كتاب : البرهان في أصول الفقه
المؤلف : عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني أبو المعالي
الطاردين فلا بد من ظهور وجه في ظن المستنبط يوجب تخيل معنى مخصوص في انتصابه علما وهو مطالب بإبدائه فإذا اقتصر على محض الدعوى كان ادعاؤه المجرد في نصب العلل كادعائه الحكم في محل النزاع وكادعائه كون صورة النزاع كمسألة متفق عليها من غير ذكر جامع ومن أنكر أن ادعاء معنى الأصل في حقيقة الدعوى وصورتها فقد جحد الضرورة وإن اعترف الخصم أنها دعوى وألزم قبولها من غير برهان فقد تناهى في الاحتكام وانحط عن رتبة النظار بالكلية
757 - فإن زعم زاعم أني نصبت علما كانت الصحابة تنصبه للأحكام علما قيل له كانوا ينصبون كل عام لكل حكم أو كانوا يرون لذلك مسالك تخصيص بعض الأعلام فإن زعم أنهم كانوا ينصبون كل شيء علما فقد ظهر اجتراؤهم وقصارى كلامهم العود إلى الطرد
وإن سلموا أنهم كانوا يثبتون الأحكام لوجوه هي عللها فيقال لمن ادعى نصب العلم ما الدليل على أن ما نصبته من جنس منصوب الصحابة فيرجع حاصله إلى القول بالمطالبة بالدليل فإن قيل الدليل على ثبوت المدعى علما عجز المعترض عن الاعتراض عليه فهذا كلام سخيف فإن المعترض واقف موقف المسترشد سائل خصمة إثبات دليل فكيف يحسن رد الدليل إلى عجزه وقدرته ولو اعترف بعجزه عن الاعتراض لم ينتهض عجزه علما على انتصاب ما ادعاه المجيب علما
وهذا القدر من التنبيه كاف إذ هو من الكلام الغث ويكفي التنبيه في مثل هذا المقام
758 - فإذا ثبت ذلك اختتمناه بأمر نجعله فاتحة الغرض وقلنا لا بد أن يكون لذلك العلم وجه عند ناصبه ولأجله يفتي به ويلزم العمل بموجبه والمسئول يريد منه أن يبديه وكل ذلك مبني على أبطال الطرد فإذا لا بد من إثبات معنى في الأصل دينا أو جدلا
وقد اضطربت الاراء في السبل التي تتضمن إثبات علة الأصل
مسالك الباحثين في إثبات علة الأصل
ونحن نذكر مسالك النظار في ذلك مسلكا مسلكا ونذكر في كل مكان ما يليق به إن شاء الله تعالى
759 - فمما اعتمده المحققون وارتضاه الأستاذ أبو إسحاق إثبات علة الأصل بتقدير إخالته ومناسبته الحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول وعبر الأستاذ عنه في تصانيفه بالاطراد والجريان ولم يعن الطرد المردود فإنه من أشد الناس على الطاردين ولكنه عرض بالإخالة وقرنه باشتراط الجريان وعني بالجريان السلامة عن المبطلات
760 - فإن قيل إذا أبدى المعلل وجها مرتضى في الإخالة قبل وقيل له ليس كل مخيل علما وليس كل استصلاح وجها مرتضى في الأحكام فمن أين زعمت أن ما أبديته من قبيل ما يعتد عليه إذ الإخالات منقسمة ووجوه الاستصلاح منتفية والشرع لا يرى تعلق الحكم بجميعها ولم تضبط الرواة مسالك الظنون للصحابة وأنحائهم
فإذا بطل دعوى التعلق بكل مصلحة ولم يتبين لنا ما اعتمده الأولون فكيف تدل نفس الإخالة
قلنا قد يتبين لنا أنهم رضي الله عنهم في الأزمان المتطاولة والاماد المتمادية ما كانوا ينتهون إلى وجوه مضبوطة بل كانوا يسترسلون في الاعتبار استرسال من لا يرى لوجوه الرأي انتهاء ويرون طرق النظر غير محصورة ثم كان اللاحقون يتبعون السابقين ولا يعتنون بذكر وجوه في الحصر لا تتعدى فعلمنا بضرورة العقل أنهم كانوا يتلقون معاني ومصالح من موارد الشريعة يعتمدونها في الوقائع التي لا نصوص فيها فإذا ظنوها ولم يناقض رأيهم فيها أصل من أصول الشريعة أجروها واستبان أنهم كانوا لا يبغون العلم اليقين وإنما كانوا يكتفون بأن يظنوا شيئا علما
فإذا ظهرا الإخالة وسلم المعنى من المبطلات وغلب الظن كان ذلك من قبيل ما يتعلق به الأولون قطعا
761 - وأنا أقرب في ذلك قولا فأقول إذا ثبت حكم في أصل وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك إلى أمر ولم يناقض ذلك الأمر شيء فهذا هو الضبط الأقصى الذي لا يفرض عليه مزيد
فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استنادا إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم فإذا ظهر هذا وتبين أن الظن كاف وتوقع الخطأ غير قادح ولا مانع من تعليق الحكم كان ذلك كافيا بالغا
762 - ومما يعضد به الغرض أن كل حكم أشعر بعلة ومقتضى ولم يدرأه أصل في الشرع فهو الذي يقضي بكونه معتبر النظر فإن الشارع ما أشار إلى جميع
العلل واستنبط نظار الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يتلقون نظرهم مما ذكرته قطعا
فإن قيل فالإخالة مع السلامة هي الدالة إذا
قلنا لا ولكن إذا ثبتت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات التحق ذلك بمسلك نظر الصحابة رضي الله عنهم فالدليل إجماعهم إذا كما تقدم في إثبات القياس على منكريه
763 - فإن قيل قد ثبت من رأيكم أنه لا يخلو واقعة عن حكم الله تعالى ما دامت أصول الشريعة محفوظة وثبت أن النظر ليس مسترسلا في وجوه المصالح كلها وماخذ الأحكام مضبوطة والوقائع المتوقعة لا ضبط لها فكيف يستند ما لا نهاية له إلى المتناهى وهذا سؤال عسر جدا
ونحن نقول أولا انضباط الماخذ مسلم والحكم بأن حكم الله يجرى في كل واقعة مسلم مع انتفاء النهاية
والسبيل فيه أن كل فن من فنون الأحكام يتعارض فيه نفى وإثبات ثم لا محالة لا يلفى أصل يعارضه نقيض له إلا والنهاية تنتفى عن أحد المتقابلين لا محالة
وبيان ذلك بالمثال أن الأعيان النجسة مضبوطة محصورة والذي ليس بنجس لا نهاية له فكل ما ثبتت نجاسته اتبع النص فيه وكل ما أشكل أمره فإن كان في وجوه النظر ما يقتضي إلحاقه بالأعيان النجسة إلحق بها وإن لم يظهر وجه يقتضى ذلك التحق بما لا نهاية له من الطاهرات فينتظم من هذه الجملة في النفي والإثبات ما لا نهاية له
وكذلك القول في جميع مسالك الأحكام وهذا من نفائس الكلام
وسنقرره على أحسن الوجوه إن شاء الله تعالى في كتاب الاجتهاد
وهذا منتهى الغرض في إثبات علة الأصل بطريق الإخالة
764 - وأما ما اعتمده الشافعي وارتضاه ولا معدل عنه ما وجد إليه سبيل فهو دلالة كلام الشارع في نصبه الأدلة والأعلام فإذا وجدنا ذلك ابتدرناه ورأيناه أولى من كل مسلك
ثم ذلك يقع على وجوه
منها ما يقع على صيغة التعليل صريحا كقوله تعالى كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم
ومنها ما يتضمن التعليل ويشعر به إشعارا ظاهرا وهو يقع على وجوه نضرب أمثلتها
فمنها قوله عليه السلام لمن سأله عن بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا يبس فقال السائل نعم فقال عليه السلام فلا إذا فجرى ذلك منه متضمنا تعليلا بنقصان الرطب عن وزن التمر عند الجفاف
وقد تكلم بعض من لا يعد من أهل البصيرة بالعربية على هذا الحديث فقال معنى الحديث أنه إذا نقص فلا يباع الناقص بالتمر الذي لم ينقص وأكد هذا عند نفسه بأن قال إذا يتعلق بالاستقبال والفعل المضارع المتردد بين الحال والاستقبال إذا تقيد بإذا تجرد للاسقبال وانقطع عن احتمال الحال وكذلك جملة نواصب الأفعال المضارعة إذا تعلقت بها فإنها تمحضها للاستقبال فقوله إذا تصرف النهي إلى الاستقبال عند فرض النقصان في الرطب
765 - وهذا قول عرى عن التحصيل من وجوه
منها أن السائل سأله عن بيع الرطب بالتمر في الحال فيبعد أن يضرب عن محل السؤال ويتعرض للاستقبال وكان قد شاع في الصحابة رضي الله عنهم تحريم ربا الفضل فرد الجواب إليه والإضراب عن محل السؤال غير لائق بمنصب الرسول عليه السلام ثم لم يجر لفعل مستقبل ذكر في الحديث فلما جرى السؤال متعلقا بصيغة المصدر فإنه عليه السلام سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال عليه السلام بعد مراجعة السائل وأخذ جوابه فلا إذا و إذا قد تستعمل على أثر جمل ليس فيها لفعل مستقبل ذكر وقد يستعمل متصلا بالفعل غير عامل فيه فإنه يجري عند النحويين مجرى ظننت فإن تقدم واتصل بالفعل عمل كقولك في جواب كلام إذا أكرم زيدا وإن توسط جاز إلغاؤه عن العمل وجاز أعماله كقولك زيدا إذا أكرمه ويجوز أكرمه بالرفع وإن أخرته لم يجز إعماله كقولك زيد أكرمه إذا بالرفع لا غير وإذا لم يعمل كان كالتتمة للكلام والصلة الزائدة التي لا احتفال بها ولا وقع لها في تغير معنى وتخصيصه باستقبال عن حال ولكنه إذا اتصل بكلام مصدر بالفاء اقتضى تسبيبا وتعليلا كما قال عليه السلام فلا إذا ثم السر في ذلك أن الرسول عليه السلام استنطق السائل بالعلة وما كان يخفى عليه عليه السلام أن الرطب ينقص إذا يبس فلما نطق السائل وقع تعليل الرسول عليه السلام مرتبا على نطق السائل على جفاف الرطب معناه إذا علمت ذلك فلا إذا
766 - ومما يجري تعليلا صيغة تتضمن تعليق الحكم باسم مشتق
فالذي أطلقه الأصوليون في ذلك أن ما منه اشتقاق الاسم علة للحكم في موجب هذه الصيغة كما قال تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما وكما قال الزانية ولزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
فتضمن سياق الايتين تعليل القطع والحد بالسرقة والزنا
وهذا الذي أطلقوه مفصل عندنا فإنا نقول إن كان ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم المعلق بالاسم فالصيغة تقتضي التعليل كالقطع الذي شرع مقطعة للسرقة والجلد المثبت مردعة عن فاحشة الزنا وفي الايتين قرائن تؤكد هذا منها قوله تعالى جزاء بما كسبا نكالا من الله وقوله تعالى ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله
وإن لم يكن ما منه اشتقاق الاسم مناسبا للحكم فالاسم المشتق عندي كالاسم العلم
وتعلق أئمتنا في تعليل ربا الفضل بالطعم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام فوقف على إثبات كون الطعم مشعرا بتحريم التفاضل وإلا فالطعام والبر بمثابة واحدة ولو علق الحكم بهما
767 - وإذا ثبت بلفظ ظاهر قصد الشارع في تعليل حكم بشيء فهذا أقوى متمسك به في مسالك الظنون فإن المستنبط إذا اعتمد إيضاح الإخالة وإثبات المناسبة وتدرج منه إلى تحصيل الظن فإن صحب الرسول عليه السلام كانوا رضي الله عنهم يعلقون الأحكام بأمثال هذه المعاني
فالذي يتضمنه ونظنه أبعد في الإشعار بأن ما استنبطه منصوب الشارع من لفظ منقول عن الرسول عليه السلام مقتض للتعليل
768 - والقول الوجيز أن ما يظهر من قول الرسول عليه السلام في نحو وجهة يتقدم على ما يظهر من طريق الرأي لما تقرر من تقديم الخبر على القياس المظنون فإذا
تطرق إلى كل واحد منهما الظن وانحسم القطع تقدم الخبر لمنصبه واستأخر الرأي وصيغ التعليل ظاهرة في قصد صاحب اللفظ إلى التعليل
وقد ذكرت في كتاب التأويل أنه إذا قصد الشارع تعميم حكم ولاح ذلك وظهر في صيغة كلامه لم يسغ مدافعة مقتضى العموم بقياس مظنون وقد ذكرنا من هذه الجملة في كتاب التأويل ما نحن الان فيه وأوضحنا أن ما يظهر قصد التعليل فيه وإن لم يكن نصا فلا يجوز إزالة ظاهر التعليل بقياس لا يستند إلى تعليل الشارع ظاهرا فإنا لو فعلنا ذلك كنا مقدمين ظن صاحب الرأي على ما ظهر فيه قصد الشارع وهذا محال
وإن استند قياس من يحاول إزالة ظاهر التعليل إلى ظاهر اخر في التعليل يخالف ما فيه الكلام فينظر إذ ذاك في الظاهرين نظرنا في المتعارضين كما سيأتي في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
769 - فإن قيل قد علل رسول الله صلى الله عليه و سلم وجوب الوضوء على المستحاضة بكون الخارج دم عرق فإنه قال عليه السلام توضئي فإنه دم عرق فاقتضى ذلك وجوب الوضوء بخروج الدم من كل عرق
قلنا قال بعض أصحابنا ما ذكره صلى الله عليه و سلم تعليل في محل مخصوص فإنها سألت عن دم يخرج من مخرج الحدث فجرى جوابه عليه السلام حكما وتعليلا منزلا على محل السؤال وكان السؤال عن خروج الدم من محل الحدث ومعظم ما يجري على صيغ التعليل في ألفاظ الشارع لا يكون فيه تعرض للمحل بل يكون طلب المحل محالا على الطالب الباحث وكذلك تلفى تعليلات القرآن كالسرقة والزنا وغيرهما
والجواب المرضى عندنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يقصد إيجاب الوضوء والاعتناء بتعليله وإنما غرضه نفى وجوب الغسل ورفع حكم الحيض عند اطراد الاستحاضة ولما اشتبه على السائلة أن الخارج حيض أم لا قصدت السؤال عما أشكل عليها فأبان صلى الله عليه و سلم أن الخارج ليس بالحيض الذي يزجيه الرحم وإنما هو عرق وحكمه الوضوء وهذا بين من فحوى كلامه عليه السلام
770 - فإن قيل لم تركتم تعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم تخيير المعتقة بملكها نفسها حتى تقضوا على حسب ذلك بأنها تخير وإن اعتقت تحت حر فإنه عليه السلام قال لبريرة ملكت نفسك فاختاري وهذا تعليل الخيار بانطلاق حجر الرق وهو يجري في العتق تحت الحر جريانه في العتق تحت العبد
قلنا قال المحدثون لا نعرف هذا اللفظ فعلى ناقله التصحيح ثم إن صح فسبيل الكلام عليه أنه لم يرد تعليل الخيار بملكها نفسها فإنه لو أراد أنها ملكت نفسها تحقيقا لما احتاجت إلى الخيار في محل النكاح
قال القاضي إن ملكت محل النكاح فليس للخيار معنى وإن ملكت غير مورد النكاج لم يشعر ذلك بالخيار في محل النكاح فالمراد إذا ترديد العبارة عن ثبوت الخيار لها كما يقال لمن ثبت له حق فسخ عقد ملكت الفسخ فافسخ
فمعنى الحديث إذا ملكت الخيار فاختاري وكانت أعتقت تحت عبد فهذا وجه الكلام
771 - ثم إنا نجري ذكر هذه الأمثلة تهذيبا للأصول وتدريبا فيها وإلا فحق الأصولي ألا يلتفت إلى مذاهب أصحاب الفروع ولا يلتزم مذهبا مخصوصا في المسائل المظنونة الشرعية
فهذا غاية ما أردناه في هذا الفن
السبر والتقسيم
772 - ومما أجراه القاضي وغيره من الأصوليين في محاولة إثبات علل الأصول السبر والتقسيم
ومعناه على الجملة أن الناظر يبحث عن معان مجتمعة في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا ويبين خروج احادها عن صلاح التعليل به إلا واحدا يراه ويرضاه
وهذا المسلك يجري في المعقولات على نوعين فإن كان التقسيم العقلي مشتملا على النفي والإثبات حاصرا لهما فإذا بطل أحد القسمين تعين الثاني للثبوت
وإن لم يكن التقسيم بين نفى وإثبات ولكنه كان مسترسلا على أقسام يعددها السابر فلا يكاد يفضي القول فيها إلى علم
وقصارى السابر المقسم أن يقول سبرت فلم أجد معنى سوى ما ذكرت وقد تتبعت ما وجدته
فيقول الطالب ما يؤمنك أنك أغفلت قسما لم تتعرض له فلا يفلح السابر في مطالب العلوم إذا انتهلا الكلام إلى هذا المنتهى
773 - فأما السبر في المسائل الشرعية الظنية فإن دار بين النفى والإثبات ولاح المسلك الممكن في سقوط أحد القسمين كان ذلك سبرا مفيدا كما
سنبين الان معنى السبر وجدواه
وإن كان التقسيم الظني مرسلا بين معان لا يضبطها حصر كما ذكرناه في المعقولات ورددناه فيها فقد قال بعض الأصوليين إنه مردود في المظنونان أيضا فإن منتهاه إحالة السابر الأمر على وجدانه
وهذا غير سديد فإن هذا الفن من التقسيم إنما يبطل في القطعيات من حيث لا يفضي إلى العلم والقطع وإذا استعمل في المظنونات فقد يثير غلبة الظن فإن المسألة المعروفة بين النظار إذا كثر بحثهم فيها عن معانيها ثم تعرض السابر لإبطال ما عدا مختاره فقال السائل لعلك أغفلت معنى عليه التعويل
قيل هذا تعنت فإنه لو فرض معنى لتعرض له طلاب المعاني والباحثون عنها والذي تحصل من بحث السابرين ما نصصت عليه والغالب على الظن أنه لو كان للحكم المتفق عليه علة لأبداها المستنبطون المعتنون بالاستثارة فتحصل من مجموع ذلك ظن غالب في مقصود السابر وهو منتهى غرض الناظر في مسائل الظنون
774 - وإذا ثبت ما ذكرناه في معنى السبر وتنويعه وما يفيد منه وما لا يفيد فنرجع الان إلى غرضنا في إثبات معنى الأصل فنقول
قد عد القاضي السبر من أقوى الطرق في إثبات علة الأصل وهذا مشكل جدا فإن من أبطل معاني لم يتضمن إبطاله لها إثبات ما ليس يتعرض له بالبطلان فإنه لا يمتنع أن يبطل ما لم يتعرض له أيضا فإنه لا يتعين تعليل كل حكم فعد السبر والتقسيم مما تثبت به العلل بعيد لا اتجاه له
والذي يوضح المقصد في ذلك أنه لو انتصب على معنى ادعاه المستنبط دليل
فلا يضر أن يفرض لذلك الحكم علة أخرى وارتباط الحكم بعلل لا امتناع فيه وإنما تتعارض العلل إذا تناقضت موجباتها فيمتنع الجمع بينها فإذا كانت متوافقة متظاهرة لم تتناقض
فيتبين أن إبطال معان تتبعها السابر لا أثر له في انتصاب ما أبقاه ولو أقام الدليل على كلمة معنى لم يتوقف انتصابه معنى موجبا للحكم على تتبع ما عداه بالإبطال
