كتاب : الإبهاج في شرح المنهاج على منهاج الوصول إلى علم الأصول
للبيضاوي
المؤلف : علي بن عبد الكافي السبكي
قال السادس فقد الدليل بعد التفحيص البليغ يغلب عدم ظن عدمه يستلزم عدم الحكم لامتناع تكليف الغافل
ش الأستدلال على عدم الحكم بعدم الدليل حق مستقبل عند المصنف وتقريره أن فقدان الدليل بعد بذل الوسع في التفحص يغلب ظن عدم الدليل وظن عدمه يوجب ظن عدم الحكم لأن عدم الحكم الدليل يستلزم عدم الحكم لأنه لو ثبت حكم شرعي ولا دليل عليه للزم منه تكليف الغالب وهو ممتنع
قال الباب الثاني في المردودة في الاستحسان قال به أبو حنيفة وفسر بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته ورد بأنه لا بد من ظهوره ليتميز صحيحه من فاسدة وفسره الكرخي بأنه قطع المسألة عن نظائرها لما هو أقوى كتخصيص أبي حنيفة قول القائل مالي صدقة بالزكاة لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وعلى هذا فالاستحسان تخصيص وأبو الحسين بأنه ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لأقوى يكون كالطارئ فخرج التخصيص ويكون حاصله تخصيص العلة
ش ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى القول بالاستحسان وأنكر الباقون حتى قال الشافعي من استحسن فقد شرع ورد الشيء قبل فهمه محال فلا بد أولا من فهم الاستحسان وقد ذكر المصنف ثلاث مقالات لهم
الأولى أنه عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد وتقصر عنه عبارته فلا يقدر أن يفوه به وردها صاحب الكتاب بأنه لا بد من ظهور ليتبين ليتبين صحيحه من فاسدة فإن ما ينقدح في نفس المجتهد قد يكون وهما لا عبره به وهذا الرد يتضح به أنه لا يجدي شيئا في مجلس المناظرة وأما أن المجتهد لا يعمل به فللقوم منع ذلك وأن يقولوا إذا انقدح له دليل على حادثة وهو جازم بها أفتى بها المقلد ولكن سبيل الرد عليهم أن يقولوا هذا الدليل المنقدح في نفس المجتهد إنما يمتاز عن غيره من الأدلة لكونه لا يمكن التعبير عنه وذلك أمر لا يؤل إلى القدح في كونه دليلا فجاز التمسك به وفاقا فأين الاستحسان المختلف فيه
المقالة الثانية قال الكرخي الاستحسان قطع المسألة عن نظائرها أي أن المجتهد يعدل عن الحكم في مسألة بما حكم به في نظائرها إلى الحكم بخلافه لوجه أقوى من الأول يقتضي العدول عنه ومثاله تخصيص أبي حنيفة رضي الله عنه قول القائل مالي صدقة بمال الزكاة فإن هذا القول منه عام في التصدق بجميع أمواله وقال أبو حنيفة يختص بمال الزكاة لقوله تعالى خذ من أموالهم صدقة والمراد من الأموال المضافة إليهم أموال الزكاة فعدل عن أن يحكم في مسألة المال الذي ليس هو بزكوى بما حكم به في نظائرها من الأموال الزكوية إلى خلاف ذلك الحكم لدليل أقوى اقتضى العدول وهو الآية ورد المصنف هذا بأنه يلزم من أن يكون التخصيص استحسانا لأنه عدول بالخاص عن بقية أفراد العام بدليل ونحن موافقون على التخصيص فأين الاستحسان المختلف فيه ويلزم منه أيضا أن يكون الناسخ استحسانا لكونه كذلك إذا كان نسخا في بعض الصور
والثالثة قال أبو الحسين هو ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه أقوى منه وهو حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله وهو في حكم الطارئ على الأول عن ترك أضعف القياسين للأقوى فإن أقوى القياسين ليس في حكم الطارئ على الأضعف فإن فرض أنه طارئ فذاك الاستحسان
ومثال ذلك العنب حيث يحرم بيعه بالزبيب سواء كان على رؤوس الشجر أم لا قياسا على الرطب ثم إن الشارع أرخص في بيع الرطب على رؤوس النخل بالتمر فقيس عليه العنب وترك القياس الأول لكن الثاني أقوى فلما اجتمع في الثاني القوة والطريان كان استحسانا ورده صاحب الكتاب بأن حاصله راجع إلى أن الاستحسان هو تخصيص العلة ونحن موافقون على ذلك ولك أن تقول هو بهذا التفسير أعم من تخصيص العلة فإنه رجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل طارئ عليه أقوى منه وذلك أعم ورده الإمام بأنه
يقتضي أن تكون الشريعة كأنها استحسان لأن البراءة الأصلية مقتضى العقل وإنما يترك ذلك لدليل أقوى منه وهذا الأقوى في حكم الطارئ على الأول ثم قال ينبغي أن يزاد في حكم الحد قيد آخر فيقال ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية واللفظية بوجه أقوى منه وهو في حكم الطارئ على الأولى
قال صفي الدين الهندي وفي قوله ترك وجه من وجوه الاجتهاد ما ينبئ عن أن ذلك الوجه مغاير للبراءة الأصلية فإنها ليست وجها من وجوه الاجتهاد إذ هي معلومة أو مظنونة من غير اجتهاد فلا حاجة إلى ما ذكره الإمام من القيد ومن وجود الرد على هذا التفسير أنه يقتضي أن يكون العدول من حكم القياس إلى النص الطارئ عليه استحسانا والخصم لا يقول به ذكره الهندي قال ثم إنه لا نزاع في هذا أيضا فإن حاصله يرجع إلى تغيير الاستحسان بالرجوع عن حكم دليل خاص إلى مقابلة بدليل أقوى منه وهو طارئ عليه من نص أو إجماع أو غيرهما
وقد ذكر للاستحسان تفاسير أخر مزيفة لا نرى التطويل بذكرها وحاصلها يرجع إلى أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ثم إنا نقول لهم بعد ذلك إن عنيتم ما يستحسنه المجتهد يعقله ورأى نفسه من غير دليل وذلك هو ظاهر لفظة الاستحسان والذي حكاه بشر المريسي والشافعي عن أبي حنيفة رحمه الله وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هو الصحيح عنه فهذا لعمر الله اقتحام عظيم وقول في الشريعة بمجرد التشهي وتفويض الأحكام إلى عقول ذوي الآراء ومخالفة لقوله تعالى وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ولكن أصحابه ينكرون هذا التفسير وإن عنيتم جواز استعمال لفظ الاستحسان فأنى ينكر ذلك والله تعالى يقول الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه والكتاب والسنة مشحونان بذلك والقوم لا يعنون بالاستحسان ذلك فلا نسهب في الإمعان فيه
فإن قلت قد وقع في كلام الشافعي رضي الله عنه استحسن في المتعة أن تكون ثلاثين درهما واستحسن أن تثبت الشفعة للشفيع إلى ثلاثة أيام واستحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة واستحسن أن يضع أصبعيه في صفاحي أذنيه إذا أذن
وقال الغزالي استحسن الشافعي رضي الله عنه التحليف على المصحف وقال في السارق إن أخرج يده اليسرى بدل اليمين القياس أن تقطع يمناه والاستحسان أن لا يقطع وقال الأوزاعي في أخلاق الأصحاب في مسألة الجارية المعنية وهي التي اشتريت بألفين ولولا الغنى لساوت الفآكل هذا استحسان والقياس الصحة وقال الرافعي في التغليظ على المعطل في اللعان استحسن أن يحلف ويقال قال بالله الذي خلقك ورزقك فقد قيل أن المعطل وإن غلا في إنكاره فإذا رجع إلى نفسه وجدها مذعنه لخالق وقال القاضي الروياني فيما إذا امتنع المدعي من اليمين المردودة وقال أمهلوني لأسأل الفقهاء استحسن قضاء بلدنا إمهاله يوما قال أبو الفرج السرخسي في تقدير نفقة الخادم على الزوج المتوسط استحسن الأصحاب أن يكون عليه مد وسدس لتفاوت المراتب في حق الخادمة فإن الموسر عليه مد وثلث والمعسر مد فليكن المتوسط كذلك كما تفاوتت المراتب في حق المخدومة
وقال الأصحاب ليس لولي المجنونة والصبية المراهقة إذا آلى عنهما الزوج وضربن المدة وانقضت أن لا يطالب بالغيبة لأن ذلك لا يدخل تحت الولاية واستحسن أن يقول الحاكم للزوج على سبيل النصيحة اتق الله يفئ إليها أو طلقها
وقال أبو العباس بن القاص في التخليص لم يقل الشافعي بالاستحسان إلا في ثلاثة مواضع وذكر ثلاثا من هذه الصور المعدودة ونحن أيضا نقول ما الاستحسان الذي قال به الشافعي قلت قد عرفت أنه لا نزاع في ورود هذه اللفظة على الألسنة استعمالا وقول ابن القاص لم يقل به إلا في ثلاثة مسائل يجب أن يكون المراد منه لم يزد على لفظة فيما اطلعت عليه لما هو المعروف المشهور من قاعدته في الرد على الاستحسان ثم نقول في هذه الصورة الدليل
على أنه ليس فيها إلا استعمال اللفظ أن أحدا من الأصحاب لم يقدر المتعة بثلاثين درهما بل منهم من استحسن هذا القدر لأجل ذهاب ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما إليه وقال في التنمية المستحب أن يمتعها بخادم فإن لم يكن فثلثين أو مقنعة ولم يقل الشافعي ولا أحد من الأصحاب أن دليل ذلك الاستحسان ولم يوجب أحد منهم على السيد أن يترك للمكاتب شيئا من نجوم الكتابة بل أوجبوا الإيتاء ماحطا من نجوم الكتابة وإيتاء من غيرها واستحبوا أن يكون خطا من النجوم وكل مستحب مستحسن قال الشافعي استحسن أن يترك شيء للمكاتب من نجوم الكتابة ولم يقل أن مستنده الاستحسان وأما مسألة السارق فلم يقل أيضا لا تقطع يمناه للاستحسان أن لا يقطع فيلزم من يقول به أن لا يقطعها وكذلك القول في سائر الصور المذكورة فإن قلت ولم جرى الخلاف المذهبي في مسألتي الشفعة والسارق قلت لا أجل الاستحسان معاذ الله لا نجد في عبارة أحد من الأصحاب ذلك بل لمعان أخر نجدها مسطورة في الفقهيات
قال الثاني قيل قول الصحابي حجة وقيل إن خالف القياس وقال الشافعي في القديم إن انتشر ولم يخالف لنا قول فاعتبروا بمنع التقليد وإجماع الصحابة على جواز مخالفة بعضهم بعضا وقياس الفرع على الأصول قيل أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم قلنا المراد عوام الصحابة قيل إذا خالف القياس اتبع الخير قلنا ربما خالف لما ظنه دليلا ولم يكن
ش اتفق أهل العلم على أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر مجتهد كما صرح به القاضي أبو بكر في التقريب والإرشاد باختصار إمام الحرمين والمتأخرون منهم الآمدي وغيره واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن عداهم من المجتهدين
فذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد والأشاعرة والمعتزلة وأحمد ابن حنبل في إحدى الروايتين والكرخي إلى أنه ليس بحجة مطلقا وهو باختيار الإمام والآمدي وعليه جرى صاحب الكتاب وقال آخرون هو حجة مطلقا وعليه الشافعي رحمه الله في القديم كما نقل المصنف أنه حجة بشرط أن ينتشر
ولا يخالف كذا حكى المصنف هذا المذهب وهو وهم وإنما هذا قول من مسألة أخرى وهي أنه هل يجوز للعالم تقليده وفيها مذاهب
أحدها هذا وقد ذكر الإمام هذه المسألة فرعا بعد ذكر المسألة التي نحن فيها فنقل المصنف هذا القول منها إلى هنا وليس بجيد وفي المسألة التي نحن فيها قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما وهذا القول ليس هو الذي تقدم في الإجماع وإن توهم ذلك بعض الشارحين فإن ذلك في أن قول مجموعها إجماع لا كل واحد منهما على حدته وهذا في إن قول كل واحد منهما وحده حجة ولا يشترط اتفاقهما
وذهب قوم إلى أن قول الخلفاء الأربعة حجة إذا اتفقوا وهذا هو القول الذي تقدم في الإجماع فإن قلت ما دلك على أن القائل بأن قول الشيخين حجة لا يشترط اتفاقهما هنا بخلاف القائل ثم وأن القائل بأن قول الأربعة حجة هنا يشترط اتفاقهم كما فعل ثم وعبارة الإمام وغيره لا تعطي ذلك قلت أما الثاني فصرح به الغزالي في المستصفى والإمام وغيرهما
وأما الأول فهو مقتضى عدم تقييد من حكاه ولا سيما الغزالي والإمام حيث قيد أحد القولين دون الآخر والآمدي لم يحك هنا القول باتفاق الأربعة وكأنه اكتفى بحكايته في كتاب الإجماع وحكى القول بحجية قول الشيخين مع حكايته في كتاب الإجماع القول بأن اجتماعهما حجة وذلك دليل على ما قلناه وإلا فكان حكاية قول الشيخين تكريرا وهو قد فر منه في قول الأربعة ثم إن الخلاف هنا في أن قول الشيخين حجة لا في أنه إجماع والخلاف هناك في كونه إجماعا وقد يكون الشيء حجة ولا يكون إجماعا كما قيل في الإجماع السكوتي وغيره إذا عرفت ذلك فقد احتج المصنف على أن قول الصحابي ليس بحجة مطلقا بثلاثة أوجه
أولها قوله تعالى فاعتبروا أمر بالاعتبار وذلك ينافي التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند
القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا أمر بالاعتبار وذلك ينافي جواز التقليد كذا قرره الإمام واعترض عليه صفي الدين الهندي بأن الأخذ بقول الصحابي عند القائلين به ليس على سبيل التقليد بل هو أخذ بمدرك من المدارك الشرعية فلا ينافي وجوب النظر والقياس كالأخذ بالنص وغيره ولك أن تقول في تقريره قوله فاعتبروا يقتضي وجوب الاجتهاد خالفناه فيما إذا وجد نص أو إجماع فبقي ما عداهما على الأصل
والثاني أن الصحابة أجمعوا على مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة فإن قلت هذا دليل على غير محل النزاع قلت لا لأنه إذا كان حجة ومن مذهبهم جواز مخالفة بعضهم بعضا جاز لغيرهم ذلك أيضا أعين مخالفة كل منهم لأن مذهبهم جواز المخالفة والفرض أن مذهبهم حجة كذا أجاب به العبري وفيه نظر لأن الإقتداء بهم عند القائل به إنما هو فيما لم يختصوا به وهم مخصوصون بعدم حجية قول بعضهم على بعض ولك أن تضايق في تصوير وقوع إجماعهم على مخالفة بعضهم بعضا لأن الإجماع لا بد وأن يكون من الكل والمجمع على مخالفته غير داخل في المجمعين على فلا يتصور الإجماع دونه وإذا فهمت هذا فنقول يمكن أن يقرر الإجماع على وجه آخر يغاير لفظ الكتاب وهو أنهم سكتوا على مخالفة التابعين لبعضهم وذلك باتفاق منهم على تجويزه
والثالث قياس الفروع التي هي محل الخلاف على الأصول لامتناع كون قولهم حجة فيها على غيرهم من المجتهدين اتفاقا والجامع كون المجتهد متمكنا من إدراك الحكم بطريقة وقد اعترض على هذا بالفرق بين الفروع والأصول إذ الظن الذي هو مطلوب في الفروع يحصل بقول صحابي دون القطع الذي هو مقصود في الأصول وبأن الخصم لا يسلم أن قول الصحابي في الأصول ليس هو حجة بل هو دليل من الأدلة يعم الأصول والفروع واحتج من قال بأن قول
الصحابي حجة مطلقا بما روى من قوله صلى الله عليه و سلم أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فدل على أن الإقتداء بهم هدى وطلب الهدى واجب
وقد سلف في الإجماع الكلام على هذا الحديث وأجاب المصنف بأن الخطاب خطاب مشافهة لا يدخل فيه غيرهم ولا يجوز أن يكون مجتهديهم لأنه ليس محل الخلاف فتعين أن يكون لعوامهم ونحن نسلم أن العامي منهم يهتدي بالإقتداء بأي مجتهد كان منهم فإن قلت على هذا لا يختص هذا الحكم بهم قلت نعم من هذا الوجه ولكن فيه فائدة تميزهم عن غيرهم بتقليد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين شاركوهم في الصحبة التي هي من أعظم مناقبهم وهذا الوصف لم يحصل لغيرهم فإنه لولا الدليل الدال على أن عامي الصحابة يقلد العالم منهم كهذا الحديث وغيره لكان ينقدح للباحث أن يقول لا يقلد الصحابي صحابيا آخر وإن قلد العامي مجتهدا والفرق أن المجتهد يتميز عن العامي برتبة العلم ولا وصف في العامي يقاومه به وأما عامي الصحابة فقد قاوم مجتهدهم بمشاركته في وصفه الأعظم
وأجاب الآمدي عن الحديث بأنه وإن عم في الأشخاص فلا دلالة على عموم الاهتداء في كل ما يقتدي فيه فيحمل على الإقتداء بهم فما يروونه عن النبي صلى الله عليه و سلم واعتراض الهندي على هذا بأن ترتيب الحكم على الوصف وهو كونهم صحابة يشعر بالعلية ومن وجوه الاعتراض عليه أيضا أنا نقول العام في الأشخاص عام في الأحوال وقد سبق في أول كتاب العموم من البحث في هذا ما تقربه عين المسترشد واحتج من قال قول الصحابي حجه إذا خالف القياس بأنه ثقة فلا يحمل مخالفته للقياس إلا على إطلاعه على خبر مخافة القدح في عدالته لو لم يكن ذلك فيعتمد حينئذ على قوله وأجاب بأنه ربما خالف لشيء ظنه دليلا وليس في الأمر كذلك ثم إنا لو سلمنا أنه نفس الأمر كذلك
فالحجة حينئذ ليست في قول الصحابي بل في الخبر ولم يتعرض المصنف للقول المفصل بين أن ينتشر أم لا لكونه سبق في كتاب الإجماع
قال مسألة منعت المعتزلة تفويض الحكم إلى رأي النبي صلى الله عليه و سلم أو العالم لأن الحكم يتبع المصلحة وما ليست بمصلحة لا يصير مصلحة قلنا الأصل ممنوع وإن سلم فلم لا يجوز أن يكون اختياره أمارة المصلحة وجزم بوقوعه موسى بن عمران لقوله بعد ما أنشدت ابنة النضر ابن الحارث لو سمعت لما قلت وسؤال الأقرع في الحج أكل عام فقال لو قلت ذلك لوجبت ونحوه قلنا لعلها ثبتت بنصوص محتملة للاستثناء وتوقف الشافعي
ش أول ما نقدمه تحرير محل الخلاف في المسألة فنقول الحكم المستفاد من العباد على أمور
أحدها ما جاء على طريق التبليغ عن الله تعالى وهذا مختص بالرسل علهم السلام وهم فيه مبلغون فقط
والثاني المستفاد من اجتهادهم وبذلهم الوسع في المسألة وهذا من وظائف المجتهدين من علماء الأمة وفي جوازه للنبي صلى الله عليه و سلم خلاف يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
والثالث ما يستفاد بطريق تفويض الله إلى نبي أو عالم بمعنى أن يجعل له أن يحكم بما شاء في مثله ويكون ما يجيء به هو حكم الله الأزلي في نفس الأمر لا بمعنى أن يجعل له أن ينشئ الحكم فهذا ليس صورة المسألة وليس هو لأحد غير رب العالمين قال الله إن الحكم إلا لله أي لا ينشئ الحكم غيره إذا عرفت هذا فقد اختلف العلماء في أن هل يجوز أن يفوض الله تعالى حكم حادثة إلى رأي نبي من الأنبياء أو عالم من العلماء فيقول له احكم بما شئت فما صدر عنك فيها من الحكم فهو حكمي في عبادي ويكون إذ ذاك قوله من جملة المدارك الشرعية فذهب جماهير المعتزلة إلى امتناعه وجوزه الباقون منهم ومن غيرهم وهو الحق
وقال أبو علي الجبائي في أحد قوليه يجوز ذلك للنبي دون العالم وهذا هو الذي اختاره ابن السمعاني وذكر الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل عليه وجزم بوقوعه موسى بن عمران من المعتزلة وتوقف الشافعي رضي الله عنه كما نقله المصنف وهذا التوقف يحتمل أن يكون في الجواز وأن يكون في الوقوع مع الجزم بالجواز وبالأول صرح الإمام وكذلك الآمدي فقال ونقل عن الشافعي في كتابة الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ولكن الثاني أثبت نقلا وعليه جرى الأصوليون من أصحابنا الشافعية واحتجت المعتزلة على المنع بأن الأحكام تابعة لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد لم يكن الحكم تابعا للمصلحة بل إلى اختياره الذي جاز أن يكون مصلحة فإن ما ليس بمصلحة في نفس الأمر لا يصير مصلحة بتفويض إلى المجتهد وأجاب بمنع الأصل وهو كون الحكم يتبع المصلحة وبأنا لو سلمناه لا يلزم ما ذكرتم لأنه لما قال له إنك لا تحكم إلا بالصواب أمنا من اختياره المفسدة وكان الله تعالى جعل اختياره أمارة على المصلحة وقدر له أن لا يختار سواها واحتج موسى بن عمران على الجزم بوقوعه بأمرين أحدهما قضية النضر بن الحارث التي رواها أهل المغازي والسير فرويناها بإسنادنا إلى عبد الملك بن هشام
قال ثنا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال بعد أن ذكر غزوة بدر الكبرى وعدد القتلى بها وكان من شياطين قريش قتله علي بن أبي طالب في خمسة نفر من بني عبد الدار بن قصى النضر بن الحارث بن كلدة ابن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار قتله علي بن أبي طالب صبرا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم بالصفراء فيما يذكرون قال ابن هشام بالأثيل قال ابن هشام ويقال النضر بن الحارث ابن كلدة بن عبد مناف ثم ذكر ابن هشام بعد ذلك أبياتا قالتها قتيلة بنت الحارث أخت النضر تبكيه أولها ... يا راكبا إن الأثيل مظنة ... من صبح حامسة وأنت موفق ... ومنها تخاطب النبي صلى الله عليه و سلم ... ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
قال ابن هشام فقال والله أعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما بلغه هذا الشعر قال لو بلغني هذا من قبل قتله لمننت عليه انتهى وقال الزبير بن بكار في النسب سمعت بعض أهل العلم يقولون إنها مصنوعة انتهى فقوله صلى الله عليه و سلم لمننت عليه يدل على أن الحكم كان مفوضا إلى رأيه فإنه لو كان قتله بأمر الله لقتله ولو سمع شعرها ألف مرة وقد قال المصنف تبعا للإمام إن هذه المرأة ابنة النضر وهو مخالف لما ذكره ابن هشام في رواية أخرى لا تقوم لها الحجة أنه ابنته كما ذكر
وثانيهما ما روى مسلم من حديث أبي بردة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا قال رجل أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم وهذا الرجل هو الأقرع كما ذكر المصنف وهو ابن حابس والأقرع في الصحابة أربعة هذا أشهرهم وهذا الحديث أيضا يدل على أن الأمر كان مفوضا إلى اختياره قوله ونحوه أو نحو هذين الأمرين كقوله صلى الله عليه و سلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وكما قال صلى الله عليه و سلم في مكة لا يختلى خلاها ولا يعضدها شجرها فقال العباس إلا الأزخر فقال إلا الازخر وغير ذلك وأجاب المصنف عن الكل بأنه يجوز أن تكون هذه
الأحكام ثابتة بنصوص محتملة للاستثناء على وفق سؤال بعض الناس أو حاجتهم فلا يدل على التفويض ولك أن تجيب عما وقع في قضية النضر بأنه لم يصح وابن هشام لم يجزم القول به وقد قال الزبير بن بكار ما قدمته وسمعت والذي أيده الله تعالى يجيب عنه على تقدير صحته بأن النضر كان أسيرا والإمام مخير في الأسارى بين الفعل والاسترقاق والمن والفداء وعندي في هذا نظر فإن الإمام إن خير بين هذه الأشياء فلا خوف بين الأصحاب أنه يجيب عليه رعاية للمصلحة والنبي صلى الله عليه و سلم لا يخفى عليه وجه المصلحة وما قتل النضر وإلا قد كان قتله مصلحة ولا تزول هذه المصلحة بإنشاد أخته أبياتها هذه ولا يقال لعل الحال كان مستويا لأنا نقول لا سبيل إلى ذلك إذ لو فرض استواء لكان الواجب عدم القتل فإنه متى لم يظهر بوجه الصواب في الحال حبسهم الى حين يظهر نص عليه أصحابنا وأجيب عن قوله لو قلت نعم لوجب بأنها قضية شرطية لا تقتضي وقوع مشروطها وهو منقدح وعن قوله إلا الإدخر بأنه يحتمل نزول الوحي سريعا عليه والله أعلم
