كتاب : الشامل في فقه الخطيب والخطبة
المؤلف : د.سعود بن إبراهيم بن محمد الشريم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .أما بعد :
فإن الخطابة في الإسلام جزء لا يتجزأ من كيان الأمة الشامخ ، ولسانها الناطق ، وحبر قلمها السيال ، وحركات بنانها الحثيثة ، لها شأن جليل ، ومقصد نبيل ، وأثر ليس بالقليل ، هي منبر الواعظ ، ومتكأ الناهض ، وسلوان من هو على دينه كالقابض ، لا يعرف وسيلة في الدعوة أقرب إلى التأثير منها ، ولا وقع أشد - في التلقي بالقبول في نفوس الناس - من وقعها ، وهي مهنة النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره ، ومبتدؤه وخبره بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه ، كما أنها ميدان الدعاة الرحب ، ومنهل الظامئين العذب ، وسهل الواطئين الرطب .
وبالنظر إلى ما لهذا الأمر من عظم ، فإن التهاون بشأنه لخطب جلل ، والنأي عنه فتوق وخلل ، ولأنك إذا أردت الحكم على أمة من الأمم في ثقافتها ووعيها ، وفي صحتها وعيها ، فانظر إلى خطبائها وما تحويه خطبهم ، وإلى منابرها وأين منها هم . ولقد علمت أن شيئاً من فقه الخطبة في هذا الزمان قد اندرس ، ورأيت كثيراً من الخطباء على جهل بأحكامها ، فلم يدر بعضهم ما تعلم منها وما درس ، فضعف التأهيل ، وقلَّ التأصيل ، وغاب الدليل - إلا ما شاء الله - حتى ساءني مثل هذا الواقع المرير ، فجعلني أقلب الحديث في خلدي بالتفكير ، وأزور كتاباً في صدري للتسطير ، فأحيي به ما اندرس من فقه الخطيب والخطبة ، وأطفئ به دخان هذه العُطبة، فكان الجمع لهذه النخبة ، بياناً لما في الخطابة من عظم الرتبة ، موضحاً فيها ما أبهم ، ومبيناً في ثناياها ما أشكل ، جامعاً متفرقها ، باسطاً مجتمعها ، منزلاً على الشرع نوازلها ، مستعيناً في كل ذلك على الباري جلّ شأنه ، متلمساً منه الخروج بمادة علمية واسعة فيما يخص الخطيب والخطبة ، فصار جلُّ ما جمعته مسائل فقهية بحتة ، ودقُّه مسائل توجيهية ، ومفاهيم تصحيحية ، تدور محاورها حول الخطبة والخطيب ، ثم رتبتها ترتيباً يتناسب مع ترتيب الخطبة وأحوالها منذ دخول الخطيب ناصحاً إلى أن ينصرف من صلاته راشداً .
وقد كنت في زمن مضى أصدِّر أجزاء الخطب - التي ألقيتها من على منبر المسجد الحرام - بمسائل فقهية لطيفة تحت عنوان ( بين يدي الخطيب ) ، وذلك في كل من جزء من أجزاء خطبي المطبوعة والتي وسمتها بـ ( وميض من الحرم ) فبلغت أربعة أجزاء ، وهي تمثل ما يقارب نصف هذا السفر الكبير ، وكانت قد لقيت قبولاً واسعاً ، ورواجاً حافلاً في نفوس كثير من طلبة العلم والخطباء في داخل بلاد الحرمين وخارجها - فلله الحمد من قبل ومن بعد - إضافة إلى كثرة الطلب في إخراج هذه الحلقات في سفر مستقل على هيئة البسط والإسهاب ، فجمعت تلك الحلقات وأعدت بسط الكلام فيها ، وأضفت إليها أكثر من ضعفها ، حتى خرجت بهذه الصورة القشيبة ، ثم إنني حين استكملت هذا الكتاب في آخر شهر شعبان - من عام 1422هـ - دفعت بمسوداته إلى أصحاب الفضيلة أئمة المسجد الحرام كمعالي الشيخ الدكتور صالح بن عبدالله بن حميد ، وفضيلة الشيخ الدكتور / عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس ، وفضيلة الشيخ الدكتور / عمر بن محمد السبيل - رحمه الله رحمة واسعة ونور ضريحه ووسَّع مرقده - وذلك طلباً للإفادة منهم ، فشجَّعوني على ذلك ، وشاطروني الرأي في أهمية مثل هذا الموضوع وأهمية نشره ، فجزاهم الله عني خيراً وسدَّد على طريق الحق خطاهم .
وبعد تمام هذا الكتاب ، فإنني أذكر ما امتاز به في محتواه من الفوائد الظاهرة لمن قرأه ورآه ، إذ الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وإذا عرفت المبتدأ فلن يغيب ذهنك عن خبره، فكان من ذلك :
أولاً : أن هذا الكتاب خاص بفقه الخطيب والخطبة ، فلا يدخل في ذلك ما يتعلق بالمأمومين كمسألة الإنصات للخطبة ، أو تنفلهم قبل الخطبة، أو تبكيرهم لحضور الجمعة ، أو نحو ذلك.
ثانياً : أن هذا الكتاب جمع ما يزيد على مائة وثنتين وعشرين مسألة ، كلها تخصُّ الخطيب والخطبة ، مما قد لا يوجد مجتمعاً بهذه الصورة في غير هذا الكتاب حسب ما ظهر لي .
ثالثاً : أن هذا الكتاب جمع أكبر قدر ممكن من أقوال أهل العلم في هذا الشأن ، من أئمة المذاهب الأربعة ، وأصحابهم ، وغيرهم من فقهاء السلف ، وذلك دون إطناب ممل ، ولا إسهاب مخل .
رابعاً : أن الأصل في المسألة التي أوردها برمتها هو مجرد الجمع والنقل والتأليف ، إذ هو بحد ذاته جهد ليس بالسهل اليسير ، فقلَّما أدلي بدلوي في كثير من المسائل بترجيح أو مطارحة . وإن دعت الحاجة إلى شيء من ذلك ، ففي بعض المسائل التي ستتضح للقارئ خلال استقرائه لهذا الكتاب .
خامساً : أن هدفي من عدم فصل القول في كل مسألة هو أهمية هذا الأمر ، وصعوبته ، وتعدي مصلحته ، وشح الوقت المعين على ذلك ، مع قلة باعي ، وقوة الناقد الواعي ، إضافة إلى حساسية هذا الموضوع ، وما ينتج عنه من نسبة الإختيارات إلى شخصي - لاسيما في هذا الأمر المهم - مما قد يفتح عليَّ الباب أمام مطارحات ومجادلات تعكر صفو هذا الكتاب ، فتعظّم القشور ، ويهون اللباب ، وهذا مما لا طائل من ورائه ، ولا غرو في ذلك إذ تتبع العثرات في هذا الزمن على قدم وساق ، وإلى التحاسد والتباغض يكون فيها المساق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
سادساً : أنني عزوت في الهامش جميع النقولات والموارد التي في الكتاب من آيات وأحاديث ، وأقوال لأهل العلم ، من باب تقريب المصادر إلى روادها ، وغرس الثقة في نفس القارئ بإثباتها .
سابعاً : أن هذا الكتاب يعدُّ أول مرجع بهذا الحجم الكبير ، والجمع الحبير ، فيما يخص الخطيب والخطبة حسب ما بدا لي . وما قد جاء مؤلفاً فيها ، فإنما هو من باب المختصرات الفقهية ، أو التوجيهات التربوية ، والخطوات التنموية للقدرات الخطابية ، مع ما فيها من الفوائد والمُلح .
ثامناً : أنني أفردت آخر مسألتين من هذا الكتاب بأمور لا يسع الخطيب إغفالها ، ولا طالب العلم إهمالها ، وذلك لما فيها من النفع الكبير ، والفائدة العظيمة من خلال ذكر النكت المتنوعة في هذا الإطار ، قد جمعت شتاتها ، ولقطت نثارها إبان استقرائي لهذا الباب ، فرأيت أن إهمالها خسارة ، وتقييد الأوابد منها تجارة ، وذلك متمثل في مسألتين :
إحداهما : أنني دونت ما وقفت عليه من فوائد لا يستغني عنها الخطيب ، وهي في الوقت نفسه لا تحتمل أن تفرد في مسألة بحثية مستقلة ، فرأيت جمعها تحت عنوان ( فوائد متنوعة ) ، فبلغت ستّاً وعشرين فائدة .
ثانيهما : أنني قيدت كل ما وقفت عليه من أقوال لأهل العلم حول مسائل تخص الخطيب والخطبة تحت عنوان ( بعض ما قيل إنه مكروه أو من البدع في الخطب ) فبلغت إحدى وأربعين مسألة ، ولم ألتزم فيها بإبداء موافقتي للقائل أو مخالفته ، تغليباً لجانب النقل المجرد ، والإفادة المليحة ، وربما أبديت رأياً في بعضها إن كانت مما ورد الحديث عنها في الكتاب .
هذه هي خلاصة ما امتاز به هذا الكتاب ، وما لم أذكره أكثر من ذلك ، تركت الحكم عليه لقارئه ، وما ذاك إلا من فضل اله عليَّ وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، وسميته ( الشامل في فقه الخطيب والخطبة ) فما كان فيه من صواب فمن الله ، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي والشيطان ، والله ورسوله بريئان من ذلك ، سائلاً المولى جل شأنه أن ينفع به العباد ، وأن يجعله لي ذخراً ، ولحسن العاقبة مدخراً ، ويكفر به سيئاتي ، ويرفع درجاتي ، وأن يجعله علماً نافعاً يتبعني أجره في قبري ويوم أن ألقى الله ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب
أهمية خطبة الجمعة
الأمة الإسلامية أمة غراء ، سمة شريعتها أن يعبد الله وحده في الأرض ، وزمام هذا وقطب رحاه هو الدعوة إلى ذلك وبثه بالأقوال والأفعال . ولما كان القول باللسان له وقع في القلب ، وتأثير حسن في أذن السامع ، ولأن الدعوة تستدعي ألسنة قوالة من أهل الإسلام لتأييده ونصره ، ونشر تعاليمه ومبادئه على أحسن وجه وأكمل حال ؛ فإن مخاطبة الحشود والجماعات قلما تتفق بصفة متكررة إلا في الجمع والأعياد ، ولعل من أوائل أنواع الخطابة في الإسلام هو ما صدع به المصطفى صلى الله عليه وسلم بين ظهراني قريش بعدما أنزل الله عليه قوله : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فصعد على الصفا ثم نادى : ( يا صباحاه ) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بني عبدالمطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؛ فأنزل الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} رواه البخاري ومسلم( (1) انظر : صحيح البخاري برقم ( 4801 ) ، وصحيح مسلم برقم ( 208 ) . 1) .
فخطابة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع لم يعهد لها من قبل مثيل بهذه الكيفية ، وهذا التوقيت وهذه الجرأة ، ولذلك كانت من أهم الحوادث وأعظم البواعث للدعوة الجهرية التي أطلقت الألسن من عقالها ، وأثارت الخطابة في الإسلام من مكمنها ، وأغرت العقول بأحكامها والتفنن فيها ، واختلاب الألباب بسحر بيانها فوق ما كانت عليه في جاهليتها . كيف لا ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل في معرض حديث عن الخطبة : ( إن من البيان لسحراً ) رواه البخاري ومسلم( (2) انظر : صحيح البخاري برقم ( 5146 ) ، وصحيح مسلم برقم ( 869 ) . 2) .
وبعد فرض صلاة الجمعة وخطبتها أصبحت صلة النبي صلى الله عليه وسلم بجمهور الناس تتكرر نهاية كل أسبوع ؛ مما أضفى على الخطبة شيئاً من الأهمية والمكانة ؛ لأنها منبر التوجيه والإرشاد ، فضلاً عن الأعياد والمناسبات العامة كالكسوف والاستسقاء ، ثم ورثها من بعده خلفاؤه الراشدون ، وهم أركان البلاغة ، ودعائم البيان ، وسادات الفصاحة ، ثم من بعدهم ملوك بني أمية وعمالهم ، ثم خلفاء بني العباس ، ثم اتسعت حتى أصبحت في العلماء والمشايخ ، إلى أن اتسع نطاقها لما هو أبعد من ذلك حتى أصبح في مصرٍ واحدٍ في هذا العصر أكثر من ألفي جامع ، ولله الحمد والمنة .
وقد اشتهر في أمة الإسلام خطباء كثيرون يصعب حصرهم ، غير أن من أشهرهم علي بن أبي طالب ، وعبدالله بن عباس رضي الله عنهم ، وهو الذي قالوا عنه : إن ابن عباس : خطب بمكة وعثمان رضي الله عنه محاصر خطبة لو شهدتها الترك والديلم لأسلمتا . وقد ذكره حسان بن ثابت
فقال :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع
سموت إلى العليا بغير مشقة
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
لذي إربةٍ في القول جداً ولا هزلا
فنلت ذُراها لا دنيّاً ولا وغلا ( (3) انظر : البيان والتبيين للجاحظ ص (174) . 3)
وقال الحسن : كان عبدالله بن عباس رضي الله عنه أول من عرف بالبصرة ، صعد المنبر فقرأ البقرة وآل عمران ، ففسَّرهما حرفاً حرفاً . وكان والله مِثجّاً يسيل غرباً ( (4) انظر : البيان والتبيين للجاحظ ص (174) .
4) ، وكان من الخطباء أيضاً عطارد بن حاجب بن زرارة ، وقد قال فيه الفرزدق بن غالب :
ومنا خطيب لا يُعاب وحاملٌ أغرُّ إذا التفَّت عليه المجامع ( (5) انظر : المصدر السابق . 5)
وكان من الخطباء المشاهير أيضاً عبدالله بن عروة بن الزبير ، وزيد بن علي بن الحسين ، والفضل بن عيسى الرقاشي ، وقس بن ساعدة ، وعمرو بن سعيد الأشدق ، وأبو الأسود الدؤلي ، ومنهم أيضاً شبيب بن أبي شيبة ، والحسن البصري ، وبكر بن عبدالله المزني ، ومالك بن دينار ، ويزيد الرقاشي ، ومحمد بن واسع الأزدي ، وغيرهم كثير وكثير ، ليس هذا محلاً لحصرهم .
ولقد أعجبني كلام جميل لطيف للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله يذكر فيه أهمية الخطبة وها أنا أوجز شيئاً منه لأجل أن تحل الفائدة محلها .
فقد قال رحمه الله : " إني أحاول أن ألقي اليوم خطبة ، فلا تقولوا قد شبعنا من الخطب ، إنكم قد شبعتم من الكلام الفارغ ، الذي يلقيه أمثالي من مساكين الأدباء ، أما الخطب فلم تسمعوها إلا قليلاً ، الخطب العبقريات الخالدات التي لا تنسج من حروف ، ولا تؤلف من كلمات ، ولكنها تنسج من خيوط النور الذي يضيء طريق الحق لكل قلب ، وتحاك من أسلاك النار التي تبعث لهب الحماسة في كل نفس .
ولا تقولوا : وماذا تصنع الخطب ؟ إن خطب ديموسئين صبت الحياة في عروق أمة كادت تفقد الحياة ، وهي كلمات وقفت سداً منيعاً في وجه أعظم قائد عرفته القرون الأولى ، الإسكندر ، ووجه أبيه من قبله : فيليب .
وخطبة طارق هي التي فتحت الأندلس . وخطبة الحجاج أخضعت يوماً العراق ، وأطفأت نار الفتن التي كانت مشتعلة فيه ، ثم وجهته إلى المعركة الماجدة ، ففتح واحد من قواد الحجاج أكثر مما فتحت فرنسا في عصورها كلها ، وبلغ الصين ، وحمل الإسلام إلى هذه البلاد كلها ، فاستقر فيها إلى يوم القيامة ، ذلك هو قتيبة بن مسلم .
ولما اجتاح نابليون بروسيا ، ما أعاد لها حريتها ، ولا ردَّ عليها عزمها ، إلا خطب ( فِختِه ) التي صارت لقومه كالمعلقات يحفظها في المدارس الطلاب ... الخ ( (6) انظر : هتاف المجد للشيخ علي الطنطاوي ص (23) . 6) . اهـ .
هذا حاصل كلام الشيخ رحمه الله . والذي من خلاله يتضح شيء من الأهمية لخطب الجمع والمواسم من جهة التأثير على الناس في دعوتهم إلى ما فيه صلاحهم في الدنيا والآخرة . فلله ما أعظم رتبة الخطباء ، وما أكرم مكانتهم . إنهم يغدون في خمائل الخطابة ، فتراهم تارة يحذرون ، وتراهم تارة يبشِّرون ، وأخري يعظون ، ورابعة يذكّرون ، يستلينون الناس بالقول إذا قسوا ، ويستخضعونهم به إذا عصوا ، ويمتلكون أفئدتهم بالرغبة والرهبة أخرى ، فلله ما أعظم محل الخطباء في النفوس ، وأنفذ كلامهم في القلوب ، وأشد إثارتهم للعواطف ، وبالله كم تتجه الأنظار نحوهم ، وتحدق الأبصار شاخصة بهم، وتلتف حولهم القلوب، وتترامى إليهم الآمال .
1-
حكم خطبة الجمعة
اختلف أهل العلم في حكم خطبة الجمعة هل هي واجبة أم لا ؟ على قولين :القول الأول :
قالوا : إن الخطبة شرط لصحة الجمعة ، فلابد أن تتقدمها . وبه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ( (7) انظر : بدائع الصنائع (2/195) عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ( 1/ 227 ) ، المجموع ( 4/ 383 ) ، المغني ( 3/ 170 ) ، مصنف عبدالرزاق (3/ 222) . 7) . وبه قال عطاء ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وإسحاق ، وأبو ثور( (8) انظر : المغني (3/ 171 ) . 8) . قال القاضي عياض : وهو قول كافة العلماء( (9) انظر : إكمال المعلم (3/256 ) . 9) .
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة ، منها :
أ- فِعْله صلى الله عليه وسلم المستمر الثابت عنه أنه كان يخطب في كل جمعة ، وهو الذي قال فيما صحَّ عنه ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) رواه البخاري .
وقد ثبت صلاته صلى الله عليه وسلم الجمعة بعد خطبتين ( (10) انظر : المجموع ( 4/ 383 ) ، المغني (3/ 171 ) . 10) .
ب - قوله تعالى { فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } والذكر هو الخطبة ، وإن لم يكن هو الخطبة فإن الخطبة جزء منه ؛ لأنها ذكر لله فتدخل في الأمر بالسعي لها من حيث هي ذكر لله ، فدلَّ على وجوبها ( (11) انظر : بدائع الصنائع (2/195) ، المغني (3/ 171 ) . 11). ولأن فعله للخطبة بيان للمجمل ، وبيان المجمل الواجب واجب( (12) انظر : نيل الأوطان (3/278 ) . 12).
ج - ما رواه عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن عمر رضي الله عنه أنه قال : " قصرت الصلاة لأجل الخطبة( (13) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/237 ) ، مصنف ابن أبي شيبة (2/ 128 ) . 13) " وهذا لفظ ابن أبي شيبة .
وقد ذكر صاحب البدائع وابن قدامة في المغني أنه مروي عن عائشة بنحو ما روي عن عمر غير أني لم أقف عليه . والله أعلم .
القول الثاني :
قالوا : إن الخطبة ليست شرطاً ، فلو لم يتقدم الصلاة خطبة فالصلاة صحيحة وتعد جمعة .
وهذا القول قال به الحسن البصري ، وداود الظاهري ، والجويني ، وابن الماجشون من المالكية( (14) انظر :فيما مضى : المجموع ( 4/ 383 ) ، المغني ( 3/ 171 ) ، عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ( 1/ 227 ) . 14) ، وذكر القاضي عياض أنه رواية عن مالك أيضاً( (15) انظر : إكمال المعلم (3/256 ) .15) .
ورجَّح هذا الشوكاني رحمه الله فقد قال : فالظاهر ما ذهب إليه الحسن البصري وداود الظاهري والجويني من أن الخطبة مندوبة فقط ( (16) انظر : نيل الأوطان (3/278 ) . 16) . اهـ .
وقد أجاب الشوكاني عن أدلة الجمهور بما يأتي :
1- أما فعله صلى الله عليه وسلم المستمر الذي واظب فيه على الخطبة ، فقد قال عنه الشوكاني : إن مجرد الفعل لا يفيد الوجوب( (17) انظر : نيل الأوطان (3/277 ) .17) . اهـ .
2- وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) فقد قال عنه الشوكاني : " وهو مع كونه غير صالح للاستدلال به على الوجوب ليس فيه إلا الأمر بإيقاع الصلاة على الصفة التي كان يوقعها عليه والخطبة ليست بصلاة( (18) المصدر السابق .18) . اهـ .
3- وأما استدلالهم بقوله تعالى{ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } وأن فعله صلى الله عليه وسلم للخطبة بيان للمجمل ، وبيان المجمل الواجب واجب ؛ فقد قال الشوكاني : " هو مردود بأن الواجب بالأمر هو السعي فقط " وقولهم بأن الذكر هو الخطبة فهو متعقب بأن المراد به الصلاة ، وغاية الأمر أنه متردد بين الصلاة وبين الخطبة ، وقد وقع الاتفاق على وجوب الصلاة ، والنزاع في وجوب الخطبة ، فلا ينتهض هذا الدليل للوجوب( (19) انظر : نيل الأوطان (3/278 ) .19) . اهـ .
قلت : هذا هو حاصل كلام أهل العلم ، ولعل قول الجمهور هو الأحظ بالدليل ، ولأن عمل السلف على إثبات هذا وإنكار ما خالفه ، فقد روى عبدالرزاق وابن أبي شيبة عن محمد بن سيرين قال : " صليت مع رجل صلاة الجمعة فلم يخطب وصلى أربعاً فخطأته ، فلما سألت عن ذلك إذا هو قد أصاب( (20) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/171 ) ، مصنف ابن أبي شيبة (2/ 31 ) .20) " . هذا لفظ عبدالرزاق .
فيتضح بهذا الأثر أن منْ لم يخطب فإنه لا يصلي ركعتين وإنما يصليها أربعاً ، فدلَّ على التلازم بين الخطبة والصلاة .
وقد بوَّب عبدالرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما باباً ، فقالا ( باب الإمام لا يخطب يوم الجمعة كم يصلي ؟ ) ( (21) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/171 ) ، مصنف ابن أبي شيبة (2/ 31 ) .21) .
وقد جاء في المصنفين أو أحدهما عن الضحاك ، وسفيان، وعطاء، وإبراهيم ، والحسن ، ومكحول ، وطاوس ، كلهم يقولون بلزوم الخطبة مع الصلاة، وأن من لم يخطب فإنه يصلي أربعاً ( (22) انظر : المصدرين السابقين . 22) .
تنبيه :
لقد رأيت أن أهل العلم كابن قدامة والنووي وغيرهما ، قد نسبوا إلى الحسن البصري القول بأن الخطبة ليست واجبة وذلك من خلال رواية عبدالرزاق عن سعيد قال : أخبرنا قتادة عن الحسن أنه قال - فيمن لم يخطب الجمعة - يصلي ركعتين على كل حال ( (23) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/172 ) .23) .
والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن للحسن البصري في هذه المسألة قولين .
الأول منهما : هو ما ذكره أهل العلم سابقاً ، وثانيهما : أنه يقول بوجوب الخطبة ، لما رواه ابن أبي شيبة قال : حدثنا عبدالأعلى عن يونس عن الحسن قال : الإمام إذا لم يخطب صلى أربعاً( (24) مصنف ابن أبي شيبة (2/ 31 ) .24) . فيتضح من هذا أن للحسن روايتين ، ولكن أيتهما المتأخرة ؟ العلم عند الله تعالى .
2-
الإخلاص والمتابعة
الذي ينبغي للخطيب فيما يتعلق بخطبة الجمعة أن يكون منشؤها والسعي إليها وطلبها ، إنما هو من باب الإخلاص لله عز وجل والتبليغ للدين ، والدعوة إلى التمسك بالعقيدة الصحيحة والشريعة السمحة ، عملاً بقول الباري جل شأنه : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ}( (25) سورة آل عمران: الآية187. 25) وقوله سبحانه : { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}( (26) سورة الأحزاب : آية 39. 26) وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( بَلّغوا عني ولو آيةً ) ( (27) أخرجه من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما البخاري في صحيحه كتاب أحاديث الأنبياء رقم ( 3461 ) ، والترمذي (5/40 رقم 2669 ) والدارمي (1 / 136 ) وأحمد (2/159 ) . 27) . وقوله صلى الله عليه وسلم : ( نضَّر الله ( (28) أي ألبسه الله النضرة وهي الحسن وخلوص اللَّون ، فيكون تقديره : أجمله الله وزيَّنة ، أو يكون في معنى : أوصله الله إلى نضرة الجنة وهي نعمتها ونضارتها . ( المحدث الفاصل بين الراوي والوعي للرامهرمزي ص ( 173 ) 28) امرأً سمع مقالتي فوعاها( (29) وعَيْتُ الحديث أعِيه وَعْياً فأنا واعٍ ، إذا حفِظْتُه وفَهِمْتُه ، وفلان أوعى من فلان : أي أحفظ وأفهم ( النهاية ( 5/207 ) . 29) ثم أداها كما سمعها .... ) الحديث ( (30) أخرجه الترمذي في جامعه : العلم (5/ 34 رقم 2658) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، وأخرجه الخطيب في شرف أصحاب الحديث ص ( 18) بسنده عن عبيدة بن الأسود ، عن القاسم بن الوليد الهمذاني ، عن الحارث ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عبدالله بن مسعود . قال الخطيب بعد ذكر الحديث : حدثني من سمع عبدالغني بن سعيد المصري الحافظ يقول : أصح حديث يروى في هذا الباب حديث عبيدة بن الأسودهذا . 30) . ولكن هذا العمل لا يتم قبوله بعد الإخلاص لله عز وجل إلا بمتابعة النبي صلى الله عليه وسلم فهذان هما شرطا قبول العبادة لقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً }( (31) سورة هود: آية731) قال الفضيل بن عياض : أي أخلصه وأصوبه ، وقال : " إن العمل إذا خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً . قال : والخالص إذا كان لله عز وجل ، والصواب إذا كان على السنة( (32) انظر : جامع العلوم والحكم (1 / 26 ) . 32) . اهـ .
روى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير عن بشير بن عقربة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من قام بخطبته لا يلتمس بها إلا رياءً وسمعةً وقفه - عز وجل - يوم القيامة موقف رياءٍ وسمعةٍ ) ( (33) انظر : مسند أحمد (3 / 500) ، المعجم الكبير (2 / 29 ) . 33)
قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وأحمد ، ورجاله موثقون ( (34) انظر : مجمع الزوائد ( 2 / 191 ) . 34) . اهـ .
وقد جمع أحد الفضلاء شرطي قبول العبادة في قوله :
واعلم بأن الأجر ليس بحاصل
لابد من إخلاصه ونقائه
وكذا متابعة الرسول فإنها
إلا إذا كانت له صفتانِ
وخلوه من سائر الأدران
شرط بحكم نبينا العدنان
والحقيقة أن جملة من الناس يغفلون عن حقيقة المتابعة وأثرها في قبول العمل ، ويظهر هذا جلياً في واقع كثير من الناس من خلال ما يسمع في دعاء بعضهم لبعض حينما يقول أحدهم للآخر : نسأل الله لنا ولك الإخلاص ، أو رزقك الله الإخلاص ، ويندر في مثل الدعاء أن تضاف إليه المتابعة ، بيد أن الأولى أن يقال : نسأل الله لنا ولك الإخلاص والمتابعة .
أو يكتفي بقول: نسأل الله لنا ولك القبول. حيث إن القبول لا يتم إلا بتوفر الأمرين معاً والله الموفق .
3 -
إرادة النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم
ينبغي للخطيب أن يجعل قصده وغايته في خطبه النصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم ؛ وذلك عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي رقية تميم بن أوس الدَّاريِّ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدِّينُ النَّصيحةُ) قلنا : لمن ؟ قال : ( للهِ ولِكتابهِ ولرسُولهِ ولأئمَّةِ المسلمين وعامَّتِهم ) ( (35) انظر : صحيح مسلم كتاب الإيمان ( 1/74 رقم 55 ) . 35) .قال الحافظ أبو نعيم : " هذا الحديث له شأن عظيم ( (36) انظر : جامع العلوم والحكم لابن رجب ( 1/185 ). 36) " .
وقد نقل ابن رجب عن محمد بن أسلم الطوسي ، أنه قال عن حديث تميم : إنه أحد أرباع الدين ( (37) نفس المصدر السابق . 37).
بل قال النووي رحمه الله : " هذا حديث عظيم لشأن ، وعليه مدار الإسلام ، وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه ، بل المدار على هذا وحده ( (38) انظر : شرح النووي على صحيح مسلم (2/37 ) . 38) " اهـ .
قال أبو حاتم البستي رحمه الله : " الواجب على العاقل لزوم النصيحة للمسلمين كافة ، وترك الخيانة لهم بالإضمار والقول والفعل معاً ، إذ إن المصطفي صلى الله عليه وسلم كان يشترط على من بايعه من أصحابه ( النصح لكل مسلم ) ( (39) رواه البخاري ( كتاب الإيمان باب 42 رقم 57 ) ، مسلم ( كتاب الإيمان باب 97 رقم 199 ) . 39) . ( (40) انظر : روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ( 194 ) . 40) اهـ .
وقال أيضاً : " خير الإخوان أشدهم مبالغة في النصيحة ، كما أن خير الأعمال أحمدها عاقبة وأحسنها إخلاصاً ، وضرب الناصح خير من تحية الشانئ ( (41) انظر : روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ( 194 ) . 41).اهـ .
قلت : فإذا كان الأمر كذلك ، فإن النصح للمسلمين عامة أمارة كبرى من أمارات الاهتمام بأمورهم ، وبإحياء شعيرة الأمور بالمعروف والنهي عن المنكر في واقعهم ، وبيان حجة أهل السنة والجماعة وجهادهم لنصرة الحق بالقلم واللسان كما قد كان مرات وكرات بالسيف والسنان ، ومما لا شك فيه أن النصح دعامة من دعامات هذا الدين ، وشعار من شعاراته، وشعيرة من شعائر الإسلام الكبرى{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}( (42) سورة الحج ، آية : 32 . 42).
وأختم أهمية النصح هنا بقول أبي داود رحمه الله بما نصه : ( كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما ضمنته هذا الكتاب - يعني كتاب السنن - جمعت فيه أربعة آلاف وثمانمائة حديث ، ذكرت الصحيح وما يشبهه ويقاربه ، ويكفي الإنسان لدينه من ذلك أربعة أحاديث ...... ) ( (43) ذكر هذا القول الحافظ المنذري في مقدمة مختصر سنن أبي داود عن أبي بكر : محمد بن بكر بن داسة ، يرويه عن أبي داود ( 1 / 6 ) . 43) وذكره منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه ) ( (44) أخرج الشيخان من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) صحيح البخاري : كتاب الإيمان ( رقم 13 ) صحيح مسلم ( 1 / 67 رقم 71 ) . 44) .
قلت : والذي يرضاه المؤمن لنفسه هو الاستقامة على منهج أهل السنة والجماعة الفرقة الناجية والطائفة المنصورة ، وبالتالي فإن منهج أهل السنة هو ما ينبغي أن يرضاه المؤمن ، ولقد أحسن من قال :
محبك من يبدي لك النصح صافياً
ويحذيك طيباً أو تقوم مطيباً
وسيان يبدو في الرخاء وفي العسر
ويلقاك بالوجه الطليق وبالبشر
فلينتبه لهذا الخطباء . والله الموفق .
4-
مخالفة قول الخطيب فعله
مما لا شك فيه أن مخالفة القول العمل أمر خطير ، وهو سبب مقت الله لمن يوصف بذلك كما قال الله جل شأنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ( (45) سورة الصف ، آية : 2 -3 . 45) وقال سبحانه ذامّاً ما وقع فيه بنو إسرائيل بقوله : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ( (46) سورة البقرة ، آية:4446) .بل قد جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على خطورة ذلك حتى على الخطباء الذين يعتلون المنابر ويعظون الناس ، فقد روى الإمام أحمد في مسنده وأبو نعيم في الحلية وأبو يعلى( (47) انظر : المسند ( 3 / 120 ) الحلية ( 2 / 386 ) مسند أبي يعلى ( 3992 ) . 47) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مررت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض( (48) القرْضُ : القطع . قرضه يقْرِضُه قرْضاً وقرَّضه : قطعه . والمقراضان : الجلمان : لسان العرب ( مادة قرض ) . 48) من نار ، قال : قلت : منْ هؤلاء ؟ قال : خطباء من أهل الدنيا ، كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون ؟ ) قال الهيثمي : " وأحد أسانيد أبي رجاله رجال الصحيح ( (49) انظر : مجمع الزوائد ( 7 / 276 ) . 49) . اهـ .
وفي الصحيحين ( (50) صحيح البخاري : كتاب الفتن ، باب (17رقم 7098 ) وصحيح مسلم ( 4/ 2290 رقم 2989 ) . 50) من حديث أسامة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يجاء برجل فيطرح في النار فيطحن فيها كما يطحن الحمار برحاه ، فيطيف به أهل النار ( (51) أي يجتمعون حوله ، يقال : أطاف به القوم إذا حلَّقوا حوله حلقة وإن لم يدوروا ، وطافوا إذا داروا حوله ( فتح الباري 13 / 52 ) . 51) فيقولون : أي فلان ، ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقول : إني كنت آمر بالمعروف ولا أفعله ، وأنهى عن المنكر وأفعله ) .
بل إن الوعظ والتوجيه والقصص ونحوه ذلك مما يقال على المنابر أو غيرها يعدُّ ولا شك من مظان الزلل وحصول العجب أو الرياء والسمعة ، ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث عوف بن مالك الأشجعي مرفوعاً ( لا يقص إلا أمير أو مأمور أو مختال ) ( (52) انظر : مسند أحمد (6 / 23 ) ، سنن أبي داود ( 4 / 72 رقم 3665 ) . 52) . اهـ .
قال ابن الأثير : لا يقُصُّ تكسباً ، أو يكون القاص مختالاً يفعل ذلك تكبراً على الناس ، أو مرائياً يرائي الناس بقوله وعمله ، لا يكون وعظه وكلامه حقيقة ( (53) انظر : النهاية ( 4 / 62 ) . 53) . اهـ .
بل إن مما يزيد هذا الأمر تأكيداً أن ابن الأثير أشار إلى أن المراد بهذا الحديث خطبة الجمعة على أحد الأقوال ، حيث يقول : " وقيل أراد الخطبة؛ لأن الأمراء كانوا يلونها في الأول.." ( (54) انظر : النهاية ( 4 / 62 ) .54). اهـ .
قال النخعي رحمه الله : " ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } ، { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ }، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} ." ( (55) انظر : تفسير القرطبي ( 18 / 72 ) . 55) .
وقال الخطابي : وقد قيل : إن المتكلمين على الناس ثلاثة أصناف : مذكِّر ، وواعظ ، وقاصّ . فالمذكِّر : الذي يذكِّر الناس آلاء الله ومنته ونعماءه ، ويبعثهم به على الشكر له ، والواعظ : يخوفهم بالله وينذرهم عقوبته فيردعهم به عن المعاصي ، والقاص : وهو الذي يروي لهم أخبار الماضين ، ويسرد عليهم القصص ، فلا يأمن أن يزيد فيها أو ينقص ، والمذكِّر والواعظ مأمون عليهما هذا المعنى( (56) انظر : معالم السنن ( 4/ 72 ) . 56) . اهـ .
فهذه الأدلة بمجموعها تدل على شدة النكير على من علم فلم يعمل بما علمه ، وهذه صفة من صفات اليهود وهم المغضوب عليهم الذين علموا فلم يعملوا .
قال ابن قدامة رحمه الله : " ويستحب أن يكون في خطبته متعظاً بما يعظ الناس به ؛ لأنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عُرض عليَّ قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار . فقيل لي : هؤلاء خطباء أمتك يقولون ما لا يفعلون ) ( (57) انظر : المغني ( 3/180 ) وقد تقدم تخريج الحديث أول المبحث . 57) .
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : " يا حملة العلم ، اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ، فوافق عمله علمه ، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم ، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه إذا جلس إلى غيره ( (58) انظر : نحوه في الآداب الشرعية (2 / 53 ) . 58) .
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه : إن علامة الجهل ثلاث : العجب ، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه ، وأن ينهى عن شيء ويأتيه . اهـ ( (59) انظر : جامع بيان العلم وفضله (1 / 143 ) . 59) .
وقال جندب بن عبدالله البجلي عن حديث ذكره : " إن مثل الذي يعظ الناس وينسى نفسه كالمصباح يحرق نفسه ويضيء لغيره " . اهـ .
قال ابن عبدالبر معلقاً على هذا الكلام : أخذه بعض الحكماء فقال :
وبخَّت غيرك بالعمى فأفدته
كفتيلة المصباح تحرق نفسها
بصراً وأنت محسِّنٌ لعماكا
وتنير موقدها وأنت كذاكا ( (60) انظر : المصدر السابق ( 1 / 195 ) . 60)
بل لقد وصف بعض أهل العلم من يقول ولا يفعل بالجنون ؛ لأن الله يقول : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ولقد أحسن منصور الفقيه حين قال :
إن قوماً يأمرونا
لمجانين وإن هم
بالذي لا يفعلونا
لم يكونوا يصدعونا( (61) انظر : انظر تفسير القرطبي ( 1 / 410 ) . 61)
ولقد أحسن من قال :
وعالم بعلمه لم يعملن
معذب من قبل عباد الوثن
وقد ذكر الحافظ ابن عبدالبر عن بعض السلف مقولات في هذا الشأن منها :
" من حجب الله عنه العلم عذَّبه على الجهل ، وأشد منه عذاباً من أقبل عليه العلم فأدبر عنه ، ومن أهدى الله إليه علماً فلم يعمل به " .
عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : "تعلموا العلم واعملوا به ، ولا تتعلموه لتتجملوا به ، فإنه يوشك إن طال بكم زمان أن يتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه " .
عن عبدالله بن مسعود قال : " إن الناس أحسنوا القول كلهم ؛ فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه ، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبِّخ بنفسه " .
عن الحسن البصري قال : " اعتبروا الناس بأعمالهم ، ودعوا أقوالهم ؛ فإن الله لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه ، فإذا سمعت قولاً حسناً فرويداً بصاحبه ، فإن وافق قولُه فعله فنعم ونعمة عين " .
ذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد قال : " أدركت الناس وما يعجبهم القول ، إنما يعجبهم العمل ( (62) انظر : صحيح جامع بيان العلم وفضله . اختصار الزهيري ( 260 ) . 62) " .
وقال أبو الدرداء: ويل لمن يعلم ولم يعمل مرة، وويل لمن علم ولم يعمل سبعين مرة( (63) انظر : صيد الخاطر ص (50) إحياء علوم الدين ( 1 / 63 ) . 63)
ومما لا شك فيه أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر إنما هو كالطبيب الذي يداوي الناس ، فمن العيب أن يصف الطبيب للناس الدواء وطرق الوقاية ثم هو لا يفعل ذلك .