فلا حاصل على هذا التقدير للسبر والتقسيم في إثبات علل الأصول
775 - والان ينشأ من منتهى هذا الكلام أمو خطيرة في الباب
منها أنه لو ثبت اتفاق القايسين على كون حكم في أصل معللا ثم اتجه للسابر إبطال كل معنى سوى ما راه وارتضاه فلا يمتنع والحال هذه أن يكون السبر مفيدا غلبة الظن في انتهاض ما لم يبطل علما
ومستند ثبوته في التحقيق الاجماع على أصل التعليل ولكن ثبت الإجمع على الأصل مبهما وأفضى السبر إلى التعيين فحصل منه ومن الإجماع ما أراده المعلل
فإن قدر مقدر إبطال ما أبقاه السابر وقد استتب له مسلك الإبطال فيما سواه كان مقدرا محالا مؤديا إلى نسبة أهل الإجماع إلى الخلف والباطل
776 - فإن قيل كيف يكون إجماع القايسين حجة وقد أنكر القياس طوائف من العلماء قلنا الذي ذهب إليه ذوو التحقيق أنا لا نعد منكري القياس من علماء الأمة وحملة الشريعة فإنهم مباهتون أولا على عنادهم فيما ثبت استفاضة وتواترا ومن لم يزعه التواتر ولم يحتفل بمخالفته لم يوثق بقوله ومذهبه
وأيضا فإن معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد والنصوص لا تفى بالعشر من
معشار الشريعة فهؤلاء ملتحقون بالعوام وكيف يدعون مجتهدين ولا اجتهاد عندهم وإنما غاية التصرف التردد على ظواهر الألفاظ
فهذا منتهى ما اتصل الكلام به
فصل تعليل الحكم بأكثر من علة
777 - ومما يتصل بذلك القول في اجتماع العلل للحكم الواحدوقد اضطرب الأصوليون في هذا فذهب طوائف إلى أنه لا يعلل حكم بأكثر من علة واحدة
وذهب الجماهير إلى أنه لا يمتنع تعليل حكم بعلل
وذهب المقتصدون إلى أن ذلك لا يمتنع على الجملة لا عقلا ولا شرعا فإن الدم يجوز أن يعزى استحقاقه إلى جهات ومقتضيات كل مقتض لو انفرد بنفسه لاستقل في إثارة الحكم
هذا لا امتناع فيه
وأما إذا ثبت الحكم مطلقا لأصل وكان أصل تعليله وتعيين علته لو ثبت تعليلا موقوفا على استنباط المستنبط فيمتنع أن تفرض علتان يتوصل إليهما بالاستنباط
وللقاضي إلى هذا صغو ظاهر في كتاب التقريب وهو اختيار الأستاذ أبو بكر بن فورك
ونحن نذكر ما يتمسك به كل فريق
778 - فأما من جوز وضعا واستنباطا تعليل حكم بعلل فمسلكه واضح وطريقة لائح وإنما الاعتناء بالتنبيه على مسالك الاخرين
فمما تعلقوا به أن قالوا أجمع أهل القياس على اتحاد علة الربا واتخذ كل فريق إبطال ما يدعيه الاخرون المخالفون ذريعة إلى إثبات ما يدعيه علة ولو كان يسوغ إثبات حكم بعلل لكان هذا المسلك غير متجه ولا مفيد والذي يحقق ذلك أنهم أجمعوا على التعلق بالترجيح وإنما ترجح العلل إذا تعارضت ولو كان لا يمتنع اجتماعها لكان الترجيح لغوا فيها فإن من ضرورة الترجيح الاعتراف باستجماع كل علة شرائط الصحة لو قدرت منفردة فإذا تناقضت يرجح بعضها على بعض وإذا لم يمتنع اجتماعهما لم يكن للترجيح معنى
779 - ومن جوز تعليل حكم بعلتين لم يبعد أن تكون إحداهما أولهى من الأخرى والترجيح لا يفيد إلا تلويحا في ظهور بعض العلل
والكلام على هذا من أوجه
أحدها أن تعليل ربا الفضل ليس مقطوعا به عند المحققين وليس منكر تعليله منتسبا إلى جحد القياس ومن عرف مسالك كلامنا في الأساليب تبين ظهور ميلنا إلى اتباع النص وإلى إثباتنا الربا في كل مطعوم بقوله عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام وربا الفضل في النقدين لا يتعداهما ولا ضرورة تحوج إلى ادعاء علة قاصرة وقد أجريت مسألة الربا على التزام اتباع مذهب الشافعي ومحاذرة مخالفته في تعليله تحريم ربا الفضل في الأشياء الأربعة بالطعم المتعدى في محل النص
780 - وأنا الان أبدى اختياري في منع تعليل ربا الفضل وأبدأ القول في النقدين
فأقول قد وضح إبطال الوزن في النقدين ولم يبق إلا النقدية والعلة القاصرة لا تثمر مزيدا في الحكم ولا تفيد جدوى في التكليف فإن الحكم ثابت بالنص
ومن قال بالعلة القاصرة أبداها وانتحاها حكمة في حكم الشرع ولسنا نبعد ذلك ولكن يتعين في ادعاء العلة القاصرة أن يكون المدعى مشعرا بالحكم مناسبا له مفضيا بالطالب إلى التنبيه على محاسن الشريعة والتدرب في مسالك المناسبات وشرط ذلك الإخالة لا محالة وليست النقدية مشعرة بتحريم ربا الفضل على ما قررت في الأساليب فقد خرجت النقدية عن كونها حكمة مستثارة ومسلكا من محاسن الشريعة ولم يتعلق بها حكم زائد على مورد النص وبطل ما ادعى متعديا ولاح سقوط التعليل في النقدين
وأما الأشياء الأربعة فقد أوضحنا أن الطعم ليس مخيلا بالتحريم وبينا أن قول النبي عليه السلام لا تبيعوا الطعام بالطعام الحديث لا يتضمن تعليلا بالطعم ما لم يقرر المستدل بالخبر كون الطعم مخيلا مناسبا وحققنا أن المشتق إذا لم يشعر بإخالة حل محل اللقب والسبر قصاراه إبطال ما يدعيه الخصم علة وليس في إبطال مدعى الخصم إثبات لغيره ولم يثبت بالإجماع كون تحريم ربا الفضل معللا وكيف يستقيم دعوى الإجماع في تعليله وقد أنكر ابن عباس رضي الله عنه تحريم ربا الفضل
782 - وذهب طوائف من القايسين إلى منع التعليل مع الاعتراف بالحكم والترجيح باطل مع تجويز ارتباط الحكم بعلل
فلم يبق إلا طريقة تكلفتها في الأساليب وهي أن الرسول عليه السلام أباح ربا الفضل في الجنسين وحرمه في الجنس الواحد فدل ذلك على ارتباط
حكم التحريم بالمقصود من هذه الأجناس والمقصود منها الطعم لا الكيل والوزن فإن هذه الأجناس لا تقتني لتكال أو توزن وإنما تتخذ لينتفع بها
ثم عد رسول الله من كل جنس فذكر البر لأنه يطعم قوتا والشعير يقتات ويدخر وينتفع به من وجوه والتمر قد يقتني والملح يراد لتطييب الأطعمة واصلاحها فكأنه صلى الله عليه و سلم ذكر الأجناس الغالبة من الأطعمة ونبة بذكرها على ما يجمعها وهو الطعم ثم أبان برفع الحرج عند اختلاف الجنس التعلق بالمقاصد وطردت هذا في مسألة النقدين على هذا الوجه
فهذا وإن صح فهو من فن قياس الدلالة وهو عندي من أبواب الشبه على ما استقصى القول فيه إن شاء الله تعالى
783 - ولكن إنما يستقيم التشوف إلى مثل ذلك لو جرى في الباب سليما وقد رأينا ربا النساء محرما في الجنسين فلو كان التعلق بالمقصود صحيحا للزم طرده في ربا النساء إذ وقوع البر في الذمة ليس ممتنعا إذا لم يكن رأس مال السلم مطعوما فلم امتنع إسلام الشعير في البر مع تفاوت المقاصد وباب ربا النساء فرع ربا الفضل فإذا جرى تعليل في ربا الفضل وجب أن يناسب ربا النساء فيما يليق به
فإذا لا إخالة ولا تنبيه من الشارع ولا شبه بين العقاقير والفواكه وبين الأشياء الأربعة
فقد بطل قياس الدلالة وفسد التعلق بالترجيح وأغنى ذكر النقدين فيما يتعلق بالحكم وأغنى ذكر الطعام عن تكلف استنباط علة فالوجه التعلق بالنهي عن بيع الطعام بالطعام
وإذا حاول الخصم تخصيصا لم يجد دليلا يعضد به تأويلا فثبت الظاهر وقد امتنع تخصيصه أيضا على الخصم وإذا رووا في حديث عبادة بن الصامت وكذلك
ما يكال ويوزن فهو موضوع مختلق باتفاق المحدثين
784 - وإذا قال من لم يزد على الأشياء الستة لو كان تحريم التفاضل في كل مطعوم لكان ذكر الطعام أوجز واوقع وأعم وأجمع فذكره أصنافا مخصوصة يشعر بقصر الحكم عليها
فيقال لهؤلاء لا ينفع ما ذكرتموه مع صحة النهي عن بيع الطعام بالطعام وليس في ذكر بعض الأطعمة ما يتضمن تخصيص اللفظ العام في الطعام إذ الألقاب لا مفهوم لها وقد ذكرنا في أثناء الكلام وجها وأوضحنا أنه لا يمتنع حمل ذكر الشارع لها على إبانة اطراد تحريم الربا في جميع ما يطعم مع انقسامه إلى القوت وغيره
فتبين قطعا أن الربا يجري في كل مطعوم للخبر الوارد فيه وهو وارد في النقدين للنص فيهما
وسبيل المسئول في المسألتين أن يذكر الحكم ويتمسك بالخبر ويحوج الخصم إذا حاول إزالة الظاهر إلى دليل فإذا ابتدر إلى ذكر طريقة في القياس نتبعها بالنقض
وهذا جرى معترضا في الكلام
785 - وقد عاد بنا الكلام إلى أن ما استشهد به من منع ربط حكم بعلتين من تخاوض العلماء في علة الربا باطل في مسلك الأصول فإنا أوضحنا أن ما استشهدوا به مما لا يعلل عندنا
والكلام في التفصيل مع منع أصل التعليل فاسد حايد عن المقصد
ثم لا يمتنع لو قيل بتعليل الربا أن يجمع القايسون في أصل معين على اتحاد العلة
فيه ثم يتنافسوا في طلبها وهذا الإجماع لو فرض في صورة مخصوصة لا يتضمن القضاء بمنع ارتباط حكم في صورة أخرى بعلتين أو بعلل فلا تعلق إذا فيما استشهدوا به من علة الربا
وبما يتمسك هؤلاء بأن يقولوا المتبع في اثبات القياس والعمل به سيرة الصحابة رضي الله عنهم وقد صح عنهم تعليق الحكم بالمعنى الفرد المستثار من الأصل الواحد فاتبعوا فيه
وأما ربط الحكم بعلتين مستنبطتين من أصل واحد بحيث يجري كل واحد منهما في مجاري اطرادهما وينفرد بمجاري أحكامهما فلم يثبت في مثل هذا نقل ولو كان مثل هذا سائغا ممكن الوقوع لا تفق في الزمان المتمادى ولنقله المعتنون بأمر الشريعة ونقل السبر فإذا لم ينقل ذلك دل على أنه لم يقع وإذا لم يقع في الأمد الطويل تبين أن الحكم الواحد لا يعلل إلا بعلة واحدة متلقاة من أصل واحد
فهذا لا حاصل له فإن أصحاب الرسول عليه السلام ما كانوا يجرون على مراسم الجدليين من نظار الزمان في تعيين أصل والاعتناء بالاستنباط منه وتكلف تحرير على الرسم المعروف المألوف في قبيله وإنما كانوا يرسلون الأحكام ويعقلونها في مجالس الاشتوار بالمصالح الكلية فلو كانوا لا يبدون علة في قضية إلا معتزية إلى أصل معين ثم صح في البحث عن نقل الرواة ما ذكره هذا المعترض لكان كلاما
786 - ومما ارتبك في الخائضون في هذه المسألة أن الذين سوغوا تعليق الأحكام بعلل تعلقوا بتحريم المرأة الواحدة بعلة الحيض والإحرام للصلاة والصيام وقالوا قد يجب قتل الرجل بأسباب كل واحد منها لو انفرد لثبت علة على الاستقلال
وقال من يخالف هؤلاء إنما يناط بالمحل تحريمات ولكن لا يظهر أثر تعددها وقد يتكلف المتكلف فيجد بين كل تحريمين تفاوتا وهذا بين في القتل فإن من استحق القتل قصاصا وحدا فالمستحق قتلان ولكن المحل يضيق على اجتماعهما ولو فرض سقوط أحدهما لبقى الثاني
ولا يكاد يصفو تعليق تحقيق حكم واحد بعلتين تصورا فهذا منتهى المطالب في النفى والإثبات
787 - والذي يتحصل عندنا في ذلك أن الحكم إذا ثبت في أصل ولاح للمستنبط فيه معنى مناسب للحكم فيحكم في مثل ذلك مع سلامة المعنى المظنون منتهضا عن المبطلات بكون الحكم معللا ويتبين له أن ربط الحكم بهذا المعنى الفرد لائح منحصر في مطالب الشريعة ويجوز تعليق الحكم بمثل هذا المعنى فإنه لم يصح عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ضبط المصالح التي تنتهض عللا للأحكام ولا إطلاق تعليق الحكم بكل مصلحة تظهر للناظر وذي رأى
فمسلك الضبط النظر في مواقع الأحكام مع البحث عن معانيها فإذا لاحت وسلمت تبين أنه معنى متلقى من أصول الشريعة وليس حايدا عن الماخذ المضبوطة
فهذا هو المسلك الحق في درك وقوع المعنى في ضبط الشرع ولهذا رد الحذاق الاستدلال الذي لا يستند إلى أصل فإن صاحبه لا يأمن وقوعه في مصلحة لا يناط حكم الشرع بمثلها ولو فرض في أصل معنيان فصاعدا لم يترتب عليهما استفادة الضبط ولم يأمن المستنبط وقوع أحدهما خارجا عن حصر الشرع وضبطه وليس واحد من المعنين بهذا التقدير أولى من الثاني فمن هذه الجهة يتعارضان
فلا يمتنع ترجيح أحدهما على الثاني
788 - فإن قال قائلون بم تنفصلون عن الحائض المحرمة الصائمة
قلنا قد قدمنا جوابا عن هذا سديدا عندنا فإنا نقدر اجتماع تحريمات واية ذلك أنا ألفينا التحريم قد استقل به الحيض المحض والمفروض إذا في حكم أصول تجتمع تعليلها وتزدحم أحكامها
789 - ولباب هذا الفصل سيأتي في الاستدلال فلا يعتقدن المرء بأن هذا اختيارنا في هذه المسألة حتى يقف على ما نراه في الاستدلال رأيا
وإن أبى الطالب استعجال الصواب في هذه المسألة فليثق بامتناع علتين لحكم واحد
والدليل القاطع فيه قبل الانتهاء إلى المباحثه عن أسرار الاستدلال أن ذلك لو كان ممكنا وقد طال نظر النظار واختلاف مسالك الاعتبار في المسائل وما اتفقت مسألة إلا والمختلفون فيها يتنازعون في علة الحكم تنازعهم في الحكم ومن تدبر موارد الشريعة ومصادرها اتضح له ما نقول على قرب
790 - فمن أمثلة ذلك مسألة الربا ومن ادعى أنها مختصة من بين سائر المسائل باتفاق الإجماع على اتحاد العلة فيها فقد احال الأمر على إبهام والمنصف لا يستريب في أن خوض النظار في مسألة الربا كخوضهم في غيرها من المسائل
ولما ثبت الخيار للمعتقة تحت الرقيق وكان ذلك مجمعا عليه والإجماع مستند إلى الحديث ثم اختلف العلماء في إثبات الخيار للمعتقة تحت الحر ومنشأ اختلافهم في ذلك من اختلافهم في تعليل الخيار في حق المعتقة تحت الرقيق فاعتل أبو حنيفة
رحمه الله بأنها ملكت نفسها وزعم أن ذلك يجري في حق المعتقة تحت الحر وأبطل الشافعي رحمه الله هذا التعليل واعتل بالضرار على ما يحرره أصحابه
وكذلك الإفتاء في كل مسألة يبحث الناظر عنها
791 - ونحن نقول بعد هذا التنبيه
تعليل الحكم الواحد بعلتين ليس ممتنعا عقلا وتسويغا ونظرا إلى المصالح الكلية ولكنه ممتنع شرعا واية ذلك أن إمكانه من طريق العقل في نهاية الظهور فلو كان هذا ثابتا شرعا لما كان يمتنع وقوعه على حكم النادر والنادر لا بد أن يقع على مرور الدهور فإذا لم يتفق وقوع هذه المسألة وإن لم يتشوف إلى طلبه طالب لاح كفلق الإصباح أن ذلك ممتنع شرعا وليس ممتنعا عقلا ولا بعيدا عن المصالح
وهذه نهاية لا تتعدى في هذا الفن
وإنما نشأ هذا الكلام كله من قولنا في السبر والتقسيم
792 - والان كما عاد بنا الكلام إليه
فإذا أبطل السابر أشياء نص عليها فأخرجها عن كونها عللا ولم يبق إلا واحد اتجه عند ذلك وجهان من الكلام
أحدهما تعين ما بقي للتعليل به
والثاني بطلانه أيضا والتحاق الحكم بما لا يعلل كما سنفصل ذلك إن شاء الله تعالى
وهذا التردد فيما بقي يدل على أن السبر المجرد إذا انتهى إلى معنى واحد ووقف
عنده لم يدل على تعينه للتعليل وإن كان ذلك المعنى غير مخيل فهو يبطل أيضا بكونه طردا فلينجر السبر عليه وليتخذ السابر هذا مسلكا في إبطال ما أبقاه وليحكم بأن الحكم غير معلل ولو استمكن الناظر من إبداء الإخالة في معنى من المعانى مع التزام السلامة لبطل التعليل بغيره من المعانى من غير أن يتجشم سبرا
793 - فإن قيل لو أبدى الخصم معنى اخر مخيلا قلنا هذا لا يكون أبدا وإن صح فيما أبداه أشعرنا بالاختلال للإخالة الأولى اذ لو فرض جريان الإخالة فيهما أدى إلى تعليل حكم بعلتين ولو كان ذلك سائغا لاتفق وقوعه
794 - ويبقى وراء هذا موقف اخر وهو تجويز تقابل مخيلين مع ترجيح أحدهما على الثاني وهذا من أدق مواقف النظر في الترجيح ولا ينبغي للإنسان أن يتعب نفسه في هذا التقدير فإن أرباب النظر وإن ذكروا في مسألة الربا طرق الترجيح فذلك شعبة من الكلام في المسألة ومعظم الاعتناء بإبطال كل فريق علة من يخالفهم ولكن إجراؤهم الترجيح يدل على اعتقادهم امتناع اجتماع العلل
795 - فقد نجز مرادنا من هذا الفصل وقد ابتدأناه ابتداء من يجوز اجتماع العلتين وأردنا أن نفيد الناظر بهذا المسلك كيفية النظر ووجوه ازورار الطرق حتى يقر الحق في نصابه ويتبين تقرير المختار عندنا والتنصيص على لبابه
فصل الطرد والعكس
796 - ومما ذكره الجدليون وتردد فيه القاضي الطرد والعكس فذهب كل من يعزي إليه الجدل إلى أنه أقوى ما يثبت به العلل وذكر القاضي أبو الطيب الطيري أن هذا المسلك من أعلى المسالك المظنونة وكاد يدعى إفضاءه إلى القطع وإنما سميت هذا الشيخ لغشيانه مجلس القاضي مدة واعتلاقه أطرافا من كلامه ومن عداه حثالة وغثاء
797 - واستدل هؤلاء بأن الغرض الأقصى من النظر والمباحثة عن العلل غلبة الظن وهذا المقصود يظهر جدا فيما يطرد من غير انتقاض وينعكس وكأن الحكم يساوقه إذا وجد وينتفى إذا انتفى وإذا غلب على الظن تعليق الحكم المتفق عليه في الأصل المعتبر بمعنى فلم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك فقد حصل الغرض من غلبة الظن وعدم الانقاض وينزل ذلك منزلة الإخالة السليمة لدى العرض على الأصول
وللقاضي صغو ظاهر إلى ذلك
ثم ظهور الدليل يرتبط بالطرد والعكس وهو في العكس أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدع اطراده وهو منازع فيه لا محالة والدليل يستند ظهوره إلى الاتفاق على الانعكاس