قال الكتاب السادس في التعادل والترجيح وفيه أبواب الباب الأول في تعادل الإمارتين في نفس الأمر منعه الكرخي وجوزه قوم وحينئذ فالتخيير عند القاضي وأبي علي وابنه والتساقط عند بعض الفقهاء فلو حكم القاضي بأحديهما مرة لم يحكم بالأخرى أخرى لقوله عليه السلام لأبي بكر لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين
ش التعادل بين القاطعين المتنافيين ممتنع كما ستعرفه إن شاء الله تعالى عقليين كانا أو نقليين وكذلك بين القطعي والظني لتقدم القطعي وأما التعادل بين الإمارتين في الأذهان فصحيح وأما في نفس الأمر فمنعه الكرخي والإمام أحمد وجمع من فقهائنا وجوزه الباقون هذا هو النقل المشهور وكلام الغزالي يدل على أن من قال المصيب واحد لم يجوز تعادل الإمارتين وأن الخلاف بين المصوبة حيث قال إذا تعارض دليلان عند المجتهد فالمصوبة يقولون هذا لعجزه وإلا فليس في أدلة الشرع تعارض انتهى واختار الإمام أن تعادل
الإمارتين في حكمين متنافيين والفعل واحد لكون الفعل الواحد واجبا وحراما جائز في الجملة غير واقع شرعا أي غير جائز الوقوع شرعا يظهر ذلك بتأمل كلامه وأن تعادلهما في فعلين متنافيين والحكم واحد جائز كوجوب التوجه إلى جهتين قد غلب على الظن أنهما جهة القبلة
وقد احتج من منع من تعادل الأمارتين مطلقا بأنه لو وقع فإما أن يعمل بهما وهو جمع بين المتنافيين أو لا يعمل بواحد منهما فيكون وضعهما عبثا أو يعمل بأحدهما على التعيين وهو ترجيح من غير مرجح أولا على التعيين بل على التخيير والتخيير بين المباح وغيره يقتضي ترجيح أمارة الإباحة بعينها لأنه لما جاز له الفعل والترك مع أنه لا معنى للإباحة إلا ذلك لزم أن يكون ذلك الفعل مباحا له فيكون ترجيحا لأحد الإمارتين بعينها وقد وضح فساده وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يعمل بأحدهما على التعيين قوله ذلك ترجيح لإمارة الإباحة بعينها قلنا ممنوع وهذا لأن الإباحة في التخيير بين الفعل والترك مطلقا لا التخيير بينهما بناء على الدليلين الذي يدل أحدهما على الإباحة والآخر على الحظر إذ يجوز أن يقول الشارع للمكلف أنت مخير في الأخذ بأمارة الإباحة أو بأمارة الحظر إلا أنك متى أخذت بأمارة الإباحة فقد أبحت لك الفعل أو بالحظر فقد حرمته وتصرح له بأن الفعل على أحد التقديرين إباحة وعلى الآخر حرام ولو كان ذلك للفعل لما جاوز ويؤكده أنه يجب عليه اعتقاد كل منهما على تقدير الأخذ بإمارته فلو كان ترجيحا لأمارة الإباحة لما اختلف وجوب الاعتقاد ومثاله في الشرع أن المسافر مخير بين أن يصلي أربعا فرضا وبين أن يترك ركعتين ولا يقال لما بين فعل الركعتين وتركهما كانتا مباحتين وكذلك الصلاة المعادة على الوجه الذاهب إلى أنها فرض وفي الدليل وجوابه مواقف أخر نطول بذكرها واحتج من جوز تعادل الإمارتين في نفس الأمر بالقياس على التعادل في الذهن وبأنه لو امتنع لم يكن امتناعه لذاته فلا يلزم من فرض وقوعه محال أو الدليل والأصل عدمه وأجيب عن الأول بأن التعادل الذهني لا يمنع إمكان التوصل فيه إلى رجحان إحدى الإمارتين فلا يكون نصبهما عبثا
وعن الثاني بأنه إثبات للجواز بعدم ما يدل على الفساد وليس أولى من
عكسه وهو إثبات الفساد بعدم ما يدل على الجواز وأما اختيار الإمام فعليه كلام طويل ولا نرى الاشتغال بذكره لأن صاحب الكتاب يعمل بحكايته واقتصر في المسألة كلها عن مجرد حكاية المذاهب فلنتبعه في الاختصار وقوله وحينئذ أي إذا قلنا بتجويز تعادل الأمارتين في نفس الأمر وتعادلهما فذهب القاضي أبو بكر وأبو علي وابنه أبو هاشم إلى التخيير فيعمل المجتهد في شأنه بما شاء ويخير العامي في الاستفتاء ويختار أحد الأمرين في الحكم للمتخاصمين ولا يخبرهما درأه للتخاصم وذهب قوم إلى أن حكمه التساقط كالبينتين إذا تعارضتا ويرجع إلى البراءة الأصلية
وقال قوم إن وقع هذا التعادل بالنسبة إلى الواجبات فالتخيير إذ لا يمنع التخيير في الشرع بين الواجبات كما أن ملك مائتين من الإبل يجب عليه أن يخرج ما يشاء من الحقا وبنات اللبون عندما يجعل الخيرة للمالك من أصحابنا ومن دخل الكعبة استقبل ما شاء من جدرانها وإن وقع وقع بالنسبة إلى حكمين متنافيين كالإباحة والتحريم فحكمه التساقط والرجوع إلى البراءة الأصلية قوله فلو حكم أي إذا اختار القاضي إحدى الأمارتين وحكم بها لم يكن له أن يحكم بالأخرى وقد استدل على ذلك بما روى أنه صلى الله عليه و سلم قال لأبي بكر رضي الله عنه لا تقض في شيء واحد بحكمين مختلفين وهذا الحديث لا أعرفه وقد سألت عنه شيخنا الذهبى فلم يعرفه ولا يكاد المجتهد يحيط علما بتعادل الإمارتين في نفس الأمر ويخير المسافر في الركعتين وكونهما مع جواز تركهما يقعان على وجه الوجوب إنما هو في ظن المجتهد ومن أين لنا أن الحال في نفس الأمر كذلك فمن يوجب القصر من العلماء لا يجوز فعلهما لا يوجبه لا يقطع بوقوعه على وجه الوجوب إذ القطع بوقوعه على وجه الوجوب فرع كونه جائز الوقوع وكذا القول في الصلاة المعادة وقد يعلل ما ادعاه المصنف في الحاكم بأنه لو حكم بخلافه مرة أخرى لا تهم والحاكم يتوقى مظان التهم ويجري مثل هذا في المفتي وفيما أن أعمل بأحد الأمرين في شأن نفسه واطلع عليه الناس كيلا يتناقض فعله فيتهمه العامي ولا يرجع إلى فتواه
قال مسألة إذا نقل عن مجتهد قولان في موضع واحد يدل على توقفه ويحتمل أن يكونا احتمالين أو مذهبين وإن نقل في مجلسين وعلم المتأخر فهو مذهبه وإلا حكي القولان
ش هذه المسألة في حكم تعارض قولين لمجتهد واحد وهو بالنسبة إلى المقلدين كتعارض الأمارتين عند المجتهدين فلذلك أعقبه بتعادله الأمارتين ومضمون المسألة أنه إذا نقل عن مجتهد واحد في مسألة واحدة قولان متنافيان فإما أن يكون ذلك في موضع واحد أولا
الحالة الأولى إذا كان في موضع واحد بأن يقول في هذه المسألة قولان مثلا وهو قسمان أحدهما ولم يذكره في الكتاب أن يعقب ذلك بما يشعر بترجيح أحدهما ولو بالتقريع عليه فيكون ذلك قولان له لأن قول المجتهد ليس غير ما يترجح عنده
والثاني أن لا يفعل ذلك فيدل على توقفه في المسألة لعدم ترجيح دليل أحد الحكمين في نظره وقوله فيها قولان محتمل لأن يريد بالقولين احتمالين على سبيل التجوز أي فيها احتمال قولين لوجود دليلين متساويين ولأن يريد بهما مذهبين لمجتهدين وعلى التقديرين لا ينسب إليه قول في المسألة لتوقفه فيها وإلى هذا القسم أشار المصنف بقوله يدل على توقفه ويحتمل أي وهذا التوقف محتمل لأن يكونا احتمالين ولأن يكونا مذهبين
وذهب قوم إلى أن إطلاق القولين يقتضي التخيير وهو ضعيف واعلم أن وقوع ذلك في مجلس واحد من دون ترجيح قليل نقل الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع عن القاضي أبي حامد المروذي لأنه ليس للشافعي مثل ذلك إلا في بضعة عشر موضعا ستة عشر أو سبعة عشر وقد وقع في المحصول بدل القاضي أبي حامد المروذي الشيخ أبو حامد الإسفرايني وكأنه اشتبه أبو حامد بأبي حامد ووقع فيه الجزم بأن المواضع سبعة عشر وهو وهم والذي نقله الشيخ أبو إسحاق ما ذكرناه وقال القاضي أبو بكر في مختصر التقريب قال المحققون إن ذلك لا يبلغ عشرا
الحالة الثانية أن يكون نقل القولين عن المجتهد في موضعين بأن ينص في كتاب أو في وقت على إباحة شيء وفي آخر على تحريمه فهو قسمان أحدهما أن يعلم المتأخر منهما فهو مذهبه ويكون الأول مرجوعا عنه وذهب بعض الأصحاب إلى أنه لا بد وأن ينص على الرجوع فلو لم ينص في الجديد على الرجوع عن القديم لم يكن رجوعا حكاه الشيخ أبو إسحاق والثاني أن يجهل الحال فيحكي عنه القولان من غير الحكم على أحدهما بالترجيح
قال وأقوال الشافعي رضي الله عنه كذلك وهي دليل على علو شأنه في العلم والدين
ش وقد وقع الحالان المتقدمان للإمام المطلبي قدوتنا أبي عبد الله الشافعي ابن عم المصطفى صلى الله عليه و سلم وذلك من الأدلة الواضحة على علو شأنه في العلم والدين في الحالتين أما الدليل على العلم في الأولى فإنه كلما زاد المجتهد علما وتدقيقا وكان نظره أتم تنقيحا وتحقيقا ووقوفا على الأدلة المزدحمة مستقيما وإدراك وجه الازدحام فيها وكيفية الانفصال عنها عظيما تكاثرت الإشكالات الموجبة للتوقف لديه وتزاحمت المعضلات بين يديه
وأما في الدين فلم يكن ممن إذا ظهر له وجه الرجحان صمم على مقالته الأولى ولا قام بنصرتها وشال بضبعها حتى ينادي أولى لك فأولى بل صرح ببطلان تلك واعترف بالخطأ فيها وقصور النظر
وأما الحالة الثانية وهي تنصيصه على القولين في موضعين فدليل على علمه أيضا لأنه مبني على اشتغاله طول عمره القصير بالنظر والمباحث واشتماله على التدقيق في الوقائع والحوادث وعلى دينه لإظهاره الشيء إذا لاح له غير مبال بما صدر منه أولا ولا واقف عند كلام غبي ينسبه إلى التناقض في المقال ولا مرجوح لمذهبه وإن كان ذا القدرة العظمى على ما يرومه واليد الطولى فيما يحاوله وقد عاب القولين على الشافعي من لا خلاق له وأتى بخرف من القول زكاة ونمقة والله لا سواه ولا عدله وذلك لنقصان وقصور وحسد كامن في الصدور
وقال في العلماء قولا كبيرا وفاه بألسنة حداد سيصلى سعيرا وأضمر في نفسه من الزابين عن مسألة سيد المرسلين عقيدة لا يغسل السيف عارها ولا يواري الليل غوارها ونحن لا نحفل بكلمة ولا نقول بكلامه ولا نرى أن يشتمل مثل هذا الشرح على مثل هذا الهذيان الذي هو خيال طرق ذا الخيال في منامه ويكتفي بما صنفه أصحابنا قديما وحديثا في نصرة القولين ويخيل العطن على ذهنه والبليد على الوقوف عليها ولكنا نورد أسئلة قد تختلج في الصدور وتعتور بني الزمان فيجد بها الغبي نفثة مصدور فيقول قد علمت صنعة القولين وكيفية وقوعهما فإن قلت التردد في القولين ينبئ عن نقصان النظر عن إدراك الأرجح قلت معاذ الله بل يخبر عن حال ذلك لأن قوة النظر كلما زادت توالت عليها التشكيكات كما عرفت فإن قلت من سبق الشافعي إلى ذلك من المجتهدين وقد كان قبله أبو بكر الصديق وهو أفضل من طلعت عليه الشمس بعد النبيين
قلت الفاروق الذي أعز الله به الإسلام بدعوة النبي عليه السلام حيث نص في الشورى على ستة وحصر الخلافة فيهم تنبيها على أن الاستحقاق منحصر فيهم وأن غيرهم ليس أهلا لذلك ولم يعترض أحد عليه بل اتبعوا رأيه واقتفوا أثره فإن قلت فما فائدة ذكر القولين قلت التنبيه على أن الحق لا يعدوهما وقصر نظر المتمذهب له على التدقيق فيها وعدم الالتفات إلى غيرهما
فإن قلت من جملة أقواله أن يذكر قولين مع الإشارة إلى ترجيح أحدهما وأي فائدة مع التنبيه على الراجح في ذكر المرجوح قلت ليعلم طرق الاجتهاد والاستنباط والتمييز بين الصحيح والفاسد ومخافة أن يؤدي اجتهاد غيره من متابعته إليه ولا يتنبه لفاسده فيتخذه مذهبا وقد عد الأصحاب لأبي حنيفة رضي الله عنه أمثال ذلك فلطالما قال القياس كذا لكني تركته استحسانا وليس لأحد أن يعيب عليه ذلك ولا أن يقول ما فائدة ذكرك القياس مع عدم اعتمادك إياه فإن قلت أي معنى في إطلاق القولين في وقت واحد من غير ترجيح قلت هذا هو الذي لم يوجد معه سوى النذر اليسير
وقد قلنا إنه فيه متوقف وأنه دليل على غزارة العلم والمنتهى في الديانة وفيه
من الفوائد التنبيه على المآخذ وفحص جهتها في ذينك القولين ولذلك جعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى في ستة ولم ينص على واحد بعينه وكان قصده أن الخلافة لا تعدوهم ولو لم يفاجئه هادم اللذات لميز الأصح عن غيره فإن قلت فلا معنى لقولكم في هذا القسم للشافعي في هذا المسألة قولان إذ ليس له ما على ما زعمتم في مثل هذه المسائل قول واحد ولا قولان بل هو متوقف غير حاكم بشيء قلت قال إمام الحرمين في التلخيص هكذا القول ولا نتحاشى منه وإنما وجه الإضافة إلى الشافعي ذكره لهما واستقصاؤه وجوه الأشباه فيهما وقد كان الشافعي رضوان الله عليه حديث السن لم تتسع مهلته كثيرا لآلام لم تطل راحته ولا يشغله ذلك عما هو فيه من حياطة الدين والنظر المتين والانجماع على طريق المتقين
وقد سئل بعضهم ما السبب في قصر عمر الشافعي فقال حتى لا يزالون مختلفين ولو طال عمره لرفع الخلاف ولأمعن القول فيما لا يحصره مختصرا ولا معزل من مناقب هذا الخبر ولكن العالم استطرد ووجد للمقال مجالا
فقال ونختم الفصل بما هو من توابع أبواب الترجيح وأمور المقلدين فنقول إن قصر نظر بعض المصنفين عن فهم مراتب المجتهدين فلا عليه لو اقتدى بقوله صلى الله عليه و سلم الأئمة من قريش وقوله صلى الله عليه و سلم قدموا قريشا ولا تذموها ولم يكن أحد من أصحاب المذاهب معزيا إلى صليبة قريش بالمسلك الواضح إلى الشافعي ولا خلاف في اختصاصه بذلك وأنه المقصود بقوله صلى الله عليه و سلم عالم قريش يملأ طباق الأرض علما لأنه الذي طبق طباق الأرض وتخلق بالطيب ورد ليلها المسود وجبين نهارها المبيض وصار اسمه في مشارقها ومغاربها وعلا على أنجم السماء طوالعها وغواربها
وقد قام إمام الحرمين مناديا بما لوح به جماعة من الأصحاب من وجوب تقليد الشافعي فقال في كتابه الترجيح بين المذهبين أنه يدعى أنه يجب على كافة المسلمين وعامة المؤمنين شرقا وغربا بعدا وقربا انتحال مذهب الشافعي بحيث لا يبغون عنه حولا ولا يريدون به بدلا والذي نقوله نحن إن كتابنا هذا شارح لمختصر أصول لا نرى أن نخرج عنه إلى ما لا يتعلق به من الترجيح بين المذاهب ولكن الذي نفوه به هو أنه يتعين على المقلد النظر بعين التعظيم إلى قدوته والإيماء بطرف التقديم نحو إمامه ونحن نراعي ذلك في حق إمامنا رضوان الله عليه ونقول بجمع الكلام فيما نحاوله أمور ثلاثة أولها أن السابق وإن كان له حق الوضع والتأسيس فللمتأخر الناقد حق التهذيب والتكميل وكل موضوع على الافتتاح فقد يتطرق إلى مبادئه بعد التسبيح ثم يتدرج الناقد حق التهذيب والتكميل فيكون المتأخر أحق أن يتبع وهذا واضح في الحرف والصناعات فضلا عن العلوم ومسالك الظنون
فإن قلت فيلزمكم على هذا أن توجبوا الإقتداء بمن بعد الشافعي من الأئمة قلت إن ثبت لأحد بعده رتبة الاجتهاد والتنحل وترتيب ما لم ينظم والإطلاع على مقاصد الشريعة والخوض في بحارها فيلزم ذلك ولكنا لسنا نرى أحدا من الأئمة بعده بلغ هذا المحل كذا أجاب إمام الحرمين وتعالى غيره وقال لم يبلغ أحد بعد الشافعي منصب الاجتهاد المطلق فضلا عن الوصول إلى ما وصل إليه الشافعي وثانيهما أن المذاهب يمتحن بأصولها لأن الفروع تستند إليها وتستقيم بتقومها وتعوج باعوجاجها ولا يخفى على الساري في الظلم رجحان نظر الشافعي في الأصول التي هي أهم ما ينبغي للمجتهد وأنه أول من أبدع ترتيبها ومهد قوانينها وألف فيها رسالته ولم لا يكون ذلك وأعظم ما يستمد منه أصول الفقه اللغة والشافعي كان من صميم العرب العربا ممن تفقأت عنه بيضة بني مضر وأصول الشريعة الكتاب والسنة والإجماع ثم الاقيسة بالإمارات المنصوبة علامات على الإجماع
ولهذه الأصول مراتب ودرجات فأما الكتاب فهو عربي مبين والشافعي إذا أنصف الناظر عرف أنه المميز عن غيره فيما يحاوله منه لأنه القرشي البليغ ذو
اللغة التي يحتج بها الواصل إلى الذروة في معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومعرفة الراويات وأما الحديث فلا ينكر منصف مقامه في الأخبار وإلقاءه الأحاديث من حفظه ولذلك ربما قال أخبرني الثقة ومن لا يحضرني اسمه الآن أن ذلك من آيات من آيات حفظه وشدة ضبطه وتحريه حتى قال أبو زرعة ما عند الشافعي حديث غلط فيه وقال أبو داود ما أعلم للشافعي حديثا خطأ وهو في معرفة الرجال وغير ذلك من فنون الحديث الواصل الليل بالنهار ينزل الأحاديث منازلها ويقبل كلما صح منها ويجعله مذهبه لا يفرق بين كوفي ومدني
ولذلك قال لأحمد أنتم أعلم بالحديث منا فقل لي كوفية وبصرية يعني أنكم يا أهل العراق أعلم منا معشر الحجازيين بأحاديث الكوفة والبصرة فقل لي حتى أنظر فإن كان صحيحا عملت به ولا يظن في ظان الاقتصار على أحاديث المدينة والحجاز من حيث أني من أصحاب مالك وأتى بصيغة الجمع في المخاطب والمخاطب بقوله أنتم ومنا ولم يرد الشافعي أن ابن حنبل أعلم منه بالحديث كما ظن بعض الأغبياء حاش الله وإنما أراد ما ذكرناه والملك العظيم أن أتاه رسول من أخيه الملك من بلدة أخرى يقول له أنتم أعلم بأخبار أخي مني يعني لكونكم في بلدته ولا يلزم من ذلك زيادتهم في القرب منه على أخيه ولا مساواته ولو أراد الشافعي ما زعمه بعض الأغبياء جبرا لأحمد وتأدبا معه وتعظيما لجانب تلميذه لجاز ذلك ولا لوم عليه أما فقه الحديث فهو سيد الناس في ذلك
وأما الإجماع فسيلقي من معرفة الآثار وما يصح نقله من الوفاق والخلاف وهو المنهي في ذلك هذا بيان الأصول وأما تنزيلها منازلها فهو سوق الشافعي فإن قدم كتاب الله ثم سنة نبيه صلى الله عليه و سلم مع نهاية التأدب والوقوف عندما ينبغي السوق عنه للناظر في الشريعة فإذا لم يجدها تأسا بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في التعليق بالرأي الناشئ من قواعد الشريعة المنضبطة بأصولها ولم نر التعليق بكل وجه في الاستصواب ولا الاستحسان بما نهواه ثم رأى قواعد الشريعة منقسمة إلى ما يعلل وما لا يعلل فانسحب على الإتباع فيما لا يعقل معناه
وقد يقيس إذ لاحت الأشباه وأما ما يعقل معناه فمغزاه فيه المعنى المختل المناسب وهو في كل ذلك يلتفت إلى قواعد الشرع ثم لا يبغي بها بدلا ويقول إذا صح الحديث فهو مذهبي وثالثهما أن المذاهب كما يمتحن بأصولها يستخير بفروعها ولننظر المصنف في كتب الخلافيات المنتشرة في الآفاق فإن كان مع اتصافه أهلا للنظر فليعرضها على الشريعة من كتاب وسنة وإجماع وقياس وليحكم بما أراه الله وإن لم يكن أهلا للنظر فلا كلام له معنا وبالله التوفيق
وآخر ما نذكره دليلا لم ير من سبقنا باستنباطه يدل على ما نحاوله وهو حديث يبعث الله على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها واتفق الناس على أن المبعوث على رأس الأولى عمر بن عبد العزيز وعلى الثانية الشافعي ويأبى الله أن يبعث مخطئا في اجتهاده أو يختص ناقص المرتبة بهذه المزية بل هذا صريح في أن ما يأتي به المبعوث فهو دين الله الذي شرعه لعباده ومن الغرائب الواقعة في هذا الأمر المؤيدة لما ذكرناه وما حاولناه تأييدا ينثلج به الصدر أن الله تعالى خص أصحاب الشافعي بهذه الفضيلة فكان على رأس الثلثمائة ابن سريج وهو أكبر أصحابه وعلى رأس الأربعمائه الشيخ أبو حامد إمام العراقيين من أصحابه وعلى رأس الخمسمائة الغزالي القائم بالذب عن مذهبه والداعي إليه بكل طريق وعلى السادسة الإمام فخر الدين الرازي أحد المقلدين له والمنتحلين مذهبه والذابين عنه وعلى السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العبد الذي رجع إلى مذهبه وانتحله وتولى القضاء له وحكم به بعد أن كان في أول نشأته مالكيا
قال الباب الثاني في الأحكام الكلية للتراجيح الترجيح تقوية إحدى الأمارتين على الأخرى ليعمل بها كما رجحت الصحابة خبر عائشة على قوله عليه السلام إنما الماء من الماء
ش الأحكام الكلية للتراجيح هي الأمور العامة لأنواعها التي لا تخص فردا منها والباب مشتمل على مقدمة معرفة لماهية الترجيح وأربع مسائل وقد عرف الترجيح بأنه تقوية إحدى الإمارتين على الأخرى ليعمل بها أي بالإمارة التي قويت وهو مأخوذ من الإمام إلا أن الإمام أبدل الإمارتين بالطريقين
وما فعله المصنف أصرح بالمقصود إذ يمتنع الترجيح في غير الإمارتين والإمام قال ليعلم الأقوى فيعمل به وحذف المصنف لفظة العلم وهو حسن إذ يكتفي في الظن بالترجيح ولقائل أن يقول جعلتم الترجيح عبارة عن التقوية التي هي مستندة إلى الشارع أو المجتهد حقيقة أو إلى ما به الترجيح مجازا وهو غير ملائم بحسب الاصطلاح وهو في الاصطلاح عبارة عن نفس ما به الترجيح فلا يجوز أن يجعل عبارة عن التقوية ذكره الهندي
وقد اتفق الأكثرون على جواز التمسك بالترجيح وأنكره بعضهم وقال عند التعارض يلزم التخيير أو الوقف ولا يرجح أحد الظنين وإن تفاوتا وهو قول مردود قال إمام الحرمين في البرهان وقد حكاه القاضي عن البصري وهو الملقب ببعل قال ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها واستدل المصنف على وجوب تقديم الراجح بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وذلك في وقائع كثيرة منها أنهم قدموا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين حيث قالت فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه و سلم فاغتسلنا على خبر أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما الماء من الماء أخرجه مسلم وتقدم في كتاب السنة حديث عائشة
وأن الترمذي قال حسن صحيح والوقائع في هذا كثيرة وعليه درج السابقون قبل اختلاف الآراء وقد تعلق الخصم على نفي الترجيح بالبينات في الحكومات فإنه لا ترجح بينة على بينة بعد استقلال كل واحدة لو انفردت وهو مردود فإن مالكا رحمه الله يرى ترجيح البينة على البينة ومن لا يرى ذلك يقول البينة مستندة إلى توقيعات تعبدية ولذلك لا تقبل بغير لفظ الشهادة حتى لو أتى العدد الكثير بلفظ الأخيار لم يقل ولو شهد ألف امرأة وعبد على إباقه بقل لردوا
قال مسألة لا ترجيح في القطعيات إذ لا تعارض بينهما وإلا ارتفع النقيضان أو اجتمعا
ش قدمنا أن الترجيح مختص بالدلائل الظنية ولا جريان له في الدلائل اليقينية عقلية كانت أو نقلية والحجة على ذلك أن الترجيح فرع وقوع التعارض وهو غير متصور فيها لأنه لو وقع لزم اجتماع النقيضين أو ارتفاعهما وذلك لأن الدليل القطعي ما يفيد العلم اليقيني فلو تعارض قطعيا لم يكن إثبات مقتضى أحدهما دون الآخر للزوم التحكم فإن الرأي السديد والقول الذي عليه المحققون أن العلم لا يتفاوت وليس بعضها أقوى وأغلب من بعض وإن كان بعضها كان بعضها أجلى وأقرب حصولا وأشد استغناء عن التأمل بل بعضها لا يحتاج فيه إلى تأمل كالبديهيات لكنه بعد الحصول تحقق يعني لا تفاوت في كونه محققا فلا ترجيح لعلم على علم فتعين إما رفع مقتضاهما أو إثباته وهو جمع بين النقيضين أو رفع لهما
ولقائل أن يقول هذا دليل على منع التعارض بين القاطعين في نفس الأمر أو على منع التعارض بين القاطعين في الأذهان إن كان على الأول فهو منقوض ولكن لا كلام فيه وأنى يتصور جريان الترجيح في المتعادلين في نفس الأمر ولو جرى لم يكن المتعادلان متعادلين هذا خلف وإن كان على الثاني فممنوع لأنه قد يتعارض عند المجتهد شيئان يعتقد أنهما دليلان يقينيان ويعجز عن القدح في أحدهما وإن كان بطلان أحدهما في نفس الأمر وإن كان كذلك فنحن نقول يجوز تطرق الترجيح إليها بناء على هذا التعارض بالنظر في أحوال المقدمات وأحوال التركيب ويرجح بقلة المقامات والتراكيب وهذا طريق يقبله العقل ولا يدفعه ما ذكرتم
قال مسألة إذا تعارض دليلان فالعمل بهما من وجه أولى بأن يتبعض الحكم فيثبت البعض أو يتعدد فيثبت بعضها أو يعم فيوزع كقوله عليه السلام ألا أخبركم بخبر الشهود فقيل نعم فقال أن يشهد الرجل قبل أن يستشهد وقوله ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد فيحمل الأول على حق الله تعالى والثاني على حقنا ش إنما يرجح أحد الدليلين على الآخر إذا لم يمكن
العمل بكل واحد منهما فإن أمكن ولو من وجه دون وجه فلا يصار إلى الترجيح بل يصار إلى ذلك لأنه أولى من العمل باحدهما دون الآخر إذ فيه أعمال الدليلين والأعمال أولى من الإهمال ثم العمل بكل واحد منهما يكون على ثلاثة أنواع
أحدها أن يتبعض حكم كل واحد من الدليلين بأن يكون قابلا للتبعيض فيبعض بأن يثبت بعضه دون بعض وعبر الإمام عن هذا النوع بالاشتراك والتوزيع ومن أمثلته دار بين اثنين تداعياها وهي في يدهما فإنها تقسم بينهما نصفين لأن ثبوت المالك قابل للتبعيض فيتبعض ومنها إذ تعارضت البينتان في الملك على قول القسمة
الثاني أن يتعدد حكم كل واحد من الدليلين أي يقتضي كل واحد من الدليلين أحكاما متعددة فيحمل واحد منهما على بعض تلك الأحكام ومثاله ما روي أن إعرابيا جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال إني رأيت الهلال فقال أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال فأذن في الناس يا بلال فليصوموا غدا فهذا الخبر يقتضي ثبوت رمضان بشهادة الواحد ويترتب عليه وجوب الصوم وحلول الدين المؤجل ووقوع الطلاق والعتاق المعلقين به وهو معارض للقياس فإنه يقتضي عدم ثبوته بقول الواحد كما في سائر الشهور ويترتب على عدم ثبوته عدم ترتب شيء مما ذكرناه فيحمل الأول على وجوب الصوم والقياس على عدم حلول الأجل والطلاق والعتاق وهذا قد صرح به القاضي الحسين والبغوي لكن قال الرافعي لو قال قائل هلا يثبت ذلك ضمنا كما سبق نظيره لا حرج إلى الفرق والذي سبق أنا إذا قلنا بالقول الصحيح وضمنا بقول الواحد لم ير الهلال بعد ثلاثين أفطرنا على أحد الوجهين وإن كنا لا نفطر بقول واحد ابتداء ولا يثبت به هلال شوال على المذهب الصحيح وذلك لأنه يجوز أن يثبت الشيء ضمنا بما لا يثبت به أصلا ومقصودا ألا ترى أن النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا
للولادة إذا شهدن عليها وفرق ابن الرافعة بأن النسب والميراث وكذا الإفطار عقيب الثلاثين لازم للمشهود فلا يعقل ولادة منفكة عن النسب والميراث ولا صوم ثلاثين يوما بوصف كونها منفكة عن الفطر بعدها والدين والطلاق والعتاق ليس يلزم استهلاك الشهر ويعقل انفكاكه عنه قال وقد أشار إلى مثله ابن الصباغ
الثالث أن يكون كل واحد من الدليلين عاما أي مثبت الحكم في موارد متعددة فتوزع ويحمل كل واحد منهما على بعض أفراده ومثاله ما روي عن زيد ابن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ألا أخبركم بخبر الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها رواه مسلم وهذا لفظه وهو معنى اللفظ الذي أورده المصنف وروى المصنف من قوله صلى الله عليه و سلم ثم يفشوا الكذب فيشهد الرجل قبل أن يستشهد وهذا اللفظ لا أعرفه ولكن في الصحيحين عن عمران ابن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم إن من بعدهم قوما ما يشهدون ولا يستشهدون الحديث فيحمل الأول على حقوق الله تعالى والثاني على حقوق العباد ومن أمثلته أيضا قوله صلى الله عليه و سلم من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له مع ما روي
أنه صلى الله عليه و سلم كان يدخل على بعض أزواجه فيقول هل من غداء فإن قالوا لا قال إني صائم ويروى أني إذن اصوم فيقتصر على الأول وإن كان عاما في كل صوم على صوم الفرض ويحمل الثاني على صوم النفل ومنها قوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مع قوله في آية أخرى حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فظاهر الأولى وضع السيف فيهم حتى ينفقوا وظاهر الآية الثانية يقتضي جواز أخذ الجزية من أصناف الكفار من غير فصل وقال عليه السلام خذوا من كل حالم دينارا وقال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله الحديث وظاهر هذا أن الجزية لا تؤخذ وأن ليس بيننا وبين الكفار إلا السيف أو الإسلام فيجمع بين الظاهرين ويأخذ الجزية من أهل الكتاب بآية الجزية ويضع السيف فيمن ليس متمسكا بكتاب ولا يشبه كتاب الظاهر الآية الواردة في القتل وأعلم أن بعض الفقهاء زعم أن هذا يتضمن استعمال مقتضى كل واحد من الدليلين ورأى هذا الجمع مستقلا بنفسه غير محتاج إلى إقامة دليل قال إمام الحرمين وهذا مردود عند الأصوليين بل لا بد من دليل خارج على ذلك وأما أن يجعل أحدهما دليلا في تخصيص الثاني والثاني في تخصيص الأول فهذا ما لا سبيل إليه
قال مسألة إذا تعارض نصان وتساويا في القوة والعموم وعلم المتأخر فهو ناسخ وإن جهل فالتساقط أو الترجيح
ش النصان المتعارضان على ضربين
الأول أن يكونا متساويين في القوة باشتراكهما في العلم أو الظن وفي العموم بأن يصدق كل منهما على ما يصدق عليه الآخر وله ثلاثة أحوال
أولها أن يتأخر ورود أحدهما عن الآخر ويكون معروفا بعينه فينسخ
المتأخر المتقدم سواء كانا معلومين أو مظنونين آيتين أم خبرين أم أحدهما آية والآخر خبرا عند من يجوز النسخ عند اختلاف الجنس وأما من يمنعه فيمتنع عنده النسخ في هذا القسم الآخير وهذا إذا كان حكم المتقدم قابلا للنسخ أما إذا لم يقبل النسخ ولم يذكره في الكتاب كصفات الله تعالى فإن كانا معلومين قال الإمام فيتساقطان ويجب الرجوع إلى دليل آخر واعترض عليها النقشواني بأن المدلول إن لم يقبل النسخ يمتنع العمل بالمتأخر فلا يعارض المتقدم بل يجب أعمال المتقدم كما كان قبل ورود المتأخر وإن كانا مظنونين طلب الترجيح ولو كان الدليلين خاصين فحكمهما حكم المتساويين في القوة والعموم من غير فرق ولم يذكر المصنف ذلك
وثانيها أن يجهل المتأخر منهما فإن كانا معلومين فيتساقطان ويرجع إلى غيرهما لأنه يجوز في كل واحد منهما أن يكون هو المتأخر وإن كانا مظنونين بعين الترجيح وإلى هذا أشار المصنف بقوله وإن جهل فالتساقط أي فيما إذا كانا معلومين أو الترجيح أي فيما إذا كانا مظنونين
وثالثهما أن يعلم مقارنتهما ولم يذكره في الكتاب فإن كانا معلومين فقد قال الإمام أن أمكن التخيير بينهما تعين القول به فإنه إذا تعذر الجمع لم يبق إلا التخيير ولا يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر بقوة الإسناد لما عرفت أن العلوم لا تقبل الترجيح قال قال ولا يجوز الترجيح بما يرجع إلى الحكم نحو كون أحدهما حاضرا أو مثبتا حكما شرعيا لأنه يقتضي طرح المعلوم بالكلية هو غير جائز انتهى ولم يذكر حكم القسم الآخر وهو عدم إمكان التخيير بينهما وإن كانا مظنونين تعين الترجيح فيعمل بالأقوى فإن تساويا في القوة قال الإمام فالتخيير
قال وإن كان أحدهما قطعيا أو أخص مطلقا عمل به وإن تخصص بوجه طلب الترجيح
ش الضرب الثاني أن لا يتساويا في القوة والعموم جميعا فأما
يتساويا في العموم ولم يتساويا في القوة أو عكسه أو لم يحصل بينهما تساو لا في العموم ولا في القوة فهذه أحوال ثلاثة
أولها التساوي في العموم والخصوص مع عدم التساوي في القوة بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر فيعمل بالقطعي سواء أعلم تقدم أحدهما على الآخر أم لم يعلم وسواء تقدم القطعي أم الظني وهذا الإطلاق يشمل ما إذا كان المقطوع عاما والمظنون خاصا والصحيح أن المظنون يخصص المقطوع كما سبق في التخصيص
وثانيهما أن يتساويا في القوة مع التساوي في العموم والخصوص بأن يكونا قطعيين أو ظنيين أو يكونا عامين لكن أحدهما أعم من الآخر إما مطلقا أو من وجه أو يكون خاصين فإن كانا عامين أو كان أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالأخص سوء كانا قطعين من وجه السند أم ظنيين علم تقدم أحدهما عملي الآخر أم لم يعلم المهم إلا أن يعلم تقدم الأعم وورود الأخص بعد العمل به فإن الأخص حينئذ يكون تاركا له فيما تناوله الأخص لا تخصصا لامتناع تأخير البيان عن وقت العمل وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه كقوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين مع قوله أو ما ملكت أيمانكم فيصار إلى الترجيح بينهما سواء كانا قطعيين أم ظنيين لكن لا يمكن الترجيح في القطعيين بقوة الإسناد بل يرجح بكون حكم أحدهما حظرا والآخر إباحة وأن يكون أحدهما شرعيا والآخر عقليا أو مثبتا والآخر نافيا ونحو ذلك وفي الظنيين يرجح بقوة الإسناد
وثالثهما أن لا يحصل بينهما تساو لا في العموم والخصوص ولا في القوة فإن اختلفا في كل واحد من هذين بأن يكون أحدهما قطعيا والآخر ظنيا وهما عامان ولكن أحدهما أعم من الآخر مطلقا أو من وجه أو خاصان فإن كانا عامين أو أحدهما أعم من الآخر مطلقا عمل بالقطعي إلا إذا كان القطعي هو
الأعم فإنه يخص بالظني عند الأكثرين وإن كان أحدهما أعم من الآخر من وجه صير إلى الترجيح فإنه قد يترجح الظني بما يتضمنه الحكم من كونه حظرا أو نفيا أو غير ذلك سواء علم تأخر القطعي عن الظني أم تقدمه أم جهل الحال وأما إن كانا خاصين فالعمل بالقطعي مطلقا
قال مسألة قد يرجح بكثرة الأدلة لأن الظنيين أقوى قيل يقدم الخبر على الأقيسة قلنا إن اتحد أصلها فمتحدة وإلا فممنوع
ش ذهب الشافعي ومالك إلى أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة والخلاف مع الحنفية واستدل المصنف بأن كل واحد من الدليلين يفيد ظنا مغاير الظن المستفاد من صاحبه والظنان أقوى من الظن الواحد فيعمل بالأقوى لكونه أقرب إلى القطع كما رجحنا الكتاب على السنة والسنة على الإجماع والإجماع على القياس فإن قلت الفرق بين الترجيح بكثرة الأدلة والترجيح بالقوة والوصف الذي يعود إليه أن الزيادة حصلت مع المزيد عليه في محل واحد بخلاف الترجيح بقوة الأدلة قلت هذا ضعيف لأنه لا أثر لذلك
واحتج الخصم بأن كثرة الأدلة لو كانت سببا للرجحان لكانت الأقيسة المتعددة مقدمة على خبر الواحد إذا عارضها وليس الأمر كذلك وأجاب بأن أصل تلك الأقيسة إن كان متحدا وهذا كما قيل في معارضة ما روى من قوله عليه السلام أحلت لنا ميتتان السمك والجراد السمك الميت حرام قياسا على الغنم الميتة وعلى الطائر الميت والبقر والإبل والخيل بجامع الموت في كل ذلك فتلك الأقيسة حينئذ تكون أيضا متحدة واحدا وتكون قياسا واحدا لا أقيسة متعددة لوحدة الجامع فإنها لا تتغاير إلا أن يعلل حكم الأصل في قياس منها بعلة أخرى وتعليل الحكم بعلتين مختلفتين ممنوع على ما سلف فيكون الحق من تلك الأقيسة واحدا وإذا قدمنا عليها الخبر لم يكن قد قدمناه إلا على دليل واحد وإن لم يكن أصلها متحدا بل متعددا فلا نسلم تقديم خبر الواحد عليها
كذا أجاب المصنف تبعا للإمام والحق ان خبر الواحد مقدم على الأقيسة وإن تعددت أصولها ما لم تصل إلى القطع ولا يفرض اللبيب صورة تحصل فيها من الأقيسة ظن يفوق الظن الحاصل فيها من خبر الواحد ونقول هلا رجحت أرجح الظنين لأنه لا تجد ذلك إلا والقياس جلي مقدم دون ريب ولا خصوصية إذ ذاك لتعدد الأقيسة بل لقوة الظن
وقد ذكر الإمام أن من صور المسألة ترجيح أحد الخبرين على الآخر بكثرة الرواة ولكن وافق في هذا الفرع بين المخالفين في المسألة ولا شك أن الخلاف فيه أضعف وقد نقله إمام الحرمين عن بعض المعتزلة وقال الذي ذهب إليه الأكثرون الترجيح بكثرة العدد ثم نقل أن القاضي قال ما أرى تقديم الخبر بكثرة الرواة قطعيا والوجه فيه أن المجتهدين إذا لم يجدوا متمسكا إلا الخبرين واستوى رواتهما في العدالة والثقة وزاد أحدهما بعدد الرواة فالعمل به قال وهذا قطعي لأنا نعلم أن الصحابة لما تعارض لهم خبر معين بهذه الصفة لم يعطلوا الواقعة بل كانوا يقدمون هذه قال وأما إذا كان في المسألة قياس وخبران متعارضان كثرة رواة أحدهما فالمسألة الآن ظنية وهذا الذي ذكره القاضي حق ويشبه أن لا يكون محل الخلاف إلا في الصورة التي جعلها ظنية فإنه كما ذكر قد يقال فيها بالنزول عنها والتمسك بالقياس وقد يظن أن الصحابة كانوا يقدمون الخبر الكثير الرواة ويضربون عن القياس فالخلاف في هذه الصورة منتجه وأما في الأولى فلا مساغ له نعم إذا اجتمع مزية الثقة وقوة العدد بأن روى أحد الخبرين ثقة وروى الآخر جمع لا يبلغ أحدهم مبلغ راوي الخبر إلا في الثقة والعدالة فهذه صورة أخرى
وقد اعتبر بعض أهل الحديث مزيد العدد وبعضهم مزيد الثقة قال إمام الحرمين والمسألة لا تبلغ مبلغ القطع والغالب على الظن التعلق بمزية الثقة فإن الذي يغلب على الظن أن الصديق رضوان الله عليه لو روى خبرا وروى جمع على خلافه لكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أجمعين يؤثرون رواية الصديق انتهى وأبلغ قول في ذلك ما ذكره الغزالي من أن الاعتماد في ذلك ما غلب على ظن المجتهد فإن الكثرة وإن قوة الظن فرب عدل أقوى في النفس من عدلين ويختلف
ذلك باختلاف الأحوال والرواة وأما تقديم خبر الصديق رضوان الله عليه فلأن الظن الحاصل بخبره أقوى من الحاصل بخبر الجمع الكثير وقد لا يتأتى ذلك في غيره ومن صور مسألة الكتاب أيضا إذا انضم إلى أحد الخبرين قياس والذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه تقديم الحديث الذي وافقه القياس لأن الترجيح يجوز بما يوجب تغليب الظن تلويحا مع أن مجرد التلويح لا يستقل دليلا كان اعتضد أحد الخبرين بما يستقل دليلا فلأن يكون مرجحا أولى وقال القاضي يتساقط الخبران ويرجع إلى القياس والمسلكان مفيضان إلى موافقة حكم القياس ولكن الشافعي رضي الله عنه يرى متعلق الحكم بالخبر المرجح بموافقة القياس والقاضي يعمل بالقياس ويسقط الخبرين مستدلا بأن الخبر مقدم على القياس ويستحيل تقديم خبر على خبر بما يسقط الخبر وما يقدم على القياس إذا خالفه فهو مقدم عليه إذا وافقه وقال إمام الحرمين القول عندي في ذلك لا يبلغ مبلغ الإفادة ولمن نصر الشافعي أن يقول إنما يقدم الخبر إذا لم يعارضه خبر فإذا تعارضا افتقر أحدهما إلى التأكيد بما يغلب على الظن قلت ويناظر هذا لخلاف الذي ذكره الأصحاب في البيتين إذا تعارضا ومع أحدهما يد فإن الحكم لذات اليد ولكن هل القضاء للداخل باليد أم بالبينة المرجحة باليد اختلفوا فيه وينبني على الخلاف أنه هل يشترط أن يخلف الداخل مع بينته ليقضي له فيه وجهان أو قولان أصحهما لا كما لا يخلف الخارج مع بينته
قال الباب الثالث في ترجيح الأخبار وهو على وجوه
الأول بحال الراوي فيرجح بكثرة الرواة وقلة الوسائط وفقه الراوي علمه بالعربية وأفضليته وحسن اعتقاده وكونه صاحب الواقعة وجليس المحدثين ومختبرا ثم معدلا بالعمل على روايته وبكثرة المزكين وبحثهم وعلمهم وحفظه وزيادة ضبطه ولو لألفاظه عليه السلام ودوام عقله وشهرة نسبه وعدم التباس اسمه وتآخو إسلامه
ش أعلم أن تعارض الأخبار إنما يقع بالنسبة إلى ظن المجتهد أو بما يحصل من خلل بسبب الرواة وأما التعارض في نفس الأمر بين حديثين صح صدورهما عن النبي صلى الله عليه و سلم فهو أمر معاذ الله أن يقع ولأجل ذلك قال الإمام أبو
بكر بن خزيمة رضي الله عنه لا أعرف أنه روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثان بإسنادين صحيحين متضادين فمن كان عنده فليأت به حتى أولف بينهما إذا عرفت هذا فنقول ترجيح الأخبار على سبعة أوجه
الأول بحسب حال الرواة وذلك باعتبارات أولها بكثرة الرواة وقد مر هذا آنفا مثاله لو قال الحنفي لا يجوز رفع اليدين في الركوع وعند الرفع منه لما روى إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه عند تكبيرة الافتتاح ثم لا يعود فيقول راوي ابن عمر أنه صلى الله عليه و سلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك وروى رفع اليدين كما روى ابن عمر وآيل بن حجر وأبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم منهم أبو قتادة وأبو سعد وسهل بن سعد ومحمد ابن مسلمة ورواه أيضا أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وابن الزبير وأبو هريرة وجمع بلغ عددهم ثلاثا وأربعين صحابيا وأعلم أنا قد نذكر المثال الواحد للحكم وهو يصلح مثالا لأحكام كثيرة وأنا قد مثلنا لما اشتمل عليه من ضرب من الترجيح وأن عارضه أقوى منه أو ساعده فلا يضرنا ذلك وهنا ليس مستندنا مجرد لكثرة بل والعلل المذكورة فيما رواه القوم مما ليس من غرض الشرح التطويل بذكره
الثاني بقلة الوسائط وعلو الإسناد لاحتمال الغلط والخطأ فيما قلت وسائطه أقل وما برحت الحفاظ الجهابذة تطلب علو الإسناد وتفتخر به وتركب القفار وتنادي عند الديار في تحصيله ومن أمثلته أن يقول الحنفي الإقامة مثنى كالأذان لما روى عامر الأحول عن مكحول أن أبا محيريز حدثه أن أبا محذورة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علمه الأذان وعلمه الإقامة الحديث وذكر فيه الإقامة مثنى مثنى فيقول الشافعي بل هو فرادى لما روى خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال مر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
وهذا الحديث من حديث خالد كما رأيت وبينه وبين النبي صلى الله عليه و سلم فيه ثلاثة وخالد وعامر متعاصران روى عنهما شعبة
الثالث بفقه الراوي سواء كانت الرواية بالمعنى أم باللفظ ومنهم من قال إن روي باللفظ فلا يرجح بذلك والحق ما ذكرناه لأن للفقيه مرتبة التميز بين ما يجوز وما لا يجوز فإذا سمع ما لا يجوز إجراؤه على ظاهره بحث عنه والطلع على ما يزول به الإشكال بخلاف الجاهل
وحكى علي بن خشرم قال قال لنا وكيع أي الإسنادين أحب إليكم الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله أو سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله فقلنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله فقال يا سبحان الله الأعمش شيخ وأبو وائل شيخ وسفيان فقيه ومنصور فقيه وإبراهيم فقيه وعلقمة فقيه وحديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ
الرابع بعلم الراوي بالعربية لأن العالم بها يمكنه التحفظ عن مواقع الزلل فكان الوثوق بروايته أكبر قال الإمام ويمكن أن يقال هو مرجوح لأن العالم بها يعتمد على معرفته فلا يبالغ في الحفظ والجاهل بها يكون خائفا فيبالغ في الحفظ
الخامس الأفضلية لأن الوثوق بقول الأعلم أتم فيقدم رواية الخلفاء الأربعة في رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه على رواية ابن مسعود
السادس حسن اعتقاد الراوي رواية غير المبتدع أولى من رواية المبتدع ولقائل أن يقول إذا كانت بدعته بذهابه إلى أن الكذب كفر أو كبيرة لأن ظن صدقه أغلب ولكن الذي جزم به الأكثرون ما قلناه ومثاله إذا قيل صوم الدهر سنة كما اختاره الغزالي لما روى إبراهيم بن أبي يحيى بسنده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال من صام الدهر كله فقد وهب نفسه لله فيجب من يقول بأنه مكروه كصاحب التهذيب وغيره بأنه روي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لعبد الله بن عمرو لا صام من صام الدهر صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر وبأنه روي أنه عليه السلام نهى عن صيام الدهر والحديث الذي أورده الخصم
لا يعارض هذين الحديثين لأن إبراهيم بن يحيى وإن سلمنا أنه ثقة كما قاله الشافعي وابن الأصبهاني وابن عقده وابن عدي إلا أنه كان مبتدعا قال البخاري كان يرى القدر وكان جهميا
