كتاب : مدارك التنزيل وحقائق التأويل
المؤلف : أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
{ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لآِدَمَ } فسجود تحية أو سجود انقياد { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } وهو مستأنف كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد؟ فقيل : كان من الجن { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ } خرج عما أمره ربه به من السجود وهو دليل على أنه كان مأموراً بالسجود مع الملائكة { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ } الهمزة للإنكار والتعجب كأنه قيل : أعقيب ما وجد منه تتخذونه وذريته { أَوْلِيَاء مِن دُونِى } وتستبدلونهم بي؟ ومن ذريته «لا قيس» موسوس الصلاة و«الأعور» صاحب الزنا و«بتر» صاحب المصائب ومطوس صاحب الأراجيف و«داسم» يدخل ويأكل مع من لم يسم الله تعالى { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } أعداء { بِئْسَ للظالمين بَدَلاً } بئس البدل من الله إبليس لمن استبدله فأطاعه بدل طاعة الله { مَّا أَشْهَدتُّهُمْ } أي إبليس وذريته { خَلَقَ السماوات والأرض } يعني أنكم اتخذتموهم شركاء لي في العبادة وإنما يكونون شركاء فيها لو كانوا شركاء في الإلهية فنفى مشاركتهم الإلهية بقوله { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } لأعتضد بهم في خلقها أو أشاورهم فيه أي تفردت بخلق الأشياء فأفردوني في العبادة { وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ } أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } أي وما كنت متخذهم { عَضُداً } أي أعواناً فوضع { المضلين } موضع الضمير ذمًّا لهم بالإضلال ، فإذا لم يكونوا عضداً لي في الخلق فمالكم تتخذونهم شركاء لي في العبادة؟
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
{ وَيَوْمَ يَقُولُ } الله للكفار ، وبالنون : حمزة { نَادُواْ } ادعوا بصوت عالٍ { شُرَكَائِىَ الذين زَعَمْتُمْ } أنهم فيكم شركائي ليمنعوكم من عذابي ، وأراد الجن وأضاف الشركاء إليه على زعمهم توبيخاً لهم { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } مهلكا من وبق يبق وبوقاً إذا هلك ، أو مصدر كالموعد أي وجعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم وهو مكان الهلاك والعذاب الشديد مشتركاً يهلكون فيه جميعاً ، أو الملائكة وعزيراً وعيسى . والموبق البرزخ البعيد أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان { وَرَأَى المجرمون النار فَظَنُّواْ } فَأيقنوا { أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } مخالطوها واقعون فيها { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا } عن النار { مَصْرِفًا } معدلاً { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذا القرءان لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ } يحتاجون إليه { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً } تمييز أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل إن فصلتها واحداً بعد واحد خصومة ومماراة بالباطل يعني أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل شيء { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الهدى } أي سببه وهو الكتاب والرسول { وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب } «أن» الأولى نصب ، والثانية رفع ، وقبلها مضاف محذوف تقديره : وما منع الناس الإيمان والاستغفار إلا انتظار أن تأتيهم سنة الأولين وهي الإهلاك ، أو انتظار أن يأتيهم العذاب أي عذاب الآخرة { قُبُلاً } كوفي أي أنواعاً جمع قبيل . الباقون { قِبلا } أي عياناً .
{ وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } يوقف عليه ويستأنف بقوله : { ويجادل الذين كَفَرُواْ بالباطل } هو قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] و { لو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] ونحو ذلك { لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } ليزيلوا ويبطلوا بالجدال النبوة { واتخذوا ءاياتى } القرآن { وَمَا أُنْذِرُواْ } «ما» موصولة والراجع من الصلة محذوف أي وما أنذروه من العقاب ، أو مصدرية أي وإنذارهم { هُزُواً } موضع استهزاء بسكون الزاي والهمزة : حمزة ، وبإبدال الهمزة واوا : حفص ، وبضم الزاي والهمزة : غيرهما .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ } بالقرآن ولذلك رجع الضمير إليها مذكراً في قوله أن { يفقهوه } { فَأَعْرَضَ عَنْهَا } فلم يتذكر حين ذكر ولم يتدبر { وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } عاقبة ما قدمت يداه من الكفر والمعاصي غير متفكر فيها ولا ناظر في أن المسيء والمحسن لا بد لهما من جزاء . ثم علل إعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم بقوله : { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أغطية جمع كنان وهو الغطاء { أن يفقهوهُ وفي ءاذانهم وَقراً } ثقلاً عن استماع الحق وجمع بعد الإفراد حملاً على لفظ من ومعناه { وَإِن تَدْعُهُمْ } يا محمد { إِلَى الهدى } إلى الإيمان { فَلَنْ يَهْتَدُواْ } فلا يكون منهم اهتداء ألبتة { إِذَا } جزاء وجواب فدل على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول بمعنى أنهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سبباً في انتفائه ، وعلى أنه جواب للرسول على تقدير قوله مالي لا أدعوهم حرصاً على إسلامهم؟ فقيل { وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً } { أَبَدًا } مدة التكليف كلها .
{ وَرَبُّكَ الغفور } البليغ المغفرة { ذُو الرحمة } الموصوف بالرحمة { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } أي ومن رحمته ترك مؤاخذته أهل مكة عاجلاً مع فرط عداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } وهم يوم بدر { لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } منجى ولا ملجأ يقال : وآل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه { وَتِلْكَ } مبتدأ { القرى } صفة لأن أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجناس والخبر { أهلكناهم } أو { تلك القرى } نصب بإضمار «أهلكنا» على شريطة التفسير ، والمعنى وتلك أصحاب القرى أهلكناهم والمراد قوم نوح وعاد وثمود { لَمَّا ظَلَمُواْ } مثل ظلم أهل مكة { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا } وضربنا لإهلاكهم وقتاً معلوماً لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر والمهلك الإهلاك ووقته . وبفتح الميم وكسر اللام : حفص ، وبفتحهما : أبو بكر أي لوقت هلاكهم أو لهلاكهم والموعد وقت أو مصدر .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ وَإِذْ } واذكر إذ { قَالَ موسى لفتاه } هو يوشع بن نون . وإنما قيل { فتاه } لأنه كان يخدمه ويتبعه ويأخذ منه العلم { لا أَبْرَحُ } لا أزال وقد حذف الخبر لدلالة الحال والكلام عليه ، أما الأولى فلأنها كانت حال سفر وأما الثاني فلأن قوله : { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له فلا بد أن يكون المعنى لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر عليهما السلام وهو ملتقى بحر فارس والروم . وسمي خضراً لأنه أينما يصلي يخضر ما حوله { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أو أسير زماناً طويلاً قيل ثمانون سنة . رُوي أنه لما ظهر موسى عليه السلام على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط سأل ربه : أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ، فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : أين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة قال : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى فقال : وإني بأرضنا السلام : فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا .
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } مجمع البحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } أي نسي أحدهما وهو يوشع لأنه كان صاحب الزاد دليله { فإني نسيت الحوت } وهو كقولهم«نسوا زادهم» وإنما ينساه متعهد الزاد . قيل : كان الحوت سمكة مملوحة فنزلا ليلة على شاطئ عين الحياة ونام موسى . فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده عاشت ووقعت في الماء { فاتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر } أي اتخذ طريقاً له من البر إلى البحر { سَرَباً } نصب على المصدر أي سرب فيه سرباً يعني دخل فيه واستر به { فَلَمَّا جَاوَزَا } مجمع البحرين ثم نزلا وقد سارا ما شاء الله { قَالَ } موسى { لفتاه ءاتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } تعبا ولم يتعب ولا جاع قبل ذلك { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة } هي موضع الموعد { فَإِنّى نَسِيتُ الحوت } ثم اعتذر فقال : { وَمَا أَنْسَانِيهُ } وبضم الهاء : حفص { إِلاَّ الشيطان } بإلقاء الخواطر في القلب { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل من الهاء في { أنسانيه } أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان { واتخذ سَبِيلَهُ فِى البحر عَجَبًا } وهو أن أثره بقي إلى حيث سار { قَالَ ذلك مَا كُنَّا نَبْغِ } نطلب . وبالياء : مكي ، وافقه أبو عمرو وعلي ومدني في الوصل ، وبغير ياء فيهما : غيرهما اتباعاً لخط المصحف و { ذلك } إشارة إلى اتخاذه سبيلاً أي ذلك الذي كنا نطلب لأن ذهاب الحوت كان علماً على لقاء الخضر عليه السلام { فارتدا على ءاثَارِهِمَا } فرجعا في الطريق الذي جاءا فيه { قَصَصًا } يقصان قصصاً أي يتبعان آثارهما اتباعاً . قال الزجاج : القصص اتباع الأثر { فَوَجَدَا عَبْدًا مّنْ عِبَادِنَا } أي الخضر راقداً تحت ثوب أو جالساً في البحر { ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هي الوحي والنبوة أو العلم أو طول الحياة { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } يعني الإخبار بالغيوب . وقيل : العلم اللدني ما حصل للعبد بطريق الإلهام .
{ قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْداً } أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني { رشَدا } أبو عمرو وهما لغتان كالبخل والبخل ، وفيه دليل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وأن كان قد بلغ نهايته وإن يتواضع لمن هو أعلم منه .
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
{ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ } وبفتح الياء : حفص ، وكذا ما بعده في هذه السورة { صَبْراً } أي عن الإنكار والسؤال { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } تمييز ، نفي استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد وعلل ذلك بأنه يتولى أموراً هي في ظاهرها مناكير والرجل الصالح لا يتمالك أن يجزع إذا رأى ذلك فيكف إذا كان نبياً! { قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاء الله صَابِرًا } من الصابرين عن الإنكار والإعراض { وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً } في محل النصب عطف على { صابراً } أي ستجدني صابراً وغير عاص ، أو هو عطف على { ستجدني } ولا محل له { قَالَ فَإِنِ اتبعتنى فَلاَ تَسْأَلْنى } بفتح اللام وتشديد النون : مدني وشامي ، وبسكون اللام وتخفيف النون : غيرهما ، والياء ثابتة فيهما إجماعاً { عَن شَىء حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي فمن شرط اتباعك لي أنك إذا رأيت مني شيئاً وقد علمت أنه صحيح إلا أنه خفي عليك وجه صحته فأنكرت في نفسك أن لا تفاتحني بالسؤال ولا تراجعني فيه حتى أكون أنا الفاتح عليك ، وهذا من أدب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع .
{ فانطلقا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السفينة خَرَقَهَا } فانطلقا على ساحل البحر يطلبان السفينة فلما ركباها قال أهلها : هما من اللصوص ، وقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء فحملوهما بغير نول ، فلما لججوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ثم { قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } { ليَغرق } حمزة وعلي من غرق { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا } أتيت شيئاً عظيماً من أمر الأمر إذا عظم .
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
{ قَالَ } أي الخضر { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } فلما رأى موسى أن الخرق لا يدخله الماء ولم يفر من السفينة { قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ } بالذي نسيته أو بشيء نسيته أو بنسياني أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي ، أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِى عُسْراً } رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه أي ولا تغشني عسراً من أمري وهو اتباعه إياه أي ولا تعسر على متابعتك ويسرها عليَّ بالإغضاء وترك المناقشة { فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ } قيل : ضرب برأسه الحائط . وقيل : أضجعه ثم ذبحه بالسكين . وإنما قال : { فقتله } بالفاء وقال : { خرقها } بغير فاء ، لأن { خرقها } جعل جزاء للشرط وجعل { قتله } من جملة الشرط معطوفاً عليه والجزاء { قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا } وإنما خولف بينهما لأن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام { زَكِيَّةً } { زاكية } حجازي وأبو عمرو وهي الطاهرة من الذنوب ، إما لأنها طاهرة عنده لأنه لم يرها قد أذنبت أو لأنها صغيرة لم يبلغ الحنث { بِغَيْرِ نَفْسٍ } أي لم تقتل نفساً فيقتص منها . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن نجدة الحروري كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه : إن علمت من حال الولدان ما علمه موسى فلك أن تقتل .
{ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } وبضم الكاف حيث كان : مدني وأبو بكر وهو المنكر . وقيل : النكر أقل من الإمر لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفنية ، أو معناه جئت شيئاً أنكر من الأول لأن الخرق يمكن تداركه بالسد ولا يمكن تدارك القتل
.
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
{ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً } زاد { لك } هنا لأن النكر فيه أكثر { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْء بَعْدَهَا } بعد هذه الكرة أو المسألة { فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنّى عُذْراً } أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق . و { لدني } بتخفيف النون : مدني وأبو بكر .
{ فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ } هي أنطاكية أو الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء { استطعما أَهْلَهَا } استضافاً { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا } ضيفه أنزله وجعله ضيفه قال عليه السلام : " كانوا أهل قرية لئاماً " وقيل : شر القرى التي تبخل بالقرى { فَوَجَدَا فِيهَا } في القرية { جِدَاراً } طوله مائة ذراع { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } يكاد يسقط استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة كما استعير الهم والعزم لذلك { فَأَقَامَهُ } بيده أو مسحه بيده فقام واستوى ، أو نقضه وبناه كان الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم وقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسائلة فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رآى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي لطلبت على عملك جعلا حتى تستدفع به الضرورة . { لتخذت } بتخفيف التاء وكسر الخاء وإدغام الذال : بصري ، وبإظهارها : مكي ، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإظهار الذال : حفص ، وبتشديد التاء وفتح الخاء وإدغام الذال في التاء : غيرهم . والتاء في «تخذ» أصل كما في «تبع» ، و«اتخذ» افتعل منه كاتبع من تبع وليس من الأخذ في شيء .
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
{ قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ } هذا إشارة إلى السؤال الثالث أي هذا الاعتراض سبب الفراق ، والأصل هذا فراق بيني وبينك ، وقد قرىء به فأضيف المصدر إلى الظرف كما يضاف إلى المفعول به { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين يَعْمَلُونَ فِى البحر } قيل : كانت لعشرة أخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يعلمون في البحر { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } أجعلها ذات عيب { وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ } أمامهم أو خلفهم وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر وهو جلندي { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } أي يأخذ كل سفينة صالحة لا عيب فيها غصباً وإن كانت معيبة تركها ، وهو مصدر أو مفعول له . فإن قلت : قوله : { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها فكان حقه أن يتأخر عن السبب . قلت : المراد به التأخير وإنما قدم للعناية .
{ وَأَمَّا الغلام } وكان اسمه الحسين { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طغيانا وَكُفْراً } فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغياناً عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شراً وبلاء ، أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وهو من كلام الخضر . وإنما خشي الخضر منه ذلك لأنه تعالى أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وإن كان من قول الله تعالى ، فمعنى { فخشينا } فعلمنا إن عاش أن يصير سبباً لكفر والديه { فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا } { يبَدِّلهما ربهما } مدني وأبو عمرو { خَيْراً مّنْهُ زكواة } طهارة ونقاء من الذنوب { وَأَقْرَبَ رُحْماً } رحمة وعطفا ، و { زكاة } و { رحما } تمييز . روي أنه ولدت لهما جارية تزوجها نبي فولدت نبياً أو سبعين نبياً أو أبدلهما ابناً مؤمناً مثلهما شامي وهما لغتان { وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لغلامين } أصرم وصريم { يَتِيمَيْنِ فِى المدينة } هي القرية المذكورة { وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا } أي لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . أو مال مدفون من ذهب وفضة أو صحف فيها علم والأول أظهر . وعن قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا ، وحرمت الغنيمة عليها وأحلت لنا . { وَكَانَ أَبُوهُمَا } قيل : جدهما السابع { صالحا } ممن يصحبني . وعن الحسين بن علي رضي الله عنهما أنه قال لبعض الخوارج في كلام جرى بينهما : بم حفظ الله الغلامين؟ قال : بصلاح أبيهما . قال : فأبي وجدي خير منه { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } أي الحلم { وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً } مفعول له أو مصدر منصوب ب { أراد ربك } لأنه في معنى رحمهما { مّن رَّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ } وما فعلت ما رأيت { عَنْ أَمْرِى } عن اجتهادي وإنما فعلته بأمر الله والهاء تعود إلى الكل أو إلى الجدار { ذلك } أي الأجوبة الثلاثة { تَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } حذف التاء تخفيفاً .
وقد زل أقدام أقوام من الضلال في تفضيل الولي على النبي وهو كفر جلي حيث قالوا : أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو وليّ . والجواب أن الخضر نبي وإن لم يكن كما زعم البعض ، فهذا ابتلاء في حق موسى عليه السلام على أن أهل الكتاب يقولون : إن موسى هذا ليس موسى بن عمران إنما هو موسى بن مانان ، ومن المحال أن يكون الوليّ وليًّا إلا بإيمانه بالنبي ثم يكون النبي دون الوليّ ، ولا غضاضة في طلب موسى العلم لأن الزيادة في العلم مطلوبة . وإنما ذكر أولاً { فأردت } لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله ، وثالثاً { فأراد ربك } لأنه إنعام محض وغير مقدور البشر ، وثانياً { فأردنا } لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل . وقال الزجاج : معنى فأردنا فأراد الله عز وجل ومثله في القرآن كثير .
{ وَيَسْئَلُونَكَ } أي اليهود على جهة الإمتحان ، أو أبو جهل وأشياعه { عَن ذِى القرنين } هو الإسكندر الذي ملك الدنيا . قيل : ملكها مؤمنان : ذو القرنين وسليمان ، وكافران : نمرود وبختنصر وكان بعد نمرود . وقيل : كان عبداً صالحاً ملّكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه . وقيل : نبياً . وقيل : ملكاً من الملائكة . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات ثم بعثه الله ، فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله أراد نفسه . قيل : كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله تعالى . وقال عليه السلام : « سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا » يعني جانبيها شرقها وغربها . وقيل : كان له قرنان أي ضفيرتان ، أو انقرض في وقته قرنان من الناس ، أو لأنه ملك الروم وفارس أو الترك والروم ، أو كان لتاجه قرنان أو على رأسه ما يشبه القرنين ، أو كان كريم الطرفين أبا وأما وكان من الروم { قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ } من ذي القرنين { ذِكْراً } .
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
{ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الأرض } جعلنا له فيها مكانة واعتلاء { وَءَاتَيِنَاه مِن كُلّ شَىْء } أراده من أغراضه ومقاصده في ملكه { سَبَباً } طريقاً موصلاً إليه { فَأَتْبَعَ سَبَباً } والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة فأراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً . يوصله إليه حتى بلغ ، وكذلك أراد المشرق فأتبع سبباً ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً . { فأتبع سبباً } { ثم أتبع } كوفي وشامي الباقون : بوصل الألف وتشديد التاء . عن الأصمعي : أتبع لحق واتبع اقتفى وإن لم يلحق { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } أي منتهى العمارة نحو المغرب وكذا المطلع قال صلى الله عليه وسلم : « بدء أمره أنه وجد في الكتب أن أحد أولاد سام يشرب من عين الحياة فيخلد فجعل يسير في طلبها والخضر وزيره وابن خالته فظفر فشرب ولم يظفر ذو القرنين » { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ذات حمأة من حمئت البئر إذا صارت فيها الحمأة . { حامية } شامي وكوفي غير حفص بمعنى حارة . عن أبي ذر : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : « أتدري يا أبا ذر أين تغرب هذه؟ » قلت الله ورسوله أعلم . قال : « فإنها تغرب في عين حامية . » وكان ابن عباس رضي الله عنهما عند معاوية فقرأ معاوية { حامية } فقال : ابن عباس : حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو : كيف تقرؤها؟ فقال : كما يقرأ أمير المؤمنين . ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال : في ماء وطين كذلك نجده في التوراة فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا تنافي فجاز أن تكون العين جامعة للوصفين جميعاً { وَوَجَدَ عِندَهَا } عند تلك العين { قَوْماً } عراة من الثياب لباسهم جلود الصيد وطعامهم ما لفظ البحر وكانوا كفاراً { قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } إن كان نبياً فقد أوحى الله إليه بهذا وإلا فقد أوحي إلى نبي فأمره النبي به ، أو كان إلهاماً خير بين أن يعذبهم بالقتل إن أصروا على أمرهم وبين أن يتخذ فيهم حسناً بإكرامهم وتعليم الشرائع إن آمنوا ، أو التعذيب القتل وإتخاذ الحسن الأسر لأنه بالنظر إلى القتل إحسان .
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
{ قَالَ } ذو القرنين { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } بالقتل { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } في القيامة يعني أما من دعوته إلى الإسلام فأبى إلا البقاء على الظلم العظيم وهو الشرك فذاك هو المعذب في الدارين .
{ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحا } أي عمل ما يقتضيه الإيمان { فَلَهُ جَزَاء الحسنى } فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كلمة الشهادة . { جزاءً الحسنى } كوفي غير أبي بكر أي فله الفعلة الحسنى جزاء { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } أي ذا يسر أي لا نأمره بالصعب الشاق ولكن بالسهل المتيسر من الزكاة والخراج وغير ذلك { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ } هم الزنج { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مّن دُونِهَا } من دون الشمس { سِتْراً } أي أبنية عن كعب أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم ، أو الستر اللباس . عن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض .
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
{ كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك أي كما وصفناه تعظيماً لأمره { وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ } من الجنود والآلات وأسباب الملك { خُبْراً } نصب على المصدر لأن في { أحطنا } معنى خبرنا ، أو بلغ مطلع الشمس مثل ذلك أي كما بلغ مغربها ، أو تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم مثل حكمهم في تعذيبه لمن بقي منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } بين الجبلين وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما . { السَّدين } و { سًداً } مكي وأبو عمرو وحفص { السُّدين } و { سدا } حمزة وعلي ، وبضمهما : غيرهم . قيل : ما كان مسدوداً خلقة فهو مضموم ، وما كان من عمل العباد فهو مفتوح . وانتصب { بين } على أنه مفعول به ل { بلغ } كما انجر بالإضافة في { هذا فراق بيني وبينك } وكما ارتفع في { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] لأنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفاً وهذا المكان في منقطع أرض الترك مما يلي المشرق { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } من ورائهما { قَوْماً } هم الترك { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أي لا يكادون يفهمونه إلا بجهد ومشقة من إشارة ونحوها . { يُفقهون } حمزة وعلي أن لا يفهمون السامع كلامهم ولا يبينونه لأن لغتهم غريبة مجهولة .
{ قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف ، وهمزهما عاصم فقط . وهما من ولد يافث أو يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم { مُفْسِدُونَ فِى الأرض } قيل كانوا يأكلون الناس . وقيل : كانوا يخرجوا أيام الربيع فلا يتركون شيئاً أخضر إلا أكلوه ، ولا يابساً إلا احتملوه ، ولا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح . وقيل : هم على صنفين طوال مفرطو الطول وقصار مفرطو القصر { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } { خراجا } حمزة وعلي أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال { على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّا } .
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
{ قال ما مكَّني } بالإدغام وبفكه مكي { فِيهِ رَبّى خَيْرٌ } أي ما جعلني فيه مكيناً من كثرة المال واليسار خير مما تبذلون لي من الخرج فلا حاجة لي إليه { فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ } بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبالآلات { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا } جداراً وحاجزاً حصيناً موثقاً والردم أكبر من السد { ءَاتُونِي زُبَرَ الحديد } قطع الحديد والزبرة القطعة الكبيرة . قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى ، فاختلط والتصق بعضه وصار جلداً وصلدا ، وقيل : بعدما بين السدين فإنه فرسخ { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } بفتحتين جانبي الجبلين لأنها يتصادفان أي يتقابلان . { الصُّدَفين } مكى وبصرى وشامي . { الصُّدْفين } أبو بكر { قَالَ انفخوا } أي قال ذو القرنين للعملة : انفخوا في الحديد { حتى إِذَا جَعَلَهُ } أي المنفوخ فيه وهو الحديد { نَارًا } كالنار { قَالَ آتُونِى } أعطوني { أَفْرِغْ } أصب { عَلَيْهِ قِطْراً } نحاساً مذاباً لأنه يقطر وهو منصوب ب { أفرغ } وتقديره آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأول لدلالة الثاني عليه { قال ائتوني } بوصل الألف : حمزة وإذا ابتدأ كسر الألف أي جيئوني .
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
{ فَمَا اسطاعوا } بحذف التاء للخفة لأن التاء قريبة المخرج من الطاء { أَن يَظْهَرُوهُ } أن يعلوا السد { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْبًا } أي لا حيلة لهم فيه من صعود لارتفاعه ولا نقب لصلابته { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مّن رَّبّى } أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده ، أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته { فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبّى } فإذا دنا مجيء يوم القيامة وشارف أن يأتي { جَعَلَهُ } أي السد { دَكَّاء } أي مدكوكا مبسوطاً مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك . { دكاء } كوفي أي أرضاً مستوية { وَكَانَ وَعْدُ رَبّى حَقّاً } آخر قول ذي القرنين { وَتَرَكْنَا } وجعلنا { بَعْضُهُمْ } بعض الخلق { يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ } يختلط { فِى بَعْضِ } أي يطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ، ويجوز أن يكون الضمير ليأجوج ومأجوج وأنهم يموجون حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد . ورُوي أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ، ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة بيت المقدس ، ثم يبعث الله نغفا في أقفائهم فيدخل في آذانهم فيموتون { وَنُفِخَ فِى الصور } لقيام الساعة { فجمعناهم } أي جمع الخلائق للثواب والعقاب { جَمْعاً } تأكيد { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ للكافرين عَرْضاً } وأظهرناها لهم فرأوها وشاهدوها { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَاء عَن ذِكْرِي } عن آياتي التي ينظر إليها أو عن القرآن فأذكره بالتعظيم أو عن القرآن وتأمل معانيه { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أي وكانوا صما عنه إلا أنه أبلغ إذ الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع .
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{ أَفَحَسِبَ الذين كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِى أَوْلِيَاء } أي أفظن الكفار اتخاذهم عبادي يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام أولياء نافعهم بئس ما ظنوا . وقيل : «أن» بصلتها سد مسد مفعولي { أفحسب } و { عبادي أولياء } مفعولاً { أن يتخذوا } وهذا أوجه يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء { إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ للكافرين نُزُلاً } هو ما يقام للنزيل وهو الضيف ونحوه فبشرهم بعذاب أليم { قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بالأخسرين أعمالا } { أعمالاً } تمييز . وإنما جمع والقياس أن يكون مفرداً لتنوع الأهواء وهم أهل الكتاب أو الرهبان { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ } ضاع وبطل وهو في محل الرفع أي هم الذين { فِى الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُوْلَئِكَ الذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } فلا يكون لهم عندنا وزن ومقدار { ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ } هي عطف بيان لجزاؤهم { بِمَا كَفَرُواْ واتخذوا ءاياتى وَرُسُلِى هُزُواً } أي جزاؤهم جهنم بكفرهم واستهزائهم بآيات الله ورسوله .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جنات الفردوس نُزُلاً خالدين فِيهَا } حال { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } تحولاً إلى غيرها رضا بما أعطوا . يقال : حال من مكانه حولاً أي لا مزيد عليها حتى تنازعهم أنفسهم إلى أجمع لأغراضهم وأمانيهم ، وهذه غاية الوصف لأن الإنسان في الدنيا في أي نعيم كان فهو طامح مائل الطرف إلى أرفع منه ، أو المراد نفي التحول وتأكيد الخلود
.
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ قُل لَّوْ كَانَ البحر } أي ماء البحر { مِدَاداً لكلمات رَبّى } قال أبو عبيدة : المداد : ما يكتب به أي لو كتبت كلمات علم الله وحكمته وكان البحر مداداً لها والمراد بالبحر الجنس { لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } بمثل البحر { مَدَداً } لنفد أيضاً والكلمات غير نافدة . و { مدداً } تمييز نحو «لي مثله رجلاً» والمدد مثل المداد وهو ما يمد به . { ينفد } حمزة وعلي ، وقيل : قال حيي بن أخطب : في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ثم تقرؤون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] فنزلت يعني أن ذلك خير كثير ولكنه قطرة من بحر كلمات الله { قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ } فمن كان يأمل حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضاً وقبول ، أو فمن كان يخاف سوء لقاء ربه والمراد باللقاء القدوم عليه . وقيل : رؤيته كما هو حقيقة اللفظ والرجاء على هذا مجرى على حقيقته { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا } خالصاً لا يريد به إلا وجه ربه ولا يخلط به غيره . وعن يحيى بن معاذ : هو ما لا يستحي منه { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا } هو نهي عن الشرك أو عن الرياء قال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الشرك الأصغر " قالوا : وما الشرك الأصغر قال : " الرياء " قال صلى الله عليه وسلم : " من قرأ سورة الكهف فهو معصوم ثمانية أيام من كل فتنة تكون فإن يخرج الدجال في تلك الثمانية عصمه الله من فتنة الدجال ، ومن قرأ { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليَّ } إلى آخرها عند مضجعه كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم من مضجعه ، وإن كان مضجعه بمكة فتلاها كان له نور يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه ويستغفرون له حتى يستيقظ " .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
{ كهيعص } قال السدي : هو اسم الله الأعظم ، وقيل : هو اسم للسورة . قرأ علي ويحيى بكسر الهاء والياء ، ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، وحمزة بعكسه ، وغيرهم بفتحهما { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ } خبر مبتدأ أي هذا ذكر { عَبْدَهِ } مفعول الرحمة { زَكَرِيَّا } بالقصر : حمزة وعلي وحفص وهو بدل من { عبده } { إِذْ } ظرف للرحمة { نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً } دعاه دعاء سرا كما هو المأمور به وهو أبعد عن الرياء وأقرب إلى الصفاء ، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في أوان الكبر لأنه كان ابن خمس وسبعين أو ثمانين سنة { قَالَ رَبّ } هذا تفسير الدعاء وأصله «يا ربي» فحذف حرف النداء والمضاف إليه اختصاراً { إِنّى وَهَنَ العظم مِنّى } ضعف . وخص العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ولأنه أشد ما فيه وأصلبه فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية والمراد أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ،
{ واشتعل الرأس شَيْباً } تمييز أي فشا في رأسي الشيب واشتعلت النار إذا تفرقت في التهابها وصارت شعلاً ، فشبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار . ولا ترى كلاماً أفصح من هذا ، ألا ترى أن أصل الكلام يا رب قد شخت إذ الشيخوخة تشتمل على ضعف البدن وشيب الرأس المتعرض لهما ، وأقوى منه ضعف بدني وشاب رأسي ففيه مزيد التقرير للتفصيل ، وأقوى منه وهنت عظام بدني ، ففيه عدول عن التصريح إلى الكناية فهي أبلغ منه ، وأقوى منه أنا وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت عظام بدني ، وأقوى منه إني وهنت العظام من بدني ففيه سلوك طريقي الإجمال والتفصيل ، وأقوى منه إني وهنت العظام مني ففيه ترك توسيط البدن ، وأقوى منه { إني وهن العظم مني } لشمول الوهن العظام فرداً فرداً باعتبار ترك جمع العظم إلى الإفراد لصحه حصول وهن المجموع بالبعض دون كل فرد فرد ، ولهذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ وهي الاستعارة فحصل اشتعل شيب رأسي ، وأبلغ منه اشتعل رأسي شيباً لإسناد الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس إذ وزان اشتعل شيب رأسي واشتعل رأسي شيباً ، وزان اشتعل النار في بيتي واشتعل بيتي ناراً والفرق نير ، ولأن فيه الإجمال والتفصيل كما عرف في طريق التمييز ، وأبلغ منه واشتعل الرأس مني شيباً لما مر ، وأبلغ منه { واشتعل الرأس شيباً } ففيه اكتفاء بعلم المخاطب إنه رأس زكريا بقرينة العطف على { وهن العظم } { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ } مصدر مضاف إلى المفعول أي بدعائي إياك { رَبّ شَقِيّاً } أي كنت مستجاب الدعوة قبل اليوم سعيداً به غير شقي فيه . يقال : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي إذا خاب ولم ينلها . وعن بعضهم أن محتاجاً سأله وقال : أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل بنا إلينا وقت حاجته وقضى حاجته .
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
{ وَإِنّي خِفْتُ الموالى } هم عصبته أخوته وبنو عمه وكانوا شرار بني إسرائيل فخافهم أن يغيروا الدين وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته فطلب عقباً صالحاً من صلبه يقتدي به في إحياء الدين { مِن وَرَائِى } بعد موتي ، وبالقصر وفتح الياء ك { هداي } : مكى . وهذا الظرف لا يتعلق ب { خفت } لأن وجود خوفه بعد موته لا يتصور ولكن بمحذوف ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي ، أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِرًا } عقيماً لا تلد { فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ } اختراعا منك بلا سبب لأن امرأتي لا تصلح للولادة { وَلِيّاً } ابنا يلي أمرك بعدي .
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
{ يَرِثُنِى وَيَرِثُ } برفعهما صفة ل { ولياً } أي هب لي ولداً وارثاً مني العلم ومن آل يعقوب النبوة ، ومعنى وراثة النبوة أنه يصلح لأن يوحى إليه ولم يرد أن نفس النبوة تورث . ويجزمهما : أبو عمرو وعلي على أنه جواب للدعاء يقال : ورثته وورثت منه { مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ } يعقوب بن إسحاق { واجعله رَبّ رَضِيّاً } مرضياً ترضاه أو راضياً عنك وبحكمك فأجاب الله تعالى دعاءه وقال : { يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى } تولى الله تسميته تشريفاً له . { نبشرك } بالتخفيف : حمزة { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } لم يسم أحد بيحيى قبله وهذا دليل على أن الاسم الغريب جدير بالأثرة . وقيل : مثلاً وشبيها ولم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد بين شيخ وعجوز وأنه كان حصوراً ، فلما بشرته الملائكة . به
{ قَالَ رَبّ أنّى } كيف { يَكُونُ لِي غلام } وليس هذا باستبعاد بل هو استكشاف أنه بأي طريق يكون أيوهب له وهو وامرأته بتلك الحال أم يحولان شابين { وَكَانَتِ امرأتى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } أي بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود اليابس من أجل الكبر والطعن في السن العالية { عتياً } و { صلياً } و { جثياً } و { بكياً } بكسر الأوائل : حمزة وعلي وحفص إلا في { بكيا } .
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{ قَالَ كذلك } الكاف رفع أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ { قَالَ رَبُّكِ } أو نصب ب { قال } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره { هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } أي خلق يحيى من كبيرين سهل { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } أو جدتك من قبل يحيى . { خلقناك } حمزة وعلي { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } لأن المعدوم ليس بشيء { قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً } علامة أعرف بها حبل امرأتي { قَالَ ءايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِياً } حال من ضمير تكلم أي حال كونك سوى الأعضاء واللسان يعني علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح ما بك خرس ولا بكم . ودل ذكر الليالي هنا والأيام في «آل عمران» على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن ، إذ ذكر الأيام يتناول ما بإزائها من الليالي وكذا ذكر الليالي يتناول ما بإزائها من الأيام عرفاً { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } من موضع صلاته وكانوا ينتظرونه ولم يقدر أن يتكلم { فأوحى إِلَيْهِمْ } أشار بإصبعه { أَن سَبّحُواْ } صلوا و«أن» هي المفسرة { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } صلاة الفجر والعصر { يَا يحيى } أي وهبنا له يحيى وقلنا له بعد ولادته وأوان الخطاب يا يحيى { خُذِ الكتاب } التوراة { بِقُوَّةٍ } حال أي بجد واستظهار بالتوفيق والتأييد { وَآتَيْنَاهُ الحكم } الحكمة وهو فهم التوراة والفقه في الدين { صَبِيّاً } حال . قيل : دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي فقال : ما للعب خلقنا { وَحَنَانًا } شفقة ورحمة لأبويه وغيرهما عطفاً على الحكم { مّن لَّدُنَّا } من عندنا { وزكواة } أي طهارة وصلاحاً فلم يعمد بذنب { وَكَانَ تَقِيّا } مسلماً مطيعا .
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
{ وَبَرّا بوالديه } وباراً بهما لا يعصيهما { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً } متكبراً { عَصِيّاً } عاصياً لربه { وسلام عَلَيْهِ } أمان من الله له { يَوْمَ وُلِدَ } من أن يناله الشيطان { وَيَوْمَ يَمُوتُ } من فتاني القبر { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } من الفزع الأكبر . قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن .
{ واذكر } يا محمد { فِى الكتاب } القرآن { مَرْيَمَ } أي اقرأ عليهم في القرآن قصة مريم ليقفوا عليها ويعلموا ما جرى عليها { إِذْ } بدل من مريم بدل اشتمال إذ الأحيان مشتملة على ما فيها وفيه أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا لوقوع هذه القصة العجيبة فيه { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا } أي اعتزلت { مَكَاناً } ظرف { شَرْقِياً } أي تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة عن الناس . وقيل : قعدت في مشرقه للاغتسال من الحيض { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } جعلت بينها وبين أهلها حجاباً يسترها لتغتسل وراءه { فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا } جبريل عليه السلام والإضافة للتشريف ، وإنا سمي روحاً لأن الدين يحيا به وبوحيه { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً } أي فتمثل لها جبريل في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر { سَوِيّاً } مستوى الخلق . وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه { قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله فإني عائذة به منك .
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
{ قَالَ } جبريل عليه السلام { إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ } أمنها مما خافت وأخبر أنه ليس بآدمي بل هو رسول من استعاذت به { لأَِهَبَ لَكِ } بإذن الله تعالى ، أو لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع { ليهب لك } أي الله : أبو عمرو ونافع . { غلاما زَكِيّاً } ظاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير والبركة .
{ قَالَتْ أنّى } كيف { يَكُونُ لِي غلام } ابن { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } زوج بالنكاح { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } فاجرة تبغي الرجال أي تطلب الشهوة من أي رجل كان ولا يكون الولد عادة إلا من أحد هذين ، والبغي فعول عند المبرد «بغوي» فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسرت العين إتباعاً ولذا لم تلحق تاء التأنيث كما لم تلحق في «امرأة صبور وشكور» وعند غيره هي «فعيل» ولم تلحقها الهاء لأنها بمعنى «مفعولة» وإن كانت بمعنى فاعلة فهو قد يشبه به مثل { إن رحمة الله قريب } [ الأعراف : 56 ] { قَالَ } جبريل { كذلك } أي الأمر كما قلت : لم يمسسك رجل نكاحاً أو سفاحاً { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ } أي إعطاء الولد بلا أب عليَّ سهل { وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ } تعليل معلله محذوف أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك ، أو هو معطوف على تعليل مضمر أي لنبين به قدرتنا ولنجعله آية للناس أي عبرة وبرهاناً على قدرتنا { وَرَحْمَةً مّنَّا } لمن أمن به { وَكَانَ } خلق عيسى { أَمْراً مَّقْضِيّاً } مقدراً مسطوراً في اللوح فلما أطمأنت إلى قوله دنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها { فَحَمَلَتْهُ } أي الموهوب وكانت سنها ثلاث عشرة سنة أو عشراً أو عشرين { فانتبذت بِهِ } اعتزلت وهو في بطنها ، والجار والمجرور في موضع الحال ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : كانت مدة الحمل ساعة واحدة كما حملته نبذته . وقيل : ستة أشهر . وقيل : سبعة . وقيل : ثمانية : ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى . وقيل : حملته في ساعة ووضعته في ساعة { مَكَاناً قَصِيّاً } بعيداً من أهلها وراء الجبل وذلك لأنها لما أحست بالحمل هربت من قومها مخافة اللائمة .
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
{ فَأَجَاءهَا } جاء بها . وقيل : ألجأها وهو منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاءنيه زيد { المخاض } وجمع الولادة { إلى جِذْعِ النخلة } أصلها وكان يابسة وكان الوقت شتاء وتعريفها مشعر بأنها كانت نخلة معروفة وجاز أن يكون التعريف للجنس أي جذع هذه الشجرة كأنه تعالى أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب لأنه حرسة النفساء أي طعامها . ثم { قَالَتْ } جزعاً مما أصابها { ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا } اليوم { مِتُّ } مدني وكوفي غير أبي بكر ، وغيرهم : بالضم . يقال : مات يموت ومات يمات { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } شيئاً متروكاً لا يعرف ولا يذكر . بفتح النون : حمزة وحفص ، بالكسر : غيرهما ومعناهما واحد وهو الشيء الذي حقه أن يطرح وينسى لحقارته { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا } { مَن } أي الذي تحتها ف { من } فاعل وهو جبريل عليه السلام لأنِه كان بمكان منخفض عنها ، أو عيسى عليه السلام لأنه خاطبها من تحت ذيلها . { من تحتها } مدني وكوفي سوى أبي بكر والفاعل مضمر وهو عيسى عليه السلام ، أو جبريل والهاء في { تحتها } للنخلة . ولشدة ما لقيت سليت بقوله { أَلاَّ تَحْزَنِى } لا تهتمي بالوحدة وعدم الطعام والشراب ومقالة الناس و«أن» بمعنى أي { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } بقربك أو تحت أمرك إن أمرته أن يجري جري وإن أمرته أن يقف وقف { سَرِيّاً } نهراً صغيراً عند الجمهور ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السري فقال : هو الجدول . وعن الحسن : سيداً كريماً يعني عيسى عليه السلام . وروي أن خالد بن صفوان قال : له إن العرب تسمي الجدول سرياً فقال الحسن : صدقت ورجع إلى قوله . وقال : ابن عباس رضي الله عنهما : ضرب عيسى أو جبريل عليهما السلام بعقبه الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى النهر اليابس فاخضرت النخلة وأثمرت وأينعت ثمرتها فقيل لها
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
{ وَهْزِّي } حركي { إِلَيْكَ } إلى نفسك { بِجِذْعِ النخلة } قال أبو علي : الباء زائدة أي هزي جذع النخلة .
{ تساقط عَلَيْكِ } بإدغام التاء الأولى في الثانية : مكي ومدني وشامي وأبو عمرو وعلي وأبو بكر ، والأصل تتساقط بإظهار التاءين { وتساقط } بفتح التاء والقاف وطرح التاء الثانية وتخفيف السين : حمزة . و { يساقط } بفتح الياء والقاف وتشديد السين : يعقوب وسهل وحماد ونصير . و { تساقط } حفص من المفاعلة . و { تُسقِطْ } و { يُسقِطْ } وتَسقُطْ ويَسقُطْ التاء للنخلة والياء للجذع فهذه تسع قراءات { رُطَباً } تمييز أو مفعول به على حسب القراءة { جَنِيّاً } طرياً وقالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت . وقيل : ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض من العسل { فَكُلِى } من الجني { واشربى } من السري { وَقَرّى عَيْناً } بالولد الرضي و { عينا } تمييز أي طيبي نفساً بعيسى وارفضي عنك ما أحزنك { فَإِمَّا } أصله إن ما فضمت إن الشرطية إلى ما وأدغمت فيها { تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فَقُولِى إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي فإن رأيت آدمياً يسألك عن حالك فقولي إني نذرت للرحمن صمتاً وإمساكاً عن الكلام ، وكانوا يصومون عن الكلام كما يصومون عن الأكل والشرب . وقيل : صياماً حقيقة وكان صيامهم فيه الصمت فكان إلتزامُه إلتزامَه ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت فصار ذلك منسوخاً فينا . وإنما أمرت أن تنذر السكوت لأن عيسى عليه السلام يكفيها الكلام بما يبرىء به ساحتها ولئلا تجادل السفهاء ، وفيه دليل على أن السكوت عن السفيه واجب وما قُدعَ سفيه بمثل الإعراض ولا أطلق عنانه بمثل العراض . وإنما أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة وقد تسمى الإشارة كلاماً وقولاً ألا ترى أن قول الشاعر في وصف القبور
وتكلمت عن أوجه تبلى ... وقيل : كان وجوب الصمت بعد هذا الكلام أو سوغ لها هذا القدر بالنطق { فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً } آدميا .
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
{ فَأَتَتْ بِهِ } بعيسى { قَوْمَهَا } بعد ما طهرت من نفاسها { تَحْمِلُهُ } حال منها أي أقبلت نحوهم حاملة إياه فلما رأوه معها { قَالُواْ يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } بديعاً عجيباً والفري القطع كأنه يقطع العادة { يَاأُخْتَ هارون } وكان أخاها من أبيها ومن أفضل بني إسرائيل ، أو هو أخو موسى عليه السلام وكانت من أعقابه وبينهما ألف سنة وهذا كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم ، أو رجل صالح أو طالح من زمانها شبهوها به في الصلاح أو شتموها به { مَا كَانَ أَبُوكِ } عمران { امرأ سَوْء } زانياً { وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ } حنة { بَغِيّاً } زانية { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } إلى عيسى أن يجيبهم وذلك أن عيسى عليه السلام قال لها : لا تحزني وأحيلي بالجواب علي . وقيل : أمرها جبريل بذلك . ولما أشارت إليه غضبوا وتعجبوا و { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلّمُ مَن كَانَ } حدث ووجد { فِى المهد } المعهود { صَبِيّاً } حال { قَالَ إِنّى عَبْدُ الله } ولما أسكتت بأمر الله لسانها الناطق أنطق الله لها اللسان الساكت حتى اعترف بالعبودية وهو ابن أربعين ليلة أو ابن يوم ، روي أنه أشار بسبابته وقال بصوت رفيع { إني عبد الله } وفيه رد لقول النصارى { آتانيالكتاب } الإنجيل { وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } روي عن الحسن أنه كان في المهد نبياً وكلامه معجزته . وقيل : معناه أن ذلك سبق في قضائه أو جعل الآتي لا محالة كأنه وجد
.
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ } نفاعاً حيث كنت أو معلماً للخير { وَأَوْصَانِى } وأمرني { بالصلاة والزكاة } إن ملكت مالاً . وقيل : صدقة الفطر أو تطهير البدن ، ويحتمل وأوصاني بأن آمركم بالصلاة والزكاة { مَا دُمْتُ حَياً } نصب على الظرف أي مدة حياتي { وَبَرّاً بِوَالِدَتِى } عطفاً على { مباركاً } أي باراً بها أكرمها وأعظمها { وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً } متكبراً { شَقِيّاً } عاقاً { والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ } { يوم } ظرف والعامل فيه الخبر وهو { علي } { وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً } أي ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلي إن كان حرف التعريف للعهد ، وإن كان للجنس فالمعنى وجنس السلام علي ، وفيه تعريض باللعنة على أعداء مريم وابنهالأنه إذا قال : وجنس السلام على ، وفيه تعريف باللغة على أعداء مريم وابنها لأنه إذا قال وجنس السلام عليّ ، فقد عرض بأن ضده عليكم إذ المقام مقام مناكرة وعناد فكان مئنة لمثل هذا التعريض .
{ ذلك } مبتدأ { عِيسَى } خبره { ابن مَرْيَمَ } نعته أو خبر ثان أي ذلك الذي قال : إني كذا وكذا عيسى ابن مريم لا كما قالت النصارى : إنه إله أو ابن الله { قَوْلَ الحق } كلمة الله فالقول الكلمة والحق الله ، وقيل : له كلمة الله لأنه ولد بقوله كن بلا واسطة أب . وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف ، أو بدل من عيسى . ونصبه شامي وعاصم على المدح أو على المصدر أي أقول قول الحق هو ابن مريم وليس بإله كما يدعونه { الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ } يشكون من المرية الشك أو يختلفون من المراء ، فقالت اليهود : ساحر كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة .
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{ مَا كَانَ للَّهِ } ما ينبغي له { أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } جيء ب { من } لتأكيد النفي { سبحانه } نزه ذاته عن اتخاذ الولد { إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } بالنصب شامي أي كما قال : لعيسى كن فكان من غير أب ومن كان متصفاً بهذا كان منزها أن يشبه الحيوان الوالد { وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } بالكسر شامي وكوفي على الابتداء وهو من كلام عيسى يعني كما أنا عبده فأنتم عبيده ، علي وعليكم أن نعبده . ومن فتح عطف على { بالصلاة } أي وأوصاني بالصلاة وبالزكاة وبأن الله ربي وربكم ، أو علقه بما بعده أي لأن الله ربي وربكم فاعبدوه { هذا } الذي ذكرت { صراط مُّسْتَقِيمٍ } فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً .
{ فاختلف الأحزاب } الحزب الفرقة المنفردة برأيها عن غيرها وهم ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكانية { مِن بَيْنِهِمْ } من بين أصحابه أو من بين قومه أو من بين الناس ، وذلك أن النصارى اختلفوا في عيسى حين رفع ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة كانوا عندهم أعلم أهل زمانهم وهم : يعقوب ونسطور وملكان . فقال يعقوب : هو الله هبط إِلى الأرض ثم صعد إلى السماء . وقال : نسطور كان ابن الله أظهره ما شاء ثم رفعه إليه . وقال الثالث : كذبوا كان عبداً مخلوقاً نبياً فتبع كل واحد منهم قوم { فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ } من الأحزاب إذ الواحد منهم على الحق { مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } هو يوم القيامة أو من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وأن تشهد عليهم
الملائكة والأنبياء وجوارحهم بالكفر ، أو من مكان الشهادة أو وقتها ، أو المراد يوم اجتماعهم للتشاور فيه وجعله عظيماً لفظاعة ما شهدوا به في عيسى { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } الجمهور على أن لفظه أمر ومعناه التعجب والله تعالى لا يوصف بالتعجب ولكن المراد أن إسماعهم وإبصارهم جدير بأن يتعجب منهما بعدما كانوا صما وعمياً في الدنيا . قال قتادة : إن عموا وصموا عن الحق في الدنيا فما أسمعهم وما أبصرهم بالهدى يوم لا ينفعهم! و { بهم } مرفوع المحل على الفاعلية «كأكرم بزيد» فمعناه كرم زيد جداً { لكن الظالمون اليوم } أقيم الظاهر مقام المضمر أي لكنهم اليوم في الدنيا بظلمهم أنفسهم حيث تركوا الاستماع والنظر حين يجدي عليهم ووضعوا العبادة في غير موضعها { فِى ضلال } عن الحق { مُّبِينٌ } ظاهر وهو اعتقادهم عيسى إلها معبوداً مع ظهور آثار الحدث فيه إشعاراً بأن لا ظلم أشد من ظلمهم .
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
{ وَأَنذِرْهُمْ } خوفهم { يَوْمَ الحسرة } يوم القيامة لأنه يقع فيه الندم على مافات ، وفي الحديث « إذا رأوا منازلهم في الجنة أن لو آمنوا » { إِذْ } بدل من { يوم الحسرة } أو ظرف للحسرة وهو مصدر { قُضِىَ الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } هنا عن الاهتمام لذلك المقام { وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } لا يصدقون به { وهم } { وهم } حالان أي وأنذرهم على هذا الحال غافلين غير مؤمنين { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا } أي نتفرد بالملك والبقاء عند تعميم الهلك والفناء وذكر من لتغليب العقلاء { وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } بضم الياء وفتح الجيم وفتح الياء : يعقوب أي يردون فيجازون جزاءً وفاقاً .
{ واذكر } لقومك { فِى الكتاب } القرآن { إِبْرَاهِيمَ } قصته مع أبيه { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } بغير همز وهمزة نافع . قيل : الصادق المستقيم في الأفعال والصديق المستقيم في الأحوال ، فالصديق من أبنية المبالغة ونظيرة الضحيك والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله أي كان مصدقاً لجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبياً في نفسه ، وهذه الجملة وقعت اعتراضاً بين إبراهيم وبين ما هو بدل منه وهو .
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
{ إِذْ قَالَ } وجاز أن يتعلق { إذا } ب { كان } أو ب { صديقاً نبياً } أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم كقوله { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فالله عز وعلا هو ذاكره ومورده في تنزيله { لأَِبِيهِ ياأبت } بكسر التاء وفتحها . ابن عامر والتاء عوض من ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } المفعول فيهما منسي غير منوي ويجوز أن يقدر أي لا يسمع شيئاً ولا يبصر شيئاً { وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } يحتمل أن يكون شيئاً في موضع المصدر أي شيئاً من الإغناء وأن يكون مفعولاً به من قولك أغن عني وجهك أي بعد { ياأبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم } الوحي أو معرفة الرب { مَا لَمْ يَأْتِكَ } «ما» في { ما لا يسمع } و { ما لم يأتك } يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة { فاتبعنى أَهْدِكَ } أرشدك { صِرَاطاً سَوِيّاً } مستقيماً { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } لا تطعه فيما سوَّل من عبادة الصنم { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } عاصياً . { ياأبت إِنّى أَخَافُ } قيل أَعلم { أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً } قرينا في النار تليه ويليك فانظر في نصيحته كيف راعى المجاملة والرفق والخلق الحسن كما أمر ففي الحديث " «أوحي إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار» " فطلب منه أولاً العلة في خطئه طلب منه على تماديه موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن من يعبد أشرف الخلق منزلة وهم الأنبياء كان محكوماً عليه بالغي المبين فكيف بمن يعبد حجراً أو شجراً لا يسمع ذكر عابده ولا يرى هيئات عبادته ولا يدفع عنه بلاء ولا يقضي له حاجة؟ ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقاً به متلطفاً ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي شيئاً من العلم ليس معك وذلك علم الدلالة على الطريق السوي ، فهب أني وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ، ثم ثلث بنهيه عما كان عليه بأن الشيطان الذي عصى الرحمن الذي جميع النعم منه أوقعك في عبادة الصنم وزينها لك فأنت عابده في الحقيقة ، ثم ربَّع بتخويفه سوء العاقبة وما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال مع مراعاة الأدب حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذاب لاصق به بل قال : أخاف أن يمسك عذاب بالتنكير المشعر بالتقليل كأنه قال : إني أخاف أن يصيبك نَفَيان من عذاب الرحمن وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب كما أن رضوان الله أكبر من الثواب في نفسه وصدر كل نصيحة بقوله { يا أبت } توسلاً إليه واستعطافاً وإشعاراً بوجوب احترام الأب وإن كان كافراً فثم .
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{ قَالَ } آزر توبيخاً : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ الِهَتِى ياإبراهيم } أي أترغب عن عبادتها فناداه باسمه ولم يقابل { يا أبت } ب «يا بني» وقدم الخبر على المبتدأ لأنه كان أهم عنده { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } عن شتم الأصنام { لأرْجْمْتَّكَ } لأقتلنك بالرجام أو لأضربنك بها حتى تتباعد أو لأشتمنك { واهجرنى } عطف على محذوف يدل عليه { لأرجمنك } تقديره فاحذرني واهجرني { مَلِيّاً } ظرف أي زماناً طويلاً من الملاوة { قَالَ سلام عَلَيْكَ } سلام توديع ومتاركة أو تقريب وملاطفة ولذا وعده بالاستغفار بقوله : { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي } سأسأل الله أن يجعلك من أهل المغفرة بأن يهديك للإسلام { إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً } ملطفاً بعموم النعم أو رحيماً أو مكرماً والحفاوة الرأفة والرحمة والكرامة .
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ } أراد بالاعتزال المهاجرة من أرض بابل إلى الشام { وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي ما تعبدون من أصنامكم { وادعوا } وأعبد { رَبّى } ثم قال تواضعاً وهضماً للنفس ومعرضاً بشقاوتهم بدعاء آلهتهم { عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبّى شَقِيّا } أي كما شقيتم أنتم بعبادة الأصنام { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } فلما اعتزل الكفار ومعبودهم { وَهَبْنَا لَهُ إسحاق } ولداً { وَيَعْقُوبَ } نافلة ليستأنس بهما { وَكُلاًّ } كل واحد منهما { جَعَلْنَا نَبِيّاً } أي لما ترك الكفار الفجار لوجهه عوضه أولاداً مؤمنين أنبياء { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مّن رَّحْمَتِنَا } هي المال والولد { وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ } ثناء حسناً وهو الصلاة على إبراهيم وآل إبراهيم في الصلوات ، وعبر باللسان عما يوجد باللسان كما عبر باليد عما يطلق باليد وهي العطية { عَلِيّاً } رفيعاً مشهوراً .
{ واذكر فِى الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } كوفي : غير المفضل ، أي أخلصه الله واصطفاه ، و { مخلِصا } بالكسر غيرهم أي أخلص هو العبادة لله تعالى فهو مخلص بماله من السعادة بأصل الفطرة ، ومخلص فيما عليه من العبادة بصدق الهمة { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع { وناديناه } دعوناه وكلمناه ليلة الجمعة { مِن جَانِبِ الطور } هو جبل بين مصر ومدين { الأيمن } من اليمين أي من ناحية اليمين ، والجمهور على أن المراد أيمن موسى عليه السلام لأن الجبل لا يمين له ، والمعنى أنه حين أقبل من مدين يريد مصر نودي من الشجرة وكانت في جانب الجبل على يمين موسى عليه السلام { وَقَرَّبْنَاهُ } تقريب منزلة ومكانة لا منزل ومكان { نَجِيّاً } حال أي مناجياً كنديم بمعنى منادم .
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا } من أجل رحمتنا له وترؤفنا عليه { أَخَاهُ } مفعول { هارون } بدل منه { نَبِيّاً } حال أي وهبنا له نبوة أخيه وإلا فهارون كان أكبر سناً منه .
{ واذكر فِى الكتاب إسماعيل } هو ابن إبراهيم في الأصح { إِنَّهُ كَانَ صادق الوعد } وافيه . وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يعود إليه فانتظره سنة في مكانه حتى عاد ، وناهيك أنه وعد من نفسه الصبر على الذبح فوفى . وقيل لم يعد ربه موعداً إلا أنجزه ، وإنما خصه بصدق الوعد وإن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً له ولأنه المشهور من خصاله { وَكَانَ رَسُولاً } إلى جرهم { نَبِيّاً } مخبراً منذراً { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ } أمته لأن النبي أبو أمته وأهل بيته وفيه دليل على أنه لم يداهن غيره { بالصلاة والزكاة } يحتمل أنه إنما خصت هاتان العبادتان لأنهما أما العبادات البدنية والمالية { وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً } قرئ { مرضوا } على الأصل { واذكر فِى الكتاب إِدْرِيسَ } هو أخنوخ أول مرسل بعد آدم عليه السلام ، وأول من خط بالقلم وخاط اللباس ونظر في علم النجوم والحساب واتخذ الموازين والمكاييل والأسلحة فقاتل بني قابيل . وقولهم سمي به لكثرة دراسته كتب الله لا يصح لأنه لو كان «أفعيلاً» من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفاً فامتناعه من الصرف دليل العجمة { إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً نَّبِيّاً } أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } هو شرف النبوة والزلفى عند الله . وقيل : معناه رفعته الملائكة إلى السماء الرابعة ، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج فيها . وعن الحسن : إلى الجنة لا شيء أعلى من الجنة وذلك أنه حبب لكثرة عبادته إلى الملائكة فقال : لملك الموت أذقني الموت يهن عليّ ففعل ذلك بإذن الله فحيى وقال : أدخلني النار أزدد رهبة ففعل ، ثم قال : أدخلني الجنة أزدد رغبة ، ثم قال : اخرج فقال : قد ذقت الموت ووردت النار فما أنا بخارج من الجنة فقال الله عز وجل : بإذني فعل وبإذني دخل فدعه .
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
{ أَوْلَئِكَ } إشارة إلى المذكورين في السورة من زكرياء إلى إدريس { الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين } «من» للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم { مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ } «من» للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } إبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه ولد سام بن نوح { وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم } إسماعيل وإسحاق ويعقوب { وإسراءيل } أي ومن ذرية إسرائيل أي يعقوب وهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى لأن مريم من ذريته { وَمِمَّن } يحتمل العطف على «من» الأولى والثانية { هَدَيْنَا } لمحاسن الإسلام { واجتبينا } من الأنام أو لشرح الشريعة وكشف الحقيقة { إذا تتلى عليهم ءايات الرحمن } أي إذا تليت عليهم كتب الله المنزلة وهو كلام مستأنف . إن جعلت { الذين } خبراً ل { أولئك } وإن جعلته صفة له كان خبراً . { يتلى } بالياء : قتيبة لوجود الفاصل مع أن التأنيث غير حقيقي { خَرُّواْ سُجَّداً } سقطوا على وجوههم رغبةً { وَبُكِيّاً } باكين رهبة جمع باكٍ كسجود وقعود في جمع ساجد وقاعد في الحديث " اتلوا القرآن وابكوا وإن لم تبكوا فتباكوا " وعن صالح المري : قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي يا صالح : " هذه القراءة فأين البكاء؟ " ويقول في سجود التلاوة سبحان ربي الأعلى ثلاثاً .
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ } فجاء من بعد هؤلاء المفضلين { خَلْفٌ } أولاد سوء وبفتح اللام العقب الخير . عن ابن عباس : هم اليهود { أَضاعُوا الصلاة } تركوا الصلاة المفروضة { واتبعوا الشهوات } ملاذ النفوس . وعن عليّ رضي الله عنه : من بنى الشديد وركب المنظور ولبس المشهور . وعن قتادة رضي الله عنه : هو في هذه الأمة { فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً } جزاء غي وكل شر عند العرب غي وكل خير رشاد . وعن ابن عباس وابن مسعود : هو وادٍ في جهنم أعدّ للمصرين على الزنا وشارب الخمر وآكل الربا والعاق وشاهد الزور .
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{ إِلاَّ مَن تَابَ } رجع عن كفره { وَآمَنَ } بشرطه { وَعَمِلَ صالحا } بعد إيمانه { فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة } بضم الياء وفتح الخاء : مكي وبصري وأبو بكر { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } أي لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم ولا يمنعونه بل يضاعف لهم أو لا يظلمون شيئاً من الظلم { جنات } بدل من { الجنة } لأن الجنة تشتمل على جنات عدن لأنها جنس أو نصب على المدح { عَدْنٍ } معرفة لأنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة أو علم لأرض الجنة لكونها مقام إقامة { التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } أي عباده التائبين المؤمنين الذين يعملون الصالحات كما سبق ذكرهم ولأنه أضافهم إليه وهو للاختصاص وهؤلاء أهل الاختصاص { بالغيب } أي وعدها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها { إِنَّهُ } ضمير الشأن أو ضمير الرحمن { كَانَ وَعْدُهُ } أي موعوده وهو الجنة { مَأْتِيّاً } أي هم يأتونها { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا } في الجنة { لَغْواً } فحشاً أو كذباً أو ما لا طائل تحته من الكلام وهو المطروح منه ، وفيه تنبيه على وجوب تجنب اللغو واتقائه حيث نزه الله عنه داره التي لا تكليف فيها { إِلاَّ سلاما } أي لكن يسمعون سلاماً من الملائكة أو من بعضهم على بعض ، أو لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة فهو استثناء منقطع عند الجمهور . وقيل : معنى السلام هو الدعاء بالسلامة ولما كان أهل دار السلام أغنياء عن الدعاء بالسلامة ، كان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي يؤتون بأرزاقهم على مقدار طرفي النهار من الدنيا إذ لا ليل ولا نهار ، ثم لأنهم في النور أبداً وإنما يعرفون مقدار النهار برفع الحجب ومقدار الليل بإرخائها . والرزق بالبكرة والعشي أفضل العيش عند العرب فوصف الله جنته بذلك . وقيل أراد دوام الرزق كما تقول «أنا عند فلان بكرة وعشياً» تريد الدوام .
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
{ تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا } أي نجعلها ميراث أعمالهم يعني ثمرتها وعاقبتها . وقيل : يرثون المساكن التي كانت لأهل النار آمنوا لأن الكفر موت حكماً { مَن كَانَ تَقِيّاً } عن الشرك .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال : « يا جبريل ما منعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا » فنزل { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ } والتنزل على معنيين معنى النزول على مهل ومعنى النزول على الإطلاق والأول أليق هنا يعني أن نزولنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } أي له ما قدامنا وما خلفنا من الأماكن وما نحن فيها فلا نتمالك أن ننتقل من مكان إلى مكان إلا بأمر الملك ومشيئته ، وهو الحافظ العالم بكل حركة وسكون وما يحدث من الأحوال لا تجوز عليه الغفلة والنسيان فأنى لنا أن نتقلب في ملكوته إلا إذا أذن لنا فيه { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } بدل من { ربك } أو خبر مبتدأ محذوف أي هو رب السماوات والأرض . ثم قال : لرسوله لما عرفت أنه متصف بهذه الصفات { فاعبده } فاثبت على عبادته { واصطبر لِعِبَادَتِهِ } أي اصبر على مكافأة الحسود ، لعبادة المعبود ، واصبر على المشاق ، لأجل عبادة الخلاق ، أي لتتمكن من الإتيان بها { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } شبيها ومثلاً ، أو هل يسمى أحد باسم الله غيره لأنه مخصوص بالمعبود بالحق أي إذا صح أن لا معبود توجه إليه العباد العبادة إلا هو وحده لم يكن بد من عبادته والاصطبار على مشاقها .
فتهافت أبيَّ بن خلف عظماً وقال : أنبعث بعدما صرنا كذا؟ فنزل
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
{ وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } والعامل في { إذا } ما دل عليه الكلام وهو أبعث أي إذا مامت أبعث وانتصابه ب { أخرج } ممتنع لأن ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها فلا تقول «اليوم لزيد قائم» ولام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال وتؤكد مضمون الجملة ، فلما جامعت حرف الاستقبال خلصت للتوكيد واضمحل معنى الحال . و«ما» في «إذا ما» للتوكيد أيضاً فكأنه قال : «أحقًّا إنا سنخرج من القبور أحياء حين يتمكن فينا الموت والهلاك» على وجه الاستنكار والاستبعاد . وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ، ومنه جاء إنكارهم { أَوْ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان } خفيف شامي ونافع وعاصم من الذكر ، والسائر بتشديد الذال والكاف وأصله يتذكر كقراءة أبيّ فأدغمت التاء في الذال أي أو لا يتدبر ، والواو عطفت { لا يذكر } على { يقول } ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف يعني أيقول ذلك ولا يتذكر حال النشأة الأولى حتى لا ينكر النشأة الأخرى فإن تلك أدل على قدرة الخالق حيث أخرج الجواهر والأعراض من العدم إلى الوجود . وأما الثانية فليس فيها إلا تأليف الأجزاء الموجودة وردها إلى ما كَانتَ عليه مجموعة بعد التفريق { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } هو ذليل على ما بينا وعلى أن المعدوم ليس بشيء خلافاً للمعتزلة { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ } أي الكفار المنكرين للبعث { والشياطين } الواو للعطف وبمعنى «مع» أوقع أي يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة . وفي أقسام الله باسمه ومضافاً إلى رسوله تفخيم لشأن رسوله { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } حال جمع جاث أي بارك على الركب ووزنه «فعول» لأن أصله «جثوو» كسجود وساجد أي يعتلون من المحشر إلى شاطىء جهنم عتلا على حالهم التي كانوا عليها في الموقف جثاة على ركبهم غير مشاة على أقدامهم .
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
{ ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ } طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } جرأة أو فجوراً أي لنخرجن من كل طائفة من طوائف الغي أعتاهم فأعتاهم ، فإذا اجتمعوا طرحناهم في النار على الترتيب ، نقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم . وقيل : المراد بأشدهم عتياً الرؤساء لتضاعف جرمهم لكونهم ضلالاً ومضلين . قال سيبويه : { أيهم } مبني على الضم لسقوط صدر الجملة التي هي صلته وهو «هو» من «هو أشد» حتى لو جيء به لأعرب بالنصب ، وقيل : أيهم هو أشد وهذا لأن الصلة توضح الموصول وتبينه كما أن المضاف إليه يوضح المضاف ويخصصه ، فكما أن خذف المضاف إليه في «من قبلُ» يوجب بناء المضاف وجب أن يكون حذف الصلة أو شيء منها موجباً للبناء وموضعها نصب ب «نزع» ، وقال الخليل : هي معربة وهو مبتدأ وأشد خبره وهو رفع على الحكاية تقديره : لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن عتياً . ويجوز أن يكون النزع واقعاً على { من كل شيعة } كقوله { ووهبنا لهم من رحمتنا } أي لننزعن بعض كل شيعة فكأن قائلاً قال : من هم؟ فقيل : أيهم أشد عتياً ، و«على» يتعلق بأفعل أي عتوهم أشد على الرحمن { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا } أحق بالنار { صِلِيّاً } تمييز أو دخولاً والباء تتعلق ب { أولى } { وَإِن مّنكُمْ } أحد { إِلاَّ وَارِدُهَا } داخلها والمراد النار والورود : الدخول عند علي وابن عباس رضي الله عنهم وعليه جمهور أهل السنة لقوله تعالى : { فأوردهم النار } [ هود : 98 ] ولقوله تعالى { لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها } [ الأنبياء : 99 ] ولقوله { ثم تنجى الذين اتقوا } إذ النجاة إنما تكون بعد الدخول لقوله عليه السلام : " الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم وتقول النار للمؤمن : جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي " وقيل : الورود بمعنى الدخول لكنه يختص بالكفار لقراءة ابن عباس { وإن منهم } وتحمل القراءة المشهورة على الإلتفات . وعن عبد الله : الورود الحضور لقوله تعالى : { ولما ورد ماء مدين } [ القصص : 23 ] وقوله { أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : 101 ] وأجيب عنه بأن المراد عن عذابها . وعن الحسن وقتادة : الورود المرور على الصراط لأن الصراط ممدود عليها فيسلم أهل الجنة ويتقاذف أهل النار . وعن مجاهد : ورود المؤمن النار هو مس الحمى جسده في الدنيا لقوله عليه السلام : " الحمى حظ كل مؤمن من النار " وقال رجل من الصحابة لآخر : أيقنت بالورود؟ قال : نعم . قال : وأيقنت بالصدر؟ قال : لا . قال : ففيم الضحك وفيم التثاقل؟ { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } أي كان ورودهم واجباً كائناً محتوماً والحتم مصدر حتم الأمر إذا أوجبه فسمى به الموجب كقولهم «ضرب الأمير» .
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{ ثُمَّ نُنَجّى } وعلي بالتخفيف { الذين اتقوا } عن الشرك وهم المؤمنون { وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } فيه دليل على دخول الكل لأنه قال : { ونذر } ولم يقل وندخل ، والمذهب أن صاحب الكبيرة قد يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو لا محاله . وقالت : المرجئة الخبيثة : لا يعاقب لأن المعصية لا تضر مع الإسلام عندهم . وقالت المعتزلة : يخلد .
{ وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا } أي القرآن { بينات } ظاهرات الإعجاز أو حججاً وبراهين حال مؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً } [ البقرة : 91 ] إذ آيات الله لا تكون إلا واضحة وحججاً { قَالَ الذين كَفَرُواْ } أي مشركو قريش وقد رجلوا شعورهم وتكلفوا في زيهم { لِلَّذِينَ ءامَنُواْ } للفقراء ورؤوسهم شعثة وثيابهم خشنة { أَىُّ الفريقين } نحن أم أنتم { خَيْرٌ مَّقَاماً } بالفتح وهو موضع القيام والمراد المكان والمسكن . وبالضم مكي وهو موضع الإقامة والمنزل { وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } مجلسا يجتمع القوم فيه للمشاورة . ومعنى الآية أن الله تعالى يقول : إذا أنزلنا آية فيها دلائل وبراهين أعرضوا عن التدبر فيها إلى الافتخار بالثروة والمال وحسن المنزل والحال فقال تعالى :
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } ف { كم } مفعول { أهلكنا } و { من } تبيين لإبهامها أي كثيراً من القرون أهلكنا وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم { هُمْ أَحْسَنُ } في محل النصب صفة ل { كم } ألا ترى أنك لو تركت { هم } كان أحسن نصباً على الوصفية { أَثَاثاً } هو متاع البيت أو ماجد من الفرش { وَرِئياً } منظراً وهيئة فعل بمعنى مفعول من رأيت و { رياً } بغير همز مشدداً : نافع وابن عامر على قلب الهمزة ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم الإدغام ، أو من الري الذي هو النعمة { قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة } الكفر { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } جواب { من } لأنها شرطية وهذا الأمر بمعنى الخبر أي من كفر مد له الرحمن يعني أمهله وأملى له في العمر ليزداد طغياناً وضلالاً كقوله تعالى { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] وإنما أخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك وأنه مفعول لا محالة كالمأمور به الممتثل ليقطع معاذير الضلال .
{ حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ } هي متصلة بقوله { خير مقاماً وأحسن ندياً } وما بينهما اعتراض أي لا يزالون يقولون هذا القول إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { إِمَّا العذاب } في الدنيا وهو تعذيب المسلمين إياهم بالقتل والأسر { وَإِمَّا الساعة } أي القيامة وما ينالهم من الخزي والنكال فهما بدلان مما يوعدون { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } منزلاً { وَأَضْعَفُ جُنداً } أعواناً وأنصاراً أي فحينئذٍ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكاناً وأضعف جنداً لا خير مقاماً وأحسن ندياً ، وأن المؤمنين على خلاف صفتهم . وجاز أن تتصل بما يليها ، والمعنى إن الذين في الضلالة ممدود لهم في ضلالتهم لا ينفكون عن ضلالتهم إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين أو يشاهدوا الساعة . وحتى هي التي يحكي بعدها الجمل ألا ترى أن الجملة الشرطية واقعة بعدها وهي قوله { إذا رأوا ما يوعدون . فسيعلمون } { وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى } معطوف على موضع { فليمدد } لوقوعه موضع الخبر تقديره : من كان في الضلالة مد أو يمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ، ويزيد المهتدين أي المؤمنين هدى ثباتاً على الاهتداء أو يقينا وبصيرة بتوفيقه { والباقيات الصالحات } أعمال الآخرة كلها أو الصلوات الخمس أو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر { خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا } مما يفتحر به الكافر { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي مرجعاً وعاقبة تهكم بالكفار لأنهم قالوا للمؤمنين { أي الفرقين خير مقاماً وأحسن ندياً } .
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
{ أَفَرَأَيْتَ الذى كَفَرَ بئاياتنا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } ثم . وبضم الواو وسكون اللام في أربعة مواضع ههنا وفي الزخرف ونوح حمزة وعلي جمع ولد كأسد في أسد ، أو بمعنى الولد كالعرب في العرب . ولما كانت رؤية الأشياء طريقاً إلى العلم بها وصحة الخبر عنها استعملوا أرأيت في معنى أخبر والفاء أفادت التعقيب كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك . وقوله { لأوتين } جواب قسم مضمر { أَطَّلَعَ الغيب } من قولهم «اطلع الجبل» إذا ارتقى إلى أعلاه ، الهمزه للاستفهام وهمزة الوصل محذوفة أي انظر في اللوح المحفوظ فرأى منيته { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } مؤثقاً أن يؤتيه ذلك أو العهد كلمة الشهادة . وعن الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاص بن وائل ، فقد رُوي أن خباب بن الأرت صاغ للعاص بن وائل حلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة فأنا أقضيك ثُم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذ { كَلاَّ } ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطىء فيما تصوره لنفسه فليرتدع عنه { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } أي قوله والمراد سنظهر له ونعلمه أنا كتبنا قوله لأنه كما قال : كتب من غير تأخير قال الله تعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وهو كقوله
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة ... أي علم وتبين بالانتساب أني لست بابن لئيمة { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب } نزيده من العذاب كما يزيد في الافتراء والاجتراء من المدد ، يقال مده وأمده { مَدّاً } أكد بالمصدر لفرط غضبه تعالى .
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
{ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة والمعنى مسمى ما يقول وهو المال والولد { وَيَأْتِينَا فَرْداً } حال أي بلا مال ولا ولد كقوله : { ولقد جئتمونا فرادى } [ الأنعام : 94 ] فما يجدي عليه تمينه وتألبه .
{ واتخذوا مِن دُونِ الله ءالِهَةً } أي اتخذ هؤلاء المشركون أصناماً يعبدونها { لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً } أي ليعتزوا بآلهتهمِ ويكونوا لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من العذاب { كَلاَّ } ردع لهم عما ظنوا { سَيَكْفُرُونَ بعبادتهم } الضمير للآلهة أي سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون ، أو للمشركين أي ينكرون أن يكونوا قد عبدوها كقوله : { والله ربنا ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] { وَيَكُونُونَ } أي المعبودون { عَلَيْهِمْ } على المشركين { ضِدّاً } خصماً لأن الله تعالى ينطقهم فيقولون : يا رب عذب هؤلاء الذين عبدونا من دونك . والضد يقع على الواحد والجمع وهو في مقابلة { لهم عزاً } والمراد ضد العز وهو الذل والهوان أي يكونون عليهم ضداً لما قصدوه أي يكونون عليهم ذلاً لا لهم عزاً ، وإن رجع الضمير في { سيكفرون } { ويكونون } إلى المشركين فالمعنى ويكونون عليهم أي أعداءهم ضداً أي كفرة بهم بعد أن كانوا يعبدونها ثم عجب نبيه عليه السلام بقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } أي خليناهم وإياهم من أرسلت البعير أطلقته أو سلطانهم عليهم بالإغواء { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } تغريهم على المعاصي إغراء والأز والهز إخوان ومعناهما التهييج وشدة الإزعاج .
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } بالعذاب { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } أي أعمالهم للجزاء وأنفاسهم للفناء ، وقرأها ابن السماك عند المأمون فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد .
{ يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } ركبانا على نوق رحالها ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت { وَنَسُوقُ المجرمين } الكافرين سوق الأنعام لأنهم كانوا أضل من الأنعام { إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } عطاشاً لأن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش وحقيقة الورد المسير إلى الماء فيسمى به الواردون ، فالوفد جمع وافد كركب وراكب والورد جمع وارد . ونصب { يوم } بمضمر أو يوم نحشر ونسوق نفعل بالفريقين ما لا يوصف أي اذكر يوم نحشر . ذكر المتقون بأنهم يجمعون إلى ربهم الذي غمرهم برحمته كما يفد الوفود على الملوك تبجيلاً لهم ، والكافرون بأنهم يساقون إلى النار كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء استخفافاً بهم { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } حال . والواو إن جعل ضميراً فهو للعباد ودل عليه ذكر المتقين والمجرمين لأنهم على هذه القسمة ، ويجوز أن يكون علامة للجمع كالتي في «أكلوني البراغيث» والفاعل من { اتخذ } لأنه في معنى الجمع ومحل { من اتخذ } رفع على البدل من واو { يملكون } أو على الفاعلية ، أو نصب على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة من اتخذ والمراد لا يمكلون أن يشفع لهم { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } بأن آمن . في الحديث " من قال : لا إله إلا الله كان له عند الله عهد " وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : " أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً " قالوا : وكيف ذلك؟ قال : " يقول كل صباح ومساء اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمداً عبدك ورسولك وإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الذين كان لهم عند الله عهد فيدخلون الجنة " أو يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها .
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
{ وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } أي النصارى واليهود ومن زعم أن الملائكة بنات الله { لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } خاطبهم بهذا الكلام بعد الغيبة وهو التفات ، أو أمر نبيه عليه السلام بأن يقول لهم ذلك؛ والإد العجب أو العظيم المنكر والإدة الشدة وأدّني الأمر أثقلني وعظم عليّ أدًّا { تَكَادُ السماوات } تقرب وبالياء نافع وعليّ { يَتَفَطَّرْنَ } وبالنون بصري وشامي وحمزة وخلف وأبو بكر . الانفطار من فطره إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه { مِنْهُ } من عظم هذا القول { وَتَنشَقُّ الأرض } تنخسف وتنفصل أجزاؤها { وَتَخِرُّ الجبال } تسقط { هَدّاً } كسراً أو قطعاً أو هدماً ، والهدة صوت الصاعقة من السماء وهو مصدر أي تهد هدّا من سماع قولهم أو مفعول له أو حال أي مهدودة { أَن دَعَوْا } لأن سموا ومحله جر بدل من الهاء في { منه } أو نصب مفعول له ، علل الخرور بالهد والهد بدعاء الولد للرحمن ، أو رفع فاعل { هداًّ } أي هدها دعاؤهم { للرحمن وَلَداً وَمَا يَنبَغِى للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } «انبغى» مطاوع بغى إذ طلب أي ما يتأتي له اتخاذ الولد وما يتطلب لو طلب مثلاً لأنه محال غير داخل تحت الصحة ، وهذا لأن اتخاذ الولد لحاجة ومجانسة وهو منزه عنهما . وفي اختصاص الرحمن وتكريره مرات بيان أنه الرحمن وحده لا يستحق هذا الاسم غيره ، لأن أصول النعم وفروعها منه فلينكشف عن بصرك غطاؤه ، فأنت وجميع ما عندك غطاؤه فمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن
.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
{ إِن كُلُّ مَن } نكرة موصوفة صفتها { فِى السماوات والأرض } وخبر { كل } { إِلاَّ ءَاتِي الرحمن } ووحد { آتى } و { آتيه } حملاً على لفظ { كل } وهو اسم فاعل من أتى وهو مستقبل أي يأتيه { عَبْداً } حال أي خاضعاً ذليلاً منقاداً ، والمعنى ما كل من في السموات والأرض من الملائكة والناس إلا هو يأتي الله يوم القيامة مقراً بالعبودية ، والعبودية والبنوة تتنافيان حتى لو ملك الأب ابنه يعتق عليه ونسبة الجميع إليه نسبة العبد إلى المولى فكيف يكون البعض ولداً والبعض عبداً! وقرأ ابن مسعود { آت الرحمن } على أصله قبل الإضافة { لَّقَدْ أحصاهم وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي حصرهم بعلمه وأحاط بهم { وَكُلُّهُمْ ءاتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } أي كل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفرداً بلا مال ولا ولد أو بلا معين ولا ناصر .
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } مودة في قلوب العباد قال الربيع يحبهم ويحببهم إلى الناس وفي الحديث يعطى المؤمن مِقَةً في قلوب الأبرار ومهابة في قلوب الفجار . وعن قتادة وهرم : ما أقبل العبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه . وعن كعب : ما يستقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء .
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ فَإِنَّمَا يسرناه } سهلنا القرآن { بِلَسَانِكَ } بلغتك حال { لِتُبَشّرَ بِهِ المتقين } المؤمنين { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } شداداً في الخصومة بالباطل أي الذين يأخذون في كل لديد أي شق من المراء والجدال جمْع ألدّ يَراد به أهل مكْة { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ } تخويف لهم وإنذار { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مّنْ أَحَدٍ } أي هل تجد أو ترى أو تعلم والإحساس الإدراك بالحاسة { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } صوتاً خفياً ومنه الركاز أي لما أتاهم عذابنا لم يبق شخص يرى ولا صوت يسمع يعني هلكوا كلهم فكذا هؤلاء إن أعرضوا عن تدبر ما أنزل عليك فعاقبتهم الهلاك فليهن عليك أمرهم ، والله أعلم .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{ طه } فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء ، أبو عمرو ، وأمالهما حمزة وعلي وخلف وأبو بكر ، وفخمهما على الأصل غيرهم . وما رُوي عن مجاهد والحسن والضحاك وعطاء وغيرهم أن معناه يا رجل فإن صح فظاهر وإلا فالحق ما هو المذكور في سوة البقرة { مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرءان } إن جعلت { طه } تعديداً لأسماء الحروف فهو ابتداء كلام ، وإن جعلتها اسماً للسورة احتملت أن تكون خبراً عنها وهي في موضع المبتدأ ، و { القرءان } ظاهر أوقع موقع المضمر لأنها قرآن وأن يكون جواباً لها وهي قسم { لتشقى } لتتعب لفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم وتحسرك على أن يؤمنوا ، أو بقيام الليل فإنه رُوي أنه عليه السلام صلى بالليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل : أبق على نفسك فإن لها عليك حقاً أي ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة { إِلاَّ تَذْكِرَةً } استثناء منقطع أي لكن أنزلناه تذكرة أو حال { لّمَن يخشى } لمن يخاف الله أو لمن يئول أمره إلى الخشية .
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
{ تَنْزِيلاً } بدل من { تَذْكِرَةٌ } إذا جعل حالاً ويجوز أن ينتصب ب «نزل» مضمراً أو على المدح أو ب { يخشى } مفعولاً أي أنزله الله تذكرة لمن يخشى تنزيل الله { مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات } { مِنْ } يتعلق ب { تَنْزِيلاً } صلة له { العلى } جمع العليا تأنيث الأعلى ووصف السماوات بالعلى دليل ظاهر على عظم قدرة خالقها { الرحمن } رفع على المدح أي هو الرحمن { عَلَى العرش } خبر مبتدأ محذوف { استوى } استولى . عن الزجاج ، ونبه بذكر العرش وهو أعظم المخلوقات على غيره . وقيل : لما كان الاستواء على العرش وهو سرير الملك مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك فقال استوى فلان على العرش أي ملك وإن لم يقعد على السرير ألبتة وهذا كقولك «يد فلان مبسوطة» أي جواد وإن لم يكن له يد رأساً ، والمذهب قول علي رضي الله عنه : الاستواء غير مجهول والتكييف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة لأنه تعالى كان ولا مكان فهو على ما كان قبل خلق المكان لم يتغير عما كان .
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } خبر ومبتدأ ومعطوف { وَمَا بَيْنَهُمَا } أي ذلك كله ملكه { وَمَا تَحْتَ الثرى } ما تحت سبع الأراضين أو هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة { وَإِن تَجْهَرْ بالقول } ترفع صوتك { فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر } ما أسررته إلى غيرك { وَأَخْفَى } منه وهو ما أخطرته ببالك أو ما أسررته في نفسك وما ستسره فيها { الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسماء الحسنى } أي هو واحد بذاته وإن افترقت عبارات صفاته رد لقولهم إنك تدعو آلهة حين سمعوا أسماءه تعالى والحسنى تأنيث الأحسن .
{ وَهَلْ } أي وقد { أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } خبره قفاه بقصة موسى عليه السلام ليتأسى به في تحمل أعباء النبوة بالصبر على المكاره ولينال الدرجة العليا كما نالها موسى .
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{ إِذْ رَأَى } ظرف لمضمر أي حين رأى { نَارًا } كان كيت وكيت أو مفعول به لاذكر . رُوي أن موسى عليه السلام استأذن شعيباً في الخروج إلى أمه وخرج بأهله فولد له ابن في الطريق في ليلة مظلمة مثلجة ، وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده فرأى عند ذلك ناراً في زعمه وكان نوراً { فَقَالَ لأَِهْلِهِ امكثوا } أقيموا في مكانكم { إِنّى آنَسْتُ } أبصرت { نَارًا } والإيناس رؤية شيء يؤنس به { لعلِّي ءاتيكم منها } بنى الأمر على الرجاء لئلا يعد ما ليس يستيقن الوفاء به { بِقَبَسٍ } نار مقتبسة في رأس عود أو فتيله { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } ذوي هدى أو قوماً يهدونني الطريق . ومعنى الاستعلاء في { عَلَى النار } أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها .
{ فَلَمَّا أتاها } أي النار وجد ناراً بيضاء تتوقد في شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها ، وكانت شجرة العناب أو العوسج ولم يجد عندها أحداً . ورُوي أنه كلما طلبها بعدت عنه فإذا تركها قربت منه فثم { نُودِىَ } موسى { يَا موسى إِنّى } بكسر الهمزة أي نود فقيل { يَا موسى إِنّى } أو لأن النداء ضرب من القول فعومل معاملته ، وبالفتح : مكي وأبو عمرو أي نودي بأني { أَنَاْ رَبُّكَ } { أَنَاْ } مبتدأ أو تأكيد أو فصل وكرر الضمير لتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . رُوي أنه لما نودي يا موسى قال : مَن المتكلم؟ فقال الله عز وجل : { أَنَاْ رَبُّكَ } . فعرف أنه كلام الله عز وجل بأنه سمعه من جميع جهاته الست وسمعه بجميع أعضائه .
{ فاخلع نَعْلَيْكَ } انزعهما لتصيب قدميك بركة الوادي المقدس ، أو لأنها كانت من جلد حمار ميت غير مدبوغ ، أو لأن الحفوة تواضع لله ومن ثم طاف السلف بالكعبة حافين ، والقرآن يدل على أن ذلك احترام للبقعة وتعظيم لها فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي { إِنَّكَ بالواد المقدس } المطهر أو المبارك { طُوًى } حيث كان منوّن : شامي وكوفي لأنه اسم علم للوادي وهو بدل منه ، وغيرهم بغير تنوين بتأويل البقعة . وقرأ أبو زيد بكسر الطاء بلا تنوين .
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{ وَأَنَا اخترتك } اصطفيتك للنبوة ، { وإنا اخترناك } حمزة { فاستمع لِمَا يُوحَى } إليك للذي يوحى أو للوحي ، واللام يتعلق ب { استمع } أو ب { اخترتك } { إِنَّنِى أَنَا الله لا إله إِلا أَنَاْ فاعبدنى } وحدني وأطعني { وأقم الصلاة لذكري } لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار أو لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثناء ، أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري ، أو لتكون لي ذاكراً غير ناس ، أو لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة لقوله : { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } [ النساء : 103 ] وقد حمل على ذكر الصلاة بعد نسيانها وذا يصح بتقدير حذف المضاف أي لذكر صلاتي ، وهذا دليل على أنه لا فريضة بعد التوحيد أعظم منها .
{ إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ } لا محالة { أَكَادُ } أريد عن الأخفش وقيل صلة { أُخْفِيهَا } قيل : هو من الأضداد أي أظهرها أو أسترها عن العباد فلا أقول هي آتية لإرادتي إخفاءها ، ولولا ما في الأخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من الحكمة وهو أنهم إذا لم يعلموا متى تقوم كانوا على وجل منها في كل وقت لما أخبرت به { لتجزى } متعلق ب { ءاتِيَةٌ } { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } بسعيها من خير أو شر { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } فلا يصرفنك عن العمل للساعة أو عن إقامة الصلاة أو عن الإيمان بالقيامة فالخطاب لموسى والمراد به أمته { مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } لا يصدق بها { واتبع هَوَاهُ } في مخالفة أمره { فتردى } فتهلك { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } «ما» مبتدأ و { تِلْكَ } خبره وهي بمعنى هذه و { بِيَمِينِكَ } حال عمل فيها معنى الإشارة أي قارة أو مأخوذة بيمينك . أو { تِلْكَ } موصول صلته { بِيَمِينِكَ } والسؤال للتنبيه لتقع المعجزة بها بعد التثبت ، أو للتوطين لئلا يهوله انقلابها حية ، أو للإيناس ورفع الهيبة للمكالمة .
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
{ قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا } أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِى } أخبط ورق الشجر على غنمي لتأكل { وَلِيَ فِيهَا مَأَرِبُ } { وَلِيُّ } حفص جمع مأربة بالحركات الثلاث وهي الحاجة { أخرى } والقياس أخر . وإنما قال { أخرى } رداً إلى الجماعة أو لنسق الآي وكذا { الكبرى } ولما ذكر بعضها شكراً أجمل الباقي حياء من التطويل ، أو ليسأل عنها الملك العلام فيزيد في الإكرام . والمآرب الأخر أنها كانت تماشيه وتحدثه وتحارب العدو والسباع وتصير رشاء فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل وتحمل زاده ويركزها فتثمر ثمرة يشتهيها ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام . والزيادة على الجواب لتعداد النعم شكراً ، أو لأنها جواب سؤال آخر لأنه لما قال { هِىَ عَصَايَ } قيل له : ما تصنع بها فأخذ يعدد منافعها .
{ قَالَ أَلْقِهَا ياموسى } اطرح عصاك لتفزع مما تتكىء عليه فلا تسكن إلا بنا وترى فيها كنه ما فيها من المآرب فتعتمد علينا في المطالب { فألقاها } فطرحها { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى } تمشي سريعاً قيل انقلبت ثعباناً يبتلع الصخر والشجر ، فلما رآها تبتلع كل شيء خاف . وإنما وصفت بالحية هنا وبالثعبان وهو العظيم من الحيات وبالجان وهو الدقيق في غيرها لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ، وجاز أن تنقلب حية صفراء دقيقة ثم يتزايد جرمها حتى تصير ثعباناً فأريد بالجان أول حالها وبالثعبان مآلها ، أو لأنها كانت في عظم الثعبان وسرعة الجان . وقيل : كان بين لحييها أربعون ذراعاً . ولما { قَالَ } له ربه { خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ } بلغ من ذهاب خوفه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها { سَنُعِيدُهَا } سنردها { سِيَرتَهَا الأولى } تأنيث الأول ، والسيرة : الحالة التي يكون عليها الإنسان غريزية كانت أو مكتسبة وهي في الأصل فعلة من السير كالركبة من الركوب ثم استعملت بمعنى الحالة والطريقة . وانتصبت على الظرف أي سنعيدها في طريقتها الأولى أي في حال ما كانت عصا . والمعنى نردها عصاً كما كانت ، وأرى ذلك موسى عند المخاطبة لئلا يفزع منها إذا انقلبت حية عند فرعون ، ثم نبه على آية أخرى فقال .
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } إلى جنبك تحت العضد وجناحا الإنسان جنباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما أي يميلهما عند الطيران والمعنى أدخلها تحت عضدك { تَخْرُجْ بَيْضَاء } لها شعاع كشعاع الشمس يغشى البصر { مِنْ غَيْرِ سُوء } برص { آيةً أُخرى } لنبوتك بيضاء وآية حالان معاً ومن غير سوء صلة بيضاء كقولك «ابيضت من غير سوء» وجاز أن ينتصب { ءايَةً } بفعل محذوف يتعلق به الأَمر .
{ لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتنا الكبرى } أي خذ هذه الآية أيضاً بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى العظمى ، أو نريك بهما الكبرى من آياتنا أو المعنى فعلنا ذلك لنريك من آياتنا الكبرى .
{ اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } جاوز حد العبودية إلى دعوى الربوبية ، ولما أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي وعرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج إلى صدر فسيح .
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{ قَالَ رَبّ اشرح لِي صَدْرِى } وسعه ليحتمل الوحي والمشاق ورديء الأخلاق من فرعون وجنده { وَيَسّرْ لِى أَمْرِى } وسهل علي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون . واشرح لي صدري آكد من اشرح صدري لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل لأنه يقول اشرح لي ويسر لي علم أن ثمة مشروحاً وميسراً ثم رفع الإبهام بذكر الصدر والأمر { واحلل } افتح { عُقْدَةً مّن لّسَانِي } وكان في لسانه رتة للجمرة التي وضعها على لسانه في صباه ، وذلك أن موسى أخذ لحية فرعون ولطمه لطمة شديدة في صغره فأراد قتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل فجعلت في طشت ناراً وفي طشت يواقيت ووضعتهما لدى موسى فقصد اليواقيت فأمال الملك يده إلى النار فرفع جمرة فوضعها على لسانه فاحترق لسانه فصار لكنة منها . وروي أن يده احترقت واجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال : إلى أي رب تدعوني؟ قال : إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها . و { مّن لّسَانِي } صفة لعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني ، وهذا يشعر بأنه لم تزل العقدة بكمالها وأكثرهم على ذهاب جميعها { يَفْقَهُواْ قَوْلِي } عند تبليغ الرسالة .
{ واجعل لّي وَزِيراً } ظهيراً اعتمد عليه من الوزر الثقل لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنته ، أو من الوزر الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلتجىء إليه في أموره ، أو معيناً من الموازرة وهي المعاونة ف { وَزِيراً } مفعول أول ل { اجَعَلَ } والثاني { مّنْ أَهْلِي } أو { لِي } أَوْ { وَزِيراً } مفعولاه وقوله { هارون } عطف بيان ل { وَزِيراً } وقوله { أَخِي } بدل أو عطف بيان آخر و { وَزِيراً } و { هارون } مفعولاه وقدم ثانيهما على أولهما عناية بأمر الوزارة { اشدد بِهِ أَزْرِى } قو به ظهري وقيل الأزر القوة { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي } اجعله شريكي في النبوة والرسالة . { اشدد } و { أشركه } على حكاية النفس شامي على الجواب ، والباقون على الدعاء والسؤال { كَيْ نُسَبّحَكَ } نصلي لك وننزهك تسبيحاً { كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } في الصلوات وخارجها { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } عالماً بأحوالنا فأجابه الله تعالى حيث { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } أعطيت مسؤولك فالسؤل الطلبة فعل بمعنى مفعول كخبز بمعنى مخبوز . { سولك } بلا همز : أبو عمرو .
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا } أنعمنا { عَلَيْكَ مَرَّةً } كرة { أخرى } قبل هذه ثم فسرها فقال { إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى } إلهاماً أو مناماً حين ولدت وكان فرعون يقتل أمثالك . و { إِذْ } ظرف ل { مَنَنَّا } ثم فسر ما يوحى بقوله { أَنِ اقذفيه } ألقيه { فِى التابوت } و { أن } مفسرة لأن الوحي بمعنى القول { فاقذفيه فِى اليم } النيل { فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل } الجانب وسمي ساحلاً لأن الماء يسحله أي يقشره ، والصيغة أمر ليناسب ما تقدم ومعناه الإخبار أي يلقيه اليم بالساحل { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } يعني فرعون والضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يفضي إلى تناثر النظم والمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل وإن كان هو التابوت لكن موسى في جوف التابوت .
رُوي أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا بصبي أصبح الناس وجهاً فأحبه فرعون حباً شديداً فذلك قوله { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مّنّى } يتعلق { مِنّي } ب { ألقيت } يعني إني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب فما رآه أحد إلا أحبه . قال قتادة : كان في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه { وَلِتُصْنَعَ } معطوف على محذوف تقديره وألقيت عليك محبة لتحب ولتصنع { على عَيْنِى } أي لتربى بمرأى مني وأصله من صنع الفرس أي أحسن القيام عليه يعني أنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به { وَلِتُصْنَعَ } بسكون اللام والجزم : يزيد على أنه أمر منه .
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ إِذْ تَمْشِى } بدل من { إِذْ أَوْحَيْنَا } لأن مشي أخته كان منة عليه { أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } رُوي أن أخته مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي امرأة فقالت : هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه فيربيه وأرادت بذلك المرضعة الأم . وتذكير الفعل للفظ { مِنْ } ، فقالوا : نعم فجاء بالأم فقبل ثديها وذلك قوله { فرجعناك } فرددناك { إلى أُمّكَ } كما وعدناها بقولنا { إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] { كَى تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك { وَلاَ تَحْزَنْ } على فراقك { وَقَتَلْتَ نَفْساً } قبطياً كافراً { فنجيناك مِنَ الغم } من القود . قيل الغم : القتل بلغة قريش وقيل : اغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله تعالى ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له باستغفاره { قَالَ رَبّ إِنّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فاغفر لِى } [ القصص : 16 ] ونجاه من فرعون بأن ذهب به من مصر إلى مدين { وفتناك فُتُوناً } ابتليناك ابتلاء بإيقاعك في المحن وتخليصك منها ، والفتون مصدر كالقعود أو جمع فتنة أي فتناك ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة . { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ } هي بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر . قال وهب : لبث عند شعيب ثمانياً وعشرين سنة ، عشر منها مهر لصفوراء ، وأقام عنده ثمان عشرة سنة بعدها حتى ولد له أولاد . { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } أي موعد ومقدار للرسالة وهو أربعون سنة { واصطنعتك لِنَفْسِي } اخترتك واصطفيتك لوحي ورسالتي لتتصرف على إرادتي ومحبتي . قال الزجاج : اخترتك لأمري وجعلتك القائم بحجتي والمخاطب بيني وبين خلقي كأني أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم .
{ اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بئاياتى } بمعجزاتي { وَلاَ تَنِيَا } تفترا من الونى وهو الفتور والتقصير { فِى ذِكْرِى } أي اتخذا ذكري جناحاً تطيران به أو أريد بالذكر تبليغ الرسالة فالذكر يقع على سائر العبادات وتبليغ الرسالة من أعظمها { اذهبا إلى فِرْعَوْنَ } كرر لأن الأول مطلق والثاني مقيد { إِنَّهُ طغى } جاوز الحد بإدعائه الربوبية { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيّناً } الطفا له في القول لما له من حق تربية موسى ، أو كنياه وهو من ذوي الكنى الثلاث : أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرة . أو عداه شباباً لا يهرم بعده وملكاً لا ينزع عنه إلا بالموت ، أو هو قوله { هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى } [ النازعات : 19 ] أي يخاف أن يكون الأمر كما تصفان فيجره إنكاره إلى الهلكة . وإنما قال { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } مع علمه أنه لا يتذكر لأن الترجي لهما ، أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يطمع أن يثمر عمله .
وجدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن إلزام الحجة وقطع المعذرة . وقيل : معناه لعله يتذكر متذكر أو يخشى خاش وقد كان ذلك من كثير من الناس . وقيل : { لَعَلَّ } من الله تعالى واجب وقد تذكر ولكن حين لم ينفعه التذكر . وقيل : تذكر فرعون وخشي وأراد اتباع موسى فمنعه هامان وكان لا يقطع أمراً دونه . وتليت عند يحيى بن معاذ فبكى وقال : هذا رفقك بمن يقول أنا إله فكيف بمن قال أنت الإله؟ وهذا رفقك بمن قال أنا ربكم الأعلى فكيف بمن قال سبحان ربي الأعلى .
{ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا } يعجل علينا بالعقوبة ومنه الفارط يقال فرط عليه أي عجل { أَوْ أَن يطغى } يجاوز الحد في الإساءة إلينا { قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا } أي حافظكما وناصركما { أَسْمِعْ } أقوالكما { وأرى } أفعالكما . قال ابن عباس رضي الله عنهما : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما { فَأْتِيَاهُ } أي فرعون { فَقُولا إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } إليك { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إسراءيل } أي أطلقهم عن الاستعباد والاسترقاق { وَلاَ تُعَذّبْهُمْ } بتكليف المشاق { قَدْ جئناك بِئَايَةٍ مّن رَّبّكَ } بحجة على صدق ما ادعيناه ، وهذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي { إِنَّا رَسُولاَ رَبّكَ } مجرى البيان والتفسير والتفصيل لأن دعوى الرسالة لا تثبث إلا ببينتها وهي المجيء بالآي فقال فرعون : وما هي؟ فأخرج يده لها شعاع كشعاع الشمس { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } أي سلم من العذاب من أسلم وليس بتحية . وقيل : وسلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين .
{ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب } في الدنيا والعقبى { على مَن كَذَّبَ } بالرسل { وتولى } أعرض عن الإيمان وهي أرجى آي القرآن لأنه جعل جنس السلام للمؤمن وجنس العذاب على المكذب وليس وراء الجنس شيء ، فأتياه وأديا الرسالة وقالا له ما أمرا به .
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } خاطبهما ثم نادى أحدهما لأن موسى هو الأصل في النبوة وهارون تابعه { قَالَ رَبُّنَا الذى أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ } { خَلَقَهُ } أول مفعولي { أعطى } أي أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه ويرتفقون به ، أو ثانيهما أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار ، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع ، وكذا الأنف والرجل واليد كل واحد منها مطابق للمنفعة المنوطة بها ، وقرأ نصير { خَلَقَهُ } صفة للمضاف أو للمضاف إليه أي أعطى كل شيء مخلوق عطاء { ثُمَّ هدى } عرف كيف يرتفق بما أعطى للمعيشة في الدنيا والسعادة في العقبى .
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } فما حال الأمم الحالية والرمم البالية ، سأله عن حال من تقدم من القرون وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد { قَالَ } موسى مجيباً { عِلْمُهَا عِندَ رَبّى } مبتدأ وخبر { فِى كتاب } أي اللوح خبر ثانٍ أي هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب ، وعلم أحوال القرون مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ { لاَّ يَضِلُّ رَبّى } أي لا يخطىء شيئاً يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له أي لا يخطىء في سعادة الناس وشقاوتهم { وَلاَ يَنسَى } ثوابهم وعقابهم . وقيل : لا ينسى ما علم فيذكره الكتاب ولكن ليعلم الملائكة أن معمول الخلق يوافق معلومه .
{ الذى } مرفوع صفة ل { رَبّى } أو خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على المدح { جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } كوفي وغيرهم { مهادا } وهما لغتان لما يبسط ويفرش { وَسَلَكَ } أي جعل { لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } طرقاً { وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } أي مطراً { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } بالماء . نقل الكلام من الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع للافتنان . وقيل : تم كلام موسى ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بقوله { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } وقيل : هذا كلام موسى أي فأخرجنا نحن بالحراثة والغرس { أزواجا } أصنافاً { مّن نبات } هو مصدر سمي به النابت فاستوى فيه الواحد والجمع { شتى } صفة للأزواج أو للنبات جمع شتيت كمريض ومرضى أي إنها مختلفة النفع واللون والرائحة والشكل بعضها للناس وبعضها للبهائم ، ومن نعمة الله تعالى أن أرزاقنا تحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجاتنا مما لا نقدر على أكله قائلين { كُلُواْ وارعوا أنعامكم } حال من الضمير في { فَأَخْرَجْنَا } والمعنى أخرجنا أصناف النبات آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها { إِنَّ فِى ذَلِكَ } في الذي ذكرت { لآيَاتٍ } لدلالات { لأُِوْلِي النهى } لذوي العقول واحدها نهية لأنها تنهى عن المحظور أو ينتهى إليها في الأمور { مِنْهَا } من الأرض { خلقناكم } أي أباكم آدم عليه السلام . وقيل : يعجن كل نطفة بشيء من تراب مدفنه فيخلق من التراب والنطفة معاً أو لأن النطفة من الأغذية وهي من الأرض { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } إذا متم فدفنتم { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } عند البعث { تَارَةً أخرى } مرة أخرى والمراد بإخراجهم أنه يؤلف أجزاءهم المتفرقة المختلطة بالتراب ويردهم كما كانوا أحياء ويخرجهم إلى المحشر ، عدد الله عليهم ما علق بالأرض من مرافقهم حيث جعلها لهم فراشاً ومهاداً يتقلبون عليها ، وسوى لهم فيها مسالك يترددون فيها كيف شاؤوا ، وأنبت فيها أصناف النبات التي منها أقواتهم وعلوفات بهائمهم وهي أصلهم الذي منه تفرعوا ، وأمهم التي منها ولدوا وهي كفانهم إذا ماتوا .
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
{ قَالُواْ إِنْ هاذان لساحران } يعني موسى وهارون . قرأ أبو عمرو { إن هَذينِ لساحران } وهو ظاهر ولكنه مخالف للإمام ، وابن كثير وحفص والخليل وهو أعرف بالنحو واللغة { إِنْ هاذان لساحران } بتخفيف { إن } مثل قولك «إن زيد لمنطلق» واللام هي الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة . وقيل : هي بمعنى «ما» واللام بمعنى إلا أي ما هذان إلا ساحران دليله قراءة أبيّ { إن ذان إلا ساحران } وغيرهم { إِنْ هاذان لساحران } قيل هي لغة بلحارث بن كعب وخثعم ومراد وكنانة فالتثنية في لغتهم بالألف أبداً فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب كعصا وسعدى قال :
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجد غايتاها
وقال الزجاج : إن بمعنى نعم ، قال الشاعر :
ويقلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنه
أي نعم والهاء للوقف . و { هذان } مبتدأ و { ساحران } خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على المبتدأ المحذوف تقديره : هذان لهما ساحران فيكون دخولهما في موضعها الموضوع لها وهو الابتداء ، وقد يدخل اللام في الخبر كما يدخل في المبتدأ قال :
خالي لأنت ومن جرير خاله ... قال : فعرضته على المبرد فرضيه وقد زيفه أبو عليّ . { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ } مصر { بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ } بدينكم وشريعتكم { المثلى } الفضلى تأنيث الأمثل وهو الأفضل { فَأَجْمِعُواْ } فأحكموا أي اجعلوه مجمعاً عليه حتى لا تختلفوا . { فَأَجْمِعُواْ } أبو عمرو ويعضده { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } { كَيْدَكُمْ } هو ما يكاد به { ثُمَّ ائتوا صَفّاً } مصطفين حال أمروا بأن يأتوا صفاً لأنه أهيب في صدور الرائين { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } وقد فاز من غلب وهو اعتراض .
{ قَالُواْ } أي السحرة { ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِيَ } عصاك أولاً { وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } ما معنا وموضع «أن» مع ما بعده فيهما نصب بفعل مضمر ، أو رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف معناه اختر أحد الأمرين ، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا . وهذا التخيير منهم استعمال أدب حسن معه وكأنه تعالى ألهمهم ذلك وقد وصلت إليهم بركته وعلم موسى اختيار إلقائهم أولاً حتى { قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } أنتم أولاً ليبرزوا ما معهم من مكايد السحر ويظهر الله سلطانه ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، ويسلط المعجزة على السحر فتمحقه فيصير آية نيرة للناظرين وعبرة بينة للمعتبرين فألقوا { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } يقال في { إِذَا } هذه : إذا المفاجأة والتحقيق أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصباً لها وجملة تضاف إليها ، وخصت في بعض المواضع بأن يكون ناصبها فعلاً مخصوصاً وهو فعل المفاجأة والجملة ابتدائية لا غير والتقدير : ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم والمعنى على مفاجأته حبالهم وعصيهم مخيلة إليه السعي { يُخَيَّلُ } وبالتاء : ابن ذكوان { إِلَيْهِ } إلى موسى { مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } رفع بدل اشتمال من الضمير في { يُخَيَّلُ } أي يخيل الملقى .
رُوي أنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت واهتزت فخيلت ذلك .
{ فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } أضمر في نفسه خوفاً ظنًّا منه أنها تقصده للجبلة البشرية أو خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه { قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } الغالب القاهر . وفي ذكر «إن» و «أنت» وحرف التعريف ولفظ العلو وهو الغلبة الظاهرة مبالغة بينة .
{ وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ } بسكون اللام والفاء وتخفيف القاف : حفص و { تَلْقَفْ } : ابن ذكوان ، الباقون { تَلْقَفْ } { مَا صَنَعُواْ } زوراً وافتعلوا أي اطرح عصاك تبتلع عصيهم وحبالهم . ولم يقل عصاك تعظيماً لها أي لا تحتفل بما صنعوا فإن ما في يمينك أعظم منها ، أو تحقيراً أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق العويد الفرد الذي في يمينك فإنه بقدرتنا يتلقفها على وحدته وكثرتها { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } كوفي غير عاصم سحر بمعنى ذي سحر أو ذوي سحر أو هم لتوغلهم في السحر كأنهم السحر ، و { كَيْدَ } بالرفع على القراءتين و «ما» موصولة أو مصدرية . وإنما وحد { ساحر } ولم يجمع لأن القصد في هذا الكلام إلى معنى الجنسية لا إلى معنى العدد ، فلو جمع لخيل أن المقصود هو العدد ألا ترى إلى قوله { وَلاَ يُفْلِحُ الساحر } أي هذا الجنس { حَيْثُ أتى } أينما كان فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فلعظم ما رأوا من الآية وقعوا إلى السجود فذلك قوله { فَأُلْقِىَ السحرة سُجَّداً } قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا فما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود ، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود ، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين . رُوي أنهم رأوا الجنة ومنازلهم فيها في السجود فرفعوا رؤوسهم ثم { قَالُواْ امَنَّا بِرَبّ هارون وموسى } وإنما قدم «هارون» هنا وأخر في الشعراء محافظة للفاصلة ولأن الواو لا توجب ترتيباً { قَالَ ءامَنتُمْ } بغير مد : حفص ، وبهمزة ممدودة : بصري وشامي وحجازي ، وبهمزتين : غيرهم { لَهُ قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ } أي لموسى . يقال : آمن له وآمن به { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذى عَلَّمَكُمُ السحر } لعظيمكم أو لمعلمكم ، تقول أهل مكة للمعلم : أمرني كبيري { فَلأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ } القطع من خلاف أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لأن كل واحد من العضوين يخالف الآخر بأن هذا يد وذاك رجل وهذا يمين وذاك شمال ، و «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشىء من مخالفة العضو ، ومحل الجار والمجرور النصب على الحال يعني لأقطعنها مختلفات لأنها إذا خالف بعضها بعضاً فقد اتصفت بالاختلاف ، شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف فلهذا قال { وَلأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النخل } وخص النخل لطول جذوعها { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً } أنا على ترك إيمانكم بي أو رب موسى على ترك الإيمان به . وقيل : يريد نفسه لعنه الله وموسى صلوات الله وسلامه عليه بدليل قوله { آمنتم له } واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله كقوله { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] { وأبقى } أدوم .
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
{ قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ } لن نختارك { على مَا جَاءنَا مِنَ البينات } القاطعة الدالة على صدق موسى { والذى فَطَرَنَا } عطف على { مَا جَاءنَا } أي لن نختارك على الذي جاءنا ولا على الذي خلقنا ، أو قسم وجوابه { لَن نُّؤْثِرَكَ } مقدم على القسم { فاقض مَا أَنتَ قَاضٍ } فاصنع ما أنت صانع من القتل والصلب قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... أي صنعهما أو احكم ما أنت حاكم { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } أي في هذه الحياة الدنيا فانتصب على الظرف أي إنما تحكم فينا مدة حياتنا .
{ أَنَاْ ءامَنَّا بِرَبّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خطايانا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ } «ما» موصولة منصوبة بالعطف على { خطايانا } { مِنَ السحر } حال من «ما» ، روي أنهم قالوا لفرعون : أرنا موسى نائماً ففعل فوجدوه تحرسه عصاه فقالوا : ما هذا بسحر الساحر إذا نام بطل سحره فكرهوا معارضته خوف الفضيحة فأكرههم فرعون على الإتيان بالسحر وضر فرعون جهله به ونفعهم علمهم بالسحر فكيف بعلم الشرع { والله خَيْرُ } ثواباً لمن أطاعه { وأبقى } عقاباً لمن عصاه وهو رد لقول فرعون { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } .
{ أَنَّهُ } هو ضمير الشأن { مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } كافراً { فَإِنَّ لَهُ } للمجرم { جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا } فيستريح بالموت { وَلاَ يحيى } حياة ينتفع بها { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً } مات على الإيمان { قَدْ عَمِلَ الصالحات } بعد الإيمان { فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدرجات العلى } جمع العليا { جنات عَدْنٍ } بدل من { الدرجات } { تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا } دائمين { وذلك جَزَاء مَن تزكى } تطهر من الشرك بقول لا إله إلا الله . قيل : هذه الآيات الثلاث حكاية قولهم . وقيل : خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية وهو أظهر { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى } لما أراد الله تعالى إهلاك فرعون وقومه أمر موسى أن يخرج بهم من مصر ليلاً ويأخذ بهم طريق البحر { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِى البحر } اجعل لهم من قولهم ضرب له في ماله سهماً { يَبَساً } أي يابساً وهو مصدر وصف به يقال : يبس يَبسا ويُبسا { لاَّ تَخَافُ } حال من الضمير في { فاضرب } أي اضرب لهم طريقاً غير خائف . { لاَ تَخَفْ } حمزة على الجواب { دَرَكاً } هو اسم من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك { وَلاَ تخشى } الغرق وعلى قراءة حمزة { وَلاَ تخشى } استئناف أي وأنت لا تخشى أو يكون الألف للإطلاق كما في { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] فخرج بهم موسى من أول الليل وكانوا سبعين ألفاً وقد استعاروا حليهم فركب فرعون في ستمائة ألف من القبط فقص أثرهم فذلك قوله { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } هو حال أي خرج خلفهم ومعه جنوده { فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم } أصابهم من البحر { مَا غَشِيَهُمْ } هو من جوامع الكلم التي تستقل مع قلتها بالمعاني الكثيرة أي غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله عز وجل { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } عن سبيل الرشاد { وَمَا هدى } وما أرشدهم إلى الحق والسداد وهذا رد لقوله
{ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] . ثم ذكر منته على بني إسرائيل بعد ما أنجاهم من البحر وأهلك فرعون وقومه بقوله { يابنى إسراءيل } أي أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي وقلنا يا بني إسرائيل { قَدْ أنجيناكم مّنْ عَدُوّكُمْ } أي فرعون { وواعدناكم } بإيتاء الكتاب { جَانِبِ الطور الأيمن } وذلك أن الله عز وجل وعد موسى أن يأتي هذا المكان ويختار سبعين رجلاً يحضرون معه لنزول التوراة . وإنما نسب إليهم المواعدة لأنها كانت لنبيهم ونقبائهم وإليهم رجعت منافعها التي قام بها شرعهم ودينهم . و { الأيمن } نصب لأنه صفة { جَانِبٍ } وقرىء بالجر على الجواز { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } في التيه وقلنا لكم .
{ كُلُواْ مِن طيبات } حلالات { مَا رزقناكم } { أنجيتكم } { وواعدتكم } { ورزقتكم } كوفي غير عاصم { وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ } ولا تتعدوا حدود الله فيه بأن تكفروا النعم وتنفقوها في المعاصي أو لا يظلم بعضكم بعضاً { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى } عقوبتي { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هوى } هلك أو سقط سقوطاً لا نهوض بعده ، وأصله أن يسقط من جبل فيهلك وتحقيقه سقط من شرف الإيمان إلى حفرة من حفر النيران . قرأ علي { فَيَحِلَّ } { ويحلل } والباقون بكسرهما . فالمكسور في معنى الوجوب من حل الدين يحل إذا وجب أداؤه ، والمضموم في معنى النزول { وَإِنّى لَغَفَّارٌ لّمَن تَابَ } عن الشرك { وَءامَنَ } وحد الله تعالى وصدقه فيما أنزل { وَعَمِلَ صالحا } أدى الفرائض { ثُمَّ اهتدى } ثم استقام وثبت على الهدى المذكور وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح .
{ وَمَا أَعْجَلَكَ } أي وأي شيء عجل بك { عَن قَومِكَ ياموسى } أي عن السبعين الذين اختارهم وذلك أنه مضى معهم إلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه وأمرهم أن يتبعوه قال الله تعالى { وَمَا أَعْجَلَكَ } أي وأي شيء أوجب عجلتك استفهام إنكار و { مَا } مبتدأ و { أَعْجَلَكَ } الخبر { قَالَ هُمْ أُوْلاء على أَثَرِى } أي هم خلفي يلحقون بي وليس بيني وبينهم إلا مسافة يسيرة . ثم ذكر موجب العجلة فقال { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ } أي إلى الموعد الذي وعدت { لترضى } لتزداد عني رضاً وهذا دليل على جواز الاجتهاد .
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
{ قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ } ألقيناهم في فتنة { مِن بَعْدِكَ } من بعد خروجك من بينهم والمراد بالقوم الذين خلفهم مع هارون { وَأَضَلَّهُمُ السامرى } بدعائه إياهم إلى عبادة العجل وإجابتهم له وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة . وقيل : كان علجاً من كرمان فاتخذ عجلاً واسمه موسى بن ظفر وكان منافقاً { فَرَجَعَ موسى } من مناجات ربه { إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفًا } شديد الغضب أو حزيناً { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } وعدهم الله أن يعطيهم التوراة التي فيها هدى ونور وكانت ألف سورة كل سوره ألف آية يحمل أسفارها سبعون جملاً ولا وعد أحسن من ذلك { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أي مدة مفارقتي إياكم ، والعهد الزمان ، يقال : طال عهدي بك أي طال زماني بسبب مفارقتك { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ } أي أردتم أن تفعلوا فعلاً يجب به عليكم الغضب من ربكم { فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى } وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الآيات فأخلفوا موعده باتخاذ العجل .
{ قَالُواْ مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } بفتح الميم : مدني وعاصم ، وبضمها : حمزة وعلي ، وبكسرها : غيرهم ، أي ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفنا موعدك ولكنا غلبنا من جهة السامري وكيده { ولكنا حُمّلْنَا } بالضم والتشديد : حجازي وشامي وحفص ، وبفتح الحاء والميم مع التخفيف : غيرهم { أَوْزَاراً مّن زِينَةِ القوم } أثقالاً من حلي القبط ، أو أرادوا بالأوزار أنها آثام وتبعات لأنهم قد استعاروها ليلة الخروج من مصر بعلة أن لنا غداً عيداً ، فقال السامري : إنما حبس موسى لشؤم حرمتها لأنهم كانوا معهم في حكم المستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي على أن الغنائم لم تكن تحل حينئذ فأحرقوها فخبأ في حفرة النار قالب عجل فانصاغت عجلاً مجوفاً فخار بدخول الريح في مجار منه أشباه العروق . وقيل : نفخ فيه تراباً من موضع قوائم فرس جبريل عليه السلام يوم الغرق وهو فرس حياة فحيي فخار ومالت طباهم إلى الذهب فعبدوه { فَقَذَفْنَاهَا } في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمرنا أن نطرح فيها الحلي { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامرى } ما معه من الحلي في النار أو ما معه من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام .
{ فَأَخْرَجَ لَهُمْ } السامري من الحفرة { عِجْلاً } خلقه الله تعالى من الحلي التي سبكتها النار ابتلاء { جَسَداً } مجسداً { لَّهُ خُوَارٌ } صوت وكان يخور كما تخور العجاجيل { فَقَالُواْ } أي السامري وأتباعه { هذا إلهكم وإله موسى } فأجاب عامتهم إلا اثني عشر ألفاً { فَنَسِىَ } أي فنسي موسى ربه هنا وذهب يطلبه عند الطور ، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى أي نسي السامري ربه وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر ، أو نسي السامري الاستدلال على أن العجل لا يكون إلهاً بدليل قوله { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } أي أنه لا يرجع ف { أن } مخففة من الثقيلة { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي لا يجيبهم { وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي هو عاجز عن الخطاب والضر والنفع فكيف تتخذونه إلهاً وقيل : إنه ما خار إلا مرة { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ } لمن عبدوا العجل { هارون مِن قَبْلُ } من قبل رجوع موسى إليهم { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ابتليتم بالعجل فلا تعبدوه { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } لا العجل { فاتبعونى } كونوا على ديني الذي هو الحق { وَأَطِيعُواْ أَمْرِى } في ترك عبادة العجل { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عاكفين } أي لن نزال مقيمين على العجل وعبادته { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } فننظره هل يعبده كما عبدناه وهل صدق السامري أم لا .
فلما رجع موسى { قَالَ يَا هارون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ } بعبادة العجل .
{ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } بالياء في الوصل والوقف : مكي ، وافقه أبو عمرو ونافع في الوصل ، وغيرهم بلا ياء أي ما دعاك إلى ألا تتبعني لوجود التعلق بين الصارف عن فعل الشي وبين الداعي إلى تركه . وقيل : «لا» مزيدة والمعنى أي شيء منعك أن تتبعني حين لم يقبلوا قولك وتلحق بي وتخبرني؟ أو ما منعك أن تتبعني في الغضب لله ، وهلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لم تباشر الأمر كما كنت أباشره أنا لو كنت شاهداً؟ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى } أي الذي أمرتك به من القيام بمصالحهم . ثم أخذ بشعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضباً وإنكاراً عليه لأن الغيرة في الله ملكته { قَالَ يَبْنَؤُمَّ } وبخفض الميم : شامي وكوفي غير حفص ، وكان لأبيه وأمه عند الجمهور ولكنه ذكر الأم استعطافاً وترفيقاً { لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى } ثم ذكر عذره فقال { إِنّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ } إن قاتلت بعضهم ببعض { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } أو خفت أن تقول إن فارقتهم واتبعتك ولحق بي فريق وتبع السامري فريق : { فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرءيلَ } { وَلَمْ تَرْقُبْ } ولم تحفظ { قَوْلِي } اخلفني في قومي وأصلح . وفيه دليل على جواز الاجتهاد .
ثم أقبل موسى على السامري منكراً عليه حيث { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ } ما أمرك الذي تخاطب عليه؟ { ياسامري قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } وبالتاء : حمزة وعلي ، وقال الزجاج : بصر علم وأبصر نظر أي علمت ما لم يعلمه بنو اسرائيل . قال موسى : وما ذاك؟ قال : رأيت جبريل على فرس الحياة فألقي في نفسي أن أقبض من أثره فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ودم { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً } القبضة المرة من القبض وإطلاقها على المقبوض من تسمية المفعول بالمصدر ل «ضرب» الأمير . وقريء { فقبصت قبضة } فالضاد بجميع الكف والصاد بأطراف الأصابع { مِّنْ أَثَرِ الرسول } أي من أثر فرس الرسول وقريء بها { فَنَبَذْتُهَا } فطرحتها في جوف العجل { وكذلك سَوَّلَتْ } زينت { لِى نَفْسِى } أن أفعله ففعلته اتباعاً لهواي وهو اعتراف بالخطأ واعتذار .
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
{ قَالَ } له موسى { فاذهب } من بيننا طريداً { فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة } ما عشت { أَن تَقُولَ } لمن أراد مخالطتك جاهلاً بحالك { لاَ مِسَاسَ } أي لا يمسني أحد ولا أمسه فمنع من مخالطة الناس منعاً كلياً وحرم عليهم ملاقاته ومكالمته ومبايعته ، وإذا اتفق أن يماس أحداً حم الماس والممسوس . وكان يهيم في البرية يصيح لا مساس ويقال : إن ذلك موجود في أولاده إلى الآن . وقيل : أراد موسى عليه السلام أن يقتله فمنعه الله تعالى منه لسخائه { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك على الشرك والفساد في الأرض ينجزه لك في الآخرة بعدما عاقبك بذاك في الدنيا { لَّن تُخْلَفَهُ } مكي وأبو عمر وهذا من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفاً { وانظر إلى إلهك الذى ظَلْتَ عَلَيْهِ } وأصله ظللت فحذف اللام الأولى تخفيفاً { عَاكِفاً } مقيماً { لَّنُحَرّقَنَّهُ } بالنار { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ } لنذرينه { فِى اليم نَسْفاً } فحرقه وذراه في البحر فشرب بعضهم من مائة حباً له فظهرت على شفاههم صفرة الذهب . { إِنَّمَا إلهكم الله الذى لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْء عِلْماً } تمييز أي وسع علمه كل شيء .
ومحل الكاف في { كذلك } نصب أي مثل ما اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاء مَا قَدْ سَبَقَ } من أخبار الأمم الماضية تكثيراً لبيناتك وزيادة في معجزاتك { وَقَدْ آتيناك } أي أعطيناك { مّن لَّدُنَّا } من عندنا { ذِكْراً } قرآناً فهو ذكر عظيم وقرآن كريم فيه النجاة لمن أقبل عليه ، وهو مشتمل على الأقاصيص والأخبار الحقيقة بالتفكر والاعتبار { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } عن هذا الذكر وهو القرآن ولم يؤمن به { فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } عقوبة ثقيلة سماها وزراً تشبيهاً في ثقلها على المعاقب وصعوبة احتمالها بالحمل الثقيل الذي ينقض ظهره ويلقى عليه بهره ، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم { خالدين } حال من الضمير في { يَحْمِلُ } وإنما جمع على المعنى ووحد في { فَإِنَّهُ } حملاً على لفظ من { فِيهِ } في الوزر أي في جزاء الوزر وهو العذاب { وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } ساء في حكم بئس وفيه مبهم يفسره { حِمْلاً } وهو تمييز واللام في { لَهُمْ } للبيان كما في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] والمخصوص بالذم محذوف لدلالة الوزر السابق عليه تقديره ساء الحمل حملاً وزرهم .
{ يَوْمَ يُنفَخُ } بدل من { يَوْمُ القيامة } ، { ننفخ } أبو عمرو { فِى الصور } القرن أو هو جمع صورة أي ننفخ الأرواح فيها دليله قراءة قتادة الصور بفتح الوّاو جمع صورة { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } حال أي عمياً كما قال
{ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [ الإسراء : 97 ] وهذا لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق { يتخافتون } يتسارون { بَيْنَهُمْ } أي يقول بعضهم لبعض سراً لهول ذلك اليوم { إِن لَّبِثْتُمْ } ما لبثتم في الدنيا { إِلاَّ عَشْراً } أي عشر ليال يستقصرون مدة لبثهم في القبور أو في الدنيا لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر ، لأن أيام السرور قصار ، أو لأنها ذهبت عنهم والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء ، أو لاستطالتهم الآخرة لأنها أبداً يستقصر إليها عمر الدنيا ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة ، وقد رجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم بقوله { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أعد لهم قولاً { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } وهو كقوله { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ العادين } [ المؤمنون : 113 ] .
{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال } سألوا النبي صلى الله عليه وسلم ما يصنع بالجبال يوم القيامة؟ وقيل : لم يسئل وتقديره إن سألوك { فَقُلْ } ولذا قرن بالفاء بخلاف سائر السؤالات مثل قوله { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى } [ البقرة : 222 ] وقوله { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إصلاح لهم خير } [ البقرة : 220 ] { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ البقرة : 219 ] { يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبّي } [ الأعراف : 187 ] { وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح } [ الإسراء : 85 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين قُلْ سَأَتْلُواْ } [ الكهف : 83 ] لأنها سؤالات تقدمت فورد جوابها ولم يكن فيها معنى الشرط فلم يذكر الفاء .
{ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً } أي يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها كما يذرى الطعام . وقال الخليل : يقلعها { فَيَذَرُهَا } فيذر مقارها أو يجعل الضمير للأرض للعلم بها كقوله { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } [ فاطر : 45 ] { قَاعاً صَفْصَفاً } مستوية ملساء { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } انخفاضاً { وَلا أَمْتاً } ارتفاعاً والعوج بالكسر إن كان في المعاني كما أن المفتوح في الأعيان والأرض عين ، ولكن لما استوت الأرض استواء لا يمكن أن يوجد فيها اعوجاج بوجه ما وإن دقت الحيلة ولطفت جرت مجرى المعاني { يَوْمَئِذٍ } أضاف اليوم إلى وقت نسف الجبال أي يوم إذ نسفت وجاز أن يكون بدلاً بعد بدل من يوم القيامة { يَتَّبِعُونَ الداعى } إلى المحشر أي صوت الداعي وهو إسرافيل حين ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلمي إلى عرض الرحمن فيقبلون من كل أوب إلى صوبه لا يعدلون عنه { لاَ عِوَجَ لَهُ } أي لا يعوج له مدعو بل يستوون إليه من غير انحراف متبعين لصوته { وَخَشَعَتِ } وسكنت { الأصوات للرحمن } هيبة وإجلالاً { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } صوتاً خفيفاً لتحريك الشفاه . وقيل : هو من همس الإبل وهو صوت أخفافها إذا مشت أي لا تسمع إلا خفق الأقدام ونقلها إلى المحشر .
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
{ يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } محل من رفع على البدل من { الشفاعة } بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي أذن للشافع في الشفاعة { وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً } أي رضي قولاً لأجله بأن يكون المشفوع له مسلماً أو نصب على أنه مفعول { تَنفَعُ } { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي يعلم ما تقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي بما أحاط به علم الله فيرجع الضمير إلى «ما» أو يرجع الضمير إلى الله لأنه تعالى ليس بمحاط به { وَعَنَتِ } خضعت وذلت ومنه قيل للأسير : عانٍ { الوجوه } أي أصحابها { لِلْحَىّ } الذي لا يموت وكل حياة يتعقبها الموت فهي كأن لم تكن { القيوم } الدائم القائم على كل نفس بما كسبت أو القائم بتدبير الخلق { وَقَدْ خَابَ } يئس من رحمة الله { مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } من حمل إلى موقف القيامة شركاً لأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه ولا ظلم أشد من جعل المخلوق شريك من خلقه { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } الصالحات الطاعات { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } مصدق بما جاء به محمد عليه السلام ، وفيه دليل أنه يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحة وأن الإيمان شرط قبولها { فَلاَ يَخَافُ } أي فهو لا يخاف { فَلاَ يخف } على النهي : مكي { ظُلْماً } أن يزداد في سيئاته { وَلاَ هَضْماً } ولا ينقص من حسناته وأصل الهضم النقص والكسر .
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
{ وكذلك } عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال { أَنْزَلْنَاهُ قُرْانًا عَرَبِيّا } بلسان العرب { وَصَرَّفْنَا } كررنا { فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يجتنبون الشرك { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ } الوعيد أو القرآن { ذِكْراً } عظة أو شرفاً بإيمانهم به وقيل «أو» بمعنى الواو .
{ فتعالى الله } ارتفع عن فنون الظنون وأوهام الأفهام وتنزه عن مضاهاة الأنام ومشابهة الأجسام { الملك } الذي يحتاج إليه الملوك { الحق } المحق في الألوهية . ولما ذكر القرآن وإنزاله قال استطراداً : وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن فتأن عليك ريثما يسمعك ويفهمك { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرءان } بقراءته { مِن قَبْلِ إَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ { وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْماً } بالقرآن ومعانيه . وقيل : ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم .
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى ءادَمَ } أي أوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة . يقال في أوامر الملوك ووصاياهم تقدم الملك إلى فلان وأوصى إليه وعزم عليه وعهد إليه ، فعطف قصة آدم على { وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد } والمعنى وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة { مِن قَبْلُ } من قبل وجودهم فخالف إلى ما نهي عنه كما أنهم يخالفون يعني أن أساس أمر بني آدم على ذلك وعرقهم راسخ فيه { فَنَسِىَ } العهد أي النهي والأنبياء عليهم السلام يؤاخذون بالنسيان الذي لو تكلفوا لحفظوه { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } قصداً إلى الخلاف لأمره أو لم يكن آدم من أولي العزم . والوجود بمعنى العلم ومفعولاه { لَهُ عَزْماً } أو بمعنى نقيض العدم أي وعد منا له عزما و { لَهُ } متعلق ب { نَجِدْ } { وَإِذْ قُلْنَا } منصوب ب «اذكر» { للملائكة اسجدوا لآِدَمَ } قيل : هو السجود اللغوي الذي هو الخضوع والتذلل أو كان آدم كالقبلة لضرب تعظيم له فيه { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ } عن ابن عباس رضي الله عنهما أن إبليس كان ملكاً من جنس المستثنى منهم . وقال الحسن : الملائكة لباب الخليقة من الأرواح ولا يتناسلون وإبليس من نار السموم . وإنما صح استثناؤه منهم لأنه كان يصحبهم ويعبد الله معهم { أبى } جملة مستأنفة كأنه جواب لمن قال لم لم يسجد ، والوجه أن لا يقدر له مفعول وهو السجود المدلول عليه بقوله { فَسَجَدُواْ } وأن يكون معناه أظهر الإباء وتوقف .
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{ فَقُلْنَا يائادم أن هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } حيث لم يسجد لك ولم ير فضلك { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة } فلا يكونن سبباً لإخراجكما { فتشقى } فتتعب في طلب القوت ولم يقل «فتشقيا» مراعاة لرؤوس الآي ، أو دخلت تبعاً ، أو لأن الرجل هو الكافل لنفقة المرأة . وروي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا } في الجنة { وَلاَ تعرى } عن الملابس لأنها معدة أبداً فيها { وَأَنَّكَ } بالكسر : نافع وأبو بكر عطفاً على «إن» الأولى ، وغيرهما بالفتح عطفاً على { أَلاَّ تَجُوعَ } ومحله نصب ب «أن» وجاز للفصل كما تقول «إن في علمي أنك جالس» { لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا } لا تعطش لوجود الأشربة فيها { وَلاَ تضحى } لا يصيبك حر الشمس إذ ليس فيها شمس فأهلها في ظل ممدود .
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان } أي أنهى إليه الوسوسة كأسر إليه { قَالَ يَاءادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد } أضاف الشجرة إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها خلد بزعمه ولا يموت { وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } لا يفنى { فَأَكَلاَ } أي آدم وحواء { مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا } عوراتهما { سَوْءتُهُمَا } { وَطَفِقَا } طفق يفعل كذا مثل جعل يفعل وهو ك «كاد» في وقوع الخبر فعلاً مضارعاً إلا أنه للشروع في أول الأمر وكاد للدنو منه { يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } أي يلزقان الورق بسواتهما للتستر وهو ورق التين { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } ضل عن الرأي . وعن ابن عيسى خاب ، والحاصل أن العصيان وقوع الفعل على خلاف الأمر والنهي ، وقد يكون عمداً فيكون ذنباً وقد لا يكون عمداً فيكون زلة . ولما وصف فعله بالعصيان خرج فعله من أن يكون رشداً فكان غياً ، لأن الغي خلاف الرشد . وفي التصريح بقوله { وعصى ءادَمُ رَبَّهُ فغوى } والعدول عن قوله و «زل آدم» مزجرة بليغة وموعظة كافة للمكلفين كأنه قيل لهم : انظروا واعتبروا كيف نعيت على النبي المعصوم حبيب الله زلته بهذه الغلظة فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من الصغائر فضلاً عن الكبائر .
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
{ ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ } قربه إليه اصطفاه . وقريء به وأصل الكلمة الجمع يقال جبى إلى كذا فاجتبيته { فَتَابَ عَلَيْهِ } قبل توبته { وهدى } وهداه إلى الاعتذار والاستغفار .
{ قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } يعني آدم وحواء { بَعْضُكُمْ } يا ذرية آدم { لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } بالتحاسد في الدنيا والاختلاف في الدين { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى } كتاب وشريعة { فَمَنِ اتبع هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ } في الدنيا { وَلاَ يشقى } في العقبى . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة يعني أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضل في الدنيا عن طريق الدين ، فمن اتبع كتاب الله وامتثل أوامره وانتهى عن نواهيه نجا من الضلال ومن عقابه { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى } عن القرآن { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ضيقاً وهو مصدر يستوي في الوصف به المذكر والمؤنث . عن ابن جبير : يسلبه القناعة حتى لا يشبع فمع الدين التسليم والقناعة والتوكل فتكون حياته طيبة ، ومع الإعراض الحرص والشح فعيشه ضنك وحاله مظلمة كما قال بعض المتصوفة : لا يعرض أحدكم عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } عن الحجة . عن ابن عباس : أعمى البصر وهو كقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْيًا } [ الإسراء : 97 ] وهو الوجه { قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } في الدنيا
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{ قَالَ كذلك } أي مثل ذلك فعلت أنت . ثم فسر فقال { أَتَتْكَ اياتنا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } أي أتتك آياتنا واضحة فلم تنظر إليها بعين المعتبر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك .
{ وكذلك نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بئايات رَبّهِ وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } لما توعد المعرض عن ذكره بعقوبتين : المعيشة الضنك في الدنيا وحشره أعمى في العقبى ختم آيات الوعيد بقوله { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } أي للحشر على العمى الذي يزول أبداً أشد من ضيق العيش المنقضي { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي الله بدليل قراءة زيد عن يعقوب بالنون { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّنَ القرون يَمْشُونَ } حال من الضمير المجرور في { لهم } { فِى مساكنهم } يريد أن قريشاً يمشون في مساكن عاد وثمود وقوم لوط ويعاينون آثار هلاكهم { إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لأِوْلِى النهى } لذوي العقول إذا تفكروا علموا أن استئصالهم لكفرهم فلا يفعلون مثل ما فعلوا { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ } أي الحكم بتأخير العذاب عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم { لَكَانَ لِزَاماً } لازماً فاللزام مصدر لزم فوصف به { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } القيامة وهو معطوف على كلمة ، والمعنى ولولا حكم سبق بتأخير العذاب عنهم وأجل مسمى وهو القيامة لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة .
{ فاصبر على مَا يَقُولُونَ } فيك { وَسَبّحْ } وصل { بِحَمْدِ رَبّكَ } في موضع الحال وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } يعني صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس وغروبها { ومن ءانآي الليل فسبّح وأطراف النهار } أي وتعهد أناء الليل أي ساعاته وأطراف النهار مختصاً لها بصلاتك . وقد تناول التسبيح في آناء الليل وصلاة العتمة ، وفي أطراف النهار صلاة المغرب ، وصلاة الفجر على التكرار إرادة الاختصاص كما اختصت في قوله { والصلاة الوسطى } [ البقرة : 238 ] عند البعض . وإنما جمع وأطراف النهار وهما طرفان لأمن الإلباس وهو عطف على قبل { لَعَلَّكَ ترضى } لعل للمخاطب أي اذكر الله في هذه الأوقات رجاء أن تنال عند الله ما به ترضى نفسك ويسر قلبك . { وترضى } علي وأبو بكر أي يرضيك ربك .
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي نظر عينيك ومد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به ، وفيه أن النظر غير الممدود معفو عنه وذلك أن يباده الشيء بالنظر ثم يغض الطرف . ولقد شدد المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وعدد الفسقة في ملابسهم ومراكبهم حتى قال الحسن : لا تنظروا إلى دقدقة هماليج الفسقة ، ولكن انظروا كيف يلوح ذل المعصية من تلك الرقاب . وهذا لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة فالناظر إليها محصل لغرضهم ومغر لهم على اتخاذها { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ } أصنافاً من الكفرة ويجوز أن ينتصب حالاً من هاء الضمير والفعل واقع على { منهم } كأنه قال إلى الذي متعنا به وهو أصناف بعضهم وناساً منهم { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } زينتها وبهجتها وانتصب على الذم أو على إبداله من محل به أو على إبداله من أزواجا على تقدير ذوي زهرة { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنبلوهم حتى يستوجبوا العذاب لوجود الكفران منهم أو لنعذبهم في الآخرة بسببه { وَرِزْقُ رَبّكَ } ثوابه وهو الجنة أو الحلال الكافي { خَيْرٌ وأبقى } مما رزقوا { وَأْمُرْ أَهْلَكَ } أمتك أو أهل بيتك { بالصلاة واصطبر } أنت دوام { عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } وإياهم فلا تهتم لأمر الرزق وفرغ بالك لأمر الآخرة لأن من كان في عمل الله كان الله في عمله . وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ : { ولا تمدن عينيك } . الآية ثم ينادي الصلاة ، الصلاة رحمكم الله . وكان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله ورسوله . وعن مالك بن دينار مثله . وفي بعض المسانيد أنه عليه السلام كان إذا أصاب أهله ضر أمرهم بالصلاة وتلا هذه الآية { والعاقبة للتقوى } أي وحسن العاقبة لأهل التقوى بحذف المضافين .
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ وَقَالُواْ } أي الكافرون { لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مّن رَّبّهِ } هلا يأتينا محمد بآية من ربه تدل على صحة نبوته { أَوَ لَمْ تَأْتِهِم } { أو لم تأتهم } مدني وحفص وبصري { بَيّنَةُ مَا فِى الصحف الأولى } أي الكتب المتقدمة يعني أنهم اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة فقيل لهم : أو لم تأتكم آية هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن من قبل أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة ودليل صحته لأنه معجزة وتلك ليست بمعجزات فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها { وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ } من قبل الرسول أو القرآن { لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا } هلا { أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ } بالنصب على جواب الاستفهام بالفاء { بآياتك مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } بنزول العذاب { ونخزى } في العقبى { قُلْ كُلٌّ } أي كل واحد منا ومنكم { مُّتَرَبّصٌ } منتظر للعاقبة وبما يؤول إليه أمرنا وأمركم { فَتَرَبَّصُواْ } إذا جاءت القيامة { مِنْ أصحاب } مبتدأ وخبر ومحلهما نصب { الصراط السوي } المستقيم { وَمَنِ اهتدى } إلى النعيم المقيم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يقرأ أهل الجنة إلا سورة طه ويس » والله أعلم بالصواب .
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{ اقترب } دنا { لِلنَّاسِ } اللام صلة لاقتراب . عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون لأن ما يتلوه من صفات المشركين { حِسَابَهُمْ } وقت محاسبة الله إياهم ومجازاته على أعمالهم يعني يوم القيامة ، وإنما وصفه بالاقتراب لقلة ما بقي بالإضافة إلى ما مضى ولأن كل آتٍ قريب { وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ } عن حسابهم وعما يفعل بهم ثم { مُّعْرِضُونَ } عن التأهب لذلك اليوم فالاقتراب عام والغفلة والإعراض يتفاوتان بتفاوت المكلفين ، فرب غافل عن حسابه لاستغراقه في دنياه وإعراضه عن مولاه ، ورب غافل عن حسابه لاستهلاكه في مولاه وإعراضه عن دنياه فهو لا يفيق إلا برؤية المولى ، والأول إنما يفيق في عسكر الموتى فالواجب عليك أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب وتتنبه للعرض قبل أن تنبه ، وتعرض عن الغافلين وتشتغل بذكر خالق الخلق أجمعين لتفوز بلقاء رب العالمين { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ } شيء من القرآن { مّن رَّبّهِمْ مُّحْدَثٍ } في التنزيل إتيانه ، مبتدأة تلاوته ، قريب عهده باستماعهم ، والمراد به الحروف المنظومة . ولا خلاف في حدوثها { إِلاَّ استمعوه } من النبي عليه السلام أو غيره ممن يتلوه { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } يستهزئون به .
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
{ لاَهِيَةً } حال من ضمير يلعبون أو { وهم يلعبون } و { لاهية } حالان من الضمير في استمعوه . ومن قرأ { لاَهِيَةً } بالرفع يكون خبراً بعد خبر لقوله : { وهم } وارتفعت { قُلُوبِهِمْ } ب { لاهية } وهي من لها عنه إذا ذهل وغفل ، والمعنى قلوبهم غافلة عما يراد بها ، ومنها قال أبو بكر الوارق : القلب اللاهي المشغول بزينة الدنيا وزهرتها الغافل عن الآخرة وأهوالها { وَأَسَرُّواْ } وبالغوا في إخفاء { النجوى } وهي اسم من التناجي . ثم أبدل { الذين ظَلَمُواْ } من واو { وأسروا } إيذاناً بأنهم الموسومون بالظلم فيما أسروا به ، أو جاء على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ، أو هو مجرور المحل لكونه صفة أو بدلاً من الناس ، أو هو منصوب المحل على الذم ، أو هو مبتدأ خبره { أسروا النجوى } فقدم عليه أي والذين ظلموا أسروا النجوى { هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } هذا الكلام كله في محل النصب بدل من النجوى أي وأسروا هذا الحديث ويجوز أن يتعلق ب «قالوا» مضمراً والمعنى أنهم اعتقدوا أن الرسول لا يكون إلا ملكاً وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة فهو ساحر ومعجزته سحر ، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار : أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر { قَالَ رَبّى } حمزة وعلي وحفص أي قال محمد وغيرهم { قل ربي } أي قل يا محمد للذين أسروا النجوى { يَعْلَمُ القول فِى السماء والأرض } أي يعلم قول كل قائل هو في السماء أو الأرض سراً كان أو جهراً { وَهُوَ السميع } لأقوالهم { العليم } بما في ضمائرهم .
{ بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ } أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام رآها في نومه فتوهمها وحياً من الله إليه ، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده ، ثم إلى أنه قول شاعر وهكذا الباطل لجلج والمبطل رجاع غير ثابت على قول واحد ، ثم قالوا إن كان صادقاً في دعواه وليس الأمر كما يظن { فليأتنا بآية } بمعجزة { كَمَا أُرْسِلَ الأولون } كما أرسل من قبله باليد البيضاء والعصا وإبراء الأكمه وإحياء الموتى ، وصحة التشبيه في قوله كما { أرسل الأولون } من حيث إنه في معنى كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن للإتيان بالآيات ، ألا ترى أنه لا فرق بين قولك «أرسل محمد» وبين قولك «أتى بالمعجزة» فرد الله عليهم قولهم بقوله .
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
{ مَا ءامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِن قَرْيَةٍ } من أهل قرية { أهلكناها } صفة ل { قرية } عند مجيء الآيات المقترحة لأنهم طلبوها تعنتاً { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي أولئك لم يؤمنوا بالآيات لما أتتهم أفيؤمن هؤلاء المقترحون لو أتيناهم بما اقترحوا مع أنهم أعني منهم ، والمعنى أن أهل القرى اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطينا هؤلاء ما يقترحون لنكثوا أيضاً .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } هذا جواب قولهم هل هذا إلا بشر مثلكم { نُّوحِى إِلَيْهِمْ } { نُوحِى } حفص { فاسألوا أَهْلَ الذكر } العلماء بالكتابين فإنهم يعرفون أن الرسل الموحى إليهم كانوا بشراً ولم يكونوا ملائكة وكان أهل مكة يعتمدون على قولهم { إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } ذلك . ثم بين أنه كمن تقدمه من الأنبياء بقوله { وَمَا جعلناهم جَسَداً } وحد الجسد لإرادة الجنس { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } صفة ل { جسداً } يعني وما جعلنا الأنبياء قبله ذوي جسد غير طاعمين { وَمَا كَانُواْ خالدين } كأنهم قالوا هلا كان ملكاً لا يطعم ويخلد ، إما معتقدين أن الملائكة لا يموتون أو مسمين بقاءهم الممتد وحياتهم المتطاولة خلودا { ثُمَّ صدقناهم الوعد } بإنجائهم والأصل في الوعد مثل { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه { فأنجيناهم } مما حل بقومهم { وَمَن نَّشَاء } هم المؤمنون { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } المجاوزين الحد بالكفر ودل الإخبار بإهلاك المسرفين على أن من نشاء غيرهم .
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{ لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ } يا معشر قريش { كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } شرفكم إن عملتم به أو لأنه بلسانكم أو فيه موعظتكم أو فيه ذكر دينكم ودنياكم والجملة أي فيه ذكركم صفة ل { كتاباً } { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما فضلتكم به على غيركم فتؤمنوا { وَكَمْ } نصب بقوله { قَصَمْنَا } أي أهلكنا { مِن قَرْيَةٍ } أي أهلها بدليل قوله { كَانَتْ ظالمة } كافرة وهي واردة عن غضب شديد وسخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم فإنه كسر بلا إبانة { وَأَنشَأْنَا } خلقنا { بَعْدَهَا قَوْماً ءاخَرِينَ } فسكنوا مساكنهم .
{ فَلَمَّا أَحَسُّواْ } أي المهلكون { بَأْسَنَا } عذابنا أي علموا علم حس ومشاهدة { إِذَا هُمْ مّنْهَا } من القرية و { إذا } للمفاجأة و { هم } مبتدأ والخبر { يَرْكُضُونَ } يهربون مسرعين ، والركض ضرب الدابة بالرجل فيجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ، أو شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين لدوابهم فقيل لهم { لاَ تَرْكُضُواْ } والقائل بعض الملائكة { وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ } نعمتم فيه من الدنيا ولين العيش . قال الخليل : المترف الموسع عليه عيشه القليل فيه همه { ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } أي يقال لهم استهزاء بهم : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غداً عما جرى عليكم ونزل بأموالكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة ، أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقولوا لكم بم تأمرون وكيف نأتي ونذر كعادة المنعمين المخدمين ، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب ، أو يسألكم الوافدون عليكم والطماع ويستمطرون سحاب أكفكم ، أو قال بعضهم لبعض : لا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم وأموالكم لعلكم تسألون مالاً وخراجاً فلا تقتلون ، فنودي من السماء يا لثارات الأنبياء وأخذتهم السيوف فثم
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
{ قَالُواْ يَا وَيْلَنَآ قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظالمين } اعترافهم بذلك حين لا ينفعهم الاعتراف .
{ فَمَا زَالَت تِلْكَ } هي إشارة إلى يا ويلنا { دَعْوَاهُمْ } دعاءهم و { تلك } مرفوع على أنه اسم { زالت } و { دعواهم } الخبر ويجوز العكس { حتى جعلناهم حَصِيداً } مثل الحصيد أي الزرع المحصود ولم يجمع كما لم يجمع المقدر { خامدين } ميتين خمود النار و { حصيدا خامدين } مفعول ثان ل «جعل» أي جعلناهم جامعين لمماثلة الحصد والخمود كقولك «جعلته حلواً حامضاً» أي جعلته جامعاً للطعمين .
{ وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } اللعب فعل يروق أوله ولا ثبات له ، ولاعبين حال من فاعل { خلقنا } والمعنى وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من أصناف الخلق للهو واللعب ، وإنما سويناها ليستدل بها على قدرة مدبرها ولنجازي المحسن والمسيء على ما تقتضيه حكمتنا ، ثم نزه ذاته عن سمات الحدوث بقوله { لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } أي ولداً أو امرأة كأنه رد على من قال : عيسى ابنه ومريم صاحبته { لاتخذناه مِن لَّدُنَّا } من الولدان أو الحور { إِن كُنَّا فاعلين } أي إن كنا ممن يفعل ذلك ولسنا ممن يفعله لاستحالته في حقنا . وقيل : هو نفي كقوله { وإن أدري } [ الأنبياء : 109 ] أي ما كنا فاعلين
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{ بَلْ نَقْذِفُ } «بل» إضراب عن اتخاذ اللهو وتنزيه منه لذاته كأنه قال سبحاننا أن نتخذ اللهو بل من سنتنا أن نقذف أي نرمي ونسلط { بالحق } بالقرآن { عَلَى الباطل } الشيطان أو بالإسلام على الشرك أو بالجد على اللعب { فَيَدْمَغُهُ } فيكسره ويدحض الحق الباطل ، وهذه استعارة لطيفة لأن أصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل والدمغ لإذهاب الباطل فالمستعار منه حسي والمستعار له عقلي فكأنه قيل : بل نورد الحق الشبيه بالجسم القوي على الباطل الشبيه بالجسم الضعيف فيبطله إبطال الجسم القوي الضعيف { فَإِذَا هُوَ } أي الباطل { زَاهِقٌ } هالك ذاهب { وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ } الله به من الولد ونحوه .
{ وَلَهُ مَن فِى السماوات والأرض } خلقاً وملكاً فأنى يكون شيء منه ولداً له وبينهما تنافٍ ويوقف على { الأرض } لأن { ومن عنده } منزلة ومكانة لا منزلاً ولا مكاناً يعني الملائكة مبتدأ خبره { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } لا يتعظمون { عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ولا يعيون { يُسَبّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } حال من فاعل { يسبحون } أي تسبيحهم متصل دائم في جميع أوقاتهم لا تتخلله فترة بفراغ أو بشغل آخر فتسبيحهم جارٍ مجرى التنفس منا . ثم أضرب عن المشركين منكراً عليهم وموبخاً فجاء ب «أم» التي بمعنى «بل» والهمزة فقال { أَمِ اتخذوا الِهَةً مّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ } يحيون الموتى ومن الأرض صفة ل { الهة } لأن الهتهم كانت متخذة من جواهر الأرض كالذهب والفضة والحجر أو تعبد في الأرض فنسبت إليها كقولك «فلان من المدينة» أي مدني ، أو متعلق ب { اتخذوا } ويكون فيه بيان غاية الاتخاذ ، وفي قوله { هم ينشرون } زيادة توبيخ وإن لم يدعوا أن أصنامهم تحيي الموتى ، وكيف يدعون ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات لأنه يلزم من دعوى الألوهية لها دعوى الإنشار ، لأن العاجز عنه لا يصح أن يكون إلهاً إذ لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور والإنشار من جملة المقدورات . وقرأ الحسن { ينشرون } بفتح الياء وهما لغتان أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها .
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله } أي غير الله وصفت الهة ب «إلا» كما وصفت ب «غير» لو قيل الهة غير الله ، ولا يجوز رفعه على البدل لأن «لو» بمنزلة «إن» في أن الكلام معه موجب والبدل لا يسوغ إلا في الكلام غير الموجب كقوله تعالى { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك } [ هود : 81 ] ولا يجوز نصبه استثناء لأن الجمع إذا كان منكراً لا يجوز أن يستثنى منه عند المحققين لأنه لا عموم له بحيث يدخل فيه المستثنى لولا الاستثناء ، والمعنى لو كان يدبر أمر السماوات والأرض آلهة شتى غير الواحد الذي هو فاطرهما { لَفَسَدَتَا } لخربتا لوجود التمانع وقد قررناه في أصول الكلام .
ثم نزه ذاته فقال { فسبحان الله رَبّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } من الولد والشريك .
{ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } لأنه المالك على الحقيقة ، ولو اعترض على السلطان بعض عبيده مع وجود التجانس وجواز الخطأ عليه وعدم الملك الحقيقي لاستقبح ذلك وعد سفهاً ، فمن هو مالك الملوك ورب الأرباب وفعله صواب كله أولى بأن لا يعترض عليه { وَهُمْ يُسْئَلُونَ } لأنهم مملوكون خطاؤون فما أخلقهم بأن يقال لهم لم فعلتم في كل شيء فعلوه . وقيل : وهم يسئلون يرجع إلى المسيح والملائكة أي هم مسئولون فكيف يكونون آلهة والألوهية تنافي الجنسية والمسئولية { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ ءالِهَةً } الإعادة لزيادة الإفادة فالأول للإنكار من حيث العقل ، والثاني من حيث النقل أي وصفتم الله تعالى بأن يكون له شريك فقيل لمحمد { قُلْ هَاتُواْ برهانكم } حجتكم على ذلك وذا عقلي وهو يأباه كما مر ، أو نقلي وهو الوحي وهو أيضاً يأباه فإنكم لا تجدون كتاباً من الكتب السماوية إلا وفيه توحيده وتنزيهه عن الأنداد { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ } يعني أمته { وَذِكْرُ مَن قَبْلِى } يعني أمم الأنبياء من قبلي وهو وارد في توحيد الله ونفي الشركاء عنه . { معي } حفص . فلما لم يمتنعوا عن كفرهم أضرب عنهم فقال { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الحق } أي القرآن وهو نصب ب { يعلمون } وقرىء { الحق } أي هو الحق { فَهُمُ } لأجل ذلك { مُّعْرِضُونَ } عن النظر فيما يجب عليهم .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ } { إِلاَّ نُوحِى } كوفي غير أبي بكر وحماد { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } وحدوني فهذه الآية مقررة لما سبقها من آي التوحيد { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ } نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله فنزه ذاته عن ذلك ثم أخبر عنهم بأنهم عباد بقوله { بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي بل هم عباد مكرمون مشرفون مقربون وليسوا بأولاد إذ العبودية تنافي الولادة { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } أي بقولهم فأنيبت اللام مناب الإضافة ، والمعنى أنهم يتبعون قوله فلا يسبق قولهم قوله ولا يتقدمون قوله بقولهم { وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي كما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضاً مبني على أمره لا يعملون عملاً لم يأمروا به { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي ما قدموا وأخروا من أعمالهم { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي لمن رضي الله عنه وقال لا إله إلا الله { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } خائفون .
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } من الملائكة { إِنّى إله مّن دُونِهِ } من دون الله { إني } مدني وأبو عمرو { فَذَلِكَ } مبتدأ أي فذلك القائل خبره { نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ } وهو جواب الشرط { كذلك نَجْزِى الظالمين } الكافرين الذين وضعوا الإلهية في غير موضعها وهذا على سبيل الفرض والتمثيل لتحقق عصمتهم . وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة والضحاك : قد { تحقق الوعيد في إبليس فإنه ادعى الإلهية لنفسه ودعا إلى طاعة نفسه وعبادته .
{ أَوَلَمْ يَرَ الذين كَفَرُواْ } { ألم ير } مكي { أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا } أي جماعة السماوات وجماعة الأرض فلذا لم يقل كن { رَتْقاً } بمعنى المفعول أي كانتا مرتوقتين وهو مصدر فلذا صلح أن يقع موقع مرتوقتين { ففتقناهما } فشققناهما ، والفتق الفصل بين الشيئين والرتق ضد الفتق . فإن قيل : متى رأوهما رتقاً حتى جاء تقريرهم بذلك؟ قلنا : إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة فقام مقام المرئي المشاهد ، ولأن الرؤية بمعنى العلم وتلاصق الأرض والسماء وتباينهما جائزان في العقل ، فالاختصاص بالتباين دون التلاصق لا بد له من مخصص وهو القديم جل جلاله . ثم قيل : إن السماء كانت لاصقة بالأرض لافضاء بينهما ففتقناهما أي فصلنا بينهما بالهواء . وقيل : كانت السماوات مرتتقة طبقة واحدة ففتقها الله تعالى وجعلها سبع سماوات ، وكذلك الأرض كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع أرضين . وقيل : كانت السماء رتقاً لا تمطر والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات { وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَىْء حَىّ } أي خلقنا من الماء كل حيوان كقوله { والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء } [ النور : 45 ] أو كأنما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } [ الأنبياء : 37 ]
{ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } يصدقون بما يشاهدون .
{ وَجَعَلْنَا فِى الأرض رَوَاسِىَ } جبالاً ثوابت من رسا إذا ثبت { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } لئلا تضطرب بهم فحذف «لا» واللام ، وإنما جاز حذف «لا» لعدم الالتباس كما تزاد لذلك في { لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً } أي طرقاً واسعة جمع فج وهو الطريق الواسع ونصب على الحال من { سُبُلاً } متقدمة ، فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى { لّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } [ نوح : 20 ] وبين هذه؟ قلت : الأول للإعلام بأنه جعل فيها طرقاً واسعة ، والثاني لبيان أنه حين خلقها خلقها على تلك الصفة فهو بيان لما أبهم ثم { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ليهتدوا بها إلى البلاد المقصودة .
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{ وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } في موضعه عن السقوط كما قال { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] أو محفوظاً بالشهب عن الشياطين كما قال : { وحفظناها مِن كُلّ شيطان رَّجِيمٍ } [ الحجر : 17 ] { وَهُمْ } أي الكفار { عَنْ ءاياتها } عن الأدلة التي فيها كالشمس والقمر والنجوم { مُّعْرِضُونَ } غير متفكرين فيها فيؤمنون .
{ وَهُوَ الذى خَلَقَ اليل } لتسكنوا فيه { والنهار } لتتصرفوا فيه { والشمس } لتكون سراج النهار { والقمر } ليكون سراج الليل { كُلٌّ } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي كلهم والضمير للشمس والقمر والمراد بهما جنس الطوالع ، وجمع جمع العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة { فِى فَلَكٍ } عن ابن عباس رضي الله عنهما : الفلك السماء . والجمهور على أن الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم و { كل } مبتدأ خبره { يَسْبَحُونَ } يسيرون أي يدورون والجملة في محل النصب على الحال من الشمس والقمر { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الخلد } البقاء الدائم { أفأين مِتَّ } بكسر الميم مدني وكوفي غير أبي بكر { فَهُمُ الخالدون } والفاء الأول لعطف جملة على جملة والثاني لجزاء الشرط ، كانوا يقدرون أنه سيموت فنفى الله عنه الشماتة بهذا أي قضي الله أن لا يخلد في الدنيا بشر أفإن مت أنت أيبقى هؤلاء
.
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الموت وَنَبْلُوكُم } ونختبركم سمي ابتلاء وإن كان عالماً بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم لأنه في صورة الاختبار { بالشر } بالفقر والضر { والخير } الغني والنفع { فِتْنَةً } مصدر مؤكد ل { نبلوكم } من غير لفظه { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم من الصبر والشكر . وعن ابن ذكوان { ترجعون } .
{ وَإِذَا رَاكَ الذين كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ } ما يتخذونك { إِلاَّ هُزُواً } مفعول ثان ل { يتخذونك } نزلت في أبي جهل مر به النبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال : هذا نبي بني عبد مناف { أهذا الذى يَذْكُرُ } يعيب { ءالِهَتَكُمْ } والذكر يكون بخير وبخلافه فإن كان الذاكر صديقاً فهو ثناء وإن كان عدواً فذم { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن } أي بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية { هُمْ كافرون } لا يصدقون به أصلاً فهم أحق أن يتخذوا هزواً منك فإنك محق وهم مبطلون . وقيل : بذكر الرحمن أي بما أنزل عليك من القرآن هم كافرون جاحدون ، والجملة في موضع الحال أي يتخذونك هزواً وهم على حال هي أصل الهزء والسخرية وهي الكفر بالله تعالى ، وكرر { هُمْ } للتأكيد ، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر فأعيد المبتدأ { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } فسر بالجنس . وقيل : نزلت حين كان النضر بن الحارث يستعجل بالعذاب . والعجل والعجلة مصدران ، وهو تقديم الشيء على وقته ، والظاهر أن المراد الجنس وأنه ركب فيه العجلة فكأنه خلق من العجل ولأنه يكثر منه ، والعرب تقول لمن يكثر منه الكرم «خلق من الكرم» فقدم أولاً ذم الإنسان على إفراط العجلة وأنه مطبوع عليها ثم منعه وزجره كأنه قال : ليس ببدع منه أن يستعجل فإنه مجبول على ذلك وهو طبعه وسجيته فقد ركب فيه . وقيل : العجل الطين بلغه حمير قال شاعرهم
والنخل ينبت بين الماء والعجل ... وإنما منع عن الاستعجال وهو مطبوع عليه كما أمره بقمع الشهوة وقد ركبها فيه ، لأنه أعطاه القوة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العجلة و { من عجل } حال أي عجلاً { سأوريكم آياتي } نقماتي { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } بالإتيان بها وهو بالياء عند يعقوب وافقه سهل وعياش في الوصل .
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{ وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد } إتيان العذاب أو القيامة { إِن كُنتُمْ صادقين } قيل : هو أحد وجهي استعجالهم { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } جواب «لو» محذوف و { حين } مفعول به ل { يعلم } أي لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم { متى هذا الوعد } وهو وقت تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم ولا يجدون ناصراً ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم { بَلْ تَأْتِيهِم } الساعة { بَغْتَةً } فجأة { فَتَبْهَتُهُمْ } فتحيرهم أي لا يكفونها بل تفجأهم فتغلبهم { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } فلا يقدرون على دفعها { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يمهلون { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ فَحَاقَ } فحل ونزل { بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ } جزاء { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ } سلي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزائهم به بأن له في الأنبياء أسوة وأن ما يفعلونه به يحيق بهم كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء ما فعلوا .
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
{ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم } يحفظكم { باليل والنهار مِنَ الرحمن } أي من عذابه إن أتاكم ليلاً أو نهاراً { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي بل هم معرضون عن ذكره ولا يخطورنه ببالهم فضلاً أن يخافوا بأسه حتى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكاليء فصلحوا للسؤال عنه ، والمعنى أنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكاليء ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم .
ثم أضرب عن ذلك بقوله { أَمْ لَهُمْ الِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مّن دُونِنَا } لما في «أم» من معنى «بل» فقال : ألهم الهة تمنعهم من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا . ثم استأنف بقوله { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مّنَّا يُصْحَبُونَ } فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره . ثم قال { بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءابَاءهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر } أي ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا ، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعاً لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم وظنوا أنهم دائمون على ذلك وهو أمل كاذب { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } أي نقص أرض الكفر ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام ، وذكر { نَأْتِى } يشير بأن الله يجريه على أيدي المسلمين وإن عساكرهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها { أَفَهُمُ الغالبون } أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم أي ليس كذاك بل يغلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنصرنا .
{ قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحى } أخوفكم من العذاب القرآن { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء } بفتح الياء والميم ورفع الصم ، { ولا تسمع الصم } شامي على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم { إِذَا مَا يُنذَرُونَ } يخوفون . واللام في { الصم } للمعهد وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين ، والأصل ولا يسمعون إذا ما ينذرون فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامهم وسدهم أسماعهم إذا ما أنذروا .
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ } دفعة يسيرة { مّنْ عَذَابِ رَبّكَ } صفة ل { نفحة } { لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين } أي ولئن مسهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لذلوا ودعوا بالويل على أنفسهم وأقروا أنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا ، وقد بولغ حيث ذكر المس والنفحة لأن النفح يدل على القلة يقال نفحه بعطية : رضخه بها مع أن بناءها للمرة . وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات لأن النفح في معنى القلة والنزارة يقال : نفحته الدابة وهو رمح لين ، ونفحه بعطية رضخه والبناء للمرة .
{ وَنَضَعُ الموازين } جمع ميزان وهو ما يوزن به الشيء فتعرف كميته . وعن الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان . وإنما جمع الموازين لتعظيم شأنها كما في قوله { يا أيها الرسل } [ المؤمنون : 51 ] والوزن لصحائف الأعمال في قول { القسط } وصفت الموازين بالقسط وهو العدل مبالغة كأنها في نفسها قسط ، أو على حذف المضاف أي ذوات القسط { لِيَوْمِ القيامة } لأهل يوم القيامة أي لأجلهم { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } من الظلم { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ } وإن كان الشيء مثقال حبة { مثقال } بالرفع : مدني وكذا في «لقمان» على «كان» التامة { مّنْ خَرْدَلٍ } صفة ل { حبة } { أَتَيْنَا بِهَا } أحضرناها . وأنت ضمير المثقال لإضافته إلى الحبة كقولهم «ذهبت بعض أصابعه» { وكفى بِنَا حاسبين } عالمين حافظين ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : لأن من حفظ شيئاً حسبه وعلّه .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً } قيل : هذه الثلاثة هي التوراة فهي فرقان بين الحق والباطل ، وضياء يستضاء به ويتوصل به إلى سبيل النجاة ، وذكر أي شرف أو وعظ وتنبيه أو ذكر ما يحتاج الناس إليه في مصالح دينهم . ودخلت الواو على الصفات كما في قوله { وَسَيّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيّا } [ آل عمران : 39 ] وتقول «مررت بزيد الكريم والعالم والصالح» . ولما انتفع بذلك المتقون خصهم بقوله : { لّلْمُتَّقِينَ }
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
ومحل { الذين } جر على الوصفية أو نصب على المدح أو رفع عليه { يَخْشَوْنَ رَبَّهُم } يخافونه { بالغيب } حال أي يخافونه في الخلاء { وَهُمْ مّنَ الساعة } القيامة وأهوالها { مُشْفِقُونَ } خائفون { وهذا } القرآن { ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ } كثير الخير غزير النفع { أنزلناه } على محمد { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } استفهام توبيخ أي جاحدون أنه منزل من عند الله .
{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ } هداه { مِن قَبْلُ } من قبل موسى وهرون أو من قبل محمد عليه السلام { وَكُنَّا بِهِ } بابراهيم أو برشده { عالمين } أي علمنا أنه أهل لما آتيناه { إِذْ } إما أن تتعلق ب { اتيناه } أو ب { رشده } { قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل } أي الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل لهم ليحقر آلهتهم مع علمه بتعظيمهم لها { التى أَنتُمْ لَهَا عاكفون } أي لأجل عبادتها مقيمون . فلما عجزوا عن الإتيان بالدليل على ذلك .
{ قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين } فقلدناهم { قَالَ } إبراهيم { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءابَاؤُكُمْ فِى ضلال مُّبِينٍ } أراد أن المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر لا يخفى على عاقل ، وأكد ب { أنتم } ليصح العطف لأن العطف على ضمير هو في حكم بعض الفعل ممتنع { قَالُواْ أَجِئْتَنَا بالحق } بالجد { أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } أي أجاد أنت فيما تقول أم لاعب استعظاماً منهم إنكاره عليهم واستبعاداً لأن يكون ما هم عليه ضلالاً ، فثم أضرب عنهم مخبراً بأنه جاد فيما قال غير لاعب مثبتاً لربوبية الملك العلام وحدوث الأصنام بقوله :
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذى فطَرَهُنَّ } أي التماثيل فأنى يعبد المخلوق ويترك الخالق { وَأَنَاْ على ذلكم } المذكور في التوحيد شاهد { من الشاهدين وتالله } أصله «والله» وفي التاء معنى التعجب من تسهيل الكيد على يده مع صعوبته وتعذره لقوة سلطة نمروذ .
{ لاكِيدَنَّ أصنامكم } لأكسرنها { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } بعد ذهابكم عنها إلى عيدكم ، قال ذلك سراً من قومه فسمعه رجل واحد فعرض بقوله { إِنّى سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] أي سأسقم ليتخلف . فرجع إلى بيت الأصنام { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } قطعاً من الجذ وهو القطع جمع جذاذة كزجاجة وزجاج جذاذ بالكسر : علي ، جمع جذيذ أي مجذوذ كخفيف وخفاف { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } للأصنام أو للكفار أي فكسرها كلها بفأس في يده إلا كبيرها فعلق الفأس في عنقه { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ } إلى الكبير { يَرْجِعُونَ } فيسألونه عن كاسرها فتبين لهم عجزه ، أو إلى إبراهيم ليحتج عليهم ، أو إلى الله لما رأوا عجز آلتهم { قَالُواْ } أي الكفار حين رجعوا من عيدهم ورأوا ذلك { مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } أي إن من فعل هذا الكسر لشديد الظلم لجراءته على الآلهة الحقيقة عندهم بالتوقير والتعظيم { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إبراهيم } الجملتان صفتان ل { فتى } إلا أن الأول وهو { يذكرهم } أي يعيبهم لا بد منه للسمع لأنك لا تقول «سمعت زيداً» وتسكت حتى تذكر شيئاً مما يسمع بخلاف الثاني . وارتفاع { إبراهيم } بأنه فاعل { يقال } فالمراد الاسم المسمى أي الذي يقال له هذا الاسم { قَالُواْ } أي نمروذ وأشراف قومه { فَأْتُواْ بِهِ } أحضروا إبراهيم { على أَعْيُنِ الناس } في محل الحال بمعنى معايناً مشاهداً أي بمرأى منهم ومنظر { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } عليه بما سمع منه أو بما فعله كأنهم كرهوا عقابه بلا بينة أو يحضرون عقوبتنا له .
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فلما أحضروه { قَالُواْ ءأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَآ ياإبراهيم قَالَ } إبراهيم { بَلْ فَعَلَهُ } عن الكسائي : إنه يقف عليه أي فعله من فعله ، وفيه حذف الفاعل وأنه لا يجوز ، وجاز أن يكون الفاعل مسنداً إلى الفتى المذكور في قوله { سمعنا فتى يذكرهم } أو إلى { إبراهيم } في قوله { يا إبراهيم } ثم قال { كَبِيرُهُمْ هذا } وهو مبتدأ وخبر . والأكثر أنه لا وقف ، والفاعل { كبيرهم } وهذا وصف أو بدل ، ونسب الفعل إلى كبيرهم وقصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي تبكيتاً لهم وإلزاماً للحجة عليهم لأنهم إذا نظروا النظر الصحيح علموا عجز كبيرهم وأنه لا يصلح إلهاً ، وهذا كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتاباً بخط رشيق أنيق : أأنت كتبت هذا وصاحبك أمي فقلت له «بل كتبته أنت» كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي ، لأن إثباته للعاجز منكما والأمر كائن بينكما استهزاء به وإثبات للقادر ، ويمكن أن يقال : غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة وكان غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له ، فأسند الفعل إليه لأن الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه ، ويجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبد ويدعى إلهاً أن يقدر على هذا . ويحكى أنه قال : غضب أن تعبد هذه الصغار معه وهو أكبر منها فكسرهن ، أو هو متعلق بشرط لا يكون وهو نطق الأصنام فيكون نفياً للمخبر عنه أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، وقوله { فَاسْئَلُوهُمْ } اعتراض . وقيل : عرض بالكبير لنفسه وإنما أضاف نفسه إليهم لاشتراكهم في الحضور { فَاسْئَلُوهُمْ } عن حالهم { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } وأنتم تعلمون عجزهم عنه .
{ فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ } فرجعوا إلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم لما أخذ بمخانقهم { فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } على الحقيقة بعبادة ما لا ينطق لا من ظلمتموه حين قلتم { من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين } فإن من لا يدفع عن رأسه الفاس ، كيف يدفع عن عابديه البأس؟
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
{ ثُمَّ نُكِسُواْ على رُؤُوسَهُمْ } قال أهل التفسير : أجرى الله تعالى الحق على لسانهم في القول الأول ، ثم أدركتهم الشقاوة أي ردوا إلى الكفر بعد أن أقروا على أنفسهم بالظلم ، يقال : نكسته قلبته فجعلت أسفله أعلاه أي استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤوا بالفكرة الصالحة ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة وقالوا { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ } فكيف تأمرنا بسؤالها؟ والجملة سدت مسد مفعولي { علمت } والمعنى لقد علمت عجزهم عن النطق فكيف نسألهم؟ { قَالَ } محتجاً عليهم { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً } هو في موضع المصدر أي نفعاً { وَلاَ يَضُرُّكُمْ } إن لم تعبدوه { أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } «أف» صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر ، ضجر مما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم وبعد وضوح الحق فتأفف بهم واللام لبيان المتأفف به أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف { أف } مدني وحفص ، { أفّ } مكي وشامي { أفّ } غيرهم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أن من هذا وصفه لا يجوز أن يكون إلهاً .
فلما لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب { قَالُواْ حَرّقُوهُ } بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظع { وانصروا ءالِهَتَكُمْ } بالانتقام منه { إِن كُنتُمْ فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصراً مؤزراً فاختاروا له أهول المعاقبات وهو الإحراق بالنار وإلا فرطتم في نصرتها ، والذي أشار بإحراقه نمروذ أو رجل من أكراد فارس . وقيل : إنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتاً بكوثى وجمعوا شهراً أصناف الخشب ثم أشعلوا ناراً عظيمة كادت الطير تحترق في الجو من وهجها ، ثم وضعوه في المنجنيق مقيداً مغلولاً فرموا به فيها وهو يقول : حسبي الله ونعم الوكيل ، وقال له جبريل : هل لك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا . قال : فسل ربك . قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي . وما أحرقت النار إلا وثاقه . وعن ابن عباس : إنما نجا بقوله «حسبي الله ونعم الوكيل» .
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
{ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْداً وسلاما } أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كأن ذاتها برد وسلام { على إبراهيم } أراد ابردي فيسلم منك إبراهيم . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها . والمعنى أن الله تعالى نزع عنها طبعها الذي طبعها عليه من الحر والإحراق وأبقاها على الإضاءة والإشراق كما كانت وهو على كل شيء قدير { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } إحراقاً { فجعلناهم الأخسرين } فأرسل على نمروذ وقومه البعوض فأكلت لحومهم وشربت دماءهم ودخلت بعوضة في دماغ نمروذ فأهلكته { ونجيناه } أي إبراهيم { وَلُوطاً } ابن أخيه هاران من العراق { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا للعالمين } أي أرض الشام وبركتها أن أكثر الأنبياء منها فانتشرت في العالمين آثارهم الدينية وهي أرض خصب يطيب فيها عيش الغني والفقير . وقيل : ما من ماء عذب في الأرض إلا وينبع أصله من صخرة بيت المقدس . روي أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة . وقال عليه السلام " «إنها ستكون هجرة بعد هجرة فخيار الناس إلى مهاجر إبراهيم» " { وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } قيل : هو مصدر كالعافية من غير لفظ الفعل السابق أي وهبنا له هبة : وقيل : هي ولد الولد وقد سأل ولداً فأعطيه وأعطي يعقوب نافلة أي زيادة فضلاً من غير سؤال وهي حال من { يعقوب } { وَكُلاًّ } أي إبراهيم وإسحق ويعقوب وهو المفعول الأول لقوله { جَعَلْنَا } والثاني { صالحين } في الدين والنبوة .
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
{ وجعلناهم أَئِمَّةً } يقتدى بهم في الدين { يَهْدُونَ } الناس { بِأَمْرِنَا } بوحينا { وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات } وهي جميع الأعمال الصالحة وأصله أن تفعل الخيرات ثم فعلا الخيرات ثم فعل الخيرات . وكذلك قوله { وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة } والأصل وإقامة الصلاة إلا أن المضاف إليه جعل بدلاً من الهاء { وَكَانُواْ لَنَا عابدين } لا للإصنام فأنتم يا معشر العرب أولاد إبراهيم فاتبعوه في ذلك .
{ وَلُوطاً } انتصب بفعل يفسره { آتَيْنَاهُ حُكْمًا } حكمة وهي ما يجب فعله من العمل أو فصلاً بين الخصوم أو نبوة { وَعِلْماً } فقهاً { ونجيناه مِنَ القرية } من أهلها وهي سدوم { التى كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث } اللواطة والضراط وحذف المارة بالحصى وغيرها { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فاسقين } خارجين عن طاعة الله { وأدخلناه فِى رَحْمَتِنَا } في أهل رحمتنا أو في الجنة { إِنَّهُ مِنَ الصالحين } أي جزاء له على صلاحه كما أهلكنا قومه عقاباً على فسادهم { وَنُوحاً } أي واذكر نوحاً { إِذْ نادى } أي دعا على قومه بالهلاك { مِن قَبْلُ } من قبل هؤلاء المذكورين { فاستجبنا لَهُ } أي دعاءه { فنجيناه وَأَهْلَهُ } أي المؤمنين من ولده وقومه { مِنَ الكرب العظيم } من الطوفان وتكذيب أهل الطغيان .
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
{ ونصرناه مِنَ القوم الذين كَذَّبُواْ بئاياتنا } منعناه منهم أي من أذاهم { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْء فأغرقناهم أَجْمَعِينَ } صغيرهم وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم .
{ وَدَاوُودَ وسليمان } أي واذكرهما { إِذْ } بدل منهما { يَحْكُمَانِ فِى الحرث } في الزرع أو الكرم { إِذْ } ظرف ل { يحكمان } { نَفَشَتْ } دخلت { فِيهِ غَنَمُ القوم } ليلاً فأكلته وأفسدته والنفش انتشار الغنم ليلاً بلا راع { وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ } أرادهما والمتحاكمين إليهما { شاهدين } أي كان ذلك بعلمنا ومرأى منا .
{ ففهمناها } أي الحكومة أو الفتوى { سليمان } وفيه دليل على أن الصواب كان مع سليمان صلوات الله عليه . وقصته أن الغنم رعت الحرث وأفسدته بلا راع ليلاً فتحاكما إلى داود فحكم بالغنم لأهل الحرث وقد استوت قيمتاهما أي قيمة الغنم كانت على قدر النقصان من الحرث فقال سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة غير هذا أرفق بالفريقين ، فعزم عليه ليحكمن فقال : أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها والحرث إلى رب الغنم حتى يصلح الحرث ويعود كهيئته يوم أفسد ثم يترادان . فقال : القضاء ما قضيت وأمضى الحكم بذلك ، وكان ذلك باجتهاد منهما وهذا كان في شريعتهم ، فأما في شريعتنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم بالليل أو بالنهار إلا أن يكون مع البهيمة سائق أو قائد ، وعند الشافعي رحمه الله يجب الضمان بالليل . وقال الجصاص : إنما ضمنوا لأنهم أرسلوها . ونسخ الضمان بقوله عليه السلام « العجماء جبار » وقال مجاهد : كان هذا صلحاً وما فعله داود كان حكماً والصلح خير { وَكُلاًّ } من داود وسليمان { آتيناه حُكْماً } نبوة { وَعِلْماً } معرفة بموجب الحكم { وَسَخَّرْنَا } وذللنا { مَّعَ دَاوُودُ الجبال يُسَبّحْنَ } وهو حال بمعنى مسبحات أو استئناف كأن قائلاً قال : كيف سخرهن؟ فقال : يسبحن { والطير } معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وقدمت الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإعجاز لأنها جماد . روي أنه كان يمر بالجبال مسبحاً وهي تتجاوبه : وقيل : كانت تسير معه حيث سار { وَكُنَّا فاعلين } بالأنبياء مثل ذلك وإن كان عجباً عندكم .
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ } أي عمل اللبوس والدروع واللبوس اللباس والمراد الدرع { لِتُحْصِنَكُمْ } شامي وحفص أي الصنعة ، وبالنون : أبو بكر وحماد أي الله عز وجل ، وبالياء : غيرهم أي اللبوس أو الله عز وجل { مّن بَأْسِكُمْ } من حرب عدوكم { فَهَلْ أَنتُمْ شاكرون } استفهام بمعنى الأمر أي فاشكروا الله على ذلك { ولسليمان الريح } أي وسخرنا له الريح { عَاصِفَةً } حال أي شديدة الهبوب ووصفت في موضع آخر بالرخاء لأنها تجري باختياره ، وكانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفة لهبوبها على حكم إرادته { تَجْرِى بِأَمْرِهِ } بأمر سليمان { إِلَى الأرض التى بَارَكْنَا فِيهَا } بكثرة الأنهار والأشجار والثمار والمراد الشام ، وكان منزله بها وتحمله الريح من نواحي الأرض إليها { وَكُنَّا بِكُلّ شَىْء عالمين } وقد أحاط علمنا بكل شيء فتجري الأشياء كلها على ما يقتضيه علمنا { وَمِنَ الشياطين } أي وسخرنا منهم { مَن يَغُوصُونَ لَهُ } في البحار بأمره لاستخراج الدر وما يكون فيها { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي دون الغوص وهو بناء المحاريب والتماثيل والقصور والقدور والجفان { وَكُنَّا لَهُمْ حافظين } أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد فيما هم مسخرون فيه .
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{ وَأَيُّوبَ } أي واذكر أيوب { إِذْ نادى رَبَّهُ أَنّى } أي دعا بأني { مَسَّنِىَ الضر } الضر بالفتح الضرر في كل شيء وبالضم الضرر في النفس من مرض أو هزال { وَأَنتَ أَرْحَمُ الرحمين } ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة ولم يصرح بالمطلوب فكأنه قال : أنت أهل أن ترحم وأيوب أهل أن يرحم فارحمه واكشف عنه الضر الذي مسه . عن أنس رضي الله عنه : أخبر عن ضعفه حين لم يقدر على النهوض إلى الصلاة ولم يشتك وكيف يشكو من قيل له { إِنَّا وجدناه صَابِراً نّعْمَ العبد } [ ص : 44 ] وقيل : إنما شكا إليه تلذذاً بالنجوى لا منه تضرراً بالشكوى ، والشكاية إليه غاية القرب كما أن الشكاية منه غاية البعد { فاستجبنا لَهُ } أجبنا دعاءه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرّ } فكشفنا ضره إنعاماً عليه { وآتيناه أهله ومثلهم معهم } روي أن أيوب عليه السلام كان رومياً من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام وله سبعة بنين وسبع بنات وثلاثة آلاف بعير وسبعة الاف شاة وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد ، لكل عبد امرأة وولد ونخيل ، فابتلاه الله تعالى بذهاب ولده وماله وبمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشرة سنة أو ثلاث سنين ، وقالت له امرأته يوماً : لو دعوت الله عز وجل . فقال : كم كانت مدة الرخاء؟ فقالت : ثمانين سنة . فقال : أنا أستحي من الله أن أدعوه وما بلغت مدة بلائي مدة رخائي . فلما كشف الله عنه أحيا ولده بأعيانهم ورزقه مثلهم معهم { رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا } هو مفعول له { وذكرى للعابدين } يعني رحمة لأيوب وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كصبره فيثابوا كثوابه .
{ وإسماعيل } بن إبراهيم { وَإِدْرِيسَ } بن شيت بن آدم { وَذَا الكفل } أي اذكرهم وهو الياس أو زكريا أو يوشع بن نون ، وسمي به لأنه ذو الحظ من الله والكفل الحظ { كُلٌّ مّنَ الصابرين } أي هؤلاء المذكورون كلهم موصوفون بالصبر .
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وأدخلناهم فِى رَحْمَتِنَا } نبوتنا أو النعمة في الآخرة { إِنَّهُمْ مّنَ الصالحين } أي ممن لا يشوب صلاحهم كدر الفساد .
{ وَذَا النون } أي اذكر صاحب الحوت والنون الحوت فأضيف إليه { إِذ ذَّهَبَ مغاضبا } حال أي مراغماً لقومه . ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العقاب عليهم عندها . روي أنه برم بقومه لطول ما ذكرهم فلم يتعظوا وأقاموا على كفرهم فراغمهم وظن أن ذلك يسوغ حيث لم يفعله إلا غضباً لله وبغضاً للكفر وأهله وكان عليه أن يصابر وينتظر الإذن من الله تعالى في المهاجرة عنهم فابتلي ببطن الحوت { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ } نضيق { عَلَيْهِ } وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل يوماً على معاوية فقال : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك . قال : وما هي يا معاوية؟ فقرأ الآية . فقال : أو يظن نبي الله أن لا يقدر عليه؟ قال : هذا من القدر لا من القدرة { فنادى فِى الظلمات } أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات } [ البقرة : 17 ] أو ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت { أن } أي بأنه { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } أو بمعنى أي { سبحانك إِنّى كُنتُ مِنَ الظالمين } لنفسي في خروجي من قومي قبل أن تأذن لي في الحديث " ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " وعن الحسن : ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم . { فاستجبنا لَهُ ونجيناه مِنَ الغم } غم الزلة والوحشة والوحدة { وكذلك نُنجِى المؤمنين } إذا دعونا واستغاثوا بنا . { نجى } شامي وأبو بكر بإدغام النون في الجيم عند البعض لأن النون لا تدغم في الجيم . وقيل : تقديره نجى النجاء المؤمنين فسكن الياء تخفيفاً وأسند الفعل إلى المصدر ونصب المؤمنين بالنجاء لكن فيه إقامة المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول وهذا لا يجوز ، وفيه تسكين الياء وبابه الضرورات . وقيل : أصله «ننجى» من التنجية فحذفت النون الثانية لاجتماع النونين كما حذفت إحدى التاءين في { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] .
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } سأل ربه أن يرزقه ولداً يرثه ولا يدعه وحيداً بلا وارث ، ثم رد أمره إلى الله مستسلماً فقال { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } أي فإن لم تزرقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث أي باق { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى } ولداً { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } جعلناها صالحة للولادة بعد العقار أي بعد عقرها أو حسنة وكانت سيئة الخلق { إنهم } أي الأنبياء المذكورين { كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الخيرات } أي أنهم إنما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم لمبادرتهم أبواب الخير ومسارعتهم في تحصيلها { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } أي طمعاً وخوفاً كقوله { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُو رَّحْمَةِ رَبّهِ } [ الزمر : 9 ] وهما مصدران في موضع الحال أو المفعول له أي للرغبة فينا والرهبة منا { وَكَانُواْ لَنَا خاشعين } متواضعين خائفين .
{ والتى } أي واذكر التي { أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } حفظته من الحلال والحرام { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أجرينا فيها روح المسيح أو أمرنا جبريل فنفخ في جيب درعها فأحدثنا بذلك النفخ عيسى في بطنها ، وإضافة الروح إليه تعالى لتشريف عيسى عليه السلام { وجعلناها وابنها ءايَةً } مفعول ثان { للعالمين } وإنما لم يقل آيتين كما قال { وَجَعَلْنَا اليل والنهار ءايَتَيْنِ } [ الإسراء : 12 ] لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير فحل ، أو التقدير وجعلناها آية وابنها كذلك ف { آية } مفعول المعطوف عليه ويدل عليه قراءة من قرأ { آيتين } .
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
{ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } لأمة الملة وهذه إشارة إلى ملة الإسلام وهي ملة جميع الأنبياء . و { أُمَّةً وَاحِدَةً } حال أي متوحدة غير متفرقة والعالم ما دل عليه اسم الإشارة أي أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها لا تنحرفون عنها يشار إليها ملة واحدة غير مختلفة { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون } أي ربيتكم اختياراً فاعبدوني شكراً وافتخاراً والخطاب للناس كافة .
{ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أصل الكلام وتقطعتم إلا أن الكلام صرف إلى الغيبة على طريقة الالتفات ، والمعنى وجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعاً وصاروا فرقاً وأحزاباً . ثم توعدهم بأن هؤلاء الفرق المختلفة { كُلٌّ إِلَيْنَا راجعون } فنجازيهم على أعمالهم { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } شيئاً { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } بما يجب الإيمان به { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي فإن سعيه مشكور مقبول والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه وقد نفى نفي الجنس ليكون أبلغ { وَإِنَّا لَهُ } للسعي أي الحفظة بأمرنا { كاتبون } في صحيفة عمله فنثيبه به { وَحَرَامٌ } { وحرم } كوفي غير حفص وخلف وهما لغتان كحل وحلال وزناً وضده معنى والمراد بالحرام الممتنع وجوده { على قَرْيَةٍ أهلكناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } والمعنى ممتنع على مهلك غير ممكن أن لا يرجع إلى الله بالبعث ، أو حرام على قرية أهلكناها أي قدرنا إهلاكهم أو حكمنا بإهلاكهم ذلك وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور أنهم لا يرجعون من الكفر إلى الإسلام .
{ حتى } هي التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكي الجملة من الشرط والجزاء أعني { إِذَا } و «ما» في حيزما { فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } أي فتح سدهما فحذف المضاف كما حذف المضاف إلى قرية { فتّحت } : شامي وهما قبيلتان من جنس الإنس . يقال : الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج { وَهُمْ } راجع إلى الناس المسوقين إلى المحشر . وقيل : هم يأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد { مّن كُلّ حَدَبٍ } نشز من الأرض أي ارتفاع { يَنسِلُونَ } يسرعون
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
{ واقترب الوعد الحق } أي القيامة وجواب { إذا } { فَإِذَا هِىَ } وهي «إذا» المفاجأة وهي تقع في المجازاة سادة مسد الفاء كقوله { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } [ الروم : 36 ] فإذا جاءت الفاء معها تعاونتاً على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد ، ولو قيل فهي شاخصة أو إذا هي شاخصة كان سديداً وهي ضمير مبهم يوضحه الأبصار ويفسره { شاخصة أبصار الذين كَفَرُواْ } أي مرتفعة الأجفان لا تكاد تطرف من هول ما هم فيه { ياويلنا } متعلق بمحذوف تقديره يقولون يا ويلنا و { يقولون } حال من { الذين كفروا } { قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا } اليوم { بَلْ كُنَّا ظالمين } بوضعنا العبادة في غير موضعها .
{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } يعني الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم لهم واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم { حَصَبُ } حطب وقرىء { حطب } { جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } فيها داخلون { لَوْ كَانَ هَؤُلاء ءالِهَةً } كما زعمتم { مَّا وَرَدُوهَا } ما دخلوا النار { وَكُلٌّ } أي العابد والمعبود { فِيهَا } في النار { خالدون لَهُمْ } للكفار { فِيهَا زَفِيرٌ } أنين وبكاء وعويل .
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } شيئاً ما لأنهم صاروا صماً وفي السماع نوع أنس فلم يعطوه .
{ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى } الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو التوفيق للطاعة فنزلت جواباً لقول ابن الزبعري عند تلاوته عليه السلام على صناديد قريش { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } إلى قوله { خالدون } أليس اليهود عبدوا عزيراً ، والنصارى المسيح ، وبنو مليح الملائكة على أن قوله { وما تعبدون } لا يتناولهم لأن «ما» لمن لا يعقل إلا أنهم أهل عناد فزيد في البيان { أولئك } يعني عزيراً والمسيح والملائكة { عَنْهَا } عن جهنم { مُبْعَدُونَ } لأنهم لم يرضوا بعبادتهم . وقيل : المراد بقوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } جميع المؤمنين لما روي أن عليًّا رضي الله عنه قرأ هذه الآية ثم قال : «أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف» وقال الجنيد رحمه الله : سبقت لهم منا العناية في البداية فظهرت لهم الولاية في النهاية .
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا } صوتها الذي يحس وحركة تلهبها وهذه مبالغة في الإبعاد عنها أي لا يقربونها حتى لا يسمعوا صوتها وصوت من فيها { وَهُمْ فِى مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ } من النعيم { خالدون } مقيمون والشهوة طلب النفس اللذة { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } النفخة الأخيرة { وتتلقاهم الملئكة } أي تستقبلهم الملائكة مهنئين على أبواب الجنة يقولون { هذا يَوْمُكُمُ الذى كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي هذا وقت ثوابكم الذي وعدكم ربكم في الدنيا .
العامل في { يَوْمَ نَطْوِى السماء } { لا يحزنهم } أو { تتلقاهم } { تطوى السماء } يزيد ، وطيها تكوير نجومها ومحو رسومها أو هو ضد النشر نجمعها ونطويها { كَطَىّ السجل } أي لصحيفة { لِلْكُتُبِ } حمزة وعلي وحفص أي للمكتوبات أي لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة وغيرهم للكتاب أي كما يطوى الطومار للكتابة ، أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب . وقيل : السجل : ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه . وقيل : كاتب كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم . والكتاب على هذا اسم الصحيفة المكتوب فيها والطي مضاف إلى الفاعل وعلى الأول إلى المفعول { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } انتصب الكاف بفعل مضمر يفسره { نعيده } و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، و { أول خلق } ظرف ل { بدأنا } أي أول ما خلق ، أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ الثابت في المعنى . وأول الخلق إيجاده أي فكما أوجده أو لا يعيده ثانياً تشبيهاً للإعادة بالإبداء في تناول القدرة لهما على السواء . والتنكير في خلق مثله في قولك «هو أول رجل جاءني» تريد أول الرجال ولكنك وحدته ونكرته إرادة تفصيلهم رجلاً رجلاً فكذلك معنى { أول خلق } أول الخلق بمعنى أول الخلائق لأن الخلق مصدر لا يجمع { وَعْداً } مصدر مؤكد لأن قوله { تعيده } عدة للإعادة { عَلَيْنَا } أي وعدا كائناً لا محالة { إِنَّا كُنَّا فاعلين } ذلك أي محققين هذا الوعد فاستعدوا له وقدموا صالح الأعمال للخلاص من هذه الأهوال .
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور } كتاب داود عليه السلام { مِن بَعْدِ الذكر } التوراة { أن الأرض } أي الشام { يَرِثُهَا عِبَادِىَ } ساكنة الياء : حمزة غيره بفتح الياء { الصالحون } أي أمة محمد عليه السلام ، أو الزبور بمعنى المزبور أي المكتوب يعني ما أنزل على الأنبياء من الكتب . والذكر أم الكتاب يعني اللوح لأن الكل أخذوا منه . دليله قراءة حمزة وخلف بضم الزاي على جمع الزبر بمعنى المزبور والأرض أرض الجنة .
{ إِنَّ فِى هذا } أي القرآن أو في المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ { لبلاغا } لكفاية وأصله ما تبلغ به البغية { لّقَوْمٍ عابدين } موحدين وهم أمة محمد عليه السلام { وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً } قال عليه السلام « إنما أنا رحمة مهداة » { للعالمين } لأنه جاء بما يسعدهم إن اتبعوه ومن لم يتبع فإنما أتى من نفسه حيث ضيع نصيبه منها . وقيل : هو رحمة للمؤمنين في الدارين وللكافرين في الدنيا بتأخير العقوبة فيها . وقيل : هو رحمة للمؤمنين والكافرين في الدنيا بتأخير عذاب الاستئصال والمسخ والخسف . و { رحمة } مفعول له أو حال أي ذا رحمة .
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ قُلْ إِنَّمَا } إنما لقصر الحكم على شيء أو لقصر الشيء على حكم نحو «إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد» . وفاعل { يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ } والتقدير يوحي إليَّ وحدانية إلهي ، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي يوحي إليّ فتكون «ما» موصولة { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } استفهام بمعنى الأمر أي أسلموا { فَإِن تَوَلَّوْاْ } عن الإسلام { فَقُلْ ءاذَنتُكُمْ } أعلمتكم ما أمرت به { على سَوَاء } حال أي مستوين في الإعلام به ولم أخصص بعضكم ، وفيه دليل بطلان مذهب الباطنية { وَإِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي لا أدري متى يكون يوم القيامة لأن الله تعالى لم يطلعني عليه ولكني أعلم بأنه كائن لا محالة ، أو لا أدري متى يحل بكم العذاب إن لم تؤمنوا { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } إنه عالم بكل شيء يعلم ما تجاهرونني به من الطعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الأحقاد للمسلمين وهو مجازيكم عليه .
{ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } وما أدري لعل تأخير العذاب عنكم في الدنيا امتحان لكم لينظر كيف تعملون { ومتاع إلى حِينٍ } وتمتيع لكم إلى الموت ليكون ذلك حجة عليكم { قَالَ رَبّ احكم بالحق } اقض بيننا وبين أهل مكة بالعدل ، أو بما يحق عليهم من العذاب ولا تحابهم وشدد عليهم كما قال «واشدد وطأتك على مضر» . { قال رب } حفص على حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { رب احكم } يزيد { ربي أحكم } زيد عن يعقوب { وَرَبُّنَا الرحمن } العاطف على خلقه { المستعان } المطلوب منه المعونة { على مَا تَصِفُونَ } وعن ابن ذكوان بالياء ، كانوا يصفون الحال على خلاف ما جرت عليه وكانوا يطمعون أن تكون الشوكة لهم والغلبة فكذب الله ظنونهم وخيب آمالهم ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وخذلهم أي الكفار وهو المستعان على ما يصفون .
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ } أمر بني آدم بالتقوى ، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة ووصفها بأهول صفة بقوله { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ } لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم بامتثال ما أمرهم به ربهم من التردي بلباس التقوى الذي يؤمنهم من تلك الأفزاع . والزلزلة شدة التحريك والإزعاج ، وإضافة الزلزلة إلى الساعة إضافة المصدر إلى فاعله كأنها هي التي تزلزل الأرض على المجاز الحكمي ، أو إلى الظرف لأنها تكون فيها كقوله { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } [ سبأ : 33 ] ووقتها يكون يوم القيامة أو عند طلوع الشمس من مغربها ، ولا حجة فيها للمعتزلة في تسمية المعدوم شيئاً فإن هذا اسم لها حال وجودها وانتصب { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } أي الزلزلة أو الساعة بقوله { تَذْهَلُ } تغفل . والذهول : الغفلة { كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ } عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل . وقيل { مرضعة } ليدل على أن ذلك الهول إذا حدث وقد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة إذ المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ } أي حبلى { حِمْلِهَا } ولدها قبل تمامه . عن الحسن : تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام { وَتَرَى الناس } أيها الناظر { سكارى } على التشبيه لما شاهدوا بساط العزة وسلطنة الجبروت وسرادق الكبرياء حتى قال كل نبي : نفسي نفسي { وَمَا هُم بسكارى } على التحقيق { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } فخوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم وطير تمييزهم وردهم في نحو حال من يذهب السكر بعقله وتمييزه . وعن الحسن : وترى الناس سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب . { سكرى } فيهما بالإمالة : حمزة وعلي وهو كعطشى في عطشان . رُوي أنه نزلت الآيتان ليلاً في غزوة بني المصطلق فقرأهما النبي عليه السلام فلم ير أكثر باكياً من تلك الليلة .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{ وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } في دين الله { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال . نزلت في النضر بن الحرث وكان جدلاً يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن : أساطير الأولين ، والله غير قادر على إحياء من بلي ، أو هي عامة في كل من يخاصم في الدين بالهوى { وَيَتَّبِعْ } في ذلك { كُلَّ شيطان مَّرِيدٍ } عاتٍ مستمر في الشر . ولا وقف على { مريد } لأن ما بعده صفته { كُتِبَ عَلَيْهِ } قضي على الشيطان { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } تبعه أي تبع الشيطان { فأَنَّه } فأن الشيطان { يُضِلُّهُ } عن سواء السبيل { وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير } النار . قال الزجاج : الفاء في فأنه للعطف و «أن» مكررة للتأكيد . ورد عليه أبو علي وقال : إن «من» إن كان للشرط فالفاء دخل لجزاء الشرط ، وإن كان بمعنى الذي فالفاء دخل على خبر المبتدأ والتقدير : فالأمر أنه يضله . قال : والعطف والتأكيد يكون بعد تمام الأول ، والمعنى كتب على الشيطان إضلال من تولاه وهدايته إلى النار .
ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّنَ البعث } يعني إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم وقد كنتم في الابتداء تراباً وماء ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا هذا وهو صيرورة الخلق تراباً وماء { فَإِنَّا خلقناكم } أي أباكم { مّن تُرَابٍ ثُمَّ } خلقتم { مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي قطعة دم جامدة { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي لحمة صغيرة قدر ما يمضغ { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب كأن الله عز وجل يخلق المضغة متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب ، ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم . وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة { لّنُبَيّنَ لَكُمْ } بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا ، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً ثم من نطفة ثانياً ولا مناسبة بين التراب والماء وقدر أن يجعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً قادر على إعادة ما بدأه { وَنُقِرُّ } بالرفع عند غير المفضل مستأنف بعد وقف . أي نحن نثبت { فِى الأرحام مَا نَشَاء } ثبوته { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي وقت الولادة وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من الرحم { طِفْلاً } حال وأريد به الجنس فلذا لم يجمع ، أو أريد به ثم نخرج كل واحد منكم طفلاً { ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ } ثم نربيكم لتبلغوا { أَشُدَّكُمْ } كمال عقلكم وقوتكم وهو من ألفاظ الجموع التي لا يستعمل لها واحد { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } عند بلوغ الأشد أو قبله أو بعده { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أخسه يعني الهرم والخرف { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي لكيلا يعلم شيئاً من بعد ما كان يعلمه أو لكيلا يستفيد علماً وينسى ما كان عالماً به .
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } ميتة يابسة { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت } تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } وانتفخت . { وربأت } حيث كان : يزيد ارتفعت { وَأَنبَتَتْ مِن كُلّ زَوْجٍ } صنف { بَهِيجٍ } حسن صار للناظرين إليه .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ ذلك } مبتدأ خبره { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم حاصل بهذا وهو أن الله هو الحق أي الثابت الوجود { وَأَنَّهُ يُحْىِ الموتى } كما أحيا الأرض { وَأَنَّهُ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } قادر { وَأَنَّ الساعة ءاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِى القبور } أي أنه حكيم لا يخلف الميعاد وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد { وَمِنَ الناس مَن يجادل فِى الله } في صفاته فيصفه بغير ما هو له . نزلت في أبي جهل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } ضروري { وَلاَ هُدًى } أي استدلال لأنه يهدي إلى المعرفة { وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ } أي وحي والعلم للإنسان من أحد هذه الوجوه الثلاثة { ثَانِىَ عِطْفِهِ } حال أي لاوياً عنقه عن طاعة الله كبراً وخيلاء . وعن الحسن : { ثاني عطفه } بفتح العين أي مانع تعطفه إلى غيره { لِيُضِلَّ } تعليل للمجادلة . { ليضل } مكي وأبو عمرو { عَن سَبِيلِ الله } دينه { لَهُ فِى الدنيا خِزْىٌ } أي القتل يوم بدر { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق } أي جمع له عذاب الدارين { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي السبب في عذاب الدارين هو ما قدمت نفسه من الكفر والتكذيب ، وكنى عنها باليد لأن اليد آلة الكسب { وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ } فلا يأخذ أحداً بغير ذنب ولا بذنب غيره وهو عطف على { بما } أي وبأن الله . وذكر الظلام بلفظ المبالغة لاقترانه بلفظ الجمع وهو العبيد ، ولأن قليل الظلم منه مع علمه بقبحه واستغنائه كالكثير منا .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{ وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } على طرف من الدين لا في وسطه وقلبه وهذا مثل لكونهم على قلق واضطراب في دينهم لا على سكون وطمأنينة وهو حال أي مضطرباً { فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ } صحة في جسمه وسعة في معيشته { اطمأن } سكن واستقر { بِهِ } بالخير الذي أصابه أو بالدين فعبد الله { وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ } شر وبلاء في جسده وضيق في معيشته { انقلب على وَجْهِهِ } جهته أي ارتد ورجع إلى الكفر كالذي يكون على طرف من العسكر ، فإن أحس بظفر وغنيمة قر واطمأن وإلا فر وطار على وجهه . قالوا : نزلت في أعاريب قدموا المدينة مهاجرين وكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهراً سوياً وولدت امرأته غلاماً سوياً وكثر ماله وماشيته قال : ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً واطمأن ، وإن كان الأمر بخلافه قال : ما أصبت إلا شراً وانقلب عن دينه { خَسِرَ الدنيا والآخرة } حال «وقد» مقدرة دليله قراءة روح وزيد { خاسر الدنيا والآخرة } والخسران في الدنيا بالقتل فيها وفي الآخرة بالخلود في النار { ذلك } أي خسران الدارين { هُوَ الخسران المبين } الظاهر الذي لا يخفى على أحد .
{ يَدْعُواْ مِن دُونِ الله } يعني الصنم فإنه بعد الردة يفعل كذلك { مَا لاَ يَضُرُّهُ } إن لم يعبده { وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } إن عبده { ذلك هُوَ الضلال البعيد } عن الصواب .
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{ يَدْعُواْ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } والإشكال أنه تعالى نفى الضر والنفع عن الأصنام قبل هذه الآية وأثبتهما لها هنا . والجواب أن المعنى إذا فهم ذهب هذا الوهم ، وذلك أن الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضراً ولا نفعاً وهو يعتقد فيه أنه ينفعه ثم قال يوم القيامة : يقول هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى لها أثر الشفاعة لمن ضره أقرب من نفعه { لَبِئْسَ المولى } أي الناصر الصاحب { وَلَبِئْسَ العشير } المصاحب وكرر يدعوا كأنه قال : يدعو يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ثم قال لمن ضره بكونه معبوداً أقرب من نفعه بكونه شفيعاً .
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } هذا وعد لمن عبد الله بكل حال لا لمن عبد الله على حرف { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِى الدنيا والآخرة } المعنى أن الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن ظن من أعاديه غير ذلك { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ } بحبل { إِلَى السماء } إلى سماء بيته { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } ثم ليختنق به ، وسمي الاختناق قطعاً لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه . وبكسر اللام بصري وشامي { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } أي الذي يغيظه أو «ما» مصدرية أي غيظه ، والمعنى فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه . وسمي فعله كيداً على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده إنما كاد به نفسه والمراد ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ { وكذلك أنزلناه } ومثل ذلك الإنزال أنزل القرآن كله { ءايات بينات } واضحات { وَأَنَّ الله يَهْدِى مَن يُرِيدُ } أي ولأن الله يهدي به الذين يعلم أنهم يؤمنون ، أو يثبت الذي آمنوا ويزيدهم هدى أنزله كذلك مبيّناً .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{ إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ } قيل : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن ، والصابئون نوع من النصارى فلا تكون ستة { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } في الأحوال والأماكن فلا يجازيهم جزاء واحداً ولا يجمعهم في موطن واحد . وخبر { إن الذين آمنوا } { إن الله يفصل بينهم } كما تقول «إن زيداً إن أباه قائم» { إِنَّ الله على كُلّ شَىْء شَهِيدٌ } عالم به حافظ له فلينظر كل امرىء معتقده ، وقوله وفعله وهو أبلغ وعيد
{ أَلَم تَرَ } ألم تعلم يا محمد علماً يقوم مقام العيان { أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السماوات وَمَن فِى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } قيل : إن الكل يسجد له ولكنا لا نقف عليه كما لا نقف على تسبيحها قال الله تعالى : { وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] وقيل : سمي مطاوعة غير المكلف له فيما يحدث فيه من أفعاله وتسخيره له سجوداً له تشبيهاً لمطاوعته بسجود المكلف الذي كل خضوع دونه { وَكَثِيرٌ مّنَ الناس } أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة ، أو هو مرفوع على الابتداء { ومن الناس } صفة له والخبر محذوف وهو مثاب ويدل عليه قوله { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي وكثير منهم حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود { وَمَن يُهِنِ الله } بالشقاوة { فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ } بالسعادة { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من الإكرام والإهانة وغير ذلك ، وظاهر هذه الآية والتي قبلها ينقض على المعتزلة قولهم لأنهم يقولون شاء أشياء ولم يفعل وهو يقول يفعل ما يشاء .
{ هذان خَصْمَانِ } أي فريقان مختصمان؛ فالخصم صفة وصف بها الفريق وقوله { اختصموا } للمعنى و { هذان } للفظ والمراد المؤمنون والكافرون . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : رجع إلى أهل الأديان المذكورة : فالمؤمنون خصم وسائر الخمسة خصم { فِى رَبّهِمْ } في دينه وصفاته ، ثم بين جزاء كل خصم بقوله { فالذين كَفَرُواْ } وهو فصل الخصومة المعنى بقوله { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } { قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ } كأن الله يقدر لهم نيراناً على مقادير جثتهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة ، واختير لفظ الماضي لأنه كائن لا محالة فهو كالثابت المتحقق { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ } بكسر الهاء والميم ، بصري ، وبضمهما : حمزة وعلي وخلف ، وبكسر الهاء وضم الميم : غيرهم { الحميم } الماء الحار . عن ابن عباس رضي الله عنهما : لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها .
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{ يُصْهَرُ } يذاب { بِهِ } بالحميم { مَا فِى بُطُونِهِمْ والجلود } أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم فيؤثر في الظاهر والباطن { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ } سياط مختصة بهم { مِنْ حَدِيدٍ } يضربون بها { كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا } من النار { مِنْ غَمّ } بدل الاشتمال من منها بإعادة الجار ، أو الأولى لابتداء الغاية والثانية بمعنى من أجل يعني كلما أرادوا الخروج من النار من أجل غم يلحقهم فخرجوا { أُعِيدُواْ فِيهَا } بالمقامع ، ومعنى الخروج عند الحسن أن النار تضربهم بلهبها فتلقيهم إلى أعلاها فضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً ، والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها { وَذُوقُواْ } أي وقيل لهم ذوقوا { عَذَابَ الحريق } هو الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك .
ثم ذكر جزاء الخصم الآخر فقال :
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ } جمع أسورة جمع سوار { مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } بالنصب : مدني وعاصم وعلي ويؤتون لؤلؤاً وبالجر : غيرهم عطفاً على { من ذهب } وبترك الهمزة الأولى في كل القرآن : أبو بكر وحماد { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } إبريسم .
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{ وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول وَهُدُواْ إلى صراط الحميد } أي أرشد هؤلاء في الدنيا إلى كلمة التوحيد و { إلى صراط الحميد } أي الإسلام أو هداهم الله في الآخرة وألهمهم أن يقولوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة . والحميد الله المحمود بكل لسان .
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي يمنعون عن الدخول في الإسلام ويصدون ، حال من فاعل { كفروا } أي وهم يصدون أي الصدود منهم مستمر دائم كما يقال «فلان يحسن إلى الفقراء» فإنه يراد به استمرار وجود الإحسان منه في الحال والاستقبال { والمسجد الحرام } أي ويصدون عن المسجد الحرام والدخول فيه { الذى جعلناه لِلنَّاسِ } مطلقاً من غير فرق بين حاضر وبادٍ ، فإن أريد به البيت فالمعنى أنه قبلة لجميع الناس { سَوَآء } بالنصب : حفص مفعول ثانٍ ل { جعلناه } أي جعلناه مستوياً { العاكف فِيهِ والباد } وغير المقيم . بالياء : مكي وافقه أبو عمرو في الوصل وغيره بالرفع على أنه خبر والمبتدأ مؤخر أي العاكف فيه والباد سواء ، والجملة مفعول ثانٍ { للناس } حال { وَمَن يُرِدْ فِيهِ } في المسجد الحرام { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } حالان مترادفان ومفعول { يرد } متروك ليتناول كل متناول كأنه قال : ومن يرد فيه مراداً ما عادلاً عن القصد ظالماً ، فالإلحاد العدول عن القصد { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } في الآخرة وخبر «إن» محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره : إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم وكل من ارتكب فيه ذنباً فهو كذلك .
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت } واذكر يا محمد حين جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعاً يرجع إليه للعمارة والعبادة وقد رفع البيت إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء ، فأعلم الله إبراهيم مكانه بريح أرسلها فكنست مكان البيت فبناه على أسه القديم { أن } هي المفسرة للقول المقدر أي قائلين له { لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهّرْ بَيْتِىَ } من الأصنام والأقذار : وبفتح الياء : مدني وحفص { لِلطَّائِفِينَ } لمن يطوف به { والقائمين } والمقيمين بمكة { والركع السجود } المصلين جمع راكع وساجد .
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{ وَأَذّن فِى الناس بالحج } ناد فيهم ، والحج هو القصد البليغ إلى مقصد منيع . ورُوي أنه صعد أبا قبيس فقال : يا أيها الناس حجوا بيت ربكم . فأجاب من قدر له أن يحج من الأصلاب والأرحام بلبيك اللهم لبيك . وعن الحسن أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع . والأول أظهر وجواب الأمر { يَأْتُوكَ رِجَالاً } مشاة جمع راجل كقائم وقيام { وعلى كُلّ ضَامِرٍ } حال معطوفة على رجال كأنه قال : رجالاً وركباناً . والضامر البعير المهزول ، وقدم الرجال على الركبان إظهاراً لفضيلة المشات كما ورد في الحديث { يَأْتِينَ } صفة ل { كل ضامر } لأنه في معنى الجمع . وقرأ عبد الله { يأتون } صفة للرجال والركبان { مِن كُلّ فَجّ } طريق { عَميِقٍ } بعيد . قال محمد بن ياسين : قال لي شيخ في الطواف : من أين أنت؟ فقلت : من خراسان . قال : كم بينكم وبين البيت؟ قلت : مسيرة شهرين أو ثلاثة . قال : فأنتم جيران البيت؟ فقلت : أنت من أين جئت؟ قال : من مسيرة خمس سنوات وخرجت وأنا شاب فاكتهلت . قلت : والله هذه الطاعة الجميلة والمحبة الصادقة فقال :
زر من هويت وإن شطت بك الدار ... وحال من دونه حجب وأستار
لا يمنعنك بعدٌ عن زيارته ... إن المحب لمن يهواه زوّار
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
واللام في { لّيَشْهَدُواْ } ليحضروا متعلق ب { أذن } أو ب { يأتوك } { منافع لَهُمْ } نكرها لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادة ، وهذا لأن العبادة شرعت للابتلاء بالنفس كالصلاة والصوم ، أو بالمال كالزكاة ، وقد اشتمل الحج عليهما مع ما فيه من تحمل الأثقال وركوب الأهوال وخلع الأسباب وقطيعة الأصحاب وهجر البلاد والأوطان وفرقة الأولاد والخلان ، والتنبيه على ما يستمر عليه إذا انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء . فالحاج إذا دخل البادية لا يتكل فيها إلا على عتاده ، ولا يأكل إلا من زاده ، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة وركب بحر الوفاء لا ينفع وحدته إلا ما سعى في معاشه لمعاده ، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده ، وغسل من يحرم وتأهبه ولبسه غير المخيط وتطيبه مرآة لما سيأتي عليه من وضعه على سريره لغسله وتجهيزه . مطيباً بالحنوط ملففاً في كفن غير مخيط . ثم المحرم يكون أشعث حيران فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان ، ووقوف الحجيج بعرفات آملين رغباً ورهباً سائلين خوفاً وطمعاً وهم من بين مقبول ومخذول كموقف العرصات { لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] والإفاضة إلى المزدلفة بالمساء هو السوق لفصل القضاء ، ومنى هو موقف المنى للمذنبين إلى شفاعة الشافعين ، وحلق الرأس والتنظيف كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف ، والبيت الحرام الذي من دخله كان آمناً من الإيذاء والقتال أنموذج لدار السلام التي هي من نزلها بقي سالماً من الفناء والزوال غير أن الجنة حفت بمكاره النفس العادية كما أن الكعبة حفت بمتالف البادية ، فمرحباً بمن جاوز مهالك البوادي شوقاً إلى اللقاء يوم التنادي . { وَيَذْكُرُواْ اسم الله } عند الذبح { فِى أَيَّامٍ معلومات } هي عشر ذي الحجة عند أبي حنيفة رحمه الله وآخرها يوم النحر وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما ، وأكثر المفسرين رحمهم الله وعند صاحبيه هي أيام النحر وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } أي على ذبحه وهو يؤيد قولهما والبهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز .
{ فَكُلُواْ مِنْهَا } من لحومها ، والأمر للإباحة ، ويجوز الأكل من هدي التطوع والمتعة والقران لأنه دم نسك فأشبه الأضحية ، ولا يجوز الأكل من بقية الهدايا { وَأَطْعِمُواْ البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة { الفقير } الذي أضعفه الإعسار .
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ثم ليزيلوا عنهم أدرانهم كذا قاله نفطويه . قيل : قضاء التفث قص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد ، والتفث : الوسخ والمراد قضاء إزالة التفث . وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : قضاء التفث مناسك الحج كلها { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } مواجب حجهم والعرب تقول لكل من خرج عما وجب عليه : وفى بنذره وإن لم ينذر ، أو ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم ، { وليوفوا } بسكون اللام والتشديد : أبو بكر { وَلْيَطَّوَّفُواْ } طواف الزيارة الذي هو ركن الحج ويقع به تمام التحلل . اللامات الثلاث ساكنة عند غير ابن عياش وأبي عمرو { بالبيت العتيق } القديم لأنه أول بيت وضع للناس بناه آدم ثم جدده إبراهيم ، أو الكريم ومنه عتاق الخيل لكرائمها ، وعتاق الرقيق لخروجه من ذل العبودية إلى كرم الحرية ، أو لأنه أعتق من الغرق لأنه رفع زمن الطوفان ، أو من أيدي الجبابرة؛ كم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، أو من أيدي الملاك فلم يملك قط وهو مطاف أهل الغبراء كما أن العرش مطاف أهل السماء ، فإن الطالب إذا هاجته معية الطرب وجذبته جواذب الطلب جعل يقطع مناكب الأرض مراحل ويتخذ مسالك المهالك منازل ، فإذا عاين البيت لم يزده التسلي به إلا اشتياقاً ولم يفده التشفي باستلام الحجر إلا احتراقاً ، فيرده الأسف لهفان ويردده اللهف حوله في الدوران ، وطواف الزيارة آخر فرائض الحج الثلاث ، وأولها الإحرام وهو عقد الالتزام يشبه الاعتصام بعروة الإسلام حتى لا يرتفض بارتكاب ما هو محظور فيه ويبقى عقده مع ما يفسده وينافيه ، كما أن عقد الإسلام لا ينحل بازدحام الآثام وترتفع ألف حوبة بتوبة . وثانيها الوقوف بعرفات بسمة الابتهال في صفة الاهتبال ، وصدق الاعتزال عن دفع الاتكال على مراتب الأعمال وشواهد الأحوال .
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ ذلك } خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك أو تقديره ليفعلوا ذلك { وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله } الحرمة ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها ، فيحتمل أن يكون عاماً في جميع تكاليفه ، ويحتمل أن يكون خاصاً بما يتعلق بالحج . وقيل : حرمات الله البيت الحرام والمشعر الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام { فَهُوَ } أي التعظيم { خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ } ومعنى التعظيم العلم بأنها واجبة المراعاة والحفظ والقيام بمراعاتها { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام } أي كلها { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } آية تحريمه وذلك قوله { حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] الآية . والمعنى أن الله تعالى أحل لكم الأنعام كلها إلا ما بيّن في كتابه ، فحافظوا على حدوده ولا تحرموا شيئاً مما أحل كتحريم البعض البحيرة ونحوها ، ولا تحلوا مما حرم كإحلالهم أكل الموقوذة والميتة وغيرهما . ولما حث على تعظيم حرماته أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور بقوله { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور } لأن ذلك من أعظم الحرمات وأسبقها حظراً . و { من الأوثان } بيان للرجس لأن الرجس مبهم يتناول غير شيء كأنه قيل : فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان . وسمى الأوثان رجساً على طريقة التشبيه يعني أنكم كما تنفرون بطباعكم عن الرجس فعليكم أن تنفروا عنها . وجمع بين الشرك وقول الزور أي الكذب والبهتان أو شهادة الزور وهو من الزور وهو الانحراف ، لأن الشرك من باب الزور إذ المشرك زاعم أن الوثن يحق له العبادة .
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
{ حُنَفَاء للَّهِ } مسلمين { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } حال كحنفاء { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ } سقط { مّنَ السماء } إلى الأرض { فَتَخْطَفُهُ الطير } أي تسلبه بسرعة { فتخطّفه } أي تتخطفه مدني { أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح } أي تسقطه والهوي السقوط { فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ } بعيد . يجوز أن يكون هذا تشبيهاً مركباً ، ويجوز أن يكون مفرقاً . فإن كان تشبيهاً مركباً فكأنه قال : من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكاً ليس بعده بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعاً في حواصلها ، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة . وإن كان مفرقاً فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء ، والذي أشرك بالله بالساقط من السماء . والأهواء المردية بالطير المتخطفة والشيطان الذي هو يوقعه في الضلال بالريح التي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المتلفة .
{ ذلك } أي الأمر ذلك { وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله } تعظيم الشعائر وهي الهدايا لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حساناً ثماناً غالية الأثمان { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات . وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى { لَكُمْ فِيهَا منافع } من الركوب عند الحاجة وشرب ألبانها عند الضرورة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } إلى أن تنحر { ثُمَّ مَحِلُّهَا } أي وقت وجوب نحرها منتهية { إلى البيت العتيق } والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت إذ الحرم حريم البيت ومثله في الاتساع قولك «بلغت البلد» وإنما اتصل مسيرك بحدوده . وقيل : الشعائر المناسك كلها وتعظيمها إتمامها ومحلها إلى البيت العتيق يأباه { وَلِكُلّ أُمَّةٍ } جماعة مؤمنة قبلكم { جَعَلْنَا مَنسَكًا } حيث كان بكسر السين بمعنى الموضع : علي وحمزة أي موضع قربان . وغيرهما : بالفتح على المصدر أي إراقة الدماء وذبح القرابين { لّيَذْكُرُواْ اسم الله } دون غيره { على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام } أي عند نحرها وذبحها { فإلهكم إله واحد } أي اذكروا على الذبح اسم الله وحده فإن إلهكم إله واحد ، وفيه دليل على أن ذكر اسم الله شرط الذبح يعني أن الله تعالى شرع لكل أمة أن ينسكوا له أي يذبحوا له على وجه التقرب ، وجعل العلة في ذلك أن يذكر اسمه تقدست أسماؤه على النسائك . وقوله { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي أخلصوا له الذكر خاصة واجعلوه له سالماً أي خالصاً لا تشوبوه بإشراك { وَبَشّرِ المخبتين } المطمئنين بذكر الله أو المتواضعين الخاشعين من الخبت وهو المطمئن من الأرض . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا . وقيل : تفسيره ما بعده أي
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{ الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } خافت منه هيبة { والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ } من المحن والمصائب { والمقيمي الصلاة } في أوقاتها { وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ } يتصدقون .
{ والبدن } جمع بدنة سميت لعظم بدنها وفي الشريعة يتناول الإبل والبقر ، وقرىء برفعها وهو كقوله { والقمر قدرناه } [ يس : 39 ] { جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله } أي من أعلام الشريعة التي شرعها الله ، وإضافتها إلى اسمه تعظيم لها و { من شعائر الله } ثاني مفعولي { جعلنا } { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } النفع في الدنيا والأجر في العقبى { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا } عند نحرها { صَوَافَّ } حال من الهاء أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } وجوب الجنوب وقوعها على الأرض من وجب الحائط وجبة إذا سقط أي إذا سقطت جنوبها على الأرض بعد نحرها وسكنت حركتها { فَكُلُواْ مِنْهَا } إن شئتم { وَأَطْعِمُواْ القانع } السائل من قنعت إليه إذا خضعت له وسألته قنوعاً { والمعتر } الذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسأل . وقيل : القانع الراضي بما عنده وبما يعطي من غير سؤال من قنعت قنعاً وقناعة ، والمعتر المتعرض للسؤال { كذلك سخرناها لَكُمْ } أي كما أمرناكم بنحرها سخرناها لكم ، أو هو كقوله { ذلك ومن يعظم } ثم استأنف فقال { سخرناها لكم } أي ذللناها لكم مع قوتها وعظم أجرامها لتتمكنوا من نحرها { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا إنعام الله عليكم .
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } أي لن يتقبل الله اللحوم والدماء ولكن يتقبل التقوى ، أو لن يصيب رضا الله اللحوم المتصدق بها ولا الدماء المراقة بالنحر والمراد أصحاب اللحوم والدماء ، والمعنى لن يرضى المضحون والمقربون ربهم إلا بمراعاة النية والإخلاص ورعاية شروط التقوى . وقيل : كان أهل الجاهلية إذا نحروا الإبل نضحوا الدماء حول البيت ولطخوه بالدم ، فلما حج المسلمون أرادوا مثل ذلك فنزلت { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي البدن { لِتُكَبّرُواْ الله } لتسموا الله عند الذبح أو لتعظموا الله { على مَا هَدَاكُمْ } على ما أرشدكم إليه { وَبَشّرِ المحسنين } الممتثلين أوامره بالثواب { إِنَّ الله يُدَافِعُ } { يدفع } مكي وبصري وغيرهما يدافع أي يبالغ في الدفع عنهم { عَنِ الذين ءامَنُواْ } أي يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ونحوه { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين ءامَنُواْ } [ غافر : 51 ] ثم علل ذلك بقوله { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ } في أمانة الله { كَفُورٌ } لنعمة الله أي لأنه لا يحب أضدادهم وهم الخونة الكفرة الذين يخونون الله والرسول ويخونون أماناتهم ويكفرون نعم الله ويغمطونها .
{ أُذِنَ } مدني وبصري وعاصم { لِلَّذِينَ يقاتلون } بفتح التاء مدني وشامي وحفص ، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان مشركو مكة يؤذونهم أذىً شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم : اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فأنزلت هذه الآية ، وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعدما نهى عنه في نيف وسبعين آية { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ } على نصر المؤمنين { لَقَدِيرٌ } قادر وهو بشارة للمؤمنين بالنصرة وهو مثل قوله { إن الله يدافع عن الذين آمنوا }
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{ الذين } في محل جر بدل من { الذين } أو نصب ب «أعني» أو رفع بإضمارهم { أُخْرِجُواْ مِن ديارهم } بمكة { بِغَيْرِ حَقّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } أي بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب التمكين لا موجب الإخراج ومثله { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ ءامَنَّا بالله } [ المائدة : 59 ] ومحل أن يقولوا جر بدل من { حق } والمعنى ما أخرجوا من ديارهم إلا بسبب قولهم { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله } { دفاع } مدني ويعقوب { الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدّمَتْ } وبالتخفيف حجازي { صوامع وَبِيَعٌ وصلوات ومساجد } أي لولا إظهاره وتسليطه المسلمين على الكافرين بالمجاهدة لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم وعلى متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعاً ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات أي كنائس . وسميت الكنيسة صلاة لأنها يصلى فيها ولا للمسلمين مساجد ، أو لغلب المشركون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين ، وقدم غير المساجد عليها لتقدمها وجوداً أو لقربها من التهديم { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } في المساجد أو في جميع ما تقدم { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } أي ينصر دينه وأوليائه { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ } على نصر أوليائه { عَزِيزٌ } على انتقام أعدائه .
{ الذين } محله نصب بدل من { من ينصره } أو جر تابع ل { الذين أخرجوا } { إِنْ مكناهم فِى الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَاتَوُاْ الزكواة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } هو إخبار من الله عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إن مكنهم في الأرض وبسط لهم في الدنيا وكيف يقومون بأمر الدين ، وفيه دليل صحة أمر الخلفاء الراشدين لأن الله عز وجل أعطاهم التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة . وعن الحسن : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم { وَلِلَّهِ عاقبة الأمور } أي مرجعها إلى حكمه وتقديره ، وفيه تأكيد لما وعده من إظهار أوليائه وإعلاء كلمته .
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
{ وَإِن يُكَذّبُوكَ } هذه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم من تكذيب أهل مكة إياه أي لست بأوحدي في التكذيب { فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } قبل قومك { قَوْمُ نُوحٍ } نوحاً { وَعَادٌ } هوداً { وَثَمُودُ } صالحاً { وَقَوْمِ إبراهيم } إبراهيم { وَقَوْمُ لُوطٍ } لوطاً { وأصحاب مَدْيَنَ } شعيباً { وَكُذّبَ موسى } كذبه فرعون والقبط ولم يقل وقوم موسى لأن موسى ما كذبه قومه بنو إسرائيل وإنما كذبه غير قومه ، أو كأنه قيل بعدما ذكر تكذيب كل قوم رسولهم وكذب موسى أيضاً مع وضوح آياته وظهور معجزاته فما ظنك بغيره! { فَأمْلَيْتُ للكافرين } أمهلتهم وأخرت عقوبتهم { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } عاقبتهم على كفرهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } إنكاري وتغييري حيث أبدلتهم بالنعم نقماً وبالحياة هلاكاً وبالعمارة خراباً . { نكيري } بالياء في الوصل والوقف : يعقوب { فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها } { أهلكتها } بصري { وَهِىَ ظالمة } حال أي وأهلها مشركون { فَهِىَ خَاوِيَةٌ } ساقطة من خوى النجم إذا سقط { على عُرُوشِهَا } يتعلق ب { خاوية } والمعنى أنها ساقطة على سقوفها أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف ، ولا محل ل { فهي خاوية } من الإعراب لأنها معطوفة على { أهلكناها } وهذا الفعل ليس له محل ، وهذا إذا جعلنا { كأين } منصوب المحل على تقدير كثيراً من القرى أهلكناها { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } أي متروكة لفقد دلوها ورشائها وفقد تفقدها ، أو هي عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقي منها لهلاك أهلها { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } مجصص من الشيد الجص أو مرفوع البنيان من شاد البناء رفعه ، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقاتها وقصر مشيد أخليناه عن ساكنيه أي أهلكنا البادية والحاضرة جميعاً فخلت القصور عن أربابها والآبار عن واردها والأظهر أن البئر والقصر على العموم .
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرض } هذا حث على السفر ليروا مصارع من أهلهم بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ونحوه ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور } الضمير في { فإنها } ضمير القصة أو ضمير مبهم يفسره { الأبصار } أي فما عميت أبصارهم عن الإبصار بل قلوبهم عن الاعتبار . ولكل إنسان أربع أعين : عينان في رأسه وعينان في قلبه ، فإذا أبصر ما في القلب وعمي ما في الرأس لم يضره ، وإن أبصر ما في الرأس وعمي ما في القلب لم ينفعه ، وذكر الصدور لبيان أن محل العلم القلب ولئلا يقال : إن القلب يعني به غير هذا العضو كما يقال «القلب لب كل شيء» .
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } الآجل استهزاء { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } كأنه قال : ولم يستعجلونك به كأنهم يجوزون الفوت وإنما يجوز ذلك على ميعاد من يجوز عليه الخلف ولن يخلف الله وعده وما وعده ليصيبنهم ولو بعد حين { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ } { يعدون } مكي وكوفي غير عاصم أي كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيام عذابه في طول ألف سنة من سنيكم لأن أيام الشدائد طوال .
{ وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظالمة } أي وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حيناً { ثُمَّ أَخَذْتُهَا } بالعذاب { وَإِلَيَّ المصير } أي المرجع إلي فلا يفوتني شيء . وإنما كانت الأولى أي { فكأين } معطوفة بالفاء وهذه أي { وكأين } بالواو لأن الأولى وقعت بدلاً عن { فكيف كان نكير } وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو وهما { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ } .
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{ قُلْ يا أَيُّهَا الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وإنما لم يقل بشير ونذير لذكر الفريقين بعده لأن الحديث مسوق إلى المشركين و { يا أيها الناس } نداء لهم وهم الذين قيل فيهم { أفلم يسيروا } ووصفوا بالاستعجال . وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا ، أو تقديره نذير مبين وبشير فبشر أولاً فقال { فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } لذنوبهم { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي حسن . ثم أنذر فقال { والذين سَعَوْاْ } سعى في أمر فلان إذا أفسده بسعيه { في ءاياتنا } أي القرآن { معاجزين } حال { معجزين } حيث كان : مكي وأبو عمرو . وعاجزه سابقه كأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه . والمعنى سعوا في معناها بالفساد من الطعن فيها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير مسابقين في زعمهم وتقديرهم طامعين أن كيدهم للإسلام يتم لها { أولئك أصحاب الجحيم } أي النار الموقدة .
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } «من» لابتداء الغاية { مِن رَّسُولٍ } «من» زائدة لتأكيد النفي { وَلاَ نَبِيّ } هذا دليل بين على ثبوت التغاير بين الرسول والنبي بخلاف ما يقول البعض إنهما واحد . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء فقال " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً " فقيل : فكم الرسل منهم؟ فقال : " ثلثمائة وثلاثة عشر " والفرق بينهما أن الرسول من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه ، والنبي من لم ينزل عليه كتاب وإنما أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله . وقيل : الرسول واضع شرع والنبي حافظ شرع غيره { إِلاَّ إِذَا تمنى } قرأ ، قال
تمنى كتاب الله أول ليلة ... تمنى داود الزبور على رسل
{ أَلْقَى الشيطان فِى أُمْنِيَّتِهِ } تلاوته . قالوا : إنه عليه السلام كان في نادي قومه يقرأ «والنجم» فلما بلغ قوله { ومناة الثلاثة الأخرى } [ النجم : 20 ] جرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى» ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فتنبه عليه . وقيل : نبهه جبريل عليه السلام فأخبرهم أن ذلك كان من الشيطان . وهذا القول غير مرضي لأنه لا يخلوا إما أن يتكلم النبي عليه السلام بها عمداً وإنه لا يجوز لأنه كفر ولأنه بعث طاعناً للأصنام لا مادحاً لها ، أو أجرى الشيطان ذلك على لسان النبي عليه السلام جبراً بحيث لا يقدر على الامتناع منه وهو ممتنع لأن الشيطان لا يقدر على ذلك في حق غيره لقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان } [ الإسراء : 65 ] ففي حقه أولى ، أو جرى ذلك على لسانه سهواً وغفلة وهو مردود أيضاً لأنه لا يجوز مثل هذه الغفلة عليه في حال تبليغ الوحي ولو جاز ذلك لبطل الاعتماد على قوله ، ولأنه تعالى قال في صفة المنزل عليه
{ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] وقال : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } [ الحجر : 9 ] فلما بطلت هذه الوجوه لم يبق إلا وجه واحدٍ وهو أنه عليه السلام سكت عند قوله { ومناة الثالثة الأخرى } فتكلم الشيطان بهذه الكلمات متصلاً بقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فوقع عند بعضهم أنه عليه السلام هو الذي تكلم بها ، فيكون هذا إلقاء في قراءة النبي عليه السلام وكان الشيطان يتكلم في زمن النبي عليه السلام ويسمع كلامه ، فقد رُوي أنه نادى يوم أحد ألا إن محمداً قد قتل وقال يوم بدر : { لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ } [ الأنفال : 48 ]
{ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } أي يذهب به ويبطله ويخبر أنه من الشيطان { ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته } أي يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان { والله عَلِيمٌ } بما أوحى إلى نبيه وبقصد الشيطان { حَكِيمٌ } لا يدعه حتى يكشفه ويزيله . ثم ذكر أن ذلك ليفتن الله تعالى به قوماً بقوله .
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
{ لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً } محنة وابتلاء { لّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك ونفاق { والقاسية قُلُوبُهُمْ } هم المشركون المكذبون فيزدادوا به شكاً وظلمة { وَإِنَّ الظالمين } أي المنافقين والمشركين وأصله و«إنهم» فوضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم { لَفِي شِقَاقٍ } خلاف { بَعِيدٍ } عن الحق .
{ وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم } بالله وبدينه وبالآيات { أَنَّهُ } أي القرآن { الحق مِن رَّبّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } بالقرآن { فَتُخْبِتَ } فتطمئن { لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين ءامَنُواْ إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ } فيتأولون ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبون لما أشكل منه المحمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ } شك { مِنْهُ } من القرآن أو من الصراط المستقيم { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } فجأة { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } يعني يوم بدر فهو عقيم عن أن يكون للكافرين فيه فرج أو راحة كالريح العقيم لا تأتي بخير . أو شديد لا رحمة فيه أو لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه . وعن الضحاك أنه يوم القيامة وأن المراد بالساعة مقدماته .
{ الملك يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة والتنوين عوض عن الجملة أي يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم { لِلَّهِ } فلا منازع له فيه { يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي يقضي . ثم بين حكمه فيهم بقوله { فالذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِى جنات النعيم والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ثم خص قوماً من الفريق الأول بفضيلة فقال :
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ والذين هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ الله } خرجوا من أوطانهم مجاهدين { ثُمَّ قُتِلُواْ } شامي { أَوْ مَاتُواْ } حتف أنفهم { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } قيل : الرزق الحسن الذي لا ينقطع أبداً { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين } لأنه المخترع للخلق بلا مثال ، المتكفل للرزق بلا ملال { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً } بفتح الميم مدني والمراد الجنة { يَرْضَوْنَهُ } لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين { وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ } بأحوال من قضى نحبه مجاهداً ، وآمال من مات وهو ينتظر معاهداً { حَلِيمٌ } بإمهال من قاتلهم معانداً . رُوي أن طوائف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا نبي الله : هؤلاء الذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله هاتين الآيتين .
{ ذلك } أي الأمر ذلك وما بعده مستأنف { وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } سمي الابتداء بالجزاء عقوبة لملابسته له من حيث إنه سبب وذلك مسبب عنه { ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله } أي من جازى بمثل ما فعل به من الظلم ثم ظلم بعد ذلك فحق على الله أن ينصره { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ } يمحو آثار الذنوب { غَفُورٌ } يستر أنواع العيوب . وتقرير الوصفين بسياق الآية أن المعاقب مبعوث من عند الله على العفو وترك العقوبة بقوله { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] فحيث لم يؤثر ذلك وانتصر فهو تارك للأفضل وهو ضامن لنصره في الكرة الثانية إذا ترك العفو وانتقم من الباغي ، وعرف مع ذلك بما كان أولى به من العفو بذكر هاتين الصفتين ، أو دل بذكر العفو والمغفرة على أنه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو إلا القادر على ضده كما قيل «العفو عند القدرة» .
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
{ ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي ذلك النصر للمظلوم بسبب أنه قادر على ما يشاء ، ومن آيات قدرته أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل أي يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا ، أو بسبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف ، وأنه سميع لما يقولون ولا يشغله سمع عن سمع وإن اختلفت في النهار الأصوات بفنون اللغات ، بصير بما يفعلون ولا يستر عنه شيء بشيء في الليالي وإن توالت الظلمات . { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ } عراقي غير أبي بكر { مِن دُونِهِ هُوَ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير } أي ذلك الوصف بخلقه الليل والنهار وإحاطته بما يجري فيهما وإدراكه قولهم وفعلهم بسبب أن الله الحق الثابت إلاهيته وأن كل ما يدعى إلهاً دونه باطل الدعوة وأنه لا شيء أعلى منه شأناً وأكبر سلطاناً .
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء } مطراً { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } بالنبات بعدما كانت مسودة يابسة وإنما صرف إلى لفظ المضارع ولم يقل فأصبحت ليفيد بقاء أثر المطر زمان بعد زمان كما تقول «أنعم عليّ فلان فأروح وأغدوا شاكراً له» ولو قلت «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع . وإنما رفع { فتصبح } ولم ينصب جواباً للاستفهام لأنه لو نصب لبطل الغرض ، وهذا لأن معناه إثبات الاخضرار فينقلب بالنصب إلى نفي الاخضرار كما تقول لصاحبك «ألم تراني أنعمت عليك فتشكر» ، إن نصبته نفيت شكره وشكوت من تفريطه فيه ، وإن رفعته أثبت شكره { إِنَّ الله لَطِيفٌ } واصل عمله أو فضله إلى كل شيء { خَبِيرٌ } بمصالح الخلق ومنافعهم أو اللطيف المختص بدقيق التدبير والخبير المحيط بكل قليل وكثير .
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض } مُلكاً وملكاً { وَإِنَّ الله لَهُوَ الغني } المستغني بكمال قدرته بعد فناء ما في السماوات وما في الأَرض { الحميد } المحمود بنعمته قبل ثناء من في السماوات ومن في الأرض { الم * تَرَى أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض } من البهائم مذللة للركوب في البر { والفلك تَجْرِى فِى البحر بِأَمْرِهِ } أي ومن المراكب جارية في البحر ، ونصب { الفلك } عطفاً على «ما» و { تجري } حال لها أي وسخر لكم الفلك في حال جريها { وَيُمْسِكُ السماء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض } أي يحفظها من أن تقع { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } بأمره أو بمشيئته { إِنَّ الله بالناس لَرَؤُوفٌ } بتسخير ما في الأرض { رَّحِيمٌ } بإمساك السماء لئلا تقع على الأرض ، عدد آلائه مقرونة بأسمائه ليشكروه على آلائه ويذكروه بأسمائه . وعن أبي حنيفة رحمه الله أن اسم الله الأعظم في الآيات الثمانية يستجاب لقرائتها ألبتة
. { وَهُوَ الذى أَحْيَاكُمْ } في أرحام أمهاتكم { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } عند انقضاء آجالكم { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } لإيصال جزائكم { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم ودفع عنه من صنوف النقم ، أو لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الإفناء المقرب إلى الموعود ولا الإحياء الموصل إلى المقصود { لِكُلّ أُمَّةٍ } أهل دين { جَعَلْنَا مَنسَكًا } مر بيانه وهو رد لقول من يقول إن الذبح ليس بشريعة الله إذ هو شريعة كل أمة { هُمْ نَاسِكُوهُ } عاملون به { فَلاَ ينازعنك } فلا يجادلنك والمعنى فلا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك { فِى الأمر } أمر الذبائح أو الدين . نزلت حين قال المشركون للمسلمين : ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله يعني الميتة { وادع } الناس { إلى رَبّكَ } إلى عبادة ربك { إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } طريق قويم . ولم يذكر الواو في { لِكُلّ أُمَّةٍ } بخلاف ما تقدم لأن تلك وقعت مع ما يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك فعطفت على أخواتها ، وهذه وقعت مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفا
.
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
{ وَإِن جادلوك } مراء وتعنتاً كما يفعله السفهاء بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع وجدال { فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول ، والمعنى أن الله أعلم بأعمالكم وما تستحقون عليها من الجزاء فهو مجازيكم به ، وهذا وعيد وإنذار ولكن برفق ولين وتأديب يجاب به كل متعنت { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } هذا خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ، ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان يلقى منهم .
{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السماء والأرض } أي كيف يخفى عليه ما تعملون ومعلوم عند العلماء بالله أنه يعلم كل ما يحدث في السماوات والأرض { إِنَّ ذلك } الموجود فيهما { فِى كتاب } في اللوح المحفوظ { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } أي علمه بجميع ذلك عليه يسير . ثم أشار إلى جهالة الكفار لعبادتهم غير المستحق لها بقوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ } { ينْزل } مكي وبصري { سلطانا } حجة وبرهاناً { وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي لم يتمسكوا في عبادتهم لها ببرهان سماوي من جهة الوحي ولا حملهم عليها دليل عقلي { وَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ } وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرهم ويصوب مذهبهم { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا بَيّنَاتٍ } يعني القرآن { تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } الإنكار بالعبوس والكراهة والمنكر مصدر { يكادون يَسْطُونَ } يبطشون والسطو الوثب والبطش { بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتنا } هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه { قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم } من غيظكم على التالين وسطوكم عليهم أو مما أصابكم من الكراهة والضجر بسبب ما تلي عليكم { النار } خبر مبتدأ محذوف كأن قائلاً قال : ما هو؟ فقيل : النار أي هو النار { وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } استئناف كلام { وَبِئْسَ المصير } النار .
ولما كانت دعواهم بأن لله تعالى شريكاً جارية في الغرابة والشهرة مجرى الأمثال المسيرة قال الله تعالى :