798 - وهذا من غوامض الفصل فإن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعة عند جماهير الأصوليين والطرد شرط ثم الذي هو شرط الصحة وركنها ليس دليلا على الصحة والذي لا يشترط وهو الانعكاس ينتهض دليلا
799 - وذهب بعض الخائضين في هذا الشأن إلى أن الأمر بهما جميعا يتم فإن محل التمسك مساوقة الأمر الذي يقال إنه علة وذلك تقرر بثبوته إذا ثبت
وانتفائه اذا انتفى
800 - وقال القاضي في معظم أجوبته لا يجوز التعلق بالطرد والعكس في محاولة إثبات العلة فإن الطرد لا يعم في صور الخلاف على وفاق إذ لو كان يعم لما ثبت الخلاف في المحل الذي يدعى الطارد الطرد فيه والعكس ليس شرطا في العلة التي تجري دليلا وعلامة فقد صار الطرد واقعا في محل النزاع وبعد اعتبار العكس من جهة أنه غير معتبر كما سنذكره على أثر هذا الفصل ومن التزم نصب شيء علما لم يلتزم نصب نفيه علما في نفي مقصوده كما سيأتي الشرح عليه في مسلك العكس إن شاء الله تعالى
فالطرد إذا متنازع فيه والعكس ليس من مقتضيات نصب الإعلام والعلامات
وقال أيضا معتمدنا في قاعدة القياس تأصيلا وفيما يرد ويقبل تفصيلا ما يصح عندنا من أمر الصحابة رضي الله عنهم فما تحققنا ردهم إياه رددناه وما تحققنا به عملهم قبلناه وما لم يثبت لدينا فيه ثبت تعديناه فإنا على قطع نعلم أن جميع وجوه النظر ليست مقبولة ولا مردودة والعقول لا تحتكم فيها مصححة ولا مفسدة فإنها إنما تحكم على الأنفس وصفاتها وما هي عليه من حقائقها والعلل السمعية لا تدل لذواتها
فإذا ثبت هذا فقد رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينوطون الأحكام بالمصالح على تفصيل لها
فأما الطرد والعكس فلم يؤثر عنهم التعلق به وليس هو من معنى طلب المصالح في شيء حتى يقال استرسالهم في طريق الحكم بالمصالح من غير تخصيص شيء منها يقتضي التعلق بالطرد والعكس
801 - وهذا الذي ذكره القاضي فيه نظر عندي فإن الغاية القصوى في
مجال الظنون غلبتها متعلقة بقصد الشارع والمصالح التي تعلق بها صحب الرسول صلى الله عليه و سلم لم يصادفوا في أعيانهم تنصيصا من رسول الله صلى الله عليه و سلم وتخصيصا لها بالذكر ولو صادفوا ذلك لما كانوا متمسكين بالنظر والرأي فإن معاذا جر الأمة لم يذكر الرأي في القصة المشهورة إلا بعد فقدان كل ما يتعلق به من الكتاب والسنة ولا نراهم كانوا يرون التعلق بكل مصلحة فالوجه في تحسين الظن بهم أنهم كانوا يعلقون الأحكام بما يظنونه موافقا لقول الرسول عليه السلام في منهاج شرعه وكانوا يبغون ذلك في مسالكهم
ولا يكاد يخفى على ذي بصيرة أن الطرد والعكس يغلب على الظن انتصاب الجاري فيهما علما في وضع الشرع
فمن أنكر ذلك في طرق الظنون فقد عاند ومن ادعى أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يأبون التعلق بطريق يغلب على الظن مراد الشارع وكانوا يخصصون نظرهم بمغلب دون مغلب فقد ادعى بدعا
802 - فإن قال قائل لم ينقل ذلك في عينه فالسبب فيه أنهم كانوا ما أجروا ذكر أصل واستنباطا منه وإن كان ذلك هو الطريقة المثلى عند القايسين وما لا يستند إلى أصل فهو استدلال مختلف فيه ولكنهم ما اعتنوا إلا بذكر المعاني فاكتفوا بإطلاقها عن ذكر أصولها وما تكلفوا جمعا وإن كان الجمع معتبرا باتفاق النظار والمسائل لا تشهد بصورها ما لم تربط الفروع بها والذي تحصل منهم التوصل إلى ابتغاء غلبة الظن في بغية الشارع على اقصى أقصى الجهد
803 - وأنا أقول لو ثبت عندهم أو عرض عليهم انتفاء حكم عند انتفاء
علم وثبوته عند ثبوته لابتدروه ابتدارهم الأخبار لا طرق النظر فإن ما ثبت من ذلك يعزى إلى الشارع في النفي والإثبات وكانوا يحومون على إشارته وتنبيهاته كما يتعلقون يظاهر ألفاظه وصريح عباراته فليقطع المحصل قوله بما انتهى إليه الكلام من الاستمساك بالطرد والعكس
804 - وما ذكره القاضي من كون الطرد متنازعا فيه وكون العكس مستغنى عنه فمن التشدق والتفيهق الذي يستزل به من لا يعد من الراسخين
وسبيل الكلام عليه أن نقول
مجموعهما هل يغلب على الظن انتصاب ما اطرد وانعكس علما أم لا
فإن زعم أنه لا يغلب انتسب إلى العناد وإن سلم إفادته غلبة الظن وقد تقرر أن القايسين غايتهم أن يظنوا ظهور علم على حكم وهم يعترفون بأن الجهات التي تفضي إلى غلبة الظن ليست منحصرة ومن تأمل مجارى كلامهم لم يسترب في أمرين
أحدهما أن الأولين رضي الله عنهم ما كانوا يشيرون إلى أمور محصورة مضبوطة يتبعونها اتباع من يقتفي اثار نصوص وتوقيفات ولو كانوا على ضوابط وحدود يتخذونها مرجعهم لما كانوا ينظرون فيه رأيا وإنما كان رجوعا إلى ضبط الشارع وتوقيفه فهذا أحد الأمرين
والأمر الثاني أنهم كانوا لا يرون حمل الخلق على الاستصلاح بكل رأى وإنما كانوا يحومون على قواعد الشريعة ويستثيرون منها ما يظنونه
فيخرج من هذين الأمرين أن مبتغاهم كان أن يغلب على ظنهم مراد الشارع في علم يرتبط الحكم به
805 - فإن قيل إذا جعلتم الطرد والعكس مسلكا في إثبات علة الأصل فهل تشترطون العكس وما رأيكم فيه
قلنا نعقد في ذلك مسألة وبها حصول الغرض على التمام فيما سبق وفيما سئلنا عنه
مسألة في حكم اشتراط العكس في علة القياس
806 - ذهب بعض المنتمين إلى الأصول إلى أن الانعكاس لا بد منه في العلل وإن كانت مظنونة
وذهب الجماهير إلى أن الانعكاس ليس شرطا في العلل السمعية المظنونة
ونحن نورد ما لكل فريق ثم نوضح الحق والمقام الذي تشعبت منه الاراء
فأما من شرط العكس فقد يأتي بأمر لفظي لا حاصل له ويقول العلل وإن كانت مظنونة فينبعي أن تكون على مضاهاة العلل العقلية القطعية حتى لا يفترقا إلا في كون أحداهما مظنونة والأخرى مقطوعا بها ثم العلل العقلية يجب انعكاسها فلتكن السمعية كذلك
وهذا ساقط لا أصل له ولولا الوفاء بإيفاء ما ذكر في هذا المجموع وإلا كنا لا نذكر أمثال ذلك
فنقول لهؤلاء العلل العقلية لا حقيقة لها ومن طلب الإحاطة بذلك فهو محال على دقيق الكلام في العلة والمعلول ثم يقال لهم ما يسمى علة سمعية فهي أمارة في مسلك الظن وحقها أن تقابل بالأدلة العقلية ثم الأدلة العقلية إذا اقتضت في ثوبتها مدلولاتها لم يقتض انتفاؤها انتفاء مدلولاتها كالفعل إذا دل على الفاعل لم يدل عدمه على عدم الفاعل والإحكام إذا دل على علم المحكم له يدل التثبج على
الجهل وكذلك الأمارات في سبيل الظنون إذا دلت على ثبوت أمر لم يدل انتقاؤها على انتفائه
وهذا مما يستدل به من لم يشترط العكس
807 - وقد تعلق الجمهور بأن العكس لو كان شرطا لوجب ألا يقتل إلا قاتل من حيث كان القتل علة قتل القاتل ولا يقتل المرتد فإذا كان الحكم الثابت لعلة يطرد مع ارتفاعها لثبوت علة أخرى تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك على أن الانعكاس ليس شرطا
فإن قيل امتنع الانعكاس لعلة فليقل الطارد وقد نقض عليه طرده إنما تركت حكم الطرد فيما التزمت لعلة فلما كان الطرد شرطا لم يكن بد من الاطراد فلو كان العكس شرطها لتعين ذلك أيضا وكذلك كل حكم يفرض تعلقه بعلل
ولمن يشترط العكس أن يقول القتل الواجب بالقتل يعدم بعدم القتل وإنما الواجب عند عدم القتل قتل اخر ولكن المحل يضيق عن القتلات ويفوت بإيقاع واحد منها به
والدليل على ذلك أنها مختلفة الأحكام على وجه لا يخفى مدرك اختلافه على الفقيه ويستحيل أن تختلف الأحكام في الشيء الواحد فإن ما يطرده هذا القائل في التحريم بالحيض والإحرام والعدة والردة ويزعم أنها أحكام فإذا زالت علة منها زال حكمها بزوالها وإنما الثابت حكم اخر وإن اتسم بسمة التحريم فدخول المختلفات تحت صفة واحدة عامة لا يوجب اتحادها
وإذا ألزم هؤلاء الأدلة العقلية قالوا مجيبين الفعل يدل على الفاعل وعدمه يشعر بانتفاء الفاعلية فإن الفاعلية هي وقوع الفعل على الحقيقة
وأما الإحكام فلا حقيقة له والمثبج في حال تثبيجه محكم على معنى وقوعه على حسب مراد الموقع وبسط القول في هذا لا يحتمله هذا الفن
وإذا خضنا في بيان المختار في ذلك عدنا إلى الأدلة العقلية عودة أخرى ان شاء الله تعالى
808 - ومما يتعلق به من لا يشترط العكس أن يقول انتفاء التحريم ورفع الحرج من الأحكام فإذا تعلق التحريم بعلم لم يجب أن ينتصب عدمه علما لحكم اخر ومن التزم نصب شيء علما لم يلزمه أن ينصب علما في نقيضه
وهذا وإن كان مخيلا فلا تحصيل له فإن الانعكاس معناه انتفاء الحكم وانتفاء الحكم ليس حكما وقد ذكرنا فيما قدمنا أن الحل في التحقيق إن كان بمعنى رفع الحرج فليس بحكم وإن كان المعنى به أنه مخبر عنه في معنى حكم الحل فهو في هذا الحكم ملحق بالشرع على معنى أنه لم يتصل بالعقلاء قبل ورود الشرع خبر من له الأمر وإلا فالحرج منتف قبل ورود الشرع وقياس التحريم أن يثبت التحريم ثم أصل انعكاسه انتفاء التحريم لا ثبوت حكم اخر مناقض للتحريم فقد وهت هذه الطريقة
809 - ومما تمسك بن بعض من نفى اشتراط الانعكاس ما قدمناه في أدراج الكلام من الأدلة العقلية فإنها إذا دلت بوجودها على مدلول لم يدل
عدمها على عدمه ولا يخطر لم يعد نفسه حبرا في الأصول تفص عن هذا فإن الدليل العقلي مشعر بالمدلول قطعا والأمارة الظنية مشعرة بالمظنون ظنا ولو لم يشعر الدليل القاطع بمدلوله لم يكن دليلا عليه ولا شك أن إشهار القاطع بمتعلقه فوق إشعار الأمارة بالمظنون فإذا قوى الإشعار في الطرد كان اقتضاؤه الانعكاس أظهر ومع ذلك لم ينعكس الدليل فالمظنون بذلك أولى
وهذا على وضوحه ساقط فلن يحيط بالانفصال عنه من لم يتلقف من حقائق النظر
810 - والقدر الذي يحتمله هذا الكتاب أن تعليق الدليل العقلي بمدلوله لا حقيقة له والعلوم كلها ضرورية والنظر تردد في أنحاء العلوم الضرورية والعلم المسمى ضروريا هو الذي يهجم العقل عليه من غير فكر والنظر الأول الذي يلي البديهي الهجمي هو الذي يحوج إلى أدنى فكر وتجريد تفكر العقل نحو المطلوب ثم ينبني على الدرجة الأولى ثانية وعلى الثانية ثالثة فالسوابق تلتحق بالضروريات الهجميات
811 - ولا بد من ضرب مثال يستعين به الناظر في هذه المسألة وفي نظائرها إذا انجر الكلام إلى الأدلة القطعية فنقول إذا تغير الجوهر فتغيره مدرك معلوم من غير مسيس الحاجة إلى فكر ثم يربط هذا الناظر فكره بأن هذا التغير جائز هو أم واجب فنعلم على القرب جوازه ولا ينتصب عليه شيء يتعلق بالجواز ولكن الطالب بفكره يدرك وهو ممثل بما يتأتى بناظر البصر بعض التأتي فإنه قد يحدق
نحو بصره قليلا ثم إذا أدركه التحق بالمدركات التي تقرب منه ثم إذا علم جوازه فكر في أنه يقع بنفسه أم يستند إلى مقتض فيترتب عليه غير بعيد ويعلم على اضطرار أن الجائز لا يقع من غير مقتض ويلتحق هذا بالمراتب الضرورية ثم يفكر في تعيين المقتضى إلى حيث ينتهي نظره
812 - ومثال ذلك في الهندسيات أن الأوليات المذكورة في المصادرات أمور تسليمية كقول القائل الكل أكثر من الجزء وكل شيئين يساوي كل واحد منهما ثالثا فهما متساويان ثم يبني الأشكال على أمثال هذه المقدمات وإذا أدركه كان العلم بها على نحو العلم بالمقدمات ولا معنى للدليل إلا بناء مطلوب على مقدم ضروري
وقد يحتاج الناظر الى قليل فكر وذلك يختلف باختلاف القرائح فقد يجرى الجواد جريانا لا نحس في أثنائه وقفاته إن كانت وقد يطول تردد البليد
ومما يطرق الخلل إلى النظر الحيد عن السنن المفضي إلى مقصده وبيانه بالمثال أن الذي يبغي مقتضيا إذا حاد عن طلب الجواز وأخذ يفكر في الطول والعرض وللون فهذا حائد لا ينتهي إلى مقصده
وقد يؤتى الناظر من نسيان المقدمات وإلا فالمشكل انقطاع مدركه كمدرك المقدمات في المقالة الأولى من كتاب الاستقصات
813 - فخرج من هذا التنبيه العظيم أن دليل العقل ليس شيئا متعلقا بمتعلق حتى يفرض فيه إشعار في الطرد ونقيض له في العكس
والأمارات الشرعية مصالح تقتضى أحكامها وهي على التحقيق متعلقة بها
فقد بان افتراق البابين
والمطلوب بعد من حقيقة المسألة بين أيدينا
وقد قالوا إذا كانت العلامات الشرعية لا تقتضي أحكامها لأعيانها وإنا وجه اقتضائها لها نصب الشارع إياها وإن صح في ذلك نقل فهي علل منقولة وإن لم يثبت نقل وظنها المستنبط كان نصب الشارع إياها مظنونا فهي إذا كيف فرضت منصوبة تحقيقا أو ظنا
ومن قال لمن يخاطبه إذا أومأت إليك فاعلم أني أريد منك أن تقوم فعدم الإيماء لا يدل على عدم إرادة القيام فقد يريد منه القيام بعلامة أخرى وقد ينصب على الشيء الواحد أعلاما
وهذا على التحقيق حكم العلل الشرعية وهذا هو التدليس الأخير
وإذا نحن أوضحنا مسلك الحق فيه استفتحنا بعده تمام الكشف عن غاية البيان واختتمنا المسألة على وضوح لا مراء بعده
814 - فنقول هذا القبيل الذي ذكره السائل من فن مالا يخيل ولا يناسب المستدعي فإن الإشارة لا تختص باقتضاء القيام لا عن علم ولا عن غلبة ظن وهي بالإضافةإلى القيام كهى بالإضافة إلى القعود فليفهم الناظر ذلك أولا وليتفطن له
815 - ثم نقول بعد هذه الصفات إذا نصبت أعلاما فإنها في غالب الأمر تذكر في مساق شرط أو على قضية تعليل فإن ذكرت على مساق لشرط فقد قررت في مسألة المفهوم أن انتفاء الشرط يتضمن انتفاء المشروط ومن خالف في القول بالمفهوم لم يخالف في الشرط واقتضائه نفى المشروط عند انتفاء الشرط
فإذا لا نسلم أن ما يجري من هذه الصفات في مساق الشرط لا يقتضي انتفاء عند فرض الانتفاء وإن لم يجر صيغة الشرط في عينها وجرى في معناها فالأمر يجري هذا المجرى فهو بمثابة أن تقول إذا أومأت إليك فقم فإذا وإن لم تكن من أدوات الشرط فمعناه الشرط مع اقتضاء التأقيت على ما سبق الرمز إليه في معانى الحروف
وإن جرت على صيغة التعليل فالتعليل أبلغ في اقتضاء النفى عند فرض انتفاء العلة وهذا مما سبق القول فيه أيضا في المفهوم فما ادعاه السائل من أن نصب الأعلام لا يقتضى انتفاء الأحكام عند انتفائها ساقط لا أصل له وهو إذا تأمله المتأمل مردود إلى القول بالمفهوم في الشرط والعلة
فهذا صدر الكلام في ذلك
816 - ولكنا مع ذلك لا نبعد أن تعلق المتعلق مشروط بأفراد شرائط بحيث يستقل ذلك المشروط بكل واحد منها مثل أن يقول أن أتيتني أو كاتبتني أو ذكرتني بخير على ظهر الغيب أكرمتك فالإكرام متعلق بكل شرط من هذه الشراط من غير أن يشترط اجتماعها وإذا كان التعلق على هذا الوجه لم يبعد أن ينتفي الإتيان ويثبت الإكرام لمكان المكاتبة أو لشرط اخر يفرض
817 - فإذا لاح هذا انعطفنا على الغرض وبحنا بالمقصود وقلنا سيأتي في تفصيل الاعتراضات الصحيحة أن النقض مفسد للعلة في بعض الصور قطعا وفي بعضها
بضرب من الاجتهاد وطرق القطع منحسمة ولكن النقض على حال ممثل بالخلف في الوفاء بالمشروط عند ثبوت الشرط
فإذا قال قائل إن جئتني أكرمتك فإذا جاءه ولم يكرمه كان ذلك في حكم الخلف ولو جرى إكرامه من غير مجيء كان هذا مخالفا لحكم الشرط من طريق التضمن ولم يكن معدودا خلفا صريحا فيفارق الطرد العكس مثل ما يفارق الخلف الوفاء بالمشروط عند وجود الشرط في إثبات مجىء المشروط دون الشرط
وإذا قال القائل إن جئتني أكرمتك وإن لم تجئني أكرمتك فالذي جاء به وإن كان على صيغة الشرط فهو خارج عن باب الشرط باتفاق أهل اللسان والتقدير أكرمك إن جئتني أو لم تجئني
818 - ونحن الآن نقول من حكم كل ما يثبت علة أن ينعكس وأن يكون لوجوده على عدمه مزية ولو لم يكن كذلك لما كان لكون الشىء علة معنى ثم إذا كان الشىء مخيلا وثبت كونه علة شرعا فجهة اقتضاءه النفى عند انتفائه من جهة تأثير الإخالة وإن لم يكن مخيلا وثبت كونه علة شرطا فجهة اقتضائه النفى عن انتفائه كونه شرطا كما تقرر في قاعدة المفهوم
ومع هذا كله لا يمتنع أن تنتفى العلة ويثبت الحكم بعلة أخرى
وكذلك القول في الشرط من حيث أنه يجوز ربط مشروط بآحاد شرائط فإن لم يصح تعليل الحكم الواحد بعلل فيتعين العكس في كل علة
ولكنه لو امتنع العكس لخبر أو إجماع فهذا الان يستدعي
مقدمة في النقض
مقدمة في النقض819 - فلو اطردت العلة على صور المعاني وتلقتها صورة تخالف حكمها في مقتضى الطرد وكان حكمها غير معلل ففي بطلان العلة بذلك كلام سيأتي مشروحا
820 - فعدم الانعكاس لخبر أو إجماع موضع الخلاف فمن رأى ما قدمته نقضا اضطربوا في مثل هذه الصورة في العكس
فذهب الأكثرون إلى أنه غير ضائر فإن الانعكاس ضمن العلة كالمفهوم والنقض في حكم الوارد على نص الكلام
وصار صائرون إلى أنا نتبين بتقاعد العلة عن مقتضاها بطلانها في طردها فهذا موضع الخلاف في المسألة
821 - والمختار إذا انتهى الكلام إلى هذا المجر أن هذا غير مبطل للعلة ولكن ينشأ من هذا الموضع فصل جدلي ممتزج بأمر ديني فنقول
أولا دينا حق على كل مجتهد ان يفتى بعكس العلة إذا لم يمنع من ذلك مانع ولم يحجز حاجز فإن اقتضى الانعكاس جهة في الاجتهاد فلا يجوز تعطيله ولكن إذا طولب في النظر فالوجه ألا يلتزم ما لأجله ترك العكس فإنه إذا ثبت جوازه ترك العكس بسب
والكلام في محل العكس خارج عن محل الخلاف فمطالبة المعلل بإبداء العذر في
ترك الانعكاس خروج عن المسألة إذ محل الطرد هو المعنى
وسر المسألة قصر الكلام على المقصود وحصره في أوجز الطرق حتى تجدى وتثمر على قرب وكثب
وكمال البيان فيه إن من طرد علة فانتقضت علته ولاح الفرق بين صورة النقض ومحل التعليل فالعلة باطلة قطعا فإن ما انتهض فرقا صيغة في التعليل أخل المعلل بذكره فكأنه ذكر بعض العلة ولو تقاعدت العلة عن العكس وظهرت علة تقتضي امتناع العكس لم ينقدح ذلك في العلة بل كان ذلك عذرا عاما في عدم الانعكاس
وقد نجز غرضنا من الكلام في الانعكاس الان
822 - وإنما أجرينا ذكر هذا الطرف وإن كان لائقا بباب الاعتراضات لاتصاله بالقول بالعلتين وبه تم إيضاح الغرض من هذا الفن
وتقرر أنا لم نلف حكما متفقا عليه مرتبطا بعلتين مع تحقيق الاتحاد في الحكم
وإذا كان كذلك فالحكم الثابت مع انتفاء العلة إن لم يستند إلى نص أو إجماع فهو مساو للحكم الأول في الاسم ومخالف له في المأخذ والحقيقة وهو كتعليلنا تحريم المحرمة بإحرامها ثم إذا حلت وكانت حائضا فهي محرمة وإن زال الإحرام ولكن تحريم الحيض مخالف لتحريم الإحرام في وصفه وكيفيته وكذلك إذا علل المعلل إباحة الدم بالقتل الموجب للقصاص ثم لم تنعكس العلة لمكان الردة أو غيرها من مقتضيات القتل فليس هذا من عدم الانعكاس فإن القتل الواجب بالقتل ينتفى بانتفاء القتل
823 - فإن قيل قد أنكرتم وجدان حكم معلل بعلتين فما قولكم في الولاية المطردة على الطفل والمجنون وهي قضية واحدة معللة بالجنون والصبا
قلنا الولاية الثابته على المجنون ضرورية إذ لا يتوقع من المجنون تصرف وفهم ونظم عبارة والولاية على الصبي المميز لمكان الغبطة وطلب الأصلح فإن الصبي يعقل ما يقول ويفعل ومن كان انسا بتفاصيل الولايات لم يعدم فرقا بين الولاية على المجنون والولاية على الصبي المميز فإن فرض صبي غير مميز فهو المجنون بعينه ولا أثر للصبا ولا يقع به تعليل فإن الولاية الحقيقية بالصبا هي ولاية الاستصلاح
824 - وقد تناهى الشافعي في الغوص على ما ذكرناه حتى لا يرى توريث ذي قرابتين بالقرابتين جميعا إذا كانت إحداهما أقرب من الأخرى وقال القرب الأقرب يعدم أثر القرب الأبعد حتى كأنه ليس قريبا وكذلك الصبا مع سقوط التمييز ليس معتدا به
وهذا اخر القول في تأصيل قياس المعنى وما تثبت به علل الأصول
وقد حان الان أن نحوم على قياس الشبه
فصل
القول في قياس الشبه825 - ومن أهم ما يجب الاعتناء به تصوير قياس الشبه وتمييزه عن قياس المعنى والطرد و لا يتحرر في ذلك عبارة خدبة مستمرة في صناعة الحدود ولكنا لا نألوا جهدا في الكشف
فقياس المعنى مستندة معنى مناسب للحكم مخيل مشعر به كما تقدم
والشبه لا يناسب الحكم مناسبة الإخالة
وهو متميز عن الطرد فإن الطرد تحكم محض لا يعضده معنى ولا شبه
826 - وإنما يتضح القول في ذلك بالأمثلة ثم بالحجاج
فإذا قلنا طهارة عن حدث أو طهارة حكمية فافتقرت إلى النية كالتيمم لم يكن قولنا طهارة عن حدث مقتضية من طريق الإخالة للنية ولكن فيه شبه مقرب لإحدى الطهارتين من الأخرى وقد عبر الشافعي عن تقريب إحداهما من الأخرى فقال طهارتان فكيف تفترقان
وكذلك إذا قلنا غسل حكمى فلا يتعدى الظاهر إلى داخل الفم كغسل الميت فهو تشبيه مقرب وليس بمثابة الطرد الذي لا يخيل ولا يثير شبها مغلبا على الظن
827 - ثم الشبه ينقسم إلى تشبيه حكمى وإلى تشبيه حسى
فالحكمى ما ذكرناه والحسى كقول أحمد أحد الجلوسين في الصلاة فكان واجبا كالجلوس الأخير
وكقول أبي حنيفة تشهد فلا يجب كالتشهد الأول
وفي الشرع تعبد بالنظر إلى الأشباه الحسية الخلقية كالقول في جزاء الصيد
والقيافة مبناها على النظر إلى الأشباه الجلية والشمائل الخفية
828 - ولا ينتهي هذا المقدار إلى تمام البيان في تصوير قياس الشبه ونحن نزيد فنقول
إلحاق الشيء بالمنصوص عليه لكونه في معناه متقبل مقطوع به وإن لم يكن الحكم
المنصوص عليه معللا أو كان معللا ولم يطلع الناظر بعد على ذلك من حاله وقد قدمنا في ذلك قولا بالغا
فما قرب من المنصوص عليه جدا بحيث يحصل العلم بالتحاقه فهو في الرتبة العليا وما بعد قليلا وعارض العلم نقيضه من ظن أو شك فهذا مما يغلب على الظن الالتحاق به من غير معنى وهو الشبه
ثم تعليلات الظنون في درجات المظنون على مراتب فإذا تناهى البعد وثار بحيث لا يلوح مقتضى ظن ولا موجب علم فهو الطرد المردود
829 - والشبه ذو طرفين
أدناه قياس في معنى الأصل مقطوع به
وأبعده لا يستند إلى علم ولا ظن
وكل طارد ذاكر شبها حسيا أو حكميا لا يخيل ولا يغلب على الظن
ومن أصدق ما تميز به الطرد عن الشبه أن تعليق الحكم بما يعد طردا يضاهى في مسلك الظن تعليق نقيضه به فلا يترجح أحدهما على الثاني إلا من جهة اطراد أحدهما فيما يبغيه الطارد ويدعيه والشبه يتميز عن هذا
ونحن نبين ذلك بمثال يحوي المقطوع به في الرتبة العليا والشبه الذي نحن في محاولة تصويره والطرد الذي نرده
قلو ثبت مثلا كون النية شرطا في التيمم لكان الوضوء في معناه قطعا وإلحاق الوضوء بالتيمم تشبيه ولا يليق بقول القائل طهارة حكمية نفى النية فانماز الشبه المقبول به عن نقيضه
وإذا قال الحنفى طهارة بالماء فأشبهت إزالة النجاسة كان ذلك طردا
ولو قيل طهارة بالماء فافتقرت إلى النية لم يكن في هذا بعد يناقض نفى النية حتى يقال نفي النية أليق اللفظ من إثباتها
وإن انتصروا لذلك فغايتهم أن يقولوا ما ذكرناه شبه خلقي وقد هذى بعض المتأخرين فقال الماء طهور بجوهره
وغرضنا التنبيه على المنازل فإن استقام للخصم وجه من الشبه فالأصولي لا يعرج على مذاهب أصحاب الفروع ثم نزيد الكلام إن ناضل الخصم بشبيه إلى الترجيح وسننبه على مسلكه في هذا الفصل إن شاء الله تعالى
830 - ومما ذكره القاضي في تمثيل تعارض الأشباه القول في أن العبد المملوك هل يملك
فمن زعم أنه يملك شبهه في إمكان صدور التصرف منه بالحر واعتضد بأنه عاقل في جنسه يتأتى منه السياسة والإيالة والضبط والقيام على المملوكات وإنما يملك من يملك لذلك وللعبد فيه شبه بالحر وهذا يعتضد بتصوير ملك النكاح له
ومن أبى تصوير الملك له تعلق بأنه على شبه المملوكات في استحالة الاستقلال وفي نفوذ تصرف المالك فيه على حسب تقدير النفوذ في المملوكات جمع فشابه المملوك الذي يقام عليه ولا يقوم بنفسه
831 - وهذا الذي ذكره ليس من قياس الشبه عندي فإن كل متعلق في المسألة في شقى النفى والإثبات منخرط في سلك المعنى المخيل المناسب ثم الإخالات على رتب ودرجات فمنها الخفى ومنها الجلى ومنها المتوسط بين الخفاء والجلاء
ولعلنا أن نأتي في ضبك مداركها بأقصى الإمكان إن شاء الله تعالى
832 - ومما أجراه القاضي في ضبط تصوير الشبه أن قال قياس المعنى هو الذي يستند إلى معنى يناسب الحكم المطلوب بنفسه من غير واسطة وقياس الشبه هو الذي يستند إلى معنى و ذلك المعنى لا يناسب الحكم المطلوب بنفسه ولكن ذلك المعنى يغلب على الظن أن الأصل والفرع لما اشتركا فيه فهما مشتركان في المعنى المناسب وإن لم يطلع عليه القايس
833 - وهذا الذي ذكرناه على حسنه لا يضبط قياس الشبه فإنا نجري قياس الشبه حيث لا يعقل معناه فيه تقريبا له من الذي يقال فيه إنه في معنى الأصل فإذا كان القياس الشبهي يجري حيث لا معنى فلا توجه لضبطه بالإشعار بالمعنى المناسب
وقد ينقدح في محل إمكان المعنى فيما ذكره القاضي فضل نظر فإن دركه إذا كان ممكنا للمجتهد لم يجز له الاجتزاء بالشبه بل عليه أن يبحث عما لا يشعر به الشبه من المعنى فإذا لاح للناظر الشبه المشعر بالاجتماع في المعنى كان ذلك في حكم السابقة المقتضية تتمة النظر
وسنعود إلى تفصيل ذلك بكلام يشفى الغليل ونأتي على كل تفصيل إن شاء الله تعالى وإنما نحن الان في تصوير الشبه ثم الكلام يقع وراء ذلك في الرد والقبول وإثبات الحق
فصل
834 - ومما أرى تقديم رسمه ربط الأحكام بالأحكام وهو كثير الجريان والجولان في أساليب الظنون كقول القائل من نفذ طلاقه نفذ ظهاره إلى ما ضاهى ذلك
وهذا ينقسم إلى ما يشعر بالمعنى المخيل المناسب إشعارا بينا وإلى ما يستعمل شبها محضا
فالمشعر بالمعنى كما ضربناه من المثال استدلالا على نفوذ الظهار بنفوذ الطلاق فإنه يجمعهما اقتضاء كل واحد منهما تحريم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من التصرف فيه والتحريم على وجه ينفرد باستدراكه أو على وجه مبين يستدعي رفعه عقدا مجددا والظهار محرم كالطلاق فربط أحدهما بالاخر يلوح منه المعنى الجامع بينهما
835 - وهذا القسم سماه بعض المتأخرين قياس الدلالة من حيث إنه يتضمن شبها دالا على المعنى
وهؤلاء قسموا الأقيسة
إلى قياس المعنى وهو الذي يرتبط الحكم فيه بمعنى مناسب للحكم مخيل مشعر به
وإلى قياس الدلالة وهو الذي يشتمل على ما لا يناسب بنفسه ولكنه يدل على معنى جامع
وإلى قياس الشبه المحض وهو الذي لا يشعر بمعنى مناسب أصلا ولا يكون في نفسه مناسبا
ثم اختيار النظار قياس الدلالة لإعرابه عن المقصود على القرب فإن المعنى لو أبداه المعلل ونوزع فيه وفي مناسبته وطريق اعتباره وإشعاره لقال التحريم إلى الزوج والله المحرم كتحريم الطلاق بالإضافة إلى الطلاق فإذا كان عقبى الكلام يستدعي الاستشهاد بالطلاق فذكر الطلاق أول مرة على الابتداء يتضمن المعنى ويصرح بالاستدلال عليه
836 - فأما الحكم الذي هو شبه محض فهو كقول القائل قربة ينقضها الحدث فيشترط فيها الموالاة قياسا للطهارة على الصلاة فانتقاض القربة بالحدث حكم وربط الموالاة بالحدث من طريق الشبه فليس في بطلانها بهذا الحكم ما يشعر باشتراط المتابعة على التحقيق
837 - وقد يقرب من هذا القسم تشبيه الوضوء بالتيمم وتشبيه غسل الجنابة بغسل الميت
ومما يلتحق بهذا القسم تصوير الشبه اعتبارنا التكبير في حكم التعيين وامتناع قيام غيره مقامه بالركوع الذي لا تقوم هيئة من الهيئات مقامه وإن تضمن خشوعا واستكانة تامة
838 - والقاضي أحيانا يقول ليس هذا بقياس فإن تعيين التكبير متناه على انحسام مسلك القياس وتحرير القياس في منع القياس مناقضة والتباس
ولكن صاحب هذا المذهب يقرر ابتناء الصلاة على الاتباع ويوضح بعدها
عن المعاني
ونضرب في ذلك الأمثال للإيضاح لا للقياس
وهذا يضاهي من سبل المعقولات المخاوضة في الضروريات فإن الاستدلال فيها محال ولكن المتمسك بدعوى الضرورة قد يبسط المقال ويضرب فيه الأمثال ويبغي بإيرادها اجتزاء مخالفة خصمه وارعواءه عن جحده وعناده
وأحيانا يقول هذا قياس الشبه فيما لا يعقل معناه والجوابان متقاربان لا يظهر بينهما اختلاف المعنى
839 - ومن تمام القول في تصوير ما نحن فيه أن المعنى الذي ادعاه المعلل علة وعلما لم يظهر كونه مخيلا وإنما أثبت المتمسك به انتصابه علما من جهة الطرد والعكس ورأيت ذلك مسلكا في انتصاب المعنى علة فهذا في أصح أجوبة القاضي يلتحق بالشبه فإن المعنى هو المناسب وما يغلب على الظن انتصابه من غير إخالة فمسلكه الشبه
فهذا بيان صورة قياس الشبه وما يلتحق به وهذا منتهى غرضنا من هذا التصدير في محاولة التصوير
وقد حان أن ننقل المذاهب في رد قياس الشبه وقبوله ونوضح الحق عندنا
مسألة
840 - قال القاضي في كثير من مصنفاته قياس الشبه باطل وإلى هذا صغوه الأظهر وتابعه طوائف من الأصوليين
وذهب معظم الفقهاء إلى قبول قياس الشبه والقول به
فأما من رده فمتعلقه أن الشبه ليس مناسبا للحكم ولا مشعرا به فشابه الطرد فإن الطرد إنما رد من جهة أنه لا يناسب الحكم
وإن زعم القائل بالشبه أنه مناسب فليس من شرط الأصولي أن يتكلم في تفاصيل الفقه ولكنه يقول إن كان مناسبا على شرط الفقهاء فهو قياس المعنى ونحن لا ننكره وإنما ننكر قسما سميتموه الشبه وزعمتم أنه زائد على المعنى المخيل المناسب
فهذا لباب كلام القاضي حيث يرد قياس الشبه وسنرد عليه في خاتمة الكلام
841 - وإنما أخرنا ذلك لأن الغرض لا يلوح دون ذكر معتصم القائلين بقياس الشبه وقد أكثر الفقهاء وما أتوا بكلام يفلح المتمسك به
والذي نرتضيه متعلقا في الشبه أمران
أحدهما أن نقول قد أوضحنا في مواضع أنه لا تخلو واقعة عن حكم الله تعالى وعن قضية تكليفية وسنكشف الغطاء فيه في كتاب الفتوى إن شاء الله تعالى
وإذا تمهد ذلك قلنا من مارس مسائل الفقه وترقى عن رتبة الشادين فيها ونظر في مسالك الاعتبار تبين أن المعنى المخيل لا يعم وجوده المسائل بل لو قيل لا يطرد على الإخالة المشعرة عشر المسائل لم يكن مجازفا وهذه الطريقة إنما يدريها من توغل في مسائل الفقه فأمعن النظر فيها وهذا واضح جدا بالغ الموقع
وعضد القاضي في التقريب هذه الطريقة بمناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفرائض سيما مسائل الجد
وفي هذا نظر فإنها معان بيد أنها تكاد تتعارض وإنما تعب المجتهدون فيها بالترجيح فهذا مسلك مقنع جدا
842 - والمسلك الثاني أن الغرض من قياس المعنى غلبات الظنون وكل مسلك في قبيله وجنسه ما ستعقب العلم عند قرب النظر فإذا بعد وأثار ظنا كان متقبلا في المظنونات وقد ذكرنا أن إلحاق الشيء على قرب بالمنصوص عليه وهذا الذي يسمى القياس في معنى الأصل معلوم مقطوع به والشبه على فنه ومنهاجه غير أنه لا يتضمن علما ويتقضي ظنا وهذا كأقيسة المعاني فإن الشارع لو نص على تعليل الحكم بعلة على وجه لا يتطرق إلى تنصيصه تأويل فهذا في فنه مقطوع به
وإن لم يفرض نص ولا إجماع ولاح في الحكم المنصوص عليه معنى مناسب فهذا مظنون الالتحاق بما فرضناه معلوما في هذا الطريق فيترتب مسلك الظن في قياس المعنى على النص على المعنى ترتب الشبه على الذي يقال إنه في معنى الأصل
ومستند كل فريق في البابين أصل لو ثبت كان مقتضيا علما وليس هذا الذي ذكرناه قياسا في إثبات نوع من القياس فإن هذا ليس بالمرضى عند من يحيط بمأخذ الأصول ولكنا رسمنا القسمين معلوما ومظنونا
843 - ونحن نقول وراء ذلك إنا لا يمكننا أن ننص على مسلك معين أو مسالك وندعى أن نظر الصحابة ومن بعدهم كان منحصرا فيه والذي يسمى المعنى ليس يقتضي الحكم لعينه وليس كل مخيل عله في الحكم
والقدر الذي ثبت أنهم كانوا يلحقون ما لا ذكر له في المنصوصات
بالمنصوصات إذا غلب على ظنهم أنه يضاحيها بشبه أو بمعنى
وليس من يدعى حصر النظر في المعاني بأسعد حالا ممن يدعى حصر المعاني في الأشباه
واستتمام الكلام فيه بما ذكرناه مقدما حيث قلنا النظر في الشبه يوقع في مستقر العادة غلبة الظن كما أن النظر في المعنى يوجب ذلك
ومن أنكر وقوع الظن كان جاحدا للعلم على قطع فإن العلم بوقوع الظن مقطوع به وإذا انتظم ظن في إلحاق الشيء بأصل الشرع ولم يدرأه دارىء وألفى قبيله إذا ظهر مقتضيا علما فليس بعد هذا التقرير كلام مع ما تقدم من أن الرجوع إلى المجمعين حتم ولم يثبت في ماخذهم ضبط
844 - فإن قيل لسنا نسلم إفضاء الشبه إلى غلبة الظنون
قلنا هذا الان عناد منكم ونكد فإن من أنكر وقوع الظن بكون الوضوء كالتيمم وكل واحد منهما معنى يراد معين للصلاة والحدث استباحة أو رفعا فقد راغم
وإذا قيل له قياس المعنى لا يفيد ظنا لم يرجع في تحقيق ذلك إلا إلى مثل ما ذكرناه والسر فيه أن جحد الظن في هذه المسالك مراغمة للعلم بالظن
845 - وما ذكره القاضي في تقسيم القول بأن الشبه مناسب للحكم أو غير مناسب فهذا أوان الجواب عنه
فنقول الشبه مع ما ادعيت من انقطاع المناسبة أيغلب على الظن أم لا فإن أبى
حصول غلبة الظن فقدره أجل وأعلى من هذا وإن اعترف به راجعناه في المعنى الذي تحصل غلبة الظن لأجله ولا مناسبة
وعندي أن الأشباه المغلبة على الظن وإن كانت لا تناسب الأحكام فهي تناسب اقتضاء تشابه الفرع والأصل في الحكم فهذا هو السر الأعظم في الباب فكأن المعنى مناسب للحكم من غير فرض ذكر أصل نظرا إلى المصالح الكلية والأصل يعني لانحصار المصلحة في أصول الشريعة فإن كل مصلحة لا تنتهض علة والشبه لو جرد لا يقتضي الحكم كما لو لم يفرض إلا الوضوء لم يكن في قول القائل طهارة حكمية أو عن حدث اقتضاء النية لا علما ولا ظنا وإذا ثبت التيمم فذكر الحدث يناسب مشابهة الوضوء للتيمم والشبه من ضرروته مشبه ومشبه به والمعنى مستقل إذا ناسب اقتضاء الحكم لو ثبت الاستدلال والقول به