السابع كون الراوي صاحب الواقعة لأنه أعرف بالقصة وبهذا رجح الشافعي رضي الله عنه خبر أبي رافع على خبر ابن عباس في تزويج ميمونة أنه صلى الله عليه و سلم نكحها وهو محرم لأن أبا رافع كان السفير في ذلك فكان أعرف بالقصة كذا قيل والحق ان هذا من باب الترجيح بكون أحد الروايتين مباشر لما رواه وهو قسم آخر فصله الآمدي وغيره عن هذا بل مثال هذا قول ميمونة تزوجت رسول الله صلى الله عليه و سلم ونحن حلالان فتقدم على رواية ابن عباس وقد خالف في هذا الجرجاني من أصحاب أبي حنيفة
الثامن بكون الراوي جليس المحدثين أو أكثر مجالسته من الراوي الآخر لأنه أقرب إلى معرفة ما يعتور الرواية ويداخلها من الخلل ويمكن أن يمثل هذا برواية عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن زوج بريرة كان عبدا وهكذا رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وروى الأسود بن زيد عن عائشة أن زوج بريرة كان حرا فحديث عروة القاسم عن خالتهما أولى لمجالستهما لها وسماعهما منها الحديث شفاها داخل الستر
التاسع بكون الراوي مختبرا فيرجح المعدل بالممارسة والاختبار على من عرفت عدالته بالتزكية أو برواية من لا يروي من غير العدل لأن الخبر أضعف من المعاينة
العاشر بكون الراوي معدلا بالعمل على روايته أي يكون ثبوت عدالته بعمل من روى عنه فيرجح على الذي يكون رواية معدلا بغير ذلك وقد أتى صاحب الكتاب بقوله ثم معدلا ليفهم أن التعديل بالاختيار مقدم على هذا الضرب
فالمراتب ثلاثة التعديل بالاختيار ثم بالعمل ثم بغير ذلك ولقائل أن يقول إن أردتم بغير ذلك صريح القول في التزكية فلا نسلم أن التعديل بالعمل أرجح منها كيف وقد اختل في كونها تعديلا وجزم بهذا الآمدي وغيره وقالوا يرجح صريح المقال في التزكية على العمل بروايته والحكم بشهادته
الحادي عشر كثرة المزكين للراوي وقد سبق ما يناظره ومن أمثلته حديث بسرة بنت صفوان في مس الذكر مع ما يعارضه من حديث طلق فحديث بسرة رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عروة ابن الزبير وليس فيهم إلا من هو متفق على عدالته وأما رواة الحديث طلق فقد قل مزكوهم بل اختلف في عدالتهم فالمصبر إلى حديث بسرة أولى
الثاني عشر كثرة بحث المزكين عن أحوال الناس لزيادة الثقة بقولهم حينئذ
الثالث عشر كثرة علمهم لأن كثرة العلم تؤدي إلى الصواب
الرابع عشر حفظ الراوي وقد أطلقه في الكتاب وهو يحمل أمرين كلاهما حق معتبر أحدهما أن يكون قد لفظ الحديث واعتمد الآخر على المكتوب فالحافظ أولى لما لعله يعتور الخط من نقص وتغيير قال الإمام وفيه احتمال قلت وهو احتمال بعيد وقد ذهب بعض العلماء إلى أنه لا يحتج برواية من يعول على كتابته قال أشهب سئل مالك أيؤخذ ممن لا يحفظ وهو ثقة صحيح الأحاديث فقال لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في كتبه بالليل وعن هشيم من لم يحفظ الحديث فليس هو أولى من أصحاب الحديث يجيء أحدهم بكتاب كأنه سجل مكاتب وثانيهما أن يكون أحدهما أكثر حفظا فإن روايته راجحة على من كان نسيانه أكثر وسيأتي على الأثر مثال هذا في حديثي شعبة وإسماعيل بن عياش قال شبعة أحفظ منه بلا ريب ومن أمثلته أيضا احتجاجا على أن المسح يتأقت بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام وليالهن للمسافر بحديث عاصم عن ذر بن حبيش قال أتيت صفوان بن عسال فسألته عن المسح على الخفين فقال كنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فيأمرنا أن لا ننزع اخفافنا ثلاثة أيام إلا من
جنابة لا من غائط وبول ونوم فإن للخصم في المسألة وهو مالك رحمه الله أن يقول قد تكلم في حفظ عاصم بن أبي النجود قال العقيلي لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال الدارقطني في حفظه شيء فليرجح عليه حديث أنس أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما ولا يخلعهما إن شاء إلا من جنابة
الخامس عشر زيادة ضبط الراوي وشدة اعتنائه فليرجح من كان أشد اعتناء به وأكثر اهتماما ولو كان ذلك الضبط لألفاظ الرسول بأن يكون أكثر حرصا على مراعاة كلامه وحروفه لأنه حينئذ يكون أقرب إلى الرواية باللفظ وقد تقدم أنها راجحة على الرواية بالمعنى ومن أمثلته احتجاجا على أن الدم الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء بما رواه شعبة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا وضوء إلا من صوت أو ريح فإن عارضه الخصم بما روى إسماعيل ابن عياش عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة مرفوعا من قاء أو رعن فأحدث في صلاته فليذهب فليتوضأ ثم ليبن على صلاته قلنا ليس إسماعيل كشعبة في الضبط كيف لا وشعبة أمير المؤمنين في الحديث وابن عياش خلط على المدنيين
السادس عشر بدوام عقل الراوي فيرجح رواية دائم العقل على من اختلط آونة من عمره ولم يعرف أنه روى الخبر حالة سلامة العقل أو حال اختلاطه
السابع عشر شهرة الراوي بالعدالة والثقة فيرجح رواية المشهور على الخامل لأن الدين كما يمنع من الكذب كذلك الشهرة والمنصب ومن أمثلته في
مسألة القهقة من أحاديثنا رواية شعبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا وضوء إلا من صوت أو ريح فلا يعارضه الخصم برواية بقية عن محمد الخزاعي عن الحسن بن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لرجل ضحك أعد وضؤك فإن محمد الخزاعي ليس مشهورا بل هو من مجهولي مشايخ بقية والخصم وإن احتج به على قاعدته في العمل بخبر المجهول لكنه غير مشهور وابن شعبة من الأئمة المشهورين العظماء
الثامن عشر بشهرة نسبه فإن من ليس بمشهور النسب قد يشاركه ضعيف في الاسم
التاسع عشر بعد التباس اسمه فيرجح رواية من لا يلتبس اسمه باسم غيره على رواية من يلتبس اسمه باسم غيره من الضعفاء ومن أمثلته أنه لو وقع إسنادان متعارضان في أحدهما محمد بن جرير الطبري أبو جعفر الإمام المشهور وفي الآخر ثقة مثله في العلم والعدالة وصفات الترجيح لقلنا الإسناد الذي فيه محمد بن جرير مرجوع لالتباس اسمه بمحمد بن جرير بن رستم بن جعفر الطبري وكذلك وقع الغلط لبعض الأئمة فنقل على ابن حجر الإمام أنه قال بوجوب المسح على الرجلين بدل غسلهما وإنما القائل بذلك ابن جرير هذا وهو رافضي وكذلك الليث بن سعد الإمام المشهور مع الليث بن سعد النصيبي أحد الضعفاء
العشرون بتأخر إسلامه فيرجح رواية من تأخر إسلامه على رواية من تقدم إسلامه لأن تأخر الإسلام دليل على روايته أخيرا هكذا نطق به المصنف وصرح به الشيخ أبو إسحاق في شرح اللمع وهو حق مستقبل وجزم الآمدي بعكسه معتلا بعراقة المتقدم في الإسلام ومعرفته وليس بشيء وقال الإمام الأولى أن يفصل ويقال المتقدم إذا كان موجودا مع المتأخر لم يمنع أن تكون روايته متأخرة عن رواية المتأخر فأما إذا مات المتقدم قبل إسلام المتأخر
وعلمنا أن أكثر رواه المتقدم على رواة المتأخر منها هنا نحكم بالرجحان لأن النادر يلحق بالغالب ولقائل أن يقول قولكم لا يمنع أن تكون روايته متأخرة فيما إذا لم يمت قبله مسلما ولكن هي مشكوكة ورواية متأخر الإسلام مظنونة التأخر فليرجح على المشكوكة فيها ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمور رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن أمثلة الفصل قال الشافعي في مسألة المس قيس بن طلق راوي حديث الخصم وهو ممن تقدم إسلامه وأبو هريرة من رواة أحاديثنا وكان إسلامه بعد الهجرة بست سنين فرأينا إمكان النسخ متطرقا إلى ما رواه قيس
قال الثاني بوقت الرواية فيرجح الراوي في البلوغ على الراوي في الصبا وفي البلوغ والمتحمل وقت البلوغ على المتحمل في الصبا وفيه أيضا
ش الخبر الذي لم يرو به شيئا من الأحاديث إلا بلوغه راجح على خير من لم يروها إلا في صباه لأن البالغ أقرب إلى الضبط ويرجح أيضا على خبر من روى البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون من مروياته في الصغر قوله والمحتمل أن يرجح الخبر الذي لم يتحمل رواية الأحاديث إلا في زمن بلوغه على من لم يتحمل إلا في زمن صباه قوله أو فيه أيضا أي ويرجح هذا أيضا على من يتحمل البعض في صباه والبعض في بلوغه لاحتمال أن يكون هذا الخبر من الأحاديث المحتملة في الصغر ولهذا قدم ابن عمر روايته في الإفراد في الحج على رواية أنس وقال إنه كان صغيرا وكنت أدخل على النساء وهن مكتشفات وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه و سلم يسيل علي لعابها هكذا ينبغي تقرير ما في الكتاب فلا يعدل عنه وبه يتبين لك أن الكلام هنا في بحثين أحدهما بوقت الرواية في زمن الصبي والثاني بوقت التحمل
قال الثالث بكيفية الرواية فيرجح المتفق على رفعه والمحكي بسبب نزوله وبلفظه وما لم ينكره راوي الأصل ش الترجيح بكيفية الرواية أقسام أولها ترجيح الحديث المتفق على كونه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم على المختلف في كونه موقوفا ومن أمثلته أن عبادة ابن الصامت روى أنه صلى الله عليه و سلم قال لا صلاة لمن لم
يقرأ بفاتحة الكتاب وهو مدون في الصحاح متفق على رفعه دال على المأموم يقرأ خلف الإمام فإن احتج الخصم بما روى يحيى بن سلام قال ثنا مالك ابن أنس ثنا وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم قال كل صلاة لا يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج إلا أن تكون وراء الإمام قلنا لم يرفعه عن مالك غير يحيى بن سلام وهو في الموطأ موقوف وقد قيل وهم يحيى بن سلام عن مالك في رفعه ولم يتابع عليه ويحيى كثير الوهم وثانيها يرجح الخبر الذي حكاه الراوي بسبب نزوله لزيادة الاهتمام من حاكى سبب النزول بمعرفة ذلك الحكم وثالثا الخبر المؤدى بلفظ مرجح على المروى بمعناه أو المشكوك في كونه مرويا باللفظ أو المعنى وينبغي أن يرجح المشكوك منه على ما علم أنه مروي بالمعنى ولم أظفر بحديثين متعارضين أحدهما مروي باللفظ والآخر بالمعنى فأمثل به ورابعها إذا أنكر الأصل رواية الفرع عنه وجزم بالإنكار فرواية الفرع غير مقبولة وإن تردد قبلت على المختار فإن قلنا بها فالخبر الذي لم ينكره الأصل راجح على ما أنكره وقد اتبع المصنف الإمام في تعبيره براوي الأصل والصواب زيادة ال في الراوي أو حذفه بالكلية ومن أمثلة هذا الفصل أن سفيان بن عيينة روى عن عمر وعن أبي معبد عن ابن عباس قال كنت أعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتكبير قال عمرو بن دينار ثم ذكرته لأبي معبد بعد فقال لم أحدثه قال عمرو وقد حدثه قال وكان من أصدق موالي ابن عباس قال الشافعي رضي الله عنه فإنه نسيه بعد ما حدثه إياه وهذا مثال لما أنكره راوي الأصل ومنها ما روى محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن صدقة قال سمعت بن عمر وسأله رجل فقال إني أهللت بهما جميعا قال لو كنت اعتمرت كان أحب إلي ثم أمره فطاف بالبيت وبالصفا والمروة قال ولا تحل منها بشيء دون يوم النحر ثم شعبة نسي هذا الحديث فقلت إنك
حدثتني به قال إن كنت حدثتك فهو كما حدثتك وهذا مثال لما لم ينكر ومنهم من كان يقول بعد ذلك حدثني فلان عني كما روى عبد العزيز بن محمد بن ربيعة بن عبد الرحمن بن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قضى باليمين مع الشاهد قال عبد العزيز فذكرت ذلك لسهيل فقال أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه قال عبد العزيز وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه وكان سهيل يحدثه عن ربيعة عن أبيه وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال حدثني ابني عني أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى أن يجعل فص الخاتم من غيره وقال سعيد بن أبي عروبة حدثني بعض أصحابي عن ابن أبي معشر عن إبراهيم في الرجل يقر بالولد ثم ينفيه قال يلاعن بكتاب الله عز و جل ويلزم الولد بقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال جرير حدثنيه عن ابن مجاهد عني وهو عندي ثقة عن ثعلبة عن الزهري قال إنما كره المنديل بعد الوضوء لأن الوضوء يوزن
وقد جمع الحافظ أبو بكر الخطيب جزءا ضخما فمن حدث ونسي
قال الرابع بوقت وروده فيرجح المدنيات والمشعر بعلو شأن الرسول عليه السلام والمتضمن للتخفيف والمطلق على متقدم التاريخ والمؤرخ بتاريخ مضيق والمتحمل في الإسلام
ش ذكر في الترجيح بوقت ورود الخبر أقساما ستة والإمام قد ذكرها أيضا وقال هذه الوجوه في الترجيح ضعيفة أي إفادتها للرجحان إفادة غير قوية لا بمعنى أن القول بإفادتها الرجحان ضعيف يدل عليه قوله بعد ذلك وهي لا تفيد إلا خيالا ضعيفا في الرجحان
أحدهما الخبر المدني مرجح على المكي لأن المدنيات متأخرة عن الهجرة والمكيات متقدمة عليها إلا قليلا والقليل ملحق بالكثير
وثانيهما يرجح الخبر الدال على علو شأن الرسول صلى الله عليه و سلم على ما ليس كذلك لأنه يدل على تأخره فإن الزيادة العظمى في علو شأنه وظهور أمره كانت في آخر عمره وقال الإمام إن دل الأول على علو الشأن والثاني على الضعف ظهر تقديم
الأول على الثاني أما إذا لم يدل الثاني لا على القوة ولا على الضعف فمن أين يجب تقديم الأول عليه واعترض عليه بأن المشعر بعلو شأن الرسول معلوم التأخر أو مظنونة وما لم يشعر بذلك مشكوك فيه فليرجح الأول
وثالثها يرجح المتضمن للتخفيف على المتضمن للتغليظ لأنه أظهر تأخرا فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يغلظ في ابتداء أمره زجرا لهم عن عوائد الجاهلية ثم مال إلى التخفيف هكذا ذكره صاحب الحاصل واتبعه المصنف والحق خلافه فإن النبي صلى الله عليه و سلم يرأف بالناس ويأخذهم شيئا فشيئا ولا يبدر بالتغليظ وهذا دأب الشرع يلوح ثم يعرض ثم يصرح والقرآن أكثره هكذا وانظر إلى آيات تحريم الخمر وغيرها وقد صرح الآمدي بما ذكرناه وقال احتمال تأخر التشديد أظهر وتبعه ابن الحاجب والإمام ذكره على سبيل الاحتمال بعد أن ضعف الأول ونحن لا ريب عندنا فيه كيف وسيأتي إن شاء الله تعالى أن المحرم مرجح على المبيح
ورابعها يرجح الخبر المروي مطلقا على الخبر المروي بتاريخ متقدم لأن المطلق أشبه بالمتأخر
وخامسها يرجح الخبر المؤرخ بتاريخ مضيق أي من آخر عمره صلى الله عليه و سلم على المطلق لأنه أظهر تأخرا ومن أمثلته صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا ولكن الشافعي تعلق بجلوس النبي صلى الله عليه و سلم في مرض موته والمقتدون به قيام ورآه وهذا من أواخر أفعاله والحديث الذي رويناه مطلق يغلب على الظن أنه كان قاله في صحته قال إمام الحرمين ومن هذا القبيل أخبار الدباغ مع ما رواه عبد الله بن عكيم الجهني قال ورد علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل وفاته بشهر أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وأحاديث الدباغ كانت مطلقة غير مقيدة بتاريخ والغالب على الظن جريانها قبل هذا التاريخ ولكن الشافعي رد حديث
عبد الله لأنه كان محالا على الكتاب وناقل الكتاب ليس بمذكور فالتحق الحديث بالمرسلات ومن وجوه العلل فيه أنه روي عن عبد الله بن عكيم من طريق أخرى قال حدثنا مشيخة لنا من جهينة أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إليهم الحديث رواه البخاري في تاريخه وأبو حاتم في صحيحه
وسادسها إذا حصل إسلام راويين معا كإسلام خالد وعمرو بن العاص رضي الله عنهما وعلم أن أحدهما تحمل الحديث بعد إسلامه فيرجح بخبره على الخبر الذي لا يعلم هل تحمله الآخر قبل الإسلام أو بعده لأنه أظهر تأخرا
قال الخامس باللفظ فيرجع الفصيح لا الأفصح والخاص وغير المخصص والحقيقة
والأشبه بها والشرعية ثم العرفية والمستغني عن الإضمار والدال على المراد من وجهين بغير واسطة والموفي إلى علة الحكم والمذكور معه معارضة والمقرون بالتهديد
ش الترجيح بحسب اللفظ يقع بأمور الأول فصاحة أحد اللفظين مع ركاكة الآخر ومن الناس من لم يقبل الركيك والحق قبوله وحمله على أن الراوي رواه بلفظ نفسه فإنه لا يشترط على الراوي بالمعنى أن يأتي بالمساوئ في الفصاحة
الثاني قال قوم يرجح الأفصح على الفصيح لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان أفصح العرب فلا ينطق بغير الأفصح والحق الذي جزم به في الكتاب أنه لا يرجح به لأن البليغ قد يتكلم بالأفصح وقد يتكلم بالفصيح لا سيما إذا كان مع ذوي لغة لا يعرفون سوى تلك اللفظة الفصيحة فإنه يقصد إفهامهم وقد روى عبد الرزاق عن عمر عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن أم الدرداء عن كعب بن عاصم الأشعري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول ليس من أم بر أم صيام في أم سفر وارد ليس من البر الصيام في سفر فأتى
بهذه اللغة إذ خاطب بها أهلها وهي لغة الأشعريين يقبلون اللام ميما
الثالث يرجح الخاص على العام لما تقدم في بابه ومن أمثلة الفصل رواية أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم علم رجلا الصلاة فقال كبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن وقد احتج به الخصم على أن الفاتحة لا تتعين ولنا ما ثبت في الصحيحين قوله صلى الله عليه و سلم لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ورواه الدارقطني ولفظه لا تجزى صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وهو أظهر في الدلالة لأنه صريح في نفي الصحة
الرابع يقدم العام الذي لم يخصص على العام الذي نص واستدل عليه الإمام بأن الذي دخله التخصيص قد أزيل عن تمام مسماه والحقيقة مقدمة على المجاز ولقائل أن يعقل إذا كان الغالب أن كل مخصص وأنه ما من عام إلا وقد خص فالعمل لمخصص أولى لأنه التحق بالغالب فاطمأنت إليه النفس ولم ينتظر بعده تطرق التخصيص إليه بخلاف الباقي على عمومه فإن النفس لا تستيقن ذلك واعترض الهندي أيضا بأن المخصوص راجع من حيث كونه خاصا بالنسبة إلى ذلك العام الذي لم يدخله التخصيص والخاص أولى من العام
الخامس تترجح الحقيقية على المجاز لتبادرها إلى الذهن فتكون أظهر دلالة من المجاز وهذا إذا لم يكن المجاز غالبا فإن غلب فقد سبق في موضعه فإن قلت المجاز المستعار أظهر دلالة من الحقيقة فإن قولك فلان بحر أقوى من قولك فلان سخي قلت ليس المعنى قولنا أظهر دلالة وأبلغ بل إن المتبادر فيها إلى الفهم أكثر كما عرفت ولا نسلم أن الاستعارة كذلك فضلا عن أن تكون أظهر ولك أن تقول إذا ذكر المجاز بدون قرينة معينة مقيدة بأن قيل ابتداء فلان بحر فهذا الجواب صحيح لأنه ليست دلالة هذا على الكرم أظهر من قولنا سخي أو كريم كما ذكرتم لأن سميته بالبحر متردد بين علمه الغزير وكرمه الكثير فلا يتعين الواحد منهما إلا بقرينة وأما إذا وجدت أمه قرينة مخصصة معينة لذلك المعنى المجازي فالاستعارة كذلك أظهر دلالة وذلك كقول
القائل رأيت أسدا يرمي بالنشاب أو سهم يقوه بالخطاب فإن لهذا دلالة ظاهرة أظهر وأقوى من قولك رأيت شجاعا
السادس إذا تعارض خبران أو لم يمكن العمل بأحدهما إلا بعد ارتكاب المجاز ومجاز أحدهما أشبه بالحقيقة من مجاز الآخر فيرجح على ما ليس كذلك وقد مر تمثيله في المجمل والمبين
السابع برجح المشتمل على الحقيقة الشرعية على المشتمل على العرفية أو اللغوية ثم العرفية مقدمة على اللغوية كما عرفت في مكانه
الثامن يرجح الخبر المستغني عن الإضمار في الدلالة على المفتقر إليه لكون الإضمار على خلاف الأصل
التاسع يقدم الخبر الدال على المراد من وجهين على الدال عليه من وجه واحد لقوة الظن الحاصل من الأول بتعذر جهة الدلالة
العاشر يرجح الخبر الدال على الحكم بغير وسط على ما يدل عليه بوسط لزيادة غلبة الظن بقلة الوسائط مثاله قوله صلى الله عليه و سلم أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فإنه لا يدل على بطلان نكاحها إذا نكحت نفسها بإذن وليها إلا بواسطة الإجماع إذ يقال إذا بطل عدم الإذن بطل بالإذن لعدم القائم بالفصل وقوله صلى الله عليه و سلم الأيم أحق بنفسها من وليها يدل على صحة نكاحها إذا نكحت نفسها مطلقا من غير واسطة فالحديث الثاني أرجح من هذا الوجه
الحادي عشر الخبر المذكور مع لفظ موم إلى علته يرجح على ما ليس كذلك لأن الانقياد إليه أكثر من الانقياد إلى المذكور بغير علة مثاله تقديم قوله صلى الله عليه و سلم من بدل دينه فاقتلوه على ما روى نهيه صلى الله عليه و سلم عن قتل النساء والصبيان من جهة أن قوله من بدل إيماء إلى أن العلة التبديل
الثاني عشر المذكور مع معارضة أولى مما ليس كذلك مثاله قوله عليه السلام كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فيرجح عليه الخبر الدال على تحريم زيارة القبور أو على كراهيتها من غير ذكر معارض معه مثل لعن الله زوارات القبور وذلك لأن الترجيح الأول يقتضي النسخ مرة واحدة وترجيح الثاني يقتضي النسخ الثاني حينئذ الأمر المذكور في الأول ونسخ الأمر المذكور فيه النهي المخبر عنه فيكون مرجوحا ومن أمثلته أيضا رواية جميلة بنت محيم قالت كان ابن الزبير يرزقنا الثمر في الجهد فيمر علينا ابن عمر فيقول لا تقاربوا فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن الأقران مع رواية عطاء الخراساني عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم كنت نهيتكم عن الإقران وإن الله قد أوسع عليكم الخير فاقرنوا فهذا يدل على جواز إقران التمرتين فما فوقهما وهو صريح في نسخ النهي عنه ولكن الشافعي رضي الله عنه نص على تحريم الإقران بين التمرتين في غير موضع وكأنه لم ير صحة هذا الإسناد
الثالث عشر المعروف بنوع من التهديد يرجح لأن اقترانه به يدل على تأكد الحكم الذي تضمنه كقوله صلى الله عليه و سلم من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم
وكذلك لو كان أحدهما زيادة تمهيد
قال السادس بالحكم فيرجح المبقى لحكم الأصل لأنه لو لم يتأخر عن الناقل لم يفدو المحرم عن المبيح لقوله صلى الله عليه و سلم ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال والاحتياط ويعادل الموجب ومثبت الطلاق والعتاق لأن الأصل عدم القيد ونافي الحد لأنه ضرر لقوله صلى الله عليه و سلم أدرؤا الحدود بالشبهات
ش الترجيح بحسب الحكم على وجوه الأول إذا كان أحد الخبرين مقرر الحكم الأصل والثاني ناقل فالجمهور على أنه يجب ترجيح الناقل وذهب بعضهم واختاره الإمام وبه جزم المصنف أنه يجب ترجيح المقرر مثاله خبر من روي عنه صلى الله عليه و سلم إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ وخبر من روى قوله صلى الله عليه و سلم هل هو إلا بضعة منك فإن الأول ناقل عن حكم الأصل والثاني مقرر وكذلك خبر من روى أفطر الحاجم والمحجوم مع من روى أنه صلى الله عليه و سلم احتجم وهو صائم
واحتج المصنف على ما ذهب إليه بأنه حمل الحديث على ما لا يستفاد إلا من الشرع أولى من حمله على ما يستفاد بمعرفته فلو جعلنا المبقى مقدما على الناقل لكان واردا حيث لا يحتاج إليه لأنا في ذلك الوقت نعرف ذلك بالعقل ولو قلنا أن المبقى ورد بعد الناقل لكان واردا حيث يحتاج إليه فكان الحكم بتأخره أولى من الحكم بتقدمه عليه هذا تقريره وحاصله أنه يختار تقدم الناقل وتأخر المقرر لكونه متضمنا للعمل بالخبرين بالناقل في زمان وبالمقرر بعد ذلك فإن كانت الصورة هكذا وهي أنه يقرر حكم الناقل مدة في الشرع عند المجتهد وعمل بموجبه ثم نقل له المقرر في الشرع ولم يعلم التاريخ فيما ذكره من الاحتجاج والترجيح ظاهر
قال النقشواني لكن ليست هذه الصورة بالتي فرض الخلاف وفيها لا يظن بهم المخالفة في ذلك وأما إن كانت الصورة على خلاف ذلك وهو أن الثابت
عند الجمهور مقتضى البراءة الأصلية ونقل الخبران المقرر والناقل فلا يتأتى هذا الاحتجاج إذ يلزم تعطيل الناقل بالكلية لعدم وقوع العمل به في شيء من المدة بخلاف المقرر فإن الحكم العقلي يصير مستندا إليه ويصير شرعيا كذا ذكره النقشواني ولقائل أن يقول يتساقط الخبران بالتعارض ونرجح بالبراءة الأصلية ولا نقول إن الحكم العقلي صار شرعيا ولا نرجح أحد الخبرين لموافقته الأصل كما هو قضية تقرير الإمام والمصنف ونحمل قولهم أن المقرر راجح على أن العمل بمضمونه ثابت بالدليل العقلي الثاني ذهب الأكثرون وبه جزم المصنف إلى ترجيح المقتضى للتحريم وقال آخرون بترجيح المقتضى الإباحة لأن الإباحة تستلزم نفي الحرج الذي هو الأصل وحكاهم الشيخ أبو إسحاق وجهين وذهب الغزالي إلى أنهما يستويان لأنهما حكمان شرعيان صدق الراوي فيهما على وتيرة واحدة واحتج الأولون بوجهين ذكرهما في الكتاب أحدهما ما روي من قوله صلى الله عليه و سلم ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال وهو حديث رواه لا أعرفه والثاني أن الأخذ بالتحريم احتاط لأن الفعل إن كان حراما ففي ارتكابه ضرر وإن كان مباحا فلا ضرر في تركه وهذا ما اعتمد عليه الشيخ أبو إسحاق ولهذا إذا طلق إحدى زوجتيه حرمتا إلى البيان ومن أمثلة الفصل روى أحمد بن حنبل بطريقين متصلين أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ما أسكر كثيره فقليله حرام وروي الدارقطني بسنده سئل النبي صلى الله عليه و سلم عن النبيذ حلال وحرام قال حلال فيرجح الأول الثالث إذا ورد خبران مقتضى أحدهما التحريم والآخر الإيجاب فذهب المصنف إلى التسوية بينهما وإليه أشار بقوله ويعادل الموجب أي يعادل الخبر المحرم يقتضي استحقاق العقاب على الفعل كتضمن الموجب العقاب على الترك ورجح آخرون المقتضى للتحريم لأن المحرم يستدعي دفع المفسدة وهي أهم من جلب المصلحة وبه جزم الآمدي
ومن أمثلة الفصل ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له قال نافع فكان عبد الله إذا مضى من شعبان تسع وعشرون يبعث من ينظر فإن رأى فذاك وإن لم يروا لم يحل دون منظره سحاب ولا اقتران صبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو اقتران صبح صائما
وهذا يستدل به من يقول بوجوب صوم يوم الشك ويعارضه خصمه بما روي عن عمار بن ياسر من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه و سلم قال الترمذي حديث صحيح ومنها ما روي من قوله صلى الله عليه و سلم في مالي اليتيم زكاة إذا يدل على أنه يجب على الوالي إخراجهما مع قوله صلى الله عليه و سلم رفع القلم عن ثلاث إذا يدل على عدم الوجوب وإذا لم تجب حرم على الولي إخراجهما لأنه لا يتصرف إلا بالمصلحة والغبطة وذكر للقاضي أبو بكر في مختصر التقريب باختصار إمام الحرمين في تعارض العلة المقتضية للإيجاب مع العلة المقتضية للندب أن بعضهم قدم الإيجاب قال وفي هذا نظر فإن الوجوب فيه قدر زائد على الندب والأصل عدمه
الرابع إذا كان أحد الخبرين مثبتا للطلاق أو العتاق وإلا حزنا فيا له فمنهم من قدم المثبت على النافي لأن الأصل عدم القيد أي قيد النكاح وقيد الرقبة فما دل على ثبوت الطلاق أو العتاق فقد دل على زوال قيد النكاح أو ملك اليمين فكان موافقا للأصل فليرجح وهذا ما جزم به المصنف ومنهم من قدم النافي
لكونه على وفق الدليل المقتضى لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين وهذا هو الصحيح عندي وقولهم الأصل عدم القيد لا يصح مع ثبوت وجوده فإن الأصل بعد ثبوت وجوده إنما هو بقاؤه ومنهم من سوى بينهما وتجري هذه الأقوال في تعارض الخبر المثبت والنافي في خبر الطلاق والعتاق أيضا كخبر بلال دخل النبي صلى الله عليه و سلم البيت وصلى فيه وخبر أسامة لم يصل فيه
ونقل إمام الحرمين هنا عن جمهور الفقهاء ترجيح الإثبات ثم قال وهو يحتاج إلى من يدل تفصيل عندنا فإن كان الذي ينقله الناقل إثبات لفظ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم مقتضاه النفي فلا يرجح عن ذلك اللفظ المتضمن للإثبات لأن كل واحد من الراويين مثبت فيما ينقله ومثاله أن ينقل أحد الراويين أنه أباح شيئا وينقل الآخر أنه قال لا يحل وأما إذا نقل أحدهما قولا أو فعلا ونقل الآخر أنه لم يقله ولم يفعله فلإثبات مقدم لأن الغفلة تتطرق إلى المصغي المستمع وإن كان محدثا والذهول عن بعض ما يجري أقرب من تخيل شيء لم يجر له ذكر وهذا التفصيل حق ولا يتجه معه خلاف في الحالتين بل ينبغي حمل كلام القائل بالاستواء على الحالة الأولى
والقائل بتقديم الإثبات على الثانية ولا يجعل في المسألة خلاف نعم قد يقال في الحالة الثانية بعدم ترجيح الإثبات إذا كان النفي محصورا كخبر أسامة فإن قوله لم يصل نفي محصور في وقت يمكن نفي الفعل فيه فهذا له احتمال الخامس ترجيح الخبر النافي للحد على الموجب له خلافا لقوم واستدل عليه المصنف بأن الحد مدرء بقوله صلى الله عليه و سلم ادرؤا الحدود بالشبهات وهذا الحديث لا يعرف بهذا اللفظ إلا في مسند أبي حنيفة لأبي محمد البخاري وروى الترمذي ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم ثم صحح أنه موقوف ووجه
الحجة أن الخبر المعارض لوجوب الحد أقل درجاته أنه يكون شبهة والشبهة تدرأ الحد للحديث فائدة الخلاف في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح النافي للحد جر في أنه هل يرجح العلة المثبتة للعتق على النافية له لتشوق الشارع إلى العتق ذكره ابن السمعاني
قال السابع بعمل أكثر السلف ش الترجيح بالأمر الخارجي على وجوه اقتصر منها في الكتاب على عمل أكثر السلف فالمختار ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف به لأن الأكثر يوفق له الأقل وهذا ما جزم به المصنف ومنع قوم من حصول للترجيح به لأنه لا حجة في قول الأكثر ومن فروع المسألة التقديم بعمل الشيخين ولذلك قدمنا رواية من روى في تكبيرات العيدين سبعا وخمسا على رواية من روى أربعا كأربع الجنائز لأن الأول قد عمل به أبو بكر وعمر وقد بقيت مرجحات أخر في كل قسم من الأقسام السبعة أهملهما المصنف فتابعناه في ذلك لأن الخطب فيها يسير وهل المدار إلا على زيادة ظن بطريق من الطرق وقد انتحت أبوابها بما ذكرناه فلا يحتاج الفطن من بعده إلى مزيد تطويل ففيما ذكرناه إرشاد عظيم لما نذكره
قال الباب الرابع في تراجيح الأقيسة وهي بوجوه الأول بحسب العلة فترجح المظنة ثم الحكمة ثم الوصف الإضافي ثم العدمي ثم الحكم الشرعي والبسيط والوجودي للوجودي والعدمي للعدمي
ش قال إمام الحرمين رحمه الله هذا الباب هو الغرض الأعظم من الكتاب وفيه تنافس القياسيين وفيه اتساع الاجتهاد واعلم أن ترجيح الأقيسة بوجوه
الأول بحسب العلة وهو مفرع على جواز التعليل بكل واحد من الأوصاف التي نذكرها وذلك خمسة أمور أولها يرجح القياس المعلل بالوصف
الحقيقي الذي هو مظنة الحكمة على القياس المعلل بنفس الحكمة للإجماع بين القياسين على صحة التعليل بالمظنة ومن أمثلته ترجيح التعليل بالسفر الذي هو مظنة المشقة على التعليل بنفس المشقة
وثانيها يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف العدمي لأن العدم لا يكون علة إلا إذا علم اشتماله على الحكمة فإذا كانت العلة الحكمة لا ذلك العدم كان التعليل بها أولى فإن قلت قضية هذا أن يرجح التعليل بالحكمة على التعليل بالوصف الحقيقي قلت نعم ولكن التعليل الحقيقي راجح من جهة كونه منضبطا ولذلك الاتفاق عليه قوله ثم الوصف الإضافي اعلم أن هذا ساقط في بعض النسخ ولإسقاطه وجه وجيه لدخوله تحت العدمي إذ الإضافات من الأمور العدمية وقد قررنا أن التعليل بها مرجوح ولإثباته وجه من جهة أنه مختلف في كونه وجوديا ومثال تعارض التعليل بالحكمة والوصف الإضافي أن يقول القائل في النكاح بلا ولي ناقضة بالأنوثة فلا ينفذ منها عقد النكاح كالصغيرة فيكون أولى منه أن يقول قلة العقل والدين مع فرط الشهوة حكمة تقتضي أن تسلب الولاية فإن هذا التعليل بالحكمة وذاك بالنقصان وهو أمر إضافي
وثالثها وإن شئت قلت رابعها على صحة إحدى النسختين يرجع القياس المعلل حكما بالوصف العدمي على المعلل حكمه بالحكم الشرعي لأن التعليل بالعدمي يستدعي كونه مناسبا للحكم والحكم الشرعي لا يكون علة إلا بمعنى الأمارة والتعليل بالمناسب أولى من التعليل بالأمارة وهذا ما اختاره المصنف وصاحب التحصيل وصفي الدين الهندي والإمام ذكر في المسألة احتمالين ولم يرجح شيئا أحدهما هذا والثاني عكسه قال لأن الحكم الشرعي أشبه بالموجود فإن قلت لا نسلم ذلك وهذا لأن الأحكام الشرعية أمور اعتبارية بدليل أنه يجوز لها ولغيرها بحسب الأشخاص والأزمان والأمان والأمور الاعتبارية أمور عدمية قلت لما كان الحكم هو الخطاب المتعلق ولا شك أن الكلام أمر وجودي سقط هذا
ورابعها يرجح المعلل بالحكم الشرعي على المعلل حكمه بغيره ما عدا
الأقسام المذكورة كالوصف التقديري مثلا لكون التقديري على خلاف الأصل
وخامسها المعلل بالبسيطة مرجح على المعلل بالمركبة وهذا هو الذي جزم به المصنف وهو رأي المتأخرين وعليه الجدليون وعلل بأمر أحدهما أن البسيطة تكثر فروعها فوائدها والآخر أن الاجتهاد يقل فيها وإذا قل الاجتهاد قل الحظر له وقال بعضهم بترجيح المركبة وقيل هما سواء قال القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ولعله الصحيح وقد اعترض إمام الحرمين على ما اعتل به الأولون بأنه لا ترجيح بكثرة الفروع ثم إنه رب علة ذات وصف لا يلزم فروعها وربما كانت قاصرة وأما ترجيح البسيطة بقلة الاجتهاد فقول ركيك إذ النظر في الأدلة وترجيح بعضها على بعض لا يتلقى من جهة الحظر قال والذي يحقق هذا أن صاحب العلة ذات الوصف الواحد إذا لم يناظر في ذات الوصفين فاجتهاده قاصر وهو على رتبة المقلدين أو المقتصرين على طرف من الاجتهاد وإن نظر في ذات الوصفين ولم ير التعلق بهما فقد كثر اجتهاده وتعرض للغرور ولكن أدى اجتهاده إلى النفي وإن رأى ذات الوصف صحيحة فذات الوصفين عنده عديمة التأثير في أحد وصفيها وكل ذلك بعد نهاية الاجتهاد فسقط الركون إلى قلة الاجتهاد وتبين أن اقتحام النظر حتم على من يجتهد ومن أمن أمثلة الفصل قول الشافعي في الجديد العلة الطعم في الأشياء الأربعة مع ضمه في القديم التقدير إلى الطعم
وسادسها يرجح القياس الذي يكون فيه الوصف وجوديا والحكم وجوديا على ما إذا كان أحدهما عديما أو كانا عدميين ويرجح تعليل العدمي بالعدمي على ما إذا كان أحدهما وجوديا هذا حاصل ما في الكتاب فقوله والوجودي للوجودي أي ويرجح الوصف الوجودي لتعليل الحكم الوجودي على الأقسام الثلاثة وقوله ثم العدمي للعدمي أي يرجح على القسمين الباقيين ومما ينبه عليه المعتني بلفظ الكتاب أن المصنف إنما أتى بالواو في قوله والبسيط لكونه شروعا في ترجيح الأقيسة باعتبار آخر ونختم الفصل بقوله ما اقتضاه كلام المصنف من ترجيح التعليل بالعدمي للعدمي على التعليل بالوجودي للعدمي وعكسه هو ما صرح به الإمام معتلا بالمشابهة بين التعليل بالعدمي للعدمي
وعندنا في هذه وقفة فإن مخالفة الأصل فيه أكثر من القسمين الباقيين فكان يجب أن يقضي عليه بالمرجوحية بالنسبة إليهما وإنما قلنا إن مخالفة الأصل فيه أكثر لأن العلية والمعلولية وصفان وجوديان ولا يمكن حملهما على المعدوم إلا إذا قدر موجودا وهو خلاف الأصل وزيادة المناسبة والمشابهة لا تصلح مقاومة لمخالفة الأصل بل لقائل أن يقول إذا كانت العلية والمعلولية صفتين وجوديتين كما صرح به الإمام هنا فيستحيل قيامهما بالمعدومين فإن لم يقتض ذلك منع هذا القسم فلا أقل من اقتضائه المرجوحية
ومما يلتحق بأذيال ما قررناه الترجيح بين العدمي بالوجودي وعكسه وقد سكت عنه المصنف لتوقف الإمام فيه ونحن نقول هو أولى من عكسه لأن المحذور في عكسه أشد لحصوله في أشرف الجهتين وهو العلية
مثال الوجوديين مع العدميين قولنا الخلع طلاق لأنه فرقة ينحصر ملكها في الزوج فيكون طلاقا كما لو قال أنت طالق على ألف مع قول القديم هو فسخ لأنه لا رجعة فيه فلا يكون طلاقا كالرضاع ومثال العدميين مع الوصف في العدمي والحكم الوجودي قولنا المرأة لا تلي القضاء فلا تلي النكاح قياسا على المجنون مع قولهم لا تمنع من التصرف في المال فتتصرف في النكاح قياسا على العاقل ومثال العدميين مع الوصف الوجودي والحكم العدمي أن يقال في عتق الراهن تصرف صادف الملك فلا يلغى كما لو كان غير راهن فيقال لم يتصرف فيه وهو مطلق التصرف فيه فلا يعتبر كما لو أعتقه غير المالك ومثال الوصف العدمي والحكم الوجودي مع عكسه أن يقال في عتق الراهن ليس تصرفا من غير مالك فيكون معتبرا فيقال تصرف يبطل حق الغير وهو المرتهن فلا يعتبر
قال الثاني بحسب دليل العلية فيرجح الثابت بالنص القاطع ثم الظاهر اللام ثم إن والباء ثم بالمناسبة الضرورية الدينية ثم الدنيوية ثم التي في حيز الحاجة الأقرب اعتبارا فالأقرب ثم الدوران في محل ثم في محلين ثم السير ثم الشبه ثم الإيماء ثم الطرد
ش الترجيح بحسب الدليل الدال على علية الوصف للحكم على أقسام
الأول يرجح القياس الذي يثبت عليه الوصف لحكم أصله بالنص القاطع على ما لم يثبت بالقاطع لأنه لا يحتمل فيه عدم العلية بخلاف ما ليس بقاطع
الثاني يرجح ما ثبتت علية الوصف فيه بالظاهر على ما لم يثبت بالظاهر من سائر الأدلة سوى النص القاطع والألفاظ الظاهرة في إفادة العلية ثلاثة اللام وإن والباء وأقواها اللام لأنها أظهر في العلية من أن والباء وقد اقتضت عبارة الكتاب مساواة أن للباء والإمام تردد في أيهما يقدم واختار صفي الدين الهندي تقديم الباء لكونها أظهر في التعليل بالاستقراء
الثالث يرجح ما ثبت علية الوصف فيه بالمناسبة على ما عداها من الدوران وأشباهه لقوة دلالة المناسبة واستقلالها في إفادة العلية ويرجح من المناسبة من هو واقع في محل الضرورة على ما وقع في محل الحاجة وهو المصلحي أو التتمة وهو التحسيني كما تقدم شرح ذلك في كتاب القياس وترجح الضرورية الدينية على الضرورة الدنيوية لأن ثمرتها السعادة الأخروية التي هي انجح المطالب وأروح المكاسب فإن قلت بل ينبغي العكس لأن حق الآدمي مبنى على الشح والمضايقة وحق الله تعالى مبنى على المسامحة والمساهلة
ولهذا كان حق الآدمي مقدما على حق الله تعالى لما ازدحم الحقان في محل واحد وتعذر استيفاؤهما منه كما يقدم القصاص على القتل في الردة والقطع في السرقة كذا الدين على زكاتي المال والفطر في أحد الأقوال قلت الذي نختاره تقديم حق الله تعالى لقوله صلى الله عليه و سلم في حديث الخثعمية فدين الله أحق بالقضاء وفي المسائل التي ازدحم فيها الحقان كثرة والرأي الأصح تقديم الحج والعمرة والزكاة فسقط السؤال بالنسبة إلى الصور الثلاث وأما القتل والقطع فإن المقصود من الشرع إزالة مفسدة الردة ولا غرض له في القتل بل لما كان وسيلة إلى إزالة تلك المفسدة شرع فلما اجتمع مع حقي الآدمي ولم
يتعارض القصدان إذ ليس غرض الآمدي سوى التشفي بالاقتصاص سلمناه إلى ولي الدم ليستوفي منه فيحصل القصدان في ضمن ذلك فلم يتقدم حق الآدمي وكذلك القول في القطع فتأمل هذا
ومن المسائل اجتماع الكفارات مع حق الآدمي وقد أجرى الأصحاب فيها أقوال الزكاة والأصح تقديم حق الله تعالى قوله الأقرب اعتبارا فالأقرب أي يرجح من ذلك ما هو أقرب اعتبارا في الشرع من صاحبه فيرجح ما ثبت اعتبار نوع وصفه في نوع الحكم على المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم أو المعتبر جنس وصفه في نوع الحكم وهما مرجحان على المعتبر جنس وصفه في جنس الحكم وما المرجح منهما قال الإمام هما كالمتعارضين وقال صفي الدين الهندي الأظهر تقديم المعتبر نوع وصفه في جنس الحكم على عكسه وهو كما ذكر لحصول الخصوصية وقلة الإيهام في أشرف الجهتين وهي العلية
الرابع يرجح القياس الذي تثبت علية وصفه بالدوران على الثابت بالسير وما بعده لاجتماع الإطراد والانعكاس في العلية المستفادة من الدوران دون غيره بل قد قدمه بعضهم على المناسبة محتجا بأن المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية وهذا ضعيف فإن سبيل العلل الشرعية سبيل الإمارات والعقلية عند القائل بها موجبة فلا يمكن اعتبار تلك بهذه قال القاضي أبو بكر في التلخيص وباختصار إمام الحرمين في الكلام على البسيطة والمركبة مضاهاة العلل العقلية لا أصل له فإن السمعية لا تضاهي العقلية أبدا فتدبر ذلك ثم القياس الثابت عليته بالدوران الحاصل في محل واحد مرجح على الثابت عليته بالدوران الحاصل في محلين لقلة احتمال الخطأ في الأول لأنه يفيد القطع بعدم علية ما عدا الدوران بخلاف الدوران في محلين فإنه لا يفيد ذلك فإنا لما رأينا أن العصير لما لم يكن مسكرا لم يكن محرما ثم صار محرما بالإسكار وانعدم بعدمه حصلنا على قطع بأن ما عدا المسكرية من الصفات الثابتة في الأحوال الثلاثة ليس بعلة للحرمة وإلا لزم وجود العلة بدون الحكم أما الدوران في محلين فليس كذلك ألا ترى أن الحنفي إذا قال في مسألة الحلى كونه ذهبا موجب للزكاة لأن التبر لما كان ذهبا وجب فيه الزكاة
وثياب البذلة لما لم يكن ذهبا لم يجب فيها الزكاة لم يكن القطع بأن ما عدا كونه ذهبا ليس علة لوجوب الزكاة لاحتمال أن يكون المجموع المركب من كونه ذهبا وكونه غير معد للاستعمال هو العلة هكذا قرروه ولك أن تقول لا نسلم أن الدوران الحاصل في محل واحد يقبل القطع بعدم علية ما عد الدوران كما تقرر في موضعه وإنما قصراه على الرأي المختار إفادة الظن نعم الظن الحاصل فيه أقوى من الحاصل في محلين وقوة الظن كافية في الترجيح
الخامس يرجح القياس الذي يثبت علية وصفه بالسير على الثابت بالشبه وما بعده واستدلوا عليه بأنه أقوى في إفادة الظن ومنهم من قدمه على المناسبة لإعادة ظن العلية ونفي المعارض بخلاف المناسبة فإنها لا تدل على نفي المعارض واختاره الامدي وابن الحاجب ويلزم منه تقديمه على الدوران أيضا عند من يقدم الدوران على المناسبة ثم محل الخلاف في غير المقطوع به متعين وليس من قبيل الترجيح لما علم أن تقديم المقطوع على المظنون ليس من الترجيح في شيء وإنما النزاع في السير المظنون في كل مقدماته
وأما ما اشتملت مقدماته على القطعي والظني فذلك مختلف باختلاف القطع والظن فإن كان الظن الحاصل من السير الذي بعض مقدماته قطعي أكثر من الظن الحاصل بالمناسبة فهو أولى وإلا فهما متساويان والمناسبة أولى ومن أمثلة السبر مع الشبه قول الحنفي في الدليل على أنه إذا أفلس المحال عليه فللمحتال الرجوع على المحيل عجز عن الرجوع مع بقاء عينه فليرجع لمشابهة البائع من المفلس فنقول الحوالة وصف فإما أن لا تقتضي شيئا أو تقتضي شيئا وبطلان الأول ظاهر فيثبت الثاني وحينئذ فذلك الشيء إما أن يكون هو تحول الحق عن المحيل أولا والثاني باطل وإلا لزم أن يدوم له المطالبة كما في الضمان فثبت الأول ووجب أن تبرأ ذمته ولا يعود إليه كما لو أبرأه
السادس يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء والطرد كذا ذكره المصنف فإما تقديمه على الطرد فظاهر أن لا يمتري الطاردون في ضعف الظن الحاصل منه وأما على الثابت بالإيماء فهو بحث ذكره الإمام بعد أن حكى اتفاق الجمهور على أن ما ظهرت عليته بالإيماء راجع على ما ظهرت عليته
بالوجوه العقلية من المناسبة والدوران والسبر ووجهه بأن الإيماء لما لم يوجد فيه لفظ يدل على العقلية فلا بد وأن يكون الدال على عليته أمر آخر سوى اللفظ ولما بحثنا لم نجد شيئا يدل على عليته إلا أحد أمور ثلاثة المناسبة والدوران والسبر على ما تقدم في الإيماء وإذا ثبت أن الإيماءات لا تدل إلا بواسطة أحد هذه الطرق كانت هي الأصل والأصل أقوى من الفرع فكان كل واحد من هذه الثلاثة أقوى من الإيماءات
