كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقال ابن زيد : بعث الله عليهم الطاعون حتى مات من الغداة إلى العشي عشرون ألفاً . وقيل : سبعون ألفاً . ومعنى { من السماء } يحتمل أن يكون شيئاً نازلاً من جهة العلو كريح ونحوه ، ويحتمل أن يراد من قبل الأمر النازل من عند الله تفظيعاً لشأن العذاب . والفسق هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته بارتكاب الكبيرة ، فالمراد { بما كانوا يفسقون } إما الظلم المذكور وفائدة التكرار التأكيد ، وإما أن يراد أنهم استحقوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل . ونزول الرجز عليهم من السماء بالفسق الذي كانوا يفعلون قبل ذلك التبديل مستمراً إلى أوان هذا الظلم ، وهذا أظهر لزوال التكرير ، ولأن لفظة « كانوا » تنبئ عن خصلة مستمرة ، والخصلة الواحدة المعينة لا يتصور فيها الاستمرار . فلو كان المراد ذلك لقيل بما فسقوا . وربما احتج أصحاب الشافعي بقوله تعالى { فبدل الذين ظلموا } أنه لا يجوز تحريم الصلاة بلفظ التحميد والتعظيم والتسبيح ، ولا تجوز القراءة بالفارسية ، وكذا لا يجوز تبديل ما ورد به التوقيف من الأذكار بغيرها . وأجيب بأنهم إنما استحقوا الذم لتبديلهم القول إلى قول آخر يضاد معناه معنى الأول ، فلا جرم استوجبوا الذم . فأما من غير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك . ورد بأن ظاهر الآية يتناول كل من بدل قولاً بقول آخر سواء اتفق القولان في المعنى أم لم يتفقا .
( أسئلة ) لم قال في « البقرة » { وإذ قلنا } وفي « الأعراف » { وإذ قيل } لأنه صرح بالقائل في أول القرآن إزالة للإبهام ، ولأن الكلام مرتب على قوله { اذكروا نعمتي } وفي « الأعراف » لم يبق الإبهام . ولم قال ههنا { ادخلوا } وهناك { اسكنوا } ؟ لأن الدخول مقدم على السكون ، « والبقرة » مقدمة في الذكر على « الأعراف » . ولم قال في « البقرة » { فكلوا } وفي « الأعراف » { وكلوا } بالواو؟ لما بينا في قوله { وكلا منها رغداً } . ولم قال في « البقرة » { خطاياكم } وفي « الأعراف » { خطيئاتكم } ؟ لأن الخطايا جمع الكثرة ، والخطيئات جمع السلامة للقلة ، وقد أضاف القول ههنا إلى نفسه فكان اللائق بكرمه غفران الذنوب الكثيرة ، وهناك لم يذكر الفاعل فلم يكن ذكر اللفظ الدال على الكثرة واجباً . ولمثل هذا الجواب ذكر ههنا { رغداً } ليدل على الإنعام الأتم ، ولم يذكر في « الأعراف » ، ولم قال ههنا { وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة } وفي « الأعراف » بالعكس؟ لأن الواو للجمع المطلق ، ولأن المخاطبين صنفان : محسن ومذنب . واللائق بالمحسن تقدم العبادة والخضوع ، ثم ذكر التوبة على سبيل هضم النفس وإزالة العجب . واللائق بالمسيء عكس ذلك ، ولأنه ذكر في هذه السورة { ادخلوا هذه القرية } فقدم كيفية الدخول . ولم قال في « البقرة » { وسنزيد } وفي « الأعراف » { سنزيد } ؟ لأنه في « الأعراف » ذكر امرين : قول الحطة وهو إشارة إلى التوبة ، ودخول الباب وهو إشارة إلى العبادة .
ثم ذكر جزاءين أحدهما الغفران والآخر الزيادة ، فترك الواو ليفيا توزيع الجزاءين على الشرطين . وفي « البقرة » وقع مجموع المغفرة والزيادة جزاء لمجموع الفعلين ، أعني دخول الباب وقول الحطة ، فاحتيج إلى الواو وأيضاً الاتصال اللفظي حاصل في هذه السورة بين قوله { وإذ قلنا } وبين قوله { وسنزيد } بخلاف « الأعراف » لأن اللائق به في الظاهر سيزاد ، فحذف الواو ليكون استئنافاً للكلام . وما الفائدة في زيادة كلمة { منهم } في الأعراف؟ لأن أول القصة مبني على التخصيص { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } [ الأعراف : 159 ] فذكر أن منهم من يفعل ذلك ، ثم عدد صنوف إنعامه وأوامره عليهم ، فلما انتهت القصة قال { فبدل الذين ظلموا منهم } فهناك ذكر أمة عادلة وأمة جائرة فصار آخر الكلام مطابقاً لأوله ، وأما في البقرة فلم يذكر في أول الآيات تمييزاً وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة مثل ذلك . لم قال في « البقرة » { فأنزلنا } وفي « الأعراف » { فأرسلنا } لأن الإنزال يفيد حدوثه في أول الأمر ، والإرسال يفيد تسلطه عليهم واستئصالهم بالكلية ، وذلك إنما يحدث بالآخرة . وقيل : لأن لفظ الإرسال في « الأعراف » أكثر فَرُوعي التناسب . لم قال في « البقرة » { بما كانوا يفسقون } وفي « الأعراف » { يظلمون } لأنه لما بين في البقرة كون الظلم فسقاً اكتفى بذلك البيان في « الأعراف » . وأيضاً إنهم ظلموا أنفسهم وخرجوا عن طاعة الله تعالى ، فوصفهم بالأمرين في موضعين والله أعلم .
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
القراآت : عامة القراء { اثنتا عشرة } بسكون الشين للتخفيف { عليهم الذلة } بضم الهاء والميم : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، وكذلك كل ما كان قبل الهاء ياء ساكنة ، وافق سهل إذا كانت قبل الياء فتحة فقط . وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم . { النبيين وبابه } بالهمزة : نافع إلا في موضعين في الأحزاب { إن وهبت نفسها للنبي } [ الأحزاب : 5 ] و { بيوت النبي } [ الأحزاب : 53 ] إلا فروي إسماعيل وقالون عنه بغير همزة .
الوقوف : { الحجر } ( ط ) الحق المحذوف أي فضرب فانفجرت { عيناً } ( ط ) { مشربهم } ( ط ) { مفسدين } ( 5 ) { وبصلها } ( ط ) { هو خير } ( ط ) { سألتم } ( ط ) لأن قوله { وضربت } ابتداء إخبار عما يؤل إليه حالهم { من الله } ( ط ) { بغير الحق } ( ط ) { يعتدون } ( 5 ) .
التفسير : جمهور المفسرين سوى أبي مسلم ، على أن هذا الاستسقاء كان في التيه ، عطشوا فدعا لهم موسى بالسقيا فقيل له اضرب بعصاك الحجر ، أما العصا فقال الحسن : كانت عصا أخذها من بعض الأشجار . وقيل : كانت من الجنة طولها عشرة أذرع على طول موسى ولها شعبتان تتقدان في الظلمة . وأما الحجر فاللام إما للعهد والإشارة إلى حجر معلوم ، فقد روي أنه حجر طوري حمله معه وكان حجراً مربعاً له أربعة أوجه كانت تنبع من كل وجه ثلاثة أعين ، لكل سبط عين تسيل في جدول إلى السبط الذي أمر أن يسقيهم وكانوا ستمائة ألف ، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلاً وقيل : أهبطه آدم من الجنة فتوارثوه حتى وقع إلى شعيب فدفعه إليه مع العصا . وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل ورماه بنو إسرائيل بالأدرة ففرّ به ، فقال له جبريل : يقول الله تعالى : ارفع هذا الحجر فإن لي فيه قدرة ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . وإما للجنس أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر . وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه قال : وهذا أظهر في الحجة وأبين في القدرة . ثم إنهم قالوا : كيف بنا لو أفضينا إلى أرض ليست فيها حجارة؟ فحمل حجراً في مخلاته فحيثما نزلوا ألقاه ، وأما الصنف والشكل فقيل : كان من رخام وكان ذراعاً في ذراع . وقيل : مثل رأس الإنسان . وقيل : له أربعة أوجه كما مر ، وهذا إذا لم يعتبر الفوقاني ومقابله . وأما الضرب فقيل : كان يضربه بعصاه فينفجر ويضربه بها فييبس فقالوا : إن فقد موسى عصاه متنا عطشاً ، فأوحى الله تعالى إليه : لا تقرع الحجارة وكلمها تطعك لعلهم يعتبرون . والفاء في قوله { فانفجرت } فاء فصيحة كما سبق في { فتاب عليكم } [ البقرة : 54 ] وفي هذا الحذف دلالة على أن موسى لم يتوقف عن اتباع الأمر ، وأنه من انتفاء الشك عنه بحيث لا حاجة إلى الإفصاح به .
والانفجار والانبجاس واحد ومعناه خروج الماء بسعة وكثرة . وأصل الفجر الشق ومنه الفاجر لأنه يشق عصا المسلمين بمخالفتهم . وقيل : الانبجاس خروج الماء قليلاً ، ووجه بأن الفجر في الأصل هو الشق ، والبجس الشق الضيق فلا يتناقضان كما لا يتناقض المطلق والمقيد والعام والخاص ، أو لعله انبجس أوّلاً ثم انفجر ثانياً وكذا العيون تظهر الماء قليلاً ثم يكثر لدوام خروجه ، أو لعل حاجتهم تشتد تارة فينفجر وتضعف أخرى فينبجس .
{ قد علم كل أناس } أي كل سبط { مشربهم } كأنه أمر كل سبط أن لا يشرب إلا من جدول معين حسماً لمادة التشاجر ، فإن العادة في الرهط الواحد أن لا يقع بينهم من التنازع مثل ما يقع بين المختلفين . وهذا أيضاً من تمام النعمة عليهم ، وإنما فقد العاطف لأن قوله { قد علم } بيان وتفصيل لما أجمل في قوله { اثنتا عشرة } كأنه قيل : هذا المجموع مشاع بينهم أو مقسوم فقيل قد علم { كلوا } على إرادة القول أي وقلنا أي قال لهم موسى كلوا من المن والسلوى الذي رزقناكم بلا تعب ولا نصب ، واشربوا من هذا الماء . وقيل : إن الأغذية لا تنبت إلا بالماء ، فلما أعطاهم الماء فكأنما أعطاهم المأكول والمشروب . والعثو أشد الفساد ، و { مفسدين } قيل : نصب على الحال المؤكدة وهو ضعيف ، فإن من شرطها أن تكون مقررة لمضمون جملة اسمية . وقيل : حال منتقلة ومعناه النهي عن التمادي في حالة الإفساد ، إما مطلقاً أو مقيداً بأنه إن وقع التنازع بسبب ذلك الماء فلا تبالغوا في التنازع . ويرد على هذا القول أن الإفساد منهي عنه مطلقاً ، وهذا التفسير يقتضي أن يكون المنهي عنه هو التمادي في الإفساد لا نفس الإفساد . والصحيح أن يقال : إن المنصوبات في نحو قوله عز من قائل { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } { ثم وليتم مدبرين } [ التوبة : 25 ] وفي نحو قولهم « تعال جائياً وقم قائماً » من الصفات القائمة مقام المصدر نحو « أقاعداً وقد سار الركب » بقي في الآية بحث ، وهو أنه كيف يعقل خروج المياه الكثيرة من الحجر الصغير؟ والجواب أما على القول بالفاعل المختار فظاهر فإن له أن يحدث أيّ فعل خارق شاء من غير أن يطلب له سبب وواسطة ، وأما عند طالب الأسباب والوسائط فإن العناصر الأربعة لها هيولي مشتركة عندهم . وجوّز وانقلاب صور بعضها إلى بعض ، فجاز استمداد الماء الكامن في الحجر من الهواء المجاور له ، ومثل هذا ما رواه أنس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فتوضأ القوم . قال قتادة قلت لأنس : كم كنتم؟ قال : ثلثمائة أو زهاء ثلثمائة . بل معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم أقوى لأن نبوع الماء من الحجر معهود في الجملة ، أما نبوعه من بين الأصابع فغير معتاد ، قال أهل الإشارة : الروح الإنساني وصفاته في عالم القالب بمثابة موسى وقومه ، وإنه يستسقي ربه لإروائها من ماء الحكمة والمعرفة فيضرب بعصا لا إله إلا الله .
ولها شعبتان من النفي والإثبات تتقدان نوراً عند استيلاء ظلمات النفس على حجر القلب فيتفجر اثنتا عشرة عيناً من ماء الحكمة بعدد حروف لا إله إلا الله ، قد علم كل سبط من أسباط الإنسان وهي خمس حواس ظاهرة ، وخمس باطنة مع القلب والنفس مشربهم فيستوي في حظه بحسب مشربه .
قوله سبحانه { وإذ قلتم يا موسى } الآية . زعم بعض المفسرين أن هذا السؤال منهم كان معصية ، فإن اللائق بحال المكلف الصبر على ما ساقه الله تعالى إليه خصوصاً إذا كان نعمة وعفواً وصفواً ، ولا سيما إذا كان المسؤول أدون وأحقر . ولهذا أنكره موسى عليهم { قال أتستبدلون } . وقال الآخرون : إنه غير معصية لأن قوله { كلوا واشربوا } عند إنزال المن والسلوى ، وانفجار الماء أمر إباحة لا إيجاب . ثم إنهم كانوا أهل فلاحة فرغبوا إلى مألوفهم ، ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رغبته فيما لا يعتاد وإن كان شريفاً . ولعلهم سئموا من التيه فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد وغرضهم البلاد . وأيضاً المواظبة على الطعام الواحد تميت الشهوة وتضعف الهضم ، فيصح أن يكون التبديل مطلوباً للعقلاء ، ولهذا أجابهم الله تعالى إلى ما سألوا ، ولو كان معصية لم يجبهم إلى ذلك ، اللهم إلا أن يكون من قبيل { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } [ الشورى : 20 ] وإنما صح إطلاق الطعام الواحد على المن والسلوى ، لأنهم أرادوا بالوحدة نفي التبدل والاختلاف ، ولو كان على مائدة الرجل ألوان عدة يداوم عليها ويأكلها كل يوم لا يبدلها . قيل : لا يأكل فلان إلا طعاماً واحداً . ويجوز أن يريدوا أنهما ضرب واحد لأنهما معاً من طعام أهل التلذذ والترفه ، ونحن أهل زراعة ما نريد إلا ما ألفناه . ومعنى يخرج لنا يوجد ويظهر . والبقل ما أنبتته الأرض من الخضر كالنعناع والكرفس والكراث وغير ذلك من أطايب البقول التي يأكلها الناس عادة . والقثاء الخيار ، والفوم الثوم ، ويدل عليه قراءة عبد الله { وثومها } وهو بالعدس والبصل أوفق . وقال بعضهم : الفوم الحمص لغة شامية ، ويقال : هو الحنطة . ومنه قولهم « فوّموا لنا » أي اختبزوا . قال الفراء : هي لغة قديمة { الذي هو أدنى } أي أقرب منزلة وأدون مقداراً كقولهم في ضده « هو بعيد المحل وبعيد الهمة » يعنون الرفعة والعلو { اهبطوا مصراً } أي انحدروا إليه من التيه . يقال : هبط الوادي إذا نزل به ، وهبط منه إذا خرج .
وبلاد التيه ما بين بيت المقدس إلى قنسرين اثنا عشر فرسخاً في ثمانية . ومصر إما مصر فرعون ، والتنوين فيه في القراآت المعتبرة مع أن فيه العلمية والتأنيث لسكون وسطه كما في نوح ولوط ، وفيهما العلمية والعجمية . وإما مصر من الأمصار كأنه قيل لهم : ادخلوا بلداً أيّ بلد كان لتحدوا فيه هذه الأشياء . ولما ذكر الله سبحانه صنوف نعمه على بني إسرائيل إجمالاً ثم تفصيلاً ، أراد أن يبين مآل حالهم ليكون عبرة للنظار وتبصرة لأولي الأبصار وتحذيراً للإنسان عن الجحود والكفران المستتبعين للخزي والهوان فقال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي جعلت محيطة بهم مشتملة عليهم كالقبة المضروبة على الشخص ، أو ألصقت بهم حتى لزمتهم ضربة لازب كما يضرب الطين على الحائط فيلصق به . فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة ، إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف عليهم الجزية . وهذا من جملة الأخبار عن الغيب الدال على كون القرآن وحياً نازلاً من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم . هذا حالهم في الدنيا ، وأما حالهم في العقبى فذلك قوله { وباؤا بغضب من الله } من قولك « باء فلان بفلان » إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمساواته له ومكافأته ، أي صاروا أحقاء بغضبه وهو إرادة انتقامه { ذلك } الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والخلافة بالغضب ، بسبب كفرهم بآيات الله أي القرآن ، بل وبالتوراة لأن الكفر به مستلزم للكفر بها ، وقتلهم الأنبياء ، وقد قتلت اليهود - لعنوا - شعيباً وزكريا ويحيى وغيرهم بغير الحق أي من غير ما شبهة عندهم توجب استحقاق القتل . فإن الآتي بالباطل قد يكون اعتقده حقاً لشبهة عنت له ، وقد يأتي به مع علمه بكونه باطلاً . ولا شك أن الثاني أقبح وأدخل في القحة ، أو كرر للتأكيد نحو { ومن يدع مع الله الهاً آخر لا برهان له به } [ المؤمنون : 117 ] ومحال أن يكون لمدعي الإله الثاني برهان . والنبيء بالهمزة « فعيل » بمعنى فاعل من نبأ بالتخفيف أي أخبر لأنه نبأ عن الله تعالى . قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة ، فإنهم يهمزون هذه الأحرف ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك . وقيل : أصله من نبأت من أرض إلى أرض أي خرجت منها إلى أخرى . وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله « يا نبيء الله » أي يا من خرج من مكة إلى المدينة . فأنكر عليه صلى الله عليه وسلم الهمزة . وقيل : النبي بالإدغام من النبوة وهي ما ارتفع من الأرض ، أي أنه صلى الله عليه وسلم شرف على سائر الخلق « فعيل » بمعنى « مفعول » ، والجمع أنبياء .
وعلى الأول إنما جمع على أنبياء لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جمع جمع ما أصل لامه حرف العلة { ذلك بما عصوا } تأكيد بتكرير الشيء بغير اللفظ الأول كقول السيد لعبده وقد احتمل منه ذنوباً سلفت منه فعاقبه عند آخرها « هذا بما عصيتني وخالفت أمري . هذا بما تجرأت علي واغتررت بحلمي » ويجوز أن يشار بذلك إلى الكفر والقتل على معنى انهمكوا في العصيان والاعتداء حتى قست قلوبهم فجسروا على جحود الآيات وقتل الأنبياء ، أو تكون الباء بمعنى « مع » أي ذلك الكفر والقتل مع ما عصوا سائر أنواع المعاصي ، واعتدوا حدود الله في كل شيء . وقيل : هو اعتداؤهم في السبت . واعلم أنه سبحانه لما ذكر إنزال العقوبة بهم بين سبب ذلك أولاً بما فعلوه في حق الله وهو جهلهم به وجحدهم لنعمه ، ثم ثناه بما يتلوه في العظم وهو قتل الأنبياء ، ثم ثلثه بما يكون منهم من المعاصي المتعدية إلى الغير مثل الاعتداء والظلم وذلك في نهاية الترتيب . وقيل : الأول إشارة إلى متقدميهم ، والثاني إشارة إلى من كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكأنه تعالى بيَّن سبب ما نزل بالفريقين من البلاء والمحنة ليظهر للخلائق أن ذلك على قانون العدالة وقضية الحكمة . فإن قيل : لم قيل ههنا { ويقتلون النبيين بغير الحق } وفي « آل عمران » { ويقتلون النبيين بغير حق } [ آل عمران : 21 ] منكراً؟ قلت : الحق المعلوم فيما بين المسلمين الذي يوجب القتل ما في قوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان ، وقتل نفس بغير حق » فالحق المعرف إشارة إلى هذا ، وأما الحق المنكر فالمراد به تأكيد العموم ، أي لم يكن هناك حق لا هذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره ألبتة .
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
القراآت : { النصارى } بالإمالة : أو عمرو وحمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري ، والخراز عن هبيرة ، وكذلك كل راء بعدها ياء . وروى قتيبة بكسر الصاد والراء ، وكذلك قوله { سكارى } و { أسارى } و { يوارى } و { أوارى } كلها بإمالة ما قبل الألف { والصابئين } بغير همزة : أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة .
الوقوف : { عند ربهم } ( ز ) لنوع عدول عن إثبات إلى نفي مع اتفاق الجملتين . و { يحزنون } ( 5 ) { الطور } ( ط ) لأن التقدير : قلنا لكم خذوا { تتقون } ( 5 ) { من بعد ذلك } ( ج ) لأن « لولا » للابتداء وقد دخل الفاء فيه { الخاسرين } ( 5 ) { خاسئين } ( 5 ) ( ج ) للآية والعطف بالفاء { المتقين } ( 5 ) .
التفسير : قد انجرّ الكلام في الآي المتقدمة إلى وعيد أهل الكتاب ومن يقفو آثارهم ، فقرن به ما يتضمن الوعد جرياً على عادته سبحانه من ذكر الترغيب مع الترهيب فقال { إن الذين آمنوا } . واختلف المفسرون ههنا لأن قوله في آخر الآية { من آمن } . يدل على أن المراد من قوله { آمنوا } شيء آخر ، كقوله { يا أيها الذين آمنوا آمِنوا } [ النساء : 136 ] . فعن ابن عباس : المراد أن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بعيسى عليه السلام مع البراءة من أباطيل اليهود والنصارى كقس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري . كأنه قيل : إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين كانوا على الدين الباطل لليهود ، والذين كانوا على الدين الباطل للنصارى ، كل من آمن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالله واليوم الآخر وبمحمد صلى الله عليه وسلم فلهم أجرهم . وعن سفيان الثوري : إن الذين آمنوا باللسان دون القلب وهم المنافقون ، والذين تهوّدوا يقال هاد يهود وتهود إذا دخل في اليهودية ، والنصارى ، والصابئين ، كل من أتى منهم بالإيمان الحقيقي ، فلهم كذا . وقيل : الذين آمنوا هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم في الحقيقة ، وهو عائد إلى الماضي . وكأنه قيل : إن الذين آمنوا في الماضي ، واليهود والنصارى والصابئين ، كل من آمن منهم وثبت على ذلك في المستقبل واستمر . واشتقاق اليهود قيل من قولهم { إنا هدنا إليك } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا ورجعنا . عن ابن عباس : وقيل نسبوا إلى يهودا أكبر ولد يعقوب . وقيل : إنهم يتهودون أي يتحرّكون عند قراءة التوراة . واشتقاق النصارى قبل من ناصرة قرية كان ينزلها عيسى صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج . وقيل : لتناصرهم فيما بينهم أي لنصرة بعضهم بعضاً . وقيل : لأن عيسى عليه السلام قال للحواريين من أنصاري إلى الله . واحد النصارى نصران ، ومؤنثه نصرانة : والياء في نصراني للمبالغة كالتي في أحمري ، والصابئين بالهمزة اشتقاقه من صبأ الرجل يصبأ صبواً إذا خرج من دينه إلى دين آخر .
وكانت العرب يسمون النبي صلى الله عليه وسلم صابئاً لأنه صلى الله عليه وسلم أظهر ديناً على خلاف أديانهم . عن مجاهد والحسن : هم طائفة من اليهود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم . وعن قتادة : قوم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات . وقيل : وهو الأقرب - إنهم قوم يعبدون الكواكب ثم فيهم قولان : الأوّل أن خالق العالم هو الله سبحانه إلا أنه أمر بتعظيم هذه الأجرام واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء . والثاني أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وفوّض التدبير إليها ، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم ، ثم إنها تعبد الله سبحانه . وينسب هذا المذهب إلى الكلدانيين الذين جاءهم إبراهيم عليه السلام ، فبين الله تعالى أن هذه الفرق الأربع إذا آمنوا بالله ويدخل فيه الإيمان بكل ما أوجبه كالإيمان برسله وآمنوا باليوم الآخر وبما وعد فيه ، فإن أجرهم متيقن جار مجرى الحاصل عند الله تعالى . ومحل { من آمن } رفع على أنه مبتدأ خبره { فلهم أجرهم } والجملة خبر « إن » ، أو نصب على أنه بدل من اسم « أن » . والمعطوفات عليه . وخبر « أن » { فلهم أجرهم } والفاء لتضمن من أو الذين معنى الشرط . قال أهل البرهان : قدم النصارى على الصابئين لأنهم أهل كتاب ، وعكس الترتيب في الحج لأن الصابئين مقدمة على النصارى بالزمان ، وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ وأخرهم في التقدير ، لأن تقديره : والصابئون كذلك . وقوله سبحانه { وإذا أخذنا ميثاقكم } مخاطبة فيها معاتبة لاستمالها على تذكير النعم وتقدير المنعم . وللمفسرين في هذا الميثاق أقوال : أحدها : أنه ما أودع الله العقول من الدلائل الدالة على وجود الصانع وقدرته وحكمته وعلى صدق أنبيائه ورسله وهو أقوى المواثيق والعهود ، لأنه لا يحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه من الوجوه وهو قول الأصم ، وثانيها ما روي عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم أن موسى عليه السلام لما رجع من عند ربه بالألواح ، قرأوا ما فيها من الأخبار والتكاليف الشاقة فكبرت عليهم وأبوا قبولها ، أمر جبرائيل بقلع الطور من أصله ورفعه فظلله فوقهم وقال لهم موسى : إن قبلتم وإلا ألقي عليكم فحينئذ قبلوا وأعطوا الميثاق . وعن ابن عباس : إن لله ميثاقين الأول ، حين أخرجهم من صلب آدم على أنفسهم ، والثاني أنه تعالى ألزم الناس متابعة الأنبياء . والمراد ههنا هو هذا العهد . وإنما قال { ميثاقكم } ولم يقل « مواثيقكم » للعلم بذلك كقوله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أي كل واحد منكم ، أو لأن الميثاق بشيء واحد أخذه من كل واحد منهم . ولو قال مواثيقكم لأشبه أن يكون لكل منهم ميثاق آخر .
والواو في { ورفعنا } إما واو عطف إن جعل الميثاق مقدماً على رفع الجبل كما في قول الأصم وابن عباس ، وإما واو الحال إن جعل مقارناً للرفع ، كأنه قال : وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطور فوقكم والطور . قيل : الجبل مطلقاً . وعن ابن عباس : أنه جبل من جبال فلسطين . وقيل : جبل معهود ، والأقرب أنه الجبل الذي وقعت المناجاة عليه ، وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم ، فإن القادر على أن يسكن الجبل في الهواء قادر على أن ينقله إليهم من المكان البعيد .
{ خذوا } على إرادة القول أي وقلنا خذوا { ما آتيناكم } من الكتاب { بقوّة } بجد وعزيمة غير متكاسلين ولا متثاقلين وقيل : بقوة ربانية { واذكروا ما فيه } احفظوا ما في الكتاب وادرسوه ولا تنسوه ولا تغفلوا عنه ، وإنما لم يحمل على نفس الذكر لأن الذكر الذي هو ضد النسيان من فعل الله فكيف يجوز الأمر به؟ { لعلكم تتقون } رجاء منكم أن تكونوا متقين ، أو قلنا خذوا إرادة أن تتقوا { ثم توليتم } معطوف على محذوف أي فقبلتم والتزمتم ثم أعرضتم عن الميثاق والوفاء به . ويمكن أن يقال أخذ الميثاق عبارة عن قبولهم فلا حاجة إلى تقدير { من بعد ذلك } أي من بعد القبول والالتزام . قال القفال : قد يعلم في الجملة أنهم بعد قبول التوراة ورفع الطور تولوا عن التوراة بأمور كثيرة ، فحرفوا التوراة وتركوا العمل به وقتلوا الأنبياء وكفروا بهم وعصوا أمرهم . ولعل فيها ما اختص به بعضهم دون بعض ، ومنها ما عمله أوائلهم ومنها ما فعله متأخروهم ولم يزالوا في التيه مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى ويعترضون عليه ويلقونه بكل أذى ، ويجاهرون بالمعاصي في عسكره ، حتى لقد خسف ببعضهم وأحرقت النار بعضهم وعوقبوا بالطاعون ، وكل هذا مذكور في تراجم التوراة التي يقرأونها ، ثم فعل متأخروهم ما لا خفاء به حتى عوقبوا بتخريب بيت المقدس ، وكفروا بالمسيح وهموا بقتله ، فغير عجيب إنكارهم ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب ، وجحودهم لحقه صلى الله عليه وسلم وحالهم في كتابهم ونبيهم ما ذكر { فلولا فضل الله عليكم ورحمته } بإمهالكم وتأخير العذاب عنكم { لكنتم من الخاسرين } أي من الهالكين الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم ، ولكنكم خرجتم من هذا الخسران لأن الله تعالى تفضل عليكم بالإمهال حتى تبتم . فإن كلمة « لولا » تدل على امتناع الثاني لوجود الأول ، فامتنع الخسران لوجود فضل الله . ويحتمل أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله { ثم توليتم من بعد ذلك } ويكون قوله { فلولا فضل الله } رجوعاً بالكلام إلى أوّله ، أي لولا لطف الله بكم برفع الجبل فوقكم لدمتم على ردكم للكتاب ، ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولطف بكم بذلك حتى تبتم .
قوله عز من قائل { ولقد علمتم } اللام للابتداء ، ولا تكاد تدخل الماضي بدون قد لأنها ولتأكيد مضمون الجملة الاسمية نحو : لزيد قائم ، أو لتأكيد المضارع نحو : ليضرب زيد . لكن قد تقرب الماضي من الحال فيصير الماضي كالمضارع مع تناسب معنى « قد » . ومعنى « اللام » في التحقيق ، وعند الكوفيين يقدر القسم قبله . عن ابن عباس : إن هؤلاء القوم كانوا في زمن داود عليه السلام بأيلة على ساحل البحر بين المدينة والشأم ، وهو مكان من البحر يجتمع إليه الحيتان من كل أوب في شهر من السنة حتى لا يرى الماء لكثرتها ، وفي غير ذلك الشهر في كل سبت خاصة ، فحفروا حياضاً عند البحر وشرعوا إليها الجداول ، وكانت الحيتان تدخلها فيصطادونها يوم الأحد . فذلك الحبس في الحياض هو اعتداؤهم ، ثم إنهم أخذوا السمك واستغنوا بذلك وهم خائفون من العقوبة ، فلما طال العهد استنت الأبناء سنة الآباء واتخذوا الأموال ، فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت فنهوهم فلم ينتهوا وقالوا : نحن في هذا العمل منذ زمان فما زادنا الله به إلا خيراً . فقيل لهم : لا تغتروا بذلك فربما ينزل بكم العذاب والهلاك . فأصبح القوم وهم قردة خاسئون فمكثوا ثلاثة أيام ثم ماتوا . قال بعضهم : وفي الكلام حذف أي ولقد علمتم اعتداء الذين اعتدوا ليكون المذكور من العقوبة جزاء لذلك . والسبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت يوم السبت والاعتداء فيه ، إما نفس الاصطياد لأنهم أمروا فيه بالتجرد للعبادة فجاوزوا ما حد لهم واشتغلوا بالصيد ، وإما الاصطياد مع استحلاله . وقوله { كونوا } المراد منه سرعة الإيجاد وإظهار القدرة وإن لم يكن هناك قول { إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون } [ النحل : 40 ] { وقردة خاسئين } خبر « إن » أي كونوا جامعين بين القردة ، والخسوء وهو الصغار والطرد . عن مجاهد أنه مسخ قلوبهم بمعنى الطبع والختم لا أنه مسخ صورهم وهو مثل قوله { كمثل الحمار يحمل أسفاراً } [ الجمعة : 5 ] ونظيره أن يقول الأستاذ للمتعلم البليد الذي لا ينجع فيه تعليمه : كن حماراً . واحتج بأن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس ، فإذا أبطله وخلق مكانه تركيب القرد رجع حاصل المسخ إلى إعدام الأعراض التي باعتبارها كان ذلك الجسم إنساناً ، وإيجاد أعراض أخر باعتبارها صار قرداً . وأيضاً لو جوزنا ذلك لم نأمن في كل ما نراه قرداً وكلباً أنه كان إنساناً عاقلاً وذلك شك في المشاهدات . وأجيب بأن الإنسان ليس هذا الهيكل لتبدله بالسمن والهزال فهو أمر وراء ذلك ، إما جسماني سار في جميع البدن ، أو جزء في جانب من البدن كقلب أو دماغ ، أو مجرد كما يقوله الفلاسفة . وعلى التقادير فلا امتناع في بقاء ذلك الشيء مع تطرق التغير إلى هذا الهيكل وهذا هو المسخ ، وبهذا التأويل يجوز في الملك الذي تكون جثته في غاية العظم أن يدخل حجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولأنه لم يتغير منهم إلا الخلقة والصورة والعقل ، والفهم باقٍ فإنهم يعرفون ما نالهم بشؤم المعصية من تغير الخلقة وتشوّه الصورة وعدم القدرة على النطق وسائر الخواص الإنسانية ، فيتألمون بذلك ويتعذبون ، ثم أولئك القرود بقوا أو أفناهم الله ، وإن بقوا فهذه القرود التي في زماننا من نسلهم أم لا ، الكل جائز عقلاً إلا أن الرواية عن ابن عباس أنهم ما مكثوا إلا ثلاثة أيام ثم هلكوا { فجعلناها } أي المسخة أو القردة أو قرية أصحاب السبت أو هذه الأمة { نكالاً } عقوبة شديدة رادعة عن الإقدام على المعصية .
والنكول عن اليمين الامتناع عنها . ولم يقصد بذلك ما يقصده الناس من التشفي وإطفاء نائرة الغيظ ، وإنما جعلناها عبرة لما قبلها ومعها وبعدها من الأمم والقرون ، لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين فاعتبروا بها وسيبلغ خبرها إلى الآخرين فيعتبرون ، أو أريد بما بين يديها ما بحضرتها من القرى والأمم ، أو جعلناها عقوبة لجميع ما ارتكبوه قبل هذا الفعل وبعده ، هكذا قال بعضهم ، والأولى عندي أن يقال : جعلناها عقوبة لأجل ذنوب تقدمت المسخة ، ولأجل ذنوب تأخرت عنها ، لأنهم إن لم يكونوا ممسوخين لم ينتهوا عنها فهم في حكم المرتكبين لها . ولا يلزم من ذلك تجويز العقاب على الذنب المفروض الموهوم لأنه أمر اعتباري ، والعقوبة في نفسها واحدة ثابتة على حالها لم تزدد لأجل الذنب المتأخر شيئاً ، فليس الأمر فيه كمن ضرب عبده لأجل الإباق المتقدم مائة جلدة ، ولأجل الإباق المتأخر المترقب مائة أخرى ، ولكنه كمن قيد عبده أو حبسه لأجل الإباق المتقدم والإباق المترقب والله أعلم { وموعظة للمتقين } لأن منفعة الاتعاظ تعود إليهم لا إلى غيرهم مثل { هدى للمتقين } أو ليعظ المتقون بعضهم بعضاً . وقيل : للمتقين الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
القراآت : { يأمركم } بالاختلاس : أبو عمرو وكذلك كل فعل مستقبل مهموز من ذوات الراء . { هزؤا } ساكنة الزاء مهموزة ، حمزة وخلف وعباس والمفضل وإسماعيل . وقرأ حمزة مبدلة الواو من الهمزة في الوقف لمكان الخط ، وقرأ حفض غير الخراز مثقلاً غير مهموز ، الباقون : مثقلاً مهموزاً { جئت } وبابه بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى وحمزة في الوقت { فأدارأتم } بغير همزة : أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف ، { عما يعملون } بالياء التحتانية : ابن كثير .
الوقوف : { بقرة } ( ط ) { هزواً } ( ط ) { الجاهلين } ( 5 ) نصف الجزء { ما هي } ( ط ) { ولا بكر } ( ط ) لأن التقدير هي عوان { بين ذلك } ( ط ) على تقدير قد تبين لكم { فافعلوا ما تؤمرون } ( 5 ) { ما لونها } ( ط ) { صفراء } ( لا ) إلى آخر الآية لأن الجملة صفة بعد صفة { الناظرين } ( 5 ) { ما هي } ( لا ) لأن التقدير فإن البقر أو لأن البقر إيلاء لعذر تكرار السؤال { علينا } ( ط ) { لمهتدون } ( 5 ) { الحرث } ( ج ) لأن قوله { مسلمة } صفة بقرة أو خبر محذوف أي هي مسلمة { لا شية فيها } ( ط ) { جئت بالحق } ( ط ) لأن التقدير فطلبوها فوجدوها { فذبحوها } ( ط ) { يفعلون } ( 5 ) { فادارأتم فيها } ( ط ) { يكتمون } ( 5 ) ج للآية والفاء بعدها { ببعضها } ( ط ) لأن التقدير فضربوه فحيي فقيل لهم { كذلك يحيي الله الموتى } { تعقلون } ( 5 ) { قسوة } ( ط ) { الأنهار } ( ط ) { الماء } ( ط ) { خشية الله } ( ط ) لتفصيل دلائل القدرة { تعملون } ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له لكي يرثه ثم رماه في مجمع الطريق ثم شكا ذلك إلى موسى عليه السلام ، فاجتهد موسى في تعرف القاتل . فلما لم يظهر قالوا له : سل لنا ربك حتى يبينه ، فسأله فأوحى الله إليه إن الله يأمرهم أن يذبحوا بقرة . فعجبوا من ذلك فشددوا على أنفسهم بالاستفهام حالاً بعد حال ، واستقصوا في طلب الوصف ، فلما تعين لم يجدوها بذلك النعت إلا عند يتيم . وذلك أنه كان في بني إسرائيل شيخ صالح له عجلة فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني أستودعكها لابني حتى يكبر ، وكان براً بوالديه ، فشبت وكانت من أحسن البقر وأسمنه ، فساوموها اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهباً ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير ، وكانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة فذبحوها ، وأمر موسى عليه السلام أن يأخذوا عضواً منها فيضربوا به القتيل فصار المقتول حياً وسمى لهم قاتله وهو الذي ابتدأ بالشكاية فقتلوه قوداً . واعلم أن تأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع بالاتفاق إلا عند مجوّز تكليف ما لا يطاق ، وأما تأخيره إلى وقت الحاجة فمختلف فيه ، فالمجوزون استدلوا بالآية قالوا : أمروا بذبح بقرة معينة بدليل تعيينها بسؤالهم آخراً ، وبدليل أنه لم يؤمر بمتجدد بل المأمور به في الثانية هو المأمور به في الأولى بالاتفاق ، وبدليل المطابقة لما ذبح .
والمانعون قالوا : معناه اذبحوا أية بقرة شئتم بدليل تنكير بقرة ، وهو ظاهر في أن المراد بقرة غير معينة ، وبدليل أن ابن عباس قال : لو ذبحوا بقرة ما لأجزأهم ، ولكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، وبدليل التعنيف في قوله { وما كادوا يفعلون } ولو كانت معينة لما استحقوا التعنيف على السؤال . وأجيب بأن ترك الظاهر يجوز لموجب راجح ، وما نقل عن ابن عباس خبر الواحد ، والتعنيف يجوز أن يكون لتفريطهم في الامتثال بعد حصول البيان التام . ويتفرع على قول المانعين أن التكليف يكون متغايراً فكلفوا في الأول أيّ بقرة كانت ، وثانياً أن تكون لا فارضاً ولا بكراً بل عواناً ، فلما لم يفعلوا ذلك كلفوا أن تكون صفراء ، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون لا ذلولاً تثير الأرض ولا تسقي الحرث . ثم اختلف القائلون بهذا المذهب . منهم من قال في التكليف الواقع أخيراً يجب أن يكون مستوفياً كل صفة تقدمت حتى تكون البقرة مع الصفة الأخيرة لا فارضاً ولا بكراً وصفراء فاقعاً لونها . ومنهم من يقول : إنما يجب كونها بالصفة الأخيرة فقط ، وهذا أشبه بظاهر الكلام إذا كان تكليفاً بعد تكليف ، وإن كان الأول أشبه بالروايات وبطريقة التشديد عليهم عند ترك الامتثال . وإذا ثبت أن البيان لا يتأخر وأنه تكليف بعد تكليف ، دل على أن الأسهل قد ينسخ بالأشق ، فإن المربي لولده قد يأمره بالسهل اختباراً ، فإذا امتنع الولد منه فقد يرى المصلحة في أن يأمره بالصعب . ويدل أيضاً على جواز النسخ قبل الفعل وإن لم يجز قبل وقت الفعل وإمكانه لأدائه إلى البداء ، ويدل على وقوع النسخ في شرع موسى عليه السلام ، ويدل أيضاً على أن الزيادة في الخطاب نسخ له .