ولقد أحسن أبو عثمان الحيري الزاهد حين قال :
وغير تقي يأمر الناس بالتقى
طبيب يداوي والطبيب مريض
وقد كان سفيان الثوري ينشد متمثلاً وهي لسابق البربري في شعر له مطول :
إذا العلم لم تعمل به كان حجة
فإن كنت قد أوتيت علماً فإنما
عليك ولم تعذر بما أنت جاهله
يصدق قول المرء ما هو فاعله ( (64) انظر : صحيح جامع بيان العلم وفضله . اختصار الزهيري ( 260 ) . 64)
وقال أبو العتاهية :
يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً كملبس الثوب من عريٍّ وعورتُه
إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها
للناس بادية ما أن يواريها ( (65) انظر : صحيح جامع بيان العلم وفضله . اختصار الزهيري ( 246 ) ، الآداب الشرعية (1 / 207 ) . 65)
وقال أيضاً :
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى
وريح الخطايا من ثيابك تسطع ( (66) انظر : تفسير القرطبي ( 1 / 410 ) . 66)
وقال أبو حاتم البستي : " ليس الناصح بأولى بالنصيحة من المنصوح له " ( (67) انظر : روضة العقلاء ص ( 195 ) . 67) اهـ .
فيتضح مما سبق ذكره خطورة هذا الأمر ، وأن على الخطيب أن يراعيه أشد المراعاة ؛ لأن الناس إذا علموا منه ذلك فإنهم يزدرونه ، ويكون عندهم محلاً للشماتة فضلاً عن عقوبة ذلك في الآخرة واشتداد إثمه ، والله المستعان .
تنبيه :
قد يقول قائل : هناك من الخطباء من قد يتوقف عن أمر بمعروف معين أو نهي عن منكر معين ؛ لأنه لا يفعل الأول ، أو أنه متلبس بالثاني ، فلذلك يترك مثل هذا خشية أن يكون ممن يقول ما لا يفعل .
والجواب على هذا الإشكال أورده من خلال بعض النقولات عن بعض السلف . فمن ذلك :
قول سعيد بن جبير : " إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من يكون فيه شيء ؛ لم يأمر أحد بشيء ، فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير " ( (68) انظر : إحياء علوم الدين ( 2 / 313 ) . تفسير القرطبي ( 1 / 411 ) . 68) .
ومنه قول الحسن البصري لمطرف بن عبدالله بن الشخير : يا مطرف ، عظ أصحابك ، فقال مطرف : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل . فقال الحسن : يرحمك الله ! وأينا يفعل ما يقول ؟ لودَّ الشيطان أنه ظفر بهذه منكم ، فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم ينه عن منكر ( (69) انظر : تفسير القرطبي ( 1 / 410 ) . 69) .
ومن ذلك قول الحسن البصري أيضاً : " أيها الناس ، إني أعظكم ولست بخيركم ولا أصلحكم ، وإني لكثير الإسراف على نفسي ، غير محكم لها ولا حاملها على الواجب في طاعة ربها ، ولو كان المؤمن لا يعظ أخاه إلا بعد إحكام أمر نفسه لعدم الواعظون وقلَّ المذكرون ... الخ " ( (70) انظر : المصدر السابق . 70)
وقد تحدث البيهقي جامعاً بين أدلة ذم الأمر بالشيء أو النهي عنه والآمر مخالف لما يأمر به ، فقال : " إن عدم الذم يكون فيمن الغالب عليه الطاعة ، وتكون المعصية منه نادرة ثم يتداركها بالتوبة ، والأول فيمن يكون الغالب عليه المعصية وتكون الطاعة منه نادرة ، والله أعلم .( (71) انظر : الجامع لشعب الإيمان ( 13 / 256 ) . 71)
وقال النووي : قال العلماء : ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه ، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به ، والنهي وإن كان متلبساً بما ينهى عنه ، فإنه يجب عليه شيئان ، أن يأمر نفسه وينهاها ، ويأمر غيره وينهاه ، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر ( (72) انظر : شرح النووي لمسلم ( 1 / 300 ) . 72) ؟ . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله ناقلاً قول بعض أهل العلم : " يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخف على نفسه منه ضرراً ولو كان الآمر متلبساً بالمعصية ؛ لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولاسيما إن كان مطاعاً ، وأما إثمه الخاصة به فقد يغفره الله له وقد يؤاخذه به ، وأما من قال : لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة ، فإن أراد أنه الأولى فجيد ، وإلا فيلزم سدّ باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره " ( (73) انظر : فتح الباري (14 / 554 ) . 73) . اهـ .
وبما ذكرته سابقاً يزول الإشكال بإذن الله ، ولقد أحسن من قال :
ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب
فمن يعظ العاصين بعد محمد
5-
التماس الخطيب رضا الغير
ينبغي للخطيب أن ينتبه لناحية مهمة تعدُّ مدخلاً واسعاً من مداخل الشيطان لاسيما إذا كان الخطيب ممن يتجمهر حوله الناس ويكثر محبوه ، وهذا الأمر المهم هو طلب رضاء الناس أو التماسه ، أو موافقة النفس في التطلع إليه أو الميل له ، فالخطيب المشهور تعتريه غالباً حالتان : إما أن يرضي جمهوره بخطبة فيها نوع من القوة في النقد والإثارة حتى ولو كان حقّاً ولكن دون روية أو تسييس ، أو نظر في المقاصد والغايات ، أو في حسن التوقيت ، أو في الراجح من المصالح والمفاسد ، أو في المندوحة عن الزج بالنفس في مثل هذا ، أو أن يرضي طرفاً آخر غير الجمهور ممن هو مخالف لهم ، أو ليست له حظوة عندهم ، أو بينه وبينهم من النفرة ما يدعوه إلى قول مثل ذلك . وكلا الأمرين خطأ فادح حيث لا يخرجان عن التماس رضا الناس قبل رضا الله ، ولا أدل على خطأ ذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة ( من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى الناس عنه ، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه ، وأسخط عليه الناس ) ( (74) أخرجه ابن حبان في صحيحه ( 1 / 247 رقم 267 ) وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الطبراني في معجمه الكبير ( 11 / 268 ) ( من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه ، وأسخط عليه من أرضاه في سخطه . ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه ، وأرضى عنه من أسخطه في رضاه ، حتى يزينه قوله وعمله في عينه ) . وفي حديث أنس عند العسكري كما في كشف الخفاء ( 1/ 235 ) ( ما من مخلوق يلتمس رضا مخلوق بمعصية الخالق إلا سلط الله عليه . وما من مخلوق يلتمس رضا الخالق في سخط المخلوق إلا كفاه الله مؤنته ) . 74) .وعند الترمذي أن معاوية كتب إلى عائشة أن اكتبي إليّ كتاباً توصيني فيه ، ولا تكثري عليّ ، فكتبت عائشة إلى معاوية : سلام عليك ، أما بعد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ، من التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ) والسلام عليك ( (75) انظر : جامع الترمذي ( 4/ 610 رقم 2414 ) . 75) .
ولابن القيم رحمه الله كلام حول مثل هذه المسألة فيما يتعلق بإرضاء المخلوقين أيّاً كانوا ، من خلال حديث عائشة السابق .
فقد قال رحمه الله : ... وهم لا يتمكنون مما لا يريدون إلا بموافقة أولئك أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم ، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت ، فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء ، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء ، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل إما في الخبر وإما في الأمر ، أو المعاونة على الفاحشة والظلم ، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه ، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإلا عذب بغيرهم ، فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ويروى موقوفاً ومرفوعاً ( من أرضى الله بسخط الناس ..الخ الحديث ) ، وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفي من يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم"( (76) انظر : الفوائد ( 1/209 ) ، زاد المعاد (3/15 ) ، حادي الأرواح (1 / 54 ) . 76). اهـ
فانظر إلى كلام ابن القيم هنا ، وانظر ما يكون في المرء عرضة بإرضاء طرفين أو أحدهما ، حيث إنه يجب عليه أن يتركهما ويتجه إلى إرضاء الله وحده .
ويقول ابن القيم أيضاً : فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ، ولم يعاملهم في الله ، وخاف فيهم ولم يخفهم في الله ، وأرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله ، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم في الله ... الخ ( (77) انظر : طريق الهجرتين ( 1 / 108 ) . 77) . اهـ .
قلت : هذا إذا أرضى الناس بأمر خاطئ ، أما إذا أرضى أحد الطرفين بأمر صواب وكان من أمور العبادة وهو يقصد إرضاءهم بذلك ، ويكون هذا الإرضاء هو المنشئ لهذا الأمر، فيخشى أن يكون من باب الرياء وهو الشرك الخفي الذي خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته .
فعند ابن ماجة من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ أخوف ما أتخوف على أمتي الإشراك بالله . أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً . ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية ) ( (78) انظر : سنن ابن ماجة ( 2/ 1406 رقم 4205 ) . 78) .
وعند البغوي في تفسيره بسنده عن محمود بن لبيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) . قالوا : يا رسول الله ، وما الشرك الأصغر ؟ قال : ( الرياء ) يقول الله لهم يوم القيامة يوم يجازي العباد بأعمالهم : ( اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ) ( (79) انظر : تفسير البغوي ( 1 /285 ) . 79) .
وبهذا يتضح أثر هذا المسلك وأنه مظنة الزلل للخطيب ، والمفضي إلى الوقوع في مغبة الإثم ، إذ على الخطيب أن يقول الحق لوجه الله لا ينظر فيه إلى رغبة جمهور ، ولا إلى رغبة سلطان ، ولا غيره ، كما قال تعالى : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ( (80) سورة الأحزاب:آية 39. 80) . لقد أورد الزبيدي شارح الإحياء كلاماً مفيداً حول التماس سخط الله برضا الناس ، فذكر قصتين واقعتين قائلاً : وقد اتفق أن الملك الظاهر بيبرس رحمه الله تعالى لما وصل الشام وحضر لصلاة الجمعة ، أبدع الخطيب بألفاظ حسنة يشير بها إلى مدح السلطان ، وأطنب فيها ، فلما فرغ من صلاته أنكر عليه وقال مع كونه تركياً : ما لهذا الخطيب يقول في خطبته السلطان السلطان ، ليس شرط الخطبة هكذا ، وأمر به أن يضرب بالمقارع ، فتشفع له الحاضرون . هذا مع كمال علم الخطيب وصلاحه وورعه ، فما خلص إلا بعد الجهد الشديد .
واتفق مثل هذا لبعض أمراء مصر في زماننا ، لما صلى الجمعة في أحد جوامع مصر ، وكان مغروراً بدولته مستبداً برأيه ، وربما نازعته نفسه في خلافة على مولانا السلطان نصره الله تعالى ، فأطنب الخطيب في مدحه بعد أن ذكر اسمه بعد اسم السلطان ، فلما فرغ من صلاته أمر بضرب ذلك الخطيب وإهانته ونفيه عن مصر إلى بعض القرى . فهذا وأمثال ذلك ينفي للخطباء أن يلتمسوا سخط الله تعالى برضا الناس ؛ فإن ذلك موجب لسخط الله تعالى والمقت الأبدي ، نسأل الله العفو منه آمين ( (81) انظر : اتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي (3 / 231 ) . 81) . اهـ .
وتحدث الشيخ محمد رشيد رضا محذراً الخطيب بقوله : " عليه أن يراقب الله وحده ، ويذكر أنه عليم بخطرات نفسه ، وجولات ذهنه ، ثم محاسبته على ما تخفي الصدور . وإذا علم أن ثناء الناس لا قيمة له عند الله - ما لم يكن بحق - وأنه لا يحول دون ضر أراده الله بمن يقول ولا يفعل ، أو ينطق بغير ما يضمر ، ويظهر بغير ما يبطن . إذا علم ذلك سهل عليه أن يدع الناس وثناءهم جانباً ، ويولي وجهه نحو الذي فطر السموات والأرض وبيده ملكوت كل شيء ، وهو يجير ولا يجار عليه ، فإن ذلكم الجدير بالرعاية والأول بالرقابة ، والحقيق بالرغبة في ثوابه ، والرهبة من عقابه ، لا من لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، وربما كان ثناؤه بلسانه وبين جنبيه عدو لدود وحسود حقود . فالواعظ العاقل منْ مقال حاله ساعة يتصدى للإرشاد {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} ، { إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ( (82) انظر : مجلة المنار (29 / 342 ) . 82) . اهـ .
وقال الشيخ على الطنطاوي قاصداً الخطيب : عليه أن يبين حكم الله فقط ، لا آراءه هو وخطرات ذهنه ، ويحرص على رضا الله وحده ، لا على رضا الناس ، فلا يتزلف إلى أحد ، ولا يجعل الخطبة وسيلة إلى الدنيا ، وسبباً للقبول عند أهلها ( (83) انظر : فصول الإسلام ص ( 127 ) . 83) . اهـ .
وقد بوَّب البخاري في صحيحه باباً فقال : " باب العرض في الزكاة " .
ثم قال البخاري : " وقال طاوس : " قال معاذ رضي الله عنه لأهل اليمن : " ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة ، أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ( (84) انظر فتح الباري (4 / 67 ) . 84) " .
ونقل الحافظ ابن حجر عن ابن رشيد أنه قال : " وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم ، لكن قاده إلى ذلك الدليل " ( (85) انظر فتح الباري (4 / 68 ) .85) . اهـ .
قلت : ففي هذا دليل واضح على ما ذكرته ، وهو أن المرء لا ينبغي أن يقوده شيء إلى أمر من الأمور إلا الدليل الشرعي الذي يكون إتباعه إرضاءً لله عز وجل بقطع النظر عن كونه يوافق المخالف أو لا يوافقه .
6- وقوع الخطيب في العُجب وحب الشهرة :
قد يبدأ الخطيب مشوار الخطابة بداية متواضعة ربما حقر فيها نفسه ، ولكن ما أن تقف قدماه على منبر الخطباء النجباء الذين يملكون قلوب الناس قبل أسماعهم إلا وتبقى نفسه عرضة للانزلاق في مهاوي العُجب، الذي يحمله على الاعتداد برأيه دون غيره فيقع فريسة للأخطاء ومجانبة الصواب، لاسيما في الأمور المعضلة التي تنزل بالمجتمع حيناً بعد آخر ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد ذمَّ هذه الصفة بقوله : ( إذا رأيت شحّاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ، ودعْ عنك العوامَّ ) رواه أبو داود والترمذي وحسنه ( (86) من حديث أبي ثعلبة الحشني رضي الله عنه . سنن أبي داود (4 / 512 ) ، جامع الترمذي ( 5 / 257 رقم (3058 ) . 86) .
قال أبو حاتم البستي : " إعجاب المرء بنفسه أحد حصاد عقله ( (87) انظر : روضة العقلاء ص ( 62 ) . 87) . اهـ .
ونقل ابن عبدالبر عن أحد السلف قوله : الإعجاب آفة الأحباب . ونقل عن آخر قوله : من أعجب برأيه ضلَّ ، ومن استغنى بعقله زلَّ ( (88) انظر : جامع بيان العلم وفضله (1 / 142 ) . 88) . اهـ .
ولو ترك المرء لنفسه مجالاً في إتباع الهوى والإعجاب بنفسه لأفسد في الناس ، ولوجد لإفساده أتباعاً من جنسه وأشياعاً قلُّوا أو كثروا. وقد أشاع ابن قتيبة إلى مثل هذا بقوله:" والناس أسراب( (89) السِّربُ والسُّربةُ من القطا ، والظباء والنساء : القطيعُ يقال مرَّ بي سِرب من قِطاً وظباءٍ ووحشٍ ونساءٍ أي قطيع . والجمع أسراب . لسان العرب ( مادة سرب ) . 89) طير يتبع بعضها بعضاً ، ولو ظهر لهم منْ يدَّعي النبوة مع معرفتهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ، أو يدعي الربوبية لوجد على ذلك أتباعاً وأشياعاً ( (90) الشَّيعةُ : أتباع الرجل وأنصاره ، وجمعها شِيعٌ ، وأشياعٌ جمع الجمع . لسان العرب ( مادة شيع ) . 90) .. " إلى أن قال : ولكن يمنع من ذلك طلب الرياسة وحب الأتباع واعتقاد الإخوان بالمقالات ( (91) انظر : تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص ( 14 ) . 91) . اهـ .
ولقد أحسن أبو العتاهية حين قال :
أأخي من عشق الرياسة خفت أن
يطغى ويحدث بدعة وضلالاً ( (92) انظر : جامع بيان العلم (1 / 143 ) . 92)
وقد قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : " الحمد لله الذي جعل هوانا على هواكم . فقال ابن عباس : الهوى كله ضلالة " ( (93) انظر : الإبانة لابن بطة ( 1 / 355 ) . 93) .
وقال الحسن البصري رحمه الله : " اتهموا أهواءكم ورأيكم على دين الله وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم " ( (94) انظر : المصدر السابق ( 1 / 389 ) . 94) .
وقال أبو الدرداء : علامة الجهل ثلاث : العجب ، وكثرة المنطق فيما لا يعنيه ، وأن ينهى عن شيء ويأتيه ( (95) انظر : جامع بيان العلم وفضله (1 / 142 ) . 95) . اهـ .
ولقد أحسن علي بن ثابت حين قال :
المال آفته التبذير والنهب
والعلم آفته الإعجاب والغضب ( (96) انظر : جامع بيان العلم (1 / 143 ) .96)
والمقولات عن السلف في هذا الباب كثيرة جداً قد يطول بنا حصرها ، غير أن أحسن ما يداوي المعجب بنفسه هو أن ينظر إلى من فوقه علماً وتواضعاً من سلفنا الصالح وعلمائنا الكرام ممن قال الله عنهم { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} ( (97) سورة يوسف ، آية :76 . 97) .
ومعلوم أن باب الشهرة باب غامض كما قال سفيان الثوري : " إياك أن تكون ممن يجب أن يُعمل بقوله ، أو يُنشر قوله ، أو يُسمع قوله ، وإياك وحب الشهرة فإن الرجل يكون حب الشهرة أحب إليه من الذهب والفضة ، وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة " . اهـ .
قال الشاعر :
من شاء عيشاً هنياً يستفيد به
فلينظرن إلى من فوقه أدباً
في دينه ثم دنياه إقبالا
ولينظرن إلى من دونه مالا
وقد نقل ابن مفلح عن الفضيل أنه قال : " من أحب أن يُذكر لم يذكر ومن كره أن يُذكر ذُكِر " ( (98) انظر : الآداب الشرعية ( 2 / 233 ) . 98) . اهـ .
وقال إسحاق بن بنان : قال أحمد : سمعته يقول - يعني بشراً - قال : إبراهيم بن أدهم : ما صدق الله عبد أحب الشهرة ( (99) انظر : المصدر السابق . 99) . اهـ .
وقال المروزي : سمعت أبا عبدالله يقول : من بُلي بالشهرة لم يأمن أن يفتنوه إني لأفكر في بدء أمري ، طلبت الحديث وأنا ابن ست عشرة سنة ( (100) انظر : المصدر السابق .100) . اهـ .
وذكر ابن المبارك عن مطرف بن عبدالله بن الشخير قال : " لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً فأصبح معجباً ( (101) انظر : الزهد لابن المبارك ص ( 151 ) . 101) .
وتحدث الشيخ محمد رشيد رضا موصياً الخطيب بقوله : " وإياه أن يأخذه الغرور بعلو المكانة وارتفاع الدرجة ، أو يغلبه الرياء والتطلع للثناء ، فإن ذلك مرض الواعظ القاضي على سلطانها ، المانع من تأثيرها ، بل عليه أن يراقب الله وحده .... الخ " ( (102) انظر : مجلة المنار (29 / 342 ) . 102) . اهـ .
7- قوله صلى الله عليه وسلم (إن من البيان لسحراً).هل هو للمدح أو للذم؟.
روى البخاري ومسلم في صحيحهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من البيان لسحراً ) ( (103) انظر : صحيح البخاري ( 10 / 203 حديث رقم 5146 ) ، صحيح مسلم ( 2/ 594 حديث رقم 869 ) . 103) .
وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث ، وهل هو على وجه الذم أو على وجه المدح ؟
قال أبو حاتم البستي : " قد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر البيان بالسحر ، إذ الساحر يستميل قلب الناظر إليه بسحره وشعوذته ، والفصيح الذرب اللسان يستميل قلوب الناس إليه بحسن فصاحته ونظم كلامه ، فالأنفس تكون إليه تائقة ، والأعين إليه رامقة ( (104) انظر : روضة العقلاء ص ( 219 ) . 104) " . اهـ .
وقال الخطابي : " البيان اثنان : أحدهما : ما تقع به الإبانة عن المراد بأي وجه كان. والآخر: ما دخلته الصنعة يروق للسامعين ويستميل قلوبهم ، وهو الذي يشبه بالسحر " ( (105) انظر : فتح الباري (11 / 403 )105) . اهـ.
قلت : اعلم أن للعلماء حول معنى هذا الحديث توجهين أو قولين ، وهما مبنيان على ما فهمه كل منهم من نصِّ النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه عن ابن عمر قال : قدم رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن من البيان لسحراً ، أو إن بعض البيان لسحر ) ( (106) الموطأ ( 2/ 986 ) . صحيح البخاري : كتاب الطب ( رقم 5767 ) . 106) .
والقولان حول هذه المسألة هما :
القول الأول :
قال أصحابه : إن هذا الحديث جاء في معرض ذم البلاغة ، إذ شبهها النبي صلى الله عليه وسلم بالسحر ، والسحر محرم مذموم ، وذلك لما فيها من تصوير الباطل في صورة الحق والتفيهق ( (107) قال الأصمعي : أصل الفّهْق الامتلاء ، فمعنى المتفيهق الذي يتوسع في كلامه ويفهق به فمه . المتفيهقون : هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم . 107) والتشدق ( (108) الشِّدق : جانب الفم ، وخطيب أشدق بيّن الشدق : مجيد . والمتشدق الذي يلوي شِدقه للتَّفصُّح ، وفي الحديث : ( أبغضكم إليَّ الثَّرثارون ) وقيل : أراد بالمتشدق : المُسْتهزئ بالناس يلوي شِدْقه بهم وعليهم . وتشدَّق في كلامه : فتح فمه واتسع . 108) ، وقد جاء في الثرثارين ( (109) الثَّرثارُون : هم الذين يُكثرون الكلام تكلُّفاً وخروجاً عن الحق ، والثَّرثرة : كثرة الكلام وترديده . النهاية ( 1/ 209 ) . 109) المتفيهقين ما جاء من الذم ؛ ولما فيه من التصنع والتكلف واستمالة لقلوب المستمعين حتى يحول الشيء عن حقيقته ، فيلوح للناظر في معرض غيره . وإلى هذا المعنى ذهب طائفة من أصحاب مالك ، واستدلوا على ذلك بإدخال مالك له في موطئه في باب ما يكره من الكلام ( (110) انظر : التمهيد ( 5/ 279 ) ، معالم السنن ( 4/ 136 ) ، فتح الباري ( 11 / 403 ) الآداب الشرعية ( 2 / 93 ) ، النهاية ( 2 / 312 ) . 110) .
قال الباجي من المالكية : الذي ذهب إليه مالك رحمه الله تعالى له وجه إن كان البيان بمعنى الإلباس والتمويه عن حقٍّ إلى باطل ، فليس يكون البيان حينئذٍ في المعاني من بابه ، فيكون في مثل هذا قد سحره وفتنه ، فيكون ذلك ذماً . وأما البيان في المعاني وإظهار الحقائق فممدوح على كل حال وإن وصف بالسحر ( (111) انظر : المنتقى ( 7 / 310 ) . 111) . اهـ .
والذين ذموا البيان أكدوا قولهم بما رواه الترمذي من حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الحياء والعيّ شعبتان من الإيمان ، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق) ( (112) انظر : جامع الترمذي حديث رقم ( 2027 ) . 112) .
قال ابن الأثير : " وأما ( البيان ) فإنما أراد منه بالذم التعمق في النطق ، والتفاصح ، وإظهار التقدم فيه على الناس ، وكأنه نوع من العجب والكبر ، ولذلك قال في رواية أخرى ( البذاء وبعض البيان ) لأنه ليس كل البيان مذموماً ( (113) انظر : النهاية ( 1 / 171 ) ، تحفة الأحوذي ( 6/ 165 ) . 113) " . اهـ .
قلت : وقد فسر الترمذي معنى البيان الذي في الحديث بما هو أوضح من كلام ابن الأثير، حيث إنه هو من خرَّج الحديث السابق ذكره، فقد أعقبه بقوله: "والبيان: هو كثرة الكلام، مثل هؤلاء الخطباء الذين يخطبون فيتوسعون في الكلام ويتفصحون فيه من مدح الناس فيما لا يرضي الله" ( (114) انظر : جامع الترمذي المصدر السابق . 114) . اهـ.
فكلام الترمذي هذا يدل على أن البيان لا يذم إلا إذا كان فيما لا يرضي الله ، والله أعلم .
وقد تحدث ابن القيم رحمه الله واصفاً بعض الخطباء بما يذمون به فقال : " وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها ، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقر وعلم البديع ، فنقص بل عدم حظ القلوب منها ، وفات المقصود بها " ( (115) انظر : زاد المعاد ( 1 / 224 ) . 115) . اهـ .
ونقل الباجي : عن عيسى بن دينار ويحيى بن يحيى : أن الطلق اللسان لا يزال صاحبه يكلمه حتى يأخذ بسمعه وقلبه وبصره كما يأخذ الساحر ، ألا ترى إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ما أعطي العبد شراً من طلاقة اللسان ) ( (116) رواه الديلمي من حديث ابن عباس ( الفردوس 4 / 120 رقم 6373 ) . 116) ( (117) انظر : المنتقى ( 7 / 310 ) . 117) . اهـ .
القول الثاني :
وهو قول جمهور أهل العلم ، فقد ذهبوا إلى أن الحديث جاء على وجه المدح والحث على تخير الألفاظ ، والتأنق في الكلام .
واحتجوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم ( إن من الشعر حكمة ) رواه البخاري ( (118) انظر : صحيح البخاري كتاب الأدب ( حديث رقم 6145 ) . 118) .
وقد قال الخطابي : " مما لا ريب فيه أنه جاء على وجه المدح له ، وكذلك مصراعه الذي بإزائه ؛ لأن عادة البيان غالباً أن القرينين نظماً لا يفترقان حكماً " ( (119) انظر : التمهيد ( 5/ 279 ) ، معالم السنن ( 4/ 137 ) ، والآداب الشرعية ( 2 / 93 ) ، فتح الباري ( 11 / 403 ) . 119) .
وقال ابن بطال : " أحسن ما يقال في هذا : أن هذا الحديث ليس ذمّاً للبيان كله ولا مدحاً ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم ( من البيان ) فأتى بلفظة ( من ) التي للتبعيض . قال : " وكيف يذم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}( (120) انظر : فتح الباري ( 11 / 403 وما بعدها ) . 120). اهـ .
قال الحافظ ابن حجر : " والذي يظهر أن المراد بالبيان في الآية المعنى الأول الذي نبَّه عليه الخطابي ، لا خصوص ما نحن فيه . وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز ، والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة ، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام ، وهذا كله من البيان بالمعنى الثاني . نعم الإفراط في كل شيء مذموم ، وخير الأمور أوسطها ، والله أعلم ( (121) انظر : فتح الباري ( 11 / 404 ) .121) . اهـ .
وقد قال ابن عبد البر عن قول الجمهور ما ملخصه : وأبي جمهور أهل الأدب والعلم بلسان العرب إلا أن يجعلوا قوله صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحراً ) مدحاً وثناءً وتفضيلاً للبيان وإطراءً ، وهو الذي تدل عليه سياقة الخبر ولفظه على ما نورده في هذا الباب إن شاء الله .
فعن ابن عباس قال : " اجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم قيس بن عاصم والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهتم ، ففخر الزبرقان فقال : يا رسول الله ، أنا سيد تميم ، المطاع فيهم ، والمجاب منهم ، آخذ لهم بحقوقهم ، وأمنعهم من الظلم ، وهذا يعلم ذلك - يعني عمرو بن الأهتم - فقال عمرو : وإنه لشديد العارضة ، مانع لجانبه ، مطاع في أدانيه . فقال الزبرقان : والله لقد كذب يا رسول الله ، وما يمنعه أن يتكلم إلا الحسد . فقال عمرو : أنا أحسدك ! فوالله لبئيس الخال ، حديث المال ، أحمق الوالد ، مبغض في العشيرة ، والله يا رسول الله ، ما كذبت فيما قلت أولاً ، ولقد صدقت فيما قلت آخراً ؛ رضيت فقلت أحسن ما عملت ، وغضبت فقلت أقبح ما وجدت ؛ ولقد صدقت في الأمرين جميعاً . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحراً ) ( (122) انظر : التمهيد ( 5/ 171 - 172 ) . 122). اهـ .
قلت : رواه الحاكم ( (123) انظر : المستدرك ( 3 / 613 ) . 123) وأخرجه أحمد وابن حبان في صحيحه ( (124) انظر : مسند أحمد ( 1 / 269 ) صحيح ابن حبان ( 7 / 515 رقم 5750 ) . 124) من غير ذكر القصة .
قال ابن عبدالبر : وفي هذا دليل على مدح البيان وفضل البلاغة ، والتعجب بما يسمع من فصاحة أهلها ، وفيه المجاز والاستعارة الحسنة ؛ لأن البيان ليس بسحر على الحقيقة . وفيه الإفراط في المدح ، لأنه لا شيء في الإعجاب والأخذ بالقلوب يبلغ مبلغ السحر . وأصل لفظة السحر عند العرب الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك . وقد ذهب هذا القول منه صلى الله عليه وسلم مثلاً سائراً في الناس ، إذا سمعوا كلاماً يعجبهم قالوا : إن من البيان لسحراً . ويقولون في مثل هذا أيضاً : هذا السحر الحلال ونحو ذلك قد صار هذا مثلاً أيضاً .
وروي أن سائلاً سأل عمر بن عبدالعزيز حاجة بكلام أعجبه ، فقال عمر : هذا والله السحر الحلال . وفي هذا الحديث ما يدل على أن التعجب من الإحسان والبيان موجود في طباع ذوي العقول والبلاغة ، وكان صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم ، إلا أنه بإنصافه كان يعرف لكل ذي فضل فضله . وفي هذا ما يدل على أن أبصر الناس بالشيء ، أشدهم فرحاً بالجيد منه ما لم يكن حسوداً . وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم يخرج إلى حد الإسهاب ( (125) أسهب في الكلام : أطال . أساس البلاغة ص ( 315 ) . 125) والإطناب ( (126) الإطناب : البلاغة في المنطق والوصف مدحاً كان أو ذماً . وأطنب في الكلام : بالغ فيه والإطناب : المبالغة في مدح أو ذم والإكثار فيه . لسان العرب ( مادة طنب ) . 126) والتفيهق ، فقد روي في الثرثارين المتفيهقين أنهم أبغض الناس إلى الله ورسوله .
وهذا - والله أعلم - إذا كان ممن يحاول تزيين الباطل وتحسينه بلفظه ، ويريد إقامته في صورة الحق ، فهذا هو المكروه الذي ورد فيه التغليظ . وأما قول الحق فحسن جميل على كل حال ، كان فيه إطناب أو لم يكن ، إذا لم يتجاوز الحق ؛ وإن كنت أحب أوساط الأمور ، فإن ذلك أعدلها ، والذي اتفق العلماء باللغة في مدحه من البلاغة والإيجاز والاختصار ، وإدراك المعاني الجسيمة بالألفاظ اليسيرة ...
وقال ابن عبدالبر أيضاً: "كان الشعبي إذا سمع حديثاً ورده، فكأنه زاد فيه من تحسينه للفظه، فسمع يوماً حديثاً وقد سمعه معه جليس له يقال له رزين ، فرده الشعبي وحسنه ، فقال له رزين : اتق الله يا أبا عمرو ، ليس هكذا الحديث ، فقال له الشعبي : يا رزين ، ما كان أحوجك إلى محدرج ( (127) المُحدْرج : السوط . القاموس المحيط ( 1 / 189 ) . 127) شديد الجلد ( (128) قال محقق التمهيد : كذا ثبت في سائر النسخ " الجلد " بتقديم اللام على الدال ، ولعل الصواب " الجدل " بمعنى محكم الفتل . وفي عيون الأخبار ( 2 / 37 ) ما يفيد ذلك قلتُ : في عيون الأخبار شديد الفتل جيّد الجلاز عظيم الثمرة ، لدْنِ المعزَّة يأخذ منك فيما عجْبِ الذَّنبِ ومغرِز العُنقِ . ِ 128) لين المهزة ( (129) يراجع معناه . 129) ، عظيم الثمرة( (130) ثمرة السوط : طرفه ، وثمر السياط : عُقَدُ أطرافها . لسان العرب ( مادة ثمر ) . 130)، أخذ ما بين مغرز( (131) مغرز : مُلزق . لسان العرب ( مادة غرز ) . 131) عنق إلى عجْب( (132) العجْبُ : العظيم الذي في أسفل الصُّلْب عند العجْر . لسان العرب ( مادة عجب ) . 132) ذنب ، يوضع منك في مثل ذلك ، فتكثر له رقصاتك من غير جذل ، فلم يدر ما قال له ، فقال : وما ذاك ؟ قال : شيء لنا فيه أرب ولك في أدب" . ومن أحسن ما قيل في مدح البلاغة من النظم ، قول حسان بن ثابت في ابن عباس :
صموت إذا ما الصمت زين أهله
وعى ما وعى القرآن من كل حكمة
وفتاق أبكار الكلام المختم
ونيطت له الآداب باللحم والدم ( (133) لم أقف على هذين البيتين في ديوانه المطبوع . 133)
ولحسان أيضاً في ابن عباس رضي الله عنهما ، ويروى للحطيئة :
إذا قال لم يترك مقالاً لقائل
يقول مقالاً لا يقولون مثله
كفى وشفى ما في النفوس فلم يدع
بمنتظمات( (134) في ديوانه ص ( 212 ) " بملتقطات " بدل " بمنتظمات " . 134) لا ترى بينها فضلاً
كنحت الصفا لم يبق في غاية فضلاً
لذي إربة في القول جداً ولا هزلاً ( (135) انظر : ديوانه ص (212 ) وليس فيه البيت الثاني وإنما فيه بدله
سموْت إلى العلْيا بغير مشقة فنِلْت ذُراها لا دنيا ولا وغْلا 135)
هذا خلاصة ما ذكر ابن عبدالبر ( (136) انظر : التمهيد : ( 5 / 174 - 179 ) ، الآداب الشرعية ( 2 / 94 ) . 136) .
8-
قوة البيان وفصاحة اللسان للخطيب
الذي ينبغي للمرء هو أن لا يتصدر للخطبة إذا لم ير في نفسه الملكة والقدرة والكفاءة ، إذ ما كل شخص يصلح أن يكون خطيباً ، كما أنه ليس كل من تطبب يعد طبيباً .وقد كان من عادة السلف الصالح أن لا يتولى أحد منهم أمر الخطابة إذا لم ير من نفسه القدرة عليها ، أو أنه أهل لها ، كما أن السلف رحمهم الله لم يجعلوا الخطابة نوعاً من الأداء الوظيفي العادي ، أو التكسب المالي ، وما ذاك إلا لإحاطتهم بعظم شأنها وعلو مكانتها ، فإن الخطيب ينبغي أن يكون عالماً بما يقول وما يذر ، ومعرباً مبيناً جهورياً صادقاً ونحو ذلك .
ومما يدل على استيعاب السلف لحقيقة هذه المسألة ، ما رواه الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة فقال : يا نبي الله ، إني لست باللسن ولا بالخطيب ، قال : ما بد أن أذهب بها أنا ، أو تذهب بها أنت . قال : فإن كان ولابد فسأذهب أنا ، قال : فانطلق فإن الله يثبت لسانك ، ويهدي قلبك ، قال : ثم وضع يده على فمه ( (137) انظر : المسند ( 1 / 151 ) . 137) .
ففي هذا الحديث دلالة واضحة على أن المرء لا ينبغي له أن يعتلي المنبر أو يقوم مقام الخطيب إلا وهو يعلم من نفسه القدرة على ذلك من كافة وجوه القدرة على الخطابة ، وأنه ممن يستحق أن يوصف بأنه ( لسنٌ وخطيبٌ ) .
يدل على ذلك أيضاً ما رواه الإمام أحمد عن خالد بن معدان . قال : ( حضرنا صنيعاً لعبد الأعلى بن هلال ، فلما فرغنا من الطعام ، قام أبو أمامة ، فقال : لقد قمت مقامي هذا وما أنا بخطيب وما أريد الخطبة ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند انقضاء الطعام : الحمد لله كثيراً طيباً مباركاً فيه غير مكفي ولا مودَّع ولا مُستغنىً عنه ، فلم يزل يرددهن علينا حتى حفظناهن ) ( (138) انظر : المسند ( 5 / 262 ) . 138) .
قال أبو حاتم البستي : " أحوج الناس إلى لزوم الأدب وتعلم الفصاحة أهل العلم ، لكثرة قراءتهم الأحاديث وخوضهم أنواع العلوم " ( (139) انظر : روضة العقلاء ص (223 ) . 139) .
وقال إسحاق النهراني :
النحو يبسُط من لسان الألكنِ
وإذا طلبت من العلوم أجلها فـ
والمرء تكرمه إذا لم يلْحنِ
أجلها منها مقيم الألسنِ ( (140) انظر : الكامل للمبرد ( 1 / 239 ) . 140)
قلت : وهذا الملكة ليست واجبة على خطيب وإلا لتوقفت الخطبة وقلَّ الخطباء ؛ لأن عدداً ليس بالقليل من الخطباء ليس لهم اهتمام بهذا الجانب ، ولكن الذي ينبغي على الخطيب هو أن يجتهد في أن تكون الخطبة قوية المعنى سليمة المبنى وإلا كان النفع قليلاً ، وكلما كان اللسان أبين فهو أقوى وأجمل ، كيف لا وقد قال موسى عليه السلام : {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي } ( (141) سورة طه آية :27، 28141) وقال :{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} ( (142) سورة القصص آية :34142) فلو لم يكن للفصاحة هذا الدور فما الحاجة إذاً إلى أن يطلب موسى من ربه إرسال أخيه هارون ليكون رداءاً له ؟ .
وقال ابن شبرمة : ما رأيت لباساً على رجل أحسن من فصاحة ، ولا على امرأة من شحم ، وإن الرجل ليتكلم فيعرب فكأن عليه الخز الأوكن ، على امرأة من شحم ، وإن الرجل ليتكلم فيلحن فكأن عليه أسمالاً - وهي الثياب البالية - إن أحببت أن يصغر في عينك الكبير ، ويكبر في عينك الصغير فتعلم النحو ( (143) انظر : روضة العقلاء ص ( 219 ) ، عيون الأخبار لابن قتيبة ( 2 / 554 ) . 143) . اهـ .
ونقل نحو هذا ابن قتيبة عن ابن سيرين قائلاً : " ما رأيت على رجل أحسن من فصاحة ، ولا على امرأة أحسن من شحم " ( (144) انظر : عيون الأخبار المصدر السابق . 144) .
وقال أبو حاتم البستي : ( الفصاحة أحسن لباس يلبسه الرجل ، وأحسن إزار يتزر به العاقل ، والأدب صاحب في الغربة ، ومؤنس في القلة ، وزين في المحافل ، وزيادة في العقل ، ودليل على المروءة ، ومن استفاد الأدب في حداثته انتفع به في كبره ، لأن من غرس فسيلاً يوشك أن يأكل رطبها ، وما يستوي عند أولي النهى ، ولا يكون سيان عند ذوي الحجى : رجلان أحدهما يلحن والآخر لا يلحن ( (145) انظر : روضة العقلاء ص (220 ) .145) ) . اهـ .