وهذه لا يقتضي ترجيح دلالة الشبه على الإيماء إلا إذا ساوى الشبه الأمور الثلاثة أو كان أقوى منها وهو خلاف ما رتبه في الكتاب ثم أنه مدخول من وجهين أحدهما أن ما ذكره هو من الدليل وهو استقباح أكرم الجاهل وأهن العالم على أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية دليل غير هذه الثلاثة فلم يلزم افتقار دلالة الإيماء إلى أحد الطرق الثلاثة فلا يلزم كون الطرق العقلية أصلا لها فلا يلزم رجحان الطرق العقلية عليها وثانيهما أنه اختار عدم اشتراط المناسبة في الوصف المومى إليه ولم يشترط فيه الدوران والسير وفاقا فجاز وجدان عليته بدون هذه الأمور الثلاثة ومما نذنبه على هذا الموضع أن القاضي أبا بكر مع قوله ببطلان قياس الأشباه قال هنا الأظهر أنه يجوز الترجيح به وإن لم يجز التمسك به ابتداء وقد حكينا هذا في الكلام على قياس الشبه
السابع يرجح القياس الثابت علية وصفه بالإيماء على الثابت بالطرد لأن الطرد لا يناسب الحكم أصلا والإيماء قد يناسب ولقصور الطرد عند الطاردين عن مراتب إخوانه من الأدلة وأما نحن فلا نقيم للطرد وزنا هذا شرح ما في الكتاب وقد يؤخذ منه أن تنقيح المناط متأخر الرتبة عن الطرد لأنه رتب الأدلة ترتيبا ختم به الطرد ومقتضاه تقديم الطرد على ما لم يذكره وهذا لا ينقسم بل الصواب تقديم تنقيح المناط ولا احتفال بما اقتضاه سياق الكتاب فإنه على هذا الترتيب يقتضي أيضا تأخر رتبة ما ثبت عليته بالإجماع حيث لم يذكره ولأمريه في أنه ليس كذلك
قال الثالث بحسب دليل الحكم فيرجح النص ثم الإجماع لأنه فرع ش يرجح من القياسيين المتعارضين ما يكون دليل حكم أصله أقوى من دليل
حكم أصل الآخر ومن فروع المسألة أنه يرجح القياس الثابت حكم أصله بالنص سواء كان كتابا أم سنة على القياس الثابت حكم أصله بالإجماع وذلك لأن الإجماع على النص لتوقف ثبوته على الأدلة اللفظية والأصل يقدم على الفرع وهذا الذي ذكره اختاره صاحب الحاصل فتبعه فيه والإمام إنما ذكره بحثا بعد أن نقل أنهم قالوا بتقديم الإجماع معتلين بأن الذي ثبت الحكم في أصله بالدلائل اللفظية يقبل التخصيص والتأويل والإجماع لا يقبلهما وهذا هو المختار وما ذكره الإمام مدخول وقوله الأصل يقدم على الفرع قلنا على فرعه أما على فرع آخر فلم لا يقدم وكيف لا يقدم الإجماع مع أنه إن كان صادرا عن نص فالمتعارض إذ ذاك ليس الإنصاف يرجح جانب أحدهما بالإجماع وإن كان عن قياس فدليلان عارضهما دليل واحد وأيضا فالإجماع متفق عليه والنص والحالة هذه غير متفق عليه والمجمع عليه مقدم على المختلف فيه وإن فرضت أن النص غير مختلف فيه فذلك حينئذ إجماع عن نص عارض مثله وليس صورة المسألة
قال الرابع بحسب كيفية الحكم وقد سبق لأن الترجيح بحسب كيفية الحكم قد ذكرنا فيه قولا بليغا في باب ترجيح الأخبار فاعتبر مثله هنا قال الخامس موافقة الأصول في العلة أو الحكم والاطراد في الفروع ش هذا الوجه في الترجيح بحسب الأمور الخارجية وهو على ثلاثة أضرب
أولها أن يكون أحد القياسين موافقا للأصول في العلة بأن يكون علة أصله على وفق الأصول الممهدة في الشريعة دون الآخر فيرجح الأول لشهادة كل واحد من تلك الأصول لاعتبار تلك العلة وكلما كان العدول عن القياس فيه أكثر كان أضعف
وثانيها ترجح الموفق للأصول في الحكم بأن يكون حكم أصله على وفق الأصول المقررة على ما ليس كذلك للاتفاق على الأول
الثالث يرجح الذي يكون مطرد الفروع بأن يلزم الحكم عليته في جميع الصور على ما لا يكون كذلك وبنجاز هذا تم كتاب التعادل والترجيح واعلم أن طرق الترجيح لا تنحصر فإنها تلويحات تجول فيها الاجتهادات ويتوسع فيها
من توسع في فن الفقه فلذلك اقتصرنا على شرح ما في الكتاب وأما الأمثلة في بابي تراجيح الأخبار والأقيسة فإذا ضرب الضارب بعضها في بعض وأراد الإتيان لكل قسم بمثال كان طالبا لتطويل عظيم فإن ذلك يحتمل مع الاستيعاب وقد يعبر فلذلك أضربنا عن هذا الغرض وجئنا بالنزر اليسير في البابين والله الموفق والمعين بمنه وكرمه قال رحمه الله الكتاب السابع في الاجتهاد والإفتاء وفيه بابان الأول في الاجتهاد وهو استفراغ الوسع في درك الأحكام الشرعية ش الاجتهاد لغة هو استفراغ الوسع في تحصيل الشيء وقد علمت من ضرورة كونه استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع أنه لا يكون إلا فيما فيه مشقة وكلفة وفي الاصطلاح ما ذكره في الكتاب بقوله استفراغ الوسع جنس وقوله في درك الأحكام فصل خرج به استفراغ الوسع في فعل من الأفعال العلاجية مثلا وقوله الشرعية فصل ثان تخرج اللغوية والعقلية والحسية والأحكام الشرعية تتناول الأصول والفروع ودركها أعم من كونه على سبيل القطع أو الظن هذا مدلول لفظه ويجوز أن يريد بالأحكام الشرعية خطاب الله تعالى المتعلق فيخرج الاجتهاد في الأصولية وهذا التعريف الذي ذكره المصنف سبقه إليه صاحب الحاصل وهو من أجود التعاريف فلا نطول بذكر غيره إذ ليس في تعداد التعاريف كبير فائدة
قال وفيه فصلان الأول في المجتهد وفيه مسائل الأولى يجوز له عليه السلام أن يجتهد لعموم فاعتبروا ووجوب العمل بالراجح ولأنه أشق وأدل على الفطانة فلا يتركه ومنع أبو علي وابنه لقوله تعالى وما ينطق عن الهوى قلنا مأمورية فليس بهوى ولأنه ينتظر الوحي قلنا ليحصل اليأس عن النص أو لأنه لم يجد أصلا يقيس عليه
ش اختلفوا في أن الرسول صلى الله عليه و سلم هل كان يجوز له الاجتهاد فيما لا نص فيه فذهب الشافعي وأكثر الأصحاب وأحمد والقاضيان أبو يوسف وعبد الجبار وأبو الحسين إلى جوازه ثم منهم من قال بوقوعه وهو اختيار الآمدي وابن الحاجب ومنهم من أنكر وقوعه وتوقف فيه جمهور المحققين وذهب أبو علي وابنه أبو هاشم إلى أنه لم يكن متعبدا به وشذ قوم فقالوا بامتناعه عقلا بما
حكاه القاضي في التلخيص لإمام الحرمين ومنهم من جوزه في أمور الحرب دون الأحكام الشرعية وقد احتج في الكتاب على الجواز بأوجه أربعة وهي دالة على الوقوع أيضا
أحدها عموم قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وكان عليه هو أفضل الصلاة والسلام أعلى الناس بصيرة وأكثرهم إطلاعا على شرائط القياس وذلك إن لم يرجح دخوله في هذا الأمر فلا أقل من المساواة فيكون مندرجا في الأمر ومتى كان مأمورا به كان فاعلا له ضرورة امتثاله أوامر ربه ووقوفه عندها صلى الله عليه و سلم
وثانيها إذا غلب على ظنه عليه السلام كون الحكم في الأصل معللا بوصف ثم ظن أو ظن حصول ذلك الوصف في صورة أخرى فلا بد وأن نظن أن الحكم في الفرع مثله في الأصل وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات بداية العقول ولقائل أن يقول إذا وجب ترجيح الراجح فليمتنع عن العمل بهذا الراجح لقدرته على أرجح منه وهو النص
وثالثها أن العمل بالاجتهاد أشق من العمل بالنص فيكون أكثر ثوابا فلا تختص الأمة بفضيلة لا توجد فيه
ورابعها أن العمل بالاجتهاد أدل على الفطانة والزكاة من النص لتوقفه على النظر الدقيق والقريحة المستجادة فلا يتركه صلى الله عليه و سلم لكونه نوعا من الفضيلة واحتج الجبائيان بوجهين أحدهما قوله تعالى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فإنه دليل على انحصار الأحكام الصادرة منه صلى الله عليه و سلم عن الوحي وأجاب عنه الإمام بأنه متى قال له متى ظننت كذا فاعلم أنه حكمي فالعمل حينئذ بالظن عمل بالوحي لا بالهوى وهذا قد ذكره الغزالي ولقائل أن يقول ليس هذا أمر بالاجتهاد فإنه تعالى لو قال كلما ملكت النصاب وحال عليه الحول أوجبت عليك الزكاة لا يكون هذا أمر بملكية النصاب ثم إن ملكه
كذلك وجبت عليه الزكاة بالنص لا بالاجتهاد وإنما الكلام في الحكم الثابت بالاجتهاد وهو لا يوجد فيه مثل هذا القول فلا يكون النطق بذلك نطقا بالوحي وأجاب عنه المصنف بأن الاجتهاد إذا كان مأمورا به لم يكن النطق به هوى وهو مدخول لإشعاره بأن الخصم احتج بصدر الآية وليس كذلك إذ هو لا يقول بأن القول بالاجتهاد قول بالهوى والثاني لأنه لو جاز له عليه السلام الاجتهاد لامتنع عليه انتظار الوحي لفصل الحكومات وغيرها لأن الفصل يجب على الفور وقد تمكن منه الاجتهاد ولكنه قد أخره وانتظر الوحي كثيرا
وأجاب بوجهين أحدهما أن العمل بالقياس لما كان مشروطا بعدم وجدان النص فكان انتظاره للوحي لكي يحصل اليأس عن النص فإن قلت إنما شرط فقدان النص إذا احتمل أن يكون ثم نص فأنه يؤمر المجتهد إذ ذاك بالفحص الشديد أما إذا تحقق عدمه فلا يتجه انتظار تشريعه ولو كان كذلك لا يقدح للمعترض أن يقول لينتظر المجتهد إجماع الأمة ولطوينا بساط الاجتهاد قلت كان احتمال نزول النص في حقه صلى الله عليه و سلم بمنزلة احتمال كونه موجودا في حق سائر المجتهدين لقرب وجدانه في الجهتين والثاني أنه يحتمل أن يكون انتظاره الوحي إنما كان فيما لا مساغ للاجتهاد فيه ولا أصل يقيس عليه
فائدتان أحدهما قال الغزالي يجوز القياس على الفرع الذي قاسه النبي صلى الله عليه و سلم وعلى كل فرع اجتمعت الأمة على إلحاقه بأصل قال لأنه صار أصلا بالإجماع والنص فلا ينظر إلى مأخذهم
الثانية النبي صلى الله عليه و سلم يتصرف في الفتاوى وأن الأقضية يجوز فيها من غير نزاع وستعرف الفرق بينهما بسؤال نذكره من كلام القرافي ومما يدل على جوازه في الأقضية مما روى أبو داود من حديث أبي سلمة رضي الله عنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست فقال إني إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه فإن قلت ما الفرق بين هذه الأمور وبين الرسالة والنبوة قلت تصرفه صلى الله عليه و سلم بالفتيا هو إخباره عن الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تعالى كما نقول في سائر المفتيين وتصرفه بالتبليغ هو مقتضى الرسالة وهي أمر الله تعالى في ذلك التبليغ فهو عليه السلام ينقل عن الحق
للخلق في مقام الرسالة ما وصل إليه عن الله تعالى فهو في هذا المقام مبلغ وناقل عن رب العالمين كما ينقل الرواة لنا أحاديثه فالمحدثون ورثوا عنه هذا المقام كما ورث عنه المفتي الفتيا وإذا اتضح بهذا الفرق بين الراوي والمفتي لاح الفرق بين تبليغه عليه السلام عن ربه وبين فتياه في الدين بهذا الفرق بعينه
وأما تصرفه صلى الله عليه و سلم بالحكم فهو مغاير للرسالة والفتيا لأن الرسالة تبليغ محض واتباع صرف وحكم إنشاء وإلزام من قبله عليه السلام بحسب ما ينسخ من الأسباب والحاجة ولذلك قال عليه السلام إنكم تختصمون ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له فشيء من حق أخيه فلا يأخذه إنما اقتطع له من النار دل على أن القضاء يتبع الحاجة وقوة اللحن به فهو عليه السلام في هذا المقام منشئ وفي الفتيا والرسالة مبلغ متبع وهو في الحكم أيضا متبع لأمر الله تعالى له بأن ينشئ الأحكام على وفق الحاجة والأسباب لأنه متبع في نقل ذلك الحكم عن الله تعالى لأن ما فوض إليه من أمر الله تعالى لا يكون منقولا عن الله تعالى وقد يفرق بين الحكم والفتيا بوجه آخر وهو أن الفتيا تقبل النسخ دون الحكم فإنه لا يقبل إلا النقض عند ظهور ما يترتب عليه الحكم وهذا في زمن النبي صلى الله عليه و سلم وأما بعده فالفتيا لا تقبل النسخ لتقرر الشريعة
وأما الرسالة من حيث هي فلا تقبل النسخ ولا النقض وأما النبوة فهي الإيحاء لبعض الخلق بحكم الشيء له يختص به كما أوحى الله لمحمد صلى الله عليه و سلم اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق فهذا تكليف يختص به قال العلماء فهذه نبوة وليست برسالة فلما نزل قوله تعالى يا أيها المدثر قم فأنذر كان هذا رسالة لأنه تكليف يتعلق بغير الموحى إليه فوضح لك بهذا أن كل رسول ونبي من غير عكس وأما تصرفه عليه السلامة بالإمامة فهو
وصف زائد على النبوة والرسالة والفتيا والقضاء معاقد المصالح ودرء مواقع المفاسد إلى غير ذلك
وهذا ليس داخلا في مفهوم شيء مما تقدم لتحقيق الفتيا بمجرد الإخبار عن الله تعالى والحكم بالتصدي لفصل الخصومات دون السياسة العامة لا سيما الحاكم الضعيف الذي لا قدرة له على التنفيذ إذا أنشأ الحكم على الملوك الجبابرة فهو إنما ينشئ الإلزام على ذلك الملك ولا يخطر بباله السعي في تنفيذه لتعذر ذلك عليه فظهر أن الحاكم من حيث هو حاكم ليس له إلا الإنشاء وأما قوة التنفيذ فأمر زائد على كونه حاكما فصارت السلطة العامة التي هي حقيقة الإمامة مباينة للحكم من حيث كونه حكما وأما الرسالة فليس يدخل فيها إلا التبليغ عن الله تعالى ولا يستلزم هذا تفويض السياسة العامة إليه فكم بعث الله من رسول لم يطلب منه غير التبليغ لإقامة الحجة من غير أن يأمره بالنظر في المصالح العامة وبوضوح الفرق بين الرسالة والإمامة يظهر بينهما وبين النبوة إذ النبوة خاصة بالموحى إليه لا تعلق لها بالغير
فإن قلت فهل لهذه الحقائق المفترقة آثار في الشريعة قلت نعم فإن كل ما فعله عليه السلام بطريق الإمامة من إقامة الحدود وترتيب الجيوش وغير ذلك لم يجز لأحد أن يفعله إلا بإذن إمام الوقت الحاضر لأنه عليه السلام إنما فعله بطريق الإمامة ولا استبيح إلا بإذنه وكلما فعله بطريق الحكم كفسوخ الأنكحة والعقود وغير ذلك لم يقدم عليه أحد إلا بالحكم الحاكم في الوقت الحاضر إقتداء رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنه لم يقرن تلك الأمور إلا وأما تصرفه عليه السلام بالرسالة والتبليغ أو الفتيا فذلك شرع يتقرر على الخلائق إلى يوم الدين من غير اعتبار حكم ولا إذن أمام وإنما هو عليه السلام بلغ الخليقة ارتباط ذلك الحكم بذلك السبب وخلى بينهم وبين ربهم كأنواع العبادات وغيرها فإذا تصرف صلى الله عليه و سلم تصرفا فقد يتضح كونه تصرفا بالإمامة أو بالقضاء أو بالفتيا
وقد علمت حكم كل قسم وقد يتردد بين هذه الأقسام ويتشاجر العلماء على أيها نحمل وفي المسائل الداخلة في هذا كثرة ولكنا نورد منها ما شهد به
النظر فمنها قوله صلى الله عليه و سلم من أحيا أرضا ميتة فهي له قال أبو حنيفة هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يحي بدون إذن الإمام وقال الشافعي رضي الله عنه بل بالفتيا لأنه الغالب من تصرفاته عليه السلام فلا يتوقف الإحياء على إذن الإمام ومنها قوله صلى الله عليه و سلم لهند بنت عتبة لما شكت إليه الشيخ أبا سفيان خذي لك ولولدك ما يكفيك بالمعروف فذهب الشافعي إلى أن هذا تصرف بالفتيا فعلى هذا من ظفر بجنس حقه أو بغير جنسه إذ لم يظفر بالجنس مع تعذر أخذ الحق ممن هو عليه جاز له أخذه حتى يستوي حقه وحكى في التهذيب وجها أنه يجوز أخذ غير الجنس مع الظفر بالجنس وقد يوجه بعدم التنفيذ في الحديث وذهب مالك رحمه الله إلى خلاف ذلك وقال إنه عليه السلام تصرف في قضية هند بالقضاء وجعل بعضهم هذه القضية أصلا في القضايا على الغائب وهو ضعيف لأن أبا سفيان كان حاضرا في البلد ظاهرا لا يمتنع عن الحضور إذا طلبه النبي صلى الله عليه و سلم والقضاء لا يتأتى على من هو بهذه المثابة على الصحيح من المذهب واستنبط القاضي الحسين من كونه تصرفا بالقضاء أنه يجوز أن يسمع إلى أحد الخصمين دون الآخر واستنبط الرافعي من كونه تصرفا بالفتيا أنه يجوز للمرأة أن تخرج لتستفتي وفيه نظر فإن هند أخرجت عام الفتح متقدمة على سائر النساء لما نزل قوله تعالى يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أبايعنكن على أن لا تشركن بالله شيئا فقالت هند لو أشركنا بالله شيئا ما دخلنا في دين الإسلام فقال أبايعكن على أن لا تقتلن أولادكن فقالت هند فهل تركتم لنا من ولد ربيناهم صغارا فقتلتموهم كبارا فقال أبايعكن على أن لا تزنين فقالت هند أو تزني الحرة فقال أبايعكن على أن لا تسرقن فقالت هند إن أبا سفيان
رجل شيخ الحديث فهند لم تخرج لأجل الاستفتاء فلا يحسن الاستدلال بها عليه ومنها قوله صلى الله عليه و سلم من قتل قتيلا فله سلبه قال بعض العلماء هذا تصرف منه عليه السلام بالإمامة فلا يجوز لأحد أن يختص بسلب إلا بإذن الإمام وقال الشافعي هو تصرف بالفتيا فلا يتوقف على إذن الإمام
قال فرع لا يخطىء اجتهاده وإلا لما وجب اتباعه
ش عبر عن هذا بالفرع بكونه مبنيا على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه و سلم والذي جزم به من كونه لا يخطىء اجتهاده هو الحق وأنا أظهر كتابي أن أحكي فيه قولا سوى هذا القول بل نحفل ولا نعبأ واستدل في الكتاب بأنه لو جاز الخطأ عليه لوجب علينا اتباعه في الخطأ وذلك ينافي كونه خطأ ونحن نقول لمن زخرف قوله وقال يجوز بشرط أن لا يقر عليه أليس يصدق صدور الخطأ المضاد لمنصب النبوة ولقد يلزمك على هذا محال من الهذيان وهو أن يكون بعض المجتهدين في حالة إصابته أكمل من المصطفى صلى الله عليه و سلم في تلك الحالة معاذ الله أن يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم كذلك وأنا قد اقتصرت على ما ذكرت تطهيرا لكتابي من البحث مع هذا القائل ووفاء بحق الشرح وإلا يعجز علينا أن نفوه فيه أو نثني نحوه عطفا
قال الثانية يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه و سلم وفاقا وللحاضرين أيضا إن لا يمتنع أمرهم به قيل عرضة للخطأ قلنا لا نسلم بعد الإذن
ش اتفقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم فإما في عصره صلى الله عليه و سلم فقد اختلفوا فيه فمنهم من جوزه مطلقا وهو المختار عند الأكثرين منهم الإمام وصاحب الكتاب ومنهم من منع منه مطلقا وقالت طائفة يجوز للغائبين عن الرسول صلى الله عليه و سلم من القضاة والولاة دون الحاضرين وجوزه آخرون للغائبين مطلقا دون الحاضرين ومنهم من قال يجوز إن لم يوجد مع ذلك منع قال صفي الدين الهندي وهذا ليس بمرضى لأن ما بعده أيضا كذلك فلم يكن
خصوصية بزمانه صلى الله عليه و سلم ومنهم من قال إن ورد الإذن بذلك جاز وإلا فلا ثم من هؤلاء من نزل السكوت عن المنع منه مع العلم بوقوعه منزلته الإذن ومنهم من اشترط صريح الإذن هذه جملة المذاهب في المسألة وبه يعلم أن دعوى المصنف الاتفاق على جوازه للغائبين ليس يجيد واحتج المصنف على الجواز بأنه لا يمتنع أن يقول الرسول صلى الله عليه و سلم لقد أوحى إلي أنك مأمور بأن تجتهد أو بأن تعمل على وفق ظنك واحتج المانعون بأن الاجتهاد في معرض الخطأ والنص آمن منه وسلوك السبيل المخوف مع القدرة عل سلوك السبيل الآمن قبيح عقلا وأجاب عنه تبعا للإمام بأن الشرع لما قال له أنت مأمور بأن تجتهد وتعمل على وفق ظنك كان آمنا من الغلط لأنه بعد الاجتهاد يكون آتيا بما أمر به وهو ضعيف فإن الإذن في الاجتهاد ولا يمنع وقوع الخطأ فيه وقد يقال في تقرير الجواب أنه بالأمر صار آمنا من الخطأ بفعل الاجتهاد أي يكون مفعله الاجتهاد صوابا لا أنه يأمن من تأدية الاجتهاد الخطأ وإذا كان الإقدام على الاجتهاد صوابا فلا عليه أن يخطئ بعد إتيانه بما أمر به وأجيب عنه أيضا بأنا لا نسلم أنه قادر على التوصل إلى النص وذلك لأن ورود النص ليس باختياره ومسألته بل جاز أن يسأل عن القضية ولا يرد فيها نص بل يؤمر بالعمل فيها بالظن ولا يمكنكم نفي هذا الاحتمال إلا إذا أبيتم نفي جواز الاجتهاد فبيان نفي جواز الاجتهاد بناء على نفي هذا الاحتمال دور واعلم أن الأمام قال الخوض في هذه المسألة قليل الفائدة لأنه لا ثمرة له في الفقه وهذا فيه نظر إذ ينبني على الأصل مسائل منها إذا شك في نجاسة أحد الإناءين ومعه ماء طهر بيقين أو ماء يغسل به أحدهما ففي جواز الاجتهاد له بين الإناءين والثوبين وجهان أصحهما أنه يجتهد وكذلك إذا غاب عن القبلة فإنه لا يعتمد على خبر من أخبره من علم ولا على الاجتهاد إلا إذا لم يقدر على معرفة القبلة يقينا وكذلك حكى الأصحاب وجهين في المصلي إذا استقبل حجر الكعبة وحده وقالوا الأصح المنع لأن كونه من البيت غير مقطوع به وإنما هو مجتهد فيه فلا يجوز العدول عن اليقين إليه
قال ولم يثبت وقوعه ش هذا عائد إلى الاجتهاد الحاضر الذي جعله
المصنف محل الخلاف وقد ذهب الأكثرون إلى ما قاله المصنف من التوقف ومنهم من قال بوقوعه ومنهم من نفاه وهذا في خف الحاضرين وأما الغائبون فمنهم من ذهب إلى وقوع التعبد به في حقهم ومنهم من منعه وتوقفت فرقة ثالثة واحتج من قال بالوقوع في الحاضر والغائب بقول الصديق رضي الله عنه لأبي قتادة حيث قتلا رجلا من المشركين فأخذ غير سلبه لا ما الله إذن لا تعمد إلى أسد من أسود الله يقاتل عن الله ورسوله فنعطيك سلبه فقال النبي صلى الله عليه و سلم صدق فإن الصديق رضي الله عنه قال ذلك اجتهادا وإلا لأسنده إلى النص لكونه ادعى إلى الانقياد وأقره النبي صلى الله عليه و سلم على ذلك فإذا جاز في حق الحاضر جاز بطريق أولى في حق الغائب ويخص الغائب حديث معاذ المذكور في كتاب القياس وأجيب عنهما بأنهما أخبار أحاد والمسألة علمية وقول الغزالي هذا حديث معاذ مشهور قبلته الأمة أخذه من إمام الحرمين وإمام الحرمين تلقاه من القاضي فإنه القاضي فإنه قال في التقرب إن الأمة تلقته بالقبول وليس يجيد لما عرفت في كتاب القياس واحتج من أنكر الوقوع مطلقا بأنهم لو اجتهدوا في عصره صلى الله عليه و سلم لنقل واشتهر كاجتهداهم بعده والمختار عندنا التوقف في حق الحاضرين وأما الغائبون فالظاهر وقوع يعبدهم به ولا قطع
