوفة في خيل، فبلغ طاهراً الخبر، فوجه محمد بن العلاء في جيش إلى طريقه، فلقي الفضل بقرية الأعراب، فبعث إليه الفضل: إني سامع مطيع، وإمنا كان مخرجي كيداً مني لمحمد الامين، فقال له ابن العلاء: لست أعرف ما تقول، فإن أردت طاهراً فارجع وراءك، فهوأسهل الطريق، فرجع الفضل، فقال محمد بن العلاء: كونوا على حذر، فلا آمن مكره.
ثم إن الفضل رجع إلى ابن العلاء، وهويظن أنه على غير أهبة، فرآه متيقظاً حذرأن فاقتتلوا قتالاًشديداً كأشد ما يكون من القتال، فانهزم الفضل وأصحابه.
ذكر استيلاء طاهر على المدائن
ونزوله بصرصر
ثم إن طاهراً سار إلى المدائن، وبها جيش كثير للأمين، عليهم البرمكي قد تحصن بهأن والمدد ياتيه كل يوم والخلع، والصلات، فلما قرب طاهر منه وجه قريش بن شبل، والحسين بن علي المأموني فقي مقدمته، فلما سمع أصحاب البرمكي طبول طاهر أسرجوا وركبوأن وأخذ البرمكي في التعبية، فكان كلما سوى صفاً انتقض، واضطرب، وانضم أولهم إلى آخرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك في الخذلان! ثم قال لصاحب ساقته: خل سبيل الناس، فلا خير عندهم؛ فركب بعضهم بعضاً نحوبغداد فنزل طاهر بالمدائن، واستولى على تلك النواحي، ثم سار إلى صرصر، فعقد بها جسراً ونزلها.ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينةوفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الأمين، وهوعامله على مكة والمدينة، وبايع للمأمون.
وكان سبب ذلك أنه لما بلغه ما كان من الأمين والمأمون وما فعل طاهر، وكان الأمين قد كتب إلى داود بن عيسى يامره بخلع المأمون، وبعث أخذ الكتابين من الكعبة، كما تقدم، فلما فعل ذلك جمع داود وجوه الناس ومن كان شهد من الكتابين، وكان داود أحدهم، فقال لهم: قد علمتم ما أخذ الرشيد علينا وعليكم من العهد والميثاق، عند بيت الله الحرام، لا بنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم ومع المغدور به على الغادر، وقد راينا ورأيتم أن محمداً قد بدأ بالظلم والبغي والغدر والنكث على أخويه المأمون والمؤتمن وخلعهما عاصياً لله، وبايع لابنه، طفل صغير، رضيع لم يفطم، وأخذ الكتابين من الكعبة، فحرقهما ظالمأن فقد رأيت خلعه، والبيعة للمأمون، إذ كان مظلوماص مبغياً عليه.
فأجابوه إلى ذلك، فنادى في شعاب مكة، فاجتمع الناس فخطبهم بين الركن والمقام، وخلع محمدأن وبايع للمأمون، وكتب إلى ابنه سليمان، وهوعامله على المدينة، يأمره أن يفعل مثل ما فعل، فخلع سليمان الأمين، وبايع للمأمون.
فلما أتاه الخبر بذلك سار من مكة على طريق البصرة، ثم إلى فارس، ثم إلى كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأخبره بذلك، فسر المأمون بذلك سروراً شديدأن وتيمن ببركة مكة والمدينة.
وكانت البيعة بهما في رجب سة ست وتسعين ومائة، واستعمل داود على مكة والمدينة، وز أضاف إليه ولاية عك، وأعطاه خمسمائة ألف درهم معونة، وسير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى، وجعله على الموسم، فسارا حتى أتيا طاهراً ببغداد، فأكرمهما وقربهمأن ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي عاملاً على اليمن، وبعث معه خيلاً كثيفة، فلما قدم اليمن دعا أهلها إلى خلع الأمين والبيعة للمأمون، ووعدهم العدل والإحسان وأخبرهم بسيرة المأمون، فأجابوه إلى ما طلب، وخلعوا محمداً وبايعوه للمأمون، وكتب بذلك إلى طاهر وإلى المأمون، وسار فيهم أحسن سيرة وأظهر العدل.
ذكر ما فعله الأمينوفي هذه السنة عقد محمد الأمين، في رجب وشعبان، نحواً من أبعمائة لواء لقواد شتى، وأمر عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا إليه، فالتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموأن وأسر علي بن محمد بن عيسى فسيره هرثمة إلى المأمون، ورحل هرثمة فنزل النهروان.
ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين
ونزوله ببغداد
وأقام طاهر بصرصر مشمراً في محاربة الأمين وكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، وبذل الأمين الأموال، فاشتد ذلك على أصحاب طاهر، فسار إليه منهم نحوخمسة آلاف، فسر بهم الأمين، وعدهم، ومناهم، وفرق فيهم مالاً عظيمأن وعلف لحاهم بالغالية، فسموا قواد الغالية، وقود جماعة من الحربية، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، فلم يكن بينهم قتال كثير،وندب جماعة من قواد بغداد، وجههم إلى الياسرية، والكوثرية، وفرق الجواسيس في اصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند، فاطعمهم، ورغبهم، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى الأمين، فانضموا إلى عسكره، وساروا حتى أتوا صرصرأن فعبأ طاهر أصحابه كراديس، وسار فيهم يمنيهم، ويحرضهم، ويعدهم النصر، ثم تقدم، فاقتتلوا ملياً من النهار، ثم انهزم أصحاب الأمين، وغمن عسكر طاهر ما كان لهم من السلاح والدواب وغير ذلك.
وبلغ ذلك لاأمين فأخرج الأموال وفرقهأن وجمع أهل الأرباض، وقود منهم جماعة، وفرق فيهم الاموال، وأعطى كل قائد منهم قارورة غالية، ولم يفرق في أجناد القواد وأصحابهم شيئاً.
فبلغ ذلك طاهرأن فراسلهم، ووعدهم، واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على الأمين في ذي الحجة، فصعب الأمر عليه، فأشار عليه أصحابه باستمالتهم والإحسان إليهم، فلم يفعل، وأمر بقتالهم جماعة من المستأمنة والمحدثين، فقاتلوهم، وراسلهم طاهر، وراسلوه، وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة، وأعطاهم الاموال.
ثم تقدم، فصار إلى موضع البستان الذي على باب الأنبار، في ذي الحجة، فنزل بقواده وأصحابه ونزل من استأمن إليه من جند الأمين في البستان والأرباص، وأضعف للقواد، وأبنائهم،والخواص،العطاء، ونقب أهل السجون السجون، وخرجوا منهأن وفتن الناس وساءت حالهم، وثب الشطار على أهل الصلاح، ولم يتغير بعسكر طاهر حال لتفقده حالهم، وأخذه على أيدي السفهاء، وغادى القتال، ورواحه، حتى تواكل الفريقان وخربت الديار.
وحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى، ودعا للمأمون بالخلافة، وهوأول موسم دعي له فيه بالخلافة.
ذكر الفتنة بإفريقية مع أهل طرابلسفي هذه السنة ثار أبوعصام ومن وافقه على إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، فحاربهم إبراهيم، فظفر بهم.
وفيها استعمل ابن الأغلب ابنه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدم إليها ثار عليه الجند، فحضروه في داره، ثم اصطلحوا على أن يخرج عنهم، فخرج عنهم، فلم يبعد عن البلد حتى اجتمع إليه كثير من الناس، ووضع العطاء، فأتاه البربر من كل ناحية، وكان يعطي الفارس كل يوم أربعة دراهم، ويعطي الراجل في اليوم درهمين، فاجتمع له عدد كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجند، فاقتتلوأن فانهزم جند طرابلس، ودخل عبد الله المدينة، وأمن الناس وأقام بها؛ ثم عوزله أبوه، واستعمل بعده سفيان ابن المضاء، فثارت هوارة بطرابلس، فخرج الجند إليهم، والتقوا واقتتلوأن فهزم الجند إلى المدينة، فتبعهم هوارة، فخرج الجند هاربين إلى لاأمير إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينة فهدموا أسوارها.
وبلغ ذلك إببراهيم ابن الأغلب، فسير إليها ابنه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هووالبربر، فانهزم البربر، وقتل كثير منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها.
وبلغ خبر هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربر، وحرضهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمع عظيم، غضباً للبربر ونصرة لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسد أبوالعباس عبد الله بن إبراهيم باب زناتة، وكان يقاتل من باب هوارة، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعهد بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادة الله بن إبراهيم له العهود على الجند، سير الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبره بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربر الرسول والكتاب، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن ينادي عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالحهم على أن يكون البلد والبحر لعبد الله، وما كان خارجاً عن ذلك يكون لعبد الوهاب، وسار عبد الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلم الأمر، وكانت أيامه أيام سكون ودعة.
حوادث سنة سبع وتسعين ومائة
ذكر حصار بغداد
في هذه السنة حاصر طاهر، وهرثمة، وزهير بن المسيب الأمين محمداً ببغداد، فنزل زهير بن المسيب الضبي برقة كلواذى، ونصب المجانيق والعرادات، وحفر الخنادق، وكان يخرج في الإيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات، ويعشر أموال التجار، فشكا الناس منه إلى طاهر، فنزل هرثمة نهر بين، وعمل عليه خندقاً وسورأن ونزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية، ونزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار.
فلما نزله شق ذلك على الأمين، وتفرق ما كان بيده من الأموال، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقها في أصحابه، وأمر بإحراق الحربية، فرميت بالنفط والنيران وقتل بها خلق كثير.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فولاه الأسواق، وشاطئ دجلة وما اتصل به، وأمره بحفر الخنادق، وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدروب، وأمده بالاموال والرجال، فكثر الخراب ببغداد والهدم، فدرست المنازل؛ ووكل الأمين علياً افراهمرد بقصر صالح، وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة، فألح في إحراق الدور والدروب، والرمي بالمجانيق، وفعل طاهر مثل ذلك، فأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليهأن فكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ومن أبى إجابته قاتله، وأحرق منزله؛ ووحشت بغداد، وهربت، فقال حسين الخليع:
أتسرع الرحلة إغذاذاً ... عن جانبي بغداد أم ماذا؟
أما ترى الفتنة قد ألفت ... إلى أولي الفتنة شذاذاً
وانتقضت بغداد عمرانها ... عن رأي لا ذاك ولا هذا
هدماً وحرقاً قد أباد أهلها ... عقوبة لاذت بمن لاذا
ما احسن الحالات إن لم تعد ... بغداد في القلة بغدادا
وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلهأن ومدينة المنصور، وأسواق الكرخ والخلد، دار النكث، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وغيرهم، وأخذ اموالهم، فذلوأن وانكسروأن وذل الأجناد، وضعفوا عن القتال، إلا باعة الطريق، والعراة، وأهل السجون، والأوباش، والطرارين، وأهل السوق، فكانوا ينهبون أموال الناس.
وكان طاهر لا يفتري في قتالهم، فاستأمن إليه على أفراهمرد، الموكل بقصر صالح، فأمنه، وسير إليه جنداً كثيفأن فسلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية، في جمادى الآخرة؛ واستأمن إليه محمد بن عيسى، صاحب شرطة الأمين، وكان مجداً في نصرة الأمين، فلما استأمن هذان إلى طاهر أشفى الأمين على الهلاك وأقبلت الغواة من العيارين، وباعة الطريق، والأجناد، فاقتتلوا داخل قصر صالح قتالاً عظيمأن قتل فيه من أصحاب طاهر جماعة كثيرة، ومن قواده جماعة، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها اشد على طاهر منها.
ثمخ إن طاهراً كاتب القواد الهاشميين وغيرهم، بعد أن أخذ ضياعهم، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون، فأجابه جماعة منهم: عبد الله بن حميد قحطبة وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطائي، وكاتبه غيرهم، وصارت قلوبهم معه.
وأقبل الأمين بعد وقعة صالح على الأكل والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك،وإلى الهرش، فكان من معهما من الغوغاء والفساق يسلبون من قدروا عليه، وكان منهم ما لم يبلغنا مثله.
فلما طال ذلك بالناس خرج من بغداد من كانت به قوة، وكان أحدهم إذا خرج أمن على ماله ونفسه، وكان مثلهم كما قال الله: (فضرب بهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) الحديد: 13 وخرج عنهم قوم بعلة الحج، ففي ذلك يقول شاعرهم:
أظهروا الحج وما ينوونه ... بل من الهرش يريدون الهرب
كم أناس أصبحوا في غبطة ... وكل الهرش عليهم بالعطب
وقال بعض فتيان بغداد:
بكيت دماً على بغداد لما ... فقدت غضارة العيش الأنيق
تبدلنا هموماً من سرور ... ومن سعة تبدلنا بضيق
اصابتنا من الحساد عين ... فأفنت أهلها بالمنجنيق
فقوم أحرقوا بالنار قسراً ... ونائحة تنوح على غريق
وصائحة تنادي: واصباحاً ... وباكية لفقدان الشقيق
وحوراء المدامع ذات دل ... مضمخة المجاسد بالخلوق
تفر من الحريق إلى انتهاب ... ووالدها يفر إلى الحريق
وسالبة الغزالة مقلتيها ... مضاحكها كلألاء البروق
حيارى هكذا ومفكرات ... عليهن القلائد في الحلوق
ينادين الشفيق ولا شفيق ... وقد فقد الشفيق من الشفيق
ومغترب قريب الدار ملقى ... بلا رأس بقارعة الطريق
توسط من قتالهم جميعاً ... فما يدرون من أي الفريق
فما ولد يقيم على أبيه ... وقد فر الصديق عن الصديق
ومهما أنس من شيء تولى ... فإني ذاكر دار الرقيق
وقال الجرمي قصيدة طويلة نحومائة وخمسين بيتاً أتى فيها على جميع الحوادث ببغداد، في هذه الحرب، تركتها لطولها.
وذكر أن قائداً من أهل خراسان، من أصحاب طاهر، من اهل النجدة والبأس، خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من نرى استهانة بأمرهم، واحتقاراً لهم، فقيل له: نعم! هؤلاء هم الآفة؛فقال لهم: أف لكم حين تنهزمون من هؤلاء، وأنتم في السلاح والعدة والقوة، وفيكم الشجاعة، وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم، ولا جنة تقيهم! وتقدم إلى بعضهم، وفي يديه بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمي بسهم استتر منه العيار فوقع في باريته، أوقريباً منهأن فياخذه، ويتركه معه، وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه، فلم يزالا كذلك حتى فنيت سهام الخراساني، ثم حمل عليه العيار، ورمة بحجر من مخلاته في مقلاع،فما أخطأ عينه، ثم آخر، فكاد يصرعه، فانهزم وهويقول: ليس هؤلاء بناس.
فلما سمع طاهر خبره ضحك منه، فلما طال ذلك على طاهر، وقتل من أصحابه في قصر صالح من قتل، أمر بالهدم والإحراق، فهدم دور من خالفه من بين دجلة ودار الرقيق، وباب الشام، وباب الكوفة، إلى الصراة وربض حميد، ونهر كرخابأن فكان أصحابه إذا هدموا داراً أخذ أصحاب الأمين أبوابها وسقوفهأن فيكونون أشد على أهلهأن فقال شاعر منهم:
لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ... يزيدون فيما يطلبون وننقص
إذا هدموا داراً أخذنا سقوفها ... ونحن لأخرى غيرها نتربص
فإن حرصوا يوماً على الشر جهدهم ... فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص
فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع ... وصار لهم أهل بها وتعرص
يثيرون بالطبل القنيص، فإن بدا ... لهم وجه صيد من قريب تقنصوا
لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ... علينا فما ندري إلى أين نشخص
إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ... وإن لم يروا شيئاً قبيحاً تخرصوا
وما قتل الأبطال مثل مجرب ... رسول المنايا ليلة يتلصص
فيأبيات غيرهأن فلما رأى طاهر أن هذا جميعه لا يحفلون به، أمر بمنع التجار عنهم، ومنع من حمل الأقوات وغيرهأن وشدد في ذلك، وصرف السفن التي يحمل فيها إلى الفرات، فاشتد ذلك عليهم، وغلت الأسعار، وصاروا في اشد حصار؛ فأمر الأمين ببيع الاموال، وأخذهأن ووكل بها بعض أصحابه، فكان يهجم على الناس في منازلهم ليلاص ونهارأن فاشتد ذلك على الناس، وأخذوا بالتهمة والظنة.
ثم كان بينهم وقعة بدرب الحجارة، قتل فيها من اصحاب طاهر خلق كثير، ووقعة بالشماسية خرج فيها حاتم بن الصقر في العيارين وغيرهم إلى عبيد الله بن الوضاح، فاوقعوا به، وهولا يعلم، فانهزم عنهم، وغعلبوه على الشماسية، فأتاه هرثمة يعينه، فأسره بعض أصحاب الأمين، وهولا يعرفه، فقاتل عليه بعض أصحابه، حتى خلصه، وانهزم أصحاب هرثمة، فلم يرجعوا يومين.
فلما بلغ طاهراً ما صنعوا عقد جسراً فوقالشماسية، وعبر أصحابه إليهم، فقاتلوا أشد قتال، حتى ردوا أصحاب الأمين، وأعاد أصحاب عبيد الله بن الوضاح إلى مراكزهم، وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية، وكانت النفقة عليها بلغت عشرين ألف ألف درهم، وقتل من العيارين كثير، فضعف أمر الأمين، فأيقن بالهلاك، وهرب منه عبد الله بن خازم بن خزيمة إلى المدائن، خوفاً من الأمين، لأنه اتهمه، وتحامل عليه السفلة والغوغاء، فأقام بهأن وقيل بل كاتبه طاهر، وحذره قبض ضياعه وأمواله.
ثم إن الهرش خرج ومعه لفيفة وجماعة إلى جزيرة العباس، وكانت ناحية لم يقاتل فيهأن فخرج إليه وبعض أصحاب طاهر، فقاتلوه، فقوي عليهم، فأمدهم طاهر بجند آخر، فأوقعوا بالهرش وأصحابه وقعة شديدة، فقرق منهم بشر كثير.
وضجر الأمين وخاف حتى قال يوماً: وددت أن الله قتل الفريقين جميعاً فأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدولي، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي؛ وضعف أمره، وانتشر جنده، وأيقن بظفر طاهر به.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر أمير المؤمنين المأمون.
وفيها سار المؤتمن بن الرشيد، ومنصور بن المهدي إلى المأمون بخراسان، فوجه المأمون أخاه المؤتمن إلى جرجان.
وفيها كان بالأندلس غلاء شديد، وكان الناس يطوون الأيام، ويتعللون بما يضبط النفس.
وفيها مات وكيع بن الجراح الرؤاسي بفيد، وقد عاد عن الحج؛ وبقية ابن الوليد الحمصي، وكان مولده سنة عشر ومائة؛ ومحمد بن مليح بن سليمان الأسلمي؛ ومعاذ بن معاذ أبوالمثنى العنبري وله سبع وسبعون سنة.
حوادث سنة ثمان وتسعين ومائة
ذكر استيلاء طاهر على بغداد
في هذه السنة لحق خزيمة بن خازم بطاهر، وفارق الأمين، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقي.وكان سبب ذلك أن طاهراً أرسل إلى خزيمة أن انفصل الأمر بيني وبين محمد، ولم يكن لك في نصرتي، ألا أقصر في أمرك! فأجابه بالطاعة، وقال له: لوكنت أنت النازل الجانب الشرقي في مكان هرثمة لحمل نفسه إليه، وأخبره قلة ثقته بهرثمة، إلا أن يضمن له القيام دونه لخوفه من العامة، فكتب طاهر إلى هرثمة يعجزه، ويلومه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وقد وقفت وقوف المحجم عمن بإزائك، فاستعد للدخول إليهم، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر، وقطع الجسور، وأرجوأن لا يختلف عليك اثنان.
فأجابه هرثمة بالسمع والطاعة، فكتب طاهر إلى خزيمة بذلك، وكتب إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك؛ فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم، وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وخلعا محمد الأمين، وسكن أهل عسكر المهدي، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر من القواد وحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهأن فدخل إليهم، فقال الحسين الخليع في ذلك.
علينا جميعاً من خزيمة منة ... بما أخمد الرحمن نائرة الحرب
تولى أمور المسلمين بنفسه ... فذب وحامى عنهم أشرف الذب
ولولا أبوالعباس ما انفك دهرنا ... ينيب على عتب ويعدوعلى عتب
خزيمة لم يذكر له مثل هذه ... إذ اضطربت شرق البلاد مع الغرب
أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ... شوارع والأرواح في راحة الغضب
وهي عدة أبيات، فلما كان الغد تقدم طاهر إلى المدينة والكرخ، فقاتل هناك قتالاً شديدأن فهزم الناس، حتى الحقهم بالكرخ، وقاتلهم فيه، فهزمهم، فمروا لا يلوون على شيء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه، فنادى: من لزم بيته فهوآمن؛ ووضع بسوق الكرخ وقصر الوضاح جنداً على قدر حاجته، وقصد إلى مدينة المنصور، وأحاط بهأن وبقصر زبيدة، وقصر الخلد، من باب الجسر إلى باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة، وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة.
وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، والأفارقة، فنصب المجانيق بإزاء قصر زبيدة، وقصر الخلد؛ وأخذ الامين أمه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في الطريق، لا يلوي أحد على احد، وتفرق السفلة والغوغاء، وتحصن محمد بمدينة المنصور، وحصره طاهر، وأخذ عليه الأبواب.
وبلغ خبر هذه الوقعة عمر الوراق، فقال لمخبره: ناولني قدحاً؛ ثم تمثل:
خذها فللخمرة أسماء ... لها دواء ولها داء
يصلحها الماء إذا اصفقت ... يوماً وقد يفسدها الماء
وقائل كانت لهم وقعة ... في يومنا هذا وأشياء
قلت له: أنت امرؤ جاهل ... فيك عن الخيرات إبطاء
إشرب ودعنا من أحاديثم ... يصطلح الناس إذا شاؤوا
وحكى إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين لما حصره طاهر، قال: فخرج الأمين ذات ليلة يريد أن يتفرج من الضيف الذي هوفيه، فصار إلى قصر له بناحية الخلد، ثم أرسل إلي فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء على شاطئدجلة، فهل لك في الشرب؟ فقلت: شأنك؛ فشرب رطلأن وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن ضرب عليك؟ ما أحوجني إليه! فدعا بجارية متقدمة عنده، اسمها ضعف، فتطيرت من اسمهأن ونحن في تلك الحال، فقال لها: غني، فغنت بشعر الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فاشتد ذلك عليه، وتطير منه، وقال: غني غير ذلك، فغنت:
أبكي فراقكم عيني فأرقها إن التفرق للأحباب بكاء
ما زال يعدوعليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عداء
فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقال: ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه، ثم غنت آخر:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا كثيرة الشرك
ما اختلف الليل والنهار وما ... دارت نجوم السماء في الفلك
إلا لنقل السلطان عن ملك ... قد زال سلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبداً ... ليس بفان ولا بمشترك
فقال لها: قومي، غضب الله عليك ولعنك فقامت، وكان له قدح من بلور، حسن الصنعة، كان يسميه رب رياح، وكان موضوعاً بين يديه، فعثرت الجارية به، فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من سر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا وقد قرب! فقلت: يديم الله ملكك، ويعز سلطانك، ويكبت عدوك! فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتاً من دجلة: (قضي الأمر الذي فيه تسفيان) يوسف: 41. فقال: يا إبراهيم أما سمعت ما سمعت؟ قلت: ما سمعت شيئأن وكنت قد سمعت: قال تسمع حسنأن فدنوت من الشط، فلم أر شيئاً ، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتماً إلى مجلسه بالمدينة، فما مضى إلا ليلة أوليلتان حتى قتل.
ذكر قتل الأمينلما دخل محمد إلى مدينة المنصور، واستولى طاهر على أسواق الكرخ وغيرهأن كما تقدم، وقر بالمدينة، علم قواده وأصحابه أنهم ليس لهم فيها عدة الحصر، وخافوا أن يظفر بهم طاهر، فأتاه محمد بن حاتم بن الصقر، ومحمد بن إبراهيم بن الأغلب الإفريقي، وغيرهمأن فقالوا: قد آلت حالنا إلى ما ترى، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك، فانظر واعزم عليه، فإنا نرجوأن يجعل الله فيه الخيرة.
قال: وما هو؟ قالوا: قد تفرق عنك الناس، وأحاط بك عدوك، وقد بقي معك من خيلك سبعة آلاف فرس من خيارهأن فنرى أن نختار ممن عرفناه بمحبتك من الأبناء سبعة آلاف، فتحملهم على هذه الخيل، وتخرج ليلاً على باب من هذه الأبواب؛ فإن الليل لأهله، ولن يثبت لنا أحد إن شاء الله، فنخرج، حتى نلحق بالجزيرة والشام، فنفرض الفروض، ونجبي الخراج، ونصير في مملكة واسعة وملك جديد، فينصاع إليك الناس، وينقطع عن طلبك الجند ويحدث الله أموراً.
فقال لهم: نعم ما رأيتم! وعزم على ذلك، وبلغ الخبر إلى طاهر، فكتب إلى سليمان بن المنصور، ومحمد بن عيسى بن نهيك، والسندي بن شاهك: والله لئن لم تردوه عن هذا الرأي لا تركت لكم ضيعة إلا قبضتهأن ولا يكون لي همة إلا أنفسكم.
فدخلوا على الأمين، قد بلغنا الذي عزمت عليه، فنحن نذكرك الله في نفسك، إن هؤلاء صعاليك، وقد بلغ بهم الحصار إلى ما ترى، فهم يرون أن لا أمان لهم عند أخيك، وعند طاهر، لجدهم في الحرب، ولسنا نأمن إذا خرجت معهم أن يأخذوك أسيرأن أ يأخذوا رأسك، فيتقربوا بك ويجعلوك سبب أمانهم، وضربوا فيه الأمثال؛ فرجع إلى قولهم، وأجاب إلى طلب الأمان والخروج، فقالوا له: إمنا غايتك السلامة، واللهو، وأخوك يتركك حيث أحببت، ويجعل لك فيه كل ما يصلحك، وكل ما تحب وتهوى، وليس عليك منه بأس ولا مكروه. فركن إلى ذلك، وأجاب إلى الخروج إلى هرثمة بن أعين.
فدخل عليه أولئك النفر الذين أشاروا بقصد الشام، وقالوا: إذا لم تقبل ما أشرنا به عليك، وهوالصواب، وقبلت من هؤلاء المداهنين، فالخروج إلى طاهر خير لك من الخروج إلى هرثمة؛ فقال: أنا أكره طاهرأن لأني رأيت في منامي كأني قائم على حائط من آجر شاهق في السماء عريض الأساس، لم أر مثله في الطول والعرض، وعلي سوادي، ومنطقي، وسيفي، وكان طاهر في أصل ذلك الحائط، فما زال يضربه حتى سقط، وسقطت، وطارت قلنسوتي عن رأسي، فأنا أتطير منه، وأكرهه وهرثمة مولانأن وهوبمنزلة الوالد، وأنا أشد أنساً به وثقة إليه.
فأرسل يطلب الأمان، فأجابه هرثمة إلى ذلك، وحلف له أنه يقاتل دونه إن هم المأمون بقتله، فلما علم ذلك طاهر اشتد عليه، وأبى أن يدعه يخرج إلى هرثمة، وقال: هوفي جندي والجانب الذي أنا فيه، وأنا أحرجته، بالحصار، حتى طلب الأمان، فلا أرضى أن يخرج إلى هرثمة فيكون له الفتح دوني.
فلما بلغ ذلك هرثمة والقواد اجتمعوا في منزل خزيمة بن خازم، وحضر طاهر وقواده، وحضر سليمان بن المنصور، والسندي، ومحمد بن عيسى بن نهيك، وأداروا الرأي بينهم، وأخبروا طاهراً أنه لا يخرج إليه أبدأن وأنه إن لم يجب إلى ما سأل لم يؤمن إلا أن يكون الأمر مثله أيام الحسين بن علي بن عيسى ماهان. وقالوا: أنه إن يخرج إلى هرثمة بدنه، ويدفع إليك الخاتم والقضيب، والبردة وذلك هوالخلافة، فاغتمن هذا الأمر ولا تفسده! فأجاب إلى ذلك رضي به.
ثم إن الهرش لما علم بالخبر أراد التقرب إلى طاهر، فأخبره أن الذي جرى بينهم مكر، وأن الخاتم والقضيب والبردة تحمل مع الأمين إلى هرثمة، فاغتاظ منه، وجعل حول قصر أم الأمين، وقصور الخلد، قوماً معهم العتل، ولم يعلم بهم أحد؛ فلما تهيأ الأمين للخروج إلى هرثمة، عطش قبل خروجه عطشاً شديداً فطلب له في خزانة الشراب ماء، فلم يوجد، فلما أمسى، ليلة الأحد، لخمس بقين من محرم سنة ثمان وتسعين ومائة، خرج بعد العشاء الآخرة إلى صحن الدار، وعليه ثياب بيض، وطيلسان أسود، فأرسل إليه هرثمة: وافيت للميعاد لأحملك، ولكني أرى أن لا تخرج الليلة، فإني قد رأيت على الشط أمراً قد رابني، وأخاف أن أغلب، وتؤخذ من يدي، وتذهب نفسك ونفسي، فأقم الليلة، حتى أستعد وآتيك الليلة القابلة، فإن حوربت حاربت دونك.
فقال الأمين للرسول: ارجع إليه، وقل له لا يبرح، فإني خارج إليه الساعة لا محالة، ولست أقيم إلى غد.
وقلق، وقال: قد تفرق عني الناس من الموالي والحرس وغيرهم، ولا آمن إن انتهى الخبر إلى طاهر أن يدخل عليّ فيأخذني؛ ثم دعا بابنيه، فضمهما إليه، وقبلهمأن وبكى، وقال: أستودعكما الله، عز وجل، ودمعت عيناه، فمسح دموعه بكمه، ثم جاء راكباً إلى الشط، فإذا حراقة هرثمة، فصعد إليها.
فذكر احمد بن سلام، صاحب المظالم، قال: كنت مه هرثمة في الحراقة، فلما دخلها الأمين قمنا له، وجثا هرثمة على ركبتيه، واعتذر إليه من نقرس به، ثم احتضنه، وضمه إليه، وجعله إلى حجره، وجعل يقبل يديه ورجليه وعينيه، وأمر هرثمة بالحراقة أن تدفع، إذ شد علينا أصحاب طاهر في الزواريق، وعطعطوأن ونقبوا الحراقة، ورموهم بالآجر والنشاب، فدخل الماء إلى الحراقة، فغرقت، وسقط هرثمة إلى الماء، وسقطنأن فتعلق الملاح بشعر هرثمة فأخرجه، وأما الأمين فإنه لما سقط إلى الماء شق ثيابه وخرج إلى الشط، فأخذني رجل من أصحاب طاهر، وأتى بي رجلاً من أصحاب طاهر، وأعلمه أني من الذين خرجوا إلى الحراقة، فسألني من أنا؟ فقلت أنا أحمد بن سلام، صاحب المظالم، مولى أمير المؤمنين، قال: كذبت، فاصدقني! قلت: قد صدقتك. قال: فما فعل المخلوع؟ رأيته وقد شق ثيابه؛ فركب، وأخذني معه أعدوأن وفي عنقي حبل، فعجزت عن العدو، فأمر بضرب عنقي، فاشتريت نفسي منه بعشرة آلاف درهم، فتركني في بيت، حتى يقبض المال، وفي البيت بواري وحصر مدرجة ووسادتان.
فلما ذهب من الليل ساعة، وإذا قد فتحوا الباب، وأدخلوا الأمين، وهوعريان، وعليه سراويل، وعمامة، وعلى كتفه خرقة خلقة، فتركوه معي، فاسترجعت وبكيت فيما بيني وبين نفسي؛ فسألني عن اسمي فعرفته، فقال: يا أحمد! ما فعل أخي؟ قلت: حي هو. قال: قبح الله بريدهم، كان يقول: قد مات شبه المعتذر من محاربته؛ فقلت: بل قبح اله وزراءك؛ فقال: ما تراهم يصنعون بي، أيقتلونني أم يفون لي بأمانهم؟ فقلت: بل يفون لك.
وجعل يضم الخرقة على كتفه، فنزعت مبطنة كانت عليّ، وقلت: ألق هذه عليك! فقال: دعني، فهذا من اله، عز وجل، في مثل هذا الموضع خير كثير.
فبيمنا نحن كذلك، إذا دخل علينا رجل، فنظر في وجوهنأن فاستثبتهأن فلما عرفته انصرف، وإذا هومحمد بن حميد الطاهري، فلما رأيته علمت أن الأمين مقتول؛ فلما انتصف الليل فتح الباب، ودخل الدار قوم من العجم معهم السيوف مسلولة، فلما رآهم قام قائمأن وجعل يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهبت، والله، نفسي في سبيل الله، أما من مغيث، أما من أحد من الأبناء؟ وجاؤوأن حتى وقفوا على باب البيت الذي نحن فيه، وجعل بعضهم يقول لبعض: تقدم، ويدفع بعضهم بعضأن وأخذ الأمين بيده وسادة، وجعل يقول: ويحكم! أنا ابن عم رسول الله، أنا ابن هارون، أنا أخوالمأمون، الله الله في دمي.
فدخل عليه رجل منهم فضربه بالسيف ضربة وقعت في مقدم رأسه، وضربه الأمين بالوسادة على وجهه، وأراد أن يأخذ السيف منه، فصاح: قتلني! قتلني! فدخل منهم جماعة فنخسه واحد منهم بالسيف في خاصرته، فركبوه، فذبحوه ذبحاً من قفاه، وأخذوا رأسه، ومضوا به إلى طاهر، وتركوا جثته.
فلما كان السحر أخذوا جثته، فأدرجوها في جل وحملوهأن فنصب طاهر الرأس على برج، وخرج أهل بغداد للنظر، وطاهر يقول: هذا رأس المخلوع محمد.
فلما قتل ندم بغداد وجند طاهر على قتله، لما كانوا يأخذون من الأموال، وبعث طاهر برأس محمد إلى أخيه المأمون مع ابن عمه محمد بن الحسين بن مصعب، وكتب معه بالفتح، فلما وصل أخذ الرأس ذوالرياستين فأدخله على ترس، فلما رآه المأمون سجد، وبعث معه طاهر بالبردة والقضيب والخاتم.
ولما بلغ أهل المدينة أن طاهراً أمر مولاه قريشاً فقتله، قال شيخ من أهل المدينة: سبحان الله! كنا نروي أنه يقتله قريش، فذهبنا إلى القبيلة فوافق الاسم الاسم.
ولما قتل الأمين نودي في الناس بالأمان، فأمن الناس كلهم، ودخل طاهر المدينة يوم الجمعة، فصلى بالناس، وخطب للمأمون، وذم الأمين، وكتب إلى المعتصم، وقيل إلى ابن المهدي: أما بعد فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى رجل من أهل بيت الخلافة بغير التأمير، ولكنه بلغني أنك تميل بالرأي، وتصغي بالهوى إلى الناكث المخلوع، فإن كان كذلك، فكثير ما كتبت إليك، وإن كان غير ذلك، فالسلام عليك، أيها الأمير، ورحمة الله وبركاته.
ولما قتل الأمين قال إبراهيم بن المهدي يرثيه:
عوجاً بمعنى الطلل الداثر ... بالخلد ذات الصخر والآجر
والمرمر المنسوب يطلى به ... والباب باب الذهب الناضر
عوجاً بها فاستيقنا عندها ... على يقين قدرة القادر
وأبلغا عني مقالاً إلى ... المولى على المأمور والآمر
قولاً له يابن أبي الناصر ... طهر بلاد الله من طاهر
لم يكفه أن حز أوداجه ... ذبح الهدايا بمدى الجازر
حتى أتى سيحب أوداجه في شطن، هذا مدى السائر
قد برد الموت على جنبه ... فطرفه منكسر الناظر
فلما بلغ المأمون قوله اشتد عليه.
ذكر صفة الأمين وعمره وولايتهقيل إن محمداً ولي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين ومائة، وقتل ليلة الأحد لست بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة؛ وكنيته أبوموسى، وقيل أبوعبد الله.
وهوابن الرشيد هارون بن أبي عبد الله المهدي بن أبي جعفر المنصور، وأمه زبيدة ابنة جعفر الأكبر ابن المنصور؛ وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر وخمسة أيام، وقيل كانت ولايته النصف من جمادى الآخرة، وكان عمره ثمانياً وعشرين سنة. وكان سبطأن أنزع، صغير العينين، أقنى، جميلأن طويلأن عظيم الكراديس، بعيد ما بين المنكبين، وكان مولده بالرصافة.
ولما وصل خبر قتله إلى المأمون أذن للقواد، وقرأ الفضل بن سهل الكتاب عليهم، فهنأوه بالظفر ودعوا له. وكتب إلأى طاهر وهرثمة بخلع القاسم المؤتمن من ولاية العهد، فخلعاه في شهر ربيع الأول من هذه السنة.
وأكثر الشعراء في مراثي الأمين وهجائه، تركنا أكثره لأنه خارج عن التاريخ، ففما قيل في مراثيه قول الحسين بن الضحاك، وكان من ندمائه، وكان لا يصدق بقتله، ويطمع في رجوعه:
يا خير أسرته وإن زعموا ... إني عليك لمثبت أسف
الله يعلم أن لي كبداً ... حري عليك ومقلة تكف
ولئن شجبت لما رزئت به ... إني لأضمر فوق ما أصف
هلا بقيت لسد فاقتنا ... أبداً وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفاً سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا بات رهطك بعد هفوتهم ... إني لرهطك بعدها شنف
هتكوا بحرمتك التي هتكت ... حرم الرسول ودونها السجف
ونبت أقاربك التي خذلت ... وجميعها بالذل معترف
تركوا حريم أبيهم نفلاً ... والمحصنات صوارخ هتف
أبدت مخلخلها على دهش ... أبكارهن ورنت النصف
سلبت معاجزهن واختلست ... ذات النقاب ونوزع الشنف
فكأنهن خلال منتهب ... در تكشف دونه الصدف
سلك تخوف نظموقدر ... فوهي وصرف الدهر مختلف
هيهات بعدك أن يدوم لنا ... عز وأن يبقى لنا شرف
أفبعد عهد الله تقتله ... والقتل بعد أمانه سرف
فستعرفون غداً بعاقبة ... عز الإله فأوردوا وقفوا
يا من تخون نومه أرق ... هدت الشجون وقلبه لهف
قد كنت لي أملاً غنيت به ... فمضى وحل محله الأسف
مرج النظام وعاد منكرنا ... عرفاً وأنكر بعده العرف
والشمل منتشر لفقدك والدن ... يا سدى والباب منكشف
وقال خزيمة بن الحسن يرثيه على لسان أمه زبيدة، وتخاطب المأمون، وكنية زبيدة أم جعفر:
لخير إمام قام من خير عنصر ... وأفضل سام فوق أعواد منبر
لوارث علم الأولين وفهمهم ... وللملك المأمون من أم جعفر
كتبت وعيني مستهل دموعها ... إليك ابن عمي من جفوني ومحجري
وقد مسني ضر وذل كآبة ... وأرق عيني يابن عمي تفكري
وهمت لما لا قيت بعد مصابه ... فأمري عظيم منكر جد منكر
سأشكوالذي لاقيته بعد فقده ... إليك شكاة المستضيمالمقتر
وأرجولما قد مر بي مذ فقدته ... فأنت لبثي خير رب مغير
أتى طاهر لا طهر الله طاهراً ... فما طاهر فيما أتى بمطهر
فأخرجني مكشوفة الوجه حاسراً ... وأنهب أموالي وأخرب أدوري
يعز على هارون ما قد لقيته ... وما مر بي من ناقص الخلق اعور
فإن كان ما أبدى بأمر أمرته ... صبرت لأمر من قدير مقدر
تذكر أمير المؤمنين قرابتي ... فديتك من ذي حرمة متذكر
فلما قرأها المأمون بكى، وقال: أنأن والله، الطالب بثأر أخي، قتل الله قتلته.
ولقد أسرف الحسين بن الضحاك في مراثي الأمين، وذم المأمون، فلهذا حجبه المأمون عنه، ولم يسمع مديحه مدة، ثم أحضره يومأن فقال له: أخبرني! هل رأيت يوم قتل أخي هاشمية قتلت وهتكت؟ قال: لا! قال: فما قولك:
ومما شجا قلبي وكفكف عبرتي ... محارم من آل النبي استحلت
ومعتوكة بالخلد عنها سجوفها ... كعاب كقرن الشمس حين تبدت
إذا خفرتها روعة من منازع ... لها المرط عاذت بالخشوع ورنت
وسرب ظباء من ذؤابة هاشم ... هتفن بدعوى خير حي وميت
أرد يداً مني إذا ما ذكرته ... على كبد حرى وقلب مفتت
فلا بات ليل الشامتين بغبطة ... ولا بلغت آمالها ما تمنت
فقال: يا أمير المؤمنين! لوعة غلبتني، وروعة فاجأتني، ونعمة سلبتها بعد أن غمرتني، وإحسان شكرته فانطفقني، وسيد فقدته فأقلقني، فإن عاقبت فبحقك، وإن عفوت فبفضلك.
فدمعت عين المأمون وقال: قد عفوت عنك، وأمرت بإدرار أرزاقك عليك، وعطائك ما فاتك متمماً وجعلت عقوبة ذنبك امتناعي من استخدامك.
ثم إن المأمون رضي عنه وسمع مديحه، ومما قيل في هجائه: