كتاب : عيون الأخبار
المؤلف : ابن قتيبة الدينوري
قال غيره: وقولُ الطَرِمّاح في القِلّة والخُمول:
لو كان يَخْفَى على الرَّحمن خافيةٌ ... من خَلْفِه خَفِيَتْ عنهُ بَنُو أسَدِ
ونحوه قولُ الآخر:
وأنت مَلِيح كلحم الحُوَا ... رِ لا أنت حُلْوٌ ولا أنت مُرّ
وكذلك قولُ جَريرٍ في التَّيم:
وأنّك لو رأيتَ عبيد تَيْم ... وتَيْماً قلتَ أيُّهما العبيدُ
ويُقْضَى الأمرُ حينَ تَغِيبَ تيمٌ ... ولا يُسْتَأذَنُون وهم شُهُودُ
أحسن ما قيل في الهيبة شعراً وأحسن ما قيل في الهيبة:
يُغْضِي حَيَاءً وُيغضى من مَهَابته ... فما يُكًلّمُ إلا حين يبتسِمُ
لمحمد بن أبي حمزة في مصلوب وأغرب ما قيل في مصلوبٍ قولُ محمد بن أبي حَمْزة مَوْلَى الأنصار:
لَعَمْرِي لئن أصبحتَ فوقَ مُشَذبٍ ... طَوِيلٍ تُعَفَيكَ الرياحُ مع القَطْرِ
لقد عِشْتَ مبسوطَ اليدين مُرَزَأً ... وعُوفيتَ عند الموت من ضغطة القبر
وأفْلِتَ من ضِيق التُراب وغَمه ... ولم تَفْقَدِ الدنيا فهل لك من شكر
لأعرابي في مجوسي وأغرب ما قيل في مجوسيٍّ قول أعرابيّ:
شَهِدْتُ عليك بطِيبِ المُشَاش ... وأنَّك بحر جَوادٌ خِضَم
وأنَّك سيدُ أهل الجَحيم ... إذا ما تَرَدَّيْتَ فيمن ظَلَمْ
لإبراهيم بن إسماعيل في دعي ومن أغرب ما قيل في دَعِي قولُ إبراهيم بن إسماعيل البنوي:
لو أنّ مَوْتَى تميم كلّها نْشِرُوا ... وأثبتوك لقيل الأمرُ مصنوعُ
مثل الجديدِ إذا ما زِيدَ في خَلَقٍ ... تَبَين الناسُ أن الثوبَ مرقوعُ
ونحوه قولُ الآخر:
أجارتَنا بَانَ الخَلِيطُ فأَبشِري ... فما العَيْشُ إلا أن يَبِين خليطُ
أعاتبُه في عِرْضِه ليصونَه ... ولا عِلْمَ لي أن الأميرَ لقِيطُ
لدعبل في مالك بن طوق ونحوه قولُ دِعْبِل في مالك بن طَوْق:
الناسُ كلًهُمُ يسعَى لحَاجته ... ما بين ذِي فَرَح منهم ومَهْموم
ومالك ظَل مشغولًا بنِسْبته ... يَرُم منها خَرَاباً غيرَ مَرْموم
يبني بيوتاً خراباً لا أنيسَ بها ... ما بين طَوْقٍ إلى عَمْرو بن كُلْثوم
التلطُّف في الكلام والجواب وحسن التعريض
بين معاوية وعقيل بن أبي طالب حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: ترك عَقِيل عليَاً وذهب إلى مُعاوية، فقال معاوية: يا أهل الشأم، ما ظنكم برجلٍ لم يصلُحْ لأخيه. فقال عَقِيل: يا أهل الشأم، إن أخي خيرٌ لنفسه وشر لي، وإن مُعاوية شر لنفسه وخير لي.
قال: وقال مُعاوية يوماً: يا أهل الشأم، إن عمّ هذا أبو لَهَب. فقال عَقيل: يا أهل الشأم، إن عمة هذا حَمَالة الحَطَب. وكانت أمّ جميل امرأة أبي لهب وهي بنت حَرْب.
بين عبيد الله بن زياد وقيس بن عباد وحدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثنا أبو هِلاَل عن قَتَادة قال: قال عُبَيد الله ابن زِيَر لقَيس بن عَبّاد: ما تقول فيّ وفي الحسين. فقال: أعفِني أعفاك الله! فقال: لَتَقُولَن. قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفَعَ له، ويجيء أبوك فيشفَع لك. قال: قد علمتُ غِشّك وخُبْثك، لئن فارقتني يوماً لأضَعَنّ بالأرض أكثَرك شَعْراً.
لميمون بن مهران قيل لمَيْمُون بن مِهْران: كيف رِضَاك عن عبد الأعلى؟ قال: نِعْمَ المرء عمرُو بن ميمون.
بين عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن الزبير مر عمر بن الخطّاب بالصبيان وفيهم عبد الله بن الزبير، ففرّوا ووقف؛ فقال له عمر: ما لك لم تَفِر مع أصحابك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لم أجْرِم فأخافَك، ولم يكن بالطريق ضِيق فأوسعَ لك.
جواب رجل لعبد الله بن طاهر حدّثني الفضلُ بن محمد بن منصور بن زياد كاتب البرامكة قال: قال عبد الله بن طاهر ذاتَ يوم لرجل أمره بعمل: احذر أن تخطئ فأعاقَبك بكذا " لأمر عظيم " قلت له: أيها الأمير؛ كانت هذه عقوبتَه على الخطأ فما ثوابُه على الإصابة!.
بين قرشي وتغلبي
رأى رجل من قريش رجلاً له هيئةٌ رَثَّة، فسأل عنه، فقالوا: مِنْ تَغْلِب. فوقف له وهو يطوف بالبيت، فقال له: أرى رِجْلين قَلّما وطئتا البطحاء، فقال له: البطحاوات ثلاث: بطحاء الجزيرة، وهي لي عونك؛ وبطحاء ذي قار ، وأنا أحقُّ بها منك؛ وهذه البطحاء وسواء العاكفُ فيه والبادي.
بين معاوية وعبد الرحمن بن حسان حدثني سَهْل عن الأصمعيّ عن أبي عَمْرو بن العلاء أو غيره: أنّ معاوية عَرَض فرساً على عبد الرحمن بن حَسّان فقال: كيف تراه؟ قال: أراه أجَشَّ هَزيماً.
يريد قول النجاشِيّ:
ونَجَّى ابن حَرْبٍ سابحٌ ذُو علَالةٍ ... أجشُ هَزِيمٌ والرماحُ دَوَانِي
بين أبي بكر وطلحة بن عبيد الله حدّثني محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا أبو سَلَمة عن حمَاد بن سلمة قال: أخبرنا داود بن أبي هند عن محمد بن عَبَّاد المخزومي أن قريشاً قالت: قيِّضُوا لأبي بكر رجلاًَ يأخذه. فقيضوا له طَلْحَة بن عُبيد الله، فأتاه وهو في القوم فقال: يا أبا بكر قم إليّ. قال: إلامَ تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللات والعُزَّى. قال أبو بكر: مَنِ الَّلات. قال: بناتُ اللّه. قال: فمن أمّهم. فسكت طلحة وقال لأصحابه: أجيبوا صاحبَكم. فسكتوا؛ فقال طلحة: قم يا أبا بكر، فإني أشْهد أن لا إلهَ إلا الله وأشهد أنّ محمداً رسولُ الله. فأخذ أبو بكر بيده فأتى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأسلم.
بين عمر ورجل عن قندابيل حدثني محمد بن عُبَيد عن مُعاوية عن أبي إسحاق عن عًبيد اللّه بن عمر أنّ عمر قال: كل يُخبرنا عن قَنْدَابِيل؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين، ماؤها وَشَل، وتمرُها دَقَل، ولصها بَطَل؛ إن كان بها الكثيرُ جاعوا، وإن كان بها القليلُ ضاعوا. قال عمر: لا يسألني الله عن أحدٍ بعثته إليها أبداً.
بين مسروق وشريح في مرض زياد حدّثني أبو حاتم قال حدثنا الأصمعيّ قال: مَرِض زِيادٌ فدخل عليه شُرَيْح، فلما خرج بعث إليه مسروقُ بن الأجدع يسأله كيف تركتَ الأمير؟ قال: تركته يأمر ويَنْهَى. فقال مسروق، : إن شُرَيحاً صاحبُ تعريض فسَلُوه. فسألوه، قال: تركته يأمر بالوصيّة وينَهم عن البكاء.
ولابن شريح أيضاً في موت ابنه ومات ابن لشُرَيح ولم يشعرُ به أحدٌ، فغدا عليه قوم يسألون به، وقالوا: كيف أصبح من تَصِل يا أبا أميّة. فقال: الآن سكن عَلَزُه ورجاه أهلُه.
حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدّثني بعض الأعراب قال: هَوِيَ رجلٌ امرأة ثم تزوّجها، فأهدَى إليها ثلاثين شاةً وزِقّا من خَمْر، فشرِب الرسولُ في الطريق بعضَ الخمر وذبح شاةً؛ فقالت للرسول لمّا أراد الانصراف: اقرأ على مولاك السلام، وقل له إنّ شهرنا نَقَص يوماً وإن سُحَيْما راعي شائِناً أتانا مرثوماً. فلما أتى مولاه فأخبره ضربه حتى أقرِّ.
لأعرابي خطب إلى قوم ثم كره ذلك حدّثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: خَطَب أعرابي إلى قوم، فقالوا: ما تبذل مر الصَّدَاق. وارتفع السجْف فرأى شيئاً كَرِهَه، فقال: واللّه ما عندي نَقْد، وأني لأكره أن يكون علي دَيْن.
بين سلم بن قتيبة والشعبي حدّثني عبد الرحمن عن الأصمعي قال: قال سَلْم بن قُتَيبة للشَّعْبيّ: ما تشتهي؟ قال: أعز مفقود، وأهون موجودة قال: يا غلام اسقه ماء.
بين ابن عون وابن عمه المدائني قال: كان لابن عَوْنٍ ابن عمٍّ يُؤذيه، ولَاحَاه يوماً فقال له ابن عون، لمّا بلغ منه: لتسكتُنّ أو لأشتمِنّ مُسَيْلِمَة. فشهد بعد ذلك عند عُبيد اللهّ بن الحسن، فردّ شهادتَه.
بين المُغيرة بن شعبة ورجل شاوره في امرأة يتزوجها المدائني قال: قال المغيرة بن شعْبة: ما خَدَعني أحدٌ قط غير غلام من بني الحارث بن كعب، فإني ذكرت امرأة منهم، فقال: أيها الأمير! لا خير لك فيها، إني رأيت رجلاًَ قد خلا بها يقبلها. ثم بلغني بعدُ أنه تزوّجها، فأرسلت إليه فقلت: ألم تعلمني أنك رأيت رجلاًَ يقبلها. فقال: بلى! رأيت أباها يقبّلها.
من خطب لبائع سنانير على أنه نخاس دواب قال المدائني: أتى شريحاً القاضيَ قومٌ برجل، فقالوا: إن هذا خَطَب إلينا: فسألناه عن حرفته فقال: أبيع الدوابَّ؛ فلما زوّجناه، فإذا هو يبيع السنانير؛ قال: أفلا قلتم أيَّ الدوابّ تبيع؟ وأجاز ذلك.
ابن شبرمة وسؤال عيسى بن موسى له عن رجل لا يعرفه
المدائني قال: دخل رجل على عيسى بن موسى وعنده ابن شُبْرُمَة، فقال له: أتعرفه؟ وكان رُمِي عنده برِيبة؛ قال: نعم، إنّ له بيتاً وشَرَفاً وقَدَماً، فخلى سبيله فلما خرج قال له أصحابه: أعَرَفته؟ قال: لا، ولكني أعلم أن له بيتَاَ يأوي إليه، وشرفه أذناه ومَنْكِباه، وقَدمه هي قدمه التي يمشي عليها.
للشعبي وقد سُئِل عن رجل المدائني قال: سُئل الشعبيّ عن رجل، فقال: إنه لنافذ الطعْنة، رَكِين القعدة. يعني أنه خَياط، فأتوه فقالوا: غَرَرتنا. فقال: ما فعلت! وإنه لَكَما وصفت.
بين العريان بن الهيثم وابن باقلاني المدائني قال: أتيَ العُرْيانُ بن الهيثم بشابٍّ سَكران، فقال له: من أنت؟ فقال:
أنا ابن الذي لا ينزلً الدهرَ قِدْرُهُ ... وإن نزلتْ يوماً فسوف تعودُ
ترى الناسَ أفواجاً إلى شَوْء نارِه ... فمنهم قِيامٌ حولَها وقُعودُ
فظنّ أنه من بعض أشراف الكوفة فخلاه، ثم ندِم على ألاّ يكون سأله مَنْ هو، فقال لبعض الشُرَط: سَلْ عن هذا. فسأل، فقالوا: هو ابن بَيّاع البَاقِلي.
بين زياد وحارثة بن بدر الغداني دخل حارثةُ بن بحر الغُدَاني على زِياد، وكان حارثة صاحب شرابٍ وبوجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر بوجهك؟ فقال حارثة: أصلح الله الأمير، ركِبت فرساً لي أشقر فَحَملني حتى صَدم بي الحائط؛ فقال زياد: أما إنك لو ركبت الأشهب لم يُصبك مكروه: عَنَي زياد اللبنَ، وعني حارثةُ النبيذَ.
لقوم يشربون النبيذ فسقط الذباب في قدح أحدهم قعد قوم على نبيذ فسَقَط ذُباب في قَدَع أحدهم، فقال رجل منهم: غطً التميميّ. فقال آخر: غطَهَ فإن كان تميمياً رسَبَ، وإن كان أزْديَا طَفَا. قال رب المنزل: ما يسرني أنه كان قال بعضكم حرفاً. وإنما عنى أن أزْدَ عُمَان ملاحون.
بين رجل وامرأة كانت تأتيه المدائني قال: رأى رجلِ في يد امرأة كانت تأتيه خاتَمَ ذهب، فقال لها: ادفعي إليّ خاتمك أذكرك به. فقالت: إنه ذهَب، وأخاف أن تذهب، ولكن خذ هذا العود لعلك تعود.
لأبي بكر في النبي صلى الله عليه وسلم حدثني الزياديّ قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز بن صُهَيْب عن أنَس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مُردفاً أبا بكر شيخاً يُعْرَف، ورسول الله شابُّ لا يُعرف، فَيْلقَى الرجلُ أبا بكر فيقول: يا أبا بكر، مَنْ هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. فيحسب السامع أنه يهديه الطريق، وإنما يعني سبيلَ الخير.
بين عمر بن هبيرة وهو يساير سنان بن مكمل على بغلة كان سِنَان بن مُكًمل النمير في يُساير ابن هُبَيْرةً يوماً وهو على بغلة، فقال له عمر بن هبيرة: غُض من بغلتك؛ قال: كلا! إنها مكتوبة. أراد ابن هبيرة قول الشاعر:
فغضُ الطَرفَ إنًك من نُمَيْرٍ ... فلا كَعْباً لغتَ ولا كلَابَا
وأراد سنان قولَ الآخَر:
لا تأمَنَن فَزَارياً خَلَوْتَ به ... على قَلُوصك واكتبْها بأسيارِ
بين معاوية والأحنف في الشيء الملفف في البجاد حدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: قال معاوية للأحنف: يا أحنف، ما الشيء الملفف في البِجَاد؟ فقال: هو السخِينة يا أمير المؤمنين. أراد معاوية قول الشاعر:
إذا ما مات مَيتٌ من تميم ... فسرَّك أن يعيش فجيء بزَادِ
بخُبْزٍ أو بتمر أو بسمنٍ ... أو الشي الملًففِ في البِجَادِ
وأراد الأحنف أن قريشاً تُعًير بأكل السخينة.
المدائني قال: سأل الحَرَسِي أبا يوسف القاضي عن السواد؛ فقال: النور في السواد. يعين نور العينين في سواد الناظر.
بين شيطان الطاق وخارجي المدائني قال: لقي شيطانَ الطاق خارجي فقال: ما أفارقك أو تبرأ من عليّ فقال: أنا من علي ومن عثمان بريء. يريد أنه من علي، وبريء من عثمان.
بين عمر ورجل عرضت به امرأته سمع عمر بن الخَطاب امرأةً في الطوَاف تقول:
فمنهنّ من تُسْقَى عذْب مُبَرَّدٍ ... نُقَاخ فتلكم عند ذلك قَرتِ
ومنهن من تُسْقَى أخضَرً آجنٍ ... أجَاج ولولا خَشْيةُ الله فَرتِ
فعلم ما تشكو، فبعث إلى زوجها فوجده متغير الفم، فخيره بين خمسمائة درهم أو جمارية من الفَيْء على أن يطلًقها، فاختار خمسمائة، فأعطاه وطلقها.
بين أحمد بن محمد وامرأة في محمد بن زانة حدّثني أحمد بن محمد أبو نصر الكاتب قال: كنت واقفاً بهذا المكان، وأقبلت امرأة من هذه الناحية، وغلامٌ من الناحية الأخرى أبيضُ الوجه رائعه، ونظرت إليه المرأة، فلما التقيا قالت له: ما اسمك يا فتى. قال: محمد. قالت: ابن من. قال: ابن زانة. وتبسم عن ثغر أفلج مختلف قبيح؛ فقالت: واحَرَبَاهُ على ما قال! فقلت لها: قد وقعتُ لك عليها. قالت: من أين قلت: من كنية أبي الخير النصراني كاتب سعيد الحاجب. أراد أن الياء إذا نُقلت عن أبي الخير إلى زانة، صار هذا أبا الخر، وصار هذا ابن زانية.
لابن أبي علقمة في بني ناجية مر ابن أبي عَلْقَمة بمجلس بني ناجية فكَبَا حمارُه لوجهه فضحكوا؛ فقال: ما يضحككم! إنه رَأى وجوه قُرَيش فسَجَد.
للجاحظ في أبى الهذيل يخاطب محمد بن الجهم قال عمرو بن بحر قال أبو الهذيل لمحمد بن الجَهْم وأنا عنده: يا أبا جعفر، إني رجلٌ منخرِق الكفّ لا ألِيق درهماً، ويدي هذه صَنَاعٌ في الكَسْب ولكنها في الإنفاق خَرْقاء، كم من مائة ألف درهمٍ قَسَمتها على الإخوان في مجلس وأبو عثمان يعلم ذلك! أسألُك باللّه يا أبا عثمان، هل تعلم ذلك. قال: يا أبا الهذيل ما أشك فيما تقول. قال: فلم يرضَ أن حَضَرتُ حتى استشهدني، ولم يرض إذ استشهدني حتى استحلفني.
لعلي بن أبي طالب قال المدائنيّ: بعث يزيد بن قَيْس الأرحَبيّ، وكان والياً لعليّ، إلى الحسن والحسين رضي اللّه عنهم بهدايا بعد انصرافه من الولاية وتَرَكَ ابن الحَنَفِيّة، فضرب علي - عليه السلام - على جنب ابن الحنفيّة وقال:
وما شَرُّ الثلاثةِ أمَّ عمرو ... بصاحِبِك الًذي لا تَصْبِحينا
فرجع يزيد إلى منزله وبعث إلى ابن الحنفية بهديّة سنية.
بين أعرابي ورجل في صورة خمسة حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدّثني موسى بن محمد قاضي المدينة، قال: مرّ رجل بأعرابي يوقد في أصل مِيلٍ، فقال: كم على الميل. فقال: لستُ أقرأ، ولكنّ كتابه فيه. قال: وما كتابه. قال: مِحْجَنٌ وحَلْقَةِ سِمْط وثلاثة أطْباء وحَلْقَة مُذَنَبة " يعني صورة خمسة " .
بين سعد بن مالك وعمرو بن مالك بن ضبيعة قال أبو اليقظان: إن عمرو بن مالك بن ضُبَيْعة هو الذي قيل فيه:
لذي الحِلْم قبل اليوم ما تُقْرَعُ العصا ... وما علَمَ الإنسانُ إلّا ليَعْلَما
وذلك أن سعد بن مالك كان عند بعض الملوك، فأراد الملك أن يبعث رائداً يرتاد له منزلاً ينزِله، فبعث بعمرو فأبطأ عليه، فآلى الملك لئن جاء ذامًّا أو حامداً ليقتلنّه؛ فلما جاء عمرو وسَعْد عنده، قال سعد للملك: أتأذَنُ لي فأكلِّمه؟ قال: إذاً أقطع لسانك. قال: فأشير إليه قال: إذاً أقطع يدك. قال: فأومئ إليه. قال: أقطع حِنْوَ عينك. قال: فأقرَعُ له العصا. قال: اقرَعْ. فأخذ العصا فضرب بها عن يمينه ثم ضرب بها عن شماله ثم هَزَّها بين يديه، فلقن عمرو، فقال: أبيْتَ اللَعْنَ! أتيتُك من أرض زائرها واقف، وساكنُها خائف، والشَبْعىَ بها نائمة والمهزولةُ ساهرة جائعة، ولم أر خِصْباً محلاً، ولا جدباً منزلاً.
بين معاوية وعمرو بن العاص لما حُكَم أبو موسى وقَدِمَ ليحكم، دسّ معاويةُ إلى عَمْرو رجلاً ليعلم علمَه وينظر كيف رأيه؛ فأتاه الرجل فكلّمه بما أمره به، فعَضّ عمرو على إبهامه ولم يُجبه، فنَهَض الرجل فأتى مُعاويةَ فأخبره؛ فقال: قاتله اللّه أراد أن يُعلمني أني فَرَرْتُ قارحاً.
بين الحجاج وجبر بن حبيب في رجل سأله عنه الحجاج حدّثني أبو حاتم قال: حدثني الأصمعي قال: حدّثنا عيسى بن عمر قال: سأل الحجاج جبر بن حبيب عن رجل، وكره أن يعاقبه إن دلّ عليه، فقال: تركته والله جسداً يُحَرك رأسُه يُصَب في حلقه الماء، والله لئن حُمِلَ على سرير ليكونَنّ عليه عورةً؛ قال: فتركه.
لعلي بن أبي طالب في قتل عثمان رضي الله عنه وتفسير محمد بن سيرين لقول علي
حدّثني القاسم بن الحسن عن خالد بن خِدَاش عن حَمّاد عن مُجالد عن عُمَيْر بن روذي قال: خَطَبَنا علي عليه السلام فقال: لئن لم يدخل الجنة إلا من قتل عثمان لا أدخلها ولئن يدخل النار إلا من قتل عثمان لا أدخلها؛ فقيل له: ما صنعتَ! فَرقتَ الناس! فَخَطَبهم فقال: إنكم قد أكثرِتم في قتل عثمان، ألَا وإن الله قَتَله وأنا معه. قال: فحدثنا خالد عن حَمّاد عن حَبِيب بن الشَهِيد عن محمد بن سِيرِينَ قال: كلمة عربيّه لها وجهان. أي وسيقتلني معه.
بين زياد وشريف من أشراف البصرة كنى عن مسكنه وولده سأل زيادٌ رجلاً بالبصرة: أين منزلك. فقال: وَاسِط. قال: ما لك من الولد؟ قال: تسعة. فلما قام، قيل لزياد: كَذَبك في كل ما سألته، ما له إلا ابن واحد، وإن منزلَه بالبصرة. فلما عاد إليه، قال: ذكرتَ أن لك تسعة من الولد، وأن منزلك بواسط؟ قال: نعم؟ قال: خُبٌرتُ بغير ذلك؛ قال: صَدَقتُ وصَدَقوك، دفنت تسعة بنين فهم لي، ولي اليوم ابن واحد ولست أدري أيكون لي أم لا، وأما منزلي إلى جانب الجبان بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فأي منزل أوسط منه؛ قال: صدقت.
للمختار الثقفي حدثني أبو حاتم عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: قال المختار لجنده: يا شُرْطة الله، ليَخرجَن إلى قريبِ على الكعبة الحرام دابَّةٌ له ستُّ قوائم وله رأسٌ بلا عُنُق، ثم التفت إلى رجل إلى جانب فقاَل: أعني اليَعسوب.
قول إبراهيم إذا لم يعجبه الرجل كان إبراهيم إذا لم يُعجبه الرجل قال: ما هو بأعجب الناس إلي.
قول مسلم بن يسار إذا غضب على البهيمة بلغني عن معاوية بن حَيان عن المبارك بن فَضَالة عن عبد الله بن مسلم بن يَسَار، قال: كان أبي إذا غَضِب على البهيمة، قال: أكلتِ سماً قاضياً.
قول الحسن إذا أخِذ من لحيته شيء حدثني زيد بن أخزم قال: حدثنا أبو قُتَيبة قال: حدثنا أبو المِنهال البَكْرَاويّ قال: كان الحسن إذا أخِذَ من لِحْيته شيء، قال: لا يكن بك السوءُ.
وللحسن أيضاً في الإجابة بآية من آيات القرآن الكريم وقيل للحسن: أتى رجلٌ صاحباً له في منزله وكان يصلي، فقال: أدخل؟ فقال في صلاته: " ادْخُلُوهَا بِسَلاَم آمِنِينَ " فقال: لا بأس.
لمحمد بن علي كان محمد بن عليٍّ إذا رأى مُبتلى أخفى الاستعاذة. وكان لا يسمع من داره يا سائل بورك فيك، ولا يا سائل خذ هذا، ويقول: سَموهم بالحسن الجميل عباد الله، فتقولون: يا عبد الله بورك فيك.
لعلي بن أبي طالب في أبعد ما بين المشرق والمغرب والسماء والأرض قيل لعليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين السماء والأرض. قال: دعوة مستجابة. قيل: فكم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة يوم " يعني للشمس " .
رشْم عمر بن مهران كانَ رشْمُ عمر بن مِهْران الذي يرشم به على طعامه: اللهم احفظه ممن يَخْطَفه.
لرجل من بين أسد وابنته وجماعة من بني فزارة خرج رجل من بين أسَد بإبل له يسقيها، ومعه ابنة له جميلة عاقلة، حتى دفع إلى ماء لبني فَزَارة، فسألهم أن يأذنوا له في سقي إبله؟ فقالوا: على ألا تجأجئ بها، قال: فإذاً لا تشرب شُرْبَ خير. قالوا: إن رَضِيتَ وإلا فانصرفْ. فقالت له الجارية: اشْرُطْ لهم ما طلبوا وأنا أكفيك. فأخذ الدلوَ، وجعلت الجارية ترتجز وتقول:
جاريةٌ شَبتْ شبابَ العُسْلُج ... ذاتُ وِشاحينِ وذاتُ دملُج
وذات ثَغْرٍ أشنب مُفلَّج ... وذات خَلْقٍ مُستتب مُدمج
في أبيات كثيرة، فشربت الإبل حتى رَوِيتْ من غير أن جأجأ بها.
بين أعرابيين تبايعا كبشاً وتبايع أعرابيان على أن يشرب أحدهما لبناً حازراً ولا يتنحنح، فلما شربه وتَقَطّع في حَلْقه؛ قال: كَبْش أملح؛ فقال صاحبه: فَعلَهَا ورب الكعبة! فقال: مَن فعلها فلا أفلح. وكان ما تبايعا عليه كبشا.
جواب أعرابي للأصمعي في شاء قال الأصمعي: قلت لأعرابي معه شَاءٌ: لمن هذه الشّاء؟ فقال: هي للّه عندي.
جواب سعيد بن جبير للحجاج حدثني أبو الخَطّاب قال: حدّثنا أبو داود عن عمَارة بن زاذان قال: حدثنا أبو الصهباء قال: قال الحجّاج لسَعيدِ بن جُبَيْر: اخْتَرْ أيَ قِتْلةٍ شئتَ. فقال له: بل اختر أنت لنفسك، فإن القصاص أمامك.
قول جعفر بن يحيى لهرثمة وقد ولي الحرس مكانه
وَليَ هَرْثمةُ الحرسَ مكان جعفر بن يحيى، فقال له جعفر: ما انتقلت عني نعمةٌ صارت إليك.
بين ابن القرية رسول الحجاج إلى هند بنت أسماء في تطليقها، وجواب هند أمر الحجاجُ ابن القِرية أن يأتي هندَ بنت أسماء فيطلقها بكلمتين، ويُمَتَعها بعشرة آلاف درهم؛ فأتاها فقال لها: إن الحجّاج يقول لك: كنتِ فبِنْتِ، وهذه عشرة آلاف مُتْعة لك؛ فقالت: قل له: كنا فما حَمدنا، وبِنّا فما ندمْنَا؛ وهذه العشرة الآلاف لك ببشارتك إياي بطلاقي.
لابن سفيان بن عُيَيْنة سئل سُفيان بن عُيَيْنة عن قول طاوُس في ذَكَاة السمك أو الجراد. فقال ابنه عنه: ذَكَاتُه جدُه.
ليزيد بن المقنع في بيعة يزيد بن معاوية اجتمع الناس عند معاوية وقام الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قوم الكراهة، فقام رجل من عُذرَة يقال له يزيد بن المقنّع، واخترط من سيفه شبراً، ثم قال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن يَهْلِكْ فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: أنت سيد الخطباء.
بين ابن شبرمة وحجازي قال رجل من أهل الحجاز لابن شُبْرُمَة: مِنْ عندنا خَرَجَ العلمُ. قال ابن شبرمة: ثم يَعُدْ إليكم.
بين معاوية وابن عباس قال المدائنيّ: قال معاويةُ لابن عبّاس: أنتم يا بني هاشِم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أمية تصابون في بصائركم.
وقال له معاوية: ما لبينَ الشَبَق في رجالكم؛ فقال: هو في نسائكم أبْيَن.
بين ابن ظبيان التيمي وزُرعة بن ضمرة أبو اليقظان قال: قال ابن ظَبْيان التًيْمي لزُرْعة بن ضَمْرَة: لقد طلبتك يوم الأهواز و ظَفِرتُ بك لقطعت منك طَابِقَاً سُخْنا. قال: أفلا أدلُك على طابق هو أسخن وأحوج إلى القطع؟ قال: بلى! قال: بَظْرٌ بين إسْكَتَيْ أمّك.
بين الحجاج والفضيل بن بزوان أبو اليقظان قال: بعث الحجاج إلي الفُضَيْل بن بَزَوَان العدواني، وكان خيراً من أهل الكوفة، فقال: إني أريد أن أوليك. قال: أوَ يُعفيني الأمير؟ فأبى وكتب عهده، فأخذه وخرج من عنده فرمى بالعهد وهَرَب، فأخِذَ وأتِيَ به الحجاجُ، فقال: يا عدو الله؛ فقال: لستُ لله ولا للأمير بعدوّ؛ قال: ألم أكرمك! قال: بل أردتَ أن تُهينني. قال: ألم أستعملك! قال: بل أردت أن تستعبدني. قال: " إِنًمَا جَزَاءُ الًذِينَ يُحَارِبُونَ اللّه وَرَسُولَهُ " الآية؛ قال: ما استوجب واحدةً منهن؛ قال: كل ذلك قد استوجبت بخلافك. وأمر رجلاً من أهل الشأم أن يضرب عُنقه ما كُتب في زوايا مجلس زياد بالكوفة سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني حجر بن عبد الجبار عن عبد الملك بن عُمَيْر قال: كان في مجلس زياد، الذي يجلس فيه للناس بالكوفة، في أربع زوياه كتاب بقلم جليل: " الوالي شديد في غير عنف، لين في غير ضعف؛ الأعْطِية لإبًانِها، والأرزاقُ لأوقاتها؛ البُعُوث لا تجَمَر. المحسن يُجْزَى بإحسانه، والمسيء يُؤْخذ على يديه " كلما رفع رأسه إلى زاوية قرأ ما فيها.
بين الحجاج وأبو الجهم بن كنانة قال سليمان: وحدثنا أبو سفيان الحميري قال: أبْلَى أبو جَهْم بن كِنَانة يوم الراوية، فقال له الحجاج: من أنت؟ قال: أنا أبو جهم بن كنانة. قال له الحجاج: قد زدناك في اسمك ألفاً لاماً فأنت أبو الجهم، وزدنا في عطائك ألفاً.
بين معاوية وشدّاد بن أوس في المفاضلة بين علي ومعاوية العباس بن بَكار عن عُبَيد الله بن عمر الغَسّاني عن الشعبيّ قال: قال مُعاوية لشَدّاد بن أوس: يا شدّاد، أنا أفضل أم علي؟ وأينا أحبُّ إليك؟ فقال: علي أقدمُ هِجْرةً، وأكثرُ مع رسول الله إلى الخير سابقةً، وأشجعُ منك قلباً، وأسلمُ منك نَفْساًة وأما الحبّ فقد مضى عليّ، فأنت اليوم عند الناس أرجى منه.
قول الأحنف لمعاوية في يزيد قال الأحنفُ لمعاوية في كلام: أنت أعلمُنا بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وَعلانيَته، فلا تلقمه الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
بين جامع المحاربيّ والحجاج
خطب الحجّاجُ فشكا سوءَ طاعة أهل العراق؛ فقال جامع المحاربيّ: أمَا إنهم لو أحبُوك أطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ولا لذات نفسك، فدع ما يباعدهم منك إلى ما يقرِّبهم إليك، والتمس العافيةَ فيمن عونك تُعْطَها ممن فوقك، وليكن إيقاعُك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدِك. فقال الحجاج: واللّه ما أراني أردّ بني اللًكِيعة إلى طاعتي إلا بالسيف. فقال: أيها الأمير، إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخِيار. قال الحجاج: الخِيَار يومئذ لله، قال: أجل! ولكنك لا تدري لمن يجعله الله. فقال: يا هَنَاهُ، إنك من مُحارب! فقال جامع:
وللحرب سميناً وكنا مُحارباً ... إذا ما القَنَا أمسى من الطعن أحمرا
فقال الحجاج: والله لقد هَمَمتُ أن أخلع لسانك فأضربَ به وجهك. فقال له: يا حجاج إن صَدَقْناك أغضبناك، وإن كَذَبناك أغضبنا الله، فَغَضبُ الأمير أهونُ علينا من غضب الله.
بين شيخ من قضاعة وعجوز ترشده الطريق قال الأصمعي أخبرنا شيخٍ من قضَاعة، قال: ضَلَلْنا مرةً الطريقَ فاسترشدنا عجوز فقالت: استبطِن الواديَ وكن سيلا حتى تبلُغَ.
كتاب معاوية إلى قيس بن سعد وجواب قيس ابن الكلبي قال: كتب معاوية إلى قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت يهودي، إن ظَفِرَ أحبُّ الفريقين إليك عَزَلك واستبدل بك، وإن ظفر أبغضُهما إليك قتلك وزرَ بك، وقد كان أبوك وَتَرَ قوسَه ورمى غَرَضَه، فأكثر الحَز وأخطأ المَفْصِل، فخذلك قومُه، وأعردَ يومُه، ثم مات طريداً بحَوْران؛ والسلام. فكتب إليه قيس بن سعد: أما بعد، فإنما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً وخِرِجت منه طوعاً، لم يقمُ إيمانك ولم يحدُث نِفاقك، وقد كان أبي وَتَر قوسه ورمى غرضه، وشَغب عليه من لم يبلُغ كعبه ولم يشُق غُباره، ونحن أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداءُ الدين الني خرجت إليه؟ والسلام.
بين الأعمش وخالد بن صفوان قال يحيى بن سَعِيد الأموي: سمعت الأعمش يقول لخالد بن صَفْوان: شَعَرت أن منزلك لا يُعرف إلا بي حتى يقال عند منزل الأعمش؛ فقال خالد: صدقتَ، مثل حمام عنترة، ويقال وردان وبيطار " حيان " .
بين الربيع وشريك بين يدي المهديّ قال الربيع لِشَريك بين يدي المهديّ: بلغني أنك خُنت أمير المؤمنين. فقال شَرِيك: لو فعلنا ذلك لأتاك نصيبُك.
بين عربي ورجل من الموالي قال رجل من العرب: أرِيتُ البارحةَ في منامي كأني دخلت الجنةَ فرأيت جميع ما فيها من القصور، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: للعرب. فقال رجل عنده من الموالي: أصعِدتَ الغرف؟ قال: لا. قال: فتلك لنا.
بين قتيبة بن مسلم وعبيد اللّه بن زياد بن ظبيان وكتب قُتَيبة بن مسلم إلى عُبيد الله بن زياد بن ظَبْيان: أما بعد، فإن عشمشم أعشى الشجر. فكتب إليه ابن ظَبْيَان: من ذلك الشجر كان بَرْبَطُ أبيك. يعني مسلم بن عمرو، وكان مغنيِّاً ليزيد بن معاوية.
بين بحر بن الأحنف وجارية أبيه قال بَحْر بن الأحنف لجارية أبيه زَبْرَاء: يا فاعلة. فقالت: لو كنتُ كما تقول أتيتُ أباك بمثلك.
مثله بين رجل وابنه وقال رجلاً لابنه: يابن الفاعلة. فقال: واللهّ لئن كنتَ صدقتَ ما فعلَتْ حتى وجدَتْك فحلَ سوء.
بين ابنة الخس ورجل أراد امتحان عقلها أتت ابنةُ الخُسّ عُكَاظ، فأتاها رجل يَمتِحن عقلَها ويمتحِن جوابَها، فقال لها: إني أريد أن أسألكِ. قالت: هاتِ. قال: كاد، فقالت: المنتَعِل يكون راكباً. قال: كاد؛ قالت: الفقر يكون كُفْراً. قال: كاد؛ قالت: العَرُوس تكون مَلِكاً. قال: كاد؛ قالت: النَعَامة تكون طائراً. قال: كاد؛ قالت: السرار يكون سَحَراً. ثم قالت للرجل: أسألك. قال: هاتي. قالت: عجبت؛ قال: للسباخ لا ينبت كلؤُها ولا يجف ثراها. قالت: عجبت؛ قال: للحجارة لا يكبَرُ صغيرُها ولا يَهْرَم كبيرُها. قالت: عجبت؛ قال: لشُفْرِك لا يُحْرَك قعرُه ولا يُملأ حفرُه.
المدائي قال: كان عُرَام بن شُتَيْر عند عمر بن هُبَيْرة، فألقى إليه ابن هبيرة خَاتَمه وفصه أخضر، فعقد عرام في الخاتم سَيْراً. أراد عمر قول الشاعر:
لقد زَرِقَتْ عيناك يابن مُكَعْبَرٍ ... كَما كُل ضَبي من القوم أزرقُ
وأراد عُرَام:
لا تأمنن فَزَارِياً خلوتَ به ... على قَلُوصك واكْتُبها بأسيارِ
قال جرير للأخطل: أزقتُ نومَك، واستهضمت قومَك؛ قال الأخطل: قد أزقت نومي، ولو نِمتُ كان خيراً لك.
لعمرو بن العاص يخطب بصفين أراد معاويةُ أن يخطُب بصِفَينَ فقال له عمرو بن العاص: دعني أتكلم، فإن أتيتُ على ما تريد وإلا كنتَ من وراء ذلك. فأذِنَ له؛ فتكلم بكلمات، قال: قلموا المُسْتَلْئِمَة وأخرو الحُسر، كونوا مِقص الشارب، أعيرونا أيدِيَكم ساعةً، قد بلغ الحق مَفْصِلَه، إنما هو ظالم أو مظلوم.
بين عبد الملك بن مروان وأعرابي يصف الخمر حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن التميمي عن عبد الله بن أحمد بن الوَضَّاح، قال: دخل أعرابي على عبد الملك بن مروان؟ فقال له: يا أعرابي صف الخمر فقال :
شمول إذا شُجت وفي الكأس مُزة ... لها في عِظَام الشاربين دَبيبُ
تُريك القَذَى من دونها وهي دونه ... لوجه أخيها في الإناء قُطُوبُ
فقال: ويحك يا أعرابي! لقد اتهمك عندي حسنُ صفتك لها. قال: يا أمير المؤمنين واتهمك عندي معرفتُك بحسن صفتي لها.
مقطّعات ألفاظ تقع في الكِتاب والكلام
لو أخطأتُ سبيلَ إرشادك، لما أخطأتُ سبيلَ حسن النية فيما بين وبينك.
لو خطر ذلك ببالي من فعلك، ما عرّضتُ سترَ الإخاء للهَتْك بيني وبينك.
قد أحسنت في كذا قديماً. وفعلُك كذا إحدى الحُسْنَيَيْن بل ألطفهما موقعاً.
أنت رجكٌ لسانُك فوق عقلك وذكاؤك فوق حزمك. فقَدِّم على نفسك مَنْ قدمك على اللّه يعلم أنك ما خطرتَ ببالي في وقتٍ من الأوقات إلا مَثَّلَ الذكرُ منك لي محاسنَ تزيدني صبابةً إليك وضَنًّا بك واغتباطا بإخائك.
لعل الأيام أن تُسهِّل لأخيك السبيل إلى ما تقتضيه نفسُك من بِرك ومعَاوضتك ببعض ما سَلَف لك.
ما هذا الغباء العجيب الذي إلى جانبه فِطنةٌ لطيفة.
حكمُ الفَلَتات خِلافُ حكم الإصرار.
من أخطأ في ظاهر دنياه وفيما يُؤخذ بالعين، كان حَرِياً أن يخطئ في باطن دينه وفيما يؤخذ بالعقل.
ومن أوّل ما أحب أن أوثَرِك به وأقضِيَ فيه واجبَ حقك، تنبيهُكَ على عظيم ما لله عندك، وحَثُّك على الازدياد مما يَزيدك.
من كان بمثل موضعك فجُمِعَ له حمدُ إخوانه ورضا مُعامِليه والاستقصاءُ مع ذلك لمن استكفاه، فقد عَظُمت النعمةُ عليه، ولا أعلم بما أسمع فيك إلا أنك كذلك والحمد للّه.
ما أغنى الفقيرَ عن الحمد، وأحوجَه إلى ما يجد به طعمَ الحمد! قد حَسدك من لا ينام دون الشَفاء، وطلبك من لا يُقصِّر دون الظفر، فاشدُد حَيَازِيمَك وكن على حَذر.
أنت تَتَجَنى على مالك لتُتلفه بأسباب العِلَل، كما يدفع عنِ ماله البخيلُ بوجوه الاعتلال.
أنت طالبُ مَغْنَم، وأنا دافعِ مَغْرَم، فإن كنتَ شاكراً لما مَضى، فاعذرْ فيما بَقي.
مكرُك حاضر، ووفاؤك متأخر.
أنا راضٍ بعفوك، باذل لمجهودي.
نوائب الأيام رمَتْ به ناحيتك؛ وإذا رأيتَه أنبأك ظاهرُه عن باطنه ودعاك إلى محبّته قبوله، وهو في الأدب بحيث المستغنى عن النسب.
قد آن أن تَدَع ما تسمع لما تعلم وإلَّا يكون غيرُك فيما يُبلغك أوثَقَ من نفسك فيما تعرِفه.
هذا فلان قد أتاك على رِقَةٍ من حاله وبُعْدٍ من شُقَّته، فَنَشدْتُك الله أن تقدم شيئاً على تصديق ظنّه وسد خَلّته وبَلِّ ما يَبست هذه النكبةُ من أديمه، فإنه غَذِي نعمةٍ وخدينُ مُروعة.
أنا أسأل اللهّ أن يُنجز لي ما لم تزل الفِرَاسة تَعِدُنِيه فيك.
الحِّريةُ نسبٌ.
فهمت ما اعتذرتَ به في تأخرك، وغضضتَ به منى طَرْفاً طامحاً إليك ونفساً تَوّاقةً إلى قُرْبك.
وَصَلَ كتابك فكان موقعه مَوْقِعَ الروح من البَدَن. فإن أمير المؤمنين يحب ألا يَدَع سبيلاً من سُبُل البر وإن عَفَا ودَثَر إلا أناره وأوضح مَحَجًته، ولا خَلَّة من خلال الخير لا أولَ لها: اهتبل الفرصة في إنشائها، واختيار مَكرمة ابتدائها، لتجِبَ له مساهمةُ الفارِط في أجره ويكونَ أسوةَ الغابر في ثوابه.
لولا وجوبُ تقديم العذر لصاحب السلطان، في الذهول عن مواصلة من يجب عليه مواصلته، بما يستولي عليه من الشغل بعمله، إذاً لكَثُرَ العَتْبُ.
إنك لكل حسن أبليته، ومعروف أسديتَه، وجميل أتيتَه، وبَلَاءٍ كان لك ربيتَه، أهلٌ في الدين والحَسَب القديم.
لك - أعزّك اللهّ - عندي أيادٍ تشفَعُ لي إلى محبّتك، ومعروف يُوجب عليك الرب والإتمام.
أفعال الأمير مختارةٌ كالأماني، متصلة عندنا كالأيام؛ ونحن نختار الشكر لكريم فعله ونُواصل الدعاء والذكر مواصلةَ بِره.
أبدأ بذكر يحك التي أجارتني على صرف الزمان، وَوَقَتْنِي نوائب الأيام، وثمرت لي بقية النعمة وصانت وجهي عن استعباد مِنَن الرجال، وبَسَطتْ لي الأملَ في بلوغ ما ناله بك من رفعت خسيستَهَ ونوّهتَ بذكره، وأعانتني على إتباع مذهب الماضين من سلفي في الوفاء لكم، حماية النعمة عليهم بكم عن أيدي غيركم، حتى خَلَصتْ لهم منكم فعَزُوا، ولم يشغَلوا شكرَهم بغيركم حين شكروا، ولم يحتملوا صنيعة لسواكم لما اعتدوا، ولم تتشعبهم الدنيا عنكم اضطُروا.
إنّ اللّه أحلَّك منا أهلَ البيت محلاً نراك به عِوَضاً من الغائب، وخَلَفاً من الهالك، حقك مخصوصاً بضرائنا إذ كنت ولي سَرّائنا، وكنا لك الجوارح نألَمُ لكل ما ألِمَ منها.
نحن نعوذ بالله من سَخَطك، ونستجير به من غَضَبك، ونسألك النظر فيما كتبنا به صادقين، كما سمِعتَ قَصَص الكاذبين، فإنا على سلامةٍ مما رَقًوه.
كتبي - أعزك الله - تأتيك، في الوقت بعد الوقت، على حسب الدواعي، وإن كان حقّك ومني ألا تُغبك، لولا ما أتذكر من زيادتها في شُغلك.
أنت الحامل لكل إخوانه، الناهضُ بأعباء أهل مودته، الصابرُ على ما ناب من حقوقهم.
كنتُ أمس - أكرمك الله - عليلاً، وركبتُ اليوم على ظَلَع ظاهر ورِقَة شديمة، فلما صرفتُ أمرتُ بإغلاق الباب للمتودع، ووافق ذلك من سوء نيتك وإرصادِك صديقَك بما يستدعي عَتْبَك عليه وعتبَه عليك ما وافق.
لا أزال - أبقاك الله - أسأل الكِتابَ إليك في الحاجة، فأتوقف أحياناً توقف المبقي عليك من المؤونة، وأكتب أحياناً كتاب الراجع منك إلى الثقة والمعتمد منك على المقَة، لا أعدمَنا الله دوام عزك، ولا سَلَب الدنيا بَهْجتَها بك، ولا أخلانا من الصّنع لله، على يدك وفي كنفك، فإنا لا نعرِف إلا نعمتك، ولا نجد للحياة طعماً ونَدى إلا في ظِلّك.
إن كان هذا مما ترضاه لي، فلست ألتمس أكثر منه، وقوفاً بنفسي عند الحظ الذي رَضِيتَه أنا واللّه أراك في رتبة المنعم إجلالاً، وبمحل الشقيق من القلب محلةً وإخلاصاً.
أما شكري فمقصورٌ على سالف أياديك، وبه قصور عنه فكيف يتسع لما جَددته!.
للّه عندك نِعَم جِسام تتقاضاك الشكر. وَقَاك الله شرّ نفسك، فإنها أقرب أعدائك إليك.
ولم أزل وجِلاً من حادثة كذا عليك، إذ كان ما ينالك - لا أنالك الله سوءاً - متّصلاً بي ومُدخِلاً الضرر علي في رُكنٍ منك أعتمد عليه، وكَنَفٍ لك اشْتَنْرِي به.
وَصَلَ إليّ كتابٌ منك، فما رأيت كتاباً أسهلَ فنوناً، ولا أملس متوناً، ولا أكثر عيوناً، ولا أحسن مقاطعَ ومطالع، ولا أشد على كل مَفْصل حزَا منه؛ أنجزت فيه عدةَ الرأي وبشرى الفِراسة، وعاد الظن بك يقيناً، والأملُ فيك مبلوغاً.
لا غيّبك الله عن مواطن العز والصنع، وأشهمك إياها بعلو يدك، وهُبوب رِيحك، واستفادة جميع أهلها بزمامِ طاعتك.
قد رميت غرّضَ الحق بسهم الباطل وحللت عِقال الشر.
كنتُ سالماً إن سَلِمتُ من عَتْبك.
أنا أتوسل إليك بحسن ظني بك، وأسألك بحق صبري على ظُلمك لما أسعفتَ بما سألتُك.
ليس ينبغي لك أن تستبطئ فهمي وقد أسأتَ إفهامي.
مَنْ أبعدُ من البُرْءِ من مريضٍ لا يُؤتَى في دائه إلا من جهة دوائه، ولا في علته إلا من قبل حِمْيتَه!.
لستُ في حال يقيم عليها حر أو يرضَى بها كريم، وليس يرضَى بهذا الأمر إلا من ينبغي لك أن ترضَى به.
قد شِخْتُ في ذَرَاك وهَرِمت في ظلّك، فإمّا رددتَ علي شبابي وأعدتَ إلي قوتي، وإما دفعتَ إليّ ما ينوبُ عن الشباب ويجبُرُ الضعف، ولا بدّ من أحدهما، فاختَرْ لنفسك واخرُج إلينا من هذا الدَين؛ فقد أمسكنا عن التقاضي ما أمكن، وصَبَرنا على المواعيد ما صَلَح؛ ودَعْنا من الحَوَالة فإنّ الصنيعةَ لا تتمّ بالحَوالة؛ وإن جاز أن تقيم لنا زعيماً بالنعمة، جاز أن نقيم لك زعيما بالشكر، وإن جاز أن نُؤمّلك ويحقِّق آمالَنا غيرك، جاز أن نشكر غير المُنعم ونأمُل غير المصطنع.
ما أستعظم أن تَسبِقَ إلى حَسَنٍ بل أستعظم أن تُسبَقَ إليك وتُغلَبَ عليه.
لئن كنتَ جاوزتَ بي قَدْري عندك لَمَا بلغتُ بك أملي فيك.
لا يَقبضك عن الأنْس بي تقصيرُك في البِرّ.
بلغتني عِلّتك فنالني من ألمها، وغالني مما مسّك فيها حسبُ حقّك وما يخُصّني من كل حالٍ تصرّفت بك.
أعتذر إليك من تأخر كتبي عنك بترامي النُّقلة وتقاذُف الغُرْبة وعدِم الطمأنينة، فإني منذ شارقتُك كما قال القائل:
وكنتً قذَاة الأرض والأرض عينُها ... تُلَجْلج شخصي جانباً بعد جانبِ
إني - أعزَك الله - على تشوّقك متزيد، فما أحاشِي بك أحداً، ولا أقف لك على حسنةٍ بوماً إلا أنسَتْنِيها لك فَضْلةُ غده.
الحمد للّه الني جعل الأمير معقودَ النيّةِ بطاعته، مطويَ القلب على مُناصحته، مشحوذَ السيفِ علىِ عدوّه؛ ثم وَهَب له الظفرَ، ودوّخ له البلاد، وشرّد به العدو، وخصّه بشَرَف الفتوح العِظام شرقاَ وغرباً، وبرّاً وبحراً.
إلى الله أشكو شدّة الوحشة لغَيْبتك، وفَرْطَ الجَزَع من فِراقك، وظلمةَ الأيام بعدك؛ وأقول كما قال حبيب بن أوْس:
بَينَ البَيْنُ فقدَها قلّما تع ... رفُ فقداً للشمس حتَى تَغِيَبا
ورد كتابُك، فيا لَهُ وارداً بالرِّيَ على ذي ظَمَأ! ما أنقعه للغليل، وأعدَلَ شهادتَه لك بكرم العقد، وصدق الود وحُسن المغيب، ورعاية حق التحَرُّم، وبُعدِ الشيمة من شِيَم أهل الزمان إلا من عَصم اللّه، وقليلٌ ما هم، ولله أبواك لقد أوجداك.
قد أجل الله خَطَرَك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نقنَعَ بما فعلتَ، ونرضى بما أتيت وَصَلْتَ أو قَطَعت، إذ وَثقنا بحُسن نيّتك ونَقَاء طونتك، وألزِمنا أن نأخذ أنفسَنا لك بما لا نُحمِّلك مثله، ولا نلتمس منك مقابلة به.
ما أخْر كتبي عنك إلا ما أنا عليه من إيثار التخفيف بقطع الكتب، إلا عند حقٍّ يقع فأقضيه، أو نعمةٍ تُحدث فأهنيه بها، والقصدِ للزيادة في البِرّ بالزيادة في الغيب، واستدعاءِ دوام الوِداد بانتهاز فُرَص الوصل.
كتاب المؤلف إلى محمد بن عبد اللّه بن طاهر وكتبتُ إلى محمد بن عبد الله بن طاهر: أمّا شكري للأمير على سالف معروفه فقد غَارَ وأنجد. وأمّا ابتهالي إلى الله في جزائه عني بالحُسْنَى فإخلاص النيّة عند مَظَانّ القَبول. وأمّا أملي فأحياه على بُعد العهد بلاؤه عندي، كان ما تقدّم منه شافعاً في المزيد، وفسحةُ وعدِه إياي عند مفارقتي له، إذ كان مؤذناً بالإنجاز. وأمّا زَلَلي في التأخُّر عما أوجب الله عليّ له، فمقرونٌ بالعقوبة فيما حُرِمته من عز رِياسته، ونَباهة صُحبته، وعلو الدرجة به، وإن كنتُ سائرَ أيام انقطاعي عنه مُعتلقاً بسبب لا خيارَ معه. مكاتبتك - أعزّك اللّه - وأنا مُجاورُك ببلدٍ عون السعي إليك مُجِلاًّ لقدرك مما أكْبِر. لاقِيك بكتابي هذا فلان، وله عليّ حقّان: حقٌّ عمّ المسلمين فلزمني بلزومه لهم، وحق خصّني بالحُرْمة والعِشرا فرأيَكَ في كذا إن سَهُل السبيلُ إلى ذلك ورَحُب، وإن يَعُقْ عائق فلستَ على جميل رأيٍ عندي بمُتَّهَم.
للمتفضِّل أن يُخصّ بفضله من يشاء؛ والله الحمدُ ثم له فيما أعطى، ولا حجّةَ عليه فيما منع مُستعفِي السلطانِ أحدُ ثلاثةٍ: رجلٌ آثر اللَهّ وما عنده، وأسأل اللّه توفيقَه؛ ورجلٌ عَجَز عن عمله فخاف بعجزه عواقبَ تقصيره، وأستعينُ اللّه؛ ورجلٌ سَمَتْ به نفسه عن قليل هو فيه إلى كثير أمّله. وأعوذُ بالله من أن أدَنَس نعمةَ اللّه بك عليّ وعلى سَلَفي قبلي بالتصدَي لمن لا يُشبه دهرُه يومَك، ولا أكثرُ جهده في المعروف أقل عَفْوِك.
كن كيف شئتَ، فإنِّي واحدُ أمري خالصة سَرِيرتي، أرى ببقائك بقاء سُروري، وبتمام النعمة عليك تمامها عندي، فإنه ليس من نعمة يُجددها الله لأمير المؤمنين في نفسه خاصّةً اتصلتْ برعيته عامّة، وشَمِلْت المسلمين كافّة، وعَظُم بلاءُ اللّه عندهم فيها، ووجب عليهم شكره عليها؛ لأن الله جعل بنعمته تمامَ نعمتهم، وبسلامته هدوءَهم واستقامتَهم، وبتدبيره صلاح أمورهم وأمنهم، وبذَبِّه عن دينهم حفظ حريمهم، وبحياطته حَقْن عمائهم وأمْنَ سُبُلهم وبِرِعْيَته اتساقَهم وانتظامَهم؛ فأطال الله بقاء أمير المؤمنين مُؤَيداً بالنصر، مُعَزاً بالتمكين، موصى الطلب بالظفر، ومدّةِ البقاء بالنعيم المقيم.
فهمتُ كتابك ولم تَعْدُ في وعدك ووعيدك سبيلَ الراغبِ في رَبّ عارفته، المحامي على سالف بَلَائه، المُؤثْرِ لاستتمام صَنيعته. وإني لأرجو أن أكون على غاية ما عليه ذُو منِيةٍ حسنةٍ شكر مُصطنعه، وعناية بأداء ما يلزَمُه لولي نعمته، ومراقبةٍ لرئيسه في سرٌ أمره وعَلَانِيته، وإيثار للقليل من جميل رأيه على كثيرِ المنافع مع سَخَطه. وليس مذهبي فيما أشرحه من العذر وأطيل بذكره الكتب، مذهبَ من يموه بالاحتجاج ويَحتالُ في الاعتذار، ومَنْ تُطْعمه نفسه في سلامة النعمة مع فساد النيِّة، وفي محمود العاقبة مع شَرَهِ النفس، وفي زيادة الحال مع التفريطِ في العمل. ولو كنتُ ممن سوّلتْ له نفسه ذلك سائرَ دهره، لقد وجب إلى أن يَضطرّني إلى النزوع عنه تأديبُك وتقويمك، وإني لمجتهدٌ أن يكون أثرُ فعلي هي المخبر عني عون قولي، وأن يكون ما أمُتّ به إليك ظاهرَ كِفايتي دون ذِمَامي.
لولا ما أنا بسبيله من العمل، وما في الإخلال به من تعريضه للانتشار ودخول الخَلَل، وعلمي بأن طاعةَ السلطان مقرونة بطاعة الأمير، وأنه لا فرقَ عنده بين الجاني على السلطان وعليه، لكنتُ الجوابَ راجلاً معظماً لأمره، مُكبِراً لسُخْطه؛ وإن كان الله قد جعل عند الأمير من إيثار الحق والعمل به، وتقديم الرويّة قبل الإيقاع، والاستئناء بمن وَضَح ذنبه وظهر جُرمه عون من وقعتْ الشبهةُ في أمره، ما أمّنني بادرةَ غَضَبه ونازلَ سَطْوته.
لم أكن أحسِبَني أحًلّ عندك محلَّ مَنْ جَهِل حظًه، وعَدم تمييزَه، وغَبِي عَمّا عليه وعمّا له، إذ توهمتَ عليّ أنّي أبيع خطيراً من رضاك، ونفيساً من رَأيك، وشرفاً باقياً على الأيام بطاعتك، وعُدّةً للنوائب أستظهر بها من نصرتك، بالثمن البخس الحقير من كذا، أو أن أستبدلَ بما أنا ذو فاقة إليه من عز كَنَفك ومنيع فَرَاك، ما قد وهب الله الغنيَ عنده بحمده.
كان ورودك وشخوصُك في وقتين انطويا عني، وكان مُقامك في حالِ شغلٍ منك ومني، ولذلك فقدْتَني في القاضِين لحقك والمثابرين على لقائك.
وَرَدَ كتابك مضمَناً من بِرّك وتَطَوُلك ما حسّن شكري، وأثقل ظهري، وأرْتج عن مضاهاتك بمثله قولي؛ فذكرت به - إذ تحيّرت عون تأمُّله، وضَعُفتُ عن تحمُّله، وعَجَزت عن الشكر عليه عند تمحّله - قولَ القائل:
أنت امرؤ أوليتَني نِعماً ... أوهَتْ قُوَى شكري فقد ضعُفا
لا تُحدِثَنّ إلي عارفةً ... حتّى أقومَ بشكر ما سَلَفا
ألفاظ تقع في كتب الأمانكتاب أمان هذا كتاب من فلان لفلان: إني أمنتُك على عَمك ومالك ومَوَاليك وأتباعك، لك ولهم ذمة الله المُوفَى بها، وعهده المسكونُ إليه، ثم ذمهُ الأنبياء الذين أرسلهم برسالته وأكرمهم بوحيه، ثم ذِمَمُ النجباء من خلائفه: بحقن عمك ومَنْ دخل اسمُه معك في هذا الكتاب، وسلامةِ مالك وأموالهم وكذا وكذاة فاقبلوا معروضه، واسكنوا إلى أمانه، وتعلّقوا بحبل ذمته، فإنه ليس بعد ما وَكد من ذلك مُتَوَثَق لداخِلٍ في أمان إلا وقد اعتلقتم بأوثق عُرَاه، ولجأتم إلى أحرز كهوف والسلام.
وفي كتاب آخر: هذا كتاب من فلان: إن أمير المؤمنين، لِمَا جعل اللّه عليه نيّته في إقالة العاثر واستصلاح الفاسد، رأى أن يتلافاك بعفوه، ويتغمد زَلّاتك برُحْمه، ويبسُط لك الأمانَ على ما خرجتَ إليه من الخلاف والمعصية: على دمك وشعرك وبَشَرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَارك؛ فإن أنت أتيتَ وسَمِعت وأطعتَ، فأنت آمن بأمان اللّه على ما أمّنك عليه أمير المؤمنين، ولك بذلك ذمة الله وذمّة رسوله، إلا ما كان من حق قائم بعينه لمسلم أو معاهد، والله بذلك راع وكفيل، وكفى بالله وكيلا.
وفي كتاب آخر: إن فلاناً استوهب أميرَ المؤمنين ذنبَك، وسأله أن يَقبل توبتَك وإنابتك، ويؤمِّنك على دمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك ومالك وعَقَاراتك، على أن تسمع وتًطيع وتُشايع، وتُوالي أولياءه وتُعادي أعداءه؛ فأجابه أمير المؤمنين إلى ذلك، لرأيه في العفو والصفح وما يحتسب في ذلك من الثواب والأجر، فأنت آمن بأمان الله على كذا لا تُؤخذ بشيء مما سلق من أحداثك، ولا تتبع فيه بمكروه ما أقمتَ على الوفاء ولم تُحدِث حَدَثاً تفسَخ به أمانَك وتجعل به سبيلاً على نفسك والله لك بذلك راع كفيل؛ وكفى به شهيداً.
ألفاظ تقع في كتب العهود
أمَرَه بتقوى الله فيما أسْندَ إليه وجعد بسبيله، وأن يُؤْثِرَ الله وطاعتَه آخذاً ومُعطياً، وأعلمه أن اللّه سائِلُه عمّا عَمِل به وجَازِيه عليه، وأنّه خارجٌ من دُنياه خُروجَه من بطن أمه إما مَغْبوطاً محموداً، وإمّا مذموماً مسلوباً. فليعتبر بمَنْ كان قبلَه من الوُلاَة الذينَ وَلُوا مثلَ مَا وَلي، أين صار بهم مَرُّ الليل والنهار، وما انقلبوا به من أعمالهمِ إلى قبورهم! ويتَزوَّد لنفسه الزادَ النافعَ الباقيَ " يَوْمِ تَجدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أنَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً " .
وفي فصل أخر: وقد ولّاك أميرُ المؤمنين ما ولاّك من أمور رعيّته، وأشركك فيما أشركك فيه من أمانته، ثِقةً بك، رجاءً لمتابعتك وإيثارك الحق وأهلَه، ورفضِك الباطلَ وأهلَه؛ وعَهِدَ إليك في ذلك بما إن أخذتَ به أعانك الله وسددك، وإن خالفتَه خَذَلك وعاقبك.
وفي الحج: فإنّ أمير المؤمنين قد اختارك من إقامة الحج لوَفْد اللّه وزَوْر بيته، للأمر العظِيم قدرُه، الشريف منزلتُه، فعليك بتقوى الله؛ وإيثار مُراقبتِه، ولزوم الهُدى المحمودِ والطريقةِ المُثْلَى والسِّيرة الجميلة التي تُشْبِه حالَك.
فصل: فإن اللّه نَزه الإسلام عن كل قبيحة، وأكرمه عن كل رذيلة، ورفعه عن كل دنيّة، وشرفه بكل فضيلة، وجعل سيماء أهلِه الوقارَ والسكينةَ.
فصل: وإن أحقّ الناس بالازدياد في طاعته ومناصحته وأداءِ الأمانة في عمله مَنْ عَظُم حق الأمير عليه في الخاصّة بفضل الصنيعة من الأمير عنده، مع حق الله عليه في العامّة بحقَ الولاية.
فصل: وكنتَ سيفاً من سيوف الله، ويكْلاً من أنكاله لأهل الشقاق، وشَجًى لمن ابتغى غيرَ سبيل المؤمنين، قد أحكمتك التجارِبُ وضَرستك الأمور، وفُرِرْتَ عن الذكاء وحَلَبْتَ الدهرَ أشطُرَه.
فصل: أنت ابن الحرّية والمروّة، ومن لا يلحَقه عارُ أبوة ولا بُنُوة.
فصل: قد التمستُ مواجهتك بشكرك ووصفِ ما أجِن لك وأخلص من وفك وأجِلّ من قدرك وأعتدّ من إحسانك فَلَفتني عن ذلك تَعَذُّر الخَلْوة مع انقباضٍ وحشمة.
فصل: قد أغنى الله بكرمك عن ذَرِيعةٍ إليك؛ وما تُنازِعني نفسي إلى استعانةٍ عليك إلا أبى ذلك حسنُ الظنّ بالله فيك، وتأميلُ نُجْح الرغبةِ إليك دون الشفعاء عندك.
فصل: مثلك تقرّب إلى الله بالتواضُع لنعمته، والإغاثة لمستغيثه، والعائدةِ على راجيه بفضله.
فصل: تَباً لمن يأتي رأيك! وقبحاً لعُزُوب عقلك، وأفن تدبيرك! ما أبعدَ مذهبَك في الخطأ، وأسوأ أثَرِك على السلطان، وأقصَرَ باعَك عن النهوض! جزالة تقدك، ومَهَانةٌ تُضْرِعك وزَهْوٌ يعلُوك، ونحْوة يشمخَ لها عِرْنينك. لقد انصرف رأيُ أمير المؤمنين عنك، ودعوتَ له عَتْبَك، وكشفتَ له عن قِنَاع سترك، واجتررتَ إليك سَخْطته وعَطَفْتَ نحوَك مَوْجِدَته، وكنتَ على نصيبك منه والضنّ بمنزلتك عنده أولى تقدُّماً وأقربَ رُشْداً. واللّه الغني الحميد.
أصناف أصحاب السلطان أصحاب السلطان ثلاثة: رجلٌ يجعل الدنيا نُصْبَ عينه، ينصِب فيها للخاصّة مَكَايد ويرفَع عن مصلحة العامّة همّتِه، يُذهله عن التقوى الهوى، وتُنسيه أيامُ القدرة العثرةَ، حتى تنصرِم مدّتُه وتنقضيَ دولتُه، لم يرتهن بدنياه شُكْراً ولا قَدّم بها إلى مَعَاده ذُخراً. ورجلٌ لا يَحْفِل مع صَلاح الخاصّة ما دخل من الخلل في أمور العامّة، ولا مع وفور حظه ما أدخل النقص في حظ رعيته. ورجل حاول في ولايته إرضاءَ من وَلي له وعليه، وأعانته النيّة وخَذَلته الكفاية. وقد جمع الله لك الثقة والرضا ممن فوقك، والانقيادَ والمحبة ممن عونك، وأعاد إلى الناس بك عهدَ السلف الماضي وعَمَر بك آثارهم، حتى كأنهم بك أحياء لم تحترمهم منية وجميعٌ لم تنصدِعْ بينهم فُرْقة، فليَهْنِئْك أن مَنْ تقدمك من أهل الفضل في السيرة غيرُ متقدم لك، ومن معك مُقَصِّر عنك، ومن دونك مُقتفٍ لأثرك. فلا زالت الأيام لك، ولا زالت النعم عنك، ولا انتقلت عُرَى الأمور وأزِمّتها عن يدك.
فصل: أبَى طبعُ الزمان أن يسمَحَ لنا بك، كما أبى ذلك في مثلك، فلم يزل حض اعْتَرَض بمكروهه دونك، وكم من نعمةٍ ذهلتْ عنها النفس حين أدبرت بخيرك، فإنّ تَعَلُق القلب بك على قَدْرك في مواهب الله وقدرِها عندك.
فصل: ولم تأت في جميع ما عدّدتُ من أياديك شيئاً، وإن كان متناهيَاً إلى الغاية، مختاراً كالأمنية، متجاوزاً للاستحقاق، إلا وأنت فوقه والمأمولُ للزيادة فيه.
وفي كتاب: إن كان ما خبّرني به فلان عن هَزْلَ فقد أحوجنا هزلُك إلى الجهد، ووَقَفَنا موقف المعتذرين من غير ذنب، وإن كان عن حقيقةٍ فقد ظهر لنا من ظُلمك وتحريفك ما دلّ على زُهْدك منا في مثل الذي رَغِبنا منك فيه.
فصل في كتاب العيد: كتابي إلى الأمير يوم كذا بعد خروجي فيه ومَنْ قِبَلي من المسلمين إلى المًصَلَى وقضائنا ما أوجب الله علينا من صلاة العيد، ونحن بخير حال اجتمع عليها فريق من المسلمين في عيد من أعيادهم ومَجْمعٍ من مجامعهم؛ وكان مَخْرَجُنا إلى المصلَّى أفضلَ مَخْرجٍ، ومُنصَرَفُنا عنه أفضل مُنصرَف، بما وهب الله من سكون العامة وهدوئها والفتها، واحتشاد الحند والشاكريّة بأحسنِ الزِّيّ والهيئة، وأظهرِ السلاح والعُدّة. فالحمد لله على كذا، وهَنَأ اللّه الأمير كذا.
فصل: القلب قرينُ وَلَهٍ حليفُ حَيْرة، أنظُر بعينٍ كليلةٍ وأحضُر بقلب غائب: إلى ورود كتابك بما تعتزمه. فأما النوم فلو مَثَل لعيني لنفَرَتْ إلفاً للسُّهاد.
فصل في كتاب بَيْعة: فبايِعُوا لأمير المؤمنين ولفلانٍ بعدَه على اسم الله وبركته وصُنعِ اللهّ وحُسن قضائه لدِينه وعِباده، بيعة منبسِطةً لها أكفُّكم، منشرحةً بها صدورُكم، سليمةَ فيها أهواؤكم، شاكرين لله على ما وفّق له أمير المؤمنين.
للأحنف يخاطب معاوية وقد عدّد عليه ذنوباً عدّد معاويةُ على الأحنف ذنوباً؛ فقال الأحنف: يا أمير المؤمنين! لِمَ ترُدُّ الأمورَ على أعقابها! أما والله إنّ القلوبَ التي أبغضناك بها لبين جوانحنا، وإن السيوفَ التي قاتلناك بها لعَلَى عَوَاتقنا، ولئن مددْتَ لنا بشبر من غدرٍ، لنمدُّنّ إليك باعاً من أختر ولئن شئت لتستسقينَ كَدرَ قلوبنا بصفو حلمك. قال معاوية: فإني أفعل.
بين سوار ورجل تقدم رجل إلى سوار، وكان سوّار له مُبغضاً، فقال سوار في بعض ما يكلمه به: ابن الإخناء! فقال: ذاك خَصْمي. فقال له الخصمِ: أعدني عليه. فقال له الرجل: خذ له بحقه وخذ لي بحقي. ففهم، وسأله أن يغفر له ما فرَط منه إليه، ففعل.
بين معاوية وخُرَيم بن فاتك الأوزاعي قال: دخل خُرَيْم بن فاتك على معاوية، فنظر إلى ساقَيْه فقال: أفي ساقين، لو كانتا على جاريةٍ عاتق فقال له خرَيم: في مثل عَجِيزتك يا أمير المؤمنين.
الخطبخُطَب النبي صلى الله عليه وسلم
تتْبَعتُ خُطَبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدتُ أوائلَ أكثرها: " الحمد نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللّه فلا مُضِل له ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له " . ووجدت في بعضها: " أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحدثُّكم على طاعته " .
ووجدت في خطبة له بعد حمد اللّه والثناء عليه: " أيها الناس إن لكم مَعَالِمَ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نِهايةً فانتهوُا إلي نهايتكم؛ إن المؤمنَ بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانع به، وبين أجل قد بَقِي لا يدري ما الله قاضٍ فيه؛ فليأخذِ العبدُ لنفسه من نفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت؛ والذي نفس محمد بيده ما بعد الموت مُسْتَعْتب ولا بعد الدنيا دار إلا الجنة أو النار " .
ووجدتُ كلّ خطبة مفتاحها الحمدً إلا خطبة العيد فإن مفتاحها التكبير. وتكبير الإمام في أن يَنزِل عن المِنْبر أربع عشرة تكبيرة.
خطبة لأبي بكر الصدّيق رضي اللّه عنه
حدثني أبو سَهْل قال: حدثني الطًنَافِسي عن محمد بن فُضَيلْ قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق عن عبد الله القرشي عن عبد الله بن عُكَيْم قال: خطبنا أبو بكر رضي الله عنه فقال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحدَه وأن تُثنوا عليه بما هو أهلُه، وتَخْلِطوا الرغبةَ بالرهبة، والإلحافَ بالمسألة؛ فإن اللّه أثنى على زكريا وأهله بيته فقال: " إنهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً " . ثم اعلموا أن الله قد ارتهن بحقِّه أنفسَكم، وأخَذَ على ذلك مواثيقَكم، واشترى منكم القليلَ الفانيَ بالكثير الباقي. هذا كتابُ الله فيكم لا تَفْنَى عجائبُه ولا يُطفأ نورُه، فصدِّقوه وانتصِحُوه واستضِيئوا منه ليوم الظُّلمة. ثم اعلموا أنكم تغدون وتروحون في أجلٍ قد غُيِّبَ علمُه عنكم، فإن استطعتم ألا ينقضَ إلا وأنتم في عملٍ لله فافعلوا، ولن تستطيعوا ذلك إلا باللّه. فسابقوا في مَهَل؛ فإن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم ونسُوا أنفسهم، فأنهاكم أن تكونوا أمثالَهم، والوَحَا الوَحَا، والنجاءَ النجاءَ! فإن من ورائكم طالباً حثيثاً مَرّه، سريعاً سيره.
وفي غير هذه الرواية: أين مَنْ تعرِفون من إخوانكم! قد انتهت عنهم الأعمال، ووروا على ما قدموا وحلوا عليهم بالشْقوَة والسّعادة. أينَ الجَبّارون الني بَنَوا المدائنَ وحصَّنوها بالحوائط! قد صاروا تحتَ الصَخْر والآكام.
خطبة لأبي بكر أيضَاً رضي اللّه عنه
رواها إبراهيم بن محمد من ولد أبي زيد القارئ.
حَمِد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أشْقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك. فرفع الناس رؤوسَهم؛ فقِال: ما لكم يا معشرَ الناس إنكم لطَعانون عَجِلون، إن المَلِك زهده اللّه فيما في يده، ورَغَبه فيما في يديْ غيره، وانتقصه شطرَ أجله، وأشرب قلبَه الإشفاقَ، فهو يحسد على القليل، ويتسخْط الكثير، ويسأم الرخاءَ، وتنقطع عنه لذة البهاء، لا يستعمِل العِبْرة ولا يسكُن إلى الثقة، فهو كالدرهم القسِىّ والسّراب الخادع، جَذْل الظاهر حزين الباطن، فإذا وَجَبَتْ نفسُه ونَضَب عمرُه وضَحَا ظِلُّه، حاسَبَه اللّه فأشدّ حِسابَه وأقل عفَوه ألا إنّ الفقراء هم المرحومون، وخير الملوك من آمن باللّه، وحَكَم بكتاب اللّه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإنكم اليوم على خلافة نبوّة، ومَفْرِق مَحَجّة، وسَتَروْن بَعْدي مُلْكاً عضوضاً، وآفةً شَعَاعاً ودماً مُفَاحاً. فإن كانت للباطل نَزْوَة، ولأهل الحق جَوْلة؛ يعفو لها الأثَر، وتموت السُّنن فالزَمُوا المساجد، واستشِيروا القرآن، والزموا الجماعة. وليكن الإبرامُ بعد التشاوًر، والصفقة بعد طُول التناظُر، أي بلادكم خرسة فإن الله سيفتح عليكم أقصاها كما فتح أدناها.
خطبة أبي بكر رضي اللّه عنه يوم سقيفة بني ساعدة
أراد عُمَر الكلامِ، فقال له أبو بكر: على رِسْلِك. نحنُ المهاجرون أوّلُ الناس إسلاماً، وأوْسَطُهم داراً، وأكرمُهم أحساباً، وأحسنُهم وُجوهاً، وأكثرُ الناس وِلايةً في العرب وأمسُّهم رَحِماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، أسلمَنا قبلكم، وقُدِّمْنا في القرآن عليكم، فأنتم إخوانُنا في الدِّين، وشركاؤنا في الفَيْء، وأنصارُنا على العَدُوّ، اويْتُم وواسَيْتُم، فجزاكم اللّه خيراً؛ نحن الأمَراءُ، وأنتم الوزراء لا تَدِينُ العربُ إلا لهذا الحَي من قرَيش، وأنتم محقوقون ألا تَنْفَسوا على إخوانكم من المهاجرين ما ساق الله إليهم.
خطبة لأبي بكر رضي اللّه عنه
الهيثم عن مُجالد عن الشِّعْبيّ قال: لما بويع أبو بكر الصدّيق رضي اللّه عنه، صَعِد المنبرِ فنزل مَرْقاةً من مَقْعَد النبيّ صلى الله عليه وسلم فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني وَليتُ أمرَكُم ولست بخيرِكم، ولكنه نزل القرآن وسنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. اعلموا أيها الناس أن أكيس الكَيْس التُقَى، وأن أحمقَ الحُمْق الفُجُور، وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخُذَ له بحقه، وأضعفَكم عندي القويُ حتى آخذَ منه الحقّ، إنما أنا متبع ولست بمبتدِع، فإن حسنتُ فأعِينوني، وإن زُغْتُ فقوَموني. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
خطبة لعمر بن الخطاب رضي اللّه عنه
قال: ولما وَلي عمر صعِد المنبر وقال:
ما كان اللُه ليراني أرى نفسي أهلًا لمجلس أبي بكر، ثم نزل عن مجلسه مَرْقاة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اقرأوا القرآن تُعْرَفوا به، واعمَلوا به تكونوا من أهله. إنه لم يبلُغ حق ذي حقً أن يُطاعَ في معصيةِ الله. ألا وإني أنزلتُ نفسي من مال الله بمنزلة وَالي اليتيم: إن استغنَيْتُ عَفَفتُ وإن افتقرتُ أكلتُ بالمعروف تَقرمَ البَهْمَةِ الأعرابية: القَضْمَ لا الخَضْمَ.
خطبة لعثمان بن عفّان رضي اللّه عنه
قال: ولما وَلي عثمان صعِد المنبر فقال: رحمهما الله، لو جلسا هذا المجلس ما كان بذلك مِن بأس، فجلس على فِرْوة المنبر فرماه الناسُ بأبصارهم، فقال: إن أولَ مركب صعبٌ، وإن مع اليوم أياماً، وما كُنا خُطَباء، وإن نعشْ لكم تأتكم الخطبةُ على وجهها إن شاءً الله تعالى.
خطبة لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه
خطب فقال: أما بعدُ، فإن الدنيا قد أدْبرتْ وآذنتْ بوَدَاع، وإن الآخرةَ قد أقبلتْ فأشرفتْ باطلاع، وإن المضمار اليوم وغدا السباق. ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجَل، فمن قصر في أيام أمله بل حضور أجله فقد خَسِرَ عمله. ألاَ فاعمَلوا لله في الرغْبة كما تعمَلون له في الرهْبَة. ألا وإِنَي لم أرَ كالجنة نامَ طالبُها، ولا كالنار نام هاربُها. ألا وإنه مَن لم ينفعه الحق ضره الباطل، ومن لم يستقِم به الهُدَى جارَ به الضلال. ألا وإنكم قد أمِرتم بالظعْن، ودُلِلتم على الزاد؛ وإن أخوفَ ما خافُ عليكم اتباعُ الهوى وطولُ الأمل.
خطبة عليّ عليه السلام بعد مقتل عثمان رضي اللّه عنه
أيها الناس، كتابَ الله وسنّةَ نبيكم. لا يذعي مدع إلا على نفسه. شُغِلَ مَن الجنة والنارُ أمَامَه. ساعٍ نَجا، وطالب يرجو، ومقَصَر في النار: ثلاثة؛ واثنان: مَلَكٌ طارَ بجَناحَيْه، ونبيّ أخذ اللّه بيديه، لا سادِسَ. هَلَك مَن اقتحم، ورَديَ مَن هوَى. اليمينُ والشِّمالُ مَضَلَّة، والوسْطى الجادَّةُ: مَنْهَج عليه باقي الكتاب وآثارُ النبوّة. إن اللهّ أدّب هذه الأمةً بأدبين: السوطِ والسيفِ فلا هَوَادَةَ فيهما عند الإمام. فاستتِروا ببيوتكم، واصْلحوا ذاتَ بَيِنْكم؛ والتوبة من ورائكم. مَن أبدى صَفْحته للحق هَلَك. قد كانت أمور مِلْتُم عليّ فيها مَيْلَةً لم تكونوا عندي محمودين ولا مًصيبين. واللِّه أن لو أشاءُ أن أقول لقلتُ. عفا الله عمّا سَلَف. انظروا، فإن أنكرتم فأنكِروا. وإن عَرَفتم فارْوُوا. حق وباطل، ولكُل أهل. والله لئن أمِّرَ الباطلُ لَقَدِيماً فعل؛ ولئن أمَرَ الحق لَرب ولعل. ما أدبر شيءٌ فأقبل.
خطبة أيضاً لعليّ رضي اللّه عنه
خطب عليّ حين قُتِلَ عاملُه بالأنْبار فقال في خطبته: يا عَجَباً من جِدَ هؤلاء في باطلهم وفَشَلِكم عن حَقِّكم! فقًبْحاً لكم وتَرَحاً حين صِرت غَرَضاً يُرْمَى، يُغارُ عليكم ولا تُغِيرون، وتُغزَون ولا تَغزون، ويُعصَى اللُه وتَرضون. إن أمرتُكم بالمسير إليهم في الحر قلتم: حَمَارَة القَيْظ، أمهلنا حتى يَنْسلِخَ الحر، وإن أمرتُكم بالمسير إليهم في الشتاء قلتم: أمهِلْنا حتى ينسلِخَ الشتاء هذا أوانُ قر؛ كل هذا فِراراً من الحرّ والقُر، فأنتم والله من السيف أفرّ، يا أشباهَ الرجال ولا رجال! أحلام الأطفال وعقول رَبَّاتِ الحِجَال؛ أفسدتُم علي رأي بالعِصْيان والخِذْلان، حتى قالت قريش: ابن أبي طالب شُجاعٌ ولكن لا عِلْمَ له بالحرب. لله أبوهم! هل منهم أحدٌ أشدُّ لها مِرَاساً وأطولُ تَجْرِبةً منِّي! لقد نهضت فيها وما بلغتُ العشرين فها أنا الآن قد نيّفتُ على الستين، ولكن لا رأيَ لمن لا يُطاع.
خطبة لمعاوية رحمة اللّه
بلغني عن شُعَيْب بن صَفْوَان قال: خطب معاوية فقال:
أيها الناس، إنّا قد أصبحنا في دَهْر عَنُود، وزَمن شديد، يُعَدُّ فيه المحسِنُ مُسيئاً، ويزدادُ الظالمُ فيه عُتُواً، لا ننتفع بما عَلِمنا، ولا نَسأل عما جَهِلْنا، ولا نتخوَّف قارِعةً حتى تَحُل بنا. فالناس أربعة أصناف: منهم مَن لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مَهانةُ نفسِه وكَلال حدَه ونَضِيض وَفْره؛ ومنهم المُصلِت لسيفه والمُجلِب بخيله ورَجْلِه والمُعلِن بشرِّه، قد أشْرَط نفسَه وأوْبق دِينَه لحُطَامٍ يَنتهِزه أو مِقْنَب يقوده أو مِنْبر يَفْرَعُه، ولبئس المَتْجَران تراهما لنفسك ثمناً ومما عند اللّه عِوَضاً. ومنهم مَن يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامَنَ من شخصه وقارَبَ من خَطْوه، وشفَر من ثوبه، وزَخرَفَ نفسَه للأمانة، واتخذ سِتر الله ذَرِيعةً إلى المعصية. ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضُؤُولةٌ في نفسه وانقطاع من سببه، فقصَر به الحال عن أمله، فتحلى باسم القناعة وتزيّن بِلباس الزُهّاد، وليس من ذاك في مَرَاحٍ ولا مَغذًى. وبقي رجَالٌ غضّ أبصارَهم ذكرُ المَرْجِع، وأراقَ دموعهم خوفُ المَحْشر فهم بين شَرِيد نَاد، وخائفٍ مُنقَمِع، وساكتِ مَكْعُوم، وداعٍ مُخْلِص، ومُوجَع ثَكْلَان، قد أخملْتهم التقيّة، وشَمِلَتْهم الذَلَة، فهم في بَحر أجَاج، أفواهُهم ضامرة، وقلوبُهم ضامرة، وقلوبُهم قَرِحَةٌ، قد وُعِظُوا حتى مَلوا، وقُهِروا حتى ذَلُّوا، وقتِلوا حتى قَلُّوا. فلتكنِ الدنيا في أعينكم أصغرَ من حًثَالة القَرَظ وقُرَاضة الجَلَم، واتعِظُوا بمَن كان قبلكم قبل أن يَتَعِظ بكم مَن بعدكم، وارفضوها ذَميمةً، فإنها قد رَفضتْ مَن كان أشغفَ بها منِكم.
خطبة ليزيد بن معاوية بعد موت معاويةخَطَبَ فقال: إن معاوية كان حَبْلاً من حِبال الله، مده ما شاء أن يَمُده، ثم قطعه حينَ شاء أن يَقطَعه؛ وكان دونَ مَن قَبْله وهو خيرٌ ممن بعده، ولا أزَكًيه عند ربه وقد صار إليه فإن يعف عنه فبرحمته، وإن يعاقبْه فبذنبه. وقد وَليتُ الأمرَ بعده، ولستُ أعتذر من جَهْل ولا أشتغل بطلب علم. وعلى رِسْلكم! إذا كَرِهَ الله أمراً غيّره.
خطبة لعُتْبة بن أبي سُفيان
أبو حاتم عن العُتْبيّ قال: احتبسَتْ كُتُب معاويةَ حتى أرْجَفَ أهلُ مصر بموته ثم ورد كتابه بسلامته، فصعِد عتبةُ المنبر والكتابُ في يده فقال: يا أهل مصرَ! قد طالت معاتبتُنا إياكم بأطراف الرِّماح وظُبَات السيوف حتى صِرْنَا شَجًى في لَهَواتِكم ما تُسِيغُنا حلوقُكم، وأقْذَاءً في أعيُنكم ما تَطْرِف عليها جفونُكم. فحين اشتدت عُرىَ الحق عليكم عَقْداً، واسترختْ عُقْدُ الباطل منكم حَلاً، أرجفتُم بالخليفة وأردتًم توهينَ السلطان وخُضتم الحقَّ إلى الباطل، وأقدمُ عهدكم به حديثَ! فارْبَحُوا أنفسَكم إذ خَسِرْتم دينَكم، فهذا كتابُ أمير المؤمنين بالخَبَر السار عنه والعهدِ القريب منه. واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم؛ فأصلِحوا لنا ما ظَهَر، نَكِلْكُم إلى الله فيما بَطَن؛ وأظهِرُوا خيراً وإن أسررتُم شراً فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وعلى الله نتوكل وبه نستعين.
خطبة لعُتْبة أيضاً
وبهذا الإسناد أن عُتبة خطب أهلَ مصر حين هاجوا فقال: يا أهل مصر، خف على ألسنتكم مدحُ الحق ولا تفعلونه، وذمُ الباطل وأنتم تأتُونه كالحِمَار يَحْمِل أسفاراً أثقله حَمْلُها ولم ينفعْه عِلْمها. وإني واللّه لا أداوِي أدواءَكم بالسيف ما اكتفيت السًوْط، ولا أبلغ السوطَ ما كفتني الدرَة، ولا أبطئ عن الأولى إن لم تصلحوا عن الأخرى؛ ناجزاً بناجز، ومَن حذّر كمن بشر فدعوا قال ويقول من قبل أن يقال فعل ويفعل فإن هذا اليوم الذي ليس فيه عِقَاب، ولا بعده عِتَاب.
خطبة لعبد اللّه بن الزُّبَيْر
خطب عبد اللّه بن الزُبير حين قُتِلَ أخوه مُصْعَب فقال:
الحمد للّه الذي يُعِز مَن يشاء وُيذِل مَن يشاء. إنه لن يذلّ من كان الحق معه وإن كان فَرْداً، ولن يعزَّ من كان أولياء الشيطان حزبه وإن كان معه الأنام. أتانا خبرٌ من قِبل العراق أجزَعَنا وأفرَحنا: قتلُ مُصْعَب رحمه الله. فأما الذي أحزنَنَا من ذلك فإن لفراق الحميم لَذْعَةً يَجِدها حميمُه عند المًصيبة به ثم يَرْعَوِي بعدها ذَوُو الرأي إلى جميل الصبرِ وكريم العزاء. وأما الذي أفرحنا من ذلك فعلمُنا أنّ قتله شهادة، وأن ذلك لنا وله الخِيَرَة. ألا إن أهل العراق أهلَ الشَقاق والنِّفاق باعوه بأقلّ ثمن كانوا يأخذونه به. إنا واللّه ما نموت حَبَجاً ولا نموتُ إلا قتلاً، قَعْصاً بالرماح تحتَ ظِلال السيوف، ليس كما تموت بنو مروان والله إنْ قُتِل رجلٌ منهم في جاهليّةٍ ولا إسلام. ألا إنما الدنيا عَارِيةٌ من الملك الأعلى الذي لا يَبِيدُ ذكرُه ولا يَذل سلطانُه، فإن تُقبِل علي لا آخُذْها أخْذَ البَطِر الأشِر، وإن تُدبر عني لا أبْكِ عليها بُكاءَ الخَرِف المُهْتَر. ثم نزل.
خطبة زياد البتراءحدثني عبد الرحمن عن الأصمعيّ عن أبي بكر بن أبي عاصم ببعضها، وحدثني أبي عن الهيثم بن عَدِي، قال: لما قدم زيادٌ أميراً على البَصْرة فنظر إلى أبياتها، قال: رُبَّ فَرحٍ بإمارتي لن تنفعَه، وكاره لها لن تَضُره؛ فدخل وعليه قَباء أبيض ورِداء صغير، فصعِد المنبر، فخطب الناسَ خطبة بتراء: لم يصل فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أولَ من خطبها، ثم قال: أما بعد، فقد قال معاوية ما قد علِمتم، وشهِدت الشهودُ بما قد سمِعتم، وإنما كنت امرأً حَفظ الله منه ما ضَيّع الناسُ، ووَصَل ما قطعوا ألا وإنا قد وَلينا ووَليَنَا الوالون، وسسنا وساسنا السائسون، وإنا وجدنا هذا الأمرَ لا يُصلحه إلا شدّةٌ في غير عُنْف، ولينٌ في غير ضعف. وأيم اللهّ ما من كِذْبة أكبرُ شاهداً من كِذْبة إمام على منبر؛ فإذا سمعتموها منّي فاعتمِزُوها فيّ واعلموا أن عندي أمثالَها، وإذا رأيتموني آمر فيكم بالأمر فأنفِذوه على إذلاله. وايم الله إن لي فيكم لصَرْعىَ كثيرة، فليحذَرْ كلّ امرئ منكم أن يكون من صَرْعاي. وايمُ اللّه لآخُذن البريء بالسقيم، والمطيعَ بالعاصي، والمقبلَ بالمدبر، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: " انْج سعد فقد قُتِل سُعَيْد!. فقال إليه عبد الله بن الأهْتم التميمي، فقال: أيها الأمير، أشهد أنك اوتيتَ الحكمةَ وفصلَ الخطاب. فقال له: كَذَبتَ، ذاك نبيّ الله داود. ثم قام إليه الأحنفُ فقال: إنما المرءْ بجده، والسيف بحَده، والجواد بشده، وقد بلغك جدُك أيها الأمير ما تري وإنما الحمدُ بعد البَلاَء، والثناءُ بعد العطاء، وإنا لا نُثْنِي حتى نَبْتَلي. ثم قام إليه مِرْداس بن أدَيّة، فقال: قد سمِعنا مقالتك أيها الأمير، وإنّ خليلَ الله إبراهيمَ عليه السلام أدىّ عن اللّه في الذي أديتَه، قال اللّه تعالى: " لا تَزِرُ وَازرَةٌ وِزْرَ أخْرَى " وأنت تزعُم أنك تأخُذ البريء بالسقيم، والمطيعَ العاصي، والمقبلَ بالمدبر. فقال له: اسكت، فواللّه ما أجِد إلى ما أريد سبيلاً، إلا أن أخوضَ إليه الباطلَ خوضاً. ثم نزل.
وقال في خطبة له أخرى: حَرامٌ عليّ الطعامُ والشرابُ حتى أسوِّيَها بالأرض هَدْماً وإحراقاً. إيّايَ ودَلَجَ الليل، فإني لا أوتَى بمُدلج إلا سَفَكتً دمه، وإيّايَ ودَعْوَى الجاهليّة، فإني لا أجد أحداً دعَا بها إلا قطعتُ لسانَه. وقد أحدثتم أحداثاً، وأحدثنا لكل ذنبٍ عقوبة؛ فمن غَرق قوماً غَرقته، ومن أحرق قوماً أحرقتُه، ومن نَقَبَ بيتاً نقبتُ عن قلبه، ومَنْ نَبَش قبراً دفنتُه فيه حيًّاً؛ فكُفوا أيديكم وألسنتكم أكُفَ عنكم. وقد كانت بيني وبين أقوام منكم أشياءُ قد جعلتُها دَبْرَ أذني وتحت قَدَمِي، فمن كان محسناً فليزددْ، ومن كان مسيئاً فلينزعْ. إني لو علمتُ أن أحدكم قد قتله السل من بُغْضي لم أكشِف له قِناعاً ولما أهتِكْ له سِتْراً، حتى يُبديَ لي صَفْحتَه، فإذا فعل ذلك لم أناظره؛ فأعينوا على أنفِسكم وأتَنِفوا أمركم.
خطبة للحجاج حين دخل البصرةدخل وهو متقلد سيفاً متنكِّبٌ قوساً عربية، فعلا المنبرَ فقال:
أنا ابن جَلا وطلاع الثنَايَا ... مَتَى أضَع العمامةَ تعرِفُوني
إن أمير المؤمنين نَكَبَ عيدانَه بين يديه، فوجدني أمرها عُوداً وأصْلَبَها مَكْسِراً، فوجًهني إليكم. ألا فوالله لأعْصِبَنكم عَصْبَ السلَمة، ولألحُوَنكم لحْوَ العُود، ولأضرِبنكم ضربَ غرائبِ الإبل، حتى تستقيمَ لي قَنَاتُكم، وحتى يقولَ القائل: " أنْجُ سعدُ فقد قُتِل سعيدا " . ألَا وإياي وهذه السقَفَاءَ والزَّرَافاتِ، فإني لا أوتَى بأحدٍ من الجالسين في زَرَافةٍ إلا ضربتُ عُنُقَه. هكذا حدثنيه أحمد بن سعيد عن أبي عُبَيد في كتاب غَرِيب الحديث. وقال لي غيره: هو إيايَ وهذه الشفَعاءَ والزَّرَافات. وقد فسرتُ الحديثَ في كتابي المؤلَّف في غريب الحديث.
خطبة للحجاج أيضاً
أرْجَف الناس بموت الحجاج، فخطب فقال: إن طائفةً من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نَزَغَ الشيطانُ بينهم، فقالوا: مات الحجاج ومات الحجاج! فَمْهْ! وهل يرجو الحجاج الخيرَ إلا بعد الموت! والله ما يسرني أموتَ وأنٌ لي الدنيا وما فيها! وما رأيت الله رضِيَ بالتخليد إلا لأهوِن خَلْقه عليه إبليس. ولقد دعا اللّه العبدُ الصالحُ فقال: " رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي " ، فأعطاه ذلك إلا البقاء. فما عسى أن يكون أيها الرجل! وكلكمِ ذلك الرجل!. كأنَي والله بكلَ حي منكم ميتاً، وبكل رطب يابساً أفرُع طُولًا في ذِراع عَرْضاً، وأكلتِ الأرضُ لحمَه ومَضتْ صديدة وانصرف الحبيبُ من ولده يَقْسِم الخبيثَ من ماله؛ إن الذين يعقِلون يعلَمون ما أقول. ثم نزل.
خطبة أخرى للحجّاج حين أراد الحج
خطب فقال: أيها الناس إني أريد الحج، وقد استخلفت عليكم ابني هذا، وأوصيته بخلاف ما أوصَى به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، في الأنصار؛ إن رسول الله أوصَى أن يُقبَلَ من مُحسنهم، وأن يُتجاوَز عن مُسيئهم؛ وإني أمرتُه ألّا يقبلَ من محسنكم ولا يتجاوزَ مسيئكم. ألَا وإنكم ستقولون بعدي مقالةً لا يمنعُكم من إظهارها إلا مخافتي، ستقولون بعد لا أحسَنَ الله له الصَحابة! ألاَ وإني مُعجل لكم الجوابَ: لا أحسَنَ الله لكم الخِلاَفة. ثم نزل.
خطبة للحجاج أيضاً
من خطبة للحجاج وقول الحسن فيه خطب فقال في خطبته: سوْطي سيفي، فنِجَادةُ في عُنُقي، وقائمُه في يدي، وذُبَابه قلادة لمن اغتر بي! فقال الحسن: بُؤْساً لهذا! ما أغره بالله!.
بين رجل حلف بالطلاق أن الحجاج في النار وفتوى ابن سيرين وحلف رجل بالطلاق أن الحجاج في النار، ثم أتى امرأتَه فمنعته نفسها فأتى سِيرِين يستفتيه؛ فقال: يابن أخي، امض فكن مع أهلك، فإن الحجاجَ إن لم يكن في النار لم يَضُرك أن تَزنيَ.
خطبة لعمر بن عبد العزيز رحمة اللّه عليه
حدّثني أبو سَهْل عن إسحاق بن سليمان عن شُعَيب بن صَفْوان عن رجل من آل سَعِيد بن العاص، قال: كان آخر خطبةٍ خطب بها عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنْ حَمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنكم لم تُخْلَقوا عَبَثاً، ولن تُتْركوا سدى، وإنّ لكم مَعاداً يَنزِل الله فيه للحكم فيكم لفصل بينكم، فخاب وخَسِر من خَرَج من رحمة الله وحُرِمِ جنةً عَرْضُها السمواتُ والأرضُ. ألم تعلموا أنه لا يأمَن غداً إلا من حَذِر اليومَ وخاف، وباع نافداً بباقٍ، وقليلاً بكثيرٍ، وخوفاً بأمانٍ؛ ألا ترون أنكم في أسْلاب الهالكين، وستكون من بعدكم للباقين كذلك، حتى تُرَدّ إلى خير الوارثين! ثم إنكم في كل يوم تُشيِّعون غادياً ورائحاً إلى اللّه قد قَضَى نَحْبَه، حتى تُغيَّبوه في سدْع من الأرض في بطن صَدْعِ غير موَسَّد ولا ممهَّد، قد فارَقَ الأحباب وباشرَ الترابَ وواجه حساَبَ، فهو مرتَهَنٌ بعمله، غني عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم! غَنيٌ عما ترك فقير إلى ما قدمّ. فاتَقُوا اللهّ قبل انقضاء مَوَاقِيته ونزول الموت بكم أمَا إني أقول هذا وما أعلم أنّ عند أحدٍ من الذنوب أكثرَ مما عندي، فأستغفر الله وأتوبُ به. ثم رفع طَرَفَ رِدائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله.
خطبة لخالد بن عبد اللّه يوم عيد
خطب فذكر اللّه وجلالَه ثم قال: كنتَ كذلك ما شئتَ أن تكون، لا يَعلم كيف أنت إلا أنت، ثم ارتأيتَ أن تخلُقَ الخَلْق، فماذا جئتَ به من عجائب صُنْعك، والكبير والصغير من خلقك، والظاهر والباطن من ذرك: من صُنوف أفواجه وأفراعه وأزواجه، كيف أدمجتَ قوائم الذرة والبَعُوضة إلى ما هو أعظمُ من ذلك من الأشباح التي امتزجتْ بالأرواح!.
وخَطَب يوماً فسقطتْ جَرَادةٌ على ثوبه فقال: سبحانَ مَنِ الجرادةُ من خلقه، أدمَجَ قوائمها، وطوّقها جَنَاحها، ووَشى جلدَها، وسَفطها على ما هو أعظمُ منها.
خطبة للحجاجخطب فقال: أيها الناس، احفَظُوا فُروجكم، وخذوا الأنفس بضميرها، فإنها أسوكُ شيء إذا أعْطِيَتْ، وأعصَى شيء إذا سًئلت. وإني رأيت الصبر عن مَحَارِم اللهّ أيسَرَ من الصبر على عذاب اللّه.
خطبة سليمان بن عبد الملكخطب فقال: إن الدارَ دارُ غُرورٍ ومنزلُ باطلٍ، تُضحك باكياً وتُبْكي ضاحكاً، وتُخيف آمناً وتُؤمن خائفاً، وتُفقر مُثرياً وتُثري مُقْتِراً، مَيالةٌ غَرارة لَعّابة بأهلها! عبادَ الله! اتَّخذوا كتاب الله إماماً، وارتضُوا به حَكَماً، واجعلوه لكم قائداً، فإنه ناسخٌ لِمَا كان قبله ولم ينسَخْه كتابٌ بعده. اعلموا عبادَ اللّه أن هذا القران يجلو كَيْدَ الشيطان كما يجلو ضوءُ الصبح إذا تنفّس، ظلامَ الليل إذا عسعس.
خطبة يزيد بن الوليد بعد قتله الوليدحمِد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، والله ما خرجت أشَراً ولا بَطَراً ولَا حِرْصاً على الدنيا ولا رغبةً في الملك، وما بي إطراءُ نفسي، وإني لظَلُومٌ لها إن لم يرحَمْني اللهّ، ولكن خرجت غَضَباً لله ودِينه، داعياً إلى اللّه وإلى سنة نبيه، لَمّا هُدمت معالمُ الهدى، وأطفئ نورُ أهل التقوى، وظَهَر الجبار العَنِيد، المستحِل لكل حُرْمة، والراكبُ لكل بِدْعة، الكافرُ بيوم الحساب، وإنه لابن عَمِّي في النًسَب وكَفِيئي في الحَسَب؛ فلمّا رأيتُ ذلك استخرتُ اللّه في أمره وسألته ألا يَكِلَني إلى نفسي، ودعوتُ إلى ذلك مَنْ أجابني من أهلا وِلايتي، حتى أراح الله. منه العبادَ، وطهّر منه البلاد، بحَوْله وقُوّته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس، إنّ لكم! عليّ ألّا أضَعَ حَجَراً على حجر، ولا لَبِنةً على لبنة، ولا أكْرِي نهراً، ولا أكنِزُ مالًا، ولا أعطيه زوجاً ولا وَلَداً، ولا أنقُلُه من بلد إلى بلد حتى أسُد فقرَ ذلك البلد وخَصَاصةَ أهله، فإنْ فَضَلَ فضلٌ نقلتُه إلى البلد الذي يَلِيه. ولا أجَمَركم في بُعُوثكم فأفتنَكم وأفتِنَ أهليكم، ولا أغْلِق بابي دونكم فيأكُلَ قَوِيكم ضعيفكم، ولا أحمِلُ على أهل جِزْيتكم ما أجْليهم به عن بلادهم وأقطَعُ به نَسْلَهم. ولكم علي إدرارُ العَطَاء في كل سنةٍ والرزقِ في كل شهر، حتى يستويَ بكم الحال فيكونَ أفضلُكم كأدناكم. فإن أنا وَفَيت لكم فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكانفة، وإن لم أفِ لكم فلكم أن تخلعوني، إلا أن تستتيبوني، فإن أنا تبت قبلتم مني، وإن عرفتم أحداً يقوم مَقَامي ممن يُعرف بالصَلاَحُ يعطيكم من نفسه مثلَ الذي أعطيتُكم فأردتم أن تُبايعوه، فأنا أولُ مَنْ بايعه ودَخَل في طاعته. أيها الناس، إنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق. وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيمَ لي ولكم.
فلما بُويع مَرْوانُ نَبَشَه وصَلَبه. وكانوا يقرأون في الكتب: يا مبذَر الكنوز ويا سجاداً بالأسحار، كانت ولايتُك لهم رحمةً وعليهم حجة، أخذوك فصَلَبوك.
خطبة أبي حمزة الخارجيّ
خطب أبو حمزةَ الخارجي بمكة فذكر رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم،، ثم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بما هُمْ أهله، ثم قال: ووَلي عثمانُ فسار سِتَّ سنين بسِيرة صاحبَيْه وكان عونَهما، تم سار في الستّ الأواخر بما أحبط به الأوائل، ثم مضى لسبيله. ووَليَ عليٌ فلم يَبْلُغ من الحق قَصْداً ولم يرفِعْ له مناراً، ثم مضى لسبيله. ثم وَلي معاوية لَعِينُ رسولِ الله وابن لعينه، اتّخذ عبادَ الله خوَلاً، ومالَ الله دوَلاً، ودِينَه دَغَلا، ثم مضى لسبيله، فالعَنُوه لعنه الله. ثم ولي يزيدُ بن معاوية، يزيد الخمور، ويزيد القُرود، ويزيد الفهود، الفاسقُ في بَطْنه والمأبون في فَرْجه. ثم اقتصَّهم خليفةً خليفَةَ. فلما انتهى إلى عمر بن عبد العزيز أعرضَ عن ذكره. ثم ذكر يزيدَ بنَ عبد الملك فقال: يأكلُ الحرامَ، ويلبَس الحُلّة بألف دينار، قد ضُرِبَت فيها الأبشارُ، وهُتِكت الأستار، حَبَابةُ عن يمينه وسَلامة عن يَساره تغنَيانه، حتى إذا أخَذَ الشرابُ فيه كل مَأْخَذٍ قَد ثوبَه ثم التفتَ إلى إحداهما فقال: ألَا أطِير! نعم! طِرْ إلى النار. ثم ذكر أصحابَه فقال: شبابٌ والله مُكتهلون في شَبَابهم، غَضيضةٌ عن الشر أعينُهم، ثَقِيلة عن الباطل أرجلُهم، أنْضاءُ عِبادة، وأطْلاح سَهَر، ينظُرُ اللّه إليهم في جوف الليل مُنْحنِيةً أصلابُهم على أجزاء القرآن، قد أكلت الأرض رُكَبَهم وأيديَهم وجِبَاهَهم، واستقلُوا ذلك في جَنْب الله، حتى إذا رأوُا السهام قد فُوَقَتْ، والرماحَ قد أشْرِعتْ، والسيوفَ قد انتُضِيتْ. وأرْعدت الكتيبةُ بصواعق الموت، مضى الشاب منهم قدماً، حتى اختلفت رجلاه على عُنُق فرسه، وتخضبتْ محاسِنُ وجهه بالدماء، فأسرعت إليه سِباعُ الأرض وانحطَّتْ إليه طيرُ السماء، فكم من عيْنٍ في مِنْقار طائرٍ طالما بَكَى صاحبُها في جوف الليل من خوف اللّه! وكم من كف زَايَلَتْ مِعْصَمَها طالما اعتمَدَ عليها صاحبُها في جوف الليل بالسجود لله! ثم قال: اوه أوّه وبكى ثم نزل.
خطبة لقَطَرِيّ الخارجيّ
ذَكَر فيها الذي قالوا مَنْ أشد منا قوةً، فقال: حُمِلُوا إلى قُبُورهم فلا يُدْعَوْنَ رُكْباناً، وأنْزِلوا فلا يُدعون ضِيفاناً، وجعلوا لهمِ من الضًرِيح أجْناناً، ومن التراب أكفاناً، ومن الرفَ جِيراناً، فهم جِيرةٌ لا يُجيبون داعياَ ولا يَمنعون ضَيماً، إن أخصَبوا لم يفرحوا، أو أقحَطوا لم يَقْنَطوا؛ جميع أوحادٌ، وجِيرةٌ أبعاد، لا يَزُورون ولا يُزارون. فاحذَرُوا ما حَذّركم الله وانتفعوا بمَوَاعظه واعتصِموا بحبله.
وفي خطبة ليوسف بن عمراتقوا الله عبادَ الله! فكم من مُؤَمَل أملاً لا يبلُغه، وجاِمعٍ مالاً لا يأكله، ومانعٍ ما سوف يَتركُه، ولعله من باطل جَمَعَه، ومن حقٍّ مَنَعَه، أصابه حراماً ووَرَّثَه عدواً، إحتمل إصْرَه وباء بوِزْره، ووَرَد على ربّه آَسفاً لاهِفاً، قد خَسِر الدنيا والآخرةَ، ذلك هو الخُسْرانُ المبين.
وفي خطبة للحجاجقال مالك بن دِينار: سمعته على المنبر يقول: امرأً زور عمله امرأً حاسَبَ نفسَه، امرأً فكر فيما يقرؤُه في صحيفته ويراه في مِيزانه، امرأً كان عند هواه زاجراً، وعند هَمَه آمراً، أخذ بعِنَان قلبه كما يأخُذ بخِطام جَمَله، فإن قاده إلى طاعة الله تَبِعه، وإن قاده إلى مَعْصِية الله كفه.
خطبة للمنصورخطب المنصور بمكة فقال: أيها الناس، إنما أنا سلطانُ الله في أرضه، أسوسُكم بتوفيقه وتَسْديده وتأيِيده وتَبْصيره، وخازنُه على فَيْئه أعمَلُ فيه بمشيئته، وأقْسِمه بإرادته، وأعطيه بإذنه، قد جَعَلني عليه قُفْلا إذا شاء أن يفتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم فتحني، وإذا شاء أن يقفِلني عليها أقفلني. فارغَبُوا إلى الله واسألوه في هذا اليوم الشريف الني وهَبَ لكم فيه من فَضْله ما أعلمكم في كتابه، إذ يقول: " اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الِإسْلامَ دِينَاً " أن يُوَفقني للصَّواب والرشاد، ويُلْهِمَني الرأفةَ بكم والإحسانَ إليكم، ويَفْتَحَني لإعطائكم وقَسْم أرزاقكم بالعَدْل عليكم.
خطبة لداود بن عليّ
خطب فقال: أحرزَ لسانٌ رأسَه، اتعظ امرؤٌ بغيره، اعتبَرَ عاقل قبل أن يُعْتَبَر به، قأمسكَ الفَضْلَ من قوله وقدّم الفضلَ من عمله. ثم أخذ بقائم سيفه فقال: إن بكم داءً هذا عواؤُه، وأنا زعيمٌ لكم بشِفائه، وما بعد الوعيدِ إلّا الإيقاع.
خطبة لدواد بن عليّ أيضاً
لما قام أبو العبّاس في أول خِلافته على المنبر قام بوجهٍ كورقة المصحف فاستَحْيَا فلم يتكلَّم؛ فنَهَض داودُ بن عليّ حتى صَعِد المنبرة فقال المنصور: فقلت في شيخِنا وكبيرِنا ويدعو إلى نفسه فلا يختلف عليه اثنان، فانتضَيْتً سيفي وغَطيت ثوبي وقلتُ: إن فَعَلَ ناجزتُه، فلما رَقِيَ عَتَباً استقبل الناسَ بوجهه عون أبي العباس، ثم قال: أيها الناس، إن أمير المؤمنين يَكْرَه أن يتقدّم قولُه فعلَه، ولأثَر الفِعال عليكم أجْوَر من تَشْقيق المَقَال، وحسبكُم بكتابِ الله مُمْتَثَلاً فيكم، وابن عمّ رسولِ اللهّ خليفةً عليكم. والله قَسَماً بَرا لا أريد إلّا اللَه به ما قام هذا المقامَ أحد بعد رسول الله أحق به من عليّ بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا، فلَيظُنَّ ظانكم وليَهْمِسْ هامسُكم. قال أبو جعفر: ثم نزل وشِمْتُ سيفي.
خطبة لأعرابيّ
أما بعد، فإن الدنيا دارُ بَلَاء والآخرةَ دارُ بقاء، فخُذُوا أيها الناس لمَقَرّكم من مَمَرّكم، ولا تهْتِكوا أستاركم عند من لا يَخْفَى عليه أسراركم، ففي الدنيا أحيِيتم ولغيرها خُلقتم. أقول قولي هذا، والمستَغْفَرُ اللّه، والمدعوُ له الخليفةُ ثم الأميرُ جعفر بن سليمان.
خطبة المأمون يوم الجمعةالحمد لله مستخلِص الحمدِ لنفسه، ومستوجبه على خَلْقه، أحمدُه وأستعينُه وأومن به وأتوكَل عليه، وأشهَدُ إنْ لا إلهَ إلا اللُّه وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسولُ أرسله بالهُدَى ودِينِ الحق ليُظهِرَه على الدينِ كلَه ولو كَرِهَ المُشركون. أوصِيكم عِبادَ الله بتقوى الله وحدَه، والعمل لما عنده، والتنجُّز لوعده، والخوفِ لوعيده، فإنه لا يسلَم إلا من اتّقاه ورَجَاه، وعَمِل له وأَرْضاه. فاتَّقوا اللّه عبادَ اللّه وبادِرُوا آجالَكم بأعمالكم، وابتاعُوا ما يبقَى به يزولُ عنكم، وترحّلوا فقد جُدً بكم، واستعِدُوا للموت فقد أظلَّكم، وكُونوا قوماً صِيحَ بهم فانتبهُوا، وعلِموا أنّ الدنيا ليسْت لهم بدار فاستَبْدلواة فإنّ الله لم يخلُقْكم عبثاً ولم يترُكْ سُدًى؛ وما بين أحدِكم وبين الجنّة والنار إلا الموتُ أنْ يَنزِلَ به. وإنّ غايةً تنقصُها اللحظة وتَهدِمها الساعةً الواحدةُ لجديرة بقِصَر المُدّة، وإنّ غائباً يحدُوه الجديدانِ الليلُ والنهارُ لحرىِ بسُرعة الأوْبة، وإنّ قادماً يحُلّ بالفوز أو بالشِّقْوة لمستحِق لأفضل العدة، فتَقي عبدٌ ربَّه، ونَصَح نفسَه، وقَدّم توبته، وغَلَب شهوتَه، فإنّ أجلَه مستور عنه، وأملَه خادع له، والشيطان مُوكَّل به يُزَينُ له المعصيةَ ليركبها، وُيمَنِّيه التوبةَ ليُسَوّفها، حتىِ تهجُمَ عليه منيتُه أغفَل ما يكون عنها. فيا لها حسرةً على في غَفْلة: أن يكون عمرُه عليه حُجّةَ، أو تؤدَيهَ أيامُه إلى شْقْوة نسألُ الله يجعلَنا وإيّاكم ممن لا تُبطره نعمة، ولا تُقصَر به عن طاعته غَفْلة، ولا تُحلّ به بعد الموت فَزْعة، إنه سميع الدعاء، وبيده الخيرُ، وإنه فعال لما يُريد.
وفي خطبة المأمون يوم الأضحى بعد التكبير الأوّل
إنَ يوصكم هذا يومٌ أبانَ الله فضلَه، وأوجبَ تشريفَه، وعَظّم حُرْمته، ووَفَق له من خَلا صفوتَه، وابتَلَى فيه خليلَه، وفَدَى فيه من الذَبْح نبئه، وجعله خاتمَ الأيام المعْلومات من العَشْر ومتقدَم الأيام المعدودات منِ النفْر؛ يومٌ حرامٌ من أيام عِظام في شهرَ حَرَام، يومُ الحجِّ الأكبر يومٌ دعا اللُّه إلى مَشْهَده، ونزَل القرآنُ بتعظيمه، قال اللهّ جلّ وعزّ: " وَأذِّنْ في الناس بالحج " َ؛ الآيات؛ فتقربوا إلى اللّه في هذا اليوم بذبائحكم، وعَظِّموا شعائرَ الله واجعلوها من طَيبِ أموالَ وبصحّة التقوى من قلوبكم، فإنه يقول: " لَنْ يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التًقْوَى مِنْكُمْ " ، ثم التكبير والتحميد والصلاة على النبي والوصية بالتقوى، ثم قال بعد ذكر الجنة والنار: عَظُمَ قدرُ الدارين وارتفع جزاءُ العملين وطالت مدّة الفريقين الله للّه! فوالله إنه الجِدُ لا اللعِبُ، وإنه الحقُّ لا الكذِب، وما هو إلا الموت والبَعْث والمِيزان والحِساب والقِصَاص والصَراط ثم العقاب والثَواب، فمن نَجَا يومئذٍ فقد فاز، ومن هَوَى يومئذ فقد خاب. الخيرً كلّه الجنّة، والشر كله في النار.
وفي خطبة المأمون يوم الفطر بعد التكبير الأوّل
إنّ يومكم هذا يومُ عِيدٍ وسُنَّة وابتهال ورغبة، يومٌ خَتَم الله به صيامَ شهر رمضان وافتتح به حجَّ بيته الحَرَام، فجعله خاتمةَ الشهر وأوّلَ أيام شهور الحجّ، وجعله مُعقِّباً لمفروض صيامكم ومنتفَل قيامكم، أحل فيه الطعامَ لكم وحَرم فيه الصيامَ عليكم؛ فاطلبوا إلى الله حوائجكَم استغفروه لتفريطكم، فإنه يُقال: لا كبيرَ مع استغفار، ولا صغير مع إصرار. ثم التكبير والتحميد وذكر النبيّ عليه السلام والوصية بالتقوى. ثم قال: فاتقوا الله عبادَ الله وبادروا الأمرَ الذي اعتدَلَ فيه يقينُكم، ولم يتحضِر الشكُ فيه أحداً منكم، وهو الموت المكتوبُ عليكم، فإنه لا تُستقالُ بعده عَثْرةٌ، ولا تُحْظَر قبله توبة. واعلموا أنه لا شيءَ قبله إلا دونَه ولا شيءَ بعده إلا فوقَه. ولا من على جَزَعه وعَلَزه وكُرَبه، ولا يُعين على القبر وظُلْمته وضِيقه ووَحْشته وهَوْل مَطْلَعه ومسألة ملائكته، إلا العملُ الصالحُ الذي أمر اللّه به. فمن زَلَّت عند الموت قَدَمُه، فقد ظهرت ندامتُه، وفاتته استقالتُه، ودعا من الرَّجْعة إلى ما لا يجاب إليه، وبذَلَ من الفِدْية ما لا يُقْبَلُ منه. فالله اللَّه عبادَ اللهّ! وكونوا قوماً سألوا الرَّجْعةَ فأعْطُوها إذ مُنِعَهَا الذين طَلَبوها فإنه ليس يتمنَى متقدون قبلكم إلا هذا المهلَ المبسوطَ لكم. واحذَرُوا ما حذَّركم الله، واتَقوا اليومَ الذي جمَعُكم الله فيه لوَضْع مَوَازينكم، ونَشْر صُحُفكم الحافِظةِ لأعمالكم. فلينظُرْ عبدٌ ما يَضَعُ في زاده مما يثقل به، وما يًمِلُ في صحيفته الحافِظة لما عليه وله؛ فقد حَكَى الله لكم ما قال مفرطون عندها إذ طال إعراضُهم عنها، قال: " وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمينَ مُشْفِقِينَ مما فيه " ! الآية. وقال: " وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْم الْقِيَامَةِ " . ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأعظمَ مما نهتْكم الدنيا عن نفسها، فإنه كل ما لها ينهَى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها. وأعظمُ ما رأته أعينكم من عجائبها فمُّ كتاب اللّه لها ونَهْيُ اللّه عنها، فإنه يقول: " فَلَا تَغُرنًكُمُ الحَيَاة الدنْيَا وَلاَ يَغُرنكُمْ بِالله الغَرُورُ " وقال: " إنمَا الْحَيَاةُ الدُنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ " الآية. فانتفعوا بمعرفتكم بها وبإخبار الله عنها، واعلَموا أنّ قوماً من عباد اللهّ أدركتُهم عِصمةُ اللّه فحذِروا مَصَارِعَها، وجانَبُوا خدائعها، وآثروا طاعةَ الله فيها، فأدركوا الجنَّة بما تركوا منها.
كلام مَنْ أرتِجَ عليه
لعيسى بن عمر حدّثنا أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: خَطَب أميرٌ مرّةً فانقطع فخجِل، فبعث إلى قوم من القبائل عابوا ذلك وَلفَهم، وفيهم يَرْبوعِي جَلْد، فقال: اخطُبُوا؛ فقام واحدٌ فمرّ في الخطبًة، حتىٍ إذا بلغ " أما بعد " قال: أما بعد أما بعد، ولم يدرِ ما يقول: ثم قال: فإنّ امرأتي طالق ثلاثا، لم أرِد أن أجمع اليوم فمنْعتني.
وخطب آخر، فلما بلغ " أما بعد " بَقِي ونَظرَ فإذا إنسان ينظر إليه، فقال: لعنك الله! تري ما أنا فيه وتَلْمَحني ببصرك أيضاً.
قال: وقال أحدهم: رأيتُ القَرَاقير من السُّفُن تجرِي بيني وبين الناس.
قال: وصَعِد اليربوعيً فخطب فقال: أمّا بعدُ فوالله ما أدرِي ما أقولُ ولا فِيمَ أقمتموني. أقول ماذا. فقال بعضهم: قل في الزيت؛ فقال: الزيتُ مبارك، فكُلُوا منه وادّهِنوا. قال: فهو قولُ الشُطَار اليوم إذا قيل: لم فعلت ذا؟ فقل في شأن الزيت وفي حال الزيت.
ليزيد بن أبي سفيان ولما أتى يزيدُ بن أبي سُفْيان الشأم والياً لأبي بكر رضي الله عنه، خطب فأرتِج عليه، فعاد إلى الحمد لله فأرتج عليه، فعاد إلى الحمد لله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشأْم عسى الله أن يجعل من بعد عسرٍ يُسراً، ومن بعد عِيً بياناً، وأنتم إلى إمامٍ عادل أجوجُ منكم إلى إمام قائل. ثم نزل. فبلغ ذلك عَمرو بن العاص فاستحسنه.
لثابت قطنة بسجستان صعِد ثابتً قُطْنَة منبراً بسِجِسْتان فحمِد الله ثم أرتج عليه، فنزل وهو يقول:
فإلا أكُنْ فيكم خطيباً فإنّني ... بسيفي إذا جَدّ الوَغَي لخَطَيبُ
فقيل له: لو قلتَها على المنبر كنتَ أخطبَ الناس.
لعبد اللّه بن عامر بالبصرة وأرتج على عبد اللهّ بن عامر بالبَصْرة يومَ أضْحَى، فَمكَث ساعةً ثم قال: والله لا أجمَعُ عليكم عِيًّا ولُؤماً، من أخَذَ شاةً من السوق فهي له وثمنُها عليّ.
لخالد بن عبد اللّه القسري وارتج على خالد بن عبد اللّه القَسْرِيّ فقال: إن هذا الكلامَ يجيء أحياناً ويعزُبُ أحياناً، وربما طُلِب فأبَى، وكُوبِرَ فعسا، فالتّأنِّي لمجيّه، أيسرُ من التَّعاطِي لأبيه؛ وقد يَختَلِط من الجريء جَنَانهُ، وينقطع من الذَرِب لسانُه، فلا يُبْطره ذلك ولا يَكْسِره؛ وسأعودُ إن شاء الله.
لمعَن بن زائمة وأرتج على مَعن بن زائدة فضرب المنبر برجله ثم قال: " فَتَى حُرُوبٍ لا فَتَى مَنَابر " .
لعبد ربه اليشكريّ وكان عبد ربه اليَشْكُريّ عاملاً لعيسى بن موسى على المدائن، فصعِد المنبرَ فحمِد الله وارتج عليه فسكت، ثم قال: والله إني لأكون في بيتي فتجيءُ على لساني ألفُ كلمة، فإذا قمتُ على أعوادكم هذه جاء الشيطانُ فمحاها من صَدْري، ولقد كنتُ وما في الأيّام أحب إلي من يوم الجمعة، فصِرْتُ وما في الأيام يوم أبغضُ إلي من يوم الجمعة، وما ذلك إلاّ لخطبتكم هذه. لروح بن حاتم صَعِدَ رَوْح بن حاتم المنبَر، فلما رأى جَمْعَ الناس حَصِر، فقال: نَكَسوا رؤوسَكم وغُضُوا أبصاركم، فإن أوّلَ مَرْكبٍ صعْب، وإذا يسر اللّه فَتْحَ قُفْل تيسر.
رجل دُعي ليخطب في نكاح فأرتج عليه ودُعِي رجلٌ ليخطب في نكاح فحَصِر، فقال: لَقَنوا موتاكم شهادةَ أنْ لا إلهَ إلا الله. فقالت امرأةٌ حضرتْ: ألهذا دعوناك! أماتك الله!.
لعبيد اللّه بن زياد، ولعبد الملك قال عُبَيد الله بن زِياد: نِعْمَ الشيءُ الإمارةُ لولا قعقعةُ البريد والتشرُف للخُطَب.
قيل لعبد الملك: عَجل عليك الشَّيبُ؛ فقال: كيف لا يُعجل علي وأنا أعرِض عقلي على الناس في كل جمعة مَرةً أو مرتين.
للدندان الهاشمى ووَليَ رجل من بني هاشم يُعْرَف بالدَنْدَان بحر اليمامة، فلما صعِد المنبر أرتج عليه فقال: حيا اللهّ هذه الوجوهَ وجعلني فِداءَها، إنَي قد أمرتُ طائفي بالليل ألا يرى أحداً إلا أتاني به وإن كنت أنا هو ثم نزل.
المنابرقال بعض المفسرين في قول اللّه جل وعزّ " ومَقَامٍ كَرِيم " ؛ إنه المنبر. وقال: الشاعر:
لنا المساجدُ نَبْنِيها ونَعْمُرُها ... وفي المنابر قَعْداتٌ لنا ذُلُلُ
فلا نَقِيلُ عليها حين نركَبُها ... ولا لهنّ لنا من مَعْشرٍ بَدَلُ
وقال الكُمَيْت يذكر بني أمية:
مُصيبٌ على الأعوادِ يومَ ركُوبِهِ ... لِمَا قال فيها مخطئ حين ينزِلُ
يُشَبِّهها الأشباهَ وهي نَصِيبُه ... له مَشْرَب منها حرامٌ ومأكَلُ
وقال بعض المُحْدَثين :
فما مِنبرٌ دنسته باستِ لا أفكل ... بِزَاكٍ ولو طهّرتَه بابن طاهر
للأقيشر ومرّ الأقَيْشِر بمَطَر بن نَاجِية اليربوعي حين غَلَبَ على الكُوفة في أيام الضًحاك بن قيس الشّارِي ومَطَرٌ يخطُبُ، فقال:
أبني تَميم ما لمنبر ِمُلْككم ... لا يستمِرّ قعوده يتَمرْمَرُ
إنّ المنابرَ أنكرتْ أشباهَكم ... فادعُوا خُزَيْمةَ يستقِرّ المنبرُ
خلعُوا أمِيرَ المؤمنين وبايَعُوا ... مَطَراً لعمرُك بَيْعةً لا تظهرُ
واستخلفوا مطراً فكان كقائلٍ ... بَدَلٌ لعمرُك من أمَيّة أعورُ
لقتيبة بن مسلم وقد سقط القضيب من يده وهو يخطب خَطَب قُتَيْبة بن مُسْلم على منبر خُرَاسان فسَقَط القضِيبُ من يده، فتفاءل له عدوّه بالشرّ واغتمّ صديقُه، فعَرَف ذلك قُتَيبة فقال: ليس الأمرُ على ما ظَنّ العدوّ وخاف الصديقُ، ولكنه كما قال الشاعر:
فألقتْ عَصَاها واستقرّ بها النَّوَى ... كما قَرّ عَيْناً بالإيابِ المُسافرُ
لواثلة بن خليفة يهجو عبد الملك بن المهلب وقال واثلةُ بن خَلِيفة السًدُوسيّ يهجو عبد الملك بن المُهَلَب:
لقد صَبَرتْ للذُّلِّ أعواد منبرٍ ... تقوم عليها في يديك قضيبُ
بكى المنبرُ الغربيُ إذ قُمْتَ فوقَه ... وكادت مساميرُ الحديد تنوبُ
تم كتاب العلم وهو الكتاب الخامس من عيون الأخبار لابن قتيبة رحمه الله، ويتلوه في الكتاب السادس كتاب الزهد.
والحمد للهّ رب العالمين، وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله أجمعين.
صورة ما كتبه الناسخ بخطه في آخر النسخة كتبه الفقير إلى رحمة الله تعالى إبراهيم بن عمر بن محمد بن علي الواعظ الجزريّ، وذلك في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة.
وقال بعضهم: بُنِي الإسلامُ على خمسة: التواضع عند الدولة، والعفو عند القدرة، والسخاء مع القِلّة، والعطيّة من غير مِنّة، والنصيحة للعامّة.
لبعض الشعراء في الصبر وقال بعض الشعراء في الصبر:
وإذا ابتُلِيتَ بمِحْنةَ فالبس لها ... ثوبَ السكوتِ فإن ذلك أسلمُ
لا تشكوَن إلى العباد فإنما ... تشكو الرحيمَ إلى الذي لا يَرْحَم
للشافعي رضي الله عنه وُيرْوَى للشافعيّ رضي اللّه عنه:
نَعِيبُ زمانَنا والعيبُ فينا ... وما لزماننا عيبٌ سوانا
وقد نهجُو الزمانَ بغير جُرْم ... ولو نطق الزمانُ بنا هجانا
فدُنْيانا التصنُعُ والترائيً ... ونحن به نُخادع من يرانا
وليس الذئبُ يأكل لحمَ ذئبٍ ... ويأكلُ بعضُنا بعضاً عِيانا
كتاب الزهد
ما أوحى الله عز وجل إلى أنبيائه عليهم السلام
لوهب بن منبه في ما أوحى اللّه تعالى به إلى أرمياءحدثني محمد بن عُبَيد قال: حدّثنا خَلَف بن تَميم عن أبي عِصْمة الشاميّ عن ابن أخت وهب بن منبه عن وهب قال: أوحَى الله إلى نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له إرمِياء حين ظهرت فيهم المعاصي: أن قُمْ بين ظَهْرانَيْ قومِك فأخبِرهم أن لهم قلوباً ولا يفقهون، وأعيناً ولا يبصرون، أذاناً ولا يسمعون، وأنِّي تذكرتُ صلاحَ آبائهم، فعطفني ذلك على أبنائهم، سلهم كيف وجدوا غب طاعتي، وهل سعِد أحد ممن عصاني بمعصيتي، وهل شقِي أحدٌ ممن أطاعني بطاعتي؛ إن الدواب تذكُرُ أوطانَها فتنزعُ إليها، وإن هؤلاء القوم تركوا الأمر الذي أكرمتُ عليه آباءهم، والتمسوا كرامةَ من غير وجهها. أما أحبارهم فأنكروا حقي؛ وأما قرّاؤهم فعبدوا غيري وأما نساكهم فلم ينتفعوا بما عُلَمُوا من حكمتي؛ وأما وُلاتهم فكذَبوا علي وكذَبوا رُسُلي، خزنوا المكر في قلوبهم، عودوا الكذبَ ألسنتَهم، وإني أقسم بجلالي وعزتي لاهيّجن عليهم جنوداً لا يفقهون ألسنتهم، ولا يعرفون وجوههم، ولا يرحمون بكاءهم؛ ولأبتعِثن فيهم ملِكاً جناراً قاسياً، له عساكر كقِطَع سحاب، ومواكبُ كأمثال العَجَاج، كان خَفَقانَ راياتِه طَيَرانُ النسور، وكأنْ حمل فُرسانه كرّ العِقبان، يعيدون العُمران خراباً، ويتركون القُرى وحشةً. فيا ويلَ إيلياء وَسُكانِها كيف أذلَلهم للقتل، واسلَط عليهم السباء، وأعيدُ بعد لَجَبِ الأعراس صُراخَ الهام، وبعد صهيل الخيل عُواءَ الذئاب، وبعد شُرفات القصور مساكنَ السباع، وبعد ضوءِ السرُج رَهَجَ العَجَاج. ولأبدلنّ رِجالهم بتلاوةِ الكتاب انتهارَ الأرباب، وبالعزّ الذلَّ، وبالنعمةِ العبوديةَ. ولأبدلن نساءهم بالطيبِ التراب وبالمشي على الزرابي الخِبَبَ؛ ولأجعلنً أجسادهم زبلاً للأرض، وعظَامهم ضاحيةً للشمس وفي رواية أخرى: ولأدوسنَّهم بألوان العذاب، حتى لو كان الكائنُ خاتَماً في يميني لوصلتَ الحربُ إليه؛ ثم لآمرنَ السماءَ فلتكوننَ طبَقاً من حديد، والأرضَ فلتكونن سبيكة من نحاس، أمطرت السماءُ وأنبتت الأرضُ شيئاً في خلال ذلك فبرحمتي للبهائم، ثم أحبِسه في زمن الزرع وأرسله في زمن الحِصاد، فإن زرعوا خلال ذلك شيئاً سلطتُ علِيه الآفةَ، فإن خَلص منه شيء نزعتُ منه البركةَ، فإن دعَوْني لم أجبهم، وإن سألوا لم أعطِهم، وإن بكَوْا لم أرحمهم، تضرّعوا صرفت وجهي عنهم.
في ما أوحى الله تعالى به إلى موسى بن منسى بن يوسف حدّثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب: أن الله عزّ وجل أوحى إلى موسى بن مَنسَّى بن يوسف أن قُلْ لقومك: إني بريء ممن سَحَر أو سُحِر له، أو تَكَفَنَ أو تُكُفَنَ له تَطَيرَ أو تُطُيرَ له؛ من آمن بي صادقاً فليتوكل عليّ صادقاً، فكفى بي مثيباًة ومن عدل عنّي، بغيري فإني خير شريك أردّ عليه ما توسّل به إليّ، وأكِلُه إلى من توكل عليه؛ ومن وكَلَته غيري فليستعذَ للفتنة والبلاء.
ما أوحى اللّه به إلى داود عليه السلام وحدّثني بهذا الإسناد قال: أوحى الله إلى داود عليه السلام في الزَّبور: يا عبدي الشكور إني قد وهبتُ لك الزبورَ، وأتبعتُه بنصح منّي من أعين السطور، ومن الوحي المحفوظ المحجوب من وراء الستور، فاعبدْني به في الأيام والليالي والشهور؛ وأحببْني من كل قلبك، وحببْني خَلْقي، وأبغِضْ من عبادي كل منافقٍ جهول. قال: يا ربّ، كيف أَحَببُكَ إلى خلقِك؛ قال: تُذكرهم آلائي.
في ما أنزل على إبراهيم عليه السلام وبهذا الإسناد قال: أنزل الله على إبراهيم عليه السلام عشرين صحيفة، وكانت صُحُفه أمثالاً وعِبَراً وتسبيحاً وتمجيداً وتهليلاً، فكان فيها: أيها الملك المسلَّط المغرور المبتلَى، إني لم أبعثك لتردَّ عني دعوةَ المظلوم، فإني لا أرُدّها ولو كانت من كافر.
ما أوحى اللّه تعالى به لشَعْيا
وبهذا الإسناد أن الله تعالى قال لِشَعْيا: قم في قومك أوح على لسانك؛ فلما قام شَعْيا أنطق اللُه لسانَه بالوحي، فقال: يا سماءُ اسْتَمِعي، يا أرضُ أنْصِتي، فأنصتت الأرضُ واستمعت السماءُ؛ فقال: إن اللّه يقول لكم: إني استقبلتُ بني إسرائيلَ بالكرامةِ وهم كالغنم الضائعةِ لا راعيَ لها، فآويتُ شاذَّتَها، وجمعتُ ضالَتها، وجبرتُ كسِيرها، وداويتُ مريضَها، وأسمنتُ مهزولَها؛ فبطِرْت فتناطحتْ، فقتل بعضُها بعضاً حتى لم يبقَ منها عظمٌ صحيح يُجبر إليه آخرُ كسيرٌ. إن الحمار مما يتذكر ارِيَّه الذي شَبع عليه فيراجعه، وإنّ الثور مما يتذكر مَرْجَه الذي سَمِنَ فيه فينتابه، وإنّ البعير مما يتذكر وطنَه الذي نُتِج فيه فينرع إليه، وإن هؤلاء القومَ لا يذكرون أنَى جاءهم الخيرُ وهم أهلُ الألباب وأهل العقول، ليسوا بإبلِ ولا بقر ولا حميرٍ. وإني ضاربٌ لهم مثلاً فاسمعوه: قل لهم: كيف تروْن في أرضٍ كانت زماناً من زمانها خربةً مواتاً لا حَرْثَ فيها، وكان لها رب قويٌ حليم، فأقبل عليها بالعِمارة وكرِه أن تخرَبَ أرضُه وهو قويٌ وأن يقال له ضيًع وهو عليم، فأحاط عليها سياجاً وشَيَد فيها قصراً وأنبط فيها نهراً وصنف فيها غِراساً من الزيتون والرُمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار، وولَّى ذلك ذا رأيٍ وهمةٍ حفيظَاَ قوياً أميناً؛ فلما جاء إبَّانُ إثمارها أثمرت خَرًوباُ، ما كنتم قائلين له ومشيرين عليه؟ قالوا: كنا نقول: بئست الأرض أرضُك، ونشير عليه أن يقلَع سياجها، ويهدِمَ قصرها، ويدفِنَ نهرها، ويحرِق غراسَها حتى تعودَ خربِةً مَواتاً لا عُمرانَ فيها. قال الله تعالى: قل لهم، إن السياجَ ذمتي، وإن القصرَ شريعتي، وإن النهر كتابي، وإن القيم نبييّ، وإن الغرسَ مثَلٌ لهم، والخروبَ أعمالُهم الخبيثةُ، وإني قد قضيتُ عليهم قضاءَهم على أنفسهم، يتقربون إلي بذبح الغنم والبقر وليس ينالني اللحمُ ولا آكُلُه، ويَدَعون أن يتقربوا إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرَّمتُها ويُشيِّدون لي البيوتَ ويُزَوًقون لي المساجدَة وأي حاجة بي إلى تشييد البيوت ولستُ أسكنُها، وإلى تزويق المساجد ولست أدخلُها؟ إنما أمرتُ برفعها لأذكَرَ فيها وأسَبًحَ، ويُنَجسون أنفسهم وعقولَهم وقلوبهم ويخرًبونها، يقولون: لو كان يقدِرُ على أن يجمعَ ألفتَنا لجمعَها، ولو كان يقدر على أن يُفقه قلوبنا لفقهها. فاعمِدْ إلى عودَين يابسَينِ فاكتب فيهما كتاباً ثمَّ ائتِ ناديَهم أجمعَ ما يكونون، فقل للعودين: إن اللّه يأمركما أن تعودا عُوداَ واحداً؛ فقال لهما ذلك، فاختلطا فصارا عُوداً واحداً، وصار الكتاب في طَرَفَي العودِ كتاباً واحداً: يا معشر القبائل، إن اللّه يقول لكم: إني قدرت على أن أفقَه العيدان اليابسة وعلى أن أؤلِّفَ بينها؛ فكيف لا أقدِرُ على أن أجمعَ ألْفَتكمِ إن شئت! أم كيف لا أقدِر على أن أؤلَف قلوبكم! يقولون: صمنا يُرفَع صيامُنا وصلَّينا فلم تُنوَّرْ صَلاتُنا وزكَينا فلم تَزْك زكاتُنا، ودعَونا بمثل حنين الحمام، و بمثل عُواء الذئاب، في كلّ ذلك لا يُسمعُ منّا ولا يُستجابُ لنا. قال اللّه تبارك وتعالى: " سلهم ذلك وما الذي منعني أن أجيبَهم؟ ألستُ أسْمَعَ السامعين وأبصَر الناظرين وأقرَبَ المجيبين وأرحم الراحمين! ألِأنّ خزائني فَنِيَتْ؟ كيف ويداي مبسوطتان بالخير انفِق كيف أشاء! أم لأن ذاتَ يدي قلتْ. كيف ومفاتيح الخير بيدي لا يفتحها ولا يُغلقها غيري! أم لأن رحمتي ضاقت؟ كيف ورحمتي وسِعتْ كل شيء، وإنما يتراحم بفضلها المتراحمون! أم لأنّ البخل يعتريني. كيف وأنا النفاح بالخيرات أجوَدُ مَن أعطَى وأكرمُ من سُئل! ولكن كيف أرفعُ صيامَهم وهم يَلْبِسونه بقول الزور ويتقوّون عليه بطُعْمة الحرام! كيف أنوِّر صلاتَهم وقلوبهم صاغيَةٌ إلى من يُحَادّني وينتهك محارمي أم كيف أستجيب دعاءهم وإنما هو قولٌ بألسنتهم والعملُ في ذلك بعيد! أم كيف تزكو صدقاتهم وهي من أموال غيرهم! إنما أجزِي عليها المغصوبين. وإن من علامة رضاي رضا المساكين.
في ما ناجى الله تعالى به موسى عليه السلام
قال وهب: وفيما ناجى الله به موسى عليه السلام: لا تُعْجبكما زينة ولا ما مُتِّعَ به، ولا إلى ذلك أعينكما فإنها زهرة الحياة الدنيا وزينة المترَفين. ولو شئت أن أزيِّنكما بزينة يعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تَعجِز عما اوتيتما فعلتُ، ولكنّي أرغب بكما عن ذلك وأزوِيه عنكما؛ وكذلك أفعل بأوليائي، إني لأذودُهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيقُ غنَمه عن مراتع الهَلَكَة، وإني لأحميهم عيشَها وسَلوتها كما يُجنَبُ الراعي الشفيقُ إبلَه مباركَ العُر، وما ذاك لهَوَانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفَّراً لم يَكْلِمْه الطمعُ ولم يطبعه الهوى. واعلم أنه لن يتزينُ العبادُ بزينة أبلغَ فيما عندي من الزهد في الدنيا، إنما هي زينة الأبرار عندي، وأنْقَى ما تَزَينَ به العبادُ في عيني عليهم منها، لباسٌ يُعرَفون به من السكينة والخضوع، سيماهم النحولُ والسجود، أولئك أوليائي حقاً. فإذا لقيتَهم فاخفِضْ لهم جناحَك، وذلل لهم قلبك ولسانَك.
وأعلم أنه من أهان لي ولياً أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة وبادأني وعرَّضني لنفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نُصرة أولياء، أفيظنّ الذي يحاربني فيهم أنه يقوم لي! أم يظنّ الذي يعاديني فيهم أنه يعجِزني! أم يظن الذي يبادرني إليهم أنه يسبقني أو يفوتني! كيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة، لا أكل نصرَهم إلى غيري! ما أوحى الله به إلى موسى عليه السلام بطور سيناء وفي التوراة: أوحى اللّه تعالى إلى موسى عليه السلام بطور سيناء: يا موسى بن عمران صاحب جبل لُبنان، أنت عبدي وأنا إلهك الديان؛ لا تستذلَّ الفقير، ولا تَغبِط الغني بشيء يسير؛ وكن عند ذكري خاشعاً، وعند تلاوة وحيي طَائعاً؛ أسْمِعْني لذاذةَ التوراة بصوتٍ حزين.
ما أوحى الله تعالى به إلى عيسى عليه السلام وفيما أوحى اللّه إلى عيسى عليه السلام: أنزلْني من نفسك كهمِّك، واجعلْني ذخرَك في مَعَادك، وتقرًبْ إلي بالنوافل أدْنِك، وتوكَل عليَّ أكفِك، ولا تَوَلَّ غيري فأخذُلك؛ إصْبر على البلاء، وارضَ بالقضاء، وكن كمسَرّتي فيك، فإنّ مَسرّتي أن أطاعِ، وأحْي ذكري بلسانك، وليكن وُدي في قلبك تيقَظْ لي في ساعات الغفلة؛ وكن راهباً لي وراغباَ إلي. أمِتْ قلبَك بالخشية؛ راع الليلَ لتحري مَسَرّتي، واظمأ لي نهارَك لليوم الذي عندي؛ نافسْ في الخيرات جُهدك. قُمْ في الخليقة بعدلي، واحكم فيهم بنصيحتي، فقد أنزلتُ عليك شفاءَ وساوِس ما في الصدور من مرض الشيطان، وجلاءَ الأبصارِ من غِشاء الكَلال؛ ولا تكن حِلْساً كأنك مقبورٌ وأنت حيّ تتنفَس. إكحَلْ عينيك بمُلمولِ الحزن إذا ضحِك البطّالون. إبكِ على نفسك أيام الحياة بكاءَ مَنْ قد ودّع الأهلَ وقَلَى الدنيا، وتركَ اللذاتِ لأهلها، وارتفعتْ رغبتُه فيما عند إلهه. طوبَى لك إن نالك ما وعدتُ الصابرين تَرجَ من الدنيا يوماً فيوماً، وارضَ بالبُلْغَة، ولْيكفِك منها الخَشِنُ. تذوَّق مذاقةَ ما قد خلا أين طعمُه! وما لم يأت أين لذّتُه! لو رأت عيناك ما أعددتُ لأوليائي لذاب قلبك وزهِقَتْ نفسُك شوقاً إليه.
فيما قال عيسى للحواريين
وفيما قال للحواريين: بحقٍّ أقول لكم: إنّ شجر الأرض بمطر السماء تعيش وتزكو، وكذلك القلوب بنور الحكمة تُبصِر وتَهتدي؛ بحق أقول لكم: إنه من ليس عليه دَينٌ أروَحُ وأقل همًّا ممن عليه دين وإن حَسُنَ قضاؤه، وكذلك من لم يعمل الخطيئةَ أروحُ وأقلُّ هَمًّا ممن عمل بها وإن حسُنْت توبتُه. إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة خيراً، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوةً. إنّ الجسدَ إذا صلَح كفاه القليل من الطعام، وإنّ القلب إذا صح كفاه القليل من الحكمة. كم مِن سراجٍ قد أطفأته الريحُ، وكم من عابد قد أفسده العُجْب. يا بني إسرائيل، استمعوا قولي فإن مَثَل من يستمع قولي ثم يعمَلُ به مثلُ رجلٍ حكيم أسس بنيانَه على الصفا، فمطرت السماء وسالت الأوديةُ وضربته الرياحُ فثبت بنيانُه ولم يَخِر، وَمَثل الذي يستمع قولي ثم لا يعمَل بهَ مثل رجلٍ سفيهٍ أسَسَ بنيانَه على الرمل، فمطرت السماءُ وسالت الأوديةُ وهاجت الريحً فضربته فسقط بنيانُه. يا بني إسرائيل، ما يُغنِي عن الأعمَى سَعَةُ نورِ الشمس وهو لا يُبصرها! وما يغني عن العالم كثرةُ العلم وهو لا يعمَل به!. بحق أقول لكم: إن قائلَ الحكمة وسامعَها شريكان، وأوْلاهما بها من حقّقها بعمله. بحقٍّ أقول لكم: لو وجدتم سراجاً يتوقد بالقَطِران في ليلة مظلمةٍ لاستضأتم بنوره ولم يمنعكم منه نتْنُ قَطرَانه، فكذلك ينبغي لكم أن تأخذوا الحكمةَ ممن وجدتموها عنده قول عيسى عليه السلام لأصحابه بلغني عن محمد بن فُضَيل عن عمران بن سليم قال: بلغني أنّ عيسى بن مريم قال لأصحابه: إن كنتم إخواني وأصحابي فوطنوا أنفسَكم على العداوة والبغضاء من الناس؛ إنكم لا تُدرِكون ما تطلبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تنالون ما تُحبون إلا بالصبر على ما تكرهون. إياكم والنَظْرَة، فإنها تزرع في القلب الشهوةَ. طوبى لمن كان بصرُه في قلبه ولم يكن قلبه في بصره! بين عيسى عليه السلام وأصحابه قال: وبلغني أن عيسى خرج على أصحابه وعليه جُبًةٌ من صوف وكساءٌ وتبانٌ حافياً مجزوز الرأس والشاربين باكياً شَعِثاً مصفَرً اللون من الجوع يابسَ الشًفتين من العطش، طويلَ شعر الصدر والذراعين والساقين؛ فقال: السلام عليكم يا بني إسرائيل أنا الذي أنزلتُ الدنيا منزلَها، ولا عجَب ولا فخر، أتدرون أين بيتي؟ قالوا: أين بيتك يا رُوحَ الله؟ قال: بيتي المساجد، وطيبي الماء وإدامي الجوعُ، ودابتي رجلي، وسراجي بالليل القمرُ، وصِلاتي في الشتاء مشارقُ الشمس وطعامي ما تيسَّر، وفاكهتي ورَيْحاني بُقُولُ الأرض، ولباسي الصوفُ، وشِعَاري الخوف، وجُلَسا الزَمْنى والمساكينُ، أصبحُ ليس لي شيء، وأمْسي وليس لي شيء، وأنا طيب النفس غنيّ مُكْثر فمن أغنى وأربح مني.
وقرأت في بعض الكتب: عبدي! ما يزال مَلَكٌ كريم قد صعِد إليِّ منك بعمل قبيح، أتقرب إليك بالنّعم، وتتمقَّتً إليَّ بالمعاصي خيري إليك نازلٌ، وشرك إليّ صاعدٌ.
وفي التوراة: لعلّكَ يا إسرائيلُ إذا أنت خرجتَ من البرية فدخلتَ الأرضَ المقدسة، أرض بني آبائك إبراهيم وإسحاقَ، فإنها تَفِيضُ بُراً وشعيراً ولبناً وعسلاً، فَورِثتَ بيوتاً بناها غيرُك وعصرتَ كروماً غرسها غيرك، فأكلتَ وشربتَ وتنعَمتَ بشحم لُبابِ القمح، ضربتَ بيدك إلىِ صدرك ورمحتَ كما ترمح الدابّةُ برجليها، وقلتَ: بشدّتي وبقوّتي وبأسي ورِثتُ هذه الأرض وغلَبتُ أهلَها، ونسِيتَ نعمتي عليك! فأقذف الرُّعبَ في صدرك إذا أنت لقِيتَ عدوك، وإذا هبت الريحُ فتقعقعِ لها ورِقُ الشجر انهزمتَ، فأقِل رجالكَ، وأرمَلُ نساءك، وأيتَم أبناءك، وأجعلُ السماءَ عليك نُحاسَاً والأرض حديداً، فلا السماءُ تُمطِر ولا الأرضُ تُنبِت، واقِلُّ لك البركةَ حتى تجتمع نِسوةٌ عَشْرٌ يختبزن في تَنُّورٍ واحدٍ .
لوهب بن منبه بلغني عن عبد الرحمن المحاربيّ عن جعفر بن بُرْقان قال: بلغني عن وهب بن منبه قال: أجُد في الكتاب أنّ قوماً يتديّنون لغير العبادة، ويختِلون الدنيا بعمل الآخرة، يلبسون مُسُوك الضأن على قلوب الذئاب، ألسنتهم أحلى من العسل وأنفُسهم أمرّ من الصبر، ألي يغترُّون! أم إياي يخادعون! أقسمتُ لأبعثن عليهم فتنةً يعود الحليمُ فيها حَيْران.
وقرأتُ في الإنجيل: " لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسِدها السوسُ والدودُ وحيث ينقُبُ السراقُ، ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم. إنَّ العينَ هي سِراجُ الجسد فإذا كانت عينك صحيحةً فإن جسدَك كلَّه مُضِيء. وإنه لا يستطيع أحد أن يعملَ لربيْن اثنيْن إلا أن يُحب أحدَهُما وُيبغِضَ الآخر، ويُوقِّر أحدهما ويُهينَ الآخرَ، فكذلك لا تستطيعون أن تعمَلوا لله وللمال. ولا يُهمَنًكم ما تأكلون وما تشربون وما تلبسون، أليست النفسُ أفضل من الطعام، والجسدُ أفضلَ من اللباس انظروا إلى طَير السماءِ فإنهن لا يزرعن ولا يَحصدن ولا يَجمعنَ في الأهْراءِ، وأبوكم الذي في السماء هو الذي يرزقُهنَ، أفلستم أفضلَ منهنَّ ! وأيكم الذي إذا جهِد قدر أن يزيدَ في طوله ذراعاً واحداً! فلِمَ تهتمون باللباس؟ اعتبروا بسُوس البرية فإنه لا يعملَ ولا يغزِل، أنا أقول: إن سليمانَ بوقاره لم يستطع أن يلبسَ كواحده منه، فإذا كان اللهّ يُلبِسُ عُشبَ الأرض الذي ينبت اليوم ويُلقَى في النارِ غداً، أفلستم يا قليلي الإيمانِ أفضلَ منه! ولا تهتفُوا فتقولوا: ماذا نأكل وماذا نشربُ وماذا نلبَسُ، فإنه إنما يهتمُّ لذلك ابن الدنيا؛ وإن أباكم الذي في السماء يَعْلم أنَّ ذلك ينبغي لكم، فابدأوا فالتمسوا ملَكوتَ الله وصِدِّيقيّته، فإنكم سوف تُكْفَون. ولا يُهمَنّكم ما في غدٍ، فإن غداً مكتفٍ بهمّه، وحَسْبُ اليوم شرهُ. وكما تَدِينون تُدانون، وبالمكيال الذي تكيلون يُكال لكم. وكيف تُبصِر القذاةَ في عين أخيك ولا تُبصر الساريةَ في عينك! لا تُعطوا الكلاب القُدْسَ، ولا تُلقما لؤلؤكم للخنازير. سَلوا تُعْطواَ وابتغُوا تجِدوا، واستفتحُوا يُفتحْ لكم، وانظروا الذي تُحبُّون أن يَأتِيَ الناسُ إليكم فأتوا إليهم؛ أدخلوا البابَ الضيق، فإن البابَ والطريقَ إلى الهَلَكةِ عَرِيضان، والذين يسلُكونَهما كثيرٌ. وما أضيق البابَ والطريقَ اللذين يُبلَغان إلى الحياةِ! والذين يسلكونَهما قليلٌ " .
بين عيسى عليه السلام ورجل وقال له رجل: أتْبعُك حيث ذهبتَ. فقال له عيسى: للثعالبِ حِجرَةٌ، ولطير السماء كِنَان وليس لابن الإنسانِ مكان يُسنِدُ فيه رأسَه.
وبينه وبين رجل من الحواريين وقال له رجل من الحَوارِيين: أتأذن لي أن أدفِنَ أبي؟ فقال له: دع الموتَى يَدفنون موتاهم واتْبَعْني.
من أقوال عيسى للحواريين وقال للحوارِيين: لا تَتزودوا شيئاً، فإن العائلَ محقوقٌ أن يُطْعَم قُوتَه، وإني أرسلكم كالخِرفان بين الذئاب، فكونوا حُلَماء كالحياتِ وبُلْهاً كالحَمام. وإذا دخلتم البيتَ فسلموا على البيتِ، فإن كان ذلكَ البيت أهلَاَ لسلامكم فليُصِبْهم، وإن لم يكن أهلاً لسلامكم فإنه يرجع إليكم. ومن لم يُؤوِكم ويستمَعْ لقولكم، فإذا خرجتم من قَريته فانفُضُوا الغبارَ عن أرجُلِكم ما ناجى به عُزير ربه حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وَهْب قال: كان فيما ناجَى به عُزَير ربه: " اللهَم فإن لك من كلِّ خَلْقٍ خلفتَه خِيْرَةً اخترتها، وإنك اخترتَ من النابت الحبْلة؛ ومن المواشي الضائنةَ، ومن الطير الحمامةَ، ومن البيوت بيتَ إيلياء، ومن إيلياءَ بيتَ المقدِس، ومن جميع الخلائق آدمَ، ومن وَلَدِ آدمَ نوحاً، ومن وَلَد نوحٍ إبراهيمَ، ومن وَلَد إبراهيمَ إسماعيلَ وإسحاقَ، من وَلَد إسحاقَ إسرائيل؛ اللهمً فأصبحتْ خِيْرَتُك قد تمَت ونفذَتْ في كل ما اخترتَ إلا ما كان من وَلَد خليلك إبراهيم، فإنهم أصبحوا أعبُداً لأهل معصيتك وخَوَلًا لأعدائك، فما الذي سلَط علينا ذلك؟ أمن أجل خطايانا. فالخاطئون ولَدونا، أو من أجل ضعفنا؟ فمن ضعفٍ خلِقْنا. قال: فجاءني الملَكُ فكلمني، فبينما أنا كذلك سمعت صوتاً هالني فنظرت، فإذا امرأةٌ حاسرةٌ عن رأسها، ناشرةٌ شعرَها، شاقَّة جبيْها، تَلطِمُ وجهَها، وتصرُخُ بأعلى صوتِها، وتحثُو الترابَ على رأسها، فأقلبتُ عليها وتركتُ ما كنتُ فيه، فقلتُ لها: ما بالُكِ أيتها المرأةُ وما الذي دهاكِ؟ أخبريني خبرَكِ، فقد أصابت المصائبُ غيرَك.
قالتْ: إليك عنّي أيها الرجلُ، فإن ربّي هو الذي أبكاني، ومصيبتي أعظمُ مما ترى. فقلتُ: فإن في اللهّ عزاءً من كلّ مصيبة، وخَلَفَاً من كلّ هالك، وعوضاً من كل فائتٍ، فإياه استعيني، وإلى نظره لك فانظري.
قالت: إني كنتُ امرأة كثيراً مالي، عظيماً شرَفي، وكنت عاقراً لا وَلَدَ لي، وكنتُ عند بعلٍ له نِسوة معي وكلهن وُلدَ له غيري، فملنَ به لحب الولد فصرفَ وجهَه عنّي، فحزنتُ وحزن أهلي وصديقي، فلما رأيت هواني عليه وسقوطَ منزلتي عنده، رغِبتُ إلى ربي ودَعَوْتُه فأجابني، واستوهبتُه غلاماً فوهبه لي، فقرتْ به عيني، وفرح أهلي، وعطَف اللُه به زوجي، وقطعَ عنّي ألسنةَ ضرائري، فربيْتُ غلاماً لم تحمِلْ أنثى مثلَه حُسناً وجمالاً ونضَرة وتماماً، فلما بلَغ أشُده وكمَل به سروري خطبتُ عليه عظيمةَ قومي، وبذلتُ دونه مالي، وخرجتُ من خُلعتي، وجمعت رجالَ قومي، فخرج يَمشي بينهم حتى دخلَ بيتَه، فلما قَعد على سريره، خر منه فاندقت عنقُه فمات ابني وضلَّ عملي وبطَلَ نصيبي وتَلِفَ مالي، فخرجتُ إلى هذه البَريًة أبكيه فيها لا أريدُ أن أرى أثراً من آثاره ولا أحداً من أصحابه، ولن أبرَحَ أبكيه حتَّى ألحقَ به.
قال عُزَيرٌ: اذكري ربك وراجعيه، فقد أصابت المصائبُ غيرَك أما رأيتِ هلاكَ إيلياءَ وهي سيدةُ المدائن وأمُّ القُرَى؟ أوَ ما رأيتِ مصيبة أهلها وهم الرجال؟ قالت: إي رحِمك اللُه! إن هذا ليس لي بعزاء وليستْ لي بشيء منه أسوةٌ، إنما تبكي مدينةً خرِبَتْ، ولو تُعمَرُ عادتْ كما كانت، وإنما تبغِي قوماً وعدَهم الله الكَرَّةَ على عدوهم، وأنا أبكيَ على أمرٍ قد فات، وعلى مُصيبة لا أستقيلُها.
قال عُزَير: فإنه خُلِقَ لما صار إليه، وكل شيء خُلِقَ للدنيا فلا بد أن سيَفْنَى، أمَا رأيتِ مدينتنا أصبحتْ خاويةً على عروشها بعد عِمارتها، وأوحشتْ بعد أنسها وأثاثها؛ أوَ ما رأيت مسجدَنا كيف غُير حسنُه، وهُمَ حِصنُه، وأطفئ نورُه! أوَ ما رأيتِ عزَ أهلها كيف ذَلَّ، وشرفَهم كيف خَمُلَ ومجدَهم كيف سقَط، وفخرَهم كيف بطَل! أو ما رأيتِ كتاب اللّه كيف أحْرِقَ، ووليَ اللّه كيف رُفِعَ، وتابوتَ السكينةِ كيف سُبي! أو ما رأيتِ نساءَ الملوك وبناتِهم في بُطون الأسواقِ حاسرات عن السُوق والوجوه والأشعار! أو ما رأيت الأشياخ الذين على وجوههم النورُ والسكينةُ مقَرَّنِين في الحبال والقِطار! أو ما رأيتِ الأحبارَ والرهبانَ مصفدين في الإسار، أو ما رأيتِ أبناءَ موسى وهارون تُضرب عليهم السهامُ ويقتسمُهم الأشرارُ، وولدانَ الملوك خَدماً للكُفْار؟ أو ما رأيتِ قتلانا لم يوار أحداً منهم قبرٌ، ولم يَعهَدْ أحد منهم إلى ولد، فالحكماء مبهوتون، والعلماء يموجون، والحلماء متحيّرون، وأهلُ الرأي مُلْقُون بأيديهم مُستسلِمون.
قال: فبينا أنا أكلَمها غشى وجهَها نورٌ مثلُ شعاع الشمس حال بيني وبين النظر إليها فخمرتُ من شدته وجهي ورددتُ يدي على بصري، ثم كشفتُ وجهي فإذا أنا لا أحِسّها ولا أرى مكانَها، وإذا مدينة قد رُفعتْ لي حصينةٌ بسورها وأبوابها، فلما نظرتُ إلى ذلك خَرَرتُ صَعِقاً؛ فجاءني الملَك فأخذ بضَبْعي ونعشني وقال لي: ما أضعفك يا عُزَيْر! وقد زعمتَ أن بك من القوة ما تخاطبُ به ربك وتُدلِي بالعذر عن الخاطئين من بني إسرائيل.
قال له عُزَيْر: مثل الني رأيتُ وعاينتُ أضعفني وأذهب روحي.
قال الملَك: فإن المرأةَ التي كلمتْك هي المدينة التي تبكي عليها، صورها الله لك في صورة أنثى فكلمتك، فافقَهْ عنها: أما قولها: إنها عُمَرتْ زماناً من دهرها عاقراً لا ولد لها، فكذلك كانت إيلياءُ صعيداً من الأرض خرابَاً لا عُمرانَ فيها أكثر من ثلاثة آلاف سنة. وأمّا قولها: إن اللّه وهب لها غلاماً عند اليأس، فذلك حين أقبل الله عليها بالعُمران فابتعث اللُّه منها أنبياءه وأنزل كتابه. وأما قولها: إنه هلك ولدُها حين كمل فيه سرورُها، فذلك حين غيَّر أهلُها نعَم اللّه وبدّلوها ولم يزدادوا بالنعم عليهم إلا جُرأة على الله وفساداً، فغير اللّه ما بهم وسلّط عليهم عدوَّهم حتى أفناهم، وقد شفَعك اللّه في قومِك وكتابك ومدينتك، وسيُعيدها الله عامرة كما رأيت عليها حيطانُها وأبوابُها، نجيها مساجدُها وأنهارها وأشجارها.
بين إبراهيم عليه السلام وصديق له يُدعى العازر
وحدثني بهذا الإسناد قال: لما أمر الله إبراهيم أن يذبح إسحاقَ عليهما السلام ويجعلَه رباناً، أسر ذلك إلى خليلٍ له يقال له: العازر؛ فقال له الصديق: إن الله لا يَبتلي بمثل هذا ملَك، ولكنَّه يريد أن يُجرَبك ويختبرَك، وقد علمتَ أنه لم يبتلِك بهذا ليَفتِنك ولا ليُضلَك ولا ليعنتك ولا لينقُص به بصيرتَك وإيمانَك ويقينَك، ولا يروعنَك هذا ولا تَسُوءنّ باللّه ظنّك، وإنما رَفع ذلك اسمكَ في البلاء على جميع أهل البلاء، حتى كنت أعظمهم في نفسك وولدك، ليرفعَك بقدر لك عليهم في المنازل والدرجات والفضائل؛ فليس لأهل الصبر في فضيلة الصبر إلا فضلُ صبرك، وليس لأهل الثواب في فضيلة الثواب إلى فضل ثوابك، وليس لأهل البلاء في جسيم شرف البلاء إلا فضلُ شرفك. وليس هذا من وجوه البلاء الذي يبتلي الله به أولياءه، لأن الله أكرمُ في نفسه وأعدلُ في حكمه وأعدل في عبادة من أن يجعل ذبح الولد الطيِّب بيد الوالد النبيّ المصطفَى؛ وأنا أعوذ بالله من أن يكون هذا منّي حتماً على اللّه أو ردّاً لأمره أو سُخْطاً لحكمه على عباده، ولكن هذا الرجاءُ فيه والظن به. فإن عزم ربك على ذلك فكن عبداً أحسن علمه بك ة إني أعلم أنه لم يُعرضك لهذا البلاء العظيم إلا لحُسن علمه بك وبصدقك وبصبرك، ليجعلك لناس إماماً، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
بين جبريل ويوسف عليهما السلام وحدثني بهذا الإسناد أن يوسف عليه السلام لما لبِث في السجن سبع سنين أرسل الله عز وجل إليه جبريلَ عليه السلامِ بالبشارة بخروجه، فقال له: أتعرفني أيها الصديق؟ قال له يوسف: أرى صورةً طاهرةً وروحاً طيباً لا يشبه أرواح الخاطئين. قال جبريل: أنا الروح الأمين، رسول رب العالمين. قال يوسف: فما أدخلك مداخل المذنبين وأنت سيد المرسلين ورأس المقربين. قال جبريل: أوَ لم تعلم أيها الصدّيقُ أن الله يطفَر البيوت بطُهر النبيين، وأن البقعة التي يحلون بها هي أطهر الأرضين، وأنه قد طهّر بك السجنَ وما حوله يابن الطاهرين. قال يوسف: كيف تشبّهني بالصالحين، وتسمّيني بأسماء الصدّيقين، وتُعدّني مع آبائي المخلصين، وأنا أسيرٌ بين هؤلاء المجرمين؟ قال جبريلُ: لم يَكلِم قلبَك الجزعُ، ولم يغير خُلُقَك البلاءُ، ولم يتعاظمك السجنُ ولم تطأ فراش سيّدك، ولم يُنسك بلاءُ الدنيا بلاءَ الآخرة، ولم تُنسك نفسُك أباك ربك ولا أبوك ربَّك؛ وهذا الزمان الذي يفُكُّ الله به عنوّك، ويُعْتِق به رِقك، ويُبيَن للناس فيه حكمتك، ويُصدق رؤياك وُينصفك ممن ظلمك، ويجمع إليك أحبّتك، ويهب لك مُلك مصرَ: يملكك ملوكها ويُعبِّد لك جبابرتها، ويُذلّ لك أعزّتها، ويُصغَر لك عظماءها، ويخدِمُك سُوقتها، ويخوّلك خوَلَها ويرحَم بك مساكينَها، ويُلقيِ لك المودةَ والهيبةَ في قلوبهم، ويجعل لك اليدَ العليا عليهم والأثر الصالحَ فيهم، ويُري فرعون حلْماً يفزَع منه ويأخذه له كربٌ شديد حتى يُسهرَه ويُذهَب نومَه ويعمّي عليه تفسيره وعلى السحرة والكهنة ويعلَمك تأويلَه.
وفي بعض الكتب: أوحى الله تعالى إلى بعض الأنبياء: إذا أردت أن تسكنَ معي غداً في حظيرة القُدس فكن في الدنيا وحيداً فريداً مهموماً حزيناً، كالطائر الوحدانيّ يظلُّ بأرض الفلاة ويرِد ماء العيون ويأكل من أطراف الشجر، فإذا جَنً عليه الليل أوى وحده استيحاشاً من الطير واستئناساً بربه جلّ وعزّ.
الحجاج وصندوق عبد الله بن الزبير لما قُتِلَ عبدُ الله بن الزبَير وجد الحَجاجُ فيما ترك صُندوقاً عليه أقفال حديد، فتعجْب؛ وقال: إنّ في هذا شيئاً. ففتحه فإذا صندوقٌ آخرُ عليه قُفْل ففتحه فإذا سَفَطٌ فيه درج، ففتحه فإذا صحيفة فيها: إذا كان الحديث حَلفاً، والميعادُ خُلْفاً، والمِقْنبُ ألفاً، وكان الولدُ غيظاً، والشتاء قيظاً؛ وغاض الكرامُ غيضاً، وفاض اللئام فيضاً، فأعنزٌ عُفْرٌ، في جبل وَعْر، خير من مُلك بني النضّر. حدثني بذلك كعب الحِبر.
الدعاءللنبي صلى الله عليه وسلم
حدثني أبو مسعود الدارمي: قال: حدثنا جريرٌ عن أنس بن مالك قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: " قال ربكم عزّ وجلّ ثلاثة: واحدةٌ لي، وواحدةٌ لك يا بن آدم، وواحدة بيني وبينك، فأما التي لي فتخلِصُ لي لا تُشرِك بي شيئاً، وأما التي لك فأحوجُ ما تكون إلى عملك أوفيكه، وأمما التي بيني وبينك فمنك الدعاءُ وعلي الإجابة " .
ما يفتتح به النبي صلى الله عليه وسلم صلاته في قيام الليل حدّثني عَبْدةُ بن عبد اللّه قال: أخبرنا زيد بن الحُبَاب قال: حدثنا معاوية قال: حدثني أزهرُ ابن سعيد عن عاصم بن حميد قال: سألتُ عائشةَ رضي اللّه عنها، ما كان يفتتح به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم به صلاتَه في قيام الليل؟ قالت: كان يُكبر عَشْراً ويحمَدُ عشرا ويسبح عشراً ويهلَل عشراً ويستغفرُ الله عشراً، وثم يقول: " اللهم اغفرْ لي واهدني وارزقني وعافني " ، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة.
للنبي صلى الله عليه وسلم إذا أصبح حدثنا حسين بن حسن المروزي قال: حدثنا الخُفَافُ عن أبي الوَرْقاء عن عبد الله بن أبي أوفَى قال: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال: " أصبحنا وأصبح الملكُ والكبرياءُ والعظمةُ والخَلقُ والأمرُ والليلُ والنهارُ وما يسكن فيهما لله رب العالمين وحده لا شريك له. اللهم اجعل أوّلَ هذا النهار صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخرَه نجاحاً. اللهم إني أسألك خيرَ الدنيا وخير الآخرة يا أرحمَ الراحمين " .
دعاء الاستسقاء للحسين حدثنا إسحاق بن راهويه قال: أخبرنا حسين بن عليّ الجُعْفِيِ عن إسرائيلي عن الحسين أنه كان إذا استسقى قال: " اللهم اسقنا سُقْيا واسعةً وادعةً عامةً نافعةَ غيرَ ضارة تعم بها حاضرَنا وبادينَا وتزيد بها في رزقنا وشكرنا. اللهم اجعله رزقَ إيمانٍ وعطاءَ إيمانٍ إن عطاءك لم يكن محظوراً. اللهم أنزل علينا في أرضنا سكنها، وأنبِتْ فيها زينتها ومرعاها " .
دعاء الاستسقاء للعباس روى الكلبيّ عن أبي صالح أن العباس قال: يوم استسقى عمر رضي اللّه عنه: " اللهم إنه لم ينزلْ بلاء إلا بذنب، ولا يُكشَف إلا بتوبةٍ، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة، فاسقنا الغيث،. فأرخت السماءُ شابيب مثلَ الجبال بديمةٍ مُطبِقَةٍ.
دعاء عمر بن عبد العزيز عشية عرفة بعرفة وروى سفيان بن عيينة عن أبي عبد الملك قال: سمعت عمر بن عبد العزيز عشية عرفه بعرفة وهو يقول: " اللهم زِدْ في إحسان محسنهم، وراجعْ بمسيئهم إلى التوبة، وحُطْ من ورائهم بالرحمة " .
دعوات النبي صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من مجلس حدّثنا حسين بن حسين قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا يحيى بن أيوب عبيد الله بن زحر عن خالد بن أبي عمران عن عبد اللّه بن عمر قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لا يكاد يقوم من مجلس إلا دعا بهؤلاء الدعوات: لا اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تُبلغنا به إلى رحمتك، ومن اليقين ما تهونُ به علينا مصيباتُ الدنيا ومَتِّعنا بأسماعنا، أبصارنا، واجعل ذلك الوارثَ منا، وانصرنا على من ظلمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلَط علينا من لا يرحمنا " .
لشدّاد بن أوس ثم للنبي صلى الله عليه وسلم بلغني عن يونس عن الأوزاعيّ عن حسّانَ بن عُطَيًة قال: كان شدّاد بن أوس في سفر، فنزلنا منزلاً فقال لغلامه: ائتِنا بالسفرة نَعبث بها، فأنكرت منه، فقال: ما تكلمت بكلمة مذ أسلمت إلا وأنا أخطِمها وأزّمها غير كلمتي هذه فلا تحفظوها عني، واحفظوا عني ما أقول لكم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا كنز الناسُ الذهبَ والفضّة فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثباتَ في الأمر والعزيمةَ في الرشد وأسألك شكر نعمتك وأسألك حسنَ عبادتك أسألك قلباً سليماً ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، أستغفرك لِما تعلم، إنك أنت علام الغيوب " .
من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم
بلغني عن الوليد بن مسلم قال: حدّثنا أبو سلمة الحوسيّ عن سالم بن عبد الله قال: كان من دعاء رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزقني عينين هطّالتين تبكيان بذروف الدموع وتشفيانني من خشيتك قبل أن تكون الدموع دماً والأضراس جمراً " .
حدّثني أبو سفيان الغَنْوِيّ قال: حدثنا عمر بن عِمران قال: حدّثني الحارث بن عِنبة عن العلاء بن كثير عن أبي الأسقع: أنه كان يحفظ من دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم: " يا موضعَ كلّ شكوى ويا شاهدَ كلّ نَجْوَى بكل سبيل أنت مقيم تَرَى ولا تُرَى وأنت بالمنظَر الأعلى " .
دعاء عيسى عليه السلام للمرض والعميان والمجانين حدّثنا عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: كان دعاء عيسى الذي يدعو به للمرضى والزِّمْنَى والعميان والمجانين وغيرهم: " اللهم أنت إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض لا إله فيهما غيرُك، وأنت جبار مَنْ في السماء وجبار مَنْ في الأرض لا جبارَ فيهما غيرك، وأنت حَكَمُ مَنْ في السماء وحَكَمُ مَنْ في الأرض لا حَكَمَ فيهما غيرُك، وأنت ملِك منْ في السماء وملِك مَنْ في الأرض لا ملِك فيهما غيرك؛ قُدرتُك في الأرض كقدرتِك في السماء، وسلطانُك في الأرض كسلطانك في السماء؛ أسألك باسمك الكريم ووجهِك المنير إمُلكِك القديم، إنك على كلّ شيء قدير،. قال وهب: هذا يُقرأ للفزع على المجنون ويُكتب له ويغسل ويسقى، فيبرأ بإذن اللهّ أيّ ذلك شاء فعل.
من دعاء المسيح حين أخذه اليهود وحدّثني أيضاً بهذا الإسناد قال: كان من دعاء المسِيح حين أخذه اليهود ليصْلُبوه بزعمهم فرفعه الله إليك: " اللهم أنت القريب في علوك، المتعالي في دنوّك، الرفيع على كل شيء خَلْقك، أنت الذي نفذ بصرك في خلقك، وحَسِرَت الأبصار دون النظر إليك وعَشِيَتْ دونك وشمخ بك العلوّ في النور؛ أنت الذي جَلّيت الظُّلَمَ بنورك فتباركت اللهم خالق الخلق بقدرتك مقدر الأمور بحكمتك، مبتدِعَ الخلق بعظمتك، القاضي في كل شيء بعلمك؛ أنت الذي خلقتَ سبعاً في الهواء بكلماتك، مستوِياتِ الطباق مذعِناتٍ لطاعتك، سَمَا بهنّ العلوّ بسلطانك فَأجبْنَ وهنّ دخان من خوفك، فأتَيْنَ طائعاتٍ بأمرك، فيهن ملائكتك يسبّحون قدسَك بتقديسك وجعلتَ فيهنّ نوراً يجلو الظلام، وضياءً أضوا من شمس النهار، وجعلتَ فيهنّ مصابيحَ يُهتد بها في ظُلمات البحر والبر ورجوماً للشياطين، فتباركتَ اللهم في مفطور سمواتك، وفيها دَحَوت من أرضك، ودَحوتها على الماء، فأذللت لها الماء المتظاهر فذل لطاعتك وأذعن لأمرك وخضع لقوتك أمواجِ البحار، ففجّرتَ فيها بعد البحار الأنهارَ، وبعد الأنهار العيونَ الغِزار والينابيعَ؛ ثم أخرجت منها الأشجارَ بالثمار، ثم جعلتَ على ظهرها الجبالَ أوتاداً فأطاعتا أطوادُها، فتباركت اللهم في صنعك، فمن يبلغ صفةَ قدرتك ومن يُنعَتُ نعتك. تُنزِل الغيث وتُنشِئ السحابَ، وتفُك الرقابَ وتَقْضِي الحقّ وأنت خير الفاصلين. لا إله إلا أنت سبحانك أمرتَ أن يستغفرك كلُّ خاطئ. لا إله إلا أنت إنما يخشاك من عبادك العلماء الأكياس. أشهد أنك لست بإله استحدثناه، ولا رب يبيد ذِكرُه، ولا كان لك شركاءُ يقضون معك فندعو ونَدَعُك، ولا أعانك أحدٌ على خَلْقِك فنشك فيك. أشهدُ أنك أحد صمدٌ لم تلِد ولم يكن لك كفواً أحدٌ، ولم تتخذ صاحبةً ولا ولدا. اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجا " .
قال وهب: وهذا الدعاء عُوذَةٌ للشقيقة وغيرها من قولك: " أشهد أنك لستَ بإله استحدثناه، إلى آخره " .
لابن عباس في كيفية الدعاء حدّثني محمد بن عُبَيد قال: حدّثنا سفيان بن عُيَينة عن ابن عباس قال: " الإخلاص هكذا، وبسط يده اليمنى وأشار بإصبعه من يده اليسرى، والدعاء هكذا، وأشار براحتيه إلى السماء، والابتهال هكذا، ورفع يديه فوق رأسه ظهورُهما إلى وجهه " .
دعاء داود في الليل حدثني عبد الرحمن عن عبد المنعم عن أبيه عن وهب بن منبّه قال: كان داود إذا دعا في جوف الليل قال: " اللهم نامتِ العيونً وغارتِ النجومُ وأنت حيّ قيّوم اغفر لي ذنبي العظيم إنك عظيم. وإنما يغفر العظيمَ العظيمُ، إليك رفعتُ رأسي عامرَ السماء نظرَ العبيد إلى أربابها. اللهمّ تساقطت القُرَى وأبطِل ذكرُها وأنت دائبٌ الدهرَ مُعد كرسيَّ القضاء " .
من تحميد داود
قال: وكان من تحميده: " الحمد للّه عدد قطَر المطر، وورق الشجر، وتسبيح الملائكة، وعددَ ما في البرّ والبحر. والحمد للّه عددَ أنفاس الخَلْق ولَفْظهم وطَرْفهم وظِلالهم، وعددَ ما عن أيْمانِهم وشمائِلهم، وعددَ ما قهره ملكُه، ووسِعه حِفظُه، وأحاطت به قُدرته، وأحصاه علمُه. والحمد للّه عددَ ما تجري به الرياحُ، وتحمله السحابُ، وعددَ ما يختلِف به الليلُ والنهارُ، وتسير به الشمسُ والقمرُ والنجومُ. والحمدُ للّه عددَ كل شيء أدركه بصرُه، ونفذَ فيه علمًه، وبلغ فيه لطفًه. والحمد للّه الذي أدعوه فيُجِيبُني وإن كنتُ بطيئاً حين يدعوني. والحمد للّه الذي أسأله فيعطيني، وإن كنتُ بخيلاً حين يَستقرِضًني. والحمد لله الذي أستعفِيه فيُعافيني، وإن كنتُ متعرضاً لما يُهلِكني. والحمد للّه الذي حَلُم في الذنوب عن عقوبتي حتى كأني لا ذنبَ لي، ولو يؤاخِذُني لم يظلِمني سيدي. والحمد للّه الذي أرجوه أيامَ حياتي، وهو ذُخْرِي في آخرتي، ولو رَجوتُ غيره لانقطع رجائي. والحمد لله الذي تُمسِي أبواب الملوك مغلقةً دوني، وبابُه مفتوح لكل ما شئتُ من حاجاتي بغير شفيع فيقضيها لي. والحمد لله الذي أخلو به في كل حاجاتى، وأضعُ عنده سرّي في أي ساعة شئتُ من ساعاتي. والحمد لله الذي تحبب إليَّ وهو عني غَنِي، فربّي أحمدُ شيء عنده وأحقُه بحمده " .
دعاء يوسف عليه السلام وكان من دعاء يوسفَ: " يا عُدَتي عند كربتي، ويا صاحبي في وَحْدَتي، ويا غِياثي عند شدتي، ومَفزَعي عند فاقتي، ورجائي إذا انقطعتْ حيلتي، إلهي وإله آبائي إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ، اجعل لي فرجاً ومخرجاً واقض حاجتي!.
دعاء بكّاء بني إسرائيل وكان بَكاء بني إسرائيل يقول: " اللهم لا تؤدبْني بعقوبتك، ولا تمكُرْ بي في حيلتك، ولا تؤاخذني بتقصيري عن رضاك، عظيم خطيئتي فاغفِرْ، ويسير عملي فتقبل، كما شئتَ تكون مشيئتك، وإذا عزمتَ يمضي عزمُك؛ فلا الذي أحسنَ استغنى عنك وعن عَونك، ولا الذي أساء استبد بشيء يخرُج به من قُدرتِك؛ فكيف لي بالنجاة ولا توجدُ إلا من قِبَلِك! إلهُ الأنبياء وولي الأنبياء، وبديعُ مرتبة الكرامة، جديد لا يبلى، حفيظٌ لا يَنْسَى؛ دائمٌ لا يبيد، حي يموت، يقظانُ لا ينام؛ بك عرفتُك، وبك اهتديتُ إليك، ولولا أنت لم أعْرِ ما أنتَ؛ فتباركت وتعاليتَ " .
للنبي صلى الله عليه وسلم قال الأزديّ: حدَثتُ عن محمّد بن النضر الحارثي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " لا تقطعوا الشهادة على أهل القبلة فإنه من يقطع الشهادةَ عليهم فأنا منه بريءٌ إنّ الله كتمنا ما يصنع بأهل القبلة وقال: " من عَلّم آيةً! كتاب اللّه أو كلمةً من سنّة في دين الله حثا الله له من الثواب حثواً " .
قال: وقال الأوزاعيّ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اللهم إني أسألك التوفيق لمحَابِّك الأعمال وحسن الظن بك وصحة التوكل عليك " .
لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقد سمع رجَلاً يدعو عند الكعبة محمد بن بشر العَبْدِي قال: حدثنا بعض أشياخنا قال: اعتمر علي عليه السلام ورجلاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: يا من لا يشغَلُه سمعٌ عن سمع، ولا تُغلِطه المسائل ولا يبرمه إلحاحُ الملحين؛ أذقْني بَرْدَ عفوك وحلاوةَ مغفرتك. فقال علي: والذي نفسي بيده لو قلتها وعليك ملءُ السموات والأرَضين ذنوباً لغُفِر لك.
دعاء أعرابي عند الملتزم دعا أعرابي عند الملتزَم فقال: اللهم إن لك علي حقوقاً فتصدَقْ بها علي، وللناس تَبِعاتٍ فتحملها عني، وقد أوجبتَ لكل ضيف قِرى، وأنا ضيفُك فاجعلْ قِراي الليلة الجنةَ.
مثله لآخر وقال آخر: اللهم إليك خرجِتُ، وما عندك طلبتُ، فلا تحرمني خيرَ ما عندك لشرّ ما عندي. اللهم وإن كنتَ لم ترحم نصَبي وتَعَبي فلا تحرمني أجرَ المصابِ على مصيبته.
من كتاب لشيخ للمؤلف
وقرأتُ في كتابٍ لشيخ لنا: اللهمّ إنه من تهيأ و تعبأ، وأعد واستعدّ لوِفَادة مخلوقٍ رَجاءَ رفدِه وطَلَبَ نَيلِه، فإن تهيّئي وتعبئي وإعدادي واستعدادي لك رجاءَ رِفدك وطلبَ نائلك الذي لا خطَر ولا مِثلَ. اللهمّ إني لم آتَك بعمل صالح قدّمتُه، ولا شفاعةِ مخلوقٍ رجوته، أتيتك مُقِرا بالظُلم والإساءةِ على نفسي، أتيتُك بأنّي لا حجةَ لي، أرجو عظيمَ عفوك الذي عدتَ به علي الخَطّائين، ثم لم يمنعك عكوفُهم على عظيم الجُرم أن جُدتَ لهم بالمغفرة. فيا مَنْ رحمته واسعةٌ، وفضلُه عظيم اغفر الذنبَ العظيم.
للفضل بن عيسى الرقاشي ابن عائشة قال: قال الفضل بن عيسى الرٌقاشِي: اللهم لا تُدخِلنا النارَ بعد إذ أسكنتَ قلوبَنا توحيدَك؛ وإني لأرجو ألا تفعلَ، ولئن فعلتَ لتجمعنَ بيننا وبين قوم عاديناهم فيك.
لأبي حازم بلغني عن ابن عيَيْنةَ عن أبي حازم قال: لأنا مِنْ أن أمنَع الدعاءَ أخوفُ منّي من أن أمنَع الإجابةَ.
لبعض الشعراء في وصف دعوة أنشدنا محمد بن عمر لبعض الشعراء في وصف دعوة:
وسارية لم تَسْرِ في الأرض تبتغي ... مَحَلاً ولم يقطع بها البيد قاطعُ
سَرتْ حيث لم تَسْرِ الركابُ ولم تُنَخْ ... لِورْد ولم يَقصُصْ لها القيْدَ مانعُ
تَحل وراءَ الليل والليلُ ساقط ... بأوراقه فيه سميرٌ وهاجعُ
تَفَتَحُ أبوابُ السماء ودونَها ... إذا قَرَع الأبوابَ منهن قارعُ
إذا أوفدتْ لم يروُرِ اللُه وفدَها ... على أهلها والله راءٍ وسامع
وإني لأرجو اللَه حتى كأنني ... أرى بجميل الظنَ ما الله صانع
وقال آخر:
وإني لأدعو الله والأمرُ ضيَق ... علي فما ينفك أن يتفرًجا
ورُث فتى سُدًتْ عليه وجوهُهُ ... أصاب له في دعوةِ الله مَخرجا
ونحوه:
إذا تضايقَ أمرٌ فانتظر فرجاً ... فأضيقُ الأمر أدناه من الفرج
كتاب رجل من العرب لآخر أخذ له مالاً أخِذَ لرجلٍ من العرب مالٌ فكتبَ إلى آخِذه: يا هذا، إن الرجلَ ينام علىِ الثكْل، ولا ينام على الحَرَبِ؛ فإمّا رددتَه، وإما عرضتُ اسمَك على الله تعالى كل يوم وليلةٍ خمْسَ مراتٍ رد بكر بن عبد اللّه على رجل طلب منه أن يدعو له قال عبد الرحمن بن زياد: اشتكَى أبي فكتب إلىِ بكر بن عبد الله يسأله أن يدعُوَ فكتب إليه بكر: يحقّ لمن عمِل ذنباً لا عُذر له فيه، وتوقَع موتاً لا بد له منه، أن يكون وجلاً مشفِقاً، سأدعو لك، ولستُ أرجو أن يُستجابَ لي بقوة في عملٍ، ولا براءةٍ من ذنبٍ، والسلام لإبراهيم بن أدهم خَلَفُ بنُ تميم عن عبد الجبّار بن كُلَيب قال: قال لنا إبراهيم بن أدهم حين عَرض لنا السبعُ: قولوا: اللهم احرُسْنا بعينك التي لا تنامُ، واجعلنا في كَنَفك الذي لا يُرام، وارحمنا بقدرتك علينا، لا نَهلِكُ وأنت رجاؤنا. قال خَلف: فما زلتُ أقولُها مذ سمعتُها، فما عَرض لي قط لِصٌ ولا غيرُهُ.
لأعرابي في الاستغفار قال أعرابيّ: من أقام بأرضنا فليُكثر من الاستغفار، فإنْ مع الاستغفار القُطَارَ .
كلمات عبر بهنّ العلاء بن الحضرمي البحر إلى أهل دارين بلغني عن موسى بن مسعود النًهْدي عن سفيان الثوري عن قُدامة بن حَمَاطَة الضَبيّ عن خالد بن مِنْجاب عن زياد بن حُدَير الأسديّ أن العلاء بنَ الحضرَميّ عبرَ إلى أهل دَارِينَ البحر بهذه الكلمات: يا حليمُ يا حكيمُ يا عليُ يا عظيمُ.
دعاء لقضاء الحاجة حدّثني محمد بن عُبَيد قال: حدّثنا يزيد بن هارون عن هشام الدَّسْتَوَائيّ عن حمّاد عن إبراهيم عن عبد الله في الرجل إذا أراد الحاجةَ صلَى ركعتين ثم قال: اللهم إنّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرُك بقُدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدِرُ ولا أقدِرُ، وتملِك ولا أملِك، وتعلَمُ ولا أعلَمُ، إن كان هذا الأمرُ الذي أريده - وتسميّه - خيراً لي في دِيني وخيراً لي في معيشتي وخيراً لي فيما أبتغي فيه الخِيَرَةَ فيَسرْه لي وباركْ لي فيه، وإن كان شرَاً لي في دِيني شرّاً لي في معيشتي وشرّاً لي فيما أبتغي فيه الخيرَ فاصرفه عنّي، ويسَرْ لي الخيرَ حيث كان ثم رضَني به.
من دعاء لبعض الصالحين
ومن دعاء بعض الصالحين: اللهم إنًي أستغفرك من كل ذنبِ قَوِيَ عليه بدني بعافيتك، ونالته يدي بفضل نعمتك، وانبسطتُ إليه بسَعَة رزقك، واحتجَبتُ فيه عن الناس بسَتْرك، اتّكَلْتُ فيه على أنَاتِكَ وحِلْمك، وعولتُ فيه على كريم عفوك.
الأوزاعي في دعاء الأوزاعيّ قال: مَن قال: " اللهمّ إني أستغفرك لمَا تبتً إليك منه ثم عدتُ فيه، وأستغفِرُك مَا وعدتُك من نفسي وأخلفتُك، وأستغفرك لمَا أردتُ به وجهَك فخالَطَه ما ليس لكَ، وأستغفرك للنًعم التي أنعمتَ بها عليّ فتقويْتُ بها على معصيتك، وأستغفرك لكل ذنبٍ أذنبتُه أو معصيةٍ ارتكبتها " غفر الله له ولو كانت ذنوبُه عَدَدَ ورق الشجر، ورمل عالج، وقَطْرِ السماء.
دعاء مطرف وكان مُطَرِّف يقول: اللهمّ إني أعوذً بك من شر السلطان، ومن شرّ ما تجرِي به أقلامُهم وأعوذ بك أن أقولَ قولًا حقّاً فيه رضاك ألتمس به أحداً سواك، وأعوذ بك أن أتزيًن للناس بشي يَشينُني، وأعوذ بك أن أكونَ عِبرةً لأحدٍ من خَلْقك، وأعوذ بك أن يكونَ أحدٌ من خَلْقك أسعد بما علّمتَني منّي، وأعوذ بك أن أستغيثَ بمعصيةٍ لك من ضُر يُصيبني.
بين مالك بن دينار وقوماً سألوه أن يدعو الله للاستسقاء الأزديّ عن عبد الواحد بن زيد قال: شهدتُ مالكَ بن دينار يوماً وقيل له: يا أبا يحيى ادعُ اللَه أن يَسقيَنَا. قال: تستبطِؤون المطرَ! قالوا: نعم قال: إنني والله أستبطئُ الحجارَة.
لعطاء السُلمي قال أبو كعب: سمعتُ عطاءً السُلَمِيّ يقول: اللهم ارحَمْ غُرْبتي في الدنيا، ومَصرعي عند الموت ووحدتي في القبور، ومُقامي بين يديك.
في أن اللّه تعالى قسمَ الأخلاق على العباد كما قسم الأرزاق حدثني محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال: حدّثنا زُهير عن زُبيد اليامي عن مُرةَ عن عبد الله قال: إن الله تعالى قسمَ بينكم أخلاقَكم كما قسمَ بينكم أرزاقَكم، إن الله يُؤتِي المالَ مَنْ يحب ومن لا يحب، ولا يؤتي الإيمانَ إلا من يُحِب. فمن ضن بالمال أن يُنفقه، وهاب العدوً أن يُجاهده، والليلَ أن يكابدهَ فليُكثِرْ من سبحان الله والحمد لله ولا إلهَ إلا الله والله أكبر " .
ومن جامِع الدعاء: اللهمّ أغنني بالعِلْم، وزيني بالحِلْم، وجفَلني بالعافية، وأكرمني بالتقوى.
من دعاء أبي المجيب وكان من دعاء أبي المجيب: اللهم لا تَكِلْنا إلى أنفسنا فنعجِز، ولا إلى الناس فنَضِيعَ، اللهمّ اجعلْ خيرَ عملي ما قاربَ أجلي.
من دعاء عمرو بن عبيد ومن دعاء عمرو بن عبيد: اللهم أغنِني بالافتقار إليك، ولا تُغنِني بالاستغناء عنك.
لابن عون فيما كانوا يستحبون من الدعاء ابن عائشة عن سلام بن أبي مُطِيع قال: سمعت ابن عون يقول: كانوا يَستحبون من الدعاء: اللهم عبدُك وابن عبدك وابن أمَتِك لعبيدك وإمائك، أنا الذليلُ ولا أنتصر، وأنا الظالم ولا أغتفر، عملتُ سوءا وظلمتُ نفسي وإلّا تغفر لي وترحمْني أكنْ من الخاسرين. فما أتمها ابن عون حتى أجهشَ بالبكاء .
من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: " اجعلْني لك شَكاراً، لك ذَكّاراً، لك رهاباً، لك مطيعاً، إليك مُخبِتاً، لك أواهاً مُنيباً، رب تَقبلْ توبتي واغسِلْ حَوْبتي وأجبْ دعوتي وثبت حجتي واهدِ قلبي وسددْ لساني " .
المناجاةدعاء لبعضهم حدثني عبد الله بن هارون عن سُلَيم بن منصور عن أبيه قال: كنتُ بالكوفة فخرجتُ في بعض الليل لحاجة وأنا أظنُ أني قد أصبحتُ فإذا علي ليلٌ فمِلْتُ إلى بعض أبوابها أنتظر الصبحَ فسمعتُ من وراء الباب كلامَ رجلٍ وهو يقول: فوعزتك وجَلالِك ما أردتُ بمعصيتي مخالفتَكَ، وما عَصَيتُك إذ عصيتُك وأنا بنَكالِكَ جاهل، ولا بعقوبتك ولا بنظركَ مُستخِفٌ، ولكن سولتْ لي نفسي، وأعانني على ذلك شِقْوَتي، وغرني سَتْرُك المرْخَى علي، فعصيتُك بجهل وخالفتُك بجهل، فالآنَ من عذابك مَنْ يستنقِذُني وبحبل مَنْ أعتصمُ إن قطعتَ حبلَك عني، فوا سوأتاه من الوقوف بين يديك غدا! إذا قيل للمِخفَين: جُوزُوا، وللمثْقِلين: حُطُوا؛ أفمع المثقلين أحُط أم مع المخفَين أجُوز! ويلي! كلمّا كَبِرتْ سِني كَثُرتْ ذنوبي؛ ويليِ! كُلما طال عمري كثُرت مَعاصِي فمِنْ كَمْ أتوبُ! وفي كم أعودُ! أما آن لي أن أستحييَ من رَبيَ!.
من مناجاة داود عليه السلام بلغني عن الوليد بن مُسلم عن عثمان بن أبي العاتكة قال: كان داودُ النبي عليه السلامُ يقول في مناجاته: سبحانكَ إلهي! إذا ذكرتُ خطيئتي ضاقت علي الأرضُ برُحْبها، وإذا ذكرت رحمتَك ارتد إلي رُوحي، سبحانك إلهي! أتيتُ أطباءَ عبادك ليُداووا لي خطيئتي فكلهم عليك يَدُلُني.
لداود الطائي حدّثني بعضُ أشياخنا قال: كان داودُ الطائي يقول: همك عطًلَ علي الهمومَ، وحالف بيني وبين السُّهادِ، وشدّةُ الشفَق من لقائك أوبقَ عليَّ الشهواتِ، ومنعني اللذْاتِ، فأنا في طلبك أيها الكريمُ مطلوبٌ.
لضيغم وقال: تعبدَ ضيغم قائماً حتى اقعِدَ، وقاعداً حتى استلقَى، ومُستلقياً حتى أفحم؛ فلما جَهِد رفع بصرَه إلى السماء وقال: سبحانك، عجباً للخليقة كيف أرادتْ بك بدَلاً! وسبحانك عجباً للخليقة كيف استنارت قلوبُها بذكر غيرك! وعجباً للخليقة كيف أنسَتْ بسواك.
لامرأة من التابعين عُتبة أبو الوليد قال: كانت امرأة من التابعين تقول: سبحانك، ما أضيقَ الطريقَ على من لم تكن دليلَه، سبحانك ما أوحشَ الطريقَ على لم تكن أنيسَه.
مناجاة عروة بن الزبير أبو الحسن قال: كان عُروة بن الزُبير يقول في مناجاته بعد أن قُطِعتْ رجلُه ومات ابنُه: كانوا أربعةً، يعني بنيه، فأخذتَ واحداً وأبقيتَ ثلاثةً، وكن أربعاً يعني يديْه ورِجليه؛ فأخذتَ واحدةً وأبقيتَ ثلاثاً،. لَيْمُنُكَ لئن كنتَ أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن كنتَ ابتليتَ عافيتَ.
بين يونس وجبريل عليهما السلام وأعبد أهل الأرض وفي حديث بني إسرائيل أن يونُس عليه السلامُ قال: لجبريلَ عليه السلام: دُلني على أعبِد أهل الأرض. فدلَه على رجل قد قَطَع الجُذامُ يديه ورِجليْه، وذهب ببصرَه، فسمِعه يقول: متّعتَني ما شئتَ، وسلبتَني حين شئتَ، وأبقيتَ لي فيك الأملَ يا بارُ يا وَصُولً.
من دعاء لبعض الصالحين ومن دعاء بعض الصالحين: اللهمّ اقطع حوائجي من الدنيا بالشوق إلى لقائك، واجعل قُرَّةَ عيني في عبادتك، وارزقني غَم خوفِ الوعيدِ، وشوقَ رجاءِ الموعود، الَلهمّ إنك تعلم ما يصلِحُني في دنياي وآخرتي فكن بي حفِيًّا.
باب البكاءبين النبي صلى الله عليه وسلم وفتى من الأنصار حدّثني أبو مسعود الدارِميّ قال: حدثني جدّي عن أنَس بن مالك قال: جاء فتًى من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن أمي تُكثر البكاءَ وأخاف على بصرها أن يذهب، فلو أتيتَها فوعَظتَها! فذهب معه فدخل فقال لها في ذلك؛ فقالت: يا رسول الله، أرأيتَ إن ذهب بصري في الدنيا ثم صرتُ إلى الجنة، أيُبدلني الله خيراً منه. قال: " نعم " . قالت: فإن ذهب بصري في الدنيا ثم صرت إلى النار، أفيُعِيد الله بصري؟ فقال النبيّ عليه السلام للفتى: لا إن أمّك صِدَيقةٌ " .
لثابت بن سعيد في ثلاث أعين لا تمسها النار حدثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن الأوزاعي عن ثابت بن سعيد قال: ثلاث أعينٍ لا تمسها النار؛ عين حرَسَتْ في سبيل اللّه؛ وعينٌ سهِرتْ في كتاب الله، وعينٌ بكتْ في سواد الليل من خشية الله.
لأبي إبراهيم أبو حاتم عن العُتبي قال: حدثنا أبو إبراهيم قال: لا يكون البكاءُ إلا من فضل فإذا اشتد الحزنُ ذهب البكاء وأنشد:
فلئن بكيناه يَحِقُّ لنا ... ولئن تركنا ذاك للكِبر
فلمثله جرت العيونُ دَماً ... ولمثله جمَدتْ فلم تَجرِ
عن عَمْرو بن العاص في يحيى بن زكريا
بلغني عن أبي الحارث الليث بن سعد عن أبيه عن ابن لَهِيعَة عن أبي قَبِيلٍ عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : دخل يحيى بن زكريّا بيتَ المقدس وهو ابن ثَمانِي حجج، فنظر إلى عبادِ بيت المقدس قد لبِسُوا مدارعَ الشعرَ، وبَرانسَ الصوف، ونظر إلى متهجِّديهم، أو قال مجتهديهم، قد خرقوا التراقيَ، وسلكوا فيها السلاسلَ، وشدّوها إلى حنايا بيت المقدس، فهاله ذلك؛ فرجع إلى أبوبه فمر بصِبيانٍ يلعبون فقالوا: يا يحيى هلمَّ فلنلعبْ قال: إني لم أخلق للَّعب، فذلك قول الله تعالى: " وآتيناه الحكمَ صبيّا " فأتى أبويه فسألهما أن يُدَرِّعاه الشعر ففعلا، ثم رجع إلى بيت المقدس فكان يخدُمه نهاراً ويَصيحُ فيه ليلاً، حتى أتت له خمسَ عشرة سنة، وأتاه الخوفُ فساح ولزم أطرافَ الأرض وغِيرَانَ الشَعاب، وخرج أبواه في طَلبه فوجداه حين نزلا من جبال التِّيهِ على بُحيرة الأردنّ وقد قعد على شَفِير البُحَيرة وأنقعَ قدميه في الماء وقد كاد العطشُ يذبحهُ وهو يقول: وعزتِك لا أفوقُ باردَ الشراب حتى أعلَم أين مكاني منك فسأله أبواه أن يأكلَ قُرصاً كان معهما من شَعير، ويشربَ من الماء ففعلَ وكفَر عن يمينه فمدحُ بالبِرّ، قال اللّه عز وجل: " وَبَراً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَباراً عَصِيًا " ورده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام في صلاته بكى، ويبكي زكريا لبكائه حتى يُغمَى عليه، فلم يزل كذلك حتى خر دموعُه لحمَ خَدّيه، وبدَتْ أضراسُه، فقالت له أمه: يا يحيى " لو أذنتَ لي لاتخذتُ لك لبداً لِيواريَ أضراسكَ عن الناظرين " . قال: أنتِ وذاكِ، فعَمَدَتْ إلى قِطْعَتيْ لًبودٍ فألصقتهما على خدّيه، فكان إذا بكى استنقعتْ دموعُه في القطعتين فتقومُ إليه أمُّهُ فتعصِرهُما بيديها، فكان إذا نطر إلى دموعه تجري على ذراعَيْ أمَهِ قال: اللهَم هذه دموعي وهذه أمَي وأنا عبدُك وأنت أرحمُ الراحمين.
ليزيد الرقاشيّ بلَغني عن أبي معاوية عن أبي إسحاق الخَمِيسيّ قال: كان يزيدُ الرقاشي يقول: ويحك يا يزيدُ! مَن يصومُ عنك! مَن يصلَي عنك! ومن ذا يترضَى لك ربك من بعدك! ثم يقول: يا معشر مَنِ الموت موعده، والقْبرُ بيتُه ألا تبكون! قال: فكان يبكي حتى تسقطَ أشفارُ عينيه.
للنبي صلى الله عليه وسلم في البكاء من خشية الله بلَغني عن محمد بن فُضَيل عن العَلاء بن المسيًب عن الحَسن قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " مَا منْ قطرةٍ أحب إلى الله مِنْ قطرةِ دمٍ في سبيله وقطرةِ دمعٍ في جوف الليل من خشيته، وما من جرْعةٍ أحبُّ إلى الله من جَرْعةِ مصيبة مُوجِعة ردّها بصبرٍ وحسُن عزاؤه، وجرعةِ غيظٍ كظَم عليها " .
لمعتمر بن سليمان عن رجل في بكاء ابن عباس مُعتَمِر بن سليمان عن رجلٍ قال: كان في وجنتَي ابن عباس خطَّان من أثر الدموع.
بين سيار بن جعفر ومحمد بن واسع حدثني محمدُ بن داود عن سعيد بن نُصَيْر قال: حدثنا سَنار عن جعفرٍ قال: كنتُ إذا أحسستُ من قلبي بقسوة أتيتُ محمدَ بن واسعٍ فنظرتُ إليه نظرةً؛ قال: وكنت إذا رأيت وجهَه حسبتُه وجهَ ثَكلَى.
وكان يقال: أخوك مَنْ وعَظَك برؤيته قبلَ أن يعظَك بكلامه.
تكلم الحسَن يوماً حتى أبكَى مَن حولَه فقال: عَجيج كعجيج النساء ولا عزم، وخدعةٌ كخدعة إخوة يوسف جاءوا أباهم عِشاءً يبكون.
لمالك بن دينار وقد فقد مصحفه في مجلسه أبو عاصم قال: فقَدَ مالكُ بن دينار مصحفَه في مجلسه؛ فنظر إليهم كلَهم يبكون؛ فقال كلُّكم يبكي فمن سرَق المصحف؟ لعبد العزيز بن مرزوق قال عبد العزيز بن مرزوق: الكمد أبقَى للحزن. وكانت له شُعَيرات في مُقدمَّ صُدْغه فإذا رق نتفها أو مدَها إلى فوق فتقلصَ دمعُه.
لغالب بن عبيد اللّه قيل لغالب بن عبيد الله: إنا نخاف على عينك العمى من طول البكاء. فقال: هُوَ لها شفاعة.
لبعض الشعراء في البكاء قال بعض الشعراء:
سأبكيك حتى تُنْفِدَ العينُ ماءَها ... ويَشفِيَ مني الدمعُ ما أتوجعً
مثله لبعض الكتاب وقال بعض الكتابِ في مثله:
إبك فمن أنفع ما في البكا ... أنّه للأحزان تسهيلُ
وهو إذا أنت تأملتَه ... حُزْنٌ على الخدّين محلول
لعفيرة العابدة في البكاء
قيل لعُفَيْرةَ العابدة: ألا تسأمين من طول البكاء؛ فبكت ثم قالت: كيف يسأم ذو داء من شيء يرجو أن يكونَ له فيه من دائه شفاء!.
بين ابن أبي الحواري وأبي سليمان الداراني قال ابن أبي الحوَارِي: رأيت أبا سليمان الدارانيّ يبكي، فقلت له: ما يُبكيك؟ فقال: إنما أبكِي لذلك الغم الذي ليس فيه فرحٌ، وذلك الأمدِ الذي ليس له انقطاعٌ.
بين بعضهم وراهب بدير حرملة قال بعضهم: أتيتُ الشأمَ، فمررتُ بدير حَرْمَلَة، وبه راهبٌ كأن عينيْه عِدْلاً مَزادٍ؛ فقلتُ: ما يُبكيك. فقال: يا مسلمً، أبكِي على ما فرطتُ فيه من عمري، وعلى يومٍ مضى من أجلي لم يَتبيَّنْ فيه عملي. قال: ثم مررتُ بعد ذلك فسألتُ عنه؛ فقالوا: أسلمَ وغَزَا فقُتِل في بلاد الروم.
ليزيد الرقاشي أشعث قال: دخلتُ على يزيد الرقَاشيّ فقال لي: يا أشعثُ، تعالَ حتى نبكيَ على الماء البارد في يوم الظمأ. ثم قال: والهفاه! سبقني العابدون وقُطِعَ بي. وكان قد صام ثلاثين أو أربعين سنة.
بين زيد الحميري وثوبان الراهب زيد الحميريّ قال: قلتُ لثوبانَ الراهب: أخبرني عن لُبْس النصارى هذا السوادَ، ما المعنى فيه؟ قال: هو أشبه بلباس أهل المصائب. قال فقلتُ: وكلّكم معشرَ الرهبان قد أصيبَ بمصيبة؟ فقال: يرحمك الله! وأيّ مصيبةٍ أعظمُ من مصائب الذنوب على أهلها! قال زيد: فلا أذكر قولَه ذلك إلا أبكاني.
أيضاً بين ابن أبي الحواري وأبي سليمان الداراني ابن أبي الحوَاريّ قال: دخلت على أبي سليمان وهو يبكي، فقلت: ما يُبكيك. قال: يا أحمد، إنه إذا جَن الليلُ وهدأت العيونُ وأنسَ كلُ خليلَ بخليله، فرَشَ أهلُ المحبة أقدَامهم، وجرت دموعُهم على خدودهم يُسمع لها وقعٌ على أقدامهم، وقد أشرف الجليلُ عليهم فقال: بعيني مَنْ تلذَذَ بكلامي واستراح إليَّ، فما هذا البكاء الذي أراه منكم! هل أخبركم أحدٌ أن حبيباً بعذَبُ أحباءَه! أم كيف أبيتُ قوماً، وعند البيات أجدهم وقوفاً يتملقونني! فبي حلفتُ أن أكشفَ هم يومَ القيامة عن وجهي ينظرون إلي.
للخنساء في بكائها على أخيها صخر قالت خنساء: كنتُ أبكي لصخر من القتال، فأنا أبكي له اليوم من النار.
بين عمر بن ذر وأبيه قال عمر بن ذَرٍّ لأبيه: يا أبتِ، ما لَكَ إذا تكلمت أبكيتَ النساَ، وإذا تكلّمَ غيرُك يُبكهم؟ فقال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المسأجرَة.
بعض ما أوحى به اللّه تعالى إلى نبي من أنبيائه وفي بعض ما أوحى الله إلى نبيٍّ من أنبيائه: هبْ لي من قلبك الخشوعَ، ومن بَدَنك الخضوعَ، ومن عينك الدموعَ، وادعُني، فإني قريب.
لعمر وكان عمر يقول: استغزروا العيون بالتذكر.
التهجدللنبي صلى الله عليه وسلم حدثنا حسين بن حسن المَرْوَزي قال: حدثنا عبد اللّه بن المبارك قال: أخبرني مَعْمرَ والأوزاعيُ عن يحيى بن أبي كَثِير عن أبي سلَمة عن أبي زَمَعة بن كعب الأسلميّ قال: كنت أتيتُ عند حُجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعُ، إذا قام من الليل: " سبحانَ الله رب العالمين " الهَوِي من الليل، ثم يقول: " سبحانَ اللِه وبحمده " الهَوِيً.
حدثنا حسين قال: حدثنا سفيان بن عُيَينة عن زياد بن عِلاَقَة قال: سمعتُ المُغيرةَ بن شعْبة يقول: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توزمت قدَماه فقيل: يا رسول الله، قد غفر اللّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر؛ قال: " أفلا أكون عبداً شكوراً " .
حدّثنا حسين قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا حمّاد بن سلَمة عن ثابت البُنَاني عن مُطَرف بن عبد الله عن أبيه قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المِرْجَل.
ليزيد الرقاشي بلغني عن رَبَاح عن معْتمِر عن رجل قد سمّاه قال: قال يزيد الرًقَاشيٌ: إذا أنا نمتُ ثم استيقظتُ ثم نمتُ فلا نامت عينايَ، وعلى الماءِ الباردِ السلامُ. يعني بالنهار.
بين عمر وعبيدة بن هلال الثقفي وروى جَرير عن عطاء بن السائب قال: قال عبيدة بن هلال الثَّقفي: لا يشهد عليّ ليل بنومٍ ولا شمسٌ بإفطارٍ. فبلغ ذلك عمرَ فأقسم عليه ليُفطرن العيدين.
قول عبيدة بن هلال لأهله
وروى حمَاد بن سَلَمة عن أبي جعفر الخَطميّ عن جده عُمَير بن حبيب قال: كان يقول لأهله: يا أهلاه، الدُلْجَةَ الدُلْجَةَ، إنه من يسبِق إلى الماء يظمأ؛ يا أهلاَ، الدلجةَ الدُّلجةَ، إنه من يسبق إلى الظلّ يَضْحَى.
لأي سليمان الداراني قال أبو سليمان الدارانيّ: أهلُ الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليلُ ما أحببتُ البقاء.
قول عيسى عليه السلام للحواريين خرج عيسى عليه السلام على الحواريين، وعليهم العَبَاءُ وعلى وجوههم النور، فقال: يا أبناء الآخرة، ما تنغَم المتنغَمون إلا بفضل نعيمكم.
للحسن في المتهجّدين وقيل للحسن: ما بالُ المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؛ فقال: إنهم خَلَوا بالرحمن فألبسهم نوراً من نوره.
لهمام حُصَيْن بن عبد الرحمن عن إبراهيم قال: كان رجل يقال له همام يقول: اللهمً اشفني من النوم باليسير، وارزقني سهراً في طاعتك. وكان يُصبح وجُفَتُه مُرَخلة؛ فيقول بعضُهم لبعض: إن جُمَةَ همام تخبركم أنه لم يتوسَدها الليلة.
لعبد اللّه بن داود قال عبد الله بن داود: كان أحدُهم إذا بلغ أربعين سنةً طوى فراشَه، وكان بعضهم يحيي الليلَ، فإذا نظر إلى الفجر قال: " عند الصباح يَحْمَدُ القومُ السرَى " .
بين الفضيل بن عياض وحسين بن حسن حدّثنا حسين بن حسن قال: أخذ الفُضَيل بن عياض بيدي ثم قال: يا حسين، يقول الله: كذَبَ من ادعى محبتي وإذا أجَنَّه الليلُ نام عني، أليس كل حبيبٍ يُحب خلوةَ حبيبه! هأنذا مطلع على أحبّائي، إذا أجَمًهم الليلُ جعلتُ أبصارَهم في قلوبهم، ومثلتُ نفسي بين أعينهم فخاطَبوني على المشاهدة وكلَموني على الحضور.
لعطاء الخراساني الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد قال: كنَّا نعازي عطاء الخُراساني فكان يُحيي الليلَ صلاةً، فإذا مضى من الليل ثُلُثُه أو أكثرُ نادانا ونحنُ في فِسطاطنا: يا عبد الرحمن بن يزيد، ويا يزيد بن يزيد، ويا هشام بن الغاز، قوموا فتوضَؤوا وصلُّوا، فإن قيامَ الليل وصيامَ هذا النهار أيسرُ من شرب الصديدِ ومن مُقطّعات الحديد، فالوَحَا الوحا ثم النجاءَ النجاء، ويُقبل على صلاتِهِ.
لعلي كرم الله وجهه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن مِغْوَل عن رجل في جُعْفي عن السديّ عن أبي أراكة قال: صلفى عليُّ الغداة ثم جلس حتى ارتفعت الشمسُ كأن عليه كآبةً، ثم قال: واللهّ، لقد رأيتُ أثرأ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأى أحداً يُشبِههم، واللّه إن كانوا لَيُصبحون شُعْثاً غُبْراً صُفْراً، بين اعْينهم رُكَبِ المِعْزَى، قد باتوا يتلُون كتابَ الله، يراوحون بين أقدامهم وجباههم، إذا ذكروا الله مادوا كما يميدُ الشجر في يوم ريح، وانهملت أعينُهم حتى تُبل ثيابَهم، وكأنهم والله، باتوا غافلين. يريد أنهم يستقلّون ذلك.
لأبي هريرة في أهل السماء وأهل الذكر المحاربي عن الإفريقي قال: حدثنا أبو عَلْقَمَة عن أبي هريرة قال: إن أهلَ السماء ليرَوْن بيوتَ أهل الذكر تُضيءُ لهم كما تضيء الكواكبُ لأهل الأرض.
لعبد الله بن عيسى يَعْلَى بن عُبَيْد عن محمد بن عَوْن عن إبراهيم بن عيسى عن عبد الله بن عيسى قال: كونوا ينابيعَ العلم، مفاتيحَ الهدى، أحلاس البيوت، جددَ القلوب، خُلقانَ الثياب، سرُجَ الليل، تعْرَفوا في أهل السماء، وتَخْفَوا في أهل الأرض.
لإبراهيم النخعي في الرجل يرى الضوء بالليل حدثني محمد بن داود قال: حدثنا أبو الربيع الزَّهْراني قال: حدثنا أبو عَوَانة عن المغيرة بن إبراهيم، في الرجل يرى الضوءَ بالليل؛ قال: هو من الشيطان، لو كان هذا فضلاً لأوثر أهلُ بدر.
الموتبين محمد بن كعب وعمر بن عبد العزيز حدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ قال: حدثني عيسى بن ميمون عن محمد بن كعب قال: نطرت إلى عمر بن عبد العزيز فأدمتُ النظرَ إليه؛ قال: ما تنظُر يا محمد؟ قلت: أنظر إلى ما ابيض من شعرك، ونحَلَ من جسمك، وتغيَّر من لونك. فقال: أمَا واللّه لو رأيتني في القبر بعد ثالثة؛ وقد سالتْ حدقتاي على وجنتيّ، وسال منخراي صديداً ودوداً، لكنتَ أشد نَكرَة.
لجارية ترثي ميتا وقال الأصمعي: دخلتُ بعضَ الجَبَابين، فإذا أنا بجاريةٍ ما أحسبها أتت مكليها عَشْرُ سنينَ، وهي تقول:
عَدِمتُ الحياةَ ولا نلتها ... إذا كنت في القبر قد ألحدوكا
وكيف أذوق لذيذ الكرى ... وأنت بيمناك قد وسّدوكا
قال الأزديّ: بلغني أن داود الطائيّ مر بامرأة تبكي عند قبرٍ وهي تقول: يا أخاه! شعري:
بأيَ خديك تبدي البِلى ... وأيُ عينيك إذاً سالا
شعر لمالك بن دينار وقد أتى القبور حدّثني محمد بن مرزوق قال: حدّثنا محمد بن نصر المعلم قال: حدّثنا جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار أنه قال:
أتيت القبورَ فناديتُه ... ن أين المعظَّم والمحتقَرْ
وأين المدلُ بسلطانه ... وأين المزكَى إذا ما افتخَرْ
قال: فنوديتُ من بينها ولا أرى أحداً:
تفانَوْا جميعاً فما مُخبِرٌ ... وماتوا جميعاً وماتَ الخبَرْ
تروحُ وتغدو بناتُ الثرى ... وتُمْحَى محاسنُ تلك الصُّوَرْ
فيا سائلي عن أناس مَضَوْا ... أمَالك فيما ترى مُعتبَرْ
قال: فرجعت وأنا أبكي.
شعر على قبر بالشام بلغني أنه قرئ على قبرٍ بالشام:
باتوا على قُلَل الأجبال تحرُسُهم ... غُلْبُ الرجال فلم تنفعهم القُلَلُ
واستُنْزِلوا بعد عزٍّ من معاقلهم ... فأسكِنوا حُفْرهًّ يا بئس ما نزلوا
ناداهُمُ صارخٌ من بعد ما دُفنوا ... أين الأسرةُ والتيجانُ والحُلَلً
أين الوجوهُ التي كانت مُحخبةً ... من دونها تُضرَبُ الأستارُ والكِلَلُ
فأفصحَ القبرُ عنهم حين ساء لهم ... تلك الوجوهُ عليها الدودُ تقتتلُ
قد طال ما أكلوا دهراً وما نَعِموا ... فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكِلُوا
وقال آخر:
ربَّ قوم عَبَروا من عيشهم ... في نعيم وسرور وغَدَقْ
سكتَ الدهرُ زمانا عنهُمُ ... ثم أبكاهم دماً حين نَطَقْ
بين النعمان وعدي بن يزيد نزل النُعمان ومعه عِدي بن زيد في ظل شجرةٍ عظيمةٍ ليَلْهُوَا، فقال له عدي بن زيد: أتدري ما تقولُ هذه الشجرةُ. قال: لا؛ قال تقول:
رب شَرْب قد أناخوا عندنا ... يشربون الخمرَ بالماءِ الزلازل
ثم أضحًوْا لَعب الدهرُ بهم ... وكذاك الدهرُ حالاً بعد حال
لإبراهيم بن مهدي وقال إبراهيم بن المهدي:
بالله ربك كم بيتٍ مررتَ به ... قد كان يُعْمَر باللذات والطربِ
طارتْ عُقابُ المنايا في سقائفه ... فصار من بعدها للويل والحربِ
شعر للخليل بن أحمد الفراهيدي أنشدنا أبو عبد الرحمن صاحب الأخفش عن الأخفش للخليل بن أحمد العروضي:
كن كيف شئتَ فقَصرُك الموتُ ... لا مَزْحَلٌ عنه ولا فَوْت
بينا غِنَى بيِتِ وبهجتُه ... زال الغنَى وتقوَضَ البيتُ
شعر لمالك بن دينار وقد كان يخرج إلى القبور كل خميس حدّثني يزداد بن أسد عن الطَّنَافسيّ قال: حدّثنا أبو محمد قال: كان مالك بن دينار يخرج إلى القبور كل خميس على حِمار قوطرانيّ؛ ويقول:
ألا حَي القبورَ ومن بِهِنَّهْ ... وجوه في القبورِ أحِبُّهنَهْ
فلو أنّ القبور سمعنَ صوتي ... إذاً لأجبنني من وجدِهِنَهْ
ولكنّ القبورَ صمتنَ عني ... فابْتُ بحسرةٍ من عندِهِنَهْ
ثم يبكي ونبكي.
بين معاوية بن أي سفيان وعُبَيْد بن شرية الجُرْهميّ قال معاوية بن أبي سفيان لعُبَيد بن شرية الجُرْهُميّ: أخبِرْني بأعجبِ شيءٍ رأيتَه الجاهليَّة. فقال: إني نزلتُ بحي من قُضاعة فخرجوا بجنازةِ رجل من عُفرَة يقال له حُريث وخرجتُ معهم، حتى إذا وارَوْه في حفرته انتبذتُ جانباً عن القوم وعيناي تذْرِفان ثم تمثلت بأبياتِ شعرٍ كنتُ أرويها قبل ذلك بزمانٍ طويلٍ:
تجري أمور ولا تَدْرِي: أوائلُها ... خَيْرٌ لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدرِ الله خيراً وارضَيَنَ به ... فبينما العسرُ إذ دارت مياسر
وبينما المرءُ في الأحياءِ مغتبطاً ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
يبكي الغريبُ عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور
قال: وإلى جانبي رجلٌ يسمع ما أقول، فقال لي: يا عبدَ الله، هل لك علم بقائل الأبيات. قلتُ: لا والله؛ إلا أني أرويها منذُ زمانٍ . فقال: والذي تحلِفُ به إن قائلَها لصاحبنا الذي دفنَّاه آنفاً، وهذا الذي ترى ذو قرابته أسر الناس بموته، وإنك لغريب وتبكي عليه وصفتَ. فعجبتُ لما ذكره في شعره وما صار إليه من أمره وقوله، كأنه ينظر إلى مكاني جنازته، فقلت: " إنً البلاء موكُل بالقول " فذهبتْ مثلاً.
لأعرابي فيما هو خير من الحياة وشر من الموت قال أعرابي: خيرٌ من الحياة ما إذا فقدتَه أبغضتَ لفقده الحياةَ، وشر من الموت ما إذا نزل بك أحببت لنزوله الموت.
شعر لأبي زبيد ولأبي العتاهية وقال أبو زُبَيد:
يملِكُ المرءُ بالرجاءِ وُيضحي ... غَرَضا للمنون نَصْبَ العودِ
كلّ يومٍ ترميه منها برَشْقٍ ... فمصيبٌ أو صاف غير بعيد
وقال أبو العتاهية:
وَعَظَتْك أحداث صُمُتْ ... وَنَعَتْك أزمنة خُفُتْ
وتكلَّمتْ عن أوجهٍ ... تَبلى وعن صور شُتُتْ
وأرتك قبرَكَ في القبو ... رِ وأنت حي لم تمًتْ
لأعرابي وقال أعرابي: أبْعدَ سفر أولُ مَنْقَلةٍ منه الموتُ.
وقيل لأعرابيّ: مات فلانٌ أصح ما كان. فقال: أوَ صحيحٌ مَن الموتُ في عُنقِه! وقال بعض المحدَثين:
اسمعْ فقد أسمعك الصوتُ ... إن لم تبادر فهو الفوت
بل كُلْ إذا شئت وعِشْ ناعما ... آخرُ هذا كلَه الموتُ
ما كان يقوله صالح المرّي في قصصه وكان صالح المرّي يقول في قَصَصه:
مؤمِّل دنيا لتبقَى له ... فماتَ المؤفَلُ قبل الأمَلْ
وباتَ يُروِّي أصولَ الفَسيل ... فعاش الفسيلُ ومات الرجُلْ
لمسلم بن الوليد وقال مسلم بن الوليد:
كم رأينا من أناس هلكوا ... وبكَى أحبَابُهم ثم بُكُوا
تركوا الدنيا لمن بعدهُمُ ... ودُفُم لو قدموا ما تركوا
كم رأينا من ملوكٍ سوقةَ ... ورأينا سُوقةً قد مَلَكوا
قَلَب الدهرُ عليهم وَرِكا ... فاستداروا حيث دار الفلَكُ
بيتان كانا على جدار من جُدر القسطنطينية حدثني أبي عن أبي العتاهية أنه قرئ له بيتان على جدارٍ من جُحُر كنيسة القسطنطينية ما اختلف الليلُ والنهار ولا دارتْ نجومُ السماء في الفلَكِ إلا بنقل السلطانَ عن مَلكٍ كان يحدث الدنيا إلى مَلِكِ وقال آخر:
ما أنزل الموتَ حق منزلِهِ ... من عَدً يوماً لم يأتِ من أجَلِهْ
والصدق والصّبرُ يبلُغان بمن ... كانا قرينيْه منتهَى أملِهْ
عليك صدق اللسان مجتهدا ... فإنّ جُل الهلاك في زللِهْ
للطرماح وقال الطِّرماح:
فيا ربّ لا تجعلْ وفاتيِ إن أتت ... على شَرجَع يُعْلَى بدُكنِ المطارف
ولكن أجِزْ يومي شهيداً وعُصْبةً ... يصابون في فجٍّ من الأرض خائف
عصائبُ من شتَّى يؤلفُ بينهم ... هُدى الله نزَّالون عند المواقف
إذا فارقوا دنياهُم فارقوا الأذى ... هُدى الله نزَّالون عند المواقف
فأقتل قَعْصاً ثم يُرمَى بأعظمي ... كضِغْثِ الخَلاَ بين الرياح العواصِف
ويصبِح لحمي بطنَ طير مقيلة ... دُوينَ السماء في نسورٍ عوائِف
لنوح عليه السلام وقد بنى بيتاً من خص وُهَيب بن الوَرْد قال: اتّخذ نوح بيتاً من خُصٍّ، فقيل له لو بنيت بيتاً. فقال: هذا لمن يموت كثيرٌ.
لأبي الدرداء إذا رأى جنازة، وشعر للبيد بلغني عن إسماعيل بن عَيّاش عن شُرحَبيْل بن مسلم أن أبا الدَرداء كان إذا رأى جنازةً قال: إغْدِي فإنّا رائحون، أو قال: روحي فإنا غادون. وهذا مثل قول لبيد:
وإنا وإخواناً لنا قد تتابعوا ... لكالمغتدي والرائح المتهجرِ
لهلال بن إساف بلغني عن وَكِيع عن شَريك عن منصور عن هلال بن إِساف قال: ما من مولود يولد إلا وفي سرّته من تربة الأرض التي يموت فيها.
أول شعر قيل في ذم الدنيا قال الأصمعي: أوّل شعر قيل في ذم الدنيا قول ابن خَذّاق:
هل للفتى من بناتِ الدهر من راقي ... أم هل له من حِمَام الموت من واقي
قد رجَّلوني وما رُجِّلتُ من شَعَثٍ ... وألبسوني ثياباً غيرَ أخلاقِ
وطيَّبوني وقالوا أيّما رجلٍ ... وأدرجوني كأنّي طي مخراقِ
هوَن عليك ولا تُولَع بإشفاقِ ... فإنما مالُنا للوارث الباقي
بين النبي صلى الله عليه وسلم ورجل لا يحب الموت محمد بن فُضَيل عن عُبيد الله بن عُمَير قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا نبيً الله، ما لي لا أحبُّ الموت؟ فقال له: " هل لك مال؟ " قال: نعم. قال: " قدمه بين يديك " .
قال: لا أطيق ذلك. قال: فقال النبي عليه السلام: " إنّ المرءَ مع ماله إن قدمه أحبَّ أن يَلْحق به وإن أخَّره أحب أن يتخلَف معه " .
للربيع بن خيثم في مرضه المحاربيّ عن عبد الملك بن عُمَير قال: قيل للربيع بن خيْثم في مرضه: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: أنظِروني؛ ثم فكر فقال: " وعادٍ وثَمُودَ وأصحابَ الرَسَ وقُرُوناً بينَ ذلكَ كثيراً " قد كانت فيهمِ أطباءُ، فما أرى المداوى بَقِي ولا المداوَى؛ هلك الناعتُ والمنعوتُ له، لا تدعوا لي طبيباً.
شعر كان يتمثل به عمر بن عبد العزيز دائماً إسحاق بن سليمان عن أبي أحمد قال: كان عمر بن عبد العزيز ليس له هِجيرَى إلا أن يقول:
تُسَر بما يَبلَى وتفرَحُ بالمنى ... كما اغترّ باللذاتِ في النوم حالمُ
نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغَفْلةٌ ... وليلُك نومٌ والردىَ لك لازمُ
وسعيُك فيما سوف تكره غبهُ ... كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ
كم من مستقبل يوماً ليس بمستكمله، ومنتظِرٍ غدا ليس من أجله، لو رأيتم الأجل ومسيرَه، لأبغضتم الأمل وغرورَه.
لا يلبث القُرنَاء أن يتفرّقوا ... ليل يَكُرّ عليهمُ ونهارُا
لأبي هريرة يحيى بن آدم عن عبد اللّه بن المبارك عن عبد الوهاب بن وَرْد عن سالم بن بَشير بن حَجَل عن أبي هريرة: أنه بكى في مرضه فقال: أمَا إني لا أبكي على دنياكم ولكني أبكي على بُعْدِ سفري وقلّة زادي، وأني أمسيتُ في صُعودٍ مهبِطُه على جنةٍ أو نار، ولا أدري على أيّهما يؤخذ بي.
لمعاذ لما احتُضِر أبو جَنَاب قال: لما احتُضِر معاذٌ قال لجاريته: ويحكِ! هل أصبحنا؟ قالت: لا؛ ثم تركها ساعةً ثم قال لهًا: أنظُرِي! فقالت: نعم؛ فقال: أعوذ باللّه من صباح إلى النار ثم قال: مرحباً بالموت، مرحبا بزائر جاء على فاقةٍ، لا أفلَح مَنْ نَدِم! اللهمّ إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاءَ في الدنيا لكَرْي الأنهارِ ولا لغرس الأشجارِ، ولكن كنت أحب البقاءَ لمكابدة الليل الطويل ولظمأ الهواجر في الحر الشديد ولمزاحمةِ العلماء بالرُّكَبِ في حلَق الذَكر.
لعمرو بن العاص عند احتضاره أبو اليَقْظان قال: لما احتُضِر عمرُو بن العاص جعل يده في موضع الغُل من عنقه ثم قال: اللهم إنك أمرتَنا ففَرّطْنا، ونهيتنا فركِبنا، اللهم إنه لا يَسعُنا إلا رحمتُك؛ فلم يزل ذلك هِجيراه حتى قُبضَ.
لأزاذمرد في احتضاره وقد سُئِل عن حاله قيل لأزاذمَرْد بن الهِرْبذ حيني احتًضِر: ما حالُك؟ فقال: ما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد، وينزلُ حفرةً من الأرض مُوحِشة بلا مؤنس، ويَقْدَمُ على ملكٍ جبّارٍ قد قَدم إليه العذرَ بلا حُجةٍ.
لأمية بن أبي الصلت عند وفاته حدثني عَبدةُ الصفارُ قال: حدّثني العَلاء بن الفضل قال: حدّثني محمد بن إسماعيل عن أبيه عن جده عن جد أبيه قال: سمعتُ أميةَ بن أبي الصلْت عند وفاته وأغميَ عليه طويلاً ثم أفاق، ورفع رأسه إلى سقف البيت وقال: لبيكما لبيكما، هأنذا لديكما، لا عشيرتي تَحمِيني، إلا مالي يَفدِيني. ثم أغميَ عليه طويلاً ثم أفاق فقال:
كل عيش وإن تطاولَ دهراً ... صائرٌ مرة إلى أن يزولا
ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي ... في رؤوس الجبال أرعَى الوُعُولا
ثم فاضت نفسُه.
للمنصور عند موته
الحكَم بن عثمان قال: قال المنصور عند موته: اللهمّ إن كنتَ تعلمَ أني قد ارتكبتُ لأمورَ العظامَ جُرأة منّي عليك، فإنك تعلم أني قد أطعتُك في أحب الأشياء إليك شهادةِ أن لا له إلا أنت، مَنًا مِنْك لا مَنُّا عليك.
وكان سببُ إحرامه من الخضراء أنه كان يوماً نائماً، فأتاه آتٍ في منامه فقال:
كأنّي بهذا القصر قد بادَ أهلُه ... وعُرِّيَ منه أهلُه ومنازلُه
وصار عميدُ القوم من بعد نعمةٍ ... إلى جَدَثٍ تُبنَى عليه جنادله
فلم يبق إلا رسمهُ وحديثُه ... تُبَكِّي عليه مُعْوِلاتٍ حلائله
فاستيقظ مرعوباً ثم نام فأتاه الآتي فقال:
أبا جعفرٍ حانت وفاتك وانقضت ... سنُوكَ وأمرُ الله لا بد واقع
فهل كاهن أعددتَه أو منجم ... أبا جعفرٍ عنك المنيةَ دافع
فقال: يا ربيع آئْتِني بطَهوري. فقام واغتسل وصلَى ولبى وتجهًز للحج، فلما صار في الثلث الأؤل اشتدت علتُه، فجعل يقول: يا ربيع ألقِني في حرم اللّه، فمات ببئر ميمون.
فيمن يذهله احتضاره عن قول: لا إله إلا اللّه حدثني محمد بن داود عن سعيد بن نصير عن العباس بن طالب قال: قال الربيع بزة: كنتُ بالشامٍ فسمعتُ رجلاً وهو في الموت يقال له: قل لا إله إلا الله، فقال: اشرب واسقني.
ورأيت رجلاً بالأهواز قيل له: قل لا إلهَ إلا الله؛ فقال: ده يا ذده وده وداوزده . وقيل لرجل بالبصر: قل لا إله إلا الله، فقال:
يارب قائلة يوماً وقد لَغِبتْ ... كيف الطريقُ إلى حمفَام مِنجاب
لأبي معمر فى تلقين الميت حدّثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن معمر عن أبيه قال: لقَن ميتَك، فإذا قالها فدعه يتكلم بغيرها من أمر الدنيا ولا تُضجِرْه.
وصية والد مالك بن ضيغم لبنيه قال مالك بن ضيغم: لما احتُضِر أبي قلنا له: ألا تُوصي قال: بلى، أوصيكم بما أوصى به إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ: " يَا بَنِيً إنً الله اصطَفَى لَكُمُ الدينَ فَلاَ تَمُوتن إلا وأنتُمْ مسْلِمُونَ " وأوصيكم بصلة الرحم وحسنِ الجوار وفعل ما استطعتم من المعروف، وادفنوني مع المساكين.
بين عمر بن عبد العزيز وابنه وقال عمر بن عبد العزيز لابنه: كيف تَجدك. قال: في الموت؛ قال: لأن تكونَ في ميزاني أحبّ إلي من أن أكون في ميزانك. قال: وأنا والله لأن يكون ما تُحبّ أحبّ إليَّ من أن يكون ما أحِبّ.
لسيبويه النحويّ في احتضاره احتضر سيبويه النحوي فوضع رأسه في حجر أخيه فقطَرت قَطرةٌ من دموع أخيه على خدّه، فأفاق من غشيته وقال:
أخيينْ كنّا فرّق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا!
وصية هَرِم بن حبان أبو أسامة عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال: قيل لهَرِم بن حبئان: أوص؛ فقال: قد صدَقَتني نفسي في الحياة، ما لي شيء أوصِي فيه، ولكن أوصيكم بخواتيم سورة النحل.
قال الشاعر:
ما ارتدّ طرفُ امرىء بلحظته ... إلا وشيء يموتُ من جسدهْ
وقال آخر:
المرء يشقَى بما يسعَى لوارثه ... والقبرُ وارثُ ما يسعى له الرجُلُ
وصية الربيع بن خيثم حدثني محمد بن عبيد عن معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق عن أبي حيّان التيميّ عن أبيه قال: أوصَى الربيعُ بن خيثم وأشهدَ على نفسه وكفَى بالله شهيداً وجازياً لعباده الصالحين ومُثيباً: إني رضيت بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، وأوصِي نفسي ومن أطاعني أن يعبُدَ اللّه في العابدين ويحمده فيٍ الحامدين وينصحَ لجماعة المسلمين؛ وأوصَى أهله: ألًا تُشعِروا بي أحداً وسُلُوني إلى ربّي سَلاً.
لعمر بن ذرّ عند موت ابنه ذز حدثني محمد بن أحمد بن يونس قال: سمعتُ عمر بن جرير المهاجري يقول: لما مات ذرّ بن عمر بن ذر قال لأصحابه: الآن يضيع الشيخ لأنه كان به بارّاً؛ فسمعها الشيخُ فقال: أنَى
أضيعُ والله حيّ لا يموت! فلما واراه الترابَ وقف على قبره وقال: رحمك الله يا ذراً ماعلينا بعدك من خصاصةٍ وما بنا إلى أحدٍ مع الله حاجةٌ، وما يسرُّني أنَي كنت المقدمَ قبلَك، ولولا هولُ المطًلَع لتمنيّتُ أن أكون مكانَك، لقد شغلني الحزنُ لك عن الحزن عليك، فيا ليت شعري ماذا قلتَ وما قيل لك! ثم رفع رأسَه إلى السماء فقال: اللهمّ إنّي قد وهبتُ حقَي في بيني وبينه له، فهبْ حقَك فيما بينك وبينه له. ثم قال عند انصرافه: مضينا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك.
لعائشة رضي اللّه عنها في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولها أيضاً على قبر أبيها حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا شُرَيح بن النّعمان عن عبد العزيز بن أبي سَلمة الماجِشُون عن عبد الواحد بن أبي عَوْن عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: " تُوِّفي رسولُ الله؛ فوالله لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضَها، إشرأب النفاق بالمدينة وارتدت العربُ، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها وغَنَائها في الإسلام وكانت مع هذا تقول: " من رأى عمرَ بن الخطاب عرفَ أنه خُلِقَ غَنَاءً للإسلام، كان والله أحوزِيّاً نسيجَ وحده، قد أعد للأمور أقرانَها " .
وقالت عند قبره: " رحِمك الله يا أبتِ! لقد قمتَ بالدين حين وهى شَعْبهُ وتفاقم صَدْعه؛ ورجفت جوانبُه؛ إنقبضتَ مما أصغَوْا إليه، وشمرت فيما وَنُوا فيه واستخففتَ من دنياك استوطنوا وصغَّرتَ منها ما عظموا ورعَيت دينك فيما أغفلوا، أطالوا عِنان الأمن واقتَدت مطي الحذر، ولم تهضِم دينك ولم تَشِنْ غدَك ففاز عند المساهمة قِدْحُك وخفً مما استوزروا ظهرُك " .
وقالت أيضاً عند قبره: " نَضر اللّه وجهك يا أبتِ! فلقد كنتَ للدنيا مُذُلاً بإدبارِك عنها وللآخرة مِعزاً بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجل الرزايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُزْؤك وأكبرَ المصائب فقدُك إنّ كتابَ الله ليَعِدُ بجميل العزاءه عند أحسنِ العِوَض منك، فأنا أتنَجَز من الله مَوعده فيك بالصبر عليك، وأستعيضُه منك بالاستغفار لك؛ عليك سلامُ الله ورحمتُه، توديعَ غير قاليةٍ لحياتك ولا زاريةٍ على القضاء فيك " .
للحسين بن علي على قبر أخيه الحسن قال الحسين بن علي عند قبر أخيه الحسن: " رحِمك الله أبا محمد! إن كنتَ لَتُباصِرُ الحق مَظَانًه، وتؤلِر اللّه عند تداحُض الباطل في مواطن التقية بحسن الروية، وتستشف جليلَ مَعاظم الدنيا بعينِ لها حاقرة، وتُفيضُ عليها يداً طاهرةَ الأطرافِ نقيةَ الأسرةِ، وتردَعُ بادرةَ غربِ أعدائك بأَيسرٍ المؤونة عليك؛ ولا غَروَ وأنت ابن سلالة النبوة ورضيعُ لِبان الحكمةِ، فإلي رَوْح ورَيحانٍ وجنةِ نعيم؛ أعظمَ الله لنا ولكم الأجرَ عليه، ووهبَ لنا ولكم النبوةَ وحُسْنَ الأسَى عنه " .
تأبين ابن السماك لداود الطائي
حدثني عبد الرحمن بن الحسين السعيديّ عن محمد بن مُصْعَب: أن ابن السفَاك قال يوم مات داودُ الطائيّ في كلام له: إن داود رحمه الله نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشَى بصرُ القلب بصرَ العين، فكًان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر، فأنتم منه تعجَبون وهو منكم يعجَب، فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين قد أذهلت الدنيا عقولَكم وأماتت بحتها قلوبَكم استوحش منكم، فكنتُ إذا نظرتُ إليه نظرت إلى، حي وسطَ أمواتٍ. يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك؛ أهَنت نفسَك وإنما تريد إكرامَها، وأتعبتهِا وإنما تريد راحتَها، أخشنتَ المطعمَ وإنما تريد طِيبَه وأخشنتَ الملبسَ وإنما تريد لِينَه، ثم أمتَ نفسَك قبل أن تموتَ، وقبَرتَها قبلَ أن تُقبَر، وعذَبتها ولما تُعذب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تُذكَر، رغبتْ نفسُك عن الدنيا فلم ترها لك قدراً إلى الآخرة، فما أظنُّك إلا وقد ظَفِرت بما طالبت؛ كان سيماك في سرك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقًهتَ في دينك وتركت الناس يُغَنُّون، وسمعتَ الحديثَ وتركتهم يُحدَثُون، وخَرِسْتَ عن القول وتركتهم ينطقون، لا تَحسُد الأخيارَ، ولا تعيبُ الأشرارَ، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية؛ آنسُ ما تكون إذا كنتَ بالله خالياً، وأوحشُ ما تكون آنسُ ما يكون الناس؛ فمن سمِع بمثلك وصبرَ صبرَك وعزَم عزمَك! لا أحسَبُك إلا وقد أتعبت العابدين بعدَك، سجنتَ نفسَك في بيتك فلا مُحدَثَ لك ولا جليسَ معك ولا فراشَ تحتك ولا سترَعلى بابك ولا قلةَ يُبَرْد فيها ماؤك ولا صحفةَ يكون فيها غَداؤك وعَشاؤك، مِطْهَرَتُك قلبُك وقَصْعتُك تَوْرُك. داود ما كنتَ تشتهي من الماء باردَه ولا من الطعام طيبَهُ ولا من اللباس ليِّنَه، بلى! ولكن زَهِدتَ فيه لما بين يديك، فما أصغرَ ما بذلت وما أحقرَ ما تركتَ في جنب ما أملتَ، فلما مِتَّ شَهَرَك ربك بموتك، وألبسَك رداءَ عصلك وأكثرَ تبعَك، فلو رأيتَ من حضَرك عرفتَ أنّ ربَّك قد أكرمك وشرفك، فَلْتتكلّم اليوم عشيرتُك بكلِّ ألسنتها، فقد أوضحَ ربك فضلَها بك، ووالله لو لم يَدْعُ عبداً إلى خيرٍ بعمله إلا حُسْنُ هذا النَشرِ من كثرة هذا التَبَع، لقد كان حقيقاً بالاجتهاد والجهد لمن لا يُضيع مُطيعاً ولا ينسى صنيعاً شاكراً ومُثيباً.
لمحمد بن سليمان عند قبر ابنه وقف محمد بن سليمان على قبر ابنه فقال: اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه، فحقق رجائي وآمن خوفي.
لمالك بن أنس عند قبر ابنه مات ابن لأنَس بن مالك فقال أنَسٌ عند قبره: اللهم عبدُك وولدُ عبدك وقد رُدَّ إليك فارأفْ به وارحمْه، وجافِ الأرضَ عن بدنه، وافتح أبوابَ السماء لرُوحه وتقبلْه بقبولٍ حسنِ. ثم رجع فأكلَ وشربَ وادهن وأصاب من أهله.
شعر لجرير يرثي امرأته وقال جرير في امرأته:
لا يلبَث القُرنَاءُ أن يتفرّقوا ... ليل يَكُرُ عليهم ونهارُ
صلّى الملائكةُ الذين تُخِيرُوا ... والطيِّبون عليكِ والأبرارُ
أعرابية ترثي ابنها وقفتْ أعرابيّة على قبر ابنها فقالت: والله ما كان مالُك لعِرسِك، ولا همُّك لنفسك، وما كنتَ إلا كما قال القائل:
رحيبُ النراع بالتي لا تَشِينُه ... وإن كانت الفحشاءُ ضَاقَ بها ذَرْعا
شعر لعديّ بن زيد كان سفيان بن عيينة يستحسنه حدثني محمد بن داود عن الصَلْت بن مسعود قال: كان سفيان بن عُيَينة يستحسن شعر عدي بن زيد:
أين أهلُ الديار من قوم نوحٍ ... ثم عادٌ من بعدهم وثمودُ
بينما هم على الأسرة والأن ... ماط أفضت إلى التراب الخدودُ
ثم لم ينقَض الحديثُ ولكن ... بعد ذا الوعدُ كلُه والوعيدُ
وأطباءُ بعدَهم لحِقوهمٍ ... ضل عنهم سَعُوطهم واللًدُود
وصحيحٌ أضحى يعود مريضاً ... وهو أدنى للموتِ ممن يعودُ
أخذه عليّ بن الجهم فقال:
كم من عليل قد تخَطاه الردى ... فنجا ومات طبيبُه والعُوَّدُ
لربعي بن حراش
حدثني عَبْدة بن عبد الله قال: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الملك بن عُمَير عن ربْعِي بن حِراش قال: أتيتُ أهلي فقيل لي: مات أخوك. فوجدتُ أخي مُسَجًى عليه بثوب، فأنا عند رأسه أترحَم عليه وأدعو له إذ كَشَفَ الثوبَ عن وجهه فقال: السلام عليكم. فقلنا: وعليكَ السلام، سبحان الله! بعد الموت! فقال: إني تُلُقَيتُ برَوْح ورَيْحان وربً غيرِ غضبان، وكساني باباً من سندسٍ وإسْتَبرَق، وإني وجدتُ الأمرَ أيسرَ مما تظنون ولا تتكِلوا؛ إني استأذنت ربيِّ أن أخبركم وأبشّرَكم، إحملوني إلى رسول الله، فقد عُهِد إليّ ألَّا أبْرَحَ حتى ألقاه ثم طَفِيء.
لمطرف عن أهل القبور حدثني أبو سهل عن عليّ بن محمد عن إسحاق بن منصور عن عمارة بن زاذان عن ثابت أن مُطرفاً كان يبدو على دابته بين المقام فأغفى فإذا أهلُ القبور جلوس على شِفَاه قبورهم يقولون: هذا مُطَرفٌ يروح إلى الجُمعة. قلتُ: هل تعرفون يومَ الجمعة. قالوا: نعم، وما تقول الطيرُ في جوف السماء، يقولون: سلام، يومٌ صالحٌ.
عن جابر في عين أبي زياد التي حفرها معاوية حدثني محمد بن عبيد قال: حدثنا سُفيان بن عُيَينة عن أبي الربير عن جابر قال: لما أراد معاوية أن تَجرِيَ العينُ التي حفرها - قال سفيان: تُسفَى عينَ أبي زياد - نادوْا بالمدينة: من كان له قتيل فليأتِ قتيلَه. قال جابر: فأتيناهم فأخرجناهم رِطَباً يتثَنون، وأصابت المِسحَاة رِجْلَ رجلٍ منهم فانفَطَرتْ دماً. قال أبو سعيد الخدري: لا يُنكِرُ بعدَ هذا مُنكِر أبداً.
في أن أهل القبور يتوكفون الأخبار حدّثني محمد بن عُبيد قال: حدثنا ابن عُيينة عن عمرو بن دينار عن عُبَيد بن عُمَير قال: أهلُ القبور يتوَكَفُون الأخبارَ فإذا أتاهم الميت سألوه: ما فعل فلانٌ؟ فيقول: ألم يأتكم! فيقولون إنا لله وإنا إليه راجعون، سُلِكَ به غيرُ سبيلنا.
للربيع بن صبيح وحميد الطويل في ثابت البناني بعد موته حدثني عبد الرحمن العَبْدي عن جعفر بن أبي جعفر قال: حدثنا أبو جعفر السائح عن الربيع بن صَبِيح قال: شهِدتُ ثابتاً البُنَاني يوم مات وشهده أهلُ البَصرة، فدخلتُ قبرَه أنا وحُميدَ الطويلُ وأبو جعفر حسن مما يلي رأسَه فلما ذهبتُ أسَوَي عليه اللَبِنةَ سقطَتْ من يدي فلم أرَ في اللحد أحداً، وأصغى إليً حُميدٌ أن اختُطِفَ صاحبُنا وضجً الناسُ فسوينا على اللحد وحثونا الترابَ؛ فلبم يكن لحُميدٍ هِمًةٌ حتى أتى سليمان بن عليّ وهو أميرٌ على البَصرة فأخبره، فقال: ما ينكَرُ لله قدرة! إلا أني انكِر أن يكون أحد من أهل زماننا يُفْعَلُ هذا به، فهل علم به أحد سواك قال: نعم، الربيع بن صَبيح وحَسَن؛ قال: عَدْلان مَرْضِيان، فبعثَ أمناءَ جيرانه فنبشوا عنه فلم يجدوه في قبره.
لأعرابية تدعى أم غسان المكفوفة وحدثني أيضاً عن أعرابيّة كان يُقال لها أم غَسّان مكفوفةٍ وكانت تعيشُ بمِغزَلها وتقول: الحمدُ للة على ما قضى وارتضَى. رضيتُ من الله ما رضِيَ لي، وأستعينُ اللهّ على بيتٍ ضيق الفِناء قليلِ الكِوَاءِ وأستعين الله على ما يُطالعَ من نواحيه.
وماتت جارةٌ لها فقيل لها: ما فعلتْ جارتك؟ فقالت:
تقَسّم جاراتُها بيتَها ... وصارت إلى بيتها الأتلد
وقالت يوماً: إن تقبل الله مني صلاةً لم يعذَبْني. فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: لأنّ الله وجل لايثني في رحمتِه وحلمِهِ.
قال: وكنتُ سمعتُ حديثَ معاذ " من كُتِبَتْ له حسنةٌ دخلَ الجنّةَ، ولم أعر ما تفسيره حتى سمعت أمّ غسانَ تقول هذا، فعرفت تأويلَه.
الكِبَر والمشيب
للنبى صلى الله عليه وسلم حدثني أبو الخطاب قال: حدّثنا أبو داود عن عبد الجليل بن عطية عن شَهْر بن حَوْشَب عن عمرو بن عَنْبَسَة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " مَنْ شابَ شَيبةً في الإسلام كانت له نوراً يومَ القيامة ما لم يَخضبْها أو يَنتِفْها " .
في الكِبَر أبو حاتم عن الأصمعي عن شيخ من بني فَزارة قال: مررتُ بالبادية وإذا شيخٌ قاعد على شفِيرِ قبرٍ، وإذا في القبور رجالٌ كأنهم الرماحُ يدفِنُون رجُلاً والشيخُ يقول:
احثُوا على الدَيسَم من بَرْد الثرى ... قِدْماً أبَى ربك إلا ما تَرَى
فقلت له: مَن الميتُ؟ فقال: إبني. فقلت له: مَن الذين يَدفِنونه؟ قال: بنوه.
بين يونس بن حبيب ورجل حدثنا أبو عبد الرحمن قال: دخل يونس بن حبيب المسجدَ يُهادى بين اثنين من الكبر فقال له رجلٌ كان يَتَّهِمه على مودّته: بلغتَ ما أرى يا أبا عبد الرحمن! قال: هو ما تَرَى فلا بَلَغْتَه. ونحوه قولُ الشاعر:
يا عائبَ الشيبِ لا بَلَغْتَه
من الزبور ويقال في الزبور: " من بلغ السبعينَ اشتكَى من غير عِلة " .
لمحمد بن حسان النبطي وقال محمد بن حسّان النبطِي: لا تسأل نفسَك العامَ ما أعطتك في العام الماضي.
لضرار بن عمرو الضبّيّ رأى ضرار بن عمرو الضبيّ له ثلاثةَ عشر ذكراً قد بلغوا فقال: من سرّه بنوه ساءته نفسه شعر لابن أبي فنن قال ابن أبي فَنَنٍ:
من عاش أخلقت الأيام جِدّتَه ... وخانه الثِّقتانِ السمعُ والبصرُ
قالت عَهِدتُك مجنوناً فقلت لها ... إن الشبابَ جنونٌ برؤه الكِبَرُ
لشيخ معمّر أبوعبيدة قال: قيل لشيخ: ما بَقِي منك؟ قال: يسبِقُني مَنْ بين يدَي، ويُدرِكني خلفي، وأنسى الحديثَ، وأذكر القديمَ، وأنعُسُ في الملا، وأسهَرُ في الخلا، وإذا قمتُ قربت الأرضُ منّي، وإذا قعدتُ تباعدتْ عني.
لشاعر في الكِبر قال الشاعر:
قالت عَهِدتك مجنوناً فقلتُ لها ... إن الشبابَ جنون برؤه الكِبرُ
بين عبد الملك بن مروان والعريان بن الهيثم
قال عبد الملك بن مروان للعُريان بن الهَيثم: كيف تَجدك؟ قال: أجِدُني قد ابيض مني ما كنتُ أحب أن يسود، واسودّ منّي ما كنتُ أحبّ أن يبيَضّ واشتدّ منّي ما أحب أن يلين ولان ما أحِبّ أن يشتد وقال :
سَلْنِي أنَبئْكَ بآياتِ الكِبَرْ ... نومُ العِشاء وسُعَال بالسحرْ
وقِلّةُ النوم إذا الليلُ اعتكَرْ ... وقِفةُ الطعم إذا الزادً حضَرْ
وسرعةُ الطرفِ وتَحميجُ النظر ... وتركًكَ الحسناءَ في قُبْل الطهُرْ
والناس يَبْلَون كما تَبلَى الشَّجَرْ
شعر لحميد بن ثور، وغيره وقال حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحّة ... وحَسْبُك داءً أن تصِح وتَسلما
وقال الكميتُ:
لا تَغبط المرءَ أن يُقالَ له ... أمسى فلانٌ لِسِنَه حَكَما
إن سرهَ طولُ عمره فلقد أضحَى ... على الوجه طولُ ما سَلما
للنًمر بن تَوْلب:
يَود الفتى طولَ السلامة والغنَى ... فكيف تُرى طولَ السلامةِ يَفعَلُ
وقال آخر:
كانت قناتي لا تَلينُ لغامز ... فألانها الإصباحُ والإمساءُ
ودعوتُ ربي بالسلامة جاهداً ... ليُصِحنِي فإذا السّلامةُ داءُ
وقال أبو العتاهية:
أسرعَ في نقص امرىءٍ تمامُهُ
وقال عبد الحميد الكاتب:
ترحل ما ليس بالقافل ... وأعقب ما ليس بالآئِل
فلهفي من الخلَف النازل ... ولهفي على السلف الراحل
أبكَي على ذا وأبكي لذا ... بكاءَ المولًهة الثاكل
تُبَكَي من ابن لها قاطعٍ ... وتَبْكي على ابن لها واصل
تقضت غَواياتُ لسُكر الصبا ... وردً التَقَى عَنَدَ الباطل
كتاب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم وشعر للحجاج بن يوسف التيمي محمد بن سلاّم الجُمحِيّ عن عبد القاهر بن السري قال: كتب الحجاج إلى قتيبة مسلم: إني نظرتُ في سنَك فوجدتُك لِدَتي وقد بلغت الخمسين وإن امرأً سار إلى خمسين عاماً لقريب منه. فسمع به الحجاج بن يوسف التيمي فقال:
إذا كانت السبعون سِنك لم يكن ... لدائك إلا أن تموت طبيبُ
وإن امرأً قد سار سبعين حِجة ... إلى منهل من وِرْده لقريبُ
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل ... خلوتُ ولكن قل علي رقيبُ
إذا ما انقضى القَرْن الذي أنت منهُم ... وخُلفتَ في قَرْنٍ فأنت غريبُ
شعرللبيد وقال لبيد:
أليس ورائي إن تراخت منيتي ... لزومُ العصا تُحنَى عليها الأصابعُ
أخبر أخبارَ القرونِ التي مضت ... أدِب كأني كلما قمتُ راكعُ
مثله لآخر وقال آخر في مثله:
حنتني حانيات الدهر حتْى ... كأني خَاتِلٌ يدنو لصيد
لرجل من الحكماء وشعر لبعضهم وقيل لرجل مِن الحكماء: ما لك تُدْمِنُ إمساكَ العصا ولستَ بكبيرٍ ولا مريض. فقال: لأذكرَ أني مسافر.
قال الشاعر:
حملتُ العصا لا الضعفُ أوجبَ حملَها ... علي ولا أني تحنيتُ مِن كِبَرْ
ولكنني ألزمتُ نفسيَ حملها ... لأعلِمَها أن المقيمَ على سَفَرْ
بين شيخ من العرب وغلام ومرَّ شيخ من العرب بغلامٍ فقال له الغلام: أحْصَدْتَ يا عمّاه فقال: يا بنيّ وتُحتَصَدون .
موعظة للحسن قال الحسنُ في موعظة له: يا معشر الشيوخ، الزرعُ إذا بلغ ما يُصنَع به. قالوا: يُحصد.
يا معشر الشباب كم من زرع لم يبلغ أدركته آفةٌ. قال الشاعر:
الدّهر أبلاني وما أبليتُه ... والدهرُ غيّرني وما يَتَغيرُ
والدّهر قيّدني بخيطٍ مبرَمٍ ... فمشيتُ فيه وكلّ يومٍ يَقصُرً
لعمارة بن عقيل وقال عُمَارة بن عَقِيل:
وأدركتُ مِلءَ الأرض ناساً فأصبحوا ... كأهل الديار قوَضوا فتحمًلوا
وما نحن إلا رُفقةَ قد ترحَلت ... وأخرَى تُقَضَي حاجَها وتَرَحَلً
لأعرابي يذكر الشيب ذكر أعرابي الشيبَ فقال: واللّه لقد كنتُ انكر الشعرةَ البيضاء فقد صرتُ أنكر السوداء، فيا خير بَدَلٍ ويا شرَّ مبدول.
لبعض الشعراء في الشيب وقال بعض الشعراء:
شاب رأسي وما رأيتُ مشيبَ ال ... رأس إلا من فضل شَيب الفؤادِ
وكذاك القلوب في كل بؤسٍ ... ونعيمٍ طلائعُ الأجسادِ
طال إنكاريَ البياضَ فإن عُم ... رت شيئاً أنكرتُ لونَ السوادِ
لإياس بن قتادة في الشيب رأى إياس بن قَتادة شَعرة بيضاءَ في لحيته، فقال: أرى الموتَ يطلبني وأراني لا أفوته، أعِوذ بك يا ربّ من فُجَاءاتِ الأمور، يا بني سعد قد وهبت لكم شبابي فهبوا لي شيبتي، ولزم بيته.
أقوال في الشيب قال قيس بن عاصم: الشيب خِطام المنية.
قال آخر: الشيبُ بريدُ الحِمام.
قال آخر: الشيب تَوْأم الموت.
قال آخر: الشيب تاريخ الموت.
قال آخر: الشيب أوّل مراحل الموت.
قال آخر: الشَّيب تمهيد الحمام.
قال آخر: الشيب عنوان الكِبَر.
قال عَبِيدُ بن الأبرص:
والشَّيْبُ شينٌ لمن يشيب
ويقال: شَيْب الشَعرَ موتُ الشَّعَر، وموتُ الشعَرِ عِلَّةُ موتِ البشر.
قال الشاعر:
وكان الشباب الغضُ لي فيه لذةٌ ... فوقَّرني عنه المشيبُ وأدبا
فسَقْياً ورَعياً للشبابِ الذي مضى ... وأهلاً وسهلاً بالمشيب ومرحبَا
وقال أعرابي - ويقال هي لأبي دُلَفَ:
في كل يوم من الأيام نابتةٌ ... كأنما نبتَتْ فيه على بَصَري
لئن قَرَضتكِ بالمقراض عن بصري ... لما قرضتُكِ عن همَي ولا فِكَري
وقال أعرابيّ:
أرَى الشيبَ مذ جاوزتُ خمسين دائباً ... يَدِت دبيبَ الصبح في غَسَق الظلَمْ
هو السم إلا أنه غيرُ مُؤلمٍ ... ولم أر مثلَ الشيب سُماً بلا ألَمْ
وقال آخر:
قَصَرالحوادِثُ خطوَه فتدانَى ... وحَنَيْنَ صدرَ قَناتِه فتحَانَى
صحِبَ الزمانَ على اختلاف فُنُونه ... فأراه منه شِدة ولَيَانَا
ما بالُ شيخٍ قدتخدد لحمُه ... أنضَى ثلاثَ عمائم ألوانَا
سوداءَ داجية وسَحقَ مُفَوفٍ ... وأجد أخرى بعد ذاك هِجَانَا
ثم المماتُ وراء ذلك كلَهِ ... وكأنما يُعْنَى بذاك سِوانَا
وقال آخر يذكر الشبابَ:
لما مضى ظاعِناً عنا فودعنا ... وكان كالميْتِ لم يترك له عَقِبَا
عُدنا إلى حالة لا نستطيعُ لها ... وصلَ الغَوانِي وعابَ الشيبَ مَنْ لَعِبا
شعر لمحمود الوراق وقال محمود الوراق:
بكيتُ لقُرب الأجلْ ... وبُعْدِ فوات الأملْ
ووافدِ شيب طرا ... بعُقْب شباب رَحَلْ
شبَاب كأن لم يكن ... وشيب كأن لًم يَزَلْ
طَوَاكَ بشيرُ البقا ... وجاء بشيرُ الأجَلْ
طَوَى صاحب صاحباً ... كذاك انتقال الدوَلْ
لأبي الأسود يذم الشباب وقال أبو الأسود يذم الشبابَ:
غدا منك أسبابُ الشبابِ فأسرعا ... وكان كجارٍ بان يوماً فودعَا
فقلت له فاذهَبْ ذميماً فليتَنِي ... قتلتُك عِلماً قبل أن تتصدعَا
جنيتَ علي الذنبَ ثم خذلتَني ... عليه فبئسَ الخلتانِ هُمَا معَا
وكنتَ سَراباً ما ضَحَا إذ تركتَني ... رَهِينةَ ما أجني من الشر أجمعَا
وقال آخر:
استنكرتْ شيبي فقلتُ لها ... ليس المشيب بناقص عُمْرِي
وتَنفَسَتْ بي هِمة وصلَتْ ... أملي بكل رفيعةِ الذَكر
لعمر بن الخطاب في الخضاب روى عبد الله بن حَفْص الطاحِي عن زكريا بن يحيى بن نافع الأزدي عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اخْضِبُوا بالسواد، فإنه أنْسٌ للنساء وهَيبةٌ للعدو.
شعر لعمر بن المبارك الخزاعي قال عمرُ بن المبارك الخزاعي:
مَنْ لاِذنِي بمَلام ... ولكَفي بمُدَام
عَقَّ عظمُ الجْهل مني ... وانثنَى شَن عُرَامي
وتمشى الفَذ من شَي ... بي إلى الشَيب التؤام
نَظْمَكَ الذر إلى الدرة ... في سِلكِ النَظاَم
شعر لأبي العتاهية وقال أبو العتاهيةِ:
نعَى لك ظل الشبابِ المشيب ... ونادتْك باسم سِواك الخطُوبُ
فكن مُستعداً لداعي المنون ... فكل الذنىِ هو أت قَرِيبُ
وقبلكَ داوَى المريضَ الطبيبُ ... فعاشَ المريضُ ومات الطبيبُ
يَخافُ على نفسه مَنْ يتوبُ ... فكيف ترى حال مَن لا يتوبُ
ليونس بن حبيب محمد بن سلام قال: سمعتُ يونسَ بن حبيب يقول: لا يأمنُ مَنْ قطع في خمسةِ دراهم خيرَ عُضوٍ منك أن يكون عقابه هكذا غداً.
الدنياللنبي صلى الله عليه وسلم حدّثني أبو مسعود الدارمي قال: حدّثنيِ جدّي خِراش عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أصبحت الدنيا همه وسدمه نزَع اللهّ الغِنَى من قلبه، وصير الفقَر بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كُتبَ له، ومن أصبحتِ الآخرةُ همَّه وسدمه نزعَ اللُه الفقرَ من قلبه وصَير الغِنَى بين عينيه وأتته الدنيا وهي راغِمة " .
بين النبي صلى الله عليه وسلم والضحّاك بن سفيان حدّثني محمد بن داود قال: حدّثنا أبو الربيع عن حمّاد عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للضحّاك بن سفيان: " ما طعَامكَ " ؟ قال: اللحمُ واللبنُ. قال: " ثم يصير إلىِ ماذا " . قال: ثم يصيرُ إلى ما قد عَلمتَ. قال: " فإنّ اللهّ ضربَ ما يخرجُ من ابن آدم مثلاَ للدنيا " .
لبشير بن كعب في الدنيا قال: وكان بشيرُ بنُ كعبٍ يقول لأصحابه إذا فرغ من حديثه: انطلقوا حتى أرِيَكم الدنيا. فيجيءُ فيقفُ بهم على السُّوقِ، وهي يومئذ مَزْبَلَةٌ، فيقول: أنظروا إلى عَسَلهم وسَمْنِهم وإلى دجَاجهم وبطهم صار إلى ما تَروْن.
للنبي صلى الله عليه وسلم حدّثني هارون بن موسى قال: حدثنا محمد بن سعيد القُزويني عن عمرو بن أبي قيس عن هارون بن عنترة عن عمرو بن مرة قال: سُئلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قول اللّه: " فَمَنْ يُرِدِ الله أنْ يهِديَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلاَم " فقال: " إذا دخل النورُ القلبَ وانفسحَ شُرِح لذلك الصدرُ " ، قالوا: يا نبيّ الله هل لذلكَ آَيةٌ يُعرَفُ بها؟ قال: " نعم الإنابَةُ إلى دار الخلود والتَجافِي عن دار الغرور والاستعدادُ للموت قبل نُزول الموتِ " .
لوهب بن منبه
بلغني عن العُتبي عن حبيب العَدوي عن وهب بن منبه قال: رأينا ورقةً يَهفُو بها الريحُ تأرسلْنا بعضَ الفِتيانِ فأتانا لها فإذا فيها: الدنيا دار لا يُسلَمُ منها إلا فيها، ما أخذَ أهلُها منها لها خرجوا منه ثم حُوسِبوا به، وما أخَذَ منها أهلُها لغيرها خرجوا منه ثم أقاموا فيه، وكأن قوماً من أهل الدنيا ليسوا من أهلها،، هم فيها كمن ليس فيها، عمِلوا بما يُبصِرون وبادَرُوا ما يحذَرون، تتقلّبُ أجسادُهم بين ظهَرانَيْ أهل الدنيا، وتتقلّبُ قلوبهم بين ظهرانَيْ أهل الآخرة، يَروْن الناس يُعظّمون وفاةَ أجسامهم وهم أشدُ تعظيماً لموت قلوب أحيائهم. فسألت عن الكلام فلم أجد يعرفه.
للمسيح عليه السلام وقال المسيح عليه السلام: الدنيا قنطرةٌ فاعبُرُوها ولا تعمُرُوها.
ما أوحى به اللّه تعالى إلى الدنيا وفي بعض الكتب: أن اللّه تعالى أوحى إلى الدنيا: " مَنْ خَدمَني فاخدُمِيه، ومَنْ خَدَمك فاستخْدِميه.
لبعض العابدين يذكر الدنيا قال بعضُ العابدين يَذكُر الدنيا:
لقد غَرت الدنيا رجالاً فأصبحوا ... بمنزلةٍ ما بعدها مُتحَوًلُ
فساخِطُ أمرٍ لا يُبَدَلُ غيرَه ... وراض بأمرٍ غيرَه سَيُبدَل
وبالغُ أمرٍ كان يأمُلُ دونه ... ومختَلَجٌ من دون ما كان يأمُلُ
وقال آخرُ يذكر الدنيا:
حُتوفُها رَصَد وعيشُها رَنق ... وكَرُّها نَكدٌ ومُلْكُهَا عُوَلُ
وقال آخر:
نراعُ لذكر الموت ساعةَ ذكره ... وتَعْتَرِض الدنيا فنلهو ونلعبُ
ونحن بنو الدنيا خُلِقنا لغيرها ... وما كنتَ منه فهو شيء مُحبًبُ
ليحيى بن خالد وقال يحيى بن خالد: دخلنا في الدنيا دُخولاً أخرجَنَا منها.
لعلي بن أبي طالب في يصف الدنيا ذم رجلٌ الدنيا عند على بن أبى طالب رضى الله عنه، فقال علي عليه السلام: الدنيا دار صِدقٍ لمن صَدّقها، ودارُ نَجاة لمن فَهِم عنها، ودارُ غِنًى لمن تَزود منها، مَهْبِطُ وحي الله، ومصلَى ملائكته، ومَسجِدُ أنبيائه، ومَتْجَرُ أوليائه، رَبِحُوا منها الرحمَةَ واحْتسَبُوا فيها الجنةَ؛ فمن ذا يذمها وقد آذَنَتْ ببينها ونادَتْ بفِراقها وشَبهَتْ بسرُورها السّرورَ وببلائها البلاءَ ترغيباً وترهيباً؛ فيا أيها الذامُّ الدنيا المعلّلُ نفسَه، متى خَدَعَتْك الدنيا أم متى استذمت إليكَ! أبمصارع آبائك في البِلَى! أم بمضاجع أمهاتك في الثرى! كم مَرضتَ بيديك، وعًللتَ بكفّيك، تطلبُ له لشفاء، وتستوصفُ له الأطباءَ، غداة لا يُغني عنه دواؤك، ولا ينفعك بكاؤك.
شعر لإبراهيم بن أدهم العجلي كان إبراهيم بن أدهم العِجلي يقول:
نُرَقَع دنيانا بتَمزِيق ديننا ... فلا ديننا يبقَى ولا ما نُرَقَعُ
لأبي حازم في الدنيا قال أبو حازم: وما الدنيا! أما ما مضى فحُلْمٌ وأما ما بقي فَأمانيٌ.
لسفيان فيما أوحى به الله لنبي من أنبيائه قال سفيانُ: أوحى اللّه تعالى إلى نبيّ من الأنبياء " اتخِذِ الدنيا ظِئْراً والآخرَة أماً " .
للشعبي قال الشعبيّ: ما أعلمُ لنا وللدنيا مَثلاً إلا ما قال كُثَيِّرٌ:
أسيئي بنا أو أحسِني لا مَلُومَة ... لَدَيْنَا ولا مَقليةٌ إن تَقلًتِ
لبكر بن عبد اللّه قال بكر بن عبد الله: المستغني عن الدنيا بالدنيا كالمطفئ النارَ بالتِّبْنِ.
لابن مسعود قال ابن مسعود: الدنيا كلّها غمومٌ، فما كان فيها مِن سرورٍ فهو ربح.
لمحمد بن الحنفية قال محمد بن الحنفية: مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُه هانت عليه الدنيا.
في الدنيا والآخرة وقال بعضُ الحكماء: مَثَلُ الدنيا والآخرةِ مَثَلُ رجل له ضَرتان إن أرضى إحداهما أسخط الأخرى.
قال سفيان: ترك لكم الملوكُ الحكمةَ فَاترُكوا لهم الدنيا.
وقال آخر: إن الدنيا قد استودَقَتْ وأنعظَ الناسُ.
قال وُهَيبُ بن الورد: مَنْ أرادَ الدنيا فَلْيتهيأ للذل.
قيل لمحمد بن واسع: إنك لَترضَى بالدون؛ فقال: إنما رِضيَ بالدُونِ مَنْ رضي بالدنيا.
قيل لعليّ بن الحسين: مَنْ أعظمُ الناس خَطَراً. فقال: مَنْ لم ير الدنيا خطَراً لنفسه.
كان يقال: لأنْ تُطلَبَ الدنيا بأقبح ما تُطلَبُ به الدنيا أحسنُ مِنْ أن تُطلَبَ بأحسنِ ما تُطلَبُ به الآخرة.
قالتِ امرأةٌ لبعلها ورأته مهموماً: مم هَمكَ؟ أبالدنيا فقد فرغ الله منها أم بالاخرة فزادك الله هماً.
للمسيح في حب الدنيا الثوري قال: قال المسيحُ: حبُ الدنيا أصلُ كلً خطيئةٍ والمالُ فيها داءٌ كثير؛ قيل: ما داؤه؟ قال: لا يَسلمُ صاحبه من الفخر والكبر؛ قيل: وإن سَلم؟ قال: يَشْغَلُه إصلاحُه عن ذكر الله.
لبأي الدرداء يخاطب أهل حمص بلغني عن محمد بن فُضَيل قال: حدّثنا عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجعد عن أبي الدرداء قال: يا أهل حِمْصَ، ما لي أراكم تجمعونَ كثيراً، وتبنُونَ شَديداً، وتأمُلُون بعيداً إن مَنْ قبلكم جمعوا كثيراً وبَنَوْا شديداً وأمَلوا بعيداً فصار جمعهم بُوراً وصارتْ مساكنُهم قبوراً وأملُهم غُروراً. وفي رواية أخرى: يا أهل دمشق، ما لكم تجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون، وتأمُلُون ما لا تدركون! ألا إن عاداً وثمودَ كانوا قد ملأوا ما بين بُصَرى وعَدَن أموالاً وأولاداً ونَعَماً، فمنْ يَشتَرِي مِني ما تركوا بدرهمين! لعبد الواحد بن الخطاب بلغني عن داود بن المحبر عن عبد الواحد بن الخطّاب قال: أقبلنَا قافلين من بلاد الروم نُريدُ البصرةَ، حتى إذا كنا بين الرصَافة وحمص سمعنا صائحاً يصيحً من بين تلك الرمال - سَمِعته الاذانُ ولم تَرَهُ العيون - يقول: يا مستورُ يا محفوظُ! أعْقِلْ في سِتْر مَنْ أنتَ! فإن كنتَ لا تعقِلُ مَنْ أنتَ فيِ ستْره فاتقِ الدنيا فإنها حِمَى الله؛ فإن كنتَ لا تعقِلُ كيف تتًقِيها فَصَيرْها شوكاً ثم انظر أين تضعُ قدميكَ منها.
للمأمون وشعر لأبي النواس في الدنيا قال المأمون: لو سُئِلَت الدنيا عن نفسها ما أحسَنَتْ أن تصفَ نفسَها صِفَةَ أبي نُواسٍ في هذا البيت:
إذا اختَبَر الدنيا لَبِيب تكشَّفَتْ ... له عن عَدو في ثياب صَدِيقِ
للمسيح عليه السلام قال المسيحُ عليه السلام: أنا الذي كَفَفتُ الدنيا على وجهها، فليسَتْ لي زوجة تموتُ ولا بيتٌ يَخرَبُ.
شعر لأبي العتاهية قال أبو العتاهية:
يا مَنْ ترفَّعَ للدُنيا وزِينتها ... ليس الترفُّع رفعَ الطين بالطينِ
إذا أردت شريفَ الناس كُلَهِم ... فانظُر إلى مَلِكٍ في زِيَ مِسكينِ
شعر لآخر في الدنيا وقال آخر وذكر الدنيا:
إذا تَم أمر دنا نقصُه ... توَقَعْ زوالاً إذا قيل تَم
وقال آخر:
لا تَبْكِ للدنيا ولا أهلِها ... وابِك ليوم تسكُنُ الحافرهْ
وابْكِ إذا صِيحَ بأهل الثرى ... فاجتمَعوا فيً ساحة الساهِرَهْ
ويلك يا دنيا لقد قصرت ... آمال من يسكنك الآخرة
مقامات الزهاد عند الخلفاء والملوك
مقام صالح بن عبد الجليل بين يدي المهدي
ّقام فقال: إنه لما سَهُلَ علينا ما توعَرَ علىِ غيرنا من الوصول إليك، قُمنا مَقَامَ الأداء عنهم وعن رسول اللة صلى الله عليه وسلم بإظهار ما في أعناقنا من فريضةِ الأمر والنهي عند انقطاع عُذر الكِتمان ولا سَيما حين اتسَمْتَ بِمَيسَم التواضع ووَعَدتَ الله وحَمَلَةَ كتابه إيثار الحق على ما سواه، فجمعنَا وإياكَ مَشْهد من مشاهد التمحيص لِيُتَمَ مُؤَدينا على موعود الأداء وقابِلُنَا على موعود القبول، أو يَزيدنا تَمحِيصُ الله إيانا في اختلاف السر والعلانية، ويُحَلَينا حِليةَ الكذابين، فقد كان أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقولون: مَنْ حجب اللُه عنه العلم عذبه على الجهل، وأشَدُّ منه عذاباً مَنْ أقبل إليه العلمُ وأدبرَ عنه، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمَل به فقد رَغِبَ عن هديه الله وقصَر بها، فأقبل ما أهدَى الله إليكَ من ألسنتنا قبولَ تحقيقٍ وعمل لا قبولَ سمعةٍ ورياءٍ فإنه لا يعلَمك منَا إعلامٌ لما تَجهَلُ أو مواطأةٌ على ما تعلمُ أو تذكيرٌ من غفلةَ؛ فقد وطًنَ اللّه عز وجل نبيه عليه السلام على نزولها تعزية عما فات وتحصيناً من التمادي ودلالةً على المخرَج فقال: " وإما يَنْزَغنك مِن الشَيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللّه " فأطْلِع الله على قلبكَ بما يُنَوٌرهُ من إيثار الحق ومًنَابذةِ الأهواء. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
مقام رجل من الزهّاد بين يدي المنصور
بينما المنصورُ يطوفُ ليلاً إذ سمع قائلاً يقول: اللَهم إني أشكو إليكَ ظهورٍ البغي والفساد في الأرض وما يحولُ بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصورُ فجلس ناحية من المسجد وأرسل إلى الرجل يدعوه، فصلى الرجلُ ركعتين واستلَم الركنَ وأقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة، فقال المنصورُ: ما الذي سمعتُكَ تذكُر من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بينِ الحق وأهله من الطمع؟ فوالله لقد حَشَوْتَ مَسَامِعي ما أرمَضَنِي، قال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتُك بالأمور من أصولها، وإلا احتجزتُ منكَ واقتصرتُ على نفسي ففيها لي شاغِل. فقال: أنتَ آمنُ على نفسك فقل فقال: إن النبي دخله الطمعُ حتى حال بينه وبين ما ظهر من البغي والفساد لأنتَ. قال: ويحك وكيف يدخلُني الطمعُ والصفراءُ والببضاءُ في قبضتي والحلو والحامض عندي! قال: وهل دخل أحد من الطمع ما دخلكَ! إن الله تبارك وتعالى استرعاك المسلمينَ وأموالَهم فأغفلتَ أمورهم واهتممتَ بجمع أموالِهم، وجعلتَ بينك وبينهم حجاباً من الجص والآجُر وأبواباً من الحديد وحَجَبَةً معهم السلاحُ ثم سجنتَ نفسَكَ فيها عنهم، وبعثتَ عُمَالَكَ في جباية الأموال وجمعها وقويتَهم بالرجال والسلاح والكراع، وأمرتَ بألا يدخُلَ عليك من الناس إلا فلانٌ وفلان نفر سميتَهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع العاري ولا الضعيفِ الفقير، ولا أحدٌ إلا وله في هذا المال حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتَهم لنفسك وآثرتَهم على رعيتكَ وأمرتَ ألا يُحجَبُوا عنك، تَجْبي الأموال وتجمعها ولا تَقسِمُها قالوا: هذا قد خان الله فما بالنا لا نخونه وقد سجن لنا نفسَه! فَأتمروا بألا يصلَ إليك مِنْ علم أخبار الناس شيء؛ إلا ما أرادوا، ولا يخرجَ لك عاملٌ فيخالفَ أمرَهُم إلا قصبوه عندك ونَفَوْه حتى تسقطَ منزلتُه ويَصْغُر َقدرُه، فلما انتشر ذلكَ عنكَ وعهم، أعظمَهُم الناسُ وهابوهم، فكان أولَ مَنْ صانعَهم عُمالُكَ بالهدايا والأموال لِيَقْوَوْا بها على ظلم رعيتكَ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلمَ من دونهم، فامتلأت بلادُ الله بالطمع بغياً وفساداً، وصار هؤلاء القوم شُركاءك في سلطانك وأنت غافل، فإن جاء مُتظلم حِيلَ بينه وبين دخول مدينتك؛ فإن أراد رفع قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيتَ عن ذلكَ، وأوقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم، فإن جاء ذلك الرجل فبلَغَ بطانَتَكَ خبرُه سألوا صاحبَ المظالم ألا يرفعَ مَظْلِمَتَه إليك، فإن المتظلَم منه له بهم حُرمة، فأجابهم خوفاً منهم؛ فلا يزال المظلومُ يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه، فإذا اجهِدَ واحرجَ وظَهَرْتَ، صَرَخ بين يديك، فضُرِبَ ضَرْباً مُبَرّحاً، ليكون نكالاً لغيره، وأنت تَنظر فلا تُنكِر، فما بقاءُ الإسلام على هذا! وقد كنتُ يا أمير المؤمنين أسافر إلى الصَين فقدِمتها مرةً وقد أصِيبَ مَلِكُها بسمعه، فبكى يوماً بكاءً شديداً فحثه جلساؤه على الصبر فقال: أمَا إني لست أبكي للبلية النازلة بي، ولكني أبكي لمظلوم بالباب يصرُخُ ولا أسمعُ صوتَه؛ ثم قال: أما إذ ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادُوا في الناس ألاً يلبَسَ ثوباً أحمرَ إلا متظلمٌ، ثم كان يركب الفيل طرفَيْ نهاره، وينظر هل يرى مظلوماً. فهذا يا أمير المؤمنين مُشركٌ بالله غلبتْ رأفتُه بالمشركين شُحَ
نفسه وأنت مؤمنٌ بالله من أهل بيت نبيه لا تغلب رأفتكَ بالمسلمين على شح نفسك! فإن كنت إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله عِبَراً في الطفل يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزالُ الله يلطُفُ بذلك الطفل حتى تعظُمَ رغبةُ الناس إليه، ولست بالذي تُعطي بل الله يعطي من يشاء ما يشاء، وإن قلت إنما أجمع المال لتَشديد السلطان فقد أراك الله عِبَراً في بني أميةَ: ما أغنى عنهم ما جمعوا من الذهب والفضة وأعدوا من الرجال والسلاح والكُرَاع حتى أراد الله بكم ما أراد، وإن قلتَ إنما أجمع المالَ لطلب غايةٍ هي أجسمُ من الغاية التي أنا فيها، فوالله ما فوق ما أنتَ فيه إلا منزلةٌ لا تدرك، إلا بخلاف ما أنتَ عليه يا أميرَ المؤمنين؛ هل تُعاقب من عصاك بأشد من القتل؟ قال المنصور: لا. قال: فكيف تصنع بالملكِ الذي خولك مُلكَ الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل! ولكنَ بالخلود في العذاب الأليم، قد رأى ما قد عقِدَ قلبك وعَمِلته جوارحُك ونظر إليه بصرُك واجترحته يداكَ ومشت إليه رجلاك، هل يغني عنك ما شَحَحْتَ عليه من مُلك الدنيا إِذا انتزعَه من يدك ودعاكَ إلى الحساب. فبكى المنصور وقال: يا ليتني لم أخْلَقْ! ويحكَ! فكيف أحتال لنفسي قال: يا أمير المؤمنين إن للناس أعلاماً يفزعون إليهم في دينهم ويرضَوْن بهم فاجعلهم بطانَتك رشدوكَ، وشاورْهم في أمرك يُسددوك. قال: قد بعثت إليهم فهربوا مني. قال: خافوا أن تحمِلَهم على طريقتك ولكن إفتَحْ بابكَ وسَفَل حجابَك وانصُرِ المظلومَ واقمَعْ الظالمَ وخذ الفيء والصدقاتِ مما حل وطابَ واقسِمه بالحق والعدل على أهله وأنا الضامن عنهم أن يأتوك ويُسْعِدوك على صلاح الأمة.
وجاء المؤذَنون فسلموا عليه فصلى وعاد إلى مجلسه وطُلِبَ الرجلُ فلم يوجَدْ.
مقام آخر والمنصور يخطبخَطبَ المنصورُ فحمِد الله ومضى في كلامه، فلما انتهى إلى أن أشهد أن لا إله إلا الله وثَبَ رجل من أقصى المسجد فقال: أذَكرك مَنْ تذكرُ. فقال المنصور: سمعاً لمن فَهِم عن الله وذكرَ به وأعوذ بالله أن أكون جباراً عصياً وأن تأخذني العزة بالإثم لقد ضَلَلْتُ إذاً وما أنا من المهتدين، وأنتَ واللِه أيها القائل ما أردتَ بها الله ولكن حاولتَ أن يقال: قام فقال فعوقب فصَبَر، وأهوِنْ بقائلها لو هَمَمْت، فاهتَبِلها ويلكَ إذ عفوتُ، وإياكم معشرَ الناس وأختَها؛ فإن الموعظة علينا نزلت ومن عندنا انبثتْ فردوا الأمر إلى أهله يُصْحِرُوه كما أورعوه. ثم رجع إلى خطبته فقال: وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه.
مقام عَمْرو بن عُبَيد بين يدي المنصور
قال للمنصور: إن الله أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتَرِ نفسك ببعضها، واذكر ليلةً تَمَخضُ عن يوم لا ليلةَ بعده. فوجَمَ أبو جعفر من قوله؛ فقال له الربيع: يا عَمْرو غمَمْت أمير المؤمنين.
فقال عَمْرو: إن هذا صَحِبك عشرين سنة لم يَرَ لك عليه أن يَنْصحَكَ يوماً واحداً وما عَمِلَ وراءَ ذلك بشيء من كتاب الله ولا سنة نبيه. قال أبو جعفر: فما أصنع؟ قد قلتُ لكَ: خاتمي في يدك فتعالَ وأصحابك فاكفِنِي. قال عَمْرو: ادعُنا بعدلك تسْخُ أنفسنا بعونك؛ ببابك ألف مَظلِمةٍ ارددْ منها شيئاً نعْلَمْ أنك صادق.
مقام أعرابيّ بين يدي سليمان
قام فقال: إني مُكَلمكَ يا أميرَ المؤمنين بكلام فيه بعضُ الغِلظةِ فاحتَمِلْهُ إن كرهتَه، فإن وراءه ما تُحبه إن قلتَه. قال: هاتِ يا أعرابيٌ. قال: فإني سأطلِقُ لساني بما خَرِسَتْ عنه الألسُنُ، عِظَتكَ تأديةً لِحق الله وحق إمامتك، إنه قد اكتنفَكَ رجال أساءوا الاختيارَ لأنفسهم، فابتاعوا دنياكَ بدينهم ورِضَاكَ بسخط ربهم، خافوكَ في الله ولم يخافوا الله فيكَ، فهم حَرْبٌ للآخرة سلم للدنيا، فلا تأمَنْهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لن يألوا الأمانة تضييعاً والأمة عسفاً وخسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا مسؤولين عما اجترَحْتَ، فلا تُصْلِحْ دنياهم بفساد آخرتكَ، فإن أعظم الناس غَبْناً مَنْ باع آخرته بدنيا غيره. قال سليمان: أما أنت يا أعرابي فقد سلَلتَ لسانكَ، وهو أقطعُ سيفيكَ. فقال: أجلْ، لكَ لا عليكَ.
مقام أعرابيّ بين يدي هشام
قال: أتتْ على الناس سِنُون، أما الأولى فَلَحَتِ اللحمَ، وأما الثانية فأكلتِ الشحْم، وأما الثالثة فهاضَتِ العظمَ، وعندكم فضولُ أموال، فإن كانت لله فاقسِموها بين عباده، وإن كانت لهم ففيمَ تُحظَرُ عنهم! وإن كانت لكم فتصدقوا عليهم بها فإن الله يَجْزِي المتصدقين؛ فأمر هشام بمال فقُسِم بين الناس وأمرَ للأعرابي بمال، فقال: أكل المسلمين له مثل هذا؟ قالوا: لا ولا يقوم ذلك بيتُ مال المسلمين؛ قال: فلا حاجةَ لي فيما يبعثُ لائمةَ على الناس على أمير المؤمنين.
مقام الأوزاعيّ بين يدي المنصور
ذكره عبدُ الله بن المبارك عن رجل من أهل الشأم قال: دخلتُ عليه فقال: ما الذي بَطأ بك عني؟ قلتُ: يا أميرَ المؤمنين وما الذي تريد مني؟ فقال: الاقتباسُ منك. قلتُ: انظر ما تقول، فإن مكحولاً حدًثني عن عطية بن بَشيرٍ أنّ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ بلَغه عن اللّه نصيحةٌ في دينه فهي رحمة من الله سِيقَتْ إليه، فإن قَبِلَها من الله بشكرٍ وإلا كانتْ حُجّةً من الله عليه، ليزداد إثماً، وليَزْدادَ الله عليه غضباً، وإن بلغه شيء من الحق فرضِيَ فله الرضا، وإن سَخِط فله السخط، ومن كرهَه فقد كره الله، لأن الله هو الحق المبين " ، فلا تجهَلَن.
قال: وكيف أجهل؟ قال: تسمع ولا تعمل بما تسمَعُ.
قال الأوزاعي: فسل علي الربيعُ السيفَ وقال: تقول لأمير المؤمنين هذا! فانتهرَه المنصور وقال: أمسِكْ. ثم كلمه الأوزاعي، وكان في كلامه أن قال: إنك قد أصبحت من هذهِ الخلافة بالذي أصبحت به، والله سَائَلُكَ عن صغيرها وكبيرها وفتيلها ونقيرها، ولقد حدثني عُروةُ بن رُوَيْم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما مِنْ راعٍ يبيتُ غاشّاً لِرعيته إلا حًرّمَ الله عليه رائحةَ الجنةِ " فحقيق على الوالي أن يكون لرعيته ناظراً، ولمَا استطاع من عَوراتهم ساتِراً، وبالقِسط فيما بينهم قائماً، لا يتخوْف محسنُهم منه رهَقاً ولا مسيئهم عدواناً؛ فقد كانت بيد رسول الله؛ جرب يستَاكُ بها ويردعُ عنه المنافقينَ، فأتاه جبريلُ فقال: " يا محمدُ ما هذه الجريدةُ بيدكَ! إقذِفْها تملأ قلوبَهم رُعباً!. فكيف مَنْ سفكَ دماءهم وشَققَ أبشارهم وأنهبَ أموالهم! يا أمير المؤمنين إنْ المغفورَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر دعا إلى القِصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابياً يتعمده، فهبط جبريل فقال: " يا محمد إن الله لم يبعَثْكَ جباراً تكسِرُ قرونَ أمَتك " . واعلم كل ما في يدك لا يعدِلُ ضربةً منِ شراب الجنة ولا ثمرةً من ثمارها؛ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " لَقَاب قوس أحدكم من الجنة أو قُذَة خيْرٌ له من الدنيا بأسرها " . إن الدنيا تنقطِعُ ويزولُ نعيمها، ولو بقي الملكُ لمن قبلكَ لم يصِل إليكَ. يا أمير المؤمنين، ولو أنّ ثوباً من ثيابَ أهل النار عُلًقَ بين السماء والأرض لأذاهم فكيف مَنْ يتَقمصُه! ولو أن ذَنُوباً من صديد أهل النار صُبَّ على ماء الأرض لآجنَه فكيف بمن يتجرعهُ، ولو أنَ حَلقةً من سلاسل جهنم وُضِعَتْ على جبل لذاب فكيف مَنْ سُلِكَ فيها ويُرَدُّ فضلُها على عاتقه! وقد قال عمر بن الخطاب: " لا يُقَوَم أمرَ الناس لا حَصيفُ العقدة، بعيدُ الغِرة، لا يَطَّلِعُ الناسُ منه على عَورةٍ، ولا يُحنِقُ في الحق على برةٍ، ولا تأخُذُهُ في الله لومةُ لائم " .
واعلم أن السلطان أربعة: أمير يَظْلِفُ نفسَه وعمفالَه، فذلك له أجرُ المجاهد في سبيل الله وصلاتُه سبعونَ ألفَ صلاةٍ ويدُ الله بالرحمة على رأسه تُرفرفُ؛ وأمير رتَعَ ورتَع عُمَالُه، فذاك حمِلُ أثقالَه وأثقالاً مع أثقاله؛ وأمير يَظلِف نَفسَه ويرتَعُ عُمَّالُه، فذاكَ الذي باع آخرتَه بدنيا غيره؛ وأمير يرتَعُ ويَظْلِفُ عُمالَهُ، فذاكَ شر الأكياس.
واعلم يا أمير المؤمنين أنك قد ابتُلِيتَ بأمر عظيم عُرِضَ على السَّمواتِ والأرض والجِبال فأبينَ أن يحملنه وأشفَقَن منه؛ وقد جاء عن جَدَكَ في تفسير قول اللّه عز وجل: الا يُغَادِرُ صغِيرَة ولا كَبِيرَة إلا أحصاها " أنْ الصغيرة التبسمُ، والكبيرةَ الضحكُ.
وقال: فما ظنكم بالكلام وما عملته الأيدي! فاعيذك بالله أن يُخيل إليك أن قرابتك برسول اللّه صلى الله عليه وسلم تنفع مع المخالفة لأمره؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا صفية عمة محمد ويا فاطمة بنت محمد استوهبا أنفسكما من الله إني لا أغني عنكما من الله شيئاً " . وكان جدك الأكبر سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إمارةً؛ فقال: " أي عمٌ نفسٌ تُحِييها خيرٌ لك من إمارة لا تُحصِيها " ، نظراً لعمه وشفقة عليه أن يليَ فيجورَعن سنته جناحَ بعوضة، فلا يستطيعَ له نفعاً ولا عنه دفعاً. هذه نصيحتي إن قبلتَها فلنفسك عملتَ، وإن رددتها فنفسك بَخسْتَ، واللّه الموفق للخير والمعينُ عليه.
قالى: بلى! نقبلها ونشكرُ عليها، وبالله نستعينُ.
مقام خالد بن صفوان بين يدي هشامقال خالد: وفدتُ عليه فوجدته قد بدأ يشربُ الدهنَ، وذلك في عام باكرَ وَسْمِيُّه وتتابعَ وليه وأخفت الأرضُ زُخرُفَها، فهي كالزرابىً المبثوثة والقُبَاطي المنشورة، وثراها كالكافور لو وُضِعَتْ به بَضْعة لم تُتَرّبْ، وقد ضُربتْ له سرادقاتُ حِبَرٍ بعث بها إليه يوسفُ بن عمر من اليمن تتلألأ كالعقْيان، فأرسل إليَ فدخلت عليه، ولم أزل واقفاً، ثم نظر إليئ كالمستنطِق لي؛ فقلت: يا أمير المؤمنين، أتم الله عليك نعمه ودفع عنك نقمه؛ هذا مَقامٌ زَيَّنَ الله به ذكر وأطاب به نَشْري، إذ أراني وجه أمير المؤمنين، ولا أرى لمقامي هذا شيئاً هو أفضل من أنت أنبه أمير المؤمنين لفضل نعمة الله عليه ليحمَدَ الله على ما أعطاه، ولا شيء أحضرُ من حديث سلف لملك من ملوك العجم إن أذن لي فيه حدّثته به. قال: هات.
قلتُ: كان رجلِ من ملوك الأعاجم جُمِعَ له فَتاءُ السن وصِحةُ الطباع وسَعَةُ المُلك وكثرة المال، وذلك بالخَوَرْنق، فأشرف يوماً فنظر ما حوله فقال لمن حضره: هل علمتم أحداً أوتي مثل الذي أوتيتُ؛ فقال رجل من بقايا حَمَلة الحجة: إن أذِنت لي تكلمت. فقال: قل. فقال: أرأيت ما جُمِعَ لك، أشيء هو لك لم يزل ولا يزولُ، أم هو شيء كان لمن قبلك زال عنه وصار إلي وكذلك يَزُولُ عنك؟ قال: لا! بل شيء كان لمن قبلي فزال عنه وصار إلي وكذلك يزول عني قال: فسُرِرتَ بشيءِ تذهب لذته وتبقى تَبِعَتُه، تكون فيه قليلاً وتُرْتَهن به طويلاً؛ فبكى وقال: أين المهربُ؟ قال: إلى أحد أمرين: إما أن تُقيمَ في مُلككَ فتعملَ فيه بطاعة ربكَ، وإما أن تُلقي عليك أمساحاً ثم تلحق بجبل تعبد فيه ربكَ حتى يأتي عليك أجلُكَ؛ قال: فما لي إذا فعلت ذلك؟ قال: حياة لا تموت وشباب لا يهرم وصحة لا تسقم وملك جديد لا يبلى؛ فأتى جبلاً فكان فيه حتى مات. وأنشد قول عدي بن زيد:
وتَفَكَرْ رَب الخوَرْنَقِ إذ أص ... بحَ يوماً وللهُدَى تَفْكِيرُ
سَره حالُه وكثرةُ ما يم ... لكُ والبحرُ مُعْرِضا والسدِيرُ
فارعَوَى قلبُه فقال وما غب ... طةُ حي إلى الممات يصيرُ
فبكى هشام وقامِ ودخل؛ فقال لي حاجبه: لقد كسبت نفسَك شراً، دعاك أمير المؤمنين لِتحدثه وتُلهِيَه وقد عرَفت علتَه فما زِدْتَ على أن نَعيتَ إليه نَفْسَه. فأقمتُ أياماً أتوقًعُ الشر، ثم أتاني حاجبُه فقال: قد أمر لك بجائزةٍ وأذِنَ لك في الانصراف.
مقام محمد بن كعب القرظيّ بين يدي عمر بن عبد العزيز
قال: إنما الدنيا سُوقٌ من الأسواق، فمنها خرج الناسُ بما ينفعهم وبما يضرهم، وكم قومٍ قد غرهم مثلُ الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموتُ فاستوعبَهم فخرجوا من الدنيا مُرمِلينَ لم يأخذوا لِما أحبوا من الآخرة عدَةً ولا لما كرهوا جُنَةً، واقتسم ما جمعوا من لم يحمَدْهم وصاروا إلى من لا يعذِرُهم. فانظر الذي تُحب أن يكون معك إذا قدِمْتَ، فقدَمه بين يديك حتى تخرجَ إليه؛ وانظر الذي تكره أن يكون معك إذا قدمْتَ، فابتغ به البدَل حيث يجوز البدلُ، ولا تذهَبنَ إلى سِلْعَةٍ قد بارت على غيرك ترجو جوازَها عنك. يا أمير المؤمنين، إفتح الأبوابَ، وسهَل الحجابَ، وانصُر المظلومَ.
مقام الحسن عند عمر بن هُبَيرة
كتبَ ابن هُبَيرة إلى الحسن وابن سِيرين والشعبيْ فقُدِم بهم عليه، فقال لهم: إن أمير المؤمنين يكتب إلي في الأمر، إن فعلته خفتُ على ديني، وإن لم أفعله خفتُ على نفسي. فقال له ابن سيرين والشعبيّ قَولاً رَقَّقا فيه، وقال له الحسن: يا بن هبيرة، إن الله يمنعُك من يزيدَ، وإن يزيد لا يمنعُكَ من الله. يا بن هبيرة، خَفِ الله في يزيد ولا تخفْ يزيدَ في الله. يا بن هبيرة، إنه يُوشِكُ أن يبعثَ الله إليك مَلَكاً فيُنزلَكَ عن سريرك إلى سَعَةِ قصرك، ثم يخرجك عن سعةِ قصرك إلى ضِيقِ قبرك، ثم لا يُنْجِيك إلا عملُكَ. يا بن هبيرة إنه لاطاعة لمخلوق فِي معصية الخالق. فأمر له بأربعة آلاف درهم وأمر لابن سيرين والشعبي بألفين فقالا: رَققْنا فَرَقَقَ لنا.
باب من المواعظكلام للحَسن
قال في كلام له: أمتكُم آخرُ الأمم وأنتم آخرُ أمتكم، وقد أسْرعَ بخياركم فماذا تنتظرون! المعاينة؟ فكأن قد. هيهات هيهات! ذهبت الدنيا لحال بمالها، وبقيت الأعمالُ أطواقاً في أعناق بني آدم؛ فيا لها موعظةً لو وافقَتْ من القوب حياةً؛ إنه والله لا أمةَ بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتابَ بعد كتابكم، أنتم تسُوقون الناسَ والساعةُ تسوقكم؛ وإنما يُنتظَر بأولكم أن يلحَقَ آخِركم. مَنْ رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً لم يضح لَبِنة على لَبِنة ولا قصبة على قصبة، رُفِع له علمٌ فشمرَ إليه؛ فالوَحا الوَحا، والنجاءُ النجاء. علام تعرجون؟ أسرعَ بخياركم وأنتم كل يوم تَرذلون. لقد صحبتُ أقواماً كانت صحبتهم قَرةَ العين وجَلَاءَ الصدور، وكانوا من حسناتهم أًن تُردً عليهم أشفقَ منكم من سيئاتكم أن تُعذًبوا عليها، وكانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهدَ منكم فيما حرم الله عليكم. إني أسمع حسيساً، ولا أرى أنيساً، ذهب الناسُ، وبقِيتُ في النَسناس، لو تكاشفتم ما تدافنتم؛ تَهَاديتُم الأطباقَ ولم تَهادَوُا النصائحَ. يابن آدم، إن دين اللّه ليس بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقَر في القلوب وصَدَقته الأعمالُ.
كلام لبعض الزهادلا تغترّنَ بطول السلامة مِع تضييع الشكر، ولا تُعْمِلنَ نعمةَ الله في معصيته، فإن أقل ما يَجِبُ لمهدِيها ألا تجعلَها ذريعةَ إلى مخالفته. واستَدْع شاردَ النّعم بالتوبةِ، واستد!م الراهنَ بكرم الجِوَارِ، واستفتِح بابَ المزيد بحُسن التوكل. أو ما عَلِمْتَ أن المستشعرَ لذُل الخطيئة المخرجَ نفسَه من كُلَف الطاعة نَطِفُ الثَّناءِ، زَمِرُ المروءةِ، قَصيُ المجلس، لا يشاور وهو ذو بَزلَاءَ، ولا يُصَدَرُ وهو جميل الرُّوَاءِ، غامضُ الشخص ضئيلُ الصوتِ نَزْرُ الكلام يتوقع الإسكاتَ عند كلّ كلمةٍ، وهو يَرى فضلَ مزيته وصريحَ لبهِ وحسنَ تَفضِيلِه، ولكن قَطعه سوء ما جنى على نفسه، ولو لم تَطلِعْ عليه عيونُ الخليقة لهجسَت العقولُ بإدهانه. وكيف يمتيع سُقوط القدرِ وظَنَ المتفرس مَنْ عُريَ مِن حِلْية التقوى وسُلِبَ طبائعَ الهُدَى! ولو لم يَتَغَش ثوب سريرته وقبيحَ ما أجنَ من مخالفة ربه لقطعه العلمُ بقبيح ما قارفَ عن اقتدار ذَوِي الطهارة الكلام وإدلال أهل البراءة في النديّ.
كلام لغَيْلان
إن التراجعَ في المواعظ يُوشِكُ أن يُذْهِبَ يومَها ويأتي يومُ الصاخة، كلُّ الخلقِ يومئذ مُصِيخ يستمعُ ما يُقالُ له ويُقضَى عليه، وخَشَعَت الأصْواتُ للرحمن فلا تسمَع إلا هَمساً. فاصمُت اليوم عما يُصْمِتكَ يومئذ، وتَعَلَمْ ذلك حتى تعلَمَه، وابتغِه حتى تَجده، وبادِرْ قبل أن تفجأكَ دعوةُ الموت، فإنها عَنيفة إلا بِمَنْ رحم الله، فيُقْحِمكَ في دار تسمعُ فيها الأصوات بالحسرة والويل والثبور، ثم لا يُقالُون ولا يُستعتَبونَ. إني رأيتُ قلوب العِباد في الدنيا تخشع لأيسر من هذا وتَقسُو عند هذا، فانظُر إلى نفسك أعبدُ الله أنت أم عَدوُه، فيا رُبً مُتعبّد بلسانه، مُعادٍ له بفعله ذلول في الإنسياق إلى عذاب السعير في أمنية أضغاثِ أحلام يَعبرها بالأمانِي والطنون. فاعرِف نفسَكَ وسَلْ عنها الكتابَ المنيرَ، سؤال من يُحِب أن يعلم، وَعلمَ من يُحبّ أن يعمَلَ، فإن الرب جلّ ثناؤه لا يعذِر بالتعذير والتغرير، ولكن يعذِرُ بالجِد والتشمير. إكْتس نصيحتي، فإنها كُسوَةُ تقوَى ودليلٌ على مفاتح الخير، ولا تكن كعلماء زمن الهَرْج إن وُعِظُوا أنِفُوا، وإن وَعَظُوا عَنُفُوا. واللهّ المستعان.
كتاب رجل إلى بعض الزّهاد
كتب إليه: إنّ لي نفساً تُحِبُّ الدَّعةَ، وقلباً يألف اللذاتِ، وهمةً تَسْتثقِلُ الطاعةَ، وقد وهَّمتُ نفسي الآفات، وحَذَّرتُ قلبي الموت، وزجرتُ هِمَتي عن التقصير؛ فلم أرضَ ما رجع إليَّ منهن، فاهدِ لي - رحمك الله - ما أستعينُ به على ما شكوتُ إليك؛ فقد خفتُ الموت قبلَ الاستعداد.
فكتب إليه: كثر تعجّبي من قلبَ يألَفُ الذنبَ، ونفسٍ تطمئنُ إلى البقاء، والساعاتُ تَنقُلُنا والأيامُ تَطوِي أعمارَناة فكيف يألفُ قلبٌ ما لا ثباتَ له، وكيف تنام عينٌ لا تحرِي لعلها لا تطرِفُ بعد رَقدَتها إلا بين يدي اللّه! والسلام.
وكتب رجل من العبّاد إلى صديق له
إني لمّا رأيتُ الناسَ في اليقين متفقين، وفي العمل متفاوتين، ورأيت الحجةَ واجبة، فلم أر في يقينٍ قَصَرَ بصاحبه عن عملٍ حجةٍ، ولا في عملٍ كان بغيرِ يقينٍ منفعةً؛ ورأيتُ من تقصيرِ أنفسنا في السعي لمرجوّ ما وُعِدَتْ والهرَبِ من مَخُوف ما حُذَرَتْ، حتى أسلمها ذلك إلى أن ضَعُفَتْ منها النيةُ وقلّ التحفّظُ واستولى عليها السَّقَط والإغفالُ واشتعَلَتْ منها الشهوةُ، ودعاها ذلك إلى التمرّغ في فضائح اللّذاتِ، وهي تعلم أن عاقبتَها الندمُ، وثمرتَها العقوبة، ومصيرَها إلى النار إن لم يعفً اللُّه - عجبتُ لعمل امرئٍ كيف لا يشبِهُ يقينَه، ولعلم موقنٍ كيف لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه، حتى لا يتكون الرغبة منه إلا إليه والرهبة منه إلا له. وزادني عجباً أنّني رأيت طالب الدنيا أجدَّ من طالب الآخرة، وخائفَها أتعبَ من خائف الآخرةِ، وهو يعلم يقيناً أنه رُب مطلوبٍ في الدنيا قد صار حين نيلَ حتفاً لطالبه، وأنه رُبَّ مَخُوفٍ فيها قد لَحِقَ كَرْهاً بالهارب منه فصار حظاً له، وأن المطلوبَ إليه من أهلها ضعيفٌ عن نفسه محتاجٌ إلى ربه مَملوكٌ عليه مالُه مخزونةٌ عنه قدرتُه. واعلم أن جِمَاعَ ما يسعى له الطالبُ وَيهرُبُ منه الهاربُ أمران: أحدهما أجلُه، والآخر رزقُه، وكلاهما بعينه شاهد على أنه لا يملِكُه إلا الذي خلقه. فلم أدْر حين صار هذا اليقينِ في موضع الإيمان يقيناً لا شك فيه، كيف صار في موضع العمل شبيهاَ بالشك الذي لا يقينَ فيه! وكيف، حين اختُلِفَ في أمر الآخرة، لم يُخْتَلْف في أمر الدنيا، فيكون خائفُ الآخرة لربه كخائف الدنيا لسلطانه صبراً له على تجشم المكروه، وتجرّعاً منه لغُصَص الغيظ، واحتمالاً منه لفادح النّصَب، وعملأ له بالسخرة، وتحفظاً من أن يُضمِرَ له على غش أو يَهًم له بخلاف، ولو فعل ذلك ما علمه منه حتى يَظهَرَ له بقولٍ أو فعل؛ ولو علمه ما
قَدَر له على قطع أجل لم يَفْنَ ورزقٍ لم ينفَد؛ فإن ابتُلِيَ بالسخَطِ من سلطانه فكيف حزنه ووحشتُه، وإن أنِسَ منه رِضاً عنه فكيف سُرورُه واختيالُه؛ة فإن قارفَ ذنباً إليه فكيف تضعضه واستخذاؤه، فإن ندبه لأمر فكيف خِفَّته ونشاطه! وإن نهاه عنه فكيف حَذرُه واتّعاظُه وهو يعلم أن خالِقَه ورازقَه يعلَمُ سِرَّه وجهرَه، ويراه في متقلبه ومثواه، ويُعاينُه في فضائحه وعورته، فلم يَزعْهُ عنها حياء منه ولا تقيةٌ له، قد أمره فلم يأتمر، وزجَره فلم يزدجر، وحَذَره فلم يحذر؛ ووعده فلم يرغَبْ، وأعطاه فلم يشكر، وستره فلم يزددْ بالستر إلا تعرضا للفضائح، وكفاه فلم يقنع بالكفاية، وضَمِنَ له في رزقه ما هو في طَلَبِه مُشيحٌ، ويقَّظَه من أجله لما هو عنه لاه وفرغه من العمل لما هو عنه بغيره مشغول؛ فسبحان من وَسِعَ ذلك حلمه وتغمده من عباده عفوة؛ ولو شاء ما فعلوه؛ ولا يُسأل عما يفعل وهم يُسْألُونَ.
فأجابه: إني رأيتُ اللّه تبارك وتعالى جعلَ اليقينَ بأعظم المواضع في أمر الدنيا والدين، فهو غايةُ العالم وبصرِ البصير وفهم السامع، ليس كسائر الأشياء التي تدخلها الشبهاتُ ويَجرحها الإغفال ويشوبها الوَهْنُ؛ وذلك أن اللّه تعالى جعل مَغرِسَه القلبَ؛ وأغصانه العملَ، وثمرته الثوابَ. وإنما جَعَلَ القلبَ لليقين مَغرِساً، لأنه جعل الخمسَ الجوالب لعلم الأشياء كلّها إلى القلب: السمعَ والبصرَ والمجسةَ والمَذَاقَةَ والاسترواحَ. فإذا صارت الأشياء إليه ميز بينها العقل ثم صارت بأجمعها إلى اليقين، فكان هو المثبتَ لها والموجه كلّ واحدٍ منهن جهتَها. ولولا معرفة القلب بالعقل الذي جعله الله لذلك، لم يفرُقْ سمعٌ بين صوتينِ مختلفينِ، ولا بصر بين صورتين متقاربتين، ولا مجسة بين شيئين غير متشابهين. ولليقين بعد ذلك منزلة يُعرَفُ بها الضارّ والنافع في العاقبة عند اللّه تعالى. فلما صار اليقينِ في التشبيه كالشجرة النابتة في القلب أغصانُها العملُ وثمرتها الثوابُ، أخبر ذلك أنه قد تكون الشجرة نابتة الأصل بلا أغصان كما يكون اليقين نابتاً بلا عمل، وأنه كما لا تكون الأغصان نابتة بلا أصل، فكذلك لا يكون العمل نافعاً إلا بيقين؛ وكما أنه لا تُخلِفً الثمرةُ في الطيب والكثرةِ إذا كان الأصل نابتاً والأغصان ملتفَة، فكذلك يكون الثواب لمن صح يقينه وحَسُنَ عمله. وقد تعرِض للأعمال عوارضُ من العِلل: منهنّ الأملُ المثبطُ، والنفسُ الأمارةُ بالسوء، والهوى المزين للباطل، والشيطانُ الجاري من ابن آدم مجرَى الدم، يضررن بالعمل والثواب، ولا يبلغِ ضررُهن اليقين، فيكون ذلك كبعض ما يَعرِضُ للشجرة من عوارض الأفات فَتذْوِي أغصانها وتنثًر ورقَها وتَمنع ثمرتَها والأصل ثابت؛ فإذا تجلّت الآفةُ عادت إلى حال صلاحها. فماذا يُعجبك من عمل امرئ لا يشبه يقينه، وأن يقينَه لا يرتبط رجاءه وخوفه على ربه. فإنما العجب من خلاف ذلك؛ ولَعَمْري لو أشبهَ عملُ امرئ يقينَه فكان في خوفه ورجائه كالمعايِن لِمَا يُعايِنه بقلبه من الوقوف بين يدي الله والنظر إلى ما وعَد وأوعَدَ، لكان ما يعتلج على قلبه من خطرات الخوف شاغلاً له عن الرجاء، حتىِ يأتَي على نفسه أوّلَ لحظة ينظر بها إلى النار خوفاً لها أو إلى الجنة أسفاً عليها إذا حُرِمَها، وإذاَ لكان الموقن بالبعث بقلبه كالمعاين له يوم القيامة وكيف يستطيع من كان كذلك أن يعقلَ فضلاً عن أن يعملَ! وأما قولك: " كيف لم يكن خائف الآخرة لربّه كخائف الدنيا لسلطانه " ، فإن الله عزّ وجل خلق الإنسان ضعيفاً وجعله عجولاً، فهو لضعفه موكًل بخوف الأقرب فالأقرب مما يكره، وهو بعجلته موكل بحبّ الأعجل فالأعجل مما يشتهي؛ وزاده حِرصاً على المخلِص من المكروه وطلباً للمحبوب حاجتُه إلى الاستمتاع بمتاع الدنيا الذي لولا ما طُبعَ عليه القلبُ من حبه وسَهُل على المخلوقين من طلبه، لما انتفع بالدنيا مُنتفع ولا عاض فيها عائشٌ. ومع ذلك إن مكاره الدنيا ومحابها عند ابن آدم على وجهين، أما المكروه فيقول فيه: عسى أن أكون ابتليتُ به لذنبِ سلف منْي، وأما المحبوب فيقول فيه: عسى أن أكون رُزِقتُه بحسنةٍ كانت مني فهو ثواب عُجلَ، وهو مع هذا يعلم أن حلومَ المخلوقين إلى الضيق، وأن قلوبَ أكثر مُسَلطِيهم إلى القسوة، وأن العيبَ عنهم مستور، فليس يلتمس ملتمسهم إلا علمَ الظاهر ولا يضع إلا به، ولا يلتفتُ من امرئ إلى صلاح سريرته عون صلاح علانيته. ومن طباع الإنسان اللؤمُ، فليس يَرضَى إذا خِيفَ إلا بأن يُذِلّ، ولا إذا رُجِيَ إلا بأن يُتعِبَ، ولا إذا غَضِبَ إلا بأن يُخضَعَ له، ولا إذا أمرَ إلا بأن يُنفًذَ أمرُه، ولا ينتفع المتشفعُ بإحسانه عنده إذا أساء ولا المطيعُ بكثرة طاعته في المعصية الواحدة إذا عصى، ولا يرَى الثوابَ لازماً له ولا العقابَ محجوراً عليه، فإن عاقب لم يَستَبْقِ، وإن غَضِبَ لم يتَثبتْ، وإن أساء لم يَعتذِر، وإن أذنبَ إليه مذنب لم يَغفرة واللطيفُ الخبير يعلمُ السريرةَ فيغفِرُ بها العلانيةَ، ويمحو بالحسنة عشراً من السيئات، ويصفحُ بتوبةِ الساعة عن ذنوب مائة عام، إن دُعِيَ أجاب، وإن اسْتُغفِر غَفَر، وإن اطيعَ شكر، وإن عُصِيَ عَفَا، ؤمِن وراءِ عبده بعد هذا كله ثلاث: رحمتُه التى وسعت كلً شيء، وشهادةُ الحق التي لا يزكو إلا بها عمل
وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مثبَتٌ لليقين باسطٌ للأمل مُثبطٌ عن العمل إلا مَنْ شاء الله وقليل ما همْ. فلا تَحمِل نَطَفَ عملك على صحة يقينك فتُوهِنَ إيمانَك، ولا تُرخَصْ لنفسك في مُقارفة الذنوب، فيكون يقينُك خصماً لك وحُجّةً عليك؛ وكَذّب أملَك وجاهِد شهوتَك، فإنهما داءاك المخوفان على دينك المعتونانِ على هَلكتكَ. وأسأل الله الغنيمة لنا ولك.عة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كله مثبَتٌ لليقين باسطٌ للأمل مُثبطٌ عن العمل إلا مَنْ شاء الله وقليل ما همْ. فلا تَحمِل نَطَفَ عملك على صحة يقينك فتُوهِنَ إيمانَك، ولا تُرخَصْ لنفسك في مُقارفة الذنوب، فيكون يقينُك خصماً لك وحُجّةً عليك؛ وكَذّب أملَك وجاهِد شهوتَك، فإنهما داءاك المخوفان على دينك المعتونانِ على هَلكتكَ. وأسأل الله الغنيمة لنا ولك.
موعظة مستعملةوكيع عن مِسْعَر عن زيد العمي عن عون بن عبد الله قال: كان أهل الخير ِيكتب بعضهم إلى بعض بهؤلاء الكلمات: مَن عَمِلَ لآخرته كفاه الله أمر دنياه، ومن أصلحَ ما بينه وبين الله أصلح اللّه ما بينه وبين الناس، ومن أصلح سريرتَه أصلح الله له علانيتَه.
موعظة لعمرو بن عتبةالعتبيّ عن أبيه عن أبي خالد عن أبيه عن عمرو بن عتبة قال: كان أبونا لا يرفعُ المواعظَ عن أسماعنا، فأراد مرة سفراً فقال: يا بَنِي تألَفُوا النعم بحسن مُجاوَرِتها، والتمِسُوا المزيدَ فيها بالشكر عليها، واعلموا أن النفوسَ أقبلُ شيء لما أعطيت وأعْطى شيءٍ لما سئِلَتْ، فاحمِلوها على مطيَّةٍ لا تُبطِئ إذا رُكِبَتْ، ولا تُسَبق وإن تُقُدمت، عليها نجا مَنْ هرب من النار! وأدرك مَنْ سابقَ إلى الجنة؛ فقال الأصاغرُ: يا أبانا ما هذه المطيةً؟ قال: التوبة.
صفات الزهَّاد
لعيسى عليه السلام حدثني عبد الرحمن العبدي عن يحيى بن سعد السعديّ قال: سأل الحواريّون عيسى عليه السلام فقالوا: يا رُوحَ الله مَنْ أولياءُ اللّه. قال: هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا حين نظر الناسُ إلى ظاهرها، وإلى آجل الدنيا حين نظر الناسُ عاجلها، فأماتوا منها ما خَشُوا أن يُميتَهم وتركوا منها ما علموا أن سيتركُهُم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وفرحُهم بما أصابوا منها حزناً، فما عارضهم من نائلها رفضوه وما عارضهم من رفيعها بغير الحق وضَعوه، فهم أعداء ما سالمَ الناسُ وسِلْمُ ما عادَوْا، خَلُقَت الدنيا عندهم فليسَ يعمرونها، وماتت في قُلوبهم فليس يُحبونَها، يهدمُونها ويبنون بها آخرتهم، ويبيعونها ويشترون بها ما يبقى لهم؟ ونظروا إلى أهلها صَرْعَى قد خلت منهم المَثُلاتُ فأحيَوْا ذكر الموت وأماتوا ذكرَ الحياة، بهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، وبهم علِمَ الكتاب وبه عَمِلوا، لا يرون نائلاً ما نالوا، ولا أمناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون.
بين عمر بن عبد العزيز وشاب زاهد في الدنيا وحدثني أيضاً عن أنس بن مصلح عن أبي سعيد المصّيصي: إن قوماً دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرض، فإذا فيهم شاب ذابلٌ ناحلٌ، فقال له عمر: يا فَتَى ما الذي بلغ بك ما أرَى؟ قال: يا أميرَ المؤمنين أمراض وأسقام. فقال عمر: لتَصْدُقَننَّي؛ قال: يا أمير المؤمنين ذقتُ حلاوة الدنيا فوجدتُها مرة فصغُر في عيني زهرتها وحلاوتُها، واستوى عندي حجرُها وذهبُها، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإلى الناس يُساقُون إلى الجنة وإلى النار، فأظمأت لذلك نهاري وأسهرت له ليلي، وقليلٌ حقير كل ما أنا فيه في جنب ثواب الله وجنب عقابه.
للنيي صلى الله عليه وسلم بلغني عن إسحاق بن سليمان عن أخيه عن الفياض عن زبيد اليامي عن معاذ بن جبل: أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: " إنّ الله يحب الأخفياءَ الأتقياءَ الأبرياءَ الذي إذا غابوا لم يُفتَقدوا، وإذا حَضَرُوا لم يُعرفوا، قلوبُهم مصابيحُ الهدى يخرجون من كل غبراء مُظلِمَة " .
لعلي عليه السلام في التعلُم وعن وكيع عن عمرو بن منبه عن أوفَى بن دلهم قال:
قال علي عليه السلام: تعلّموا العلمَ تُعرَفُوا به واعمَلُوا به تكونوا من أهله، فإنه يأتي من بعدكم زمان يُنكِر فيه الحق تِسعةُ أعشِرَائهم لا ينجو فيه إلا كل نُوَمَةٍ، يعني الميتَ الذكر، أولئك أئمة الهدى ومصابيحُ العلم ليسوا بالعُجْل المذايِيع البُذُرِ.
لعلي أيضاً في الدنيا والأخرة وقال علي عليه السلام أيضاً: إن الدنيا قد ارتحلت مُدبِرةً وإنّ الآخرةَ قد ارتحلَتْ مُقْبِلةٍ، ولكل واحدة منهما بَنُون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، ألَا إن الزاهدين في الدنيا اتخذوا الأرض بساطاً والترابَ فِرَاشاً والماء طِيباً. ألَا مَن اشتاق إلى الجنة سَلَا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجَع عن الحُرمات، ومَنْ زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات أي إن لله عباداً كمن رأى أهلَ الجنة في الجنة مخلَّدين وأهلِ النار في النار مُعَذّبين، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وأنفسُهم عفيفة، وحوائجهم خَفِيفة، صبَرُوا أياماً قليلةً لعقبى راحة طويلة؛ إما بالليل فصافّو أقدامِهم، تجري دموعُهم على خدودهم، يجأرًون إلى اللّه: ربنا ربنا يطلبُون فَكَاكَ رِقَابهم؛ وأما بالنهار فحلماءُ عُلمَاءُ برَرةٌ أتقياء كأنهم القِدَاحُ ينظُر إليهمُ الناظر فيقول: مَرْضَى، وما بالقوم من مَرَضٍ، ويقول: خُولِطُوا، ولقد خالط القومَ أمرٌ عظيم.
لعون بن عبدالله بن عتبة حدّثنا إسحاق المعروفُ بابن رَاهَوَيْهِ أن عون بن عبد اللّه بن عتبة كان يقول: يا بُني كن كمن نأى به عمن نأى عنه يقينٌ ونزاهة، ودنُوُّه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس نأيه تكبراً عظمة، ولا دنوه بِخَدْع ولا خِلَابَةٍ، يَقتدي بمن قبله، وهو إمامُ من بعده، لا يعجل فيمن رابه ويعفو إذا تبين له، ينقص في الذي له ويزيد في الذي عليه، لا يعزُبُ حِلمُه ولا يحضُرُ جهله؛ الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون، إن رُجِيَ خاف ما يقولونَ واستغفرَ لما لا يعلمون، إن عصته نفسُه فيما كرِهَتْ لم يُطِعها فيما أحبت، يَصْمُتُ ليسلَمَ ويخلو ليغنَم وينطِقُ ليفْهَمَ وُيخالطُ لِيعلم. ولا تكن يا بُنيّ ممن يُعْجَبُ باليقين من نفسه فيما ذهبَ وينسَى اليقينَ فيما رجا وطلبَ، يقول فيما ذهب: لو قدر شيء كان، ويقول فيما بقي: ابتغ أيها الإنسانُ؛ تغلبه نفسُه على ما يظنّ يغلبُها على ما يستيقِنُ، طال عليه الأملُ ففترَ، وطال عليه الأمدُ فاغترّ؟ واعذِرَ إليه فيما عمر وليس فيما عُمَر بمعذِر، عُفَر فيما يتذكر فيه من تذكّر، فهو من الذنب والنعمة مُوقَر، إن أعطي لم يشكر، وإن مُنِعَ لم يَعذِرْ، يُحب الصالحينَ ولا يعمل عملَهم ويُبغِضُ المسيئين وهو أحدُهم؛ يرجو الأجرَ في البغض على ظنه ولا يخشَى اليقينَ من نفسه، يخشى الخلقَ في ربه ولايخشى الرب في خلقه، يَعوذ بالله ممن هو فوقه، ولا يريد أن يُعيذَ الله منه مَنْ هو تحته، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ويرجو لنفسه بأيسرَ من عمله، يُبصر العورةَ من غيره ويُغفِلُها من نفسه وإن صلى اعترض، وإن ركع رَبض، وإن سجد نَقَر، وإن جَلس شَعَرَ، وإن سألَ ألحفَ، وإن سئل سَوَّفَ، وإن حَدّثَ أخلفَ، وإن وُعِظَ كَلَح، وإن مُدِحَ فَرِحَ، يَحسُدُ أن يُفْضَلَ، ويزهَدُ أن يَفضُل، إن أفِيضَ في الخير بَرِمَ وضَعُفَ واستسلَم وقال: الصمتُ حُكْم، وهذا ما ليس لي به عِلم؛ وإن أفِيضَ في الشرّ قال: يُحسَبُ بي عِيُّ، فتكلّم يجمَع بين الأراوِي والنعام وبين الخال والعمّ ولاءَمَ ما لا يتلاءم؛ يتعلًم للرياء، ويتفقَّه للرياء، ويبادر ما يفنَى، ويُواكِلُ ما يبقى.
للحسن بن علي حدثني محمد بن داود عن أبي شُرَيح الخُوَارَزْمِي قال: سمعت أبا الرّبيع الأعرج عمرو بن سليمان يقول:
قال الحسنُ بن علي: ألا أخبركم عن صديق كان لي من أعظم الناس في عيني، وكان رأسً ما عَظُم به في عيني صِغَرَ الدنيا في عينه. كان خارجاً من سلطانِ بطنه فلا يتَشَهَى ما لا يحلّ ولا يكنِزُ إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يَمُد يداً إلا على ثقةٍ لمنفعة، كان لا يتشَكَى ولا يتبرَّمُ، كان أكثرَ دهرِه صامتاً، فإذا قال بَذَ القائلين، كان ضعيفاً مستضعَفاً فإذا جاء الجِد فهو الليث عادياً، كان إذا جامع العلماء على أن يسمع أحرصَ منه على أن يقولَ، كان إذا غُلِبَ على الكلام لم يُغلَب على السكوت، كان لا يقول ما يفعل ويفعلَ ما لا يقول، كان إذا عَرَض له أمران لا يدري أيّهما أقربُ إلى الحق نَظَر أقرَبهما من هواه فخالفه، كان لا يلومُ أحداً على ما قد يَقَع العذرُ في مثله. زادني غيره: كان لا يقول حتى يرى قاضياً عَدْلاً وشهوداً عدولاً.
من كلام علي بن أبي طالب لكُميل بن زياد وفي كلام علي رضي اللّه عنه لكُمَيْل حين ذكر حُجَجَ اللهّ في الأرض فقال: هَجَم بهم لعلمُ على حقائق الأمور، فباشروا رَوْحَ اليقين، واستلانوا ما استَوْعر المُتْرَفُون، وأنِسوا بما ستَوْحش منه الجاهلون، وصَحِبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلّقة بالمَحَلّ الأعلى؛ هاه سوقاً إلى رؤيتهم.
بين رجل ويونس بن عبيد في الحَسَن بن علي قال رجل ليونس بن عُبَيد: تَعْلم أحداً يعمل بعمل الحسن. قال: والله ما أعرِف أحداً يقول بقوله فكيف يعمل بعمله! قيل: فصِفْه لنا. قال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دَفْن حَمِيه وإذا جلس فكأنه أسيرٌ أمِر بضَرْب عُنُقه، وإذا ذُكِرت النارُ فكأنها لم تُخْلَق إلّا له.
لشقيق بن سلمة عن قرّاء زمانه حدّثنا حسين بن حسن المَرْوَزيّ قال: حدّثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا مَعْمَر الأعمش عن شقيق بن سَلَمة قال: ما مَثَلُ قُرّاء هذا الزمان إلا كمثل غنم ضوائنَ ذاتِ صوف عجافٍ أكلتْ من الحَمْض وشَرِبت من الماء حتى انتفخت خواصرها، فمرّتْ برجل فأعجبته؛ْ فقام إليه فعَبَط منها شاةً فإذا هي لا تُنْقى، ثم عبط أخرى فإذا هي كذلك، فقال: افٍّ لك؛ سائر اليوم.
للحسن حدّثنا حسين قال: حدثنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختار الحسن قال: إذا شئتَ لَقِيتَه أبيضَ بضاً حديد النظر مَيتَ القلب والعمل، أنت أبصرً به نفسه؛ تَرَى أبداناً ولا قلوب، وتسمع الصوتَ ولا أنس، أخصبُ ألسَنةٍ وأجدبُ قلوب.
لسفيان في الزهد حدثني أبو سهل عن علي بن محمد عن وكيع قال: قال سُفْيان: الزهدُ في الدنيا قصرِ الأمل، ليس بأكل الغَلِيظ ولا لُبْس الغَلِيظ.
مثله في الزهد ليوسف بن أسباط قال: وقال يوسف بن أسباط: لو أنّ رجلاً في ترك الدنيا مثلُ أبي ذرّ وأبي الدَرْداء وسَلْمان، ما قلنا له: إنك زاهد، لأن الزهد لا يكون إلا على ترك الحلال المَحْض، والحلال المحض لا نعرِفه اليوم، وإنما اللنيا حلالٌ وحرامٌ وشُبُهات؟ فالحلالُ حسابٌ، والحرام عذاد والشبهات عتاث ث فأنزِل الدنيا منزلةَ المَيْتة خُذْ منها ما يُقِيمك، فإن كان ذلك حلالاً كنت زاهداً فيها، وإن كان حراماً لم تكن أخذتَ منها إلا ما يُقِيمك كما يأخذ المضطر من الميتة، وإن كان عتابٌ كان العتابُ يسيراً.
ولبعضهم في الزهد ومثله قولُ بعضهم: ليس الزهد بترك كلّ الدنيا، ولكن الزهدَ التهاونُ بها وأخذُ البلاغ منها. قال اللّه تعالى: " وَشَرَوْة بِثَمَنٍ بَخْسٍ درَاهِمَ مَعْدُودةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزاهِدِينَ " ، فأخبر أنهم زَهدوا فيه وقد أخذوا له ثمناً.
قال أبو سليمان الدارانيّ: الرضا عن الله والرحمةُ للخَلْق درجةُ المرسَلين، وما تعرف الملائكةُ المقرّبون حدّ الرضا. وقال: أرجو أن أكون قد نِلتُ من الرضا طَرَفاً، لو أنه تبارك وتعالى أدخلني النار كنتُ بذلك راضياً. قال: وليس الحمد له أن تحمدَه بلسانك وقلبُك مُقتصِرٌ على المصيبة، ولكن هو أن تحمده بلسانك وقلبُك مسلّمٌ راضٍ.
بين ابن أي الحواري وأي سليمان الداراني
وقال ابن أبي الحَوَاريّ: قلت لأبي سليمان: بلغني في قول اللّه تعالى: " إلاَ مَنْ أتَى الله بِقَلْب سَلِيمٍ " أنه الذي يلقَى ربَّه وليس فيه أحدٌ غيرُه، فبكى وقال: ما سمعتُ مذ ثلاثين سنة أحسًنَ من هذا. وقال: كل قلب فيه شِرْكٌ فهو ساقط. قال: وما في الأرض أحد أجِدُ له محبةً ولكن رحمة. وقال: ينبغي للخوف أن يكون أغلبَ على الرجاء، فإذا غَلَب الرجاءُ على الخوف فَسَد القلبُ.
للفضيل بن عياض في أصل الزهد وقال الفُضَيْل بن عياض: أصل الزهد الرضا عن الله.
الحسين بن علي عن عبد الملك بن أبجر: أن رجلًا يُكنى أبا سعيد كان يقول: والله ما رأيتُ قُراءَ زمان قط أغلظَ رقاباً ولا أدق ثِياباً ولا آكلَ لمُخ العيش منكم.
لمطرف أبو أسامة عن حمّاد بن زيد عن إسحاق بن سويد قال: قال مطرف: انظروا قوماً إذا ذُكِرُوا بالقراءة فلا تكونوا منهم، وقوماً إذا ذُكِرُوا ذُكروا بالفُجور فلا تكونوا منهم، كونوا بين هؤلاء وبين هؤلاء.
وصية ابن محيريز لرجل أوصى ابن مُحَيْرِيز رجلاً فقال: إن استطعتَ أن تعرِف ولا تُعْرَف وتَسأل ولا تُسْأل وتمشي ولا يُمْشَى إليك، فافعل.
لأيوب قال أيّوب: ما أحبَّ اللهّ عبداً إلا أحب ألاَ يُشْعَر به.
بين أبي عائذ الأزدي وشريح بن عبيد إسحاق بن سليمان عن جرير بن عثمان قال: جاء شُرَيح بن عبيد إلى أبي عائد الأزْدي فقال: يا أبا عبد اللهّ، لو أحييتَ سنةً قد تركها الناس: إرخاءَ طَرَف العِمامة من الجانب الأيسر! قال: يا بن أخي، ما كان أحسنها! تركها الناس فتركناها، ما أحِب أن أعرَفَ في خيرٍ ولا شرّ.
كلام من كلام الزهّاد
بين عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ورجل حدثنا حسين بن حسن المروزيّ قال: حدٌ ثنا عبد اللّه بن المبارك قال: أخبرنا عبدالله بن عبد العزيز قال: قال عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية لرجل: يا فلانُ، هل أنت على حالٍ أنت فيها مستعد للموت؟ قال: لا. قال: فهل أنت مُجمع على التحول إلى حال ترضى بها؟ قال: ما شَخَصتْ نفسي لذلك. قال: فهل بعد الموت دار فيها مُسْتعتَبٌ؟ قال: لا. قال: فهل تأمن الموت أن يأتيَك؟ قال: لا. قال: فهل رضيَ بمثل هذا الحال عاقل! لأبي الدرداء حدثنا حسين قال: حدّثنا عبد اللّه بن مبارك قال: حدثني غير واحد عن مُعاوية بن قُرة قال: قال أبو الدرداء: أضحكني ثلاثٌ وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموتُ يطلبه، وغافلٌ وليس بمغفول عنه، وضاحكٌ ملءَ فيه ولا يدرِي أراض الله عنه أم ساخطٌ عليه. وأبكاني فِراق الأحبة: محمدَ وحِزْبه، وهَوْلُ المُطلَع، والوقوفُ بين يدي الله يوم تبدو السرائر، ثم لاأدري إلى الجنة أو إلى النار.
لعبد اللّه بن ثعلبة الحنفي كان عبد الله بن ثعلبة الحنفيّ يقول: تضحَكُ ولعل أكفانَك قد خرجتْ من القَصار.
للفضيل بن عياض، وللسري قال: وقال الفُضَيل: أصلُ الزهد الرضا عن الله وقال: ألا تراه كيف يَزْوِيها عنه ويُمَرْمِرُها عليه بالعُرْي مرَةً وبالجُوع مرة وبالحاجة مرة، كما تصنع الوالدةُ الشفيقةُ بولدها: تسقيه مرّةً صَبِراً ومرة حُضَضاً، وإنما تريد بذلك ما هو خير له.
وقال السريّ: ليس من أعلام الحبّ أن تحب ما يُبْغضه حبيبُك. أوحى اللّه تعالى إلى بعض الأنبياء: أما زهدُك في الدنيا فتَعجلك الراحةَ لنفسك، وأما انقطاعُك إليّ فتعززك بي، ولكن هل عاديتَ لي عدوّاً أو واليتَ لي وليّاً.
لمالك بن دينار عن حبر من أحبار بني إسرائيل قال مالك بن دينار: بلغنَا أن حِبْراً من أحبار بني إسرائيل كان يغشاه الرجال والنساء، فغَمَز بعضُ بنيه النساء فرآهم فقال: مَهْلاً يا بنيّ مهلاً! قال: فسَقَط عن سريره فانقطع نُخَاعه وأسقطت امرأتُه وقُتِل بنوه في الجيوش. وقيل له: ما يكونُ من جنسك حبر أبداً، ما كان غضبُك لي إلا أن قلتَ يا بنيْ مَهْلاً يا بنيّ مهلاً.
لإبراهيم بن أدهم، ولابن الحارث وغيرهما ضَمْرة بن ربيعة قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: إرضَ بالله صاحباً ودعَ الناس جانباً.
كان بِشْر بن الحارث يقول: أربعة رفعهم الله بغير كبيرِ عملٍ في الظاهر إلا بِطِيب المَطْعم: إبراهيم بن أدهم، وسالمٍ الخواص، ووُهَيْب المكَي، ويوسف بن أسباط.
وحدثني أبو حاتم أو غيره عن العُتْبي قال: سمعت ابن عُيَينة يقول: أربع ليس عليك في واحدةٍ منهنّ حسابٌ : سَدُ الجَوْعة، وبَرْدُ العَطْشة، وستر العورة، والاستكنان؛ ثم تلا: " إنّ لَكَ ألَّا تَجُوعَ فِيِهَا وَلَا تَعْرَى وَأنك لاَ تَظْمَأ فِيهَا وَلَا تَضْحَى " .
بلغني عن يَعْلى عن سُفْيان: قال علي عليه السلام لرجل: كيف أنتم؟ قال: نرجو ونخاف؛ قال: من رجا شيئاً طلبه، ومن خاف من شيء هَرَب منه، ما أعري ما خوفُ رجل عَرَضت له فلم يَدَعْها لما يخاف! وما أعري ما رجاءُ رجل نزل به بلاءٌ فلم يصبر عليه لما يرجو.
بلغني عن عيسى بن يونس عن الأوزاعيّ عن مكحول قال: إن كان الفضلُ في الجماعة فإن السلامةَ في العزلة. وبلغ الفُضَيلَ هذا فقال: سمعتم كلاماً أحسن منه! بين ابن المبارك ومحمد بن النضر الحارثي قال ابن المبارك: رَكِبتُ مع محمد بن النَّضْر الحارثيّ السفينةَ فقلتُ: بأي شيء أستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصوم في السفر؟ فقال: إنما هي المبادَرة، فجاءني والله بفتوى غير فتوى إبراهيم والشَعبي.
لأي حازم الزاهد حدّثني عبد الرحمن بن عبد اللّه عن الأصمعي قال: قيل لأبي حازم: ما مالُك. فقال: الثقة بما في يد الله واليأسُ مما في أيدي الناس.
وقال أبو حازم: إنه ليس شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهلٌ قبلكم، فآثِرْ نفسك أيها المرء بالنصيحة على ولدك، واعلم أنك إنما تُخلف مالك في يد أحد رجلين: عامل فيه بمعصية الله فتشقَى بما جمعتَ له، وعامل فيه بطاعة الله فتسعَدَ بما شَقِيتَ له؛ فارجُ لمن قدمتَ منهم رحمة اللّه، وثقْ لمن خَلفتَ منهم برزق الله.
وقال أبو حازم: إن كنت إنما تريد من الدنيا ما يَكفيك ففي أدناها ما يكفيك، وإن كنت لا ترضَى منها بما يكفيك فليس فيها شيء يُغنيك.
ونظر أبو حازم إلى الفاكهة في السوق فقال: موعدُك الجنة.
ومرّ بالجزارين فقال له رجل منهم: يا أبا حازم، هذا سمينٌ فاشتر منه؛ قال: ليس عندي ثمنه؛ قال: أنا أنظرُك؛ ففكر ساعة ثم قال: أنا أنظرُ نفسي.
قال سُفيان: حَلَف أبو حازم لجلسائه: إني لأرضى أن يتقي أحدُكم على دِينهَ كما يتقي على نَعْله.
للنيي صلى الله عليه وسلم حدثني محمد بن زياد الزيادي قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عبدالله بن سعيد ابن أبي هند عن أبيه عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: " الصحّةُ والفَرَاغُ نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس " .
للحسن حدّثني محمد بن عبيد قال: حدّثنا أبو ربيعة فَهْد بن عَوْن عن حمّاد بن سلَمة عن يعقوب قال: سمعتُ الحسن يقول: ابن آدم، إنما أنت عدَدٌ، فإذا مضى يوم فقد مضى بعضُك.
للنبي صلى الله عليه وسلم وروى عبد الله بن بكر بن حبيب السَّهمي عن الحسن بن ذَكْوان رَفَعَ الحديثَ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " أوصاني ربّي بتسع خِصالٍ وإني مُوصِيكم بها: بالإخلاص في السرّ والعَلَانية، والعَذْل في الرضا والغَضَب، والقَصْد في الفقر والغنَى، وأن أعفوَ عمّن ظَلَمني، وأصِلَ مَنْ قطعني، واعطي مَنْ حَرَمني، وأن يكون صَمْتي تَفَكُّراً، ومَنْطِقي ذِكْراً، ونَظَري عبراً.
لابن عمر مسلم بن إبراهيم عن حمّاد بن سَلَمة عن حُمَيد قال: كان ابن عمر يقول: البِر شيء هَيِّن: وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليّن.
لمالك جعفر بن سليمان قال: سمعت مالكاً يقول: اتّقُوا السّحّارة، فإنها تسحَرُ قلوبَ العلماء.
قال: وسمعته يقول: وَعِدتُ أنّ رزقي في حَصَاة أمصّها حتى أموت، ولقد اختلفتُ إلى الخَلاَء حتى استحيَيْتُ من ربي.
لأسد بن موسى في الجوع بِشْر بن مُصلِح عن أبي سعيد المصيصي عن أسد بن موسى قال: في الجوعُ ثلاثَ خلال: حياةُ القلب، ومَذلَة النفس، وُيورث العقلَ الدقيق السماوي.
في سلوك الحسن إذا عاد مريضاً أو شيع جنازة سالم بن سالم البَلخيّ عن السريّ بن يحيى قال: كان الحسن إذا عاد مريضاً لم ننتفع به يوماً وليلة، وإذا شيع جنازةً لم ينتفع به أهلُه ووَلده وإخوانُه ثلاثاً.
بين إبراهيم بن أدهم ورجل
خَلَف بن تميم قال: قال رجل لإبراهيم بن أدهم: يا أبا إسحاق، احبّ أن تقبَلَ مني هذه الجُبّة كُسوةً. قال إبراهيم: إن كنتَ غنيّاً قَبِلتُها منك، وإن كنتَ فقيراً لم أقبَلْها. قابل: فإني غني؛ قال: كم عندك؟ قال: ألفان. قال: فيَسُرُّك أن تكون أربعة آلاف؟ قال: نعم، قال: أنت فقير؛ لا أقبَلها.
للفُضَيْل في مرضه قال عًبَيد اللّه بن عمر: دخلت أنا ويحيى بن سليمان على الفُضَيل نعودُه؛ فقال: زَوجك وخوّلك وصَرَف وجوهَ الناس إليك وأنت تشغلك عنه مَنْ أنت وما أنت! ثم شَهَق شَهقةً، وأضجعه رجل كان عنده وغَطّى عليه ثوباً وهو لا يعقل، ونزلنا.
لأبي حازم بكار بن عبد الله بن إبراهيم بن عبدالله بن مسلم قال: قال أبو حازم: السّرُ أملكُ بالعَلَانِيَة من العَلاَنية بالسر، والفعلُ أملكُ بالقول من القول بالفعل، فإذا كنتَ في زمانٍ يُرْضَى فيه من الفعل بالقول ومن العمل بالعلم، فأنت في شرَ زمان وشرّ أناس.
بين ابن أبي الحواري وأبي سليمان الداراني ابن أبي الحواري قال: ذكرتُ لأبي سليمان امرأتي والشغلَ بها، فقال: إنْ علم الله قلبك أنك تُريد الفراغَ له فرّغك، وإن كنت إنما تريد الراحة منها لتستبدل بها، فهذه حماقة قال: ورأيته حين أراد الإحرام فلم يلبث حتى سِرْنا ملياً وأخفه كالغَشْي وجعل رأسَهُ عند ركبتيه فجعل مَحْمِله يِخِفّ ومَحْمِلي يثقُلُ حتى سرنا هَوِيَاً، ثم أفاق فقال: يا أحمد، بَلَغني أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى موسى عليه السلام " يا موسى مًرْ ظَلَمةَ بني إسرائيل أن يُقلوا من ذكري، أذكُر مَنْ ذَكَرني منهم بلعنة حتى يسكت " . ويحك يا أحمد بلغني أنه من حج من غير حله ثم لبى، قال له تبارك وتعالى: " لا لبيكَ ولا سَعْدَيْكَ حتى تردّ ما في يديك؛ فما يؤمِّننا أن يقال لنا ذلك.
قال: وقال أبوِ سليمان: يجيببك وأنت في شيء من الخير فيُشير لك إلى شيء من الخير دونه ليَرْبح عليك شَعِيرةَ؛ يعني إبليسَ " .
للمسيح عليه السلام قال المسيح لأصحابه: بحق أقول لكم، إن مَنْ طلب الفردوسَ فخبزُ الشعير له والنوم في المزابل مع الكلاب كثير.
لمكحول مسلم بن إبراهيم عن عمرو بن حمزة عن داود بن أبي هند عن مكحول قال: كنا أجنّةً في بطون أمهاتنا فسَقَط من سَقَط وكنا فيمن بَقِي، ثم كنا مَرَاضع فَهَلك منا من هلك وبَقِي من بقي، وكنا أيفاعاً، وذكر مثل ذلك، ثم صِرنا شبّاناً، وذكر مثل ذلك، ثم صرنا شيوخاً لا أبا لك فما ننتظر وما نريد! وهل بَقِيت حالةٌ ننتقل إليها.
قال: وقال مكحول: الجنين في بطن أمّه لا يطلُب ولا يحزَن ولا يغتم، فيأتيه الله برزقه من قِبَل سُرّته، وغذاؤه في بطن أمه من دم حيضها، فمن ثَم لا تَحيض الحامل، فإذا سقط استهَل استهلالة إنكاراً لمكانه، وقُطِعت سُرّته وحوؤل الله رزقه إلى ثدي أمه ثم حوله إلى الشيء يُصْنع له ويَتناوله بكفّه، حتى إذا اشتدّ وعقل قال: أين لي بالرزق! يا ويحك! أنت في بطن أمك وفي حِجْرها تُرْزَق حتى إذا عَقَلتَ وشَبَبت قلتَ: هو الموت أو القتل وأين لي بالرزق! ثم قرأ " يَعْلَمُ ما تَحْمِل كُلُّ أنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَام وَمَا تَزْدَادُ " .
لمحمد بن النضر الحارثي عبد الملك بن عبد العزيز قال: كان محمد بن النضْر الحارثيّ إذا لم يكن في صلاة استقبل القِبْلَة، فقَعَدنا إليه بعد العصر فقال: بلغني أنه مَنْ قال: لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير، ألفَ مرةٍ في دُبُر صلاة العصر، رُفِع له عملُ نَبيٍ؛ ثم قال: قد أكثرت الكلام.
لداود، ومثله بين هشام بن عبد الملك وسالم وقال سعيد بن عمر الكِنْدي دخل رجلٌ على دَاود وهو يأكل خبزاً يابساً قد بلّه في الماء بمِلْح جَرِيش، فقال له: كيف تشتهي هذا! قال: أدعُه حتى أشتهيه.
ونحو هذا قول هشام بن عبد الملك لسالم: ما أدمك؟ْ، قال: الزيت ة قال: أما تَأجِمه.
قال: إذا أجَمتُه تركته حتى أشتهيه.
قال: وكان ماء داود في دَنَ مُقير في الصيف والشتاء، فقال له بعض أصحابه: لو بردتَ الماء فقال داود: إذا أصبْتَ في مثل هذا اليوم ماءً بارداً فمتى تُحِبّ الموت! لمحمد بن واسع سعيد بن عمرو عن رجل قال: قال محمد بن واسع: لو كان للذنوب رِيحٌ ما جلس إلي منكم اثنان.
وقال محمد بن واسع: لا يطيبُ المَالُ إلا من أربع: سهم في فَيْء المسلمين، أو عطيّة عن ظَهْر يدٍ، أو إرثٍ بكتاب الله، أو تجارة من حلال؛ ولا يًقْتل مسلم إلا بهذه الخِصَال: كفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان، أو قَتَل فيُقْتل، أو حارب الله ورسولَه وقَطَع الطريقَ.
لثابت البُناني قال سليمان بن المُغِيرة سمعت ثابتَاَ يقول: واللّه لَحْملُ الكَارَات أهونً من العبادة. قال: ولا يُسَمَى الرجلُ عابداً وإن كانت فيه خَصْلة من كلّ خيرٍ حتى يكون فيه الصومُ والصلاةُ، فإنهما من لحمه ودمه.
عيسى بن عقبة أبو نعيم عن الأعمش عن يزيد بن حَيان قال: كان عيسى بن عُقْبة يسجد حتى إن العصافير ليَقَعن على ظَهْره وينزِلْن، ما يَحْسَبْنَه إلّا جِرْمَ حائط.
للفضيل وقد شكا إليه أهل مكة القحط حدثني محمد بن داود عن عبد الصمد بن يزيد قال: شكا أهل مكة إلى الفُضَيل القَحْطَ؛ فقال: أمدبراً غير الله تريدون! قال: وسمعته يقول: استخيروا الله و لا تَخَيروا عليه، فكم من عبد تخير لنفسه أمراً كان هلاكه فيه! اما رأيتموه سأل ربّه طَرَسُوسَ فأعطِيَها فا " سِرَ فصار نَصْرانياً.
لوكيع في أبي يونس وحدّثني أيضاً عن سعيد بن نصير قال: قال وكيع: أبو يونس، ومن أبو يونس! بَكَى حتى عَمِي، وطاف حتى أقْعِد، وصلى حتى حَدِب.
لبهز بن حكيم في وفاة زُرارة حدثني محمد بن عبيد قال: محمد بن عبد اللّه الأنصاريّ عن بَهزْ بن حكيم قال: صلى بنا زُرَارةُ بن أوفى الغَداةَ، فقرأ الإمامُ " فَإذَا نُقِرَ في النًاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئذٍ يَوْمٌ عَسِير عَلَى الكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ " ، فخر مَغْشِيّاً عليه، فحملناه ميَتّاً.
لعمر بن عبد العزيز في الصلاة والصوم والصدقة ابن أبي الحَوَاري قال: سمعتُ عمر بن عبد العزيز قول: الصلاةُ تبلَغك نصفَ الطريق، والصومُ يبلّغك بابَ الملك، والصَّدَقةُ تُدْخِلك عليه.
لأبي حنيفة عن أيوب ذكر أبو حنيفة رحمه الله أيوبَ فقال: رحمه الله - ثلاثاً - لقد قَدِم المدينةَ مرة وأنا بها، فقلت: لأقعُدنّ له، لعلي أتعلق عليه بسَقْطة، فقام من القبر مَقاماً ما ذكرتُه قط إلا اقشعرّ جِلْدي.
بين الحجاج وأعرابي روى ابن عيّاش عن سعيد بن أبي عَرُوبَةَ قال: حجّ الحجاج فنزل بعضَ المِياه ودعاء بالغَدَاء، فقال لحاجبه: انظر من يَتَغدى معي وأسألُه عن بعض الأمر؛ فنظر الحاجبُ فإذا هو بأعرابيٍّ بين شَمْلتين من شَعَرٍ نائم، فضربه برجليه وقال: ائت الأميرَ فأتاه؛ فقال له الحجاج: اغسِلْ يدك وتَغَذَ معي. قال: إنه دعاني مَنْ هو خيرٌ منك فأجبته؛ فقال له الحجاج: من الذي دعاك؟. قال: اللهّ تعالى دعاني إلى الصوم فصُمت. قال: في هذا اليوم الحارّ! قال: نعم صُمتُ ليوم أحرَّ منه؛ قال: فأفطِر وتصوم غداً؛ قال: إن ضمنتَ لي البقاءَ إلى غد؛ قال: ليس ذاك إلي؛ قال:ً فكيف تسألني عاجلاً بآجل لا تقدر عليه! قال: إنه طعامٌ طيب؛ قال: إنك لم تُطَيبه ولا الخبًاز، ولكن طيّبته العافية.
لأعرابي أعتق جارية لوجه الله تعالى ونحو هذا حدّث الأصمعي عن شَبيب بن شيبة قال: كنا في طريق مكة فجاء أعرابيٌّ في يوم صائفٍ شديدِ الحرّ ومعه جاريةٌ سوداء وصحيفة، فقال: أفيكم كاتب؟ قلنا: نعم؛ وحضر غداؤنا فقلنا: لو دخلتَ وأصبتَ من الطعام! قال: إني صائم؛ قلنا: في الحر وشدته وجَفَاء البادية! فقال: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحِبّ أن أغْبَنَ أيامي. ثم نبذ إلينا الصحيفة، وقال: أكتب ولا تزيدن على ما أقول حرفاً: هذا ما أعتق عبدُ اللّه بن عقيل الكلابي، أعتق جاريةً له سوداءَ يقال لها لؤلؤة، ابتغاءَ وجه الله تعالى وجوازِ العَقَبة، وإنه لا سبيلَ له عليها إلا سبيلَ الوَلَاء، المِنةُ لله عليها وعليه واحدة.
قال الأصمعي: فحدثت بها الرشيدَ، فأمر أن يُعتَقَ عنه ألفُ نَسَمةٍ أو مائةُ نسمة، ويُكتَبَ لهم هذا الكتاب.
لخالد بن صفوان قال خالد بن صَفْوان: بِتُ أتَمَنّى ليلتي كلها، فكَبَستُ البحر الأخضرَ بالذهب الأحمر، فإذا الذي يَكفيني من ذاك رغيفان وكُوزان وطِمْران! بين رجل وآخر من ولد معاوية رأى رجل رجلاً من وَلَد مُعاوية يعمَل على بعيرٍ له، فقال: هذا بعد ما كنتم فيه من الدنيا فقال: رحمك الله، ما فَقَدْنا إلا الفضولَ.
لبعض العباد في علامة التوبة سمعتُ بعضَ العباد يقول: علامةُ التَوبة الخروجُ من الجهل، والندَمُ على الذنب، والتَجافي عن الشهوة، واعتقادُ مَقْتِ نفسك المسؤَلة، وإخراجُ المَظلمة، وإصلاحُ الكَسْرة، وتركُ الكذب وقطعُ الغِيبة، والانتهاءُ عن خِدْن السوْء.
بين زاهدين لَقِي زاهد زاهداً فقال له: يا أخي، إني لأحبّك في اللّه؛ قال الآخر: لو علمتَ مني ما أعلم من نفسي لأبغضتَني في الله. قال له الأول: لو علمتُ منك ما تعلم من نفسك، لكان لي فيما أعلم من نفسي شُغْل عن بُغْضك.
للثوري كان الثًوريّ مستخفيّاً بالبَصْرة، فورد عليه كتاب من أهله، وفيه: " قد بَلَغ بنا الجَهْد إلى أن نأخُذَ النَّوَى فنرُضَّه ثم نخلِطَه مع التبن فنأكلَه!. فحرّك ذلك من قلبه، ورَمَى بالكتاب إلى أخ له؛ فقرأه فدمَعتْ عينُه، ثم قال: يا أبا عبد الله.، لو أنك حدّثتَ الناس اتسَعت واتسع هؤلاء؛ فأطرق مَلياً ثم رفع رأسَه وقال: اسمعْ حديثاً أحدثكَ به ثم لا أكلَمك بعده سنة: رُئيَ نُورٌ في الجنة تَجدد فقيل: ما هذا النور. فقيل: حَوْراءُ ضَحِكتْ في وجه زوجها فبعدَتْ ثناياها، فَتَرى لي أن أغرر بتلك وأصيرَ إلى ما تقول.
بين قوم مسافرين وراهب أراد قوم سفراً فحادوا عن الطريق وانتَهْوا إلى راهبٍ منفردٍ في ناحية، فنادوْه فأشرف عليهم، فقالوا: إنا قد ضَلَلْنا فكيف الطريقُ؟ قال لهم: هاهنا. وأومأ إلى السماء، فعلِموا الذي أراد، قالوا: إنا سائلوك، أفتُجِيبنا أنت. قال: سَلوا ولا تُكثروا، فإنّ النهار لن يرجِع والعمرَ لن يعود والطالبَ حثيثٌ في طلبه ذو اجتهاد؛ قالوا: ما الخلقُ عليه غداً عند مليكهم. فقال: على نِيّاتهم. فقالوا: فإلامَ الموئلُ؟ قال: إلى المُقَدَم، قالوا: أوصِنا. قال: تَزَودوا على قدر سفركم، فإنّ خيرَ الزاد ما بَلَّغَ المَحل. ثم أرشدهم إلى المَحَجًة وانقمع.
بين راهب ورجل طلب منه أن يعظه وقال آخر: قلت لراهب: عِظْني عِظَةً نافعة؛ فقال: جميعُ المواعظ منتظمةٌ في حرف واحدة قلت: ما هو. قال: تُجمِعُ على طاعته، فإذا أنت قد حَويتَ المواعظ والأذكار.
لأعرابي معه ماضية الأصمعيّ: قيل لأعرابيٍّ معه ماشية: لمن هذه الماشية؟ قال: لله عندي.
لابن السماك كان ابن السماك يقول في كلامه: لقد أمهلكم حتى كأنه أهملكم، أمّا تستحيُون من اللّه من طوال ما لا تستحيُون! لبكر بن عبد اللّه قال بكر بن عبد الله: اجتهدوا في العَمَل، فإنْ قَصَر بكم ضعفٌ فكُفُوا عن المعاصي.
لمالك بن دينار كان مالك بن دينار يقول في قَصَصه: ما أشَدً فِطَام الكبير وُينشد:
وتَرُوضُ عِرْسَك بعد ما هَرِمَتْ ... ومن العَناءِ رياضةُ الهَرِم
شعر لأعرابي تاب عن سرقة الإبل كان أعرابي يسرِق الإبلَ يُسَمَى يزيدَ، ثم تاب وقال:
ألَا قُلْ لرُعْيان المَخَائِض أهملُوا ... فقد تاب مما تعلمون يزيد
وإنً امرأً ينجو من النار بعد ما ... تَزَود من أعمالها لسعيدُ
شعر لنصيح الأسدي وقال نصيح الأسديّ:
كفى نَطَفاً بالمرء يا أم صالح ... ركوبُ المعاصي عامداً واحتقارها
ولخالد بن معدان كان خالد بن معدان يقول:
إذا أنتَ لم تزرَعْ وأبصرتَ حاصداً ... ندمتَ على التفريطِ في زمن
لمنصور بن عمار قال منصور بن عَمّار: ما أرى إساءةً تبهبُرُ عن عفو الله فلا تأيَس، وربما أخذ اللّه على الصغير فلا تأمن.
للنبي صلى الله عليه وسلم ورَوى وَكيع عن إبراهيم بن إسماعيل عن عُتَيبة بن سِمْعان عن مُسَيْكَة عن عائشة رضي الله عنها أنها أتتْ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم بصَحْفة فيها خبزُ شعيرٍ وقطعةٌ من الكَرِش، فقالت: يا رسول الله، ذَبَحنا اليوم شاةً فما أمسكنا منها إلا هذا؛ قال: " بل كلها أمسكتم إلا هذا " . استقبل عامرَ بن عبد قيس رجل في يوم حَلْبة، فقال: من سَبَق يا شيخ. فقال: المقربون.
وأتي به عثمان وأقعِد في دهليزه، فلما خرج رأى شيخاً يطا في عباءة، فأنكر مكانه، فقال أعرابي: أين ربُّك؟ قال: بالمِرْصاد.
بين سليمان بن عبد الملك وأبي حازم
قال سليمان بن عبد الملك لأبي خازم: ما بالُنا نَكرَه الموت؟ قال: لأنكم عَمّرتم الدنيا وأخربتم الآخرة، فأنتم تكرهون أن تنتقلوا من العُمْران إلى الخراب.
للحسن قال الحسن: نِعَمُ الله أكثرُ من أن تُشْكَر إلا ما أعانَ عليه، وذنوبُ ابن آدم أكثرُ من أن يسلم منها إلا ما عفا الله عنه.
وقال الحسن: تنفق دِينَك في شَهْوتك سَرَفاً، وتمنَعُ في حق الله درهما، ستعلَم بالُكَعُ.
للمسيح عليه السلام خرج المسيح من بيت مُومسةٍ، فقيل له: يا رُوح الله، ما تصنَع عند هذه. فقال: إنما يأتي الطبيبُ إلى المَرْضى.
ومر بقوم شَتَموه فقال خيراً، ومر بآخرين شتمون فقال خيراً؛ة فقال رجل من الحوارِيين: كلما زادوك شراً زِدت خيراً، كأنك تُغْريهم بنفسك! فقال: كل إنسان يُعطِي مما عنده.
بين أبي حازم وسليمان بن عبد الملك أخبر أبو حازم سليمانَ بن عبد الملك بوعيد الله للمذنبين؛ فقال سليمانُ: فأين رحمةُ اللّه؟ قال: قريبٌ من المحسنين.
بين محمد بن كعب وعمر بن عبد العزيز قال عمرُ بن عبد العزيز لمحمد بن كعب: عِظْني؛ فقال: لا أرضَى نفسي لك، إني لأصلي بين الغني والفقير، فأمِيل على الفقير واوسَع للغني.
نظرت امرأة إلى أخرى وحولَها عشرة من وَلَدها كأنهم الصقور، فقالت: لقد وَلَدَتْ أمّكم حزناً طويلاً.
بين فتى يحتضر ووالديه احتُضِر فتًى كان فيه زهوٌ، فَرفَع رأسَه فإذا أبواه يَبكيان، فقال لهما: ما يُبكيكما؟ قالا: الخوفُ عليك لإسرافك على نفسك؛ فقال: لا تَبْكيا، فواللّه ما يَسُرُّني أن الذي بيد الله من الرحمة بأيديكما.
لعلي بن أبي طالب قال علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهَه: يا بن آدم لا تحمِلْ همً يومك الذي لم يأتِ على يومك الذي أنت فيه، فإنْ يكُ من أجلك يأتِ فيه رزقُك، واعلم أنك لا تكسِبُ من المال شيئاً فوق قُوتك إلا كنت فيه خازناً لغيرك.
شعر للنابغة قال النابغةُ في نحوه:
ولست بحابس لغدٍ طعاماً ... جذار غدٍ لكل غدٍ طعام
بين حذيفة وسلمان تذاكر حُذَيْفة وسَلْمان أمرَ الدنيا، فقال سَلْمان: ومن أعجب ما تذاكَرْنا صعودُ غُنَيماتْ الغامدي سريرَ كِسْرَى، وكان أعرابي من غامدٍ يَرْعَى شُويهاتٍ له، فإذا كان الليلُ صَيرها إلى عرصة إيوان كسرى، وفي العرصه سريرُ رُخامٍ كان يجلِس عليه كسرى، فتَصْعَد غُنَيمات الغامدي ذلك السرير.
بين أبي حازم والشيطان دخل أبو حازم المسجدَ فوَسْوَس إليه الشيطانُ: إنك قد أحدثتَ بعد وُضُوئك. فقال: وقد بَلَغ هذا من نصحك.
للزبير قال الزبير: يكفينا من خضمكم القضم، ومن نَضَكم العَنَقُ.
بين أم الدرداء ورجل قال رجل لأم الدرداء: إني لأجد في قلبي داء لا أجد له دواء، أجد قَسْوةً شديدة وأملاً بعيداً، قالت: إِطًلع في القبور واشهَدِ الموتى.
للربيع بين خيثم قيل للربيع بن خَيْثَم: لو أرحتَ نفسكَ! قال: راحتَها أريد.
لبعض الصالحين قال رجل من الصالحين: لو أنزل الله كتاباً أنه معذَب رجلاً واحداً لخِفتُ أن أكونَه، أو أنه راحم واحداً لرجوتُ أن أكونه، أو أنه مُعَذَبي لا محالةَ ما ازددتُ إلا اجتهاداً لئلا أرجِعَ على نفسي بلائمة.
لعوف بن أى جميله أثنى قومٌ على عوف بن أبي جِميلة، فقال لهم: دَعُونا من الثناء، وأمِدُونا بالدعاء.
لبعض العباد في صفة شر الناس قيل لبعض العُباد: ضنْ شَر الناس، قال: من لا يُبالي أن يراه الناسُ مسيئاً.
للمِسور بن مخرمة قال المِسور بن مَخْرَمة: لقد وارت الأرضُ أقواماً لو رأوني معكم لاستحييتُ منهم.
لعلي بن أبي طالب قال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: عجبتُ لمن يَهْلِك والنجاة معه. قيل: وما هي. قال: الاستغفار.
بين سفيان الثوري وفتى يجالسه كان فتًى يُجالس سُفْيان الثوريَ ولا يتكلمّ، وكان سفيان يحب أن يتكلم ليسمع كلامه، فمرّ به يوماً فقال: له: يا فتى، إن مَنْ كان قبلَنا مروا على خيل وبَقِينا على حمير دَبِرة. فقال الفتى: يا أبا عبد الله، إنْ كنّا على الطريق فما أسرعَ لحُوقَنا بالقوم! للحسن قال الحسن: إن خَفَق النعالُ خلف الرجال قلّ ما تَلْبَث الحمْقى.
وذُكِر عنده الذين يلبَسون الصوفَ، فقال: ما لهم تفاقدوا! - ثلاثاً - أكَنُوا الكِبْرَ في قلوبهم وأظهروا التواضُعَ في لباسهم، والله لأحدُهم أشدُّ عُجْباً بِكسائه من صاحب المِطرفَ بمطرفه. ودخل عليه رجلٌ فوجد عنده ريح قدْرٍ طَيبة، فقال: يا أبا سعيد، إنّ قدْرَك لطيبة؛ قال: نعم لا رغيفي مالك وصحناه فرقد.
بين أيوب وأبي قلابة وقد هرب من تولي القضاء طُلِب أبو قِلَابة للقضاء فلَحِق بالشام هَرَباً، فأقام حيناً ثم قَدِم البَصْرة؛ قال أيوب: فقلت له: لو أنك وَليتَ القضاءَ وعَدَلتَ بين الناس رَجَوتُ لك في ذلك أجراً؛ قال لي: يا أيوب، إذا وَقَع السابح في البحر فكم عسى أن يَسْبَح! بين أبي حازم وامرأة قالت امرأة أبي حازم يوماً له: يا أبا حازم، هذا الشتاء قد هَجَم ولا بدّ لنا مما يُصلحنا فيه. فذكرتِ الثيابَ والطعامَ والحَطَب؛ فقال: من هذا كله بُدٌ، ولكن خُذي ما لا بدّ منه: الموتَ ثم البعثَ ثم الوقوفَ بين يَدَي الله تعالى ثم الجنةَ أو النارَ.
شعر لأبي العتاهية قال أبو العَتَاهِية:
أطع اللّه بجُهْدِكْ ... عامداً أو دون جهدكْ
أعطِ مولاك كما تط ... لب من طاعة عبدِكْ
وقال أيضاً:
أرى اناساً بأدنى الذَين قد قَنِعوا ... ولا أراهم رَضُوا في العيش بالدون
فاستغْنِ بالدِّين عن دُنيا الملوكِ كما اس ... تغنى الملوكً بدنياهم عن الدين
شعر لمحمد بن حازم وقال محمد بن حازم:
ما الفقرُ عارٌ ولا الغِنَى شرفُ ... ولا سَخَاء في طاعةٍ سَرَفُ
ما لَكَ إلا شيءٌ تُقَدَمُه ... وكل شيء أخّرتَه تَلَفُ
تَرْكُكَ مالاً لوارثٍ يته ... ناه وتَصْلَى بحرّه أسَفُ
لأبي العتاهية وقال أبو العَتَاهِيَة:
ألا إنما التَقْوى هي العِزُ والكَرَمْ ... وحبُّكَ للدنيا هو الذُّلُّ والندم
وليس على عبِدِ تقي نقيصة ... إذا صحَحَ التقوى وإن حَاكَ أو حجم
لعلي بن الحسين قال عليّ بن الحسين: الرضا بمكروه القضاء أرفعُ درجات اليقين.
لابن سيرين قيل لابن سيرين: ما أشَدَ الورَعَ! قال: ما أيسَرَه! إذا شككتَ في شيء فدَعه بين حذيفة ورجل يخشى أن يكون منافقاً قال رجل لحُذيْفة: أخشى أن أكونَ منافقاً. فقال: لو كنتَ مُنافقاً لم تخشَ.
شعر لمحمود الوراق وقال محمود الوراق:
يا ناظراً يرنُو بعينَيْ راقدٍ ... ومُشاهِداً للأمر غيرَ مشاهدِ
تصل الذنوبَ إلى الذنوبِ وترتجي ... دَرَكَ الجِنَانِ بها وفوزَ العابِد
ونسيت أن الله أخرج آدماً ... منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ
لوضْاح اليمن وقال وَضَاخ اليمن:
مَا لكَ وَضاحُ دائمَ الغَزَل ... ألستَ تخشَى تقارُبَ الأجل
يا موتُ ما إن تزالُ معترضاً ... لآمل دون منتهى الأمل
تنال كَفّاك كل مُسْهِلة ... وحُوت بحرٍ ومَعْقِلَ الوَعِل
صل لذي العرِش واتّخِذْ قَدَماً ... تُنجْيك بعد العشثَار والزلَل
ليوسف عليه السلام قيل ليوسف عليه السلام: ما لك تجوع وأنت على خزائن الأرض. قال: أخاف أن أشبَع فأنسَى الجائعَ.
شعر لأمية بن أبي الصلت وقال أمية بن أبي الصَلْت:
هما طريقان فائز دخلَ ال ... جنّة حفْتْ به حدائقُها
وفِرقة في الجحيم مَعْ فرَقٍ الشي ... طان يَشقَى بها مُرَافقُها
تعرِف هذا القلوب حقا إذا ... همت بخير فما عوائقُها
وصدّها للشقاء عن طلب ال ... جنة دنيا والله ماحِقُها
عبدٌ دعا نفسَهُ فعاتبها ... يعلم أن البصيرَ رامقُها
اقترب الوعد والقلوبُ إلى الل ... هو وحب الحياة سائقُها
ما رغبةُ النفس في البقاء وأن ... تحيا قليلاً والموتُ لاحقُها
أمَامها قائدٌ إليه ويح ... دوها حثيثاً إليه سائقها
قد أيقنت أنها تصير كما ... كان يراها بالأمِس خالقها
وأن ما جَمًعتْ وأعجبها ... من عيشةٍ مُرةٍ مُفارقها
مَنح لم يمُتْ عَبْطةً يمت هَرَماً ... للموتِ كأس والمرءُ ذائقها
لبعض الزهاد قال بعض الزهاد: إن صفاء الزهد في الدنيا وكمالَه ألا تأخذ من الدنيا شيئاً ولا تتركه إلا الله، فإذا كنت كذلك كان أخْذُكَ تركاً ومعاملتُك لله فيها رِبحاً، وإن صفاء الرغبة في الدنيا وكمالَها تأخذ منها شيئاً ولا تتركه إلا لها، فإذا كنت كذلك كان تركُكَ أخذاً وفوتُ ما فات عليك منها حي لرجل حبسه بعض الملوك ثم غفل عنه حَبَس بعضُ الملوك رجلاً ثم غَفَل عنه إلى أن مَضَى عليه زمان؛ فقال للموكَل به: قل له: إن كل يوم يمضِي من نعيمك يمضي من بؤسي، والأمرُ قريبٌ، والحَكَمُ الله عز وجل. والسلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الإخوان
الحث على اتخاذ الإخوان واختيارهم
لبعض الأدباء ينصح ابنه ويحثه على اتخاذ الأصدقاء حدثنا سهل بن محمد قال: حدثنا الأصمعي قال: أخبرنا العجليّ قال بعض الأدباء لابنه: يا بنيّ، إذا دخلت المصر فاستكثر من الصديق فأما العدو فلا يهمنّك؛ وإياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار.نصيحة النبي داود لابنه سليمان عليهما السلام قال: وبلغني عن الأوزاعي عن يحيى بن كثير: أن داود النبي عليه السلام قال لابنه سليمان عليه السلام: " يا بنيّ، لا تستبدلنّ بأخٍ لك قديم أخاً مستفاداً ما استقام لك، ولا تستقلّنّ أن يكون لك عدوٌ واحدٌ، ولا تستكثرنّ أن يكون لك ألف صديق " لبعضهم في طلب الإخوان وعدم التفريط بهم وكان يقال: أعجز الناس من فرّط في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.
في الأثر وفي الحديث المرفوع: " المرء كثيرٌ بأخيه " شعر لابن الأعرابي وأنشد ابن الأعرابيّ:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرةٍ ... ولكنّ إخوان الثقات الذخائر
لأبي الجراح العقيلي في الاستكثار من الإخوان قال أبو الجرّاح العقيلي: وجدت أعراض الدّنيا وذخائرها بعرض المتالف إلا ذخيرة الأدب وعقيلة الخلّة، فاستكثروا من الإخوان واستعصموا بعرا الأدب وكان يقال: الرجل بلا إخوان كاليمين بلا شمال شعر لبعضهم قال الشاعر:
إذا لم يكن للقوم عزّ ولم يكن ... لهم رجلٌ عند الإمام مكين
فكانوا كأيدٍ أوهن اللّه بطشها ... ترى أشملاً ليست لهنّ يمين
لأيوب السختياني قال أيوب السّختياني: إذا بلغني موت أخٍ فكأنما سقط عضوٌ مني.
شعر للقطامي، ولغيره وقال القطامي:
وإذا يصيبك والحوادث جمةٌ حدثٌ حداك إلى أخيك الأوثق
وقال آخر::
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإنّ ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... مهل ينهض البازي بغير جناح
وقال الثّقفيّ:
من كان ذا عضدٍ يدرك ظلامته ... إنّ الذليل الذي ليست له عضد
تنبو يداه إذا ما قلّ ناصره ... ويأنف الضّيم إن أثري له عدد
وقال آخر:
وبغضاء التقّي أقلّ ضيراً ... وأسلم من مودّة ذي الفسوق
ولن تنفكّ تحسد أو تعادى ... فأكثر ما استطعت من الصّديق
كتاب الفضل بن سيار إلى الفضل بن سهل شعراً وكتب الفضل بن سيّار إلى الفضل بن سهل:
يا أبا العباس إنّي ناصحٌ ... لك والنصح لذي الودّ كبير
لا تعدنّ ليوم صالح ... إنّ إخوانك في الخير كثير
وليكن للشرّ ما أعددتهم ... إنّ يوم الشرّ صعبٌ قمطرير
هذه السّوق التي آملها ... يا أبا العباس والعمر قصير
للمأمون في طبقات الإخوان قال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقةٌ كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقةٌ كالدواء لا يحتاج إليه إلا أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليه أبداً للحسن بن علي في الاختلاف إلى المسجد
قال: حدثني سعيد بن سليمان قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا عن سعيد بن طريف عن عمير بن المأمون قال: سمعت الحسن بن عليّ يقول: من أدام الاختلاف إلى المسجد أصاب ثماني خصال: آيةً محكمةً، وأخاً مستفاداً، وعلماً مستطرفاً، ورحمةً منتظرةً، وكلمةً تدلّه على هدىً أو تردعه عن ردىً، وترك الذنوب حياءً أو خشيةً.
أقوال في الصاحب قال: وحدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن أبيه قال: كان يقال: الصاحب رقعةٌ في قميص الرجل، فلينظر أحدكم بم يرقع قميصه.
وحدثني أبو حاتم عن الأصمعيّ عن أبيه أنه قال: كان يقال: ما وجدنا شيئاً أبلغ في خير أو شرّ من صاحب.
وحدثني الرياشيّ عن الأصمعيّ قال: حدثنا سليمان بن المغيرة قال: قال يونس: اثنان ما في الأرض أقلّ منهما ولا يزدادان إلا قلّةً: درهمٌ يوضع في حقٍّ، وأخٌ يسكن إليه في اللّه علقمة بن لبيد ينصح ابنه وحدّثني شيخ لنا عن محمد بن مناذر عن سفيان بن عيينة قال: قال: علقمة بن لبيد العطارديّ لابنه: يا بنيّ، إذا نزغتك إلى صحبة الرجال حاجةٌ، فأصحب منهم من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن أصابتك خصاصةٌ مانك؛ وإن قلت صدّق قولك ، وإن صلت شدّ صولك؛ وإن مددت يدك بفضلٍ مدّها، وإن رأى منك حسنةً عدّها؛ وإن سألته أعطاك، وإن سكتّ عنه ابتداك، وإن نزلت بك إحدى الملمّات آساك؛ من لا يأتيك منه البوائق، ولا تختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق؛ وإن حاول حويلاً آمرك، وإن تنازعتما منفساً آثرك.
القرظي لعمر بن العزيز قال محمد بن كعب القرظي لعمر بن عبد العزيز: إنّ فيك جهلاً، فداو بعض ما فيك ببعضٍ، وآخ من الإخوان من كان ذا مغلاةٍ في الدّين ونّيةٍ في الحق، ولا تؤاخ منهم من تكون منزلتك عنده على قدر حاجته إليك، فإذا قضى حاجته منك ذهب ما بينك وبينه. وإذا غرست غراساً من المعروف فلا تبقيّن أن تحسن تربيته.
للأحنف بن قيس في خير الإخوان وقال الأحنف بن قيس: خير الإخوان من استغنيت عنه لم يزدك في المودّة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها، وإن عثرت عضدك، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك.
وقال الشاعر:
إنّ أخاك الصّدق من لم يخدعك ... ومن يضرّ نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمانٍ صدعك ... شتت شمل نفسه ليجمعك
وإن رآك ظالماً سعى معك
شعر لحجيّة بن المضرّب وقال حجية بن المضّرب:
أخوك الذي إن تدعه لملمةٍ ... يجبك وإن تغضب إلى السّيف يغضب
وكتب رجلٌ إلى صديق له: أنت كما قال أعشى بأهلة:
من ليس في خيره منّ فيفسده ... على الصّديق ولا في صفوه كدر
وليس فيه إذا استنظرته عجلٌ ... وليس فيهأذا ياسرته عسر
لعلي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه وقال عليّ بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه:
أخوك الذي إن أحوجتك ملمةٌ ... من الدّهر لم يبرح لها الدّهر واجما
وليس أخوك الحقّ من إن تشعّبت ... عليك أمورٌ ظلّ يلحاك لائما
وقال آخر:
إذا كان إخوان الرجال حرارةً ... فأنت الحلال الحلو والبارد العذب
لنا جانبٌ منه دميثٌ وجانبٌ ... إذا رامه الأعداء مركبه صعب
وتأخذه عند المكارم هزّةٌ ... كما اهتزّ تحت البارح الغصن الرطب
وقال آخر:
أبكي أخاً يتلقّاني بنائله ... قبل السؤال ويلقى السّيف من دوني
إنّ المنايا أصابتني مصائبها ... فاستعجلت بأخٍ قد كان يكفيني
من كتاب الهند وقرأت في كتاب للهند: رأس الموّدة الإسترسال لأكثم بن صيفيّ وقال أكثم بن صيفيّ: من تراخى تألف، ومن تشدّد نفرّ، والشرف التغافل.
لحاتم في العاقل وقال حاتم: العاقل فطنٌ مغافلٌ.
من كتاب الهند في علامة الصديق، وشعر للعتابي في ذلك وقرأت في كتاب للهند: من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً ولعدوّ صديق عدواً.
قال العتابي في ذلك:
تودّ عدوّي ثم تزعم أنّني ... صديقك، إن الرأي عنك لعازب
وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من صدّقته المغايب
لبزر جمهر قيل لبزر جمهر: أخوك أحبّ إليك من صديقك؟ قال: إنما أحبّ أخي إذا كان صديقاً.
لبعضهم