ولأهل العلم كلام حول هذه المسألة أنقل بعضاً من أقوالهم فيها :
فمن ذلك ما ذكره الشافعي بقوله : " ويكون كلامه مترسلاً( (146) في الحديث ص (5) ( كان في كلامه ترْسيل ) أي ترتيل . يُقال : ترسَّل الرجل في كلامه ومشْيه إذا يعْجل . النهاية ( 2 / 223 ) . 146)، مبيناً، معرباً، بغير الإعراب الذي يشبه العي وغير التمطيط ( (147) مطَّه : مده وبابه ردّ وتمطَّط : تمدد . مختار الصحاح ص ( 627 ) . 147) وتقطيع الكلام ومده وما يستنكر منه ، ولا العجلة فيه عن الإفهام، ولا ترك الإفصاح بالقصد ، وأحب أن يكون كلامه قصداً ، بليغاً، جامعاً"( (148) انظر : الأم ( 1 / 177 ) ، المهذب ( 1 / 370 ) . 148).
وقال البغوي : " ويستحب أن يخطب مترسلاً ، مبيناً ، ومعرباً لا يأتي بكلمات مبتذلة لا تنجع ( (149) نجع فيه الخطابُ والوعظُ ، والدواءُ : أي دخل وأثَّر . الصحاح ( مادة نجع ) . 149) في القلوب ، ولا يغرب ، بحيث لا يفهم ، ولا بما ينكره العوام لقصور فهمهم ، ولا يمد الكلمات مدّاً يجاوز الحد ، ولا يعجل عن الأفهام ، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام ، ولا يطول فيمل الناس بل تكون خطبته قصداً بليغاً جامعاً ( (150) انظر : المهذب ( 2 / 342 ) .150) " .
وقال أبو الحسين العمراني : " ويستحب أن يكون كلامه مسترسلاً معرباً بلا تمطيط ولا مدٍّ ، ولا يأتي بالكلام الغريب المستنكر الذي تخفى عليهم أو على بعضهم المعاني فيه ، لأن القصد بالخطبة الموعظة ، ولا يحصل إلا بما ذكرناه ( (151) انظر : البيان ( 2 / 578 ) . 151) " .
وقال النووي : " يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة مرتبة مبينة من غير تمطيط ولا تقعير ( (152) قعَّر في كلامه ، وتقعَّر : تشدَّق وتكلم بأقصى قعْر فمه ، وقيل : تكلم بأقصى حلقه . والتقعير في الكلام التَّشدُّق فيه . لسان العرب مادة ( قعر ) . 152) ، ولا تكون ألفاظاً مبتذلة ملفقة ، فإنها لا تقع في النفوس موقعاً كاملاً ، ولا تكون وحشية لأنه لا يحصل مقصودها ، بل يختار ألفاظاً جزلة ( (153) اللفظ الجزْل : خلاف الركيك . الصحاح ( مادة جزل ) . 153) مفهمة " . قال المتولى : " ويكره الكلمات المشتركة والبعيدة عن الإفهام ، وما يكره عقول الحاضرين ، واحتج بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسول ؟ ) رواه البخاري في أواخر كتاب العلم ( (154) باب 49 ( رقم 127 ) . 154) من صحيحه " ( (155) انظر : المجموع ( 4 / 358 ) . 155) .
وقال ابن قدامة : " ويستحب أن يكون في خطبته مترسلاً ، مبيناً ، معرباً ، لا يعجل فيها ، ولا يمططها ، وأن يكون متخشعاً ....." ( (156) انظر : المغني ( 3 / 180 ) . 156) .
وقال أبو حاتم البستي : " ليست الفصاحة إلا إصابة المعنى والقصد ، ولا البلاغة إلا تصحيح الأقسام واختيار الكلام ، ومن أحمد الفصاحة الاقتدار عند البداهة ، والغزارة عند الإطالة . وأحسن البلاغة وضوح الدلالة وحسن الإشارة . ولقد سمعت محمد بن نصر بن نوفل المروزي يقول : سمعت أبا داود السنجي يقول : سمعت الأصمعي يقول : ليست البلاغة بخفة اللسان ، ولا كثرة الهذيان ، ولكن بإصابة المعنى والقصد إلى الحاجة ، وإن أبلغ الكلام ما لم يكن بالقروي المجدع ولا البدوي المعرَّب " ( (157) انظر : روضة العقلاء ص (222 ) .157) . اهـ .
قلت : ولذلك امتدح معاوية رضي الله عنه يزيد بن المقفع حينما خطب عند أخذ البيعة ليزيد بن معاوية ، إذ قال يزيد بن المقفع : " أمير المؤمنين هذا - وأشار إلى معاوية- فإن هلك فهذا -وأشار إلى يزيد - فمن أبي فهذا - وأشار إلى سيفه - فقال معاوية : اجلس ، فإنك سيد الخطباء ( (158) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص ( 311 ) . 158) . اهـ . وهذا دليل واضح على بلاغة ابن المقفع وحسن بيانه في إيجاز واضح جلي .
قال أبو حاتم أيضاً : " الكلام مثل اللؤلؤ الأزهر ، والزبرجد الأخضر والياقوت الأحمر ، إلا أن بعضه أفضل من بعض ، ومنه ما يكون مثل الخزف والحجر والتراب والمدر ( (159) انظر : المصدر السابق ( 223 ) . 159) " .
قلت : ومما يدل بُعد هذه المسألة عن عدد من الخطباء إلا من رحم الله هو ما يسمع من بعضهم - هداهم الله - من اللحن الجلي وعدم الإفصاح أو إعراب الكلام على الوجه الصحيح ، أو اختلاط الألفاظ والمعاني بذكر المترادفات على صورة المتضادات أو العكس أو ما شابه ذلك ، مما يجعل مثل ذلك كالمطارق تضرب رؤوس المستمعين الذين يميزون بين الفصاحة واللحن والخلط . ويا لله العجب كيف يشتهر خطباء ويكون لخطبهم وقع وهم يلحنون كثيراً ويعربون قليلاً . ولقد أحسن ابن قتيبة حينما قال : " دخل أعرابي السوق فسمعهم يلحنون فقال : سبحان الله! يلحنون ويربحون ( (160) انظر : عيون الأخبار ( 2 / 556 ) . 160) . اهـ .
وللشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله كلام جميل حول هذا المعنى فكان مما قال فيه : " يجب أن يعنى الخطيب بتصحيح الكلام الذي ينطق به ، وملاحظته في مفرداته وعباراته فيلاحظ بنية الكلمات ملاحظة تامة ، فلا ينطق مثلاً بكلمة ( سوقة) بفتحتين كبعض الخطباء فيذهب ذلك بروعة القول وبهائه ، ولا ينطق بغير ما توجبه قواعد النحو في آخر الكلمات ، فإن ذلك يفسد المعنى . والنطق والخطأ لآخر الكلمات فوق أنه يفسد المعنى ، ويذهب برونق الخطبة ، وحسن وقعها ، وجمال تأثيرها ، ولا يظنن الخطيب أن جودة المعنى وإحكامه قد يذهبان ببعض الأخطاء ، فإن الهنات الصغيرة إذا كثرت أحدثت تأثيراً سلبياً للخطبة ، وأفسدت تأثير المعاني المحكمة ، ثم إن المستمع يلاحظ ما لا يلاحظه الخطيب ، ونظراته إلى المتكلم وكلامه نظرات فاحصة كاشفة ، وإذا ادركوا كثيراً من الأخطاء ضاع أثر الخطبة في نفوسهم( (161) انظر : الخطابة ص ( 146 ) . 161). اهـ .
والطريقة العلمية لحل هذه المشكلة لا يمكن أن تتحقق إلا بإحدى حالين :
الحال الأول :
أن كان الخطيب ممن درس علوم الآلة ، ومنها علم النحو وعلم البيان والبلاغة ، أو كانت لديه مفاتيح النحو بحيث يميز بين المرفوع والمجرور ، والمنصوب والمجزوم ، وتقدم العامل على المعمول وما أشبه ذلك ؛ فما عليه إلا أن يطبق ما درس على خطبته شيئاً فشيئاً حتى يطابق علمه النظري واقعه العلمي . ومما لا شك فيه أن هذا لا يتأتى لأول وهلة هكذا ، ولا طفرة دون تدرج .
قال عبدالرحمن بن مهدي : " ما ندمت على شيء ندامتي أني لم أنظر في العربية " ( (162) انظر : روضة العقلاء ص (221 ) .162) . اهـ .
وقال شعبة : " مثل الذي يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الدابة عليها المخلاة ، ليس فيها شيء " ( (163) انظر : المصدر السابق (223) . 163) . اهـ .
الحال الثانية :
إن لم يكن الخطيب ذا إلمام بالنحو وعلم البيان والبلاغة ، فلا أقل من أن يعرض الخطبة على من يملك ذلك ليصحح له ما فيها من أخطاء ، وهذا ليس بعيب فإن المرء لا يولد عالماً ، وما هي إلا فترة من الزمن حتى يصبح للخطيب بعدها ملكة تعينه على سلامة الخطبة من اللحن ورداءة الأسلوب .
ثم إن الخطابة كسائر الصنائع والمواهب يتفاوت الناس في إتقانها والأخذ بزمامها من حيث الزمن ، فمنهم من ينجز ذلك في أمد يسير ، ومنهم من يحتاج إلى زمن أطول من ذلك ، وقد قال بعض أهل الأدب :
إنهم لم يروا خطيباً بلدياً إلا وهو في أول تكلفه للخطابة كان مستثقلاً إلى أن يتوقح وتستجيب له المعاني ، ويتمكن من الألفاظ إلا شبيب بن شيبة ، فإنه ابتدأ بحلاوة ورشاقة وسهولة وعذوبة فلم يزل يزداد منها حتى صار في كل موقف يبلغ بقليل الكلام ما لا يبلغه الخطباء المصاقع بكثيره ( (164) انظر : فن الخطابة لعلي محفوظ ص (18 ) . 164) . اهـ .
ثم إن الخطباء البلغاء كانوا يأخذون أنفسهم بالتدرب على الخطبة إلى أن تصير لهم سجية وعادة . وقد قالوا : " إن عمرو بن سعيد بن العاص الأموي كان لا يتكلم إلا اعترته حبسة في منطقة فلم يزل يتشادق ويعالج إخراج الكلام حتى مال شدقه ، ولذا لقب بالأشدق وفيه يقول الشاعر :
تشادق حتى مال بالقول شِدقُه
وكلُّ خطيبٍ لا أبا لك أشدقُ ( (165) انظر : البيان والتبين ص ( 167 ) ، فن الخطابة لعلي بن محفوظ ص (18) . 165)
وحاصل القول أن التدرب وهذه الملكة لا تكون إلا ممن سلك سبلها واصطبر عليها يوماً فيوماً ، وراض عليها لسانه في المنتديات العامة والجمع والأعياد ونحو ذلك ، ولو راعه الموقف أولاً أمنه آخراً ، فقديماً قيل : من وقف حيث يكره وقف حيث يحب .
9-
إعداد الخطيب للخطبة
إن الخطيب قد يلقي خطبته إما بعد تحضير وإعداد ، وإما على المجازفة والبديهة لاسيما في حق المرتجل .والحق أن الكلام الذي لا يعدُّ له قد لا يقيم حقّاً ، ولا يخفض باطلاً ، ولا يجذب نفساً ، ولا ينفر من أمر ، لاسيما إذا كان الخطيب بين قوم فيهم من يتسقط هفواته ، ويتتبع سقطاته ، ويحصيها عليه إحصاءً . والواجب على الخطيب ألا يتوهم أن تحضير الخطبة قد ينقص من قدره ، بل الصحيح هو أن الكلام المبتذل الذي لا يعدًّ له ، ولا يزول في النفس ابتداءً ؛ هو الذي فيه مظنة العيب .
والملاحظ أن بعض الخطباء لا يعدُّ للخطبة إلا في صبح الجمعة أو قبلها بسويعات ، والذي يفعل مثل هذا إن كان فعله له سبب يبيح ذلك له فالضرورة لها أحكامها ، أما إذا كان ديدنه ذلك أو يقتلع إحدى الخطب من بعض الدواوين قبل الجمعة بزمن يسير دون النظر في ماهية الخطبة أو مدى مناسبتها لوقتها . ثم يلقيها من على المنبر من باب الأداء الوظيفي فحسب أو من باب الكسل وقلة الاكتراث بأمور المسلمين وأحوالهم ؛ فهذا ممن لا يهتم بحمل الدعوة إلى الله على وجهها الذي ينبغي ، وإنما اتخذ المنبر عادة أو تكسباً . فلا حول ولا قوة إلا بالله .
فالواجب على الخطيب أن يضع جلَّ همِّه وتفكيره في خطبة الجمعة ، ويفرغ لها الوقت الطويل لإعدادها الإعداد المناسب ، وينظر في حاجات الناس ومقتضى حالهم كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
وقد قال ابن القيم رحمه الله عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : " وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته " ( (166) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ) . 166) .
وقال أيضاً :"وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم"( (167) انظر : زاد المعاد ( 1/ 428 ) .167) اهـ .
وإعداد الخطيب أو المتكلم به أمر معروف عند أصحاب هذا الشأن . ففي صحيح البخاري في قصة سقيفة بني ساعدة قول عمر رضي الله عنه : " أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر الصديق ... " ( (168) صحيح البخاري حديث رقم ( 6830 ) وانظر فتح الباري (14 / 111 ) . 168) . هذه رواية ابن عباس .
وفي رواية عائشة : قال عمر رضي الله عنه : " والله ما أردت لذلك إلا أني قد هيأت كلاماً قد أعجبني خشيت أن لا يبلغه أبو بكر " ( (169) صحيح البخاري حديث رقم ( 3668 ) وانظر فتح الباري (7 / 368 ) . 169)
وقد كان هشام بن عمار خطيب دمشق ، وكان بليغا صاحب بديهة ، وقد قال عن نفسه : ( ما أعدت خطبة ـ أي كررت ـ منذ عشرين سنة ). وقد قال عبدان : ما كان في الدنيا مثله ـ يعني في الخطبة ـ وكان من أبلغ ما يقول في خطبته : قولوا الحق ينزلكم الحق منازل أهل الحق يوم لا يقضى ألا بالحق ( (170) انظر : سير أعلام النبلاء ( 11 / 429 - 430 ) . 170).
قلت:وبمثل هذا الأعداد، وتهيئة الكلام قبل اعتلاء المنبر تبرأ الذمة ويحصل المقصود، والله الموفق
10-
استيعاب الخطبة للموضوع
يخطئ بعض الخطباء الفهم حينما يظنون أن الخطبة يمكن أن تستوعب جميع عناصر الموضوع الذي يراد طرحه ، فتجدهم يطيلون الخطبة إطالة فاحشة من أجل استيعاب الموضوع من جميع جوانبه ، وهذا أمر متعذر ، وهو من وجهة نظري ليس بصحيح ؛ لأنه يوقع في سلبيات متعددة أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :أ- الإكثار من حشو الأدلة والنقاط المتعلقة بالموضوع بحيث ينسي آخرها أولها .
ب- الإطالة على المستمعين في الخطبة ، ومن ثم خروجها عن المقصود وهو التخفيف وعدم الإطالة ، ولذلك نجد بعض الخطباء قد يتجاوز النصف ساعة فأكثر ، وهذا مشاهد محسوس في زماننا هذا ، والله المستعان .
ج- أن المراد من طرح الموضوع هو التذكير والعظة ، وهذا يحصل بدون إطالة ، بل يكفي التركيز على أساسيات الموضوع مع الاقتصار على جزء من الأدلة وجزء من الأسباب وجزء من العلاج ، وبعض النقولات التي تغني عن غيرها مع عدم لزوم الاستيعاب ، لأنه كما قيل : الحر تكفيه الإشارة ، ولأن يقول المستمعون: ليته لم يسكت خير من أن يقولوا ليته سكت!! .
11-
وجهة نظر حول الخطب المجملة
لما كانت الثمرة العائدة من خطبة الجمعة هي دعوة الناس للهدى ودين الحق ، وإحياء الفضيلة وإماتة ضدها . كانت الخطب المجملة - والتي تجمع في نفس الوقت مواضيع كثيرة - قليلة الفائدة مشتتة للأذهان قلَّ أن تلمس مواضع الداء ، وذلك كمثل الطبيب الذي يخطب الجمهور يحثهم على قواعد الصحة العامة مع سردها مفصلة .والواقع أن بين الناس المجذوم والمبطون وذا الرمد وما شاكل ذلك من ذوي الأمراض الخبيثة أو المعدية التي تحتاج إلى إفراد في الحديث وبيان الأدوية الخاصة لها . فلذلك كان الكلام على موضوع يأخذ حقَّه من الطرح مصحوباً بالأسباب والعلاج أنفع للناس وأبلغ في التأكيد ؛ لاسيما في هذه الأزمنة التي كلَّت فيها الأنفس ، وقصرت فيها الهمم . فمن أراد العظة البليغة والقولة المؤثرة فليعمد إلى المنكرات المتفشية لاسيما ما كان فيها قريب العهد بالناس ، أو المصالح التي يغفل عنها كثير من الناس ، ثم يبين هذه الوقائع مقدماً أكبرها مصلحة أو أشرها ضرراً وأسوأها أثراً ، فيجعله محور خطابته وموضع عظته . وهذا أمر معلوم من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد قال ابن القيم رحمه الله واصفاً خطبة النبي صلى الله عليه وسلم : " وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضَّ عليها " ( (171) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ) . 171) .
وقال في موضع آخر: ( وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ) ( (172) انظر : زاد المعاد ( 1/ 428 ) . 172) . اهـ .
وقد تحدث الشيخ محمد أبو زهرة مبيناً ما ينبغي للخطيب من البعد عن الخطب المجملة ، والزج بأكثر من موضوع في الخطبة الواحدة فقال : " يجعل الخطبة متصدية لعيب واحد لا تعدوه ، لأنه لو تعرض لعدة عيوب لضعف التأثير ، وما استطاع أن يصل إلى مرماه . ولذا يؤخذ على بعض خطباء المساجد أنهم في كل خطبة من خطبهم ينهون عن المعاصي جملة واحدة ، أو يحصونها إحصاء ، ويكررون ذلك في كل جمعة - والعاصي في غيه يعمه ، وهو عنهم وعن وعظهم لاهٍ - ولو خصصوا خطبهم بدل أن يعمموا لأجدى كلامهم ، ولأفاد وعظهم ، ولو صلوا إلى بعض ما يريدون ، أو نصبوا إليه ( (173) انظر : الخطابة ص (207) . 173) . اهـ .
وللشيخ علي الطنطاوي كلام حول هذا المعنى . وقد عدَّ فيه الخطب المجملة - والتي تجمع أكثر من موضوع واحد - عيباً من عيوب الخطبة فقال : " ومن عيوبها : أنه ليس للخطبة موضوع واحد معين ، بل تجد الخطيب يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء ، ينتقل من موضوع إلى موضوع ، فلا يوفي موضوعاً منها حقَّه من البحث ، فإذا جاء الجمعة الثانية عاد إلى مثل ما كان منه في الجمعة الأولى ، فتكون الخطب كلها متشابهة متماثلة ، ولا يخرج السامع له بنتيجة عملية . ولو أن الخطيب اقتصر على موضوع واحد جلَّ أو دقَّ ، كبر أو صغر ، فتكلم فيه ولم يجاوزه إلى غيره ، لكان لخطبته معنى ، ولأخذ السامع منها عبرة ، وحصل منها فائدة ( (174) انظر : فصول إسلامية ص (125) . 174) . اهـ .
12-
مراعاة الخطيب لحال المستمعين
ينبغي للخطيب أن يستحضر في نفسه قبل إعداد الخطبة وإلقائها أن السامعين يختلفون ، ففيهم العالم ، وفيهم الجاهل ، وفيهم العامي ، وفيهم الأمير والوزير ، فيكون الخطيب فيهم كالمتفرس ، إذا عليه أن يعلم مبلغ طاقاتهم وقدر استيعابهم وإقبالهم على الانتفاع ، فيعطيهم ما يتحملون ، ويمسك عما لا يطيقون ، ويوجز عند خشية السامة . وقديماً قيل : " ومن لم ينشط لكلامه فارفع عنه مؤنة الاستماع منك " والناس لا يعدم أن يكون فيهم ذكي محتاج إلى الزيارة ، وقاصد يكتفي بالقليل ، فيضجر الذكي ويعجز القاصر ، ومنْ هذه حال الناس معه ملّوه . وملّهم ويُذكر أن الخضر قال لموسى عليهما السلام : ( يا طالب العلم ، إن القائل أقل ملالة من المستمع ، فلا تمل جلساءك إذا حدثتهم ) .وروي عن ابن السماك أنه جلس يوماً للوعظ وجاريته تسمع كلامه ، فلما انصرف إليها قال لها : كيف سمعت كلامي ؟ قالت : ما أحسنهُ إلا أنك تكثر ترداده . فقال : أردده كي يفهمه منْ لم يفهمه . فقالت : إلى أن يفهمه من لم يفهمه ، قد ملَّهُ منْ فهمه ( (175) انظر : الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ( 2 / 6 ) . 175) .
وقد قال الإمام أحمد عن الموعظة وإطالتها : لا أحب أن يملَّ الناس ، ولا يطيل الموعظة إذا وعظ ( (176) انظر : الآداب الشرعية (2 / 86 ) . 176) . اهـ .
ألا فإن مراعاة الخطيب لأفهام الناس وعقولهم لهو من أهم ما ينبغي أن يدركه كل خطيب ، وكلام أهل العلم حول هذه المسألة مطروق ومبذول ، وسأورد شيئاً من كلام بعضهم لإدراك هذا الأمر والاتعاظ به .
فلقد بوَّب البخاري في صحيحه باباً فقال : باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا . ثم أردف قول علي : حدِّثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟ ( (177) انظر : فتح الباري ( 1 / 304 ) . 177) . اهـ .
وعند مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ( ما أنت بِمُحدِّث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنةً ) ( (178) انظر : مقدمة صحيح مسلم ، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع ( 1/ 11 ) . 178) .
وعن هشام بن عروة قال : قال لي أبي : " ما حدثت أحداً بشيء من العلم قط لم يبلغه عقله إلا كان ضلالاً عليه " ( (179) انظر : المصدر السابق . 179) .
وعن أبي قلابة قال: "لا تحدث بحديث من لا يعرفه ، فإن من لا يعرفه يضره ولا ينفعه"( (180) انظر : المصدر السابق .180) .
قال الحافظ ابن حجر : " وممن كره التحدث ببعض دون بعض : أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ، ومالك في أحاديث الصفات ، وأبو يوسف في الغرائب ، ومن قبلهم أبو هريرة في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ، ونحوه عن حذيفة ، وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين ؛ لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي ( (181) انظر : فتح الباري ( 1 / 304 ) . 181) . اهـ .
ثم بيّن الحافظ رحمه الله ضابط هذه المسألة فقال : وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة ، وظاهره في الأصل غير مراد ، فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهرة مطلوب ، والله أعلم ( (182) انظر : فتح الباري ( 1 / 304 ) . 182) . اهـ .
قال البغوي : " ولا يأتي بكلمات مبتذلة لا تنجع في القلوب ، ولا بما ينكره العوام لقصور فهمهم ( (183) انظر : التهذيب ( 2 / 342 ) . 183) . اهـ .
وقال ابن الجوزي : من المخاطرات العظيمة تحديث العوام بما لا تحتمله قلوبهم ، أو بما قد رسخ في نفوسهم ضده . فالمخاطب لهذا مخاطر بنفسه ، فالله الله أن تحديث مخلوقاً من العوام بما لا تحتمله دون احتيال وتلطف ، فإنه لا يزول ما في نفسه ، ويخاطر المحدث له بنفسه ، فكذلك كل ما يتعلق بالأصول ( (184) انظر : صيد الخاطر ص ( 426 ) . 184) .
وقد روى أبو داود في السنن عن بريدة عن أبيه عن جده قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن من البيان سحراً ، وإن من العلم جهلاً ، وإن من القول عيالاً) ( (185) انظر : سنن أبي داود ، كتاب الأدب ، باب 96 ، ( حديث رقم 5002 ) . 185)
وقد نقل أبو داود عن صعصعة قوله : " إن من القول عيالاً " بأنه : عرض المرء كلامه أو حديثه على من ليس من شأنه ولا يريده ( (186) انظر : المصدر السابق .186) . اهـ .
ونقل الخطابي عن أبي زيد أن معناه : كأنه لم يهتد لمن يطلب علمه فعرضه على من لا يريده ( (187) انظر : معالم السنن ( 4 / 138 ) . 187) . اهـ .
ولابن عقيل في " الفنون " : أنه سئل عن قوم يجتمعون حول رجل يقرأ عليهم أحاديث وهو غير فقيه ؟ فقال : هذا وبال على الشرع أو نحو ذلك ، فإن جماعة من العوام تفرقوا عن مجلس مثل هذا وبعضهم يقول لبعض : أستغفر الله مما فعلت كثيراً ولم أعلم أن الشرع قد نهى عنه ، قيل له : وما هو ؟ قال : كنت أبذل ماء قراحي وأبذل حقي من الماء ، وإذا هو قد نهى الشرع عنه ، فإنه روى لنا الشيخ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يسقين أحدكم ماءه زرع غيره ) ( (188) أخرجه أبو داود النكاح ، باب 45 ( رقم 2158 ) وأحمد (4/ 108 ) والترمذي النكاح ، باب 35 رقم (1131 ) . 188) وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم : ( عن بيع وشرط ) ( (189) رواه الطبراني في الأوسط كما في نصب الراية (4/ 17) وهو ضعيف . 189) وقد كنت أشرط الخيار لنفسي ، فأستغفر الله من ذلك ... وإنما الراوي إذا كان قادراً أن يبين خصوص العام المخصص وتقييد المطلق بتقييده وإلا فمخاطرة ، وربما قرأ (نفس الرحمن من اليمن)( (190) أخرجه أحمد ( 2 / 541 ) . 190) و( الحجر الأسود يمين الله ) ( (191) أخرجه ابن عدي في الكامل (1/، 336 ) والخطيب في تاريخ بغداد ( 6/ 328) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/85 ) وقال : هذا حديث لا يصح . 191) ومعلوم أن من اعتقد ظاهر هذا كفر . ( (192) انظر : الآداب الشرعية ( 2 / 87 ) . 192) . اهـ .
وقال ابن عباس عن وعظ العوام : ليحذر الخوض في الأصول فإنهم لا يفهمون ذلك ، لكنه يوجب الفتن ، وربما كفروه مع كونهم جهلة . ( (193) انظر : المصدر السابق .(2/ 89) . 193) . اهـ .
وقد أخرج عبدالرزاق عن معمر قال : بلغني أن عليّاً مرَّ بقاصٍ فقال : أتعرف الناسخ من المنسوخ ؟ قال : لا ، قال : هلكت وأهلكت ، قال : ومرَّ بآخر قال : ما كنيتك ؟ قال : أبو يحيى ، قال : بل أنت أبو اعرفوني ( (194) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/ 220 ) . 194) .
وقال ابن مفلح : فالحذر الحذر من مخاطبة من لا يفهم بما لا يحتمل ، وقد جرت فتن بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة سنين ، فقتل فيها من الفريقين خلق كثير ، لا يدري القاتل لِم قتل ، ولا المقتول لم قُتِل ، وإنما كانت لهم أهواء مع الصحابة فاستباحوا بأهوائهم القتل . فاحذر العوام كلهم ، والخلق جملة فقد قال الشاعر :
فسد الزمان فلا كريم يرتجى
منه النوال ولا مليح يعشق ( (195) انظر : الآداب الشرعية ( 2 / 90 ) .195)
وأخرج عبدالرزاق عن معمر عن ابن خثيم عن عبدالله بن عياض قال دخل عبيد بن عمير على عائشة فسألت : من هذا ؟ فقال : أنا عبيد بن عمير . قالت : عمير بن قتادة ؟ قال : نعم يا أمتاه . قالت : أما بلغني أنك تجلس ويجلس إليك ؟ قال : بلى يا أم المؤمنين ، قالت : فإياك وتقنيط الناس وإهلاكهم ( (196) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/ 216 ) . 196) .
وقد تحدث الشيخ على الطنطاوي عن عيوب الخطبة في العصر الحديث فقال : " ومن عيوبها أن الخطيب ( أعني بعض منْ يخطب ) يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة ، فلا يخاطب الناس على قدر عقولهم ، ولا يكلمهم على مقتضى أحوالهم ، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة ، بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة ، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محال ( (197) انظر : فصول إسلامية ص (125) .197) . اهـ .
فالحاصل إذن : أن أفضل الخطباء وخيرهم الفطن الذي لا يقل ولا يمل ، والله الموفق .
13-
اقتراح حول التجديد في الخطب
من خلال استقرائي جملة من الخطب العصرية لعدد من الخطباء على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم وأقاليمهم إلا أنني أجد اتفاقاً واضحاً في الاستدلال على المواضيع المطروحة بأحاديث مطروقة مبذولة بكثرة ، وليس هذا احتقاراً أو تقليلاً من شأنها ، كلا بل إنني أريد أن أصل إلى مرادي ، وهو التجديد في الأدلة ، لأننا ربما نجد أن الخطباء حينما يخطبون عن موضوع ما وليكن مثلاً في بر الوالدين أو صلة الرحم ؛ فإنك تجدهم يتفقون على أحاديث معينة يكثر طرحها وذكرها مع أن هناك أحاديث أخرى لا تقل عنها صحة ولا صراحة في الموضوع ، غير أن كثيراً من الناس يجهلها ولا يعرفها أو هي معلومة عند بعضهم ولكن يغفل عنها الكثير ، ولعلي أرجع السبب في ذلك إلى بعض الخطباء يقتبس من غيره في الاستدلال أو أن يكون المرجع في مثل ذلك كتاباً واحداً يعول عليه جلُّ الخطباء مثل كتاب رياض الصالحين ، وهو كتاب عظيم لكنه لم يستوعب الأحاديث كلها .والذي أريد أن أصل إليه هو أن اختيار الأحاديث التي تخفى على كثير من الناس بسبب قلة طرحها يضيف إليهم جديداً وهو معرفة الحديث والعمل به ، وفي هذا خير كبير للأمة .
غاية ما يحتاج إليه الخطيب في هذا المجال هو التنقيب في بطون كتب الحديث والخروج بمثل هذه الفوائد .
ولعلي أختم هذه المسألة بمثال وقع لي ورأيت ثمرته في الواقع ، فقد سبق وأن خطبت بالمسجد الحرام خطبة عن الأخوة والولاء والبراء في الدين ، فبدا لي أن آتي بما يدل على الموضوع بدليل بعيد المرمى دون غيره من الأحاديث المشتهرة على ألسنة الناس ، فأتيت بحديث النبي صلى الله عليه وسلم في أمره بقتل الوزغ ( (198) كما في حديث أم شريك رضي الله عنها . عند البخاري ( الأنبياء : 3359 ) ومسلم (4/ 1757 رقم 2237 ) . 198) لأنه كان ينفخ النار على أبينا إبراهيم عليه السلام ، فأخذت منه أن من كان عدواً للدين فهو عدو لنا ولو كانت حشرات صغيرة كالأوزاغ ... الخ ، وبعد الخطبة وجدت استحسان بعض الناس من جهتين : الأولى : في العلم بأن الوزغ كان ينفخ النار على إبراهيم عليه السلام . الثانية : في أن كلَّ من عادى الدين بأي نوع من أنواع العداوة فهو عدو لنا حتى ولو كان مثل الوزغ ، ولذلك أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بقتله . والله تعالى أعلم .
واللجنة الدائمة للبحوث العلمية برئاسة سماحة شيخنا عبدالعزيز بن باز لها كلام جيد حول هذا تقول فيه : " الأحسن أن يجدد الخطيب الخطبة بقدر ما تيسر له ذلك لما في ذلك من زيادة العلم والتشويق وقوة التأثير والبعد عن الملل والسآمة . ( (199) انظر : فتاوى اللجنة ( 8 / 238) . 199) اهـ .
14-
توقيت الخطبة عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم أو عن محاسبة النفس بنهاية العام
إن المتتبع لأحوال جملة من الخطباء يجد أنهم يتحدثون في آخر جمعة من العام عن حادث الهجرة وما فيه من الفوائد والعظات . وهذا أمر فيه فوائد عظيمة غير أنَّ لي على هذه المسألة ثلاثة أمور من جهة تخصيصه بآخر العام :الأمر الأول :
أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إنما كانت في شهر ربيع الأول بعد مضي ثنتي عشرة ليلة منه في يوم الاثنين كما ذكر ذلك الطبري في تأريخه ( (200) انظر: تاريخ الطبري ( 2/ 393 ) . 200) وأن الذي ابتدأ التأريخ على الصحيح هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه سنة سبع أو ثمان عشرة من الهجرة حينما احتاجوا إلى التأريخ ، فاستشار الصحابة فقال بعضهم : من مبعثه ، وقال آخرون : من مهاجره ، فقال عمر رضي الله عنه : الهجرة فرقت بين الحق والباطل فارضوا بها .
ثم اختلفوا من أي شهر يكون ابتداء السنة ، فقال بعضهم : من رمضان ، لأنه الذي فيه أنزل القرآن ، وقال آخرون : بل من ربيع الأول وقت مهاجره ، واختار عمر وعثمان على أن يكون من المحرم ، لأنه شهر حرام يلي شهر ذي الحجة الذي يؤدي المسلمون فيه حجهم الذي به تمام أركان دينهم ، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من شهر الله المحرم ( (201) انظر : نفس المصدر السابق . 201) .
فتخصيص الخطبة عن الهجرة بنهاية العام يوهم أن الهجرة وقعت في هذا التاريخ . والواقع أن كثيراً من الناس يظنون ذلك بسبب كثرة الخطب عنها في هذا الوقت ، ويجهلون جهالة تامة أنها كانت في شهر ربيع الأول بل لربما أنكر البعض هذا الأمر بداهة .
الأمر الثاني :
أن بعض الخطباء يستغل نهاية العام وحادث الهجرة للتذكير بالمحاسبة على هيئة الالتزام بذلك في نهاية كل عام ، والذي يظهر لي أن نهاية العام أمر نسبي يختلف من شخص لآخر ، فكل شخص ينتهي عامه بتمام سنة من تاريخ ولادته أو من وقت بلوغه سن التكليف إذا كان الحديث عن المحاسبة ، فضلاً عن كون المحاسبة غير مختصة بنهاية كل عام ، فإن المرء مأمور بالتوبة والمحاسبة في كل يوم من أيام حياته ، بل إن تخصيص الحديث عن المحاسبة في هذا الوقت يوقع في أنفس الناس أنه هو وقت المحاسبة الحقيقي دون غيره من أيام السنة ، وفي هذا لبس واضح ، وبالله التوفيق .
الأمر الثالث :
أن توقيت نهاية العام بالخطبة عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم قد يكون سبباً في فهم بعض الناس أن هذا يوم احتفال بهجرته بدليل أن جلَّ الخطباء يتحدثون عنه بل يكادون يجمعون عليه ، وفي هذا مدخل لأهل البدع الذين ينكر عليهم أهل السنة تخصيص يوم معين للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أو ما شابه ذلك .
وكل ما أدى إلى فهم خاطئ فإنه ينبغي تركه أو التنبيه إليه أو على الأقل عدم المواظبة عليه لئلا يفضي إلى الابتداع والتمسك به من قبل أهل البدع احتجاجاً به على بدعهم. والله أعلم.
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام يشبه هذه المسألة فيما يتعلق بالمداومة على قراءة السجدة والإنسان فجر الجمعة ، فقد قال رحمه الله : " ولا ينبغي المداومة على ذلك ؛ لئلا يظن الجاهل أن ذلك واجب ، بل يقرأ أحياناً غيرهما من القرآن " ( (202) انظر : مجموع الفتاوى (24/ 206 ) .202) .
وقد قال ابن القيم رحمه الله نحواً من ذلك بما نصه : " ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعاً لتوهم الجاهلين " ( (203) انظر : زاد العاد (1 / 375 ) 203) .
وقد قال شيخنا العلامة محمد العثيمين ما نصه : " وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه " ( (204) انظر : الشرح الممتع ( 5 /87 ) . 204) . والعلم عند الله تعالى .
15-
الدفع أولى من الرفع
على الخطيب أن يحرص جاهداً حينما يشعر أن هناك ثمة أموراً يخشى من وقوعها في المجتمع ، أو من زيادة خطرها بعد الوقوع ، أن يطرحها في خطبة قبل تفاقمها ، وأن يحذر من مغبة الوقوع فيها ، وهذه المبادرة تعد أمراً مهماً مبنياً على قاعدة فقهية مشهورة وهي " أن الدافع أولى من الرفع " لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة المؤنة وضآلة المفسدة ما لا تكون بعد وقوع الشيء ورجحان مفسدته ، ولقد أحسن الشاعر حين قال :إذا لم يغبر حائط في وقوعه
فليس له بعد الوقوع غبار
وهكذا هي الأشياء تكون في بداية الأمر صغيرة الحجم يقل الاكتراث بها فلا تزال تزداد وتتفاقم حتى تعظم على الناس فيصعب التخلص منها .
يقول أبو حامد الغزالي : " إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة فلفقت لها شبهٌ وثُبِّت لها كلامٌ مؤلفٌ صار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذوناً فيه ( (205) انظر : إحياء علوم الدين ( 1 / 22 ) . 205) " .
قلت : نص كلام الغزالي هنا يدل على أن حال الأمور تبدو أول وهلة مستحقرة لا يلتفت إليها حتى تستفحل فتكون كالمسلمات ومما لا يمكن درؤه إلا بعد لأي وشدائد . ثم إن مثل هذه الأمور إذا لم يسارع الخطباء في بيانها والتحذير منها إن كانت خطراً ، أو الدعوة إليها إن كانت واجباً ؛ فإن أثر هذا التأخير سيتفاقم حتى يصعب رفعه ، فحينئذ يتسع الخرق على الراتق .
وفي مثل هذا يقول الأوزاعي : " لقد كان أهل الشام في غفلة من هذه البدعة حتى قذفها إليهم بعض أهل العراق ممن دخل في تلك البدعة بعدما ردَّها عليه علماؤهم وفقهاؤهم " ( (206) انظر : الحجة في بيان المحجة للأصبهاني ( 1 / 102 ) . 206) . اهـ .
فإذا كان الأمر كذلك ، فإن بيان الأمور والدعوة إليها إن كانت خيراً أو التحذير منها إن كانت شراً ، وذلك قبل الوقع فيها ، كل ذلك كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ونهجه كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين ( (207) انظر : صحيح البخاري تفسير سورة سبأ باب رقم 2 ( رقم 4801 ) وصحيح مسلم كتاب الإيمان ، باب 89 ( رقم 208 ) . 207) عن ابن عباس قال : لما أنزل الله عز وجل {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} ( (208) سورة الشعراء، آية :214208) أتي النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى ( يا صباحاه ) فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح( (209) سفْحُ الجبل : وجهه ما قرب من أسفله . ولم يبلغ ذِروته . المجموع المغيث في غريبي القرآن والحديث ( 2 / 94 ) . 209) هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم ، صدقتموني ؟ ) قالوا : نعم . قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )... الحديث .
فهذا دليل واضح على استعمال النذارة أو البشارة قبل وقوعها ، ويدل على ذلك أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه ( (210) انظر : صحيح مسلم ( 4 / 1788رقم 2283 ) . 210) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتي قومه فقال : يا قوم ، إني رأيت الجيش بعينيَّ وإني أنا النَّذيرُ العُرْيَان ( (211) النَّير العربان : خص العُريان لأنه أبين للعين ، وأغرب وأشنع عند المبصر ، وذلك أن ربيئة القوم وعينهم يكون على مكان عال ، فإذا رأي العدو قد أقبل نزع ثوبه وألاح به لينذر قومه ويبقى عرياناً . النهاية ( 3 / 225 ) . 211) ، فالنَّجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدْلجوا ( (212) أدلجوا : الدلجة هو سير الليل يقال : أدلج بالتخفيف إذا سار من أول الليل ، وادَّلج بالتشديد إذا سار من آخره . النهاية ( 2 / 129 ). 212) فانطلقوا على مُهْلتِهم ، وكذَّبت طائفة منهم ، فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيشُ فأهلكهم واجتاحهم ( (213) اجتاحهم : استأصلهم . انظر : النهاية ( 1 / 311 ) . 213) ، فذلك مثلُ من أطاعني واتَّبع ما جئت به ، ومثلُ من عصاني وكذَّب ما جئتُ به من الحقِّ ) .
وبهذا يتضح ما في الحديثين الماضيين من دلالة على ما أردت توضيحه والله الموفق .
16-
اجتهاد بعض الخطباء في تطبيق بعض السنن أو تركها
قد يقع بعض الخطباء في شيء من الاجتهادات مما يتعلق بخطبة الجمعة ، وهذه الاجتهادات قد تتنوع ، بل يمكن أن نصنفها إلى أمرين :الأمر الأول :
أن يجتهد الخطيب في ترك سنة من السنن المشهورة في الخطبة ، كأن يترك الحمد والثناء على قول منْ يقول إنه ليس للخطبة أركان ، أو أن يترك الجلسة بين الخطبتين فيبقى واقفاً ، أو أن يجعل الخطبة واحدة ولا يفصل بينهما على من يقول إن الخطبتين سنة .
الأمر الثاني :
أن يأتي بسنة خافية على الناس من حيث أصل الخطبة ، كأن يجعل خطبة الاستسقاء قبل الصلاة مثلاً بناء على ما ثبت في صحيح مسلم كما سيأتي بحثه في موضعه .
فهذان الأمران يختلف القول فيهما بحسب الحال ، فإن كان الشيء الذي تركه الخطيب أو عمل به في الخطبة مما يجهله عامة الناس ، أو كان حينما يفعله الخطيب سبباً للإنكار واللغط بين جمهور المصلين فالأولى للخطيب أن يراعي ذلك أشد المراعاة . وذلك من خلال التوطئة السابقة للفعل حتى يعلم الناس حكم هذه المسألة ، ومن ثم لا جرم في فعلها حتى يقلّ الإنكار إن لم ينقطع بالكلية . وهذه مسألة معروفة عند أهل العلم وهي مراعاة أحوال الناس في مثل هذا . فإن ترك السنة أحياناً إذا ظن الناس أنها بالمواظبة عليها واجبة فإنها تترك أحياناً لبيان عدم الوجوب كما ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم .
فقد قال شيخ الإسلام عن المواظبة على قراءة سورتي السجدة والإنسان فجر كل جمعة ما نصه : " ولا ينبغي المداومة على ذلك لئلا يظن الجاهل أن ذلك واجب ، بل يقرأ أحياناً غيرهما من القرآن " ( (214) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 206 ) . 214) . اهـ .
وقال ابن القيم أيضاً : " ولهذا كره من كره من الأئمة المداومة على قراءة هذه السورة في فجر الجمعة دفعاً لتوهم الجاهلين " ( (215) انظر : زاد المعاد (1/ 375 ) . 215) .
وقد ذكر شيخنا العلامة محمد بن عثيمين مثل قول الشيخين أيضاً ، فقد قال ما نصه : " وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه " ( (216) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 87 ) . 216) . اهـ .
ثم أقول : إن الذي دعاني إلى طرح هذه المسألة أمران اثنان :
أما الأمر الأول :
فهو ما بلغني ممن شاهد وحضر ما وقع من أحد الخطباء حينما خطب في جمعة من الجمع بخطبة واحدة فقط ثم نزل فصلى ، فاختلف من حضر معه وكثر لغطهم وأنكروا عليه ، فقال بعضهم : الصلاة باطلة ، وقال آخرون : إنها ناقصة ، والخطيب يرى أن الخطبتين غير واجبتين ، وهو قول لبعض أهل العلم ، وأنه إنما فعل ذلك للبيان وإزالة اللبس ونحوهما .
والأمر الثاني :
هو ما قام به أحد الخطباء أيضاًَ حينما أحيا سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء فخطب قبل الصلاة ، فاشتدَّ النكير عليه ، وظهر الخلاف ، وكثر اللغط بين المصلين .
فبناء على ما سبق وددت الإشارة إلى هذه المسألة ، وأنها تحتاج إلى نوع من الحكمة والبيان السابق للفعل ؛ لأن المقصود هو العلم والتبيين لا الخلاف والتناوش الذي لا يوصل إلى ما يراد . والعلم عند الله تعالى .
17- توقي الخطيب أن يحمل أحداً على رأيه :
الخطابة مسؤولية عظمى لا يعلم حجم خطورتها إلا من يعلم أهميتها ودقة مسلكها ، فهي منبر التوجيه والدعوة وإحياء السنن وقمع البدع وقول الحق . وفي المقابل إذا هي أسيء استعمالها انقلبت إلى الضد ، فقد تحيا من خلالها البدع ، ويشاع الباطل ، وتموت السنة ، كما أنه قد ينتشر عبرها التضليل والتمويه وما شابه ذلك . لذا كان لزاماً على الخطيب أن يستحضر هذا الأمر نصب عينيه ، وأن يعلم أن كلامه مؤثر ، وأن هناك أصنافاً تستمع إلى خطبته من بينهم العامة الذين يأخذون كلام الخطيب أياً كان صواباً أو خطأ لاسيما خطباء المساجد الكبيرة المشهورة كالمسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى ، ثم الجوامع الكبار في سائر أنحاء العالم والتي يرتادها كثير من الناس ، ولها ولخطبائها شهرة واسعة النطاق ، فعلى الخطيب أن يتقي الله فلا يخوض في نصوص الوحيين بغير حق ، وألا يقول على الله ورسوله ما لا يعلم ، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنياً على وجهة نظر شخصية عرية عن التنقيح أو التحقيق أو إصابة الصواب أو القرب منه بعد الاجتهاد في تحصيله . وألا يكون منبع خطبته وما يقرره فيها مصادر مغشوشة كحماس طائش أو إعلام مضلل أو ضغوط نفسية متعددة الجوانب . وألا يفتن الناس بأقواله المشتملة على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة ، ولينظر إلى أي شيء هو يقوم ، وإلى أي هوة يقع بنفسه أو يوقع غيره ، وإلى أي سنة سيئة يسعى في إحيائها شعر بذلك أو لم يشعر ، ليكون عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى قيام الساعة .
ولا يغرن أي خطيب فصاحة لسانه وحسن بيانه وشهرة منبره وإعجابه برأيه ما لم يكن مؤصل العلم ، واسع الروية ، طالباً للحق حريصاً عليه ، وسطاً منصفاً ، غراً لا يستغفل .
ولقد ذكر ابن عبد البر عن أحد السلف قوله: "من أعجب برأيه ضلَّ، ومن استغنى بعقله زل( (217) انظر : جامع بيان العلم وفضله ( 1 / 142 ) . 217) " . اهـ .
وذكر أبو حاتم البستي أيضاً بسنده عن علي بن عبدالله بن عباس أنه ذكر عنده بلاغة رجل ، فقال : إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلاً على مقدار علمه ، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله ( (218) انظر : روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص (222 ) .218) . اهـ .
وقال أبو حاتم أيضاً : " الخرس عندي خير من البيان بالكذب ، كما أن الحصور خير من العاهر ( (219) انظر : المصدر السابق ص ( 221) . 219) . اهـ " .
قلت : صدق أبو حاتم ، فلقد وافق حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة وفيه ( ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) متفق عليه ( (220) صحيح البخاري : كتاب الأدب ، باب 36 ( رقم 6018 ) وصحيح مسلم : كتاب الإيمان ، باب 19 ( رقم47 ) . 220) .
ولقد روى أبو القاسم الأصبهاني بسنده " أن عبدالله بن وهب قال ليوسف بن عمر : إن مالك بن أنس قال لي : يا عبدالله ، لا تحملن الناس على ظهرك ، وما كنت لاعباً به من شيء فلا تلعبن بدينك " ( (221) انظر : الحجة في بيان المحجة ( 1 / 207 ) وروى اللالكائي نحوها في شرح السنة ( 1 / 144 ) . 221)
قلت : ومراد مالك رحمه الله بقوله " لا تحملن الناس على ظهرك " كناية عن تحمل آثار الناس وذنوبهم بما يسنه مما هو سبب في إضلالهم . فإن في ذلك خطورة وحملاً للأوزار غير يسير ، لما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من سنَّ في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ، ولا ينقص من أوزارهم شيء ) ( (222) انظر : صحيح مسلم : ( 2 / 705 رقم 1017 ) . 222) وفي لفظ لمسلم أيضاً ( من دعا إلى ضلالة ..... الحديث ) وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم كفلٌ منها ؛ لأنه أول من سنَّ القتل ) ( (223) صحيح البخاري : أحاديث الأنبياء ( رقم 3335 ) ، صحيح مسلم : ( 3 / 1303 رقم1677 ) . 223) وعند أبي داود من حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من أفتي له بغير علم كان إثمه على منْ أفتاه ) ( (224) سنن أبي داود : ( 4 / 66 رقم 3657 ) . 224) .
من هذه الأدلة وغيرها بني الإمام مالك رحمه الله وصيته بقوله " لا تحملن الناس على ظهرك " . ولقد أحسن من قال :
فأحفظ وقيت فتحت رجلك هوة
كم قد هوى فيها من الإنسان
فعلى الخطيب أن يتقى الله سبحانه ، وأن يحسن الطرح في خطبته لاسيما في خطب النوازل والأحداث العامة التي ينتظر فيها جمهور الناس ما يقوله الخطباء ويرددونه فضلاً عن صعوبة بعض النوازل واشتباكها وعدم وضوح أبعاد معظمها ، بل قد يكون بعضها من الفتن التي يكون الماشي ، فيها خيراً من الساعي ، والقاعد خيراً من الماشي ، والساكت خيراً من المتحدث ، فعلى الخطيب أن يقول الحق إن استطاع وإلا فليصمت ولا يقولن الباطل ؛ لأن من تدخل في مثل تلك النوازل الغامضة ربما كثر سقطه ، ثم وقع فيما قال أبو حاتم البستي رحمه الله بقوله : " والسقط ربما تعدى غيره فيهلكه في ورطة لا حيلة له في التخلص منها ؛ لأن اللسان لا يندمل جرحه ولا يلتئم ما قطع به ، وكلْمُ القول إذا وصل إلى القلب لم ينزع إلا بعد مدة طويلة ، ولم يستخرج إلا بعد حيلة شديدة ، ومن الناس من لا يكره إلا بلسانه ، ولا يهان إلا به . فالواجب على العاقل ألا يكون ممن يهان به " ( (225) انظر : روضة العقلاء ص (56 ) .225) . اهـ .
إذا يتبين لنا من خلال ما سبق أن الأصل في الخطبة هو العدل وقول الحق ودلالة الناس للصواب ، فإن لم يستطع الخطيب ذلك لأسباب كثيرة يصعب حصرها ؛ فإن سكوته خير ، وإن عدم خوضه فيما لا يمكن العدل فيه أنفع له من التحدث بالخطأ ، أو الحق الذي يعتريه باطل من جهة لا يشعر بها الخطيب . وذلك كما قال أبو حاتم البستي رحمه الله : " لأنه إذا قال ربما ندم ، وإن لم يقل لم يندم ، وهو على ردِّ ما لم يقل أقدر منه على ردِّ ما قال ، والكلمة إذا تكلم بها ملكته ، وإن لم يتكلم بها ملكها ، والعجب ممن يتكلم بالكلمة إن هي رفعت ربما ضرته ، وإن لم ترفع لم تضره كيف لا يصمت ( (226) انظر : المصدر السابق ص ( 45) .226) . اهـ .
ولقد أحسن ابن زنجي البغدادي حين قال :
لئن كان يجني اللوم ما أنت قائل
فلا تبد قولاً من لسانك لم يرُضْ
ولم يك منه النفع فالصمت أيسرُ
مواقعه من قبل ذلك التفكير
ورحم الله من قال : العافية عشرة أجزاء ، تسعة منها في السكوت ( (227) انظر : المصدر السابق ص ( 46) .227) . اهـ .
18-
ابن القيم يصف خطب النبي صلى الله عليه وسلم وحال الخطب من بعده
لابن القيم رحمه الله كلام جميل جداً يقارن فيه بين نهجه صلى الله عليه وسلم في خطبه وما ينبغي أن يسير عليه الخطيب من إتباعه صلى الله عليه وسلم والسير على طريقه ونهجه - إذ كل خير في إتباع هديه ، وكل شر في البعد عنه وسلوك غير سبيله - وبين ما أحدث الناس في خطبهم بعد ذلك وفي عصر ابن القيم أيضاً ، فقال رحمه الله :( وكذلك كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان من الإيمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، ولقائه ، وذكر الجنة والنار ، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته ، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته ، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً ، ومعرفة بالله وأيامه ، لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق وهي النوح على الحياة والتخويف بالموت ، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله ، ولا توحيداً له ، ولا معرفة خاصة به ، ولا تذكيراً بأيامه ، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه ، فيخرج السامعون ولم يستفيدوا فائدة ، غير أنهم يموتون وتقسم أموالهم ، ويبلي التراب أجسامهم . فيا ليت شعري أي إيمان حصل بهذا ؟ وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به ( (228) قد يفهم البعض من كلام ابن القيم هنا - لأول وهلة - أنه يحقر من جانب التزهيد في الدنيا والتخويف بالموت ، وهذا ليس بصحيح ، وإنما هو رحمه الله يعيب على من لا يربطون هذا التزهيد وهذا التخويف بمقاصدهما من خطورة الانغماس في الدنيا وما يفوته من مصالح الأخرة وإقامة توحيد الله في أرضه ، وكذلك الموت بتذكير الناس بحسابهم وحالهم من بعده وما سيلقونه من جنة أو نار ، وغير ذلك مما أعده الله لعباده المؤمنين والكافرين . هذا هو مراد ابن القيم رحمه الله وقد تبع فيه ما ذهب إليه شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ومن قبله أبو المعالي الجويني . وللشيخ محمد بن إبراهيم كلام جيد حول هذا المعنى . انظر إلى ذلك كله مفصلاً في مبحث ( قول بعض أهل العلم : لا يكفي مجرد التحذير من الدنيا وزخرفها في الخطبة ) من هذا الكتاب . 228) ؟! .
ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه ، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد ، وذكر صفات الرب جل جلاله ، وأصول الإيمان الكلية والدعوة إلى الله ، وذكر آلائه تعالى التي تحببه إلى خلقه ، وأيامه التي تخوفهم من بأسه ، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه ، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه ، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه ، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم ، ثم طال العهد ، وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها ، فأعطوها صورها ، وزينوها بما زينوها به ، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها ، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها ، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفقر وعلم البديع ، فنقص بل عدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها ( (229) انظر : زاد المعاد ( 1 / 423 ) . 229) . اهـ .
19-
جمال الدين القاسمي ، ومحمد رشيد رضا ، ومحمد أبو زهرة ، وعلي الطنطاوي يوضحون ماهية الخطب في الصدر الأول ومتى حدث التراجع والضعف في الخطب ؟
.كان الشيخ جمال الدين القاسمي رحمه الله ممن وهبهم الله منهاجاً نيراً لما يجب أن تكون عليه مساجد المسلمين وخطبهم وأحوالهم ، فقد قال كلاماً عظيماً في المقارنة بين الخطب في الصدر الأول وما أعقب ذلك من إهمال وقصور في حق خطبة الجمعة لدى كثير من الخطباء ، مما أودى بالمقارنة الواضحة بين ما كان عليه السلف في الصدر الأول وبين ما بعدهم من عصور الانفتاح والبعد عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رحمه الله : " كانت الخطب في الصدر الأول لها المكانة العالية والمقام الأسنى . كانت موضوع المفاخرة بين العرب كما يفتخرون في الشعر . كانوا ينتقون من جواهر الألفاظ أعذبها وأظرفها وأحلاها ، ومن المعاني أرقها وأدقها وأغلاها ، ومع ذلك فكانوا يضمنونها آيات من كتاب الله تعالى لتزداد حلاوة وطلاوة ( (230) طُلاوة : أي رونقاً وحُسناً . النهاية (3 / 137 ) . 230) حتى إنه ليعاب على خطبة ليس فيها آية من القرآن الكريم ( (231) قلت : بل إن بعض أهل العلم قال بوجوب ذكر آية أو آيات من القرآن في الخطبة ، وعدَّ ذلك من أركانها كما سيأتي ذكره في مبحث مستقل بعنوان ( أركان خطبة الجمعة عند أهل العلم ) . 231) بلغت زمن الخلفاء الراشدين عنفوان ( (232) عُنْفُوان الشيء : أوله . مختار الصحاح ص ( 458 ) . 232) شبابها ؛ فإن القرآن بما اشتمل عليه من أبدع الأساليب أعانهم على الخوض في عُبَاب ( (233) عُبابُ كل شيء : أوّله . لسان العرب ( مادة عُبب ) . 233) التفنن في دائرة الإرشادات الجاذبة بمغناطيسها الأفئدة . كان الخطيب إذا قام لأمر ما سحر الألباب وملك بمرصعات الواعظ ما لا يملك بمرهفات ( (234) مرهفات : أرهفتُ سيفي أي رقَّقْته فهو مرهف ، وسهم مُرْهف وسيق مرهف ورهيف ، وقد رهفته وأرهفته فهو مرهوف ومُرْهف ، أي رقّت حواشيه . لسان العرب ( مادة رهف ) . 234) السيوف والرماح . يؤلف بين من تفرق ، ويسكن الفتن ، ويزيل المخاصمات ، ويقطع المنازعات
، ويقيمهم إن شاء ، ويقعدهم إن أراد بقوة اقتداره وشدة تأثيره .
متى حدث الانحطاط في الخطب ؟ : إن الخطابة قبل كانت بيد الخلفاء الراشدين والرؤساء العظام ، وكانت موضع احتراس . كان يخطب الخطيب قائماً ( إلا خطبة النكاح ) آخذا بيده عصاً أو مخصرة ( (235) مخصرة : المِخْصرة كالسوط ، وكل ما اختصر الإنسان بيده فأمسكه من عصا ونحوه . الصحاح ( مادة خصر ) . 235) أو قناة ( (236) القناة : الرمح . القاموس المحيط ( 4 / 383 ) . 236) أو غير ذلك ، فلما جاءت الدولة المروانية واستولى الترف وعمَّ ، وتولى كرسي المملكة الوليد بن عبدالملك بن مروان بدأ يخطب - وآسفاه - جالساً ترفعاً منه واستهانة بهذا الموقف الجليل . ومن هذا أخذت الخطابة في الاضمحلال والتلاشي ، فكان آخر خطيب أجاد من أئمة الإسلام المأمون بن هارون الرشيد من خلفاء الدولة العباسية ، وترك الملوك الخطابة ، ووكلوا أمرها كغيرها من الأمور لغيرهم ؛ فصارت منحطة القدر بعد الرفعة ، وموضع الاستهانة بعد التجلة تولاها أناس ما قدروها حقَّ قدرها ، وما دروا المقصود منها بجهالاتهم المطبقة ، حتى إنك لو خاطبت أحدهم عن الخطبة المتبعة وتغييرها بما يستدعيه الزمان ما أجابك إلا بقوله : لا يمكن للنفوس الآن أن تتزحزح عن غيها ، وأن الخطب الآن هي من قبيل الرسوم فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فأنت ترى اليوم ببغاء كل منبر ينفث سموم الإماتة والتدمير والإقعاد عن العمل ( (237) في وصفه هذا مبالغة واضحة لاسيما حينما قال : " ببغاء كل منبر " فأتى بلفظة كل . ولكن أقول : لعله من باب العموم الذي أريد به الخصوص لاسيما في البلاد التي عاش فيها القاسمي ، فقد كانت مليئة بما ذكر ، ولا يلزم من هذا تعميم ما ذكره على جميع بقاع المسلمين . والله أعلم . 237) متمسكاً بمثل قوله رحمه الله : " لمن تقتني الدنيا وأنت تموت ، ولمن تبني العلياء والمقابر بيوت ... " مما أمات الأمة غافلاً عن قول سيد الزاهدين : ( اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ) ( (238) لم أقف عليه بهذا اللفظ مرفوعاً ، وقد أخرج ابن قتيبة في غريب الحديث ( 1 / 286 ) من حديثعبداله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه قال : ( أحرث لديناك كأنك تعيش أبداً ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً ) .
وأخرجه مرفوعاً في السنن الكبرى ( 3 / 19 ) من حديثه وأوله : ( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ... فاعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبداً ، أو احذر حذر من يخشى أن يموت غداً . قال البيهقي : روي هذا الحديث من طرق موصولاً ، ومرسلاً ، ومرفوعاً ، وموقوفاً ، وفيه اضطراب ورجح البخاري في التاريخ إرساله ( إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 9/ 41 ) . قال الألباني : حديث ( اعمل لديناك كأنك تعيش أبداً ) لا أصل له مرفوعاً وإن اشتهر على الألسنة في الأزمنة المتأخرة ، وضعَّف رواية البيهقي المتقدمة ، السلسلة الضعيفة ( 1 / 20 رقم 8 ) . 238) .
انتهى كلام القاسمي رحمه الله ( (239) انظر : إصلاح المساجد ص ( 67 ) وما بعدها . 239) .
قلت : وأوضح من ذلك ما ذكره ابن القيم رحمه الله من مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمقتضى الحال في خطبته حيث كان يبين ما يحتاجونه إليه حسب تنوع الأحوال ، فقد قال رحمه الله : " وكان صلى الله عليه وسلم يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم " . وقال في موضع آخر : " وكان صلى الله عليه وسلم يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضَّهم عليها " ( (240) انظر : زاد المعاد ( 1 / 189 ، 428 ) .240) . اهـ .
وأما الشيخ محمد رشيد رضا فقد كان وصفه للخطب والخطباء العصريين مبنياً على جواب لسؤال ورد إليه . وإليك نص هذا السؤال وجوابه .
سئل الشيخ محمد رشيد رضا : كم هي ذنوب الخطيب الذي لا يأمر الناس إلا بالعجز والكسل والموت والخرافات والتقليد وسيئ العادات ؟.
فأجاب الشيخ قائلاً : " هذا الخطيب شرُّ خطباء الفتنة ، وذنوبه لا تحصى إلا إذا أمكن إحصاء تأثيرها الضار في الأمة ، وأني يحصى وهو من الأمور المعنوية التي لا تعرف بالعدِّ والحساب ، فمن سيئات هؤلاء الخطباء وآفاتهم في الأمة أن كانوا علة من علل فقرها وضعفها في دينها ودنياها ، وضياع ممالكها من أيديها ، فهم أضر على المسلمين من الأعداء المحاربين ، ومن دعاة الضلال الكافرين ( (241) قد يلاحظ القارئ قوة عبارات الشيخ محمد رحمه الله في الخطباء . وهي وإن كانت عبارات قاسية وجارحة ، إلا أنه يحكي واقعاً للخطباء ملموساً في عصره . مع أننا لا نتفق معه على التعميم في الألفاظ ، إذ لا يزال في عصره من الخطباء من هم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم في خطبهم فتنبَّه . 241) ، ومثلهم كمثل الطبيب الجاهل يقتل العليل ، وليس هذا محل شرح سيئاتهم بالتفصيل ، ولكن لابد من التنبيه على سيئة منها حادثة لم تكن من قبل ، وهي أن أبناء المسلمين الذين تعلموا العلوم العصرية وعرفوا أحوال الأمم وسياستها ، وتأثير آدابها في مدنيتها وعزتها ، ولم يقفوا على حقيقة الآداب الإسلامية ولا غير ذلك من الأصول الدينية ، يتوهمون أن هؤلاء الخطباء ينطقون بلسان القرآن ، ويبينون للناس لباب ما جاء به الدين من الحكم والأحكام ، ويستدلون على ذلك بإجازة العلماء ما يقولون وما يوردون في كلامهم من الأحاديث وإن كانت موضوعة أو واهية ، وما يرصعونه به من الآيات وإن كانت بما ينهون عنه آمرة ، وعما يأمرون به ناهية ، ولكن أنى للسامع المسكين أن يميز الغثَّ من السمين ، إذا كان لم يطلع على تفسير الكلام القديم ، ولم يقرأ علم الحديث الشريف ، فلا جرم ينفر من الدين نفور الكاره له ، المعتقد أن معارف البشر أهدى منه ، وإذا كان عارفاً بدينه فإنه ينفر من صلاة الجمعة ، وأعرف من المصلين من يتحرى أن يدخل المسجد بعد فراغ الخطيب من خطبته ، وحدثني الأستاذ الإمام رحمه الله
تعالى ( (242) يقصد شيخه محمد عبده فقد كان يلقب بالإمام آنذاك . 242) أن رجلاً من النابغين في العلوم العصرية كان كثير الخوض في الدين ، والإنكار لبعض أصوله وفروعه ، فما زال به الأستاذ حتى أزال شبهاته وأقنعه بأن يصلي ، فبدأ بصلاة الجمعة في الجامع الأزهر ، فسمع خطبة من الخطب المسؤول عنها فنفر ، وقال : إن هذا شيء لا يصلح به أمر البشر ، وما أنا بعائد إلى سماع هذه الخطابة ، انخداعاً بما للشيخ محمد عبده من الخلابة .
هذا وإن مقام الخطابة هو مقام النبي صلى الله عليه وسلم ، ومقام خلفائه ونوابهم ، وقد أهين هذا المقام في هذا العصر لاسيما في مصر ، فصار يعهد به كثيراً إلى أجهل الناس وأقلهم احتراماً في النفوس ؛ لأن الخطابة في نظر ديوان الأوقاف هنا وظيفة رسمية تؤدى بعبارة تحفظ من ورقة فتلقى على المنبر ، أو تقرأ في الصحيفة ككنس المسجد يقوم بها أي رجل ، وفي نظر طلابها حرفة ينال بها الرزق . فهمّ الديوان في الخطيب أن يكون قليل الأجرة لتتوفر أموال الأوقاف ، فيوضع ما يزيد منها عن النفقات التي لا تفيد المسلمين في خزائنه أو خزائن البنك ، وقد اجتهد الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى في إحياء هذا الركن الإسلامي بجعل الخطابة خاصة بالعلماء والأعلام ، فوقفت السياسة في طريق مشروعه مدة حياته ولعلها تتنحى فينفذ بعد موته ( (243) انظر : مجلة المنار ( 8/ 671 ) . 243) " .اهـ .
وقال في موضع آخر - عن خطب هذا العصر والتي كان يشاهدها في كثير من البلاد الإسلامية في عصره - : ولم أر خطيباً ذكرني خطبة النبي صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة . زارني سيد عراقي مثل لي تحريض العرب على القتال بخطبة تضطرب لها القلوب ، وتثير كوامن الحمية والنجدة من قرارات النفوس ( (244) انظر : مجلة المنار ( 15/ 29 ) .244) .اهـ .
وفي موضع آخر سئل عن خطبة من الخطب ، فكان مما قال في الجواب عن هذا السؤال : يجب إصلاح الخطابة في المساجد الجامعة ، وترك تلك الخطب المحشوة بالأباطيل المميتة للهمم ، وقد كتبت قبل إنشاء (المنار) فصلاً طويلاً في الخطابة أودعته كتابي (الحكمة الشرعية) فهل ينتظرون مني أن أجيز تلك الخطب السخيفة المألوفة ، وما فيها من الأحاديث الموضوعة ( (245) انظر : مجلة المنار ( 12/ 417 ) .245) .اهـ .
وقال في موضع آخر : إننا كثيراً ما نسمع من خطباء الجمعة الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمحرفة ، حتى صار يضيق صدري من دخول المسجد لصلاة الجمعة قبل الخطبة الأولى أو في أثنائها ، فمن سمع الخطيب يعزو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً يعلم أنه موضوع يحار في أمره ؛ لأنه إذا سكت على هذا المنكر يكون آثماً ، وإذا أنكر على الخطيب جهراً يخاف الفتنة على العامة . والواجب على مدير الأوقاف منع الخطباء من الخطابة بهذه الدواويين المشتملة على هذه الأحاديث ، أو تخريج أحاديثها إذا كانت الخطب نفسها خالية من المنكرات والخرافات والأباطيل ، وما أكثر ذلك فيها ( (246) انظر : مجلة المنار ( 26/ 186) .246) .اهـ .
ثم قال الشيخ محمد رشيد رضا :" من أمعن نظره فيما قلناه ونقلناه يأسف لحال الأمة الإسلامية كيف أن - سادتها وكبراءها - في العصور المتأخرة أساءوا في إدارة شؤونها وتربية أبنائها واستدرجوها في الاستكانة والاستخذاء حتى نزعت منها روح الحرية ، وفقدت النعرة والحمية، وحلَّ محل ذلك الضعف والخمول وعدم المبالاة بحفظ الحوزة وحماية الحقيقة " ( (247) انظر : مجلة المنار ( 9/ 618 ) .247) .
وأما الشيخ محمد أبو زهرة فقد تحدث عن ميزات خطب المتقدمين بنحو ما ذكر جمال الدين القاسمي ، ثم أخذ يذكر ما وصلت إليه الخطب بعد تلك العصور ، فكان مما قال : فيها المبالغة والإغراق ، لكثرة النفاق ، والخداع والملق والمدح ، فإن هذه الأمور صوت الصدق خافتاً ، وصوت الكذب عالياً ، والمبالغات والغلو ترد من أبواب الكذب ، حيث تختفي الصراحة ، هذا إلى أن تسابق الخطباء في مدح الخلفاء جعل كلاً يجتهد في المعاني ، والغوص فيها ؛ ليصلوا إلى قصب السبق قبل غيرهم ، وذلك يدفعهم حتماً إلى الإغراق . وقد كانت جمهرة الأمة في صدر الدولة ممن يقيمها القول البليغ ويقعدها ، يفقهون مرامي العبارات ، ومرامي الكلام ، فكان من حالهم مشجع للخطباء على القول ، فلما حالت الحال ، وغلبت العجمى ، لم يكن من القوم من يحسن الاستماع ، ولا من الخطباء من يجيد البيان ، كما أن قعود الخلفاء عن الخطابة وإنابة غيرهم منابهم في الصلاة بالناس كانت سبباً في استهانة الناس بمواقف الخطابة تقليداً لخلفائهم ، ومحاكاة لأمرائهم ، والناس لملوكهم تبع ، وقد تبع استهانة الناس بالخطابة استهانتهم بالخطيب ، وقلة احترامهم له ، وبهذا ضعفت الرغبة في القول ( (248) انظر : الخطابة ص ( 308 ، 340 ، 341 ) بتصرف يسير . 248) . اهـ .
وأما الشيخ علي الطنطاوي فله كلام جيد حول قوة الخطب عند المتقدمين ، وما امتازت به خطبهم ، ثم عرّج على خطب المتأخرين واصفاً إياها بالضعف والتراجع ، فكان مما قال :" لو كان عشر هذه المنابر في أيدي جماعة من الجماعات العامة المنظمة ، لصنعت بها العجائب . فما بالنا وهي في أيدينا لا نصنع بها شيئاً . كان للرسول صلى الله عليه وسلم منبر واحد ، دعا منه فلبَّت الدنيا ، واستجاب العالم ، وترك به على الأرض أعظم أثر عرفه تاريخ الأرض ، وعندنا اليوم مائة ألف منبر مبثوثة ما بين آخر أندونيسيا وآخر المغرب ، كلها مزخرف منقوش ، استنفد جهد أهل العمارة ، وعبقرية أهل الفن ، وفيها المكبرات والإذاعات ، تحمل الصوت منها إلى آفاق الأرض ، فيُسْمعُ خطباؤها الملايين ، ولا نرى لها مع ذلك أثراً في إصلاح ، ولا عملاً في نهضة ..... ولو سألت من شئت من المصلين عن هذه الخطب ، لسمعت منه طرفاً من عيوبها .
فمن عيوبها هذا التطويل ، وهذا الإسهاب حتى لتزيد الخطبة الواحدة أحياناً على نصف ساعة ، مع أن السنة تقصير الخطبة ، وتطويل الصلاة .
ومن عيوبها : أنه ليس للخطبة موضوع واحد معين ، بل تجد الخطيب يخوض في الخطبة الواحدة في كل شيء .
ومن عيوبها : أن الخطيب ( أعني بعض من يخطب ) يحاول أن يصلح الدنيا كلها بخطبة واحدة ، فلا يخاطب الناس على قدر عقولهم ، ولا يكلمهم على مقتضى أحوالهم ، ولا يسير بهم في طريق الصلاح خطوة خطوة ، بل يريد أن يبلغوا الكمال بقفزة واحدة ، مع أن الطفرة في رأي علمائنا محال .
ومن عيوبها : أنها صارت ( كليشات ) معينة ، ألفاظ تردد وتعاد ، لاسيما في الخطبة الثانية ، مع أن الخطبة الثانية لا تختلف في أصل السنة عن الأولى ، وما يلتزمه الخطباء فيها من الصلاة الإبراهيمية ، والتراضي عن الخلفاء والتابعين بأسمائهم ، لم يلتزمه أحد من السلف .
ومن عيوبهم : هذا التكلف في الإلقاء ، وهذا التشدق في اللفظ ، وهذه اللهجة الغربية . وخير الإلقاء ما كان طبيعياً لا تكلف فيه، والرسول صلى الله عليه وسلم قد كره المتشدقين وذمهم.
ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا : أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول صلى الله عليه وسلم ، ويتكلم بلسان الشرع ، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط ، لا آراءه هو وخطرات ذهنه ، ويحرص على رضا الله وحده ، لا على رضا الناس ، فلا يتزلف إلى أحد ، ولا يجعل الخطبة وسيلة إلى الدنيا ، وسبباً للقبول عند أهلها .
ومن عيوبها : أن من الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ، ولا مسلمة عند أهل العلم ، يفتي بها على المنبر ، ويأمر الناس بها ، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة ، وترك الخلافيات لمجالس العلماء لكان أحسن .
ومنهم ( وهذا كثير ) من يأتي بالأحاديث الموضوعة ، أو الضعيفة المتروكة ، مع أنه لا يجوز لأحد أن يسند حديثاً إلى رسول صلى الله عليه وسلم حتى يتوثق من صحته . فليتنبه الخطباء إلى هذا ، فإنه من أهم المهمات ( (249) انظر : فصول إسلامية . للطنطاوي ص ( 123 وما بعدها ) . 249) . اهـ .
20-
الخطبة بين الارتجال والقراءة من الصحيفة
الأصل في الخطابة عند العرب قبل الإسلام ومن ثم بعد الإسلام إلى قرون قريبة قد خلت ، إنما تكون بطريق الارتجال ، وما شهرة من اشتهر منهم - كقيس بن ساعدة وعلي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم وعبدالملك بن مروان الذي شيبته المنابر وسحبان وائل وغيرهم - إلا من هذا الباب . كل أولئك وغيرهم إنما كانوا يخطبون ارتجالاً .ومما لاشك فيه أن الارتجال هو الأكمل في الخطابة وهو أصلها ، وهو علامة الملكة والقدرة . وحاجة الخطيب في الجملة إلى الارتجال أمر لاشك في استحسانه ، إذ القدرة عليه من ألزم الصفات للخطيب الناجح ، وما ذاك إلا لحاجته أحياناً إلى البديهة الحاضرة ، والخاطر السريع ، الذي يفرضه عليه واقع الأمر فيما يكن قد أعدَّ له من قبل . وقد روي أن أبا جعفر المنصور كان يخطب مرة فقال : " اتقوا الله ، فقال رجل : أذكّرك من ذكّرتنا به . فقال أبو جعفر : سمعاً سمعاً لمن فهم عن الله وذكّر به ، وأعوذ بالله أن أذكّر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم ، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، وما أنت ؟ والتفت إلى الرجل فقال : والله ما الله أردت بها ، ولكن ليقال قام فقال ، فعوقب فصبر ، وأهون بها لو كانت العقوبة وأنا أنذركم أيها الناس أختها ، فإن الموعظة علينا نزلت وفينا نبتت ، ثم رجع إلى موضعه من الخطبة ( (250) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص (143 ) . 250) . اهـ .
قلت : فها هو المنصور حينما قدر على الارتجال استطاع أن يأتي بهذا النوع من الكلام المسكت . بخلاف الخطابة من الورق لأنها تعدُّ من قبل ، ولا يزل عنها الخطيب قيد أنملة ؛ فلم يكن فيها ما يدل على الملكة الآنية ، بل إن بعض أهل العلم يجعلها نوعاً من المعايب إلى عهد ليس بالبعيد . كما ذكر ذلك الشيخ علي محفوظ عضو جماعة كبار العلماء بالأزهر والمتوفى سنة 1361 هـ .
فقد قال في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع " ما حاصله : " أما ما يقع من بعض العامة حين نزول الخطيب من على المنبر من التمسح بكتفه وظهره فمما لا أصل له ، وكذلك البيارق التي تنصب على جانبي المنبر والستارة التي تسبل على بابه ، وبعض الخطباء يستتر بهذه البيارق ؛ لأنه لسوء حفظه يقرأ الخطبة في الورق ، وبذلك يضيع أثر الخطبة في نفوس السامعين ( (251) انظر / الإبداع في مضار الابتداع ص ( 177 ) . 251). اهـ .
قلت : بيد أن الأمور في هذا العصر قد اختلفت ، فقد ضعفت اللغة لدى كثير من الناس ، وقلَّ الاعتياد على الارتجال في الخطب في كثير من الأصقاع حتى اختلفت أعراف الخطباء في ذلك ، فصار كثير منهم لا يرتجلون إما رغبة منهم ، أو من باب عدم القدرة . ولكن لسائل أن يسأل أيهما أفضل ؟ الارتجال أم الخطبة بالقراءة من الورق ؟ .
فالجواب : هو أنه لاشك في أن الارتجال هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه رضي الله عنهم ومن جاء من بعدهم. ولكن هل فعله صلى الله عليه وسلم هذا للتعبد أم أنه فعل جبلي؟
الذي يظهر لي - والله أعلم - أنه فعل جبلي ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان أمياً . ولكن قد يشكل على هذا فعل الصحابة رضي الله عنهم حيث إن بعضهم كانوا يرتجلون مع علمهم بالقراءة والكتابة .