قال الثالثة لا بد له أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام والإجماع وشرائط القياس وكيفية النظر وعلم العربية والناسخ والمنسوخ وحال الرواة ولا حاجة إلى الكلام والفقه ولأنه نتيجته شرط المجتهد أن يكون محيطا بمدارك الأحكام ومتمكنا من استشارة الظن بالنظر فيها وتقديم ما يجب تقديمه وتأخير ما يتعين وإنما يكون كذلك بأمور
أحدهما كتاب الله فإنه الأصل ولا بد من معرفته ولكن لا يشترط معرفة جميع الكتاب بل ما يتعلق منه بالأحكام قال الغزالي وهو مقدار خمسمائة آية ولا يشترط حفظهما عن ظهر قلب بل أن يكون عالما بمواقعها حين تطلب الآية إذا احتيج إليها
وثانيها سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا يشترط فيها أيضا الحفظ ولا معرفة ما لا يتعلق بالأحكام كما في معرفة الكتاب قال الغزالي ويكفيه أن يكون عنده
أصل مصحح لجميع أحاديث الأحكام كسنن أبي داود ومعرفة السنن لأحمد والبيهقي أو أصل وقعه العناية فيه لجميع أحاديث الأحكام ويكفي منه معرفة مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة قال الشيخ محي الدين النووي قدس الله روحه والتمثيل بسنن أبي داود لا يصح فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا ما معظمه وكم في صحيحي البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود
وثالثهما الإجماع فليعرف مواقعه حتى لا يفتى بخلافه ولكنه لا يلزمه حفظ جميع مواقعه بل كل مسألة يفتى فيها فينبغي أن يعلم أن فتواه ليست مخالفة للإجماع إما بموافقة مذهب عالم أو تكون الواقعة متولدة في العصر ليست لأهل الإجماع فيها خوض
ورابعها القياس فلتعرفه وتعرف شرائطه فإنه مناط الاجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه وأساليب الشريعة
وخامسها كيفية النظر فلتعرف شرائط البراهين والحدود وكيف تركب المقدمات وتستنتج المطلوب لتكون على بصيرة من نظرة
وسادسها علم العربية لغة ونحوا وتصريفا فلتعرف القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يميز به من صريح الكلام وظاهره ومجمله ومبينه وحقيقته ومجازه وعامه وخاصه إلى غير ذلك وليس عليه أن يبلغ مبلغ الخليل بن أحمد
وسابعها معرفة الناسخ من المنسوخ مخافة أن يقع في الحكم بالمنسوخ المتروك ولا يشترط حفظ ذلك جميعه كما تقدم ومنها حال الرواة في القوة والضعف وتمييز الصحيح عن الفاسد والمقبول عن المردود قال الغزالي وليكتف بتعديل الإمام العدل بعد أن يعرف صحة مذهبه في التعديل
وكذا قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي يقول على قول أئمة المحدثين كأحمد والبخاري ومسلم والدارقطني وأبي داود لأنهم أهل المعرفة بذلك فجاز الأخذ بقولهم كما يؤخذ بقول المقومين في القيم قال الغزالي فهذه هي العلوم الثمانية التي يستفاد بها منصب الاجتهاد وعظم ذلك يشتمل على ثلاثة فنون الحديث
واللغة وأصول الفقه وقال الإمام أهم العلوم للمجتهد أصول الفقه وشرط الإمام أن يكون عارفا بالدليل العقلي وعارفا بأننا مكلفون به وقد اتبع في ذلك فإنه ذلك ولم يذكر القياس وكأنهما تركاه لكونه متفرعا عن الكتاب والسنة ولكن لقائل أن يقول الإجماع والعقل أيضا كذلك فلم ذكرا قوله ولا حاجة أي لا يحتاج المجتهد إلى علم الكلام لأنا لو فرضنا إنسانا جازما بالإسلام تقليدا لأمكنه الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام ولكن الأصحاب عدوا معرفة أصول الاعتقاد من الشروط ولا حاجة أيضا إلى تفاريع الفقه وكيف يحتاج إليها والمجتهد هو الذي يولدها ويحكم فيها
فإذا كان الاجتهاد نتيجته فلو شرط فيه لزم الدور ونقل اشتراط الفقه عن الأستاذ أبي إسحاق
ولعله أراد ممارسة الفقه وهذا قد ذكره الغزالي فقال إنما يحصل الاجتهاد في زماننا بممارسة فهو طريق يحصل الدرية في هذا الزمان ولم يكن الطريق في زمن الصحابة رضي الله عنهم ذلك ويمكن الآن سلوك طريق الصحابة أيضا قال ابن الصلاح واشتراط ذلك في صفة المفتي الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح وإن لم يكن كذلك في صفة المجتهد المستقل على تجرده لأن حال المفتي يقتضي اشتراط كونه على صفة يسهل عليه معها إدراك أحكام الوقائع على القرب من غير تعب كثير ولا يحصل ذلك لأحد الخلق إلا بحفظ أبواب الفقه ومسائله ولا يشترط حفظ الجميع بل قدر يتمكن به من إدراك الباقي على القرب واعلم أن ما ذكرناه من اشتراط هذه العلوم إنما هو في حق المجتهد المطلق أما المجتهد في بعض الأحكام دون بعض فمن عرف طرق النظر القياسي له أن يفتي في مسألة قياسية وإن لم يعرف غيره وقس على هذا وزعم بعض الناس أن الاجتهاد لا يتجزأ وهو ضعيف وأما المجتهد المقيد الذي لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع قال ابن الصلاح والذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد قال والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى
خاتمة شرط الغزالي في المجتهد العدالة ثم قال وهذا يشترط لجواز الاعتماد على قوله إما هو في نفسه وإن كان عالما فله أن يجتهد لنفسه ويأخذ باجتهاد نفسه فالعدالة شرط لقبول الفتوى لا لصحة الاجتهاد هكذا ذكره واقتضى كلام غيره أن العدالة ركن في الاجتهاد ويتفرع على هذا أن الفاسق إذا أداه اجتهاده في مسألة إلى حكم هل يأخذ بقوله من علم صدقه في فتواه بقرائن بل قد يقال إن كانت العدالة ركنا في الاجتهاد فلا يجوز له أن يأخذ في حق نفسه باجتهاده بل يقلد لكونه والحالة هذه غير مجتهد وهذا بعيد
قال الفصل الثاني في حكم الاجتهاد اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع بناء على الخلاف في أن لكل صورة حكما معينا وعليه قطعي أو ظني والمختار ما صح عن الشافعي رضي الله عنه أن في الحادثة حكما معينا وعليه أمارة من وجدها أصاب ومن فقدها أخطأ ولم يأثم
ش المسألة عظيمة الخطب قد اختصر المصنف القول فيها فلنتوسط فيما نورده ثم تلتفت إلى ما ذكره فنقول في المسألة أبحاث أولها ذهب طوائف المسلمين على طبقاتهم إلى أنه ليس كل مجتهد في الأصول مصيبا وأن الإثم غير مخطوط عنه إذا لم يصادف ما هو الواقع وإن بالغ في الاجتهاد والنظر سواء كان مدركه عقليا كحدث العالم وخلق الأعمال أو شرعيا لا يعلم إلا بالشرع كعذاب القبر والحشر ولا يعلم خلاف بين المسلمين في ذلك إلا ما نقل عن الجاحظ وعبيد الله بن الحسين العنبري أنهما قالا ابن السمعاني وكان العنبري يقول في مثبتي القدر هؤلاء عظموا الله وفي نافي القدر هؤلاء نزهوا الله ومنهم من لم ينقل عن الجاحظ التصويب بل نفي الإثم والحرج فقط
والقاضي في مختصر التقريب اقتصر على النقل عن العنبري ثم قال واختلفت الرواية عنه فقال في أشهر الروايتين إنما أصوب كل مجتهد في الدين لجمعهم الملة فأما الكفرة فلا يصوبون وغلا بعض الولاة عنه فصوب للكافة من المجتهدين دون الراكنين إلا الدعة ونحن نتكلم معهما على سبيل الاختصار فنقول أنتما محجوجان بالإجماع قبلكما وبعدكما وثانيا إن أردتما بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد فقد خرجتما عن حيز العقلاء وانخرطتما في سلك الأنعام وإن
أريد الخروج عن عهدة التكليف ونفي الخروج كما نقل عن الجاحظ فالبراهين النقلية من الكتاب والسنة والإجماع خارجة عن حد الحصر ترد هذه المقالة
وأما تخصيص التصويف بالمجتمعين على الملة الإسلامية فنقول مما خاض فيه المسلمون القول بالتشبيه تعالى الله عنه علوا كبيرا والقول بخلق القرآن وغير ذلك مما يعظم خطره وأجمعوا قبل العنبري على أنه يجب على المر ء إدراك بطلان القول بالتشبيه قال القاضي ونقول له أيضا ما الذي حجزك عن القول بأن المصيب واحد فإن احتج بغموض الأدلة قلنا له فالكلام في النبوات والإحاطة بصفات المعجزات وتمييزها من المخاريق والكرمات أغمض عند العارفين بأصول الديانات من الكلام في القدر وغيره مما يختلف فيه أهل الملة فهلا غدرت الكفرة بما ذكرت قال وهذا لا محيص له عنه
البحث الثاني في تصويب المجتهدين في المسائل الفروعية وقد ضبط صفي الدين الهندي المذاهب فيه جيدا فقال الواقعة التي وقعت إما أن يكون عليها نص أولا فإن كان الأول فأما إن وجده المجتهد أو لا والثاني على قسمين لأنه إما قصر في طلبه أو لم يقصر فإن وجده وحكم بمقتضاه فلا كلام وإن لم يحكم بمقتضاه فإن كان مع العلم بوجه دلالته على المطلوب فهو مخطئ وآثم وفاقا وإن لم يكن مع العلم به ولكنه قصر في البحث عنه فكذلك وإن لم يقصر بل بالغ في الاستكشاف والبحث ولم يعصر على وجه دلالته على المطلوب فحكمه حكم ما إذا لم يجده مع الطلب الشديد وسيأتي إن شاء الله تعالى وإن لم يجده فإن كان لتقصيره في الطلب فهو أيضا مخطئ وآثم وإن لم يقصر بل بالغ في التنقيب عنه وأفرغ الوسع في طلبه ومع ذلك لم يجده بأن خفي عليه الراوي الذي عنده النص أو عرفه لكنه مات قبل وصوله إليه فهو غير آثم قطعا وهل هو مخطئ أو مصيب على الخلاف الذي يأتي إن شاء الله تعالى فيما لا نص فيه وأولى بأن يكون مخطئا وأما التي لا نص عليها فإما أن يقال لله تعالى فيها قبل اجتهاد المجتهد حكم معين أولا بل حكمه فيها تابع لاجتهاد المجتهد فهذا الثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر والغزالي
ومن المعتزلة كأبي الهزيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة وأحمد والمشهور عنهم خلافه وهؤلاء اختلفوا في أنه وإن لم يوجد في الواقعة حكم معين فهل وجد فيها ما لو حكم الله تعالى فيها بحكم لما حكم إلا به ولم يوجد ذلك
والأول هو القول بالأشبه وهو قول كثير من المصوبين وإليه صار أبو يوسف ومحمد بن الحسن وابن سريج في إحدى الروايتين عنه قال القاضي في مختصر التقريب وذهب بعضهم في الأشبه إلى أنه ليس هذا بل هو أولى طرق الشبه في المقاس والعبر ومثلوا ذلك بإلحاق الأرز بالبر بوصف الطعم أو القوت أو الكيل فأحد هذه الأوصاف أشبه عند الله تعالى وأقرب في التمثيل وأما الثاني فقول الخلص من المصوبة
وأما الأول وهو أن الله تعالى في الواقعة حكما معينا فإما أن يقال عليه دلالة وأمارة فقط أو ليس عليه دلالة ولا أمارة فأما القول الأول وهو أن على الحكم دليلا يفيد العلم والقطع فهو قول بشر المريسي والأصم وابن علية وهؤلاء اتفقوا على أن المجتهد مأمور بطلبه وأنه إذا وجده فهو مصيب وإذا أخطأه فهو مخطئ ولكنهم اختلفوا في المخطئ هل يأثم ويستحق العقاب فذهب بشر إلى التأثم وأنكره الباقون لخفاء الدليل وغموضه واختلفوا أيضا في أنه هل ينقض قضاء القاضي فيه فذهب الأصم إلى أنه ينقض وخالفه الباقون
وأما القول الثاني وهو أن على الحكم أمارة فقط فهو قول أكثر الفقهاء كالأئمة الأربعة وكثير من المتكلمين وهؤلاء اختلفوا فمن قائل أن المجتهد غير مكلف بإصابته لخفائه وغموضه وإنما هو مكلف بما غلب على ظنه فهو وإن أخطأ على تقدير عدم إصابته لكنه معذور مأجور وهو منسوب إلى الشافعي رضي الله عنه وعلى هذا فعلام يؤجر المخطئ فيه وجهان لأصحابنا أحدهما وهو اختيار المزني وظاهر النص أنه يؤجر على القصد إلى الصواب ولا يؤجر على الاجتهاد لأنه أفضى به إلى الخطأ فكأنه لم يسلك الطريق المأمور به وشبهه القفال في الفتاوى برجلين رميا إلى كافر فأخطأ أحدهما يؤجر على قصد الإصابة
بخلاف صاحبه والساعي إلى الجمعة إذا فاتته يؤجر على القصد وإن لم ينل ثواب العمل
والثاني أنه يؤجر على القصد وعلى الاجتهاد جميعا لكونه بذل ما في وسعه ومن قائل إنه مأمور بطلبه ومكلف بإصابته أولا فإن أخطأه وغلب على ظنه شيء آخر فهناك تغير التكليف ويصير مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه ولا يأثم وأما القول الثالث وهو أنه لا دلالة عليه ولا أمارة فذهب إليه جمع من المتكلمين
وقد زعم هؤلاء أن ذلك الحكم كدفين يتفق عثور الطالب عليه ويتفق تعديه قال القاضي في مختصر التقريب واختلف هؤلاء فذهب بعضهم إلى أن العثور عليه ليس بواجب وإنما الواجب الاجتهاد وذهب بعضهم إلى أن العثور عليه مما يجب على المكلف وإن لم يكن عليه دليل هذا شرح المذاهب في المسألة فلنعد إلى لفظ الكتاب
قوله اختلف في تصويب المجتهدين في مسائل الفروع إشارة إلى أن خلاف العنبري في الأصول لا احتفال به وقد أصاب فإنه لا ينبغي أن يعد ما ذهب إليه هذه الرجل قولا في الشريعة المحمدية مع أنه مصادم بالإجماع قبله والذي نراه شاكين فيه أن المجمعين لو عاصروا العنبري لم يلتفتوا إلى ما قاله ولعدوا الإجماع قائما دونه قوله بناء على الخلاف إلى آخره مقتضاه أن كل من قال بأن لكل صورة حكما معينا وعليه دليل قطعي أو ظني قال بأن المصيب واحد ومن لم يقل بذلك صوب الكل
قوله والمختار إلى آخره مباح باختيار المذهب الذي حكيناه من اشتمال الحادثة على حكم معين وعليه دليل قطعي أو ظني لا يكلف المجتهد به وإنما يكلف بما غلب على ظنه
قال لأن الاجتهاد مسبوق بالدلالة لأنه طلبها والدلالة متأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهادان لاجتمع النقيضان ولأنه قال عليه السلام من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجران ومن أخطأ فله أجر
هذان وجهان استدل بهما على اختياره أحدهما أن الاجتهاد مسبوق
بدلالة الدليل على الحكم لأنه عبارة عن طلب دلالة الدليل على الحكم والطلب مسبوق على المطلوب فيكون الاجتهاد متأخرا عن الدلالة والدلالة متأخرة عن الحكم بها لأنها نسبة بين الدليل الذي هو المطلوب والمدلول الذي هو الحكم والنسبة متأخرة عن كل واحد من الأمرين لتوقف تحققها على تحققهما فيلزم منه أن يكون الاجتهاد متأخرا عن الحكم بمرتبتين لتأخره عن الدلالة المتأخرة عن الحكم فلو تحقق الاجتهاد أي كان كل مجتهد مصيبا لاجتمع النقيضان لاستلزامه ثبوت حكمين متناقضين في نفس الأمر بالنسبة إلى مسألة واحدة وهذا الدليل فيه نظر فإنا وإن سلمنا أن الاجتهاد طلب الدلالة فلا نسلم أن طلب الشيء يتوقف على ثبوته في الخارج بل على تصوره فقط ثم إنه لا يثبت به إلا أحد شطري ما ادعاه فإنه لا يدل على سقوط الإثم عن المخطئ وحصول الأجر له
الوجه الثاني الحديث الذي ذكره في الكتاب واللفظ في الصحيحين إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فله أجر دل الحديث على أن المجتهد قد يخطئ وقد يصيب وهو المدعي
فإن قلت لا ينافي ذلك كون كل مجتهد مصيبا إذ يتصور الخطأ عند القائلين بهذه المقالة وذلك فيمن لم يستفرغ الوسع في الطلب مع كونه غير عالم بالتقصير فإنه مخطئ غير آثم للجهل بالتقصير فلعل هذه الصورة هي المرادة من الحديث قلت هذا تخصيص بصورة نادرة من غير دليل وأيضا أن تحقق الاجتهاد المعتبر فيما ذكرته فقد ثبت المدعي وهو خطأ بعض المجتهدين في الجملة وإلا فلا يجوز حمل الحديث عليه من غير صادف عن حمله على الاجتهاد المعتبر لأن الشرعي مقدم على العرفي واللغوي واعلم أن الاستدلال بالحديث قوي كانت المسألة ظنية ولكن المسألة قطعية كما صرح بها الأصوليون على اختلاف طبقاتهم
وبذلك تحل شبهة من قال ليس كل مجتهد مصيبا لقول من قال من
المجتهدين ليس كل مجتهد مصيبا لأنه إن أصاب فما قاله حق وإن أخطأ فقد أخطأ بعض المجتهدين فلم يكن كل مجتهد مصيبا فنقول الخلاف في أن المصيب واحد إنما هو في مسائل الفروع الظنية كما عرفت أما مسائل الأصول القطعية فالمصيب فيها واحد بلا خلاف ولك في حل هذه النكتة طريقة أخرى فنقول فتلزم أنه مصيب في قوله ليس كل مجتهد مصيبا ولكن لم قلت أنه يلزم من ذلك أن يكون الواقع في نفس الأمر ليس إلا أنه ليس كل مجتهد مصيبا وقولك لأنه مصيب قلنا وكذا خصمه أيضا مصيب بناء على القول بالتصويب فحكم الله في حق هذا أنه ليس كل مجتهد مصيبا أنه في حق خصمه أن كل مجتهد مصيب فهاتان طريقتان في حل هذه الشبهة الأولى على تقدير كونها من مسائل الأصول والثانية على التزام كونها من مسائل الفروع ومن جيد ما استدل به القائلون بأن المصيب واحد اجتماع الصحابة فمن بعدهم للمناظرة وطلب كل واحد من المتناظرين خصمه إلى ما ينصره فلو أن كل مجتهد مصيب لم يكن إلى الحجاج والنظر فائدة وأجاب عنه القاضي بأن التناظر ثابت وأما ما ادعيتموه من غرض المتناظرين فأنتم منازعون فيه ولسنا نسلم أن العلماء إنما تنازعوا ليدعي كل واحد منهما خصمه بل المندوب في طرق الاجتهاد والاحتمال وضوح نص يقطع البحث وغير ذلك قال قيل لو تعين فالمخالف له لم يحكم بما أنزل الله فيفسق ويكفر لقوله تعالى
ومن لم يحكم بما أنزل الله قلنا لما أمر بالحكم بما ظنه وإن أخطأ حكم بما أنزل الله قيل لو لم يصوب الجميع لما جاز نصب المخالف وقد نصب أبو بكر زيدا رضي الله عنهما قلنا لم يجز تولية المبطل والمخطئ ليس بمبطل
ش احتج المصوبون بوجهين أحدهما أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لتعين الحكم في الواقعة قبل الاجتهاد وحينئذ فيكون المجتهد المخالف باجتهاده لذلك الحكم حاكما بخلاف ما أنزل الله فيفسق لقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الفاسقون
ويكفر في آية أخرى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون وأجاب بأنا لا نسلم أنه والحالة هذه يكون حاكما بخلاف ما أنزل الله فإنه لما كان مأمورا الحكم بموجب ظنه بعد الاجتهاد فحكمه به حكم بما أنزل الله وإن أخطأ في اجتهاده بعدم إصابة ذلك الحكم المتعين ولقائل أن يقول إذا كان الحق واحد متعينا فهو الذي أنزله الله والحكم بخلاف ما أنزل الله نعم هو حكم بشيء أنزل الله أن الحاكم به يؤجر ولا يأثم لبذله الوسع في اجتهاده فكان ينبغي تقريره هكذا إنما يفسق أن يكفر الحاكم بخلاف ما أنزل الله من كل وجه لأنه الذي عليه أخلاق قول القائل حكم بخلاف ما أنزل الله أما الحاكم بما أنزل الله أن له أن يحكم به وإن لم يحكم به وإن لم ينزل المحكوم به ولم يجعله الحق عنده فليس حاكما بخلاف المنزل أو نقول هو حاكم بخلافه ولكن هو معذور لما ذكرناه والفسق والكفر يختصان بغير المعذور والثاني أنه لو لم يكن كل مجتهد مصيبا لما جاز للمجتهد أن ينصب حاكما مخالفا له في الاجتهاد لأنه في ظنه قد مكنه من الحكم بغير الحق وليس كذلك لأنه جائز بدليل أن أبا بكر رضي الله عنه نصب زيدا رضي الله عنه مع أنه كان يخالفه في الجد وفي غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غيره وشاع ذلك بين الصحابة من غير نكير وأجاب بأن الممتنع إنما هو تولية المبطل أي الذي يقتضي بالباطل ومن كان مجتهدا مخطئا فهو غير مبطل لإتيانه بالمأمورية وهذا أيضا فيه عندنا نظر فإن المجتهد في مسألة القاتل بأن المصيب واحد يظن خطأ صاحبه ولا معنى لذلك إلا أنه مبطل فيما أتى به وإنما بذل الوسع أقام عذره نعم قد يجاب بأنه ليس يعلم حال التولية أنه يحكم بخلاف ما يعتقده وذلك لأن على الحاكم أن يجتهد في الحكم عند كل حادثة وربما تغير اجتهاده وأيضا فلعل أبا بكر رضي الله عنه زايد عن الحكم فيما يخالفه فيه وقصر توليته على الحوادث التي يوافقه فيها وقد صرح بجواز مثل هذا الماوردي كما نقله الرافعي فقال ولو ولى الإمام وجلا وقال لا نحكم في قتل المسلم الكافر والحر العبد جاز وقد قصر عمله على باقي الحوادث ووافقه زيد واقعة عين لا يمكن فيها نفي هذا الاحتمال وأيضا فلعل أبا
بكر رضي الله عنه كان يرى أن كل مجتهد مصيب فالمسألة مشهورة باضطراب الآراء فيها قديما وحديثا
قال فرعان الأول لو رأى الزوج لفظ كناية ورأته المرأة صريحا فله الطالب ولها الامتناع فيراجعان غيرهما
ش هذا فرعان من فروع حكمة الاجتهاد الأول لو كان الزوجان مجتهدين فخاطبها الزوج بلفظه يرى أنها كناية في الطلاق ولا نية وترى المرأة أنها صريحة فيه فللزوج طلب الاستمتاع منها ولها الامتناع عملا مع كل منهما بمقتضى اجتهاده وطريق قطع المنازعة بينهما أن يراجعا مجتهدا آخر غيرهما حاكما أو حكما من جهتهما ليحكم بينهما بما أرى إليه اجتهاده وهذا الطريق متعين لدفع المشاجرة في نحو الصورة المفروضة سواء قلنا المجتهد واحد أم كل مصيب وهذا إذا لم تكن المنازعة فيما يجري فيه الصلح فإن جرى فيه الصلح كالحقوق المالية فينقطع بطريق الصلح أيضا هذا ما في الكتاب وقد ذكر القاضي في مختصر التقريب هذا الفرع وجعله من أدر خصومه القائلين بأن المصيب واحد وأنهم قالوا هذا يقتضي الجمع بين التسليط على الاستمتاع والامتناع منه ثم أجاب عنه بأنا نسألكم عن هذه الحادثة إذا عنت وكلما قدرتموه جوابا ظاهرا في حقهما فهو حكم الله قطعا قال فإن زعموا أن المرأة مأمورة بالامتناع جهدها والرجل مباح له الطلب للاستمتاع وإن أدى إلى قهرها ولم يعدوا ذلك تناقضا في ظاهر الجواب فهو حكم الله تعالى عندنا ظاهرا وباطنا قال ومما تمسكوا به أن المنكوحة بغير ولي إذا زوجها وليها ثانيا من شافعي والذي تزوج بها أولا حنفي والمرأة مترددة بين دعوتهما وهما مجتهدان في أوجه القول في جمع الحل والتحريم وأجاب بجوابه الأول وأن كل ما أجبتم به في ظاهر الأمر ولم يعدوه تناقضا فهو حكم الله عندنا ثم قال وإن اجتزيت بهذا القدر كفاك وإن أردت التفصيل في الجواب قلنا من القائلين بأن المصيب واحد من صار في هذه الصورة إلى الوقت حتى يرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المعلومة
الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع الأمر إلى القاضي كما قدمناه في الصورة المغلومة الأولى فعلى هذا نقول حكم الله فيهما الوقف ظاهرا وباطنا حتى نرفع أمرها إلى القاضي فينزلهما على اعتقاد نفسه وهذا حكم الله حينئذ ومنهم من قال نسلم المراد إلى الزوج الأول فإن نكحها نكاحا يعتقد صحته وهو السابق فلا يبعد أن يكون هذا هو الحكم قال وهذه الصورة وأمثالها من المجتهدات وفيها تقابل الاحتمالات فيجتهد فيها عندنا وما أرى إليه اجتهاده فهو حق من وقف أو تقدم أو غيرهما من وجوه الجواب
قال الثاني إذا تغير الاجتهاد كما لو ظن أن الخلع فسخ ثم ظن أنه طلاق فلا ينتقض الأول بعد اقتران الحكم وينتقض قبله
ش إذا أداه اجتهاده إلى أن الخلع فسخ فنكح امرأة كان قد خالعها ثلاثا بمقتضى هذا الاعتقاد ثم تغير اجتهاده وأداه إلى أنه طلاق فإما أن يتغير بعد قضاء القاضي بمقتضى الاجتهاد الأول المقتضي لصحة النكاح فلا ينقض بالاجتهاد الثاني بل يقي على النكاح وإما أن يتغير قبل القضاء بالصحة فيجب عليه مفارقتها لأن الظن المصاحب له الآن قاض بأن اجتهاده الأول خطأ فليعمل به وهذا ما أراده المصنف بقوله وينتقض قبله ومراده بالنقض ترك العمل بالاجتهاد الأول وإلا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا فيما تغير اجتهاده في حق نفسه فلو تغير في حق غيره كما إذا أفتى مقلده بصحة نكاح المختلعة ثلاثا ونكحها المقلد عملا بفتواه ثم تغير اجتهاده ولم يكن الحكم قد حكم بصحة النكاح قبل تغير اجتهاده فالمختار أنه يجب عليه تسريحها كما في حق نفس المجتهد ولو قال مجتهد للمقلد والصورة هذه أخطأ بك من قلدته فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني أو استويا فلا أثر له لقوله وإن كان الثاني أعلم قال الرافعي فالقياس إما أن أوجبنا تقلدا لأعلم فهو كما لو تغير اجتهاد مقلده وإلا فلا أثر له قال النووي وهذا ليس بشيء بل بوجه الجزم بأنه لا يلزمه بشيء ولا أثر لقول الثاني
خاتمة القاضي إذا حكم في هذه الواقعة ثم تغير اجتهاده لم يكن له النقض
لكون المسألة اجتهادية ولنا فيما إذا حكم الحاكم بحكم ثم انقدح له ما لو كان مقارب لمنع الحكم قول بليغ فلنورده فنقول ذلك على أقسام
أحدها أن يكون أمرا متجددا لم يكن حالة الحكم مثاله أن يباع مال يتيم بقيمته لحاجته ويحكم بصحة البيع ثم نقلوا الأسعار بعد ذلك فتصير قيمته أكثر فهذا لاعتبار به لأن الشرط البيع بالقيمة ذلك الوقت لا بعده
الثاني أن يحكم باجتهاده لدليل أو إمارة ثم يظهر له دليل أو أمارة أرجح من الأول ولا ينتهي إلى ظهور النص بهذا أيضا لاعتبار به وإن كان لو قارن لوجب الحكم به لأن الحكم بالراجح وإن كان واجبا لكن الرجحان حاصل الآن في ظنه ولا يدري لو حصل ذلك الاحتمال عنده حالة الحكم هل يكون عنده راجحا أو مرجوحا والاعتبار إنما هو بالرجحان حال الحكم ولا يلزم من الرجحان في وقت الرجحان في وقت غيره لتفاوت الظنون بحسب الأوقات وما يكون فيها من أمور لا تنحصر يتغير بها الظن ولا يتمكن الظان من الحزم بأن الظن الذي عنده في وقت آخر لكان مستمرا ورجحان الاعتقاد إنما يحصل حالا فحالا وأما اعتقاد الرجحان فقد يكون يعتقد في وقت قطعا رجحان أمر عنده في الماضي وهو من الأمور الوجدانيات ليس مما نحن فيه سيأتي قسم منه هنا فاضبط هذا هنا لتنتفع به إذا قلناه
الثالث أن يظهر دليل أو أمارة تساوي الأول فبطريق الأولى لا اعتبارية وإن كان لو قارن لمنع من الحكم وبهذا تعلم أن إطلاق من أطلق أنه إذا ظهر بعد الحكم ما لو قارن لمنع من الحكم بنقض الحكم ليس بجيد
الرابع أن يظهر نص أو إجماع أو قياس جلي بخلافه فينتقض الحكم لأن ذلك أمر مقطوع به فلم ينقضه بظن وإنما ينقضه بالدليل القاطع على تقديم النص والإجماع والقياس الجلي على الاجتهاد فهو أمر لو قارن العلم به لوجب تقديمه قطعا فلذلك نقض به
الخامس أن يظهر أمر لو قارن لمنع ظنا لا قطعا كبينة الداخل فإن في تقديمهما على بينة الخارج خلافا فهو أمر مظنون مجتهد فيه ولكن الحاكم الذي
يراه اجتهادا أو تقليدا قاطع بظنه ووجوب العمل به فلو قارن لوجب الحكم به وهو يعلم من نفسه أنه إنما يحكم به فإذا حكم الخارج معتقدا أنه لا بينة للداخل ثم جاءت البينة فقد ظهر أمر لو قارن لمنع ظنا والظن سابق معلوم الآن وهذا هو اعتقاد الرجحان الذي أشرنا إليه من قبل وقد اختلف الأصحاب ها هنا في النقض فمن ذهب إلى أنه لا ينقض فوجهه أنه أمر مجتهد فيه ومن قال بالنقض فوجهه أنه عالم بظنه وبأنه إنما حكم معتقدا عدم بينة الخارج فهو قاطع بما كان يمنعه من الحكم لو قارن فانظر هذا التفاوت بين المراتب وأن هذه المرتبة بين ظهور النص وبين الظهور الدليل الراجح والمساوي فلذلك نقض في النص قطعا ولم ينقض في الدليل أن الإمارة قطعا وحصل التردد في هذا على وجهين
السادس أن يظهر معارض محض من غير مرجح كما إذا حكم للخارج ببينة ثم جاءت بينة لمخارج آخر فهذه البينة لو قارنت فلمنعت الحكم للتعاوض فإذا ظهرت بعد الحكم فلو أيده الله تعالى في المسألة احتمالان أحدهما أن يقال إنه كظهور الإمارة المساوية فلا ينقض به قطعا أو رجحهما عندي أنها ليست كالإمارة المساوية لأن مساواة الإمارة المساوية مظنونة وجاز أن يضعف في وقت آخر ويستمر رجحان الإمارة المحكوم بها لعدم الوثوق بالظنون وجاز أنها لاحت له في وقت الحكم لكانت مرجوحة غير مساوية وأما البينة إذا عارضت أخرى فمساواتها معلومة ما يؤس فيها من الترجيح فلا يبقى لاحتمال استمرار ذلك الحكم أو غيره فيرد الأمر إلى ما كان عليه قبل الحكم ويقف لقطعنا باستواء الجانبين بخلاف الإمارات التي لا يورث بحال الظنون فيها فإنه لو لم يمض الحكم فيها أدى إلى عدم استمرار الأحكام وأن لا يحكم بشيء
وقد مال والدي أيده الله إلى ترجيح الأول وقال لم أجد في كلام الأصحاب إلى الآن ما اعتضد به في الجزم بأحدهما غير أني أميل إلى عدم النقض وأن الحاكم لا يحكم ولا ينقض إلا بمستند ولك أن تقول ظهور ما يقع بمساواته مستند وقد تخلص من هذا أن العلم بمقارنة ما يقطع بتقديمه على مستند الحكم موجب لنقضه قطعا والعلم بمقارنة ما يظن تقديمه فيه وجهان كبينة
الداخل والعلم بمقارنة ما يمنع الحكم ويوجب التوقف فيه الاحتمالان المذكوران وهذا هو القسم السادس والذي قبله الخامس والذي قبله الرابع والثلاثة الأول لا نقض فيها قطعا أما الأول فللعلم بعدم المقارنة وأما الثاني والثالث فللشك فيها وعدم استقرار الإحكام
قال الباب الثاني في الإفتاء وفيه مسائل الأولى يجوز الإفتاء للمجتهد ومقلد الحي واختلف في تقليد الميت لأن لا قول له لانعقاد الإجماع على خلافه والمختار جوازه عليه في زماننا
ش يشتمل هذا الباب على ثلاثة مسائل الأولى النظر فيما يتعلق بالمفتي أعلم أنه يجوز للمجتهد الإفتاء
وأما المقلد فقال أبو الحسين البصري وجماعة لا يجوز له الإفتاء مطلقا وذهب قوم إلى الجواز مطلقا إذا عرف المسألة بدليلهما وذهب الأكثرون إلى أنه إن تبحر في مذهب ذلك المجتهد واطلع على ما أخذه وكان أهلا للنظر والتفريع على قواعده جاز له الفتوى وإلا فلا وقال آخرون إن عدم المجتهد جاز وإلا فلا وقالت طائفة يجوز لمقلد الحي أن يفتى بما شافهه به أو نقله إليه موثوق بقوله أو وجده مكتوبا في كتاب معتمد عليه ولا يجوز لمقلد الميت هذا شرح ما في الكتاب وعبارته قد توهم اختصاص الخلاف بمقلد الميت وهو جاز مطلقا وقد توهم أن اختياره جواز إفتاء المقلد العامي والظن به إن لم يختر هذا المذهب وإن كان وجها في المذهب فقد قال القاضي في مختصر التقريب أجمعوا على أنه لا يحل لمن شذ أشياء من العلم أن يفتي وإنما قال المصنف في تقليد الميت ولم يقل في مقلد الميت مع أن الغرض حكم إفتاء مقلد الميت لا بيان حكم تقليده ليشير إلى أن جواز إفتائه مشروط بصحة تقليده فيلزم من الخلاف فيها الخلاف في إفتائه قوله لأنه لا قول له أي احتج من منع تقليد الميت بأن الميت لا قول له بدليل انعقاد الإجماع على خلافه ولو كان ذا قول لم ينعقد مع مخالفته كالحي وإذا لم يكن له لم يجز تقليده
واستدل المصنف على اختياره بالإجماع عليه في زماننا وهذا قد ذكره الإمام فقال انعقد الإجماع في زماننا على جواز العمل بهذا النوع لأنه ليس
في هذا الزمان مجتهد والإجماع حجة ولقائل أن يقول لا يجامع قولك ليس في هذا الزمان مجتهد قولك إجماع أهل الزمان حجة لأن الإجماع المعتبر هو إجماع المجتهدين
قال الثانية يجوز الإفتاء للعامي لعدم تكليفهم في شيء من الإعصار بالاجتهاد وتفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه دون المجتهد لأنه مأمور باعتبار قيل معارض بعموم فاسألوا وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم وقول عبد الرحمن لعثمان أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم وسيرة الشيخين قلنا الأول مخصوص وإلا لوجب بعد الاجتهاد والثاني في الأقضية والمراد من السيرة لزوم العدل
ش هذه المسألة ناظرة فيما يتعلق كالمفتى باحثة عمن يجوز له الاستفتاء ومن لا يجوز فنقول للمكلف حالات الأولى أن يكون عاميا صرفا لم يحصل شيئا من العلوم التي يترقى بها إلى منازل المجتهدين فالجماهير على أنه يجوز له الاستفتاء ويجب عليه التقليد في فروع الشريعة جميعها ولا ينفعه ما عنده من علوم لا تؤدي إلى الاجتهاد وإن كانت عدد الحصى ومنع منه معتزلة بغداد مطلقا وقالوا يجب عليه الوقوف على طريق الحكم ولا يرجع إلى العالم إلا لينبهه على أصولها وطريقة النظر فيها قال القاضي عبد الوهاب وعلى هذا جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب منهم وفصل الجبائي فقال يجوز في المسائل الاجتهادية دون ما عداها كالعبادات الخمس الحالة الثانية العالم الذي تعالى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة ولم يحط بمنصب الاجتهاد فالمختار في أن حكمه حكم العامي الصرف لعجزه عن الاجتهاد
وقال قوم لا يجوز له ذلك ويجب عليه معرفة الحكم بطريقة لأن له صلاحية معرفة طرق الأحكام بخلاف العامي
واستدل المصنف على جواز الاستفتاء للعامي سواء كان عاميا وهو المذكور في الحالة الأولى أو عالما وهو المذكور في الثانية بوجهين
أحدهما إجماع السلف عليه إذ لم يكلفوا العوام في عصر من الإعصار
بالاجتهاد بل قنعوا منهم بمجرد أخذ الأحكام من أقوالهم من غير بيان ما أخذها فإن قلت دعوى قيام الإجماع على إفتاء المستفتين صحيحة ولكن من أين لكم أن المستفتين لم يسألوا عن بيان المأخذ قلت لم ينقل ذلك ولا لأم أحد العوام على تركهم السؤال عن وجه دلالة الدليل ويعلم قطعا أنهم كانوا لا يذكرون الدليل عند الإفتاء مع علمهم بجهل المستفتي به والثاني أن وجود ذلك عليهم يؤدي إلى تفويت معائشهم واستضرارهم بالاشتغال بأسبابه وذلك مؤذن باختلال نظام العالم وفساد الأحوال فإن قلت هذا يقتضي أن لا يجب النظر في أصول الدين وأن يجوز فيه التقليد لأنا نعلم أن الصحابة والتابعين ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام بل ربما لاموا المشتغل به مع أنه يلوم منه تعطيل أمور المعايش لأن غرض أدلة الكلام أكثر قلت إن سلمنا عدم جواز التقليد فيه فالفرق أن مطالبة معدودة محصورة لا تتكرر وأكثر أدلتها قواطع تحمل الطبع السليم على الإذعان لها بخلاف الأحكام الفرعية فإنها غير متناهية وأكثر أدلتها ظنون تضطرب بحسب الأذهان فكان تحصيل رتبة الاستدلال فيها محتاجا إلى الانقطاع عن الاشتغال بغيرها فأرى إلى ما ذكرناه واحتج الجبائي بأن الحق في المسائل الاجتهادية متعدد بخلاف غيرها فإنه واحد فالتقليد فيه لا يؤمن من الوقوع في غير الحق والجواب بعد تسليم أن كل قول في المجتهدات حق أنه لا يؤمن فيها أيضا من الوقوع في الخطأ لاحتمال تقصير المجتهد في الاجتهاد أو أن لا يجتهد أو يفتي بخلاف الاجتهاد
تنبيه ذهب معظم الأصوليون إلى أن القول بأن العامي مقلد للمفتي فيما يأخذ منه لأن التقليد إن عرف بأن قبول قول القائل بلا حجة فقد تحقق ذلك إذ ليس قوله في نفسه بحجة وإن عرف بأنه قبول قول القائل مع الجهل بأخذه تحقق في قول المفتي أيضا
قال القاضي في مختصر التقريب والذي نختاره أن ذلك بتقليد أصلا فإن قول العالم حجة في قول المستفتى نصبه الرب تعالى علما في حق العامي وأوجب عليه العمل به كما أوجب على المجتهد العمل باجتهاده واجتهاده علم علمه وقوله علم على المستفتى ويخرج لك من هذا من لا يتصور تقليد مباح في الشرعية لا في
الأصول ولا في الفروع إذ التقليد على ما عرفه القاضي هو اتباع على من لم يقم باتباعه حجه ولم يستند إلى علم قال ولو شاع تسمية العام مقلدا مع أن قول العالم في حقه واجب الإتباع جاز أن يسمي التمسك بالنصوص وغيرها من الدلائل مقلد قوله دون المجتهد هذا هو الحال الثاني وهو أن يبلغ المكلف رتبة الاجتهاد فإن كان قد اجتهد في المسألة ووضح في ظنه وجه الصواب لم يقلد غيره بلا ريب وإن لم يكن قد اجتهد فيها فهي مسألة الكتاب وقد اختلفوا فيها على مذاهب
الأول المنع من التقليد وإليه ذهب أكثر الفقهاء وجمع من الأصوليين منهم القاضي واختاره المصنف تبعا للإمام وهو المختار عند الآمدي وابن الحاجب والثاني التجويز مطلقا وعليه سفيان الثوري وأحمد وإسحاق والثالث يجوز تقليد الصحابة فقط والرابع يجوز تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم والخامس يجوز تقليد العالم لأعلم منه ولا يجوز لمساويه ودونه وإليه ذهب محمد بن الحسن والسادس يجوز التقليد فيما يخصه دون ما يفتى به والسابع أنه يجوز فيما يخصه إذا خشي فوات الوقت باشتغاله بالحادثة وهو رأي أبي العباس ابن سريج
والثامن أنه يجوز للقاضي دون غيره واستدل المصنف على أن المجتهد لا يجوز له التقليد مطلقا بأنه مأمور بالاعتبار في قوله تعالى فاعتبروا فإذا تركه يكون تاركا للمأمور به فيعصى ولا يرد العامي لأنه خرج من عموم الأمر بدليل عجزه عن الاجتهاد هذا إن جعلناه مقلدا وإن لم نجعله مقلدا كما قال القاضي فلا سؤال وجعل الآمدي المعتمد في المسألة أن يقال جواز تقليد المجتهد للمجتهد حكم شرعي فلا بد عليه من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فعلى مدعيه بيانه والقياس على العامي لا يصلح أن يكون دليلا لما عرفت من الفرق ولمعارض أن يقول القول بوجوب الاجتهاد على المجتهد فيما نزل به من الوقائع مطلقا وحرمة التقليد عليه حكم شرعي فلا بد عليه من دليل وعلى مدعيه بيانه
قوله قيل معارض أي عارض الخصم الاستدلال على منع التقليد للمجتهد بأوجه
الأول قوله تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم فوجب تجويز الاجتهاد له
والثاني قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم والعلماء هم أولوا الأمر لأن أمورهم تنفذ على الأمراء والولاة
والثالث إجماع الصحابة روى أحمد عن سفيان بن وكيع بن الجراح قال حدثنا قبيصة قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم عن وائل قال قلت لعبد الرحمن بن عوف كيف بايعتم عثمان وتركتم عليا فقال ما ذنبي قد بدأت هكذا لعلي فقلت أبايعك على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسيرة أبي بكر وعمر فقال فيما استطعت ثم عرضت ذلك على عثمان فقال نعم فقد التزم عثمان ذلك بمحضر من عظام الصحابة من غير نكير عليه فكان إجماعا على جواز أخذ المجتهد بقول المجتهد الميت وإذا ثبت في الميت ثبت في الحي بطريق الأولى
وأجاب المصنف عن الأول بأنه عام مخصوص بالمقلدين وإلا لوجب الاجتهاد على المجتهد بعد اجتهاده لأنه بعد الاجتهاد أيضا ليس بعالم بل هو ظان وذلك باطل بالإجماع ولقائل أن يقول المراد بقوله إن كنتم لا تعلمون إن كنتم غير ذوي علم وذوي العلم صادق على من يتوصل إلى الأحكام بمسالك الظنون وهذا واضح بل الجواب أن السؤال مشروط بعدم العلم ولم يوجد في المجتهد لأنه عالم وقولكم قبل الاجتهاد لا يعلم قلنا لا يخرج عن كونه عالما بغيبوبة المسألة عن ذهنه مع تمكنه من معرفتها من غير احتياج إلى غيره
وأجاب الإمام أيضا بأن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال على المجتهد وهو غير واجب بالاتفاق قلت وفي دعوى الاتفاق نظر فإن القائل بتجويزه إذا ضاق الوقت لا بد وأن يوجبه عليه والحالة هذه ولعله مراده بالاتفاق اتفاق الخصمين المانع مطلقا ومقابلة لأن البحث في هذا الدليل بينهما
وأجاب المصنف عن الثاني بأن الآية الأولى دلت على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام جمعا بين الأدلة وأيضا المتبادر إلى الفهم من إطلاق أولي الأمر والأمراء والحكام
وأجاب عن الثالث بأن المراد من سيرة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لزوم العدل والإنصاف والسنن المرضي في جميع الحالات لأنه من المتبادر إلى الذهن من السيرة وأيضا في سند الحديث سفيان ابن وكيع وقد قال فيه أبو زرعة متهم بالكذب
قال الثالثة إنما يجوز في الفروع وقد اختلف في الأصول ولنا فيه نظر وليكن آخر كلامنا وبالله التوفيق
ش هذه المسألة فيما يجوز فيه الاستفتاء وما لا يجوز فنقول أما الاستفتاء في الفروع فهو جائز على ما سلف فيه من الكلام وهو عمل العامي بقول المجتهد تقليدا فيه ما أوردناه عن القاضي والأصوليين
وأما الاستفتاء في الأصول فذهب كثير من الفقهاء وبعض المتكلمين كعبيد الله بن الحسين العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه وربما بالغ بعضهم فقال التقليد واجب والنظر في ذلك حرام وذهب الباقون إلى عدم جوازه وأنه يجب على كل أحد معرفة الله وما يجب له من الأوصاف ويجوز عليه ويتقدس عنه وكذلك جملة العقائد بالنظر والاستدلال ولما كان محل المسألة علم الكلام لم يطل المصنف فيها ولتقاوم الأدلة عنده لم يجزم بشيء بل قال إن له فيه نظرا ونحن نورد نزرا يسيرا من معتصمات الفريقين أما مجوزو التقليد فاحتجوا بوجوه منها أن النظر في أصول الدين منهي عنه لقوله تعالى ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا وما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال وروى أنه صلى الله عليه و سلم نهى
الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وإذا كان منهيا عنه فلا يكون واجبا فيكون التقليد جائزا
وأجيب عنه بمنع كون النظر منهيا عنه والآيات محمولة على النهي عن الجدال بالباطل جمعا بين الأدلة فإن قوله تعالى وجادلهم بالتي هي أحسن ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن وأثنى الله تعالى على الناظرين بقوله ويتفكرون في خلق السموات والأرض وأما الحديث فلعل النبي صلى الله عليه و سلم لما علم صحة اعتقادهم وحقيقة يقينهم بما تلقوه عنه وشاهدوا من المعجزات الخوارق علم أن الجدال بعد ذلك لا يفيد شيئا وربما ورث شكا فنهاهم لذلك أما الشارح الذي لم يثبت عنده شيء فكيف لا يجب عليه السعي في إثبات يقينه والذب عن تأكيد دينه
ومنها أن النظر فيه مظنة الوقوع في الشكوك والشبهات والخروج إلى البدع وأجيب بأن التقليد لا بد أنه ينتهي إلى النظر والاستدلال لامتناع التسلسل وحينئذ ما ذكرتم من المحذور لازم التقليد مع زيادة محذور احتمال كذب المقلد فيما أخبر به المقلد عن اعتقاده وأما المانعون فاعتصموا بوجوه منها أن تحصيل العلم في أصول الدين كان واجبا على النبي المصطفى صلى الله عليه و سلم بقوله فأعلم أنه لا إله إلا الله فيكون واجبا على أمته بقوله فاتبعوه ومنها أن التقليد مذموم شرعا في قوله تعالى حكاية عن قوم في معرض الذم لهم إنا وجدنا آباءنا على أمة وأنا على آثارهم مقتدون ووجوه الحجج في المسألة عديدة وقد ذكرنا أن محلها علم الكلام فمن أراد الإحاطة به فهو محال على كتبه وبنجاز هذه المسألة تم هذا الشرح المبارك أسأل الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم موجبا للفوز لديه وأن يعم النفع به بمحمد وآله وصحبه
وقد راعينا فيه جانب التوسط لأن الكتاب مختصر فالأليق بشارحه أن يحذو حذوه ولا يتعدى ممشاه فوق خطوة وقد كنا نروح ونغدو على المسألة وربما لم
نخرج عن حد الشرح قدر أنملة وفي النفس حزازات من مباحث نترك ذكرها خشية التطويل ونسلك في الإضراب عنها سبيل غيرنا
وإن كنا لا نرتضي تلك السبيل على أنا لم نأل جهدا فيما وضعناه ولم نرض إلا أن نحله محل النجم وفي الظن أنا ما أنصفناه فإنا لم نغادر صغيرة ولا كبيرة مما يطالب الشارح بها إلا وقد جمعناها فيه مع زيادات من نقول وفوائد يهيم الفهم إذا سمعها طربا وينطق شاكرها ملء فيه ومباحث ما للبدر الكوامل إلا ما تطلع ولا العرب الأفراب إلا ما تفوه به بنات فكرها وتسمع لكن الكتاب مع أن الروض المبدعة ازهاره والواضح الجلي الذي ينضال لديه النهار وأنواره لم يعن على نفسه لقلة ما أودع فيه من المسائل ولم يبن عن جمع كبير فلم نهتم له ولا به وكيف لا وقد كنا نكتب فيه بأطراف الأنامل ونجيء إليه وقد سلمنا الطيب وقد وقالت النفس حطة وتعد عليه فنقول من رأى القلم يكتب والمهمة تملى عليه أما القلم قد أبل وليس في تلك شطة وفي عزمي والله الميسر أن أضع شرحا على مختصر ابن الحاجب بسيطا لا عذر لي إذا لم آت فيه بالعجب العجاب محيط بهذا العلم على أتم وجه لا أميط عنه إلا القشر عن اللباب والله المسؤول أن يوفقنا لصالح الأعمال ويجمعنا على العلم ونشره في كل حال بمنه وكرمه إنه المرجو خيره المأمول بسره والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين
قال المصنف أيده الله فرغت منه صبيحة يوم الجمعة السادس عشر من صفر المبارك سنة اثنين وخمسين وسبعمائة أحسن الله تقضيها بالمدرسة العادلية منزل سيدي ووالدي أحسن الله إليه من دمشق المحروسة وكتب مؤلفه عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي السبكي الشافعي أصلحه الله تعالى وكان له والحمد لله وحده وصلى الله علي سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل