كتاب : توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار
تأليف: أبي إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح بن محمد المعروف بالأمير
الصنعاني
يقطعه قاطع فيذكر كلاما فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد مثاله في قصة ثابت بن موسى الزاهد مع شريك القاضي كما مثل به ابن الصلاح لشبه الوضع1 وجزم ابن حبان أنه من المدرج فهذه أقسام مدرج الإسناد.
قال الحافظ والطريق إلى معرفة كونه مدرجا أن تأتي رواية مفصلة للرواية المدرجة وتتقوى الرواية المفصلة بأن يرويه بعض الرواة مقتصرا على إحدى الجملتين.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 132.
مسأل:44 [في الموضوع وحكمه]
من أنواع علوم الحديث "الموضوع" قال ابن دحية إنه في اللغة الملصق يقال وضع فلان على فلان كذا أي ألصق به وهو أيضا الحط والإسقاط قال الحافظ والأول اليق بهذه الحيثية "هو شر الأحاديث الضعيفة" هذه العبارة لابن الصلاح1 وسبقه إليها الخطابي واستنكرت لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي إذ أفعل لاتفضيل إنما يضاف إلى بعضه وقد يجاب بأنه لم يرد بالأحاديث الأحاديث النبوية بل أعم وهو ما يتحدث به."وهو المكذوب ويقال له المختلق2" إذ الاختلاف الكذب ومنه قوله تعالى: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص: 7] "و" يقاله له أيضا "المصنوع" بصاد مهملة من الصنعة "أي واضعه اختلقه وصنعه قال زين الدين ومطلق وجود كذاب في السند لا يلزم منه أن يكون الحديث مكذوبا لجواز أنه ثابت منغيرر طريقه إلا أن يعترف بأنه وضع ذلك الحديث بعينه أو ما يقوم مقام اعترافه على ما ستقف عليه" ويأتي ما فيه من الإشكال وجوابه.
"وحكم الموضوع أنه لا يجوز لمن عرفه" أي عرف أنه موضوع "أن يرويه من غير بيان لوضعه سواء كان في الحلال أو الحرام أو الترغيب أوالترهيب أو غير ذلك" يدل لذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه3 من حديث سمرة بن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين" انتهى ضبط يرى
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 130.
2 المختلق: بفتح اللام بعدها قاف أي المبتكر الذي لاينسب إليه صلى الله عليه وسلم أصلا حاشية الأجهوري ص 81.
3 في: المقدمة: ب 1. والترمذي 2662. وابن ماجة 39, 41.
بضم الياء أي يظن وفي الكذابين روايتان بصيغة التثنية وبصيغة الجمع وكفى بهذا الوعيد في حق من روى حديث يظن أنه كذب فضلا عن أن يروى ما يعلم كذبه ولا ييينه لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركا للكاذب في وصفه.
قال زين الدين بعد هذا الذي ذكره المصنف من حكم الموضوع ما لفظه بخلاف غيره من الضعيف المحتمل للصدق حيث جوز روايته في الترغيب والترهيب انتهى لكن بقي هل يشترط في هذا الاحتمال أن يكون قربا بحيث يفوق احتمال كذبه أو يساويه أولا يشترط هذا محل نظر ولاذي يظهر من كلام مسلم وربما دل عليه الحديث المتقدم بأنه إذا كان احتمال الصدق احتمالا ضعيفا أنه لا يعتد به.
وقال الترمذي سألت أبا محمد يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن هذا الحديث يعني حديث سمرة المذكور فقلت: له من روى حديثا وهو يعلم أن إسناده خطأ أيخاف أن يكون دخل في هذا الحديث أو إذا روى الناس حديثا مرسلا فأسنده بعضهم أو قلب إسناده فقال لا إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديثا ولا يعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الحديث أصلا فأخاف أن يكون دخل في هذا الحديث.
"قال ابن الصلاح1: ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين فأودع فيها كثيرا مما لا دليل على وضعه وإنما حقه أن يذكر في الأحاديث الضعيفة قال زين الدين وأراد ابن الصلاح أبا الفرج بن الجوزي" .
قال زين الدين في شرح ألفيته قال العلائي دخلت على ابن الجوزي الآفة من التوسع في الحكم بالوضع لأن مستنده في غالب ذلك ضعف رواته.
قال الحافظ ابن حجر: وقد يعتمد على غيره من الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها ويكون كلامهم محمولا على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه ويكون المتن قد روى من أوجه أخر لم يطلع هو عليها أو لم يستحضره حال التضعيف فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة وغيرها فذكر في كتابه الحديث المنكر والضعيف الذي يحتمل في باب الترغيب والترهيب قليل من الأحاديث الحسان كحديث صلاة التسبيح وحديث قراءة آية الكرسي عقيب الصلاة فإنه رواه النسائي وصححه ابن حبان وليس في كتاب ابن الجوزي من هذا الضرب
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 131.
سوى أحاديث قليلة جدا فأما مطلق الضعيف ففيه كثير من الأحاديث نعم أكثر الكتاب موضوع وقد أفردت لذلك تصنيفا أشير على مقاصده انتهى.
"والواضعون للحديث على أصناف بحسب الأمر الحامل لهم على ذلك فضرب من الزنادقة" في القاموس الزنديق من الثنوية أو القائل بالنور والظلمة أو من لا يؤمن بالآخرة وبالربوبية أو من يبطن الكفر ويظهر الإيمان أو هو معرب زن دين أي دين المرأة "يفعلون ذلك ليضلوا به الناس كعبد الكريم ابن أبي العوجاء خال معن" بفتح الميم وسكون العين المهملة "ابن زائدة" أي الشيباني الأمير المعروف "الذي أمر بضرب عنقه محمد بن سليمان بن علي أمير مكة" قال الذهبي في الميزان أمير البصرة وقال في ترجمة عبد الكريم زنديق مبين قال أحمد بن عدي لما أخذ ليضرب عنقه قال لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل فيها الحرام.
"ومثل بيان" بفتح الموحدة فمثناة تحتية فألف فنون قال الذهبي هو ابن سمعان النهدي من بني تميم ظهر بالعراق بعد المائة وقال بالهيية علي رضي الله عنه وأن فيه جزءا إلهيا متحدا بناسوتيته ثم بعده في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبي هاشم ثم في بيان هذا وكتب إلى أبي جعفر الباقر يدعوه إلى نفسه وأنه نبي انتهى "الذي قتله خالد القسري" بالقاف وسين مهملة فراء فياء نسبه "وحرقه بالنار" وقال ابن نمير: قتله خالد بن عبد الله القسري وحرقه بالنار.
"وقد روى العقيلي بسنده إلى حماد بن زيد قال وضعت الزنادقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث" قلت: ومعرفة قدر عددها دليل على تتبع الحفاظ من الأئمة لها ومعرفتهم إياها.
"وضرب يفعلونه انتصارا لمذاهبهم كالخطابية" بالخاء المعجمة وهم قوم من الرافضة ينسبون إلى أبي الخطاب كان يأمرهم بشهادة الزور على مخاليفهم كما في القاموس فقوله "وبعض الروافض" من عطف العام على الخاص وهم فرقة من الشيعة بايعوا زيد بن علي عليه السلام ثم قالوا له تبرأ من الشيخين فأبى وقال أنا مع وزيري جدي فتركوه ورفضوه وأرفضوا عنه قاله في القاموس "وبعض السالمية قلت: ورواه" أي وضع الأحاديث لنصرة المذهب "المنصور بالله عبد الله بن حمزة عن المطرفية" نسبة إلى مطرف بن شهاب وهم فرقة من الزيدية لهم أقوال ردية ومذاهب غير مرضية قاتلهم المنصور بالله وخرب ديارهم ومساجدهم وأخبارهم معروفة وله أشعار فيهم وفي
حربهم في ديوانه وقد ألف عبد الله بن زيد العنسي العلامة كتابا في أخبارهم وبين فيه حقائق أحوال المطرفية "وذكر" أي المنصور "أنهم صرحوا له بذلك في مناظراتهم نقلته من بعض رسائله" وجادة "من غير سماع" عنه "والظاهر بل المقطوع أن المصرح له بذلك بعضهم" إذ من المعلوم يقينا أنهم لا يجمعون كلهم عند المناظرة "فلا ينسب إلى الجميع منهم والله أعلم" .
"قال زين الدين 1 وضرب يتقربون به إلى الأمراء والخلفاء بوضع ما يوافق فعلهم كما فعله غياث" بكسر الغين المعجمة فمثناة تحتية آخره مثلثة "ابن ابراهيم" النخعي "حيث وضع للمهدي" وهو محمد بن عبد الله المنصور العباسي والدهرون الرشيد وقد دخل عليه فوجده يلعب بالحمام فساق في الحال إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في حديث: "لا سبق" بفتح المهملة وسكون الموحدة مصدر سبقت أسبق وبفتح الموحدة ما يجعل من المال رهنا على المسابقة والمعنى لا يحل أخذ المال على المسابقة "إلا في نصل" بفتح النون وسكون الصاد المهملة حديدة السهم " أو خف" وهو الأبل "أو حافر" وهو للخيل رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة2 مقتصرين على هذا اللفظ "فزاد فيه" غياث ابن ابراهيم "أو جناح" بفتح الجيم وهو للطائر "وكان المهدي إذ ذاك يلعب بالحمام فتركها وأمر بذبحها وقال" المهدي "أنا حملته على ذلك" أي على الزيادة المكذوبة وقال السخاوي فأمر له ببدرة يعني عشرة آلاف فلما فقى قال أشهد علي قفاك أنه قفا كذاب.
"وضرب" من الوضاعين "كانوا يتكسبون بذلك ويرتزقون به في قصصهم كأبي سعيد المدايني" وكما ذكر الطيبي في خلاصته قال جعفر بن محمد الطيالسي صلى أحمد بن حنبل ويحيى بن معين في مسجد الرصافة فقام بين أيديهما قاص فقال حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قال لا إله إلا الله يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب وريشه من مرجان وأخذ في قصة من نحو عشرين ورقة فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد فقال أنت حدثته بهذا؟
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 1/128.
2 أحمد 2/256, 358, وأبو داود 2574. والترمذي 22. والنسائي 6/227, وابن ماجة 44, 2878.
فقال: لا والله ما سمعت به إلا هذه الساعة قال: فسكتا جميعا حتى فرغ فقال: أي أشار يحيى بيده إليه أن تعال فجاءهما متوهما لنوال الخير فقال يحيى: من حدثك بهذا؟ قال: أحمد بن حنبل ويحيى بن معين, فقال: أنا ابن معين وهذا أحمد بن حنبل ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا فقال: أنت ابن معين؟ قال: نعم, قال: لم أزل أسمع أن ابن معين أحمق وما علمته إلا هذه الساعة, قال يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ فقال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين وأحمد بن حنبل غيركما, كتبت عن سبعة عشرة أحمد بن حنبل غير هذا, قال: فوضع أحمد بن حنبل كفه على وجهه وقال: دعه فقام كالمستهزئ بهما1 انتهى من شرح شرح النخبة لعلى قاري.
"وضرب امتحنوا بأولادهم أو وراقين" كتاب "لهم فوضعوا" لهم "أحاديث ودسوها عليهم فحدثوا بها من غير أن يشعروا كعبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي" هكذا في شرح ألفية زين الدين وفي الميزان عبد الله بن محمد بن ربيعة بن قدامة القدامي المصيصي أحد الضعفاء له عن مالك مصائب وساق منها ويذكر أنه ابتلى بأولاد وورافين وضعوا عليه وليس في الميزان من يقال له القدامى سوى هذا.
"وضرب يلجؤون إلى إقامة دليل على ما أفتوا به بأرائهم فيضعون كما نقل عن أبي الخطاب ابن دحية إن ثبت عنه" كذا في شرح الزين وابن دحية هو عمر بن الحسن بن علي المديني الأندلسي قال في لسان الميزان متهم في نقله مع أنه كان من أوعية العلم دخل فيما لا يعنيه قال الحافظ الضياء لم يعجبني حاله كان كثير الوقيعة في الأئمة قال ابن نقطه كان موصوفا بالمعرفة والفصل إلا أنه كان يدعى أشياء لا حقيقة لها وقال ابن النجار رأيت الناس مجمعين على كذبه وضعفه وادعائه بسماع مالم يسمعه ولقاء من لم يلقه.
"وضرب يقلبون سند الحديث ليستغرب" أي من يسمع منهم "ويرغب في سماعه منهم وسيأتي هذا في المقلوب" .
"وضرب يتدينون بذلك الترغيبب الناس في الخير يزعمهم وهم منسوبون إلى الزهد يحتسبون بذلك" أي الأجر والمثوبة "ويرونه قربة وهم أعظم الناس" ممن يضع الحديث.
ـــــــــــــــــــ
1 تذكرة الموضوعات 54.
"ضررا لثقة الناس بهم لزهدهم وقبوله منهم ولذا قال يحيى بن سعيد القطان ما رأيت الصالحين أ كذب منهم في الحديث" ويحيى إمام شهير متفق على إمامته ومراده أنه لم يرأ كذب من الصالحين وإن رأى غيرهم كذابين ولما كان الكذب في الحديث النبوي ينافي الصلاح فضلا على الأكذبية قال زين الدين "يريد" يحيى بن سعيد "بذلك والله أعلم" أي بقوله الصالحين "المنسوبين إلى الصلاح بغير علم يفرقون به بين ما يجوز لهم من الرواية وما لا يجوز" .
وعبارة زين الدين يفرقون به بين ما يجوز لهم ويمتنع عليهم فهو صلاح بغير علم وفي الحقيقة إنه ليس بصلاح فإنه لا صلاح إلا عن علم وإنما مراده أنه يعدهم الناس صالحين لما يرونه من تقشفهم وزهدهم مع أنهم من أهل الغباوة والجهل وهكذا العامة يعدون أهل الصلاح أهل هذا القسم ولذا قيل:
من عذيري من معشر هجروا العقـ ـل وحادوا عن الطريق القويمة
لا يرون الإنسان قد نال حظا من صلاح حتى يكون بهيمه "ويدل على ذلك" أي على تأويل كلام يحيى بن سعيد "ما رواه ابن عدي والعقيلي بسندهما الصحيح إليه أنه قال" أي يحيى بن سعيد "ما رأيت الكذب في أحد أكثر منه فيمن ينسب إلى الخير قلت: فهذا صرح بإضافة ذلك" أي الأكثر منه "إلى من ينسب إلى الخير يعني وليس من أهله" فعليه تحمل العبارة المطلقة.
"قال زين الدين" بيانا منه لاحتمال آخر تحتمله عبارة يحيى بن سعيد "أو يريد أن الصالحين" حقيقة لا من لهم مجرد النسبة إلى الصلاح "عندهم حسن ظن وسلامة صدر فيحملون ما سمعوه على الصدق" فيكون نسبة الكذب أو الأكذبية إليهم مجازا أنهم يروون ما هو كذب في نفس الأمر وإن لم يكونوا كاذبين قلت: ولكن هذا التأويل يخرجهم عن أهل الضرب الذي هو بصدده إذ ليسوا بوضاعين.
"قال" أي زين الدين "ولكن الوضاعين ممن ينسب إلى الصلاح" بناء على عدم صحة التأويل الآخر وتقييد العبارة الأولى "وإن خفى حالهم على كثير من الناس" فقبلوا عنهم ما رووه "فإنه لم يخف على جهابذة الحديث" جمع جهبذ بكسر الجيم وهو النقاد الخبير كما في القاموس فعطف "ونقاده" من عطف التفسير "فقاموا بأعباء" جمع عبء بالكسر الحمل الثقيل من أي شيء "ما حملوا فتحملوه" من الكشف عن صحيح الأحاديث "فكشفوا عوارها" بتثليث العين المهملة العيب "ومحوا عارها" هو
أيضا العيب.
"حتى لقد روينا عن سفيان أنه قال ما ستر الله أحدا ليكذب في الحديث وروينا عن القاسم بن محمد أنه قال إن الله أعاننا على الكذابين بالنسيان" وبنسيانهم يعرف كذبهم وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قال لو أن رجلاهم أن يكذب في الحديث لأسقطه الله أي أظهر سقوط روايته.
"وروينا عن عبد الرحمن بن مهدي أنه قيل له هذه الأحاديث المصنوعة قال يعيش لها الجهابذة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] فجعل الأحاديث النبوية داخلة تحت لفظ الذكر وأيده المصنف بقوله.
"قلت: قد احتج بعض أهل الحديث النبوي بأن الحديث النبوي داخل فيما ضمن عز وجل يحفظه من الذكر" الدال عليه {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وفي شرح شرح النخبة لعلي قاري أراد أن من جملة حفظ لفظ القرآن حفظ معناه ومن جملة معانيه الأحاديث النبوية الدالة على توضيح معانيه كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فقي الحقيقة تكفل الله تعالى بحفظ الكتاب والسنة بأن يوجد من عباده من يجدد لهم أمر دينهم في كل أوان انتهى "بقوله تعالى في وصف رسوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] وإن كان قد يناقش في الاستدلال بأن الآية في وحي خاص هو القرآن كما يشعر به: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} إلى قوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} .
"وقد أحسن القاسم بن محمد في قوله أن شاء الله تعلى أعاننا على الكذابين بالنسيان فإنهم يخلطون ويناقضون ويظهر عليهم بسبب النسيان ما يحمل على تأمل أحوالهم حتى يتبين أمرهم" فهذا معنى إعانة الله عليهم بالنسيان.
"قلت: و" أعاننا الله عليهم "بسبب النسيان أيضا من تصريح" الكذاب "بالسماع في حتق راويين لا يمكن أنهما اجتمعا" فينسب إليهما السماع فيعلم بإتيانه بما لا يمكن أنه كاذب "أو نسبة حديث إلى وقت يعلم أنه لم يكن فيه أو طرح كذب معلوم على ثقة لا يحتمله أو سبق لسان" الكذاب "إلى إقرار بما يدل على التهمة" .
وأما حكم الرواة والتعبد في العمل بروايتهم فقد أبانه المصنف بقوله "على أنا غير متعبدين" بالباطن أي مما في نفس الأمر مما لا نفعله من أحوال بواطن العباد "ومتى صلح الظاهر حكمنا به ولا جرح ولله الحمد" قلت: إلا أن هذا ينبني على أن إالأصل
العدالة أو على أن المراد أن العدل بعد ثبوت عدالته لا يبحث عن حاله "ولنا صفوه" أى الحديث "وثوابه وعلى الكاذب كيده" للإسلام بالكذب في أشرف علومه "وعقابه" .
ثم إستدل على التعبد بما في الباطن بقوله "وقد فعل نحو هذا سيد المرسلين وقال: "إن أحدكم يكون ألحن بججته" 1 في النهاية2 المراد أن أحدكم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره "وإنما أقضى بنحو ما أسمع فمن حكمت له بشىء من مال أخيه فانما أقطع له قطعة من نار" فإنه صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن مكلفا إلا بالظاهر وأدلته كثير كحديث: "إننى لم أومر أن أفتش على قلوب الناس" 3 وحديث: "حتى يقولون لا إله إلا الله" 4 "فهذا والوحى ينزل عليه وجبريل يهبط إليه وكذلك فعل أمير المؤمنين على عليه السلام من بعده وقد أمر بقطعيد السارق ثم بأن له لم يسرق" فدل أنه حكم يخلاف ما في نفس الأمر وهذا مبني على أن فعل على عليه السلام حجة "وقد كان يحلف من أتهمه في الرواية ثم يقبله والله أعلم" مع أنه يحلفه لا ترتفع إلا التهمه ولا يعلم به ما في نفس الأمر.
"قال زين الدين فمن أولئك الذين كانوا يكذون حسبة وتقربا إلى الله أبو عصمة نوح بن أبي مريم المروزى قاضي مرو" وعالمها قال الذهبي يقال له الجامع لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وإبن أبي ليلى والحديث عن ولى قضاء مرو في خلافة النصور وامتدت حياته سءل عنه 'بن المبارك فقال هو يفول لا إله إلا الله وقال أحمد يكن بذلك في الحديث وقال مسلم وغيره متروك الحديث.
"وروى الحاكم بسنده إلى أبي عمار المروزى أنه قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عنإبن عباس في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا فقال إني رأيت الناس قد أغرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازى ابن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة" فيه أن أنفراد الراوى مظنة تهمة فلذا سألوه وهذا مثال تصريح الواضح بالوضع.
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 9/32, 86. وأبو داود 3583. والموطأ 719, والبيهقي 10/149.
2 4/241.
3 البخاري في: المغازي: ب 61, ومسلم في: الزكاة: حديث 144, وأحمد 3/4.
4 البخاري 1/13, ومسلم في: الإيمان: حديث 34. وأحمد 2/345.
"وكان يقال لأبي عصمة هذا نوح الجامع" لجمعه الكمالات كما عرفت مما سقناه "فقال أبو حاتم جمع كل شيء إلا الصدق" قال البخاري منكر الحديث وقال إبن عدى عامة ماروى عنه لايتابع عليه قال الذهبى ومع ضعفه فهو ممن يكتب حديه ذكر ذلك في الميزان.
"وقال الحاكم وضع حديث فضائل القرآن وروى إبن حبان في مقدمة كتاب تاريخ الضعفاء عن إبن مهدى قال قلت: لمسيرة من عبد ربه" ومسيرة بفتح الميم ومثناة تحتيه ساكنهة هو الفارسي وهو ميسرة بن عبد ربه البصرى الأ كال كان يأكل كثيرا روى عن ليث إبن أبي سليم وإبن جريح وموسى بن عبيده والأرزاعى وعنه جماعة "من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا قال وضعتها أرغب الناس بها" وفي الميزان أنه قال لميسرة محمد بن عيسى بن الطباع بهذا الكلام في السؤال والجواب بلفظه إلا أنه قال وضعته لا يبعد أن كل واحد من ابن مهدي ومحمد بن عيسى سأله قال وكان ميسرة ممن يروي الموضوعات من الأثبات وقال أبو داود أقر بوضع الحديث وقال الدار قطني متروك وقال أبو حاتم كان يفتعل الحديث روى من فضائل قزوين أربعين حديثا وكان يقول إني أحتسب في ذلك قال البخاري ميسرة بن عبد ربه رمى بالكذب.
"وهكذا حديث أبي" ابن كعب "الطويل في فضائل القرآن سورة سورة" أي موضع "فروينا عن المؤمل" بزنة اسم المفعول أو الفاعل وهو أبو عبد الرحمن البصري مولى آل عمر بن الخطاب حافظ عالم يخطيء وثقة ابن معين وقال أبو حاتم صدوق شديد في السنة كثير الخطأ وقال البخاري منكر الحديث قاله في الميزان "ابن إسماعيل أنه قال حدثني به شيخ فقلت: للشيخ من حدثك فقال حدثني ردل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه فقال حدثني شيخ بعبادان" هي جزيرة أحاط بها شعبنا دجلة ساكبتين في بحر فارس "فصرت أليه فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوة من المتصوفة ومعهم شيخ فقال هذا الشيخ حدثني فقلت: ياشيخ من حدثك قال لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن" هكذا ساق الققصة زين الدين في شرحه وساقها الحافظ ابن حجر في نكته بزيادة فزاد بعد قوله حدثني رجل بالمدائن وهو حي فصرت إليه فقلت: من حدثك فقال حدثني
شيخ بواسط فصرت أليه إلى أن قال حدثني شيخ بالبصرة1.
"قال" أي زين الدين "وكل من أودع حديث أبي المذكور في تفسيره كالواحدي2 والثعلبي والزمخشري" قلت: والبيضاوي وأبي سعيد "مخطئ في ذلك" لأنه روى ما هو كذب بإقرار واضعه "لكن من أبرز إسناده منهم فهو أبسط لعذره إذ قد أحال ناظره على الكشف عن سنده" تمام كلام زين الدين وأما من لم يذكر سنده فأورده بصيغة الجزم فخطاؤه أشد كالزمخشري.
قال الحافظ ابن حجر: والإكتفاء عن الحوالة على الإكتفاء بالنظر في السند طريقة معروفة لكثير من المحدثين وعليها يحمل ما صدر عن كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها تصريحا وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان انتهى.
قلت: ولا يتوهم الناظر أنه لم يثبت حديث في فضائل سور من القرآن فقد ثبتت أحاديث في سور معينة كالصمد وغيرها منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن وقد أودعها الجلال السيوطي في كتابه الدر المنشور.
"قلت: بل من لم يعتقد وضعه أعذر عن ذلك إذ كل ناظر إلى الإسناد لا يعرف أنه أسنده لهذه العلة بل ولايتهم ذلك ويقل في أهل المعارف من يتمكن من البحث في الإسناد فكيف بغيرهم" لا يخفى قوة كلام المصنف هذا على منصف.
"قال زين الدين وذكر الإمام أبو بكر محمد بن منصور السمعاني أن بعض الكرامية" بتشديد الراء نسبة إلى أبي عبد الله محمد بن كرام السجستاني وكان عابدا زاهدا إلا أنه خذل كما قال ابن حبان فالتقط من المذاهب أردأها من الأحاديث أوهاها وأطال الذهبي في الميزان وفي ترجمته وبيان فساد أحواله وقيل كرام بالتخفيف وأنشد عليه ابن الوكيل قول الشاعر:
الفقه فقه أبي حنيفة وحده والدين دين محمد بن كرام
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 1/131, والنكت 2/637. والكفاية ص 401. والموضوعات 1/41, 2/242.
2 الواحدي هو: علي بن أحمد بن محمد أبو الحسن النيسابوري كان أوحد عصره في التفسير لازم الثعلبي صنف التفاسير الثلاثة البسيط والوسيط والوجيز مات سنة 468. له ترجمة في: البداية والنهاية 12/114. وشذرات الذهب 3/330, والعبر 3/267.
وقبله:
إن الذين لجهلهم لم يقتدوا في الدين بابن كرام غير كرام وهما لأبي الفتح البستي.
"ذهب إلى جواز وضع الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يتعلق به حكم من الثواب والعقاب ترغيبا للناس في الطاعة وزجرا لهو عن المعصية" يقال: هذا أيضا يتعلق به ثواب وعقاب.
"واستدلوا" لما أجاروه بأدلة:
أحدهما : قوله: "بما روى في بعض طريق الحديث: "من كذب علي متعمدا ليضل به الناس فليتبوأ مقعده من النار" أخرجه الطبراني عن عمرو بن حريث وأبو نعيم في الحلية1 عن ابن مسعود قالوا فتحل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة كما بتعين حمل الروايات المطلقة عن التعمد على المقيدة به.
وأجيب بأن قوله ليضل به الناس مما اتفق الحفاظ على أنها زيادة ضعيفة وأقوى طرقها ما رواه الحاكم وضعفه من طريقق يونس بن بكر عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود قال الحاكم وهم يونس في موضعين أحدهما أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلا وهو أبو عمار.
الثاني: أنه وصله بذكر ابن مسعود وإنما هو مرسل وعلى تقدير قبول هذه الزيادة فلا تعلق لهم بها لأن لها وجهين صحيحين:
أحدهما: أن اللام في قوله ليضل لام العاقبة من باب: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] قلت: فيه تأمل لأن معنى لام العاقبة هنا ليكون عاقبة كذبه إضلال الناس وهم لا يضلون بكذبه لأن كذب الكاذب عليه صلى الله عليه وسلم إما أن يعلمه الناس أو يجهلونه إن علموا أنه كذب فضلا لهم من حيث إنهم عملوا بالحديث الكاذب ولو كان من غير تعمد لإضلالهم وإن عملوا به مع جهلهم كونه كذبا فلا ضلال بل هم مأجورون لما عرفت قريبا من أنهم غير مخاطبين بما في نفس الأمر على أن حمل اللام على ذلك لا يجدي نفعا لأن مراد المستدل بمفهوم ليضل الناس أنه إن وضع ما لا إضلال فيه للناس فإنه غير داخل في الوعيد فكيف يصح عليه بأنها تحمل اللام
ـــــــــــــــــــ
1 الموضوعات 1/97, وابن عدي 1/20. والمجمع 1/144, 146.
للعاقبة وكأنه يقول من حملها على ذلك إنه لا مفهوم لها ولا نسلم فإنه باطل بالوجه الأول فتأمل.
وثانيهما: أنها للتأكيد ولا مفهوم لها من باب: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية لأن الافتراء على الله محرم سواء قصد به إضلال الناس أولا.
"وحمل بعضهم حديث: "من كذب علي متعمدا" على من قال أنه ساحر أو مجنون" واستدلوا لذلك بحديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم" قالوا: يا رسول الله تحدث عنك بالحديث فتزيد وتنقص؟ قال: "ليس ذلك أعنيكم إنما أعنى الذي كذب علي متحدثا بطلب به شين الإسلام" الحديث أخرجه الطبراني في الكبير وابن مردويه1 وجوابه ما قاله الحاكم إنه حديث باطل فيه محمد بن الفضل بن عطية العوفي اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزره كان يضع الحديث.
"وقال بعض المخذولين" ممن أجاز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم ترغيبا وترهيبا "إنما قال من كذب علي ونحن نكذب له ونقوي شرعه" وجوابه أن هذا جهل منهم باللغة لأنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن المندوب قسم منها ولأنه يتضمن الأخبار عن الله في الوعد على ذلك العمل بالاثابة والاخبار بالعقوبة المعينة ولأنه تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] الآية فلا يحتاج إلى زيادة لنقويته كما قالوه "نسأل الله السلامة من الخذلان وروى العقيلي باسناده إلى محمد بن سعيد كأنه المصلوب" كذا في شرح الزين لألفيته بالأتيان بكلمهة الشك وفي الميزان في ترجمة محمد بن سعيد المصلوب قال أبو زرعة الدمشقي حديثا محمود بن خالد عن أبيه سمعت محمد بن سعيد يقول "لا بأس إذا كان كلاما حسنا أن يضع له إسنادا" قال الذهبي إتهم بالزندقة فصلب وفي نكت البقاعي قال عن عبد الله إبن أحمد أبيه أنه قتله أبو جعفر على الزندقة حديثه حديث موضوع.
"قلت: مثل هذا لايخفي جوابه فإن الكذب على الله وعلى رسوله بالجملة معلوم تحريمه من الدين ضرورة" فإن القرآن مملوء بذلك ففي حقه تعالى والسنة في حق رسوله
ـــــــــــــــــــ
1 الموضوعات 1/95, وابن كثير 1/211. والقرطبي 13/7. والدر 5/64.
صلى الله عليه وسلم ولأن الافتراء على الرسل إفتراء على الله هذا بالنسبة إلى الجملة.
"وبالنسبة إغلى الترغيب والترهيب معلوم تحريمه بالاستدلال بمجموع الكتاب والسنة والاجماع المعلوم قبل حدوث هؤلاء" الزاعمين جوازه "فإن تكرر تلك العمومات" القرآنية مثل: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً} [الأنعام: 21] ونحو من كذب على متعمدا "والظواهر" عطف عام على خاص أو تفسيرى "من غير التفات" من أحد من العلماء "إلى تخصيص على طول الأزمان يؤثر في نفس المتأمل القطع على عدم هذا التخصيص ومستند القطع بعد النظر التام والتأمل ضرورى حاصل من مجموع تلك الأمور مع القرائن وقد ذكر" الامام فخر الدين "الرازى1" المعروف بابن الخطيب صاحب مفاتيح الغيب وغيره "في المحصول" كتابه الذي ألفه في أصول الفقه "أن العلم بمقصود المتكلم" من ألفاظه "إنما يحصل بالقرائن" التي تحفه "وذلك لأن أصرح الألفاظ النص وهو محتمل" إن ورد "في أمور التحريم للنسخ" وإن كان إحتمالا مرجوجا "وفيها" أى ألفاظ النص محتمل "وفي غيرها لأمور كثيرة من التجوز والأشتراك والإضمار والتخصيص وغير ذلك" حتى إن الأسم العلم الذي هو أبلغ نص في مسماه يحتمل التجوز فإنك إذا قلت: جاء زيد إحتمل أنك تريد غلام. زيد.
"وغاية ما يقول المستدل" بالنصوص "أن هذه الأمور" المذكورة بالإحتمال "منتفية عن النص لكن دليله على ذلك" الإنتقاء "عدم الوجدان وهو ظنى" وحينئذ فلا يحصل علم ضرورى عن النصوص "فأجاب عن هذا" الإيراد بالتزامه وأن النص من حيث هو نص لا يفيد إلا الظن ولكن قد يحصل العلم منه "بأنا قد نعلم بعض المقاصد" من الألفا ظ "بالضروة الصادرة عن القرائن التى لا ترفع بالشك" فيتم حينئذ ما ادعاه الصنف من أنه قد يحصل القطع من تلك الأمور مع القرائن.
"قلت: وما نزل عن مرتبة العلم" من المطالب "فليس علينا تكليف في رفعه إليها" إلى مرتبة العلم "بل نقف حيث وقف الدليل" من إفادة علم أو ظن "ومثال ذلك" أي مثال ما يحتمل غير المراد وتبين المراد فيه القرائن وتصيره قطعيا "قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فإنا نعلم" مع احتماله للإباحة "بالقرآئن أن هذا تمهيد لا إباحة وإن كان لفظه يحتمل الإباحة" .
ـــــــــــــــــــ
1 الإمام فخر الدين الرازي توفي سنة 606. له ترجمة في: شذرات الذهب 5/21.
"ثم" أخذ في الرد على بعض الكرامية ورد دليلهم بقله "نقول للكرامية لو جاز لنا أن نكذب في الترغيب والترهيب نصرة للدين" كما قلتم "لجاز للنبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك وتجويز مثل ذلك عليه كفر بالإجماع القطعي" قلت: لعله يقال أما على رأي من يجيز التفويض إليه صلى الله عليه وسلم فلا يتصور الكذب في حقه فلا يتم الإيراد "فما أدى فهو كفر باطل قطعا وقد أدى إليه مذهبهم وذلك يؤدي إلى الشك في الجنة والنار أيضا" لجواز الكذب في الأخبار بهما وإنما ذكرهما ترغيبا وترهيبا إلا أنه قد يقال فد ثبت الأخبار بهما بالنصوص القرآنية والكلام في الأخبار النبوية إذ لا نزاع أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى إلا أنه يقال تجويز الكذب عليه صلى الله عليه وسلم يلزم منه جواز أن القرآن من كلامه وهذا خروج عن الإسلام "وليس هذا موضع بسط للرد عليهم لكن هذه فائدة على قدر هذا المختصر" .
"قال زين الدين وحكى القرطبي" بضم القاف نسبة إلى قرطبة مدينة بالأندلس في المفهم بزنة اسم الفاعل شرح على مسلم "عن بعض أهل الرأي" هم عند الإطلاق مراد بهم الحنفية "إن ما وافق القياس الجلي جاز أن يعزي" ينسب "إلى النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن حبان في مقدمة تاريخ الضعفاء بإسناده إلى عبد الله بن يزيد المقري أن رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته وتاب عنها فجعل يقول انظروا إلى هذا الحديث عمن تأخذونه فإناكنا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا قلت: لعل من جملة بدعة هذا الرجل يقول بجواز الكذب في نصرة ما اعتقده حقا إذ ليس كل صاحب بدعة كذلك" أي يقول بجواز الكذب لنصرة مذهبه.
"وأما الكذب فيشترك في ارتكابه المبتدع ولامحق وكذلك الصدق" مشترك في وقوعه منهما "فكم من صحيح العقيدة فاسق كذاب" إذ لا ملازمة بين صحة العقيدة وعدم الفسق والكذب "ومن مبتدع ناسك أواب" لعدم التلازم أيضا بين الأمرين "نسأل الله التوفيق للسلامة من كلاهاتين المعصيتين" .
فائدة : في حكم تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم "والجمهور على أن تعمد الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كبيرة" لأنه قد صدق عليها رسم الكبيرة بأنه ما توعد عليه بالعقاب "وقال الجويني إنها" أي هذه الكبيرة "كفر ويدل على قوله قول الله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [الأنعام: 21] فسوى" في الآية "بين الكذب على الله وتكذيبه" ولا شك أ تكذيبه كفر وأن الكذب على الرسول
صلى الله عليه وسلم كالكذب على الله تعالى "واستنكر" الرب تعالى حيث أتى بالاستفهام الأنكاري "أن يكون ذنب" أي ظلم "أعظم من ذلك قال" الجويني "ولأنه قد يكذب" من يكذب على الله أو رسوله "ما يرفع" الحكم "الضروري" وذلك "على الصحيح" من القولين "في نسخ المتواتر" الذي أفاد الضرورة "بالآحاد" الذي فرض وضع الراوي له "ورفع الضروري كفر" لأنه تكذيب للشارع وهو كفر و "لأن الكذب في الشريعة يدل على الإستهانة بها" ضرورة "والله أعلم" وهذا من المصنف تقوية لكلام الجويني.
"قال زين الدين ومن أقسام الموضوع ما لم يقصده وضعه وإنما وهم فيه بعض الرواة" فسماه موضوعا "قال ابن الصلاح: إنه شبه الوضع" من حيث إنه ليس بحديث في إرادة قائله ولا واضعه.
"مثل حديث من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار رواه ابن ماجه1 من حديث" إسماعيل بن محمد الطلحي كما في شرح الزين عن "ثابت بن موسى الزاهد عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا قال الحاكم" أبو عبد الله محمد بن عبد الله "دخل ثابت على شريك والمستملي بين يديه" بين يدي شريك "وشريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر" شريك "المتن" أي متن السنذ الذي ساقه "فلما نظر" شريك "إلى ثابت بن موسى" عند دخوله عليه وفراغه من إملاء السند "قال" شريك يخاطب ثابتا "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وإنما أراد" شريك بقوله من كثرت صلاته ألخ "ثابتا لزهده وورعه" فأعرض عن ذكر متن ما ساق سنده إلى وصف ثابت بكثرة صلاته بالليل وحسن وجهه بالنهار "فظن ثابت أنه" أي شريكا "روى هذا الحديث" إلى آخر الكلام "مرفوعا بهذا الإسناد" ولا عجب من ظن ثابت لأن شبهته في ظنه قوية فإن شريك عقب قوله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله من كثرت صلاته إلخ "فكان ثابت يحدث عن شريك عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر" قال ابن حبان وهذا قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم فأدرجه ثابت في الخبر ثم سرقه منه جماعة ضعفاء فحدثوا به عن شريك فعلى هذا هو من أقسام المدرج قاله زين الدين.
ـــــــــــــــــــ
1 رقم 1333, والخطيب 1/341. وتنزيه الشريعة 2/106.
"ونحو هذه القصة ما قاله محمد بن عبد الله بن نمير" لفظ الزين قال أبو حاتم الرازي كتبته عن ثابت فذكرته لابن نمير فقال الشيخ يعنى ثابتا لا بأس به والحديث منكر قال ابن عدي بلغنا عن محمد ابن عبد الله بن نمير أنه ذكر له هذا الحديث عن ثابت فقال باطل شبه على ثابت وذكر أن شريكا كان مزاحا وكان ثابت رجلا صالحا فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك وكان شريك يقول حدثنا الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فالتفت فرأي ثابتا فقال يمازحه من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار فظن ثابت لغفلته أن هذا الكلام حديث ذكر هذا الذهبي في الميزان.
"وقال ابن عدي إنه" أي من كثرت صلاته إلخ "حديث منكر لا يعرف إلا بثابت وسرقه منه من الضعفاء عبد الحميد بن بحر" في الميزان أنه بصري روى عن مالك قال ابن حبان كان يسرق الحديث وكذا قال ابن عدي.
"وعبد الله بن شبرمة الشريكي" وليس هوابن شبرمة الفقيه فقد غلط من اعترض وقال ابن شبرمة ثقة فقيه وقال البقاعي لم أر له ذكرا أي لعبد الله بن شبرمة مع الفحص عنه وأظنه عبد الله بن شبيب الربعي تصحف على النقلة وكنيته أبو سعيد وهو أخباري علامة قال شيخنا في لسان الميزان يروى عن أصحاب مالك وآخر من حدث عنه المحاملي وأبو روق الهزاهزي لكنه واه بمرة.
"واسحق بن بشر الكاهلي" في الميزان إنه كذبه على بن المديني وقال ابن حبان لا يحل كتب حديثه إلا للتعجب.
"وموسى بن محمد أبو الطاهر المقدسي" في لسان الميزان إنه ابن عطاء الدمياطي البلقاوي الرملي المقدسي أبو طاهر روى عن مالك وشريك قال ابن حبان لا تحل الرواية عنه كان يضع الحديث.
"قال" أي ابن عدي: "وحدثنا به بعض الضعفاء عن رحمويه" بالراء والحاء المهملتين في نسخ التنقيح وفي شرح الزين حمويه بدون راء ولم أجده في الميزان وإنما وجدنا فيه حمويه بن حسين وفي نكت البقاعي أن رحمويه اسمه زكرياء بن صبيح بالفتح الواسطي أحد الثقات ورحمويه لقب "وكذب" أي بعض الضعفاء "فإن رحمويه ثقة" لا يحدث بمثل ذلك.
"وقال العقيلي إنه حديث باطل ليس له أصل ولا يتابعه" أي ثابتا "عليه ثقة وقال
عبد الغني بن سعيد كل من حدث به عن شريك فهو غير ثقة وقال ابن معين في ثابت إنه كذاب" وقال أبو حاتم وغيره ضعيف وقال أبو حاتم لا يجوز الاحتجاج بأخباره.
"قلت: وبمثل هذا حذرتك فيما مضى من اعتقاد تعمد الكذب فيمن أطلق عليه بعض المحدثين أنه كذاب فهذا يحيى بن معين على جلالته يطلق ذلك على ثابت الورع الزاهد ولم يتعمد ثابت شيئا من ذلك" أي من الكذب "بل ولم يظهر منه كثرة الخطأ" .
قلت: أخرج له النسائي لا غيره قال في الميزان عن ابن عدي إنه تفرد ثابت عن شريك بخبرين منكرين ثم ذكرهما أحدهما هذا الحديث الذي نحن بصدده ثم ذكر الثاني ثم قال ولثابت ثلاثة أحاديث معروفة وساقها في الميزان فهذا مراد المصنف من عدم كثرة الخطأة "ولذلك وثقة مطين" بضم الميم فطاء مهملة فمثناة تحتية فنون هو الحافظ الكبير أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الخضرمي الكوفي قال الذهبي في التذكرة كان من أوعية العلم وذكر له مؤلفات وقال الدار قطني ثقة جبل انتهى قلت: لكن إذا تعارض كلامه وكلام يحيى بن معين فيرجح كلام يحيى لأنه أفقه بمعرفة الرجال باتفاق الحافظ ولمرجح آخر هو تقديم الجرح.
"والصورة التي حكاها الحاكم محمد بن عبد الله بن نمير مما يوضح أن ثابتا رحمه الله معذور في الوهم فإنه سمع شريكا يسند حتى انتهى إلى جابر فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم الحديث" تمامه: "إذا نام ثلاث عقد يضرب على كل عقدة عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقده كلها فأصبح نشطا طيب النفس إلا أصبح خبيث النفس كسلان" رواه مالك والشيخان وأبو داود وابن ماجه1 وقوله قافية رأس أحدكم المراد مؤخره ومنه سمي آخر بيت الشعر قافية.
واعلم أن الحاكم جزم بأنه دخل ثابت على شريك فسمعه يذكر السند إلى آخر ما تقدم وأما ابن نمير فلم يجزم بذلك بل قال كما نقله الذهبي في الميزان فيشبه أن يكون ثابت دخل على شريك إلى آخر ما قدمناه عنه.
"قال ابن حبان فمن أين لثابت أن أوله من قول شريك لا سيما وقوله: "بعده يقعد
ـــــــــــــــــــ
1 مالك 176, والبخاري 2/65, ومسلم في: صلاة المسافرين: حديث 209, وأبو داود 1306. وابن ماجة 1329.
الشيطان على قافية رأس أحدكم" ملائم لأول الحديث" أي الكلام الذي ظنه ثابت حديثا "فإنه يتعلق بتخذيل الشيطان للإنسان عن قيام الليل الذي ذكر ما فيه من الفضيلة في أول الحديث" وهي حسن وجه من كثرت صلاته بالليل.
"فعلى هذا" أي يتفرع على إطلاق يحيى على ثابت أنه كذاب مع ما عرف من حال ثابت "قول المحدثين فلان كذاب من قبيل الجرح المطلق الذي لم يفسر سببه" هو وصف كاشف للمطلق "فيتوقف" عند أطلاقه من إمام من أئمة الحديث "فيمن هذه حاله" أي حكال ثابت وزهده وورعه "حتى يعرف السبب" في إطلاق ذلك اللفظ عليه "إن كان" من أطلق عليه "ضعيفا" عمل بإطلاق ذلك اللفظ "ويوثق" من أطلق عليه الكذب "إن كان" من أطلق عليه "شهيرا بالعدالة" فإطلاق الكذب عليه لا يضره بل يوجب البحث عنه حتى يتبيل حاله.
"كعمرو بن عبيد" هو أبو عثمان المعتزلي البصري كان زاهدا ورعا متألها قال ابن معين لا يكتبت حديثه وقال النسائي متروك وقال أيوب ويونس يكذب وقال ابن حبان كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث فاعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه قسموا المعتزلة قال وكان يشئم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا قاله الذهبي في الميزان وأطال في ترجمته.
"إن لم يصح أنه كان سيء الحفظ" استثناء منقطع فإن سوء الحفظ لا ينافي عدالته ولذا قال "وإن صح ذلك ضعف ولم يكذب" فإن الكذب ينافي العدالة ولا ينافيها الضعف "حتى لا يترك المعلوم من عدالته إلا بجرح مثلها في الصحة والظهور" حاصله أنها إذا ثبتت فلا يرفعها إلا جرح ثابت لا محتمل ووصفهم بالكذب للمشاهير بالعدالة لا يريدون به حقيقة بل مطلق التضعيف مجازا ولذا قال ابن حبان في عمرو يكذب في الحديث وهما لا تعمدا فإن الحقيقة في الكذب الذي يقدح ما كان عن عمد "أو" يخرج عن العدالة "أمر بين السبب متعذر التأويل وإن كان أخفى منها" من العدالة شهرة وظهورا.
"وإنما ذكرت هذا هنا" وإن كان محله ما سيأتي "حرصا على إظهار هذه الفائدة الجليلة" وهي أن رمي الرجل الشهير بالعدالة بالكذب لا يوجب القدح فيه بل يوجب توقفا في قبوله حتى يبين سبب ضعفه وإن كان القدح بالكذب فيمن لم تعرف عدالته كان جرحا مبين السبب بأنه الكذب كما يدل له قوله "فقد جرح بمثل هذا كثير من
الثقات وما على الجارح إثم لأنه عمل بالظاهر ولم يعلم الباطن" ولا على الغافل أيضا إثم لأنه قبل قول الثقة ولا يخفى أن هذا تخصيص للقاعدة المعروفة بأن الجارح أولى وقد صرحوا بتخصيصها ويأتي الكلام في هذا كله.
"وقد اعترض على صاحبي الصحيحين" البخاري ومسلم "بروايتهما عن جماعة الثقات الرفعاء لشيء خفيف صدر عنهم من هذا القبيل فتجاسر من لا يلتفت إلى كلامه فتكلم عليهم" على الرفعاء وعلى الشيخين في الإخراج عنهم وقد تقدم كلام أبي محمد بن حزم وغيره "والعدالة غير العصمة ولله الحمد" فلا ينافيها صدور شيء من المعاصي وفيه تأمل.
* * *
مسألة: 45 [فيم يعرف به أن الحديث موضوع]
ولما كان الوضع دعوى تحتاج إلى معرفة لها ودال عليها قال المصنف "قال زين الدين وابن الصلاح" كان الأولى تقديمه إذ القول له وهو السابق "ويعرف الوضع بالإقرار من واضعه وما يتنزل منزلة إقراره" مثل ذلك الزين بما إذا حدث محدث عن شيخ ثم ذكر أن مولده في تاريخ يعلم تأخره عن وفاة ذلك الشيخ واعترض هذا بعين ما يأتي قريبا أنه يجوز أن يكذب في تاريخ مولده بل يجوز أن يغلط في التاريخ ويكون في نفس الأمر صادقا.قال الحافظ ابن حجر: الأولى أن يمثل لذلك بما رواه البيهقي في المدخل بسنده الصحيح أنهم اختلفوا بحضور أحمد بن عبيد الله الجوبياري في سماع الحسن بن أبي هريرة فروى لهم حديثا بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سمع الحسن عن أبي هريرة.
"قال ابن الصلاح" وزين الدين أيضا "وقد يفهمون" أئمة الحديث "الوضع" للحديث "من قرينة حال الراوي أو المروي" .
قال الحافظ ابن حجر: هذا الثاني هو الغالب وأما الأول فنادر قال ابن دقيق العيد وكثيرا ما يحكمون بذلك باعتبار يرجع إلى المروي وألفاظ الحديث وحاصله أنها حصلت لهم بكثرة محاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانية وملكة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظه وما لا يجوز ثم مثل لقرينة حال الراوي بقصة عثمان بن ابراهيم مع المهدي وهذا أولى من التسوية بينهما فإن معرفة الوضع من قرينة حال المروي أكثر من قرينة حال الراوي.
ومن جملة القرائن الدالة على الوضع الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر اليسير أو بالوعد العظيم على الفعل اليسير وهذا كثير موجود في حديث القصاص والصوفية.
"فقد وضعت أحاديث طويلة يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها" اعترض على هذا بأن ركاكة اللفظ لا تدل على الوضع حيث جوزت الرواية بالمعنى نعم أن صرح الراوي بأن هذه صيغة لفظ الحديث وكانت تخل بالفصاحة أولا وجه لها في الإعراب دل على ذلك وقد روى الخطيب وغيره عن الربيع بن خثيم التابعي الجليل بأن الحديث ضوء ا كضوء النهار يعرف وظلمة كظلمة الليل ينكر.
قلت: ومما رد بوضعه لركاكة ألفاظه ونحوها وجزم العلماء بوصعه الكتاب الذي أبرزه يهود خيبر وزعموا أنه كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسقاط الجزية وقد ساقه بلفظه الزركشي في تخريج أحاديث الرافعي وذكر أن من يعرف فصاحة ألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجرالتها يعرف أنه موضوع وإن كان لوضعه ادلة واضحة ذكر منها إثنى عشر وجها أحدها ما ذكر وقد استوفيت ذلك في رسالة جواب سؤال يحمد الله.
"وقد استشكل إبن دقيق العيد الاعتماد على إقرار الراوي بالوضع" لأن فبه عملا بقوله بعد إعترافه بالوضع "فقال هذا كاف في رده" أي الحديث "ولكن ليس بقاطع في كونه موضوعا لجواز أن يكذب في هذا الاقرار بعينه" فهم إبن الجزرى من كلام إبن دقيق العيد أنه لا يعمل بذلك الاقرار أصلا لاقطعا ولا ظناورد هذا الفهم الحافظ إبن حجر فقال كلام إبن دقيق العيد ظاهر في أنه لايستشكل الحكم بالوضع لأن الأحكام لايشترط فيها القطعيات ولم يقل أحد إنه يقطع بكون الحديث موضوعا بمجرد الإقرار لأن إقرار الواضع بأنه وضع يقتضي موجب الحكم العمل بقوله وإنما نفى إبن دقيق العيد القطع يكون الحديث موضوعا بمجرد إقرار الراوي بأنه وضعه فقط ولم يتعرض لتعليل ذلك ولم يقل إنه لا يلزم العمل بقوله بعد إعترافه لأنه لا مانع من يعمل بذلك لأن إعترافه بذلك يوجب ثبوت فسقه وثبوت فسقه لا يمنع العمل باقراره كالقاتل مثلا إذا إعترف بالقتل عمدا من غير تأويل فإن ذلك يوجب فسقه ومع ذلك نقتله عملا بموجب إقراره مع إحتمال كونه في باطن الأمر كاذبا في ذلك الأقرار بعينه ولذلك حكم الفقهاء علىمن أقر أنه شهد الزور بمقتضى إقراره مع إعترافه وهذا كله مع إعترافه المجرد أما إذا إانضم إلى ذلك قرائن تقتضى صدقه في ذلك الاقرار كمن روى عن مالك عن نافع عنإبن عمر حديث الأعمال بالنيات فلا نقطع أنه ليس من رواية مالك ولا نافع ولا إبن عمر مع ترددنا في كون الراوي له على هذه
الصفة كذب أو غلط فإذا أقر غلط لم نرتب في ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: في نكته علىابن الصلاح بعد سرده لما ذكر ما لفظه:
تنييه : أخل المصنف بذكر أشياء ذكرها غيره مما تدل على الوضع من غير إقرارالواضع.
منها : جعل الأصوليين من دلائل الوضع أن يخالف العقل ولا يقبل تأويلا بحال لأنه لا يجوز أن يرد الشرع بما ينافي مقتضى العقل وقد حكى الخطيب هذا في أول كتابه الكفاية تبعا للقاضي أبي بكر الباقلاني وأقره فإنه قسم الأخبار إلى ثلاثة أقسام ما تعرف صحته وما يعلم فساده وما يتردد بينهما ومثل الثاني بما يدفع العقل صحته بموضوعها والأدلة المنصوصة فيها نحو الأخبار عن قدم الأجسام وما أشبه ذلك ويلحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة كالخبر بالجمع بين الضدين كقول الإنسان أنا الآن طائر في الهواء ومكة لا وجود لها.
ومنها : أن يكون خبرا عن أمر جسيم كحصر العدو للحاج عن البيت ثم لا ينقله منهم إلا واحد لأن العادة جارية بتظاهر الأخبار في مثل ذلك.
قلت: ويمثله الأصوليون بقتل الخطيب على المنبر ولا ينقله إلا واحد من الحاضرين.
ومنها : ما يصرح بتكذيب روايته جمع كثير يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب وتقليد بعضهم بعضا.
ومنها : أن يكون مناقضا لنص الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي.
ومنها : أن يكون فيما يلزم المكلفين علمه وقطع العذر فيه فينفرد به واحد.
وفي تقييدنا السنة بالمتواترة احتراز عن غر المتواترة فقد أخطأ من حكم بالوضع بمجرد مخالفة مطلقا وأكثر من ذلك الجوزقاني في كتاب الأباطيل وهذا إنما يأتي حيث لا يمكن الجمع بوجه من الوجوه أما مع إمكان الجمع فلا كما زعم بعضهم أن الحديث الذي رواه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة لايؤمن عبد قوما فيخص نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم1 موضوع لأنه قدصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب" 2 وغير ذلك لأنا نقول يمكن حمله على مالم يشرع
ـــــــــــــــــــ
1 في: الصلاة: ب 148. وأحمد 5/260.
2 البخاري 1/189. ومسلم في: المساجد: حديث 147. وأبو داود في: الافتتاح: ب 8, وأحمد 2/231.
للمصلي من الأدعية لأن الإمام والمأموم يشتركان فيه بخلاف مالم يؤثر وكما زعم ابن حبان في صحيحه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لست كأحدكم أطعم وأسقى"1 جال على أن الأخبار التي فيها أنه كان صلى الله عليه وسلم يضع الحجر على بطنه من الجوع باطلة وقد رد عليه ذلك الحافظ ضياء الدين فشفى وكفى.
ومنها : ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي أن الخبر إذا روى في زمن قد استقرت فيه الأخبار فإذا فتش عنه لم يوجد في بطون الأسفار ولا في صدور الرجال علم بطلانه فأما في عصر الصحابة حين لم تكن الأخبار قد استقرت فإنه يجوز أنه يروى أحدهم مالم يوجد عند غيره قال العلائي وهذا إنما تقوم به الحجة بتفتيش الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه كالإمام أحمد وابن المديني ويحيى بن معين ومن بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة ومن دونهم كالنسائي ثم الدار قطني لأن المأخذ الذي يحكم به غالبا على الحديث أنه موضوع إنما هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق والإطلاع على غالب المروي في البلدان المتباينة بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي لعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع هذا مما يأباه تصرفهم انتهى.
* * *
ـــــــــــــــــــ
1 مسلم 774, وأبو داود 2360. وأحمد 2/102, 143.
مسألة: 46 [في المقلوب وأنواعه وحكمه]
من علوم الحديث معرفة "المقلوب هو من أقسام الضعيف وهو قسمان" هكذا قاله زين الدين ولكن المصنف سيأتي له قسم ثالث سنذكر وجهه."أحدهما أن يكون الحديث مشهورا براو فيجعل في مكانه راو آخر في طبقته ليصير بذلك غريبا مرغوبا فيه كحديث مشهور" روايته "بسالم" بن عبد الله "يجعل مكانه نافع" مولى عبد الله "ونحو ذلك وممن كان يفعل ذلك" من الوضاعين.
"حماد بن عمرو النصيبي" نسبة إلى نصيبين بالمهملة تثنية نصيب في القاموس أنها بلدة قاعدة ديار ربيعة النسبة إليها نصيبيني قال في الميزان إنه قال الجوزقاني كان يكذب وقال البخاري منكر الحديث وقال النسائي متروك وقال ابن حبان كان يضع الحديث وضعا انتهى.
قال الزين: مثاله حديث رواه عمرو ابن خالد الحراني عن حماد بن عمرو النصيبي عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا "إذا لقيتم المشركين في طريق فلا تبدؤهم بالسلام " 1 الحديث فهذا حديث مقلوب قلبه حماد بن عمرو أحد المتروكين فجعله عن الأعمش وإنما هو معروف بسهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة هكذا رواه مسلم في صحيحه2 من رواية شعبة والثوري وجرير بن عبد الحميد وعبد العزيز بن محمد الدراوردي كلهم عن سهيل قال أبو جعفر العقيلي لا نعرف هذا من حديث الأعمش إنما هو من حديث سهيل بن أبي صالح.
"وإسماعيل ابن أبي حية" بالحاء المهملة ومثناة تحتية "اليسع" لم يذكره الذهبي في
ـــــــــــــــــــ
1 أحمد 1/252. والبيهقي 9/203. وابن السني 238. والتاريخ 2/1/18.
2 في: السلام: ب 4: حديث 13, وابو داود في: الأدب: ب 27: حديث 137. واحمد 2/266.
الميزان ولا الحافظ في التقريب وفي نكت البقاعي قال البخاري منكر الحديث وقال ابن المديني ليس بشيء وقال ابن حبان روى عن جعفر وهشام مناكيره يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها قاله في لسان الميزان.
"وبهلول بن عبيد الكندي" في الميزان1 قال أبو حاتم ضعيف الحديث ذاهب وقال أبو زرعة ليس بشيء وقال ابن حبان يسرق الحديث وساق له أحاديث منها حدثنا المنجنيقي ثنا الحسن ابن قزعة حدثنا بهلول قال سمعت سلمة بن كهيل عن ابن عمر مرفوعا "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم " 2 الحديث وقد ساق له ابن حسان هذا المتن فقال عن سلمة عن نافع عن ابن عمر ثم قال ولا يعرف هذا إلا من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر.
"القسم الثاني" من قسمي المقلوب "أن يؤخذ" بالخاء المعجمة والذال كذلك "إسناد متن فيجعل على متن آخر و" يؤخذ "متن هذا فيجعل بأسناد آخر وهذا" القسم من المقلوب "قد يقصد به الأغراب أيضا" كما يقصد بالقسم الأول "فيكون ذلك" باعتبار القصد "كالوضع وقد يفعل ذلك" في الإسناد والمتن "اختبارا" من فاعله "للحفظ" من سامعه "وهذا" الاختبار "يفعله أهل الحديث كثيرا وفي جوازه نظر" لما يترتب عليه من تغليط السامع ويشمله حديث النهي عن الأغلوطات "إلا أنه إذا فعله أهل الحديث لم يستقر حديثا وقد يقصدون بذلك اختبار المحدث هل يقبل التلقين" وممن فعل ذلك يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين بحضرة أحمد بن حنبل.
روى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الروباذي قال خرجت مع أحمد ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق فلما عدنا إلى الكوفة قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل أريد أن أمتحن أبا نعيم فنهاه أحمد فلم ينته فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثا من حديث أبي نعيم وجعل على كل عشرة أحاديث حديثا ليس من حديثه ثم أتينا أبا نعيم فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه وأقعد أحمد عن يمينه ويحيى عن يساره وجلست أسفل فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت ثم الحادي عشر فقال أبو نعيم ليس هذا من حديثي فاضرب ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني فقال وهذا أيضا ليس من حديثي فاضرب عليه ثم قرأ العشرة الثالثة وقرأ
ـــــــــــــــــــ
1 1/355/1329.
2 رواه الخطيب 1/266, وابن عدي 4/1582.
الحديث الثالث فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد ثم قال أما هذا فورعه يمنعه عن هذا وأما هذا وأمأ إلى فأصغر من أن يعمل هذا ولكن هذا من عملك يا فاعل ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين حتى قلبه عن الدكان ثم قام فدخل داره فقال له أحمد ألم أنهك عن هذا وأقل لك إنه ثبت فقال يحيى هذه الرفسة أحب إلي من سفري. انتهى.
"وممن فعل ذلك شعبة وحماد بن سلمة" إمامان من أئمة هذا الشأن ذكرهما في التذكرة "وأنكر حرمي" بمهملتين فمثناة تحتية بعد الميم هو أبو عمارة بن أبي حفص أخذ عنه ابن المديني وبندار وغيرهما قال ابن معين صدوق ولكن فيه غفلة "على شعبة لما حدثه" أي حدث حرمي "بهز" بموحدة فهاء ساكنة فزاي ابن أسد إمام حافظ "أن شعبة قلب أحاديث علي أبان بن أبي عياش" هذا هو المحدث به "فقال حرمي: يابئس ما صنع" أي شعبة.
"وهذا" أي قلب الأحاديث متنا وإسنادا "يخل" بفهم السامع وحمل له على الغلط وهذا هو سبب الإنكار منه على شعبة وكان حرمي يرى تحريم ذلك.
"ومما فعله أهل الحديث" من التقليب "للإختبار قصتهم مع البخاري" لإختباره "ببغداد وهي مشهورة" أخرجها ابن عدي في مشايخ البخاري وأخرجها أبو بكر الخطيب في التاريخ في غير موضع وساقها الحافظ ابن حجر في نكته على ابن الصلاح بإسناده إلى أن قال سمعت أحمد بن عدي يقول سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ثم دفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمر وهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس فحضر المجلس جماعة من أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خرسان وغيرهم من البغداديين فلما اطمأن المجلس بأهله ابتدر إليه رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري لا أعرفه فسأله عن آخر فقال لا أعرفه فما زال يلقي إليه واحدا بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه فكان الفقهاء في المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فهم الرجل ومن فيهم من غير أولئك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ ثم انتدب إليه رجل آخر من
العشرة فسألة عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة فقال البخاري لا أعرفه ثم سأله عن آخر فقال لا أعرفه فلم يزل يلقي إليه واحدا بعد واحد فلما فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه فلما علم البخاري أنه قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فهو كذا وأما حديثك الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أنى على العشرة فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك رد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر الناس له بالحفظ وأدعنوا له بالفضل1.
قال الحافظ ابن حجر: سمعت شيخنا يريد به الحافظ العراقي غير مرة يقول ما العجب من معرفة البخاري بالخطأ من الصواب في الأحاديث لا تساع معرفته وإنما نتعجب منه في هذا لكونه حفظ موالاة الأحاديث على الخطأ من مرة واحدة.
قال الحافظ ابن حجر: وممن امتحنه تلاميذه بذلك محمد بن عجلان روينا في المحدث الفاضل2 لأبي محمد الزامهرمزي ثنا عبد الله بن القاسم بن نصر ثنا خلف بن سالم ثنا يحيى بن سعيد القطان قدمت الكوفة وفيها محمد بن عجلان وفيها ممن يطلب الحديث مليح بن الجراح وفيها وكيع وحفص بن غياث ويوسف بن خالد السمتي فكنا نأتي محمد بن عجلان فقال يوسف السمتي هل نقلب عليه حديثه حتى ننظر فهمه قال ففعلوا فما كان عن سعيد جعلوه عن أبيه وما كان عن أبيه جعلوه عن سعيد قال يحيى فقلت: لهم لا أستحل هذا فدخلوا عليه فأعطوه الجزء فمر فيه فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ فقال أعد فعرض عليه فقال ماكان عن أبي فهو عن سعيد وما كان عن سعيد فهو عن أبي ثم أقبل على يوسف فقال أن كنت أردت سبتي وعيبي فسلبك الله الإسلام وقال لحفص ابتلاك الله في يديك وقال لمليح لا ينفعك الله بعلمك قال يحيى فمات مليح قبل أن ينتفع بعلمه وابتلى حفص في يديه بالفالج وفي دينه بالقضاء ولم يمت يوسف حتى اتهم بالزندقة.
ـــــــــــــــــــ
1 أنظر: سيرة أعلام النبلاء 12/408- 409, وفتح المغيث للعراقي1/139- 140. والنكت 2/641- 644.
2 ص 398- 399. وانظر النكت 2/645- 647.
"القسم الثالث" من أقسام المقلوب إلا أنه غير خاف عليك أن المصنف قسم المقلوب إلى قسمين في أول بحثه وتبع في هذا زين الدين فإنه قال في نظمه:
وقسموا المقلوب قسمين إلى ما كان مشهورا براو أبدلا ثم ذكر ما ذكره المصنف من القسمين ثم قال زين الدين ومن أقسام المقلوب "ما انقلب على راويه ولم يقصد قلبه" .
وذكر زين الدين مثاله فقال مثاله ما رواه جرير بن حازم عن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني1" فهذا انقلب إسناده على جرير بن حازم وهذا الحديث مشهور ليحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذارواه الأئمة الخمسة من طرق عن يحيى وهو عند مسلم والنسائي من رواية حجاج بن أبي عثمان الصواف عن يحييى وجرير إنما سمعه من حجاج بن أبي عثمان الصواف فانقلب عليه وقد بين ذلك حماد بن زيد فيما رواه أبو داود في المراسيل عن أحمد بن صالح عن يحيى بن حسان عن حماد بن زيد قال كنت أنا وجرير بن حازم عند ثابت البناني فحدث حجاج بن أبي عثمان عن يحيى بن أبي كثير عن عبدالله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلىالله عليه وسلم فذكره فظن جرير أنه إنما حدث به ثابت عن أنس وهكذا قال اسحق ابن عيسى الطباع حدثنا جرير بن حازم بهذا فأتيت حماد بن زيد فسألته عن الحديث فقال وهم أبو نصر يعني جرير بن حازم إنما كنا جميعا في مجلس ثابت البناني فذكر ما تقدم انتهى.
"نوع آخر من المقلوب" أي هذا "وهو: ما انقلب متنه على بعض الرواة كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة في السبعة الذي يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله قال فيهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخذها حتى لا تعلم يمينه ما أنفقت شماله" وإنما هو: "حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" كما أخرجه البخاري ومسلم معا 2 " في إحدى روايتيه "في هذا الحديث ولأن المعروف" عادة "أن اليمين هي المنفقة" وهذان هما الدليل على القلب إلا أنه قال الحافظ ابن حجر: إن بعضهم حمل هذا على ما إذا كان
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 637, ومسلم 604, وأحمد 5/305, 307, 310.
2 1/168, 2/138, ومسلم في: الزكاة: 3: حديث 91, وأحمد 2/439.
الإنفاق باليمين يستلزم إظهار الصدقة فإن الإنفاق بالشمال والحال هذا يكون أفضل من الإنفاق باليمين. 1هـ.
قلت: ليس الكلام في الأفضلية بل في كون الحديث مقلوبا مخالفا للمعروف من الرواية المنفق عليها ومن العادة في الإنفاق.
"ومثل ما أخرج البخاري" عطفا على قوله كما أخرج "من حديث أبي هريرة في محاجة الجنة والنار في تفسير قوله تعالى: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] وأما النار فينشي الله لها من يشاء وأما الجنة فلا يظلم ربك أحدا " 1 والإنشاء إنما هو للجنة لا للنار "انقلب هذا على بعض الرواة وإنما هو وأما الجنة فينشيء الله لها من يشاء وأما النار فلا يظلم ربك أحدا وكذلك" أي بهذا اللفظ الذي لا انقلاب فيه "خرجاه" الشيخان "جميعا من حديث أبي هريرة هذا من غير طريق" أي من طرق كثيرة "وخرجاه كذلك" غير مقلوب "من حديث أنس من غير اختلاف" كما وقع في الأول "وكذلك قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} " ومن ينشئه للنار يعذبه من غير بعثة رسول إليه ولا تكليف ولا يجوز عليه لقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} فهو من أدلة الأنقلاب "وهي سنة الله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} " .
ولما ذكر ابن الصلاح بعد فراغه من أقسام الضعيف أمورا مهمة وقد نظمها الزين في ألفيته فأشار المصنف إليها بقوله:
"تنبيهات" :
"الأول: إذا وقف أحد على إسناد ضعيف لم يكن له أن يحكم بضعف الحديث بل يحكم بضعف الإسناد" يعني إذا وجدت حديثا بإسناد ضعيف فليس لك أن تقول الحديث أي متنه ضعيف بل تحكم بضعف الإسناد وعبارة زين الدين:
وإن تجد متنا ضعيف السند فقل ضعيف أي بهذا فاقصد وعبارة المصنف توهم اه لا يحكم به بضعف المتن أصلا وليس كذلك بل تحكم به مقيدا بذلك الإسناد وإنما لا نحكم مطلقا لجواز أنه قد رواه إمام بإسناد صحيح ثبت بمثله الحديث.
ولكنه قال الحافظ ابن حجر: إذا بلغ الحافظ للتأهل الجهد وبذل الوسع في التفتيش
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري في: تفسير سورة 50, ومسلم في: الجنة: حديث 36, وأحمد 2/276.
عن ذلك المتن من مظظانه فلم يجده إلا من تلك الطريق الضعيفة فما المانع من الحكم بالضعف بناء على غلبة الظن؟. انتهى.
ولا يتم قول المصنف "ويقف في تضعيف الحديث على نص إمام على أنه ضعيف لا يصح له إسناد" ولك أن تقول مراده بقوله إذا وقف أحد أي ممن ليس له أهلية البحث والتفتيش لا غيره فيوافق كلام ابن حجر ويدله ما يأتي من قوله ومن وقف000 إلخ.
"ويبين" أي الإمام الذي ضعف الحديث "سبب التضعيف فإن لم يبين ففيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى" هكذا قاله ابن الصلاح وأراد بالذي يأتي ما ذكره في النوع الثالث والعشرين في آخر فائدة ذكرها فيه والمصنف أراد بالذي يأتي له في أثناء مسألة من تقبل روايته وهو أن الجرح لا يقبل إلا مبين السبب.
"ومن وقف على كتب الحفاظ الذي يحصرون فيها طرق الحديث كلها وتمكن مما تمكن منه أهل الفن فله أن يحكم بمالهم أن يحكموا به" وكذا إذا وجد كلام إمام من إئمة الحديث وقد جزم بأن فلانا انفرد به وعرف المتأخر أن فلانا المذكور قد ضعف بتضعيف قادح فما الذي يمنعه من الحكم بأن الحديث ضعيف.
"الثاني" من التنبيهات "إذا أراد أحد أن يكتب حديث ضعيفا لم يكتبه بصيغة الجزم وليكتبه بصيغة التمريض" من نحو روي "أو البلوغ أو نحو ذلك" مثل ورد وجاء ونقل بعضهم.
"الثالث" منها: "لا يجوز ذكر الموضوع إلا مع البيان في أي نوع كان" وقد مر ذلك هذا في الموضوع "وأما غير الموضوع" كالأحاديث الواهية "فجوزوا" أى أئمة الحديث "التساهل فيه وروايته من غير بيان لضعفه إذا كان" واردا "في غير الأحكام" وذلك كافضائل والقصص والوعظ وسائر فنون الترغيب والترهيب قلت: وكأنهم يعنون باالأحكام الحلال والحرام وإلا الندب من الأحكام والترهيب وفضائل الأعمال ترد بما يفيده "والعقائد كصفات الله تعالى وما يجوز وما يستحيل عليه ونحو ذلك فلم يروا التساهل فيه" .
"وممن نص على ذلك من الحفاظ عبد الرحمن بن مهدي وأحمدبن حنبل وعبد الله ابن المبلرك وغيرهم" وكأنهم يقولون: الأصل براءة الذمة منأحكام الحلال والحرام فلا تثبت إلا بدليل صحيح فلا يتساهل في طرقه وكذلك صفات الله فانه جناب
رفيع لا يثبت إلا بدليل صحيح لما فيه من الخطر بخلاف الترغيب والترهيب وفضائل الأعمل فالأمر فيها أخف.
"وقد عقد ابن عدى في مقدمة كتابه الكامل و" أبو بكر "الخطيب في الكفاية بابا في ذلك" إلا إنه لا يخفي أن المصنف رحمه الله أهمل الأدلة في هذه التنبيهات كلهاكما أهملها ابن الصلاح والزين رحمهم الله أجمعين.
* * *
مسألة: 47 [في بيان من تقبل روايته ومن ترد روايته]
من علوم الحديث "معرفة" المحدث "من تقبل روايته من ترد" روايته وذلك بمعرفة شرائط الرواة."الذي في كتب أئمة الزيدية" في الأصول "أنه يشترط في" قبول رواية "الراوى أربعة شروط" :
"الأول: أن يكون بالغا1" وكل على أصله فيما يحصل به البلوغ وهذا شرط للأداء للتحمل إجماعا.
"الثاني: أن يكون عاقلا" فلا تقبل رواية المجنون وهذا لا بد منه في حال الأداء والتحمل.
"الثالث أن يكون مسلما2" فلا تقبل رواية الكافر وهذا شرط للأداء ويجوز أن
ـــــــــــــــــــ
1 أن يكون بالغا: البلوغ مدار التكليف فلا تقبل رواية من دون سن التكليف عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث 000 وعن الصبي حتى يحتلم" . والبلوغ مظنة الإدراك وفهم أحكام الشريعة لذلك ينط التكليف به.وقد احترز العلماء في قبول الرواية من الصغير خشية الكذب فقد يكذب لأنه لايقدر أثر الكذب ولا عقوبته ولأنه لارادع له عنه فكان البلوغ مظنة العقل ومدار التكليف الذي يزجر المكلف عن الكذب وينهاه عن الوقوع فيه ثم إن الشرع لم يجعل الصبي وليا في أمر دنياه ففي أمر الدين أولى لما في قبول خبره من تنفيذ أو ولاية على جميع المسلمين. أصول الحديث ص 230- 231.
2 فلا تقبل رواية الكافر: وذلك بالإجماع سواء أعلم من دينه الاحتراز عن الكذب أم لم يعلم ولا يعقل أن تقبل روايته لأن في قبولها تنفيذا لقوله على المسلمين وكيف تقبل رواية من يكيد للإسلام؟. ثم إن الله عز وجل أمرنا بأن نتوقف في خبر الفاسق في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} .فإذا كان هذا موقفنا من رواية الفاسق فمن الأولى أن نرد رواية الكافر . أصول الحديث ص 230.
يكون تحمل ما رواه وهو كافر.
"الرابع: أن يكون عدلا مستورا" وسيأتي تفسير العدالة والتحقيق أنها تغني عن الشرائط لتضمنها إياها "فلا يقبل المجهول في أحد احتمال أبي طالب" من غير ترجيح لأحدهما "في المجزئ" كتابه في أصول الفقه "ومرجوح احتمالية في أصول الفقه له" كأن له كتابا في أصول الفقه غير المجزئ وإلا فالمجزئ فيها أيضا "وأحد قولي المنصور بالله وهو المنصوص له في الصفوة" أي صفوة الإختيار كتاب له في أصول الفقه "وأما الفقيه عبد الله بن زيد" العنسي "فقال في الدرر" كتابه في أصول الفقه "المذهب" أي للزيدية "قبوله" أي المستور في الرواية "وهو ظاهر كلام المنصور بالله عليه السلام في" كتابه "هداية المسترشدين" فكان مرجوحا في أحد احتمالية في الصفوة وظاهرا في كتابه الآخر "وهو مذهب" الحنفية "وهو" أي قبول المستور "يلزم من يقبل مراسيلهم" أي الحنفية لأن فيها المستور إذ مذهبهم قبوله.
"والخامس" من الشرط في قبول الرواية "أن يكون" الراوي "ضابطا لما يرويه" إلا أنه تقدم له أن الذي في كتب الزيدية أربعة شروط فهذا الخامس على رأي غيرهم إلا أنه لا يخفى أنه لا بد منه وقد مر جوابه "وقد تقدم تفصيل كلام أصحابنا في ذلك أول الكتاب" عبارة مشهورة تقدمت للمصنف وهو يناسب من يتمذهب بمذهب معين وينتسب إليه لا من طريقة الإنصاف وعدم التعبد برأي الأسلاف كالمصنف القائل في أبياته الدالية:
والكل إخوان ودين واحد كل مصيب في الفروع ومهتدي أول الكتاب حيث قال ولا بد من اشتراط الضبط وقال إنه إذا استوى خطاؤه وصوابه فهو مردود عند الأصوليين وقال المنصور بالله وعبد الله ابن زيد إنه يقبل وطريق قبوله الاجتهاد وتقدم ما فيه كأنه لمخالفته الزيدية لهذا لم يثبت لهم هنا شرطية الضبط.
"وقال ابن الصلاح: أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتج بروايته أن يكون عدلا ضابطا لما يرويه ثم فصل شروط العدالة والضبط وفسر العدالة بخمسة أشياء البلوغ والعقل والسلامة من الفسق بارتكاب كبيرة أو إصرار على
صغيرة والسلامة أيضا مما يخرم المروة" وكأنه وقع سقط في نسخة المصنف فإنه فاته الخامس وهو الإسلام. وعبارة ابن الصلاح وتفصيله أن يكون مسلما بالغا عاقلا سالما من أسباب الفسق وخوارم المروءة متيقظا غير مغفل حافظا إن حدث من حفظه ضابطا لكتابه إن حدث من كتابه فإن كان محدثا بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني انتهى.
ولا أدري لماذا حذف المصنف بقية شروط العدالة فإنه لم يأت بعبارة ابن الصلاح بلفظها ولم تلم عبارته بمعناها وقد سبقه الزين في الألفية وشرحها ويرد عليه ما ورد على المصنف.
ثم اعلم أنه أجمل ابن الصلاح أسباب الفسق فبينها المصنف بقوله بارتكاب الكبيرة والإصرار على الصغيرة وهاهنا عد أئمة الأصول الكبائر وبينوا الخلاف في حقيقتها.
فائدة : فسر الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها العدالة بقوله والمراد بالعدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة والمراد بالتقوى اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة انتهى.
وفسر المروة وضبطها ملا على قارئ في حاشيته بقوله والمروءة بضم الميم والراء بعدها واو ساكنة ثم همزة وقد تبدل وتدغم وهو كمال الإنسان من صدق الإنسان واحتمال عثرات الإخوان وبذل الإحسان إلى أهل الزمان وكف الأذى عن الجيران وقيل المروءة التخلق بأخلاق أمثاله وأرانه ولداته في لبسه ومشيه وحركاته وسكناته وسائر صفاته وفي المفاتيح خوارم المروة كالدباغة والحياكة والحجامة ممن لا يليق به من غير ضرورة وكالبول في الطريقة وصحية الأرذال واللعب بالحمام ونحو ومجملها الاحتراز عما يذم به عرفا انتهى.
واعلم أ قد بحثنا في هذا الرسم في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر وبينا فساده وحققنا الحق في حقيقتها وكذلك في حاشيتنا منحة الغفار على ضوء النهار وبينا أن هذا الرسم لا دليل عليه وأنه لا يتم الرسم إلا في حق المعصومين وفي قوله وصدق اللسان قد دخل هذا الشرط في قيد اجتناب الكبائر وقوله وكف الأذى عن الجيران لا وجه لتقييده بذلك وإنما قاده إليه السجع ولو قال وكف الأذى عن أهل الإيمان لعم ذلك مع وفاء العبارة بالمراد على أنه قد دخل كف
الأذى في اجتناب الكبائر لورود الوعيد عليه بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب: 58].
"وفسر" أي ابن الصلاح "الحفظ" المأخوذ في رسم العدل "بما يرجع إلى موافقة الحفاظ أهل الإتقان إلا النادر الذي لا يخلو عنه أحد" فإنه وقع النسيان لسيد ولد عدنان صلى الله عليه وسلم "وعلى حسب موافقته لهم يعرف حفظه" لفظ ابن الصلاح يعرف كون الراوي ضابطا بأن تعتبر روايته برواية الثقات المعروفين بالضبط والإتقان فإن وجدنا روايته موافقة ولو من حيث المعنى لرواياتههم وفي الأغلب والمخالفة نادرة عرفنا حينئذ كونه حافظا ثبا1 وفي النخبة وشرحها إنما الضبط ضبطان ضبط صدر أي إتقان قلب وحفظه وهو أي ضبط الصدر أن يثبت الراوي في صدره ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء وضبط كتاب وهو صيانته لديه منذ سمعه فيه وصححه إلى أن يؤدي منه انتهى وبه تعرف أن تفسير ابن الصلاح إنما هو لأحد قسمي الضبط.
واعلم أن قدمنا لك أنهم اختاروا في رسم الصحيح أن يكون راويه تام الضبط كما قال في النخبة عدل تام الضبط وتبعه المصنف في مختصره كما قدمنا لفظه وفي شرح فلنخبة وقيد بالتمام إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك قال ملا على والمعنى أنه لا يكفي في الصحيح لذاته بمسمى الضبط على ما هو المعتبر في الحسن لذاته وكذا في الصحيح لغيره يكتفي بمجرد الضبط انتهى.
ولا يخفي أن هذا في ضبط الصدر قال ملا على وأما ضبط الكتاب فالظاهر أن كله تام لا يتصور فيه النقصان ولهذا لا يقسم الحديث باعتباره وإن كان يختلف ضبط الكتاب بإختلاف الكتاب.1هـ.
قلت: وغير خاف عليك أن كلامهم هنا في شروط من تقبل روايته أعم من أن يكون حديثه صحيحا لذاته أو لغيره أو حسنا فلذا تركوا التقييد هنا بالتمام ليعم.
ولما كانت العدالة صفة للراوي لا تعرف بمجرد إيمانه افترقت إلى معرف لها فقال المصنف "قال" أي اين الصلاح "والصحيح أن التعديل يثبت بواحد ولو امرأة على الصحيح" واستدل ابن الصلاح لما جزم به بقوله لأن العدد لم يشترط في قبول الخبر
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث ص 138.
فلم يشترط في جرح راويه ولا تعديله بخلاف الشهادات. انتهى.
قلت: وفي المسألة ثلاثة أقوال :
الأول : أنه لا يقبل في التزكية إلا رجلان في رواية وشهادة حكاه القاضي أبو بكر والباقلاني عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم.
الثاني : أنه يكفي واحد فيهما وهو اختيار القاضي أبي بكر فإنه قال والذي يوجب القياس وجوب قبول تزكية كل عدل مرضى ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا لشاهد ومخبر.
الثالث : التفصيل فيكفي في الرواية تزكية العدل ولا بد م اثنين في الشهادة ورجحه الإمام فخر الدين والسيف الآمدي.
وأقربها به أوسطها لأن التزكية من باب الأخبار ولا يشترط العدد في قبول رواية العدل.
وقوله على الصحيح يتعلق بقوله ولو امرأة لأنه قد اختلف في تعديل المرأة فحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء من أهل المدينة وغيرهم أنها لا تقبل النساء في التزكية لا في رواية ولا في شهادة وقيل تقبل مطلقا
فيهما قاله صاحب المحصول واختار القاضي ذلك إلا أنه قال لا تقبل تزكيتها في الحكم الذي لا تقبل شهادتها فيه.
"قال الخطيب والأصل في ذلك" أي في التزكية وقبول الواحد أو الإشارة إلى قبول الواحد فقط "سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لبربرة عن حال عائشة في حديث الأفك وجوابها عليه إشارة إلى ما وقع في حديث الأفك وجوابها عليه" إشارة إلى ما وقع في حديث الإفك وهو أن عليا رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم لما استشاره سل الجارية تصدقك فسألها فقالت ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على التبر أو كما قالت.
إلا أن في هذا إشكالان :
الأول : في قول الخطيب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم بربرة وبربرة إنما كانت عند عائشة رضي الله عنها بعد المكاتبة ولم تكاتب إلا بعد قصة الإفك بمدة طويلة وكان العباس حين كاتبها بالمدينة ولم يقدم العباس إلا بعد فتح مكة وأين قصة الإفك من ذلك وأجب عنه أن عليا رضي الله عنه إنما قال سل الجارية فوهم الراوي وسماها بربرة بنه على هذا ابن القيم.
والثاني : أن عائشة رضي الله عنها كانت عدالتها معلومة عنده صلى الله عليه وسلم فلا تحتاج إلى تعديل وتزكية وإنما سؤاله صلى الله عليه وسلم الجارية من باب الاستثبات في باب الأخبار وقرائن الأحوال لا ليستفيد تزكية مجهول الحال التي هي مسألة الباب ولكنه أخذ منه الخطيب أنه يلزم من هذا شرعية السؤال عن تزكية من جهل حاله.
"قال" مقتضى السباق أن القائل الخطيب ولم أره عنه بل في شرح الألفية لم ينسبه إلى قائل "وفي" رواية "الصغير المميز الموثوق به" الذي لم يجرب عليه كذب "وجهان" أحدهما قبوله ومن يقبله لا يشترط في قبول الرواية بلوغ الراوي "حكاهما البغوي" نسبة إلى بغشور بلدة بين هراة وسرخس والنسبة بغوي على غير قياس معرب كوشر أي الحفرة المالحة قاله في القاموس وفي طبقات الأسنوي أن محيى السنة وهوالحسين بن مسعود منسوب إلى بغي بفتح الباء وهي قرية بخراسان بين هراة ومرو "والجويني منسوب" إلى جوين كزبير كورة بخراسان وبلدة بسرخس كما فيه أيضا "والرافعي والنووي" نسبة إلى نوى وتخفض بلدة بالشام وقرية بسمر قند والنووي من الأولى كما قاله فيه أيضا "وقيد الرافعي والنووي الخلاف بالمراهق وصححا عدم القبول" .
هذا النقل من شرح منظومه الزين ولفظه بعد ذكر البغوي والجويني وتابعهما الرافعي إلا أنه قيد الوجهين في التيمم بالمراهق وصحح في شرح المهذب عن الجمهور عدم القبول وتبعه عليه النووي وقيده في استقبال القبلة بالمميز وحكى عن الأكثرين عدم القبول وحكى النووي في شرح المهذب عن الجمهور قبول أخبار الصبي المميز فيما طريقه المشاهدة بخلاف ما طريقه النقل كالإفتاء ورواية الأخبار انتهى.
"قال" أي ابن الصلاح ومقتضى ما سبق أن القائل الخطيب وليس كذلك كما ستعرفه "ومما تثبت به العدالة الإستفاضة والشهرة فلا يحتاج" من اشتهر بها "إلى توثيق وهو الصحيح من مذهب الشافعي" قال ابن الصلاح: وعليه الإعتماد في أصول الفقه ثم قال: "وممن ذكره من أهل الحديث الخطيب" ومثل لذلك بمالك وشعبة والسفيانين والأوزاعي والليث وابن المبارك ووكيع وأحمد بن حنبل ويحيى بن معني وعلي بن المديني ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر فلا يسأل عن عدالة هؤلاء وأمثالهم وإنما يسأل عن عدالة من خفى أمره عن الطالبين.
ولم يذكر المصنف دليل هذه الدعوى وهكذا يصنع كثيرا ولا يليق به وقد استدل
القاضي أبو بكر على ذلك أن العلم بظهور سيرتهما وظهور عدالتهما يريد الراوي والشاهد أقوى في النفوس من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب والمحاباة في تعديله وأغراض داعية إلى وصفه بغير صفته وقد سئل أحمد عن اسحق بن راهويه فقال مثل اسحق يسأل عنه وسئل ابن معين عن أبي عبيد فقال مثلي يسأل عن أبي عبيد أبو عبيد يسأل عن الناس.
"وذكر الخطيب قول ابن عبد البر إن كل حامل علم معروف بالعناية فيه فهو عدل محمول في أمره أبدا على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صلى الله عليه وسلم يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين" . التحريف التغيير والغالي من غلافي الأمر غلوا جاوز حده "وانتحال المبطلين1" من قولهم انتحله أي ادعاه لنفسه وهو لغيره والمبطل من أبطل إذا أتى بغير الحق ومعنى الحديث يبعدون عنه تغيير من يفسره بما يتجاوز فيه الحد فيخرج به عن قوانين الشرع ودعاء من يدعي فيه شيئا يكون باطلا لا يوافقه الواقع وكأنه يشير بالجملة الأولى إلى من يغير تفسير الأحاديث النبوية تعمدا أو تلبيسا وبالثانية إلى من يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه بادعائه لحديث لم يحدث به ولا سمعه ينتحل باطلا.
وهذا الحديث الذي ذكره المصنف "هو حديث مختلف فيه فقيل إنه مرسل أرسله ابراهيم بن عبد الرحمن العذري روى عنه معان" بضم أوله وتخفيف المهملة "ابن رفاعة" السلامي بتخفيف اللام قال في التقريب لين الحديث كثير الإرسال ويأتي كلام العلماء فيه "ورواه عن معان غير واحج ذكره الذهبي في الميزان وقد توبع معان فذكر الجلال في علله أن أحمد" يريد ابن حنبل "سئل عنه وقيل له كأنه كلام موضوع قال لا هو صحيح فقيل له ممن سمعه قال من غير واحد" فقيل له من هم "ثم رواه عن مسكين" فقال حدثني مسكين "قال لكنه قال عن القاسم بن عبد الرحمن" لفظ الزين إلا أنه يقول عن معان عن القاسم بن عبد الرحمن "قال يعني فغلط في اسم ابراهيم" فقال القاسم مكان ابراهيم "ابن عبد الرحمن" ولعله ابن عوف الزهري "قال أحمد ومعان لا بأس به ووثقه ابن المديني" .
قلت: قال ابن القطان خفى على أحمد من أمره ما علمه غيره ثم ذكر تضعيفه
ـــــــــــــــــــ
1 شرف أصحاب الحديث 53, والعقيلي 4/256, وابن عدي 1/152- 153, والموضوعات 1/31.
عن ابن معين وأبي حاتم وابن عدي وابن حبان.1هـ.
"قلت: وأما ابراهيم فقال الذهبي تابعي مقل" أي قليل الرواية "ما علمته واهيا قلت: وذكر في مختصرر أسد الغابة أنه كان صحابيا والله أعلم" قلت: إن كان هوابن عبد الرحمن بن عوف فقد قال الحافظ بن حجر في التقريب قد قيل إن له رؤية.
"قال زين الدين وقد روى هذا الحديث مرفوعا مسندا من حديث علي بن أبي طالب وابن عمر بن الخطاب وابن عمرو وأبي هريرة وأبي أمامة وجابر ابن سمرة رضي الله عنهم وكلها ضعيفة" تتمة كلامه لا يثبت منها شيء يقوي المرسل المذكور.
قال البقاعي: وقد بقي عليه أسامة بن زيد فقد قرأت بخط بعض الفضلاء من أصحابنا أنه أورد الحافظ صلاح الدين العلائي هذا الحديث عن أسامة بن زيد مرفوعا وقال فيه حديث صحيح غريب وصححه ابن حبان قال "قال ابن عدي ورواه الثقات عن الوليد بن مسلم عن ابراهيم بن عبد الرحمن قال حدثنا الثقة من أصحابنا أن رسول الله قال وساق الحديث قلت: فهذه" يعني ما روى مرفوعا مسندا عن الصحابة رضي الله عنهم "شواهد تقويه وقد اختلف الحفاظ هل الصحيح وفقه أو وصله" على ثلاثة أقوال "فقال العقيلي الإسناد" أي الوصل "أولى" من الإرسال "ونازعه ابن القطان" قائلا إن الإرسال أولى من الوصل وهو ثاني الأقوال وثالثها قوله "وتوقف في ذلك ابن النحوي" المعورف بابن الملقن.
"قال الزين وممن وافق ابن عبد البر على هذا من المتأخرين الحافظ ابن المواق" فإنه قال في كتابه بغية النقاد أهل العلم محمولين على العدالة حتى يظهر منهم خلاف ذلك.
"وضعفه" أي استدلال ابن عبد البر بالحديث "زين الدين بوجهين" فقد أبدى البقاعي ثالثا وهو أنه لو كان خبرا لم يسمع جرح أصلا فيبقى قوله حتى يتبين جرحه مناقضا لاستدلاله "أحدهما" من حيث الرواية وهو "إرساله وضعفه" كما عرفت "وثانيهما" من حيث الدراية وهو "أنه لو كان بمعنى الخبر" عن الشارع بأن كل حامل علم عدل فخبره واجب الصدق فلو كان كذلك "لم يوجد حامل علم غير عدل" والواقع خلافه "فثبت أنه بمعنى الأمر" ولفظ الزين فلم يبق له محمل إلا على الأمر ومعناه أنه أمر الثقات بحمل العلم لأن العلم إنما يقبل عن الثقات انتهى فالمراد ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله "ويقوي ذلك" أي أنه أريد به الأمر "أنه قد ورد
في بعض طرق أبي حاتم ليحمل هذا العلم بلام الأمر" تحمل عليها رواية الخبر ولا يقال هلا عكستم لأنا نقول هنا مرجح لحمل الخبر على الأمر هو مخالفته الواقع لو حمل على الأخبار.
"قلت: ويمكن الجواب على الزين" في هذا التضعيف الذي أبداه لاستدلال ابن عبد البر عن الوجهين معا.
"أما الأول" وهو الإعتراض من حيث الرواية "فلا معنى للرد بالإرسال والضعف المحتمل المختلف فيه لأنها مسائل اجتهاد إلا أن يريد" أي زين الدين "أن هذا" أي إرسال الحديث وضعفه "هو المانع له إذا كان مذهبه يقتضي ذلك فصحيح وأما إن أراد منع غيره من الذهاب إلى ذلك فلا يصح له" إلا أن يثبت أن ابن عبد البر لا يعمل بالمراسيل ولا بالتضعيف المحتمل.
"وأما الثاني" وهو إعتراضه لاستدلال من حيث الدراية وهو حمل الخبر على الأمر "فنقول" في جوابه "الأصل في الخبر والأكثرمن أن يقر على ظاهره" من غير صرف له عنه إلى غيره "والتأويل من غير ضرورة لا يجوز" والقول بأن الضرورة الموجبة للتأويل عدم صدق الحديث إن حمل على الأخبار مدفوع بقوله "ووجود التخصيص في مدلولات الأخبار لا يوجب صرفها من باب الأخبار إلى باب الأوامر" فيحمل الخبر على التخصيص بوجود من ليس بعدل في حملة العلم "و" لا يقال فقد تأولم الخبر أيضا كما تأوله زين الدين واتفقتم الجميع على إخراج الخبر عن ظاهره لأنا نقول "ورود التخصيص" في الأخبار العامة "أكثر من ورود الأخبار بمعنى الأمر" والتأويل بالحمل على الأكثر أو لي من التأويل بالحمل على الأقل كما ذهب إليه الزين.
فإن قلت: فعلى كلام المصنف قد آل معنى الحديث إلى الأخبار بأن بعض حملة العلم عدول ولزم من مفهومه أن بعضهم غير عدول وبهذا لا يتم دليلا لابن عبدالبر على مدعاه بأن كل حامل علم معروف بالعناية فيه فهو عدل.
قلت: بل يتم به استدلاله وذلك لأن العام يعمل به على عمومه حتى يقوم دليل على تخصيصه فمن كان حامل علم معروفا بالعناية به فهو عدل حتى يظهر قادح في عدالته.
إن قلت: الزين لم يحمله على الأمر بمجرد ما ذكر لأنه ورد بصيغة الأمر في رواية.
قلت: أجاب عنه بقوله "وأما رواية أبي حاتم فقد قدمت" خطاب للزين "أنها عندك ضعيفة" وذلك لأنه قال الزين ورواه أي حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله" 1 ابن أبي حاتم في مقدمة كتاب الجرح والتعديل وابن عدي في مقدمة الكامل وهو مرسل أو معضل ضعيف انتهى.
ولم يتقدم للمنصف نقل الزين تضعيفه عن أبي حاتم "ونزيدك على ذلك أنها معلولة بمخالفة جميع الرواة إذ كلهم رواه بلفظ الخبر فالوهم أبعد عن الجماعة والله أعلم" فيكون الواهم من رواه بلفظ الأمر وحينئذ فيتم الإستدلال بالحديث لابن عبد البر.
"ثم إن ما ذهب إليه ابن عبد البر وابن المواق هو الذي عليه عمل الموافق والمخالف في أخذ اللغة عن اللغويين وأخذ الفتيا عن المفتين وأخذ الفقه ومذاهب العلماء عن شيوخ العلم وقد بينت ذلك في العواصم بينا شافيا فليطالع فيه" في الجزء الأول من العواصم فإنه قال بعد إيراده للحديث الأول واستيفاء الكلام عليه بما ذكره هنا ما لفظه:
الأثر الثاني : قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفقه في الدين" رواه ابن عباس وأبو هريرة ومعاوية كلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحديث ابن عباس أخرجه الترمذي2 وقال حديث صحيح وحديث أبي هريرة ذكره الترمذي تعليقا وحديث معاوية أخرجه البخاري وإنما ذكرته هنا لئلا يظن من وقف عليه في صحيح البخاري أنه لم يرو الحديث أحد سواه وزاد الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه أنه رواه عمر وابنه عبد الله وابن مسعود وأنس.
فهذا الحديث دل على أن الله أراد بالفقهاء في الدين الخير والظاهر فيمن أراد الله به الخير أنه من أهله وهو مقو للدليل لا معتمد عليه على انفراده وفيه بحث بتشعب تركناه اختصارا.
الأثر الثالث : قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسا وسأل عن أعبد أهل الأرض فدل عليه فسأله فأفتاه أنه لا توبة له فقتله ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدل عليه فسأله فأفتاه بأن توبته مقبولة إلى آخر الحديث وفيه أنه من
ـــــــــــــــــــ
1 سبق تخريجه.
2 البخاري 1/27. ومسلم في: الزكاة: حديث 98, 100. والإمارة: حديث 175. وأحمد 1/306.
أهل الخير وفي قصته بعد المعرفة بالعلم أنه لم يسأل عن العدالة والحديث متفق عليه1.
الأثر الرابع : أنه لما قال الله لموسى عليه السلام: "إن لنا عبدا هو أعلم منك" يعني الخضر عليه السلام فسأل موسى من الله لقاءه ليتعلم منه وسافر للقائه2 ولم يرو أنه سأل عن عدالته بعد أن أعلمه الله بعلمه مع أن من الجائز أن يكون العلام غير عامل كبلعم بن باعورا وغيره ولكنه تجويز بعيد قليل الإتفاق نادر الوقوع فلم يجب الإحتراز منه.
وفي بعض هذه الآثار أثر ضعف ولكنه ينجبر باجتماعها وشهادة القرآن لها وهي الحجة الثانية وهي قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] فأمر الله سبحانه وتعالى بسؤالهم وهو لا يأمر بقبيح فدل إطلاقه على جواز سؤال العلماء على العموم إلا من عرف بقلة الدين ثم ذكر أدلة من جهة النظر وسرد خمسة أنظار دالة على ما ذكره وأتى فيها بنفائس وأطال فيها المقال والجواب والسؤال بما يقوى ما جنح إليه ابن عبد البر.
واعلم أن هذا البحث جميعه مبني على المشهور في رواية يحمل إلخ أنها بفتح حرف المضارعة ونصب العلم ورفع عدوله لا على ما قاله الشيخ في النكت أن ابن الصلاح حكى في قواعد الرحلة أنه وجد حكاية مسندة إلى أبي عمرو محمد بن أحمد التميمي أنه يروي هذا الحديث بضم الياء من يحمل على أنه لما لم يسم فاعله ورفع الميم من العلم وفتح العين واللام من عدوله ومعناها أن الخلف هو العدول بمعنى عادل كما يقال شكور بمعنى شاكر والتاء للمبالغة كمما يقال رجل صرورة انتهى ومعناه على هذا يحمل عن الناس العلم من كل خلف عادل فلا يفيد ما استدل به ابن عبد البر بل هو إخبار بأنه لا يؤخذ العلم إلا ممن اتصف بالعدالة وتحقق قيامها به.
"قال" أي الزين "والصحيح عندهم أن الجرح لا يقبل إلا مبين السبب" أي الصحيح من الأقوال الأربعة المعروفة: الأول : هذا.
ـــــــــــــــــــ
1 مسلم في: التوبة: حديث 46, 47. وأحمد 3/72.
2 البخاري في: العلم: ب 44. ومسلم في: الفضائل: حديث 170, وأحمد 5/ 118, 119.
الثاني : أنه يجب بيان سبب العدالة ولا يجب بيان سبب الجرح لأن أسباب العدالة يكثر التصنع فيها فيبني المعدلون على الظاهر حكاه صاحب المحصول وغيره.
والثالث : أنه لابد من ذكر أسباب الجرح والعدالة جميعا حكاه الأصوليون قالوا وكما أنه قد يجرح الجارح بما لا يقدح كذلك قد يوثق العدل بما لا يقتضي العدالة.
والرابع : عكسه وهوأنه لا يجب ذكر سبب واحد منهما إذا كان الجارح والمعدل عالما بصيرا وهو اختيار القاضي أبي بكر ونقله عن الجمهور.
"وحكى الخطيب أنه ذهب إلى ذلك الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم وغيرهما" قال ابن الصلاح: وهو الذي نص عليه الشافعي وقال الخطيب هو الصواب عندنا "قال ابن الصلاح: وهو ظاهر مقرر في الفقه وأصوله" ودليله ما أفاده قوله "لكثرة اختلاف الناس فيه فربما جرح بعضهم لاعتقاده أن ما جرح به مؤثر في سقوط العدالة وربما استفسر الجارح وذكر ما ليس بجرح فقد روى الخطيب عن محمد بن جعفر المدائني أنه قيل لشعببة لم تركت حديث فلان قال رأيته يركض1 على برذون فتركت حديثه2" قال الزين فماذا يلزم من ركضه على برذون قد قيل ربما يلزم منه خرم مروءته وذلك إذا كان في موضع أو حال لا يليق بذلك وعليه تحمل رؤية شعبة تحسينا للظن به لما ثبت من جلالته واتساع معرفته حتى قال الإمام أحمد إنه أمة وحدة في هذا الشأن.
"وروى أبو حاتم عن يحيى بن سعيد قال أتى شعبة المنهال بن عمرو فسمع صوتا فتركه" والمنهال وثقة ابن معين والنسائي واحتج به البخاري في صحيحه "قال ابن أبي حاتم" في بيان الصوت الذي سمعه شعبة "سمعت أبي يقول إنه سمع قراءة بألحان فكره السماع منه من أجل ذلك وقد روى الخطيب بإسناده" إلى وهب بن جرير "أنه قال" قال شعبة أتيت منزل المنهال بن عمرو "فسمعت منه صوت الطنبور فرجعت فقيل له" أي لشعبة "ألا سألت عنه؟ ألا تعلم ما هو" لعله كان المنهال غير عالم بذلك في منزله ويحتمل أن لا نعلم أنت ما هو فلعله غير طنبور قيل الورع ما فعله شعبة.
ـــــــــــــــــــ
1 يركض على برذون : الركض هو استحثاث الدابة بالرجل لتعدوا . وبرذون: بكسر الموحدة وذال معجمة الجافي الخلقة والجلد على السير في الشعاب والوعر من الخيل غير العربية وأكثر مايجلب من الروم. فتح المغيث 2/21.
2 الكفاية ص 111, وتدريب الراوي 1/306.
لأن الطنبور لا يضرب في بيت أحد لا يعلمه وذلك مما يخرم المروءة إن لم يكن فسقا.
"قال" الخطيب "وروينا عن شعبة أنه قال قلت: للحكم بن عتيبة لم ترو عن زاذان قال كان كثير الكلام" يحمل ذلك على أنه فيما لا يعنيه فيكون خرما للمروءة وزاذان قال ابن حبان في الثقات كان يخطيء كثيرا. انتهى.
وقال أحمد بن حميد الداري حدثنا جرير فقال المصنف "وعن جرير أنه قال رأيت سماك بن الحارث" في شرح الزين بن حرب "يبول قائما فلم أكتب عنه" يحمل على أنه في مكان يخرم المروءة البول فيه فهذه أمثلة لما استفسر الجارح عن جرحه ففسره بما ليس بجرح.
واعلم أنه لا تصريح من المفسرين المذكورين بأنهم جرحوا من ذكر إذ شعبة لم يجرح من رآه يركض على برذون بل قال تركت حديثه ولم يجرحه وكأه رأي ذلك من خوارم المروءة وأنه يفسرها بسيرة أمثاله وأن مثل ذلك الرجل لا يركض على برذون وكذلك من سمع في بيته صوت الطنبور لم يجرحه بل قال كره السماع منه وكذلك من رآه كثير الكلام ولا شك أن هذا تعمق ومبالغة.
"وقد عقد الخطيب لهذا بابا في الكفاية" كما حكاه الزين في شرح ألفيته.
"قلت: أكثر من هذا الإختلاف في العقائد" فإنها فرقت كلمة العباد وأورثت بينهم التعادي إلى يوم المعاد في مسائل أكثرها أو كلها ابتداع لم يقع لها ذكر في سلف الأمة التي يجب لها الإتباع كمسألة خلق القرآن أو قدمه والقول يخلق الأفعال أو عدمه.
"ثم إن العداوة أمر زائد على مجرد اعتقاد الخطأ واعتقاده التكفير فإن العداوة إذا وقعت بين مؤمنين متفقي العقيدة لم يقبل كلام أحدهما في الآخر كيف أمر العقائد؟!" فإن التعادي عليها عظيم بل سفكت بسببها الدماء وهتكت المحارم وارتكبت القبائح بسببها والعظائم كما يعرف ذلك من له إلمام بكتب التاريخ والرجال وتطلع إلى معرفة الحقائق والأحوال "لا سيما في حق المتعاصرين ولا سيما في حق المتجاورين فقد جرح بذلك" أي بأمر العقائد "خلق كثير" بل أكثر ما تجد الجرح في كتب الرجال يكون بالرفض والنصب والغلو في التشيع والقول يخلق القرآن وكل ذلك من مسائل الاعتقاد "ووقع في الجرح به عصبية في الجانبين لا سيما من كان داعية إلى مذهبه فإنه يبغض ويحمل على الوقيعة فيه" .
اعلم أن في المقام بحثين :
الأول : أن أصل الكلام هنا في أنه لا يقبل الجرح إلا مبين السبب وهذا الذي ذكره المصنف من اختلاف العقائد بحث آخر فإنه لا يقبل الجرح من المتعاديين مجملا ولا مفسرا لمانع العداوة.
والبحث الثاني: في قوله سيما في حق المتعاصرين فإنه لا يعرف حال الشخص بجرح أو عدالة إلا من عاصره ولا طريق إلى العلم بأحواله لمن في عصره ممن غاب عنه ولمن يأتي بعده إلا من المعاصرين له إذ من قبلهم لا يعلمون وجوده ومن بعدهم لا يعرفونه إلا بنقل الأخبار عمن عاصره وشاهده وجالسه وأخذ عنه.
وقد سبق المصنف إلى مثل كلامه الحافظ الذهبي فإنه قال في الميزان في ترجمة أحمد بن عبد الله بن أبي نعيم ما لفظه كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجومنه إلا من عصم الله وما علمت أن عصرا من الأعصار سلم أهل من ذلك سوى النبيين والصديقين فلو شئت سردت من ذلك كراريس انتهى قال ابن السبكي قد عقد ابن عبد البر في حكم قول العلماء بعضهم في بعض بدأ فيه بحديث الزبير "دب إليكم داء الأمم من قبلكم الحسد والبغضاء" انتهى1.
وفيه البحث الذي عرفته فالأولى أن يناط رد كلام المتعاصرين بعضهم في بعض بمن يعلم بينهما مانع من عداوة أو تحاسد أو منافسة أو نحوها ممايقع بين الأقران وقد أطلنا في ذلك في ثمرات النظر في علم الأثر فليطالع.
قلت: ومن أمثلة القدح بالمخالفة في الأعتقادات قول بعضهم في البخاري إنه تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ قال ابن السبكي فيالله ويالمسلمين أيجوز لأحد أن يقول البخاري متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنة والجماعة مع أن الحق في مسألة اللفظ معه إذ لا يتسريب عاقل أن تلفظه من أفعاله الحادثة اليت هي مخلوقة لله وإنما أنكرها الإمامأحمد لبشاعة لفظها انتهى.
"والسبب الثاني" لم يتقدم له ذكر الأول إلا أن ما قدمه من ذكر العقائد هو مقابل لما ذكره ثانيا فكأنه ذهب وهمه إلى أنه ذكر سببين الأول اختلاف العقائد والثاني:
ـــــــــــــــــــ
1 أحمد 1/165, 167. والبيهقي 10/232. وجامع بيان العلم 2/150.
"التضعيف بالوهم والخطأ" أي بكون الراوي واهما أو مخطئا فإنه قد أطلق عليه بسبب ذلك الضعف.
"فبسبب هذين الأمرين أطلق كثير من المحدثين اسم الكذاب على من هو كاذب في اعتقاده أو غالط في بعض روايته لأن اسم الكذب يتناوله" أي الواهم في روايته والغالط فيها "في اللغة وإن كان العرف يأبى ذلك" فإن الكذب فيه ما كان عن عمد "حتى قوي عندي أن قولهم" أي المحدثين "فلان كذاب من جملة الجرح المطلق الذي لم يبين سببه والله أعلم" قد تقدم للمصنف مثل هذا إلا أنه قيده هنالك بقوله إن قول المحدثين فلان كذاب من قبيل الجرح المطلق الذي لم يفسر سببه فيتوقف فيمن هذه حاله حتى يعرف السبب فقيده بمن حاله كحال ثابت البناني إذ كلامه هنالك في سياق ذكره فإنه قال فهذا يحيى بن معين يطلق ذلك أي الكذب على ثابت الورع الزاهد ولم يتعمد شيئا من ذلك بل لم يظهر منه كثرة الخطأ انتهى إذا عرفت هذا فكلامه هنا مطلق يقيده ما مضى.
هذا هو الصحيح في الجرح وأنه لا بد من ذكر سببه بخلاف العدالة كما قال وأما العدالة فلا يجب علىمن يعدل غيره "ذكر سببها لأنه يؤدي إلى ذكر اجتناب جميع المحرمات وفعل جميع الواجبات كما أشار إليه الزين" حيث قال إن ذلك يحوج المعدل إلى أن يقول ليس يفعل كذا ولا كذا ويعد ما يجب عليه تركه ويفعل كذا وكذا فيعد ما يجب عليه فعله فيشق ذلك ويطول تفصيله "وكما بينته في العواصم" فإنه قال فيها بعد سرده لوجوه أربعة في الاستدلال على ذلك خامسها وهو الوجه المعتمد أنما هذه الوجوه المتقدمة شواهد له ومقويات وهو أن اشترط التفصيل في التعديل إلى ذكرا اجتناب المعدل المحرمات وتأديته لجميع الواجبات على مذهب المعدل في تفسير العداله فإن كان ممن يشدد ذكر ذلك كله وإن كان ممن يترخص ذكر اجتنابه لجميع الكبائر معددا لها ولجمبع معاصي الأدنياء الدالة على الخسة وقلة الحياء وقلة المبالاة بالدين فيقول المعدلل مثلا إن فلانا ثقه عندي لأني شاهدته يقيم الصلوات الخمس ويحافظ عليها ويصوم رمضان ويؤدي الزكاة يودي فريضة الحج إن كان ممن تلزمه هاتان الفريضتان ويذكر أنه يشهد أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله وأن الله عالم قادر ويعدد سائر الصفات الذاتيه والمقتضاة وإنه يسحقها لذاته لا لمعنى ويذكر جميع ما يتعلق باعتقاده من مسائل الوعد والوعيد
والإمامة والبر والولاء ثم ساق في تعداد ذلك ثم قال وغير ذلك مما لايكاد الانسان يحصيه مع التأمل الكثير وما زال المسلمون يعدلون الشهود ويعدلون حملة العلم والرواة من أول الاسلام إلى يوم الناس هذا ما نعلم أن أحدا منهم عدل على هذه الصفة ولاما يقار بها ولاما يدانيها ولا نعلم أن أحدا طلب هذا من المعدلين ولاثلثه ولاربعه وعمل القضاة مستر إلى يوم الناس على الإكتفاء بالتعديل الجملى انتهى.
قلت: وسره أن العداله وصف ملتم من أمور كثيرة وضع لفظ عدل بازائها فكان القائل فلان عدل قال فلان آت بكل ما يجب مجتنب لما يحرم ولذا يشترط في المعدل أن يكون عالما بأسباب العدالة بخلاف القدح فإنه شيءواحد لأنه عبارة عن شيء خرم العدالة فلا يعسر ذكره ولايتعين ما هو حتى يعرب عنه قائله ولايشترط في قائله المعرفة بأسباب القدح فإنه لو قال من يجهل أن السرقة حرام إن فلانا رأيته يسرق كان قدحا وقد عرفت معنى قوله "وهذا شيء لم ينقله أحد من الأمة أبدا ولأنها" أي العدالة "الأصل في أهل الإسلام" .
اعلم أن هذه مسأله خلاف بين الأمة منهم من ذهب إلى أن الأصل الفسق مهر لذي ذهب إليه العضد وصرح به شرح مختصر ابن الحاجب وتبعه عليه الآخذون من كتابه مسدلين بأن العدالة طارئة وبأن الفسق أغلب وقد حققنا في ثمرات النظر أن الأصل أن كل مكلف يبلغ سن التكليف على الفطرة كما دل حديث "كل مولود يولد على الفطرة" 1 وفي معناه عدة أحاديث وفسر به قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فإن بقى عليها من غير مخالطه بمفسق وأني بما يجب فهو عدل إلى فطرته مقبول الرواية وإن لابس مفسقا فله حكم مالا بسه.
وقد أشار سعد الدين في شرحه على شرح العضد إلى هذا وتعقبه صاحب الجواهر بما ليس بجيد وقد ذكرناه هنالك وقد استدل لهم بأن الأصل الفسق بأنهالغالب ولكنه قيده بعضهم بأن هذه الأغلبية إنما هيي في زمن تبع التابعين لافي رمن الصحابة والتابعين وتابعيهم لحديث: "خير القرون قرنى ثم الذين يلوبهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب" 2 وعلى هذا التقييد يتم القول بأن الأاصل أي الأغلب الفسق
ـــــــــــــــــــ
1 البخاري 2/125, وأبو داود 4714, 4716. وأحمد 2/233.
2 الترمذي 2302, 2303. والخطيب 2/53.
في القرون المتأخرة فلا يؤخذ الحكم كليا بأن الأصل الإيمان ولابأن الأصل الفسق بأن يقال في الأول إنه الأصل في القرون الثلاثه وفي الثاني إنه الأصل فيما بعدها.
وقد استدل الجلال في نظام الفصول على أن الأصل هو الفسق بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].
قلت: ولا يخفى أنه غير صحيح إذ المراد من الآيات أن المؤمنين قليل بالنسبة إلى المسلمين الذين ليسوا بعدول وكذلك تفريعه عليه بأنه يحمل الفرد المجهول على الأعم الأغلب وهو أنه يحمل المسلم المجهول العدالة على الفسق غير صحيح لأنه ليس لنا أن تفسق مسلما مجهول العدالة لأجل أن الإغلب الفسق لأن هذا تفسيق بغير دليل من نص أو قياس مع قولهم لا تفسيق إلا بقاطع بل نقول يبقى المسلم المجهول العدالة على الإحتمال لا ترد خبره حكما بفسقه ولا نقبله حكما بعدالتته بل يبقى على الاحتمال حتى يبحث عنه ويتبين أي الأمرين يتصف به وينبغي أن يكون هذا مراد من يقول بأن الأصل الفسق وقول المصنف إن الأصل العدالة يقتضي أنه لا يحتاج على تعديل لأنه لا حاجة إليه إذ كون ذلك هو الأصل كاف.
وفي قوله "فتقوت" أي العدالة "وترجحت بأدنى سبب" وهو التعديل المطلق مايؤيد ذلك التأصل لأنه لا حاجة إلى التعديل إلا لتقوية الأصل كما يؤيده قوله "ولهذا قال جماعة بقبول المجهول ونقل إجماع الصحابة على قبول مجاهيل الأعراب وقبل علي عليه السلام من اتهمه بعد يمينه وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابيين في شهادتهما على الهلال وقد استوفيت هذا المعنى في العواصم" .
وذلك أنه لما قدح السيد علي بن محمد بن أبي القاسم على المحدثين بقبولهم المجهول حاله من الصحابة أجاب عنه المصنف رحمهما الله بأجوبة أحدها أن قبول مجهول الصحابة ليس مذهبا يختص به المحدثون بل هو مذهب مشهور منسوب إلى أكثر طوائف الإسلام إلى الزيدية والحنفية والشافعية والمعتزلة وغيرهم من أكابر العلماء.
أما الزيدية فنسبه إليهم علامتهم بغير منازعة الفقيه عبد الله ابن زيد في كتاب الدرر في أصول الفقه ولفظة فيها إن مذهبنا قبول المجهول قال المصنف هكذا على
الإطلاق صحابيا كان أو غير صحابي وهو أكثر تسامحا من كلام المحدثين واحتج بقبوله صلى الله عليه وسلم للأعرابين في رؤية الهلال وبغير ذلك.
وأما الحنفية فمشهور عنهم.
وأما الشافعية فنسبه إليهم المنصور بالله في كتاب الصفوة وغيره.
وأما المعتزلة فذكره الحاكم أبو الحسين ولفظه في المعتمد ولا شبهة أن في بعض الأزمان كزمن النبي صلى الله عليه وسلم قد كانت العدالة منوطة بالإسلام وكان الظاهر من المسلم كونه عدلا ولهذا اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في قبول خبر الأعرابي عن رؤية الهلال عىل ظاهر إسلامه واقتصرت على إسلام من كان يروي الأخبار من الأعراب انتهى.
ففي كلام إجماع الصحابة على قبول المجهول من الصحابة بل من الأعراب وحديث الأعرابيين معروف أخرجه أهل السنن الأربعة وابن حبان والحاكم وأما قوله وقبل علي عليه السلام فهو إشارة إلى ما أخرجه المنصور بالله وأبو طالب أنه عليه السلام كان يستحلف بعض الرواة فإن حلف صدقة وقال الحافظ الذهبي هو حديث حسن قال المصنف والتحليف ليس يكون للمخبورين المأمونين وإنما يكون لمن يجهل حاله ويجب قبوله فيتقوى عليه السلام بيمينه طيبة لنفسه وزيادة في قوة ظنه ولو كان المستحلف ممن يحرم قبوله لم يحل قبوله بعد يمينه وهذا أعظم دليل أنه عليه السلام إنما اعتبر الظن في الأخبار انتهى.
قوله وقبل النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابيين يشير إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال, يعني رمضان فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟", قال: نعم, فقال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا", تقدم من أخرجه إلا أن هذا الأعرابي واحد وهذا هو الذي ذكره المصنف ونسبه إلى من ذكرناه إلا أنه قال ابن حجر: في التلخيص قال الترمذي إنه مرسل قال
النسائي وهوأولى بالصواب وسماك إذا تفرد بأصل لم يكن حجة انتهى.
وأما قصة الأعرابيين فأخرجها أبو داود عن رجل من الصحابة وفيها أنه قدم أعرابيان فشهدا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله لأهلا الهلال ورأياه أمس عشية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا. 1هـ.
"إذا عرفت هذا" أي أنه لا يقبل الجرح إلا مبين السبب "فاعلم أن ابن الصلاح أورد
سؤالا حسنا فقال ما معناه إنا إن لم نقبل الجرح المطلق أسند باب الجرح لأن عبارات الأئمة في كتب الجرح والتعديل" لا حاجة إلى ذكر التعديل كما لا يخفي مطلقة في الغالب إذ مبين السبب قليل جدا.
"وأجاب" ابن الصلاح "عن ذلك بما معناه إنا لم نقل إن من جرح من غير تفسير للسبب فهو يحتج به" حتى يلزم أنا لم تقبل جرحا إلا مبين السبب "بل نقول إما أن نبحث عن حاله" أي حال من حرح جرحا مطلقا عن السبب "ونبين ثقته وإتقانه" بعد البحث عنه "بحيث تضمحل تلك الريبة التي حصلت من إطلاق الجرح حكمنا بثقته" لفظ ابن الصلاح وجوابه أن ذلك وإن لم نعتمده في إثبات الجرح والحكم به فقد اعتمدناه في أنا توقفنا عن قبول حديث من قالوا فيه مثل ذلك بناء على أن مثل ذلك أوقع عندنا فيهم ريبة قوية يوجب مثلها التوقف ثم إن من زاحت عنه تلك الريبة منه بالبحث عن حاله أوجب الثقة بعدالته قبلنا حديثهه ولم نتوقف ثم قال ما معناه "مثل بعض رجال الصحيحين الذي مسهم مثل هذا الجرح" الذي لم يبين سببه "فافهم ذلك فإنه مخلص حسن وإلا" يحصل لنا بالبحث ثقته وإتقانه "توقفنا في حاله" فلا نحكم له ولا عليه أما الأول فلأنه وإن كان الأصل العدالة فقد أوجب الجرح الجملى التوقف في حاله فقت في عضد ذلك الأصل وأما إذا قلنا الأصل الفسق فأوضح "ويترك حديثه لأجل الريبة القوية" الحاصلة من القدح الجملى "لا لأجل ثبوت الجرح" .
واعلم أن هذا يشعر بأن البخاري لم يكن في رواته من قدح فيه إلا بقدح مطلق وقد تقدم للمصنف ذلك وأن الذي خرج لهم البخاري ممن قدح فيهم ليس إلا قدحا مطلقا عن بيان السبب وقرره هنا وليس بصحيح وقد بينا في ثمرات النظر خلافه ونقلنا كلام أئمة الجرح والتعديل في جماعة من رواة الشيخين قدحا مبين السبب وعرفه بما في عكرمة.
"قلت: وترك ابن الصلاح القسم الثالث وهو أن يبحث فتظهر صحة الجرح وإنما تركه لظهور الحال فيه" وهو أنا قد تركنا قبول حديثه قبل البحث فبعد ظهور صحة القدح تركه بالأولى فرجال الحديث كالحلال البين والأمور المشتبهات وكلام ابن الصلاح في رجال الحديث ويجري مثله في الحديث وأن تضعيفه المطلق يوجب ريبة فيه وترك العمل به حتى يظهر سبب ضعفه ون هنا نعلم أن معنى قولهم لا يقبل الجرح إلا مفسرا أي لا يعمل به في الرد إلا مفسرا لا أنه لا يقبل مطلقا وأنه لا
حكم له بل له حكم هو ثبوت الريبة وتركه.
قال الزين "ولما نقل الخطيب عن أئمة الحديث أنه لا يقبل الجرح إلامفسرا قال فإن البخاري احتج بجماعة سبق من غيره الطعن فيهم والجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس في التابعين" هذا مثال لمن خرج البخاري حديثه ممن قدح فيه قدحا مطلقا ولكنه غير صحيح.
ففي الميزان بسنده عن جرير بن يزيد قال دخلت على علي ابن عبد الله بن عباس فإذا عكرمة في وثاق عند باب الحش فقلت: له ألا تتقي الله قال أن هذا الخبيث يكذب على أبي قال وروى عن ابن المسيب انه كذب عكرمة ثم أخرج بسنده عن أيوب عن عكرمة قال أنزل متشابه القرآن ليضل به قال الذهبي قلت: ما أسوأها عبارة وأخبثها بل أنزله ليهدي به ويضل به الفاسقين وأخرج عن محمد بن سيرين أنه قال في عكرمة ما يسوءني أن يكون من أهل الجنة ولكنه كذاب وساق كلمات العلماء في جرحه مفسرا شيئا كثيرا.
فلا يتم هنا ما قدمه المصنف أن الكذب من الجرح المطلق فإنه لم يرد على بن عبد الله بن عباس وابن سيرين إلا الكذب حقيقة كما تفيده عبارتهما وقد وثق عكرمة أمة من الناس قال ابن منده أما حال عكرمة في نفسه فقد عدله أمة من التابعين زيادة على سبعين رجلا من خيار التابعين ورفعائهم وهذه منزلة لا تكاد توجد لكبير أحد من التابعين على أن من جرحه من الأئمة لم يمسك عن الرواية عنه قال ابن عبد البر عكرمة من جملة العلماء ولا يقدح فيه كلام من تكلم فيه وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة فتح الباري كلام الناس فيه قدحا وتوثيقا ثم قال أنه لا يقدح فيه كلام من تكلم فيه بعد ما ثبت له من الرتب السنية.
"وإسماعيل بن أبي أويس في المتأخرين" قال الحافظ ابن حجر: لم يخرج عنه البخاري في الصحيح سوى حديثين مقرونا بغيره في كلمنهما قال ابن معين في إسماعيل هو وأبوه يسرقان الحديث قال الدولابي الضعفاء سمعت النصر بن سلمة الموزى يقول كذاب كان يحدث عن مالك بمسائل وهب قال ابن معين إسماعيل بن أبى أويس يسوى فليس ثم فليس ا ه زاد الزين نقلا عن الخطيب وأما قثم بن على وعمرو بن مرزوق في المتأخر ين عن التابعين.
"قلت: إسماعيل هذا قد أكثر القاسم عليه السلام" أي ابن إبراهيم المعروف بالرسى
"من الراوية عنه كما ذلك ظاهر في كتاب الأحكام" الذي ألفه حفيده يحيى بن الحسين الهادي لأنه يرويه عن جده عن إسماعيل قال المصنف في العواصم وغالب رواية القاسم في كتابه الأحكام تدور على الأخوين إسماعيل وعبد الحميد أبي ابنى عبد الله بن أبي ويس عن حسين بن عبد الله بن ضميرة عن أبيه عن جده.
"قال الخطيب وهكذا فعل مسلم" وتمام كلامه كما في شرح الزين فإنه أى مسلم إحنج بسويد بن سعيد وجماعة غيره إشتهر عمن ينظر في حال الرواة الطعن عليهم قال وسلك أبو داود هذه الطريقة وغير واحد ممن بعده.
"ثم روى" ظاهر أن الراوي الخطيب لقوله: "عن الجويني والرازي والخطيب وغيرهم" ولايصح وكأنه سقط من النسخة التى عندي ثم روى الزين فإن هذه الرواية رواها الزين فإنه قال:
قلت: وقد قال أبو المعالي واختاره تلميذه الغزالي
وابن الخطيب الحق أن نحكم بما أطلقه العالم بأسبابهما قال في شرحه: هذا من الزوائد على ابن الصلاح وذلك أن إمام الحرمين أبا المعالى الجوينى قال في كتاب البرهان الحق أن المزكى إن كان عالما بأسباب الجرح والتعديل إكتفينا بإطلاقه وإلا فلا الذي وهو الذي إختاره أبو حامد الغزالى والأمام فخر الدين بن الخطيب إلا أنه لا يخفى أن الذيفي كلام المصنف الخطيب والذي في كلام الزين بن الخطيب فينظر "أنهم صححوا الإكتفاء بالجرح المطلق من الثقه البصير بموقع الجرح العارف بإختلاف الفقهاء قبله قلت: هذا يقوى إذا عرف مذهبه على النفصيل في جميع ما يمكن وقوع الخلاف فيه من مسائل الباب فلمن وافقه في مذهبه قبوله دون من خالفه" .
قال الزين وممن إختاره من المحدثين أيضا الخطيب فقال بعد أن فرق بين الجرح والتعديل في بيان السبب على أنا نقول إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في إعتقاده وأفعاله عارفا بصفة العدلة والجرح وأسبابهما عارفا بإختلاف الفقهاء في أحكام ذلك قبل قوله فيمن جرحه مجملا ولا يسأل عن سببه انتهى وفي نقل المصنف بعض إيهام لمن تأمله.
قال ابن السبكى في الطبقات: ولنختم هذه القاعده وهي قاعدة الجرح والتعديل بفائدتين عظيمتين لايراهما الناظر في غير كتابنا هذا:
إحداهما : أن قولهم إنه لايقبل الجرح إلامفسرا إنما هو في جرح من ثبتت عدالته واستقرت فإذا أراد رافع رفعها بالجرح قيل له ائت ببرهان على هذا وفي حق من يعرف حاله لكن ابتدرةجلرحان ومز كيان فيقال إذ ذاك للجارحين فسرا مارميتماه به أما من ثبت أنه مجروح فيقبل قول من أطلق جرحه لجريانه على الأصل المقرر عندنا ولا نطالبه بالتفسير إذ لافائدة في طلبه.
قلت: بل الظاهر أنه لايجوز لنا طلب تفسيره لانه تفكه بعرضه بنير غرض ديني ثم قد أحسن بالتعبير بقوله أراد رافع رفعها فلا بد من التفسير فإنه إذا أطلق لم يرفعها لكنه يوجب توقفاوريبة.
قال والفائدة الثانية : أنا لا نطلب التفسير من كل أحد بل إنما نطلبه حيت يحنمل الحال شكا إما في إمالاختلاف في الإعتماد أولتهمة يسيرة في الجارح أو نحو ذلك مما يوجب سقوط قول الجارح ولاينتهى إلى الإعتبار به على الإطلاق بل يكون بين أما إذا إنتفت الظنون وإندفعت التهم وكان الجارح خيرا من أاخيار الأمة مبرأ عن مظان التهمة وكان المجروح مشهورا بالضعف متروكا بين النقادفلا يتعلعم عند جرحه ولا يحوج الجارح إلى تفسير بل طلب التفسير منه والحال هذه طلب لغيبه لا حاجة إليها.
فنحن نقبل ابن معين في إبراهيم بن ثعيب شيخ روى عنه ابن وهب أنه ليس بشيء وفي إبراهيم بن الميني أنه ضعيف وفي الحسين بن الفرج الخياط أنه كذاب يسرق الحديث وعلى هذا وإن لم يتبين الجرح لأنه مقدم في هذه الصناعه جرح جماعه غير ثابتي العدالة.
قلت: كأنه يريد بقبوله أنه يوجب توقفا وعدم قبول لحديث من اطلقجرحه لا أنه يحكم على من جرحه ك1لك أنه ليس بعدل وأنه مجروح.
قال ولا يقبل في الشافعي ولو فسر وأتى بألف إيضاح لقيام القاطع بانه غير محق بالنسبة إليه انتهى.
واالمصنف قد ألم بشيء من هذا قوله "ثم ذكر مسألة تعارض الجرح والتعديل وذكر الخلاف" فيها وأن فيها ثلاثة أقوال:
الأول: أن مقدم مطلقا وأن كثير المعدلون نقله الخطيب عن جمهور العلماء وقال ابن الصلاح: إنه الصحيح وصححه الأصوليون كالإمام فخر الدين والآمدى.
واستدلوا بأن مع الجارح زيادة علم يطلع عليها المعدل ولأن الجارح مصدق للمعدل فيما أخبرربه عن ظاهر حاله إلا أنه يختبر عن أمر خفى على المعدل.
الثاني إن كان عدد المعدلين أكثر قدم المعدلون ووجهه أن كثرة المعدلين تقوى حالهم وتوجب العمل بخبرهم وقلة الجارحين تضعف خبرهم وتعقب بأنه خطأ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يختبرون عن عدم ما أخبربه الجارحون ولو أخبروا بذلك لكانت شهادة باطلة على نفى.
الثالث ما أشار إليه المصنف بقوله "والصحيح الختار الترجيح وذلك لأن الجرح إما أن ينسب إلى من لايحتمله أو لا" أى لاينسب إلى من لايحتمله "إن نسب إلى من لايحتمله من كبار الأئمة والعلماء والصالحين لم يقبل" ووجه عدم قبول خبره وهو ثقه قوله "لأن الخبر إنما يقبل من الثقة لرجحان الصدق" فيما أخبر به "على الكذب" ولنا كان ترجيح صدقه إلى كذبه دعوى و'لا فإن خبره يحتمل الأمرين على السواء "وإنما يرجح صدق الثقه لما ظهر عليه من أمارات الخير" وهي ما شر طناه فيه من وجود صفات العدالة "فإنا نستبعد صدور الكذب من الثقة" فلذا رجحنا صدق خبره.
"فاذا جاء هذا الثقة ونسب إلى من هو أوئق منه ما هو حق الأوثق أبعد من تجويز الكذب على ذلك الثقه" الرامي للأوثق "بمراتب عظيمة فانا حينئذ إن قبلنا الثقه الجارح حملا له على السلامة فقد تركنا حمل المجروح الذي هو أوثق منه على السلامة" فان قد قبلتموه من حيث إنه أرجح فكيف تردونه والأرجحية باقية فقال "وإن قبلناه" في جرحه لمن يحتمل ذلك "من أجل أنه أرجح فقد صاؤ في هذه الصورة" حيث جرح من لايحتمل ذلك "مرجوحا" لرميه من هو أوثق منه "ولو سلمنا أنه أرجح ام تكن هذه صورة المسأله المفروضة" إذ هي مفروضة في من هو أوثق منه.
"ومثال ذلك أن يقول من ثبتت عدالته بتعديل عدل أو عدلين لاسوى إن زين العابدين على الحسين رضوان الله عليهم كان يتعمد وضع الحديث أو يأي إحدى الكبائر المعلوم كبرها أويطرح مثل ذلك على غيره من التابعين أوالزهاد العلماء مثل سعيد بن المسيب ومالك والشافعي وإبراهيم بن أدهم ومن فوق هؤلاء أو قريب منهم بحيث يغلب على الظن أن الكذب إلى المتكلم عليهم أقرب في الظن من صحةما ادعى عليهم ومن ذلك كلام النواصب" كالخواح وغيرهم "في على عليه السلام وكلام الروافض في أبي بكر ةعمر وعثمان رضى الله عنه وكلام" عمرو بن بحر "الجاحظ"
المعتزلى "والنظام" من كبار المعتزله "في حماعة من كبار الصحابة رضى الله عنهم" .
قلت: وكذلك عمرو بن عبيد فإنه قال الذهبي في ترجمته في الميزان إنه قال لو شهد عندي علي وطلحة والزبير وعثمان رضي الله عنهم على شراك نعل ما قبلت شهادتهم.
ولما كانت القاعدة المعروفة عند أئمة الحديث والأصول أن الجارح أولى وإن كثر المعدل ينافي هذا الكلام.
قال المصنف "وأما قولهم" في الاستدلال على هذه القاعدة "إن الجارح أثبت ما لم يعلم به المعدل" والمثبت أولى هنا لأنه علم ما لم يعلمه غيرره "فلا يرد هنا" إذ الدليل المذكور تعارض الجرح والتعديل وليس الأمر هنا كذلك "لأنا هنا لم نعارض بين من جرح ومن عدل بل بين من جرح ومن هو معلوم العدالة الظاهرة مظنون العدالة الباطنة ظنا مقاربا أو معلوما" في العبارة تسامح "بالإمارات كجوع الجائع" فإنه أمر باطني قد نعلمه بالأمارات "بل لم نأخذ عدالة هذا الجنس من معدل حتى تعارض بينه وبين الجارح بل اضطررنا إلى العلم بها بالتواتر" .
ومن هنا تعلم أن القاعدة المعروفة إنما هي فيمن عرفت عدالته بأقوال المعدلين وجرحه بجرحهم قال ابن السبكي إن الجارح لا يقبل جرحه ولو فسره فيمن غلبت طاعته على معاصيه ومادحوه على ذاميه ومزكوه على جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حامل على الوقيعة في الذي جرحه من تعصب مذهبي ومنافسة دنيويو كما يكون من النظراء أوغير ذلك فتقول مثلا لا يلتفت إلى كلام ابن أبي ذؤيب في مالك وابن معين في الشافعي والنسائي في أحمد بن صالح فإن هؤلاء أئمة صالحون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صح لتوفرت لدواعي على نقله وكان القاطع قائما على كذبه فيما قاله.
"وقد أحسن ابن الحاجب حيث قال في كتابه في الفروع في هذا المعنى ويسمع التجريح في المتوسط العدالة باتفاق فقيد سماعه بالمتوسط دون أهل المرتبة الرفيعة" والمراد بالسماع العمل بما يسمع وأما في مختصره في أصول الفقه فإنه اختار تقديم الجارح من غير تقييد فهذا الذي ذكره المصنف عنه فيمن لا يحتمل ما نسب إليه من الجرح.
وأما من يحتمله فإنه قد أشار إليه بقوله "وأما إن تعارض الجرح والتعديل في من
دون هذه الطبقة الشريفة بحيث يكون صدق الجارح أرجح وأقرب من كذبه ويكون صدور الجرح من المجروح أرجح من كذب الجارح وأقرب" فهذان قسمان :
الأول : "فأما أن يكون الجرح مطلقا" عن بيان السبب "أو" يكون "مبين السبب إن كان مطلقا لم نحكم بصحته" وإن أورث ريبة وتوقفا "وبحثنا عن حال المجروح فإن تبين" بالبحث "وترجح أحد الأمرين حكمنا به وإلا وقفنا في حاله كما تقدم" من كلام ابن الصلاح "لأن الجارح" هنا "وإن كان صدقه" أي الجارح "أرجح" فإنه لا ينافي توفقنا "فلم ندر ما الذي ادعى" من جرحه "حتى نصدقه فيه" لأنه أتى بجرح مجمل يحتمل توفقنا فيه تصديقا وتكذيبا.
والقسم الثاني : ما أفاده قوله "وأما إن بين" الجارح "السبب" الذي جرح به "نظرنا في ذلك السبب وفي العدل الذي ادعى عليه ونظرنا أي الجوائز" الأمور الجائز وقوعها في حقه "أقرب" للحكم به "فإن افتضت القرائن والأمارات والعادة والحالة من العداوة ونحوها أن الجارح واهم في جرحه" بجعله ما ليس بجارح جارحا "أو كاذب" في جرحه "أو غاضب" على من جرحه "رجح له التغضب عند سورته" بفتح المهملة وسكون الواو شدته "قرينة ضعيفة فقال بمقتضاها ونحو ذلك قدمنا التعديل" لعدم نهوض القادح على رفعه.
"وإلا" يحصل ما ذكر "قدمنا الجرح والمنازعون هنا إما أن يكونوا من الأصوليين أو من المحدثين إن كانوا من الأصوليين فالحجة عليهم أن نقول أنتم إنما قدمتم الجرح المبين السبب لأنه أرجح فقط إذ كان القريب في المعقول أن الجارح يطلع على ما لم يطلع عليه المعدل" قطعا إذ لو اطلع المعدل على الأمر القادح وعدل مع علمه به عد غير عدل فلا يقبل تعديله والفرض خلافه "وفي قبوله" أي الجارح "حمل الجارح والمعدل على السلامة معا" وتصديقهما معا لأن المعدل يقول مثلا أنا لا أعلم فسقا ولم أظنه والجارح يقول أنا علمت فسقا لو حكمنا بعدم فسقه كان الجارح كاذبا وإذا حكمنا بصدقه كانا معا صادقين "ولم يقدموا" الأئمة "الجرح لمناسبة طبيعية بين اسم الجرح الذي حروفه الجيم الراو الحاويين صدق من ادعاه" الجارح "وحينئذ" أي حين إذ عرفت هذا "يظهر أن العبرة" يعني في تقديم هذا النوع من الجرح "بالترجيح فإن هذا الذي أوجب عندكم تقديم الجرح نوع من الترجيح" وهو رجحان الجمع بين صدق الجارح والمعدل.
"فإذا انقلب الحال في بعض الصور وقامت القرائن على أن التعديل أقوى في ظن
الناظر في التعارض هل كان منكم أو من غيركم فيما يقتضي النظر هل يعمل بالراجح عنده فذاك الذي قلنا أو بالمرجوح عنده فترجيح المرجوح على الراجح خلاف المعقول ولا منقول هنا يوجب طرح المعقول" هذا إذا كانت المناظرة في المسألة مع أهل الكلام والأصول.
"وإن كان المخالف من المحدثين قلنا له" في المناظرة "أليس قد ثبت عندكم أن خبر الثقة بحديث معين مبين إذا أعل بعلل كثيرة أو علة واحدة يحصل معها" مع العلة واحدة كانت أو متعددة "للنقاد ظن قوي بوهم ذلك الثقة" فيما أخبر به فليس كل ثقة يقبل خبره "فإن ذلك يقدح في خبره بأمر معين فكذلك خبره بالجرح المبين" السبب "إنما هو خبر بأمر معين فإذا أعل بما يقتضي وقوع الوهم فيه أوالعصبية أو القول عن الأمارات الضعيفة فإن ذلك يقدح فيه" أي في خبره بالجرح المبين السبب.
"ومن أمثلة ذلك على كثرتها قول مالك" الإمام المعروف "في محمد بن اسحق" صاحب السيرة "إنه دجال من الدجاجلة" هو مقول قول مالك "أي كذاب" قال يحيى بن آدم ثنا ابن إدريس قال كنت عند مالك فقيل له إن ابن اسحق قال اعرضوا على حديث مالك فأنا بيطاره فقال مالك انظروا إلى دجال الدجاجلة ذكره الذهبي في الميزان "فإن من هو في مرتبة مالك في الثقة" من الأئمة "قد أثنوا على محمد بن اسحق" قال الذهبي في الميزان وثقة غير واحد ووهاه آخرون كالدار قطني وهو صالح الحديث ماله عندي ذنب إلا ما قد حشا في السيرة من الأشياء المنقطعة المنكرة والأشعار المكذوبة قال ابن معين ثقة وليس بحجة وقال علي بن المديني حديثه عندي صحيح وقال يحيى بن كثير سمعت شعبة يقول ابن اسحق أمير المؤمنين في الحديث.
"ومن تكلم" في ابن اسحق "فما تكلم عليه بشيء من هذا" أي من نسبة الكذب إليه قال محمد بن عبد الله بن نمير رمي بالكذب وكان أبعد الناس منه وقال أبو داود قدري وقال سليمان التميمي كذاب وقال وهيب سمعت هشام ابن عروة يقول كذاب وقال يحيى القطان أشهد أن محمد بن اسحق كذاب قال له ابن أبي داود وما يدريك أنه كذاب قال قال هشام بن عروة حدث عن أمرأتي فاطمة بنت المنذر وأدخلت علي وهو بنت تسع سنين وما رآها رجل حتى لقيت الله قال الذهبي وما يدري هشام بن عروة فلعله سمع منها في المسجد أو سمع منها وهو صبي أو
أدخل عليها فحدثته من وراء حجاب وأي شيء هذا وقد كانت كبرت وأسنت "إنما تكلم عليه بالتدليس وشيء من سوء الحفظ" قد عرفت مما نقلناه عدم صحة هذا الحصر.
"لكنه كان بينه وبين مالك وحشة" قال وهيب سألت مالكا عن محمد بن اسحق فاتهمه وقال يحيى بن سعيد الأنصاري أبان ومالك يجرحان ابن اسحق "ولعل ذلك بسبب الاختلاف في الاعتقاد فقد كان محمد بن اسحق يرى رأي المعتزلة في بعض المسائل" تقدم كلام ابن نمير إنه رمى بالقدر وكان أبعد الناس منه وقال أبو داود قدري معتزلي "وكان مالك يشدد في ذلك ثم إنه بلغ مالكا أن ابن اسحق قال اعرضوا على علم مالك فأنا بيطاره" تقدم من رواها "فحين بلغه ذلك أغضبه فقال إنه دجال أي كذاب" فقد قاله حال الغضب فلا اعتباره به "ومن الجائزات" على بعد "أن يريد مالك" كذاب "في اعتقاده أو في حديثه الذي يهم فيه على بعد هذه العبارة من إطلاقها على من يهم في عرفهم" فالحمل على ذلك بعيد جدا.
"ولكن حال الغضب مع العداوة في الدين يقع فيها مثل هذا إما لمجرد غلبة الطبع أو لمجرد أدنى تأويل" وعلى كل تقدير فلا يقبل ولا يعمل به لأن الجرح إخبار عن حكم شرعي وقد نهى رسول الله صلى الله لعيه وسلم أن يحكم الحاكم وهو غضبان والأصح عدم صحة حكمه في حال غضبه كما قررناه في سبل السلام.
"واعلم أن التعارض بين التعديل والتجريح إنما يكون" تعارضا "عند الوقوع في حقيقة التعارض" إذ الكلام في ذلك وهو ما يتعذر فيه الجمع بين القولين "أما إذا أمكن معرفة ما يرفع ذلك فلا تعارض البتة مثال ذلك أن يجرح هذا بفسق قد علم وقوعه منه ولكن علمت توبته أيضا والجارح جرح قبلها" قبل التوبة فإنه لا تعارض بين الجرح والتعديل على هذا "أو يجرح بسوء حفظ مختص بشيخ أو بطائفة والتوثيق يختص بغيرهم أو سوء حفظ مختص بآخر عمره لقلة حفظ أو زوال عقل وقد تختلف أحوال الناس فكم من عدل في بعض عمره دون بعض ولهذا كان السعيد من كان خير عمله خواتمه فإذا اطلع على التاريخ" أي تاريخ روايته وتاريخ اختلاطه "فهو مخلص حسن وقد اطلع عليه في كثير من رجال الصحيح جرحوا بسوء الحفظ بعد الكبير والصحيح" من أحاديثهم "روى عنهم قبل ذلك" فلا تعارض.
"ثم ذكروا" أي أئمة الحديث "مسألة وهي توثيق من لم يعرف عينه ولم يسم مثل قول العالم الثقة حدثني الثقة" فإنه توثيق لمبهم غير معروف العين "أو" يقول "جميع من رويت عنه ثقة" قال الخطيب إذا قال العالم كل من رويت عنه فهو ثقة وإن لم يسمعه ثم روى عمن لم يسم فإنه يكون مزكيا غر أنا لا نعمل على تزكيتة.
"واختاروا أنه لا يقبل" كما ذكره الخطيب وأبو بكر الصير وابن الصباغ من الشافعية وغيرهم وحكى ابن الصباغ عن أبي حنيفة أنه يقبل واستدلوا على عدم القبول بقوله "لجواز أن يعرف فيه جرح لو بينه" قالوا بل إضرابه عن تسمية ريبة توقع ترددا في قلت: السامع نعم قال الخطيب إذا قال العالم كل من أروى لكم عنه وأسميه فهو عدل تقي مقبول الحديث كان هذا القول تعديلا لكل من روى عنه وسماه هكذا حزم به الخطيب قال وكان ممن سلك هذه الطريقة عبد الرحمن بن مهدي زاد البيهقي مالك ابن أنس ويحيى ابن سعيد القطان.
"وهذا" الذي ذهب إليه أئمة الحديث "ضعيف فإن توثيق العدل لغيره" مبهما كان أو معينا "يقتضي رجحان صدقه" ولأنه يلزم على هذا بتقديم الجرح المتوهم على التعديل الثابت وهو خلاف النظر "وتجويز وجود الجارح لو عرف هذا المعدل" أي لو تعين اسمه "لا يعارض هذا الظن الراجح حتى يصدر" أي الجرح "عن ثقة" والفرض أنه لا جرح محقق بل مجوز "ولو كان التجويز" للقادح "يقدح لقدح مع تسميته لأن التسمية لا تمنع من وجود جرح عند غير المعدل" قد يقال إنه مع التسمية قد فتح لنا بابا إلى معرفته والبحث عنه ومع عدمها قد أغلق باب البحث إلا أنه قد يجاب بأن لا حاجة إلى البحث عنه بعد التزكية.
"فإن قالوا لما لم يعلم" أي فيمن سمى والمراد لم يعلم جرحا "حكمنا بالظاهر حتى نعلم" خلافه "فكذلك هنا" أي فيمن أبهم "لا فرق بينهما إلا أن طريق البحث غير ممكنة عند الإبهام وقد يمكن عند التسمية فيكون الظن بعد البحث عن المعارض" وهو وجود جارح فيمن سماه الثقة وعدله "وعدم وجدانه" أي المعارض وهو القادح "أقوى" فلذا قلنا يقبل فيمن سمى لافيمن لم يسم "وهذا الفرق ركيك" وإن حصلت قوة الظن كما ذكر "لأنا لم نتعبد بأقوى الظنون في غير حال التعارض" فإن الظن الحاصل عن توثيق العدل كلف لنا في العمل عند عدم التعارض "ولأن طلب المعارض في هذه الصورة لا يجب" كمما سلف من قبول خبر العدل وكفاية الواحد في ذلك "ولأن التمكن
من البحث قد يتعذر مع التسمية" كما قد أشار إليه بقوله وقد يمكن عند التسمية "فيلزم طرح توثيق من الفرض أن قبوله واجب" وهو الراوي الذي زكاه وسماه الثقة.
"ويمكن نصرة القول الأول" وهو عدم قبول تزكية المبهم "بأن الخبر عن التوثيق كالخبر عن التصحيح والتحليل والتحرير يمكن اختلاف أهل الديانة والأنصاف فيه" فلا بد من تعيين الراوي الموثق ولا يقبل توثيقه مبهما "بخلاف الأخبار المحضة" التي لا يتطرق إليها اختلاف باعتبار الديانة كأخبار زيد عن قيام عمرو وإذا كان التوثيق ليس من باب الأخبار المحضة "فلا يجوز للمجتهد التقليد في التوثيق المبهم على هذا وهو محل نظر والله أعلم" .
واعلم أن في المسألة قولا ثالثا حكاه البرماوي قال وهو الصحيح المختار الذي قطع به إمام الحرمين وجريت عليه في النظم وحكاه ابن الصلاح عن اختيار بعض المحققين أنه إن كان القائل بذلك من أئمة هذا الشأن العارف بما يشترط هو وخصومه في العدل وقد ذكر في مقام الاحتجاج فيقبل.
وقول رابع وهو التفصيل فإن عرف من عادته إذا أطلق أه يعني به معينا وهو معروف بأنه ثقة فيقبل وإلا فلا حكاه البرماوي أيضا عن حكاية شارح اللمع عن صاحب الإرشاد والثالث قد أشار إليه الحافظ ابن حجر في النخبة وشرحها.
فائدة : قول الراوي وأخبرني من لا أنهم كما يقع في كلام الشافعي رحمه الله كثيرا يكون دون أخبرني الثقة قال الذهبي لأنه نفى التهمة ولم يتعرض لإتقانه ولا يكون حجة ورجح غير الذهبي أنه مثل قوله أخبرني الثقة.
مسألة: 48 [في المجهول وأنواع الجهالة وأحكامها]
من علوم الحديث "الكلام في المجهول" أي الراوي الذي جهل عينا أو حالا والآخر قسمان "قال تعالى: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} " .قال في الكشاف أو لم يعرفوا محمدا وصحة نسبه وحلوله في سطة هاشم وأمانته وصدقه وشهادته عقله واتسامه بأنه خير فتيان قريش والخطبة التي خطبها أبو طالب في نكاحه خديجة بنت خويلد كفى برغائها مناديا انتهى.
"وفي هذا أشارة إلى ما في فطر العقول من الشك في خبر ما لا يعرف بما لا يوجب رجحان خبره" إذ الآية سيقت مساق الإنكار عليهم لا نكارهم له عليه والسلام لعدم معرفته ومعناه تقرير معرفتهم إياه وأنه لا وجه لا نكاره وليس المراد إنكار ذاته بل إنكارهم وسالته وإخباره عن الله سبحانه كما يرشد إليه العنوان بقوله رسولهم.
"وقد تكرر في كتاب الله تعالى ذم العمل بالظن" كما قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ} [الأنعام: 116] {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنّاً} [يونس: 36] {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23].
"والظن في اللغة: الشك المستوي الطرفين" في القاموس الظن خلاف اليقين وهي عبارة قاضية أنه يطلق على المستوى الطريفين وعلى الظن الراجح إذ الكل خلاف اليقين "ويجب حمل الآيات" الدالة على ذم الظن "عليه" أي على مستوى الطرفين "جمعا بينها وبين الآيات التي تدل على حسن العمل بالظن الراجح" .
قلت: إلا أنه لا يخفى أنه لا يتم حمملها عليه إلا بعد ثبوت أن الظن الراجح أحد ما يطلق عليه الظن لغة كما نقلناه عن القاموس وأما عبارة المصنف فهي قاضية أن الظن لغة منحصر في مستوى الطرفين فلا بد من تقدير يطلق على الشك أيضا إذ الآيات الدالة على حسن العمل بالظن كقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]
فإنه لا يعلم الغائب عنه أنه شطره إلا بالظن ومثل قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] إذ ليس معهم إلا الظن أيمانهن وغيرها من الآيات "ويوضح ذلك" أي أن المذموم هو الظن بمعنى الشك "أنه وصف الذين ذمهم باتباع الظن بالأفك والخرص الذي هو تعمد الكذب" قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] فالوصف بالخرص دال على أنه ليس عندهم ظن راجح قلت: ويدل على استعماله لغة في الراجح قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} فنفيهم اليقين دالى على أن عندهم ظنا راجحا ويحتمل الشك كما قدمناه عن القاموس.
"وأيضا فمن الظاهر الواضح" الراجح "أن اتباع الظن الراجح من أمارات الأنصاف" لأنه أخذ بالأرجح والأحوط "ومن اتبعه كان باتباع العلم أولى وأحرى ثم أن عبادة الحجارة ليست مظنونة ظنا رجحا فتأمل ذلك" .
قلت: أما عند عبادها فالظاهر أنهم لم يعبدوها إلا وعندهم ظن راجح باستحقاقها العبادة وكأنه وجه أمره بالتأمل.
"وحكى الله عز وجل عن سليمان قوله في الهدهد: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} " [النمل: 27] فإنه عليه الصلاة والسلام توقف في خبر الهدهد ولم يجزم بصدقه ولا كذبه لكونه مجهول الحال عند سليمان ولا يقال هذا من أحكام خطاب الطير فلا يستدل به هنا لأنا نقول فأشار المصنف إلى جوابه بقوله "هذا مع قوله تعالى: {إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} " [الأنعام: 38] بعد قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية فدلت على أن الأحكام واحدة للمماثلة فإنه ظاهر في أن المماثلة في التكليف لا في مجرد الحيوانية مثلا إذ هو معلوم ولأنه يشعر به قوله: { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] ولا يقال سلمنا أنهم أمثالنا في التكليف فإنه يشتطر إيمان المخبر ومن أين لنا أن الهدهد مؤمن لأنا نقول من قوله "وفي قصة الهدهد ما يدل على إيمانه حيث أنكر عليهم عبادة الشمس من دون الله" وأثبت الإلهية له تعلى بقوله في صفته: {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل: 25] وأثثبت له العلم بكل شيء حيث قال: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] ووحدة وأثبت له العرش في قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] فإن السياق قاض أنه من كلامه وهذه معاقد الإيمان وأمهات قواعد التوحيد.
"وفي الآية أيضا دليل على إعلال الحديث بالريبة" وذلك لتوقفه عليه الصلاة والسلام حتى يبحث فيعلم صدقه أو كذبه.
"وقد تقدم في أول المسألة إشارة إلى مذهب أئمة الزيدية في هذه المسألة وهي معروفة في كتبهم الأصولية وإنما تذكر هنا كلام المحدثين لعدم وجوده في غير هذا الفن ولمعرفة عرفهم إذا قالوا في بعض الرواة أنه مجهول" ولهم فيه تقاسيم لا تعرف إلا في هذا الفن وقد ألم بها المصنف رحمه الله "فنقول" أي إذا عرفت ما سقنا فنقول:
"قال المحدثون في قبول رواية المجهول خلاف وهو" أي المجهول "على ثلاثة أقسام مجهول العين ومجهول الحال ظاهرا وباطنا ومجهول الحال باطنا" فهذه ثلاثة أقسام:
الأول : وهو "مجهول العين و" حقيقته "هو من لم يرو عنه إلا راو واحد وفيه" أي في الحكم فيه خمسة "أقوال" :
الأول : أن "الصحيح الذي عليه أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم أنه لايقبل" ويأتي تحقيق الدليل عليه واختيار خلافه.
"والثاني: أنه يقبل مطلقا وهو قول من لم يشترط في الراوي غير الإسلام" زاد الزين واكتفى في التعديل بواحد ويأتي نصرة هذا القول.
"والثالث" التفصيل وهو "إن كان" الراوي "المنفرد بالرواية عنه لا يروى إلا عن عدول قبل مثل ابن مهدي ويحيى بن سعيد القطان ومالك ومن ذكر بذلك" أي بأنه لا يروى إلا عن عدل "معهم وإلا لم يقبل" .
"والرابع" تفصيل أيضا إلا أنه على غير الطريقة الأولى وهو أن الراوي "إن كان مشهورا في غير العلم بالزهد" ومثلوه بمالك بن دينار "أو النجدة" أي الغلبة ومثلوه بعمرو بن معدي كرب "قبل وإلا" يشتهر بشيء من ذلك "فلا" يقبل "وهو" أي هذا التفصيل الآخر "قول ابن عبد البر كما سيأتي" .
"والخامس" تفصيل على غير الطريقين الأولين وهو أنه "إن زكاه" أي الذي لم يرو عنه إلا راو واحد "أحد من أئمة الجرح والتعديل مع رواية واحد عنه قبل وإلا" يزيكه أحد "فلا" وإن روى عنه عدل "وهو اختيار أبي الحسن بن القطان في" كاتبه المسمى "بيان الوهم والإيهام قلت: و" القول:
"السادس: إن كان" مجهول العين "صحابيا قبل" لما يأتي من القول بأن الصحابة
كلهم عدول "وهو مذهب الفقهاء" أي الأربعة "وبعض المحدثين وشيوخ الاعتزال" كأنه عطف على المحدثين ال على بعض لما تقدم له من أن الجاحظ والنظام قدحا في جماعة من الصحابة وكذلك عمرو ابن عبيد كما ذكرناه "رواه عن المعتزلة ابن الحاجب في" مختصر "المنتهى واختاره الشيخ أبو الحسين" البصري المعتزلي "في" كتابه المسمى "المعتمد" في أصول الفقه بل يأتي أنه قائل بعدالة أهل ذلك العصر جميعا وإن لم يكن صحابيا "والحاكم" المعتزلي وهو المحسن بن كرامة "في" كتابه "شرح العيون وسوف يأتي بيان هذه المسألة على التفصيل عند ذكر الصحابة" سيأتي تحقيقها في أواخر هذا الكتاب وسيصرح المصنف أن عدالة المجهول من الصحابة إجماع أهل السنة والمعتزلة والزيدية.
"وقد عرفت أن حكاية المحدثين لهذا الخلاف" في قبول مجهول العين "يدل على أن مذهب جمهوهم أن من روى عنه عدل وعدله آخر غير الراوي فهو عندهم مجهول" فإن حقيقة المجهول حاصلة فيه وهي تفرد الراوي عنه بل ظاهر كلامهم في مجهول العين أنه لو زكاه جماعة وتفرد عنه راو لم يخرج عن جهالة العين لأنه جعل حقيقته من لم يرد عنه إلا راو واحد ولا حاجة إلى قوله "بل هو عندهم مجهول العين" إذا البحث في ذلك وإنما دل حكاية الخلاف على ذلك "لأنهم في علوم الحديث حكوا قبول من هذه صفته" وهي تفرد الراوي عنه والمزكي "اختيارا لأبي الحسن بن القطان فقط" كما سلف في القول الخامس.
"وهذا" أي الذي دل عليه كلام الجمهور "قول ضعيف فمن عرفه ثقة وعدله ثقة وروى عنه ثقة آخر" لا يخفى أن الكلام فيمن تفرد عنه ثقة ووثقه ثقة فزيادة المصنف وعرفه ثقة لم يتقدم شرطيته ولفظ المصنف في مختصره فإن سمى المجهول أو انفرد واحد عنه فمجهول العين والحق عند الأوصوليين أنه إلا وثقة ثقة الراوي أو غيره قبل خلافا لأكثر المحدثين والقول أي الصحيح قول الأصوليين انتهى "لا معنى لتسميته مجهولا" الذي في مختصره أيضا ووجه قول المحدثين أنهيتنزل أي المجهول العين الموثق منزلة التوثيق المبهم إذا كان اسم الرجل وعينه لم تثبت إلا من جهة من وثقة فكأنه قال حدثني الثقة وذلك غير مقبول عند أهل الحديث كما تقدم والمصنف قد جعل قبوله محل تردد هذا كلامه في توجيه ما ذهب إليه أئمة الحديث فكيف يقول هنا لا معنى لتسميته مجهولا.
وقوله "لأنهم" أي أئمة الحديث "لم يشترطوا العلم بعينه" أي الراوي "وبعدالته" قد طوى مقدمة الدليل وهي قوله لأنه أي التعديل من الثقة والرواية منه أو من غيره تفيد أن الظن بل التوثيق وحده يفيده وهو يجب العمل بالظن هنا لأنهم لم يشترطوا إلخ "ويوجبوا" عطف على لم يوجبوا "أن يبلغ المخبرون بها" أي العدالة "عدد التواتر" ليفيد العلم "ولو اشترطوا ذلك لم تساعدهم الأدلة عليه" فيكون شرطا بغير دليل فلا يلتفت إليه "فإن أخبار الآحاد ظنية" يحتمل أنه بريد أن أدلة العمل بها ظني أو أنها في دلالتها على الحكم الذي وردت فيه لا تفيد إلا ظن الحكم.
وقوله "واشتراط مقدمات علمية" وهي تواتر عدالة الراوي "في أمور ظنية" وهي أخبار الآحاد تفيد أنه يريد الوجه الأخير "غير مفيد" فلا يتم الاشتراط لأنها لا تحصل إلا الظن فأي فائدة لشرطية علمية المقدمات في ظني النتائج.
"بل الذي تقتضيه الأدلة أنه لو وثقه واحد ولم يرو عنه أحد أو روى عنه واحد ووثقه هو بنفسه لخرج عن حد الجهلة" وصار مظنون العدالة والعمل بالظن واجب "فقد نص أهل الحديث أن التعديل يثبت بخبر الواحد" كما تقدم إلا أنه يقال إن ذلك فيمن قد عرف اسمه وإسلامه من غير جهة المعدل والمفروض هنا أنهما لم يعرفا إلا من جهته في أحد التقادير وكلامهم هنا على تقدير انفراد الراوي عنه وأن يكون هو المعدل "هذا مع ما يعرض في التعديل من المصانعة والمحاباة" وقد قبلتموه مع هذا المعارض "فكيف" لا تقولون يرد إلى الجهالة العينية "بالأخبار" من العدل "بالوجود" لمن عدله أو روى عنه أو عدله وروى عنه فإن قول الثقة مثلا أخبرني زيد بن عمرو مثلا أو قال وهو ثقة أو وثقه غيره ولم تعلم رواية عن زيد هذا ولا عرف اسمه لوا توثيقه إلا من كلام الراوي هذا مثلا عنه فقد تضمن إخبارا بوجوده لكنه غير مراد للراوي وإنما هو لازم خبره وإخبارا بأنه ثقة فلم لا يقبل خبره بوجود ويقبل خبره بأنه ثقة فكيف هذا الصنيع هذا تقرير مراد المصنف.
ولعلهم يقولون إنا نقبل خبره بأنه ثقة إن عرفنا وجوده من غير طريق غيره لا أنا عرفناهما معا من طريقه فإنه بمثابة قوله أخبرني الثقة يكون تعديلا مبهما ولذا قال المصنف في مختصره عن الجماهير إذ لو اشتهر أي الذي تفرد بالرواية عنه والتوثيق واحد لأمكن القدح فيه انتهى فأن هذا مشعر بأن المانع عن قبول ما ذكر هو الإبهام المانع عن تنحقيق حاله لا إنكار وجوده وعدم قبول خبر العدل فيه فإنهم يقولون نحن
نقبل خبر العدل بانه موجود ونقبل خبره بأنه عدل عنده لكنا نريد معرفة عينه من طريق غيره وشهرته لتجويز وجود جارح فيه والحاصل أن هذه المسألة بعينها ملاقية لمسألة توثيق المبهم وبه تعرف ما في قوله "فلم يعهد من عدل أنه يحتاج إلى اختراص وجود معدوم" أي يكذب في خبره بأن المعدوم موجود "فإذا قبل واحد في توثيق الراوي وإسلامه فهو" أي الواحد "في القبول في وجوده أولى وأحرى" أي في قبولنا خبره بوجوده قد عرفت أنهم قابلون لخبره بوجوده كقبولهم لوجود الثقة إذا قال العدل أخبرني الثقة لكنهم يطالبون في غير ذلك كما عرفت.
واعلم أن المصنف أجاب عن الجمهور في مختصره بقوله والجواب أن الضرورة إذا ألجأت إلى التقليد جاز بناء الاجتهاد عليه كالتقليد في توثيق المعين وجرحه فإفاد كلامه أن جعل تفرد الراوي والموثق مزيلا للجهالة العينية ليس إلا من باب التقليد للضرورة وأن تعديل من ليس بمجهول العين وجرحه أيضا من باب التقليد والذي تقدم له أن قبول خبر العدل ليس من باب التقليد بل من باب الاجتهاد لقيام الدليل على وجوب قبول خبره والتزكية والجرح من باب الأخبار إذ مفاد قوله المزكي فلان عدل أي آت بالواجبات تارك للمقبحات محافظ المروءة وقوله جرحا هو فاسق لشربه الخمر مثلا الكل إخبار عدل يجب قبوله لقيام الأدلة على العمل بخبر العدل وليس تقليدا لو كما سلف للمصنف رحمه الله نظيره في قول العدل هذا الحديث صحيح فإنه قال إنه خبر عدل وإن قبوله ليس من التقليد وإن كان ناقض نفسه في محل آخر وقد قررنا الصحيح من كلاميه.
والحاصل أن الدليل قد قام على قبول خبر العدل إما عن فسه بأن يخبر بأنه ابن فلان أو أن هذه داره أو جاريته فهذا لا كلام في قبول خبره عنه بالضرورة الشرعية بل يقبل خبر الفاسق بذلك بل أبلغ من هذا أنه يجب قبول قول الكافر لا إله إلا الله ويحقن دمه وماله ونعامله معاملة أهل الإيمان لأخباره بالتوحيد وإن كان معتقدا لخلافه في نفس الأمر كالمنافق وإن كان خبره عن غيره كروايته للأخبار قبل أيضا وإن كان عن صفة غيره بأنه عدل أو فاسق قبل أيضا إذ الكل خبر عدل وقبول خبره ليس تقليدا له بل لما قام عليه من الدليل في قبول خبره هذا تقرير كلام أهل الأصول وغيرهم ولنا فيه بحث أشرنا إليه في أوائل حاشية ضوء النهار.
والمراد هنا معرفة ما في كلام المصنف من قوله إن الضرورة إذا ألجأت إلى التقليد
جاز بناء الاجتهاد عليه كالتقليد في توثيق المعين وجرحه فإنه قاض بأن كل من عمل بكلام العدول تزكية وجرحا فإنه مقلد ومعظم الاجتهاد على ذلك فهذا من المصنف كالرجوع إلى القول بانه قد انسد باب الاجتهاد في الأخبار لا نبنانه التقليد وهو خلاف ما ألف لأجله العواصم وغيرها من كتبه.
"وقد أشار ابن الصلاح إلى مثل ما ذكرته في أن ارتفاع الجهالة في التوثيق بالواحد تقتضي أن ترتفع جهالة العين بالواحد" قد عرفت ما فيه فإنهم يقولون مجهول العين من لم يعرفه العلماء ولم يعرف حديثه إلا من جهة واحدة وقبولهم توثيق الواحد إنما هو فيمن عرفت عينه وجهلت عدالته.
"ولم يردوا عليه ذلك بحجة وإنما ردوا عليه بكون ذلك عرف المحدثين وقد نص جماعة من كبار المحدثين على هذا العرف منهم" أبو بكر "الخطيب" سيأتي لفظه قريبا "ومحمد ابن يحيى الذهلي" كان لأحسن تقديمه على الخطيب كما فعله الزين لأنه السابق بهذه فإنه قال إذا روى عن المحدث رجلان ارتفع عنه اسم الجهالة.
"وحكاه الحاكم عن البخاري ومسلم" لكن رد ابن الصلاح ذلك فقال قد خرج البخاري في صحيحه عن مرداس الأسلمي ولم يرو عنه غير قيس بن أبي حازم ومسلم عن ربيعة بن كعب الأسلمي ولم يرو عنه غير أبي سلمة وذلك مصير منهما إلى خروجه عن هذه الجهالة برواية واحد انتهى فدل على خلاف ما حكاه الحاكم عن الشيخين.
وقد تعقب الشيخ محي الدين النووي كلام ابن الصلاح فقال الصواب ما ذكره الخطيب فهو لم يقله عن اجتهاده بل نقله عن أهل الحديث ورد الشيخ عليه بما ذكره عجب لأنه شرط في المجهول أن لا يعرفه العلماء وهذان معروفان عند أهل العلم بل مشهوران فمردس من أهل بيعة الرضوان وربيعة من أهل الصفة والصحابة كلهم عدول فلا تضر الجهالة بأعيانهم لو ثبت وأجيب عنه بأن هذا مسلم في حق الصاحبة والكلام أعم.
"وذكر الذهبي ما يقتضي ذلك" من عدم ارتفاع الجهالة في رواية الواحد "فقال زينب بنت كعب بن عجرة مجهولة لم يرو عنها غير واحد" وصف كاشف لقوله مجهولة إذا عرفت هذا "فعلى هذا لا يكون قولهم في الراوي إنه مجهول جرحا صحيحا" الأحسن صريحا "عند مخالفيهم" أن نقول بأن رواية لواحد تزيل الجهالة "بل
نقف حتى نبحث" فعلى هذا يكون من الجرح المطلق ولذا قلنا الأحسن أن يقول صريحا إلا أنه غير خاف عليك أن القدح بجهالة العين معناها أنه لم برو عن إلا واحد ممن يكتفي به في إزالة جهالة العين لتوقفه بل نقبله إذ قد ثبتت عدالته من جهة هذا الواحد الراوي عنه أو غيره وكأنه يرد أنه يقف حتى يعرف عدالته إذا لم يكن قد عرفها.
"ويكون هذا من جملة عبارات الجرح التي توجب الوقف وإن لم يكن جرحا في الرجل فهو قدح في قبول روايته" أي موجب للتوقف فيها.
"وقال" أبو بكر "الخطيب" في الكفاية في تعريف "المجهول عند أصحاب الحديث كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه ولا عرفه العلماء به ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد وقال الخطيب أقل ما ترفع به الجهالة أن يروي عنه اثنان فصاعدا من المشهورين بالعلم إلا أنه يثبت له حكم العدالة بروايتهما عنه" وإن انتفت عنه الجهالة "قلت: فزاد الخطيب في التعريف لعرفهم أمرين لا دليل عليهما أحدهما اشتهار المجهول بطلب العلم ومعرفة العلماء لذلك منه وثانيهما أن يكون الراويان عنه من المشهورين بالعلم" في قوله "في أقل ما ترتفع به الجهالة فهذا" أي ما زاده الخطيب "يزيدك بصيرة في عدم قبول حكمهم بجهالة الراوي" فلا يقبل قولهم هذا مجهول العين لأنهم تعنتوا في حقيقته وأتوا بشرائط غير صحيحة لعدم الدليل عليها.
"لأن العلم على الصحيح ليس من شروط الراوي" لأنه من قبل العلماء رواية من ليس من العلماء كأعراب الصحابة رضي الله عنهم "ولو كان" العلم "شرطا فيه لم يقبل كثير من الصحابة والأعراب" لا يقال الصحبة كافية في القبول لأنا نقول قد شرطتم العلم في الراوي "فلم تكن الصحبة لمجردها تفيد العلم وقد ثبت أن ذلك" أي العلم "لا يشترط في الشهادة وهي آكد من الرواية فإذا لم تشترط في الراوي فأولى أن لا تشترط فيمن روى عنه" أو من روى عنه راو أيضا.
"القسم الثاني" من أقسام المجهول "مجهول الحال في العدالة في الظاهر والباطن مع كونه معروف العين" برواية عدلين عنه "وفيه" أي في قبوله ثلاثة: "أقوال" :
"الأول: أنه لا يقبل حكاه ابن الصلاح وزين الدين" ناسبا له إلى ابن الصلاح "عن الجماهير" وذلك لأن تحقق العدالة في الراوي شرط ومن جهلت عدالته لا تقبل روايته.
"والثاني: يقبل" مجهول عدالة الباطن والظاهر "مطلقا" من غير تفصيل "وإن لم تقبل رواية مجهول العين" لأن معرفة عينه هنا أغنت عن معرفة عدالته.
"والثالث" التفصيل وهو أنه "إن كان الراويان عنه" اللذان بهما عرفت عينه "لا يرويان إلا عن عدل قبل وإلا فلا" هكذا سرد هذه الأقوال ابن الصلاح ونقلها عنه زين الدين ولم يذكرا دليلا عنهم كما فعله المصنف.
"القسم الثالث" من أقسام المجهول "مجهول العدالة الباطنة" والعدالة الباطنة عندهم هي ما يرجع إلى تزكية المزكين كما يأتي "هو عدل في الظاهر فهذا يحتج به بعض من رد القسمين الأولين وبه قطع الإمام سليم بن أيوب الرازي قال" في دليل القطع به "لأن الأخبار مبنية على حسن الظن بالراوي ولأن رواية الأخبار قد تكون عند من يتعذر عليه معرفة العدالة في الباطن وتفارق" الرواية "الشهادة فإنهما تكون عند الحكام ولا يتعذر عليهم ذلك" أي معرفة العدالة الباطنة لأنهم يطلبون التزكية فإن وجدت عملوا "فاعتبرت فيها العدالة في الظاهر والباطن قال ابن الصلاح: يشبه أن يكون العمل على هذا الرأي في كثير من كتب الحديث المشهورة عن غير واحد من الرواة الذين تقادم العهد بهم وتعذرت الخبرة الباطنة بهم" .
اعلم أنهم شرطوا في الراوي كونه عدلا ثم رسموا العدالة بالتقوى وهي الإتيان بالواجبات واجتناب المقبحات مع عدم ملابسة بدعة ثم قالوا يكتفي تعديل الثقة لغيره بقوله عدل أو ثقة مثلا ومعناه إخباره أنه علم منه إتيانه بالواجبات واجتنابه المقبحات وعدم ملابسته لبدعة وهذا الخبر مستند إلى مشاهدته لفعله وتركه وهذه المشاهدة أمر ظاهر وأما معرفة باطنة فلا يعلمها إلا الله فالمزكي غايته كالمعدل بلا زيادة فشرط العدالة الباطنة شرط لا دليل عليه وإن أريد أن الخبرة تدل عليها فالخبرة لا بدمنها في المعدل أيضا ثم رأيت المصنف قد ثتبه لهذا آخرا ولله الحمد ولعلهم لما سموا العدالة عن غير تزكية عدالة ظاهرة سموا ما كان عن تزكية عدالة باطنة تسامحا وللتفرقة بين الأمرين والله أعلم.
"وأطلق الشافعي كلامه في اختلاف الحديث أنه لا يحتج بالمجهول وحكاه البيهقي عنه في المدخل" قلت ولفظ الشافعي في كتاب اختلاف الحديث والظاهر في المجهول هو من لا تعرف عدالته عن خبرة أو عينه كما يدل له قوله ونقل الروياني عن نص الشافعي في اليأم أنه لو حضر العقد رجلان مسلمان ولا يعرف حالهما من
الفسق والعدالة انعقد النكاح بهما أي بشهادتهما "في الظاهر" وليس الخطاب إلا في انعقاده فيه "لأن ظاهر المسلمين العدالة" فالمسلمون عدول وهي عدالة يشهد بها إسلامهم وهذا يوافق من يقول الأصل في المسلمين العدالة وقوله الأول يخالفه وكثيرا ما يأتي له في المسألة قولان وهذا منها.
"ذكره" الروياتي "في البحر نقل ذلك" عن الروياتي "زين الدين ولما ذكر اين الصلاح هذا القسم الأخير" وهو من عرفت عدالته ظاهرا لا باطنا "قال وهو المستور فقد قال بعض أئمتنا المستور من يكون عدلا في الظاهر ولا تعرف عدالته باطنا انتهى" كلام ابن الصلاح "قال الزين" بعد نقله لكلام ابن الصلاح "وهذا الذي نقل كلامه آخرا هو البغوي وتبعه عليه الرافعي وحكى الرافعي في الصوم وجهين في قبول رواية المستور من غير ترجيح وقال النووي في شرح المهذب إن الأصح قبول روايته قال الزين كلام الرافعي في الصوم أن العدالة الباطنة هي التي يرجع فيها إلى أقوال المزكين" قد قدمنا لك أن التعديل والتزكية إنما مدارهما على الخبرة الظاهرة.
"قلت: ظاهر المذهب" أي مذهب الزيدية "قبول هذا المسمى عندهم بالمستور بل قد نص على قبوله وسماه بهذه التسمية الشيخ أحمد في الجوهرة" كما تقدم "ولم أعلم أن أحدا من الشارحين اعترضه والأدلة" في قبول خبر الآحاد "تناوله سواء رجعنا إلى" دليل "العقل وهوالحكم بالراجح لأن صدقه راجح" من حيث عدالته الظاهرة "أو" رجعنا "إلى" دليل "السمع وهو قبول النبي صلى الله عليه وسلم لمن هو كذلك" أي معروف العدالة الظاهرة مجهول الباطنة "كالأعرابيين في الشهادة بالفطر من رمضان" يأتي تخريج حديثهما في آخر الكتاب وقد وسع المصنف الاستدلال للمسألة في الروض الباسم وساق ثمانية أخبار وتأتي المسألة آخر الكتاب "والأعرابي بالشهادة بالصوم في أوله وسيأتي طرق هذين الحديثين" في آخر الكتاب عند ذكر عدالة الصحابة وهذا أوسع دائرة مما اختاره سليم الراوي فإنه إنما اختار ذلك في الأخبار دون الشهادة كما عرفت.
"ومما يدل على ذلك إرساله صلى الله عليه وسلم رسله كمعاذ وأبي موسى إلى اليمن وهما عند أهل الين مستوران وإن كانا عند من يخصهما في أرضهما مخبورين" لا يخفى أنه يريد الاستدلال بقبول أهل اليمن لأخبارهما مستوران عندهم وبأنه قد عرف صلى الله عليه وسلم ذلك فكان تقريرا منه ولكنه يقال أهل اليمن الذين يقبلون أخبارهما أحد رجلين إما كافر فلا يعتبر قبوله ولا عدمه وإما مؤمن وهو يقبل أخبارهما عن الشرائع.
والمؤمن يعلم أنه لا يرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبعث بالشرائع من يبلغها عنه إلا وهو ثقة عدل فأحسن من هذا في الاستدلال قوله "أو رجعنا إلى إجماع الصحابة فقد حكى الشيخ أو الحسين وغيره قبولهم لأحاديث الأعراب" من المسلمينن "أو رجعت إلى أهل البيت عليهم السلام فقد روى المنصور بالله رضى الله عنه والسيد أبو طالب وأهل الحديث عن علي عليه السلام أنه كان إذا اتهم الراوي استحلفه فإذا حلف له قبله" وهذا يدل على أنه لم يعرف عدالته الباطنة قلت: ولا الظاهرة إذا لو علمها لما اتهمه كما يدل له قوله أنه حكى أبو الحسين إجماع الصحابة على قبول من عرفت عدالته الظاهرة وعلي عليه السلام رأس الصحابة.
"وهذا هو الغالب من مذاهب العترة والمعتزلة أهل الأصول" إلا أنه يقال إذا كان كذلك فلا وجه لاشتراط التزكية والتعديل للراوي عندهم "وذكر محمد بن منصور" المرادي "صاحب كتاب علوم آل محمد أنه يرى قبول المجاهيل ذكر ذلك في كتابه المسمى بالعلوم" قلت: هذا مذهب له ولا ينازع في مذهبه.
"وقول المحدثين إنه لا بد من معرفة العدالة الباطنة مشكل إما لفظا فقط أو لفظا ومعنى فإن أرادوا ما نص عليه الرافعي من أنهم عنوا بذلك من رجع في عدالته إلى أقوال المزكين أشكل عليهم ذلك لفظ لأن هذا المعنى صحيح ونحن نقول به ولكن هذه العبارة" أي قبولهم عدالته الباطنة "ركيكة موهمة أنه لا بد من معرفة باطن الراوي وتعديل المزكين لا يوصل إلى ذلك لأن المزكي إنما عرف الظاهر" كما قررناه آنفا "ثم أخبرنا به فقلدناه فيه فيه" ما تقدم "فكيف لا تحكم بالعدالة الباطنة إذا عرفنا ما عرف المزكي من غير واسطة خبره وتقليده" كما زعم القائل بذلك "وإذا عرف ذلك وجهلناه ثم أخبرنا به وقلدناه حصلت العدالة الباطنة" كما قالوه.
"فإن قالوا المراد بالعدالة الباطنة ما كان عن خبرة" وهي التي تحصل للعدل والمزكي "وبالظاهرة ما كان بمجرد الإسلام قلن من لم يعرف بغير مجرد الأسلام فقد تقدم في القسمين الأولين من أقسام المجاهيل وهذا قسم ثالث قد ارتفع عنهما ولا يرتفع عنهما إلا بخبرة" لا يتم أن المراد بالعدالة الظاهرة ما كان بمجرد الإسلام.
"فإن قالوا" ليست "العدالة الظاهرة" مما عرفت بمجرد الإسلام بل "ما تعرف بخبرة يسيرة توصل إلى مطلق الظن والباطنة ما عرف بخبرة كثيرة توصل إلى الظن المقارب" للعلم "وسموا الظن المقارب للعلم علما" لا أدري أي حاجة إلى زيادة هذا فإنهم لم
يشترطوا العلم بالعدالة الباطنة بل قالوا لا بد من معرفة العدالة الباطنة ومعرفتها أعم من أن تكون بعلم أو ظن "دون مطلق الظن تخصيصا له بما هو أولى به" فإن الظن المقارب هو الفرد الكامل من الظنون ويسمى علما "فإن مطلق الظن قد يسمى علما فكيف بأقواه قلنا الظن في القرة لا ينقسم إلى قسمين فقط" كما أفادة كلامكم بل ينتهي إلى شيء معين "ولا يقف على مقدار ولا يمكن التعبير عن جميع مراد به بالعبارة" وأيضا فإنهم يختلفون في الظنون اختلافا كثيرا.
"ومعرفة المزكي لكون ظنه مقاربا أو مطلقا أو وسطا بين المطلق والمقارب دقيقة عويصة" فإنها أمور وجدانيه "وأكثر المزكين لم يعرف معاني هذه العبارات بل ولا سمعها" فكيف يكلف بها "وهي مولدة اصطلاحية" لم تأت عن الشارع ولا عن أهل اللغة "ولو كلف كل مزك أن يزكي على هذا الوجه" أي تزكية صادرة عن الظن المقارب "لم يفعل أو لم يعرف ولم تزل التزكية مقبولة من قبل حدوث هذه الاصطلاحات" فكيف تناط أمور شرعية بهذه الاصطلاحات الحادثة العرفية "والعدالة حكم منضبط يضطر إليها العامة" أي عامة الناس "في الشهادة في الحقوق والنكاح ورواية الأخبار وقبول الفتوى من المفتي وصحة قصاء القاضي" ومعنى اضطرارهم إليها أنهم يحتاجون إلى العدول في هذه الأمور التي تعم بها البلوي ولا بد أهم عارفون بمعناها باعتبار ما يظهر لهم.
"قتعليقها بأمر خفي غير منضبط" وهوالظن المقارب "بغير نص يدل على ذلك" التعليق "ولا عقل يحكم به غير مرضى" فإنه لا يعلق حكم بأمر إلا بدليل يدل عليه وإلا كان تحكما "بل" نقول "مطلق الخبرة المفيدة للظن" مطلقا "كافية وتزكية المزكي لا تفيد غير ذلك" أي الظن المطلق "إلا أن يكون المزكي من أهل هذا العرف" فلا يزكي إلا عن ظن مقارب "فإن قلنا مثل ذلك شرطنا في المزكي أن يقول بمثل مقالتهم هذه وهذا" شرط "بعيد" غير معروف عند الأصليين وغيرهم هذا تقرير إشكال عباراتهم لفظا.
"وأما الوجه الثاني وهو اختلال عباراتهم لفظا ومعنى فذلك" أي بيان إشكالها "إن أرادوا أنها على ظاهرها ولم يتأولوها بالتجوز وذلك" أي حمل كلامهم على الحقيقة "أن يقولوا" في اسم "العدالة الظاهرة هي ماعرف بالخبرة الموجبة للظن و" أن يقولوا في اسم العدالة الباطنة "العدالة في الباطن والظاهر" زاده استطرادا "هي العدالة المعلومة بالقرائن الضرورية مثل عدلة المشاهير المتواترة عدالتهم مثل العشرة من الصحابة" الذين
جمعهم المصنف في قوله شعرا:
للمصطفى خبر صحب نص أنهم في جنة الخلد نصا زادهم شرفا
هم طلحة وابن عوف والزبير مع أبي عبيدة والسعدان والخلفا "وعمار بن ياسر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه مليء إيمانا "وسلمان الفارسي" الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم "سلمان منا" 1 "وأبي ذر" الذي شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصدق من بينهما "وأمثالهم من أهل ذلك الصدر" أي عصر الصحابة ولا يخفى أن المحدثين قائلون أن الصحابة مطلقا ليس فيهم مستور وقد تقدم الرد على ابن الصلاح من النووي حيث زعم أن مرداسا وربيعة بن كعب الأسلمي مجهولان ما عرفته قريبا نعم يتجه التمثيل بقوله "ومثل زين العابدين" وهو علي ابن الحسين "وسعيد بن المسيب من التابعين والحسن البصري وأمثالهم ومثل إبراهيم بن أدهم من المتعبدين ومثل القاسم" بن ابراهيم الرسي "و" يحيى بن الحسين "الهادي" حفيده "من الأئمه الهادين فلهم" أى شارطى العدالة الباطنة "أن يقولوا عدالة هؤلاء معلومة ظاهرا وباطنا وليس ذلك" أي معرفة الغدالة الباطنه "من قبيل علم الغيب بل من قبيل العلم الصادر عن القرائن فانا نعلم أن القاسم رضي الله عنه لم يكن في الباطن منافقا بل" نجد "اعتقادنا جازما بصحة إسلامه" الأولى إيمانه "وفضله" ولما كان الجزم بعلم ما في الاعنقاد باطنا مستعبدا إذ لا يحصل إلا بأخبار من الله تعالى كما قال تعالى في عمار { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ } أشار المصنف بأنه "قد قال أهل العلم بمثل هذا في خبر الواحد إذا انضمت إليه القرائن مثل الخبر" الآحادي "بموت ولد رجل كبير مع بكاء ذلك الرجل بين الناس واستقامته لمن يعزيه وبكاء النسوان في بيته واجتماع الناس للتعزية إليه وظهور الجنازة ونحو ذلك" فإن هذا خبر آحادي وقد أفاد العلم بموت ولد الرجل للقرائن المحتفة به "وكبار الأئمة والعلماء قد أخبروا عن أنفسهم بالعدالة" كقول بعضهم إنه ما عصى الله منذ عرف يمينه من شماله "وظهر عليهم من القرائن" بصحة إخبارهم "ما يوجب علم ذلك" أي علمنا به هذا تقرير مراده إن أرادوه "فالجواب عليهم أن هذا يحتل عليهم من وجهين" :
"أحدهما: أن الناس مختلفون في صحة هذا" فليست المسألة اتفاقية كما يعرف من
ـــــــــــــــــــ
1 الطبراني 6/261, والحاكم 3/598, ودلائل النبوة 3/418.
أصول الفقه "وإن صح فهو علم ضروري غير مستمر لكل أحد" بل قد يحصل لناس دون ناس "ولذا وقع فيه الخلاف والتعبد بخبر الواحد يشمل الجميع" أي جميع المكلفين ممن يحصل له هذا العلم الضروري وهم الأقل وغيرهم وهم الأكثر "وهذا" القول "يؤدي إلى اشتراط أن يخلق الله العلم الضروري بعدالة الراوي في الباطنة وهذا خلاف الإجماع .
"وثانيهما" أي وجهي الجواب "أن العدالة في الراوي تشتمل على أمرين" :
"أحدهما في الديانة التي تفيد مجرد صدقه وأنه لا يتعمد الكذب" أما هذا فمحل النزاع كما لا يخفى.
"وثانيهما في الحفظ ولئن سلم لهم ذلك في الديانة فلا يصح العلم الضروري أن الراوي لم يخط في روايته من غير عمد ولا قائل بذلك" يتأمل في هذا "على أن البالغين إلى هذه المرتبة الشريفة هم الأقلون عددا ولو اشترط ذلك أهل الحديث لم تتفق لهم سلامة إسناد غالبا" إذ ليس كل حديث يكون رجاله من ذلك الطبقة العالية.
"وقد نص مسلم" في أول صحيحه "على أنا لا تجد الحديث الصحيح عند مثل مالك وشعبة والنوري" الذي لا خلاف في إمامتهم ديانة وحفظا وإذا لم نجد مثلهم "فلا بد من النزول إلى مثل ليث ابن أبي سليم وعطاء بن السائب" وهم من طبقة غير تلك الطبقة في الأمرين إذا عرفت هذا "فكن على حذر من تضعيف من يرى رد أهل العدالة الظاهرة لكثير من الرواة وتفظن لذلك في كتب الجرح والتعديل" فإنهم يردون كثيرا بجهالة باطنة ويسمونه مستوارا "والله أعلم" .
* * *
مسألة: 49 [في قبول رواية الفساق المتأولين]
من علوم الحديث "الكلام في قبول أهل التأويل" من كفاره وفساقه وغيرهم وردهم "الظاهر من مذهب أئمة الزيدية قبول المتأولين على خلاف يسير وقع في ذلك" ولفظه في الروض الباسم الظاهر من مذهب الزيدية قبول أهل التأويل مطلقا كفارهم وفساقهم وادعوا على ذلك إجماع الصحابة وذلك في كتب الزيدية طاهر لا يدفع ومكشوف لا يتقنع."قال الأمير علي بن الحسين في كتاب اللمع حكاية عن المؤيد بالله في كفار أهل التأويل ما لفظه فعلى هذا شهادتهم جائزة عند أصحابنا انتهى وهذا اللفظ" يعني لفظ أصحابنا "يقتضي العموم" لأنه من صيغ العموم "ذكره غير واحد من أهل العلم" أي من أن النكرة إذا أضيفت اقتضت العموم.
"وقد خالف في ذلك" أي في قبول كفارة التأويل "السيد الإمام أبو طالب وروى الخلاف فيه عن الناصر رضى الله عنه على تفصيل يأتي إن شاء الله تعالى وقد ذكرت هذه المسألة في كتاب العواصم" في الجزء الأول منه "واستوفيت الأدلة وما يرد عليها" .
وعقد أيضا فصلا لقبول فساق التأويل وذكر خمسا وثلاثين حجة على قبولهم منها آيات قرآنية نحو قوله: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] الآية وأطلق أهل الذكر فدل على قبول خبر من كان من أهله ولو كان فاسق تأويل وهي الحجة الخامسة عشرة فيما عده والسادسة عشرة قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} [البقرة: 38] وهذا عام لكل ما جاء عن الله سواء كان في القرآن أو على لسان رسوله وحديث المتأولين مما جاء عن الله وعن رسوله الحجة السابعة عشرة قوله: {وَقَالُوا لَوْ
كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] ذمهم الله تعالى بعدم الإستماع وهو مطلق في كل ما جاء عن الله من معلوم ومظنون فخرج المجمع على رده وبقي المختلف فيه إلا ما خصه دليل ثم ساق في العواصم من الآيات الدالة بعمومها على قبول أخبار المتأولين ومن الأحاديث مافيه مقنع للناظر وسكون القلب لقبول أخبارهم للمناظر فلا نطيل فقد أطال وأطاب وخرج من الإيجاز إلى الإطناب ووشحه بفوائد لا توجد إلا فيه ولم تخرج إلا من فيه جزاه الله خيرا.
"ونقلت: ألفاظ أهل المذهب بنصها من كتب كثيرة" قال في العواصم إن السيد يريد شيخه علي بن محمد بن أبي القاسم الذي جعل العواصم جوابا على رسالته لم يذكر عن أحد من العشرة أنه يقبل خبر المتأولين إلا عن المؤيد بالله كأنه لا يعرف هذا القول منسوبا إلى غيره وما هذا علم المتصف ثم ذكر ما أشار إليه قريبا عن اللمع الذي لا يزال السيد بالتدريس فيه مشتغلا وفيه ما لفظه والأظهر عند أصحابنا أن شهادته جائزة ثم نقل كلام القاضي حسن النحوى والفقيه على الوشلي وغيرهما مما يلاقي ما نقله عن اللمع وأطال في ذلك.
"وأنا أشير هنا إلى نكت كافية إن شاء الله تعالى فأقول المتأولون أقسام" :
"الأول: من لا يكفر ولا يفسق ببدعته" . أي المتأول الذي لا يكفر ولا يفسق ببدعته "كالمعتزلة عند الزيدية" لأنهم عندهم مبتدعون متأولون.
"قال القاضي شرف الدين حسن بن محمد النحوي رحمه الله في تذكرته" في فقه الزيدية "إن المخالف في الإرجاء" أي القائل به وهو القائل بأنها لا تضر مع الإيمان معصية "كذلك لا يكفر ولا يفسق وكذلك القاضي فخر الدين عبد الله ابن حسن الداوري ذكر أنه لا يكفر ولا يفسق وكذلك الحاكم" المحسن اب كرامة الجشمي "في شرح العيون وذكر الفقيه حميد" المعروف بالشهيد "في عمدة المسترشدين معنى ذلك وذكر الحاكم في شرح العيون والفقيه حميد في العمدة والقاضي" عبد الله الدواري "في تعليق الخلاصة أن المرجئة صنفان عدلية وغير عدلية وقال الحاكم في الشرح في فصل عقده فيما أجمع عليه أهل التوحيد والعدل إن اسم الاعتزال صار في العرف لمن يقول بنفي التشبيه والجبر وافق في الوعيد أو خالف وافق مسائل الأمامة أو خالف وكذا في فروع الكلام ولذا تجد الخلاف بين الشيخين" أبي علي وأبي هاشم "والبصرية والبغدادية" من المعتزلة "يؤيد الخلاف بينهم وبين سائر المخالفين .
انتهى بلفظه وإنما لم يفسق من خالف في الأمامة" كالمعتزلة فإنهم فساق تأويل عند الهدوية بمخالفتهم في الإمامة والأرجاء وقدمنا لك أنه القول بأنه لا يضر مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعة.
قال المصنف إن الإرجاء ليس بكفر ولا فسق عند أهل المذهب نص عليه القاضي شرف الدين في تذكرته والحاكم في شرح العيون وقال الشيخ مختار في المجتبئ ما لفظه لم يكفر شيوخنا المرجئة لأنهم يوافقونهم في جميع قواعد الإسلام لكنهم قالوا عنى الله بآيات الوعيد الكفرة دون بعض الفسقة أو التخويف دون التحقيق وأنه ليس بكفر انتهى "والأعواض وتفضيل الملائكة" على الأنبياء "وسائر فروع الكلام لأن الأدلة السمعية القاطعة لم ترد بذلك" ولا دليل إلا السمع على ذلكظ.
"وقد بينت ذلك في العواصم" وأنه لا تفسيق إلا بقاطع والعقل لا مدخل له هنا والسمع لم يرد فيه دليل على تفسيق من ذكر.
"القسم الثاني" من أقسام المتأولين "من فسق بتأويله ولم يكفر وقد روى الإجماع على قبوله من طرق كثيرة ثابتة عن جلة من الأئمة والعلماء تذكر منها" أي من طرق رواية الإجماع على ذلك "عشر طرق" وزاد في العواصم الحاية عشرة والثانية عشرة إلا أنه قد دخلها فيما سرده هنا.
"أحدها" وهو الأولى "طريق الإمام المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "فإنه ادعى الإجماع على ذلك" أي على قبول رواية فساق التأويل "في كتابيه" الأول الذي ألفه في أصول الفقه وسماه "صفوة الإختيار و" الثاني كتابه في الفقه الذي سماه "المهذب ولكن في الصفوة بالنص الصريح الاحتجاج الصحيح" فإنه قال فيه بعد ذكر خبر الفاسق حكى شيخنا الحسن بن محمد عن الفقهاء بأسرهم والقاضي وأبي رشيد أنه يقبل إلى أن قال وهوالذي تختاره والذي يدل على صحته إجماع الصحابة على قبوله وإجماعهم حجة على ما يأتي بيانه "وفي المهذب ما يقتضي مثل ذلك" فإنه قال فيه ما لفظه وقد ذكر أهل التحصيل من العلماء جواز قبول أخبار المخالفين في الاعتقادات وروى عنهم المحققون بغير منا كرة ذكره في كتاب الشهادات محتجا به على قبول شهادتهم قال في العواصم:
والدليل على أنه ادعى الإجماع في المقام من وجه أولها وهو أقواها أنه احتج
على جواز الشهادة بالقياس على الأخبار ولم يحتج على قبولهم الأخبار قال لأن الأخبار نوع من الشهادة ويجرى مجرها في بعض الأحكام فاحتج بأن المحصلين ذهبوا إلى ذلك بغير منا كرة وأراد بالمحصلين العلماء وأنه لم يناكر الآخرن ولفظه صالح لإفادة دعوى الإجماع في اللغة من غير تعسف الطريق.
"الثانية طريق الإمام يحيى بن حمزة ذكره في الانتصار في كتاب الأذان مرة" فإنه قال وأما كفار التأويل وهم المجبرة والمشبهة والروافض والخوارج فقد اختلف أهل القبلة في كفرهم والمختار أنهم ليسوا بكفار لأن الأدلة في كفرهم تحتمل احتمالات كثيرة وعلى الجملة من حكم بكفرهم أو إسلامهم قضى بصحة أذانهم وقبول أخبارهم وشهادتهم وقال في كتاب المعيار ما لفظه إن الإجماع منعقد على قبول رواية الخوارج مع ظهور فسقهم وتأويلهم قلت: ما خلا الخطابية هكذا كلامه في كتاب المعيار "وفي كتاب الشهادات مرة ثانية" فإنه قال ومن كفر المجبرة المشبهة قبل أخبارهم وأجاز شهادتهم على المسلمين وعلى بعضهم وناكحوهم وقبروهم في مقابر المسلمين وتوارثوا هم والمسلمين.
"الطريق الثالثة طريق القاضي زيد ذكرها في كتاب الشهادات من شرحه المعروف ورواها عنه الأمير الحسين في التقرير" فإنه قال فيه ما لفظه وفي الوافي لا بأس بشهادات أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقة بتصديقه وقبول يمينه تخريجا قال القاضس زيد وذلك لأن الإجماع قد حصل على قبول خبرهم فجاز أن تقبل شهادتهم هكذا كلام القاضي زيد قال في العواصم بعد نقله وكلام زيد يعم الكفار والفساق.
"الرابع" من طرق رواية الإجماع "طريق الفقيه عبد الله بن زيد ذكرها في الدرر المنظومة" فإنه قال عند ذكره كافر التأويل وفاسقه والمختار أنه يقبل خبرهما متى كانا عدلين في مذهبهما إلى أن قال والذي يدل على صحة مذهبنا أن الصحابة أجمعت على ذلك وإجماعهم حجة.
"الخامس طريق الأمير الحسين بن محمد ذكرها في كتاب شفاء الأوام" في كتاب الوصايا في باب ما يجوز من الوصية ومالا يجوز فإنه قال فأما الفاسق من جهة التأويل فلسنا نبطل شهادته في النكاح ونقبل خبره الذي نجعله أصلا للأحكام الشرعية بإجماع الصحابة على قبول أخبار البغاة على أمير المؤمنين عليه السلام
وبإجماعهم حجة.
"السادس: طريق الشيخ أبي الحسين محمد بن علي البصري ذكرها في كتاب المعتمد" فإن قال وعند جل الفقهاء أن الفسق في الاعتقادات لا يمنع من قبول الحديث لأن من تقدم في قبل بعضهم حديث بعض بعد الفرقة وقبل التابعون رواية الفريقين من السلف.
"السابع" من طريق رواية الإجماع "طريق الحاكم أبي سعيد المحسن بن محمد ابن كرامة ذكرها في شرح العيون" فإنه قال فيه ما لفظه الفاسق من جهة التأويل يقبل خبره عند جماعة الفقهاء وهو قول أبي القاسم البلحي وقاضي القضاة ابن رشيد ووجهه ما قاله الفقهاء إجماع الصحابة والتابعين لأن الفتنة وقعت وهم متوافرون وبعضهم يحدث عن بعض مع كونهم فرقا أو أحزابا من غير نكير.
الطريق "الثامنة والتاسعة طريق الشيخ أبي محمد الحسن بن محمد بن الحسن الرصاص وحفيده والشيخ أحمد بن محمد بن الحسن ذكرها حفيده في الجوهرة لنفسه" فإنه قال فيها ما لفظه واختلف في قبول الفاسق من جهة التأويل فذهب الفقهاء بأسرهم إلى أنه يقبل خبرهه إلى أن قال ووجه ما قاله الفقهاء إجماع الصحابة على قبول خبر فاسق التأويل فإن الفتنة لما وقعت في الصحابة ودارت رحااها وشبت لظاها كان بعضهم يحدث عن بعض ويسند الرجل إلى من يخالفه كما يسند إلى من يوافقه من غير نكير من بعضهم على بعض في ذلك فكان إجماعا انتهى "و" ذكرها "في" كتاب "غرر الحقائق" عن مسائل الفائق "وعن جده" الحسن بن محمد بن الحسن فإنه قال حكى رضي الله عنه قبوله عن الفقهاء إلى قوله ووجه القول الأول أي القول بالقبول إجماع الصحابة وساق في ذلك نحو ما ذكره قريبا.
الطريق "العاشر طريق ابن الحاجب ذكرها في المنتهى" فإنه قال في الاستدلال للقابل خبر الفاسق المتأول ما لفظه قالوا أجمعوا على قبول خبر قاله عثمان رضي الله عنه.
"فهذه الطرق تقوي صحة الإجماع" عن الصحابة "لصدورها" أي الطريق "عن عدد كثير مختلفي المذاهب والأغراض متباعدي البلدان والأزمان وأكثرهم" أي رواة الإجماع "من أهل الورع الشحيح" فلا يجوز أن أحدهم ينقل ما لا يعلم "وجميعهم من أهل المعرفة التامة" فلا يجوز أنه يجهل الخلاف عن الصحابة ولو كان موجودا في المسألة
"وليس يظن بواحد منهم أنه يقول ما يعلم لا سيما وقد ادعواهم وأكثرهم العلم بذلك" أي بوقوع إجماع الصحابة "كما ثبتت ألفاظهم في كتاب العواصم" فإنه صرح الشيخ الحسن الرصاص بقوله أما أنهم أجمعوا فمعلوم من أحوالهم وقال أبو طالب في المجزي إن القائلين بقبول أخبار المتأولين قالوا لأن المعلوم من أحوالهم أي الصحابة أنهم كانوا يراعون في قبول الشهادة والأخبار الإسلام إلى قوله وإنهم كانوا مجمعين على التسوية بين الكل إلى آخر كلامه قال المصنف بعد نقله وهذه حكاية عن أبي طالب عن جميع الفقهاء أنهم ادعوا العلم الإجماع.
"على أن السيد أبا طالب ذكر عنه في اللمع أن كل من قبلهم ادعى الإجماع" من الصحابة على قبولهم "وقال رضي الله عنه في المجزي" كتابه في الأصول "إن الفقهاء كلهم ادعوا العلم بثبوت هذا الإجماع" قد قدمنا نصفه تقريبا "وتوقف عليهم في ثبوت الإجماع ولم يجزم برده بل قال أن حجة من قبلهم الأجماع وحجة من ردهم القياس على الفاسق المصرح" أي غير المتأول فإن روايته ورد بها النص في قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} الآية "قال فإن صح الإجماع فلا معنى للقياس" أي لا يقدم على الإجماع لقوة الإجماع "وتوقف في ثبوت الإجماع" ولذا قال فإن وأتى بكلمة إن دون إذا زيادة في ثبوت التوقف.
واعلم أن ابن الحاجب وتبعه من أخذ من كتابه كصاحب الغاية احتجوا لرد رواية فاسق التأويل بالآية المذكورة وليس استدلالا صحيحا ولذا قال أبو طالب ابن دليل الرد القياس على المصرح وذلك لأن الآية وردت في فاسق التصريح لأنها نزلت في الوليد بن عقبة في قصة بني المصطلق وكذبه عليه بأنهم أرادوا قاله والقصة معروفة فسقه إما بكذبه أو بشربه الخمر ولا يقال العام لا يقصر على سببه ووقوعه لأنا نقول هو عام في فساق التصريح دون فساق التأويل إذ لا وجود لهم عند نزول الآية ولأنه لا يطلق اللفظ إلا على ما كان في عرف اللغة وعرف اللغة لم يكن فيه أطلاق الفاسق على المتأول وقد أورد المصنف على استدلال ابن الحاجب بالآية على رد رواية فاسق التأويل سبعة عشر إشكالا سردها في العواصم لأن علي بن محمد بن أبي القاسم الذي رد عليه المصنف بالعواصم نقل دليل ابن الحاجب مستدلا به.
"وهاهنا فائدة وهي أن أحدا من الأئمة لم يدع الإجماع على رد الفساق المتأولين وإنما ادعى الإجماع على قبولهم" كما عرف "فقطع بثبوته طائفة من العلماء" وقد عرفت
أنهم الأكثر "وشك في ثبوت الإجماع" على قبولهم "آخرون" وهم الأقل "فهذا الكلام في فساق التأويل" قبولا وردا.
* * *
مسألة:
"وأما كفار التأويل" أي وأما الحكم في قبول رواية كفار التأويل وردها "فالمدعون للإجماع على قبولهم أقل من أولئك" أي الذين ادعوه في فساق التأويل "في معرفتي فالذي عرفت من طرق دعوى الإجماع على قبولهم أربع طرق عن أربعة من ثقات العلماء وكبرائهم وهم الإمام يحيى بن حمزة في" كتاب "الانتصار" في باب الأذان نصا صريحا قال المصنف في العواصم إنه قال وأما كفار التأويل وهم المجبرة والمشبهة والروافض والخوارج فهولاء اختلف أهل القبلة في كفرهمة والمختار أنهم ليسوا بكفار لأن الأدلة بكفرهم تحتمل احتمالات كثيرة وعلى الجملة فمن حكم بإسلامهم أو كفرهم قضى بصحة أذانهم وقبول أخبارهم وشهادتهم وقد تقدم هذا.
"و" الثاني "المنصور بالله" عبد الله بن حمزة "في" كتاب "المهذب عموما ظاهرا" وقد قدمنا لفظه وبيان عمومه. "و"الثالث "الفقيه عبد الله بن زيد في الدور نصا صريحا" تقدم أيضا نصه بلفظه.
"و" الرابع "القاضي زيد في الشرح والتقرير نصا صريحا" تقدم أيضا لفظه لأن التقرير ليس القاضي زيد بل للأمير الحسين وإنما نقل عنه الأمير في التقرير ذلك كما تقدم للمصنف قريبا فالمراد أنه نص عليه في الشرح نصا صريحا ونقله عنه في التقرير.
"وقد تقدم قول المؤيد بالله رضي الله عنه أن ذلك مذهب أصحابنا هكذا على العموم من غير استثناء" الكلام في الناقلين من طرق الإجماع على قبول كفار التأويل لا في القائلين لذلك فهو الذي تقدم وكأنه يريد أنه لا يقول مذهب أصحابنا إلا استنادا إلى إجماع أصحابه "ولكن قاضي القضاة" عبد الجبار بن أحمد "ذكر أن كفار التأويل لا يقبلون بالإجماع" فهذا خلاف ما رواه غيره.
"وقال الشيخ أحمد" بن محمد الرصاص "إنه روى عن أبي طالب قريب من الإجماع يعني على ردهم والجواب" عن التعارض في النقلين "أن تلك الدعوى" أي
دعوى الإجماع على قبولهم "أرجح بالكثرة" فإن رواتها خمسة قال في العواصم والترجيح يحصل بزيادة واحد فكيف أربعة وهذا الترجيح بكثرة العدد "و" تترجح أيضا "الزيادة" في رواتها "في الفضل والعلم وعدم الإبتداع عند من يوافقهم في المذهب" فإنهم غير مبتدعين عنده للقول بعدم قبول المتأول.
قلت: وقد يعارض بأنهم مبتدعون عنه من يخالفهم وليس اعتبار مذهب من يوافقهم بأولى من اعتبار مذهب من يخالفهم.
واعلم أن هذا إشارة إلى كلام السيد علي بن محمد بن أبي القاسم صاحب الرسالة المردود عليها بالعواصم فإنه قال إن رواية العدل المنزه عن البدع مقدمة على رواية المبتدع بالإجماع وقاضي القضاة مبتدع عند الجميع لمخالفته لأهل البيت في مسائل قطعية توجب ترجيحهم عليه.
"وهذه" أي رواية الإجماع على عدم قبولهم "تفرد بها القاضي" عبد الجبار كما تقدم "وقد رد ذلك عليه الشيخ أبو الحسين في المعتمد" فإنه قال وأما الكفر بتأويل فإنه ذكر قاضي القضاة أيده الله أنه يمنع من قبول الحديث قال لاتفاق الأمة على المنع من قبول خبر الكافر قال والفقهاء قبلوا أخبار من هو كافر عندنا لأنهم لم يعتقدوا فيه أنه كافر قال أبو الحسين والأولى أن يقبل خبر من هو كافر أو فاسق بتأويل إذا لم يخرج من أهل القبلة وكان متحرجاا لأن الظن بصدقه غير زائل وادعى الإجماع على نفي قبول خبر الكافر على الإطلاق ولا يصح لأن كثيرا من أصحاب الحديث يقبلون خبر سلفنا كالحسن وقتادة وعمرو مع علمهم بمذهبهم وإكفارهم من يقول بقولهم وقد نصوا على ذلك انتهى.
قال المصنف بعد نقله له وقول أبي الحسين على الإطلاق يعني أنه لم يقيد بالكفر المجمع على رد صاحبه بالكفر المخرج عن الملة وهذا الرد لقول قاضي القضاة "وعلمنا من المخالفين الذي ادعى عليهم الموافقة أنهم يخالفون في ذلك" فلم يتم دعواه.
"وأما السيد أبو طالب فإنما حكى الشيخ أحمد عنه ما هو قريب من الإجماع والقريب من الشيء غير الشيء" والحجة إنما هو الإجماع لا القريب منه على أنه رواه عنه بصيغة التمريض.
قلت: وما أحسن قول المصنف في العواصم على هذه العبارة حيث قال وليت شعري ما حد مقاربة الإجماع فقال مالفظه وكذلك السيد أبو طالب حكى الإجماع
في كفار التأويل انتهى وأنكر المصنف وجود هذا عن أبي طالب وقال إنما المروي عنه ما ذكره الشيخ أحمد الرصاص.
"وكذا ابن الحاجب لم يدع" في مسألة كفار التاويل وردهم "إجماعا قط كما بينه في العواصم" وذلك أن السيد علي بن أبي القاسم ادعى أن ابن الحاجب حكى الاجماع في رد روايه كفار التأويل فقال المنصف ما لفظه والمبتدع بما يتضمن التفكير كالسافر عند المكفر قال المنصف المكفر بعض الأمة فلم يلزم أن تجمع الأمة على رده فان قلت: كلامه يقضي بأن الذين لم يكفره لردوا روايته قلت: ليس كلامه يقتضي هذا لوجهين:
أحدهما : أن الذي لم يكفر لا يسمى مكفر إلا حقيقةولا مجازا وابن الحاجب إنما روى عمن يكفر وإذا ثبت أن الأمة غير مجمعة على التفكير فقد تعذر الإجماع وهو مأخوذ من نص ابن الحاجب ثم قال:
الوجه الثاني : أن زبدة الكلام أن السيد توهم من ابن الحاجب أنه قال إن الذين لم يكفروا لو كفروا لما قبلوا من كفروه وهذا ليس بدعوى الإجماع البتة بل هذا دعوى على أهل الإجماع وفرق بين دعوى إجماع الأمة ودعوى الإجماع على الأمة قال ابن الحاجب لو نص على هذا لماصدق ولا صدق لأن هذا من قبيل علم الغيب فمن أين له أن الذين لم يكفروا لو كفروا لردوا روايتهم وما أمنه أنهم يكفرونهم من أنهم يقبلونهم كما قال بذلك الشيخ أبو الحسين وغيره انتهى باختصار.
"ويرجح هذا" يعنى دعوى إجماع الأمة على قبول كفار التأويل "بأشياء أحدها أن دعوى هؤلاء" وهم المنصور بالله والإمام يحيى ومن ذكر معها "إجماع الأمة يشمل دعوى إجماع العترة" قال المصنف في العواصم ولا شك أن هؤلاء الذي ادعوا الإجماع نم المشاهير بتعظيم العترة ومن أهل الورع والإطلاع وذلك يقضي أنهم ما ادعوا إجماع الأمة حتى عرفوا إجماع أهل البيت أولا خاصة في ذلك العصر فإن أهل البيت عليهم السلام في زمان حدوث الفسق في المذاهب لم يكونوا إلا ثلاثة على وولداه وإجماعهم حجة ومعرفته متيسرة سهلة لانحاصرهم واشتهارهم فأقل أحوال الإمام المنصور بالله رضي الله عنه والإمام يحيى بن حمزة أنهما لا يدعيان إجماع الصحابة إلا وهما يعرفان ما مذهب علي عليه السلام وولديه فإنهما لو لم يعرفا مذهبهم لكانا مجازفين بدعوى الإجماع وهما منزهان عن ذلك بإتفاق الجميع على
إمامتهما وسعة اطلاعهما.
"وعلى" دعوى أنه "مذهب علي عليه السلام لا سيما والمدعون لذلك من أئمة أولاده" وهما الإمامان المذكوران قال في العواصم فإن ذلك يقتضي أنهما عرفا أن قبول المتأولين مذهب علي عليه السلام لأن أقل أحوالهما حين ادعيا العلم بمذهب جميع الصحابة المشهور والمغمور أن يكونا قد عرفا أن ذلك مذهب إمام الأئمة وأفضل الأمة وكفي به عليه السلام حجة لمن أراد الهدى وعصمة لمن خاف الردى "وكبار شيعتهم" من الفقيه عبد الله بن زيد والقاضي زيد "وكذلك ذلك" أي دعوى إجماع الأمة على قبولهم "يقوي أنه مذهب الهادي والقاسم عليهما السلام" لأنها من أعيان الأمة ويبعد أن يخالفا إجماع الصحابة "كما هو تخريج المؤيد بالله وأحد تخريجي أن طالب وظاهر رواية أبي مضر وذلك أرجح من أحد تخريجي أبي طالب والله أعلم" .
في العواصم أنه خرج السيد المؤيد بالله للهادي أنه يقبلهم ورواه عنهم الفقيه علي بن يحيى الوشلي في تعليقه بلفظ التخريج ورواه عنه القاضي شرف الدين الحسن بن محمد النحوري في تذكرته بلفظ التحصيل ولم يختلف في ذلك عن المؤيد بالله وكذلك السيد أبو طالب نسب ذلك إلى الهادي في أحد تخريجه رواه الفقيه علي بن يحيى الوشلي في تعليقه ونص في اللمع على ذلك فقال قال السيد أبو طالب وأما شهادة أهل الأهواء من البغاة والخوارج فإن جواز شهادتهم لا يمتنع أن يخرج على اعتباره لكون الملة واحدة لأن الواحدة لأن هؤلاء كلهم من أهل ملة الإسلام وهذا لفظه في اللمع وظاهر رواية أبي مضر قال فيها أيضا إن القاضي أبا مضر من أئمة مذهب الزيدية والجلة وقد روى عن الهادي والقاسم عليهما السلام قبول المتأولين رواية غير تخريج وذلك أرجح من أحد تخريجي أبي طالب قال فيها أيضا لأن السيدين الأخوين إماما مذهب الهادي وقد تطابقا على تخريج قبوله رواية المتأولين ولم يتطابق على تخريج رده لهم بل انفرد بهذا أبو طالب قثبت بهذا ترجيح تخريج رواية قبولهما وإنما ذكر المصنف هذا لأن السبب علي بن أبي القاسم رجح تخريج أنهم لا يقبلون عند الهادي والقاسم على رواية تخريج قبولهم فرده المصنف بإيراد ستة إشكالات على كلامه وأتى هنا بزبدة ما في تلك الإشكالات.
"فإن قيل: كيف يصغي إلى قبول دعوى الإجماع وقد علم وقوع الخلاف" هذا السؤال وارد على رواية الإجماع على قبول رواية فساق التأويل وعلى رواية قبول كفار
التاويل فلا يتوهم أن إتيانه به هنا أنه يختص برواية إجماع كفار ا لتأويل.
"قلت" إنما أصغي إلى دعوى الإجماع "لأن دعوى الإجماع لم يتحد بمتعلق الخلاف" قد أورد المصنف السؤال في العواصم على كلام المعيار للإمام يحيى فقال فإن قيل فقد روى الإمام الخلاف في المعيار فناقض قلنا شرط التناقض عزيز إذا لا يصح مع إمكان الجمع والجمع ممكن في ذلك بأن يكون الخلاف الذي في المعيار منسوبا إلى أهل عصر والإجماع الذي رواه في الإنتصاد منسوبا إلى أهل عصر آخر ووذلك كثير في مسائل الإجماع. انتهى.
وقد عين أهل الإجماع في قوله "بل الإجماع المدعى إجماع الصدر الأول ولم ينقل عن أحد منهم نص على رد المتأولين أبدا" فلم يكن في عصرهم خلاف "والخلاف إنما وقع بين أهل عصر آخر" فلا تناقض إذا من شرطه اتحاد الزمان قال المصنف في العواصم واعلم أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه لا يقبلهم البتة وكذلك لم يدع أحد من الخلف ولا السلف أن الأمة أحمعت على رد فساق التأويل فتأمل هاتين الفائدتين انتهى.
"فإن قيل: لعل الصحابة" المدعى إجماعهم "إنما قبل بعضم بعضا أيام الفتنة" وهي من حين حصار عثمان "وبعدها" تحقق حصول فساق التأويل "من غير تمييز منهم لما وقع من ذلك" المروي "قبلها" حيث لا فاسق تأويل "أو بعدها" وهو بعد حصوله "وكذلك التابعون" إنما قبلوا مع ذلك وإما لم يمزوا بين الواقع بعدها وقبلها "لأمور" ثلاثة أي لأحدها:
الأول : "إما لأنهم لم يعلموا بوقوع المعصية من أولئك الذين رووا عنهم" بخصوصهم وإذا لم تعلم لم يتحقق أنهم قبلوا فاسق التأويل.
الثاني : "أو علموا بوقوع ذلك منهم ولكنهم اعتقدوا إصابتهم توقفوا فيها" في المعصية فلم يجزموا بأنهم عصاة.
الثالث : "أو علموا ذلك وأنه معصية ولكن ما علموا أنه فسق" حتى يتم القول أنهم أجمعوا على قبول رواية فساق التأويل.
"قلت: هذا السؤال أورده ابن الحاجب ولكن لم يحرره هذا التحرير" إنما أورده ابن الحاجب جوابا على القائلين حيث قال ورد بالمنع أو بأنه مذهب بعض الصحابة قال عضد الدين في شرحه وتفسير كلامه الجواب لا نسلم القبول إجماعا على كون ذلك
بدعة واضحة حتى يلزم الإجماع على قبول ذي البدعة الواضحة بل كان ذلك مذهبا لبعضهم فإن أهل القبلة لا يرون ذلك وكذلك كثير من الآخرين ويجعلونه اجتهاديا انتهى وسماه المصنف سؤالا وإن كان منعا لأن المنع سؤال إذ هو طلب الدليل على المدعى.
"وهذا سؤال ركيك لأن مضمونة أن هؤلاء الذين ادعوا العلم بثبوت الإجماع وقطعوا بصحته قالوا بغير علم وقطعوا في موضع الشك ولو قبل مثل هذا السؤال لورد مثله أيضا على من روى خبرا نبويا أو غير ذلك فيقال لعل هذا الخبر النبوي موقوف على بعض الصحابة أو نحو ذلك" وعبارته في العواصم وأما رده لرواية الثقات من الأئمة والعلماء بقوله لعل بعض الصحابة لم يقبل المتأولين فمثل هذا الكلام لا يصدر عن المحصل فإن هذا مجرد ترج صدر من صاحبه فقد نقل أهل العدالة والأمانة والإطلاع على العلوم والتواريخ أقوال السلف والخلف والإجماع وحرصهم على أنهم قد علموا انعاده وإخبارهم لنا وأنهم أخبروا بذلك عن علم يقين لا عن مجازفة وتبخيت.
وحاصل هذا الاعتراض أن صاحبه قال لعل راوي الإجماع غير صادق فيما رواه ولا متحقق لما ادعاه ولو كان مثل هذا يقدح في رواية الثقات لبطلت الروايات فما من رواية تصدر عن ثقة في الإجماع أو في الحديث أو في الشهادة إلا ويمكن أن يقال لعل راويها وهم فيها وقالها بغير علم يقين وأصدرها إما لمجرد اعتقاد الصحة أو ظنها أو نحو ذلك مما لا يلتفت إليه من تطريق الشك إلى فهم الثقات بمجرد كونه تجوزا على البشر ولو كانت روايات الثقات العلماء تعارض بمجرد ترحبي كذبهم أو تمني صدور الدعوى منهم على سبيل التبخيت من غير تحقيق لبطلت طرق النقل وتعطلت فوائد الرواية انتهى.
"وقد ذكرت في العواصم أشياء" من الأدلة "مما يقوي القول بقبولهم" أي بقبول رواية كافر التأويل وفاسقه.
"منها" وهي الحجة الرايعة في العواصم "أنا لو لم نقبلهم" أي كفار التأويل وفساقة "لم نقبل الصحابة" زاد في العواصم أجمعين ولا أهل البيت المطهرين إذ لم يصرحوا بالسماع من النبى صلى الله عليه وسلم "لأن هؤلاء العدول لذين ادعوا الإجماع" من الأئمة وغيرهم "قد أخبروا بأنهم قد علموا ذلك من الصحابة وعدالتهم"
أي الرواة للإجماع "تقتضى هذا حتى يعلموا قول الصحابة كلهم" فيكون إجماعا قوليا "أو قول أكثرهم وسكت عنه الباقون سكوت رضى" فيكون إجماعا سكوتيا.
قال في العواصم فلا بد أن يفيد العلم أو الظن بأنهم كانو كذلك أقصى ما في الباب أن ذلك يفيد الشك في قبولهم للفساق التأولين فلو كانو مردودين بالقطع وحصل الشك أن رواية بعض العدول مستندة إليهم لم يجز قبوله إلا إذا حصلت قرينة صحيحة يحصل معها الظن الراجح أن روايته غير مستندة إلى من لا يقبل قطعا.
"ومنها: إن ردهم يؤدي إلى أنا لانقبل من يقبلهم إو روى عنه إنه يقبلهم" هذا هو الوجه الثاني في العواصم من الأوجه التي جعلها أدلة على قبولهم قال فيه إن الزيدية يروون عن المخالفين ويدروسن كتب المخلفين في مدارسهم إلى أن قال وأما كتب الأوصول فالزيدية يعتمدون على كتاب أبى الحسين مع أنه يقبل فساق التأويل وكفارهم ومعتمدهم في هذه الأزمنة الأخيرة كتاب الشيخ أحمد الجوهرة مع شهرة بغيه على الإمام الشهيد أحمد بن الحسين وكتاب منتهى السول لابن الحاجب فإنه معتمد عليه هذه الأعصار في بلاد الزيدية وكتب الأوصول وإن كانت نظرية فإن فيه آثارا كثيرة ولا بد فيها من عدالة الرواة.
وأما كتب القراءات فلا زال الناس يعتمدون على كتاب الشاطبية آخذين ما وجد فيها مماليس بمتواتر وأما كتب العربية فلم يزل الناس من الزيدية يقرؤون مقدمة طاهر وشرحه وكذلك كتب ابن الحاجب في النحو التصريف مع ما اشتملت عليه من رواية اللغة والإعراب.
وأما المعاني والبيان فالمعتمد عليه في هذه الأزمنة الأخيرة كتاب التلخيص في ديار الزيدية وغيرها وهو من رواية الأشعرية.
"وهذا يؤدي إلى رد حديث كثير من الأئمة كالمنصور والمؤيد بالله ويحيى بن حمزة والقاضي زيد بل يؤدي إلى التوقف في قبول حديث القاسم والهادي لرواية أبي مضر عنهما ذلك" أي قبول رواية فساق التأويل كمت قدمناه "وتخريج المؤيد بالله" لها "وأحد تخريجي أبي طالب" كما تقدم ذلك كله "بل يؤدي إلى عدم الانتفاع بتصانيف المتأخرين في الحديث من زمن المؤيد بالله مثل أصول الأحكام" للإمام أحمد بن سليمان والشفاء للأمير الحسين "والكشاف لأنهم صرحوا بالرواية عنهم ومن لم يستجز الرواية عنهم روى عمن عنهم فإن من لم يقبل كفار التأويل من الزيدية لم يرد
حديث المؤيد بالله رضي الله عنه وأمثاله من أئمة العترة لكونهم بقبلون فإن مذهب الزيدية قبول مراسيل العدول من غير استثناء وكتبهم معروفة" ولا يخفى أن هذا إلزام لا محيص عنه.
والحامل للمصنف رحمه الله على الإطالة في المسألة أن السيد علي بن محمد بن أبي القاسم كثر في رسالته وبالغ في عدم قبول رواية أهل التأويل ثم استدل على ردهم بالكتاب ولاسنة والإجماع فسرد المصنف ذلك كله في العواصم وأشار هنا إلى زبدة ما أتى به هنالك ومن جملة أدلة السييد على القياس المتأول على المصرح فأشار المصنف إليه وإلى رده بقوله:
"فإن قيل: قد وقع الإجماع على رد الفاسق المصرح والعلة في رده الفسق وهو حاصل في المتأول" هذا هو دليل السيد علي وقد أورد عليه المصنف في العواصم أحد عشر إشكالا تضمن كلامه هنا بعضها.
"فالجواب من وجوه" متنشرة متداخلة:
"الأول: أن هذا قياس مصادم للنص فلا يسمع وفاقا" إذ قد اتفق أئمة الأصول أن القياس إذا تصادم النص فهو قياس فاسد الاعتبار فلا حكم له والنص هنا آيات أوردها أيضا في العواصم وهي تسع آيات دالة بعمومها على قبول فساق التأويل وكفاره أحدها قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} وهو شامل للسؤال عن الأدلة وعام لكل مسلم من أهل الذكر فيشمل الفساق ولاكفار تأويلا وثانيها: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وهو عام في كل مما جاء عن الله وعن رسوله.
ولما كان لقائل أن يقول هذه عمومات خصصت بالقياس أشار إلى رد القياس بوجه آخر فقال:
"الثاني أنه قياس مخصص لكثير من القرآن والسنة فلا يقبل مطلقا" في كل ما ورد فيه "ويبقى للناظر فيه نظرة وقد بينت تلك الآيات" وهي تسع كما عرفناك "والآثار في العواصم وقد ذكرت منها قدر ثلاثين حجة" هو كما قال وقد عد هنالك ثمانية وعشرين حجة سنذكر هنا بعضها.
"الثالث: أنه قياس ظني يتوقف في كونه حجة على الخصم على موافقة الخصم على صحته" ويأتي قدحه فيها "ثم" يتوقف "على موافقته على عدم معارضته بقياس أقوى
منه والأقوى بالعمل به أولى "والمعارضة ممكنة" له "فيهما" في الصحة والمعارضة بيانه في قوله "وأما المنازعة في صحته" فذلك يتم ببيان أن علة القايس ليست الفسق كما قاله المعترض بل ما أفاده قوله "فلأن الظاهر أن العلة" أي في قبول خبر الفاسق تأويلا حصول "الظن" بخبرة "لوجوه" :
"الأول" قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فأمر الله تعالى باشهاد رجلين من المؤمنين وهو يدل على أن العلة في ذلك ليست هي العدالة "فلو كانت العلة مجرد العدالة وكون الراوي والشاهد منصبا لها" إشارة إلى قول السيد علي أن قبول الشهادة والرواية منصب رفيع يلزم الخلق أحكاما شديدة فيلتزمونها فأي رفعة أعظم منها فالعلة هي هذه وهي موجودة في فاسق التأويل مثلها في المصرح انتهى "لكفى الواحد" قد يقال فد كفى في الرواية عند الجماهير لذلك وأما الشهادة فورد النص باعتبار العدد "فإن قيل لو كان العلة الظن" كما قلتم "لكفى الواحد" لحصوله.
"قلنا القصد الظن الأقوى" تقدم للمصنف إن الظن لا ينقسم إلى قسمين ولا يقف على مقدار ولا يمكن التعبير عن جميع مراتبه بالعبارة فتذكر "وأيضا فالظن يحصل بالإثنين غالبا" ويحصل أيضا بخبر الواحد بل قد يحصل به العلم كما قدمناه أول شرحا هذا فقبوله "ولا عبرة بالنادر" غير ظاهر "بخلاف الواحد فوقوع الشك في شهادتته كثير" يتحقق هذا من أصل صحيح.
"الثاني" من الأدلة على أن العلة حصول الظن قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا} فإنه دال على أن المراج الصدق والتحير فيه لا رفع المناصب.
"الثالث" من الأدلة على ذلك قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} .
فجعل العلة خوف الخطأ والرغبة في تحرى الإصابة ولو كانت العلة المنصب لقال قتبيوا أن تعظموا فاسقا بجهالة.
"والعمل بالظن لا يسمى جهالة كما في خبر العدل والمفتي والمؤذن" على أن الآية لم تدل على عدم قبول رواية الفاسق فإنه قال تعالى {فَتَبَيَّنُوا} ولم يقل تقبلوه والتبين هوالنظر فيما يدل على صدق خبره أو كذبه إذ ليس القطع برده وتكذيب خبره يسمى تبينا في اللغة ولا في الشرع ولا في العرف فإن التبين تفعل من البيان وهو
تطلب البيان وذلك لا يكون مع بيان رده ولا مع بيان قبوله ويوضح هذا أنه جاء التبين في القرآن الكريم غير مراد به الرد والتكذيب كقوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} فإنه ورد في سبب نزولها أن جماعة من الصحابة لقوا رجلا في عنيمة له فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته فنزلت الأية.
إذا عرفت هذا فليس في الآية دليل على رد فاسق التصريح الذي جعله الرادون دليلا على الرد فصلا عما قاسوه في الرد عليه وهو فاسق التأويل إنما فيها الأمر لما أخبره به هل هو صادق أو كاذب فهو نظير قول سليمان عليه السلام في خبر الهدهد: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27] وانظر لما أرد تعالى رد شهادة القاذف قال: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [ألنور: 4] وقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] وقوله في القذفة: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13].
"الرابع" قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] فأجازة شهادة كافر التصريح عند الضرورة فدلعلى أن القصد الظن الأقوى هو حاصل بالعدلين من المسلمين "فحين لم يحصل اكتفى بالظن الضعيف" الحاصل من شهادة الكفار تصريحا.
وفي العواصم وفي هذه وجهان:
أحدهما أن الله تعالى شرع قبول الكفار عند الحاجة إليهم وهم لا يستحقون التعظيم ومنصب التكرمة والتبجيل.
وثانيهما : ما أفاده قاوله "وفي هذه الآية جواز تخصيص العلة سواء كانت العدالة أو الظن" الأقوى فإنه قبل الظن الضعيف وهذا إشارة إلى منع السيد ابن أبي القاسم لتخصيص العلة كما في العواصم.
"الخامس" قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} [المائدة: 108] في العواصم فقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى} تنبيه ظاهرعلى أن المقصود قوة الظن وما هو أقرب إلى الصدق.
"السادس" قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] قال فيها وأصل الآية وإن كانت في الكتابة فقد دخلت معها الشهادة بقوله: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ} .
"السابع ورود الشرع بشاهد ويمين" قال فيها أيضا واليمين فيها تهمة للحالف ولا رفع فيها للتهمة البتة فقامت مقام إشهاد آخر في قوة الظن لا في التعظيم وهذا شاهد قوي على أن العلة قوة الظن.
"الثامن: رد حديث العدل المغفل الذي لا يتقن حديثه" وفي العواصم زيادة على هذا فإنه قال ولنذكر مسائل مما نص العلماء فيها على التعديل بالظن الأقوى قالوا إن من سمع الحديث من غير حجاب فروايته أولى ممن سمعه من وراء حجاب ولا شك أن العلة في هذا قوة الظن لا أن من سمع من غير حجاب أفضل.
الثانية: أن يكون أحد الراويين مثبتا والآخر نافيا مع أ المثبت ليس بأفضل من النافي.
الثالثة: أن يكون أحدهما عالما بالعربية والآخر غير عالم بها وإن كان عالما بما هو أفضل منها مما لا يتعلق بالرواية.
الرابعة: أن يكون أحد الراويين لا يجيز الرواية بالمعنى فإن روايته أرجح.
الخامسة: أن يكون أحد الراويين أكثر ذكاء وفطنة فإنه أرجح ممن ليس كذلك فإن الظن بصدقه أقوى.
وأمثال هذه المسائل مما لا تحصى كثرة وهي مذكورة في كتب الأصول.
"التاسع: أن علماء الأصول عملوا في باب الترجيح بتقديم خبر من قوى الظن بإصابته لا من كثر ثوابه ومنزلته عند الله تعالى" ومن ذلك قال العلماء لا يشهد العدل لنفسه ولا يحكم الحاكم لنفسه وإن كان عدلا تقيا وعللوه بقلة الظن المستفاد من العدالة لقوة الداعي الطبيعي إلى ذلك عند الحاجة والخصوصة ومحبة القلب وغيط الحاسد ومسرة الصديق من الدواعي الطبيعية المضعفة لعلة الصدق ولا يبقى فيها إلا ظن ضعيف لا يصح الاعتماد عليه في الحقوق ولما كانت الداعية الطبيعية قوية في شهادة الإنسان لنفسه وحكمه لنفسه أجمع أهل العلم على المنع من ذلك وقد عد المصنف في العواصم مسائل كثيرة من هذا.
"العاشر أن الإجماع انعقد على قبول من عصى تأويلا ولم يفسق ولم يكفر وإن كثر ذلك منه كخطأ كثير من المعتزلة في الإمامة وكثير من فروع الكلام ولا شك أن من كثرت معاصيه من غير تأويل أنه مجروح بل من عصى عمدا وإن لم يكثر إذا أصر أو كانت المعصية مما تدل على الخسة فدار الرد" للراوة والقبول لهم "مع الجراءة
والقبول مع التأويل في هذا الموضع" وهو حيث كان عصيانه متأولا متكررا ولم يوجب كفرا ولا فسقا فقلت:م أنه يقبل "فقسنا عليه" من عصى متأولا بما لا يوجب فسقا ولا كفرا قلت: ولا يخفى أنه قد يقال المعصية التي اقتضت فسقاأو كفر أشد مما لا يقتضيه وأغلط ولا يقاس الأخف على الأغلط كما علم في الأصول وفيما سبق من الأدلة غنية عن هذا القياس.
"فإن قيل" إذا كانت علة القبول هي ظن الصدق "يلزم قبول من ظن صدقه من المصرحين ورهان النصاري والبراهمة" أقول هذا أورده السيد علي بن محمدبن أبي القاسم صاحب الرسالة التي رد عليها المصنف بالعواصم فإنه قال وأما أن عللنا بتهمته بالكذب وترى أنه يعاقب عليه ويكون عند نفسه مطيعا لله تعالى فيلزم من أرباب الملل الخارجة عن الإسلام أن تقبل روايته مثل رهبان النصارى وعباد اليهود ومثل البراهمة فإنهم يتحرزون عن الكذب أشد تحرز ويتنزهون عنه أعظم تنزه. انتهى.
فأورد المصنف سؤالا وأجاب عنه بقوله "قلنا هذا مخصوص وتخصيص العلة جائز ولا بد للمخالف منه" أي من تخصيص علته التي علل بها فإنه علل بالعدالة وهي مخصصة كما أفاده قوله "فإن من علل العدالة خص من العدول المغفل" فإنها لا تقبل روايته مع عدالته لمانع تغفيله "والآية المقدمة في الوجه الرابع" وهي قوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} "حجة على تخصيص العلة فتأملها" بل خصصت شرطية إسلام الشاهد فضلا عن عدالته وهووأن كان الضرورة فقد صدق عليه أنه تخصيص علة.
"وقد بسطت القول في هذه المسألة" أي مسألة قبول المتأولين "في العواصم احتجاجا وسؤالا وانفصالا وجمعت فيها مالم يجمع في كتاب فيما أعلم ولعل الذي جمعت فيها يأتي جزءا وسطا" هو كما قال وذلك لأن السيد علي صاحب الرسالة أطال في القول بعدم قبول رواية فساق التأويل وكفاره واستدل بالكتاب والسنة والإجماع فأورد عليه المصنف من الإشكالات مائة وزيادة على سبعين إشكالا وشحها بعلوم وفوائد لم يشتمل عليها سوى كتابه كتاب "وذلك لكثرة الحاجة إليها وأنبناء كثير من الأحكام الشرعية عليها فمن أراد الإستقصاء فليطالعها في هذا الكتاب المشار إليه" في كتاب العواصم في الجزء الأول منه وقد نقلنا في غضون هذه الأبحاث زبدا منه
مما يتعلق بذلك وهذا غير ما ذكره أئمة الحديث في المسألة.
"وأما ما ذكره الحدثون في هذه المسألة فقد ذكروا في فساق التأويل أقوالا" ثلاثة فيما يتعلق بفساق التأويل فقط.
"الأول: أهم لا يقبلون كالمصرحين" أي كما لا نقبل الفاسق فسقا صريحا "روى" هذا القول "عن مالك وقال ابن الصلاح: إنه بعيد متباعد الشائع عن أئمة الحديث فإن كتبهم طافحة بالرواية عن المبتدعة غير الدعاة كما سيأتي" ومن المبتدعة فساق التأويل.
وقال السخاوي في شرح ألفية الزين قال الخطيب في الكفاية إن هذا القول يروى عن طائفة من السلف منهم مالك وكذا نقله الحاكم عنه ونصه في المدونة في غير موضع يشهد له وتبعه أصحابه وكذا جاء عن القاضي أبي بكر الباقلاني وأتباعه بل نقله الآمدي عن الأكثر وجزم به ابن الحاجب انتهى وقال السخاوي أيضا بعد نقله كلام ابن الصلاح ما لفظه وكذ ا قال شيخنا يريد به الحافظ ابن حجر إنه يفيده قال وأكثر ما علل به أن في الرواية ترويجا لأمره وتنويها بذكره وعلى هذا لا ينتفي أن يروى عن مبتدع شيئا يشاركه فيه غير مبتدع.
قلت: وإلى هذا التفصيل مال ابن دقيق العيد حيث قال إن وافقه غيره فلا يلتفت إليه إخمادا لبدعته وإطفاء لناره يعنى أنه كما يقال من عقوبة الفاسق المبتدع أن لا تذكر محاسنه وإن لم يوافقه ولا يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع ما وصفناه من صدقه وتحرزه عن الكذب واشتهاره بالتدين وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته.
القول "الثاني: إن كان يستحل الكذب لنصرة مذهبه لم يقبل وإلا قبل وإن كان داعية إلى مذهبه عزاه الخطيب إلى الشافعي" كما نقله عنه الخطيب في الكفاية لأنه قال أقبل من غير الخطابية ما نقلوا قال لأنهم يرون شهادة أحدهم لصاحبه فمن لم يستحل الكذب كان مقبولا لأن اعتقاد حرمة الكذب تمنع من الإقدام عليه فيحصل صدقه قال الخطيب ويحي أيضا أن هذا مذهب ابن أبي ليلى وسفيان الثوري ونحوه عن أبي حنيفة بل حكاه الحاكم في المدخل عن أكثر أئمة الحديث وقال الفخر الرازي في المحصول إنه الحق ورجحه ابن دقيق العيد.
"الثالث" من الأقوال في المسألة "إن كان" فاسق التأويل أو كافره "داعية إلى مذهبه لميقبل وإلا قبل وهو مذهب أحمد" بن محمد بن حنبل "كما قاله الخطيب قال ابن
الصلاح: وهذا مذهب الكثير أو الأكثر وهو أعد لها وأولاها قال ابن حبان هو قول أئمتنا قاطبة لا أعلم بينهم فيه خلافا" عبارة الزين ونقل ابن حبان فيه الإتفاق فغيرها المصنف إلى أنه قال لا نعلم فيها خلافا.
وقد نقل السخاوي في شرح الألفية الخلاف في ذلك فكأنه لذلك غير المصنف العبارة وعبارة ابن حبان في ترجمة أحمد بن جعفر بن سليمان الضبعي في ثقاته بلفظ ليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعوا إليها إن الاحتجاج بأخباره جائز فإذا دعا إليها سقط الاحتجاج بأخباره انتهى.
قال السخاوي بعد نقله وليس صيرحا في الإتفاق لا مطلقا ولا بخصوص الشافعية ثم قال وقد قال شيخنا إن ابن حبان أعرب في حكاية الأتفاق قلت: هذا تقرير من شيخه وهو الحافظ ابن حجر أن عبارة ابن حبان تفيد الإتفاق على قبول ذي البدعة غير الداعية إذا كان صدوقا وهي تفيده في إتقاف أئمة الشافعية وإن قال السخاوي ما قال ولكن يشترط مع هذين أعني كونه صيدوقا غير داعية أن لا يكون الحديث الذي يحدث به مما يعضد بدعته ويشدها ويزينها فأنا لا نأمن حينئذ عليه غلبة الهوى أفاده شيخنا وإليه يومي كلام ابن دقيق العيد الماضي بل قال شيخنا نص على هذا القيد في المسألة الحافظ أبو إسحق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني شيخ النسائي "وكذا حكى بعض أصحاب الشافعي عن أصحاب السافعي أنهم لا يتختلفون في ذلك" هذا كله في فساق التأويل.
"وأما كفار التأويل فلم يذكرهم كثير منهم" أي من أئمة الحديث "لأنهم لا يقولون بتكفير أحد من أهل القبلة إلا من علم كفره بالضرورة من الذين كالباطية ومنهم من ذكرهم فحكى الخلاف فيهم ممن ذكرهم زين الدين بن العراقي فحكى عن إمام المحدثين بلا مدافعة الحافظ الثبت الخطيب البغدادي الشافعي أنه حكى عن جماعة من أهل النقل ولامتكلمين أنهم يقبلون أهل التأويل وإن كانوا كفارا أو فساقا قال زين الدين واختاره يصاحب المحصول قلت: الجمهور منهم على رد الكافر قال زين الدين ونقله السيف الآمدي عن الأكثرين وبه جزم أبو عمرو بن الحاجب" فإنه قال في مختصر المنتهى ولامبتدع بما يتضمن التكفير كالكافر عند المكفر وأما غير المكفر فكالبدع الواضحة ثم اختار رد أهل البدع الواضحة.
قال السخاوي: وحكى الخطيب في الكفاية عن جماعة من أهل النقل والمتكلمين أن أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة وإن كانوا كفارا أو فساق التأويل.
"وقال: صاحب المحصول: الحق أنه إن اعتقد حرمة الكذب قبلنا روايته وإلا فلا لأن اعتقاد حرمة الكذب يمنعه منه" .
قال السخاوي قال شيخنا والتحقيق أنه لا يرد كل مكفر ببدعة لأن كل طائفة تدعى أن مخاليفها مبتدعة وقد تبالغ فتكفرها فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا معلوما من الدين بالضرورة أي إثباتا ونفيا فأما من لم يكن بهذه الصفة وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله أصلا وقال أيضا ولاذي يظهر أن نحكم بالكفر على من كان الكفر صريح قوله وكذا من كان لازم قوله وعرض عليه فالتزمه أمامن لم يلتزمه وناضل عنه فإنه لا يكون كافرا ولو كان اللازم كفرا قال وينبغي حمله على غير القطعي ليوافق كلامه الأول.
وسبقه ابن دقيق العيد فقال الذي تقرر عندنا أن لا تعتبر المذاهب في الرواية إذ لا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بإنكار قطعي من الشريعة فإذا اعتبرنا ذلك وانضم إليه التقوى والورع فقد حصل معتمدالرواية وهذا مذهب الشافعي حيث قال تقبل رواية أهل الأهواء قال وأعراض الناس حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام قال الشافعي في الأم ذهب الناس في تأويل القرآن الأحاديث إلى أمور تباينوا فيها ثباينا ششديدا واستحل بعضهم من بعض بما تطول حكايته وكان ذلك متقادما منه ما كان في عهد السلف وإلى اليوم فلم نعلم من سلف الأمة ممن يقتدي به ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله ورآه استحل ما حرم الله عليه ولا يرد أحد بشيء من التأويل كان له وجه يحتمل وإن بلغ فيه استحلال الدم والمال انتهى نقله السخاوي في شرحه.
* * *
قال المصنف "ونلحق بهذه مسائل" خمس:
"المسألة الأولى" :
"من كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولو مرة واحدة وكان متعمدا ويظهر تعمده بإقراره أو نحوه بحيث ينتفي أن يكون أخطأ أو نسى "ثم تاب وحسنت توبته فإنه لا تقبل روايته أبدا" في شيء مطلقا سواء كان المكذوب فيه أو غيره ولا يكتب عنه شيء ونحتم جرحه أبدا نعلم قال الإمام تقبل توبته بينه وبين الله وعدم قبوله مطلقا هو "كما قال غير واحد من أهل العلم منهم الإمام أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي" وهو يصاحب الشافعي وشيخ البخاري واسمه عبد الله بن الزبير ونقله الخطيب في الكفاية والحازمي في شروط الستة عن جماعة والذهبي عن رواية ابن معين وغيره.
واعلم أنه يلتحق بتعمد الكذب في هذا الحكم من أخطأ ثم أصر على خطئه وصمم بعد بيان ذلك له مما يوثق بعلمه مجرد عناد.
قال السخاوي وأما من كذب عليه في فضائل الأعمال معتقدا أن هذا لا يضر ثم عرف ضرره وتاب فالظاهر كما قال بعض المتأخرين قبول روايته وكذا من كذب دفعا لضرر يلحقه من عدو.
قال اللصيرفي وليس بطعن على المحدث إلا أن يقول تعمدت الكذب فهو كاذب في الأول أي الخبر الذي رواه واعترف بالكذب فيه ولا يقبل خبره بعد ذلك أي مؤاخذة له بإقراره.
قال النووي ولم أر للقول بعدم قبوله دليلا ويجوز أن يوجه بأن ذلك جعل تغليظا وزجرا بليغا عن الكذب عليه صلى الله عليه وسلم لعظم مفستدته فإنه يصير شرعا مستمرا إلى يوم القيامة ثم قال وهذا الذي ذكره الأئمة ضيعف مخالفللقواعد الشرعية والمختار القطع بصحة توبته في هذا أي في الكذب عليه صلى الله عليه وسلم وقبول رواياته بعدها إذا صحت توبته بشروطها المعروفة قال فهذا هو الجاري على قواعد الشرع وقد أجمع على صحة رواية من كان كافرا فأسلم قال وأجمعوا على قبول شهادته والرواية في هذا وكذا قال في الإرشاد هذا مخالف لقاعدة مذهبنا ومذهب غيره انتهى.
وقال الذهبي إن من عرف بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يحصل لنا ثقة بقوله إني تبت يعني كما قيل في مسألة المعترف بالوضع قلت: وما كان يحسن من المصنف ذكر المسألة من دون ذكر دليلها ويأتي له تفصيل فيها.
"وأما الكذب في حديبث الناس وغيره من أسباب الفسق فنقبل رواية التائب منه وممن ذكر هذه المسألة أبو بكر الصيرفي الشافعي" فإنه ذكر في كتبه في الأصول أنه لا يعمل بذلك الخبر ولا بغيره من روايته "وزاد أيضا أن من ضفنا خيره لم نجعله قويا وذكر أبو المظفر السمعاني أن من كذب في خبر واحد وجب إسقاط ما تقدم من حديثه" لأنه صار محل ريبة.
"قلت: كلامهم في رد الكذب في الحديث ولو بعد إظهار التوبة فوى فيما يتعلق" من الأحاديث "بالمصالح لئلا يتوصل الكذابون بإظهار التوبة إلى قبول أباطيلهم" هذا في التضعيف بالكذب "وأما من ضعف من أجل حفظه" وهو الذي زاده الصيرفي "ثم قوى حفظه وهو من أهل الديانة والصدق فلا وجه لقول الصيرفي إنا لا تجعله قويا والله أعلم" قلت: كما لا وجه لرد رواية الكذاب في الحديث بعد صحة توبته إذ بعدصحتها قد اجتمعت فيه شروط الرواية فالقياس قبوله.
* * *
"المسألة الثانية"
"من روى عن ثقة فكذبه الثقة والمسألة مشهورة في الأصول" وذلك أنه قد تعارض كلام الراوي والمروي عنه فذلك صرح بالراية وهو ثقة وشيخه صرح بكذبه عليه.
فلذا قال المصنف: "والصحيح فيها أنها موضع اجتهاد" إذ لكل جهة ترجيح أما الراوي فلكونه مثبتا
أما الشيخ فلكونه نفى ما يتعلق به مع احتمال نسيانه "فينظر في أيهما أصدق وأحفظ وأكثر جزما وأقل ترددا وكذلك أيهما أكثر" من الكثرة بالثلثة "الفرع" وهو الراوي "أو الأصل" وهو شيخه.
"فقد يدعي الواحد على الجماعة فيكذبونه والجماعة على الواحد فيكذبهم فإذا استوفيت طرق الترجيح" المعروفة في الأصول وغيرها مما يقود إليه المقام "حكم بالراجح" وقال التاج السبكي عدالة كل واحد منهما متيقنة وكذبه مشكوك فيه ولايقين لا يرفع بالشك فتساقطا يعني فيقبل الخبر وهو اختيار أبي المفظر السمعاني وبه قال أبو الحسن القطان وقد عرفت ما حققه النووي والمصنف جنح إلى الترجيح مستدلا
بقوله "فإنهما خبران متعارضان فيجب استعمال طرق الترجيح" المعروفة "بينهما كسائر الأخبار المتعارضة" وإلى الترجيح مال الفخر الرازي وقال إن الرد إنما هو عند التساوي فلو رجح أحدهما عمل به "ولا يلزم جرح واحد منهما" بكذيبه الآخر وأما تكذيب الشيخ فواضح وأما تكذيب الفرع له فلأن جزمه بكونه حدثه يستلزم تكذيبه في دعواه أنه كذب "لاحتمال النسيان" من الأصل "والقطع بالتأويل فقد يقول" الأصل "لو كان لذكرت ونجعل هذا دليلا قاطعا" على كذب الفرع "وهو موضع النزاع" لأن الفرع يقول أنه نسي والأصل يزعم أنه لم ينس.
"والغالب في هذه المسألة سقوط الحديث بالتعارض" بين الأصل وفرعه "ولكن هذا الغالب لا يوجب إسقاط الحكم النادر إذا قويت القرائن بنسيانه وغلب في الظن صدق الراوي عنه" فإن النظر إلى القرائن والترجيح بها لا بد منه.
"وهذا كله" من الحكم المذكور "إذا كذبه" أي كذب الأصل فرعه "أما إذا قال أنسيت" بالبناء للمجهول "ولم يقطع بتكذيبه صدق" أي الفرع في روايته قال السخاوي فإن جزم بالرد بدون تصيرح كقوله ما رويت هذا أو ما حدثت به قط أو أنا عالمأنني ما حدثتك أو لم أحدثك فقد سوى ابن الصلاح تبعا للخطيب وغيره بينهما أيضا وهو الذي مشى عليه شيخنا في توضيح النخبة لكن قال في الفتح الراجح عندهم أي المحدثين القبول وتمسك بصنع مسلم حيث أخرج حديث عمرو بن دينار عن أبي معيد عن ابن عباس ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير مع قول أبي معبد لعمرو لم أحدثك به فإنه دال على أن مسلما كان يرى صحة الحديث ولو أنكره راويه إذا كان الناقل عنه عدلا وكذا صحح الحديث البخاري وغيره وكأنهم حملوا الشيخ في ذلك على النسيان ويؤيده قول الشافعي في هذا الحديث بعينه كأنه نسى.
"وقيل هذا" أي تصديقه إذا لم يصرح بتكذيبه "مذهب جمهور الفقهاء والمحدثين وأهل الأصول" .
قال السخاوي وصححه غير واحد منهم الخطيب وابن الصلاح وشيخنا بل حكى فيه إتفاق المحدثين لأن الفرض أن الراوي ثقة جزما فلا يطعن فيه بالاحتمال إذ المروى عنه غير جازم بالنفي بل جزم الراوي فيه وشكه قرينة لنسيانه "خلافا لبعض أصحاب أبي حنيفة" فقالوا برده "وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أصحاب أبي
حنيفة" كلهم لكن قال السخاوي في التعميم نظر إلا أن يريد المتأخرين منهم.
قلت: ونسبه في شرح مسلم للكرخي ولكنه قال الكيا الطبري إنه لا يعرف لهم في مسألتنا بخصوصها كلام إلا أن أخذ لهم ذلك في ردهم حديث: "إذا نكحت المرأة بدون إذن وليها فنكاحها باطل" 1 لأنه جعل ابن الصلاح من أمثلة من حدث فنسى.
قلت: قال ابن الصلاح: إن الحنفية ردوا حديث سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نكحت المرأة الحديث من أجل أن ابن جريج قال لقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. انتهى.
"وأما إذا روى الشيخ ذلك الخبر لغير هذا الذي كذبه الشيخ أو روى عنه ثقة آخر قبل كذا ذكره الزين قلت: إذا كان إنما أنكر رواية ذلك الفرع عنه ولم ينكر أنه يروى الحديث أو أنه رواه لغيره قبل ذلك منه" لعدم الريبة في الشيخ "وإلا" أي وغلا ينكر الشيخ رواية الفرع فقط بل أنكر الحديث نفسه "لم تقبل من الشيخ روايته إذا وقعت قبل الأنكار ولا رواية غيره عنه قبله أيضا لأن اضطراب يقدح في الحديث كما تقدم وهذا أشد من الاضطراب" إذ هو قبول للحديث مع الريبة في الرواة "إلا أن يحكم بقبول الجميع ويجعلها" أي روايات الشيخ وفرعه "توابع يقوي بعضها بعضا فقبولها قوي إما إذا استفاد" الشيخ الحديث الذي أنكر التحديث به "بعد" أي بعد إنكاره "فرواه وروى عنه" عن فرعه "فلا إشكال" لأنه حدث به بعد يقين لحمله له من الثقة.
وكأنه يشير إلى مثال معروف للمسألة وهو ما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من رواية ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد2 زاد أبو داود في رواية أن عبد العزيز الدراوردي قال ذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبدالعزيز وقد كانت أصابت سهيلا على أذهبت بعض عقله ونسى بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدث عن ربيعة عن أبيه وزاد أبو داود
ـــــــــــــــــــ
1 أحمد 6/66, 166, والدارمي 2/137, والحاكم 2/168, والإرواء 6/243, وقال: صحيح.
2 مسلم في: الأقضية: حديث 3/, وأبو داود في: الأقضية: ب 21, وابن ماجة في: الأحكام: ب 31, وأحمد 1/248.
أيضا من رواية سليمان بن بلال عن ربيعة قال فلقيت سهيلا فسألته عن قصة الحديث فقال ما أعرفه قلت: أن ربيعة أخبرني به عنك قال إن كان ربيعة أخبرك عني فحدث به عن ربيعة عني.
"وقد كره جماعة من العلماء التحديث عن الأحياء من العلماء لأن النسيان غير مأمون على الإنسان فيبادر إلى جحود ما روى عنه" قال السخاوي1 لكن قد قيد هذه الكراهة بعض المتأخرين بما إذا كان له طريق أخر غير طريق آخر غير طريق الحي أما إذا لم يكن له سواها وحدث فلا معنى للكراهة لما في الإمساك من كتم العلم وقد يموت الراوي قبل المروى عنه فيضيع العلم وهذا حسن إذا المصلحة محققة والمفسدة مظنونة وكذا يحسن تقييد ذلك بما إذا كانا في بلد واحد أما إذا كانا في بلدتين فلا لاحتمال أن يكون الحامل له على الإنكار النفاسة.
وقد حدث عمرو بن دينار عن الزهري2 بأشياء وسئل الزهري عنه فأنكره فاجتمع بالزهري فقال أليس يا أبا بكر قد حدثتني بكذا فقال ما حدثتك به ثم قال والله ما حدثت به وأنا حي إلا أنكرته حتى توضع أنت في السجن انتهى قلت: إذا صحت هذه عن الزهري فهي قادحة فيه.
"روى عن الشعبي أنه قال لابن عون لا تحدثني عن الأحياء" رواه عن الشعبي الخطيب في الكفاية3 بأسناده إليه "وعن معمر أنه قال لعبد الرزاق أن قدرت أن لا تحدث عن رجل حي فافعل" رواه عنه أيضا الخطيب في الكفاية4.
"وعن الشافعي أنه قال لابن عبد الحكم" واسمه محمد بن عبد الله "إياك والرواية عن الأحياء وفي رواية البيهقي" في المدخل "قال" الشافعي لابن الحكم "لا تحدث عن الحي فإن الحي لا يؤمن عليه النسيان قاله" الشافعي لابن عبد الحكم "حين حكى عنه حكاية فأنكرها ثم ذكرها" .
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 2/85.
2 الزهري هو: أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب المدني. قال ابن منجويه: رأى عشرة من الصحابة وكان من أحفظ أهل زمانه فقيها فاضلا. مات سنة 124. له ترجمة في: العبر 1/158, ووفيات الأعيان 1/451, وشذرات الذهب 1/162.
3 ص 139.
4 ص 140.
قال السخاوي وذلك فيما روينا في مناقبه والمدخل كلاهما للبيهقي من طيرق أبي سعيد الخصاص عن محمد بن عبدالله بن عبد الحكم قال سمعت من الشافعي حكاية فكيتها عنه فنميت إليه فأنكرها قال فاغتم أبي لذلك غما شديدا وكنا نجله فقلت: له أنا أذكره لعله يتذكر فمضيت إليه فقلت: يا أبا عبد الله أليس تذكر يوم كذا وكذا في الإسلام فوقفته عن الكلمة فذكرها ثم قال يا محمد لا تحدث عن الحي فإن الحي لا يؤمن عليه أن ينسى1. انتهى.
"المسألة الثالثة" :
"من أخذ أجرة على الرواية اختلفوا" أي أئمة الحديث "فيه" أي في قبول من أخذ أجرة على التحديث2 "منهم من لم يقبله وهو مذهب أحمد" ابن حنبل "وإسحق" بن راهويه "وأبي حاتم الرازي3" قالوا "لأنه يخرم من مروءة الإنسان وإن استحله" الأخذ أي رآه حلالا لأنه قد تقدم في رسم العدالة أنه لا بد من السلامة عما يخرم المروءة فمن خرمها فليس بعدل "بخلاف أخذ الأجرة على القرآن" أي على تعليمه قالوا لأن هناك العادة جارية بأخذ الأجرة فلا يخرم مروءة الآخذ قالوا "و" لأن "الظن يساء بفاعل ذلك" أي فاعل قبض الأجرة على الرواية.
قال الخطيب وإنما منعوا ذلك تنزيها للراوي عن سوء الظن به فإن بعض من كان يأخذ الأجرة على الرواية. عثر على تزيده وادعائه مالم يسمع لأجل ما كان يعطي ولذا بالغ شعبة فيما يروي عنه وقال لا تكتبوا عن الفقراء شيئا فإنهم يكذبون4.
ـــــــــــــــــــ
1 التقييد والإيضاح ص 131- 132. وفتح المغيث للعراقي 2/31. وتدريب الراوي 1/337.
2 في التعليقة السابقة خلاف هؤلاء العلماء حاصل في أخذ المحدث العوض عن التحديث من تلاميذه الذين ينقطع هو لهم.
فإما أن يأخذ المحدث من بيت مال المسلمين ما يقوم بحاجاته وحاجات من تجب عليه نفقتهم جزاء احتباسه لذلك فليس بموضوع خلاف بينهم والله اعلم.
3 أنظر علوم الحديث ص 107. و فتح المغيث للعراقي 2/31, وتدريب الراوي 1/337.
4 أنظر الكفاية ص 154, 155.
"قال الزين إلا أن يقترن بذلك عذر ينفي ذلك عنه" أي سوء الظن وخرم المروءة "كما روى عن أبي الحسين بن النقور1" ضبط بالنون والقاف آخره راء "أنه فعل ذلك" أي أخذ الأجرة على الرواية "لأن أصحاب الحديث منعوه عن النكب لعياله فأفتاه بجوازذلك في هذه الحال الشيخ أبو اسحق الشيرازي2" فهذا مع العذر وأما مع عدمه فتقدم من منع ذلك.
"ومنهم من رخص فيه" أي في أخذ الأجرة "منهم أبو نعيم الفضل بن دكين" بالدال المهملة مضمومة "شيخ البخاري" روى عنه فأكثر وروى عنه الإمام أحمد وإسحق بن راهوية وابن المبارك وخلق وكان أبو نعيم من أحفظ الناس وأشدهم إتقانا وثقة الأئمة وكان يأخذ العوض على التحديث بحيث أنه كان إذا لم يكن معهم دراهم صحاح بل مكسورة أخذ صرفها ذكره البخاري3.
ومنهم عفان أحد الشيوخ الحفاظ الأثبات شيخ البخاري أيضا قال حنبل سمعت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل يقول شيخان كان الناس يتكلمون فيهم ويذكرونهما وكنا نلقي من الناس في أمرهما ما الله به عليم قاما الله بأمر لم يقم به أحد أو كثير أحد يقل ما قاما به عفان ونعيم يعني بقيامهما عدم الإجابة في المحنة وتكلم الناس فيهمامن أجل أنهما كانا يأخذان على التحديث4.
وقد عد السخاوي جماعة أخذوا على التحديث قال ابن حزم سمعت أبا نعيم يقول يلومونني على الأخذ ويف بيتي ثلاثة عشر وما في بيتي رغيف.
* * *
"المسألة الرابعة" :
"رد أهل الحديث من عرف بالتساهل في السماع كالنوم" أي كمن ينام هو أو شيخه "في حال السماع" ولا يبالي بذلك ولذا قال "سواء صدر من الشيخ أو من التلميذ فإنه قدح فيمن صدر عنه ثم اعتد بذلك السماع من غير تمييز لما سمعه مما نام عند سماعه"
ـــــــــــــــــــ
1 له ترجمة في: تاريخ بغداد 4/381- 382, والعبر 3/272.
2 فتح المغيث للعراقي 2/33, والعبر 3/272- 273.
3 الكفاية ص 156. وسير أعلام النبلاء 10/125.
4 تاريخ بغداد 12/348- 349.
وذلك لأنه يثبت ماسمع ولا بضبطه رد أهل الحديث روايته "ومثل من روى الحديث من غير أصل مقابل على أصله أو أصل شيخه" مع كونه هو أو القارئ أو بعض السامعين غير حافظ كما يأتي في بابه ومن ذلك من كان يحدث بعد ذهاب أصوله واختلاج حفظه كابن لهيعة حكاه هشام بن حسان.
قال جاء قوم ومعهم جزء قالوا سمعناه من ابن لهيعة فنظرت فلم أجد فيه حديثا واحدا من حديثه فأتيته فأعلمته بذلك فقال ما أفعل يجيئوني بكتاب فيقولون هذا من حديثك فأحدثهم به1 قال السخاوي2 ولاظاهر أن الرد بذلك ليس على الإطلاق وإلا فقد عرف به أئمة من الجماعة المقبولين وكأنه لما انضم إليهم من الثقة وعدم الإتيان بمالا ينكر.
"وكذا" رد "من عرف بقبول التلقين" الباطل مما يتقنه إياه والتلقين في اللغة التفيهم وفي العرف إلقاء كلام إلى الغير "في الحديث" أي إسنادا أو متنا وبادر إلى التحديث بذلك ولو مرة.
"وهو أن يلقن الشيء فيحدث به من غير أن يعلم أنه من حديثه" فلا يقبل لدلالته على مجازفته وعدم تثبته وسقوط الوثوق بالمتصف به.
"كموسى بن دينار" في الميزان قال علي سمعت يحيى القطان قال دخلت على موسى بن دينار أنا وحفص فجعلت لا أريده على شيء إلا لقنته وقال أبو حاتم مجهول وقال الدار قطني ضعيف "ونحوه وكذلك" ردوا "حديث من كثرت المناكير والشواذ في" الروايات من "حديثه" قال ابن الصلاح: في وجه رده وذلك لأنه يخرم الثقة بالراوي وضبطه "كما قال شعبة لا يجيئك الحديث الشاذ إلا من الرجل الشاذ3" أي النادر وجوده في الرواة.
"وكذلك قيل له" أي لشعبة "من الذي يترك الرواية عنه قال إذا أكثر من الرواية عن المعروف بما لا يعرف أو أكثر غلطه" وقال القاضي أبو بكر الباقلاني فيما حكاه الخطيب عنه4 من عرف بكثرة الغفلة والسهو وقلةالضبط رد حديثه.
ـــــــــــــــــــ
1 الكفاية ص 152. وسير اعلام النبلاء 8/24. والمجروحين 1/69.
2 فتح المغيث 2/101.
3 الكفاية ص 141. والمحدث الفاضل ص 410. وعلوم الحديث ص 108.
4 الكفاية ص 152.
قال السخاوي1 وأما من لم تكثر شواذه ولا مناكيره أو كثر ذلك مع تمييزه له وبيانه فلا يرد.
"وكذلك ردوا حديث من عرف بكثرة السهو إذا لم يحدث عن أصل صحيح وأما من أصر على غلطه بعد البيان فورد عن ابن المبارك وأحمد ابن حنبل والحميدي وغيرهم أنها تسقط روايته ولا يكتب عنه2" لأن إصراره على الغلط يبطل الثقة بقوله "قال ابن الصلاح: وفي هذا نظر" قال السخاوي وكأنه لقوله قد لا يثبت عنه ما قيل إما لعدم اعتقاده علم المبين له وعدم أهليته أو لغير ذلك.
"وهو غير مستنكر إلا إذا ظهر أن ذلك منه على جهة العناد أو نحو ذلك وقال ابن مهدي لشعبة من الذي تترك الرواية عنه فقال إذا تمادى على غلط مجمع عليه ولا يتهم نفسه عند الإجتماع" أي إجتماع الحفاظ "على خلافه" أي خلاف مارواه "أو رجل يتهم بالكذب وقال ابن حبان إن من تبين له خطأه وعلم" بخطئه "فلم يرجع عنه وتمادى" في ذلك "كان كذابا بعلم صحيح" قال التاج التبريزي لأن المعاند كالمستخف بالحديث بترويج قوله بالباطل وأما إذا كان عن جهل فأولى بالسقوط لأنه ضم إلى جهله إنكاره الحق وكان هذا يفمن يكون يف نفسه جاهلا مع اعتقاده علم من أخبر.
* * *
"المسألة الخامسة" :
"قال زين الدين ما معناه أعرض الناس في هذه المصور المتأخرة عن اعتبار مجموع هذه الشروط" التي شرحت فيما مضى في الراوي وضبطه فلم يتقيد وابها في علمهم "لعسرها وتعذر الوفاء بها" بل استقر عندهم العمل على اعتبار بعضها كما أشار إليه بقوله "فيكتفي في أهلية الشيخ كونه مسلما بالغا عاقلا غير متظاهر بالفسق وما يخرم المروءة" زاد لزين ظاهرا والمراد بكونه مستور الحال فهذا في العدالة.
"ويكتفي في اشتراط ضبط الراوي بوجود سماعه مثبتا بخط ثقة غير متهم وبروايته من أصل موافق الأصل شيخه وقد سبق إلى نحو ذلك" أي ماقاله الزين الحافظ الكبير أبو بكر "البيهقي لما ذكر توسع من توسع في السماع من بعض محدثي زمانه الذي لا
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 2/105.
2 أنظر الكفاية ص 117- 118, وفتح المغيث للعراقي 2/34.
يحفظون حديثهم ولا يحسنون قراءته من كتبهم ولا يعرفون ما يقرأ عليهم بعد أن تكون القراءة عليهم من أصل سماعهم وذلك" أي وجه الأكتفاء بما ذكر وكأنه نقل كلام البيهقي بمعناه وعبارة ابن الصلاح بلفظ ووجه ذلك يعني البيهقي بأن الأحاديث التي قد صحت أو وقفت بين الصحة والسقم قد دونت في الجواع التي جمعها أئمة الحديث ولا يجوز أن يذهب على جميعهم وإن جاز أن يذهب على بعضهم لضمان صاحب الشريعة حفظها "لتدوين الحديث في الجوامع التي جمعها أئمة الحديث" .
"قال" البيهقي "فمن جاء اليوم بحديث لا يوجد عند جميعهم" أي الأئمة الجامعين للأحاديث التي عرفت عندهم "لم نقبل منه" لأنه يبعد أن لا يأتي أحد من الأئمة في كتبهم "ومن جاء بحديث معروف عندهم فالذي يرويه" حال كونه "لا ينفرد بروايته" بل رواه غيره "فالحجة قائمة بحديثه من رواية غيره" فأن قيل فما فائدة السماع منه فجوابه قوله "والقصد بروايته والسماع منه أن يصير الحديث مسلسلا بحدثنا وأخبرنا وتبقى هذه الكرامة" وهي سلسلة الإسناد بلفظ التحديث والأخبار "التي خصت بها هذه الأمة" فإنه لم يكن ذلك في الأمم الماضية "شرفا" خبر ليبقى على أنه فعل ناقض على قول أو مفعول له أو حال من الكرامة "لنبينا صلى الله عليه وسلم" تبقى أخباره على هذه الطريقة التي لا انقطاع فيها1.
قلت: ولا يعزب عن ذهنك أن المصنف قد سرد في آخر بحث المرسل هذه الفائدة وزاد عليها فائدتين فتذكر "وكذا الاعتماد في روايتهم على الثقة المفيد لهم لا عليهم" والحاصل أنه لما كان الغرض أولا معرفة التعديل والتجريح وتفاوت المقامات في الحفظ والإتقان ليتوصل بذلك إلى التصحيح والتحسين والتضعيف حصل التشديد بمجموع تلك الصفات ولما كان الغرض آخرا هو الاقتصار في التحصيل على مجرد وجود السلسلة السندية اكتفوا بمامر ذكره وتقريره "وهذا كله توصل من الحفاظ إلى حفظ الأسانيد إذ ليسوا من شرط الصحيح إلا على وجه المتابعة فولا رخصة العلماء لما جارت الكتابة عنهم" لأنهم ليسوا على شرط من كتب حديثه "ولا" جازت "الرواية إلا عن قوم منهم" انتهى كلام الحافظ البيهقي.
"قال زين الدين وهذا هو الذي استقر عليه العمل قال الذهبي في مقدمة كتابه
ـــــــــــــــــــ
1 علوم الحديث 109. وفتح المغيث للعراقي 2/35, وفتح الباقي 1/347- 348.
الميزان العمدة في زماننا يلس على الرواة بل على المحدثين والمفيدين الذين عرفت عدالتهم وصدقهم في ضبط أسماء السامعين قال ثم من المعلوم أنه لا بد من صون المروى وستره" أي صائنا لعرضة ساترا لنفسه عن الأدناس وما يعيببه عليه الأكياس من الناس كذا فسره البقاعي ويظهر لي أنه أراد صوته لكتاب سماعه بدليل قوله المروي وستره له عمن بغيره ويفسده والله أعلم.
واعلم أنه ذكر هذا في الميزان علة لقوله وكذلك من قد تكلم فيه من المتأخرين لا أورد منهم إلا من قد تبين ضعفه أو على التوقف منه واتضح أمره من الرواة والعمدة إلى آخره.
ثم قال والحد الفاصل بين المتقدم والمتأخر هو رأس ثلثمائة ولو فتحت على نفسي تلبين هذا الباب لما سلم مني إلا القليل إذا الأكثر لا يدرون ما يرو ولا يعرفون هذا الشأن إنما سمعوا في الصغر واحتيج إلى علو سندهم في الكبر فالعمدة على من قرألهم وعلى من أثبت صفات السماع لهم انتهى.
"قلت: هذا الذي يرجع إليه أهل الحديث هو بعينه الذي بدأ به أهل البيت عليهم السلام" أي الزيديه منهم فإنه قد عد المنصف في العواصم عدة من علماء أهل البيت ليسوا على مذهب الزيدية بل في كل فرقة من فرق الأئمة الأربعة علماء من أهل البيت مذاهبهم على طربقة من هم بين اظهرهم "وهو قبول المراسيل من العدول الثقات الأمناء" وذلك لأن هؤلاء الرواة من المتأخر ين صرح أئمة الحديث بأنه ليس الإعتماد عليهم بل على المحدثين المفيدين وإذا كان الأعتماد عليهم لم يكونوا الإعتماد عليهم بل على المحدثين المفيدين وإذا كان الإعتماد عليهم لم يكونوا رواة فالذي يروي من طريقهم مرسل وإن كان موصولا صورة "ولكن لابد من تقييد المراسيل بما تقدم في بابها والله أعلم" حيث قال فأن المتأخرين من المحدثين وافقوا على قبول المراسيل وهو ملنص على صحته ثقه عارف بهذا الشأن لارتفاع العلل الموهية للمراسيل عن هذا النوع إلى آخر كلامه هنالك.
* * *
مسألة: 50 [في ذكر مراتب التعديل]
من علوم الحديث ذكر "مراتب التعديل" مصدر عدله نسبه إلى العدالة مثل فسقه "قال زين الدين هذه الترجمة معقود لبيان ألفاظهم في التعديل التي يدل تغابرها على تباين أحوال الرواة في القوة وقد رتب ابن أبي حاتم" هو الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن الإمام أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي1 "في مقدمة كتاب الجرح والتعديل2 طبقات ألفاظهم فيها فأجاد وأحسن" كما قاله ابن الصلاح3 "وقد أوردها ابن الصلاح وزاد فيها ألفاظا أحذها من كلام غيره" أي غير ابن أبي حاتم "قال زين الدين وقد زدت عليها ألفاظا من كلام أهل هذا الشأن غير متميزة بقلت" أي لا يميزها عن غيرها بقوله قلت: "ولكنني أوضح ما زدته عليها هنا إن شاء الله تعالى" انتهى كلام الزين."ثم قال مراتب التعديل أربع أوخمس" وقال السخاوى4 ست وسأوضح مازاده.
"فالمرتبة الأولى العليا من ألفاظ التعديل ولم يذكرها ابن أبى حاتم ولاابن الصلاح فيما زاده عليه وهو أن يكرر لفظ التوثيق الذكور في هذه الرتبة الأولى إما مع تباين اللفظين" مع تقارب المعنى.
"كقولهم ثبت" بسكون الموحدة الثابت القلب واللسان والكتاب وأما ثبت بالفتح ففما يثبت فيه للمحدث مسموعه مع أسماء الشاركين له فيه لأنه كالحجة عند الشخص لسماعه وسماع غيره "حجة أو ثبت حافظ أو ثقه ثبت أوثقه متقن" هو
ـــــــــــــــــــ
1 له ترجمة في: البداية والنهاية 11/191. والعبر 2/208. والنجوم الزاهرة 3/256.
2 1/1/37.
3 علوم الحديث ص 110.
4 فتح المغيث 2/109.
الضابط الجيد الضبط فلا بد حينئذ مما يدل على العدالة فاذا قال ثبت أفاد ذلك وزيادة فان معناه ما تطمئن به النفي وتقنع به فيثبت عندها أي لاتطلب عليه مزيدا إذ ذلك لايكون إلا لمن جمع مع الضبط العدالة قال في القاموس ثبته عرفه حق المعرفة والإثبات الثقات انتهى وفي النهايه الثبت بالتحريك الحجة والبينة وحينئذ يكون من الرتبة التى قبلها أو نحو ذلك كقولهم كأنه مصحف هذا مع اختلاف اللفظين.
"أومع إعادة الفظ الأول" بعينه "كقولهم ثقة ثقة" تأكيد لفظي لزيادة التقرير "أو نحوها" وذلك لأن التأكيد الحاصل بالتكرار فيه زيادة على الكلام الحاكي عنه.
قال السخاوي وعلى هذا فما زاد على مرتين مثلا يكون أعلى منهما كقول ابن مهدي ثقه ثقة مأمون ثبت حجة صاحب حديث قال وأكثر ماوقفنا عليه من ذلك قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار وكان ثقة سبع مرات وكأنه سكت لانقطاع نفسه.
"فهذه المرتبة أعلى العبارات في الرواة المقبولين كما قاله الحافظ أبو عبد الله الذهبي في مقدمة كتابه ميزان الإعتدال" 1 فأنه قال فأعلى العبارات في المقبولين ثبت حجة إلى آخر ما هنا وقال السخاوي2 إن أعلاها كما قاله شيخه الحافظ ابن حجر الإتيان بصيغة أفعل كأن يقال أوثق الناس أوأثبت الناس أو نحوهما كقول حسان لبن هشام حدثنى أصدق من أدركت من البشر محمد بن سيرين لما تدل عليه هذه الصيغة من الزيادة وألحق بها شيختا المنتهى في الثبت ثم يليه ما هو المرتبه الأولى عند بعضهم كقولهم فلان لايسأل عن مثله ثم يليه ما هو المرتبه الأولى عند الذهبي والزين3. انتهى.
قلت: الذي في مقدمه التقريب4للحافظ أنه جعل أفعل وتكرير الصيغة مرتبة واحدة هي أول المراتب.
واعلم أنه جعل الحافظ ابن حجر أول المراتب كونه صحابيا فإنه قال وبإعتبار ما
ـــــــــــــــــــ
1 1/4.
2 فتح المغيث 2/110.
3 نزهة النظر ص 134.
4 1/4.
ذكرته انحصر لى الكلام على أحوالهم في ثنتى عشرة فأولها الصحابة والثانية من أكد مدحه إما بأفعل كأوثق الناس إلى آخر كلامه فأول المراتب توثيقا كون الراوى صحابيا وظاهر هذا أن كونه صحابيا قد تضمن أنه ثقه حافظ فصفة الصحبة قد تكفلت بالعدالة والضبط وهذا لا إشكال فيه بالنظر إلى العدالة على أصل أئمة الحديث ولكن بالنظر إلى الضبط والحفظ لا يخلو عن الإشكال إذ الحفظ وعدمه من لوازم البشرية لا ينافي الصحبة بل لا ينافي النبوة فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نسى في صلاته وغيرها فكيف يجعل كون الراوي صحابيا أبلغ من الموصوف بأوثق الناس ونحوه والصحبة لا تنافي النسيان وعدم الحفظ بل قد ثبت في صحيح البخاري نسيان عمر لقصة التيمم وتذكيرر عمار له بها ولم يذكر بل قد ثبت أنه قال صلى الله عليه وسلم: "رحم الله فلانا لقد ذكرني البارحةآية كنت أنسيتها1" وقد ورد علينا سؤال في هذا الشأن وكتبنا فيه رسالة وأطلنا فيها البحث ولم أعلم من تنبه لذلك.
"المرتبة الثانية:وهي التي جعلها ابن أبي حاتم الأولى وتبعه على ذلك ابن الصلاح قال ابن أبي حاتم وجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى" جمع شتيت كمرضى ومريض "فإذا قيل للواحد" من الرواة "إنه ثقة أو متقن فهو محتج بحديث قال ابن الصلاح2 وكذا إذا قال ثبت أو حجة" فكل هذه الألفاظ من المرتبة الاولى وهذه الصفات قد تضمنت العدالة والحفظ فأما إذا أفرد الحفظ والضبط فلا تتضمن العداة كما يشير إليه قوله "وكذا إذا قيل في العدل إنه حافظ أو ضابط" إذ مجرد الوصف بكل منهما غير كاف في التوثيق بل بين المعدل وبنهما عموم وخصوص من وجه لأنه لايوجد بدونهما ويوجدان بدونه ويوجد الثلاثة.
ويدل لذلك ان ابن أبي حاتم سأل أبا زرعة عن رجل فقال له: هو صدوق وكان أبو سليمان بن داود الشاذ كوني من الحفاظ الكبار إلا انه كان يتهم بشرب النبيذ وبالوضع حتى قال البخاري: إنه أضعف عندي من كل ضعيف ورؤي بعد موته في النوم فقيل له: مافعل الله بك؟ فقال غفر لي قيل له: بماذا؟ قال: كنت في طريق أصفهان فأخذني مطر وكان معي كتب ولم أكن تحت سقف ولا شيء فانكببت على كتبي حتى أصبحت وهذا المطر فغفر الله لي بذلك في آخرين. انتهى.قال السخاوي: ومجرد
ـــــــــــــــــــ
1 الشفا 2/345, والإتحاف 4/493, والكنز 2793.
2 علوم الحديث ص 110.
الوصف بالإتقان كذلك قياسا على الضبط سوى إشعاره بمزيد الضبط.
"قال الخطيب:أرفع العبارات أن يقال: حجة أو ثقة" فالحجة والثقة مستويان عنده وفي كلام ابن أبي داود حسين سأله الآجري عن سليمان بن بنت شرحبيل فقال: ثقة يخطى كما يخطى الناس فقال الآجري فقلت:هو حجة قال: الحجة مثل أحمد بن حنبل وكذا قال ابن أبي شيبة في أحمد بن عبد الله بن يونس: ثقة وليس بحجة وقال في محمد بن إسحاق:ثقة وليس بحجة وفي ابن أويس صدوق وليس بحجة.
"المرتبة الثالثة قولهم ليس به بأس أولا بأس به" فإن قيل إنه ينبغي أن يكون لا بأس به أبلغ من ليس به بأس لعراقه لا في النفي أجيب بأن في العبارة الأخرى قوة من حيث وقوع النكرة في سياق النفي فسارت الأولى في الحملة "أو صدوق" على صيغة المبالغة لا محله للصدق فيأتي أنها دونها "أو مأمون أو خيار" من الخير ضد الشر ومن ذلك الوصف لسيف بن عبيد الله أنه من خيار الخلق كما في أصل حديثه من سنن النسائي.
"وجعل ابن أبي حاتم وأبن الصلاح هذه المرتبة الثانية لا الثالثة واقتصرا فيها على قولهم صدوق أو لا بأس به وأدخلا فيها قولهم محله الصدق وقال ابن أبي حاتم من قيل فيه ذلك فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه" قال ابن الصلاح: لأن هذه اللفظة لا تشعر بشريطة الضبط فينظر حديثه الخبير حتى يعرف ضبطه.
"وأخرت هذه اللفظة" وهي محله الصدق "إلى المرتبة التي تلي هذه تبعا لصاحب الميزان" فإنه هكذا صنع وهذه اللفظة دالة على أ صاحبها محله ومرتبته مطلق الصدق فهي ون يصدوق لأنه وصف بالصدق على طريقة المبالغة ولذا جعل صدوق من المرتبة الثانية ومحله الصدق من المرتبة الرابعة.
"والمرتبة الرابعة قولهم محله الصدق أورووا عنه أو على الصدق ما هو" يعني ليس ببعيد عن الصدق وقال البقاعي معناه عند أهل الفن أنه غير مدفوع عن اليصدق وتحقيق معناها في اللغة أن حرف الجر يتعلق بما يصلح التعليق به وهو هنا قريب فالمعنى فلان قريب إلى الصدق ويحتمل أن تكون ما نافية وحينئذ يجوز أن يكون المعنى ما هو ثريب منه فيكون نفيا لما أثبتته الجملة الأولى فتفيد مجموع العبارة التردد فيه.
قلت: بل المعنى على هذا فلان قريب إلى الصدق وهي الجملة الاولى ما هو
قريب وهي الثانية فتفيد تناقض الجملتين لا التردد فلا ينبغي حمل كلامهم على هذا الأحتمال.
قال: ويحتمل ماهو بعيد فيكون تأكيدا للجملة الأولى.
قلت: هذا متعين.
قال ويحتمل أن تكون استفهامية فكأنه قيل هو قريب إلى الصدق ثم سألت عن مقدار القرب فقال ماهو قليل أو كثير.
قلت: هذا يبعده السسباق لأن القائل إلى الصدق ما هو هو الذي عدل من وصف فكيف يسأل غيره عنه فأولى التوجيهات هو الأول ومعنى ماهو ا تكون ما نافية وهو اسمها وخبهرا محذوف أي ماهو بعيد عن الصدق والجملة تأكيد لما قبلها.
"أو شيخ وسط أو سط أو شيخ أو صالح لحديث أو مقارب الحديث بفتح الراء" ومعناه حديثه يقارب حديث غيره "وكسرها" ومعناه أن حديثه مقارب لحديث غيره من الثقات وبالكسر صبطت في الأصول الصحيحة من كتب ابن الصلاح المقروءة عليه وكذا ضطها النووي في مختصر يه وابن الجوزي "كما حكاه القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي" وبهما ضبطه ابن دحية والبطليوسي وابن رشد في رحلته قال ومعناه يقارب الناس في حديثه ويقاربونه أي ليس حديثه بشاذ ولا منكر "أو" يقال فيه "جيد الحديث" من الجودة "أو حسن الحديث أو صويلح أو صدوق إن شاء الله تعالى" بخلافه إذا لم يقيد بالشيئة فإنه من الثالثة كما عرفت "أو أرجو أنه ليس به بأس واقتصر ابن أبي حاتم في المرتبة الثالثة من كلامه على قولهم شيخ وقال هو بالمنزلة التي قبلها يكتب حديثه وينظر فيه إلا إنه دونها واقتصر" ابن أبي حاتم في المرتبة الرابعة على قولهم صالح الحديث وقال إن من قيل فيه ذلك يكتب حديثه للاعتبار قال ابن الصلاح: وإن لم يستوف النظر المعرف بكون ذلك المحدث في نفسه ضابطا مطلقا واحتجنا إلى حديث من حديثه ونظرنا هل له أصل من رواية غيره كما تقدم من بيان طريقة الاعتبار في محله.
"ثم ذكر ابن الصلاح من ألفاظهم" أي أئمة الحديث "في التعديل على غير ترتيب قولهم فلان روى عنه الناس فلان وسط فلان مقارب الحديث فلان ما أعلم به بأسا قال وهو دون قولهم لا بأس به" فإنه جزم فيها بنفي البأس وهنا ينفي علمه والفرق بين الأمرين واضح.
"وأما تمييز الألفاظ التي زدتها" الأولى أن يقدم قبل هذا قال الزين لأن هذا كلامه وليس في عبارة المصنف إشعار به "على كتاب ابن الصلاح فهي المرتبة الأولى بكاملها وفي الثالثة مأمون وخيرا وفي الرابعة إلى الصدق ماهو وشيخ وسط ووسط وجيد الحديث وحسن الحديث وصويلح وصدوق إن شاء الله تعالى وأرجوا أنه لا بأس به وهو نظير ما أعلم به بأسا إذ الأولى" وهي وأرجو "أرفع لأنه لا يلزم من عدم العلم حصول الرجاء لذلك وقد روى عن" الإمام يحيى "بن معين أنه إذا قال لرجل ليس به بأس فهو ثقة وإذا قال هو ضعيف فليس بثقة ولا يكتب حديثه" .
ولما كان هذا خلاف ما سلف عن ابن أبي حاتم جمع ابن الصلاح بينهما كما نقله عنه المصنف بقوله "وقال ابن الصلاح: إنه" أي ابن معين "حكى هذا عن نفسه لا عن غيره بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم يعني فإنه نسبه إلى أهل الحديث" وأجاب الزين بغير هذا كما أفاده قوله "وقال زين الدين ولم يقل ابن معين إن قولي ليس به بأس مثل قولي ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين إنما قال إن من قال فيه هذا فهو ثقة" .
وليس لفظ الثقة يطلق على مرتبة معينة بل كما قال "وللثقة مراتب فالتعبير عنه بأنه ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لابأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة وعن عبد الله بن إبراهيم" في شرح البخاري عبد الرحمن ابن إبراهيم دحيم وهو الذي كان في أهل الشام مثل ابن أبي حاتم قال أهل الشرق "مثل كلام يحيى بن معين" قال أبو زرعة قلت: لعبد الرحمن ما تقول في علي بن حوشب الفزاري قال لا بأس به قال قلت: ولم لا تقول ثقة ولا نعلم إلا خيرا قال قلت: لك إنه ثقة.
"و" روى "عن عبد الرحمن بن مهدي مثل ما تقدم في الفرق بين العبارتين" وذلك أنه سأله عمر بن علي الفلاس حين روى عن أبي جلدة بالجيم وسكون اللام وهو خالد بن دينار التميمي "فإنه قيل" أي قال له الفلاس "في رجل" هو أبو جلدة "أكان ثقة قال كان صدوقا وكان مأمونا وكان خبرا وفي رواية وكان خيارا" ثم قال "الثقة شعبة وسفيان" الثوري وفي بعض الروايات عن ابن مهدي بدل سفيان مسعر يصرح بأن حجيته ثقة على كل من صدوق وخيرا ومأمون التي كل منها من مرتبة ليس به بأس ولا يخدش فيه قول ابن عبد البر كلام ابن مهدي لا معنى له في اختيار الألفاظ إذ أبو جلده ثقة عند جميعهم كما صرح به الترمذي حيث قال هو ثقة عند أهل الحديث فإن هذا لا يمنع الاستدلال المشار إليه قاله السخاوي.
"وعن أحمد بن حنبل أنه سئل عن عبد الوهاب بن عطاء هل هو ثقة فقال للسائل أتدري ما الثقة إنما للثقة يحيى بن سعيد القطان وكان ابن مهدي فيما ذكر أحمد ابن سنان ربما جرى ذكر حديث الرجل فيه ضعف وهو رجل صدوق فيقول رجل صالح الحديث" فيجعله منحطا عن رتبة ليس به بأس.
ولما فرغ من مراتب التعديل أخذ في بيان مراتب التجريح فقال:
* * *
مسألة: 51 [ في مراتب الجرح]
"مراتب التجريح هي خمس مراتب وجعلها إن أبى حاتم أربعاوتبعمه ابن الصلاح" وسوقها المنصف كالزين في التدلي إلى الأدنى معأن العكس كما فعله ابن أبي حاتم وابن الصلاح كان أنسب لتكون مراتب القسمين منخرطة في سلك واحد بحيث يكون أولها الأعلى من التعديل وآخرها الأعلى من التجريح."الأولى" من المراتب الأربع "وهي أسوؤها أن يقال فلان كذاب أو يكذب أو يضع الحديث أو وضاع الحديث أو وضع حديثا أو دجال" وذكر السخاوي1 عن شيخه الحافظ ابن حجر أنه جعل المرتبة الأولى مادل على المبالغة كأكذب الناس وإليه المنتهى في الوضع وهو ركن الكذب قال فهذه المرتبة الأولى ثم يليها كذاب إلى آخر ما سرده المصنف.
قلت: والذي في مقدمة التقريب أنه جعل المرتبة الثانية عشر من أطلق عليه اسم الكذب ولاوضع هذا لفظه وهي أول المراتب هنا وفي النخبة وشرحها2 الطعن يكون بعشرة أشياء إلى أن قال وهذا ترتيبها على الأشد فالأشد في موجب الرد لأن الطعن إما يكذب الراوي ثم قال وهو الموضع فجعل الوصف بالكذب أول المراتب بأي عبارة كان.
"وأدخل ابن أبي حاتم والخطيب بعض ألفاظ المرتية الثانية وفي هذه المرتبة قال ابن أبي حاتم إذا قالوا متروك أو ذاهب الحديث أو كذب فهو ساقط لا يكتب حديثه وقال الخطيب أدون العبارات أن يقال كذاب ساقط الحديث قال الزين" بعد نقله لهذا الكلام "وقد فرقت بين هذه الألفاظ تبعا لصاحب الميزان يعني الحافظ الذهبي فإنه جعلها
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 2/120.
2 ص 43.
من الثانية" .
"المرتبة الثانية" وألفاظها "فلان متهم بالكذب أو الوضع فلان ساقط وفلان هالك وفلان ذاهب أو ذاهب الحديث أو متروك أو متروك الحديث أو تركوه أول يعتبر به أو بحديثه أوليس بالثقة أو غير ثقة ولا مأمون أو نحو ذلك وفيه نظر وسكتوا عنه" قال الزين1 وهاتان العبارتان للبخاري فيمن تركوا حديثه.
"المرتبة الثالثة فلان رد حديثه أو ردوا حديثه أو مردود الحديث أو ضعيف جدا أو واه بمرة" قال الحافظ ابن حجر: أي قولا واحدا لا تردد فيه "أو طرحوا حديثه أو مطروح الحديث وارم به وفلان ليس بشيء أو لا شيء أو لا يساوي شيئا أو نحو ذلك" قال زين الدين بعد سرده لهذه الألفاظ "وكل من قيل فيه ذلك من" أهل "هذه المراتب الثلاث لا يحتج به ولا يعتبر ولا يستشهد به" انتهى.
قال المصنف "ونلحق بذلك فائدة و" هي أن الحافظ ابن حجر ذكر في مقدمة شرح البخاري في ترجمة عبد العزيز بن المختار البصري "أنه ذكر ابن القطان" الفاسي بالفاء نسبة إلى فاس "أن مراد ابن معين بقوله في بعض الرواة ليس بشيء يعني أن أحاديثه قليلة جدا" فلا يكون إطلاق ذلك اللفظ جرحا.
"المرتبة الرابعة فلان ضعيف أو منكر الحديث أوواه أو ضعفوه أو لا يحتج به وضقال الحافظ ابن حجر: في ترجمة يزيد بن عبد الله بن خصيفة" ضبطه الحافظ في التقريب بمعجمة ثم مهملة وقال إنه ثقة "الكندي إن أحمد بن حنبل يطلق على من يغرب" أي يأتي بالغرائب "على أقرانه في الحديث أنه منكر الحديث قال عرف ذلك بالإستقراء من حاله قال وابن خصيفة احتج به مالك والأئمة كلهم مع قول أحمد ذلك فيه" فاصطلاح أحمد غير اصطلاح غيره فينبغي أنه يتنبه له.
"وكذا قال" الحافظ "إن مذهب البرذنجي" تقدم لنا ضبطه "أن المنكر هو الفرد وإن تفرد به ثقة فلا يكون قوله في الراوي إنه منكر الحديث جرحا ذكره في ترجمة يونس بن القاسم الحنفي اليماني" .
"المرتبة الخامسة فلان يقال فيه أو ضعف أو فيه ضعف أو في حديثه ضعف أو فلان تعرف وتنكر أو ليس بذلك أو ليس بذاك القوى أو ليس بالقوي أو ليس بالمتين
ـــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 2/39.
أو ليس بحجة أو ليس بعمدة أو بالمرضي أو للضعف ما هو" هي مثل قوله إلى الصدق ما هو واللام بمعنى إلى "أو فيه خلاف أو طعنوا فيه أو مطعون فيه أو سيء الحفظ أو لين أو لين الحديث أو فيه لين أو تكلموا فيه ونحو ذلك" قال ابن المديني بعد سرده لما ذكر.
"وكل" مبتدأ مضاف إلى "من ذكر في المرتبة الرابعة أو الخامسة فإنه" خبر كل وأدخلت الفاء كما عرف في النحو "يخرج حديثه للاعتبار" وتقدم بيانه.
"قال ابن أبي حاتم إذا أجابوا في رجل أنه لين الحديث فهو ممن يكتب حديثه وينتظر في اعتبارا" وهو من أهل المرتبة الخامسة كما عرفت "وإذا قالوا ليس بقوي" فهو من أهل المرتبة الرابعة "فهو بمنزلته" لين الحديث في كتابه حديثه إلا أنه دونه "وإذا قالوا ضعيف فهو دون الثاني" أي دون قولهم ليس بقوي لا يطرح حديثه بل يعتبر فيه.
"قال" زين الدين "وقد تقدم في كلام ابن معين ما قد يخالف هذا من أن من قال فيه ضعف فليس بثقة لا يكتب حديثه وتقدم أن ابن الصلاح أجاب عنه بأنه لم يحكه عن غيره من أهل الحديث" كما سلف "وسأل حمزه السهمي الدرا قطني أيش تريد" أصله أي شيء فخفف ووصل "إذا قلت: فلان لين قال لا يكون ساقطا متروك الحديث ولكن مجروحا بشيء لا يسقط عن العدالة" .
قال الزين "وأما تمييز ما زدته من ألفاظ الجرح على ابن الصلاح فهي فلان يضع ووضاع ودجال ومتهم بالكذب وهالك وفيه نظر وسكتوا عنه ولا يعتبر به وليس بالثقة ورد حديثه وضعيف جدا رواه بمرة وطرحوا حديه وارمبه ومطرح ولا يساوي شيئا ومنكر الحديث رواه وضعفوه وفيه مقال أو ضعف ويعرف وينكر أي يأتي مرة بالمناكير ومرة بالمشاهير فينبغي أن ينظر حديثه ولا يؤخذ ما رواه مسلما وهو قريب من قولهم في التوثيق محلقه الصدق وما معها من ألفاظ المرتبة الرابعة وليس بالمتين وليس بحجة وليس بعمدة وليس بالمرضي وللضعف ما هو وفيه خلاف وطعنوا فيه وسيئ الحفظ وتكلموا فيه فهذه لم يذكرها ابن أبي حاتم ولا ابن الصلاح وهي موجودة في كلام أئمة هذا الشأن" انتهى كلام زين الدين.
ثم ذكر المصنف فوائد لم يذكرها الزين وهي خلاصة ما ساقه فقال "ويلحق به فوائد" :
"الأولى: أن أهل المرتبتين الرابعة والخامسة من أهل الديانة والصدق والعدالة وإنما
تكلم عليهم لشيء في حفظهم" فعلى هذا كل تلك العبارات مراد بها خفة الضبط لا غير "ولهذا لا يكذبون كأهل المرتبة الأولى ولا يتهمون بذلك ولا يترك حديثهم ولا يقال في واحد منهم ليس بثقة" فكل هؤلاء هم أهل المرتبة الثانية من مراتب التعديل لكن لا يخفى أن أهل المرتبة الثانية من قيل فيه متقن ثبت حافظ ضابط حجة ثقة وهذه الألفاظ تنافي عبارات أهل الرابعة والخامسة إذ هي ضعيف منكر الحديث ضعفوه ونحوها وكأنه أشار بقوله "فتأمل" إلى هذا فإن أهل المرتبة الرابعة والخامسة أرفع من أن يقال في أحدهم ليس بثقة كمن ذكرنا من أهل المرتبة الثانية من مراتب التجريح.
"الفائدة الثانية: أن أهل المرتبة الثالثة من مراتب التجريح أرفع من أن يقال لأحدهم ليس بثقة ولا يتهمون بالكذب مع أن حديثهم مردود ومطروح لقولهم فيها فلان ردوا حديثه أو مردود الحديث أو ضعيف جدا فبهذا تعرف أن أهل المرتبة الثالثة أيضا ممن لا يكذب ولايتهم بذلك" الكذب ولا ينزل إلى من يوصف بأنه غير ثقة لترفعه عن تعمد ذلك ولكنهم أهل وهم كثير حكم برد حديثهم لأجل ذلك فقط فعلى هذا قولهم فلان ليس بشيء أو لاشيء أو لا يساوي شيئا يعني كثير الوهم وإنما قلت: ذلك لأن التهمة والحكم بقي الثقة هو حكم أهل المرتبة الثانية حيث قالوا فيهم فلان منهم فلان ليس بثقة وكل ما حكم به على أهل مرتبة لم يحكم به على من هو أرفع منها وإلا لتداخلت المراتب وضاع التقسيم.
"الفائدة الثالثة: أنك لا تصف أهل مرتبة بصفة من فوقهم ولا" تصفهم بصفة "من دونهم" وذلك لأن لأهل كل مرتبة أحكاما وأوصافا تختص بها "ولا تقول في الكذاب" أي فيمن وصفوه بذلك "أنه متهم بالكذب لأن الأولى تفيد أنه معروف به والثانية تيفد نفي ذلك" وإنما عنده مجرد تهمة "ولا تقول في الكذاب متروك الحديث وإلا أن تشك في أنه كذاب وتحقق أنه متروك" لأنه من أهل المرتبة الثالثة على غير قول ابن أبي حاتم وكذاب من أهل الأولى على قوله.
"فإن قلت: أليس الكذاب متروك الحديث قلنا بلى" أي متروك الحديث "ولكن قد صار ترك الحديث عبارة عمن لم يعرف بأنه كذاب" فقد فرق العرف بينهما وإن تصادفا في الحكم وهو ترك حديث كل منهما "كما أن الكذاب ضعيف غير قوي ولا يقال فيه ذلك" أي أنه متهم بالكذب "لأنه يفيد أنه عدل صدوق ولكنه يهم في حديثه" كما يفيده إطلاق متهم عليه "فإن أحببت أن تقول كذا ب متروك الحديث فلا بأس لأن الإيهام قد
ارتفع" بالجمع بين الوصفين.
"فإن قلت: أي فرق بين متروك الحديث ومردود الحديث حتى توصف أهل المرتبة الثانية بالمتروك وأهل الثالثة بالمردود قلت: لا فرق بينهما في اللغة ولكن أهل العرف من المحدثين جعلوا بينهما فرقا" فالفرق عرفي لا لغوي "فالمتروك يطلق على من ترك لجرح دينه أو تهمة بالكذب والمردود يطلق على من لم يعتمد ذلك ولا يتهم به ولكن كثر خطؤه حتى لم يقبل ولا يكتب حديثه ولا يعتبر به" كما في حقيقته فمرتبة المردود أجنى من مرتبة المتروك.
"الفائدة الرابعة أن أهل المرتبة الرابعة والخامسة من المجروحين" ممن قيل فيه ضعيف أو منكر الحديث أو واه أو فيه مقال أو ضعف "هم أهل المرتبةالرابعة من المعدلين" وهو من قيل فيه محلح الصدق أو رووا عنه أو نحوه "لما تقدم في كل واحد منهم أنه يكتب حديثه للاعتبار" كما تقدم عن ابن أبي حاتم أنه قال كل من كان من أهل المرتبة الرابعة والخامسة فإنه يكتب حديثه للاعتبار.
"ولكنهم حين يقصدون رفعهم عمن لا يعتبر به ولا يكتب حديثه يوردون الأدنى من ألفاظ التعديل" نحو محله الصدق "وحين يريدون حطهم عمن يحتج به في الصحيح يوردون الأعلى من عبارات التجريح" فيقولون ضيعف أو منكر الحديث "فهم أهل صدق وديانة ولكنهم ضعفاء بالنظر إلى من فوقهم في الإتقان من الحفاظ وهم لأجل صدقهم وتوسط حطتهم بين الكثرة المردودة والندرة التي لا حكم لها صالحون لا بأس بهم إذا وجد لهم متابع أو شاهد بالنظر إلى من دونهم من الكذابين والمتروكين و" بالنسبة إلى "من كثر خطؤه فرد حديثه" هذا على قواعد المحدثين وقد تقدم هذا للمصنف في بحث الحسن وتقدم ما فيه فتذكر "وأما على قواعد كثير من الفقهاء وأهل الأصول فيجب قبولهم من غير اعتبار متابع ولا شاهد" لما تقدم من قبولهم من كثر صوابه على خطئه.
"الفائدة الخامسة لم يذكر زين الدين المجهول في مراتب التجريح وإن كان قد ذكره فيمن يرد حديثه ولا بد من ذكره فيها" أي في مراتب التجريح إذ قد رد حديثه وحيث لا بد من ذكره "فإما أن يجعل مرتبة منفردة أو يلحق بأهل الثالثة لأنه عند أهل الحديث ممن لا يقبل حديثه وإن كان بعض من سماه مجهولا يوجب قبوله كما تقدم" تحقيق ذلك في بحث الحسن.
"الفائدة السادسة إن أكثر هذه العبارات في التجريح غير مبينة السبب" فهي من باب الجرح المطلق "فتكون غير مفيدة للجرح" الموجب لإطراح الرواية "ولكن" تكون "موجبة للريبة والوقف" في قبول من قيلت فيه ورده "في غير المشاهير بالعدالة والأمانة فلا تؤثر فيهم" .
ولما ورد على هذا ما تقرر في الأصول من أن الجرح مقدم على التعديل قال في جوابها "ولا يغتر مغتر بأن الجرح مقدم على التعديل" فإنهم وإن أطلقوا العبارة في ذلك "فذاك الجرح المبين السبب" لأن مالم يبين سببه فلا يتحقق أنه خرج يوجب الرد.
"على أن المختار فيه" أي في مبين السبب "هو مامر من التفصيل" يرد قوله وأما أن بين السبب نظرنا في ذلك السبب وفي العدل الذي ادعى عليه ونظرنا أي الجوائز أقرب إلى آخر كلامه "فإذا لم يكن" الجرح "مبين السبب فهو مقبول" فيمن اشتهر بالعدالة أصلا أو غير مقبول في الرد جزما بل يوجب توقفنا "على الصحيح فضلا عن أن يقدم على التوثيق المقبول وأقل الأحوال أن يكون موضع ترجيح لأنه يحتمل" مع إطلاقه "أن الجارح جرح الراوي بما لو ظهر لنا لم نجرح به كما يحتمل أن الراوي جرح بما لم يعلم به من عدل" وهذا الاحتمال هو الذي أوجب الوقف لا الرد مطلقا ولا القبول.
"فإن قلت: فأي هذه الألفاظ جرح مبين السبب قلت: ليس فيها صريح في ذلك ولكن أقربها إلى ذلك قولهم وضاع ويضع الحديث فإنها مستعملة فيمن عرف بتعمد الكذب إما بإقراره أو ما يقوم مقامه ويليهما في الدلالة على التعمد منهم بالوضع" وتقدم أنه من الرتبة الثانية من رتب الجرح وكذاب من الأولى.
ولما كان كذلك قال "وأما كذاب فقد اختلف عرفهم فيها اختلافا لا يحصل معه طمأنينة أن من قبلت فيه متعمد الكذب لأن كثيرا منهم يقولون ذلك في حق صالحين كثر خطؤهم في الحديث" ليسوا ممن يتعمد الكذب "وهذا موضع صعب فإن خطأ الموجب لعدم القبول مختلف فيه صعب المأخذ كما تقدم" تحقيق مراد المصنف.
"وقواعد الأصوليين تقتضي أنه يجب قبوله لأنه مسلم عدل حتى يظهر ما يوجب جرحه والذي يوجب جرحه عند جماهير النظار هو استواء حفظه ووهمه أو ترجيح وهمه على حفظه وتحقيق ذلك أو ظنه مدرك حفى والله أعلم" بل لا يكذا يقف عليه إلا علام الغيوب.
"الفائدة السابعة أن هذه الألفاظ الجارحة" إسناد مجازي أي الجارح قائلها "إذا صدرت مع اختلاف الاعتقاد" بين الجارح والمجروح كفر يقي الأشعرية "و" المعتزلة أو صدرت "من الأقران" جمع قرن بكسر القاف وهو المثل "المتنافسين" المتحاسدين "أو" صدرت "عند الغضب" من الجارح على من يجرحه "أو نحو ذلك من الأسباب" فإن كان ذلك الجرح صاجرا عمن ذكر "فينبغي أن تكون دلالتها" أي الألفاظ الجارحة "على الجرح أضعف" من دلالتها عليه عند صدورها من غير من ذكر "فإن ذلك" أي الأختلاف ونحوه "من أسباب الجرح المجرد عند كثير منهم" أي من الجارحين "فإذا انضم إليه" أي إلى ما ذكر "أقل شيء مما ينجبر" به فلا يوجب قدحا "لولا مخالفة العقيدة انتهض" أي أقل شيء مما ينجبر لو اتفقت العقيدة "سببا للذم" من الجارحين "ومثيرا للوصم" بالصاد المهملة العيب.
"وقد يستحل بعضهم ذم الرجل لأجل بدعته" أي يجعل ذمه حلالا كأنه ليحذر الناس عن اتباعه على بدعته "غير قاصد بذمه لتضعيف حديثه" إلا أنه لا يعزب عنك أنه قد أخذ في رسم العدلة أن لايكون معها بدعة فالمبتدع حديثه مردود فكيف يقال لا يقصد تضعيف حديثه بذكر بدعته "فتؤخذ ألفاظ التجريح في ذلك الذم فيرد حديثه لأجلها" لأجل ألفاظ التجريح.
واستدل لما ذكر بقوله "ولقد تركوا حديث داود بن علي الأصيهاني الظاهري" قال الخطيب في تاريخه كان ورعا ناسكا زاهدا وفي كتبه حديث كثير لكن الرواية عنه عزيزة جدا وقال أبو إسحاق مولده سنة إثنين ومائتين وأخذ العلم عن إسحاق وأبي ثور وكان زاهدا متقللا وكتب ثمانبة عشر ألف ورقة وقال أبو إسحاق كان في مجلسه أربعمائة صاحب طيلسان أخضر وإنما تركوا الرواية عنه "لأجل قوله بأن القرآن محدث" قال الذهبي أراد داود الدخول على الإمام أحمد فمنعه وقال كتب إلى محمد بن يحيى الذهلي في أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربنى فقيل يا أبا عبد الله إنه ينتقي من هذا وينكره فقال محمد ابن يحيى أصدق منه "وتطابقوا على تركه حتى عزت الرواية عنه مع ما في كتبه من الحديث الكثير وعبروا عنه بأنه متروك" لم أجد هذا التعبير عنه في الميزان وكأنه في غيره.
قلت: وإذ قد عرفت أنهم شرطوا في العدالة عدم البدعة وقد عرفت أن الحق أن القول بأن القرآن قديم أو محدث بدعة فردهم حديث داود جار على ما قعدوه في
العدالة لكن يلزمهم رد من قال قديم كما قررناه في محل آخر.
"وهذا" أى قولهم في داودإنه متروك "يفيد أنه من أهل المرتبة الثانية" من مراتب التجريح "أو هو أرفع من ذلك" لاأعرف لزيادتها وجها إلا عند من يرد المأول المستحق للرد والمختار للمصنف وغيره من المحققين عدم رده كما عرفت "والظاهر أنه" أي داود "لم يذهب إلى التحسيم ولا غيره من الكبائر" أي المعدودة كبيرة في الإعتقاد وغن لن تكن من كبائر الذنوب "لأنهم لم ينقموا عليه إلا كلامه في القرآن أما شنع" جمع شيعة "مسائله الفرعية فليست مما يجرح به" وإن كان الصحيح أنه أخطأفي بعضها قطعا فذلك الخطأ لاينهض فسقا لأنها مسائل ظنية ولاتقسيق إلا بقاطع فقد علم أنهم لم يتركوه إلالقوله القرآن محدث.
"وأكبر" بالباء الموحدة "من هذا قول بعضهم في عمرو بن عبيد عابد شيوخ الاعتزال الذي ليس في زهده وورعه مقال والذي تضرب بعبادته الأمثال إنه كذاب" هو مقول قول البعض قال الذهبي في الميزان1 في ترجمة عمرو بن عبيد قال أيوب ويونس يكذب وقال حميد كان يكذب على الحسن وقال ابن حبان كان من أهل الورع والعبادة إلا أن أحدث ما أحدث فاعتزل مجلس الحسن هو وجماعة قسموا المعتزلة قال وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا قال الفلاس عمرو متروك صاحب بدعة وحدت عنه الثوري أحاديث قال سمعت عبد الله بن سلمة الحضرمي يثول سمعت عمرو بن عبيد يقول لو شهد عندي علي عليه السلام وطلحة والزبير وعثمان رضي الله عنهم على شراك نعل ما أجزت شهادتهم انتهى.
"وما كان عمرو ممن يطرح عليه مثل هذا وإن كان يهم في الحديث كثيرا أو قليلا" فقد وهم والوهم لا يوجب الرمي بالكذب إلا أن ابن حبان قد قيد ذلك بقوله وهما لا تعمدا "فقد وهم فيه" أي الحديث "أبو حنيفة وضعفه كثيرون" لم يترجم لأبي حنيقة في الميزان وترجم له النووي في التهذيب وأطال في ترجمته ولم يذكره بتضعيف "وحملوا ألفاظ تضعيفه" أي أبي حنيفة كأنهم لم يأتوا بعبارات خاصة كما أتوابها في عمرو بن عبيد "وما أظن عمرو" بن عبيد "كان في دون مرتبة أبي حنيفة في الحفظ والأتقان والله أعلم" وإذا كان كذلك فما الحامل على القدح في عمرو إلا
ـــــــــــــــــــ
1 3/274/6404.
المخالفة في العقيدة.
"قال الذهبي1 في ترجمة أحمد بن عبد الله بن أبي نعيم الأصبهاني ما لفظة كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به" في القاموس ما أعبأ فلان ما أبالي به "ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله وما علمت أن عصرا من الأعصار يسلم أهله من ذلك إلا الأنبياء عليهم السلام والصديقين فلو شئت لسردت من ذلك كراريس انتهى وأنت إذا رمت النظر في كتب الرجال وتأملت ما ذكرت لك عرفت أنه الحق إن شاء الله تعالى" .
قلت: قد عيب علي الذهبي ما عابه في غيره قال ابن السبكي في الطبقات نقلا عن الحافظ صلاح الدين العلائي2 ما لفظه الشيخ شمس الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقول ولكنه غلب عليه منافرة التأويل والغفلة عن التنزيه حتى أثر ذلك في طبعه انحرافا شديدا عن أهل التنزيه وميلا قويا إلى أهل الإثبات فإذا ترجم أحدا منهم أطنب في محاسنه وتغافل عن غلطاته وإذا ذكر أحدا من الطرف الىخر كالغزالي وإمامه الجويني لا يبالغ في وصفه ويكثر من قول من طعن فيه وإذا ظفر لأحد منهم بلغطة ذكرها وكذا يفعل في أهل عصرنا وإذا لم يقدر على التصريح يقول في ترجمته والله يصلحه ونحو ذلك وسببه المخالفة في العقيدة انتهى.
قال ابن السبكي وقد وصل يريد الذهبي من التعصب وهو شيخنا إلى حد يسخر منه وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين والذي أفتى به أنه لا يجوز الاعتماد على شيخنا الذهبي في ذم أشعري ولا مدح حنبلي.
قلت: لا يخفى أن الصلاح العلائي وابن السبكي شافعيان حادان أشعريان وأن الذهبي إمام كبير الشأن حنبلي الاعتقاد شافعي الفروع وبين هاتين الطائفتين الحنابلة والأشعرية في العقائد في الصفات وغيرها تنافر كلي فلا يقبلان عليه بعين ما قالاه فيه.
ـــــــــــــــــــ
1 الميزان 1/111/438.
2صلاح الدين العلائي هو: أبو سعيد صلاح الدين بن كيكلدي الشافعي قال الحسيني: كان إماما في الفقه والأصول والنحو علامة في المتون والأسانيد مات سنة761. له ترجمة في: شذرات الذهب 6/190, والنجوم الزهراء 10/337. وطبقات الشافعية للسبكي 6/104.
وقال ابن السبكي قد عقد ابن عبد البر بابا في حكم قول العلماء بعضهم في بعض1 بدأ فيه بحديث الزبير "دب فيكم داء الأمم فبلكم الحسد والبغضاء" 2 وقال ابن السبكي وقدعيب على ابن معين تكلمه في الشافعي وتكلمه في مالك وابن أبي ذؤيب وغيره وأقول إذا كان الأمر كما سمعت فيكف حال الناظر في كتب الجرح والتعديل وقد غلب التمذهب والمخالفة في العقائد على كل طائفة حتى إن طائفة تصف رجلا بأنه حجة وطائفة أخرى تصفه بأنه دجال باعتبار اختلاف الاعتقادات والأهواء.
فمن هنا كان أصعب شيء في علوم الحديث الجرح والتعديل فلم يبق للبحاث طمأنينة إلى قول أحد بعد قول ابن السبكي إنه لا يقبل الذهبي في مدح حنبلي ولا ذم أشعري وقدصار الناس عالة على الذهبي وكتبه ولكن الحق أنه لا يقبل على الذهبي ابن السبكي لما ذكره هو ولما ذكره الذهبي من أنه لا يقبل الأقران بعضهم على بعض واعلم أن مرادهم بالأقران المتعاصرين في قرن واحد والمتساوون في العلوم وعلى التقديرين فإنه مشكل لأنه لا يعرف حال الرجل إلا ممن عاصره ولا يعرف حاله من بعده إلا من أخبار من قارته إن أريد الأول وإن أريد الثاني فأهل العلم هم الذين يعرفون أمثالهم ولا يعرف ذا الفصل إلا أولو الفضل.
فإذا عرفت هذا فالأولى إناطة ذلك بمن علم أن بينهما منافسية وتحاسدا فيكون ذلك سببا لعدم قبلو بعضهم في بعض لا لكونه من الأقران فإنه لا يعرف عدالته ولا جرحه إلا من أقرانه وأعلم ما فرق بين الناس هذه العقائد والاختلاف فيها فقول المصنف فيما نقله عن الذهبي ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد هو الذي ينبغي أن يناط به القبول والرد وقوله وأنت إذا رمت النظر في كتب الرجال الأحسن إذا نظرت وتأملت ما ذكرت لك عرفت أنه الحق إن شاء الله تعالى وقد حققنا هذا البحث تحقيقا شافيا في رسالتنا ثمرات النظر في علم الأثر والحمد لله.
"الفائدة الثامنة قد تقرر فيمن برد حديثه أن جمهور أهل الحديث على رد المبتدع
ـــــــــــــــــــ
1 جامع بيان العلم 2/150.
2سبق تخريجه.