ولعل من المناسب هنا أن أقول : ينبغي أن ينظر في المسألة :
فإن كان الخطيب ممن لديه ملكة الارتجال ، بحيث يجيد مخارج الحروف مع إعرابها خالية من اللحن والتلعثم ( (252) تلعثم عن الأمر : نكل وتمكَّث وتأَنَّى وتبصَّر . لسان العرب ( مادة لعثم ) . 252) والكلام المكرر ، أو أن يرتج عليه كثيراً بحيث تفقد هيبة الخطيب والخطبة ، فإن الارتجال هنا أفضل وأكمل .
وأما إن كان الأمر غير ذلك ، فإن الخطابة بالورق أكثر نفعاً ، بحيث لا يخرج الخطيب عن الموضوع أو ينسى أو يزل أو يلحن . ولعل الأمر في ذلك واسع والله الموفق .
قال ابن مفلح : قال أبو المعالي وابن عقيل : ولمن لا يحسن الخطبة قراءتها من صحيفة . قال : كالقراءة في الصلاة لمن لا يحسن القراءة في المصحف . كذا قال . وسبق أن المذهب لا بأس بالقراءة في المصحف . قال جماعة : كالقراءة من الحفظ فيتوجه هنا مثله ؛ لأنه الخطبة شرط كالقراءة ( (253) انظر : الفروع (2 / 117 ) . 253) . اهـ .
21-
لباس الخطيب في الجمعة
وردت أحاديث كثيرة في استحباب التطيب والتجمل في الثياب يوم الجمعة ، وهي أحاديث عامة يدخل فيها الإمام والمأموم . فمن ذلك ما رواه ابن ماجة عن عبدالله بن سلام أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة : ( ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة ، سوى ثوب مهنته ) ( (254) انظر : سنن ابن ماجة ، كتاب إقامة الصلاة ، باب ما جاء في الزينة يوم الجمعة ( 1 / 348 ) . 254) .وهناك حديث خاص يدل على استحباب ذلك للخطيب أيضاً ، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سيراء عند باب المسجد فقال : يا رسول الله ، لو اشتريت هذه فلبستها يوم الجمعة ، وللوفد إذا قدموا عليك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة ... ) ( (255) صحيح البخاري كتاب الجمعة ، باب 7 ( رقم 886 ) . 255) الحديث .
وعند البيهقي من حديث جابر رضي الله عنه : ( كان للنبي صلى الله عليه وسلم برد يلبسها في العيدين والجمعة ) ( (256) انظر : السنن الكبرى (3/350 ) . 256) .
قلت : يؤخذ من الحديث العام استحباب لباس الثياب الحسنة للخطيب وغيره ، والحديث الخاص يزيد التأكيد في حق الخطيب ، وأنه يستحب له التجمل زيادة على الآخرين ، وهذا هو الذي فهمه أهل العلم من هذه الأحاديث ، وإليك شيئاً من أقوالهم في هذا .
فقد قال الشافعي: وأحب للإمام من حسن الهيئة ما أحب للناس ، وأكثر منه . ( (257) انظر : الأم (1 / 337 ) . 257). اهـ .
وقال أبو الحسين العمراني الشافعي : ويستحب للإمام من ذلك - أي اللباس يوم الجمعة - أكثر مما يستحب لغيره ؛ لأنه يقتدى به . ( (258) انظر : البيان ( 2/ 588 ) . 258) . اهـ .
وقال ابن قدامة : " الإمام في هذا ونحوه آكد من غيره ؛ لأنه المنظور إليه من بين الناس . ( (259) انظر : المغني ( 3 / 230 ) . 259) . اهـ .
وقال النووي :" ويستحب للإمام أكثر مما يستحب لغيره من الزينة وغيرها ، وأن يتعمم ويرتدي أفضل ثيابه البيض كغيره . هذا هو المشهور . ( (260) انظر : المجموع ( 4/ 368 ) . 260) . اهـ .
قلت : هذا حاصل بعض كلام أهل العلم حول هذه المسألة ، وهو ظاهر ولا إشكال فيه بل هو موافق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله والعلم عند الله تعالى .
22-
لبس السواد أو البياض للخطيب
اختلف أهل العلم في لبس الخطيب للسواد أو البياض أيهما أفضل ؟ على قولين هما :القول الأول :
وبه قال بعض الحنفية . فقد قال صاحب الدر المختار الحنفي : " ومن السنة جلوسه في مخدعه عن يمين المنبر ، ولبس السواد ... الخ " ( (261) انظر : رد المحتار ( 3 / 21 ) . 261) . اهـ .
قال ابن عابدين معلقاً على الكلام السابق : اقتداء بالخلفاء وللتوارث في الأعصار والأمصار ، والظاهر أن هذا خاص بالخطيب ، وإلا فالمنصوص أنه يستحب في الجمعة والعيدين لبس أحسن الثياب . وفي شرح الملتقى من فصل اللباس : ويستحب الأبيض وكذا الأسود ؛ لأنه شعار بني العباس ، ودخل عليه الصلاة والسلام مكة وعلى رأسه عمامة سوداء . انتهى .
وفي رواية لابن عدي ( (262) انظر : الكامل ( 6/ 2113 ) من حديث جابر رضي الله عنه . 262) : كان له عمامة سوداء يلبسها في العيدين ويرخيها خلفه . ( (263) انظر : رد المحتار ( 3 / 21 ) .263) . اهـ .
قلت : لا أعلم دليلاً لأصحاب هذا القول سوى ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس وعليه عمامة سوداء ) ( (264) انظر : صحيح مسلم ، كتاب الحج ، حديث رقم ( 1359 ) . 264) .
قلت : وهذه القصة كانت عام الفتح ، كما هو واضح في مجموع رواياتها .
وفي رواية عند مسلم قال : ( كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء ، قد أرخى طرفيها بين كتفيه ) ( (265) انظر : المصدر السابق . 265) .
القول الثاني :
وقال به جمهور أهل العلم ، وهو استحباب لبس البياض للخطيب وغيره .
فقد قال الشافعي : وأحب ما يلبس إلى البياض ، فإن جاوزه بعصب اليمن والقطري وما أشبهه مما يصبغ غزله ولا يصبغ بعدما نسج فحسن . ( (266) انظر : الأم ( 1/ 337 ) . 266) . اهـ .
وقال أبو الحسين العمراني : ويستحب له أن يلبس من الثياب البيض لقوله صلى الله عليه وسلم : ( البسوا البياض ، فإنها خير ثيابكم ) ( (267) رواه أبو داود كتاب الطب ، باب 14 ( رقم 3878 ) ، والترمذي كتاب الجنائز ، باب 18 ( رقم 994 ) وابن ماجة الجنائز ، باب 12 ( رقم 1472 ) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما . 267) ولأن البياض كان أكثر لبس النبي صلى الله عليه وسلم و ( كفن في ثلاثة أثواب بيض ) ( (268) انظر : صحيح البخاري الجنائز ، باب 23 ( رقم 1271 ) . ومسلم الجنائز باب 13 ( رقم 941 ) من حديث عائشة . 268) ( (269) انظر : البيان ( 2 / 587 ) . 269) . اهـ .
وقال الماوردي : " كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الأربعة يلبسون البياض . ( (270) انظر : الحاوي الكبير ( 2 / 440 ) . 270) " اهـ .
وقال النووي : ويلبس أحسن ثيابه ، وأفضلها البيض . ( (271) انظر : المجموع(4/ 368 ) . 271) . اهـ .
وقال ابن قدامة : وأفضلها البياض لقوله عليه السلام : ( خير ثيابكم البياض ، البسوها أحياءكم ، وكفنوا فيها موتاكم ) ( (272) انظر : المغني ( 3 / 229 ) . 272) .
قلت : إن نظرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد ذكر أن أفضل الثياب البياض ، وإن نظرنا إلى فعله فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه لبس السواد مطلقاً أي بدون تخصيص بيوم الجمعة ، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات غداة ، وعليه مِرْطٌ مُرَحَّلٌ من شعرٍ أسْوَدَ ) ( (273) صحيح مسلم كتاب اللباس والزينة ، باب 6 ( رقم 2081 ) . 273)
وفي حديث جابر عند مسلم أيضاً قال : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء ) ( (274) انظر : صحيح مسلم كتاب الحج ، باب 84 ( رقم 1358 ) . 274)
وعند مسلم أيضاً ( أنه صلى الله عليه وسلم خطب أمام أصحابه عام الفتح وعليه عمامة سوداء ) ( (275) انظر : صحيح مسلم كتاب الحج ، باب 84 ( رقم 1359 ) .275) . كما مرَّ معنا قبل قليل .
وأخرج أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : ( صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بردة سوداء فلبسها، فلما عرق فيها وجد ريح الصوف فقذفها، وكانت تعجبه الريح الطيبة ) ( (276) انظر : مسند أحمد ( 6 / 132 ) . 276) .
ولم أقف على حديث واحد يبين أنه صلى الله عليه وسلم لبس في الجمعة بخصوصها أسود أو أبيض ، وإنما هي أحاديث عامة جاءت في هذا وهذا دون تقييد بالجمعة .
ولكن عند التأمل نجد أن قوله صلى الله عليه وسلم يعمُّ جميع أمته كما هو مقرر عند الأصولين ، فهو صلى الله عليه وسلم قد فضَّل البياض وحثَّ عليه ، فبناء على ذلك يكون البياض هو الأفضل ، ولو لبس الخطيب السواد في بعض الأحيان فلا بأس ولكن لا يداوم عليه لما ذكر أهل العلم من أن المداومة عليه أمر محدث .
فقد قال الماوردي : " وأول من أحدث السواد بنو العباس في خلافتهم شعاراً لهم " ( (277) انظر : الحادي الكبير ( 2 / 440 ) . 277) .
وقال ابن القيم : " جعل خلفاء بني العباس لبس السواد شعاراً لهم ، ولولاتهم وقضاتهم وخطبائهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يلبسه لباساً راتباً ، ولا كان شعاره في الأعياد ، والجمع ، والمجامع العظام ألبتة ، وإنما اتفق له لبس العمامة السوداء يوم الفتح دون سائر الصحابة ، ولم يكن سائر لباسه يومئذ السواد ، بل كان لواؤه أبيض " ( (278) انظر : زاد المعاد ( 3 / 358 ) . 278) . اهـ .
وقال في موضع آخر عن فعل النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وهديه في لباسه : ( ولا لبس طيلسان ولا طرحة ولا سواداً . ( (279) انظر : زاد المعاد ( 1 / 429 ) .279) .اهـ .
بل قد ذهب الغزالي إلى أبعد من ذلك وهو القول بكراهة لباس السواد للخطيب فقد قال : " ولبس السواد ليس من السنة ، ولا فيه فضل ، بل كره جماعة النظر إليه لأنه بدعة محدثة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( (280) انظر : إحياء علوم الدين ( 1 / 181 ) . 280) .اهـ .
وقال في موضع آخر : " وأما مجرد السواد - أي للخطيب - فليس بمكروه لكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض " ( (281) انظر : إحياء علوم الدين ( 2 / 336 ) .281) .
قلت : ومراد الغزالي ببدعية لبس السواد إنما هو للخطيب في الجمعة ، وأما مطلقاً فإن الأحاديث التي ذكرتها سابقاً ترد ذلك .
ولكن النووي رحمه الله لم يذهب إلى بدعية لبس السواد في الخطبة ، فقد قال عن لبسه صلى الله عليه وسلم العمامة السوداء عام الفتح وخطبته بها : " فيه جواز لبس الأسود في الخطبة ، وإن كان الأبيض أفضل منه ، وأما لباس الخطباء السواد في حالة الخطبة فجائز ، وإنما لبس العمامة السوداء في هذا الحديث بياناً للجواز " ( (282) انظر : شرح مسلم للنووي ( 5/ 350 ) . 282) . اهـ .
قلت : يمكن أن يجمع بين قول الجمهور وقول النووي ، على أن البدعية إنما هي في المداومة على لبس السواد واتخاذه شعاراً في هذه المناسبة . والعلم عند الله تعالى .
تنبيه :
أخرج البيهقي وابن سعد في الطبقات الكبرى من حديث جابر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر في العيد والجمعة ) ( (273) انظر : السنن الكبرى ( 3 / 350 ) . 273) .
قلت : ضعَّفه الحافظ ابن حجر لأجل الحجاج بن أرطأة . ( (284) انظر : المطالب العالية ( 1 / 171 ) . 284) .اهـ .
23-
هل تنعقد الجمعة إذا كان الخطيب في حكم المسافر ؟
.اتفق أهل العلم على أن المسافر لا يجب عليه الجمعة ، كما اتفقوا على أن الأفضل للمسافر أن يحضر الجمعة ، ثم اختلفوا هل تنعقد الجمعة لو كان الخطيب والإمام مسافراً أو لا ؟ على قولين :
القول الأول :
قال أصحابه : إن الجمعة لا تنعقد إذا كان الخطيب مسافراً . وبذلك قال الحنابلة . وعللوا ذلك بأنه من غير أهل فرض الجمعة ، فلم تنعقد الجمعة به ، ولم يجز أن يؤم فيها ، كالنساء والصبيان ، ولأنه لم ينوِ الإقامة في هذا البلد على الدوام ، فأشبه أهل القرية الذين يسكنونها صيفاً ويظعنون عنها شتاءً ( (285) انظر : المغني ( 3 / 218 ، 220 ) . 285) .
ودليل عدم وجوب الجمعة على المسافر ما رواه الدار قطني عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة ، إلا مريضاً ، أو مسافراً ، أو امرأة أو صبياً أو مملوكاً ) ( (286) انظر : سنن الدار قطني ( 2 / 3 ) . 286) . وقد روى البيهقي مثله مختصراً ( (287) انظر : السنن الكبرى للبيهقي ( 3 / 183 ) . 287) .
القول الثاني :
قالوا : إن الجمعة تنعقد بالخطيب إذا كان مسافراً . وبه قال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ( (288) انظر : بدائع الصنائع ( 2 / 212 ) ، جامع الأمهات ص ( 122 ) ، الأم ( 1 / 331 ) . 288) . وعللوا ذلك بأنهم رجال تصح منهم الجمعة ، ومن صحت منه الجمعة صحت به ، وكما أن صلاة غير الجمعة تصح خلفه ، فكذلك الجمعة . فإن قيل : ليس فرض الجمعة عليه ، قيل : ليس يأثم بتركها ، وهو يؤجر على أدائها ، وتجزئ عنه كما تجزئ عن المقيم .
قلت : أظهر القولين هو صحة القول بجواز خطابة المسافر وإمامته في الجمعة ، لأن الأصل صحة صلاته ، ومن صحت صلاته لنفسه صحت لغيره ، ولعدم وجود دليل يدل على أن الجمعة لا تنعقد به ، وغاية ما استدل به من منع من ذلك مجرد تعليلات لا تنهض على مقاومة الأصل القوي وهو صحة صلاته .
قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي : " وأما القول الصحيح الذي نختاره في هذه المسألة ، فهو أنه يجوز لكل المذكورين أن يؤموا في الجمعة ، حتى المسافر سفر قصر إذا وصل إلى بلد تقام فيه الجمعة ، صحَّ أن يؤمهم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله .... ) ( (289) رواه مسلم ، كتاب المساجد ( حديث رقم 673 ) . 289) الحديث وهو في الصحيح . وهذا عام في الجمعة والجماعة ، وهو يتناول المسافر إذا صار بمحل تقام فيه الجمعة . وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد يدل على المنع ، وإنما الشارع لم يجعل على المسافرين جمعة ولا عيداً ، رفقاً بهم ورحمة ، ولهذا إذا صلوا مع الناس الجمعة فصلاتهم صحيحة ( (290) انظر : المجموعة الكاملة لمؤلفات ابن سعدي ( 7 / 128 ) . 290) .
24-
التوقيت لدخول الخطيب
يلحظ على بعض الخطباء - وفقني الله وإياهم وجميع إخواننا المسلمين - أنهم يلتزمون في دخولهم إلى المنبر وقتاً واحداً على مدار السنة ، حتى ولو اختلف التوقيت فزاد أو نقص صيفاً وشتاءً ، وهذا فيما يظهر لي أنه ليس بجيد بل هو خلاف الأول ؛ لعدة أمور :الأمر الأول : أن عدم التزام وقت معين فيه خروج من خلاف أهل العلم في وقت الجمعة : وهل هو بعد الزوال أم قبله أو مع الزوال ؟.
حيث اختلف أهل العلم في ذلك قولين :
القول الأول : قالوا : إن وقت الجمعة هو وقت الظهر ، أي بعد الزوال ، ولا تجوز قبله . وهذا قول أبي حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وهي التي اختارها الآجري ، وفضَّلها ابن قدامة والمرداوي ( (291) انظر : الهداية للمرغيناني ( 1 / 89 ) ، المعونة للبغدادي المالكي ( 1 / 298 ) ، الأم ( 1 / 323 ) المغني ( 3 / 159 ) ، الإنصاف ( 5 / 187 ) . 291) .
واستدلوا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس) رواه البخاري( (292) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب 16 ( رقم 904 ) . 292) .
وبحديث سلمة بن الأكوع قال : كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ، ثم نرجع نتتبع الفيء . رواه البخاري ومسلم ( (293) انظر : صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب 35 رقم ( 4168 ) . صحيح مسلم : الجمعة ( 2 / 589 رقم 860 ) . 293) .
قال الشافعي : ولا اختلاف عند أحد لقيته ألا تصلى الجمعة حتى تزول الشمس( (294) انظر : الأم ( 1 / 333 ) . 294). اهـ .
ونقل النووي عن الشافعي أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، والأئمة بعدهم كل جمعة بعد الزوال ( (295) انظر : المجموع ( 4 / 340 ) . 295) . اهـ .
وقد بوَّب البخاري باباً فقال : باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس .
قال الحافظ ابن حجر : جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها ، لضعف دليل المخالف عنده( (296) انظر : فتح الباري ( 3 / 45 ) . 296) . اهـ .
القول الثاني : أن أول وقت الجمعة هو وقت صلاة العيد . وهذه إحدى الروايتين عن الإمام أحمد ، وهي من مفرداته ، وهي التي عليها أكثر أصحابه ( (297) انظر : المغني ( 3 / 159 ) ، الإنصاف ( 5 / 187 ) . 297) .
قال ناظم المفردات :
لجمعة وقت الوجوب يدخل
إذ ترتفع شمس كعيدٍ نقلوا ( (298) انظر : منح الشفا الشافيات في شرح المفردات للبهوتي ( 1 / 155 ) . 298)
قال العبدري : قال العلماء كافة : لا تجوز صلاة الجمعة قبل الزوال إلا أحمد ، ونقل الماوردي عن ابن عباس كقول أحمد . ونقل ابن المنذر عن عطاء وإسحاق قال : وروي ذلك بإسناد لا يثبت عن أبي بكر وعمر وابن مسعود ومعاوية ( (299) انظر : المجموع ( 4/ 339 ) ، فتح الباري ( 3/ 45 ) . 299) .
ودليل هذا القول حديث جابر رضي الله عنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنريحها حين تزول الشمس ) رواه مسلم ( (300) انظر : صحيح مسلم : الجمعة ، باب 9 ( رقم 858 ) . 300) .
وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : ( كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ يستظل به) . رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: (نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء )( (301) انظر : صحيح البخاري : كتاب المغازي ، باب 35 رقم ( 4168 ) . صحيح مسلم : الجمعة ( 2 / 589 رقم 860 ) .301) .
وعند ابن أبي شيبة من رواية عبدالله بن سيدان قال : شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار ، وشهدتها مع عمر رضي الله عنه فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول تنصف النهار . ثم شهدنا مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول زال النهار ، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره ( (302) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2 / 17 ) . 302) .
وقد أجاب الجمهور على أدلة أصحاب القول الثاني كالتالي :
أولاً : جوابهم عن حديث جابر وما بعده أنها كلها محمولة على شدة المبالغة في تعجيلها بعد الزوال من غير إبراد ولا غيره ، وفيه إخبار أن الصلاة والرواح إلى جمالهم كانا حين الزوال لا أن الصلاة قبله ( (303) انظر : المجموع ( 4 / 340 ) . 303) .
ثانياً : وجوابهم عن حديث سلمة لا حجة في أنه قبل الزوال ، لأنه ليس معناه أنه للحيطان شيء من الفيء ، وإنما معناه ليس فيها فيء كثير بحيث يستظل به المار . وهذا معنى قوله : وليس للحيطان ظلٌّ يستظل به ، فلم ينف أصل الظل وإنما نفى كثيره الذي يستظل به ، وأوضح منه الرواية الأخرى ( نتتبع الفيء ) فهذا فيه تصريح بوجود الفيء لكنه قليل ( (304) انظر : المجموع ( 4 / 340 ) .304) .
ثالثاً : جوابهم عن أثر أبي بكر وعمر ، أن رجاله ثقات إلا عبدالله بن سيدان ، فإنه تابعي كبير إلا أنه غير معروف العدالة ، قال ابن عدي : شبه المجهول . وقال البخاري : لا يتابع على حديثه ، بل عارضه من هو أقوى منه ، فروى ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة ( أنه صلى مع أبي بكر وعمر حين زالت الشمس) إسناده قوي . ذكره الحافظ ابن حجر( (305) انظر : فتح الباري ( 3 / 46 ) . 305) .
الأمر الثاني :
أن التزام وقت معين لدخول الخطيب - مع اختلاف الفصول والتوقيت - فيه مشقة على الناس من حيث الواقع ، فلو نظرنا مثلاً إلى وقت الظهر في مدينة الرياض لوجدنا أنه كغيره يختلف باختلاف الفصول ، فقد يدخل وقت الظهر في الساعة الحادية عشرة ونصف الساعة تقريباً كأدنى حد له في السنة ، وقد يصل إلى الساعة الثانية عشرة وخمس دقائق تقريباً كأعلى حد له في السنة ، ومع ذلك تجد بعض الخطباء يلتزم الدخول مطلقاً طوال العام في الساعة الثانية عشرة تقريباً ، مع أن وقت الزوال يبدأ في الساعة الحادية عشرة ونصف الساعة تقريباً ، فيكون هناك زيارة نصف ساعة على الناس تأخيراً قد تثقل عليهم في مقابل قرب دخول وقت العصر الذي يكون دخوله مبكراً في مثل هذا الفصل كحال الظهر أيضاً ، فيصبح الوقت بين الظهر والعصر قليلاً عند بعض المساجد التي تؤخر الصلاة .
والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سلمة بن الأكوع أنه قال: ( كنا نجمع مع النبي صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع فنتتبع الفيء) ( (306) الفيء : هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب ولا جهاد ، وأصل الفيء : الرجوع ، يقال : فاء يفيء فُيُوءاً ، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم . ومنه قيل للظِّل الذي يكون بعد الزوال : فيء لأنه يرجع من جانب الغرْب إلى جانب الشرق . النهاية ( 3 / 482 ) . 306) أخرجه البخاري ومسلم ( (307) انظر : صحيح البخاري كتاب المغازي ( حديث 4168 ) ، صحيح مسلم ( 2 / 589 رقم 860 ) وفي حديث جابر عند مسلم : كما نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نرجع فنريح نواضحنا . قال حسن : فقلت لجعفر : في أي ساعة تلك ؟ قال : زوال الشمس . 307) وفي رواية عنه عند مسلم : ( فنرجع وما نجد للحيطان فيئاً نستظل به ) وفي هذا دليل على التبكير بها في وقتها حسب اختلاف دخوله بالنسبة لفصول السنة . والعلم عند الله تعالى .
25-
هل يحضر الخطيب إلى المسجد قبل وقت دخوله ؟
يجتهد بعض الخطباء - حرصاً منهم على الخير - في الحضور للمسجد قبل وقت دخولهم بوقت طويل أو قصير ، وذلك لأجل تحصيل الأجر في قراءة قرآن ، أو تنفل مطلق .والذي ينبغي أن يعلمه كل خطيب : هو أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحضر للمسجد يوم الجمعة إلا وقت دخوله إلى المنبر، ولم يرد ما يدل على أنه كان يبكر لأجل التنفل أو قراءة القرآن.
والذي يظهر لي أن عامة أهل العلم يقولون بهذا ، غير أن بعضهم قد تكلم عن حكم تبكير الخطيب للمسجد قبل وقت دخوله ، فها أنا أذكر بعض ما وقفت عليه من أقوالهم ، فأقول :
قد نقل النووي رحمه الله عن المتولي من الشافعية قوله : يستحب للخطيب ألا يحضر للجمعة إلا بعد دخوله الوقت ، بحيث يشرع فيها أول وصوله المنبر ؛ لأن هذا هو المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا وصل المنبر صعده ولا يصلي تحية المسجد ، وتسقط هنا التحية بسبب الاشتغال بالخطبة كما تسقط في حق الحاج إذا دخل المسجد .
وقال جماعة من أصحابنا : تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر ، وممن ذكر هذا البندنيجي والجرجاني .... ، والمذهب أنه لا يصليها ؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه صلاها ، وحكمته ما ذكرته ، ولم يذكر الشافعي وجماهير الأصحاب التحية ، وظاهر كلامهم أنه لا يصليها ( (308) انظر : المجموع ( 4/ 358 ) . 308) . اهـ .
وقال أبو زرعة العراقي عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في الصحيحين( (309) انظر : صحيح البخاري : الجمعة ( برقم 881 ) . صحيح مسلم ( 2 / 582 رقم 850 ) . 309) وفيه: (من راح في الساعة الأولى .... ) الحديث : قد يستدل بعمومه على استحباب التبكير للخطيب أيضاً ، لكن ينافيه قوله في آخره ( فإذا خرج الإمام طويت الصحف ) فدلَّ على أنه لا يخرج إلا بعد انقضاء وقت التبكير المستحب في حق غيره .
وقال الماوردي من أصحابنا : يختار للإمام أن يأتي الجمعة في الوقت الذي تقام فيه الصلاة ولا يبكر ، إتباعاً لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، واقتداء بالخلفاء الراشدين ( (310) انظر : رح التثريب ( 3/ 173 ) .310) .اهـ .
وقال ابن حبيب المالكي : يجوز له إذا أتي قبل الزوال أن يتنفل في المسجد ، وكذلك بعد الزوال إذا لم يرد أن يخطب ، ويسلم على الناس حين دخوله ، ولا يسلم إذا صعد على المنبر ( (311) انظر : كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني . لأبي الحسن المالكي ( 1 / 283) . 311) . اهـ .
وقال الشيخ عبدالرحمن بن حسن : " وأما تقدم الخطيب في المسجد يصلي ويقرأ قبل الخطبة والصلاة فلا بأس به ، لكن ينبغي أن يكون في ناحية يراه المأمومون إذا خرج إليهم للخطبة ( (312) انظر : الدرر السنية ( 5/ 40 ) . 312). اهـ .
وقال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين : إن السنة للإمام أن يتأخر - أي في ذهابه للمسجد في الجمعة - وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم : ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ) فهؤلاء يثابون على نيتهم ، ولا يثابون على عملهم ؛ لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم ، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( (313) انظر : الشرح الممتع ( 5 / 165 ) . 313) . اهـ .
قلت : وبهذا تعلم أن السنة ألا يبكر الخطيب قبل وقت دخوله ، عملاً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن من فعل ذلك لم يكن قد فعل محرماً ، ولكنه فعل ما هو خلاف السنة ، إلا أن بعض المساجد لها من الخصوصية في الواقع ما يستلزم حضور الخطيب قبل وقته ، لأسباب ترجع إلى كل مسجد بحسبه ، فمثلاً في المسجد الحرام تقتضي الحال تبكير الخطيب قبل وقت دخوله بزمن يسير ، وهذا أمر لا بأس به ، غير أن الأكمل والأقرب لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ألا يدخل الخطيب المسجد إلا إلى منبره مباشرة . والعلم عند الله تعالى .
26-
السنة القبلية للخطيب وغيره
هذه المسألة لا تخص الخطيب بمفرده ، بل يشاركه معه غيره من المأمومين ، ولكن لما كان الخطيب ممن تشمله هذه المسألة ، فإنني سأذكر ما وقفت عليه من كلام أهل العلم حولها .فلقد اختلف أهل العلم : هل للجمعة سنة قبلية أم لا على قولين :
القول الأول :
وهو الذي دلَّت عليه نصوص السنة ، على أنه ليس للجمعة سنة قبلية . وهذا هو مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه ، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي ( (314) انظر : المعونة ( 1/ 308 ) ، المغني ( 3/ 250 ) ، الأم (1/197 ) ، المجموع (4/429) ، مجموع الفتاوى ( 24/189 ) ، زاد المعاد ( 1/ 432 ) . 314) .
وتعليلهم في ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من بيته فإذا رقي المنبر أخذ بلال في الأذان . ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يصلي قبل الجمعة بعد الأذان شيئاً ، ولا نقل هذا عنه أحدٌ ، ولا نقل عنه أيضاً أنه صلى في بيته قبل الخروج يوم الجمعة ، ولا وقت بقوله صلاة مقدرة قبل الجمعة ، ولم يقم أحد غيره يركع ركعتين بعد أذان الجمعة ألبتة ، وهذا يدل على أن الجمعة كالعيد لا سنة لها قبلها .
قال شيخ الإسلام : ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة سنة مؤقتة بوقت ، مقدرة بعدد ، لأن ذلك إنما يثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فعله . وهو لم يسن في ذلك شيئاً لا بقوله ولا فعله ( (315) انظر : مجموع الفتاوى ( 24/189 ) .315) . اهـ .
وقال ابن القيم : " وهذا كان رأي عين ، فمتى كانوا يصلون السنة ؟ ومن ظن أنهم كانوا إذا فرغ بلال رضي الله عنه من الأذان قاموا كلهم فركعوا ركعتين ، فهو أجهل الناس بالسنة ( (316) انظر : زاد المعاد ( 1/ 432 ) .316) . اهـ .
القول الثاني :
قالوا : " إن للجمعة سنة قبلية ، فمنهم من جعلها ركعتين ، كما قاله طائفة من أصحابه الشافعي وأحمد . ومنهم من جعلها أربعاً ، كما نقل عن أصحاب أبي حنيفة ، وطائفة من أصحاب أحمد ، وقد نقل عن الإمام أحمد ما ستدل به على ذلك ( (317) انظر : المجموع (4/429) ، المغني ( 3/ 249 ) ، زاد المعاد ( 1/ 432 ) .317) .
قلت : وبه قال النووي في الخلاصة ( (318) انظر : فتح الباري (3/ 95 ) .318) .
وقد احتج أصحاب هذا القول على ذلك بما ذكره البخاري في صحيحه فقال : باب الصلاة قبل الجمعة وبعدها . ثم ساق بسنده عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين ، وبعدها ركعتين ، وبعد المغرب ركعتين في بيته ، وبعد العشاء ركعتين ، وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين ) ( (319) صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب 39 ( حديث رقم 937 ) . 319) .
وبما رواه أبو داود وابن حبان عن نافع قال: وكان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلي بعدها ركعتين في بيته، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك( (320) سنن أبي داود ( 1 / 672 رقم 1128 ) ، صحيح ابن حبان ( 4/ 84 رقم 1467 ) . 320) .
واستدلوا كذلك بما رواه ابن ماجه عن أبي هريرة وجابر بن عبدالله قال : ( جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( أصليت الركعتين قبل أنْ تجيء ؟ قال : لا ، قال : فصلّ ركعتين وتجوَّز فيهما ) ( (321) سنن ابن ماجه : ( 1/ 353 رقم 114 ) . 321)
واستدلوا كذلك بما رواه البزار عن أبي هريرة بلفظ ( كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعاً ) ( (322) انظر : تاريخ بغداد ( 6/ 365 ) وقد أخرجه من طريق البزار . 322)
واستدلوا كذلك بأن الجمعة إنما هي ظهر مقصورة فتكون سنة الظهر سنتها ( (323) انظر : مجموع الفتاوى ( 24/190 ) ، زاد المعاد ( 1/ 432 ) .323) . واستدلوا كذلك بقياس الجمعة على الظهر ( (324) انظر : زاد المعاد ( 1/ 432 ) .324) .
وقد أجاب المحققون من أهل العلم على أدلة القائلين بالسنة القبلية للجمعة كالتالي :
أولاً : جوابهم بما بوَّب له البخاري وبما ساقه معه من حديث ابن عمر ، على أنه لم يقع ذكر الصلاة قبل الجمعة في هذا الحديث ، فلعل البخاري أراد إثباتها قياساً على الظهر . ذكر ذلك ابن التين وقواه الزين بن المنير ( (325) انظر : فتح الباري ( 3/ 95 ) . 325) .
وقال ابن القيم عن صنيع البخاري هذا : وهذا لا حجة فيه ، ولم يرد به البخاري إثبات السنة قبل الجمعة ، وإنما مراده أنه هل ورد في الصلاة قبلها أو بعدها شيء ؟ ثم ذكر هذا الحديث ، أي : أنه لم يرو عنه فعل السنة إلا بعدها ، ولم يرد قبلها شيء ( (326) انظر : زاد المعاد ( 1/ 433 ) .326) . اهـ .
ثانياً : جوابهم عن حديث ابن عمر أنه كان يطيل الصلاة ... الخ .
فقد قال ابن القيم : وهذا لا حجة فيه على أن للجمعة سنة قبلها ، وإنما أراد بقوله : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك : أنه كان يصلي الركعتين بعد الجمعة في بيته لا يصليهما في المسجد ، وهذا هو الأفضل فيهما ( (327) انظر : زاد المعاد ( 1/ 436 ) .327) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : وأما قوله كان يطيل الصلاة قبل الجمعة . فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعاً ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يخرج إذا زالت الشمس فيشتغل بالخطبة ثم بصلاة الجمعة ، وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذلك مطلق نافلة لا صلاة راتبة ، فلا حجة فيه لسنة الجمعة التي قبلها بل هو تنفل مطلق ، وقد ورد الترغيب فيه كما تقدم في حديث سلمان وغيره حيث قال فيه ( ثم صلى ما كتب له ) ( (328) انظر : فتح الباري ( 3/ 95 ) ، وانظر مجموع الفتاوى ( 24 / 189 ) . 328) . اهـ .
ثالثاً : أما جوابهم عن حديث سليك الغطفاني فقد قال ابن القيم : قال شيخنا أبو العباس : وهذا غلط ، والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر قال : ( دخل رجل يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال : أصليت ؟ قال : لا ، قال : فصلَّ ركعتين . وقال : إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما ) . فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث ، وأفراد ابن ماجة في الغالب غير صحيحة ، هذا معنى كلامه . وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي : هذا تصحيف من الرواة ، إنما هو (أصليت قبل أن تجلس) فغلط فيه الناسخ ( (329) انظر : زاد المعاد ( 1/ 434 ) .329) . اهـ .
رابعاً : أن حديث البزار قال عنه الحافظ ابن حجر : في إسناده ضعف ( (330) انظر : فتح الباري ( 3/ 95 ) .330) . اهـ .
خامساً : وأما قولهم : إن الجمعة ظهر مقصورة فقد قال شيخ الإسلام : هذا خطأ من وجهين : أحدهما أن الجمعة مخصوصة بأحكام تفارق بها ظهر كل يوم باتفاق المسلمين ، والوجه الثاني : هب أنها ظهر مقصورة ، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي في سفره سنة الظهر المقصورة لا قبلها ولا بعدها ، وإنما كان يصليها إذا أتم الظهر فصلى أربعاً ، فإذا كانت سنته التي فعلها في الظهر المقصورة خلاف التامة كان ما ذكروه حجة عليهم لا لهم ( (331) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 190 ) .331) . اهـ .
وقال ابن القيم عمن قال إنما ظهر مقصورة : وهذه حجة ضعيفة جداً ، فإن الجمعة صلاة مستقلة بنفسها تخالف الظهر في الجهر ، والعدد ، والخطبة .... الخ ( (332) انظر : زاد المعاد ( 1/ 432 ) .332) . اهـ .
سادساً : وأما قياسهم الجمعة على الظهر ، فقد قال ابن القيم : هو قياس فاسد ، فإن السنة ما كان ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل ، أو سنة خلفائه الراشدين ، وليس في مسألتنا شيء من ذلك ، ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس ( (333) انظر : زاد المعاد ( 1/ 432 ) .333) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : ورد في سنة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة ( (334) انظر : فتح الباري ( 2/426 ) .334) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : والصواب أن يقال : ليس قبل الجمعة سنة راتبة مقدرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بين كل أذانين صلاة ) ( (335) أخرجه البخاري من حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه : كتاب الأذان ، باب 14 رقم ( 624 ) ومسلم ( 1/ 573 رقم 838 ) . 335) ويتوجه أن يقال : هذا الأذان لما سنَّه عثمان واتفق المسلمون عليه ، صار إذاناً شرعياًَ ، وحينئذ فتكون الصلاة بينه وبين الأذان الثاني جائزة حسنة ، وليس سنة راتبة ، كالصلاة قبل المغرب . وحينئذ فمن فعل ذلك لم ينكر عليه ، ومن ترك ذلك لم ينكر عليه . وهذا أعدل الأقوال ، وكلام الإمام أحمد يدل عليه ( (336) انظر : مجموع الفتاوى ( 24 / 193 ) .336) . اهـ .
هذا حاصل أقوال أهل العلم في هذه المسألة . والعلم عند الله تعالى .
27-
حكم تحية المسجد للخطيب
لو دخل الخطيب متجهاً إلى المنبر ، فها يشرع في حقِّه أن يصلي ركعتين تحية المسجد ؟ .نقل النووي في المجموع عن المتولي : أنه لا يصلي تحية المسجد ، وأنها تسقط بسبب الاشتغال بالخطبة ، كما تسقط في حق الحاج إذا دخل المسجد الحرام بسبب الطواف .
وقال جماعة من أصحاب الشافعي : تستحب له تحية المسجد ركعتان عند المنبر .
والمذهب عند الشافعية : أنه لا يصليها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقل أنه صلاها ، ولم يذكر الشافعي وجماهير أصحابه التحية ، وظاهر كلامهم أنه لا يصليها ( (337) انظر : المجموع ( 4/ 358 ) البيان ( 2 / 576 ) . 337) .
28-
تخطي الإمام رقاب المصلين يوم الجمعة
عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يحضر الجمعة ثلاثة نفر ، رجل حضرها يلغو ، وهو حظه منها ، ورجل حضرها يدعو ، فهو رجل دعا الله عز وجل ، فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكون ، ولم يتخط رقبة مسلم ، ولم يؤذِ أحداً ، فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك أن الله تعالى يقول {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا }( (338) سورة الأنعام: آية160. 338) رواه أحمد وأبو داود وابن خزيمة وصححه ( (339) انظر : مسند أحمد (2 / 181 ) ، سنن أبي داود ( 1/ 665 رقم 1113 ) ، صحيح ابن خزيمة ( 3/ 157 رقم 1813 ) . 339) .وعند ابن ماجة أن رجلاً جاء يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( اجلس فقد آذيت وآنيت( (340) آذيت وآنيت : أي أذيت الناس بتخطيك ، وأخَّرت المجيء وأبطأت . النهاية ( 1/ 78 ) . 340)) ( (341) أخرجه من حديث جابر بن عبدالله ابنُ ماجة ( 1/ 354 رقم 1115 ) ومن حديث عبدالله ابن بسر ابنُ خزيمة ( 2/ 156 رقم 1811 ) وابن الجارود ( رقم 294 ) وابن حبان ( 4/ 199 رقم 2779 ) . 341) وهو عند النسائي وأبي داود بدون لفظ ( آنيت ) ( (342) انظر : سنن النسائي ( 3/ 84 ) ، وسنن أبي داود ( 1/ 668 ) رقم 1118 ) . 342)
وعند الترمذي وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسراً إلى جهنم ) ( (343) انظر : جامع الترمذي ( 2/ 389 رقم 513 ) سنن ابن ماجة ( 1/ 354 رقم 1116 ) 343) . قال الترمذي : لا نعرف إلا من حديث رشدين بن سعد ، وقد ضعَّفه بعض أهل العلم من قبل حفظه .
قلت : هذه الأحاديث السابقة تدل على المنع من تخطي رقاب المصلين يوم الجمعة ، غير أن جمهور أهل العلم استثنوا من ذلك الإمام إذا لم يجد طريقاً للمنبر إلا بتخطي الرقاب ، وإليك أقوالهم في هذه المسألة :
قال الشافعي : وإن كان الزحام دون الإمام الذي يصلي الجمعة لم أكره له من التخطي ، ولا من أن يفرج له الناس ما كره للمأموم؛ لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة والصلاة لهم.( (344) انظر : الأم ( 1/ 176 ) . 344)
وقال ابن قدامة : فأما الإمام إذا لم يجد طريقاً ، فلا يكره له التخطي؛ لأنه موضع حاجة ( (345) انظر : المغني ( 3/ 231 ) . 345). اهـ.
وقال المرداوي : وقيل : يتخطى الإمام مطلقاً ( (346) انظر : الإنصاف ( 5/ 288 ) . 346). اهـ .
وقال النووي : فإن كان إماماً ولم يجد طريقاً إلى المنبر والمحراب إلا بالتخطي لم يكره ، لأنه ضرورة . نصَّ عليه الشافعي ، واتفق عليه الأصحاب ( (347) انظر : المجموع ( 4/ 377 ) وانظر : التهذيب للبغوي ( 2/ 351 ) . 347) .
وقال العراقي : وقد استثني من التحريم أو الكراهة الإمام ، أو منْ بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي ( (348) انظر : تحفة الأحوذي شرح الترمذي ( 3/ 63) . 348) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر عن حديث التخطي : قال الشافعي : أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك اهـ . وهذا يدخل فيه الإمام ومن يريد وصل الصف المنقطع ... ( (349) انظر : الفتح ( 3/ 27 ) . 349) . اهـ .
قلت : واستدل بعض أهل العلم على جواز التخطي للإمام بما رواه عقبة بن الحارث قال : صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر ، ثم قام مسرعاً فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ، ففزع الناس من سرعته ، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته فقال : (ذكرت شيئاً من تبر( (350) التِّبر هو الذهب والفضة قبل أن يضربا دنانير ودراهم ، وقد يطلق التبر على غيرهما من المعدنيات كالنحاس والحديد والرصاص ، وأكثر اختصاصه بالذهب ، ومنهم من يجعله في الذهب أصلاً وفي غيره فرعاً ومجازاً . النهاية ( 1/ 179 ) . 350)كان عندنا ، فكرهت أن يحسبني فأمرت بقسمته) رواه البخاري والنسائي وأحمد ( (351) انظر : صحيح البخاري : كتاب الأذان ( برقم 851 ) ، سنن النسائي ( 3/ 70 ) مسند أحمد ( 4/ 8 ) . 351) .
قال الحافظ ابن حجر : وفيه أن التخطي للحاجة مباح ( (352) انظر : الفتح ( 2/ 608 ) .352) . اهـ .
قلت : فهذا الحديث يدل على التخطي حال خروجه صلى الله عليه وسلم من بينهم ذاهباً إلى بيته ، وحال عودته من بيته ليقف موقفه في الصلاة ، فحصل تخطيه صلى الله عليه وسلم هنا على حالين . والعلم عند الله تعالى .
29-
اتخاذ المنبر في الجمعة
قال النووي : " أجمع العلماء على أنه يستحب كون الخطبة على منبر للأحاديث الصحيحة ، ولأنه أبلغ في الإعلام ، ولأن الناس إذا شاهدوا الخطيب كان أبلغ في وعظهم . قال أصحابنا : فإن لم يكن منبر استحب أن يقف على موضع عالٍ ، وإلا فإلى خشبة ونحوها بالحديث المشهور في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم : (كان يخطب إلى جذع قبل اتخاذ المنبر ) قالوا: ويكره المنبر الكبير جداً الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسعاً( (353) انظر : المجموع ( 4/ 356 ) . 353)". اهـوقال الحافظ ابن حجر : " تشرع الخطبة على المنبر لكل خطيب ، خليفة كان أو غيره ، لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه " .
وقال ابن بطال : " إن كان الخطيب هو الخليفة فسنته أن يخطب على المنبر ، وإن كان غيره يخير بين أن يقوم على المنبر أو على الأرض . وتعقبه الزين بن المنير بأن هذا إخبار عن شيء أحدثه بعض الخلفاء ، فإن كان من الخلفاء الراشدين فهو سنة متبعة ، وإن كان من غيرهم فهو بالبدعة أشبه منه بالسنة ( (354) انظر : الفتح ( 3/ 68 ) .354) " .
وقال المرداوي : ومن سننهما - أي خطبتي الجمعة - أن يخطب على المنبر أو موضع عال بلا نزاع ( (355) انظر : الإنصاف ( 5/ 235 ) . 355) . اهـ .
إذا علمت كلام أهل العلم في ذلك، فاعلم أن الدليل على ما ذكروه أحاديث كثيرة منها:
ما رواه البخاري : ( أن رجالاً أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عُودُه ؟ فسألوه عن ذلك ، فقال : والله إني لأعرف مما هو ، ولقد رأيته يوم وُضِع ، وأول يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة - امرأة من الأنصار قد سماها سهل - ( مُري غلامك النجار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهن إذا كلَّمت الناس )، فأمرته فعلمها من طرفاء الغابة ثم جاء بها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت هاهنا ، ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها ، وكبَّر وهو عليها ، ثم ركع وهو عليها ، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ، ثم عاد ، فلما فرغ أقبل على الناس فقال : (أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا ، ولتعلموا صلاتي) ( (356) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة ، باب 26 ( رقم 917 ) . 356) .
ومن ذلك ما رواه البخاري عن جابر بن عبدالله قال : " كان جذعٌ يقوم إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العِشار ( (357) العِشار : جمع عُشر ، وهي الناقة التي أتت عليها منذ أرسل فيها الفحل عشرة أشهر وزال عنها اسم المخاض ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وبعدها تضع أيضاً . الصحاح ( مادة عشر ) ، وانظر : غريب الحديث للخطابي ( 3/ 164 ) . 357) ، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يدع عليه " ( (358) المصدر السابق رقم ( 918 ) . 358) .
ومنها ما رواه أبو داود عن ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بدن قال له تميم الداري : ألا أتخذ لك منبراً يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك ؟ قال : بلي ، فاتخذ له منبراً مرقاتين ) ( (359) انظر : سنن أبي داود ( 1/ 653 رقم 1081 ) . 359) .
قال الحافظ ابن حجر : " إسناده جيد ( (360) انظر : الفتح ( 3/ 60 ) . 360) ". اهـ .
ومنها ما رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة والحاكم والبيهقي عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما ، وعليهما قميصان أحمران يعثران فيهما ، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فقطع كلامه فحملهما ثم عاد إلى المنبر ثم قال : ( صدق الله {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} ( (361) سورة التغابن ، آية : 15.361) رأيت هذين يعثران في قميصيهما ، فلم أصبر حتى قطعت كلامي ، فحملتهما ) ( (362) انظر : سنن أبي داود ( 1/ 668 ) رقم ( 1120 ) ، سنن النسائي ( 3/ 91 ) صحيح ابن خزيمة ( 3/ 152 رقم 1801 ) ، المستدرك ( 1/ 287 ) السنن الكبرى للبيهقي ( 3/ 218 ) . 362) .
قال الحاكم : صحيح على شرط مسلك ولم يخرجاه . ووافقه الذهبي .
30-
أين يكون المنبر في المسجد
؟فالجواب : أنه قد أخرج البخاري في صحيحه من حديث يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع قال : كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزها ( (363) انظر : صحيح البخاري كتاب الصلاة ، باب 91 ( رقم 497 ) . 363) .
وأخرجه مسلم أيضاً بلفظ : ( وكان بين المنبر والقبلة قدر ممر شاة ) ( (364) انظر : صحيح مسلم : ( 1/ 364 رقم 509 ) . 364) .
وعند أبي داود بلفظ : ( كان بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الحائط كقدر ممر الشاة ) ( (365) انظر : سنن أبي داود ( 1/ 653 رقم 1082 ) . 365) .
قلت : يؤخذ من هذا الحديث أن منبر النبي صلى الله عليه وسلم كان قريباً جداً من جدار القبلة حتى لم يبق بينه وبين الحائط إلا قدر ممر شاة .
قال النووي رحمه الله : " قال أصحابنا وغيرهم : ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب ، أي على يمين الإمام إذا قام في المحراب مستقبل القبلة ، وهكذا العادة ( (366) انظر : المجموع ( 4/ 356 ) . 366) " . اهـ .
وقال ابن القيم : ولم يوضع المنبر في وسط المسجد ، وإنما وضع في جانبه الغربي قريباً من الحائط ، وكان بينه وبين الحائط قدر ممر الشاة ( (367) انظر : زاد المعاد ( 1/ 430) . 367) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : " قال الرافعي وغيره : كان منبر النبي صلى الله عليه وسلم على يمين القبلة " .
قال ابن حجر : " لم أجد حديثاً ولكنه كما قال ، فالمستند فيه إلى المشاهدة ، ويؤيده حديث سهل بن سعد في البخاري ( (368) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة ، باب 26 ( رقم 917 ) . 368) في قصة عمل المرأة المنبر ، قال : فاحتمله النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه حيث ترون ( (369) انظر : التلخيص الحبير ( 2/ 62) . 369) " . اهـ .
وقال في الشرح الكبير : ويستحب أن يكون المنبر عن يمين القبلة ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا صنع ( (370) انظر : الشرح الكبير ، والإنصاف ( 5/ 235 ) . 370) . اهـ .
31-
حكم جلوس الخطيب على المنبر بعد أن يسلم على الناس وقبل الأذان ، وموضع وقوفه عليه
أخرج البخاري في صحيحه من حديث السائب بن يزيد قال : ( كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما . فلما كان عثمان رضي الله عنه ، وكثر الناس ، زاد النداء الثالث على الزوراء) ( (371) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب ( 21 حديث رقم 912 ) . 371).وعند النسائي : ( كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فإذا نزل أقام ) ( (372) انظر : سنن النسائي : كتاب الجمعة باب الأذان للجمعة ، حديث رقم ( 1395 ) . 372) .
ففي هذين الحديثين دلالة ظاهرة على مشروعية الجلوس على المنبر للخطيب قبل أن يؤذن المؤذن . وعلى هذا جمهور أهل العلم .
وقد بوَّب البخاري في صحيحه باباً فقال : "باب الجلوس على المنبر عند التأذين"( (373) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة باب ( 24 ) . 373) . اهـ.
قال الحافظ ابن حجر : " استدل البخاري بهذا الحديث على الجلوس على المنبر قبل الخطبة خلافاً لبعض الحنفية " ( (374) انظر : فتح الباري ( 3/ 56) . 374) . اهـ .
وقال في موضع آخر : وأشار الزين بن المنير إلى أن مناسبة هذه الترجمة الإشارة إلى خلاف من قال : الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع ، وهو عند بعض الكوفيين ، وقال مالك والشافعي والجمهور : هو سنة " ( (375) انظر : فتح الباري ( 3/ 58) .375) . اهـ .
وقد اختلف من أثبت هذه الجلسة في الحكمة منها ، فقال قوم : لأجل الأذان ، وقال آخرون : لراحة الخطيب .
وقال الزين بن المنير : " الحكمة فيه سكون اللغط ، والتهيؤ للإنصات ، والاستنصات لسماع الخطبة ، وإحضار الذهن للذكر " ( (376) انظر : فتح الباري ( 3/ 56 ، 58 ) .376) .
تنبيه :
أين يجلس الخطيب ، وأين يقف من المنبر ؟ .
فالجواب : قال الشافعي رحمه الله : " بلغنا عن سلمة بن الأكوع أنه قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبتين وجلس جلستين حكى الذي حدثني قال : استوي رسول الله صلى الله عليه وسلم على الدرجة التي تلي المستراح قائماً ، ثم سلم وجلس على المستراح حتى فرغ المؤذن من الأذان ، ثم قام فخطب الخطبة الأولى ، ثم جلس ، ثم قام فخطب الخطبة الثانية ، وأتبع هذا الكلام الحديث ، فلا أدري أحدثه عن سلمة أم شيء فسره هو في الحديث( (377) انظر : الأم ( 1/ 177 ) . 377) " . اهـ .
قال النووي رحمه الله : يستحب أن يقف على الدرجة التي تلي المستراح كما ذكره المصنف ، قال الشيخ أبو حامد : فإن قيل : قد روي أن أبا بكر نزل عن موقف النبي صلى الله عليه وسلم درجة ، وعمر درجة أخرى ، وعثمان أخرى ، ووقف علي رضي الله عنه في موقف النبي صلى الله عليه وسلم . قلنا : كل منهم له قصد صحيح ، وليس بعضهم حجة على بعض ، واختار الشافعي وغيره موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ، لعموم الأمر بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم ( (378) انظر : المجموع ( 4/ 357 ) . 378) . اهـ .
وقال المرداوي في الإنصاف : " وكان يقف على الثالثة التي تلي مكان الاستراحة . ثم وقف أبو بكر على الثانية ، ثم عمر على الأولى تأدباً ، ثم وقف عثمان مكان أبي بكر . ثم وقف علي موقف النبي صلى الله عليه وسلم . ثم في زمن معاوية قلعه مروان ، وزاد فيه ست درج ، فكان الخلفاء يرتقون ست درج ، ويقفون مكان عمر ( (379) انظر : الإنصاف ( 5/ 235 ) ، الفتح ( 3/ 61 ) . 379) . اهـ .
32-
أي الرجلين يقدم الخطيب عند صعوده المنبر وكذا عند نزوله ؟
..بوَّب البخاري في صحيحه باباً فقال : باب التيمن في دخول المسجد وغيره ، وكان ابن عمر يبدأ برجله اليمنى ، فإذا خرج بدأ برجله اليسرى ( (380) انظر : فتح الباري ( 2/ 87) .380) اهـ .
قال الحافظ ابن حجر عن حديث ابن عمر هذا:ولم أره موصولاً عنه لكن في المستدرك للحاكم( (381) انظر : المستدرك ( 1/ 218 ) وقال : صحيح على شرط مسلم . 381) من طريق معاوية بن قرة عن أنس أنه كان يقول : " من السنة إذا دخلت المسجد أن تبدأ برجلك اليمنى ، وإذا خرجت أن تبدأ برجلك اليسرى " والصحيح أن قول الصحابي : " من السنة كذا " محمول على الرفع ( (382) انظر : فتح الباري ( 2/ 88) .382) .
قلت : إنما أوردت ما يتعلق بتقديم اليمنى عند دخول المسجد ، وحديثنا هنا عن صعود المنبر وما ذاك إلا من باب أن صعود المنبر إنما يكون في معظم الصور إذا كانت صلاة الجمعة داخل المسجد حتى يكون ذلك من القياس ؛ ولأن تقديم اليمنى يتعلق بأمور الفضائل والتكريم ، فتقدم فيه اليمنى عملاً بحديث عائشة الذي في الصحيحين قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التيمن ما ستطاع في شأنه كله : في طهوره ، وترجله ، وتنعله . وهذا لفظ البخاري ( (383) صحيح البخاري : الصلاة باب 47 ( رقم 426 ) صحيح مسلم ( 1/ 226 رقم 268 ) . 383) .
ومما لا شك فيه أن صعود المنبر من جهة التكريم أعظم من مجرد التنعل أو الترجل ، فيكون تقديم اليمين حال صعوده هو الأفضل بناء على حديث عائشة ، لاسيما وأن الصعود إنما هو لأداء عبادة وتبليغ رسالة وهي الخطبة ، والله أعلم .
وأما عند النزول فيحتمل أن يقدم اليسرى قياساً على الخروج من المسجد ، ويحتمل أن يقدم اليمنى بناء على عموم حديث عائشة رضي الله عنها ، لاسيما إن قلنا : إن العلة في تقديم اليسرى في الخروج من المسجد ؛ لأنه خروج من مكان العبادة إلى مكان الدنيا وشواغلها ، فإن النازل من المنبر غير خارج من العبادة ، بل إنه سينتقل من عبادة إلى عبادة أخرى وهي الصلاة ، فيكون تقديم اليمنى حال النزول أولى وأقرب ، عملاً بعموم حديث عائشة رضي الله عنها .
ولشيخ الإسلام رحمه الله كلام جيد حول أفعال الجوارح يقول فيه : " والأفعال نوعان : أحدهما مشترك بين العضوين . والثاني : مختص بأحدهما ، وقد استقرت قواعد الشريعة على أن الأفعال التي تشترك فيها اليمنى واليسرى تقدم فيها اليمنى إذا كانت من باب الكرامة كالوضوء ، والغسل ، والابتداء بالشق الأيمن في السواك ، ونتف الإبط ، وكاللباس ، والانتعال ، والترجل ، ودخول المسجد والمنزل ، والخروج من الخلاء ونحو ذلك . وتقدم اليسرى في ضد ذلك ، كدخول الخلاء ، وخلع النعل ، والخروج من المسجد .
والذي يختص بأحدهما : إن كان من باب الكرامة كان باليمين ، كالأكل والشرب والمصافحة ومناولة الكتب وتناولها ونحو ذلك . وإن كان ضد ذلك كان باليسرى ، كالاستجمار ومس الذكر ، والاستنثار ، والامتخاط ، ونحو ذلك . ( (384) انظر : مجموع الفتاوى ( 21 / 108 ) . 384) اهـ .
33-
كيفية صعود الخطيب المنبر
استحب جماعة من أهل العلم منهم ابن عقيل وغيره : أن يكون الخطيب حالة صعوده على تؤدة وإذا نزل يكون مسرعاً مبالغة في الموالاة بين الخطبتين والصلاة ( (385) انظر : الفروع ( 2/ 129 ) . 385) .وأما ما يفعل حال الصعود من بعض عوام الخطباء من التباطؤ - وهو خلاف التؤدة - حين صعوده فقد عدَّه بعضهم من البدع ، كما ذكر ذلك أبو شامة في الباعث ( (386) انظر : الباعث ص ( 263) . 386) ، وذكره القاسمي في إصلاح المساجد( (387) انظر : إصلاح المساجد ص ( 48) . 387) ، وذكره غيرهما .
ومثل ذلك دقُّ الخطيب المنبر عند صعوده ثلاث مرات بعصى أو نحوها دقاً مزعجاً أو مرتفعاً ، كما ذكر ذلك في الباعث ( (388) انظر : الباعث ص ( 262) .388) ، وروضة الطالبين للنووي ( (389) انظر : روضة الطالبين ( 2/ 32 ) والمجموع (4/ 359 ) . 389) ، وإصلاح المساجد ( (390) انظر : إصلاح المساجد ص ( 48) . 390) ، وغيرها .
قال الحافظ ابن حجر : ويكون صعوده فيه على تؤدة إلى الدرجة التي تلي السطح .... ( (391) انظر : التلخيص الحبير . 391) . اهـ .
34-
حكم قراءة الخطيب عند صعوده المنبر
آية { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} أو حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة : أنصت ، والإمام يخطب فقد لغوت ) رواه البخاري ومسلم ( (392) صحيح البخاري : الجمعة ، باب 36 ( رقم 394 ) ، صحيح مسلم ( 2/ 583 رقم 851 ) . 392)سئل شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه المسألة فأجاب قائلاً : " الحمد لله ليس هذا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا استحبه أحد من أئمة المسلمين العلماء ، لكن تبليغ الحديث ، فعله من فعله لأمر الناس بالإنصات ، وهو من نوع الخطبة .... " ( (393) انظر : مجموع الفتاوى ( 22/ 217 ) . 393) . اهـ .
قلت : لعلَّ شيخ الإسلام يقصد هنا فعل عثمان الذي رواه الشافعي وسيأتي بعد قليل .
قال ابن نجيم الحنفي : " ولم أر فيما عندي من كتب أئمتنا حكم المرقى الذي يخرج الخطيب من مخدعه ويقرأ الآية كما هو المعهود هل مسنون أم لا ؟ " ( (394) انظر : البحر الرائق ( 2/ 149 ) . 394) . اهـ .
وقال في موضع آخر : " ثم اعلم أن ما تعورف من أن المرقى للخطيب يقرأ الحديث النبوي ، وأن المؤذنين يؤمنون عند الدعاء ، ويدعون للصحابة بالرضى ، وللسلطان بالنصر ، إلى غير ذلك ، فكله حرام على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله . وأغرب منه أن المرقى ينهى عن الأمر بالمعروف بمقتضى الحديث الذي يقرأه ، ثم يقول : انصتوا رحمكم الله . ولم أر نقلاً في وضع هذا المرقى في كتب أئمتنا " ( (395) انظر : البحر الرائق ( 2/ 156 ) .395) . اهـ .
قال ابن عابدين : " وذكر العلامة ابن حجر في التحفة أن ذلك بدعة ، لأنه حدث بعد الصدر الأول ، قيل : لكنها حسنة ؛ لحث الآية على ما يندب لكل أحد من إكثار الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم لاسيما في هذا اليوم ، وكحث الخبر على تأكد الإنصات المفوت تركه لفضل الجمعة ، بل والموقع في الإثم عند الأكثرين من العلماء . وأقول - القائل ابن حجر - يستدل لذلك أيضاً بأنه صلى الله عليه وسلم أمر من يستنصت له الناس عند إرادته خطبة منى في حجة الوداع ، فقياسه أنه يندب للخطيب أمر غيره بالاستنصات ، وهذا هو شأن المرقي ، فلم يدخل ذكره للخبر في حيز البدعة أصلاً " . اهـ .
وذكر نحوه الخير الرملي الشافعي وأقره عليه وقال : " إنه لا ينبغي القول بحرمة قراءة الحديث على الوجه المتعارف ؛ لتوافر الأمة وتظاهرهم عليه . اهـ .
أقول - أي ابن عابدين - : كون ذلك متعارفاً لا يقتضي جوازه عند الإمام القائل بحرمة الكلام ولو أمراً بمعروف أو ردَّ سلام ؛ استدلالاً بما مرَّ ، ولا عبرة بالعرف الحادث إذا خالف النص ؛ لأن التعارف إنما يصلح دليلاً على الحل إذا كان عاماً من عهد الصحابة والمجتهدين كما صرحوا به ، وقياس خطبة الجمعة على خطبة منى قياس مع الفارق ، فإن الناس في يوم الجمعة قاعدون في المسجد ينتظرون خروج الخطيب متهيئون لسماعه ، بخلاف خطبة منى فليتأمل ( (396) انظر : حاشية ابن عابدين ( 3/ 34 ) . 396) .
وذكر ابن القيم متحدثاً عن صفة خطبته صلى الله عليه وسلم بعد أن يصعد المنبر فقال : ويأخذ بلال في الأذان ، فإذا فرغ منه قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة ، لا بإيراد خبر ولا غيره " ( (397) انظر : زاد المعاد ( 1/ 429 ) . 397) . اهـ .
وقال في موضع آخر.. أخذ المؤذن في الأذان فقط ، ولم يقل شيئاً قبله ولا بعده ( (398) انظر : نفس المصدر ( 1/ 189 ) . 398). اهـ.
قلت : قد وقفت على رواية عند مالك في الموطأ ، والشافعي في الأم ، تدل على أن عثمان رضي الله عنه كان يقرأ حديث الإنصات ، إلا أن ذلك لم يكن حال صعوده على المنبر ، وإنما كان أثناء الخطبة .
فقد قال الشافعي رحمه الله تعالى : " أخبرنا مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبدالله ، عن مالك بن أبي عامر ، أن عثمان بن عفان كان يقول في خطبته - قلما يدع ذلك إذا خطب - إذا قام الإمام يخطب يوم الجمعة فاستمعوا له وأنصتوا ؛ فإن للمنصت الذي لا يسمع من الحظ مثل ما للسامع المنصت ، فإذا قامت الصلاة فاعدلوا الصفوف وحاذوا بالمناكب ، فإن اعتدال الصفوف من تمام الصلاة ، ثم لا يكبر عثمان حتى يأتيه رجال قد وكلهم بتسوية الصفوف فيخبروه أن قد استوت فيكبر " ( (399) انظر : الموطأ ( 1/ 104) ، والأم (1/ 347) . 399) .
وقد سئلت اللجنة الدائمة برئاسة سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز عن هذه المسألة ، فأجابت اللجنة بما نصه: " وقول الإمام هذا الحديث عند صعوده المنبر بدعة.. الخ وبالله التوفيق .." ( (400) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ( 8/ 239 ) . ، السنن والمبتدعات ( ص49) . 400) .
35-
اتخاذ الخطيب للعصا
جاء في ذكر العصا للخطيب روايات متعددة .منها : ما رواه الشافعي في مسنده عن إبراهيم عن ليث بن أبي سليم عن عطاء مرسلاً ( أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عنزته اعتماداً). ورواه كذلك في الأم. ورواه البيهقي في السنن( (401) انظر : مسند الشافعي ( ص77) ، الأم ( 1/ 343) ، والسنن الكبرى (3/ 292 ) . 401).
قال الحافظ في التلخيص : وليث ضعيف ( (402) انظر : التلخيص الحبير ( 2/ 65) . 402) .
ومنها : ما رواه أبو داود في سننه من حديث الحكم بن حزن ، الحديث وفيه ( شهدنا فيها الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام متوكئاً على عصا أو قوس ) ( (403) انظر : سنن أبي داود ( 1/659 رقم 1096) . 403) . قال الحافظ في التلخيص : إسناده حسن، وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة( (404) انظر : صحيح ابن خزيمة (2/ 352 رقم 1452 ) . 404)، وله شاهد من حديث البراء بن عازب عند أبي داود بلفظ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي يوم العيد قوساً فخطب عليه). وطوله أحمد( (405) انظر : سنن أبي داود ( 1/ 679 رقم 1147 ) مسند أحمد : ( 4/ 282 ) 405) ورواه الطبراني( (406) انظر : المعجم الكبير ( 2/ 9 رقم 1169 ) . 406) وصححه ابن السكن ( (407) انظر : التلخيص الحبير ( 2/ 65 ) . 407). اهـ.
قال مالك : مما يستحب للأئمة أصحاب المنابر أن يخطبوا يوم الجمعة ومعهم العصي يتوكؤون عليها في قيامهم ، وهو الذي رأينا وسمعنا ( (408) انظر : المدونة ( 1/ 232 ) . 408) . اهـ .
وقال الشافعي : " ويعتمد الذي يخطب على عصا أو قوس أو ما أشبههما ؛ لأنه بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتمد على عصا " ( (409) انظر : الأم ( 1/ 177) . 409) .
وقال النووي : " يسن أن يعتمد على قوس ، أو سيف ، أو عصا ، أو نحوها " ( (410) انظر : المجموع ( 4/ 357) . 410) .
وقد قال بمشروعية العصا كقول مالك والشافعي الإمامُ أحمد ( (411) انظر : المغني ( 3/ 179) . 411) ، وجمْعٌ من أهل العلم ، وبه قال الصنعاني في السبل ( (412) انظر : سبل السلام ( 2/ 59) . 412) والشوكاني في نيل الأوطار ( (413) انظر : نيل الأوطار (3 / 305 ) . 413) . وذهب بعض الحنفية إلى كراهية اتخاذ الخطيب للقوس أو العصا .
فقد قال صاحب التاتار خانية ونسبة لصاحب المحيط البرهاني ما نصه : " وإذا خطب متكئاً على القوس أو على العصا جاز إلا أنه يكره ؛ لأنه خلاف السنة " ( (414) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2/ 61 ) . 414) . اهـ .
قلت : ولم أقف على دليل لما ذكره الحنفية من الكراهة ، بل الدليل على خلافه كما سبق ، بل إنني وقفت على ما يدل أن بعضهم استحب اتخاذ السيف بدلاً من العصا .
فقد قال صاحب التاتار خانية وعزاه لصاحب روضة العلماء قال : " الحكمة في أن الخاطب يخطب متقلداً بالسيف ما قد سمعت الفقيه أبا الحسن الرستغفني رحمه الله يقول : " كل بلدة فتحت عنوة بالسيف يخطب الخاطب على منبرها بالسيف ليريهم أنها فتحت بالسيف ، فإذا رجعتم عن الإسلام فذلك باق في أيدي المسلمين نقاتلكم به حتى ترجعوا إلى الإسلام ، وكل بلدة أسلم أهلها طوعاً يخطبون بلا سيف ، ومدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فتحت بالقرآن فيخطب بلا سيف ، ومكة فتحت بالسيف فيخطب مع السيف " ( (415) انظر : المصدر السابق ( 2/ 60) . 415) . اهـ .
قلت : وقد ردَّ ابن القيم رحمه الله على مثل هذا القول بقوله : "ولم يحفظ عنه أنه اعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً ، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف ، فمن فرط جهله ، فإنه لا يحفظ عنه بعد اتخاذ المنبر أنه كان يرقاه بسيف ، ولا قوس ، ولا غيره ، ولا قبل اتخاذه أنه أخذ بيده سيفاً ألبتة ، وإنما كان يعتمد على عصاً أو قوس " ( (416) انظر : زاد المعاد (1/ 429) . 416) . اهـ .
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية : " أما السيف فليس بمشروع ، وهم عللوا ذلك بأنه إشارة إلى أن الدين فتح به . وهذا غير صحيح إنما فتح بالقرآن ، وإنما السيف منفذ فقط " ( (417) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3/ 21) . 417) . اهـ .
وقال شيخنا محمد بن عثيمين : " تعليلهم بأنه إشارة إلى أن هذا الدين فتح بالسيف فيه نظر ، فالدين لم يفتح بالسيف ؛ لأن السيف لا يستعمل للدين إلا عند المنابذة ، فإذا أبي الكفار أن يسلموا أو يبذلوا الجزية فإنهم يقاتلون ، أما إذا بذلوا الجزية فإنهم يتركون ، وهذا هو القول الذي تدل عليه الأدلة " ( (418) انظر : الشرح الممتع ( 5/ 83 ) . 418) . اهـ .
قلت : ولا أدري ما هو الدليل على ما ذكره ابن القيم من التفريق بين ما كان قبل اتخاذه صلى الله عليه وسلم المنبر وبين ما كان بعده ، فربما اطلع على دليل لم أجده حسب البحث القاصر ، ولكنني وقفت على كلام للسمهودي صاحب كتاب ( وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى ) ، يدل على أن في منبره صلى الله عليه وسلم ما يسمى " رمانة " يضع يدع عليه أثناء الخطبة ، أو في الجلوس بين الخطبتين . فمن ذلك قوله عن ابن النجار : " وطول رمانتي المنبر اللتين كان يمسكهما بيده إذا جلس شبر وأصبعان " .
ونقل السمهودي أيضاً عن ابن زبالة قوله : " .. إلى طرف رمانته التي يضع عليها يده الكريمة ... الخ " .
ونقل أيضاً عن ابن عساكر عن شيخه ابن النجار قوله : " وقد احترقت بقايا منبر النبي صلى الله عليه وسلم القديمة ، وفات الزائرين لمس رمانة المنبر التي كان صلى الله عليه وسلم يضع يده المقدسة المكرمة عليها عند جلوسه عليه " ( (419) انظر : وفاء الوفاء للسمهودي ( 1/ 402 ) . 419) . اهـ .
وقال أبو منصور الكرماني الحنفي : " وتجعل يدك على رأس الرمانة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده عليها عند الخطبة " ( (420) انظر : المسالك في المناسك للكرماني بتحقيقنا . مخطوط ( 972) . 420) . اهـ .
قلت : يظهر مما سبق ما يشير إلى تقوية كلام ابن القيم رحمه الله ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتخذ عصاً إذا خطب بعد ما وضع له المنبر ، والله أعلم .
وقد يشكل على ما سبق ذكره عن ابن القيم أنه رحمه الله قد أشار في أول كتابه الزاد في فصل هدية صلى الله عليه وسلم في خطبته بما نصه : "وكان إذا قام يخطب أخذ عصاً ، فتوكأ عليها وهو على المنبر ، كذا ذكره عنه أبو داود عن ابن شهاب ، وكان الخلفاء الثلاثة بعده يفعلون ذلك " ( (421) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ) . 421) . اهـ .
قلت : فأنت ترى هنا أبن القيم رحمه الله ، لم يفصل الكلام كما فصل في الوضع السابق ذكره ، والتفصيل متأخر عن كلامه في أول كتابه ، فيحتمل أن يكون هو المعتمد عنده ، لاسيما وقد نصَّ في كلامه على عدم اتخاذه صلى الله عليه وسلم للعصا بعد اتخاذه المنبر ، ويحتمل أن يكون كلامه رحمه الله هناك هو المعتمد على أنه لا فرق بين ما كان قبل اتخاذه المنبر وما كان بعد اتخاذه المنبر بدليل استمرار فعل الخلفاء الثلاثة من بعده .
ثم إنني اطلعت على كلام للإمام مالك قد يكون مما يؤيد به قول ابن القيم في التفصيل بين ما كان قبل اتخاذه صلى الله عليه وسلم المنبر ، وما كان بعد اتخاذه ؛ حيث قال الإمام مالك عن خروج الإمام في الاستسقاء : " وليس يخرج في صلاة الاستسقاء بمنبر ، ولكن يتوكأ الإمام على عصا" ( (422) انظر : المدونة ( 1/ 244) . 422) . اهـ .
فيفهم من كلام مالك أنه قال بسنية اتخاذ العصا هنا ؛ لأنه لا يرى الخروج بالمنبر في الاستسقاء ، فاعتاض بالعصا عن المنبر . والله أعلم .
قال سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز عن حديث الحكم بن حزن ما نصه : " الحديث يدل على شرعية الاتكاء على عصا أو قوس في الخطبة ، لأن هذا من شأنه صلى الله عليه وسلم ، ولعل السر في هذا - والله أعلم - أنه أجمع لليدين ، وأجمع للقلب من الحركة ، وأقرب إلى الإقبال على الخطبة " ( (423) انظر : دروس سماحته على بلوغ المرام ، شرح الحديث رقم ( 449) . 423) .
وقال رحمه الله عن الحديث : إسناده حسن ، ورواه أحمد أيضاً ، وجاء في الباب آثار أخرى فيها مقال ، ولكنها تشهد لهذا المعنى ( (424) انظر : المصدر السابق . 424) . اهـ .
قلت : وما قاله سماحة شيخنا ، قد قال بمثله الشيخ العلامة محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله حيث قال عن حديث الحكم ما نصه : " فيه فوائد : منها شرعية الاعتماد في الخطبة على قوس أو على عصا . وذلك لكونه أرفق للخطيب وأثبت له . لاسيما إذا كان يطول وقوفه أو مقصود مهم . فكونه معتمداً على قوس أو عصا هو السنة ، وخصّ القوس والعصا ؛ لأنهما يستصحبان عادة زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، كما تستصحب العصا عندنا ( (425) انظر : فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم ( 3/ 21 ) . 425) " . اهـ .
قلت : وقد قال شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين : " إنه إذا احتاج إلى العصا فإنه يشرع له ذلك وهو سنة ؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة ، وما أعان على سنة فهو سنة ، وأما إذا لم يكن هناك حاجة فلا حاجة إلى حمل العصا " ( (426) انظر : الشرح الممتع ( 5/ 83 ) . 426) . اهـ .
فائدتان :
الأول :
بأي اليدين يمسك الخطيب العصا ؟
الجواب : قال النووي : " قال القاضي حسين والبغوي : يستحب أن يأخذه في يده اليسرى ، ولم يذكر الجمهور اليد التي يأخذه فيها .وقال أصحابنا : ويستحب أن يشغل يده الأخرى بأن يضعها على حرف المنبر"( (427) انظر : المجموع ( 4/ 357) . 427). اهـ.
وقال في الإنصاف : "وهو مخير بين أن يكون ذلك في يمناه أو يسراه . ووجه في ( الفروع ) توجيهاً، يكون في يسراه، وأما اليد الأخرى فيعتمد بها على حرف المنبر أو يرسلها"( (428) انظر : الإنصاف ( 5/ 240) ، الفروع ( 2/ 119) . 428).اهـ
الثانية :
إذا لم يكن مع الخطيب قوس أو عصا فماذا يفعل ؟
فالجواب : قال الشافعي رحمه الله : " وإن لم يعتمد على عصا أحببت أن يسكن جسده ويديه ، إما بأن يضع اليمنى على اليسرى ، وإما أن يقرهما في موضعهما ساكنتين " ( (429) انظر : الأم (1/ 177) . 429) . اهـ .وقال النووي : " قالوا : فإن لم يجد سيفاً أو عصا ونحوه ، سكن يديه بأن يضع اليمنى على اليسرى ، أو يرسلهما ولا يحركهما ، ولا يعبث بواحدة منهما ، والمقصود الخشوع والمنع من العبث " ( (430) انظر : المجموع ( 4/ 357) ، البيان ( 2/ 578 ) . 430) . اهـ
وقال في الإنصاف : " وإذا لم يعتمد على شيء ، أمسك يمينه بشماله ، أو أرسلهما " ( (431) انظر : الإنصاف ( 5/ 241) . 431) . اهـ .
36-
حكم اتخاذ الخطيب لمكبر الصوت
هذه المسألة ليست من المسائل المهمة ، ولا هي مما يحتاج إليها الخطيب ، أو يفتقر إلى معرفة الحكم فيها ، لأنها من المسائل التي ينبغي أن لا يجادل منصف في جواز استعمال مكبر الصوت في الخطبة والصلوات ، ثم إن السواد الأعظم لم تشكل عليهم هذه المسألة ، ولكنني أوردها هنا من باب الفائدة ، لأنها من المسائل التي لبعض أهل العلم كلام حولها ؛ ولأمر آخر وهو أنه لا يخلو هذا الزمان ممن يجادل في مكبر الصوت ومدى مشروعية استعماله في العبادات كوسيلة موصلة ، أو على الأقل يجادل في استحسان ذلك من عدمه وإن لم يقل بتحريمه ، وأمثال هؤلاء قلة لا تذكر .ولذا فإنني سأذكر كلام بعض أهل العلم حول هذه المسألة .
فقد سئل الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله : ما رأيكم في استعمال مكبر الصوت للخطيب ؟
فأجاب : رأينا أنه لا بأس به ، وهنا فائدة نافعة لهذه المسألة وغيرها ، وهي أن الأمور الحادثة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قسمان : عبادات وعادات . أما العبادات : فكل من أحدث عبادة لم يشرعها الله ورسوله فهو مبتدع .
وأما العادات : فالأصل فيها الإباحة ، فكل من حرم عادة من العوائد الحادثة فعليه الدليل ، فإن أتى بدليل يدل على المنع والتحريم من كتاب الله أو سنة رسول الله النبي صلى الله عليه وسلم ، أو قياس على أصل شرعي ، فهو محذور وممنوع ، وإلا فالأصل الإباحية ، وقد ذكر شيخ الإسلام هذين الأصلين في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) وغيره من كتبه . فهذه الآلات الحادثة من هذا الباب ، الأصل فيها الإباحة . والمباحات كلها إن أعانت على خير فهي حسنة ، وإن أعانت على شر فهي سيئة ، والله أعلم ( (432) انظر : فتاوى ابن سعدي المجموعة الكاملة ( 7/ 130) . 432) . اهـ .
قلت : وللشيخ ابن سعدي رحمه الله خطبة جمعة بمناسبة وضع مكبر الصوت في المسجد ، حيث استنكر بعض الناس استعماله في المسجد ورأوا أنه من البدع المحدثة ، فردَّ الشيخ على زعمهم هذا في خطبة كاملة ( (433) انظر : خطب الشيخ ابن سعدي المجموعة الكاملة ( 6/ 53) .433) .
وسئلت اللجنة الدائمة عن الإمام يصعد على المنبر ومعه المذياع ليأخذ صوته ما حكم ذلك؟ .
فأجابت اللجنة بما نصه: " يجوز ذلك ؛ ليساعده على إبلاغ صوته لأكثر عدد " ( (434) انظر : فتاوى اللجنة ( 8/ 250) . 434) . اهـ.
وفي قرارات المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي :
أما استخدام مكبر الصوت في أداء خطبة الجمعة والعيدين ، وكذا القراءة في الصلاة وتكبيرات الانتقال ، فينبغي استعماله في المساجد الكبيرة ، لما يترتب عليه من المصالح الشرعية . والله الموفق ( (435) انظر : غاية المرام ( 7/ 201 ) . 435) . اهـ .
وللشيخ بكر أبو زيد كلام جيد حول هذه المسألة ، سأورد شذرات منه لما فيه من الفائدة ، فقد قال : " لا أرى مكبر الصوت إلا من نعم الله تعالى على أهل القبلة ، لإعلان الشعائر الإسلامية ، وإبلاغ الخير للبرية ، ونفوذه إلى أسماع أكبر عدد ممكن في الأحياء ، ورحاب المساجد ، والمنتديات ، ولا ينكر الخير إلى نفس مريضة ، ولا تلتفت إلى ما فاه به بعضهم وجرت به أقلام آخرين من تحريمه في الخير ، كما لو كان في الشر ، حتى سمعت من بعض الأفاقين ، ما أذكره للفُرْجة ، قال : ( فون ) اسم للشيطان ، وهذا من مكره ؛ ولذا قيل له : ( مكرفون ) .
ولا يستنكر هذا فإن مواجهة كل جديد بالرفض ، والتحريم ، علة فاشية من قديم ، ومنه ما ذكره الفخر الرازي في تفسيره : ( 1/ 433 ) أن : ( الساعة المائية ) لما اخترعت ، قابلها بعضهم بأنها سحر .
ومواجهة الرفض هذه موجودة لدى بعض من المسلمين ، ولدى آخرين من الكافرين ، أمام أي جديد ، وانظر أمثله موسعة لهذا في ( التاريخ القويم ) للكردي : ( 3/ 187 - 190 ) ذكرها استطراداً ....
وقال أيضاً: "لا أرى الحال في جميع ما ذكر إلا من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"( (436) انظر : تصحيح الدعاء ص ( 424 وما بعدها ) . 436) .
37-
الطهارة من الحدث في الخطبة
اختلف أهل العلم في اشتراط الطهارة أثناء الخطبة على قولين :القول الأول :
قالوا : لا يشترط الطهارة من الحديث سواء كان حدثاً أصغر أو حدثاً أكبر .
وممن قال بهذا أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي في القديم ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه( (437) انظر : البدائع ( 2/ 197) ، المدونة ( 1/ 235) ، المجموع (4/ 344) ، المغني ( 3/ 177) . 437).
وعللوا لما ذهبوا إليه بثلاثة أمور :
أولها : أنه لو افتقر الخطيب إلى الطهارة لا فتقر إلى استقبال القبلة كالصلاة .
ثانيها : أن الخطبة ذكر يتقدم الصلاة ، فلم تكن الطهارة فيه شرطاً كالأذان .
ثالثها : أن الخطبة من باب الذكر ، والمحدث والجنب لا يمنعان من ذكر الله تعالى ، والاعتبار بالصلاة غير سديد ( (438) انظر : المصادر السابقة . 438) .
قلت : ولكن يلاحظ هنا أمران :
الأول : أن الشافعية يقولون : إن خطبة الجنب لا تصح قولاً واحداً ، لأن القراءة في الخطبة واجبة عندهم ، ولا تحتسب قراءة الجنب ( (439) انظر : التهذيب للبغوي ( 2/ 341) ، المجموع للنووي (4/ 345) . 439) .
الثاني : عند الحنابلة : أن الأشبه بأصول المذهب اشتراط الطهارة من الجنابة ؛ لأنهم يشترطون قراءة آية فصاعداً ، وليس ذلك للجنب ( (440) انظر : المغني ( 3/ 177) ، الإنصاف ( 5/ 229) . 440) .
القول الثاني :
قالوا : يشترط في الخطبة الطهارة من الحدث سواء كان حدثاً أكبر أو أصغر .
وممن قال بهذا الشافعي في الجديد ، وأبو يوسف ، وأحمد في إحدى الروايتين عنه ( (441) انظر : المجموع ( 4/ 344) ، البدائع ( 2/ 197) ، المغني ( 3/ 177) . 441).
ودليلهم في هذه المسألة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب متطهراً ، وقد قال ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) ( (442) انظر : صحيح البخاري : الأذان ، باب 18 رقم ( 631) . 442) ؛ ولأنه ذكر شرط في الجمعة فشرط فيه الطهارة كتكبيرة الإحرام ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عقيب الخطبة ولا يفصل بينهما بطهارة ، فدلَّ على أنه كان متطهراً ؛ ولأنه لو لم يكن متطهراً لاحتاج إلى الطهارة بين الصلاة والخطبة فيفصل بينهما ، وربما طوَّل على الحاضرين ( (443) انظر : المجموع ، البدائع . المصادر السابقة . 443) .
وقد قال الإمام أحمد فيمن خطب وهو جنب ، ثم اغتسل وصلى بهم : يجزئه ( (444) انظر : المغني ( 3/ 177) .444) . اهـ .
38-
سلام الخطيب على المأمومين
جرت عادة عامة الخطباء في سائر الأقطار والأمصار على أن يسلموا على المأمومين بعد صعودهم المنبر ، وعلى أن هذه هي السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا هو الحق ، غير أن عدداً من الخطباء وأهل العلم يظنون أن هذه المسألة مجمع عليها بين أهل العلم ، غير أن الأمر ليس كذلك ، بل هي من مسائل الخلاف المشهورة .وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين :
القول الأول :
استحب جمهور أهل العلم كابن عباس ، وابن الزبير ، وعمر بن عبدالعزيز ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وغيرهم أن يسلم الخطيب على المأمومين إذا صعد المنبر ( (445) انظر : الأوسط لابن المنذر ( 4/ 63) ، الأم ( 1/ 343) ، التهذيب ( 2/ 338) ، المقنع ، الإنصاف ( 5/ 236) . 445) .
وعند الشافعية يستحب له أن يسلم مرتين : الأولى عند دخوله المسجد يسلم على من هناك ، وعلى من عند المنبر إذا انتهى إليه ، والثانية إذا وصل أعلى المنبر ( (446) انظر : المجموع ( 4/ 355) . 446) .
وقال المرداوي من الحنابلة : " ويسلم أيضاً على من عنده إذا خرج " ( (447) انظر : الإنصاف (5/236) . 447) . اهـ .
وقد استدل من يرى السلام بأحاديث منها :
1- ما رواه البيهقي وابن ماجه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا صعد المنبر يوم الجمعة قال : السلام عليكم ) ( (448) انظر : السنن الكبرى ( 3/298) ، سنن ابن ماجه (1/ 352) . 448) .
وقد ضعَّف هذا الحديث الطحاوي وقال : " لم يرد في ذلك شيء صحيح ، وروي فيه أحاديث ضعاف " ( (449) انظر : مختصر اختلاف العلماء (1/344) . 449) . اهـ .
وقال النووي في المجموع: "رواه البيهقي من رواية ابن عمر وجابر، وإسنادهما ليس بقوي"( (450) انظر : المجموع (4/ 355) . 450) . اهـ .
وضعفه ابن عدي وابن حبان ، كما ذكر ذلك الحافظ في التلخيص ( (451) انظر : التلخيص الحبير (2/63) . 451) .
وقال عنه الزيلعي : " حديث واهٍ " ( (452) انظر : نصب الراية (2/ 205) . 452) . اهـ .
وأيده على ذلك المناوي صاحب فيض القدير ( (453) انظر : فيض القدير ( 5/ 146) . 453) .
وقال عنه البوصيري : " في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف " ( (454) انظر : مصباح الزجاج (1/ 352) . 454) . اهـ .
وذكر ابن أبي حاتم في العلل أنه سأل أباه عن هذا الحديث فقال : "هذا حديث موضوع" ( (455) انظر : انظر علل الحديث (1/ 352) . 455). اهـ.
قلت : وما ذكره ابن أبي حاتم عن أبيه فيه مبالغة ، إذ ليس في رجال السند من اتهم بالكذب ، والحديث هذا قد حسنه السيوطي في الجامع الصغير ( (456) انظر : الجامع الصغير (5/ 146) . 456) .
2- ما ذكره الشافعي بقوله : " بلغنا عن سلمة بن الأكوع أنه قال : " خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبتين ، وجلس جلستين ، وحكى الذي حدثني قال : استوى صلى الله عليه وسلم على الدرجة التي تلي المستراح قائماً ثم سلم ، ثم جلس على المستراح ..... الحديث " ( (457) رواه عبدالرزاق في المصنف ( 3/ 192) . 457) .
قلت : وقد رأيت أن الشافعي قد ذكر هذا بلاغاً فهو موصولٌ .
3- ما رواه أبوَّ بكر بن أبي شيبة عن الشعبي قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال : السلام عليكم ... الحديث " ( (458) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2/ 114) . 458) .
قال الحافظ : وهو مرسل . وفي الباب عن عطاء مرسلاً " ( (459) انظر : الأم ( 1/ 177) . 459) .
قلت : والحديث صححه الشيخ الألباني لشواهده ( (460) انظر : سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 106 ) . 460) . والله أعلم .
القول الثاني :
وهو قول أبي حنيفة ومالك، حيث ذهبا إلى أن سلام الإمام على المأمومين إذا صعد المنبر مكروه .
فقد قال أبو حنيفة : " يكره " .
وقال مالك : " لا يسلم وأنكر ذلك " ( (461) انظر : المبسوط (2/ 29) ، مختصر اختلاف العلماء (1/ 344) ، المدونة (1/ 231) ، المعونة ( 1/ 308 ) . 461) .
ولكن أبا حنيفة ومالك يقولان بمشروعية سلام الخطيب على المأمومين عند بداية دخوله للمسجد ، لا عند صعوده على المنبر .
ودليلهما في ذلك أنه لم يصح في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فقد قال أبو حنيفة : " خروج الإمام يقطع الكلام ، وهذا يدل على أنه يمنعه السلام " ( (462) انظر : مختصر اختلاف العلماء ( 1/ 344) . 462) . اهـ .
قال أبو جعفر الطحاوي : " لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء صحيح ، وروي فيه أحاديث ضعاف ، والقياس يمنع منه ، لأنه إذا تقدم للإمام لا يسلم ، والمؤذن إذا أشرف على الناس لا يسلم ، فكذلك إذا صعد على المنبر " ( (463) انظر : المصدر السابق . 463) . اهـ .
وقد يستدل لأصحاب هذا القول بما رواه عبدالرزاق بسنده عن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم الجمعة إذا استوى على المنبر يجلس ، فإذا جلس أذن المؤذن ...... الحديث ( (464) انظر : مصنف عبدالرزاق (3/ 188) . 464) .
وعند أبي داود في السنن أن عمر قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ - أراه المؤذن - ثم يقوم فيخطب ، ثم يجلس فلا يتكلم ، ثم يقوم فيخطب " ( (465) انظر : سنن أبي داود ( 3/ 440) . 465) .
قال المنذري : " في إسناده العمري ، وهو عبدالله بن عمر بن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب وفيه مقال " ( (466) انظر : مختصر سنن أبي داود (2/17) . 466) . اهـ .
وأخرج أبو داود في مراسيله عن ابن شهاب قال : " بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبدأ فيجلس على المنبر ، فإذا سكت المؤذن قام فيخطب الخطبة الأولى ...... الحديث " ( (467) انظر : مراسيل أبي داود ص (9) . 467) .
قال الزيلعي عن حديث ابن عمر السابق ، وحديث ابن شهاب هذا : وفي هذا المرسل وفي الحديث قبله جلوسه عليه السلام على المنبر قبل الخطبة ، وليس ذلك في غيرهما ، وكل منها يقوي الآخر ( (468) انظر : نصيب الراية (2/ 197) . 468) . اهـ .
قلت : ويتضح من الروايات السابقة أن الرواة ذكروا أن أول ما يبدأ به صلى الله عليه وسلم بعد صعود المنبر هو الجلوس . فلعل من لم ير السلام بعد الصعود اعتمد على مثل هذا . والله أعلم .
وخلاصة المسألة : أنه لم يصح في ذلك شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أبو جعفر الطحاوي . وكما ضعَّف تلك الأحاديث النووي ، والحافظ ابن حجر ، والزيلعي ، والمناوي ، والبوصيري ، وغيرهم .
تنبيه :
على فرض صحة أحاديث سلام الخطيب على المأمومين ، فإن هذه الأحاديث منها ما جاء فيه ذكر السلام مبهماً ، ومنها ما فسر بقوله : " السلام عليكم " دون ورحمة الله وبركاته ، فهل يقتصر على ما ورد ، أو يؤخذ بالأكمل كما في الحديث الذي صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم عند أبي داود والترمذي والنسائي من حديث عمران بن حصين قال : ( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم فردَّ عليه السلام ، ثم جلس فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عشر ) ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله، فردَّ عليه فجلس فقال: ( عشرون ) ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، فردَّ عليه فجلس فقال : ( ثلاثون ) ( (469) انظر : سنن أبي داود ( 5/ 379 رقم 5195 ) والترمذي ( 5/ 53 رقم 2689 ) والنسائي في عمل اليوم والليلة ص( 287 رقم 337) . 469) ؟ .
وحاصل هذه المسألة فيما يظهر لي أن الأمر في ذلك واسع ، وأنه وإن لم يصح بخصوص الجمعة شيء عند من يضعف ذلك ، فعموم الأحاديث الدالة على السلام على المسلمين تؤيد ذلك ، وعموم حديث عمران بن حصين السابق يدل على أفضلية السلام بتمامه ، ولو اقتصر على جزء منه ، كأن يقول : السلام عليكم ، أو يقول : السلام عليكم ورحمة الله ، فلا بأس ، لكنه ترك الأكمل . والله أعمل .
39-
ترديد الخطيب وهو على المنبر خلف المؤذن
أخرج الشيخان عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال : ( سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر ، أذن المؤذن قال : الله أكبر الله أكبر ، قال معاوية : الله أكبر الله أكبر ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، فقال معاوية : وأنا . فقال : أشهد أن محمداً رسول الله ، فقال معاوية : وأنا . فلما أن قضى التأذين قال : يا أيها الناس ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس حينما أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالتي ) ( (470) انظر : صحيح البخاري : كتاب الجمعة ، ( حديث رقم 914) . 470) .قلت : هذا الحديث فيه فوائد :
الأولى : أن البخاري بوَّب له في صحيحه فقال :"باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء".
الثانية : تعلم العلم وتعليمه من الإمام وهو على المنبر .
الثالثة: أن الخطيب يجيب المؤذن وهو على المنبر. على اختلاف في هذه الإجابة هل هي واجبة أو مستحبة ؟ على قولين عند أهل العلم . فقال قوم: "إن الإجابة واجبة"، لعموم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الجماعة من حديث أبي سعيد مرفوعاً : ( إذا سمعتم النداء فقولوا مثلها يقول المؤذن ) ( (471) انظر : صحيح البخاري ( حديث رقم 611) ، صحيح مسلم ( حديث رقم 383 ) وأبو داود ( حديث رقم 522) ، والترمذي ( حديث رقم 208) ، والنسائي ( حديث رقم 671) ، وابن ماجه ( حديث رقم 720 ) ، وأحمد (3/6) . 471) .
وقد حكى الطحاوى هذا القول عن قوم من السلف، وبه قالت الحنفية وأهل الظاهر وابن وهب( (472) انظر : فتح الباري ( 2/297 ) ، نيل الأوطار ( 2/ 55) . 472).
وذهب جمهور أهل العلم إلى عدم الوجوب ، واستدلوا بما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مؤذناً ، فلما كبر قال : (على الفطرة ، فلما تشهد قال : خرج من النار) ( (473) انظر : صحيح مسلم ( حديث رقم 382 ) . 473) .
قال الجمهور : لما قال صلى الله عليه وسلم غير ما قاله المؤذن علمنا أن الأمر بذلك للاستحباب ( (474) انظر : فتح الباري (2/ 297) ، نيل الأوطار (2/ 55) . 474) .
الرابعة : أن ترديد الخطيب يكون بصوت يسمع من حوله ، كما هو نص الحديث .
الخامسة : أن فيه جلوس الخطيب قبل الخطبة ( (475) انظر : فتح الباري ( 3/ 57) . 475) .
تنبيه :
هل يقول الخطيب بعد هذا الترديد ما ورد من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وسؤال الله له الوسيلة ؟
الظاهر من حديث معاوية هذا أنه لم يذكره . لكن هل يعني اقتصار الراوي على هذا أنه لم يذكره مطلقاً، أو أنه لم يذكره جهراً كما ذكر غيره ولكنه ذكره في نفسه فلم ينقله الراوي ؟.
فالجواب: أن الأمر يحتمل هذا وهذا ، ولكن لعل الأقرب والأظهر أن كانت وحي النبي صلى الله عليه وسلم لن يقتصر في هذا الموضع على بعض سنته صلى الله عليه وسلم ويدع بعضها ، لاسيما إذا كان المتعلق واحداً ، وأن فعل معاوية كان من باب الإخبار بالسنة . ثم على فرض أنه لم يذكره،فإن سنة النبي صلى الله عليه وسلم دالة على إجابة المؤذن وإتباع الإجابة بالصلاة عليه وسؤال الله له الوسيلة كما جاء في الأحاديث مطلقاً دون تقييد بوقت معين. والله أعلم.
فائدة :
تحدث ابن القيم رحمه الله واصفاً شيئاً من خطبته صلى الله عليه وسلم بقوله : " وكان منبره ثلاث درجات ، فإذا استوى عليه ، واستقبل الناس ، أخذ المؤذن في الأذان فقط ، ولم يقل شيئاً قبله ولا بعده ، فإذا أخذ في الخطبة ...... الخ " ( (476) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ) . 476) . اهـ .
وقال في موضع آخر : " ويأخذ بلال في الأذان ، فإذا فرغ منه قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب من غير فصل بين الأذان والخطبة ، لا بإيراد خبر ولا غيره " ( (477) انظر : نفس المصدر السابق (1/ 429) . 477) . اهـ .
قلت : ظاهر كلام ابن القيم هنا أنه يرى أن الخطيب لا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان ، ولا يقول شيئاً غير الخطبة . فهل هذا هو واقع كلام ابن القيم ؟ .
الجواب : أن كلامه يحتمل أمرين :
الأمر الأول :
أنه لم يبلغه حديث معاوية السابق الخاص بالترديد من على المنبر ، أم ربما غاب عنه الاستشهاد بحديث معاوية ، أو بالأحاديث العامة الدالة على إجابة المؤذن وسؤال الوسيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك .
الأمر الثاني :
يحتمل أن ابن القيم رحمه الله لم يغب عنه سنة النبي صلى الله عليه وسلم في الترديد ، ولكنه أورد كلامه السابق في معرض الرد على عادة بعض الخطباء في قراءة حديث الإنصات عند الصعود على المنبر ، أو بعد فراغ المؤذن وقبل الخطبة . ولعل هذا الاحتمال هو الأظهر ؛ لأنه قال : " لا بإيراد خبر ولا غيره " . ويؤكد هذا أنه يمكن أن يكون ابن القيم ممن يرى سنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان للخطيب ، ولكنه لا يجهر بها كما هو الحال في حديث معاوية السابق ويحمل نفيه رحمه الله على الأشياء التي يجهر بها . والعلم عند الله تعالى .
40- إقبال الخطيب بوجهه على المأمومين ، وعدم التفاته يميناً وشمالاً :
اعتاد بعض الخطباء على الالتفات يميناً وشمالاً أثناء الخطبة ، أو عند الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وهم على المنبر .
ولأهل العلم في هذه المسألة كلام أورد بعضه ، لأجل إيضاح المقصد .
فقد قال الشافعي : " ولا أحب أن يلتفت يميناً ولا شمالاً ليسمع الناس خطبته ؛ لأنه إِنْ كان لا يسمع أحد الشقين إذا قصد بوجهه تلقاءه ، فهو لا يلتفت ناحية يسمع أهلها إلا خفي كلامه على الناحية التي تخالفها مع سوء الأدب من التلفت " ( (478) انظر : الأم ( 1/ 334) . 478) . اهـ .
وذكر الكاساني استحباب أن يستقبل الإمام المأمومين بوجهه ، وبين أن الاستماع لا يتكامل إلا بالمقابلة ( (479) انظر : البدائع (2/ 198) . الفتاوي التاتار خانية (2/61) . 479) . اهـ . فمعنى هذا أن الالتفات يقطع تكامل الاستماع عنده .
ونقل النووي في المجموع عن صاحب الحاوي وغيره أن هذا الالتفات باطل لا أصل له ، واتفق العلماء على كراهة هذا الالتفات ، وهو معدود من البدع المنكرة ( (480) انظر : المجموع ( 4/ 357) . 480) . اهـ .
وقال الماوردي : "ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، ولا يفعل ما يفعله أئمة هذا الوقت من الالتفات يميناً وشمالاً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ليكون متبعاً للسنة" ( (481) انظر : الحاوي الكبير (2/ 441) . 481) . اهـ .
قلت : وأنت ترى الماوردي هنا يشكو ما يفعله بعض خطباء زمانه ، ومعلوم أن الماوردي قد توفي سنة 450 من الهجرة .
وقد ذكر ابن قدامة وغيره : أن من سنن الخطبة أن يقصد الخطيب تلقاء وجهه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، ولأنه أبلغ في سماع الناس وأعدل بينهم ، فإنه لو التفت إلى أحد جانبيه لأعرض عن الجانب الآخر ( (482) انظر : المغني ( 3/ 178) . 482) . اهـ .
وقد قال القاسمي في كتابه إصلاح المساجد : " ولا أصل لذلك ، بل السنة استقبال الناس بوجهه من أول الخطبة إلى آخرها " ( (483) انظر : إصلاح المساجد ص( 48) والكلام هو لأبي شامة في الباعث . 483) . اهـ .
قلت : وقد استدل من منع من الالتفات بما رواه عدي بن ثابت عن أبيه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله أصحابه بوجوههم) رواه ابن ماجة ( (484) انظر : سنن ابن ماجة ( 1/ 360 رقم 1136) . 484).
وأخرج الترمذي نحوه عن ابن مسعود ( (485) انظر : سنن الترمذي (2/ 383 رقم 509 ) . 485) . وقال الترمذي : " لا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء . والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم " . اهـ .
وقد جاء عند مسلم في العيدين الحديث وفيه : ( قام صلى الله عليه وسلم فأقبل على الناس وهم جلوس في مصلاهم ) ( (486) انظر : صحيح مسلم ، كتاب العيدين ، حديث رقم ( 889) . 486) .
وقد خالف أبو حنيفة في ذلك ، فذهب على مشروعية الالتفات يميناً وشمالاً . فقد قال صاحب البيان : " وقال أبو حنيفة : " يلتفت يميناً وشمالاً كالمؤذن " ( (487) انظر : البيان (2/ 578) . 487) . اهـ .
قال النووي عن كلام أبي حنيفة : " وهذا غريب لا أصل له " ( (488) انظر : المجموع ( 4/ 357) . 488) . اهـ .
قلت : فعلى قول من منع من الالتفات ، فإنه ينبغي أن يستثنى من ذلك التفات الخطيب أثناء الخطبة بسبب أمر يقتضي ذلك ، كما دلَّ عليه ما رواه النسائي عن أبي بكرة يقول : ( لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن معه ، وهو يُقْبل على النَّاس مرَّةً وعليْه مرَّةً، ويقول: إن ابني هذا سيِّدٌ، ولعلَّ الله يصلح بهِ بين فئتين من المسلمين عظيمتين ) ( (489) انظر : سنن النسائي ( 3/ 87) . 489) .
تنبيه :
قال الشيرازي صاحب المهذب : " ومن سننها - أي الخطب - أن يقبل على الناس ، ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً ، لما روى سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا خطبنا استقبلناه بوجوهنا واستقبلنا بوجهه ) ( (490) انظر : المهذب ( 1/ 370) . 490) . اهـ .
قلت : لم أقف على هذا الخبر عن سمرة حسب البحث والتتبع ، ولم أر من ذكر غيره الشيرازي .
وقد أشار النووي في المجموع إلى قول الشيرازي هذا فقال : " وأما حديث سمرة ... " ثم وجدت بياضاً يدل على سقط في كلام النووي ، وهو كذلك في جميع نسخ المجموع ، فلا أدري بماذا علق النووي على حديث سمرة هذا. ولا أعرف أحداً سبق الشيرازي بحديث سمرة.
وقد أخذ العمراني الشافعي هذا عن الشيرازي فاحتج بحديث سمرة في كتابه البيان( (491) انظر : البيان ( 2/578) ، المجموع (4/ 397) . 491). والله أعلم.
41-
إذا استدبر الخطيب المأمومين واستقبل القبلة
السنة على الخطيب أن يستقبل المأمومين حال الخطبة ويستدبر القبلة ، وعلى هذا مضت السنة . غير أنه قد يحصل من بعض الخطباء خلاف ذلك لسبب أو لآخر بحيث يستدبر الخطيب المأمومين ويستقبل القبلة .ولأجل أن ندرك حكم هذه المسألة ، فإنني أورد بعض كلام أهل العلم حولها .
فقد تكلم عن هذه المسألة النووي رحمه الله فقال ما نصه : " قال إمام الحرمين : سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم ، فلو استدبرهم كان قبيحاً خارجاً عن عرف الخطاب ، ولو وقف في آخر المسجد واستقبل القبلة فإن استدبروه كان قبيحاً ؛ وإن استقبلوه . استدبروا القبلة ؛ فاستدبار واحد واستقبال الجمع أولى من عكسه . قال أصحابنا : ولو خالف السنة وخطب مستقبل القبلة مستدبر صحت خطبته مع الكراهة ؛ كذا قطع به جماهير الأصحاب في جميع الطرق ؛ وفيه وجه شاذ أنه لا تصح خطبته . حكاه الدارمي والشاشي وغيرهما ؛ وهو مخالف لما قطع به ؛ وأن له بعض الاتجاه ؛ وطرد الدارمي الوجه فيما إذا استدبروه أو خالفوا هم أو هو الهيئة المشروعة بغير ذلك " ( (492) انظر : المجموع ( 4/ 357) ، التهذيب ( 5/ 241) . 492) . اهـ .
وقال ابن قدامة : " ولو خالف هذا واستدبر الناس واستقبل القبلة صحت الخطبة لحصول المقصود بدونه ، فأشبه ما لو أذَّن غير مستقبل القبلة " ( (493) انظر : المغني : ( 3/ 178) . 493) . اهـ .
وقال ابن عقيل : " ويحتمل أن لا يصح ؛ لأنه ترك الجهة المشروعة، أشبه ما لو استدبر القبلة في الصلاة؛ ولأن مقصود الخطبة الموعظة ، وذلك لا يتم باستدبار الناس " ( (494) انظر : الشرح الكبير ( 5/ 240) . 494) . اهـ.
وقد ذهب الشوكاني إلى عدم وجوب استدبار الخطيب للقبلة واستقباله للحاضرين ، بل جعل ذلك مجرد هيئة حسنة كان يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويفعلها من بعده من الخلفاء الراشدين ومن بعدهم ، ولكن لا دليل يدل على الوجوب ؛ لأن تأدية الذكر المأمور بالسعي إليه ممكنة بدون ذلك ( (495) انظر : السيل الجرار (1/ 298) . 495) .
قلت : المقصود من كلام أهل العلم السابق ذكره ، هو فيما لو استقبل الخطيب القبلة واستدبرهم حال الخطبة والكلام . فلا يدخل في ذلك ما لو استدبرهم حال سجوده للتلاوة ، أو حال استدبارهم لحاجة عارضة وهو لا يخطب ، كأن يستدبرهم ليأخذ حاجة من خلفه أو نحو ذلك كصعوده على المنبر بعد نزوله منه ليأخذ حاجة ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مع الحسن والحسين . والعلم عند الله تعالى .
42-
حكم تلحين الخطبة والترنم فيها
إن المتتبع لأحوال بعض الخطباء ، لاسيما في زمن ليس بالبعيد ، ليلحظ أن عدداً منهم كانوا يترنمون في الخطب ويلحنونها ويقرؤونها كما يقرؤون القرآن أو نحواً من ذلك ، بحيث يكون معها مدٌّ وتمطيطٌ وتغنٍ .ومثل هذا الفعل قد نزل بعض أهل العلم كلاماً وحكماً شرعياً عليه .
فقد روى الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها في وصف حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ( كان يحدث حديثاً لو عدَّه العادُّ لأحصاه ) وقالت : " لم يكن يسرد الحديث كسردكم" ( (496) انظر : صحيح البخاري برقم ( 3568) ، ومسلم برقم ( 2493 ) . 496)، قال الحافظ ابن حجر : "المراد بذلك المبالغة في الترتيل والتفهيم. ( (497) انظر : فتح الباري ( 7/ 275 ) . 497)اهـ.
قلت : قد يظن ظان أن معنى قول الحافظ : ( الترتيل ) أنه هو التغني . والصواب أنه ليس كذلك ؛ لأن الترتيل لا يأتي بمعنى التغني والتلحين ، وإنما هو كما قال ابن الأثير : " ترتيل القراءة : التأني فيها ، والتمهل ، وتبيين الحروف والحركات " ( (498) انظر : النهاية ( 2/ 178) . 498) . اهـ .
ويؤكد ابن الأثير ذلك بقوله : "لم يكن يسرد الحديث سرداً "أي يتابعه ويستعجل فيه" ( (499) انظر : النهاية ( 2/ 178) .499).
وروى أبو داود في السنن عن جابر قال : ( كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل ) ( (500) انظر : سنن أبي داود برقم ( 4838 ) . 500) . ونقل صاحب عون المعبود عن المنذري : أن الراوي عن جابر مجهول ( (501) انظر : عون المعبود شرح سنن أبي داود ( 13/ 126 ) . 501) .
قلت : كان في زمن مضى لدى بعض الأوساط النجدية قد انتشر بين خطبائها تلحين الخطب والترنم فيها ، وتكاد هذه الصور تكون انقرضت إلا لدى البعض من كبار السن وغيرهم ، وبشكل خاص في بعض القرى ، أو المدن الصغيرة .
وقد تكلم أهل العلم عن حكم هذا الفعل وما يجب تجاهه ؛ فكان من المناسب أن أسرد أقوالهم طلباً للإفادة والإيضاح :
فقد قال الشافعي : " وأحب أن يكون كلامه مترسلاً ، مبيناً ، معرباً ، بغير الإعراب الذي يشبه العي ، وغير التمطيط وتقطيع الكلام ومدِّه، وما يستنكر منه .. الخ ( (502) انظر : الأم ( 1/ 343 ) . 502) . اهـ .
وقد اختار الشافعي هذا الشيرازي صاحب المهذب ( (503) انظر : المهذب ( 1/ 370) . 503) .
وقال البغوي : " ولا يمد الكلمات مدّاً يجاوز الحد ، ويحترز عن التغني وتقطيع الكلام ( (504) انظر : التهذيب (2 / 342 ) . 504) " . اهـ .
وقال النووي : " يستحب كون الخطبة فصيحة بليغة ، مرتبة مبينة ، من غير تمطيط ولا تقعير ( (505) انظر : المجموع ( 4/ 358) . 505) " . اهـ .
وقال أيضاً : " التمطيط : الإفراط في مد الحروف . يقال مطَّ كلامه إذا مدَّه ، فإذا أفرط فيه قيل مططه ( (506) انظر : المجموع ( 4/ 356) .506) " . اهـ .
وقال ابن قدامة : " ويستحب أن يكون في خطبته مترسلاً ، مبيناً ، معرباً ، لا يعجل فيها ولا يمططها ... الخ " ( (507) انظر : المغني ( 3/ 180 ) . 507)
قلت : وعدَّ صاحب الإبداع - وهو الشيخ علي محفوظ - الترنم في الخطيب من البدع المحدثة ، ومثله الشيخ بكر أبو زيد ( (508) انظر : الإبداع في مضار الابتداع ص (45) ، تصحيح الدعاء ص (455) . 508) .
وقد تحدث ابن الجوزي معرضاً بالذي يتغنون في وعظهم ، ويطربون به كالألحان فقال : تأملت أشياء تجري في مجالس الوعظ ، يعتقدها العوام وجهال العلماء قربة ، وهي منكر وبعد . وذاك أن المقرئ يطرب ويخرج الألحان إلى الغناء ، والوعظ ينشد بتطريب أشعار المجنون وليلى ، فيصفق هذا ، ويخرق ثوبه هذا .. ومعلوم أن هذه الألحان كالموسيقى ، توجب طرباً للنفوس ونشوة ، والتعرض لما يوجب الفساد غلط عظيم .. ألا إن الواعظ مأمور بأن لا يتعدى الصواب ، ولا يتعرض لما يفسدهم ( (509) انظر : صيد الخاطر ص ( 107) . 509) . اهـ .
وقد أشار الشيخ محمد رشيد رضا إلى حكم الخطبة بالألحان قائلاً : روى مسلم وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه أنه قال : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ) الحديث . فهذه هي السنة في كيفية أداء الخطبة ، وهذا ما يرجى به التأثير والاتعاظ بها التي شرع لأجله ، وكل أداء يخالفه فهو مكروه ، وأشده كراهة تكلف الألحان والنغمات فيها كما يفعله بعض الترك وغيرهم ، وإذا قيل بحرمة هذه الألحان والنغمات الموسيقية في الخطبة لم يكن بعيداً ؛ لأنه على مخالفته للسنة الصحيحة تشبه بالكفار في خطبهم الدينية وعبادتهم ولو من بعض الوجوه ، فإن لم يكن تشبهاً لاشتراط القصد في معنى التشبه كان تركاً لما أمرنا به من مخالفتهم في أمثال هذه الأمور ، ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصيام عاشوراء وقيل له إن اليهود تصومه أمر بمخالفتهم بصيام يوم قبله أو بعده ، ولأنه مفوت لحكمة الدين في الخطبة وهو الزجر المؤثر في القلوب ، والوعظ الذي يزع النفوس ، وهذه النغمات من اللهو الذي ترتاح إليه النفوس وتستلذه ، وترويح النفوس بالمباح غير محظور ، ولكن الخطبة لم تشرع له ، والمساجد لم تبن لأجله . وقد صارت الخطبة في أكثر البلاد الإسلامية رسوماً تقليدية مؤلفة من أسجاع متكلفة كسجع الكهان ، وتؤدى بنغمات موقعة كنغمات القسوس والرهبان ( (510) انظر : مجلة المنار ( 15 / 28 ) . 510) . اهـ .
43-
الخطبة بغير العربية أو ترجمتها لغير العربية
قبل أن أتحدث عن حكم الخطبة بغير العربية أود أن أجعل مقدمة لهذا الحديث بكلام للشيخ محمد رشيد رضا عن هذا الموضوع يقول فيه : " قد بينا غير مرة ، أن معرفة اللغة العربية واجبة على كل مسلم ؛ لأن فهم الدين وإقامة شعائره وأداء فرائضه ، كل ذلك موقوف على فهْم هذه اللغة ، ولا تصح إلا بها ، وخطبة الجمعة من أقلها تأكيداً وثبوتاً ، وإن كانت من أكبر الشعائر فائدة . وقد كان الذين يدخلون في الإسلام من الأعاجم على عهد الصدر الأول يبادرون إلى تعلم اللغة العربية ؛ لأجل فهم القرآن والسنة والارتباط بصلة اللغة التي لا تتحقق وحدة الأمة بدونها ، وكان الصحابة يخطبون الناس باللغة العربية في كل بلاد يفتحونها ، وما كان يمر الزمن الطويل على بلاد يدخلونها إلا وتتحول لغتها إلى لغتهم في زمن قصير بتأثير روح الإسلام ، لا بالترغيب الدنيوي ولا بقوة الإلزام ، ولو كانوا يرون إقرار من يدخل في دينهم من الأمم الأعجمية على لغاتهم لبادروا هم إلى تعليم لغات تلك الأمم ، وأقاموا لهم فرائض الدين وعباداته بها ، وبقي الروماني رومانيّاً ، والفارسي فارسيّاً وهلم جرا .وأن التفريق الذي نراه اليوم في المسلمين باختلاف اللغات ، هو من سيئات السياسة ومفاسدها الكبرى ، وإذا لم ترجع الدولتان العثمانية والإيرانية ، إلى السعي في تعميم اللغة العربية في مملكتيهما ، فسيأتي يوم تندمان فيه ، وإننا لا نعتد بإصلاح في الهند ، ولا بغيرها من بلاد المسلمين ، ما لم يجعل ركن التعليم الأول تعلم العربية وجعلها لغة العلم " ( (511) انظر : مجلة المنار ( 6/ 496) . 511) . اهـ .
قلت : لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه يشترط في خطبة الجمعة أن تكون باللغة العربية ، كما أنه لم يأت ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أو أحد من الصحابة أو القرون المفضلة قد خطب الجمعة بغير العربية مع وجود الأعاجم وانتشارهم في بلاد المسلمين بعد الفتوحات الإسلامية . وإنما كان صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ومن بعدهم يخطبون باللغة العربية ، لأنها لغتهم ولغة قومهم ، ومن ثم فقد تنازع العلماء في جواز الخطبة بغير العربية أو ترجمتها . وإليك بعض أقوالهم في هذا :
فقد قال ابن العلاء الأنصاري الحنفي : " ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال ، وروى بشر عن أبي يوسف : إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزيه ، إلا أن يكون ذكر الله في ذلك بالعربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزي في الخطبة ذكر الله تعالى ، وما زاد فهو فضل ، قال الحاكم أبو الفضل : " هذا خلاف قوله المشهور " ( (512) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2/ 60) . 512) . اهـ .
وقال القاضي البغدادي المالكي : " قال ابن القاسم : لا يجزيه - أي في الخطبة - إلا أن يأتي بما يكون عند العرب خطبة ( (513) انظر : المعونة (1/ 573) . 513) . اهـ .
وقال أبو الحسين العمراني الشافعي : " ويشترط أن يأتي بالخطبة بالعربية ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يخطبون بالعربية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) " .
فإن لم يوجد فيهم من يحسن الخطبة بالعربية احتمل أن تجزئهم الخطبة بالعجمية ، ويجب أن يتعلم واحد منهم الخطبة بالعربية ، كما قلنا في تكبيرة الإحرام ( (514) انظر : البيان ( 2/ 573) . 514) . اهـ .
وقد صحح النووي اشتراط الخطبة بالعربية كالتشهد وتكبيرة الإحرام مع قوله صلى الله عليه وسلم ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بالعربية . وهذا هو أحد الطريقين عند الشافعية ( (515) انظر : المجموع ( 4/ 391) . 515) .
وقال المرداوي الحنبلي : " لا تصح الخطبة بغير العربية مع القدرة على الصحيح من المذهب . وقيل.: تصح . وتصح مع العجز ، قولاً واحداً ، ولا تعبر عن القراءة بكل حال" ( (516) انظر : الإنصاف (5/ 219) . 516). اهـ.
وقد صحح الحافظ ابن رجب عدم إجزاء الخطبة بغير العربية مع القدرة ( (517) انظر : حاشية الروض المربع . لابن قاسم (2/ 450) . 517) .
وقال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية رحمه الله : " لابد من إلقاء الخطبة باللغة العربية ، وإذا كان جميع الذين يحضرون الخطبة لا يفهمون خطبة الجمعة لجهلهم اللغة العربية فينبغي للخطيب أن يشرح لهم معانيها باللغة المحلية بعد الفراغ من إلقائها لتحصل لهم الفائدة المقصودة من الخطبة " ( (518) انظر : فتاوى الشج محمد بن إبراهيم ( 3/ 19 - 20 ) . 518) . اهـ . فالشيخ رحمه الله يرى أن الخطبة لا تصح إلا باللغة العربية . ولا مانع من ترجمتها بعد انقضائها كما ترى .
وقد وجه سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز أقوال أهل العلم في هذه المسألة إلى قولين اثنين مع تعليلاتهما والترجيح فقال ما حاصلة :
1- منع من ذلك بعض أهل العلم سدّاً للذريعة ومحافظة على اللغة العربية ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، وفعله صلى الله عليه وسلم مفسر لما هو واجب وهو الأمر بإقامة الجمعة والسعي إليها والاستماع إلى ذكر الله ، وما فسر الواجب فهو واجب . وعلى هذا سار الأسلاف ، حتى إنهم كانوا يلقونها بالعربية في بلاد العجم وغيرها ، وحثّاً للناس على تعلم اللغة العربية التي هي لغة القرآن .
2- وذهب آخرون من أهل العلم إلى جواز ذلك إذا كان المخاطبون أو لا أكثرهم لا يعرفون اللغة العربية نظراً للمعنى الذي من أجله شرع الله الخطبة ، وهو إبلاغ الناس حتى يفهموا ما شرعه الله لهم ، وما نهاهم عنه بناءً على أن القصد هو مراعاة المعاني والمقاصد ، الذي هو أولى من مراعاة الألفاظ والرسوم ، لأن المنع من ذلك والناس لا يفهمون يذهب المقصود الذي شرعت من أجله الخطبة وهو التذكير والبلاغ ( (519) انظر : فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز (12/ 372) . 519) . اهـ .
ثم يتحدث سماحة شيخنا عن الترجيح بين القولين فيقول :
ولعل الأظهر والأقرب - والعلم عند الله تعالى - أن يفصَّل في المسألة . فيقال : إن كان معظم من في المسجد من الأعاجم الذين لا يفهمون اللغة العربية فلا بأس من إلقائها بغير العربية أو إلقائها بالعربية ومن ثم ترجمتها .
وأما إن كان الغالب على الحضور هم ممن يفهمون اللغة العربية ويدركون معانيها في الجملة ، فالأولى والأظهر الإبقاء على اللغة العربية وعدم مخالفة هدى النبي صلى الله عليه وسلم ، لاسيما وقد كان السلف يخطبون في مساجد يوجد بها أعاجم ، ولم ينقل أنهم كانوا يترجمون ذلك ؛ لأن العزة كانت للإسلام والكثرة والسيادة للغة العربية .
وأما ما يدل على الجواز عند الحاجة فإن لذلك أصلاً في الشريعة وهو قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ( (520) سورة إبراهيم: الآية4520)ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لما غزوا بلاد العجم من فارس والروم لم يقاتلوهم حتى دعوهم إلى الإسلام بوساطة المترجمين ( (521) انظر : فتاوى الشيخ عبدالعزيز بن باز (12/ 372) .521) . اهـ .
ووافق سماحة الشيخ على هذه المسألة اللجنة الدائمة للإفتاء بالمملكة العربية السعودية ، واختاره شيخنا العلامة محمد بن صالح العثيمين كما في شرحه على الزاد ( (522) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ( 8/ 253) ، الشرح الممتع ( 5/ 78) . 522) .
فقد قال شيخنا العلامة محمد بن عثيمين في شرحه على زاد المستنقع : " إن كان يخطب في عرب فلابد أن تكون بالعربية ، وإن كان يخطب في غير العرب قال بعض العلماء : لابد أن يخطب أولاً بالعربية ، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده .
وقال آخرون : لا يشترط أن تكون بالعربية بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم ، وهذا هو الصحيح لقوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } ( (523) سورة إبراهيم: الآية4523) " . ولا يمكن أن ينصرف الناس عن موعظة وهم لا يعرفون ماذا قال الخطيب ؟ والخطبتان ليستا مما يتعبد بألفاظهما حتى نقول لابد أن تكونا باللغة العربية ، لكن إذا مرَّ بالآية فلابد أن تكون بالعربية ؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية ( (524) انظر : الشرح الممتع ( 5/78) . 524). اهـ .
وفي قرار مجلس المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي ما يلي : الرأي الأعدل : " هو أن اللغة العربية في أداء خطبة والعيدين ، في غير البلاد الناطقة بها ، ليست شرطاً لصحتها ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة وما تضمنته من آيات قرآنية باللغة العربية ، لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن ، مما يسهل تعلمها ، وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها ، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم به بلغتهم التي يفهمونها " ( (525) انظر : الاختيارات الجلية في المسائل الخلافية . للبسام ( 1/ 281) . 525) . اهـ .
هذا حاصل ما وقفت عليه في هذه المسألة .
يبقى سؤال وهو : متى تكون الترجمة إذا احتيج إليها ؟
فالجواب : أن من أهل العلم من أجاز الترجمة في أي وقت شاء سواء كان ذلك قبل الخطبة ، أو أثناءها ، أو بين الخطبتين ، أو بعد انتهاء الخطبة كلها ، رعاية للمقصود والنفع العام .
والذي يظهر لي - والله تعالى أعلم - أن تكون كما سبق ذكره قبل الخطبة مطلقاً أو بعدها مطلقاً ؛ لأن المقصود الإفهام ، وهو يحصل بما ذكرت ، ولأن في الترجمة أثناء الخطبة أو بين الخطبتين أو بعدها وقبل الصلاة إطالة وتشويشاً ونقصاً في الموالاة .
قال ابن قدامة رحمه الله : " والموالاة شرط في صحة الخطبة ، فإن فصل بعضها من بعض بكلام طويل أو سكوت طويل أو شيء غير ذلك يقطع الموالاة استأنفها ، والمرجع من طول الفصل وقصره إلى العادة . وكذلك يشترط الموالاة بين الخطبة والصلاة " ( (526) المغني ( 3/ 181) . 526) . اهـ .
قلت : ولعل الفاصل اليسير الذي لا يخل بالموالاة للحاجة لا يقطع ذلك ، فقد أخرج أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أنس قال : ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر ، فيعرض له الرجل في الحاجة فيقوم معه حتى يقضي حاجته ثم يقوم فيصلي) ( (527) انظر: سنن أبي داود (1/ 668رقم 1120) الترمذي ( 2/ 394 رقم 517) النسائي(3/ 91)ابن ماجة ( 1/ 354رقم 1117) 527) .
هذا حاصل زبدة هذه المسألة ، والعلم عند الله تعالى .
44-
مفهوم الموعظة
يخطئ بعض الناس - من خطباء وغيرهم - في مفهوم الموعظة ، وماهيتها ، فقصرها بعضهم على التخويف والنذارة ، وقصرها آخرون على الترغيب والبشارة ، ونتيجة هذين القولين أحدثت نقداً من البعض - بسبب قصور هذا الفهم - على بعض الخطباء الذين يتكلمون في خطبهم عن بعض الأحداث المعاصرة ، سواء كانت اجتماعية ، أو اقتصادية ، أو سياسية ، أو أحداث ومتغيرات واقعية ، أو نحو ذلك ، والتعليق عليها بما ينفع المسلمين ، ومن ثم فقد يوجه اللوم على من يسير على هذه الطريق بأنه لا يهتم بالوعظ في خطبة ، وإنما خطبه خارجة عن نطاق الوعظ ، ولو أنه فعل كذا وكذا .. الخ .وأقول بياناً لهذا المفهوم البعيد عن الصواب :
الوعظ في اللغة :
قال في الصحاح : الأمر بالطاعة والوصية بها ، والنصح والتذكير بالعواقب . نقول : وعظته وعظاً فاتعظ ، أي قبل الموعظة ( (528) انظر : الصحاح ( 3/ 985 مادة وعظ ) . 528) .
قال في المصباح المنير : " وعظه يعظه وعظاً وعظة : أمره بالطاعة ووصاه بها ، وعليه قوله تعالى{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ}( (529) سورة سبأ ، آية : 46 . 529) أي أوصيكم وآمركم ، فاتعظ أي ائتمر وكف نفسه" . والاسم : الموعظة ، وهو واعظ ، والجمع وعاظ ( (530) انظر : المصباح المنير للفيومي ص ( 343 مادة وعظ ) . 530) . اهـ .
وقال الراغب الأصفهاني : الوعظ : زجر مقترن بتخويف . قال الخليل : هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب ( (531) انظر : مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني ص (876) . 531) . اهـ .
فتبين إذن أن العظة في اللغة هي الأمر والتذكير .
والوعظ في الاصطلاح :
قال عنه العلامة محمد الأمين الشنقيطي ما نصه : فإن قيل يكثر في القرآن إطلاق الوعظ على الأوامر والنواهي كقوله هنا : { يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }( (532) النحل90532) مع أنه ما ذكر إلا الأمر والنهي في قوله : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ } إلى قوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء } وكقوله في سورة البقرة بعد أن ذكر أحكام الطلاق والرجعة : { ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ( (533) سورة البقرة ، 232 . 533) وقوله في النهي عن مثل قذف عائشة : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً } ( (534) سورة النور ، آية : 17 . 534) مع أن المعروف عند الناس أن الوعظ يكون بالترغيب والترهيب ونحو ذلك ، لا بالأمر والنهي ؟ .
فالجواب : أن ضابط الوعظ هو الكلام الذي تلين له القلوب ، وأعظم ما تلين له قلوب العقلاء أوامر ربهم ونواهيه ، فإنهم إذا سمعوا الأمر خافوا من سخط الله في عدم امتثاله ، وطمعوا فيما عند الله من الثواب في امتثاله . وإذا سمعوا النهي خافوا من سخط الله في عدم اجتنابه ، وطمعوا فيما عنده من الثواب في اجتنابه ، فحداهم حادي الخوف والطمع إلى الامتثال ، فلانت قلوبهم خوفاً وطمعاً ( (535) انظر : أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي ( 3/349) . 535) . اهـ .
قلت : وبهذا يتضح غلط من قصر مفهوم الوعظ على مجرد الترغيب أو الترهيب ، أو عليهما جميعاً ، وبه يتبين كذلك أن كل ما أوصل إلى التذكر أو تصحيح الخطأ في كل شأن من شئون الناس الدينية أو الدنيوية فهو من الوعظ ، ولذلك جاء الوعظ حتى في الأمر والنهي كما ذكر العلامة الشنقيطي آنفاً .
وأقول - زيادة على آيات الطلاق التي أوردها رحمه الله - كذلك آيات الظهار ، حيث قال جل شأنه { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } ( (536) سورة المجادلة ، آية : 3 . 536) وهذا في جانب فقهي بحت، وقال سبحانه :{قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}( (537) سورة سبأ ، آية : 46 . 537) وهذا في جانب العقائد ، وقال سبحانه : { فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } ( (538) سورة النساء ، آية : 34. 538) وهذا في جانب تأديب الزوج زوجته ، وقال سبحانه عن موسى : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً } ( (539) سورة الأعراف ، آية : 145 . 539) فهنا أتى بكلمة ( شيء ) وهي نكرة في سياق الإثبات فلا تفيد العموم ، ولكنها أفادت العموم في هذه الآية بدخول كلمة ( كل ) ، فدل على أنه كتب له في كل شيء موعظة ، فلم يخص أمراً دون آخر .
وبهذا يتضح أن مفهوم الموعظة فيه عموم واسع ، وأن من قصره على مجرد الترغيب أو الترهيب فهو مخطئ . والعلم عند الله تعالى .
45-
مراعاة الخطيب المقتضى الحال في الخطبة
الأولى للخطيب أن يراعي في خطبته مقتضى الحال التي يعيشها الناس ، فلا تكون خطبته بعيدة عن واقعهم ، وما يحتاجون إليه في النصح والتوجيه ، أو أن تغلب الرتابة والتكرار في معظم الخطب . وهذا أمر معلوم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم .فقد تحدث ابن القيم رحمه الله عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته حيث قال : وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته ، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها .
وقال أيضاً في موضع آخر : وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم ( (540) انظر : زاد المعاد ( 1/ 189 ، 428 ) . 540) . اهـ .
قلت : ويستدل لكلام ابن القيم بما رواه النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : ( جاء رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب بهيئة بذة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أصليت ؟ قال : لا . قال : صل ركعتين . وحث الناس على الصدقة ، فألقوا ثياباً فأعطاه منها ثوبين ، فلما كانت الجمعة الثانية جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، فحث الناس على الصدقة ، قال : فألقي أحد ثوبيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة ، فأمرت الناس بالصدقة فألقوا ثياباً فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة، فألقى أحدهما، فانتهره، وقال: خذ ثوبك)( (541) انظر : سنن النسائي ( 3 / 87 ) . 541)
وهذا الحديث يدل بوضوح على مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لمقتضى الحال في خطبة الجمعة ، وعلى هذا كان فعل السلف من بعده .
فقد جاء عن الفاروق رضي الله عنه فيما رواه مسلم في صحيحه ، عن معدان بن أبي طلحة أن عمر بن الخطاب خطب يوم الجمعة فذكر نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر أبا بكر ، قال : إني رأيت كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات ، وإني لا أراه إلا حضور أجلي ، وإن أقواماً يأمرونني أن أستخلف ، وإن الله لم يكن ليضيع دينه ولا خلافته ، ولا الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم فإن عجل بي أمر ، فالخلافة شورى بين هؤلاء الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض ، وإني قد علمت أن أقواماً يطعنون في هذا الأمر ، أنا ضربتهم بيدي هذه على الإسلام ، فإن فعلوا ذلك فأولئك أعداء الله الكفرة الضلال . ثم إني لا أدع بعدي شيئاً أهم عندي من الكلالة ، ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه ، حتى طعن بأصبعه في صدري ، فقال : يا عمر ، ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ، وإني إنْ أعش أقض فيها بقضية يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن ، ثم قال : اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار ، وإني إنما بعثتهم عليهم ليعدلوا عليهم ، وليعلِّموا الناس دينهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويقسموا فيهم فيئهم ، ويرفعوا إليَّ ما أشكل عليهم من أمرهم . ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين ، هذا البصل والثوم ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع ، فمن أكلهما فليمتهما طبخاً ) ( (542) انظر : صحيح مسلم ، كتاب الفرائض ، حديث رقم ( 1617 ) . 542) .
قلت : وفعل عمر هذا دليل جلي على مراعاة مقتضى الحال في خطب الجمعة ، وأنها ليست على رتابة دائمة . والله أعلم .
وما أحسن ما تحدث به الشيخ محمد أبو زهرة عن هذا الجانب المهم - وهو مراعاة مقتضى الحال - فقد قال ما نصه : ( مراعاة مقتضى الحال لب الخطابة وروحها ، فلكل مقام مقال ، ولكل جماعة من الناس لسان تخاطب به ، فالجماعة الثائرة الهائجة تخاطب بعبارات هادئة ، لتكون برداً وسلاماً على القلوب . والجماعة الخنسة الفاترة ، تخاطب بعبارات مثيرة للحمية ، موقظة للهمم ، حافزة للعزائم ، والجماعة التي شطت وركبت رأسها ، تخاطب بعبارات فيها قوة العزم ونور الحق ، فيها إرعاده المنذر ، ويقظة المنقذ ، واعتزامة الأيد القوى ، وفيها روح الرحمة ، وحسن الإيثار ، ليجتمع الترهيب مع الترغيب ، ومع سيف النقمة ريحان الرحمة ، لذلك وجب أن يكون الخطيب قادراً على إدراك الجماعة وما تقتضيه ، والإتيان بالأسلوب الذي يلائمه ( (543) انظر : الخطابة لمحمد أبي زهرة ص ( 56 ) . 543) ) . اهـ .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا - واصفاً مراعاة الخطيب لمقتضى الحال - : " بيَّنا لك أن خير الخطب ما كان مصدره نفس الخطيب وشعوره وإحساسه ، لا نفس غيره ممن مضت بهم القرون ، وكانوا في عالم غير عالمنا ، ولهم أحوال تخالف حالنا ، فمن أراد العظة البالغة ، والقولة النافذة ، فليرم ببصره إلى المنكرات الشائعة ، والحوادث الحاضرة ، خصوصاً ما كان منها قريب العهد ، لا تزال ذكراه قائمة في صدور الناس ، وحديثه دائراً على ألسنتهم ، أو ذائعاً في صحفهم ، أو تراه مشاهداً بينهم ، ثم يتخير من هذه الحوادث ما يجعله محور خطابته ومدار عظته ، ثم ينظر ما ورد من الآيات والأحاديث الصحيحة في الموضوع الذي تخيره ويجيد فهمها ، ويفكر في الأضرار المالية والصحية والخلقية والاجتماعية التي قد تنشأ عن هذه الجريمة التي جعلها موضع عظته ، ويحصي هذه الأضرار في نفسه أو بقلمه . هذا إذا أرد التنفير من رذيلة ، أو الإقلاع عن جريمة ذاع بين الناس أمرها ، أو طفح عليهم شرها ، فإن أراد الترغيب في فضيلة ، أو الحث على عمل خيري ، أو مشروع حيوي ، فليفكر في مزاياه تفكيراً واسعاً مراعياً الصالح العام دون المآرب الخاصة ( (544) انظر : مجلة المنار ( 29 / 340 ) . 544) . اهـ .
وفي سؤال للجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة سماحة شيخنا العلامة عبدالعزيز بن باز ونصه : " هل يصح أن يتدخل الخطيب أثناء الخطبة في مواضيع تواجه الحياة ؟ وتدخل بعض الشيوخ في السياسة ؟ "
فأجابت اللجنة بما نصه : " للخطيب أن يبين في خطبة الجمعة وفي دروسه ومحاضراته ما تحتاجه الأمة من المعارف النافعة ، وأن يعالج أمر الشعب ، ويحل مشاكلهم قدر استطاعته ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، سواء سمي ذلك سياسة أو خطبة جمعة ، أو تعليماً أو إرشاداً ، وما كان يترتب عليه من كلامه فتنة أو مفسدة راجحة على ما يقصد من المصلحة أو مساوية لها ترك الحديث فيه إيثاراً للمصلحة الراجحة ، أو حذراً من وقوع ما لا تحمد عقباه . وبالله التوفيق ... الخ " ( (545) انظر : فتاوى اللجنة الدائمة ( 8 / 230 ) . 545)
46-
مفهوم قصر الخطبة وطول الصلاة
هذه مسألة مهمة يغفل عنها عدد من الخطباء ليس بالقليل ، ألا وهي مسألة قصر الخطبة وطول الصلاة ، فالناس فيها بين الإفراط والتفريط إلا من رحم الله ، فبعضهم يطيل إطالة مملة فيخالف بذلك السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وآخرون يقصرونها قصراً مخلاً بحيث تقل فائدتها المرجوة منها ، وسبب ذلك هو عدم فهم الحديث الوارد في هذه المسألة فهماً صحيحاً .قال أبو وائل : خطبنا عمار فأوجز وأبلغ . فلما نزل قلنا : يا أبا اليقظان ! لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست - أي أطلت قليلاً ! - فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه - أي علامة - فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن من البيان سحراً ) رواه مسلم ( (546) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 594 رقم 869 ) . 546) .
وقد كره الشافعي إطالة الخطبة فقال : " وأحب أن يكون كلامه - أي الخطيب - قصداً بليغاً جامعاً.. وإذا فعل ما كرهت له من إطالة الخطبة، أو سوء الأدب فيها.. الخ"( (547) انظر : الأم ( 1 / 344 ) . 547).
وقال ابن حزم : " ولا تجوز إطالة الخطبة " ( (548) انظر : المحلى ( 5 / 60 ) . 548) . اهـ .
وقال النووي رحمه الله : المراد من الحديث أن الصلاة تكون طويلة بالنسبة إلى الخطبة لا تطويلاً يشق على المأمومين . ( (549) انظر : شرح النووي ( 6/ 159 ) . 549) اهـ .
وقد ثبت عند مسلم من حديث جابر بن سمرة قال : كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً ( (550) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 591 رقم 866 ) . 550) .
قال النووي رحمه الله : أي بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق ( (551) انظر : شرح النووي لمسلم ( 6/ 159 ) . 551) .اهـ .
وقال أيضاً : يستحب تقصير الخطبة للحديث المذكور وحتى لا يملوها ، قال أصحابنا : " ويكون قصرها معتدلاً ولا يبالغ بحيث يمحقها ( (552) انظر : المجموع ( 4 / 358 ) . 552) .اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : " قوله ( قصداً ) القصد : الوسط ، أي لا قصيرة ولا طويلة " ( (553) انظر : التلخيص الحبير ( 2/ 64 ) . 553) . اهـ .
وقال ابن القيم : " وكان صلى الله عليه وسلم يقصر في خطبته أحياناً ويطيلها أحياناً بحسب حاجة الناس ، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة " ( (554) انظر : زاد المعاد ( 1 / 191 ) . 554) . اهـ .
وقال الحافظ ابن حجر : " وقد اتفق العلماء على مدح الإيجاز والإتيان بالمعاني الكثيرة بالألفاظ اليسيرة ، وعلى مدح الإطناب في مقام الخطابة بحسب المقام " ( (555) انظر : فتح الباري ( 11 / 404 ) . 555) . اهـ .
وقال الحسين العمراني : " ويستحب أن يقصر الخطبة . قال الشافعي في القديم : يخطب بقدر أقل سورة ولم يعين . وقد بينه في الأم فقال : أن يأتي بالألفاظ الواجبة التي ذكرناها " ( (556) انظر : الأم ( 1/ 187 ) ، البيان ( 2/ 580 ) . 556) .اهـ .
وقال في الإنصاف : " ويقصر الخطبة . هذا بلا نزاع . لكن تكون الخطبة الثانية أقصر . قاله القاضي في التعليق . والواقع كذلك " ( (557) انظر : الإنصاف ( 5/ 242 ) . 557) . اهـ .
قال أبو محمد : شهدت ابن معدان في جامع قرطبة قد أطال الخطبة ، حتى أخبرني بعض وجوه الناس أنه بال في ثيابه وكان قد نشب في المقصورة ( (558) انظر : المحلى ( 5 / 60 ) . 558) .
قلت : لعل ابن حزم أراد بما أورده عن ابن معدان أثر البعد عن السنة وعدم تطبيقها وذلك بسبب إطالة الخطبة ، خلافاً لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم .
وقد ذكر الحافظ ابن حجر عن الحكم ابن أبي عقيل الثقفي أنه كان نائباً عن ابن عمه الحجاج بن يوسف ، وكان على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج ، وقد أورد أبو يعلى قصة يزيد الضبي وإنكاره على الحكم هذا الصنيع ( (559) انظر : الفتح ( 3 / 48 ) . 559) . اهـ .
قلت : ولأجل أن نصل إلى تحديد تقريبي من حيث فهم معنى طول الصلاة وقصر الخطبة بالتوقيت العصري ، فأقول وبالله التوفيق :
إنك لو قرأت في صلاة الفجر مثلاً بالجمعة والمنافقين قراءة متأنية ؛ لأخذت الصلاة منك ما لا يقل عن عشر دقائق إن لم تصل إلى خمس عشرة دقيقة ، وقد جربت ذلك فوجدته كذلك ، وهذا كله إذا قرأت حدراً مع ركوع الصلاة وسجودها ؛ فكيف بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ينفذ أمر ربِّه { وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } سورة المزمل ، آية : 4 وكان يطيل الركوع والرفع منه ، والسجود والجلوس بين السجدتين ، ويقول راوي الحديث: حتى يقول القائل إنه نسي ( (560) ففي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه : كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وركوعه ، وإذا رفع رأسه من الركوع ، وسجوده وما بين السجدتين قريباً من السواء .
وفي حديث أنس رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي ، وبين السجدتين حتى يقول القائل قد نسي . انظر الحديثين في : صحيح البخاري كتاب الأذان ( حديث 820 ، 821 ) وصحيح مسلم ( 1/ 344 رقم 471 ) . 560) ، فإذا كان الأمر كذلك فقد تصل الركعتان بالنسبة لمن أراد أن يطبق صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عشرين دقيقة أو ما يقاربها على الأقل ، فيكون قصر الخطبة بالنسبة إلى الصلاة أقل من عشرين دقيقة أو يقاربها . هذا على سبيل المثال . وإلا فخير الأمور الوسط كما قال جابر بن سمرة - رضي الله عنه - في الحديث السابق .
ومما يؤكد ما مضى ، هو ما أخرجه ابن شيبة من طريق طاوس قال : " أول من خطب قاعداً معاوية حين كثر شحم بطنه ( (561) انظر : مصنف ابن أبي شيبة ( 2/ 21 ) . 561)" . وهذا الأثر مرسل يعضده ما رواه سعيد بن منصور عن الحسن قال : " أول من استراح في الخطبة يوم الجمعة عثمان ، وكان إذا أعيى جلس ولم يتكلم حتى يقوم ، وأول من خطب جالساً معاوية ( (562) انظر : فتح الباري ( 3 / 64 ) . 562) " .
وروى عبدالرزاق عن معمر عن قتادة : " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يخطبون يوم الجمعة قياماً ، حتى شق على عثمان القيام فكان يخطب قائماً ثم يجلس ، فلما كان معاوية خطب الأولى جالساً ثم يقوم فيخطب الآخرة قائماً " ( (563) انظر : مصنف عبدالرزاق ( 3 / 187 ) . 563) .
فيفهم من هذه الروايات كلها أن الخطبة ليست قصيرة جداً كما يظن البعض ، لأنها لو كانت كذلك لما احتاج عثمان رضي الله عنه إلى أن يجلس فيها جلسة غير الجلسة التي بين الخطبتين ، ولما احتاج معاوية رضي الله عنه أن يجلس كذلك في الخطبة الأولى . فدلَّ ذلك على أن الخطبة وسط بين القصر والطول .
قلت : فالعجب كل العجب من بعض الخطباء الموصوفين بالعلم كيف يطيلون الخطبة حتى يتجاوز بعضهم ثلاثة أرباع الساعة أو أقل قليلاً ؟ ولربما قال الناس ليته سكت . ومن هنا يظهر الفقه الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث .
ولقد صدق ابن مسعود رضي الله عنه حينما قال : إنكم في زمان قليل خطباؤه كثير علماؤه ، يطيلون الصلاة ، ويقصرون الخطبة ، وسيأتي عليكم زمان ، كثير خطباؤه ، قليل علماؤه .. الحديث .
قال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات ( (564) انظر : مجمع الزوائد ( 2/ 417 ) . 564) . اهـ .
ولقد أحسن الشيخ على الطنطاوي حينما تحدث عن عيوب الخطبة في زماننا فقال : " من عيوبها هذا التطويل ، وهذا الإسهاب ، حتى لتزيد الخطبة الواحدة أحياناً على نصف ساعة ، مع أن السنة تقصير الخطبة وتطويل الصلاة ، وألا تزيد الخطبة على سورة من أوساط المفصل ، وكذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ولا خير فيما لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ( (565) انظر : فصول إسلامية ص ( 124 ) . 565) . اهـ .
تنبيه :
هنا إشكال يتعلق بهذه المسألة وهو : هل المراد بالحديثين السابقين من ذكر طول الصلاة وقصر الخطبة متعلق بخطبة الجمعة مع صلاتها فقط ؟ بحيث يفهم منه أن ركعتي صلاة الجمعة ينبغي أن تكونا أول من الخطبة ، أو يفهم منه أن صلاة الجمعة تكون طويلة بالنسبة لعموم صلوات الجمع ، والخطبة تكون قصيرة بالنسبة لعموم خطب الجمع ، لا أن الخطبة تكون أقصر من صلاة الجمعة بخصوصها ؟ أو أن المراد طول صلاة الرجل مطلقاً بحيث تشمل كل الصلوات وقصر خطبة الرجل في الجمعة ؟.
فالجواب : أن الأمر يحتمل هذا وهذا .
قال الشوكاني : وظاهر الأمر بإطالة الصلاة في هذا الحديث - يعني حديث عمار - المخالفة لقوله في حديث جابر بن سمرة : كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً ( (566) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 282 ) . 566) . اهـ .
وقال النووي : لا مخالفة ؛ لأن المراد بالأمر بإطالة الصلاة بالنسبة إلى الخطبة لا التطويل الذي يشق على المأمومين ( (567) انظر : شرح النووي ( 6 / 226 ) . 567) .ا هـ .
وقال الحافظ العراقي : " أو حيث احتيج إلى التطويل لإدراك بعض من تخلف . قال : وعلى تقدير تعذر الجمع بين الحديثين يكون الأخذ في حقنا بقوله ؛ لأنه أدل ، لا بفعله ؛ لاحتمال التخصيص " ( (568) انظر : نيل الأوطار ( 3 / 282 ) . 568) . اهـ .
وقال الشوكاني : " وقد ذكرنا غير مرة أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة ، مع عدم وجدان دليل على التأسي في ذلك الفعل بخصوصه وهذا منه " ( (569) انظر : المصدر السابق . 569) . اهـ .
قلت : ولم أقف على ما يدل صراحة بأن المراد صلاة الجمعة مع خطبتها . فيحتمل أن يكون المعنى : إن طول صلاة الرجل في أي صلاة ، وقصر خطبته مئنة من فقهه ، لا أن ركعتي الجمعة تكونان أطول من الخطبة ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ثبت عنه عند مسلم في صحيحه أنه قرأ سورة ( ق) كاملة في الخطبة ( (570) انظر : صحيح مسلم ( 2/ 595 رقم 872 ) . 570) ، ومما لاشك فيه أن قراءتها ترتيلاً يجعلها أطول من ركعتي الجمعة إذا لم يقرأ فيها إلا بسبح والغاشية ، وقد يستأنس لذلك بما ذكره القرطبي رحمه الله عن الفراء في قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } قال الفراء : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي ما يكون من عمره {وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } بمعني معمر آخر ، أي ولا ينقص الآخر من عمره إلا في كتاب ، فالكناية في { عُمُرِهِ } ترجع إلى آخر غير الأول ، وكنى عنه بالهاء كأنه الأول ، ومثله قولك : عندي درهم ونصفه أي نصف درهم آخر " ( (571) انظر : تفسير القرطبي ( 14 / 291 ) شرح الطحاوية ص 94 . 571) اهـ .
فتفسير القرطبي هذا مع قول الفراء فيما إذا كان اللفظ واحداً كقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } فكيف بحديث قصر الخطبة وطول الصلاة فهو من باب أولى ، فيكون المعنى على الحديث السابق : طول صلاة الرجل في جميع صلواته ، وقصد خطبته في الجمعة مئنة من فقهه لا أن الخطبة تكون أقصر من صلاة الجمعة لذاتها ، هذا ما ظهر لي . والعلم عند الله تعالى .
47-
أركان خطبة الجمعة عند أهل العلم
اعلم أن لأهل العلم أقولاً تتعلق بما يسمى ( أركان الخطبة ) ، إذ إن منهم من جعل للخطبة أركاناً لا تتم إلا بها ، ومنهم من خالف في ذلك فلم يوجب أركاناً للخطبة ، بل جعل ما يسمى خطبة من تسبيح وتهليل خطبة كاملة صحيحة ، ومنهم من اشترط ما يسميه العرب خطبة عادة ، وإليك أقوال المذاهب في هذه المسألة كالتالي :مذهب الحنفية :
عند أبي حنيفة أن الشرط في الخطبة أن يذكر الله تعالى على قصد الخطبة ، قلَّ الذكر أم كثر ، حتى لو سبح أو هلل أو حمد الله تعالى على قصد الخطبة أجزأه .
وذهب أبو يوسف ومحمد : إلى أن الشرط أن يأتي بكلام يسمى خطبة في العرف .
ودليلهم في ذلك هم مطلق ذكر الله لقوله تعالى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وذكر الله تعالى معلوم لا جهالة فيه ، فتقييده بذكر يسمى خطبة أو بذكر طويل لا يجوز إلا بدليل .
ومن ذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للخطيب الذي قال : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعصهما فقد غوى : ( بئس الخطيب أنت ) ( (572) رواه مسلم ، وقد سبق تخريجه . 572) ، فسماه خطيباً بهذا القدر من الكلام ( (573) انظر : كلام الحنيفة في البدائع ( 2/ 195 ) . 573) .
بل نقل عن أبي يوسف : أن الإمام إذا عطس على المنبر فقال ( الحمد الله ) ثم نزل وصلى بالناس جازت صلاته ، وكان حمده خطبة ، ثم رجع عن ذلك وقال: لا يكون خطبة .
ومن الحنفية من قال : " إذا عطس على المنبر وحمد الله تعالى ، إذا نوى به الخطبة كان خطبة ، وإذا نوى حمد العطس لا يكون خطبة " ( (574) انظر : الفتاوى التاتار خانية ( 2/ 63 ) ، حاشية ابن عابدين ( 3 / 19 ) . 574) .
قال ابن المنذر معقباً على قول أبي حنيفة : فأما ما قال النعمان ، فلا معنى له ، ولا أعلم أحداً سبقه إليه ، وغير معروف عند أهل المعرفة باللغة بأن يقال لمن قال سبحان الله ، قد خطب ، وإذا كان القول هذا سبيله ، فلا معنى للاشتغال به ( (575) انظر : الأوسط ( 4/ 62 ) . 575) . اهـ .
مذهب المالكية :
ذهب ابن القاسم من المالكية إلى أنه لا يجزئ عنده إلا أقل ما يقع عليه اسم خطبة في كلام العرب المؤلف المبتدأ بالحمد لله ( (576) انظر : بداية المجتهد ( 1/ 116 ) ، جامع الأمهات ص ( 123 ) . 576) . وأما تكبيرة أو تهليلة أو تسبيحة كما قال أبو حنيفة فلا تجزئه .
وذكر ابن عبدالحكم عن مالك أنه : إن كبر أو هلل أو سبح أجزأه من الخطبة ( (577) انظر : الاستذكار ( 5/ 127 ) . 577) .
قال ابن عبدالبر عن قول ابن الحكم هذا : لم أر لذكره وجهاً ( (578) انظر : فتح البر ( 5/ 306 ) . 578) . اهـ .
مذهب الشافعية :
قال الشافعي : وأقل ما يقع عليه اسم خطبة من الخطبتين : أن يحمد الله تعالى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقرأ شيئاً من القرآن في الأول ، ويحمد الله عند ذكره ، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله ، ويدعو في الآخرة ، لأن معقولاً أن الخطبة جمع بعض الكلام من وجوه إلى بعض ، هذا أو جز ما يجمع من الكلام( (579) انظر : الأم ( 1/ 344 ) . 579). اهـ.
وقال النووي : قال أصحابنا : فروض الخطبة خمسة ، ثلاثة متفق عليها ، واثنان مختلف فيهما.
فالمتفق عليها : أحدهما : حمد الله تعالى ، ويتعين لفظ الحمد .
ثانيها : الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويتعين لفظ الصلاة .
ثالثها : الوصية بتقوى الله تعالى .
قال النووي : " ولا يتعين لفظها على الصحيح " ( (580) انظر : منهاج الطالبين ( 1/ 271 ) . 580) . اهـ .
والمختلف فيه : قراءة القرآن ، وفيه أربعة أوجه ، أصحها ما نص عليه في الأم تجب في إحداهما أيتها شاء .
والدعاء للمؤمنين وفيه قولان ، ورجح جمهور الشافعية وجوبه ، وهو الصحيح المختار ( (581) انظر : المجموع ( 4/ 347 وما بعدها ) . 581) . اهـ بتصرف .
وقال النووي أيضاً : " قال أصحابنا : لو قرأ آية فيها موعظة ، وقصد إيقاعها عن الوصية بالتقوى وعن القراءة ، لم تحسب عن الجهتين بل تحسب قراءة . ولا يجزئه الإتيان بآيات تشتمل على جميع الأركان ؛ لأن ذلك لا يسمى خطبة ، ولو أتي ببعضها في ضمن آية جاز " ( (582) انظر : المجموع ( 4 / 349 ) . 582) . اهـ .
هذه بعض أقوال أئمة الشافعية ، أما أدلتهم على ما ذهبوا إليه فهي كالتالي :
أولاً : دليل حَمْدِ الله تعالى في الخطبة عندهم ، هو ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول : ( من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وخير الحديث كتاب الله ) ( (583) انظر : صحيح مسلم ( حديث رقم 867 باب رقم 45 ) . 583) .
ثانياً : دليلهم على ركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة ، هو أنها عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى فافتقرت إلى ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم كالأذان والصلاة ، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه أحمد والترمذي والحاكم والبيهقي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه ، ولم يصلوا على نبيهم ؛ إلا كان عليهم ترة ، فإن شاء عذبهم ، وإن شاء غفر لهم ) ( (584) انظر : المسند ( 2/ 446 ) ، الجامع للترمذي ( حديث رقم 3380 باب الدعوات ) ، المستدرك ( 1/ 496 ) ، السنن الكبرى ( 3 / 209 ) . 584) .
وقد ترجم البيهقي لهذا الحديث فقال : " باب ما يستدل به على وجوب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة " ( (585) انظر : السنن الكبرى ( 3/ 209 ) . 585) . اهـ .
ثالثاً : ودليلهم على الوصية بالتقوى هو أنها المقصود الأعظم من الخطبة ، وهو تذكير الناس ووعظهم . على أن الصحيح عند الشافعية أنه لا يتعين لفظ نصاً كما تقدم .
رابعاً : ودليلهم على قراءة آية من القرآن في إحدى الخطبتين ، ما رواه البخاري ومسلم من حديث يعلى بن أمية قال : " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ }( (586) انظر : صحيح البخاري ( كتاب التفسير حديث رقم 4819 ) ، صحيح مسلم ( باب تخفيف الصلاة والخطبة ، حديث رقم 871 ) . 586).
واستدلوا أيضاً بحديث جابر بن سمرة قال : " كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما ، يقرأ القرآن ويذكر الناس " رواه مسلم ( (587) انظر : صحيح مسلم ( باب تخفيف الصلاة والخطبة حديث رقم 872 ) . 587) .
ولأحاديث أخرى جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آيات من القرآن وهو على المنبر . اكتفيت منها بما أوردته . والعلم عند الله تعالى .