{ أتتخذنا هزواً } استفهام بطريقة الإنكار ، معناه لا تجعلنا مكان هزء أو أهل هزء أو مهزوءاً بنا ، أو الهزء نفسه لفرط الاستهزاء . كان القوم ظنوا أنه يداعبهم لأنه من المحتمل أن موسى عليه السلام أمرهم بذبح البقرة ، وما أعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة وضربوا القتيل ببعضها صار حياً ، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء . ويحتمل أنه وإن كان قد تبين لهم كيفية الحال إلا أنهم تعجبوا من أن القتيل كيف يحيا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة . واختلف العلماء ههنا فعن بعضهم تكفيرهم بهذا القول لأنهم إن شكوا في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى فقد كفروا ، وإن شكوا في أن الذي أمرهم به موسى عليه السلام هل هو بأمر الله فقد جوزوا الخيانة على موسى عليه السلام في الوحي ، وذلك أيضاً كفر . وعن آخرين أنه لا يوجب الكفر لأن المداعبة على الأنبياء جائزة ، فلعلهم ظنوا أنه يداعبهم مداعبة حقة ، أو المراد ما أعجب هذا الجواب كأنك تستهزئ بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء { من الجاهلين } إطلاقاً لاسم السبب على المسبب ، فإن الاشتغال بالاستهزاء لا يكون إلا بسبب الجهل ، ومنصب النبوّة يجل عن ذلك كما يقول الرجل عند مثل ذلك : أعوذ بالله من عدم العقل وغلبة الهوى ، أو أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما في الاستهزاء من نقصان الدين والعقاب الشديد .
وقيل : نفس الهزء قد يسمى جهلاً ، فإن الجهل ضد الحلم ، كما أنه ضد العلم . ثم إن قيل : إن المأمور بذبحه بقرة معينة في نفسها غير مبينة التعيين حسن موقع سؤالهم ، لأن المأمور به لما كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام . أما على قول القائل إنها للعموم فلا بد من بيان أنه ما الذي حملهم على هذا الاستفسار فذكروا وجوهاً أحدها : أنه لما أخبرهم بشأن البقرة تعجبوا وظنوا أن البقرة التي لها مثل هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة ، فلا جرم استقصوا في السؤال عن وصفها كعصا موسى المخصوصة من سائر العصي بتلك الخواص ، إلا أن القوم كانوا مخطئين في ذلك لأن هذه الآية العجيبة لا تكون خاصية البقرة ، بل كانت معجزة يظهرها الله على يد موسى ، أو لعل القوم أرادوا قتل أي بقرة كانت إلا أن القاتل خاف من الفضيحة فألقى شبهة في البين وقال : المأمور به بقرة معينة لا مطلق البقرة ، فلما وقعت المنازعة رجعوا إلى موسى ، أو الخطاب وإن أفاد العموم إلا أن القوم أرادوا الاحتياط فسألوا مزيد البيان وإزالة الاحتمال ، إلا أن المصلحة تغيرت واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة . فإن قيل : السؤال بما هو لطلب الحقيقة والحقيقة لا تعلم إلا بأجزائها ومقوماتها لا بصفاتها الخارجة ، فالجواب بالأوصاف الخارجة لا يكون مطابقاً للسؤال . قلنا : من البين أن مقصودهم من قولهم « ما البقرة » ليس طلب ماهيتها النوعية فإن ذلك كالمفروغ منه عندهم ، وإنما وقع السؤال عن المشخصات . فالظاهر يقتضي أن يقال : أي بقرة هي؟ فإن مطلب « أي » السؤال عن الصفات الذاتية والخواص . فسبب العدول إما إقامة الحقيقة الشخصية مقام الحقيقة النوعية فإن الشخص من حيث هو شخص حقيقة أيضاً قد يطلب تصورها ، وإما لأنهم تصوروا أن البقرة التي لها هذه الخاصية العجيبة حقيقتها مغايرة لحقيقة سائر البقرات وإن كانت صورتها موافقة لصورتها ، وإما لأن السؤال عن الجزئيات كزيد وعمرو إنما يكون ب « من » إذا كان طلباً للعوارض ، وههنا الجزئي غير ذي عقل فناسب أن يقام ما مقام « من » .
الفارض المسنة ، وقد فرضت فروضاً فهي فارض كطالق كأنها فرضت سنها أي قطعتها وبلغت آخرها . والبكر الفتية ، وكان الأظهر أنها التي لم تلد كما في الإنسان .
والعوان النصف قال :
نواعم بين أبكار وعون . ... وقد غونت وقال :
فإن أتوك وقالوا إنها نصف ... فإن أطيب نصفيها الذي ذهبا
وقد يستدل من هذا على جواز الاجتهاد واستعمال غلبة الظن في الأحكام إذ لا يعلم أنها بين الفارض والبكر إلا بطريق الاجتهاد . وإنما جاز دخول « بين » على لفظة « ذلك » مع أنه لا يدخل إلا على متعدد ، لأنها في معنى شيئين حيث وقع مشاراً به إلى ما ذكر من الفارض والبكر . وإنما أشير بذلك إلى مؤنثين وهو للإشارة إلى واحد مذكر على تأويل ما ذكر وما تقدم للاختصار في الكلام { ما تؤمرون } مثل : أمرتك الخير فافعل ما أمرت به . بمعنى ما تؤمرون به ، أو أمركم بمعنى مأموركم تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ، ولما بين لهم كمال حالها في السن شرعوا في تعرف حال اللون . والفقوع أشد ما يكون من الصفرة . يقال في التوكيد أصفر فاقع مثل أسود حالك ، وأحمر قانئ ، وارتفع اللون على أنه فاعل سببي لفاقع . والفرق بين قولك « صفراء فاقعة » و « صفراء فاقع لونها » أن في الثاني تأكيداً ليس في الأول ، لأن اللون اسم للهيئة وهي الصفرة فكأنه قيل : شديد الصفرة صفرتها مثل جد جده ، وجنونه مجنون . وعن وهب : إذا نظرت إليها خيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها . والسرور حالة نفسانية تعرض عند اعتقاد أو علم أو ظن بحصول شيء لذيذ أو نافع . وعن علي عليه السلام : من لبس نعلاً صفراء قل همه لقوله { سر الناظرين } وعن الحسن البصري : صفراء فاقع لونها سوداء شديدة السواد ، ولعله مستعار من صفة الإبل لأن سوادها يعلوه صفرة وبه فسر قوله تعالى { جمالات صفر } [ المرسلات : 33 ] { إن البقر تشابه علينا } لأن البقر الموصوف بالتعوين والصفرة كثير { وإنا إن شاء الله لمهتدون } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « والذي نفس محمد بيده لو لم يقولوا إن شاء الله لحيل بينهم وبينها أبداً » وفيه دليل على أن الاستثناء مندوب في كل عمل صالح يراد تحصيله ، ففيه استعانة بالله وتفويض للأمر إليه ، والاعتراف بقدرته ونفاذ مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية ، ما شاء الله كان وما لم يشاء لم يكن . والمعنى إنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيلنا أوصافها التي بها تمتاز عما عداها ، أو إنا إن شاء الله على هدى في استقصاء السؤال أي نرجو أنا لسنا على ضلالة فيما نفعله من هذا البحث ، أو إنا إن شاء الله تعريفنا إياها بالزيادة لنا في البيان نهتدي لها ، أو إنا إن شاء الله نهتدي للقاتل { لا ذلول } صفة لبقرة مثل لا فارض أي بقرة غير ذلول لم تذلل للكراب وإثارة الأرض ، ولا هي من النواضح التي يسنى عليها لسقي الحرث .
« لا » الأولى للنفي والثانية مزيدة للتوكيد ، لأن المعنى لا ذلول تثير وتسقي ، على أن الفعلين صفتان لذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية . والذل بالكسر اللين ضد الصعوبة ، ودابة ذلول بينة الذل « فعول » بمعنى « فاعل » ، ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث . تقول : رجل صبور وامرأة صبور { مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب مطلقاً ، أو معفاة من العلم وحشية مرسلة عن الحبس ، أو مخلسة اللون لم يشب صفرتها شيء من الألوان . وعلى هذا يكون { لا شية فيها } كالبيان . والشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره أي لا لون فيها يخالف سائر لونها فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها ، وهي في الأصل مصدر « وشاة » إذا خلط بلونه لوناً آخر ، أصلها وشية حذف فاؤها كما هو « عدة » و « زنة » { الآن } اسم للوقت الذي أنت فيه وهو ظرف غير متمكن وقع معرفة ، وليس الألف واللام فيه للتعريف لأنه ليس له ما يشركه وهو يائي { جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة أو ما بقي إشكال في أمرها فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف { فذبحوها } والذبح هو قطع أعلى العنق وهو المستحب في الغنم والبقر . والنحر هو قطع اللبة أسفل العنق وهو المستحب في الإبل . والمرعي في الحالتين قطع الحلقوم والمرئ لكن عنق الإبل طويل ، فإذا قطع أعلاه تباطأ الزهوق . ولا يكره الذبح في الإبل والنحر في البقر والغنم وإن كان خلاف المستحب { وما كادوا يفعلون } استبطاء لهم ، وأنهم لكثرة استكشافهم ما كاد ينقطع خيط أشباههم . وقيل : وما كادوا يذبحونها لغلاء ثمنها . وقيل : لخوف الفضيحة في ظهور القاتل . وقد يستدل بهذا على أن الأمر للوجوب بل للفور وإلا لما ترتب هذا الذم على تثاقلهم { وإذ قتلتم نفساً } خوطبت الجماعة لوجود القتل فيهم { فادارأتم فيها } فاختلفتم واختصمتم في شأنها لأن المتخاصمين يدرأ بعضهم بعضاً أي يدفعه ويزحمه ، أو ينفي كل واحد منكم القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره أو يدفع بعضكم بعضاً عن البراءة ويتهمه . وأصله تدارأتم أدغمت التاء في الدال فاحتيج إلى همزة الوصل ، ويحتمل أن يرجع الضمير في « فيها » إلى القتلة المعلومة من قتلتم { والله مخرج } مظهر لا محالة ما كتمتم من أمر القتيل . وقد حكي ما كان مستقبلاً في وقت التدارؤ كما حكي الحاضر في قوله { وكلبهم باسط ذراعيه } [ الكهف : 18 ] فلهذا صح عمل اسم الفاعل . وهذه الجملة معترضة ، وفيها دليل على جواز عموم النص الوارد على السبب الخاص ، لأن هذا يتناول كل المكتومات . وفيها دليل على أن الله لا يحب الفساد ، وأنه سيجعل إلى زواله سبيلاً ، وأن ما يسّره العبد من خير أو شر ودام ذلك منه فالله سيظهره ، ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم
« إن عبداً لو أطاع الله من وراء سبعين حجاباً لأظهر الله ذلك على ألسنة الناس » وكذلك المعصية والضمير في { اضربوه } عائد إلى النفس ، والتذكير على تأويل الشخص أو الإنسان ، ويحتمل أن يعود إلى القتيل بدلالة { قتلتم } أو { ما كنتم تكتمون } واختلف في البعض من البقرة فقيل لسانها ، وقيل : فخذها اليمنى ، وقيل : عجبها ، وقيل : العظم الذي يلي الغضروف وهو أصل الأذن ، وقيل : الأذن ، وقيل : البضعة من بين الكتفين ، والظاهر أنهم كانوا مخيرين بين أيّ بعض أرادوا ، وههنا محذوف بدلالة الفاء الفصيحة والمعنى فضربوه فحيي فقلنا كذلك يحيي الله الموتى . روي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله وأوداجه تشخب دماً وقال : قتلني فلان وفلان - وهما ابنا عمه - ثم سقط ميتاً فأخذا وقتلا ولم يورّث قاتل بعد ذلك ، ويؤيده قوله نبينا صلى الله عليه وسلم « ليس للقاتل من الميراث شيء » والسر فيه أنه استعجل الميراث فناسب أن يعارض بنقيض مقصوده وهو قول الشافعي . ولم يفرق بين أن يكون القتل مستحقاً كالعادل إذا قتل الباغي ، أو غير مستحق عمداً كان أو خطأ . وعند أبي حنيفة لا يرث في العمد والخطأ إلا أن العادل إذا قتل الباغي فإنه يرثه . وقال مالك : لا يرثه من ديته ويرثه من سائر أمواله . ومحل { كذلك } نصب على المصدر أي يحيي الله الموتى مثل ذلك الإحياء . وهذا الكلام إما مع الذين حضروا حياة القتيل لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلا أنهم لم يؤمنوا بذلك من طريق العيان والمشاهدة ، وشتان بين عين اليقين وعلم اليقين . وإما أن يكون مع منكري البعث في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير « فقلنا » بعد تقدير « فضربوه فحيي » { ويريكم آياته } دلائله على أنه قادر على كل شيء . فدلالة هذه القصة على وجود الصانع القادر على كل المقدورات العالم بكل المعلومات المختار في الإيجاد والإعدام آية ، ودلالتها على صدق موسى عليه السلام آية ، ودلالتها على براءة ساحة من سوى القاتل آية ، ودلالتها على حشر الأموات آية ، فهي وإن كانت واحدة إلا أنها في الحقيقة آيات عدة . ويمكن أن يراد بالآيات غير هذه أي مثل هذه الإراءة يريكم سائر الإراآت ، كما أن مثل هذا الإحياء يحيي سائر الأموات . وفي قوله { كذلك } دون أن يقال كهذا تعظيم للمشار إليه بتبعيده كما قلنا في { ذلك الكتاب } { لعلكم تعقلون } تعملون على قضية عقولكم ، فإن من قدر على إحياء نفس واحدة قدر على إحياء الأنفس كلها إذ لا أثر للمخصصات في ذلك . فإن قيل : ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أنه قادر على إحيائه ابتداء؟ قلنا : الفائدة فيه كون الحجة آكد وعن الحيلة أبعد ، فقد كان يجوز لملحد أن يتوهم أن موسى عليه السلام إنما أحياه بضرب من السحر ، وليعلم بما أمر من مس الميت بالميت وحصول الحياة عقيبه ، أن المؤثر هو المسبب لا الأسباب ، ولما في ذبح البقرة من القربان وأداء التكليف واكتساب الثواب والإشعار بحسن تقديم القربة على طلب الحوائج ، وما في التشديد عليهم لأجل تشديدهم من اللطف لهم وللآخرين في ترك التشديد والمسارعة إلى امتثال أوامر الله على الفور ونفع اليتيم بالتجارة الرابحة ، والدلالة على بركة البر بالأبوين والإشفاق على الأولاد ، وتجهيل المستهزئ بما لا يعلم تأويله من كلام الحكيم ، وبيان أن من حق المتقرب به إلى الرب أن يكون من أحسن ما يتقرب به ، فتيّ السن حسن اللون بريئاً من العيوب ثميناً نفيساً « أسمنوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم » فإن قيل : هلا قدم ذكر القتيل على الأمر بذبح البقرة كما هو حق القصة؟ قلنا : لأنها كانت تكون حينئذ قصة واحدة ويذهب الغرض في ثنية التقريع بالاستهزاء وترك المبادرة بالامتثال أولاً ، وبقتل النفس المحرمة وما تبعه من الآية ثانياً ، على أنها دلت على اتحاد القصتين برجوع الضمير في { ببعضها } إلى البقرة وهي مذكورة في الأولى .
قوله { ثم قست قلوبكم } الآية . خطاب لأولئك اليهود الذين كانوا في زمن موسى ، أو للذين هم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم من بعد ذلك الإحياء ، أو من بعد ذلك الذي عددنا من جميع الآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات . ومعنى « ثم » استبعاد القسوة من بعدما يوجب اللين والرقة . وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار والاتعاظ فهي كالحجارة مثلها في القسوة ، أو هي أشد قسوة من الحجارة . فمن عرفها شبهها بالحجارة أو قال هي أقسى من الحجارة ، ويجوز أن يقدر مضاف أي هي كالحجارة أو مثل أشد قسوة . فمن عرفها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى من الحجارة كالحديد مثلاً . وإنما قيل : أشد قسوة مع إمكان بناء أفعل التفضيل من فعل القسوة ، لكونه أدل على فرط القسوة ، أو لأنه لم يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة كأنه قيل : اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة منها ، وحذف هذا الراجع لعدم الالتباس نحو : زيد كريم وعمر أكرم . وكلمة « أو » ههنا ليست للشك ، فعلام الغيوب لا يشك في شيء ، وإنما هي للتخيير بأيهما شئت شبهت فكنت صدوقاً ، ولو جمعت بينهما جاز . ثم أخذ في بيان فضل قلوبهم على الحجارة في شدة القسوة فقال { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } أي إن منها للذي فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الغزير ، وإن منها للذي ينشق انشقاقاً طولاً أو عرضاً فينبع منه الماء وذلك بحسب كثرة المادة وقلتها ، فإن الأبخرة تجمع في باطن الأرض .
ثم إن كان ظاهر الأرض رخواً نفشت وانفصلت ، وإن كان صلباً حجرياً اجتمعت وصارت مياهاً ، ولا يزال يتواتر مددها إلى أن تنشق الأرض من مزاحمتها وتسيل أنهاراً أو عيوناً . وأما قلوب هؤلاء فلا تنشرح للحق ولا تتأثر من الوعظ والنصح بعد مشاهدة الآيات ومعاينة الدلائل . ويشقق أصله يتشقق فأدغم التاء في الشين كقولهم « يذكر » في « يتذكر » { لما يهبط } للذي يتردى من أعلى الجبل وذلك من خشية الله ، إما لأنه تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدراك كما يروى من تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم ، وإما لأن الخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله وأنها لا تمتنع عما يريد بها من الإهباط والانفصال عن كلها ، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تأتمر ، وقيل : أن يتزلزل من أجل أن تحصل خشية الله في قلوب عباده فيفزعون إليه بالتضرع والدعاء { وما الله بغافل عما تعملون } وعيد ، والمعنى أنه بالمرصاد لهؤلاء القاسية قلوبهم وحافظ لأعمالهم فيجازيهم في الدنيا والآخرة { فلا تعجل عليهم إنما نعد لهم عداً } [ مريم : 84 ] ووصفه تعالى بأنه ليس بغافل لا يوهم جواز الغفلة عليه لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحتها مثل { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] .
التأويل : ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية ، فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني وهو الجهاد الأكبر موتوا قبل أن تموتوا .
اقتلوني يا ثقاتي ... إن في قتلي حياتي
وحياتي في مماتي ... ومماتي في حياتي
مت بالإرادة تحيا بالطبيعة . وقال بعضهم : مت بالطبيعة تحيا بالحقيقة { ما هي إنها بقرة } نفس تصلح للذبح بسيف الصدق { لا فارض } في سن الشيخوخة فيعجز عن وظائف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد { ولا بكر } في سن شرخ الشباب يستهويه سكره { عوان بين ذلك } لقوله { حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة } [ الأحقاف : 15 ] . { بقرة صفراء } إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضيات { فاقع لونها } يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فإنها سيماء الصالحين . { لا ذلول تثير الأرض } لا تحتمل ذلة الطمع ولا تثير بآلة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها ومشتهياتها { ولا تسقي } حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق وبماء وجاهته عند الخالق ، فيذهب ماؤه عند الحق وعند الخلق { مسلمة } من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله { وما كادوا يفعلون } بمقتضى الطبيعة لولا فضل الله وحسن توفيقه . { وإذ قتلتم نفساً } يعني القلب { فادّارأتم } فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من النفس الأمارة { فقلنا اضربوه ببعضها } ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي بإذن الله تعالى وقال
{ إن النفس لأمارة بالسوء } [ يوسف : 53 ] { وأن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } مراتب القلوب في القسوة مختلفة ، فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان أنوار الروح يترك اللذات والشهوات بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين والهنود ، والتي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الآيات والمعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء ، والتي تهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان والملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف والخشية ، وهذه المراتب مشتركة بين المسلمين وغيرهم . والفرق أنها في المسلمين مؤيدة بنور الإيمان فيزيدوا في قربهم وقبولهم ودرجاتهم ، ولغيرهم ليست مؤيدة بالإيمان فيزيدوا في غرورهم وعجبهم وبعدهم واستدراجهم ، والمسلمون مخصوصون بكرامات وفراسات تظهر لهم من تجلي أنوار الحق ورؤية برهانه . فإراءة الآيات للخواص { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] { ويريكم آياته لعلكم تعقلون } [ البقرة : 73 ] لكن إراءة البرهان لأخص الخواص كما في حق يوسف { لولا أن رأى برهان ربه } [ يوسف : 24 ] سئل الحسن بن منصور عن البرهان فقال : واردات ترد على القلوب فتعجز النفوس عن تكذيبها . والله أعلم .
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
القراآت : { إلا أماني } حيث كان خفيفاً : يزيد إلا قوله { تلك أمانيهم } { وليس بأمانيكم ولا أماني } { وغرتكم الأماني } فإن أربعتهن بالإسكان عنده { بأيديهم } بضم الهاء : يعقوب ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ياء ساكنة { خطيآته } بالجمع : أبو جعفر ونافع .
الوقوف : { يعلمون } ( 5 ) { آمنا } ( ج ) والوصل أجوز لبيان حالتيهما المتناقضتين وهو المقصود { عند ربكم } ( ط ) { أفلا تعقلون } ( 5 ) { يعلنون } ( 5 ) { يظنون } ( ج ) { قليلاً } ( ط ) { يكسبون } ( 5 ) { معدودة } ( ط ) { ما لا تعلمون } ( 5 ) { النار } ( ج ) لأن الجملة مبتدأ وخبر بعد خبر . { خالدون } ( 5 ) { الجنة } ( ج ) { خالدون } ( 5 ) .
التفسير : لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبائح أسلاف اليهود وسوء معاملتهم مع نبيهم ، أردفها قبائح أخلافهم المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنه قيل : إذا كان هذا أفعالهم فيما بينهم ، فكيف تطمعون أيها النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في أن يؤمنوا أي يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم ويستجيبوا لكم؟ كقوله { فآمن له لوط } { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } وهو ما يتلونه من التوراة { ثم يحرفونه } كما حرفوا صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآية الرجم . وقيل : هم قوم من الذين حضروا الميقات ، سمعوا كلام الله حين كلم موسى بالطور وما أمر به ونهى عنه ثم قالوا : سمعنا الله يقول في آخره إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا فلا بأس { من بعد ما عقلوه } فهموه وضبطوه بعقولهم من غير ما شبهة { وهم يعلمون } أنهم مفترون كذابون . والمعنى إن كفر هؤلاء وحرفوا فلهم سابقة في ذلك كما تقول للرجل : كيف تطمع أن يفلح فلان وأستاذه فلان يأخذ عنه لا عن غيره؟ فهؤلاء المقلدة لا يقبلون إلا قول معلميهم وأحبارهم الذين تعمدوا التحريف عناداً أو لضرب من الأغراض الدنيوية { وإذا لقوا } أي اليهود قال منافقوهم : آمنا بأنكم على الحق ونشهد أن صاحبكم صادق ، ونجده بنعته وصفته في كتابنا . { وإذا خلا بعضهم } الذين لم ينافقوا { إلى بعض } الذين نافقوا { قالوا } عاتبين عليهم { أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } بما بين لكم في التوراة من نعته وصفته مأخوذ من قولهم « قد فتح على فلان في علم كذا أي رزق ذلك وسهل له طلبه ، أو قال المنافقون لعيرهم يرونهم التصلب في دينهم : أتحدثونهم إنكاراً عليهم أن يفتحوا عليهم شيئاً في كتابهم فينافقون المؤمنين وينافقون اليهود { ليحاجوكم به عند ربكم } ليحتجوا عليكم بما أنزل ربكم في كتابه . جعلوا محاجتهم به وقولهم » هو في كتابكم هكذا « محاجة عند الله . ألا تراك تقول : هو في كتاب الله كذا وهو عند الله كذا بمعنى واحد؟ وعن الحسن : ليحاجوكم في ربكم لأن المحاجة فيما ألزم تعالى من اتباع الرسل محاجة فيه أي دينه .
وقال الأصم : يحاجوكم يوم القيامة عند المساءلة فيكون زيادة في توبيخكم ، فكان القوم يعتقدون أن ذلك مما يزيد في فضيحتهم في الآخرة . وقيل : ليحاجوكم به على وجه الديانة والنصيحة ، لأن من يذكر الحجة على هذا الوجه قد يقول لصاحبه : أزحت علتك عند الله وأقمت عليك الحجة بيني وبين ربي ، فإن قبلت أحسنت إلى نفسك ، وإن جحدت كنت الخاسر الخائب . وقيل : لتصيروا محجوجين بتلك الدلائل في حكم الله كما يقال : فلان عندي عالم أي في اعتقادي وحكمي . وهذا عند الشافعي كذا ، وعند أبي حنيفة كذا { أفلا تعقلون } أن ذلك لا يليق بما أنتم عليه فإنكم إذا حدثتموهم بالذي يحاجونكم به رجع وباله عليكم { أو لا يعلمون أن الله يعلم } جميع { ما يسرون وما يعلنون } ومن ذلك إسرارهم الكفر وإعلانهم الإيمان ، خوّفهم الله تعالى بذلك لأنهم كانوا يعرفون أن الله يعلم السر والعلانية { ومنهم أميون } لا يحسنون الكتب فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها كأنه منسوب إلى الأم وهو أصل الشيء ، فالأمي على أصل فطرته لم يكتسب علماً وكتابة { لا يعلمون الكتاب } التوراة { إلا أماني } وأحدها أمنية على أفعولة من مني إذا قدر . تقول : منه تمنيت الشيء ومنيته غيري تمنية ، لأن المتمني يقدر في نفسه ويجوّز ما يتمناه ، وأماني اليهود هي أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وما يمنيهم الأحبار من أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة . وقيل : الأماني الأكاذيب المختلفة التي سمعوها من علمائهم فقبلوها على التقليد . يقال : أهذا شيء رويته أم تمنيته أم اختلقته؟ وذلك أن المختلق يقدر أن كلمة كذا بعد كذا . وفي الصحاح أنه مقلوب المين وهو الكذب . وقيل : إلا ما يقرأون من قولهم « تمنيت الكتاب قرأته » قال الشاعر يرثي عثمان :
تمنى كتاب الله أوّل ليلة ... وآخرها لا في حمام المقادر
والقارئ مقدر الكلمات كالمختلق ، وعلى هذا يكون الاستثناء متصلاً كأنه قيل : لا يعلمون الكتاب إلا بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه ، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه . ثم إ نهم لا يتمكنون من التدبر والتأمل ، وعلى الأول يكون استثناء منقطعاً . ومن قرأ { أماني } بالتخفيف حذف المد كما يقال مفاتح { وإن هم إلا يظنون } كالمحقق لما تقدمه من قوله { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } ذكر الفرقة الضالة المضلة المحرفة ، ثم الفرقة المنافقين منهم ، ثم الفرقة المجادلة لأهل النفاق ، ثم العوام المقلدة ، ونبه على أنهم في الضلال سواء ، لأن للعالم أن يعمل بعلمه وعلى العامي أن لا يرضى بالتقليد والظن إن كان متمكناً من العلم ولا سيما في أصول الدين ، الويل كلمة يقولها كل مكروب ، وعن ابن عباس : أنه العذاب الأليم .
وعن الثوري : صديد أهل الجحيم . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره » . وقال عطاء بن يسار : الويل واد في جهنم ، لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حره . ولا شبهة في دلالتها على نهاية الوعيد والتهديد { يكتبون الكتاب } المحرف { بأيديهم } تأكيد كما تقول للمنكر هذا ما كتبته بيمينك . حكى عنهم أمرين : كتبة الكتاب وإسناده إلى الله . فالوعيد مرتب على كل منهما وعلى مجموعهما إلا أنه على الثاني أبلغ ولهذا جيء ب « ثم » وقوله { ليشتروا به ثمناً قليلاً } تنبيه على شقاوتهم ، فإنهم استبدلوا النفع الحقير العاجل الزائل بالأجر العظيم الآجل الدائم { فويل لهم مما كتبت أيديهم } أي مما أسلفت من كتبها ما لم يكن يحل لهم { وويل لهم مما يكسبون } بذلك بعد من الرشا على التحريف وفي إعادة الويل في الكسب دليل على أن الوعيد كما يلحقهم بسبب الكتبة وإسنادها إلى الله ، فكذلك يلحقهم بسبب أخذ المال عليه ليعلم أن أخذ المال على الباطل محرم وإن كان بالتراضي { وقالوا لن تمسنا النار } نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو جزمهم بأن الله تعالى لا يعذبهم إلا أياماً معدودة قليلة ، وهذا الجزم مما لا سبيل إليه بالعقل ألبتة ، ولا دليل له سمعياً فلا يجزم به عاقل . والأيام المعدودة قالوا : أربعون يوماً هي أيام عبادة العجل . وعن مجاهد قالوا : مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذب مكان كل ألف سنة يوماً لأن يوماً عند الله ألف سنة . وأيام معدودة ومعدودات كلاهما فصيح مثل الأيام مضت ومضين . والعهد ههنا يجري مجرى الوعد والخبر ، لأن خبره سبحانه كالعهود المؤكدة منا بالقسم والنذر . و { أتخذتم } استفهام بطريق الإنكار ، وإنه يدل على عدم الدليل السمعي . { فلن يخلف الله عهده } لتنزهه سبحانه عن كل نقيصة وخلاف الخبر أنقص النقائص . فإن قيل : هب أن الخلف في الوعد لؤم ونقيصة ، لكنه في الوعيد كرم ولطف . قلنا : الخلف من حيث هو كذب قبيح لا يجوّزه كامل ، ولعل للكرم طريقاً آخر سوى هذا فتأمل . و « أم » إما معادلة بمعنى أي الأمرين كائن على سبيل التقدير لأن العلم واقع بكون أحدهما وهذا من الكامل المنصف نحو { وأنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 8 ] ، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى « بل أتقولون » كأنه أعرض عن الاستفهام الأول واستأنف سؤالاً ثانياً . فالاستفهام الأول لتقرير النفي ، والاستفهام الثاني لتقرير الإثبات . وفي الآية تنبيه على أن القول بغير دليل باطل وأن كل ما جاز وجوده وعدمه عقلا لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلا بدليل سمعي . ولا حجة لمنكري القياس وخبر الواحد فيه لأنه لما دل الدليل على وجوب العمل عند حصول الظن المستند إلى القياس أو إلى خبر الواحد ، كان وجوب العمل معلوماً فكان القول به قولاً بالمعلوم { بلى } إثبات لما بعد حرف النفي وهو قوله { لن تمسنا النار } أي بلى تمسكم أبداً بدليل قوله تعالى { هم فيها خالدون } عن ابن عباس : وجد أهل الكتاب ما بين طرفي جهنم مسيرة أربعين فقالوا : لن نعذب في النار إلا ما وجدنا في التوراة ، وإذا كان يوم القيامة أقحموا في النار فساروا في العذاب حتى انتهوا إلى شفير سقر وفيها شجرة الزقوم إلى آخر يوم من الأيام المعدودة قال لهم خزنة أهل النار : يا أعداء الله ، زعمتم أنكم لن تعذبوا في النار إلا أياماً معدودة ، فقد انقضى العدد وبقي الأبد .
قلت : وفي مثل حالهم ضلال الفلاسفة القائلين بأن الأرواح وإن صارت مكدرة بقبائح أفعال الأشباح ، إلا أنها بعد المفارقة ورجوع العناصر إلى أصلها تصير إلى حظائر القدس ، ولا يزاحمها شيء من قبائح الأعمال إلا أياماً معدودة بقدر فطام الأرواح عن لبان التمتعات الحيوانية ، ثم تتخلص من العذاب وترجع إلى حسن المآب . ومنهم من زعم أن استيفاء اللذات الحسية يقلل التعلقات الدنيوية ويسهل عروج الروح إلى عالمه العلوي ، وكل هذا خيال فاسد ومتاع كاسد ، وإنه قول من لم يجرب ولم يجد من نفسه أنها كيف تتدنس وتتكدر بالأخلاق الذميمة البهيمية والسبعية ، ويكف تتصفى وتتطهر بالأخلاق الحميدة الروحانية الملكية ، فغمر بصدإ مرآة القلب بحيث لا يبقى فيه شيء من الصفاء الفطري { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } [ المطففين : 14 ] فلا يجلوها إلا مرور الدهور وكرور الأعصار . وقد ينضم الكفر إلى تلك الأخلاق فيبقى خالداً مخلداً في النار ، في ويل طويل وزفير وعويل ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . والسيئة أصلها سيوئة من ساءه يسوءه سوأ ومساءة ، فقلبت الواو ياء وأدغمت ، وهي من الصفات الغالبة . وقوله { سيئة } يتناول جميع المعاصي صغرت أو كبرت ، فضم إليها شرط آخر وهو كون السيئة محيطة به ليختص بالكبيرة . ولفظ الإحاطة حقيقة في المجسمات إحاطة السور بالبلد والظرف بالمظروف ، فنقل إلى الخطيئة وهي عرض لمعنيين من جهة أن المحيط يستر المحاط به . والكبيرة تستر الطاعات ، ومن جهة أن الكبيرة تحبط الطاعات وتستولي عليها إحاطة العدو بالإنسان بحيث لا يتمكن الإنسان من الخلاص عنهم . والآية وإن وردت في اليهود فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وبمثلها تتمسك المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر إذا ماتوا قبل التوبة ، وفسر غيرهم الخطيئة المحيطة بالكفر فيه تتحقق الإحاطة التامة . واعلم أن في المسألة خلافاً لأهل القبلة . منهم من قطع بوعيدهم إما مؤبداً - وهو قول جمهور المعتزلة والخوارج - وإما منقطعاً - وهو قول بشر المريسي والخالدي ومنهم من قطع بأنه وعيد لهم وينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر .
والذي عليه أكثر الصحابة والتابعين وأهل السنة والإمامية ، القطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العصاة ، وأنه إذا عذب أحدهم فلا يعذبه أبداً ، لكنا نتوقف في حق البعض المعفو عنه والبعض المعذب على التعيين . أما المعتزلة فاستدلوا بعمومات وردت في وعيد الفساق كقوله { ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها } [ النساء : 14 ] وقوله { وإن الفجار لفي جحيم } [ الإنفطار : 14 ] وقوله { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] ومن الحديث « من شرب الخمر في الدنيا ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة . ومن قتل نفساً معاهداً لم يرح رائحة الجنة ، الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » وعن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت رجل إلا دخل النار » وإذا استحقوا النار ببغضهم فلأن يستحقوا النار بقتلهم أولى . وأجيب بالمنع من أن هذه الصيغ للعموم بدليل صحة إدخال الكل والبعض عليها نحو : كل من دخل داري فله كذا ، أو بعض من دخل . ولا يلزم منه تكرير ولا تناقض ، ولأن الأكثر قد يطلق عليه لفظ الكل ، ولاحتمال المخصصات . القاطعون بنفي العقاب عن أهل الكباشر احتجوا بنحو قوله تعالى { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } [ النحل : 27 ] { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } [ الزمر : 53 ] { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } [ الرعد : 6 ] { لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى } [ الليل : 15 ، 16 ] وبالعمومات الواردة في الوعد مثل { والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك } [ البقرة : 3 ] الآية . حكم بالفلاح على كل من آمن . وعورض بعمومات الوعيد . أما أصحابنا الذين قطعوا بالعفو في حق البعض والتوقف في البعض ، فقد تمسكوا بنحو قوله عز من قائل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وبأن عمومات الوعد والوعيد لما تعارضتا فلا بد من الترجيح لجانب الوعد بصرف التأويل إليه ، لأن العفو عن الوعيد مستحسن في العرف ، وإهمال الوعد باضد . وأيضاً القرآن مملوء من قوله { عفواً غفوراً } { رحيماً } { كريماً } . وكذا الأخبار في هذا المعنى تكاد تبلغ حد التواتر . وأيضاً إن صاحب الكبيرة أتى بما هو أفضل الخيرات وهو الإيمان ، ولم يأت بما هو أقبح القبائح وهو الكفر ، ولا يهدمه ما سوى الكفر من المعاصي ، ولهذا قال يحيى بن معاذ الرازي : إلهي إذا كان توحيد ساعة يهدم كفر خمسين سنة ، فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة؟ إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات ، كان مقتضى العدل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي ، وإذا دلت الآيات على الوعد والوعيد فلا بد من التوفيق بينهما .
فإما أن يصل العبد إلى دار الثواب ثم إلى دار العقاب وهو باطل بالإجماع ، أو يصل إليه العقاب ثم ينقل إلى دار الثواب ويبقى هناك أبد الآباد وهو المطلوب . واعلم أن مذهب الأصحاب إلى الأدب أقرب من حيث إنهم يصفونه بصفات الجمال كالعفو والمغفرة ، وبصفات الجلال كالقهر والانتقام ، ولكن لا يوجبون عليه ثواباً ولا عقاباً ، لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . ومن حيث إنهم لا يعينون البعض المستحق للثواب ولا البعض المستحق للعقاب من المسلمين ، لأن فعله مبرأ عن التعلل بلواحق الغايات وسوابق البواعث . ومذهب المعتزلة إلى الاحتياط أقرب ، فإن من خوّفك حتى تبلغ الأمن خير ممن أمنك حتى تبلغ الجوف .
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
القراآت : { لا يعبدون } بالياء للغيبة . ابن كثير وحمزة وعلي والمفضل { القربى } بالإمالة المفرطة : حمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة وكذلك كل كلمة على وزن « فعلى » { حسنا } وصفاً : يعقوب وحمزة وعلي وخلف والمفضل { تظاهرون } خفيفاً : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وحذف إحدى التاءين للتخفيف ، الباقون بالتشديد ووجهه إدغام التاء في الظاء { أسارى } بالإمالة { تفدوهم } أبو عمرو وخلف . { أسارى } مفخماً { تفدوهم } ابن كثير وابن عامر { أسرى } بالإمالة { تفدوهم } حمزة . { أسارى } بالإمالة { تفادوهم } علي والنجاري عن ورش والخراز عن هبيرة ، والباقون { أسارى } مفخماً { تفادوهم } { تردون } بتاء الخطاب : أبو زيد عن المفضل { يعلمون } بياء الغيبة : ابن كثير ونافع وخلف ويعقوب وأبو بكر وحماد بناء لآخر الكلام على أوّله ، الباقون بالتاء تغليباً للمخاطبين على الغيب .
الوقوف : { الزكاة } لأن « ثم » لترتيب الأخبار أي مع ذلك توليتم و { معرضون } و { تشهدون } ( 5 ) { من ديارهم } ( ز ) لأن { تظاهرون } يشبه استئنافاً ، وكونه حالاً أوجه و { العدوان } ( ط ) { إخراجهم } ( ط ) { ببعض } ( ج ) لابتداء الاستفهام أو النفي مع فاء التعقيب { الدنيا } ( ط ) لعطف الجملتين المختلفتين { العذاب } ( ط ) { يعملون } ( 5 ) { الآخرة } ( ز ) لأن الفعل مستأنف وفيه فاء التعقيب للجزاء { ينصرون } ( 5 ) .
التفسير : إنه سبحانه كلفهم بأشياء : الأوّل : قوله { لا تعبدون إلا الله } من قرأ بياء الغيبة فلأنهم غيب ، ومن قرأ بتاء الخطاب فلحكاية ما خوطبوا به ، وفي إعرابه أقوال : أحدها : أنه إخبار في معنى النهي كقولك « تذهب إلى فلان » تريد الأمر وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي كأنه سورع إلى الامتثال فهو يخبر عنه . ويؤيد هذا القول عطف { وقولوا } { وأقيموا } عليه . وثانيها : التقدير أن لا تعبدوا فلما حذفت « أن » رفعت كقوله « ألا أبهذا الزاجري أحضر الوغى » ويحتمل أن تكون « أن » مفسرة وأن تكون مع الفعل بدلاً من الميثاق كأنه قيل : أخذنا ميثاق بني إسرائيل توحيدهم . وثالثها : هو جواب قوله { أخذنا ميثاق بني إسرائيل } إجراء له مجرى القسم كأنه قيل : وإذ أقسمنا عليهم لا تعبدون . وهذا التكليف بالحقيقة يتضمن جميع ما لا بد منه في الدين ، لأن الأمر بعبادته والنهي عن عبادة غيره مسبوق بالعلم بذاته سبحانه وبجميع ما يجب له ويستحيل عليه ، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوحي والرسالة .
التكليف الثاني : قوله : { وبالوالدين إحساناً } معناه يحسنون بالوالدين إحساناً ليناسب { لا تعبدون } أو أحسنوا ليناسب { وقولوا } ويمكن أن يقدر « وصيناهم » عطفاً على { أخذنا } وهذا أنسب لمكان الباء ، ولا بد من تقدير القول إما قبل { لا تعبدوا } وإما قبل { أحسنوا } وإما قبل { قولوا } وإنما جعل الإحسان إلى الوالدين تالياً لعبادة الله لوجوه منها : أنهما سبب وجود الولد كما أنهما سبب التربية ، وغير الوالدين قد يكون سبب التربية فقط فلا إنعام بعد إنعام الله تعالى أعظم من إنعام الوالدين .
ومنها أن إنعامهما يشبه إنعام الله تعالى من حيث إنهما لا يطلبان بذلك ثناء ولا ثواباً { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الإنسان : 9 ] . ومنها أنه تعالى لا يمل من إنعامه على العبد وإن أتى بأعظم الجرائم ، فكذا الوالدان لا يقطعان عنه مواد كرمهما وإن كان غير بارٍ بهما ، ومنها أن الوالد المشفق يتصرف في مال ولده بالاسترباح والغبطة ، والله سبحانه يأخذ الحبة فيربيها مثل جبل أحد . ومنها أن المناسبة والميل والحبة بين الوالد وولده ذاتية حتى عمت جميع الحيوان ، كما أن المناسبة بين الواجب والممكن ذاتية لا عرضية ، وههنا أسرار فليتأمل . ومنها أنه لا كمال يمكن للولد إلا ويطلبه الوالد لأجله ويريده عليه ، كما أن الله تعالى لا خير يمكن للعبد إلا وهو يريده عليه ، ولهذا أرسل الرسل وأنزل الكتب ونصب الأدلة وأزاح العلة ، ومن غاية شفقة الوالدين أنهما لا يحسدان ولدهما إذا كان خيراً منهما بل يتمنيان ذلك بخلاف غيرهما فإنه لا يرضى أن يكون غيره خيراً منه . وتعظيم الوالدين أمر معتبر في جميع الشرائع ومركوز في كل العقول ، وقد ورد « أطع الوالدين وإن كانا كافرين » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركاً ، ولهذا أطلق الإحسان إليهما في الآية إطلاقاً . وقد تلطف إبراهيم عليه السلام في دعوة أبيه من الكفر إلى الإيمان في قوله { يا أبت ، يا أبت } والإحسان إليهما أن يحبهما من صميم القلب ويراعي دقائق الأدب والخدمة والشفقة ويبذل وسعه في رضاهما قولاً وفعلاً ، ولا يمنع أعز أوقاته وكرائم أمواله عنهما ، ويجتهد في تنفيذ وصاياهما ويذكرهما في صالح دعائه كما أرشد الله تعالى إلى جميع ما ذكرنا في قوله { فلا تقل لهما أف } [ الإسراء : 23 ] إلى آخر الآية .
التكليف الثالث : الإحسان إلى ذوي القرابة ويعبر عنه بصلة الرحم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « الرحم شجنة من الرحمن قال الله : من وصلك وصلته ومن قطعك قعطعته » والشجنة الاشتباك أي الرحم مشتقة من الرحمن يعني أنها قرابة من الله مشتبكة كاشتباك العروق والسبب العقلي في تأكيد رعاية هذا الحق أن القرابة مظنة الاتحاد والألفة والرعاية والنصرة ، ولهذا صار كالتابع لحق الوالدين لأن الإنسان إنما يتصل به أقرباؤه بواسطة اتصالهم بالوالدين قال الشافعي : لو أصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث وغير الوارث ، والمحرم وغير المحرم ، والمسلم والكافر ، والذكر والأنثى ، والغني والفقير ، والأجداد والأحفاد ، لا الأبوان والولد على الأظهر ، لأن الوالد والولد لا يعرفان في العرف بالقريب .
وههنا دقيقة وهي أن العرب يحفظون الأجداد العالية ليرتفع نسبهم ، ونحن لو ترقينا إلى الجد العالي وحسبنا أولاده كثروا ، فلهذا قال الشافعي : نرتقي إلى أقرب جد ينسب هو إليه ويعرف به . وذكروا في مثاله أنه لو أوصى لأقارب الشافعي فإنا نصرفه إلى أولاد شافع فإنه منسوب إليه ، ولا يدخل فيها أولاد علي والعباس وإن كان شافع وعلي والعباس كلهم أولاد السائب بن عبيد ، والشافعي هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف . قال المحققون : هذا في زمان الشافعي ، وأما في زماننا فلا نصرفه إلا إلى أولاد الشافعي ولا نرتقي إلى بني شافع لأنه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا ، ولا يدخل الأقارب من الأم في وصية العرب لأن قرابة الأم لا تعدها العرب قرابة ولا تفتخر بها أما لو أوصى لذي رحم زيد فيدخل فيه قرابة الأم في وصية العرب والعجم ، لأن لفظ الرحم لا يختص بطرف الأب بحال . وذهبت طائفة إلى أن الأقوى على ما أجاب به العراقيون ومال إليه أبو حنيفة ، هو أن أقارب الأم تدخل في الوصية سواء كانت في وصية العرب أو وصية العجم ، وتوجيه الفارق ممنوع لقوله صلى الله عليه وسلم « سعد خالي فليرني امرؤ خاله » . والإحسان إلى الأقارب قريب من الإحسان إلى الوالدين ، وذلك بأن يجتهد في رضاهم بما تيسر له عرفاً وشرعاً ، وينفق عليهم بالمعروف إن كانوا معسرين وهو موسر .
التكليف الرابع : الإحسان إلى اليتامى واليتيم من الأطفال الذي مات أبوه إلى أن يبلغ الحلم ، فيجب على وليه حفظ ماله واستنماؤه قدر النفقة والزكاة ومؤن الملك بما أمكنه والقيام بمصالحه مع رعاية دقائق الغبطة وقضاء حقوق النصيحة . قال ابن عباس : يرفق بهم ويدنيهم ويمسح رأسهم . واليتم في غير الإنسان من قبل أمه ، واليتيم من الدر ما لا أخت له وإنما يجمع « يتيم » على « يتامى » لأن اليتم لما كان من صفات الابتلاء حمل على الوجع والحبط . فكما قالوا في وجع وحبط للمنتفخ البطن ، وجاعي وحباطي ، قيل في يتيم يتامى . وفي الكشاف : إنه أجرى يتيم مجرى الأسماء نحو « صاحب » و « فارس » فقيل « يتائم » ثم « يتامى » على القلب وكذا في اليتيمة .
التكليف الخامس : الإحسان إلى المساكين واحدها مسكين أخذ من السكون ، كأن الفقر سكنه ، أو لأنه الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالسكير الدائم السكر وهو أسوأ حالاً من الفقير عند أكثر أهل اللغة وهو قول أبي حنيفة ومالك ، واحتجوا عليه بقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة }
[ البلد : 16 ] وعند الشافعي وأحمد : الأمر بالعكس قالوا : اشتقاق الفقير من فقار الظهر ، كأن فقاره انكسرت لشدة حاجته ، والمسكين قد يملك ما يتعلل به كما في قوله تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] ويظهر أثر الخلاف فيما لو أوصى للفقراء دون المساكين أو بالعكس . والإحسان إلى ذوي القربى واليتامى والمساكين ينبغي أن يكون مغايراً للزكاة لأن العطف يقتضي التغاير .
التكليف السادس : { وقولوا للناس حسناً } بالوصف أي قولاً حسناً . وحسناً على المصدر أي قولاً ذا حسن ، أو قولاً هو الحسن في نفسه لإفراط حسنه ، أو ليحسن قولكم حسناً . والظاهر أن المخاطبين بذلك هم الذين أخذ ميثاقهم لاتحاد القصة . قيل : إنه مخصوص إما بتخصيص الناس أي قولوا للمؤمنين حسناً بدليل آية القتال { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] وإما بتخصيص القول أي قولوا للناس حسناً في الدعاء إلى الله والأمر بالمعروف . وقال أهل الحقيقة : إنه على العموم وذلك أن كلام الناس مع الناس في الأمور الدينية إن كان بالدعوة إلى الإيمان وجب أن يكون بالرفق واللين كما قال لموسى { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم { ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك } [ آل عمران : 159 ] وإن كان بالدعوة إلى الطاعة كالفساق فحسن القول أيضاً معتبر { أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] { ادفع بالتي هي أحسن } [ فصلت : 34 ] وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض باللطيف من القول لم يعدل إلى غيره ، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه ، وما دخل الخرق في شيء إلا شانه ، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخل تحت هذا القول . وعن الباقر : قولوا للناس ما تحبون أن يقال لكم .
التكليف السابع والثامن : قوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } وقد تقدم تفسيرهما . ولا شك في وجوب هذه التكاليف عليهم بدليل : أخذ الميثاق ، ولأن ظاهر الأمر للوجوب ولترتب الذم عليه بتوليهم ، وهذه التكاليف أيضاً واجبة في شرعنا . وعن ابن عباس : أن الزكاة نسخت كل حق . وضعف بأن إغاثة المضطر واجبة وإن لم تجب علينا الزكاة . واعلم أن التكليف إما بدني أو مالي وكل منهما إما عام أو خاص . فالبدني العام هو العبادة المطلقة ، وهي أن يكون بكل الجوارح والقوى منقاداً مطيعاً مؤتمراً لأمر الله تعالى ، بحيث لا يرى لنفسه شيئاً من التصرف والاختيار كالعبد الماثل بين يدي مولاه وإليه الإشارة بقوله تعالى { لا تعبدون إلا الله } . والبدني الخاص هو الصلاة وأشار إليه بقوله { وأقيموا الصلاة } فللصلاة أوقات مخصوصة وأركان وشروط معدودة . والمالي الخاص هو الزكاة لتخصصها بالأصناف الزكوية وبالنصاب وبالحول وغير ذلك . والمالي العام لكونه منوطاً بالقدرة . والإمكان سببه إما نسب أولاً ، والنسب إما سابق أو مقارن أو لاحق . فالسابق الوالدان ، والمقارن الأقارب ، واللاحق اليتامى ، لأنهم أولاد .
وذلك إذا كان الولي جداً أو بمنزلة الأولاد ، وذلك إذا كان الولي غيره . وغير النسب إما الاحتياج والفقر وهو المساكين ، أو الاشتراك في النوع ، ولا يمكن إلا بالقول الحسن ، وما ينخرط في سلكه من مكارم الأخلاق الفعلية « إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم » فالقول الحسن يشمل الأصناف المتقدمة أيضاً بهذا الاعتبار ، وحين هذا الترتيب مما لا مزيد عليه ، وقد كرر أكثر هذه المعاني في سورة النساء بضرب من التأكيد ، فأكد العبادة بقوله { ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] وأكد الإحسان إلى ذي القربى . وما يتلوه بتكرير الجار وهو الباء وبضم أصناف أخر وهم الجار وغيره إليهم فكأنه كالتفصيل لقوله { وقولوا للناس حسناً } .
قوله تعالى { ثم توليتم } قيل الخطاب لمتقدمي بني إسرائيل على طريقة الالتفات ، ووجهه أن أول الكلام معهم فكذا آخره إلا بدليل يوجب الانصراف عن هذا الظاهر ، وقيل : إنه خطاب لمن كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود ، كأنه تعالى بين أن تلك المواثيق كما لزمهم التمسك بها فكذلك هي لازمة لكم لأنكم تعلمون ما في التوراة من نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ، فيلزمكم من الحجة مثل الذي لزمهم وأنتم مع ذلك قد توليتم إلا قليلاً منكم وهم الذين آمنوا وأنتم معرضون . الواو للاعتراض أي وأنتم قوم من عادتكم الإعراض ، أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أسلافكم . وقيل : ثم توليتم للمتقدمين وأنتم معرضون للمتأخرين . وأما قوله تعالى { وإذ أخذنا ميثاقكم } فقيل : خطاب لعلماء اليهود في عصر النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أخذنا ميثاق آبائكم . وقيل : خطاب للأسلاف وتقريع للأخلاف . وفي قوله { لا تسفكون دماءكم } إشكال ، وهو أن الإنسان ملجأ إلى أن لا يقتل نفسه فأي فائدة في النهي؟ والجواب أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت من أهل الهند أنهم يقدرون في قتل النفس التخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور ، وككثير ممن يصعب عليه الزمان ، أو المراد لا يفعل ذلك بعضكم ببعض جعل غير الرجل نفسه إذا اتصل به أصلاً أو ديناً ، أو أنه إذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه ، أو لا تتعرضوا لمقاتلة من يغلبكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم . { ولا تخرجون أنفسكم } لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم . والمراد إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم لأن ذلك مما تعظم فيه الفتنة حتى يقرب من الهلاك . وإعراب { لا تسفكون } و { لا تخرجون } على قياس ما تقرر في { لا تعبدون } { ثم أقررتم وأنتم تشهدون } أي ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه ، وأنتم تشهدون عليها كقولك « فلان مقر على نفسه بكذا شاهد عليها » أو اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك ، لأنه كان شائعاً فيما بينهم مشهوراً ، وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق .
{ ثم أنتم } معنى « ثم » الاستبعاد لما أسند إليهم من القتل ، والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم . « وأنتم » مبتدأ و « هؤلاء » خبره أي أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين تنزيلاً لتغير الصفة منزلة تغير الذات كما تقول : خرجت بغير الوجه الذي دخلت به ، و « تقتلون » بيان « لأنتم هؤلاء » وقيل « هؤلاء » موصول بمعنى الذين وهذا عند الكوفيين فإنهم يجوزون كون جميع أسماء الإشارة بمعنى الموصول . والتظاهر التعاون ، ولما كان الإخراج من الديار وقتل البعض بعضاً مما تعظم به الفتنة واحتيج فيه إلى اقتدار وغلبة ، بيّن تعالى أنهم فعلوه على وجه الاستعانة بمن يظاهرهم على الظلم والعدوان ، وفيه دليل على أن الظلم كما هو محرم فكذا إعانة الظالم على ظلمه محرمة . ولا يشكل هذا بتمكين الله تعالى الظالم من الظلم فإنه كما مكنه فقد زجره عنه ونهاه بخلاف معين الظالم فإنه يدعوه إلى الظلم ويحسنه في عينه مع أنه تعالى لا يسأل عما يفعل . أسرى جمع أسير كجرحى في جريح ، وأسارى جمع أسرى كسكرى وسكارى . وقيل : أسارى من الجموع التي ترك مفردها كأنه جمع « إسران » كعجالى وعجلان . وقوله { تفادوهم } جمهور المفسرين على أنه وصف لهم بما هو طاعة وهو التخليص من الأسر ببذل مال أو غيره ليعودوا إلى كفرهم و { هو } ضمير الشأن و { إخراجهم } مبتدأ و { محرم } خبره والجملة خبر الضمير . ويجوز أن يكون { هو } مبتدأ مبهماً و { محرم } خبره و { إخراجهم } تفسيره ، { أفتؤمنون ببعض الكتاب } أي بالفداء { وتكفرون ببعض } أي بالقتال والإجلاء . وذلك أن قريظة كانوا حلفاء الأوس والنضير كانوا حلفاء الخزرج ، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب فقالت :
كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم؟
فيقولون : أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن يذل حلفاؤنا فذمهم الله تعالى على المناقضة إذا أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض ، ولعلهم صرحوا باعتقاد عدم وجوبه فلهذا سماه كفراً ، وقد تكون المناقضة أدخل في الذم وفي ذلك تنبيه على أنهم في تصديقهم بنبوة موسى مع التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم والحجة في أمرهما على سواء ، يجرون مجرى طريقة السلف منهم في الإيمان ببعض والكفر ببعض وكل في الميثاق سواء . الخزي الذل والهوان خزي بالكسر يخزي خزياً أي ذل وهان ، وخزي أيضاً يخزى خزاية أي استحيا فهو خزيان . فإذا قيل : أخزاه الله . فالمراد أهانه أو أوقعه موقعاً يستحيي منه وتنكير « خزي » يدل على فظاعة شأنه وأنه بلغ مبلغاً لا يكتنه كنهه ، والأظهر أنه غير مختص ببعض الوجوه .
وقيل : هو قتل بني قريظة وأسرهم وإجلاء بني النضير ، وقيل : الجزية ، وعلى هذين القولين يختص الخزي بمن في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وبمن يخلفهم دون أسلافهم ، فإن قيل : عذاب منكري الصانع كالدهرية يجب أن يكون أشد ، فكيف يقال في حق اليهود يردون إلى أشد العذاب؟ قلنا : إما لأن كفر العناد أغلظ ، وإما لأن المراد أشد من الخزي لا الأشد مطلقاً . وفي قوله : { وما الله بغافل } وعيد شديد للعاصين وبشارة عظيمة للمطيعين ، لأن القدرة الكاملة مع عدم الغفلة تدل على وصول الحقوق إلى مستحقها لا محالة . { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } استبدلوها بها { فلا يخفف عنهم العذاب } لا ينقطع ولا يفتر بل يدوم على حالة واحدة { ولا هم ينصرون } بدفع هذا العذاب عنهم . وفيه تنبيه على أن الجمع بين تحصيل لذات الدنيا إذا كانت على وفق الهوى لا الشرع ، وبين لذات الآخرة ممتنع يستتبع وجود إحداهما عدم الأخرى والله ولي التوفيق .
التأويل : { وإذ أخذنا ميثاقكم } في عهد { ألست بربكم } { لا تسفكون دماءكم } بامتثال أوامر الشيطان واتباع خطواته كما قيل :
إلى حتفي مشى قدمي ... أرى قدمي أراق دمي
{ ولا تخرجون أنفسكم } من ديار عبوديتكم التي كنتم فيها في أصل الفطرة { وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم } لا تقتصرون على ضلالكم بل يعاون بعضكم بعضاً على الإعراض عن حقوق الله والإقبال على حظوظ النفس { وإن يأتوكم أسارى تفادوهم } فمن أسر في قيد الهوى فإنقاذه بالدلالة على الهدى ، ومن أسر في قيد حب الدنيا فخلاصه في كثرة ذكر المولى ، ومن أسر في أيدي الشكوك والشبهات ففداؤه إرشاده إلى اليقين بلوائح البراهين ولوامع البينات ، ومن أسر في حبس وجود فنجاته فيما يحل عنه وثاق الكون ويوصله إلى معبوده ، ومن أسر في قبضة الحق فليس لأسراهم فداء ولا لقتلاهم قود ولا لرهطهم خلاص ولا لقومهم مناص ولا منهم فرار ولا معهم قرار ولا إليهم بغيره سبيل ولا لديهم دليل { أفتؤمنون ببعض الكتاب } وهو ما سمعتم في أول الخطاب { ألست بربكم } فقلتم بلى { وتكفرون ببعض } وهو الذي عاهدتم عليه ألا تعبدوا غير الله من الشيطان والنفس والهوى الله حسبي .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
القراآت : { القدس } بسكون الدال حيث كان : ابن كثير . { بئسما } وبابه بغير همز : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف . { ينزل } خفيفاً : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب .
الوقوف : { القدس } ( ط ) { استكبرتم } ( ج ) لتناهي الاستفهام مع تعقب فاء التعقيب بعده { كذبتم } ( ز ) لعطف المستقبل على الماضي مع تقدم المفعولين فيهما { تقتلون } ( 5 ) { غلف } ( ط ) ( ز ) لأن « بل » إعراض عن الأول وتحقيق للثاني { يؤمنون } ( 5 ) { لما معهم } ( ط ) « لأن » الواو للحال { كفروا } ( ج ) لأن « لما » متضمنة للشرط وجوابها منتظر والوصل أجوز لأن « لما » مكرر وجوابهما متحد ، وقوله : { وكانوا من قبل } حال معترض { كفروا به } ( ج ) لأن ما بعده مبتدأ لكن الفاء تقتضي تعجيل ذكر جوابهم { الكافرين } ( 5 ) { من عباده } ( ج ) لطول الكلام مع فاء التعقيب { على غضب } ( ط ) { مهين } ( 5 ) { لما معهم } ( ط ) { مؤمنين } ( ط ) .
التفسير : لما ذكر سبحانه في آلاي المتقدمة صنيع اليهود في مخالفتهم أمره تعالى ومناقضة حالهم ، أكد ذلك في هذه الآي بذكر نعم أفاضها عليهم ثم إنهم قابلوها بالكفران ونقيض المقصود زيادة في تبكيتهم . أما الكتاب فهو التوراة آتاه الله تعالى إياه جملة واحدة . عن ابن عباس أنها لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث الله لكل آية منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فبعث الله لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها ، فخففها الله على موسى عليه السلام فحملها . القفو والتقفية الإتباع وهو من القفا كالتذنيب من الذنب أي أتبعنا على أثره رسلاً كثيرين وهم يوشع وأشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيا وأرميا وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم . روي أن هؤلاء الرسل كانوا على شريعة واحدة إلى أيام عيسى عليه السلام فإنه جاء بشريعة مجددة ناسخة لأكثر شرع موسى ، وكان المقصود من بعثة ثؤلاء تنفيذ الشريعة السالفة وإحياء بعض ما اندرس منها ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » « إن الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها دينها » فقيل عيسى بالسريانية أيشوع أي المبارك ، ومريم بمعنى الخادم . وقيل مريم بالعبرية من النساء كالزير من الرجال وهو الذي يحب محادثة النساء ومجالستهن ، سمي بذلك لكثرة زيارته لهن وبه فسر قول رؤبة :
قلت لزير لم تصله مريمه ... ووزن « مريم » عند أهل الصرف « مفعل » لأن فعيلاً بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو « عثير » للغبار « وعليب » اسم واد . البينات المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغير ذلك ، أيدناه قويناه من الأيد القوة ، وبروح القدس الروح المقدس كما يقال حاتم الجود ورجل صدق أي بجبريل سمي بذلك لأنه سبب حياة الدين كما أن الروح سبب حياة البدن ، ولأنه الغالب عليه الروحانية ، ولأنه لم تضمه أصلاب الفحول ولا أرحام الأمهات ، وقيل بالإنجيل كما قال
{ وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] لأن العلم سبب حياة القلوب ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره ، عن ابن عباس وسعيد بن جبير . وقيل : الروح الذي نفخ فيه ، والقدس والقدوس هو الله ، وإضافة الروح إليه تشريف وتعظيم كما يقال « بيت الله » و « ناقة الله » . عن الربيع : وكون الروح ههنا جبريل أظهر لأن اختصاصه بعيسى أكثر لأنه الذي بشر مريم بولادتها وقد تولد عليه السلام من نفخة جبريل في أمه وهو الذي رباه في جميع الأحوال وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء .
قوله تعالى : { أفكلما } وسطت الهمزة بين الفاء وما تعلقت به من قوله : { ولقد آتينا } لإفادة التوبيخ والتعجيب من شأنهم ، ويجوز أن تكون الفاء للعطف على مقدر معناه أأعرضتم فكلما { جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } الباء للتعدية أو بمعنى « مع » ، وذلك أنهم كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ترفعاً وترؤساً على عامتهم . وأخذ أموالهم بغير حق يوهمون عوامهم أنهم على الحق والنبي صلى الله عليه وسلم على الباطل ، ويحتجون على ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، ومنهم من كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه السلام { ففريقاً كذبتم } على التمام وما بقي منه غير مكذب { وفريقاً تقتلون } أي ما تيسر لكم قتله بعد على التمام لأنكم تحومون حول قتل محمد صلى الله عليه وسلم لولا أني أعصمه منكم ولذلك سحرتموه وسممتم له الشاة . قال صلى الله عليه وسلم عند وفاته : « ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان قطعت أبهري » . والعداد اهتياج وجع اللديغ بعد كل سنة ، والأبهر عرق يخرج من القلب إذا انقطع مات صاحبه . ويجوز أن يراد الحال الماضية لأن الأمر فظيع فأريد استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب كقوله :
فأضربها بلا دهش فخرت ... وفائدة تقديم المفعول به على الفعلين بعد رعاية الفاصلة في { يقتلون } بيان غاية عنادهم وفرط عتوهم حيث جعلوا الرسل فريقين : أحدهما مخصص بالتكذيب والآخر بالقتل ، كأن وصف الرسالة عندهم هو الذي اقتضى عندهم أحد هذين حتى خص المنعوت به دون سائر الناس بأحد الأمرين ، وهذا نهاية الجهالة حيث استقبلوا أشرف الأصناف لأكرم الأوصاف بغاية الاستخفاف . غلف جمع أغلف وهو كل ما فيه غلاف ومنه الأغلف للذي لم يختن ، أي قلوبنا مغشاة بأغطية فلا تتأثر من دعوتك لمكان الحائل بينهما .
وقيل : غلف تخفيف غلف بضمتين جمع غلاف أي قلوبنا أوعية للعلم والحكمة فنحن مستغنون بما عندنا عن غيره لا حاجة بنا إلى شرعك . { بل لعنهم الله } رد لقولهم وأن تكون قلوبهم مخلوقة كذلك لأنها خلقت على الفطرة ، والتمكن من قبول الحق ولكنهم لعنوا أي طردوا عن رحمة الله وأبعدوا عن الخيرات بسبب كفرهم الذي أحدثوه بعد نصب الأدلة وإزاحة العلة . وفي هذا لطف للمكلفين أن لا يتسلقوا إلى المعاصي بإبلاء نحو هذا العذر وإبداء مثل هذه الحجة ، ولكن يشمرون عن ساق الاجتهاد « فكل ميسر لما خلق » له { فقليلاً ما يؤمنون } أي إيماناً قليلاً يؤمنون . و « ما » مزيدة وهو إيمانهم ببعض الكتاب أو بقليل مما كلفوا به . يؤمنون ، فانتصب بنزع الخافض . و « ما » صفة أي بشيء قليل من الأشياء المكلف بها . ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم أي لا يؤمنون أصلاً لا قليلاً ولا كثيراً كما يقال : قليلاً ما تفعل . أي لا تفعل ألبتة . وذلك أن الإيمان بالله إنما يعبأ به إذا كان مؤمناً بجميع ما أنزل الله ، فإذا فرق بين أوامره فهو عن الإيمان بمعزل . { ولما جاءهم } جوابه محذوف وهو نحو : كذبوا به واستهانوا بمجيئه . ويجوز أن يكون جوابه هو جواب « لما » الثانية المكررة للتأكيد لطول الكلام نحو قوله { فلا تحسبنهم بمفازة } [ آل عمران : 188 ] بعد قوله { لا تحسبن } [ آل عمران : 188 ] . واتفقوا على أن المراد بالكتاب هو القرآن ، ووجه تصديقه لما معهم ليس هو الموافقة في أصول الشرائع ، لأن جميع كتب الله كذلك ، بل المراد ما يختص بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم من العلامات والنعوت والصفات . والتحقيق أن ذكر الكتاب ههنا كناية عن الرسول لأن الرسول يلزمه الكتاب عرفاً أو مجازاً لأن الكتاب مستلزم للرسول لا محالة يدل على ذلك قوله { يستخفون على الذين كفروا } [ البقرة : 89 ] وذلك أن اليهود قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كانوا يسألون به الفتح والنصرة على المشركين إذا قاتلوهم يقولون : اللهم انصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة . وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم . وقيل : معنى يستفتحون يفتحون عليهم ويعرفونهم أن نبياً يبعث منهم قد قرب أوانه . والسين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم كالسين في « استعجب » و « استخسر » ، أو يسأل بعضهم بعضاً أن يفتح عليه ، { فلما جاءهم ما عرفوا من الحق } وهو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ويجوز أن تكون « ما » بمعنى « من » نحو : سبحان ما سخركن لنا أي فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم { كفروا به } ، إما لأنهم كانوا يظنون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة مجيء الرسل منهم فيرغبون الناس في دينه ويدعونهم إليه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم من العرب من ذرية إسماعيل عليه السلام عظم ذلك عليهم فأظهروا التكذيب بغياً وحسداً وعناداً ولدداً ، وإما لأنهم ظنوا أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب خاصة ، وإما لأن اعترافهم بنبوته كان يوجب عليهم زوال رياساتهم ومكاسبهم فأبوا وأصروا على الإنكار .
فكفرهم إذاً كفر عناد ، { فلعنة الله } وهي الإبعاد عن الخيرات الحقيقية الباقية ) { على الكافرين } أي عليهم ، فوضع الظاهر موضع المضمر ليدل على أن اللعنة إنما لحقتهم لكفرهم ، واللام للعهد أو للجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً . فإن قيل : أليس أنه تعالى ذكر { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] قلنا : العام قد يخص ، وأيضاً لعن من يستحق اللعن حسن ، وأيضاً أولئك بالنسناس أشبه منهم بالناس { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] « بئس » لإنشاء الذم ، وفاعله قد يكون مظهراً نحو « بئس الرجل زيد » ، وقد يكون مضمراً يعود إلى معهود ذهني فيفسر حينئذ بنكرة منصوبة وبعدهما المخصوص بالذم ف « ما » نكرة منصوبة مفسرة : لفاعل « بئس » أي بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم ، والمخصوص بالذم { أن يكفروا } واختلف في إعراب المخصوص فقيل : مبتدأ والجملة قبله خبره . وقيل خبر مبتدأ محذوف أي هو أن يكفروا . واشتروا بمعنى باعوا لأن الكفر حاصل تعلق نفوسهم بأبدانهم كما أ ، الثمن حاصل ملك المالك . وقيل : إن المكلف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى فأتى بأعمال يظن بها أنها تخلصه من العقاب فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال ، وهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخلصهم من العقاب ويوصلهم إلى الثواب ، فقد ظنوا أنهم قد اشتروا أنفسهم بها ، والمراد بما أنزل الله القرآن لأنهم كانوا مؤمنين بغيره . ثم بين الوجه الذي لأجله اختاروا هذا الكفر فقال { بغياً } أي حسداً وطلباً لما ليس لهم ، ولولا هذا البيان لجاز أن يكون الباعث لهم على ذلك الكفر هو الجهل لا البغي ولما كان الباعث على البغي قد يكون وجوهاً شتى بين أن الحامل لهم على البغي هو { أن ينزل الله من فضله } الذي هو الوحي { على من يشاء } وتقتضي حكمته إرساله وهذا هو اللائق بما حكينا من أنهم ظنوا أن هذا الفضل العظيم يحصل في قومهم ، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على البغي والحسد ، وعلى هذا يكون الجار المحذوف هو لام الغرض أي لأجل أن ينزل ، ويحتمل أني قال المحذوف على أي حسدوه على أن ينزل .
{ فباءوا بغضب على غضب } لا بد من إثبات سببي غضبين : أحدهما تكذيبهم عيسى وما أنزل عليه ، والثاني تكذيبهم محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه ، فصار ذلك سبباً بعد سبب لسخط بعد سخط وهو قول الحسن والشعبي وعكرمة وأبي العالية وقتادة .
وقيل : الأول لعبادتهم العجل ، والثاني لكتمانهم نعت محمد صلى الله عليه وسلم وجحدهم نبوته عن السدي . وقيل : ليس المراد إثبات الغضبين فقط ، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور متوالية صدرت عنهم كقولهم { عُزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] { إن الله فقير ونحن أغنياء } [ آل عمران : 181 ] عن عطاء وعبيد بن عمير . وقيل : المراد تأكيد الغضب وتكثير له لأجل أن هذا الكفر وإن كان واحداً إلا أنه عظيم ، وهو قول أبي مسلم . ومعنى الغضب في حقه تعالى قد عرفت مراراً أنه عبارة عن لازمه وهو إرادة الانتقام ، وأما تزايده وتكثره فيصح فيه ذلك كصحته في العذاب ، فلا يكون غضبه على من كفر بخصال كثيرة كمن كفر بخصلة واحدة { وللكافرين عذاب مهين } من وضع الظاهر مقام المضمر أي ولهم عذاب ، وفائدته ما ذكرنا في قوله { فلعنة الله على الكافرين } ووصف العذاب بالمهين والمهين هو المعذب لأن الإهانة لما حصلت مع العذاب جاز أن يجعل ذلك من وصفه لأنها بسبب منه ، ولا يلزم من اقتران العذاب بالإهانة تكرار فقد يكون العذاب ولا إهانة كالوالد يؤدب ولده { آمنوا بما أنزل الله } بكل ما أنزل الله من كتاب وقد يستدل به على عموم « ما » { قالوا نؤمن بما أنزل علينا } أي بالتوراة وكتب سائر الأنبياء الذين آتوا بتقرير شرع موسى عليه السلام { ويكفرون بما وراءه } أي قالوا ذلك والحال أنهم يكفرون بما وراء التوراة وهو الإنجيل والقرآن { وهو الحق } الضمير يعود إلى « ما وراءه » أو إلى القرآن فقط . و { مصدقاً } حال مؤكدة لوجود شرطها وهو كونها مقررة لمضمون جملة اسمية ، أو كون مضمونها لازماً لمضمون الجملة الاسمية ، فإن التصديق لازم حقية القرآن فصار كأنه هو والعامل في { مصدقاً } محذوف وهو يبدو أو يثبت على الأصح . وأما الواو في { وهو الحق } فيجوز أن تكون معترضة فلا محل للجملة ، ويجوز أن تكون للحال وحينئذ إما أن يكون العامل فيها هو العامل في قوله { ويكفرون } على أن كلاً منهما حال بحيالها ، وإما أن يكون العامل فيها هو يكفرون على أنهما حالان متداخلتان . وفي قوله { وهو الحق مصدقاً لما معهم } دلالة على وجوب الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه لما أثبت نبوته بالمعجزات ثم إنه أخبر أن هذا القرآن منزل من عند الله وأنه صلى الله عليه وسلم أمر المكلفين بالإيمان ، كان الإيمان به واجباً لا محالة ، وعند هذا يظهر أن الإيمان ببعض الأنبياء وبعض الكتب مع الكفر ببعضهم وبعضها محال .
وأيضاً أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعلم علماً ولم يقرأ ولم يخط ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أتى بالقصص والأخبار مطابقة لما في التوراة ، فيعلم بالضرورة أنه صلى الله عليه وسلم استفادها من قبل الوحي وأيضاً القرآن يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق التوراة وجب اشتمال التوراة على الأخبار عن نبوته . فمدعي الإيمان بالتوراة يجب أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلا كان كاذباً . ثم إنه تعالى بين من وجه آخر كذب دعواهم ، وهو أن التوراة لا تسوغ قتل الأنبياء وأنهم سوغوا ذلك ، وفيه دليل على أن إيراد المناقضة على الخصم الألد جائز . والكلام وإن كان على وجه الخطاب إلا أن المراد بذلك أسلافهم بدليل { من قبل } وتقتلون حكاية حال ماضية . وأصل « لم » لما بإدخال لام التعليل في « ما » الاستفهامية ، حذفت الألف للتخفيف أي لأي غرض وبأي حجة كان أسلافكم يقتلون الأنبياء . وفي قوله { إن كنتم مؤمنين } تشكيك في إيمانهم وقدح في صحة دعواهم الإيمان ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما تقدمه . وفيه تنبيه على أن اليهود المعاصرين خرجوا بتكذيب محمد صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالتوراة كما أن أسلافهم خرجوا بقتل بعض الأنبياء عن الإيمان بها والله تعالى أعلم .
التأويل : هذا حال أكثر البطالين المتشبهين بالطالبين يصغون إلى كلمات العلماء الراسخين ، فما استحلته نفوسهم قبلوه ، وما استغربته نبذوه وأنكروه ، فيكذبون فريقاً منهم فراراً عن تحمل أعباء الطلب ويثيرون الفتنة على فريق بالحسد والإنكار والفتنة أشد من القتل { وقالوا قلوبنا غلف } فيه إشارة إلى أن الطالب إذا ابتلى في أثناء الطلب بالرهقة أو الفترة لم يضره ذلك ما دام متمسكاً بالإرادة ، فيرجى رجوعه بإذن الله وبمدد همة الأستاذ والشيخ ، فأما إذا زلت قدمه عن جادة الإرادة وأظهر الإنكار والاعتراض فلن يرجى فلاحه . { ولما جاءهم كتاب } فيه إشارة إلى أن أهل كل زمان يتمنون أن يدركوا أحداً من العلماء والأولياء المحظوظين بالعلوم الكسبية واللدنية ويتوسلون بهم إلى الله تعالى عند رفع حوائجهم في صالح دعائهم ويظهرون محبتهم عند الخلق { فلما وجدوا } واحداً منهم { ما عرفوا } قدره وحسدوه وأظهروا عداوته وما أنصفوه { فباءوا بغضب } من رد ولاية الأولياء { على غضب } من الله لأوليائه كما جاء في الحديث « من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » و « إنما أنا أغضب لأوليائي كما يغضب الليث لجروه » والله أعلم بالصواب .
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
القراآت : { ولقد جاءكم } مدغمة الدال في الجيم كل القرآن : أبو عمرو وحمزة وعلي خلف وهشام { جاءكم } وبابه بالإمالة : حمزة وخلف وابن ذكوان { قلوبهم العجل } بكسر الهاء والميم : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ حمزة وعلي وخلف بضم الهاء والميم ، الباقون بكسر الهاء وضم الميم وكذلك كل ما لقي الميم حرف ساكن وقبل الهاء كسرة { بما تعملون } بتاء الخطاب : يعقوب .
والوقوف : { ظالمون } ( 5 ) { الطور } ( ط ) لتقدير القول { واسمعوا } ( ط ) { بكفرهم } ( ط ) { مؤمنين } ( 5 ) { صادقين } ( 5 ) { أيديهم } ( ط ) { بالظالمين } ( 5 ) { على حياة } ( ج ) على تقدير : ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم ، ومن وقف على { أشركوا } فتقديره أحرص الناس على حياة وأحرص من الذين أشركوا و { يود } مستأنف للبيان وإنما لم يدخل من في الناس وأدخل في الذين أشركوا لأن اليهود من الناس وليسوا من المشركين كقولك « الياقوت أفضل الحجارة وأفضل من الديباج » { سنة } ( ط ) لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً { أن يعمر } ( ط ) { يعملون } ( 5 ) .
التفسير : السبب في تكرير قصة اتخاذ العجل ههنا القدح بوجه آخر في قولهم { نؤمن بما أنزل علينا } [ البقرة : 91 ] وبيان وصفهم بالعناد والتكذيب تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً له ، فإن قوم موسى عليه السلام بعد ظهور المعجزات الواضحات على يده اتخذوا العجل إلهاً ومع ذلك صبر وثبت على الدعاء إلى ربه والتمسك بدينه وشرعه . وكرر ذكر رفع الطور للتأكيد ، ولما نيط به من زيادة قولهم { سمعنا وعصينا } الدال على نهاية لجاجهم وذلك أنه قال لهم : اسمعوا سماع تقبل وطاعة . فقالوا : سمعنا ولكن لا سماع طاعة ، وظاهر الآية يدل على أنهم قالوا هذا القول أعني سمعنا وعصينا وعليه الأكثرون . وعن أبي مسلم أنه يجوز أن يكون المعنى سمعوه وتلقوه بالعصيان ، فعبر عن ذلك بالقول مثل { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي تداخلهم حبه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ . وقوله تعالى { في قلوبهم } بيان لمكان الإشراب كقوله { إنما يأكلون في بطونهم ناراً } [ النساء : 10 ] وفي هذه الاستعارة لطيفة وهي أنه كما أن الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض فكذا تلك المحبة كانت مادة للقبائح الصادرة عنهم . وفي قوله { واشربوا } دلالة على أن فاعلاً غيرهم فعل ذلك بهم كالسامري وإبليس وشياطين الجن والإنس ، وذلك بسبب كفرهم واعتقادهم التشبيه على الله تعالى ولا ريب أن جميع الأسباب تنتهي إلى الله تعالى وقد عرفت التحقيق في أمثال ذلك مراراً . { بئسما يأمركم } المخصوص بالذم محذوف أي بئس شيئاً يأمركم به إيمانكم بالتوراة عبادة العجل ، فليس في التوراة عبادة العجاجيل . وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم كما قال قوم شعيب { أصلاتك تأمرك } [ هود : 87 ] وكذلك إضافة الإيمان إليهم .
واعلم أن الإيمان عرض ولا يصح منه الأمر والنهي ، لكن الداعي إلى الفعل والسبب فيه قد يشبه بالأمر كقوله { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] { قل إن كانت لكم الدار الآخرة } الدار اسم « كان » وفي الخبر ثلاثة أوجه : الأول : { خالصة } و { عند } ظرف لخالصة أو للاستقرار الذي في { لكم } ويجوز أن يكون { عند } حالاً من الدار والعامل فيها « كان » أو الاستقرار . وأما { لكم } فيكون على هذا متعلقاً ب « كان » لأنها تعمل في حروف الجر ، ويجوز أن يكون للتبيين فيكون موضعها بعد { خالصة } أي خالصة لكم فيتعلق بنفس خالصة ، ويجوز أن يكون صفة لخالصة قدمت عليها فيتعلق حينئذ بمحذوف . الثاني : أن يكون خبر كان { لكم } و { عند الله } ظرف و { خالصة } حال والعامل « كان » أو الاستقرار . الثالث : أن يكون { عند الله } هو الخبر و { خالصة } حال والعامل فيها إما عند ، و ما يتعلق به أو « كان » أو « لكم » وسوغ أن يكون { عند } خبر { كانت لكم } إذ كان فيه تخصيص وتبيين نحو { ولم يكن له كفواً أحد } [ الإخلاص : 4 ] وقوله { من دون الناس } نصب ب { خالصة } لأنك تقول : خلص كذا من كذا . والمراد بالدار الآخرة الجنة لأنها هي المطلوبة من الدار الآخرة دون النار . والمراد بقوله { عند الله } الرتبة والمنزلة ، وحمله على عندية المكان ممكن ههنا إذ لعلهم كانوا مشبهة . ومعنى خالصة لكم أي سالمة خاصة بكم لا حق لأحد فيها سواكم . « ودون » ههنا يفيد التجاوز والتخطي في المكان كما تقول لمن وهبته منك ملكاً : هذا لك من دون الناس . أي لا يتجاوز منك إلى غيرك . والناس للجنس وقيل للعهد وهم المسلمون والجنس أولى لقوله { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] ولأنه لم يوجد ههنا معهود . فإن قلت : من أين ثبت أنهم ادعوا ذلك؟ قلنا : لأنه لا يجوز أن يقال في معرض الاستدلال على الخصم إن كان كذا وكذا فافعل كذا إلا والأول مذهبه ليصح إلزامه بالثاني ، ولقوه تعالى { وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ولما اعتقدوا في أنفسهم أنهم هم المحقون ، لأن النسخ غير جائز عندهم ، ولزعمهم أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ويوصلونهم إلى ثواب الله فلهذه الأسباب عظموا شأن أنفسهم وكانوا يفتخرون على العرب ، وربما جعلوه كالحجة في أن النبي صلى الله عليه وسلم المنتظر المبشر به في التوراة منهم لا من العرب ، وكانوا يصرفون الناس بسبب هذه الشبهة عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، فبين الله تعالى فساد معتقدهم بالآية . وبيان الملازمة أن متاع الدنيا قليل في جنب نعم الآخرة ، وذلك القليل كان أيضاً منغصاً عليهم بعد ظهور محمد صلى الله عليه وسلم ومنازعته معهم بالجدال والقتال .
فالموت خير لهم لا محالة لأنه يوصل إلى الخيرات الكثيرة الدائمة الصافية عن النغص ، ولا يفوت إلا القليل النكد . والوسيلة وإن كانت مكروهة نظراً إلى ذاتها لكنه لا يتركها العاقل نظراً إلى غايتها كالفصد ونحوه . والنهي عن تمني الموت في قوله صلى الله عليه وسلم « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به وإن كان ولا بد فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً إليّ وأمتني ما كانت الوفاة خيراً لي » محمول على تمن سببه عدم الصبر على الضر ونكد العيش كما قال قائل :
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا رحم المهيمن روح عبد ... تصدق بالوفاة على أخيه
فإن ذلك نوع من عدم الرضا بالقضاء ويدل على الجزع وضيق العطن وينافي قضية التوكل والتسليم ، أو على تمن سببه الجزم بالوصول إلى نعيم الآخرة فإن ذلك خارج عن قانون الأدب ، ونوع من الأخبار بالغيب لا يليق إلا ببعض أولياء الله . روي أن علياً عليه السلام كان يطوف بين الصفين في غلالة وهي شعار يلبس تحت الثوب وتحت الدرع أيضاً . فقال له ابنه الحسن : ما هذا بزي المحاربين . فقال : يا بني ، لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت . وعن حذيفة أنه رضي الله عنه كان يتمنى الموت ، فلما احتضر قال رضي الله عنه : حبيب جاء على فاقة لا يفلح من ندم . يعني على التمني . وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة ، محمداً وحزبه . وكان كل واحد من العشرة المبشرة بالجنة يحب الموت ويحن إليه لجزمهم بلقاء الله و نيل ثوابه وذلك لمكان البشارة ، فأما أحدنا فلا يليق به تمني الموت إلا على سبيل الرجاء وحسن الظن بالله « أنا عند ظن عبدي بي » وعن النبي صلى الله عليه وسلم « لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه وما بقي على الأرض يهودي » وليس لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صلى الله عليه وسلم فيقولوا : إنك تدعي أن الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر ، فارض بأن نقتلك ونقتل أمتك فإنا نراك وأمتك في الضر الشديد والبلاء العظيم ، وبعد الموت تتخلصون إلى دار الكرامة والنعيم ، لأنه صلى الله عليه وسلم بعث لتبليغ الشرائع وتنفيذ الأحكام ولا يتم المقصود إلا بحياته وحياة أمته ، فله صلى الله عليه وسلم أن يقول لأجل هذا لا أرضى بالقتل مع أن المؤمن من هذه الأمة قلما يخلو من النزاع والشوق إلى لقاء ربه ، فالعبد المطيع يحب الرجوع إلى سيده ، والعبد الآبق يكره العود إلى مولاه ، ولهذا جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله وبذلوا أرواحهم دون الدين والذب عن الملة الحنيفية
{ رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر } [ الأحزاب : 23 ] عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه فقالت عائشة أو بعض أزواجه إنا لنكره الموت قال ليس ذلك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس شيء أحب إليه مما أمامه فأحب لقاء الله وأحب الله لقاءه . وإن الكافر إذا حضره الموت بشر بعذاب الله وعقوبته فليس شيء أكره إليه مما أمامه فكره لقاء الله وكره الله لقاءه » ثم إنه تعالى بين انتفاء اللازم بقوله { ولن يتمنوه أبداً } وبرهن عليه بقوله { بما قدمت أيديهم } أي بما أسلفوا من موجبات النار كالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وكتحريف كتاب الله وسائر قبائح أفعالهم . وذكر الأيدي مجاز لأن أكثر الأعمال يتم بمباشرة اليد . وقوله { ولن يتمنوه أبداً } من المعجزات لأنه إخبار بالغيب ، وكان كما أخبر به كقوله { ولن تفعلوا } [ البقرة : 24 ] وذلك أن التمني ليس من أعمال القلب حتى لا يطلع عليه أحد ، وإنما هو قول الإنسان بلسانه تمنيت أو ليت لي كذا ، ومحال أن يقع التحدي بما في الضمائر والقلوب . فلو إنهم تمنوا لنقل ذلك كما ينقل سائر الحوادث العظام ، ولكان ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن أكثر من الذرّ . وأيضاً لو كان التمني بالقلوب وتمنوا لقالوا قد تمنينا الموت في قلوبنا ولم ينقل أنهم قالوا ذلك . وأيضاً لولا أنه تعالى أوحى إليه أنهم لم يتمنوا لم يكن في العقل رخصة الإقدام على مثل هذا الإلزام ، لأنه في غاية السهولة ، وإذا ثبت انتفاء اللازم ثبت انتفاء الملزوم بالضرورة وهو أن لا تكون الدال الآخرة لهم خالصة ، وأما أنها ليست لهم بالاشتراك أيضاً ، فيستفاد من الآية التالية . وفي قوله { والله عليم بالظالمين } إشارة أيضاً إلى ذلك لأنه إذا كان محيطاً بسرهم وعلانيتهم وقد قدموا من القبائح ما قدموا فيجازيهم بما يحقون له . وفي وضع الظاهر وهو بالظالمين مقام المضمر وهو بهم إشارة أخرى إلى سوء منقلبهم { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } [ الشعراء : 227 ] واللام إما للعهد وإما للجنس ، فيشملهم أولاً وغيرهم من الظلمة ثانياً . فإن قيل : ما الفائدة في قوله ههنا { ولن يتمنوه } وفي سورة الجمعة { ولا يتمنونه } [ الجمعة : 7 ] ؟ قلنا : لأن الدعوى هنا كون الدار الآخرة خالصة لهم ، وهناك كونهم أولياء لله من دون الناس ، والأول مطلوب بالذات ، والثاني وسيلة إليه ، فناسب أن ينفي الأول بما هو أبلغ في إفادة النفي وهو « لن » ، أو لأن الدعوى الثانية أخص فإنه لا يلزم أن يكون كل من له الدار الآخرة ولياً بمعنى أنه يلي النبي في الكمال والإكمال ، ونفي العام أبعد من نفي الخاص كما أن إثبات الخاص في قولك « فلان ابن فلان موجود » أبعد من إثبات العام في قولك « الإنسان موجود » .
فحيث كانت الدعوى الأولى أبعد احتيج إلى أداة هي في باب النفي أبلغ . ثم إنه سبحانه لما أخبر عنهم في الآية المتقدمة أنهم لا يتمنون الموت ، أخبر بعد ذلك أنهم في غاية الحرص على الحياة ، لأن ههنا قسماً ثالثاً وهو أن لا يتمنى الحياة ولا الموت فقال { ولتجدنهم أحرص الناس } مؤكداً باللام والنون والقسم المقدر وهو من وجد بمعنى علم . وقوله { على حياة } بالتنكير لأنه أراد نوعاً من الحياة مخصوصاً وهي الحياة المتطاولة أو حياة وأيّ حياة . وفي جعلهم أحرص من الذين أشركوا توبيخ عظيم ، لأن المشركين لا يؤمنون بمعاد وعاقبة وما يعرفون إلا الحياة الدنيا فهي جنتهم ، فلا يستبعد حرصهم عليها . فإذا ازداد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقر بالجزاء كان خليقاً بالتوبيخ . وسبب زيادة حرصهم هو علمهم بأنهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون غافلون عن ذلك . وقيل : أراد بالذين أشركوا المجوس لأنهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان . وعن ابن عباس : هو قول الأعاجم « زي هزار سال » ، ويحسن أن يقال { ومن الذين أشركوا } كلام مبتدأ أي ومنهم ناس يودّ على حذف الموصوف كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي وما منا ملك لقوة الدلالة عليه بذكر ما اشتمل عليه قبله ، فكأنه مذكور ، وعلى هذا يلزم توبيخ اليهود من جهة أخرى وهي انضمامهم في زمرة المشركين وكونهم بعضاً منهم وذلك كقولهم { عزير ابن الله } [ التوبة : 30 ] . وقال أبو مسلم : في الآية تقديم وتأخير أي ولتجدنهم طائفة من الذين أشركوا وأحرص الناس على حياة ، ثم فسر بقوله { يود أحدهم } أي كل واحد يغرض لو يعمر . و « لو » في معنى التمني و { لو يعمر } حكاية لودادتهم ، وكان يجوز « لو أعمر » على الحكاية إلا أنه جرى على لفظ الغيبة لقوله { يود أحدهم } مثل « حلف بالله ليفعلن » وتخصيص الألف بالذكر بناء على العرف ولأنه أول عقد يستحيل وقوعه في أعمار بني آدم أو يندر . والضمير في قوله { وما هو } يعود إلى أحدهم و { أن يعمر } فاعل { بمزحزحه } أي وما أحدهم بمن يزحزحه من العذاب تعميره . ويجوز أن يكون الضمير لما دل عليه { يعمر } من مصدره و { أن يعمر } بدل منه كأنه قيل : وما التعمير بمزحزحه من العذاب أن يعمر . ويجوز أن يكون { هو } مبهماً و { أن يعمر } موضحه . والزحزحة المباعدة والتنحية . { والله بصير بما يعملون } فيه تهديد لأهل البغي والعناد ، وزجر للعصاة عن الفساد . والبصر قد يراد به العلم يقال فلان بصير بهذا الأمر أي عارف به ، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها ، وكلا الوصفين يصح عليه سبحانه ما لم يثبت له جارحة . فإن قلنا : إن من الأعمال ما لا يصح أن يرى ، تعين حمل البصر فيه على العلم والله أعلم بالصواب . وإليه المرجع والمآب .
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
القراآت : { جبريل } مفتوحة الجيم مكسورة الراء غير مهموز : ابن كثير . وقرأ حمزه وعلي وخلف وعاصم غير حفص ويحيى مفتوحة الراء والجيم مهموزة مشبعاً . وقرأ يحيى مختلساً . الباقون : مكسورة الراء والجيم غير مهموز . { ميكال } أبو عمرو وسهل ويعقوب وحفص ، وقرأ أبو جعفر ونافع مختلساً مهموزاً . الباقون : ميكائيل مهموزاً مشبعاً .
الوقوف : { للمؤمنين } ( 5 ) { للكافرين } ( 5 ) { بينات } ( ج ) لأن هذه الواو للابتداء أو الحال والحال أوجه لاتحاد القصة { الفاسقون } ( 5 ) { فريق منهم } ( ط ) لأن « بل » للإعراض عن الأول { لا يؤمنون } ( 5 ) { أوتوا الكتاب } ( ط ) قد قيل يوقف لبيان أن كتاب الله مفعول « نبذ » لا بدل مما قبله { لا يعلمون } ( 5 ) قد يجوز للآية ، والوصل للعطف على { نبذ } لإتمام سوء اختيارهم في النبذ والاتباع .
التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أفعال اليهود ، والسبب في نزوله أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أتاه عبد الله بن صوريا من أحبار فدك فقال : يا محمد ، كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي صلى الله عليه وسلم الذي يجيء في آخر الزمان ، فقال صلى الله عليه وسلم تنام عيناي ولا ينام قلبي . قال : صدقت يا محمد ، فأخبرنا عن الولد من الرجل يكون أو من المرأة؟ فقال : أما العظام والعصب والغضروف فمن الرجل ، وأما اللحم والدم والظفر والشعر فمن المرأة . فقال صدقت . قال : فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله ، أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال : أيهما غلب ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له . قال : صدقت . قال : أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه وفي التوراة أن النبي الأمي يخبر عنه ، فقال صلى الله عليه وسلم : « أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر لله نذراً إن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحب الطعام والشراب على نفسه وهو لحمان الإبل وألبانها » فقالوا : اللهم نعم . فقال له : بقيت خصلة إن قلتها آمنت بك . أيّ ملك يأتيك بما تقول عن الله؟ قال : جبريل قال : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة ، ورسولنا ميكائيل يأتي باليسر والرخاء . فإن كان هو يأتيك آمنا بك . فقال عمر : ما مبدأ هذا العداوة؟ فقال ابن صوريا : إن الله أنزل على نبينا أن بيت المقدس يخرب في زمان رجل يقال له بختنصر ، ووصفه لنا فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً فدفع عنه جبريل وقال : إن سلطكم الله على قتله . فهذا ليس هو ذاك وإن لم يكن إياه فعلى أي حق تقتلونه . ثم إنه كبر وقوي وملك وغزانا وخرب بيت المقدس فلهذا نتخذه عدواً . وأما ميكائيل فإنه عدو لجبريل .
فقال عمر : فإني أشهد أن من كان عدواً لجبريل فهو عدو لميكاكئيل ، وهما عدوان لمن عاداهما ، فأنكر ذلك على عمر فأنزل الله تعالى هاتين الآيتين . وقيل : كان لعمر أرض بالمدينة أعلاها ، وكان ممره على مدراس اليهود ، وكان يجلس إليهم ويسمع كلامهم . فقالوا : يا عمر قد أحببناك وإنا لنطمع فيك . فقال : والله لا أجيئكم لحبكم ولا أسألكم لأني شاك في ديني ، وإنما أدخل عليكم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأرى آثاره في كتابكم . ثم سألوه فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال عمر : جبريل . فقالوا : ذاك عدوّنا يطلع محمداً على أسرارنا ، وهو صاحب كل خسف وعذاب ، وإن ميكائيل يجيء بالخصب والسلام . فقال لهم : وما منزلتهما من الله؟ قالوا : أقرب منزلة جبريل وهو عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، وميكائيل عدوّ لجبريل . فقال عمر : إن كان كما تقولون فما هما بعدوّين ، ولأنتم أكفر من الحمير . ومن كان عدواً لأحدهما كان عدواً للآخر ، ومن كان عدواً لهما كان عدواً لله . ثم رجع عمر فوجد جبريل قد سبقه بالوحي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لقد وافقك ربك يا عمر » . قال : لقد رأيتني في دين الله بعد ذلك أصلب من الحجر . وعن مقاتل : زعمت اليهود أن جبريل عدونا أمر بأن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا . والأقرب في سبب عداوتهم إياه أنه كان ينزل بالقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم كما يشعر بذلك قوله { فإنه نزله } أي إن عاداه أحد فالسبب في عداوته أنه نزل عليك القرآن مصدقاً لكتابهم وموافقاً له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ، ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له كقولك « إن عاداك فلان فقد آذيته وأسأت إليه » أو إن عادى جبريل أحد من أهل الكتاب فلا وجه لمعاداته حيث نزل كتاباً مصدقاً للكتب بين يديه ، فلو أنصفوا لأحبوه وشكروا له صنيعه في النزول بما ينفعهم ويصحح المنزل عليهم . ويمكن أن يتوجه الجزاء إلى قوله { بإذن الله } إلى آخره . أي إن عاداه أحد فلا وجه لعداوته لأنه لم ينزل بالقرآن من تلقاء نفسه وباختياره وإنما جاء به بإذن الله وأمره الذي لا محيص عنه ولا سبيل إلى مخالفته وجاء به مصدقاً هادياً مبشراً ، فهو من حيث إنه مأمور وجب أن يكون معذوراً ، ومن حيث إنه أتى بالهداية والبشارة يلزم أن يكون مشكوراً . فعداوة من هذا سبيله عداوة الله ، ولو أنه تعالى أمر ميكائيل بذلك لانقاد لأمره أيضاً لا محالة ولتوجه الإشكال عليه ، فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وجبريل ممتنع من الصرف للعلمية والعجمة بشرطها . وعن ابن عباس وغيره أن معناه عبد الله ، والضمير في نزله للقرآن وإن لم يجر له ذكر لأنه كالمعلوم مثل قوله تعالى
{ ما ترك على ظهرها من دابة } [ فاطر : 45 ] وهذا النوع من الإضمار فيه فخامة لشأن صاحبه حيث جعله لفرط شهرته كأنه يدل على نفسه . وأكثر الأمة على أن القرآن إنما نزل على محمد لا على قلبه ، لكن خص القلب بالذكر لأن السبب في تمكنه صلى الله عليه وسلم من الأداء ثباته في قلبه ، فمعنى على قلبك حفظه إياك وفهمه . وقيل : أي جعل قلبك متصفاً بأخلاق القرآن ومتأدباً بآدابه كما في حديث عائشة « كان خلقه صلى الله عليه وسلم القرآن » وكان حق الكلام أن يقال على قلبي إلا أنه جاء على حكاية كلام الله كما تكلم به كأنه قيل : قل ما تكلمت به من قولي { من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك } ومعنى { مصدقاً لما بين يديه } موافقاً لما قبله من كتب الأنبياء فيما يرجع إلى المبادئ والغايات دون الأوساط التي يتطرق إليها الاختلاف بتبدل الأزمان والأوقات . ومعنى قوله { وهدى وبشرى } أن القرآن يشتمل على أمرين . أحدهما بيان ما وقع التكليف به من أعمال القلوب وأفعال الجوارح فهو من هذا الوجه هدى ، وثانيهما بيان أن الآتي بتلك الأعمال كيف يكون ثوابه فهو من هذا الوجه بشرى ، والأول مقدم على الثاني في الوجود فقدم في الذكر أيضاً . ولا ريب أن البشرى تختص بالمؤمنين ، وأما الهدى فلأنهم هم المنتفعون به كما مر في { هدى للمتقين } . ولما بين في الآية المتقدمة أن من كان عدواً لجبريل لأجل أنه نزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون عدواً لله تعالى ، بين في الآية التالية أن من كان عدواً لله وللمخصوصين بكرامته فإن الله يعاديهم وينتقم منهم . والعداوة بالحقيقة لا تصح إلا فينا لأن العدو للغير هو الذي يريد إنزال المضار به ، وهذا التصور يستحيل في حقه تعالى من العاقل المتفطن لا الغافل المتغابي . فمعنى قوله { من كان عدواً لله } أي لأولياء الله كقوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [ الأحزاب : 57 ] . أو يراد بذلك كراهتهم القيام بطاعته وبعدهم عن التمسك بدينه ، لأن العدو لا يكاد يوافق عدوه وينقاد لأمره . قال أهل التحقيق : عداوتهم لله وملائكته نتيجة عداوة الله لهم ونظره إليهم في الأزل بالقهر « هؤلاء في النار ولا أبالي » كما أن محبة المؤمنين لله نتيجة محبة الله إياهم { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] وذلك أن صفات الله تعالى قديمة وصفات الخلق محدثة ، والأولى علة الثانية . وأفرد الملكان بالذكر دلالة على فضلها كأنهما من جنس آخر ، فإن التغاير في الوصف قد ينزل منزلة التغاير في الذات ، ولأن الآية نزلت فيما يتعلق بهما فحسن أن ينص على اسميهما . وتقديم جبريل في الذكر يدل على أنه أفضل من ميكائيل وأيضاً أن جبريل ينزل بالوحي والعلم وذلك سبب بقاء الأرواح ، وميكائيل ينزل بالخصب والرزق وهو سبب بقاء الأبدان .
والواو في جبريل وميكائيل بمعنى « أو » لأن عداوة أحد هؤلاء توجب عداوة الله كما أن عداوة كلهم توجب ذلك ، ويحتمل أن يكون الواو على الأصل ويعرف ما ذكرنا من القرينة . وقوله { للكافرين } من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن عداوة هؤلاء كفر . الآيات البينات هي آيات القرآن ، ولا يبعد أن تشمل سائر معجزاته وإن كان لفظ الإنزال نابياً عنه بضع النبوّ . ومعنى كون الآية بينة أن العلوم تنقسم إلى ما يكون طريق تحصيله ، والدليل الدال عليه أكثر مقدمات فيكون الوصل إليه أصعب ، وإلى ما يكون أقل مقدمات فيكون الوصول إليه أقرب وهذا هو الآية البينة . والكفر بها إما جحودها مع العلم بصحتها ، وإما جحودها مع الجهل وترك النظر فيها والإعراض عن دلائلها ، وليس في الظاهر تخصيص فيدخل الكل فيه ، والفسق هو خروج الإنسان عما حد له إلى الفساد ويقرب منه الفجور ، لأنه مأخوذ من فجور السد الذي يمنع الماء من أن يصير إلى الموضع الذي يفسد . عن الحسن : إذا استعمل الفسق في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر وغيره . ولهذا لا يوصف صاحب الصغيرة بالفسق وإن تجاوز عن أمر الله تعالى كمن فتح من النهر نقباً صغيراً لا يقال : إنه فجر النهر . وفي قوله { إلا الفاسقون } وجهان : أحدهما أن كل كافر فاسق ولا ينعكس ، وكان ذكر الفاسق أولى ليأتي على الكافر وغيره . الثاني أن المراد وما يكفر بها إلا الكافر المتجاوز عن كل حد في كفره . وهذه الآيات لما كانت بينة لم يكفر بها إلا الكافر الذي بلغ في الكفر النهاية القصوى ، وهذا نوع آخر من فضائح اليهود . عن ابن عباس أنهم كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم من العرب كفروا به وجحدوا بما كانوا يقولون فيه فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث وتصفون لنا صفته . فقال بعضهم : ما جاءنا بشيء من البينات وما هو بالذي كنا نذكر لكم فنزلت . واللام في { الفاسقون } للجنس أو إشارة إلى أهل الكتاب . { أو كلما } الواو للعطف على محذوف معناه أكفروا بالآيات البينات؟ وكلما عاهدوا واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا ، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة . وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس من مخالفته كصعوبة من لم تجر عادته بذلك .
والنبذ الرمي بالذمام ورفضه ، وإنما قيل { فريق منهم } لأن منهم من لم ينقض بل أكثرهم لا يؤمنون بالتوراة وليسوا من الدين في شيء ، فلا يعدون نقض المواثيق ذنباً . { ولما جاءهم رسول } أي كتاب لتلازمهما بدليل كتاب الله وهو القرآن ، نبذوه بعد ما لزمهم تلقيه بالقبول كأنهم لا يعلمون أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم بذلك رصين من قبل التوراة ولكن المكابرة هجيراهم ، ونبذه وراء ظهورهم مثل لإعراضهم عنه وتركهم العمل به . وقيل : كتاب الله التوراة لأنهم لكفرهم برسول الله كافرون بها . وعن سفيان : أدرجوه في الديباج والحرير وحلوه بالذهب ولم يحلوا حلاله ولم يحرّموا حرامه . اللهم ارزقنا العلم بكتابك والعمل به .
وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
القراآت : { ولكن } خفيفاً { الشياطين } بالرفع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وكذلك قوله { ولكن الله قتلهم } { ولكن الله رمى } { الملكين } بكسر اللام ههنا وفي سورة الأعراف : قتيبة . على أن المنزل عليهما علم السحر كانا ملكين ببابل .
الوقوف : { علىملك سليمان } ( ج ) لأن الواو قد تصلح حالاً لبيان نزاهة سليمان وردّ ما افتروا عليه { السحر } ( ط ) قيل : على جعل « ما » نافية ولا يتضح لمناقضته ما في سياق الآية من إثبات السحر بل « ما » خبرية معطوفة على قوله { السحر } على أنها وإن كانت نافية يحتمل كون الواو حالاً على تقدير : يعلمون الناس السحر غير منزل فلا يفصل . وفي الآية عشر « ماآت » إحداها كافة في { إنما } والأخيرة نكرة منصوبة في { لبئسما } والباقية خبرية ثم نافية ثم خبرية على التعاقب { وماروت } ( ط ) { فلا تكفر } ( ط ) { وزوجه } ( ط ) { بإذن الله } ( ط ) { ولا ينفعهم } ( ط ) { من خلاق } ( ط ) يجوز الوقف لابتداء اللام { أنفسهم } ( ط ) { يعلمون } ( 5 ) { خير } ( ط ) { يعلمون } ( 5 ) .
التفسير : من قبائح أفعالهم أنهم نبذوا كتاب الله وأقبلوا على السحر ودعوا الناس إليه ، وهذا شأن اليهود الذين كانوا في زمن محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إنهم الذين تقدموا من اليهود . وقيل : إنهم الذين كانوا في زمن سليمان عليه السلام من السحرة لأن أكثر اليهود ينكرون نبوة سليمان ويعدّونه من جملة ملوك الدنيا ، فالذين كانوا منهم في زمانه لا يمتنع أن يعتقدوا فيه أنه إنما وجد ذلك الملك العظيم بسبب السحر . والأولى أن يقال : اللفظ يتناول الكل . قال السدي : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت . ومعنى « تتلو » تقرأ ، أو { على ملك سليمان } أي على عهده وفي زمانه . وقيل : تلا عليه أي كذب . فالقوم لما ادعوا أن سليمان إنما وجد تلك المملكة بسبب ذلك العلم كان ذلك الادعاء كالافتراء على ملك سليمان . وأما الشياطين فالأكثرون على أنهم شياطين الجن ، وأنهم كانوا يسترقون السمع ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفقونها ويلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها ويقرأونها ويعلمونها الناس وفشا ذلك في زمان سليمان حتى قالوا : إن الجن تعلم الغيب وكانوا يقولون : هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملكه إلا بهذا العلم . وقيل : إنهم شياطين الإنس لما روي في الخبر أن سليمان كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه إن هلك الظاهر منها يبقى ذلك المدفون ، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السحر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه ، ثم من بعد موته واطلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان وأنه ما وصل إلى ما وصل إلا بهذه الأشياء .
وزيفوا قول الأكثرين بأن شياطين الجن لو قدروا على تغيير كتب الأنبياء وشرائعهم بحيث يبقى ذلك التحريف مخيفاً فيما بين الناس لارتفع الوثوق عن جميع الشرائع ، وهذا بخلاف ما يفعله الإنسان فإنه لا يكاد يخفى على بني نوعه . واختلف في سبب إضافتهم السحر إلى سليمان فقيل : ليروج ذلك منهم . وقيل : لأنهم ما كانوا مقرين بنبوته . وقيل : لأنه لما خالط الجن وأظهر أسراراً عجيبة غلب على ظنونهم أنه استفاد ذلك من الجن . وقوله { وما كفر سليمان } تنزيه له عما نسب القوم إليه من السحر المستلزم للكفر ، فإن كونه نبياً ينافي كونه ساحراً كافراً . ثم بين أن الذي برأه منه لاصق بغيره فقال { ولكن الشياطين كفروا } ثم ذكر ما به كفروا فقد كان من الجائز أن يتوهم أنهم كفروا لا بالسحر فقال { يعلمون الناس السحر وما أنزل } أي ويعلمونهم الذي أنزل على الملكين . وهاروت وماروت عطف بيان للملكين علمان لهما ممتنعان من الصرف للعلمية والعجمة ، وليسا من الهرت والمرت وهو الكسر كما زعم بعضهم ، لأنهما لو كانا منهما لانصرفا . وقيل : بدلان منهما .
ولنذكر ههنا حقيقة السحر وقصة هاروت وماروت . أما السحر ففي اللغة عبارة عن كل ما لطف مأخذه وخفي سببه ومنه الساحر للعالم . وسحره خدعه ، والسحر الرئة ، وفي الشرع : مختص بكل أمر يخفى سببه ويتخيل من غير حقيقة ويجري مجرى التمويه والخداع . ومتى أطلق ولم يقيد أفاد ذم فاعله قال تعالى { سحروا أعين الناس } [ الأعراف : 116 ] يعني موّهوا عليهم حتى ظنوا أن حبالهم وعصيهم تسعى . وقد يستعمل مقيداً فيما يمدح ويحمد وهو السحر الحلال قال صلى الله عليه وسلم « إن من البيان لسحراً » سمى صلى الله عليه وسلم بعض البيان سحراً لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل ، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه ولطف عبارته ، ويقدر على تحسين القبيح وتقبيح الحسن ، يسخط تارة فيقول أسوأ ما يمكن ، ويرضى تارة فيقول أحسن ما يعلم . ثم السحر على أقسام : منها سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر وهو قوم يعبدون الكواكب ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم ، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة ، ويستحدثون الخوارق بواسطة تمزيج القوى السماوية بالقوى الأرضية ، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم وراداً عليهم مذاهبهم . ومنها سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية بدليل أن الجذع الذي يتمكن الإنسان من المشي عليه لو كان موضوعاً على الأرض لا يمكنه المشي عليه لو كان كالجسر ، وما ذاك إلا لأن تخيل السقوط متى قوي أوجبه .
وقد اجتمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر ، والمصروع عن النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام . وحكي في الشفاء عن أرسطو أن الدجاجة إذا تشبهت كثيراً بالديكة في الصوت وفي الحراب مع الديكة في الصوت تنبت على ساقها مثل الشيء النابت على ساق الديك . وهذا يدل على أن الأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية . واجتمعت الأمم على أن الدعاء مظنة الإجابة ، وأن الدعاء باللسان من غير طلب نفساني قليل الأثر . ويحكى أن بعض الملوك عرض له فالج ، فدخل عليه بعض الحذاق من الأطباء على حين غفلة منه وشافهه بالشتم والقدح في العرض ، فاشتد غضب الملك وقفز من مرقده قفزة اضطرارية وزالت تلك العلة المزمنة . والإصابة بالعين مما اتفق عليه العقلاء ، والتحقيق فيه أن النفس إذا كانت مستعلية على البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السموات ، كانت كأنها روح من الأرواح السماوية ، وكانت قوية التأثير في مواد هذا العالم . أما إذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه اللذات البدنية فحينئذ لا يكون لها تصرف ألبتة إلا في هذا البدن . فإذا أراد أن يتعدى تأثيرها إلى بدن آخر اتخذ تمثال ذلك الغير ووضعه عند الحس فاشتغل الحس به وتبعه الخيال عليه وأقبلت النفس الناطقة بالكلية على ذلك ، فقويت التأثيرات النفسانية والتصرفات الروحانية ، ويعضده الانقطاع عن المألوف والمشتهيات وتقليل الغذاء والاعتزال عن الناس ، ثم إن كانت النفس مناسبة لهذا الأمر بحسب ماهيتها وخاصيتها عظم التأثير . وأما الرقى فإن كانت بألفاظ معلومة فالأمر فيها ظاهر لأن الغرض منها أن حسن البصر كما اشتغل بالأمور المناسبة للغرض ، فحس السمع أيضاً يشتغل بها ، فإن الحواس متى تطابقت متوجهة إلى الغرض الواحد كان توجه النفس إليه أقوى وإن كانت بألفاظ غير معلومة حصلت للنفس هناك حالة شبيهة بالحيرة والدهشة ، ويحصل لها إذ ذاك انجذاب وانقطاع عن المحسوسات وإقبال على ذلك الفعل ، فيقوى التأثير النفساني فيحصل الغرض . وهكذا القول في الدخن قالوا : فثبت أن هذا القدر من القوة النفسانية مستقل بالتأثير فإن انظم إليه الاستعانة بالقسم الأول وهو تأثيرات الكواكب قوي الأثر جداً ، لا سيما إن حصل لهذه النفس مدد من النفوس المفارقة المشابهة لها أو من الأنوار الفائضة من النفوس الفلكية . ومنها سحر من يستعين بالأرواح الأرضية وهو المسمى بالعزائم ، وتسخير الجن ومنه التخييلات الآخذة بالعيون وتسمى الشعوذة . وذلك أن أغلاط البصر كثيرة ، فإن راكب السفينة إذا نظر إلى الشط رأى السفينة واقفة والشط متحركاً ، والقطرة النازلة ترى خطاً مستقيماً ، والعنبة ترى في الماء كالزجاجة ، ويرى العظيم من البعيد صغيراً . وقد لا تقف القوة الباصرة على المحسوس وقوفاً تاماً إذا أدركت المحسوس في زمان صغير جداً فيخلط البعض بالبعض ولا يتميز ، فإن الرحى إذا أخرجت من مركزها إلى محيطها خطوطاً كثيرة بألوان مختلفة ثم أديرت ، فإن البصر يرى لوناً واحداً كأنه مركب من كل تلك الألوان .
وأيضاً النفس إذا كانت مشغولة بشيء فربما حضر عند الحس شيء آخر ، فلا يشعر الحس به ألبتة كما أن الإنسان عند دخوله على السلطان قد يلقاه إنسان ويتكلم معه فلا يعرفه ولا يفهم كلامه لما أن قلبه مشغول بشيء آخر ، وكذا الناظر في المرآة ربما قصد أن يرى سطح المرآة هل هو مستوٍ أم لا ، فلا يرى شيئاً مما في المرآة . فالمشعوذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استقر بهم الشغل بذلك الشيء والتحديق نحوه ، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة فيبقى ذلك العمل خفياً لتعاون الشيئين اشتغالهم بالأول وسرعة إتيانه بالثاني . ومنها الأعمال العجيبة التي تظهر من الآلات المركبة على النسب الهندسية ، أو لضروب الخيلاء كفارسين يقتتلان فيقتل احدهما الآخر ، ومنه الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان ، وقد يصورونها ضاحكة أو باكية . وقد يفرق بين ضحك السرور وضحك الخجل ، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات وعلم جر الأثقال وهذا لا يعد من السحر عرفاً ، لأن لها أسباباً معلومة يقينية . ومنها الاستعانة بخواص الأدوية والأحجار ، ومنها تعليق القلب وهو أن يدعي الساحر أنه قد عرف الاسم الأعظم وأن الجن ينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن كان السامع ضعيف القلب قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في قلبه نوع من الرعب ، وحينئذ تضعف القوى الحساسة فيتمكن الساحر من أن يفعل فيه ما شاء . وإن من جرب الأمور وعرف أحوال الناس علم أن لتعليق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار . ومنها السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفية لطيفة وذلك شائع في الناس . فهذه جملة الكلام في أقسام السحر ، وعند المسلمين كلها مستندة إلى قدرة الله ، فإنه لا يمنتع وقوع هذه الخوارق بإجراء العادة عند سحر السحرة . واتفقوا على أن العلم به ليس بقبيح ولا محظور ، لأن العلم لذاته شريف ولعموم قوله تعالى { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] ولأن الفرق بينه وبين المعجز يمكن به إلا أن اجتنابه أقرب إلى السلامة كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية . وأما أن الساحر هل يكفر أم لا فلا نزاع بين الأمة في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبرة لهذا العالم وهي الخالقة لما فيه من الحوادث والخيرات والشرور ، فإنه يكون كافراً على الإطلاق ، وهذا هو القسم الأول من السحر . وأما النوع الثاني وهو أن يعتقد أنه قد يبلغ روح الإنسان في التصفية والقوة إلى حيث يقدر على إيجاد الأجسام وإعدامها وتغيير البنية والشكل ، فالأظهر إجماع الأمة أيضاً على تفكيره ، وأما أن يعتقد الساحر أنه قد يبلغ في التصفية وقراءة الرقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل ، فالمعتزلة اتفقوا على تكفير من يجوز ذلك قالوا : لأنه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء والرسل ، وزيف بأن الإنسان لو ادعى النبوة وكان كاذباً في دعواه فإنه لا يجوز من الله تعالى إظهار الخوارق على يده لئلا يحصل التلبيس ، أما إذا لم يدع النبوة فظهرت الخوارق على يده لم يفض ذلك إلى التلبيس ، فإن المحق يتميز عن المبطل بما أن المحق تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة والمبطل لا تحصل له هذه الأشياء مع ادعاء النبوة ، وإن حصلت لم يتم فصوله الباطل كنار العرفج .
وأما سائر أنواع السحر فلا شك أنها ليست بكفر ، وحكم من كفر بالسحر حكم المرتد . وإذا سحر إنساناً فمات فإن قال : إني سحرته وسحري يقتل غالباً وجب عليه القود ، وإن قال : سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل ، فهو شبه عمد ، وإن قال : سحرت غيره فوافق اسمه اسمه فخطأ . وعن أبي حنيفة أنه قال : يقتل الساحر إذا علم أنه ساحر ولا يستتاب ولا يقبل قوله « إني أترك السحر وأتوب منه » فإذا أقر أنه ساحر فقد حل دمه . وإن شهد شاهدان علي أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا يستتاب ، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه ولم يقتل . وأما قصة هاروت وماروت فقد يروى عن ابن عباس أن الملائكة لما قالت { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } فأجابهم الله بقوله { إني أعلم ما لا تعلمون } [ البقرة : 31 ] ثم وكل عليهم جمعاً من الملائكة وهم الكرام الكاتبون وكانوا يعرجون بأعمالهم الخبيثة ، فعجبت الملائكة منهم ومن تبقية الله لهم مع ما ظهر منهم من القبائح . ثم أضافوا إليهما عمل السحر فازداد تعجب الملائكة ، فأراد الله أن يبتلي الملائكة فقال لهم : اختاروا ملكين من أعظم الملائكة علماً وزهداً وديانة لأنزلهم إلى الأرض فأختبرهم . فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما شهوة الإنس وأنزلهما ونهاهما عن الشرك والقتل والزنا والشرب . فنزلا ، فأمر الله تعالى الكوكب المسمى بالزهرة والملك الموكل به فهبطا إلى الأرض ، فجعلت الزهرة في صورة امرأة ، والملك في صورة رجل . ثم إن الزهرة اتخذت منزلاً وزينت نفسها ودعتهما إليها ، ونصب الملك نفسه في منزلها في مثال صنم فأقبلا عليها وطلبا الفاحشة فأبت عليهما إلا أن يشربا الخمر فقالا : لا نشرب الخمر . ثم غلبت الشهوة عليهما فشربا ثم دعواها إلى ذلك فقالت : بقيت خصلة لست أمكنكما من نفسي حتى تفعلاها .
قالا : وما هي؟ قالت : تسجدان لهذا الصنم . فقالا : لا نشرك بالله شيئاً . ثم غلبت الشهوة عليهما فقالا : نفعل ثم نستغفر . فسجدا للصنم . ثم دخل سائل عليهم فقالت : إن أظهر هذا السائل للناس ما رأى منا فسد أمرنا ، فإن أردتما الوصول إليّ فاقتلا هذا الرجل . فامتنعا منه ، ثم اشتغلا بقتله . فلما فرغا من القتل ارتفعت ا لزهرة وملكها إلى موضعهما من السماء فعرفا حينئذ أنه إنما أصابهما بسبب تعيير بني آدم . وفي رواية أخرى أن الزهرة كانت فاجرة من أهل الأرض ، وأنهما واقعاها بعد أن شربا الخمر وقتلا النفس وسجدا للصنم وعلماها الاسم الأعظم الذي كانا يعرجان به إلى السماء ، فتكلمت المرأة بذلك الاسم فعرجت إلى السماء فمسخها الله تعالى وصيرها هذا الكوكب ثم إن الله تعالى خيرهما بين عذاب الآخرة آجلاً وبين الدنيا عاجلاً ، فاختارا عذاب الدنيا فجعلهما ببابل منكوسين في بئر إلى يوم القيامة وهما يعلمان الناس السحر ويدعوان إليه ولا يراهما أحد إلا من ذهب إلى ذلك الموضع ليعلم السحر خاصة . وهذه القصة عند المحققين غير مقبولة ، فليس في كتاب الله ما يدل عليها ، ولأن الدلائل الدالة على عصمة الملائكة تنافيها ، ولاستبعاد كونهما معلمين للسحر حال العذاب ، ولأن الفاجرة كيف يعقل أنها صعدت غلى السماء وجعلها الله تعالى كوكباً مضيئاً ، ولأنه ذكر في القصة أن الله تعالى قال لهما لو ابتليتكما بما ابتليت به بني آدم لعصيتماني فقالا : لو فعلت بنا يا رب لما عصيناك وهذا منهم تكذيب الله وتجهيل . فإذن السبب في إنزالهما أن السحرة كثرت في ذلك الزمان واستنبطت أبواباً غريبة من السحر وكانوا يدعون النبوة ، فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس أبواب السحر حتى يتمكنوا من معارضة أولئك الكاذبين ، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد . وأيضاً تعريف حقيقة السحر ليميز بينه وبين المعجزة حسن ، وكذا السحر لإيقاع الفرقة بين أعداء الله والألفة بين أوليائه . ولعل للجن أنواعاً من السحر لا يقدر البشر على معارضتها إلا بإعانة الملك وإرشاده ، ويجوز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصل به إلى اللذات العاجلة ثم يمنعه من استعماله ، كان ذلك في نهاية المشقة فيستوجب مزيد الثواب كما ابتلي قوم طالوت بالنهر { فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني } [ البقرة : 249 ] ويقال : هذه الواقعة كانت في زمان إدريس لأنهما إذا كانا ملكين نزلا بصورة البشر لهذا الغرض ، فلا بد من رسول في وقتهما ليكون ذلك معجزة له ، ولا يجوز كونهما رسولين لأن رسول الإنس ثبت أنه لا يكون إلا منهم .
قوله تعالى { وما يعلمان } أي وما يعلم الملكان أحداً حتى ينهياه وينصحاه ويقولا له { إنما نحن فتنة } ابتلاء واختبار من الله { فلا تكفر } بأن تتعلمه معتقداً له أنه حق أو متوصلاً به إلى شيء من المعاصي والأعراض العاجلة { فيتعلمون } الضمير لما دل عليه العموم في { من أحد } أي فيتعلم الناس من الملكين { ما يفرقون به بين المرء وزوجه } إما لأنه إذا اعتقد أن السحر حق كفر فبانت منه امرأته ، وإما لأنه يفرّق بينهما بالتمويه والاحتيال كالنفث في العقد ونحو ذلك مما يحدث الله عنده الفرك والنشوز ابتلاء منه ، لا أن السحر له أثر في نفسه بدليل قوله { وما هم بضارّين به من أحد إلا بإذن الله } بإدارته وقدرته ، لأنه إن شاء أحدث عند ذلك شيئاً من أفعاله وإن شاء لم يحدث ، وكان الذي يتعلمونه منهما لم يكن مقصوراً على هذه الصورة ، ولكن سكون المرء وركونه إلى زوجه لما كان أشد خصت بالذكر ليدل بذلك على أن سائر الصور بتأثير السحر فيها أولى وقرأ الأعمش { وما هم بضارين به من أحد } فجعل الجارّ جزءاً من المجرور وهو « أحد » وأضاف إلى المجموع وفصل بينهما بالظرف .
ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم لأنهم يستعملونه في وجوه المفاسد { ولقد علموا } علم هؤلاء اليهود اللام فيه للابتداء وكذا في { لمن اشتراه } استبدل ما تتلو الشياطين واختاره على كتاب الله { ما له في الآخرة من خلاق } من نصيب كأنه قدر له هذا المقدار ، وقيل : الخلاق الخلاص . وقيل معنى الآية أن الملكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة ، فلما استعمل السحر للدنيا فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا { ولبئسما شروا به أنفسهم } أي باعوها والمخصوص محذوف وهو السحر أو منافع الدنيا ، وجواب « لو » محذوف يدل على ما قبله أي لو كانوا يعلمون لعلموا قبح ما شروا . ويجوز أن يكون « لو » للتمني مجازاً كما تقدم من الترجي في { لعلكم تتقون } وحينئذ لا يحتاج إلى الجواب . بقي ههنا سؤال وهو أنه كيف أثبت لهم العلم أولاً في قوله { ولقد علموا } على سبيل التوكيد بالقسم إجمالاً ثم نفاه عنهم في قوله { لو كانوا يعلمون } ؟ فإن « لو » لامتناع الثاني لامتناع الأول ، وكذا لو كان للتمني فإن التمني استدعاء أمر هو كالممتنع . والجواب أن الذين علموا غير الذين لم يعلموا ، فالذين علموا هم الذين علموا السحر ودعوا الناس إلى تعلمه ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، والذين لا يعلمون هم الجهال الذين يرغبون في تعلم السحر . سلمنا أن القوم واحد ، ولكنهم علموا شيئاً وجهلوا شيئاً آخر ، علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة ، وجهلوا مقدار ما فاتهم من منافع الآخرة وما حصل لهم من مضارّها وعقوباتها ، سلمنا أن القوم واحد والمعلوم واحد ، ولكنهم نسبوا إلى الجهل حيث لم يعملوا بعلمهم ولم ينتفعوا به كما قيل : إنهم صم بكم عمي حيث لم ينتفعوا بالحواس .
ولما أوعدهم بقوله { ولقد علموا } أتبع ذلك الوعد جامعاً بين الترهيب والترغيب ليكون أدعى إلى الطاعة وأنهى عن المعصية فقال { ولو أنهم آمنوا } بعين ما نبذوه من كتاب الله وهو القرآن أو التوراة التي يصدقها القرآن أو كلاهما ، واتقوا فعل المنهيات وترك المأمورات ، أو اتقوا الله فتركوا ما هم عليه من نبذ كتاب الله واتباع كتب الشياطين { لمثوبة من عند الله } لشيء من ثوابه { خير } ولا بد من تقدير فعل يكون « أن » مع ما بعده فاعلاً له ، أي لو ثبت أنهم آمنوا ، وجواب « لو » محذوف أيضاً ويدل عليه هذه الجملة الاسمية المصدرة باللام أي لأثيبوا وإنما تركت الفعلية إلى هذه ليدل على ثبات المثوبة واستقرارها . ويجوز أن يكون القسم مقدراً وقوله { لمثوبة } جوابه ساداً مسد جواب الشرط مغنياً عنه ، ودخول اللام الموطئة في الشرط غير واجب في القسم المقدر وإن كان هو الأكثر ، على أن دخول اللام الموطئة « لو » مستثقل فيشبه أن يكون الأكثر بل الواجب ههنا عدم الدخول . ويجوز أن يكون « لو » للتمني مجازاً عن إرادة الله إيمانهم كأنه قيل : وليتهم آمنوا . ثم ابتدئ { لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون } أن ثواب الله خير مما هم فيه لآمنوا واتقوا ، وقد علموا لكنه جهلهم لترك العلم بالعلم . ويجوز أن يكون « لو » بمعنى التمني كما تقرر والله تعالى أعلم .
التأويل : { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } النفوس { على ملك سليمان } الروح الذي هو خليفة الله في أرضه { وما كفر سليمان } الروح { ولكن الشياطين } النفس والهوى { كفروا يعلمون الناس السحر } من تخييلات الهواجس وتمويهات الوساوس { وما أنزل على الملكين } فتنة وخذلاناً من العلوم الضارة غير النافعة كشبهات الفلاسفة والمبتدعة على ملكي الروح والقلب { ببابل } الجسد { هاروت } الروح { وماروت } القلب فإنهما من العالم العلوي الروحاني أهبطا إلى الأرض العالم الجسماني بالخلافة لإقامة الحق وإزهاق الباطل فافتتنا بزهرة الحياة الدنيا واتبعا خداعها فوقعا في شبكة الشهوة التي تركت فيها ابتلاء وامتحاناً ، وشربا خمر الحرص والغفلة التي تخامر العقل ، وزنيا ببغي الدنيا الدنية ، وعبدا صنم الهوى فعذبا منكسين برؤوسهما بالالتفات إلى السفليات وإعراضهما عن العلويات ، فحرما استماع خطاب الحق وكشف حقائق العلوم النافعة الموجبة للجمعية ، ومع هذا من خصوصية الملائكة الروحانية ما يعلمان أحداً من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية . والقوى البشرية حتى يلهماها { إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء } القلب { وزوجه } دينه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
القراآت : { ما ننسخ } بضم النون وكسر السين : ابن ذكوان { ننسأها } مهموزاً : ابن كثير وأبو عمرو غير أوقية ، وروى أوقية بغير همز ، الباقون : ننسها من الإنساء { نأت بخير } بغير همز : أبو عمرو غير إبراهيم بن حماد ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف ، الباقون وإبراهيم بن حماد بالهمزة لأنه جواب الشرط ، ومن شرطه أن يهمز كل ما كان نسقاً أي عطفاً على المجزوم أو جواباً للمجزوم كل القرآن مثل قوله عز وجل { إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم } وقوله { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } وأشباه ذلك { فقد ضل } بالإظهار : حجازي غير ورش وعاصم غير الأعشى ، وكذلك يظهرون الدال عند الذال والظاء حيث وقعتا مثل قوله تعالى : { فقد ظلم } { ولقد ذرأنا } وأشباه ذلك .
الوقوف : { واسمعوا } ( ط ) { أليم } ( 5 ) { من ربكم } ( ط ) { من يشاء } ( ط ) { العظيم } ( 5 ) { أو مثلها } ( ط ) { قدير } ( 5 ) { والأرض } ( ط ) { ولا نصير } ( 5 ) ربع الجزء { ومن قبل } ( ط ) { السبيل } ( 5 ) .
التفسير : لما شرح الله تعالى قبائح أفعال السلف من اليهود ، شرع في قبائح أخلاق المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجدّهم واجتهادهم في القدح فيه والطعن في دينه ، واعلم أن الله تعالى خاطب المؤمنين في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن . قال ابن عباس : وكان يخاطب في التوراة ب « يا أيها المساكين » فكأنه سبحانه لما خاطبهم أولاً بالمساكين أثبت لهم المسكنة آخراً حيث قال { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } [ البقرة : 61 ] وهذا يدل على أنه تعالى لما خاطب هذه الأمة بالإيمان أوّلاً فإنه تعالى يعطيهم الأمان من العذاب آخراً { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلاً كبيراً } [ الأحزاب : 47 ] ، ولا سيما فإن المؤمن اسم من أسمائه العظام ، ففيه دليل على أنه تعالى يقرّبهم منه في دار السلام . وقيل : آمنوا على الغيبة نظراً إلى المظهر وهو « الذين » ولو قيل آمنتم نظراً إلى النداء جاز من حيث العربية ، ثم إنه لا يبعد في الكلمتين المترادفتين أن يمنع الله من إحداهما ويأذن في الأخرى ومن هنا قال الشافعي : لا تصح الصلاة بترجمة الفاتحة عربية كانت أو فارسية .
فلا يبعد أن يمنع الله من قول { راعنا } ويأذن في قول { انظرنا } وإن كانا مترادفين . ولكن جمهور المفسرين على أنه تعالى إنما منع من قول { راعنا } لاشتماله على مفسدة . ثم ذكروا وجوهاً منها : أن المسلمين كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ألقي عليهم شيئاً من العلم راعنا يا رسول الله ، واليهود كانت لهم كلمة عبرانية يتسابون بها تشبه هذه الكلمة وهي « راعينا » ومعناها « اسمع لا سمعت » كما صرح بذلك في سورة النساء { ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا }
[ النساء : 46 ] فإن الجميع كأنها متقاربة فلما سمعوا المسلمين يقولون « راعنا » افترصوه وخاطبوا به الرسول وهم يعنون المسبة ، فنهى المؤمنون عنها وأمروا بلفظة أخرى وهي { انظرنا } . روي أن سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله عليكم لعنة الله ، والذي نفسي بيده إن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأضربن عنقه ، فقالوا : أولستم تقولونها؟ فنزلت ، ومنها قال قطرب : هذه الكلمة وإن كانت صحيحة المعنى إلا أن أهل الحجاز كانوا يقولونها عند الهزء والسخرية فلا جرم نهى الله عنها ، وقيل : إن اليهود كانوا يقولون « راعينا » أي أنت راعي غنمنا فنهاهم عنه . وقيل : إن هذه اللفظة لكونها من باب المفاعلة ، تدل علىلمساواة بين المتخاطبين كأنهم قالوا : أرعنا سمعك لنرعيك أسماعنا فنهوا عنه { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً } [ النور : 63 ] وقيل : « راعنا » خطاب مع الاستعلاء أي راع كلامي ولا تغفل عنه ولا تشتغل بغيره ، وليس في { انظرنا } إلا سؤال الانتظار . وقيل : إنها تشبه اسم الفاعل من الرعونة والحمق ، فيحتمل أنهم أرادوا به المصدر كقولهم « عائذاً بك » أي أعوذ عياذاً . فقولهم { راعنا } أي فعلت رعونة ، ويحتمل أنهم أرادوا صرت راعنا أي ذا رعونة ، فلمكان هذه الوجوه الفاسدة نهى الله عنها ، وقيل : المراد لا تقولوا قولاً راعناً أي منسوباً إلى الرعن كدارع ولابن ، ومنه قراءة الحسن { راعناً } بالتنوين . وانظرنا من نظره إذا انتظره { انظرونا نقتبس من نوركم } [ الحديد : 13 ] أمرهم الله تعالى أن يسألوه صلى الله عليه وسلم الإمهال لينقلوا عنه فلا يحتاجون إلى الاستعادة كأنهم قالوا له : توقف في كلامك وبيانك مقدار ما يصل إلى أفهامنا . وهذا القدر غير خارج عن قانون الأدب فقد يلتمسه المتعلم حرصاً منه على أن لا يفوت منه شيء من الفوائد وإن كان المعلم غير مهمل دقائق التفهيم والإرشاد من التثبت والتأني والإعادة إن احتيج إليها ونحو ذلك . وقيل : انظرنا معناه انظر إلينا مثل { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أي من قومه . والغرض أن المعلم إذا نظر إلى المتعلم كانت إفاضته عليه أظهر وأقوى . وفي قراءة أبيّ { انظرنا } من النظرة أي أمهلنا حتى نحفظه . { واسمعوا } معناه أحسنوا سماع كلام نبيكم بآذان واعية وأذهان حاضرة حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة وطلب المراعاة ، أو اسمعوا سماع قبول وطاعة لا كاليهود حيث قالوا سمعنا وعصينا ، أو اسمعوا ما أمرتم به ولا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه من قول راعنا ، وللكافرين ولليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه عذاب أليم قوله { ما يود } الآية . « من » الأولى للبيان ، لأن { الذين كفروا } جنس تحته نوعان : أهل الكتاب والمشركون . كقوله { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين }
[ البينة : 1 ] « ولا » مزيدة لتأكيد النفي وقرئ { ولا المشركون } والثانية مزيدة لاستغراق الخير ف { أن ينزل } في سياق النفي : فمعنى ما يود أن ينزل يود أن لا ينزل . والثالثة لابتداء الغاية ، والخير الوحي وكذلك الرحمة { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرفة : 32 ] والمعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحى إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي ، ولا أثر لهذا الحسد فإن الله يختص بالنبوة من يشاء ولا يكون إلا ما يشاء ، وما يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة . { والله ذو الفضل العظيم } والفضل والفضيلة خلاف النقص والنقيصة ، والإفضال والإحسان ، وفيه إشعار بأن إيتاء النبوة من غاية الإحسان وأنهار شحة من بحار كماله { إن فضله كان عليك كبيراً } [ الإسراء : 87 ] .
قوله عز من قائل { وما ننسخ من آية } نوع ثان من تقرير مطاعن اليهود خذلهم الله في الإسلام . روي أنهم قالوا : ألا ترون إلى محمد صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه ، ويقول اليوم قولاً ويرجع عنه غداً فنزلت . وفي الآية مسائل :
الأولى : النسخ لغة هو الإزالة ، يقال : نسخت الشمس الظل أي أزالته . والنقل أيضاً وهو أ ن يغير الشيء في صفته وحاله مع بقائه في نفسه ، ومنه نسخت الكتاب ، والمناسخات في المواريث لانتقال التركة من قوم إلى قوم . فقيل مشترك بينهما ، وقيل حقيقة في الأول مجاز في الثاني ، وقيل بالعكس . وفي الاصطلاح : هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر ، فيخرج المباح بحكم الأصل إذا ورد الشرع بضده رافعاً لإباحته فإنه لا يسمى نسخاً إذ ليس رفع حكم شرعي ويخرج أيضاً الرفع بالنور والغفلة لأن ذلك الرفع ليس بمجرد الدليل الشرعي وهو « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان » ونحوه ، بل يقتضيه العقل أيضاً بخلاف الرفع بنحو « دعي الصلاة أيام أقرائك » فإنه لا مجال للعقل فيه . ويخرج الرفع بنحو « صم إلى آخر الشهر » فإن « إلى » أوجبت مخالفة حكم ما بعدها لما قبلها إلا أنها لا تسمى نسخاً لأنه ليس متأخراً ، ويمكن أن يقال : إن قيد متأخر إنما ينبغي أن يذكر لأن دليل النسخ لا يكون إلا كذلك . ونحو « صم إلى كذا » وأمثاله من أنواع التخصيص متصلاً كان أو منفصلاً ، إنما خرج بقيد الرفع لأن رفع الحكم إنما يكون بعد إرادة حصوله على المكلف ، والتخصيص ليس كذلك لأن صورة التخصيص غير مرادة من اللفظ بل التخصيص مبين لمراد الشارع من العام . ونعني بالحكم ههنا ما يحصل على المكلف بعد أن لم يكن ، فإن الوجوب المشروط بالعقل الذي هو مناط التكليف لم يكن حاصلاً عند انتفاء العقل والموقوف على الحادث حادث . وإذا كان المراد بالحكم هذا فلا يرد قول المعتزلة الحكم عندكم قديم فكيف يرتفع؟ وذلك أنا عنينا بالحكم تعلق الخطاب بعدما لم يتعلق وهذا محدث يرتفع .
وأيضاً نقطع بأنه إذا ثبت تحريم شيء بعد وجوبه انتفى الوجوب الثابت أولاً وهو المعنى بالرفع ، ويحسن أيضاً أن يقال : النسخ بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي متراخ ، فيخرج بقولنا « شرعي » بيان انتهاء حكم عقلي كالبراءة الأصلية ، و « بطريق شرعي » يخرج به بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق عقلي كانتساخ القيام عمن ينكسر رجله . وقولنا « متراخ » ليخرج التخصيص بالغاية . ومن هذا يعلم تعريف الناسخ والمنسوخ ، ومعنى بيان انتهاء الحكم أن الخطاب السابق له غاية في علم الله تعالى ، فإذا انتهى إلى تلك الغاية زال بذاته ، ثم ورد الخطاب اللاحق بياناً لذلك .
المسألة الثانية : انعقد الإجماع من أكثر أرباب الشرائع ومن المسلمين خاصة على جواز النسخ عقلاً وعلى الوقوع شرعاً ، وخالف اليهود في الجواز ، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين في الوقوع لا الجواز . لنا القطع بالجواز ضرورة فإن له تعالى أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير النظر إلى حكمة ومصلحة ، وإن اعتبرت المصالح فالقطع أن المصلحة قد تختلف باختلاف الأوقات فهذا ما يدل على جواز النسخ . وفي التوراة أنه أمر آدم بتزويج بناته من بنيه وقد حرم ذلك في شريعة من بعده باتفاق ، وهذا ما يدل على وقوعه ، وكيف لا وقد ثبت بالدلائل القاطعة والمعجزات الباهرة نبوته محمد صلى الله عليه وسلم ، وبصحة نبوته يلزم نسخ شرع من قبله . ولم يكن لليهود والنصارى نص صريح يعلم منه أمد شرعهم على التعيين حتى يلزم أن يكون شرع نبينا انتهاء غاية لا نسخاً . حجة اليهود لو نسخت شريعة موسى لبطل قول موسى المتواتر « هذه شريعة مؤبدة عليكم بها ما دامت السموات والأرض » وأيضاً إن كان نسخ الحكم الشرعي لحكمة ظهرت له تعالى لم تكن ظاهرة فهو البداء وإلا فعبث وكلاهما محال على الله تعالى ، إذ البداء عبارة عن الظهور بعد الخفاء والعبث فعل لا يستتبع غاية . والجواب عن الأول المنع من أنه قول موسى عليه السلام ، ويؤكده أنه لو كان هذا القول صحيحاً عندهم لقضت العادة بقوله لرسولنا صلى الله عليه وسلم ولحاجوه بذلك ، لكن اليهود لم يتمسكوا به في عهده فدل ذلك على أنه إفك افتراه المتأخرون منهم . وعن الثاني بعد تسليم اعتبار المصالح أنها تختلف باختلاف الأزمان والأحوال كمنفعة شرب دواء في حال وضرره في آخر ، بل الزمان الممتد من الأزل إلى الأبد قد وزع أجزاؤه فيما لم يزل على الجزئيات الواقعة فيها الصادرة شيئاً فشيئاً بحسب وقت وقت لا لمصلحة تعود إليه تعالى بل لما هو أصلح بالنسبة إلى المتزمنات . فالظهور والخفاء والسابق واللاحق ، والإعدام والإيجاد ، كلها بالنسبة إلينا ، وأما بالنسبة إلى حضرة الواجب جل ذكره فقد جف القلبم بما هو كائن إلى يوم الدين .
والحاصل أن كل حكم فله غاية في علم الله تعالى ، ولكن قد يظن المكلف استمراره في الاستقبال من قرائن الأحوال ، فإذا ورد ما يبين أمده ونص له على زواله فذلك الوارد ناسخ والأول منسوخ والورود نسخ ، وكل هذه التجددات بالنسبة إلى المكلف ، وأما بالإضافة إليه تعالى فكل من الحكمين موجود في وقته الذي قدر له فيه الظهور متقدماً أحدهما ومتأخراً الآخر . وليس هذا في الأحكام فقط وإنما ذلك في كل حادث ، فمن تأمل نسخة الوجود ونسب الحوادث المتفاوتة بعضها إلى بعض بالتقدم والتأخر والمعية ، وجد وجوداتها المترتبة أشبه شيء بكتاب يقرؤه القارئ سطراً بعد سطر ، وكلمة تلو كلمة ، إذا انقضى مجموع من ذلك تلاه مجموع آخر حسب ما رتبه الحكيم العليم بمبادئه ومقاطعه ، فالمنقضي في حكم المحو ، والتالي في حكم الإثبات ، والهيئة الاجتماعية بدون اعتبار التلاوة المستلزمة لانقضاء شيء وظهور ما يعقبه هي أم الكتاب ، وهذا سر قوله عز من قائل { يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب } [ الرعد : 39 ] ولك أن تعبر عن المجموع الدفعي بالقضاء وعن ظهوره التدريجي بالقدر وفي هذا القدر كفاية للفطن المستبصر .
المسألة الثالثة : اتفقوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه : أحدها : هذه الآية أعني ما ننسخ من آية . وأجاب أبو مسلم بأن المراد بالآيات المنسوخة الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله عنا وتعبدنا بغيره ، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، فأبطل الله ذلك عليهم بهذه الآية . وأيضاً لعل المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب . وأيضاً إن ما ههنا يفيد الشرط والجزاء ، وكما أن قولك « من جاءك فأكرمه » لا يدل على حصول المجيء بل على أنه متى جاء وجب الإكرام ، فكذا هذه الآية لا تدل على حصول النسخ بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه وثانيها : الاعتداد بالحول في قوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول } [ البقرة : 240 ] نسخ بأربعة أشهر وعشر في قوله { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] أجاب أبو مسلم بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً ، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا نسخاً . ورد بأن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل بسنة أو أقل أو أكثر ، فجعل السنة مدة للعدة يكون زائلاً بالكلية . وثالثها : { إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة }
[ المجادلة : 12 ] منسوخة بالاتفاق ، أجاب بأنه زال لزوال سببه ، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز المنافقون عن المؤمنين . ورد بأنه يلزم منه أن من لم يتصدق كان منافقاً وهو باطل ، لما روي أنه لم يتصدق غير علي عليه السلام ، وبدليل { فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم } [ المجادلة : 13 ] ورابعها : الأمر بثبات الواحد للعشرة في قوله { فإن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] ثم نسخ ذلك بقوله { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 66 ] وخامسها : تحويل القبلة . قال أبو مسلم : حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ، أو مع العلم إذا كان هناك عذر . ورد بأن بيت المقدس وسائر الجهات في ذلك سواء . وسادسها : { وإذا بدلنا آية مكان آية } [ النحل : 101 ] والتبديل يشتمل على رفع وإثبات ، والمرفوع إما التلاوة وإما الحكم . وكيفما كان فهو رفع ونسخ ، فهذه الدلائل وأمثالها تدل على وقوع النسخ في الجملة . حجة أبي مسلم { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] والجواب أن الضمير للمجموع ، وأيضاً نسخة بالنسبة إلى المكلف لا ينافي حقيته في نفسه وكونه قرآناً عربياً .
المسألة الرابعة : المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط كالآيات المعدودة ، أو التلاوة فقط كما يروى عن عمر أنه قال : كنا نقرأ آية الرجم « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم » وروي « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى إليهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب » ، أو الحكم والتلاوة معاً كما روي عن عائشة « كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ثم نسخن بخمس » فالعشر مرفوع التلاوة والحكم جميعاً ، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم . ويروى أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع النقصان .
ولنرجع إلى تفسير الآية { ما ننسخ } محمول على نسخ الحكم وإزالته دون التلاوة ، أو ننسها على نسخ الحكم والتلاوة جميعاً . وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب وذلك بأن تخرج من جملة ما يتلى ويقرأ في الصلاة ، أو يحتج به ، فإذا زال حكم التعبد به وطال العهد نسي ، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد ، فتصير بهذا الوجه منسية من الصدور أو يكون ذلك معجزة له صلى الله عليه وسلم كما يروى أنهم كانوا يقرأون السورة فيصبحون وقد نسوها . قال عز من قائل { سنقرئك فلا تنسى . إلا ما شاء الله } [ الأعلى : 6 ، 7 ] وإنساخ الآية الأمر بنسخها وهو أن يأمر جبريل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها ، ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل . وقيل : ما ننسخ من آية أي نبدلها إما بأن نبدل حكمها فقط ، أو تلاوتها فقط ، أو نبدلهما ، أو ننسها نتركها كما كانت ولا نبدلها ، لأن النسيان قد يجيء بمعنى الترك .
وقيل : ما ننسخ من آية ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها بالهمزة نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ ، أو نؤخر نسخها فلا ننسخها في الحال فإنا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة . ولا يخفى أن قوله { نأت بخير منها أو مثلها } لا ينطبق على هذين القولين كما ينبغي . ومعنى الآية عند جمهور المفسرين آية القرآن ، وعند أبي مسلم التوراة والإنجيل كما مر . وقد عرفت أنه يمكن حملها على معنى أعم ، فكل مجموع من الوجود في كل زمان من الأزمنة آية من صحيفة المخلوقات ، وكل فرد من ذلك المجموع كلمة من كلمة الله { قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي } [ الكهف : 109 ] ومعنى { نأت بخير منها أو مثلها } إن حملنا الآية على ما يتضمن حكماً على المكلف أن الثاني أخف أو أصلح بالنسبة إلى وقته كما أن الأول كان أصلح بالإضافة إلى وقته . فالثاني خير بالنسبة إلى وقته ، ومثل الأول بالنسبة إلى وقته ، أو يراد أن العمل بالثاني أكثر ثواباً من العمل بالأول أو مساوٍ له ، فكل منهما قد تقتضيه الحكمة دون ما هو أقل ثواباً ، وإن حملنا الآية على غير ذلك فيتعين الأصلح . قال أهل الإشارة أراد بالنسخ نقل السالك وترقيه من حال إلى حال أعلى منه ، وإن غصن استكمالهم أبداً ناضر ، ونجم وصالهم دائماً زاهر ، فلا ينسخ من آثار عباداتهم شيء إلا أبدل منها أشياء من أنوار العبودية ، ولا ينسخ شيء من أنوار العبودية إلا أقيم مكانها أشياء من أقمار الربوبية . وأيضاً إنهم يشاهدون بعض الوقائع الشريفة في الصور اللطيفة كسبتها المتخيلة بحسب صفاء الوقت وعلو المقام ، فلما ارتقوا إلى مقام آخر لا يشاهدون ذلك بتلك المشاهدة ، فيظن السالك الغر أنه حجب عن ذلك المقام أو الحال ، فقيل : ما ننسخ من آية من آيات المقامات ، أو ننسها بأن نمحوها من إدراك الخيال ، نأت بخير من تلك المشاهدة أو مثلها . ثم الأئمة استنبطوا من الآية مسائل : الأولى : زعم قوم أنه لا يجوز نسخ الحكم لا إلى بدل لقوله { نأت بخير منها أو مثلها } والجمهور على خلافه لأن الآية لا تدل إلا على وجوب الإتيان بآية أخرى ، أما على وجوب الإتيان بحكم آخر فلا . سلمنا لكنه مخصوص بنسخ تقديم الصدقة بين يدي النجوى ، وبنسخ وجوب الإمساك بعد الفطر من غير بدل . سلمنا عدم تخصيصه لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك البدل عدم الحكم الذي رفع بالنسخ ويكون نسخه بغير بدل وجودي خيراً للمكلف لمصلحة علمت . الثانية : زعم قوم أن النسخ لا يجوز بأثقل ، لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله .
وردّ الجمهور عليهم بأن المراد كثرة الثواب وذلك لا ينافي كونه أثقل « أجرك على قدر نصبك » وأيضاً قد وقع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بالصوم حتماً ، وصوم عاشوراء برمضان ، والحبس في البيوت للزاني بالحد . وأما النسخ إلى الأخف فكنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر ، وكنسخ صلاة الليل إلى التخيير فيها . وأما نسخ الشيء إلى المثل فكالتحويل من بيت المقدس إلى الكعبة . الثالثة : عن الشافعي أن الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة لقوله { نأت بخير منها } وذلك يدل على أن المأتي به من جنسه كما إذا قال الإنسان « ما آخذ منك من ثوب آتك بخير منه » يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه ، وجنس القرآن قرآن . وأيضاً { نأت } يدل على أن الآتي هو الله لا الرسول . وأيضاً المأتي به خير والسنة لا تكون خيراً من القرآن . وأيضاً قوله { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } دل على أن الآتي بذلك الخير هو القادر على جميع الخيرات وعلى تصريف المكلف تحت مشيئته وإرادته ، لا دافع لما أراد ولا مانع لما شاء وذلك هو الله تعالى . وأجيب بأن قوله { نأت بخير منها } ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخاً ، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئاً مغايراً للناسخ يحصل بعد حصول النسخ وذلك أن الإتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى ، فلو كان نسخ تلك الآية مرتباً على الإتيان بذلك الخير لزم الدور . قلت : ويمكن دفع الدور بأن يقال : المراد ما أردنا نسخها من آية نأت بخير منها حتى ننسخها . ثم احتج الجمهور على وقوع نسخ الكتاب بالسنة بأن آية الوصية للأقربين منسوخة بقوله « ألا لا وصية لوارث » وبأن آية الجلد صارت منسوخة بخبر الرجم . أجاب الشافعي : بأن كون الميراث حقاً للوارث يمنع من صرفه إلى الوصية ، فثبت أن آية الميراث مانعة من الوصية ، ولعل الرجم إنما ثبت بقوله تعالى « الشيخ والشيخة » الخ .
{ له ملك السموات والأرض } فهو يدبر الأمور ويجريها على حسب المصالح ، وهو أعلم بما يتعبد المكلفين به من ناسخ ومنسوخ . والخطاب في { ألم تعلم } إما للنبي صلى الله عليه وسلم فتدخل الأمة تبعاً ، أو لكل من له أهلية الخطاب . ومعنى الاستفهام فيه التقرير والإثبات لظهور آثار قدرته ووضوح آيات ملكه وسلطانه . وقيل : إشارة إلى ما شاهد ليلة المعجزات بعين اليقين ثم علمها حق اليقين ، فترقى من رؤية الآيات إلى كشف الصفات ، ومن كشف الصفات إلى عيان الذات ، ثم نسخت عن الخيال وأثبتت في العيان . والولي ضد العدو ، وكل من ولي أمر واحد فهو وليه ، فعيل بمعنى فاعل وكذا النصير . والواو في { وما لكم } يحتمل أن تكون للاعتراض فلا محل للجملة ، ويحتمل أن تكون للعطف على { له ملك السموات } فيدخل تحت الاستفهام ، ويكون قوله { من دون الله } من وضع الظاهر موضع الضمير ولا يوقف على { والأرض } .
{ أم تريدون } قيل : الخطاب للمسلمين لقوله { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } وهذا لا يصح إلا في حق المؤمنين ، ولأن « أم » للعطف ولا معطوف ظاهراً . فالتقدير : وقولوا انظرنا واسمعوا ، فهل تفعلون هذا كما أمرتم { أم تريدون أن تسألوا رسولكم } ولأنه سأل قوم من المسلمين أن يجعل صلى الله عليه وسلم لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة وهذا قول الأصم والجبائي وأبي مسلم . وقيل : إنه خطاب لأهل مكة وهو قول ابن عباس ومجاهد إن عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط من قريش فقال : يا محمد ، ما أؤمن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ، أو يكون لك بيت من زخرف ، أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً من الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فاتبعوه . فقال له بقية الرهط : فإن لم تستطع ذلك فأتنا بكتاب من عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله كما سأله السبعون ، وعن مجاهد : أن قريشاً سألت محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهباً . فقال : نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا . وقيل : المراد اليهود لأن هذه السورة من أول قوله { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } حكاية عنهم ومحاجة معهم ، ولأن الآية مدنية ، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم ، ولأن المؤمن بالرسول لا يكاد يسأل ما يتبدل كفراً بإيمان ، وليس في ظاهر الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفية السؤال ، بل المرجع فيه إلى الروايات المذكورة . وههنا بحث وهو أن السؤال الذي ذكروه إن كان طلباً للمعجزات فمن أين أنه كفر؟ ومعلوم أن طلب الدليل علىلشيء لا يكون كفراً وإن كان ذلك طلباً لوجه الحكمة التفصيلية في نسخ الأحكام ، فهذا أيضاً لا يكون كفراً فإن الملائكة طلبوا الحكمة التفصيلية في خلق البشر ولم يكن ذلك كفراً . فالتفكير إما لأنهم طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة ، وإما لأنهم طلبوا المعجزات على وجه التعنت واللجاج . قلت : والأصوب في الآية أن يكون { أم تريدون } معطوفاً على { ألم تعلم } على أنه خطاب لكل مكلف ، فيكون في معنى الجمع .
ثم « أم » إما أن تكون متصلة على معنى أي الأمرين كائن فإن العلم واقع بكون أحدهما لأنه إما أن لا يعلم نفوذ علمه وقدرته وأن الكل تحت قدرته وقهره وتسخيره ، وإما أن يعلم فيسأل وجه الحكمة في النسخ وغيره على سبيل العناد وكلا الأمرين يوجب التكفير . أما الأول فظاهر ، وأما الثاني فلأن المعترف بحكمته البالغة وعنايته الشاملة ورأفته الكاملة وقدرته الظاهرة من حقه أن يقتصر على علمه الإجمالي ولا يتخطى مقام الأدب في البحث والتفتيش عن تفاصيل حكمته التي لا تكاد تنحصر . ويوهم أن السائل في شك مما أمر به أو نهي عنه ، وعلى هذا لا يوقف على نصير . وإما منقطعة على أنه أضرب عن الاستفهام الأول واستأنف استفهاماً ثانياً ، ويحتمل أن لا يكون قوله { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } حكماً بتكفيرهم بسبب السؤال بل يكون تنبيهاً للمكلفين ، على أن السؤال عما لا يهم لهم مما قد ينجر إلى الغواية لكثرة عروض الشكوك والشبهات حتى يقفوا على الاعتقاد الحق والتقليد الصرف فيما لا سبيل إلى درك تفاصيله أو لا يهم معرفتها . وسواء السبيل وسطه وهو الصراط المستقيم الذي مر تفسيره .
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
القراآت : قد سلفت .
الوقوف : { كفاراً } ( ج ) لأن { حسداً } مصدر محذوف أي يحسدون حسداً ، أو حال أو مفعول له وهو أوجه والوصل أجوز { الحق } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين { بأمره } ( ط ) { قدير } ( 5 ) { الزكاة } ( ط ) لأن ما للشرط والشرط مصدر { عند الله } ( ط ) { بصير } ( 5 ) { أو نصارى } ( ط ) { أمانيهم } ( ط ) { صادقين } ( 5 ) { عند ربه } ( ص ) لعطف الجملتين المتفقتين { يحزنون } ( 5 ) { النصارى على شيء } ( ص ) لا لعطف الجملتين المتفقتين { على شيء } ( ص ) لأن الواو للحال { الكتاب } ( ط ) { مثل قولهم } ( ج ) لأن { فالله } مبتدأ مع فاء التعقيب { يختلفون } ( 5 ) .
التفسير : هذا نوع آخر من مكايد اليهود . روي أن فنحاص بن عازوراء وزيد بن قيس ونفراً من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد : ألم تروا ما أصابكم ، ولو كنتم على الحق ما هزمتم فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم وأفضل ونحن أهدى منكم سبيلاً . فقال عمار : كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا شديد . قال : فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت . فقالت اليهود : أما هذا فقد صبأ . وقال حذيفة : وأما أنا فقد رضيت بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخواناً . ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبراه فقال : أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت . و { كفاراً } نصب على الحال ، أو مفعول ثانٍ ل « يردون » على أنه بمعنى « صير » والحسد من أقبح الخصال الذميمة قال صلى الله عليه وسلم « الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب » وقال : « إن لنعم الله أعداء قيل : وما أولئك؟ قال : الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله » وقال « ستة يدخلون النار قبل الحساب : الأمراء بالجور ، والعرب بالعصبية ، والدهاقين بالتكبر ، والتجار بالخيانة ، وأهل الرستاق بالجهالة ، والعلماء بالحسد » وروي أن موسى لما ذهب إلى ربه رأى في ظل العرش رجلاً يغتبط بمكانه فقال : إن هذا لكريم على ربه ، فسأل ربه أن يخبره باسمه فلم يخبره باسمه وقال : أحدثك من عمله ثلاثاً : كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعق والديه ، ولا يمشي بالنميمة ، ويحكى أن عبد الله بن عون دخل على الفضل بن المهلب ، وكان يومئذ على واسط فقال : إني أريد أن أعظك بشيء : إياك والكبر فإنه أول ذنب عصى الله به إبليس ثم قرأ { فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة ، أمكنه الله من جنة عرضها السموات والأرض فأكل منها فأخرجه الله ثم تلا { اهبطا منها } [ طه : 123 ] وإياك والحسد فإنه قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ
{ واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق } [ المائدة : 27 ] وقال ابن الزبير : ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا ، لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حقيرة في الجنة ، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ واعلم أنه إذا أنعم الله على أخيك بنعمة فإن أردت زوالها فهذا هو الحسد المحرم الذي ذم الله تعالى صاحبه في هذه الآية وغيرها { أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله } [ النساء : 54 ] { إن تمسسكم حسنة تسؤهم } [ آل عمران : 120 ] { ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا } [ يوسف : 8 ] وإن اشتهيت لنفسك مثلها فهذا هو الغبطة والمنافسة المشتقة من النفاسة وليست بحرام لقوله تعالى { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } [ المطففين : 26 ] { سابقوا إلى مغفرة من ربكم } [ الحديد : 21 ] وقال صلى الله عليه وسلم « لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالاً وأنفقه في سبيل الله ، ورجل آتاه الله علماً فهو يعمل به ويعلم الناس » وهذا يدل على أن الحسد قد يطلق على المنافسة ، وقد تكون واجبة إذا كانت النعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة ، وقد تكون مندوبة في نحو الإنفاق في سبيل الله وتشهي العلم والتعليم ، وقد تكون مباحة . وللحسد مراتب أربع : الأولى ، أن يحب زوال النعمة عنه وإن لم تحصل له وهذه أخبث . الثانية : أن يحب زوالها عنه إليه كرغبته في داره الحسنة أو امرأته أو ولايته فالمطلوب بالذات حصولها له ، فأما زوالها عن غيره فمطلوب بالعرض . الثالثة : أن لا يشتهي زوالها بل يشتهي لنفسه مثلها ، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلا يظهر التفاوت بينهما . الرابعة : ن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم يحصل فلا يحب زوالها عنه . وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا ، والمندوب إليه إن كان في الدين ، والثالثة منها مذموم وغير مذموم ، والثانية أخف والأولى أخبث قال تعالى : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] تمنيه لمثل ذلك غير مذموم وتمنيه لعين ذلك مذموم . وأسباب الحسد سبعة : أولها العداوة والبغضاء ، فإن من آذاه إنسان أبغضه قلبه وغضب عليه وتولد منه الحقد المنشئ للتشفي والانتقام ، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى منه بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان كما قال عز من قائل { إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها } [ آل عمران : 120 ] . وربما أفضى هذا الحسد إلى التنازع والتقاتل ، وثانيها التعزز فإن واحداً من أمثاله إذا نال منصباً عالياً فترفع عليه وهو لا يمكنه تحمل ذلك ، أراد زوال ذلك المنصب عنه . وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره فإنه قد رضي بمساواته . وثالثها : أن يكون في طبعه أن يستخدم غ يره فيريد زوال النعمة من ذلك الغير ليقدر على ذلك الغرض
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] { أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 53 ] كالاستحقار لهم والأنفة منهم . ورابعها : التعجب { أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم } [ الأعراف : 63 ] وخامسها : الخوف من فوت المقاصد وذلك يتحقق من المتزاحمين على مقصود واحد ، كتحاسد الضرائر في التزاحم على مقاصد الزوجية ، وتحاسد الإخوة في التزاحم على نيل المنزلة عند الأبوين ، وتحاسد الوعاظ المتزاحمين على أهل بلدة . وسادسها : حب الرياسة كمن يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون ، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم ساءه ذلك وأحب موته ، فإن الكمال محبوب لذاته وضد المحبوب مكروه . ومن جملة أنواع الكمال التفرد بالكمال لكن هذا يمتنع حصوله إلا لله تعالى ، ومن طمع في المحال خاب وخسر . وسابعها : شح النفس بالخير على عباد الله ، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة ولا تكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله شق عليه ذلك ، وإذا وصف اضطراب أمور الناس وإدبارهم فرح به ، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزائنه ، وهذا ليس له سبب ظاهر سوى خبث النفس كما قيل : البخيل من بخل بمال غيره . وقد يجتمع بعض هذه الأسباب فيعظم الحسد ويتقوى بحسبه ، وقلما يقع التحاسد إلا في الأمور الدنيوية ، لأن الدنيا لا تفي بالمتزاحمين . وأما الآخرة فلا ضيق فيها فلهذا لا يكون تحاسد بين أرباب الدين وأصحاب اليقين ، وإنما يكونون بلقاء إخوانهم مستأنسين وببقاء أقرانهم فرحين { ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين } [ الحجر : 47 ] وأما علاج الحسد فأمران : العلم والعمل . أما العلم ففيه مقامان : إجمالي وهو أن يعلم أن الكل بقضاء الله وقدره ، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ، لا يرده كراهية كاره ولا يجره إرادة مريد . وتفصيلي وهو العلم بأن الحسد قذى في عين الإيمان حيث كره حكم الله وقسمته في عباده وغش للإخوان ، وعذاب أليم ، وحزن مقيم ، ومورث للوسواس ، ومكدر للحواس . ولا ضرر على المحسود في دنياه لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك ، ولا في دينه بل ينتفع به لأنه مظلوم من جهتك فيثيبه الله على ذلك . وقد ينتفع في دنياه أيضاً من جهة أنك عدوه ، ولا يزال يزيد غمومك وأحزانك إلى أن يقضي بك إلى الدنف والتلف .
اصبر على مضض الحسو ... د فإن صبرك قائله
النار تأكل نفسها ... إن لم تجد ما تأكله
وقد يستدل بحسد الحاسد على كونه مخصوصاً من الله تعالى بمزيد الفضائل .
لا مات أعداؤك بل خلدوا ... حتى يروا منك الذي يكمد
لا زلت محسوداً على نعمة ... فإنما الكامل من يحسد
والحاسد مذموم بين الخلق ، ملعون عند الخالق ، مشكور عند إبليس وأصدقائه ، مدحور عند الخالق وأوليائه ، فهل هو إلا كمن رمى حجراً إلى عدو ليصيب به مقتله فلا يصيبه بل يرجع على حدقته اليمنى فيقلعها ، فيزداد غضبه فيعود ثانياً فيرميه أشد من الأول فيرجع على عينه الأخرى فيعميه فيزداد غيظه ، فيعود ثالثاً فيرجع على رأسه فيشدخه ، وعدوه سالم في كل الأحوال وقد عاد عليه الوبال وأعداؤه حواليه يفرحون ويضحكون؟ هذا له في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأبقى . وأما العمل فهو أن يأتي بالأفعال المضادة لمقتضيات الحسد ، فإن بعثه الحسد على القدح فيه كلف لسانه المدح له ، وإن حمله على التكبر عليه كلف نفسه التواضع له ، وإن حمله على قطع أسباب الخير سعى في إيصال الخير إليه حتى يصير المحسود محبوباً محباً له ، { فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم } [ فصلت : 34 ] ، وذلك التكلف يصير بالآخرة طبعاً والله الموفق . واعلم أن النفرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه ، فكيف يعاقب عليه؟ وإنما الاخل تحت التكليف رضاه بتلك النفرة ثم إظهار آثارها من القدح فيه والقصد إلى إزالة النعمة عنه وجر أسباب المحنة إليه ، ثم إن اليهود كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعدما تبين لهم أن الإيمان صواب وحق ، فألقوا إليهم ضربين من الشبهة لعلمهم أن المحق لا يعدل عن الحق إلا بالشبهة أحدهما ما يتصل بالدنيا وهو قولهم لهم قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم وذهباب أموالكم واستمرار الخوف عليكم ، فاتركوا إيمانكم الذي ساقكم إلى هذه . الثاني في باب الدين بالقدح في المعجزات وتحريف التوراة .
قوله { من عند أنفسهم } إما أن يتعلق ب { ود } أي تمنوا ذلك من قبل شهوتهم لا من قبل التدين والميل مع الحق ، لأنهم ودوا ذلك من بعدما تبين لهم أنكم على الحق ، وإما أن يتعلق ب { حسداً } أي منبعثاً من أصل نفوسهم { فاعفوا واصفحوا } فاسلكوا معهم سبيل العفو والصفح بترك المقابلة والإعراض عن الجواب ، لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة لا دائماً بل { حتى يأتي الله بأمره } عن الحسن أنه المجازاة يوم القيامة ، وقيل قوة الإسلام وكثرة المسلمين ، والأكثرون على أنه الأمر بالقتال فعنده يتعين إما الإسلام وإما قبول الجزية ، وتحمل الذل والصغار . والآية منسوخة لأن الآية التي علق بها غير معلومة شرعاً فليس كقوله { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] بل يحل محل قوله { فاعفوا واصفحوا } إلى أن أنسخه عنكم . عن الباقر عليه السلام : إنه لم يؤمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال حتى نزل جبريل بقوله { أذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا } [ الحج : 39 ] وقلده سيفاً فكان أول قتال قتال أصحاب عبد الله بن جحش ببطن نخل وبعده غزوة بدر .
فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون والكفار حينئذ أصحاب قوة وشوكة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ قلنا : إن الرجل من المسلمين كان ينال الأذى فيقدر على بعض التشفي والإستعانة بسائر أصحابه ، فأمروا أن لا يهيجوا قتالاً وفتنة . وأيضاً القليل منهم كان يقاوم الكثير من المشركين { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } [ الأنفال : 65 ] وأيضاً جعل الصابر إلى القوة قوياً ليظهره على الدين كله . وقيل : المراد بالعفو والصفح حسن الاستدعاء واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق وترك التشدد ، وعلى هذا لا تكون الآية منسوخة . وكذا لو قيل : المراد بأمر الله قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير وإذلالهم بضرب الجزية عليهم { إن الله على كل شيء قدير } فهو يقدر على الانتقام منهم { وأقيموا الصلاة } تنبيه على أنه كما يلزمهم لحظ حال غيرهم بالعفو والصفح ، كذلك يلزمهم لحظ أنفسهم بأداء الواجبات من خير من حسنة صلوات أو صدقة فريضة أو تطوع ، فعمم بعدما خص تنبيهاً على أن الثواب لا يختص بالواجبات بل بها وبغيرها من الطاعات ، ولا بد من إضمار أي تحدوا ثوابه ، لأن وجدان عين تلك الأشياء غير مطلوب { إن الله بما تعملون بصير } لا يخفى عليه شيء من الأعمال وفيه ترغيب للمحسن وترهيب للمسيء { وقالوا لن يدخل الجنة } نوع آخر من تخليط أهل الكتاب اليهود والنصارى والضمير في { وقالوا } لهم والمعنى وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً وقالت النصارى لن يدخلها إلا من كان نصارى ، فضم بين القولين ثقة بأن السامع يرد إلى كل فريق ما قاله لما علم من تكفير كل واحد منهما صاحبه ومثله { وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا } [ البقرة : 135 ] والهود جمعم هائد كبازل وبزل وعائذ وعوذ ، والعائذ الحديثة النتاج من النوق ، والبازل الذي خرج نابه ، ووحد اسم « كان » حملاً على لفظ « من » وجمع خبره حملاً على المعنى ومثله { فلا أجره عند ربه ولا خوف عليهم } [ البقرة : 112 ] { تلك أمانيهم } على حذف المضاف أي أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، يريد أن أمانيهم جميعاً في البطلان مثل هذه وهي قولهم { لن يدخل الجنة } أو أشير بتلك إلى أن ودادتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم أمنية ، وودادتهم أن يردوهم كفاراً أمنية ، وقولهم { لن يدخل الجنة } أمنية أي تلك الأماني الباطلة أمانيهم ، وقوله { قل هاتوا برهانكم } متصل بقوله { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } و { تلك أمانيهم } اعتراض على هذا . وهات الشيء اسم فعل معناه أعط ، ويتصرف فيه بحسب المأمور هات ، هاتيا ، هاتوا ، هاتي ، هاتين ، وقيل : الصحيح أنه ليس باسم فعل وإنما الهاء فيه مبدلة من الهمزة ، وأصله آت من الإيتاء .
برهانكم حجتكم على اختصاصكم بدخول الجنة { إن كنتم صادقين } في دعواكم ، وفيه دليل واضح على أن المدعي نفياً أو إثباتاً لا بدل له من برهان وإلا فدعواه باطلة .
من ادعى شيئاً بلا شاهد ... لا بد أن تبطل دعواه
{ بلى } إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، وقوله { من أسلم } إلى آخره جملة شرطية مستأنفة ، ويجوز أن يكون { من أسلم } فاعلاً لفعل محذوف أي بلى يدخلها من أسلم ويكون قوله { فله أجره } كلاماً معطوفاً على يدخلها { من أسلم } وفيه إشارة إلى أن لهؤلاء الداخلين برهاناً وهو استسلام النفس وانقيادها لطاعة الله مع الإحسان وفيه ترغيب لهم في الإسلام وبيان لمفارقة حالهم حال من يدخل الجنة كأنه قيل لهم : أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنة ، بلى إن غيرتم طريقتكم وأسلمتم وجهكم لله وأحسنتم فلكم الجنة وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء من حيث إنه معدن الحواس وينبوع الفكر والتخييل ، فإذا تواضع الأشرف كان غيره أولى ، ولأن الوجه قد يكنى به عن النفس والذات { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] { إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى } [ الليل : 20 ] ولأن أعظم العبادات السجدة وهي إنما تحصل بالوجه . وهذا الإسلام أخص من الإسلام الذي ورد في الحديث « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً » لأن هذا عبارة عن الإذعان الكلي بجميع القوى والجوارح في كل الأحوال والأوقات ، وهو الإسلام الذي أمر به إبراهيم عليه السلام { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ويؤكد ذلك قوله { لله } أي خالصاً له لا يشوبه شرك فلا يكون عابداً مع الله غيره ولا معلقاً رجاءه بغيره ، وزاد التأكيد بقوله { وهو محسن } أي حال كونه محسناً في عمله ، ومعنى الإحسان هو الذي في الحديث « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ولا ريب أن العبادة على هذا الوجه لا تصدر إلا عن صدق النية وصفاء الطوية ، فإن مثول العبد بين يدي مولاه يشغله عن الالتفات إلى ما سواه ، فلا يقع قصده فيما هو فيه إلا لوجه الله فلا يصدر عنه شيء من السيئات ، وأما الطاعات والمباحات فتكون مقتضية لتزايد الحسنات ورفع الدرجات في الخبر « من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك ، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة » وذلك أن المتطيب إن كان قصده التنعم واستيفاء اللذات أو التودد إلى النسوان كان المتطيب معصية ، وإن كان قصده إقامة السنة ودفع الروائح المؤذية عن عباد الله وتعظيم المسجد فهو عين الطاعة ، وكذا الكلام في المناكح والمطاعم والمشارب .
والضابط أن كل ما فعلته لداعي الحق فهو العمل الحق ، وكل ما عملته لغير الله فحلالها حساب وحرامها عذاب ، روي أن رجلاً في بني إسرائيل مر بكثبان من رمل في مجاعة فقال في نفسه : لو كان هذا الرمل طعاماً لقسمته بين الناس . فأوحى الله تعالى إلى نبيه قل له : إن الله قد صدقك وشكر حسن نيتك وأعطاك ثواب ما لو كان طعاماً فتصدقت به . وليس النية أن يقول في نفسه أو بلسانه عند تدريسه أو تجارته « نويت أن أدرس لله أو أتجر لله » هيهات أنها لحديث نفس أو لسان وما ذاك إلا كقول الفارغ « نويت أن أعشق » وأما النية فهي انبعاث النفس وميلها إلى سلوك طريق الحق في كل فعل ، فاجتهد في تصيير ذلك ملكة لنفسك .
« وللناس فميا يعشقون مذاهب » ... فمنهم من يعمل لباعث الخوف من النار فله ذلك ، ومنهم من يعمل لباعث الطمع في الجنة وهم أكثر أهل الجنة لقصور هممهم عن طموح ما فوقها من الكمالات واللذات الحقيقيات أكثر أهل الجنة البله « ومنهم من يعمل لله فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ولما جمع الله تعالى أهل الكتابين في الآية المتقدمة ، فصل بينهما وبين قول كل فريق في حق الآخر ، والظاهر حمل لفظي اليهود والنصارى على العموم وإن كان السبب خاصاً لأن هذا اعتقاد كل واحد من كل من الطائفتين في حق الأخرى . روي أن وفد نجران لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم أحبار اليهود فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود : ما أنتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والإنجيل . وقالت النصارى لهم نحوه ، وكفروا بموسى والتوراة . ومعنى { على شيء } أي شيء يصح ويعتد به ، وفيه مبالغة عظيمة كقول العرب » أقل من لا شيء « عن ابن عباس : والله صدقوا . قلت : وذلك أن الإيمان بالله إنما يعتد به إذا كان مؤمناً برسوله وبكل ما أنزله { وهم يتلون الكتاب } الواو للحال والكتاب للجنس أي قالوا ذلك وحالهم أنهم من أهل العلم والتلاوة للكتب ، وحق من حمل التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله أن يؤمن بالباقي ولا يكفر به ، لأن جميع الكتب السماوية متواردة في تصديق بعضها بعضاً { كذلك } الكاف للتشبيه و { ذلك } إشارة إلى المذكور أي قولاً مثل الذي سمعت به { قال الذين لا يعلمون } و { مثل قولهم } مكرر للتأكيد ولطول الكلام بالموصول والصلة . والمراد بالذين لا يعلمون الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب كعبدة الأصنام القائلين إن المسلمين ليسوا على شيء وفيه توبيخ عظيم لهم حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم فقالوا قولاً عن التشهي والعصبية مثلهم { فالله يحكم بينهم } أي بين اليهود والنصارى يوم القيامة . عن الحسن : يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار ويجوز أن يرجع الضمير إلى الكافرين الذين يعلمون والذين لا يعلمون وإلى المسلمين ، ويحكم بين المحق والمبطل فيما اختلفوا فيه ، فينتصر من الظالم المكذب للمظلوم المكذب ، أو يريهم من يدخل الجنة عياناً ويدخل النار عياناً أعاذنا الله تعالى منها .
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
القراآت : { قالوا اتخذ الله } بلا واو العطف : ابن عامر اتباعاً لمصاحف أهل الشام { كن فيكون } بالنصب كل القرآن : ابن عامر إلا قوله { كن فيكون الحق } في آل عمران ، و { كن فيكون قوله الحق } في الأنعام . وافقه الكسائي في النحل ويس .
الوقوف : { خرابها } ( ط ) للفصل بين الاستفهام والخبر { خائفين } ط لأن ما بعده إخبار وعيد مبتدأ منتظر { عظيم } ( 5 ) { وجه الله } ( ط ) { عليم } ( 5 ) { وإذا } ( لا ) تعجيلاً للتنزيه { سبحانه } ( ط ) { والأرض } ( ط ) لأن ما بعده مبتدأ { قانتون } ( 5 ) { والأرض } ( ط ) لأن إذا أجيبت بالفاء وكانت للشرط { فيكون } ( 5 ) { آية } ( ط ) { قلوبهم } ( ط ) لأن قد لتوكيد الاستئناف { يوقنون } ( 5 ) .
التفسير : عن ابن عباس أن ملك النصارى غزا بيت المقدس فخربه وألقى فيه الجيف وحاصر أهله وقتلهم وسبى الذرية وأحرق التوراة ، ولم يزل خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمان عمر فنزلت الآية فيهم . وعن الحسن وقتادة والسدي نزلت في بختنصر حيث خرب بيت المقدس وأعانه على ذلك بعض النصارى . ورد بأن بختنصر كان قبل مولد المسيح بزمان . وقيل : نزلت في مشركي العرب الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدعاء إلى الله بمكة ألجأوه إلى الهجرة ، فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام . وقيل : المراد منع المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدخل المسجد الحرام عام الحديبية . ووجه اتصال الآية بما قبلها على القولين الأولين . هو أن النصارى ادعوا أنهم من أهل الجنة فقط ، فبين أنهم أظلم منهم فكيف يدخلون الجنة؟ وعلى الآخرين هو أنه جرى ذكر مشركي العرب في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون } فعقب ذلك بسائر قبائحهم و « من » استفهامية لتقرير النفي أي ليس أحد أظلم ممن منع و { أن يذكر } ثاني مفعوليه لأنك تقول : منعته كذا أو بدل من { مساجد } أو حذف حرف الجر مع أن والتقدير كراهة أن يذكر فيكون مفعولاً له .
وهذا حكم عام لجنس مساجد الله ، وأن مانعها من ذكر الله تعالى مفرط في الظلم ، ولا بأس أن يجيء الحكم عاماً وإن كان السبب خاصاً كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً من أظلم ممن آذى الصالحين؟ ومثله { ويل لكل همزة لمزة } [ الهمزة : 1 ] والمنزول فيه الأخنس بن شريق . وينبغي أن يراد بمن منع العموم أيضاً لا الذين منعوا من أولئك النصارى أو المشركين بأعيانهم والسعي في خراب المساجد بانقطاع الذكر أو تخريب البنيان قيل : إن قوله { ومن أظلم } الذي هو في قوة ليس أحد أظلم ليس على عمومه لأن الشرك أعظم من هذا الفعل { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكذا الزنا وقتل النفس قلت : أما استعمال لفظ الظلم في هذا المعنى في غاية الحسن ، لأن المسجد موضوع لذكر الله تعالى فيه ، فالمانع من ذلك واضع للشيء في غير موضعه .
وأما أنه لا أظلم منه فلأنه إن كان مشركاً فقد جمع مع شركه هذه الخصلة الشنعاء فلا أظلم منه ، وإن كان يدعي الإسلام ففعله مناقض لقوله ، لأن من اعتقد أن لو معبوداً عرف وجوب عبادته له عقلاً أو شرعاً ، والعبادة تستدعي متعبداً لا محالة . فتخريب المتعبد ينبئ عن إنكار العبادة وإنكار العبادة يستلزم إنكار المعبود ، فهذا الشخص لا يكون في الحقيقة مسلماً وإنما هو منخرط في سلك أهل النفاق ، والمنافق كافر أسوأ حالاً من الكافر الأصلي بالاتفاق { أولئك } المانعون { ما كان لهم } أي ما ينبغي لهم { أن يدخلوها } في حال من الأحوال { إلا خائفين } على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويلوها ويمنعوا المؤمنين منها . والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وعتوهم . وقيل : هذه بشارة للمؤمنين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخلوا المسجد الحرام إلا خائفين من أن يعاقبوا أو يقتلوا إن لم يسلموا . وقد أنجز الله هذا الوعد فمنعهم من دخول المسجد الحرام ونادى فيهم عام حج أبو بكر : ألا لا يحجن بعد العام مشرك . وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج اليهود من جزيرة العرب ، وصار بيت المقدس في أيدي المسلمين . وقيل : يحرم عليهم دخول المسجد إلا في أمر يتضمن الخوف نحو أن يدخلوا للمحاكمة أو المخاصمة أو المحاجة . وقيل : اللفظ خبر ولكن معناه النهي عن تمكينهم من الدخول والتخلية بينهم وبينه كقوله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] فمن هنا قال مالك : لا يجوز للكافر دخول المساجد . وخصص الشافعي المنع بالمسجد الحرام لجلالة قدره ومزيد شرفه ، للتصريح بذلك في قوله { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] . وجوز أبو حنيفة دخول المساجد كلها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قدم عليه وفد ثقيف فأنزلهم المسجد . وأجيب بأنه في أول الإسلام ثم نسخ بالآية { خزي } ذل يمنعهم من المساجد أو بالجزية في حق أهل الذمة وبالسبي والقتل في حق أهل الحرب ، وفيه ردع لهم عن ثباتهم على الكفر . وقيل : الخزي فتح مدائنهم قسطنطينية وعمورية ورومية ، والعذاب العظيم يناسب الظلم العظيم ولنذكر هنا فوائد :
( الأولى ) في بيان فضل المساجد ومن ذاك إضافتها إلى الله في الآية وذلك دليل على شرفها وكذا في قوله { وأن المساجد لله } [ الجن : 18 ] بلام الاختصاص { إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 18 ] { في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه } [ النور : 39 ] وقال صلى الله عليه وسلم
« أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله أسواقها » وليس ذلك إلا لأن المسجد يذكر الحبيب ، والسوق يشغل عنه ، وفي الآية نكتة وهي أن مخرب المساجد لما كان في نهاية الظلم والكفر يلزم أن يكون عامر المساجد في غاية العدل والإيمان .
( الثانية ) في فضل المشي إلى المساجد عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال « من تطهر في بيته ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فيه فريضة من فرائض الله كانت خطواته إحداها تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة » وقال صلى الله عليه وسلم لبني سلمة حين أرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد « دياركم تكتب آثاركم »
( الثالثة ) في تزيين المساجد . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما أمرت بتشييد المساجد » قال ابن عباس : بزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى . التشييد رفع البناء وتطويله ، والزخرفة التزيين والتمويه . وأمر عمر ببناء مسجد فقال : أكن الناس من المطر وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس .
( الرابعة ) في تحية المسجد . عن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس » وتؤدى التحية بالفرض أو النفل نواها أولا وهذا مذهب الحسن البصري ومكحول والشافعي وأحمد وإسحق . وقيل : يجلس ولا يصلي وإليه ذهب ابن سيرين وعطاء بن أبي رباح والنخعي وقتادة ومالك والثوري وأصحاب الرأي .
( الخامسة ) في الدعاء عند الدخول في المسجد والخروج منه . روت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال : « رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي ابواب رحمتك وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال : رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك » .
( السادسة ) في فضيلة القعود فيه لانتظار الصلاة عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه فتقول : اللهم اغفر له وارحمه ما لم يحدث » .
( السابعة ) في كراهية البيع والشراء فيه ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تناشد الأشعار في المساجد وعن البيع والشراء فيها ، وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة يعني لمذاكرة العلم ونحوه ، بل يشتغل بالذكر والصلاة والإنصات للخطبة ثم لا بأس بالاجتماع والتحلق بعد الصلاة ، وأما طلب الضالة في المسجد ورفع الصوت بغير الذكر فمكروه أيضاً . عن أبي هريرة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل : لا أداها الله إليك فإن المساجد لم تبن لهذا »
وقد كره بعض السلف المسالة في المسجد ، وكان بعضهم لا يرى أن يتصدق على السائل المتعرض في المسجد ، وقال معاذ بن جبل : إن المساجد طهرت من خمس : من أن تقام فيها الحدود ، أو يقبض فيها الخراج ، أو ينطق فيها بالأشعار ، أو ينشد فيها الضالة ، أو تتخذ سوقاً . ولم ير بعضهم بالقضاء في المسجد بأساً لأن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين العجلاني وامرأته في المسجد ، ولاعن عمر عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقضى شريح والشعبي ويحيى بن يعمر في المسجد ، وكان الحسن وزرارة بن أبي أوفى يقضيان في الرحبة خارجاً من المسجد .
( الثامنة ) النوم في المسجد . عن عبادة بن تميم عن عمه أنه رأى رسول الله مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى . وفيه دليل على جواز الاتكاء والاضطجاع وأنواع الاستراحة في المسجد وجوازها في البيت إلا الانبطاح ، فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال : « إنها ضجعة يبغضها الله »
( التاسعة ) في كراهة البزاق في المسجد . عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها » وعنه صلى الله عليه وسلم « إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصق أمامه فإنه يناجي الله ما دام في مصلاه ، ولا عن يمينه فإن عن يمينه ملكاً ولكن ليبصق عن شماله أو تحت رجله فيدفنه »
( العاشرة ) عن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا » وعنه صلى الله عليه وسلم « من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس » .
( الحادية عشرة ) في بناء المساجد في الدور عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور وأن تنظف وتطيب . وفيه دليل أن مجرد تسمية الموضع بالمسجد لا يخرجه عن ملكه ما لم يسبله .
قوله عز من قائل { ولله المشرق والمغرب } الآية ، الأكثرون على أنها نزلت في أمر يختص بالصلاة ، ومنهم من زعم أنها نزلت في أمر لا يختص بالصلاة أما الفرقة الأولى فاختلفوا على وجوه : أحدها : أراد به تحويل المسلمين عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة فقال : إن المشرق والمغرب وجميع الأطراف مملوكة له سبحانه ومخلوقة له ، فأينما أمركم باستقباله فهو القبلة لأن القبلة ليست قبلة لذاتها بل بجعل الله تعالى ، فكانت الآية مقدمة لما أراد من نسخ القبلة ، وثانيها عن ابن عباس : لما حولت القبلة عن بيت المقدس أنكر اليهود ذلك فنزلت رداً عليهم . وثالثها قول أبي مسلم : إن كلاً من اليهود والنصارى زعمت أن الجنة لهم وحدهم فرد الله عليهم ، وذلك أن اليهود إنما استقبلوا بيت المقدس لاعتقادهم أنه تعالى صعد السماء من الصخرة ، والنصارى استقبلوا المشرق لأن عيسى ولد هناك
{ إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً } [ مريم : 16 ] فكل منهما وصف معبوده بالحلول في الأماكن ، ومن كان هكذا فهو مخلوق لا خالق فكيف تخلص لهم الجنة وهم لا يفرقون بين المخلوق والخالق؟ ورابعها : قول قتادة وابن زيد : إن الله تعالى نسخ بيت المقدس بالتخيير إلى أي جهة شاءوا بهذه الآية ، وكان للمسلمين ذلك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يختار التوجه إلى بيت المقدس ، ثم إنه تعالى نسخ ذلك التخيير بتعيين الكعبة . وخامسها أن الآية في حق من يشاهد الكعبة فله الاستقبال من أي جهة شاء . وسادسها : روى عبد الله بن عامر بن ربيعة : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة ، فجعل كل رجل منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه ثم صلينا ، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية عذراً لنا في خطئنا . وهذا الحديث يدل على أنهم حينئذ قد نقلوا إلى الكعبة ، لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ القبلة . وسابعها : عن ابن عمر نزلت في المسافر يصلي النوافل حيث توجهت به راحلته ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة صلى على راحلته تطوعاً يومئ برأسه نحو المدينة . فمعنى الآية أينما تولوا وجوهكم لنوافلكم في أسفاركم فثم وجه الله ، أي فقد صادفتم رضاه إن الله واسع الفضل عليم بمصالحكم فمن ثم رخص لكم كيلا يلزم ترك النوافل والتخلف عن الرفقة ، فإن النوافل غير محصورة بخلاف الفرائض فإنها محصورة . فتكليف النزول عن الراحلة لاستقبال القبلة لا يفضي فيها إلى الحرج ، ولا يخفى أن الآية على الوجه الأول ناسخة ، وعلى الوجه الرابع منسوخة ، وعلى سائر الوجوه لا ناسخة ولا منسوخة . وأما الفرقة الثانية فاختلفوا أيضاً فقيل : الخطاب في { تولوا } للمانعين والساعين يريد أنهم أين هربوا فإن سلطاني يلحقهم وتدبيري يسبقهم وعلمي محيط بمكانهم . عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فقالوا نصلي على رجل ليس بمسلم » فنزلت { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم } [ آل عمران : 199 ] الآية . فقالوا : إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية أي الجهات التي يصلي إليها أهل كل ملة لي . فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريد طاعتي وجد ثوابي ، فكان في هذا عذر للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبال المشرق كقوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم }
[ البقرة : 143 ] وعن الحسن ومجاهد والضحاك : لما نزلت { ادعوني أستجب لكم } [ غافر : 60 ] قالوا : أين ندعوه؟ فنزلت ، وعن علي بن عيسى أنه خطاب للمسلمين أي لا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله عن ذكره حيث كنتم من أرضه فللَّه بلاد المشرق والمغرب والجهات كلها ، ففي أي مكان فعلتم التولية التي أمرتم بها بدليل { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] { فولوا وجوهكم شطره } [ البقرة : 144 ] فثم الجهة المأمورة المرضية وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « جعلت لي الأرض مسجداً » وقيل : نزلت في المجتهدين في الصلاة أو في غيرها ، وفيه أن المجتهد إذا رأى بشرائط الاجتهاد رأياً فهو مصيب . ومعنى تولوا في جميع الوجوه تقبلوا بوجوهكم إليها . ويقال : ولى هارباً أي أدبر ، فالتولية من الأضداد ، ومن جعل الخطاب للمانعين احتمل أن يريد بالتولية الإدبار و { ثم } إشارة إلى المكان خاصة . وقد زعمت المجسمة من الآية أن لله تعالى وجهاً وأيضاً سماه واسعاً ، والسعة من نعوت الأجسام . والجواب أن الآية عليه لا له ، فإن الوجه لو حمل على مفهومه اللغوي لزم خلاف المعقول فإنه إن كان محاذياً للشرقي استحال أن يكون حينئذ محاذياً للغربي ، فلا بد من تأويل هو : أن الإضافة للتشريف مثل « بيت الله » « وناقة الله » لأنه خلقهما وأوجدهما فأي وجه من وجوه العالم وجهاته المضافة إليه بالخلق والتكوين نصبه وعينه فهو قبلة والمراد بالوجه القصد والنية مثل { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض } [ الأنعام : 79 ] أو المراد فثم مرضاة الله مثل { إنما نطعمكم لوجه الله } [ الدهر : 9 ] فإن المتقرب إلى رضا أحد شيئاً فشيئاً كالمتوجه إلى شخص ذاهباً إليه شيئاً فشيئاً . و كيف يكون له وجه أو وجهة ، أم كيف يكون جسماً أو جسمانياً وأنه خالق الأمكنة والأحياز والجواهر والأعراض والخالق مقدم على المخلوق تقدماً بالذات والعلية والشرف؟ فالمراد بالسعة كمال الاستيلاء والقدرة والملك وكثرة العطاء والرحمة والإنعام ، وأنه تعالى قادر على الإطلاق وفي توفية ثواب من يقوم بالمأمورات على شرطها ، وتوفية عقاب من يتكاسل فيها ، عليم بمواقع نياتهم فيجازيهم على حسب أعمالهم .
قوله { وقالوا اتخذ الله ولداً } نوع آخر من قبائح أفعال اليهود والنصارى والمشركين جميعاً فقد مر ذكرهم في قوله { كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم } وفي قوله { ومن أظلم } كما مر . والضمير يصلح للعود إليهم ، فاليهود قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله ، والمشركون من العرب قالوا الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيه له عن ذلك وتبعيد { بل له ما في السموات والأرض } ملكاً وخلقاً وإبداعاً وصنعاً ، ومن جملتهم الملائكة وعزير والمسيح . والولد لا بد أن يكون من جنس الوالد ، ومن أين المناسبة بين واجب الوجود لذاته وممكن الوجود لذاته؟ اللهم إلا في مطلق الوجود ، وذلك لا يقتضي شركة في الحقيقة الخاصة بكل منهما .
وقد يتخذ الولد للحاجة إليه في الكبر ورجاء الانتفاع بمعونته وذلك على الغني المطلق والقيوم الحق محال { كل له قانتون } التنوين عوض عن محذوف أي كل ما في السموات والأرض والقنوت في الأصل الدوام ثم الطاعة ، أو طول القيام أو السكوت فالمعنى أن دوام الممكنات واستمرارها جميعاً به ولأجله وقيل : عن مجاهد وابن عباس مطيعون فسئل ما للكفار ، فأجاب : أنهم يطيعون يوم القيامة فسئل هذا للمكلفين . وقوله { بل له ما في السموات } يعم المكلف وغيره ، فعدل إلى تفسير آخر قائلاً المراد كونها شاهدة على وجود الخالق بما فيها من آثار القدرة وأمارات الحدوث ، أو كون جميعها في ملكه وتحت قهره لا يمتنع عن تصرفه فيها كيف يشاء . وعلى هذه الوجوه جمع السلامة في { قانتون } للتغليب ، أو يراد كل من الملائكة وعزير والمسيح عابدون له مقرون بربوبيته منكرون لما أضافوا إليهم من الولدية ، وعلى هذا الوجه يجمع على الأصل . يحكى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال لبعض النصارى : لولا تمرد عيسى عن عبادة الله تعالى لصرت على دينه . فقال النصراني : كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله؟ فقال علي : إن كان عيسى إلهاً فالإله كيف يعبد غيره؟ وإنما العبد هو الذي يليق به العبادة فانقطع النصراني وبهت { بديع } خبر مبتدأ محذوف أي هو بديع { السموات والأرض } عم أولاً لأن الملكية والاختصاص لا يستلزم كون المالك موجداً للمملوك ، ثم خص ثانياً فقال بديع : بدع الشيء بالضم فهو بديع ، وأبدعته اخترعته لأعلى مثال ، وهذا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها أي بديع سمواته وأرضه . وقيل : بمعنى المبدع كأليم بمعنى مؤلم وضعف ، ثم إنه تعالى بين كيفية إبداعه فقال : { وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون } أصل التركيب من « ق ض ى » يدل على القطع . قضى القاضي بهذا إذا فصل الدعوى ، وانقضى الشيء انقطع ، وقضى حاجته قطعها عن المحتاج ، وقضى الأمر إذا أتمه وأحكمه ، لأن إتمام العمل قطع له ، وقضى دينه أداه لأنه انقطع كل منهما عن صاحبه وضاق الشيء لأنه كأنه مقطوع الأطراف ، والأمر الشأن ، والفعل ههنا ، ومعنى قضى أمراً أتمه أو حكم بأنه يفعله أو أحكمه قال :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
ثم من قرأ { فيكون } بالرفع على تقدير فهو يكون فلا إشكال ، وأما من قرأ بالنصب على أنه جواب الأمر فأورد عليه أن جواب الأمر لا بد أن يخالف الأمر في الفعل أو في الفاعل أو فيهما نحو : اذهب تنتفع ، أو اذهب يذهب زيد ، أو اذهب ينفعك زيد ، فإما أن يتفق الفعلان والفاعلان نحو : اذهب تذهب فغير جائز لأن الشيء لا يكون شرطاً لنفسه .
قلت : لا استبعاد في هذا ، لأن الغرض الذي رتب على الأمر قد يكون شيئاً مغايراً لفعل الأمر وذلك أكثري ، وقد لا يكون الغرض إلا مجرد ذلك الفعل فيوقع في جواب نفسه ليعلم أن الغرض منه ليس شيئاً آخر مغايراً له . فقول القائل « اذهب تذهب أو فتذهب » معناه إعلام أن الغرض من الأمر هو نفس صدور الذهاب عنه لا شيء آخر ، كما أن المقصود في الآية من الأمر بالوجود هو نفس الوجود ، فأوقع « كان » التامة جواباً لمثلها لهذا الغرض ، على أنه يمكن أن يشبه الواقع بعد الأمر بجواب الأمر وإن لم يكن جواباً له من حيث المعنى . فإن قلت : إن قوله { فيكون } لما كان من تتمة المقول . فالصواب أن يكون بتاء الخطاب نحو « اذهب فتذهب » قلت : هذا الحادث قد ذكر مرتين بلفظ الغيبة في قوله { أمراً } وفي قوله { له } ومرة على سبيل الخطاب فغلب جانب الغيبة ، ويحتمل أن يكون من باب الالتفات تحقيراً لشأنه في سهولة تكونه ، ولأن أول الكلام مع المكلفين فروعي ذلك . وههنا بحث آخر وهو أنه لا يجوز أن يتوقف إيجاد الله تعالى لشيء على صدور لفظة « كن » منه لوجوه : الأول أن قوله { كن } إما أن يكون قديماً أو محدثاً لا جائز أن يكون قديماً ، لأن النون لكونه مسبوقاً بالكاف يكون محدثاً لا محالة ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان مقدر يكون محدثاً أيضاً ، ولأن « إذا » للاستقبال فالقضاء محدث ، وقوله « كن » مرتب عليه بفاء التعقيب ، والمتأخر عن المحدث محدث ، ولأن تكون المخلوق مرتب على قوله « كن » بالفاء والمتقدم على المحدث بزمان محصور محدث أيضاً ، ولا جائز أن يكون « كن » محدثاً وإلا احتاج إلى مثله ويلزم إما الدور وإما التسلسل وإذا بطل القسمان بطل توقف الأشياء على « كن » ( الثاني ) إما أن يخاطب المخلوق ب « كن » قبل دخوله في الوجود وخطاب المعدوم سفه ، وإما بعد دخوله في الوجود لا فائدة فيه . ( الثالث ) المخلوق قد يكون جماداً وتكليف الجماد لا يليق بالحكمة . ( الرابع ) إذا فرضنا القادر المريد منفكاً عن قوله { كن } فإن تمكن من الإيجاد فلا حاجة إلى { كن } ، وإن لم يتمكن فلا يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب { كن } فيلزم عجز القادر بالنظر إلى ذاته ، أو يرجع الحاصل إلى تسمية القدرة ب { كن } ولا نزاع في اللفظ . ( الخامس ) أنا نعلم بالضرورة أنه لا تأثير لهذه الكلمة إذا تكلمنا بها وكذا إذا تكلم بها غيرنا . ( السادس ) المؤثر إما مجموع الكاف والنون ولا وجود لهما مجموعين ، فعند مجيء الثاني ينقضي الأول ، وإما أحدهما وهذا خلاف المفروض فثبت بهذه الوجوه أن حمل الآية على الظاهر غير جائز فلا بد من تأويل ، وأصحه أن يقال : المراد أن ما قضاه من الأمور وأراد كونه فإنما يتكون ويدخل تحت الوجود من غير امتناع ولا توقف ، فشبه حال هذا المتكون بحال المأمور المطيع الذي يؤمر فيتمثل لا يتوقف ولا يمتنع ولا يأبى ، وفيه تأكيد لاستبعاد الولادة لأن من كان بهذه الصفة من القدرة كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها وقيل : إنه علامة وضعها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علموا أنه أحدث أمراً ، عن أبي الهزيل .
وقيل إنه خاص بالموجودين الذين قال لهم كونوا قردة ومن يجري مجراهم من الأمم . وقيل : أمر للأحياء بالموت وللموتى بالحياة { وقال الذين لا يعلمون } يعني الجهلة من المشركين . وقيل : من أهل الكتاب أيضاً . ونفى عنهم العلم لأنهم لم يعملوا به . فالآية الأولى فيها بيان قدحهم في التوحيد ، وهذه الآية فيها بيان قدحهم في النبوة . ولولا حرف تحضيض أي هلا يكلمنا وتقرير الشبهة أن الحكيم إذا أراد تحصيل شيء اختار أقرب الطربق المؤدية إلى المطلوب ، ثم إنه تعالى كلم الملائكة وكلم موسى وأنت تقول يا محمد إنه كلمك { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] فلم لا يكلمنا مشافهة ولا ينص على نبوتك حتى يتأكد الاعتقاد وتزول الشبهة؟ فإن لم يفعل ذلك فلم لا تأتي بآية ومعجزة؟ وهذا طعن منهم في كون القرآن آية ومعجزة فأجابهم الله تعالى بقوله { كذلك قال الذين من قبلهم } من مكذبي الرسل { تشابهت قلوبهم } أي قلوب هؤلاء ومن قبلهم في العمى كقوله { أتواصوا به } [ الذاريات : 53 ] فكما أن قوم موسى كانوا أبداً في التعنت واقتراح الأباطيل { لن نصبر على طعام واحد } [ البقرة : 61 ] { أرنا الله جهرة } [ النساء : 153 ] { اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة } [ الأعراف : 138 ] فكذلك هؤلاء المشركون { قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] { لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا } [ الفرقان : 21 ] وكذلك المعاصرون من اليهود والنصارى { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء } [ النساء : 153 ] { قد بينا الآيات لقوم } يفقهون ف { يوقنون } أنها آيات . فلو كان غرضهم طلب الحق لوقع الاكتفاء بها لكونها آيات ظاهرة هي القرآن العظيم الذي أخرس شقاشق الفصحاء عن آخرهم ، ومعجزات باهرة كمجيء الشجرة وحنين الجذع وتسبيح الحصى وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وأيضاً لو كان في معلوم الله تعالى أنهم يؤمنون عند إنزال ما اقترحوه لفعلها ، لكنه علم لجاجهم وعنادهم فلا جرم لم يفعل ذلك وأيضاً ، لعل في تلك الآيات مفاسد لا يعلمها إلا علام الغيوب كإفضائها إلى حد الإلجاء المخل بالتكليف ، وكإيجابها استئصاهم بالكلية إذا استمروا على التكذيب ، وكخروجها عن القدر الصالح لإلزام الحجة ، وأيضاً كثرة الآيات وتعاقبها ينافي كونها خوارق لعادة فلا تبقى آيات ، وكل ما أدى وجوده إلى عدمه ففرض وجوده محال ، فثبت بهذه البيانات أن عدم إسعافهم بما اقترحوه لا يقدح في صحة النبوة والله أعلم .
التأويل : مساجد الله التي يذكر فيها أساميها عند أهل النظر ، النفس والقلب والروح ، والسر والخفي - وهو سر السر - وذكر كل مسجد منها مناسب لذلك المسجد . فذكر مسجد النفس الطاعات والعبادات ومنع الذكر فيه بترك الحسنات وملازمة السيئات ، وذكر مسجد القلب التوحيد والمعرفة ومنع الذكر فيه بالتمسك بالشبهات والتعلق بالشهوات ، كما أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك كل الشهوات فإن القلوب المعلقة بالشهوات عقولها عني محجوبة . وذكر مسجد الروح الشوق والمحبة ومنع الذكر فيه بالحظوظ والمسكنات ، وذكر مسجد السر المراقبة والشهود ومنع الذكر فيه بالركون إلى الكرامات والقربات ، وذكر مسجد الخفي بذل الوجود ومنع الذكر فيه بالالتفات إلى المشاهدات والمكاشفات { أولئك ما كان لهم } أن يدخلوا هذه المشاهد بقدم السلوك إلا بخطوات الخوف من سوء الحساب وألم العقاب { لهم في الدنيا خزي } من ذل الحجاب { ولهم في الآخرة عذاب } الحرمان من جوار الله . { ولله المشرق والمغرب } القلوب مشارق شموس المعارف ومغاربها ، والله في مشرق كل قلب ومغربه شارق وطارق ، فطارق القلب من هواجس النفس يطرق بظلمات المنى عند غلبات الهوى وغروب نجم الهدى ، وشارق القلب من واردات الروح يشرق بأنوار الفتوح عند غلبات الشوق وطلوع قمر الشهود ، فتكون القبلة واضحة والدلالات لائحة ، فإذا تحلت شمس صفات الجلال خفيت نجوم صفات الجمال ، وإذا استولى سلطان الحقيقة على ممالك الخليقة طويت بأيدي سطوات الجود سرادقات الوجود ، فما بقيت الأرض ولا السماء ولا الظلمة ولا الضياء ، إذ ليس عند الله صباح ولا مساء . وتلاشي العبدية في كعبة العندية ، وتودوا بفناء الفناء من عالم البقاء ، رفعت القبلة وما بقي إلا الله { فأينما تولوا فثم وجه الله } { إن الله واسع } يوسع قلب من يشاء من عباده ليسعه { عليم } بتوسيع القلب لسعته بلا كيف وحيف كما قال لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن والله أعلم .
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
القراآت : { ولا تسئل } على النهي : نافع ويعقوب . الباقون بضم التاء ورفع اللام على الخبر .
الوقوف : { ونذيراً } ( لا ) للعطف أي نذيراً وغير مسؤول إلا لمن قرأ { ولا تسئل } على النهي لاختلاف الجملتين { الجحيم } ( 5 ) { ملتهم } ( ط ) { الهدى } ( ط ) { من العلم } ( لا ) لأن نفي الولاية والنصرة يتعلق بشرط اتباع أهوائهم فكان في الإطلاق حظر { نصير } ( 5 ) { تلاوته } ( ط ) لأن ما بعدها مبتدأ آخر مع خبره . وعندي أن الأصوب عدم الوقف لتكون الجملة أعني يتلونه حالاً من مفعول آتينا أو من فاعله مقدرة وقوله { أولئك يؤمنون به } الجملة خبر « الذين » لأن الإخبار عن أهل الكتاب مطلقاً بأنهم يتلونه حق تلاوته لا يصح ، اللهم إلا أن يحمل الكتاب على القرآن كما يجيء { يؤمنون به } ( ط ) للابتداء بالشرط { الخاسرون } ( 5 ) { العالمين } ( 5 ) { ينصرون } ( 5 ) .
التفسير : لما بين غاية إصرارهم على العناد وتصميمهم على الكفر بعد نزول ما يكفي في باب الاقتداء والاهتداء من الآيات البينات ، أراد أن يسلي ويسري عن رسوله لئلا يضيق صدره فقال إنا أرسلناك يا محمد بالحق . والصواب حسب ما تقتضيه الحكمة وهو أن لا يكون لك أن تجبرهم على الإيمان بل لا يتجاوز حالك عن أن تكون بشيراً لمن اتبعك بكل خبر ونذيراً لمن خالفك بكل سوء { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } [ فاطر : 8 ] فإنك غير مسؤول عن أصحاب الجحيم وهو من أسماء النار ، وكل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم من قوله تعالى { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] والجاحم المكان الشديد الحر ، وهذا كقوله { فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب } [ الرعد : 40 ] وأما قراءة النهي فيروى أنه قال : ليت شعري ما فعل أبواي فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله . وفي هذه الرواية بُعْدٌ ، لأن سياق الكلام ينبو عن ذلك ، ولأنه صلى الله عليه وسلم مع علمه الإجمالي بحال الكفار ، كيف يتمنى ذلك؟ والأقرب أن معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من المحن كما إذا سألت عمن وقع في بلية فيقال لك لا تسأل عنه ، فكان المسؤول يحرج أن يجري على لسانه ما هو فيه لفظاعته ، أو يرى أنك لا تقدر على استماع خبره لأنه يورث الوحشة والضجر . وقوله { ولن ترضى } فيه إقناط لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم وأن القوم قد بلغوا من التصميم على ما هم فيه إلى حد لا يقنعون بالكفاف ولا يرضون رأساً برأس ، بل يريدون منك عكس ما تطمع منهم زاعمين أن ملتهم التي حان نسخها هي الهدى { قل إن هدى الله } الذي هو الإسلام { هو الهدى } الحق ليس وراءه هدى لأنه ناسخ للأديان كلها { ولو اتبعت أهواءهم } مشتهياتهم وآراءهم الباطلة المنسوخة { بعد الذي جاءك من العلم } بأمر الديانة لوضوح البراهين وسطوع الدلائل { ما لك من الله } من عقابه وسخطه { من ولي } معين يعصمك { ولا نصير } يذب عنك .
قال أهل البرهان إنما لم يقل في هذه الآية { بعدما جاءك من العلم } كما قال في آية القبلة على ما يجيء ، لأن العلم في الآية الأولى علم كامل ليس وراءه علم وهو العلم بالله وبصفاته وأن الهدى هدى الله ، فكأن لفظ « الذي » أليق لأنه في التعريف أبلغ ، فإن « الذي » يعرفه صلته ولا يتنكر قط ، ويلزمه الألف واللام . بخلاف ما فإنه نكرة ولا يدخله الألف واللام وخصت آية القبلة « بما » و « من » التي لابتداء الغاية ، لأن المراد هناك قليل من كثير العلم وهو العلم بالقبلة وليس الأول موقتاً بوقت أعني العلم بالله وبصفاته - فلم يحتج إلى زيادة من التوقيتية ، وقريب من معنى القبلة ما في آل عمران { من بعدما جاءك من العلم } [ آل عمران : 61 ] فلهذا جاء بلفظ « ما » وزاد لفظة « من » وأما في سورة الرعد فإنه { ولو اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم } [ الرعد : 37 ] لأن العلم فيها هو الحكم العربي أي القرآن ، فكأن بعضاً من الأول وهو العلم بالله وبصفاته فجاء لفظ « ما » ولم يزد لفظ « من » التوقيتية لأنه غير موقت والله أعلم بأسرار كلامه . وفي الآية دليل على بطلان التقليد فيما إلى تحقيقه سبيل حتى لا يكون اتباع الهوى ، وفيها أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلة على العلم بالمأمور به لقوله { بعدما جاءك من العلم } فلأن لا يجوز التوعد إلا بعد القدرة على المأمور به كان أولى ، فبطل القول بتكليف ما لا يطاق . وفيها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله ونظيره وقوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] وإنما يحسن هذا الوعيد لاحتمال أن الصارف له عن ذلك الفعل هو هذا الوعيد أو هو أحد صوارفه ، ولأن فيه زجراً شديداً لأمته لأنهم إذا علموا مآل حال النبي صلى الله عليه وسلم لو فرض منه اتباع أهوائهم مع ما ورد في حقه { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] ولم يبق لهم طمع في الخلاص لو وجد منهم ذلك { الذين آتيناهم الكتاب } قيل : إنهم المؤمنون الذين آتاهم القرآن ، لأن الكتاب الذي يمدح على تلاوته هو القرآن . والأصح أنه لما قدم ذكر المعاندين من أهل الكتاب أراد أن يذكر مؤمنيهم . ومعنى يتلونه حق تلاوته لا يحرفونه ولا يغيرون ما فيه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو يتبعون مقتضاه من غير تكاسل ومنع متمسكين بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما ، أو يخضعون عند تلاوته ويخشعون ، أو يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ، أولئك يؤمنون بكتابهم دون من ليس على حالهم ممن لا يتلو الكتاب حق تلاوته كما يستحق أن يتلى { ومن يكفر به } من المحرفين أو من الواضعين من حقه { فأولئك هم الخاسرون } حيث لم ينتفعوا بما يحق أن ينتفع به ويغتنم وروده فرجعوا منه بخفي حنين وفازوا بكل حين . { يا بني إسرائيل } الآيتان رجوع إلى أول القصة تذكيراً للنعم بعد تعداد مواجب النقم ليتنبه منهم من وفق للتنبه والله المستعان .
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
القراآت : { إبراهام } بالألف في البقرة والنساء إلا { فقد آتينا آل إبراهيم } وفي الأنعام { ملة إبراهام } وفي جميع براءة إلا { وقوم إبراهيم } وفي إبراهيم { وإذ قال إبراهام } وفي النحل ومريم والعنكبوت { ولما جاءت رسلنا إبراهام } خاصة وفي « حم عَسَقَ » وجميع المفصل وإلا قوله في المودة { إلا قول إبراهيم } وفي الأعلى { صحف إبراهيم } هشام وابن ذكوان وروى ابن مجاهد في هذه السورة فقط . ( واعلم ) أن ذكر إبراهيم في القرآن تسعة وستون موضعاً منها ثلاثة وثلاثون « إبراهام » بالألف في قراءة ابن عامر عن ابن ذكوان ، وستة وثلاثون « إبراهيم » بالياء ، والعلة في ذلك اتباع مصحفهم . فما كتب بالألف قرئ بالألف ، وما كتب بالياء قرئ بالياء ، والاختيار عند الأئمة أن يقرأ ههنا بالألف لبيان المذهب والبواقي بالياء ، لأنه أحسن في اللفظ وأشهر ، ويوافقه سائر الأسماء الأعجمية كإسرائيل وإسرافيل وإسماعيل { عهدي } مرسلة الياء : حمزة وحفص { وإذ جعلنا } وبابه مدغمة الذال في الجيم : أبو عمرو وهشام { بيتي } بالفتح : أبو جعفر ونافع . وحفص وهشام { واتخذوا } بفتح الخاء : نافع وابن عامر الباقون بالكسر { فأمتعه } خفيفاً ابن عامر . الباقون بالتشديد .
الوقوف : { فأتمهن } ( ط ) { إماماً } ( ط ) { ذريتي } ( ط ) { الظالمين } ( 5 ) { وأمنا } ( ط ) لمن قرأ { واتخذوا } بالكسر لاعتراض الأمر بين ماضيين { مصلى } ( ط ) كذلك ومن فتح الخاء نسق الأفعال الثلاثة فلا وقف { السجود } ( 5 ) { واليوم الآخر } ( ط ) { عذاب النار } ( ط ) لأن « نعم » و « بئس » للمبالغة في المدح والذم فيبتدئ بهما تنبيهاً على المدح والذم { المصير } ( 5 ) .
التفسير : إنه تعالى لما استقصى في شرح نعمه على بني إسرائيل والمشركين ومقابلتهم النعمة بالكفران والعناد ، شرع في نوع آخر من البيان وهو ذكر قصة إبراهيم عليه السلام لأن كلهم معترفون بفضله وأنهم من أولاده ومن ساكني حرمه وخدام بيته ، وفي قصته أمور توجب الاعتراف بدين محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه منها : أنه أمر ببعض التكاليف ثم وفى بها فنال منصب الاقتداء به ، فيعلم أن الخيرات كلها لا تحصل إلا بترك التمرد والانقياد لحكم الله والتزام تكاليفه ، ومنها أنه طلب الإمامة لذريته فقيل له { لا ينال عهدي الظالمين } فيعرف أن طالب الحق يجب أن يترك التعصب والمراء ووضع ما رفعه الله لينال رياسة الدارين ، ومنها أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود فأريد إزالة غيظهم بأن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي اعترفوا بتعظيمه والاقتداء به ، ومنها أنه دعا بإرسال نبي من ذريته وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما يجيء فيجب على من يعترف بإبراهيم أن يعترف بمحمد صلى الله عليه وسلم . أما قوله { وإذ ابتلى } العامل في « إذ » إما مضمر نحو « واذكر » وتكون بمعنى الوقت فقط ، أو وإذ ابتلى كان كيت وكيت ، وإما { قال إني جاعلك للناس إماماً } وعلى هذين التقديرين تكون ظرفاً لكان أو قال .
وموقع « قال » على الأولين استئناف كأنه قيل : فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فأجيب { قال إني جاعلك } وعلى الثاني جملة معطوفة على ما قبلها من الآيات ولا يخفى أن الاستئناف أصوب ليناسب سياق الجملتين الآتيتين لورودهما أيضاً على طريقة السؤال المقدر والجواب ، وليكون على منهاج { وإذا جعلنا } { وإذا قال إبراهيم } { وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] والابتلاء الاختبار والامتحان ، عبر تكليفه إياه بالبلوى تشبيهاً لأمره بأمر المخلوقين وبناء على العرف بيننا ، فإن كثيراً منا قد يأمر ليعرف ما يكون من المأمور حينئذ وإلا فكيف يجوز حقيقة الابتلاء عليه تعالى مع أنه عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد وقيل : مجاز عن تمكينه العبد من اختيار أحد الأمرين ما يريد الله وما يشتهيه هو كأنه يمتحنه ما يكون منه حتى يجازيه على حسب ذلك . واعلم أن هشام بن الحكم ومن تابعه زعم أنه تعالى كان في الأزل عالماً بحقائق الأشياء وماهياتها فقط ، وأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها بدليل هذه الآية وأمثالها المذكور فيها الابتلاء . وكلمة « لعل » والجواب عنها ما مر ، وقد يستدل أيضاً على مذهبه بوجوه معقولة منها أنه تعالى لو كان عالماً بالأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق ، لأن ما علم الله وقوعه استحال أن لا يقع ، وما علم أنه لا يقع استحال أن يقع ولا قدرة على الواجب وعلى الممتنع بالاتفاق ، والجواب أن الوجوب بالغير وكذا الامتناع بالغير لا ينافيان قدرة القادر عليه ، وإنما المنافي للقدرة عليه كونه واجباً لذاته أو ممتنعاً لذاته ، ومنها أنه لو كان عالماً بجميع الجزئيات لكان له علوم غير متناهية أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية ، فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال ، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منها ، فالناقص متناه وكذا الزائد . ونوقض بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها ، وأيضاً المجموعية والزيادة والنقصان كلها من خواص المتناهي ، فأما الذي لا نهاية له ففرض هذه الأعراض فيه محال . ومنها أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها هل يعلم الله عددها مفضلة أو لا يعلم؟ فإن علم عددها فهي متناهية ، وإن لم يعلم فهو المطلوب . والجواب الاختيار أنه لا يعلم عددها ، ولا يلزم الجهل لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ثم إن الله لا يعلم عددها ، فأما إذا لم يكن لها عدد في نفسها فلا جهل ومنها أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه ، وكل متميز عما عداه خارج عنه ، وكل ما خرج عنه غيره فهو متناه ، وكل معلوم متناه فما هو غير متناه استحال أن يكون معلوماً .
والجواب أنه ليس من شرط المعلوم تميزه من غيره عند العالم ، لأن العلم بتميزه عن غيره موقوف على العلم بذلك الغير ، ويلزم منه أن لا يعلم الإنسان شيئاً إلا إذا علم أموراً لا نهاية لها . والحق أن نور الأنوار لا يتناهى ووراء لا يتناهى ، ما لا يتناهى ، وإحاطة غير المتناهي بغير المتناهي غير بعيد وقد يتعلق علمنا بكثير من الأشياء قبل حصولها ، فإذا كان علمنا مع تناهي قوتنا ونوريتنا . هكذا فما ظنك بالعليم الخبير الذي هو نور النور ومدبر الأمور وكل عسير عليه يسير؟ { إبراهيم } بالنصب { ربه } بالرفع هو المشهور وهذه الصورة مما يجب فيه تأخير الفاعل وإزالته عن مركزه الأصلي ، فإنه لو قدم الفاعل وقد اتصل به ضمير المفعول لزم الإضمار قبل الذكر لفظاً ، وعن ابن عباس وأبي حنيفة رفع { إبراهيم } ونصب { ربه } فالمعنى أنه دعاه بكلمات من الدعاء فعل المختبر هل يجيب الله تعالى إليهن أم لا؟ واختلف المفسرون في أن ظاهر لفظ التنزيل هل يدل على تلك الكلمات أم لا؟ فقال بعضهم : اللفظ يدل عليها وهي الإمامة وتطهير البيت ورفع قواعده والدعاء بابتعاث محمد صلى الله عليه وسلم ، فكل هذه تكاليف شاقة ، أما الإمامة فلأن المراد بها النبوة ، وأعباؤها أكثر من أن تحصى ، ولهذا فإن ثواب النبي أعظم من ثواب غيره ، وأما بناء البيت وتطهيره ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدة البلوى فيه . ثم إنه يتضمن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله الخليل بالشيطان في الموقف كرمي الجمار وغيره . وأما الاشتغال بالدعاء ببعث نبي آخر الزمان فيحتاج فيه إلى الإخلاص وإزالة الحسد عن القلب وذلك في غاية الصعوبة . واعترض على هذا القول بأن المراد من الكلمات لو كانت هذه لناسب أن يذكر قوله { فأتمهن } بعد تعداد الجميع . وأجيب بأنه أخبر أنه ابتلاه بكلمات على الإجمال ثم أخبر أنه أتمها ثم فصل تلك الأمور ، وهذا ترتيب في غاية الحسن ، إذ لو ذكر { فأتمهن } بعد هذا التفصيل لوقع ضائعاً ولانقطع النظم . والقائلون بأن ظاهر الآية لا دلالة فيه على الكلمات زعم بعضهم أنها الكلمات التي تكلم بها إبراهيم مع قومه وقت تبليغ الرسالة ، وزعم بعضهم أنها أوامر ونواهٍ . فعن ابن عباس هي عشر خصال كانت فريضة في شرعه وهي عندنا سنة : خمس في الرأس : المضمضة والاستنشاق وفرق الرأس وقص الشارب والسواك ، وخمس في الجسد : الختان وحلق العانة ونتف الإبط وتقليم الأظفار والاستنجاء بالماء .
وقيل : ابتلاه الله تعالى من شرائع الإسلام بثلاثين سهماً ، عشرة في براءة { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] الآية وعشرة في الأحزاب { إن المسلمين والمسلمات } [ الأحزاب : 35 ] وعشرة في « المؤمنين » « وسأل سائل » إلى قوله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } [ المعارج : 34 ] وقيل : هن مناسك الحج كالطواف والسعي والرمي والإحرام والوقوف بعرفة . وقيل : ابتلاه بسبعة أشياء : بالكواكب والقمر والشمس والختان على الكبر والنار وذبح الولد والهجرة ، فوفى بالكل { وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 34 ] وقيل : ما ذكره في قوله { إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] وقيل : المناظرات التي جرت بينه وبين أبيه ونمروذ وقومه ، والصلاة والزكاة والصوم ، وقسم الغنائم والضيافة والصبر عليها . وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كل ما في فعله كلفة ، واللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء وكلاً منها إلا أن الكلام في الرواية ، ثم قيل : إن هذا الابتلاء كان قبل النبوة لأنه تعالى نبه على أن قيامه بهن كالسبب لأن جعله إماماً . وقيل : إنه بعد النبوة لأنه لم يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي . والحق أن هذا يختلف باختلاف تفسير التكاليف ، فمنها ما يعلم بالضرورة كونها قبل النبوة كحديث الكوكب والشمس والقمر ، ومنها ما ثبت أنه كان بعد النبوة كذبح الولد والهجرة والنار ، وكذا الختان فإنه يروى أنه ختن نفسه وكان سنه مائة وعشرين ، ومنها ما هو بصدد الاحتمال فقد يمكن أن يكون إلى معرفته سبيل سوى الوحي كمنام أو إلهام . والضمير في « أتمهن » على القراءة المشهورة لإبراهيم عليه السلام بمعنى فقام بهن حق القيام وأداهن أحسن التأدية من غير تفريط وتوانٍ وفي الأخرى لله تعالى أي فأعطاه ما طلبه ولم ينقص منه شيئاً ، ويعضده ما روي عن مقاتل أنه فسر الكلمات بما سأل إبراهيم ربه في قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } { واجعلنا مسلمين لك } [ البقرة : 128 ] { وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] { ربنا تقبل منا } [ البقرة : 127 ] والإمام اسم لمن يؤتم به « فعال » بمعنى « مفعول » كالإزار لما يؤتزر به أي يأتمون بك في دينهم . والأكثرون على أن الإمام ههنا النبي لأنه جعله إماماً لكل الناس ، فلو لم يكن مستقلاً بشرع كان تابعاً لرسول ويبطل العموم ولأن إطلاق الإمام يدل على أنه إمام في كل شيء ، والذي يكون كذلك لا بد أن يكون نبياً ، ولأن الله تعالى سماه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجلّ مراتب الإمامة كقوله { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } [ السجدة : 24 ] لا على من هو دونه ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة والقاضي والفقيه وإمام الصلاة ، ولقد أنجز الله تعالى هذا الوعد فعظمه في عيون أهل الأديان كلها ، وقد اقتدى به من بعده من الأنبياء في أصول مللهم { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً }
[ النحل : 123 ] وكفى به فضلاً أن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقولون في صلاتهم « اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم » ثم القائلون بأن الإمام لا يصير إماماً إلا بالنص تمسكوا بهذه الآية وأمثالها من نحو { إني جاعل في الأرض خليفة } [ البقرة : 30 ] { يا داود إنا جعلناك خليفة } [ ص : 26 ] ومنع بأن الإمام يراد به ههنا النبي سلمنا أن المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدل على أن النص طريق الإمامة وذلك لا نزاع فيه ، إنما النزاع في أنه لا طريق للإمامة سوى النص ، ولا دلالة في الآية على ذلك وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان معصوماً عن جميع الذنوب ، لأنه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به وذلك يؤدي إلى كون الفعل الواحد ممنوعاً منه مندوباً إليه وذلك محال . والذرية نسل الثقلين من ذرأ الله الخلق ذرأ خلقهم إلا أن العرب تركت همزها كما في البرية ، ويحتمل أن يكون منسوباً إلى الذر صغار النمل ، والضم من تغيير النسب كالدهري في النسبة إلى دهر { ومن ذريتي } عطف على الكاف كأنه قال : وجاعل بعض ذريتي كما يقال « سأكرمك فتقول وزيداً » ولا يخفى أن « من » التبعيضية تدل على أنه طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بأن كلهم قد لا يليق بذلك لأن ناساً غير محصورين لا يخلو من ظالم فيهم غالباً ، ولعلمه بأن بعضهم يليق بها كإسماعيل وإسحق . وقد حقق الله تعالى أمله فجعل في أولاده وأحفاده كإسماعيل وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وهارون وداود وسليمان وأيوب ويونس وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس ثم محمد صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم ، ولأنه لم يطلب الإمامة إلا للبعض فكان يكفي في الجواب نعم إلا أنه لم يكن حينئذ نصاً في أن ذلك البعض من المؤمنين أم من الظالمين . ولو قال « ينال عهدي المؤمنين » كان غاية ذلك خروج الظالمين بالمفهوم لا بالنص ، فلمكان التنصيص على إخراج الظالم قال { لا ينال عهدي الظالمين } والمراد بالعهد هو الإمامة المطلوبة ، سميت عهداً لاشتمالها على كل عهد عهد به الله تعالى إلى بنى آدم إذ لا رياسة أعظم من ذلك كقوله { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } [ طه : 115 ] { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } [ الأحزاب : 7 ] وإذا خرج الظالم تعين الصالح للإمامة بطريق برهاني . وذلك أن دعاءه مستجاب ألبتة فكل نبي مجاب ، ولأنه لو لم يكن الصالح إماماً لم يكن لإخراج الظالم وتخصيصه بالذكر معنى . ويحتمل أن يقال : إنه أراد الإمامة لأولاده المؤمنين لا محالة لعلمه بأن الكفرة والظلمة لا تصلح لذلك ، فأجيب بما أجيب إسعافاً لطلبته بأبلغ معنى وأتمه كما إذا قيل لمن أشرف « أوص لابنك بشيء » فيقول : لا يرث مني أجنبي أي كل ما يبقى مني فهو لابني ، فكيف أوصي له بشيء؟ ولا يرد أن يونس نال عهده مع أنه ظالم
{ سبحانك إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] لأن الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] لا على الكفر والفسق . وقد يستدل الإمامية على إبطال غير إمامة علي كرم الله وجهه قالوا : إنهم كانوا مشركين قبل الإسلام بالاتفاق ، وكل مشرك ظالم { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] وكل ظالم فإنه لا ينال عهد الإمامة قالوا : لا يقال إنهم كانوا ظالمين حال كفرهم ، فبعد زوال الكفر لا يبقى هذا الاسم لأنا نقول : الظالم من ثبت له الظلم ، وهذا المعنى صادق عليه دائماً ولهذا يسمى النائم مؤمناً لأنه ثبت له الإيمان وإن لم يكن التصديق حاصلاً حال النوم ، وأيضاً المتكلم والماشي حقيقة في مفهومهما مع أن أجزاء التكلم والمشي لا توجد دفعة ، فدل هذا على أن حصول المشتق منه ليس شرطاً لكون الاسم المشتق حقيقة . وعورض بأنه لو حلف لا يسلم على كافر فسلم على إنسان مؤمن في الحال إلا أنه كان كافراً قبل بسنين متطاولة فإنه لا يحنث ، وبأن التائب عن المعصية لا يسمى عاصياً فكذا التائب عن الكفر ، وإن قيل : لعل هذا المانع شرعي هو تعظيم الصحابة أو لمانع عرفي فهذا القدر يكفينا على أنا بينا أن المراد من الإمامة في الآية النبوة ، فمن كفر بالله طرفة عين فإنه لا يصلح للنبوة وكذا الفاسق حال الفسق لا يجوز عقد الإمامة له باتفاق الجمهور من الفقهاء والمتكلمين ، فإن كل عاصٍ ظالم . والعبرة بالعدالة الظاهرة فنحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر خلافاً للشيعة فإنهم يقولون بوجوب العصمة ظاهراً وباطناً ، ومما يدل على بطلان إمامة الفاسق أن العهد في كتاب الله تعالى قد يستعمل بمعنى الأمر { ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان } [ يس : 60 ] أي ألم آمركم؟ لكن المراد في الآية لا يمكن أن يكون ذلك فإن أوامره تعالى لازمة للظالمين كما للمطيعين ، فثبت أن المراد كونهم غير مؤتمنين على أوامر الله وغير مقتدى بهم فيها قال صلى الله عليه وسلم « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » فالفاسق لا ينبغي أن يكون حاكماً ولا تنفذ أحكامه إذا ولي الحكم ، ولا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا فتياه إذا أفتى ، ولا يقدم للصلاة وإن كان بحيث لو اقتدى به لم تفسد صلاته . قال أبو بكر الرازي : ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أنه يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة ولا يجوز كون الفاسق قاضياً ، وهذا خطأ عظيم . نعم أنه قال : القاضي إذا كان عدلاً في نفسه وتولى القضاء من إمام جائر فإن أحكامه نافذة والصلاة خلفه جائزة ، لأن الذي ولاه بمنزلة سائر أعوانه .
وليس من شرط أعوان القاضي أن يكون عدولاً ، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرضا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه كان قضاؤه نافذاً وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان؟ قال : وكيف يجوز أن يدعي ذلك على أبي حنيفة وقد أكرهه ابن هبيرة في أيام بني أمية على قضائه وضربه فامتنع من ذلك فحبس فلج ابن هبيرة وجعل يضربه كل يوم أسواطاً ، فلما خيف عليه قال له الفقهاء : اقبل له شيئاً من عمله أي شيء كان حتى يزول عنك الضرب ، فتولى له عد أحمال التبن التي تدخل عليه فخلاه ثم دعاه المنصور إلى مثل ذلك حتى عد له اللبن الذي كان يضرب لسور المدينة ، وذلك أنه كان يقول في المنصور وأشياعه : لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت ، وقصته في أمر زيد بن علي مشهورة ، وحمله المال إليه وفتياه الناس سراً في وجوب نصرته والقتال معه ، وكذلك أمره مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن . وفي الآية إنذار بليغ وتخويف شديد عن وخامة عاقبة الظلم وقبح موقعه فإنه يحط أولاً عن رتبة النبوة { لا ينال عهدي الظالمين } وثانياً عن درجة الولاية { ألا لعنة الله على الظالمين } [ هود : 18 ] وثالثاً عن مرتبة السلطنة « بيت الظالم خراب ولو بعد حين » ، ورابعاً عن نظر الخلائق « جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها » وخامساً عن حظ نفسه { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [ البقرة : 57 ] ولله در القائل :
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً ... فالظلم آخره يأتيك بالندم
نامت عيونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم
ولآخر :
مرتع ظلم الورى وخيم ... يا صاحب اللب والحجاره
لا تظلم الناس واخش ناراً ... وقودها الناس والحجاره
غيره :
أيحسب الظالم في ظلمه ... أهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوا بل لهم موعد ... لن يجدوا من دونه موئلا
غيره :
أتلعب بالدعاء وتزدريه ... وما يدريك ما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن ... لها أمد وللأمد انقضاء
واعلم أن عهد الله الذي أخذ على عباده هو بالحقيقة عهد العبودية { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] والعهد الذي التزمه لعباده هو عهد الربوبية { ربكم ورب آبائكم الأولين } [ الشعراء : 26 ] ثم إنه تعالى لا يزال يلاحظك بنظر الربوبية فيربيك ويربيك وبعد نعمة الوجود يعطيك نعم الصحة المكنة والعافية والسلامة والإيمان والأمان والإخوان والأخدان { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وأنك لا تنفك عن تقصير ونسيان وجهل وعدوان وإيذاء لملائكة الله وعبيده وإرضاء لحزب الشيطان وجنوده .
فيا أيها المغرور ما هذا التقصير فإن لله المصير وما للظالمين من نصير .
قوله { وإذ جعلنا البيت } تقرير تكليف آخر . والبيت اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا وهذا من الأسماء التي كانت في الأصل للجنس ، ثم كثر استعماله في واحد من ذلك الجنس لخصلة مختصة به من بين سائر الأفراد حتى صار علماً له . ولا بد أن يكون وقت استعماله لذلك الواحد قبل العلمية مع لام العهد ليفيد الاختصاص به ويسمى بالعلم الاتفاقى ، وإنما لزمت اللام في مثله لأنه لم يصر علماً إلا مع اللام فصارت كبعض حروفه ، إلا أنه تعالى لم يرد بالبيت نفس الكعبة فقط بل جميع الحرم لأن حكم الأمن يشمل الكل . وصح هذا الإطلاق لأن الحرمة نشأت بسبب الكعبة نفسها ومثله قوله تعالى { هدياً بالغ الكعبة } [ المائدة : 95 ] والمراد الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة ولا في المسجد الحرام . وقوله { فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } [ التوبة : 28 ] والمراد - والله أعلم - منعهم من الحج وحضور مواضع النسك ، ويحتمل أن يكون المراد جعلنا البيت سبب الأمن ، وعلى هذا يكون البيت نفس الكعبة ، وعلى الأول يكون معنى { أمناً } موضع أمن كقوله { حرماً آمناً } [ القصص : 57 ] والمثابة المباءة والمرجع قيل : إن مثاباً ومثابة لغتان مثل مقام ومقامة . وقيل : التاء للمبالغة كعلامة . عن الحسن : أي يثوبون إليه في كل عام . وعن ابن عباس ومجاهد : لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه وذلك لدعاء إبراهيم عليه السلام { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } [ إبراهيم : 37 ] وقيل : مثابة أي يحجون فيثابون عليه . وكون البيت مثابة إنما يكون بجعل الله تعالى بناء على أن فعل العبد مخلوق لله ، أو بأن الله تعالى ألقى تعظيمه في القلوب ليصير ذلك داعياً لهم إلى العود إليه مرة بعد أخرى وذلك لمنافع دينية ودنيوية ، قال صلى الله عليه وسلم « من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه » وقال : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » ثم إن قطان الخافقين يجتمعون هناك للتجارات وضروب المكاسب فيعظم فيه النفع لمن أراد ولا شك أن قوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] خبر فتارة تتركه على ظاهره وتقول إنه خبر بأن يكون { حرماً آمناً يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] لا أن يكون إخباراً عن عدم وقوع القتل فيه أصلاً ، فإن الموجود بخلافه فقد يقع القتل الحرام وكذا المباح قال تعالى { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] وتارة تصرفه عن ظاهره وتقول . إنه أمر بأن يجعلوا ذلك الموضع أمناً من الغارة والقتل قال صلى الله عليه وسلم
« إن الله حرم مكة وإنها لم تحل لأحد قبلي وإنما أحلت لي ساعة من نهار » وقد عادت حرمتها كما كانت ، فذهب الشافعي إلى أن المعنى أنها لم تحل لأحد أن ينصب الحرب عليها وأن ذلك أحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأما من دخل البيت من الذين وجبت عليهم الحدود فقال الشافعي : إن الإمام يأمر بالضيق عليه بما يؤدي إلى خروجه ، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحل ، فإن لم يخرج جاز قتله فيه ، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتاله فيه . وعند أبي حنيفة لا يستوفى قصاص النفس في الحرم إلا أن ينشئ القتل فيه ، ولكن يضيق الأمر عليه ولا يكلم ولا يطعم ولا يعامل حتى يخرج فيقتل وسلم أن يستوفى منه قصاص الطرف . وعند أحمد : لا يستوفى من الملتجئ واحد من القصاصين ، ولو التجأ إلى المسجد الحرام قال الإمام : أو مسجد آخر يخرج منه ويقتل لأنه تأخير يسير ، وفيه صيانة المسجد وحفظ حرمته . وقيل : تبسط الأنطاع ويقتل في المسجد تعجيلاً لتوفية الحق { واتخذوا } بفتح الخاء معطوف على { جعلنا } أي اتخذ الناس من مكان إبراهيم الذي وسم به لاهتمامه به وإسكان ذريته عنده قبلة يصلون إليها ، وعلى هذا المراد بالمصلى القبلة . وأما من قرأ بالكسر على الأمر فعلى إرادة القول أي وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة تصلون فيه استحباباً لا وجوباً . وفي مقام إبراهيم أقوال . فعن الحسن وقتادة والربيع بن أنس : أنه لما جاء إبراهيم من الشام إلى مكة قالت له امرأة إسماعيل : انزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل ، لأن سارة شرطت عليه أن لا ينزل غيرة على هاجر فجاءته بحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه . وعن ابن عباس : أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ، فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عن رفع الحجارة قام على حجر فغاصت فيه قدماه . وقيل : إنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عند الأذان بالحج . قال القفال : ويحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام قام على هذا الحجر في هذه الأمور كلها . وعن مجاهد : مقام إبراهيم الحرم كله ، فعلى هذا يراد بالمصلى المدعى من الصلاة بمعنى الدعاء . وعن عطاء : مقام إبراهيم عرفة ومزدلفة والجمار لأنه قام في هذه المواضع ودعا بها ، والقول بأن مقام إبراهيم الحجر الذي فيه أثر قدميه أولى ، لأن هذا الاسم في العرب مختص بذلك الموضع يعرفه المكي وغيره ، ولأن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجله وذلك من أظهر الدلائل على صنع الله تعالى وإعجاز إبراهيم ، وكان أشد اختصاصاً به ، فإطلاق مقام إبراهيم عليه أولى ، ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ بيد عمر فقال : هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى؟ فقال : لم أؤمر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت .
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استلم الحجر ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين وقرأ { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } « ومن » هذه تجريدية على نحو « رأيت منك أسداً » و « وهب الله لي منك ولياً مشفقاً » ففيه بيان المتخذ والمرئي والموهوب وتمييزه في ذلك المعنى عن غيره . ولا ريب أن للصلاة به فضلاً علىغيره من حيث التيمن والتبرك بموطئ قدم إبراهيم عليه السلام ، وركعتا الطواف خلف المقام ثم في الحجر ثم في المسجد أي مسجد كان حيث شاء متى شاء ليلاً أو نهاراً سنة عند الشافعي في أصح قوليه بعد الفراغ من الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين قال هل علي غيرها؟ قال : لا إلا أن تطوع ، وفي قوله الآخر فرض لظاهر قوله { واتخذوا } والأمر للوجوب ، والرواية عن أبي حنيفة أيضاً مختلفة ، { وعهدنا } المراد بالعهد هنا الأمر أي ألزمناهما ذلك وأمرناهما أمراً ووثقنا عليهما فيه أن طهرا إن كانت « أن » مخففة فالتقدير بأن طهرا وإن كانت مفسرة فمعناه أي طهراً والمراد التطهير من كل أمر لا يليق بالبيت ، أما من الأنجاس والأقذار فلأن موضع البيت وحواليه مصلى ، وأما من الشرك ومظانه فلأنه مقام العبادة والإخلاص وكل هذه إما أن لا تكون موجودة هناك أصلاً والمراد أقراه على طهارته مثل { ولهم فيها أزواج مطهرة } [ البقرة : 25 ] فمعلوم أنهن لم يطهرن بل خلقن طاهرات ، وإما أن تكون موجودة فأمر بإزالتها . وقيل : عرّفا الناس أن بيتي طهر لهم متى حجوه للطائفين إلى آخره . العطف يقتضي مغايرة ، فالطائف من يقصد البيت حاجاً ومعتمراً فيطوف به ، والعاكف من يقيم هناك . ويجاور أو يعتكف ، والركع السجود جمعاً راكع وساجد أي من يصلي هناك ، وعن عطاء ، إذا كان طائفاً فهو من الطائفين ، وإذ كان جالساً فهو من العاكفين ، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود . ويجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين يعني القائمين كما قال { للطائفين والقائمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] والمعنى للطائفين والمصلين لأن القيام والركوع والسجود هيئات للمصلي ، ولعل الوجه الأول أولى ليكون الركع والسجود كلاهما فقط بمعنى المصلين ولهذا لم يفصل بينهما بالواو . ثم إذا فسرنا الطائعين بالغرباء دلت الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة ، لأنه تعالى مدحهم بذلك . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء أن الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل .
وفي إطلاق الآية دليل على جواز الصلاة في البيت فرضاً كانت أو نفلاً خلافاً لأحمد ومالك في الفريضة قالا { فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] ومن كان داخل المسجد لم يكن متوجهاً إلى المسجد بل إلى جزء من أجزائه ، وأجيب بأن التوجه إلى جزئه كافٍ لأن المتوجه الواحد لا يكون إلا كذلك وإن كان خارج المسجد ، وبأن الفرق بين الفرض والنفل لاغٍ .
قوله تعالى { وإذ قال إبراهيم } قيل : في الآية تقديم وتأخير لأن قوله { رب اجعل هذا بلداً آمناً } لا يمكن لا بعد دخول البلد في الوجود . فقوله { وإذ يرفع } [ البقرة : 127 ] وإن كان متأخراً في التلاوة فهو متقدم من حيث المعنى قلت : في ترتيب القصة فوائد منها : أنه أجمل القصة في قوله { وإذ ابتلى } إلى { فأتمهن } ثم فسر ، وفي التفسير قدم الأهم فالأهم ، ولا ريب أن ذكر جعل إبراهيم إماماً أولى بالتقديم لعموم نفعه للخلائق ولتقدمه في الوجود أيضاً ، ثم ذكر جعل البيت مثابة للناس وأمناً لأنه المقصود من عمارة البيت ثم حكاية عمارة البيت . وقد حصل في ضمن رعاية الأهم فوائد أخر منها : أنه كما كان مبنى القصة على الإجمال والتفسير وقع كل من أجزائها أيضاً كذلك فقوله { وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } مجمل ، ثم فسر ذلك بأن جعله ذا أمن كان بسبب دعاء إبراهيم . وذكر البيت أولاً وقع مجملاً ثم فسر بأنه كيف بني ومنها أنه وقع ختم الكلام بأدعية إبراهيم عليه السلام ووقع ختم الأدعية بذكر خاتم النبيين ، وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه ولعل ما فاتنا من أسرار هذا الترتيب أكثر مما أحصينا . { هذا بلداً آمناً } ذا أمن مثل عيشة راضية أو آمناً من فيه كقولك « ليل نائم » وإنما قيل ههنا بلداً آمناً على التنكير وفي سورة إبراهيم { هذا البلد آمناً } إما لأن هذا الدعاء صدر منه قبل جعل المكان بلداً فكأنه قال : واجعل هذا الوادي بلداً آمناً ، وذاك الدعاء صدر وقد جعل بلداً فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيرته بلداً بلداً ذا أمن ، وإما لأن الدعوتين واحدة والمراد اجعل هذا البلد بلداً آمناً فيفيد مبالغة زائدة كقولك « هذا اليوم يوم جار » معناه اجعله من البلدان الكاملة من الأمن بخلاف قوله { اجعل هذا البلد آمناً } [ إبراهيم : 35 ] ففيه طلب الأمن نفسه قيل : سأل الأمن من القحط لأنه أسكن أهله بواد غير ذي ضرع ولا زرع وقيل : من الخسف والمسخ ، وقيل : من القتل كيلا يكون سؤال الرزق بعده تكراراً ، وأجيب بأن التوسعة في الرزق مغايرة لطلب إزالة القحط . ثم إنه تعالى استجاب دعاءه فجعله آمناً من الآفات فلم يصل إليه جبار إلا قصمه الله كما فعل بأصحاب الفيل . قيل : أليس أن الحجاج حارب ابن الزبير وخرب الكعبة وقصد أهلها بكل سوء؟ وأجيب بأن مقصوده لم يكن تخريب الكعبة نفسها وإنما كان غرضه شيئاً آخر .
{ من الثمرات } « من » للابتداء لا للتبعيض بدليل قوله { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] وإنما سأل إبراهيم عليه السلام الأمن وأن يجبى إليه الثمرات وإن كان يتعلق بالدنيا لأن البلد إذا كان آمناً ذا خصب تفرغ أهله لطاعة الله تعالى ويكون سبباً لاجتماع الناس وإتيانهم إليه من كل أوب زائرين وعاكفين ، وطلب الدنيا لأجل الدين من سنن الصالحين « نعم المال الصالح للرجل الصالح » واختلف في أن مكة هل كانت آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم وصار ذلك مؤكداً بدعائه فقيل : نعم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض » ولقوله { عند بيتك المحرم } [ إبراهيم : 37 ] وقيل : إنما صارت حرماً آمناً بدعوته ، وقبلها كانت كسائر البلاد بدليل قوله : « إني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة » وقيل بالجمع بينهما ، وذلك أنه كان ممنوعاً قبله بمنع الله تعالى من الاصطلام وبما أوقع في النفوس من التعظيم ثم صار آمناً على ألسنة الرسل . و { من آمن منهم } بدل من { أهله } يعني وارزق المؤمنين من أهله خاصة كأنه قاس الرزق على الإمامة حيث ميز هناك بين المؤمن والكافر فقيل : { لا ينال عهدي الظالمين } فعرف الفرق بينهما فقيل { ومن كفر } عطفاً على { من آمن } كما مر في { ومن ذريتي } أو هو مبتدأ مضمن معنى الشرط جوابه { فأمتعه } وذلك أن الاستخلاف استرعاء يختص بمن ينصح للمرعي فيؤدي عن الله أمره ونهيه ولا يأخذه في الدين لومة لائم ولا سطوة جبار وظالم وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ولهذا قيل : من استسرعى الذئب فقد ظلم . وأما الرزق فلا يقبح إيصاله إلى المؤمن والكافر والصالح والفاجر لعموم الرحمة ، ولأنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة على أنه متاع قليل وأمد يسير فيما بين الأزل والأبد و { قليلاً } أي إمتاعاً أو تمتيعاً قليلاً أو زماناً قليلاً فنعمة المؤمنين في العاجل موصولة بنعيمهم في الآجل ، ونعمة الكافرين مقطوعة عنهم بعد الموت ، والزائل لا يجدي بطائل { أفرأيت إن متعناهم سنين . ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } [ الشعراء : 205-207 ] ومعنى الاضطرار أن يفعل به ما يلجئه إلى النار كقوله { يوم يدعُّون إلى نار جهنم دعا } [ الطور : 13 ] { وسيق الذين كفروا إلى جهنم } [ الزمر : 71 ] أو أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك الفعل اختياراً كالاضطرار إلى أكل الميتة مثلاً { وبئس المصير } ذلك الذي اضطر إليه أو ذلك الاضطرار ، فحذف المخصوص للعلم به . والمصير إما مصدر بمعنى الصيرورة يقال : صرت إلى فلان مصيراً وإما موضع وكلاهما شاذ والقياس مصار مثل « معاش » وكلاهما مستعمل والله أعلم .
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
القراآت : { أرنا } وبابه ساكنة الراء : ابن كثير ورويس قياساً على كسرة فخذ إذ تسكن فيقال « فخذ » . وقرأ أبو عمرو بالاختلاس طلباً للخفة وحذراً من الإجحاف { ويعلمهم } بالاختلاس : ابن عباس ، وكذلك كل فعل مستقبل مجموع حيث وقع . وروى ابن رومي عن ابن عباس { يكلمنا } و { تعدنا } وكل كلمة تضمنت جمعين من الأسماء باختلاس مثل { في أعينكم } { وأسلحتكم } { وأمتعتكم } و { أوصى } من الإيصاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { وصى } بالتشديد . { شهداء إذ } عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . والباقون { شهداء يذ } وكذلك ما أشبهه في كل القرآن .
الوقوف : { وإسماعيل } ( ط ) لإضمار القول أي يقولان ومحله نصب على الحال { منا } ( ط ) للابتداء بأن ولجواز الوصل وجه لطيف على تقدير فإنك أو لأنك { العليم } ( 5 ) { مسلمة لك } ( ص ) لعطف المتفقين { علينا } ( ط ) وقد ذكر { الرحيم } ( 5 ) { ويزكيهم } ( ط ) { الحكيم } ( 5 ) { نفسه } ( ط ) للفصل بين الاستفهام والإخبار { في الدنيا } ( ج ) لعطف الجملتين { الصالحين } ( 5 ) { أسلم } ( ط ) لأن قوله « قال » عامل « إذ » وإلا وجب أن يقال « فقال » وإلا انقطع النظم { العالمين } ( 5 ) { ويعقوب } ( ط ) لإرادة القول على الأصح ، ومن وصل جعل الوصية في معنى القول { مسلمون } ( ط ) لأن « أم » بمعنى همزة الاستفهام للإنكار { الموت } ( لا ) لأن « إذ » بدل من « إذ » الأولى و « إذ » الأولى ظرف { شهدا } و « اذ » الثانية ظرف { حضر } ومن قطعها عن الأول فوقف على الموت وجعل { قالوا } عاملاً ولم يقف على { بعدي } فله وجه لا يتضح لأن الإنكار متوجه على قولهم : إن يعقوب أوصى بنيه باليهودية لا على أن يعقوب قد مات { من بعدي } ( ط ) { واحداً } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أجوز على جعل الواو حالاً { مسلمون } ( 5 ) { قد خلت } ( ج ) لأن ما بعدها تصلح صفة للأمة وتصلح استئنافاً وهو واضح لعطف { ولكم ما كسبتم } عليها { ولكم ما كسبتم } ( ج ) لعطف الجملتين المختلفتين { يعلمون } ( 5 ) .
التفسير : عن وهب بن منبه قال : إن آدم صلى الله عليه وسلم لما أهبط إلى الأرض استوحش منها لما رأى من سعتها ، ولأنه لم ير فيها أحداً غيره فقال : يا رب أما لأرضك عامر يسبحك فيها ويقدس لك غيري؟ فقال الله : إني سأجعل فيها من ذريتك من يسبح بحمدي ويقدس لي ، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري وسأبوئك منها بيتاً أختاره لنفسي وأخصه بكرامتي وأوثره على بيوت الأرض كلها باسمي وأسميه بيتي ، أعظمه بعظمتي وأحوطه بحرمتي ، وأضعه في البقعة التي اخترت لنفسي ، فإني اخترت مكانه يوم خلقت السموات والأرض ، أجعل ذلك البيت لك ولمن بعدك حرماً وأمناً أحرم بحرمته ما فوقه وما تحته وما حوله ، فمن حرمه بحرمتي فقد عظم حرمتي ، ومن أحله فقد أباح حرمتي ، ومن أمن أهله استوجب بذلك أماني ، ومن أخافهم فقد جفاني ، ومن عظم شأنه فقد عظم في عيني ، ومن تهاون به فقد صغر في عيني ، سكانها جيراني ، وعمارها وفدي ، وزوارها أضيافي ، أجعله أوّل بيت وضع للناس ، وأعمره بأهل السماء والأرض ، يأتونه أفواجاً شعثاً غبراً على كل ضامر يأتين من كل فج عميق ، يعجون بالتكبير عجيجاً ويضجون بالتلبية ضجيجاً ، فمن اعتمره لا يريد غيري فقد زارني وضافني ووفد عليّ ونزل بي فحق علي أن ألحقه بكرامتي وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وزواره وأن يسعف كل واحد منهم بحاجته ، تعمره يا آدم ما كنت حياً ثم يعمره من بعدك الأمم في القرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن ونبياً بعد نبي حتى ينتهي بعد ذلك إلى نبي من ولدك يقال له « محمد » وهو خاتم النبيين فأجعله من عماره ، وسكانه وحماته وولاته ، يكون أميني عليه ما دام حياً ، فإذا انقلب إلي وجدني وقد ذخرت له من أجره ما يتمكن به من القربة إلي والوسيلة عندي وأجعل اسم ذلك البيت وشرفه وذكره ومجده وسناه ومكرمته لنبي من ولدك يكون قبل هذا النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوه يقال له « إبراهيم » ، أرفع به قواعده وأقضي على يديه عمارته ، وأعلمه مشاعره ومناسكه ، وأجعله أمة واحدة قانتاً قائماً بأمري داعياً إلى سبيلي ، أجتبيه وأهديه إلى صراط مستقيم ، أبتليه فيصبر وأعافيه فيشكر وآمره فيفعل وينذر لي فَيَفي ، أستجيب دعاءه في ولده وذريته من بعده ، وأشفعه فيهم وأجعلهم أهل ذلك البيت وحماته وسقاته وخدمه وخزانه وحجابه حتى يبدلوا ويغيروا وأجعل إبراهيم إمام ذلك البيت وأهل تلك الشريعة ، يأتم به من حضر تلك المواطن من جميع الخلق الجن والإنس .
وروي أن الله تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي . وقال لآدم : أهبطت لك بيتاً يطاف به كما يطاف حول عرشي ، فتوجه إليه آدم من أرض الهند ماشياً وتلقته الملائكة فقالوا : برّ حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام . وحج آدم أربعين حجة من أرض الهند إلى مكة على رجليه ، فكان على ذلك إلى أن رفعه الله أيام الطوفان إلى السماء الرابعة ، فهو البيت المعمور . ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم ببنائه وعرفه جبرائيل مكانه . وعن علي عليه السلام : البيت المعمور بيت في السماء يقال له « الضراح » وهو بحيال الكعبة من فوقها ، حرمته في السماء كحرمة البيت في الأرض ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً .
وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما ذو عاهة ولا سقيم إلا شفي » وعن ابن عباس أنه كان أشد بياضاً من الثلج حتى سودته خطايا أهل الشرك . وأما قصة إسماعيل عليه السلام وأمه ، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لم يكذب إبراهيم عليه السلام قط إلا ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } [ الأنبياء : 63 ] وواحدة في شأن سارة فإنه قدم أرض جبار ومعه سارة وكانت أحسن الناس فقال لها : إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك . فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه فقال : لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي لها أن تكون إلا لك ، فأرسل إليها فأتى بها وقام إبراهيم إلى الصلاة ، فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها فقبضت يده قبضة شديدة فقال لها : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضة الأولى فقال لها مثل ذلك ، فعاد فقبضت يده أشد من القبضتين الأولتين فقال : ادعي الله أن يطلق يدي ولا أضرك ففعلت فأطلقت يده ودعا الذي جاء بها فقال له : إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان ، فأخرجها من أرضي وأعطها هاجر . قال : فأقبلت تمشي فلما رآها إبراهيم انصرف فقال : مهيم . فقالت : خيراً كفى الله يد الفاجر وأخدم خادماً » قال أبو هريرة : فتلك أمكم يا بني ماء السماء . قلت : وذلك أنها ملكتها سارة إبراهيم فولدت له إسماعيل أبا العرب . وأما تتمة القصة ، بعد أن غارت سارة على هاجر حيث لم يكن لسارة من إبراهيم ولد فإنها ولدت إسحق بعد ولادة هاجر إسماعيل بأربع عشرة سنة . فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : أول ما اتخذت النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هناك ووضع عندهما جراباً فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفىَ إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ولك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له : الله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيعنا .
ثم رجعت فانطلق إبراهيم صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات فرفع يديه فقال { ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } حتى بلغ { يشكرون } [ إبراهيم : 37 ] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى إذا نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى فانطلقت كراهية أن تنظر إليه فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ففعلت ذلك سبع مرات . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم « فلذلك سعى الناس بينهما » . فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : صه تريد نفسها ، ثم تسمعت فسمعت صوتاً أيضاً فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوّض وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد أن تغرف . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أم إسماعيل لو لم تغرف من الماء لكانت زمزم عيناً معيناً » . قال : فشربت وأرضعت ولدها فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله . وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق كداء فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء . فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا وأخبروهم ، فأقبلوا وأم إسماعيل عند الماء فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء . قالوا : نعم . قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الإنس » . فنزلوا وأرسلوا إلى أهاليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شب الغلام ، فلما أدرك الغلام زوجوه امرأة منهم . وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، ثم سألها عن عيهم وهيئتهم فقالت : نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة وشكت . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد وشدة قال : أوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غير عتبة بابك .
قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك فطلقها . وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله أن يلبث ، ثم أتاهم بعد ذلك فلم يجده فدخل على امرأته فسأل عنه قالت : خرج يبتغي لنا قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بخير وسعة وأثنت على الله عز وجل . قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يثبت عتبة بابه . فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير . قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم ، يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك . قال : وتعينني؟ قال : وأعينك . قال : فإن الله أمرني أن أبني بيتاً ههنا وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها ، فعند ذلك رفع القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني ، حتى إذا ارتفع البناء جاء إبراهيم بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان { ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } وعن علي كرم الله وجهه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم فانهدم فبنته العمالقة ، ومر عليه الدهر فانهدم فبناه قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ شاب ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه فقالوا : يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أول من خرج عليهم فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مرط ثم يرفعه جميع القبائل فرفعوه فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه .
واعلم أن للبيت أربعة أركان : ركنان يمانيان وركنان شاميان ، وكان لاصقاً بالأرض ، وله بابان شرقي وغربي فذكر أن السيل هدمه قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر سنين فأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هي عليها اليوم ، ولم يجدوا من النذور والهدايا والأموال الطيبة ما يفي بالنفقة فتركوا من جانب الحجر بعض البيت وخلفوا الركنين الشاميين عن قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم ، وضيقوا عرض الجدار من الأسود إلى الشامي الذي يليه فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً وهو الذي يسمى الشاذروان ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعائشة
« » لولا حدثان قومك بالشرك لهدمت البيت ولبنيته على قواعد إبراهيم فألصقته بالأرض وجعلت لها بابين شرقياً وغربياً « ثم إن ابن الزبير هدمه أيام ولايته وبناه على قواعد إبراهيم ، ثم لما استولى عليه الحجاج هدمه وأعاده على الصورة التي هو عليها اليوم وهي بناء قريش . ولنعد إلى المقصود فنقول { يرفع } حكاية حال ماضية ، والقواعد جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لما فوقه وهي صفة غالبة معناها الثابتة ، ورفع الأساس البناء عليها لأنها إذا بنى عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويجوز أن يكون المراد بها سافات البناء لأن كل ساف قاعدة للذي يبنى عليه ويوضع فوقه فيرتفع كل منها بسبب وضع الآخر عليه ، ورفع القواعد صريح فيما ذهب إليه الأكثرون من أن القواعد كانت موجودة وأن إبراهيم عمّرها ورفعها كما مر في الأحاديث . وإنما لم يقل » قواعد البيت « ليكون الكلام مبنياً على تبيين بعد إبهام ففيه تفخيم لشأن المبين ، ثم إن الله تعالى حكى عنهما ثلاثة أنواع من الدعاء في تلك الحالة؛ الأول : قولهما { تقبل منا } وقبول الله عمل العبد عبارة عن كون العمل بحيث يرضاه الله تعالى أو يثبت عليه ، والأول ألذ عند العارفين من الثاني ، شبه الفعل من العبد بالهدية ، وإثابة الله تعالى عليه ورضاه به بالقبول . وقيل : إن بين القبول والتقبل فرقاً ، فالتقبل عبارة عن تكلف القبول وذلك حيث يكون العمل ناقصاً لا يستحق أن يقبل ، فاختير تقبل هضماً وتواضعاً واستقصاراً . وقد يستدل بهذا على أن الفعل المقرون بالإخلاص لا يجب ترتب الثواب عليه وإلا لم يكن في طلبه فائدة ، ويحتمل أن يقال : الطلب متوجه إلى جعله من جملة الأفعال المقرونة بالإخلاص ، فكنى بطلب القبول عن ذلك ويؤكده قولهما { إنك أنت السميع } يعني سماع إجابة العليم بنياتنا . النوع الثاني { ربنا واجعلنا مسلمين لك } فإن أريد بالإسلام الدين والاعتقاد توجه الطلب إلى الثبات والدوام أي ثبتنا على ذلك وإلا كان تحصيلاً للحاصل بالنسبة إليهما وقتئذ ، وإن أريد الاستسلام والخضوع والإذعان الكلي والرضا بكل ما قدر وأمر فتوجه الطلب إلى هذه الأمور أنفسها غير مفيد لأنها أمور خارجة عن الضبط لا تتيسر إلا بمجرد تيسير الله وتوفيقه بخلاف أصل الإسلام الذي وقع به التكليف فإنه مضبوط . وقد يظن أن للعبد اختياراً فيه وإن كان اختياره على تقدير ثبوته ينتهي إلى مسبب الأسباب . وقوله { واجعلنا } إما معطوف على { تقبل } وقوله { إنك أنت السميع العليم } { ربنا } اعتراض للتأكيد وإما معطوف على محذوف أي ربنا افعل هذا واجعلنا . { ومن ذريتنا } من للتبعيض كما في قوله { ومن ذريتي }
[ البقرة : 124 ] .
والأمة الجماعة من الناس ، وقيل أراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم { مسلمة } يحتمل ههنا أصل الإسلام والزيادة عليه أيضاً . وقيل : أسلم مطلقاً يفيد الإيمان والاعتقاد ومعدى باللام معناه الاستسلام والانقياد الكلي . طلب الإسلام لهم بعد ما طلب لهم الإمامة إظهاراً للشفقة . فالشفيق بسوء الظن مولع ، ويحتمل أن يكون هذا الدعاء بياناً لما أجمل هناك فيكونان واحداً . وتخصيص الذرية بالدعاء من بين الخلائق لأنهم أحق بالنصيحة وأقوم { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] ولأنهم أئمة بصلاحهم يصلح غيرهم وفي سدادهم يكون سداد من وراءهم . ولقد استجاب الله دعاءه فلم يزل في ذريتهما من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ، ولم يزل الرسل من ذرية إبراهيم ، وقد كان في الجاهلية زيد بن عمرو ابن نفيل وقس بن ساعدة . ويقال عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم على دين الحق قائلين بالإبداء والإعادة والثواب والعقاب يوحدون الله ولا يأكلون الميتة ولا يعبدون الأوثان { وأرنا } إن كان منقولاً عن رؤية العلم فمعناه علمنا أن شرائع حجنا كيف هي إذ أمرتنا ببناء البيت لنحجه وندعو الناس إلى حجه ، وإن كان منقولاً عن رؤية البصر - وهو الأظهر - ولذلك لم يتجاوز مفعولين ظاهراً . فالمعنى بصرنا متعبداتنا في الحج . قال الحسن : إن جبريل أرى إبراهيم المناسك كلها حتى بلغ عرفات فقال : يا إبراهيم أعرفت ما أريتك من المناسك؟ قال : نعم ، فسميت عرفات . فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت عرض له إبليس فسد عليه الطريق ، فأمر جبريل أن يرميه بسبع حصيات ففعل فذهب الشيطان ، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع وكل ذلك يأمره جبريل برمي الحصيات . وقيل : المراد العلم والرؤية معاً لأن الحج لا يتم إلا بأمور بعضها يعلم ولا يرى ، وبعضها لا يتم الغرض منه إلا بالرؤية ، فوجب حمل اللفظ على الأمرين جميعاً وليس ببعيد ، فإن اللفظ المشترك يصح إطلاقه على معنييه معاً وكذلك مدلولا الحقيقة والمجاز يصح إرادتهما معاً من لفظ واحد كالعقد والوطء من النكاح . غاية ما في الباب أن يكون هذا الإطلاق مجازاً ، ومن الناس من يحمل المناسك على المذابح . فقد يسمى الذبح للتقرب نسكاً والذبيحة نسيكة ، وليس لهذا التخصيص وجه فإن الذبح إنما يسمى نسكاً لدخوله تحت أصل معنى النسك وهو التعبد ، فحمل المناسك على جميع أعمال الحج أولى قال صلى الله عليه وسلم « خذوا عني مناسككم لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا » بل لا يبعد أن يحمل على جميع ما شرعه الله لإبراهيم أي علمنا كيف نعبدك ومتى وأين نعبدك ، وبماذا نتقرب إليك حتى نخدمك بذلك خدمة العبد لمولاه؟ { وتب علينا } التوبة منهما محمولة على ما عسى أن يكون فرط منهما من الصغائر عند من يجوّزها على الأنبياء ، وعلى ترك الأولى ونحو ذلك عند غيرهم ، ويمكن أن تكون التوبة منهما تصويراً لأنفسهما بصورة النادم العازم على التحرز تشدداً في الانصراف عما لا يليق بهما .
قال صلى الله عليه وسلم « يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم مائة مرة » وأيضاً لعلهما استتابا لذريتهما لعلمهما بأن فيهم ظالمين لقوله تعالى { لا ينال عهدي الظالمين } وذلك لغاية شفقتهما عليهم . وباقي مباحث التوبة ، قد مر في قصة آدم فليتذكر النوع الثالث { ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } وفيه أمران : الأول : أن يبعث في تلك الأمة رسولاً ليبين لهم الشرع القويم وينهج الصراط المستقيم ، والثاني : أن يكون ذلك الرسول منهم لا من غيرهم لأن الرسول والمرسل إليهم إذا كانوا جميعاً من ذريته كان رتبته أجل ، ولأنه إذا كان منهم عرفوا مولده ومنشأه فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه وأمانته ، ولأنه إذا كان منهم كان أحرص عليهم وأشفق من أجنبي لو أرسل إليهم . وأما الرسول فهو محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين وهو حجة ولقوله تعالى في موضع آخر { لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } [ آل عمران : 164 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم « أنا دعوة إبراهيم وبشرى عيسى ورؤيا أمي » أما الدعوة فهذه ، وأما البشارة فقوله تعالى في سورة الصف { ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } [ الصف : 6 ] وأما الرؤيا فما رأت آمنة وهي حامل أنه خرج منها نور أضاء ما بين الخافقين . وههنا نكتة وهي أن الخليل لما دعا للحبيب بقوله { ربنا وابعث فيهم رسولاً } فلا جرم قضى الله تعالى حق الحبيب للخليل بأن أجرى ذكره على ألسنة أمته إلى يوم القيامة يقولون في صلاتهم : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم . ولهذا الذكر مناسبات أخر منها : أن الخليل دعا لنفسه بقوله { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } [ الشعراء : 84 ] أي أبق لي ثناءً حسناً في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأجابه الله تعالى وقرن ذكره بذكر حبيبه . ومنها أن إبراهيم أبو الملة { ملة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] ومحمد صلى الله عليه وسلم أبو الرحمة { بالمؤمنين رءوف رحيم } [ التوبة : 128 ] { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } [ الأحزاب : 6 ] « إنما أنا لكم مثل الوالد لولده » يعني في الرأفة والرحمة ، فلما ثبت لكل منهما الأبوة قرن بين ذكرهما في التحية . ومنها أن إبراهيم منادي الشريعة { وأذن في الناس بالحج } [ الحج : 27 ] ومحمد منادي الدين { سمعنا منادياً ينادي للإيمان } [ آل عمران : 193 ] ومنها أنه كان أول الأنبياء بعد الطوفان ، ومحمد خاتم النبيين ورسول آخر الزمان . ومنها إن الخليل تبرأ عن سائر الأديان
{ إني بريء مما تشركون } [ هود : 54 ] والحبيب تنزه عن جميع الأكوان { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] ثم إن إبراهيم عليه السلام ذكر لذلك الرسول صفات أولاها { يتلو عليهم آياتك } فهو الفرقان المتلو عليهم ، أو جميع ما بلغه من دلائل التوحيد وغيره « أوتيت القرآن ومثله معه » وثانيتها « ويعلمهم الكتاب » أي معانيه وحقائقه ، وذلك أن التلاوة وإن كانت مطلوبة لبقاء لفظها على ألسنة أهل التواتر فيبقى مصوناً من التحريف ، ولأن لفظه ونظمه معجز وفي تلاوته نوع عبادة ولا سيما في الصلوات إلا أن الحكمة العظمى والمقصود الأسنى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وثالثتها قوله { والحكمة } أي ويعلمهم الحكمة . وقيل : هي الإصابة في القول والعمل جميعاً ، فلا يسمى حكيماً إلا وقد اجتمع فيه الأمران فيضع كل شيء موضعه ولهذا عبر عنها بعض الحكماء بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ، ويناسبه قوله صلى الله عليه وسلم « تخلقوا بأخلاق الله » وعن ابن وهب قلت لمالك : ما الحكمة؟ قال : معرفة الدين والفقه فيه والاتباع له . وعن قتادة وإليه ذهب الشافعي : هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر تلاوة الكتاب ثم تعليمه ثم عطف عليه الحكمة فيكون شيئاً خارجاً عنهما وليس ذلك إلا سنة الرسول ، فإن الدلائل العقلية الدالة على التوحيد والنبوة وما يتلوهما مستقلة بالفهم فحمل اللفظ على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى . وقيل : هي الفصل بين الحق والباطل من الحكم . وقيل : المراد بالكتاب الآيات المحكمات ، وبالحكمة المتشابهات . وقيل : هي ما في أحكام الكتاب من الحكم والمصالح . ورابعتها { ويزكيهم } لأن الإرشاد يتم بأمرين : التحلية والتخلية . فكما يجب على المعلم التنبيه على نعوت الكمال ليحظى المتعلم بها ، يجب عليه التحذير عن النقصان ليتحرز عنها وذلك بنحو ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم سوى التلاوة وتعليم الكتاب والحكمة من الوعد والإيعاد والوعظ والتذكير والتشبث بأمور الدنيا لتتقوى بها دواعيهم إلى الإيمان والعمل الصالح ، ولذلك مدح بأنه على خلق عظيم وأنه أوتي مكارم الأخلاق . وقيل : يزكيهم يطهرهم عن الشرك وسائر الأرجاس كقوله { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وقيل : يشهد لهم بأنهم عدول يوم القيامة { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] وعن ابن عباس : التزكية هي الطاعة لله والإخلاص { إنك أنت العزيز } القادر الذي لا يغلب { الحكيم } العالم الذي لا يفعل إلا على وفق المصالح ، وإذا كان كذلك صح منه إجابة الدعاء وبعثة الرسل وإنزال الكتب { ومن يرغب } الاستفهام فيه لتقرير النفي أي لا يرغب أحد . يقال : رغب عن الأمر إذا كرهه ورغب فيه إذا أراده . ومحل { من سفه } الرفع على البدل من الضمير في { يرغب } وذلك أنه غير موجب مثل « هل جاءك أحد إلا زيد » وسفه الإما متعد : ومعنى سفه نفسه امتهنها واستخفها فأصل السفه الخفة وفي الحديث
« الكبر أن نسفه الحق وتغمص الناس » لأنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إذالة نفسه وتعجيزها حيث خالف بها كل نفس عاقلة . وعن الحسن : إلا من جهل نفسه فلم يفكر فيها ، فيستدل بما يجده فيها من آثار الصنع على وحدانية الله تعالى وحكمته ويرتقي إلى صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وعن أبي عبيدة : أهلك نفسه وأوبقها . وقيل : أضل نفسه وإما لازم فمعناه سفه في نفسه فحذف الجار نحو « زيد ظني مقيم » أي في ظني وقيل : نصب على التمييز نحو « غبن رأيه وألم رأسه » وهذا عند الكوفيين . فإن التمييز عندهم يجوز أن يكون معرفة . وفيه توبيخ لليهود والنصارى ومشركي العرب وتعجيب من حالهم ، فإن أعظم مفاخرهم وفضائلهم الانتماء إلى إبراهيم ، ثم إنهم لا يؤمنون بالرسول الذي هو دعوته ومطلوبه بالتضرع والإخلاص . فإن قيل : ملة إبراهيم عين ملة محمد في الأصول والفروع ، أو هما متحدتان في الأصول كالتوحيد والنبوة ، وأصول مكارم الأخلاق ولكنهما مختلفتان في فروع الأعمال ولا سبيل إلى الأول وإلا لم يكن شرع محمد صلى الله عليه وسلم ناسخاً لسائر الشرائع ولا إلى الثاني لأنه يلزم أن يكون محمد أيضاً راغباً عن ملة إبراهيم ، ولأن الاعتراف بالأصول لا يقتضي الاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قلنا : المختار اتحاد الملتين في الأصول فقط ، لكن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جملة الأصول التي مهدها إبراهيم عليه السلام . والمراد بملة إبراهيم في الآية أصولها التي لا تختلف بمر الأعصار وكر الدهور ، فلا يلزم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم راغباً عنها لأنه أمر باتباعها { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما : قد علمنا أن الله قال في التوراة : إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد ، فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ، ومن لم يؤمن به فهو ملعون . فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فنزلت . ثم إنه تعالى لما سفه من يرغب عن ملة إبراهيم بين السبب في ذلك فقال { ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي أخترناه للرسالة من دون الخليقة وعرفناه الملة الجامعة للتوحيد والعدل والإمامة الباقية إلى قيام الساعة حتى نال منزلة الخلة { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } فيلزمه ما يلزمهم من الكرامة وحسن الثواب فليتحقق كل ذي لب أن الراغب عن سيرة من هو فائز بسعادة الدارين لا رأي له والله الموفق . ثم بين سبب الاصطفاء فأعمل { اصطفينا } في { إذ قال } أي اخترناه في ذلك الوقت ، ويجوز أن ينتصب بإضمار « اذكر » استشهاداً على ما ذكر من حاله كأنه قيل له : اذكر الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله { إذ قال له ربه } من باب الالتفات ، ولولا ذلك لكان حقه أن يقال : إذ قلنا له ، والأكثرون على أنه تعالى قال له ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس واطلاعه على أمارة الحدوث فيها ، فلما عرف ربه قال له أسلم ، فإنه لا يجوز أن يقول له قبل أن عرف ربه .
ويحتمل أن يكون ذلك قبل الاستدلال ، ولا يكون المراد منه نفس القول بل دلالة الدليل عليه كقولهم « نطق الحال » قال تعالى { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ] فجعل دلالة البرهان كلاماً ، ويحتمل أن يكون هذا بعد النبوة والمراد استقامته على الإسلام وثباته عليه كقوله { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] أو المقصود الانقياد لأوامر الله تعالى والمسارعة إلى تلقيها بالقبول وترك الاعتراض بالقلب واللسان . وقيل : الإيمان صفة القلب والإسلام صفة الجوارح وإن إبراهيم عليه السلام كان عارفاً بالله تعالى بقلبه فكلفه الله تعالى بعد ذلك بعمل الجوارح . وفي تخصيص لفظ الرب بهذا الموضع بل بأكثر قصص إبراهيم إشارة إلى أن طريق عرفانه النظر في المربوبات فلا جرم وصل إلى الرب ، وطريق عرفان محمد صلى الله عليه وسلم عكس ذلك الترتيب فلا جرم بدأ من الله { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] والأول طريق حسن { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق } [ فصلت : 53 ] لكن الطريق الثاني أحسن { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] ومن هنا يعرف أكملية محمد صلى الله عليه وسلم .
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم يستطعه الأوائل
فألف إبراهيم دلالة على استقامة سيرته ، وميم محمد دليل على أنه مكمل الأوضاع وبه ابتدأ الأمر من حيث انتهى فتمت دائرة النبوة وحصلت الخاتمة . وكما أن ألف إبراهيم دليل على وجود الاستقامة { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [ فصلت : 31 ] فألف إبليس دليل عدم الاستقامة { إلا إبليس أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] والوجود خير والعدم شر فحصل من خاء الخير مع لام الابتلاء { وإذ ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] تركيب الخلة { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } [ النساء : 125 ] ومن شين الشر مع دال الدوام على الكفر { وكان من الكافرين } [ البقرة : 34 ] اسم الشدة { والكافرون لهم عذاب شديد } [ الشورى : 26 ] ثم إن الخلة مأخوذة من التخلل بين الشيئين ومنه الخلال فلا جرم كان إبراهيم عليه السلام واسطة في الطريقة { أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] والمحبة مأخوذة من الحبة وهو خالص كل شيء وداخله ، ومنه حبة القلب فلا جرم كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وحبيب رب العالمين وزبدة الكائنات وغاية الحركات ، لولاك لما خلقت الأفلاك ، أول الفكر آخر العمل
« أول ما خلق الله تعالى نوري ، أنا أول من ينشق عنه قبر ، آدم ومن دونه تحت لوائي ، أنا سيد المرسلين ولا فخر » محمد صلى الله عليه وسلم أبو الحقيقة وإن كان إبراهيم عليه السلام أبا الطريقة ، والحقيقة لكونها مقصودة بالذات أقوى من الطريقة ، لا جرم وقع الصلاة على إبراهيم في الصلاة تبعاً للصلاة على محمد « اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم » وأن الصلاة لا تصح بدون الصلاة على محمد بخلاف الصلاة على غيره . ولنعد إلى ما كنا فيه { ووصى } التوصية من جملة الأمور المستحسنة التي حكاها الله تعالى عن إبراهيم . أوصيته بكذا ووصيته بمعنى ، وأصله من وصيت الشيء بكذا بالتخفيف إذا وصلته إليه . وأرض واصية متصلة النبات ، فالموصي يصل القربة الحاصلة له بعد الموت إلى القربات الحاصلة له في الحياة ويحمد الموصي على هذا الوصل بسبب الوصية . والضمير في ( بها ) قيل : يعود إلى الكلمة أو الجملة وهي أسلمت لرب العالمين ، ونحوه رجوع الضمير في قوله { وجعلها كلمة باقية } [ الزخرف : 28 ] إلى قوله { إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } [ الزخرف : 26 ] وقيل : الأولى أن يرجع إلى الملة لأنها مذكورة صريحاً في قوله { ومن يرغب عن ملة إبراهيم } ولأن الوصية بالملة جامعة لجميع أسباب الفلاح بخلاف الوصية بالشهادة وحدها اللهم إلا أن يحمل الإسلام على الانقياد الكلي . وفي الآية دقائق مرعية في قبول الدين منها : أنه لم يقل وأمر بها لأن الوصية عند أمارات الموت وعند ذلك يكون الاهتمام بالأمور أشد . ومنها أنه خص نبيه بذلك في آخر عمره مع أنه كان يدعو كل الناس إلى الدين ، فدل على أنه لا شيء عنده أهم من ذلك . ومنها التعميم لجميع الأبناء وأنه لم يقيد الوصية بزمان أو مكان ولم يخلطها بشيء آخر ، ثم نهاهم أن يموتوا غير مسلمين وكل هذه دلائل شدة الاهتمام بالأمور وهو المشهود له بالفضل وحسن السيرة ، فيجب قبول قوله لكل عاقل وكذلك وصى بها يعقوب بنيه . وقرئ يعقوب بالنصب فمعناه وصى بها إبراهيم بنيه ونافلته يعقوب قائلاً لكل منهما { يا بني } أصله يا بنون فأضيف إلى ياء المتكلم فسقطت النون وصار الواو ياء لأجل النصب فأدغم الياء في الياء { إن الله اصطفى لكم الدين } استخلصه واختاره لكم بأن أقام عليه الدلائل الواضحة ودعاكم إليه ومنعكم من غيره ووفقكم للأخذ به { فلا تموتن } فلا يكن موتكم إلا على حال كونكم ثابتين على الإسلام نحو « لا تصل إلا وأنت خاشع » لا ينهاه عن نفس الصلاة ولكن عن ترك الخشوع في صلاته . والنكتة فيه إظهار أن الصلاة التي لا خشوع فيها كلا صلاة ومثله قوله صلى الله عليه وسلم
« لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » فإنه في قوة قوله لجار المسجد : لا تصل إلا في المسجد . فكان موتهم لا على حال الإسلام موتاً لا خير فيه لأنه ليس بموت السعداء ومن حق هذا الموت أن لا يحل فيهم .
{ أم كنتم شهداء } يحتمل أن تكون « أم » منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها الإنكار لمجرد الحضور عند وفاته والخطاب للمؤمنين أي ما كنتم حاضرين حين احتضر يعقوب ، وإنما حصل لكم العلم به من طريق الوحي ، أو لأهل الكتاب المعاصرين كأنه قيل لهم : كيف تزعمون أن ما أنتم عليه دين الرسل ولم تشهدوا وصايا الأنبياء ولو شهدتم ذلك وسمعتم قولهم لنبيهم لظهر لكم حرصهم على ملة الإسلام والدين الحنيفي فرغبتم في دين محمد صلى الله عليه وسلم ؟ ويحتمل كون « أم » متصلة على أن يقدر قبلها محذوف معناه ، أتدعون على الأنبياء اليهودية { أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } قيل : أي إن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد ودين الإسلام ، فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه براء وفيه نظر ، لأن « أم » المعادلة أحد الأمرين كائن فيها فقط ، فإن كان الحضور ثابتاً لم تكن الدعوى ثابتة لكنها ثابتة ولهذا توجه الإنكار عليها ، فالوجه أن يقال : المراد أن الحضور غير ثابت لتطاول الزمان ، فإذن دعواهم يهودية الأنبياء دعوى بلا دليل فلا تسمع منهم على أنه تعالى نص على بطلانها بقوله { إذ قال لبنيه } إلى آخره ، ويتجه على هذا التقدير أن تكون « أم » منقطعة كأنه استفهم أولاً على سبيل الإنكار أي لم تدعون ، ثم استأنف استفهاماً ثانياً لتقرير النفي أي ما كنتم شهداء أو لتقرير الإثبات على أن أوائلهم قد شهدوا فيكون مؤكداً لذلك الإنكار { ما تعبدون } أي شيء تعبدون . و « ما » عام لأولي العلم وغيرهم ، « ومن » مختص بأولي العلم ولهذا قال العلماء « من » لما يعقل . و « من » خصص « ما » بغير أولي العقل قال : المراد السؤال عن صفة المعبود كما تقول « ما زيد » تريد أفقيه أم طبيب روي أن يعقوب عليه السلام لما دخل مصر رأى أهلها يعبدون الأوثان والنيران فخاف على بنيه بعد وفاته فقال لهم هذا القول تحريضاً على التمسك بعبادة الله لا أنهم كانوا يعبدون غير الله ، لأن مبادرتهم إلى الاعتراف بالتوحيد تنافي ذلك ، ولأن المشهور من أمر الأسباط أنهم كانوا قوماً صالحين ، و { إبراهيم وإسماعيل وإسحق } عطف بيان لآبائك ، وقدم إسماعيل لأنه أسن ، وجعل إسماعيل وهو عمه من جملة آبائه لأن العمل أب والخالة أم لانخراطهما في سلك واحد هو الأخوة قال صلى الله عليه وسلم