846 - وهذا منتهى القول في الشبه تصويرا واحتجاجا واختيارا
وقد اشتمل ما ذكرناه على تقسيم الأقيسة المظنونة
ونحن نذكر بعد ذلك فصلا مما جمعه الأصحاب في تقاسيم الأقيسة ونطرد ما قالوه ونسوقه على وجهه ثم نذكر ترتيبا حسنا ينبه الناظر على جميع قواعد القياس ثم نذكر ما يعلل وما لا يعلل ثم نذكر طريق الاعتراضات الصحيحة منها والفاسدة ثم نذكر قولا بالغا في الاستدلال ثم نختتم الكتاب بالمركب وما فيه وينتجز به القياس إن شاء الله تعالى
فصل في مراتب الأقيسة
847 - يحوي ما يعد منها وفاقا وما يختلف في عده منها ويتضمن بيان ترتيبها في الجلاء والخفاءونحن نذكر أجمع طريقة الأصحاب وأحواها ثم نذكر ما عندنا في معناها ومغزاها
قالوا أولها إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به من طريق الفحوى والتنبيه المعلوم كإلحاق الضرب وأنواع التعنيف بالنهي عن التأفيف فهذا في الدرجة العليا من الوضوح
وقد صار معظم الأصوليين إلى أن هذا ليس معدودا من أقسام الأقيسة بل هو متلقى من مضمون اللفظ والمستفاد من تنبيه اللفظ وفحواه كالمستفاد من صيغته ومبناه ومن سمى ذلك قياسا فمتعلقة أنه ليس مصرحا به والأمر في ذلك قريب
848 - والقسم الثاني ما نص الشارع على تعليله على وجه لا يتطرق التفصيل والتأويل إليه أصلا وقد ثبت لفظ الشارع قطعا فإذا ثبت الحكم واستند إلى النص القاطع في تعليله فمن ألحق بالعلة المنصوصة المسكوت عنه بالمنطوق به كان قياسا
قال الأستاذ أبو بكر هذا ليس بقياس وإنما هو استمساك بنص لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم فإن لفظ التعليل إذا لم يقبل طرق التأويل عم في كل ما تجرى العلة فيه وكان المتعلق به مستدلا بلفظ ناص في العموم
849 - القسم الثالث إلحاقك الشيء المنصوص عليه لكونه في معناه وإن لم تستنبط علة لمورد النص وهو كإلحاقك الأمة بالعبد في قوله عليه السلام من أعتق شركا له في عبد قوم عليه
وهذا القسم مما اختلف في تسميته قياسا أيضا كما تقدم ذكره
850 - والقسم الرابع قياس المعنى وهو أن يثبت حكم في أصل فيستنبط له المستنبط معنى ويثبته بمسلك من المسالك التي قدمناها و لم يصادفه غير مناقض للأصول فيلحق كل مسكوت عنه وجد فيه ذلك المعنى بالمنصوص عليه وقد تقدم استقصاء القول فيما يثبت به علل الأصول
وشرط هذا القسم أن يكون المعنى مناسبا للحكم مخيلا مشعرا به على ما تقدم
وهذا القسم هو الباب الأعظم في أقيسة الشرع وفيه نزاع القايسين وتعارض أقوالهم
851 - والقسم الخامس قياس الشبه ونحن على قرب عهد بوصفه
852 - وألحق ملحقون قياس الدلالة بهذه الأقسام واعتقدوه قسما سادسا
ولا معنى لعده قسما على حياله وجزءا على استقلاله فإنه يقع تارة منبئا عن معنى وتارة شبها وهو في طوريه لا يخرج عن قياس المعنى أو الشبه
فهذه تقاسيم كلية ذكرها من حاول ترتيب الأقيسة
853 - والرأي عندنا أن نجري الترتيب على خلاف ذلك فنقول
مطلوب الناظر ينقسم إلى معلوم ومظنون
فأما المعلوم فلا معنى لذكر الترتيب فيه فإن العلوم لا تتفاوت عند وقوعها
فإن فرض تفاوت في القرب وبعد المأخذ وطول النظر فهو من مقدمات العلوم وإلا فلا يتصور علم أبين من علم
854 - والأقسام الثلاثة المقدمة من المعلومات ومن أنكرها كان جاحدا وقد استجرأ على جحد بعضها أقوام يعرفون بأصحاب الظاهر ثم إنهم تحزبوا أحزابا وتفرقوا فرقا فغلا بعضهم وتناهى في الانحصار على الألفاظ وانتهى به الكلام إلى أن قال من بال في إناء وصبه في ماء لم يدخل تحت نهى الرسول عليه السلام إذ قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم
وهذا عند ذوي التحقيق جحد الضرورات ولا يستحق منتحله المناظرة كالعناد في بدائه العقول
ومما يحكى في هذا الباب ما جرى لابن سريج مع أبي بكر بن داود قال له ابن سريج أنت تلتزم الظاهر وقد قال الله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره فما تقول فيمن يعمل مثقال ذرتين
فقال مجيبا الذرتان ذرة وذرة
فقال ابن سريج فلو عمل مثقال ذرة ونصف فتبلد وظهر خزيه
وبالجملة لا ينكر هذا إلا أخرق ومعاند
855 - وأما المظنون فينقسم إلى قياس المعنى والشبه ثم قد يتردد بين القسمين ما يلتحق تارة بالمعنى وتارة بالشبه على ما نفصله
856 - وأما قياس المعنى فهو الذي يناسب كما سبق وصفه ثم هذا القسم في نفسه يترتب رتبا لا تقبل الضبط فمنها الجلي ومنها الخفى ثم الجلاء والخفاء
فيها من ألفاظ النسبة فكل محتوش بطرفين جلي بالإضافة إلى ما دونه خفى بالإضافة إلى ما فوقه
والسر في ذلك يتبين بفرض تعارض معنيين لو قدر انفراد كل واحد منهما بالإضافة مستقلا لاقتضى حكما لاستجماعه عند استقلاله شرائط الصحة فإذا عارضه معنى مقتضاه نقيض مقتضاه كمعنيين يتعارضان في التحليل والتحريم فسيأتي سبيل النظر فيهما
ويئول الكلام إلى حالتين إحداهما أن يرجح أحد المعيين على الثاني بوجه من وجوه الترجيح على ما سنشرح الترجيحات في كتابها
857 - وتقاسيمها يضبطها في غرضنا شيئان
أحدهما أن يكون أصل المعنى في وصفه أوضح وأبين والاخر أبعد فهذا ترجيح من نفس المعنى
والثاني أن يعضد أحد المعنيين بما يؤيده ويعضده على ما سيأتي
فإن اختص أحد المعنيين بالظهور في أسلوب النظر واحتاج مبدى المعنى الاخر إلى تكلف في إبدائه فيقال فيهما إن أحدهما أجلى من الثاني
وهذا ممثل بالعقليات المفضيات إلى القطع فالذي يقرب من العلم البديهي إذا قيس بما يبعد عنه بعض البعد كان أجلى فهذان يضربان مثلين للجلى من المظنونان والخفي منها
فما قرب من الأصول القطعية فهو الجلي بالإضافة إلى ما بعد من العلم فلتكن العلوم السمعية مستند الخفاء والجلاء
والإنسان يعلم ثم يتجاوز محل العلم قليلا فيظن ظنا غالبا ثم يزداد بعدا فيزداد الظن ضعفا
فهذا وجه التفاوت في الظنون
وهو فيه إذا كان ظهور الترجيح من ظهور المعنى في نفسه ولو كان الترجيح في الاعتضاد فالمعنيان في أنفسهما متقاربان فأسباب العضد في أحدهما إذا رجحته على معارضه أثبت له رتبة الجلاء بالإضافة إليه ورجع حاصل القول إلى أن الجلاء والخفاء راجعان إلى الترجيحات والترجيحات يحصرها القرب من المعلوم والاعتضاد بالمؤيدات ثم لا يتأتى في ذلك ترتيب وحصر حتى يحصره بعد أو حد وإن كانت في الحقيقة مضبوطة معدودة
فهذا قولنا في مراتب المظنونات المعنوية
858 - ثم جمله أقيسة المعاني مقدمة على أعلى رتبة تفرض في الشبه والسبب فيه أن المقيس على أصل بمعنى مشابه له فيه وزائد عليه بالإخالة على الشبه على وجه لو صح الاستدلال لا ستقل دليلا دون أصله
ثم بعد اخر مرتبة من مراتب المعاني لاستفتاح الأشباه وهي على مراتب ودرجات كما ذكرناه في ترتيب المعنويات
859 - وقد اتخذنا المعاني المعلومة أصولا ورتبنا عليه المعاني المخيلة قربا وبعدا فنتخذ ها هنا كون الشيء في معنى أصله أصلا ونفرض النزول عنه إلى الأشباه فما قرب منه فهو مقدم على ما بعد عنه
ثم كما يعتمد قياس المعنى الجلاء والخفاء في الإخالة فالشبه يعتمد أمرين
أحدهما وقوعه خصيصا بالحكم المطلوب وهو نظير الجلى الظاهر من نفس المعنى
والاخر اعتضاده بكثرة الأشباه وهذا يناظر اعتضاد أحد المعنيين بما يؤازره ويظافره
وبيان ذلك بالمثال أن كون الوضوء حكما غير متعلق بغرض يختص باشتراط قصد يصرفه إلى جهة امتثال الأمر إذ لا غرض ومهما لاح اختصاص الشبه فيكاد أن يكون مناسبا و الجافي قسم المعنى ولكن الشبه لو التزمه معنى فقد يعسر عليه كرده على شرائط المعانى فيصير الإيماء إلى المعنى مقدما للشبه ومقربا وإن كان مسلك المعنى لا يستقل فيه
وأما كثرة الأشباه فلا حاجة إلى ضرب مثال فيها وستأتي أبواب الترجيح حاوية لها منطوية عليها إن شاء الله تعالى
860 - وقدم الأصوليون أشباه الأحكام على الأشباه الحسية وليس الأمر على هذا الإطلاق فأن الأمر يختلف بالمطلوب فإن كان المطلوب أمرا محسوسا فالشبه الحسي أخص به وأمس له كطلب المثل في الجزاء وإن كان المطلوب حكما فالشبه الحكمى حينئذ أقرب
861 - وأقصى الامكام في هذا المجال الضيق التنبيه ودرك الحقائق موكول إلى جودة القرائح فإذا قارنها التوفيق بان المعنى والشبه فقياس الدلالة مقدم على الشبه المحض من جهة إشعاره بالمعنى
وما يثبت الطرد والعكس مقدم على الشبه الذي لا يتصف بذلك فإن الطرد والعكس يجريان في مجال الظنون والحسيات مجرى ظهور لفظ الشارع والشبه يبعد من هذا
فليتخذ الناظر هذه المراسم قدوته وإمامه
ولو قيس المخيل السديد بالمطرد المنعكس فهو مقدم على المطرد المنعكس لتحققنا كون مثله معتمد الصحابة رضي الله عنهم ولتكلفنا إلحاق المطرد المنعكس به ومنه ثار الخلاف المتقدم في أن الطرد والعكس مما يسوغ الاحتجاج بهما أم لا
862 - وليعلم المنتهى إلى هذا الموضع أن المعنى قد يتناهى في الخفاء ويظهر للمجتهد جريان الطرد والعكس وإن عن للمجتهد في مثل هذا المجال تقديم العكس فلا بأس فإن المعنى إذا تناهى خفاؤه فإنه يكاد يخرج عن حكمنا بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يحكمون به والظاهر في الانعكاس ملتحق بظواهر ألفاظ الشارع
863 - ثم لا ينبغي أن يظن ظان أن القول في هذا ينتهي إلى القطع بل هو
موكول إلى نظر النظار واجتهاد أصحاب الاعتبار
وكيف لا يكون كذلك والتقديم والتأخير مستنده الترجيح ومنشأ الترجيح الظن
وعلى هذا قد يعرض تقديم الشبه الجلي على المعنى الخفي والعلة فيه أنه إذا انتهى الخفى إلى مبلغ يحول الكلام في إخراجه على جنس الإخالة والشبه الذي فيه الكلام لا ينقدح في إخراجه عن قبيل الشبه قول فإذ ذاك ينظر الناظر ويردد رأيه في تقديم ما يقدم وتأخير ما يؤخر
مسألة
864 - قال القاضي ليس في الأقيسة المظنونة تقديم ولا تأخير وإنما الظنون على حسب الاتفاقات
وهذا بناه على أصله في أنه ليس في مجال الظن مطلوب هو تشوف الطالبين ومطمع نظر المجتهدين قال بانيا على هذا إذا لم يكن مطلوب فلا طريق إلى التعيين وإنما المظنون على حسب الوفاق
وهذه هفوة عظيمة هائلة لو صدرت من غيره لفوقت سهام التقريع نحو قائله وحاصله يئول إلى أنه لا أصل للاجتهاد وكيف يستجيز مثله أن يثبت الطلب والأمر به ولا مطلوب وهل يستقل طلب دون مطلوب مقدر ومحقق فليت شعري من أين يظن المجتهد فإن الظنون لها أسباب
فمن أقدم إقدام من لا يعتقد تشوفا ولا تطلبا كيف يظن ثم فيما ذكره خروج عظيم عن ربقة الوفاق فإنا على اضطرار نعلم من عقولنا أن الأولين كانوا يقدمون مسلكا على مسلك ويرجحون طريقا على طريق وكيف يسنح للمجتهد مسالك فيرى بعضها أقرب من بعض ولو تمكنت بمبلغ جهدي من إخفاء هذا المذهب والسعي في انمحاقه لبذلن فيه كنه جهدي فإنه وصمة في طريق هذا الحبر وهو على الجملة هفوة عظيمة وميل عن الحق واضح ... فصل فيما يعلل وفيما لا يعلل
اختلف أهل الأصول فيما يعلل وفيما لا يعلل
865 - من أحاط بما قدمناه من الطرق التي تتضمن إثبات العلل هان عليه مدرك هذا الفصل واطرد له النفى والإثبات على أقرب وجه وتمام الغرض يحصل بهذا النوع من النظر مع الالتفات إلى تقاسيم الأقيسة
والذي تمس الحاجة إليه الان النظر في قياس المعنى وقياس الشبه فمهما أراد الناظر وقد ثبت حكم في الشرع أن يتبين أنه معلل بمعنى بحث على المعاني المناسبة فإن وجد في محل الحكم معنى مناسبا للحكم فطرده ولم يبطل ولم يتناقض أصلا عرف كون الحكم معللا
ومن لطيف الكلام في ذلك أن يتوصل إلى الكلى والجزئي بهذا النوع من
النظر ليتبين بما ذكرناه كون الحكم معللا ويتحقق عنده مع ذلك تعيين العلة وإن اعتضد ذلك بإيماء الشارع كان ذلك بالغا أقصى المراد فيه
866 - فإن نظر الناظر ولم يلح له معنى مناسب للحكم مخيل به فيعلم أن الحكم ليس معللا بمعنى ويرتد نظره إلى قياس الشبه وهذا أوسع الأبواب فإنه يجري عند إمكان المعنى وسيثمر أيضا عند عدم المعنى ولا ينحسم قياس الشبه إلا عند إشارات النصوص إلى قطع الأشباه
وبيان ذلك بالمثال أن قياس الشبه على منهاج ما يسمى في معنى الأصل غير أنه معلوم والشبه يبعد عنه بعض البعد وإن كان على شبه
وقد ضرب بعض المحققين لهما مثلين فقال
الملتحق بالمنصوص لكونه في معناه يضاهي ارتباط العلم بقرائن الأحوال وإذا ظهرت مخايل خجل أو وجل وأحاط بهما الناظر تبين من المنظور إليه أمرا وإن كانت تلك الأحوال لا تتحرر عبارة عن اقتضائها العلوم فهذا مثال ما يعلم
ومثال الشبه المظنون الذي لا يبلغ مبلغ العلم أحوال تدانى ما ذكرناه ويتطرق إليه الاحتمال كمثل الذي يرى رجلا قد احمر وجهه وقد أسمعه مسمع شيئا فقد يغلب على الظن غضبه وقد يجوز الناظر أنه فزع بما سمع وإن رأى في نفسه تغيظا وتكرها فهذا مثال الأشباه
867 - وقد ينحسم الشبه وما يقال إنه في معنى الأصل بقضية لفظية أو أمر متعلق بحكاية حال
وبيان ذلك بالمثال أن سهل بن أبي حثمة روى القصة المشهورة في حديث حويصة ومحيصة وعبد الله بن سهل وأن عبد الله قتل بخيبر القصة وقد عرض رسول الله صلى الله عليه و سلم اليمين ابتداء على المدعين ثم اتخذ الشافعي رضي الله عنه هذا الحديث معتمده ورأى البداية بالمدعين في الدماء عند ظهور اللوث ولم يجر في لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في ألفاظ الذين رفعوا القصة إلى مجلسة تعرض للوث ولا مطمع في استناد اشتراط البداية بالمدعين باللوث إلى معنى صحيح على السبر مستجمع للشرائط المرعية ولكن الشافعي نظر إلى القصة فراها في اللوث وأن الإحن والذحول كانت عتيدة بين اليهود والمسلمين فلم ير البداية بالمدعى منقاسة في الخصومات وعلم أن هذا المقدار من التلويح في الإشعار بظهور صدق المدعين كاف في منع إلحاق القتل العرى عن اللوث بالواقع منه على مظنة اللوث
ومبنى المسألة على الشبه فقطع بتخييل اللوث إلحاق غيره وأوضح
بانحسام مسالك الأشباه في محاولة إلحاق غير اللوث باللوث
فمهما ثبت حكم بنص ولم يكن فيه معنى مناسب وظهر للناظر اختصاصه بحالة تمنع تخيل الإلحاق بالمنصوص علما أو تشبيها ظنيا فلا يتحقق الإلحاق في الشبه ويتعين الاقتصار على مورد النص فليتأمل الناظر ذلك فيما يأتي ويذر
868 - وقد تحصل من مجموع ما ذكرناه أن الذي لا يعلل أصلا هو الذي لا ينقدح فيه معنى مناسب ولا شبه وقد ذكرنا ما يقطع الشبه والمعلل هو الذي ينقدح فيه معنى مخيل أو شبه على شرط السلامة
مسألة
869 - نقل أصحاب المقالات عن أصحاب أبي حنيفة أنهم لا يرون إجراء القياس في الحدود والكفارات والتقديرات والرخص وكل معدول به عن القياس
وتتبع الشافعي مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشيء من ذلك
فنسرد كلام الشافعي على وجهه ثم نعود إلى مراسم الحجاج والخلاف واختيار الحق
870 - قال الشافعي أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى عديتموها إلى الاستحسان وقد زعمتم في مسألة شهود الزنا أن المشهود عليه مرجوم وما يجري الاستحسان فيه فهذا أعوص على مذاهب القائلين به من الأقيسة فلا يمتنع جريان القياس فيه
871 - وأما الكفارات فقد قاسوا فيها الافطار بالأكل على الإفطار بالوقاع وقاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا
وأما المقدرات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا فيه تقديراتهم بالدلو والبئر من غير ثبت ولا استناد إلى خبر أو أثر
872 - وأما الرخصة فقد قاسوا فيها وتناهوا في العبد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستجمار ومن أظهر الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة كانت أو معتادة مقيسة على الأثر اللاصق بمحل النحو وانتهوا في ذلك إلى نفى استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و سلم فهموا هذا التخفيف منه في نجاسة ما يعم به البلوى عملا وعلما وكانوا على تحرزهم في سائر النجاسات على الثياب والأبدان
ثم قال الشافعي من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع الشارع فيها فإنها مبنية تخفيفا وإعانة على ما يعانيه المرء في سفره من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية مع القطع بأن الشرع لا يرد بإعانة العاصي على المعصية
فهذا الذي ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المقيس عليه قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لموضع النص في الرخص بالكلية
873 - وأما المعدول عن القياس فقد ضرب الشافعي في الاستجمار فيه
مثلا وهو بين من جهة أن النجاسة إنما يعفى عنها عند فرض تعذر الاحتراز وليس الأمر كذلك في غير نجاسة البلوى فإن استعمال الماء يسير لا عسر فيه
وقال زعمتم أن القهقهة تبطل الصلاة واعتقد تم ذلك معدولا عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاة ذات ركوع وسجود ولا تبطل صلاة الجنازة ولم ينقدح لكم فرق معنوي ولكنكم اعتقدتم قضية جرت لو صحت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على مورد النص ثم قلتم القهقهة تبطل صلاة النفل وإن لم تكن القضية في النفل
فليت شعري ما الذي عن لكم في التخصيص من وجه والإلحاق من وجه
874 - وقال في مساق هذا الكلام اعتمدتم في الوضوء بنبيذ التمر الخبر وقد جرى في الوضوء واعتبرتم الغسل به ولم تعتبروا نبيذ الزبيب بنبيذ التمر مع اشتمال كلام الرسول عليه السلام لو صح الحديث على التنبيه لذلك فإنه قال عليه السلام ثمرة طيبة وماء طهور
فهذه جمل جمعها الشافعي في مساق هذه المسألة عليهم
وبالجملة ليس معهم من علم الأصول قليل ولا كثير وإن أقام واحد منهم لقب مسألة فسننقضها في تفصيل الفروع فإن صاحبهم ما بنى مسائله على أصول وإنما أرسلها على ما تأتي له فمن أراد من أصحابه ضبط مسائله بأصل تناقض عليه القول في تفصيل الفروع
875 - ونحن نرد الكلام إلى الحجاج فنقول لهم لم منعتم إجراء القياس في هذه الأصول
فإن قالوا الحدود تدرأ بالشبهات والأقيسة مظنونة فلا ينبغي أن نهجم على إثباتها بمظنون والظان معترف ببقاء إمكان وراء ظنه فيحصل بذلك الإمكان الدرء
876 - وهذا الذي ذكروه يعارضه القصاص لأنهم لم يمتنعوا من إجراء القياس فيه وإن كان يندرىء بالشبهات ويبطل ما ذكروه بالعمل بخبر الواحد في الحدود فإنه ليس مقطوعا به ولا خلاف في قبوله والذي ذكروه إنما كان يستمر أن لو كانوا لا يثبتون الحد في مظنون وهذا باطل قطعا
ثم الجواب فيه أن وجوب العمل بالقياس ليس مظنونا وقد تمهد ذلك في مواضع من الكتاب فسقط ما ذكروه
ثم إن كانت الحدود تسقط بالشبهات والكفارات تجب معها فلم يمتنع إجراء القياس فيها وهي بمثابة سائر المغارم
877 - وأما المقدرات فقد قالوا فيها لا تتعدى العقول إلى معان تقتضيها
فلا يجري القياس فيها
قلنا إن كان ينحسم فيها المعاني المخيلة المناسبة فلم ينسد مسلك الأشباه
878 - وأما الرخص فقد قالوا فيها إنها منح من الله تعالى وعطابا فلا نتعدى بها مواضعها فإن في قياس غير المنصوص على المنصوص في الأحكام الاحتكام على المعطى في غير محل إرادته
وهذا هذيان فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع فهي منح من الله تعالى ولا يختص بها الرخص
فإن قيل فما الذي ترون
قلنا قد وضح بما قدمناه ما يعلل وما لا يعلل ونحن نتخذ تلك الأصول معتبرنا في النفي والإثبات فإن جرت مسالك التعليل في النفي والإثبات أجريناها وإن انسدت حكمنا بنفي التعليل ولا يختص ذلك بهذه الأبواب
879 - ومما نختتم القول به أن التعليل قد يمتنع بنص الشارع على وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص أمكن التعليل وهو كقوله تعالى إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين وقال عليه السلام وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والأرض وقال لأبي بردة بن نيار وقد جاء بعناق وكان لا يملك غيرها فأراد التضحية بها رغبة في مساهمة المسلمين تجزىء عنك ولن تجزىء عن أحد بعدك فمهما منعنا نص من القياس امتنعنا وكذلك لو فرض إجماع على هذا النحو
وهو كالاتفاق على أن المريض لا يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر
فإذا لم يكن منع من هذه الجهات فالمتبع في جواز القياس إمكانه عند الشرائط المضبوطة فيه والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأتيه على ما يشترط فيه
880 - فهذه جملة كافية فيما يعلل وما لا يعلل
ونحن نختتمها بكلام نفيس قائلين
رب شيء يمنع فيه جريان القياس وامتناعه في أمرين وأمور ولن يصفو هذا الفصل على ما نحب ونؤثر إلا باستقصاء القول في ذلك
ومثاله أن الكتابة فيها أمور لا تنقاس وأمور يتطرق إليها القياس وكذلك القول في النكاح والإجارة والمعاملة المسماة قراضا مع النظر في المساقاة
وحق الناظر أن يتدبر هذه المواقف ويتبين المواقع التي يجري فيها القياس والمواقف التي يقف عندها ولا يطرد فيها القياس نظرا إلى محل الوقف وكذلك لا يطلق إثباتا نظرا إلى المحل المنقاس
وكل كلام مفصل في موضع فإطلاق النفي والإثبات فيه خلف إن كان نصا أو ظاهرا مؤولا
فالكتابة مع اعتقاد ثبوتها عقد من العقود مستند إلى الإيجاب والقبول والتراضي منطو على عوض من شرطه أن يكون معلوم الوصف والمقدار
فهذه الأصول جارية على قياس سائر المعارضات فمن قاس عليها في هذه الأحكام معاوضة أو قاسها على معاوضة فهو قايس في محل القياس
والذي لا ينقاس من الكتابة أصلها فإنها على الحقيقة معاملة الملك بالملك فمن سوغ معاملة متضمنها ذلك ورام قياسا على الكتابة كان قايسا في محل لا يجري القياس فيه
881 - ثم القول في ذلك ينقسم إلى ما ينقدح فيه مصلحة كلية تصلح لتمهيد الأصول والقواعد وإلى مالا يتجه فيه ذلك على ظهور
فأما ما يظهر فيه أمر كلي فهو كخواص النكاح فإنها مربوطة بأمر ظاهر في استصلاح العباد فتلك الأمور لا يلفى لها نظير في غير النكاح فإنا إنما نتكلم في خواص النكاح ولو قدرنا وجدان نظير لها لما كان ما فيه الكلام خاصا ولما تحقق تميز الأصول بخواصها وتحيزها بمقاصدها ولصارت القواعد كلها في التكليف تحت ربقة واحدة ضابطة في طريق الاستثناء وهذا محال
فمن اعترف بأصل وأراد أن يعتبر خاصيته بأمر اخر فهو خارج عن الاعتبار المرضي والقياس الكلي والجزئي ومن أراد إثبات أصل منازع ذي خاصية فإنه لا يلقى لما بينته نظيرا إن حاوله
فإن حاول إثبات ذلك ولم يكن في ثبوته بد من أحد أمرين فإما أن يسنده إلى ثبت من قول الشارع وإما أن يتمسك بالاستدلال إن صح القول به ولو ثبت أصل ذو خاصية فأراد الناظر أن يثبت أصلا مشتملا على قريب من تلك الخاصية فهذا متقبل عند الشافعي في طريق القياس
882 - وبيان ذلك بالمثال أن القراض مقتطع عن سائر المعاملات بخاصية
فيه مقصودة وهو أنه لا يتأتي استنماء المال وتثميره من كل واحد منهما وإنما يعرفه من يعرف التجارات ووجهها ولو أثبت للمنصوب للتجارة أجرا معلوما وهو مستحق ربح أو خسر فقد لا يجد جده إذا كان لا يرقب لنفسه حظا من الربح فيثبت القراض مشتملا على الربح على حسب التشارط والتراضي
فرأى الشافعي المساقاة في معنى القراض في خاصية القراض فاعتبرها به واحترز عن الإجارات في المزارع وغيرها ثم اعتبر ذلك بعد الاستظهار بالحديث الذي راه نصا في المساقاة
883 - ثم أجرى في المسألة كلاما بدعا فقال لم يعهد القراض في زمن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأول ما جرى هذا الضرب من المعاملة في زمن عمر رضي الله عنه في قضية مشهورة لابنيه رضي الله عنهما فقال الشافعي لا ينقدح الإجماع من غير ثبت ولو كان في القراض خبر لذكر وعنى بنقله فلا معنى لجواز اعتقاده حقا بسبب أصل واحد من الأصول ولا سيما إذا كانت المعاملة عامة والحاجة فيها مطردة والناس كانوا يعتنون بنقل الأصول العامة على قضية واحدة
ثم بعد مساق كلامه قال لا أدري للقراض أصلا إلا ما صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في المساقاة
884 - فإن قيل هذا منه قلب لمجاري القياس فإن المختلف فيه يعتبر بالمتفق عليه
والذي ذكره اعتبار اعتبار المتفق عليه بالمختلف فيه
قلنا الشافعي يرسل تصرفه على قواعد الشريعة غير معرج على موضع الوفاق والخلاف ثم ما ذكره ليس بقياس وإنما هو يتعلق على حصول الغرض بمسلك أصولي لا يهتدي إليه غيره فإنه أثبت أن الإجماع لا يعقد هزلا ثم مزجه بماخذ العادات وهي من أعظم القواعد في أصول الشريعة وما يتعلق بالنقل وعدم النقل
885 - ومما ينبغي أن يتنبه الناظر له قبل الكلام في تحرير المسائل وضرب الأمثال أن خواص الأصول لو اعتبر بعضها ببعض لكانت كل خاصية بدعا بالإضافة إلى الأخرى ولكن لو استد نظر الموفق ورأى كل شيء على ما هو عليه تبين له أن النظر السديد يقتضي تقرير كل خاصية وعدم اعتبارها بغيرها
وبيان ذلك أن الإجارة موضوعها يقتضي أعلام المنافع بالمدة أو بالعمل الموصوف فإنها من عقود المعاوضات والمكايسات ولو أثبت المنافع فيها مجهولة لكان إثباتها كذلك خارجا عن مقصود العقد والنكاح أثبت مؤبدا والتأبيد يجر جهالة ولكن هذه الجهالة منطبقة على مقصود النكاح إذ الغرض منه الوصلة والاستمتاع على الائتلاف وهذا ينتقض بالتأقيب وليست منافع البضع متمولة له حتى يدعى لمكان أعواضها تقديرها وليست المناكحات من عقود المغابنات فإذا خاصية كل عقد وإن خالفت خاصية اخر فمعناها في موضوعها كمعنى الأعلام في موضع الأحكام فليس الإعلام موضوعا لعينه وإنما عين لعوض يقتضيه
فكل كلام يجريه القايس ويسوقه يخالف موضوع المعاملة وإن كان يجد لما
ذكره شواهد وأمثلة في غير الموضع الذي ينظر فيه فذلك الكلام حائد
886 - وإذا تعارض معنيان وترجح أحدهما بالأمثال واعتضد الاخر بما يشعر به خاصية الأصل فهو ارجح عند الشافعي على ما سيأتي مشروحا في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى
وهذا كله فيه إذا كان الأصل لا ينقدح فيه توجيه معناه كليا
وقد ثبت أصل لا يتجه فيه استصلاح عام ظاهر كالكتابة فإنها مائلة جدا عن الأصول وأقصى ما يذكر فيها استحثاث السادة على الإعتاق والعبيد على الكسب في تلك الجهة وهذا في حكم أمر خفى يرد على أمر جلي على حكم المناقشة فإن المالكية لها قضية جلية في منع معاملة العبيد والأمر الخافي في توقع العتق ليس مضاهيا في مراتب المعاني لقضية المالكية فإن مقتضى الملك أجلى
وليست الكتابة فيما ذكرناه كالنكاح المختص بخاصية عن البيع فإنهما أصلان كل واحد منهما منقطع عن الثاني وليس واحد منهما واردا على الثاني على حكم المعارضة والمناقضة ورود الكتابة على المالكية فما كان كذلك فهو المنتزع عن القياس من حيث أنا تخلينا لأحكام الملك جريانا ثم الكتابة صرفتها عن جريانها بخلاف الأصول الواقعة أفرادا
فالان لو أراد مريد أن يلحق معاملة بالكتابة إلحاق الشافعي المساقاة بالقراض وسنح له في المعاملة التي نذكرها المعنى الخفي الذي يتخيله الناظر من الكتابة فهذا إن كان معنى فهو على أخفى المراتب وإن كان شبها فهو أبعد الأشباه
ونحن نرسم في ذلك مسائل ونذكر ما فيها من دقائق الكلام إن شاء الله تعالى
مسألة
87 - ما صار إليه جماهير العلماء مع التزام القياس والعمل به أن طهارة الحدث ليست معقولة المعنى
وذهب أبو حنيفة ومتبعوه إلى أن إزالة النجاسة معقولة المعنى وبنوا على هذا الفرق بين طهارة الحدث إذ تعين الماء لها وبين إزالة النجاسة فإن الغرض منها رفع عينها واستئصال أثرها ومهما حصل ذلك بمائع رافع قالع فقد حصل المعنى المعقول
888 - واضطرب متبعو الشافعي فذهب بعض المتأخرين إلى أن طهارة الحدث معقولة المعنى والغرض منها التنقى عن الأدران والنظافة من الأوساخ وأوضحوا ذلك بتخيل يبتدره من يكتفي بظواهر الأمور
فقالو الأعضاء الظاهره في المهن والتصرفات فضلا الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان وأطراف من الساق والإنسان في تصرفاته وتلفتاته يصادم الغبرات وغيرها فورد الشرع بغسل هذه الأعضاء في مظان مخصوصة ومواقيت معلومة ومحاسن الشريعة تئول في نهايتها الى أمثال ذلك
والرأس مستور بالعمامة غالبا وإنما تبدو الناصية والمقادم من المستروح إلى تنحية عمامته إلى هامته فلما كان ذلك أبعد اكتفى فيه بالمسح
889 - وعضد هؤلاء ما ذكروه بقوله تعالى في سياق اية الوضوء ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ولا مسلك في الظنونات إلى إثبات العلل أوقع وأنجع من إيماء الشارع إلى التعليل وقوله تعالى ليطهركم ظاهر في التعليل بالتعبد بالتنقي والتوقي عن القاذورات والغبرات
890 - ثم وجه هؤلاء على أنفسهم أسئلة وتكلفوا أجوبة عنها ونحن نستاقها على وجهها فإنها وإن لم تفض إلى حق نرضاه ففي التنبيه على أمثالها معرفة التدرب في أساليب الظنون ومسالك الفكر
891 - منها أن قائلا لو قال إن استقام ما ذكرتموه في الوضوء فما وجهه في التيمم وهو تغبير الوجه وذلك يناقض ما استروحتم إليه
فيقال له إن خرج التيمم عن كونه معقول المعنى لم يلزم من خروجه خروج الوضوء ومن يبدي في الوضوء معنى لا يلزم طرده في التيمم فهذا وجه
والوجه الاخر أن التيمم أقيم بدلا غير مقصود في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين أن الغرض من التيمم إدامة الدربة في إقامة وظيفة الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعواز الماء فيها ليس نادرا فلو أقام الرجل الصلاة غير طهارة ولا بدل عنها لتمرنت نفسه على إقامة الصلاة من غير طهارة والنفس ما عودتها تتعود وقد يفضى ذلك إلى ركون النفس إلى هواها وانصرافها عن مراسم التكليف ومغزاها فهذا سؤال والجواب عنه
892 - فإن قال قائل لو توضأ المرء وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فتعفربه أو تطلى بالطين وصلى صحت صلاته فلو كان الوضوء متعينا للتنقي لوجب أن ينتقض بما وصفناه لأنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فبتحققه أولى وهذا واقع على هذه الطائفة
وقد تكلفوا جوابا عنه
فقالوا الأصول إذا تمهدت على قواعدها واسترسلت على حكم العرف
المطرد فيها فلا التفات إلى ما يشذ ويندر وضربوا لذلك أمثلة مبنية على مغمضات من قضايا الأصول منها
إن النكاح شرع لتحصين الزوجين من فاحشة الزنا وغيره من المقاصد والحرة محتاجة إلى التحصين بالمستمتع الحلال كالرجل ثم حق عليها أن تجيب زوجها مهما رام منها استمتاعا ولا يجب على الرجل إجابتها وغرض الشارع في تحصينها على قضية واحدة ولكن لما خص الرجل بالتزام المؤن والمهر والقيام عليها اختص بالاستحقاق ومنه الاستيلاء والملك فاكتفى الشارع في جانبها باقتضاء جبلة الرجل والإقدام على الاستمتاع
والأمر مبني على أحوال الملتزمين الشريعة والمعظمين لها ومن انحصر مطلبه في الحلال واستمكن منه واستحثته الطبيعة عليه وتغلب عليه المغارم فإنه سيعتاض عنها قضاء أربه ومستمتعه
وكذلك يقل في الناس من يطلى ويتضمخ بالقاذورات فكان ذلك موكولا إلى ما عليه الجبلات
وإنما الذي قد يتسامح فيه أهل المروءات إقامة الطهارات من غير مصادفة الغبرات تخفيفا فخصص الشارع الأمر بالتنقي بالأحوال التي لا يظهر استحثاث الطبع فيها
893 - ومن الأصول الشاهدة في ذلك أن البيع إنما جوزه الشرع لمسيس الحاجة إلى التبادل في الأعواض ثم لم ينظر الشارع إلى التفاصيل بعد تمهيد
الأصول فلو باع الرجل ما يحتاج إليه واستبدل عنه مالا يحتاج إليه فالبيع مجرى على صحته فإن هذا لا يعم وقوعه وما في النفوس من الدوافع والصوارف في ذلك وازع كامل وتكثر نظائر ذلك في قواعد الشرع
894 - فإن قال قائل ما بال الوضوء يختص وجوبه بوقوع الحدث وأجمع علماء الشرع على أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة أعضاء الوضوء والذي ثبت موجبا وفاقا غير ملطخ ولم يحوج إلى غسل الأعضاء والذي يلطخ الأعضاء لا يوجب الوضوء
فقالوا مجيبين غاية هذا السؤال خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون أصله معقولا
وأما ما أدرجوه في أثناء الكلام من أن تلطيخ الأعضاء لا يوجب تنقيتها وغسلها فهذا هو السؤال الذي انتجز الجواب عنه الان
895 - وقد تكلف بعض النظار في ذلك كلاما وقال لا تدخل الأحداث تحت الحجر واعتمادها من غير أرب يناقض دأب أهل المروءة فجمع الشارع بين الأمر بالوضوء للغرض الكلي في التنقي وبين تأقيته بالأحداث حتى ينتهض مطهرا طاهرا ومردعة عن الأحداث من غير إرهاق مسيس حاجة
ثم هذا النظر يتضمن منعا من غير تحريم وإذا استمر المكلف على هذه المراسم انتظم له منها محاسن الشيم في كل معنى
فهذا الباب ما جاء به الفريقان اعتراضا وجوابا في هذا الطرف
896 - فأما ما ذكره أصحاب أبي حنيفة رحمه الله في أن إزالة النجاسة معقولة
المعنى فيتوجه عليهم في هذا الشق سؤال لا ينقدح لهم عنه جواب فإنه يقال لهم إزالة النجاسة لا تجب لغير الصلاة فما علة وجوبها للصلاة وهلا صحت الصلاة معها
فإن تكلفوا في تعليل وجوب الإزالة كلاما فغايتهم أن المصلى مأمور أن يأخذ للصلاة أنقى زي وأحسن هيئة والأمر بالتطهر مندرج تحت هذه الجملة
فهذا غير مستقيم دليلا وهذاعلى الحقيقة أعادة للمذهب والسؤال قائم فلم يجب التنقى وهلا احتمل ذلك كما احتمل في غير الصلاة وهذا ينعكس بستر العورة ثم ما بالها لم تؤثر في سائر العبادات فلا يكادون يرجعون إلى حاصل وهو أجلى مما ادعاه الذين عللوا وجوب الوضوء بما ذكرناه
فإذا لم ينتظم في وجوب رفع العين معنى ولم يظهر في وجوب إمساس أعضاء الوضوء بمائع معنى فهلا قام في الوضوء كل مائع مقام الماء كما قام مقامه في الإزالة
فإن قالوا الإزالة متحققة حسا بالخل
قلنا فاستيعاب الوجه وغيره من أعضاء الوضوء على حكم الوضاءة حاصل بماء الورد حسا وهذا سيئول إلى تدقيق وهو أنه إن فرض الماء أرق المائعات وأدفعها فقد يعتقد مع ذلك أنه لا يقوم غيره مقامه في حقيقة الرفع فأما حيث لا مرفوع وإنما الغرض إمساس أعضاء وهذا المعنى يحصل بكل مائع إلى غير ذلك من فصول تطول
ولم نذكر هذه الطريقة لنعتقدها ولكنا أصيبنا أن نصير هذه المسألة ومسائل
يعدها أمثالا لفائدة سنربطها إن شاء الله تعالى بغرضنا في التحقيق
فلينظر الناظر في هذه المسألة واللواتي بعدها نظر من يعدها أمثالا ويستعدها لما يستعقب المسائل به إن شاء الله تعالى مسألة
897 - قال الخائضون في هذا الفن رب أصل يتطرق إليه التعليل من وجه ويتقاعد عنه التعليل من وجه وضربوا لذلك أمثلة ونحن نذكر منها مثالا أو مثالين ثم يقيس الناظر بما نذكره ما لم نذكره
فمن أمثلة ذلك اختصاص القطع بالنفيس وهذا على الجملة معلل بأمر ظاهر وهو أن أربا العقول لا يهجمون على التغرير بالأرواح والمخاطرة بالمهج بسبب التافه الوتح وإن غرر مغرر فإنه يربط قصده بمال نفيس
قالوا هذا معلوم على الجملة ويشهد له القواعد الزجرية التي تستحث الطبائع على الهجوم على الفواحش فيها فانتصبت الحدود مزحزحة عنها والمحرمات التي لا صغو ولا ميل للطبائع إليها لم يرد الشرع في المنع عنها بحدود بل وقع الاكتفاء بما في جبلات النفوس من الارعواء عنها مع الوعيد بالعذاب الشديد والتعرض للآئمة والخروج عن سمة العدالة في الحالة الراهنة
ثم قال هؤلاء القياس وإن اقتضى الفصل على الجملة بين التافه والنفيس فليس فيه التنصيص على النفيس ومبلغه فكان ذلك موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه
898 - ومن أمثلة ذلك النصب في أموال الزكاة والأقيسة قد ترشد إلى اختصاص وجوب الإرفاق بالأموال المحتملة له المتهيئة لارتفاق مالكها فيكون الإرفاق في مقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر المرفق لا ينص عليه الرأي فاتبع القايسون فيه مراسم الشريعة وإن عللوا الأصل تعليلا كليا
899 - ثم لما ذكر القاضي ما ذكرناه من مسالك الفقهاء انعطف عليه فقال كيف يطمع الطامع في الميز بين الخسيس والنفيس وذلك يختلف بهمم النفوس والخسة والنفاسة لا يتصف بها مبلغ بعينه بل هما من أحكام النسب والإضافات فقد يستعظم الفقير الفلس ولا تكثر القناطير في حق الملك وهذا ينسحب على النصب فإن القانع بالبلاغ قد يجتزىء بالارتفاق عما ينقص عن النصاب وذو البسطة والعيلة والذرية الضعاف لا ترففه العشرون والمائتان من التبرين
فإن قال قائل بنى الشارع الأمر على الوسط وهو شوف الاعتدال في كل شيء فإن طرفي الاعتدال لا ينضبطان بل هما مردودان إلى حكم الوسط فيقال له أوسط الناس لا يكثر في أعينهم الربع ولا الدينار في مقابلة ما يلقون من الإغرار وإن وقع الفرض في ذوي الغرامة الذين انتهى بهم الاستجراء إلى اقتحام العظائم فهؤلاء قد يصادمون الأغرار مستقبلين من غير مارب ظاهرة ولا يكاد ينضبط في ذلك معنى
900 - ثم وجه القاضي على نفسه السؤال المعروف في الخمر فإنها لا
تغنى عن مرارتها لعينها وإنما تعني لما لا يحصل إلا عند الاستكثار منها وهي النشوة والطرب والسكر ثم يتعلق بتعاطي القليل منها من الحد ما يتعلق بتعاطي الكثير
وقد تكلف الفقهاء وجوها من الكلام لا نراها ونقتصر على أقربها متناولا وذلك أنهم قالوا قليل الخمر داع إلى الكثير وليس في الإكثار منها عند الاستمكال من جنسها ركوب خطر واقتحام غرر فلو لم يوضع الحد في القليل لدعا إلى الكثير منه والغرر في المهج مع قلة المال كاف في الورع
فهذا منتهى المطلوب في ذلك
وإذا لاح مسلك الكلام في النفي والإثبات في هذه المسائل فنحن نذكر بعدها كلاما وجيزا يتخذه الناظر معتبره ويرقى به عن تعارض وجوه الكلام في فن يقصد منه بغية القطع فنقول
الباب الثالث
في تقاسيم العلل والأصول901 - هذا الذي ذكره هؤلاء أصول الشريعة ونحن نقسمها خمسة أقسام
أحدها ما يعقل معناه وهو أصل ويئول المعنى المعقول منه إلى أمر ضروري لا بد منه مع تقرير غاية الإيالة الكلية والسياسية العامية وهذا بمنزلة قضاء الشرع بوجوب القصاص في أوانه فهو معلل بتحقق العصمة في الدماء المحقونة والزجر عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه وهو الذي يسهل تعليل أصله ويلتحق به تصحيح البيع فإن الناس لو لم يتبادلوا ما بأيديهم لجر ذلك ضرورة ظاهرة فمستند البيع إذا ايل إلى الضرورة الراجعة إلى النوع والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا ثبتت قواعدها فلا نظر إلى طلب تحقيق معناها في احاد النوع وهذا ضرب من الضروب الخمسة
902 - والضرب الثاني ما يتعلق بالحاجة العامة ولا ينتهي إلى حد الضرورة وهذا مثل تصحيح الإجارة فإنها مبنية على مسيس الحاجة إلى المساكن مع القصور عن تملكها وضنة ملاكها بها على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة مبلغ الضرورة المفروضة في البيع وغيره ولكن حاجة الجنس قد تبلغ مبلغ ضرورة الشخص الواحد من حيث إن الكافة لو منعوا عما تظهر الحاجة فيه للجنس لنال احاد الجنس ضرار لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس ما ينال الاحاد بالنسبة إلى الجنس وهذا يتعلق
بأحكام الإيالة والذي ذكرناه مقدار غرضنا الان
903 - والضرب الثالث ما لا يتعلق بضرورة حاقة ولا حاجة عامة ولكنه يلوح فيه غرض في جلب مكرمة أو في نفي نقيض لها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وأزالة الخبث
وإن أحببنا عبرنا عن هذا الضرب وقلنا ما لاح ووضح الندب إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ربط الرابط أصلا كليا به تلويحا كان ذلك في الدرجة الأخيرة والمرتبة الثانية البعيدة في المقايس وجرى وضع التلويح فيه مع الامتناع عن التصريح وضع حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجبلية كما سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة
904 - والضرب الرابع ما لا يستند إلى حاجة وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي المسلك الثالث في تحصيله خروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة يتميز هذا الضرب من الضرب الثالث
وبيان ذلك بالمثال أن الغرض من الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتابة المنتهضة سببا في تحصيل العتق تتضمن أمورا خارجة عن الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده و كمقابلته ملكه بملكه والطهارات قصاراها إثبات السبب وجوبا إلى إيجاب ما لا تصريح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل اخر سوى ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها بوضع الشرع النكاح على تحصين الزوجين
905 - والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه للمستنبط معنى أصلا
ولا مقتضى من ضرورة أو حاجة أو استحثاث على مكرمة وهذا يندر تصويره جدا فإنه إن امتنع استنباط معنى جزئي فلا يمتنع تخيله كليا ومثال هذا القسم العبادات البدنية المحضة فإنه لا يتعلق بها أغراض دفعية ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال تواصل الوظائف يديم مرون العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله تعالى ينهى عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة ثم إذا انتهى الكلام في هذا القسم إلى تقديرات كأعداد الركعات وما في معناها لم يطمع القايس في استنباط معنى يقتضي التقدير فيما لا ينقاس أصله
فهذا بيان ضروب الأصول على الجملة
906 - ونحن الان تعطف عليها ونذكر في كل أصل ما يليق بمذهب القياسين إن شاء الله تعالى
فأما الضرب الأول فهو ما يستند إلى الضرورة فنظر القايس فيه ينقسم إلى اعتبار أجزاء الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل إذا اتسق له الجامع فأما اعتبار الجزء بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة العليا من أقيسة المعاني
ومن خصائص هذا الضرب أن القياس الجزئي فيه وإن كان جليا إذا صادم القاعدة الكلية ترك القياس الجلي للقاعدة الكلية
وبيان ذلك بالمثال إن القصاص معدود من حقوق الادميين وقياسها رعاية التماثل عند التقابل على حسب ما يليق بمقصود الباب وهذا القياس يقتضي ألا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هدم القاعدة الكلية ومناقضة الضرورة فإن استعانة الظلمة في القتل ليس عسيرا وفي درء القصاص عند
فرض الاجتماع خرم أصل الباب
وحاصل القول في ذلك يئول إلى أن مقابلة الشيء بأكثر منه ليس يخرم أمرا ضروريا فهذا معنى تسميتنا لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في الحقوق المغربة إلى الادميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن القاعدة التي سميناها كلية في هذا الضرب مستندها أمر ضروري والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة إذا لم تكن ضرورة جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعضد فيما أجريناه مثلا في القصاص بأمر اخر وهو أن مبنى القصاص على مخالفة الأعواض جمع وأن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتان كالمثلى إذا تلف وضمن بالمثل وكالقيمة إذا جبرت متقوما متلفا فالقصاص لا يجبر الفائت ولا يسد مسده والغالب فيه أمر الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل وهذا ميل قليل بالقياس إلى مارب الناس في الأعواض فلما خرج أصله عن مضاهاة الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى التقابل
907 - وإذا قسنا الأطراف عند فرض الاشتراك في قطعها بالنفوس كان ذلك واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة في الصون مع اجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص
وهذا في نهاية الوضوح لا يغض شيء منه إلا فرض صدور القطع من شخصين مع تمييز أحد الفعلين عن الثاني فإنه إذا جرى ذلك لم يقطع يد واحد منهما
فإن منع مانع ذلك وقال يقطع من يد كل واحد من الجانبين مثل ما قطعه من يد المجني عليه فهذا انفصال على وجه ولكن يبقى مع ذلك أن يد المجني عليه مبانة باشتراكهما ولا يبان يد واحد من الجانبين والإبانة معصومة بالقصاص وإذا كان القطع مما يقبل القسمة فقد يتناوش المتناظران عند ذلك الكلام ( و ) يتجاذبان أطراف النظر
فهذا هو اعتبار الجزء بالجزء في الضرب الأعلى من القياس 908 ولو أراد القايس أن يعتبر قاعدة أخرى بقاعدة والضرورة الكلية تجمعهما فهذا متقبل معمول به أيضا فإذا اعتبر القايس حدا واجبا بقصاص أو قصاصا بحد فذلك حسن بالغ وكذلك إذا اعتبر معتبر عقدا تمس الضرورة إليه بالبيع كان حسنا على شرط السلامة فخرج من مجموع ذلك جريان القياس من الوجهين في هذا الضرب أحدهما الجزء بالجزء والضرورة شاملة لهما والثاني اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل والجامع الضرورية الكلية 909 وأما الضرب الثاني وهو ما يبنى على الحاجة كالإجارة فلا خلاف في جريان قياس الجزءمنه على الجزء فأما اعتبار غير ذلك الأصل بذلك الأصل مع جامع الحاجة فهذا امتنع منه معظم القياسين 910 ونحن نرى أن ننبه قبل تبيين القول فيه على أمر وهو أن الإجارة ( جازت ) خارجة عن الأقيسة التي سميناها جزيئة في القسم الأول فإن مقابلة العوض الموجود ( بالعوض ) المعدوم خارج عن القياس المرعي في المعاوضات فإن قياسها ألا يتقابل إلا موجودان ولكن احتمل ذلك في الإجارة لمكان الحاجة وقد ذكرنا أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في ( حق ) آحاد الإشخاص
والبيع يلتحق بقاعدة الضرورة من جهة مسيس الحاجة إلى تبادل العروض والعروض لا تعني لأعيانها وإنما تراد لمنافعها ومتعلق تصرفات الخلق في الأعيان محال منافعهم منها وإذا أطلق الفقيه ملك العين أراد به الاستمكان من التصرف الشرعي على حسب الإرادة ما بقيت العين ثم المنافع إذا قدرت نوعا من العروض وظهر مسيس الحاجة ( إليها ) في المساكن والمراكب ( وغيرها ) التحق هذا بالأصول الكلية واشتراط مقابلة الموجود بالموجود من باب الاستصلاح والحمل على الأرشد والأصلح ولا يظن تعلق هذا الفن بالحاجة ولهذا يسمى ( القياس ) الجزئي وليس المراد بكونه جزئيا جريانه في شخص أو جزء ولكن الأصل الذي لا بد من رعايته الضرورة ثم الحاجة والاستصلاح في حكم الوجوه الخاصة في حكم الجزء عند النظر في حكم الضوابط الكلية فإذا القياس على الإجارة إذا استجمع الشرائط لا يدرؤه إلا الاستصلاح الجزئي في مقابلة الموجود بالموجود وهذا كقياسك النكاح مثلا في وجه الحاجة إلية على الإجارة
911 - ومن قال الإجارة ( خارجة ) عن القياس فليس على بصيرة في قوله فإنها إن خرجت بخروجها عن الاستصلاح فهي جارية على مقتضى الحاجة والحاجة هي الأصل والاستصلاح بالإضافة إليها فرع
912 - وأنا أضرب لذلك مثلا تقديرا فاقول من سبق عقده قبل ورود الشرائع إلى تقدير ورودها بالمصالح فإنه يسبق مع هذا العقد إلى درء الحاجات والضرورات ويختبط في وجوه الاستصلاحات فإنه يتعارض فيها الظنون بالإضافة إلى الحالات والدرجات فيتوقف لا جرم فيها الضبط على ورود الشرائع ثم إذا تمهد باب من الاستصلاح بالشرع جرى القياس فيه ومستنده يكاد أن يكون غيبا لا يطلع
العقل على حقيقته فيكله إلى فاطر البرية سبحانه وتعالى ثم قد يظهر الاستصلاح وهو مع ذلك جزئي فإن متضمنة حجرة على مطلق من غير حاجة ولا ضرورة في أمر تطرق المطلق فيه إلى البدل الكلي من غير منع ولا حجر ولكن ضنة النفوس وازعة مع وفور عقلها عن السرف والبذل العرى عن العوض وقد يحملها السرف وفرط الشره على أغرار وأخطار في المعاملات مغباتها وخيمة وغوائلها عظيمة والله تعالى عليم بها فسيصلح الله عباده بما علمه من غيبهم ولو تطرق إلى العقل الوازع عن البدل العرى عن العوض خلل طرد الشارع حجرا ولهذا يطرد الحجر على الصبيان والسفهاء فإذا باب الاستصلاح غايته تقليد وتفويض الأمر إلى مالك الأمر وهو باب محاسن الشريعة وقد يعيب ( كلى ) الاستصلاح ( وجزؤه ) عن الناظر ومن هذا القبيل عندي تحريم ربا الفضل والحجر المتمهد في ربا ( النسيئة )
913 - ومن دقيق ما يجري في هذا الفن وهو العلق النفيس في هذا القبيل أن الشافعي ألحق إثبات الخيار والأجل ( بأبواب ) الرخص من جهة أن ( قياس ) التقابل في المعاوضات أن يخرج العوض عن ملك أحد المتعاقدين حسب دخول مقابله في ملكه وإذا حل أحد العوضين وتأجل الثاني كان ذلك خارجا عن هذا القانون وكذلك الخيار الطارىء على العقد المبني على اللزوم في حكم الرخص والتأجيل أثبت فسحة ( لمن لا يملك الثمن ) ( في الحال ورجاء أن يتمحله ) إلى منقرض الآجال والخيار أثبت لتروي من لا بصيرة له وعدم
الدراية في السلع أعم وأغلب من المعرفة بها
914 - والقول في ذلك عندنا أن ( أصل ) البيع مستندة الضرورة أو الحاجة النازلة منزلة الضرورة واللزوم ( فيه ) بمطلق البيع قد لا يستند إلى الضرورة نعم لو قيل لا يفضى البيع قط ( إلى لزوم ) جر ذلك ضرارا بينا من حيث لا يثق المتعاوضان بما يتقابضان وكان من الممكن أن يقال إذا تراضى المتعاقدان على الإلزام لزم وإن أطلقاه فالحكم ( بلزومه ) من غير تراضيهما ( فيه ) مصلحى وليس ضروريا ( وكذلك ) المصير إلى اقتضاء مقتضى العقد حلول العوضين مصلحى فإذا تمهد ذلك فشرط الخيار والأجل لا يخرم أمرا ضروريا فليفهم الفاهم ذلك وليتئد إذا انتهى إلى هذا المقام
915 - ولكن الشافعي نظر إلى تعبدات الشارع فقد مهد في العقود تمهيدا عاما وإن لم يكن مستنده إلى ضرورة مدركة بالعقول أو حاجة ثم رأى ما يطرأ عليها بمثابة ما يطرأ على وظائف العبادات ( من ) الرخص والتخفيفات وإن كانت العبادات في أصولها غير مستندة إلى أغراض وإلا فالقاعدة الكلية اتباع الحاجة ( والضرورة ) أو أتباع رضا المطلقين فإن ( ألحق ملحق الخيار ) والأجل بالرخص من جهة ( ندورهما ) بالأضافة إلى ( ما ) تمهد في التعبد والاستصلاح في العقود وإلا فاتباع الرضا من غير اقتحام أمر كلي أمس للقياس الكلي من الاستصلاحات
وأنا أذكر ( الأن ) مسألة كلية يقضى الفطن العجب منها فأقول ( مسألة )
916 - لو درست تفاصيل الشريعة وتعافى نقلتها وبقيت أصولها على ( بال ) من حملة الدين فالذي يقتضيه التحقيق تصحيح كل بيع استند إلى رضا ولو لم يقل به وتفاصيل الاستصلاحات لا تطلع عليها العقول ولا يحسم باب البيع ففى انحسامه ضرورة عظيمة وقد ذكرت طرفا من هذا ( في ) الكتاب ( الغيائي ) والغرض منه الآن أن الكلى ما يتطرق إليه العقل مع نسيان التفاصيل وهذا كاف في هذا الضرب
917 - وأما الضرب الثالث وهو ما لا ينتسب إلى ضرورة ولا إلى حاجة وغايته الاستحثاث على مكارم الأخلاق ووضع الاستصلاح ( ينافي ) إيجاب ذلك على كافة في عموم الأوقات ( لعسر ) الوفاء به والقدر الذي على يقتضيه الاستصلاح لا ينضبط بقدر أفهام المكلفين ( ودرك المتعبدين ) فإذا عسر الضبط وتعذر الإيجاب العام فيثبت الشارع وظائف ( تدعو ) إلى مبلغ المقصود الواقع في ( علم ) الغيب وإن كان لا ينضبط
هو في عينه لنا ويعضد هذا ( القسم ) في غالب الأمر وبأمور جلية حتى كان الشريعة تتأيد بموجب الجبلة والطبيعة فيكل إليها قدرا ويثبت للوظائف قدرا وهذا كالوضوء فليس ( ينكر ) العاقل ما فيه من إفادة النظافة ( والأمر بالنظافة ) على استغراق الأوقات ( يعسر ) الوفاء به فوظف الشارع ( الوضوء ) في أوقات وبنى الأمر على ( أفادته ) المقصود وعلم الشارع أن أرباب العقول لا يعتمدون نقل الأوساخ والأدران إلى أعضائهم البادية منهم فضلا فكان ذلك نهاية في الاستصلاح ومحاولة الجمع بين ( تحصيل ) أقصى الإمكان في هذه المكرمة ورفع ( التضييق في التدنس والتوسخ ) إذا حاول المرء ذلك فهذا وضع هذا الفن
918 - ولكن إزالة النجاسة أظهر في هذا الفن من النظافة الكلية المرتبة على الوضوء فإن النجاسات تتقذر في الجبلات واجتنابها أهم في المكارم والمروءات من اجتناب ( الشعث ) والغبرات ولهذا ذهب طوائف من الفقهاء إلى أنه يحرم على الإنسان التضمخ بالنجاسات من غير حاجة ماسة والشافعي نص هذا في الكثير وقد ردد ( في ) مواضع من ( كتبه ) تحريم لبس جلد الميتة قبل الديباغ وحرام على المرء لأن يلبس جلود الكلاب والخنازير فتميز ظهور الغرض في إزالة النجاسة عن النظافة الكلية المعينة في الوضوء ولهذا خصص الشافعي الوضوء بالنية من حيث التحق بالتعبدات العرية عن الأغراض وضاهى العبادات ( البدنية )
919 - ثم هذا الضرب الذي يفضى الكلام إليه يضيق نطاق القياس فيه فليس للناظر أن يؤسس في هذا الضرب أصلا يتخيل فيه مثل هذا المعنى الذي تكلفنا نظم العبارة ( منه ) لمعتبره بالقاعدة الثانية والسبب فيه ان هذا يدق مدرك النظر فلا يستقل بالتطرق إليه القوى البشرية ولا ينبغي أن يؤتى الإنسان عن خداع فإن مجال الظنون متسع لما يظهر ويدق فإنا لم نؤمر بربط الحكم لكل مظنون
920 - فالقول الوجيز فيه ان المعنى الذي ذكرناه في هذه القاعدة الثانية محال على غيب ينفرد بعلمه الشارع وعليه ابتني الإيهام الكلى بين التصريح والتلويح المذكورين في الطهارة ( فإنا قلنا ) تعميم الأمر بالنظافة عسر ورفعه مناقض للمكارم والمحاسن والقدر المعين لا تدركه أوهام البشر ولا عسر في أمتثال أمر الشارع في طهارات متعلقة بأوقات ( ثم الفطن ) يظن أنها في علم الشارع منطبقة على القدر المقصود الواقع في الغيب وليس من الممكن ربط الظن به فضلا عن دركه يقينا
921 - فإذا كان هذا مبنى الأصل الثابت فكيف يطمع الطامع في تأسيس أصل ( وتقعيده قاعدة ) تضاهى الطهارة في ( وفائها ) بالغرض الغيبي ولهذا نقول في هذا الضرب لا يجوز قياس غيره عليه وليس كالضرب الأول والثانى المتعلقين بالضرورة ( والحاجة ) فإن أمرهما بين ودركهما سهل ثم للشرع تصرف في الضروريات به يتم الغرض في القسمين الأولين وذلك أن
الذي لا يستباح إلا بالضرورة لفحشه أو بعده عن الحل فقد يرعى الشرع فيه تحقق وقوع الضرورة ولا يكتفى بتصورها في الجنس وهذا كحل الميتة ورب شئ يتناهى قبحه في مورد الشرع فلا تبيحه الضرورة أيضا بل يوجب الشرع الانقياد للتهلكة والانكفاف عنه كالقتل والزنا في حق المجبر عليهما
922 - فإذا الضرورات على ثلاث أقسام فقد لا تبيح الضرورة نوعا يتناهى قبحه كما ذكرناه وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا يثبت حكمها كليا في الجنس بل يعتبر تحققها في كل شخص كأكل الميتة وطعام الغير والقسم الثالث ما يرتبط في أصله ( بالضرورة ) ولكن لا ينظر الشرع في الآحاد والأشخاص وهذا كالبيع وما في معناه وإنما كان كذلك لأنه لا أثر للفكر العقلي في تقبيح البيع والتبادل في الأعواض فكفى تخيل الضرورة في القاعدة ولا التفات إلى الآحاد فإن الأمر في ذلك مبنى على قاعدة كلية وليس البيع قبيحا في نفسه عرفا أو شرعا
923 - فأما الطهارات وما يضاهيها فقصاراه تحصيل أمر بوظائف واجبة من غير تصريح بوجوب المقصود فلا جريان للقياس في هذا الباب على معنى أن يعتبر غير الباب بالباب
وعلى هذا ينبنى سد باب القياس في الأحداث فإنها مواقيت الطهارات وثبتها الشرع في أمر مغيب عن دركنا ولم يثبت الطهارة عامة بل خصصها تخصيصا نقدر نحن بظنوننا أنها تأتى على تحصيل النظافة
فكيف نستجيز إثبات وقت فيما لا نطلع على إثبات أصله
924 - ثم ( قال ) القاضي رحمه الله كما لا تثبت الأحداث بالقياس فلا مجال للقياس أيضا في نفي الأحداث وهذا ( علق مضنه ) فليقف الناظر عنده ليقف عليه فإن احتكم محتكم باثبات حدث من غير ثبت فلا حاجة إلى قياس في درء مذهب الخصم ( وإن ) عزاه فيما زعم إلى قياس فالوجه أبطال قياسه وقد ذكرنا بطلان القياس في إثبات الحدث
925 - وإن تمسك بظاهر يتعرض مثله للتأويل في غير هذا الباب وأراد المعترض إزالة الظاهر بقياس فقياسه مردود فإن القياس كما لا يهتدي إلى تأقيت الطهارة لا يهتدي إلى نفي تأقيتها ولو ظن الظان أن القياس ألا ينتقض الطهر بشئ فهذا قول يصدر عن قلة البصيرة كما ذكرناه في استبهام الأمر في أوقات الطهر فإذا استبهم ثبوت الشئ استبهم نفيه وإذا صودف ظاهر لزم اتباعه ولم يثبت في معارضته قياس ومن ينفي الحدث فليكن ( متمسك المطالبة ) بثبت فيه والظاهر معتصم معمول به ( والعبادات ) وإن استرسلت في جريانها فتجري في هذه المضايق مجرى التنبيهات للقرائح الذكية والفطن فإذا حاصل كلام الراد إلى المطالبة بالإثبات فإذا وجد شيء يعمل بمثله سقط ما كان يتمسك به وليس معه ثبت في النفي
926 - ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا الفصل أن القياس الجزئي في الأصل الذي فيه نتكلم لا يتصور أن يجري معنويا
نعم لا ينحسم فيه قياس الشبه فإن كل ما يتطرق إليه العلم يتطرق إليه الظن فإذا ينبني على هذا أن إثبات كون الملامسة حدثا بالقياس على خروج الخارج من السبيلين لا مطمع فيه فإنه لا يجمعهما معنى ولا شبه
927 - فأما اعتبار أصحاب أبي حنيفة خروج النجاسات من غير السبيلين بما يخرج من السبيلين ففيه فقه وغايتهم في ذلك تشبيه نجاسة تنفصل من محل الخلاف بالنجاسة التي تنفصل عن أحد السبيلين فإذا أحسنوا الإيراد قربوا الشبه واعتبروا الخارج بالخارج والمخرج بالمخرج
928 - ولأصحاب الشافعي أن يقولوا لا نسلم فإن خروج النجاسة من أحد السبيلين لا يقتضي الوضوء لأمر يتعلق بالنجاسة فإن الذي يبتدر إلى الفهم من أمر النجاسة رفعها عن محلها وإزالتها عن موردها فأما ربط إيصال الماء إلى غير مورد النجاسة عند اتصال النجاسة بمحل آخر فلا محمل لذلك إلا التأقيت ثم الذي يليق ( بالتأقيت ) على ما تمهده القول فيه أن يربط ( سبب نظافة ) الأعضاء البارزة فضلا بما يتكرر في الجبلة على اعتياد لائق به حتى تنتهض الطهارة وظيفة مكررة متعلقة بأوقات يغلب تكررها فأما الرعاف وما في معناه فليس في حكم ما يتكرر
929 - وليعلم الناظر أنهم وإن شبهوا على الظاهر فقطع شبههم بما ذكرناه أقيس للغرض وأقرب إلى الدرك وخاصيه النجاسة ساقطة الاعتبار في الأصل والفرع ( المعتبر به ) المتفق عليه
930 - نعم ( بحق ) ردد الإمام ( المطلبي ) قوله فيه إذا انسد المسلك المعتاد وانفتح سبيل آخر للنجاسة المعتادة الخارجة من المحل على ما يفصله الفقيه والسبب فيه أن هذا الان يشبه النجاسة المعتادة الخارجه من المحل المعتاد من جهة أن الطبيعة تقتضى تكرر دفع الفضلات من السبيل المنفتح فهذا منتهى الغرض في ذلك
931 - وأما الضرب الرابع فقد مثلناه بالكتابة فهو في الأصل كالضرب الثالث الذي انتجز لبفراغ الفراغ منه في ان الغرض المخيل الاسحثاث على مكرمة لم يرد الأمر على التصريح بإيجابها بل ورد الأمر بالندب إليها فان العتق في الابتداء محثوث عليه مندوب إليه فهذا الضرب يتميز عن الضرب الثالث المقدم عليه فإن الشرع احتمل فيه خرم قاعدة ممهدة وهي امتناع معاملة المالك عبده وامتناع مقابلة الملك بالملك على صيغة المعاوضات ولم يجر مثل ذلك في الضرب الثالث وإن اختص الضرب الثالث بإيجاب الطهارة ولا تجب الكتابة على رأي معظم العلماء
932 - وذهب مالك رحمه الله في طوائف من السلف إلى وجوبها وإسعاف العبد إذا طلبها ووجد فيها خيرا ومأخذ مذهبه في ذلك يقرب من إيجاب الطهارات مع العلم بأن النظافة في نفسها لا تجب بأمر مقصود وتعلق أيضا بظاهر الأمر في قوله تعالى فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا
933 - والشافعي رحمه الله رأي الإيتاء واجبا كما أنبا ( عنه ) قوله تعالى ( وآتوهم من مال الله فكان هذا مما اعترض به عليه إذ أجرى إحدى الصيغتين
على أقتضاء الإيجاب وحمل الأخرى على الاستحباب
934 - فأما ما أشرنا إليه من تشبيه هذا الضرب على رأي مالك ( بالطهارات فهو ) يصلح لعقد المذهب وإلا فقد مهدنا أن القياس لا يجرى في محاولة تأصيل الأصول على هذا الوجه وإنما يجري ( طرف ) من التشبيه في ( جزيئات ) النوع من غير خروج عنه وأما التعلق بالظاهر فأوجه ولكن الشافعي لم يعتمد في ايجاب الإيتاء مجرد الظاهر لكن عول على سير الصحابة رضي الله عنهم وما كان منهم ونقل آثارا مطابقة لمعتقده وضم إليه أن الكتابة يتضمنها إرفاق من كل وجه والإيتاء منه وقد رآه الأولون على الاطراد يتضمنها والتبرعات لا تطرد سيما في الأموال والكتابة تلزم في حق السيد ومن متضمنها الرفق المنقول وما تقرر يلزم شيئا إذا صح لم يلزم الإقدام عليه على أن لا أرى مذهب الشافعي مسألة أضيق ( مسلكا ) من الإيتاء
935 - ونحن نقول وراء ذلك أما مالك فسوى بين الكتابة وبين باب الطهارات في إثبات إيجاب الأصل ولاح على أصله ( إجراء ) قسم الكتابة في وضع الشرع على باب الطهارات ( باحتمال ) أمور خارجة عن أقيسة المعاوضات فيها والشافعي لم يوجب الكتابة وقال للشرع تعبد في الإيجاب متبع وإن لم يكن منقاسا كإيجاب الطهارة وإن لم تجب النظافة وللشارع أحكام في رفع حجره وإطلاق حجر القياس اطراده كما جرى في الكتابة فكان احتمال الشرع لهذا في الكتابة على خلاف القياس ( مضاهيا لإيجاب الشرع الطهارة على خلاف القياس )
ويخرج من ذلك تعادل الضربين في خروج الطرفين عن القياس فانتهض إيجاب الطهارة ( محصلا ) لمكرمة النظافة كما انتهض رفع الحجر في الكتابة مرعيا في تحصيل العتاقة ثم قال الشافعي في رفع الحرج في الكتابة ترغيب مالي يتعلق بغرض بين في تحصيل الكسب فإن العبد يحرص إذا ( طمع ) في العتاقة ( والسيد ) يتحصل على كسب كان لا يتحصل له بغير الكتابة بظاهر الظن فخرجت الكتابةعن قبيل القرب لظهور الغرض منها ولم يكن في الطهارات غرض ناجز ( فلاق ) بها ترغيب في الثواب وهذا يقتضي إلحاقها بالقرب المفتقرة إلى النيات فهذا تأسيس القول في البابين ونحن الآن نرسم مسألة في قسم الكتابة تمس إليها حاجة الفقيه مسألة
936 - قد ثبت أن الكتابة الفاسدة تثبت فيها أحكام مشابهة لأحكام الكتابة الصحيحة فرأى أصحاب أبي حنيفة أن يعتبروا البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة وقضوا بأن البيع الفاسد يفيد الملك إذا اتصل به القبض على تفصيلهم المعروف وقد امتنع طوائف من أئمتنا من قبول هذا القياس ونحن نكشف الغطاء فيه مستعينين بالله تعالى بعد ذكر مسلك الفريقين اعتراضا وجوابا
937 - قال الشافعي رحمه الله لا يقبل القياس في الفرعين فان الكتابة
الصحيحة خارجة عن قياس المعاملات ( والفاسدة ) متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك القياس في الأصلين ترتب عليه امتناع القياس في الفرعين فقال أصحاب أبي حنيفة إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات الصحيحة فلا ننظر بعد ثبوتها إلى خروجها عن القياس ولكنها يقضي فيها وعليها بقضاء المعاوضات حتى نقول يشترط في المعاوضات ولا تنحسم الأقيسة في التفاصيل مع إمكانها بخروج أصل الكتابة عن قياس المعاوضات واعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة من النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل وتنزله على حكم التوقف والفاسد في كل باب حائد عن موجب التعبد لذلك فسد فإذا لم يمتنع التحاق الفاسد بالصحيح في الكتابة مع حيد الكتابة الفاسدة عن الصحيحة فينبغي ألا يمتنع مثل ذلك في البيع وكل أصل مقر على قانونه منقاسا كان أو غير منقاسى والفاسد في كل باب حائد عن مراسم الشرع فذا منتهى كلام الفريقين مع فضل بيان شاف في الإيراد لا يستقبل به فقيه ليس له حظوة وافرة من الأصول
938 - ونحن الآن نقول هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعاني ولا يستبد في ذلك قياس معنوي من جهة أن شرط المعنى اتجاهه أو انقداحه في الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفرع فإذا ذاك يجمع الجامع بالمعنى وليس ( معنا ) معنى فقيه يتضمن تنزيل الكتابة الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذي ( لا ) يتمارى فيه الناظر في الدرجات الأول من نظره أن الفاسد ليس مطلقا للشرع والاحكام تثبت إذا جرت أسبابها موافقة الشرع ويهون على الرشيد االفطن تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلي وإذا فعل ذلك ألخسم مطمع الخصم في قياس المعنى وآل النظر إلى التشبيه
939 - فإن تفطن الخصم وسلم انحسام المعنى واجتزأ بالتشبيه وقال البيع الفاسد بالإضافة إلى الصحيح في تشبيه الكتابة الفاسدة بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم إبداء معنى في الأصل وإظهاره في الفرع فعلى الناظر في ذلك وقفة وإمعان نظر فيما يدرأ هذا المسلك وهو النقض الصريح فإن لم ننزل كل فاسد منزلة الصحيح إذ النكاح الفاسد ليس كالصحيح في إثبات حق لا على جواز ولا على لزوم وأقرب من ذلك البيع نفسه فإن فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة والتشبيه شرطه الطرد وأحق قياس بالبطلان والنقض قياس الشبه فإن المتمسك بالمعنى قد يعن له طرد المعنى ما لم يمنعه مانع وأما الشبه فقصاراه ظن على بعد فإذا عارضه نقض وهى وانحل فهذا فن من الكلام واقع يضطرهم إلى النزول عن الشبه والترقي إلى معنى وعن هذا قالوا ما اتسع طرقه فالفاسد أحد طرقه وزعموا أن الاتساع يشعر بإحلال الفاسد محل الصحيح ومهما اضطروا إلى المعنى وحاولوه افتضحوا واجترءوا ولا يكاد يخفى إبطال هذا المسلك وما في معناه فإذا بطل الجمع المعنوي وانتقض الشبه لم يبق لمتمسكهم بالكتابة الفاسدة وجه
940 - ومما نذكره في ذلك أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب كتابة فاسدة يتسلط على أكسابه ( بنفس العقد ) تسلطا صحيحا وتنفذ تصرفاته فيها على الصحة نفوذها في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل بالقبض وهذا يستعمل أيضا في ( معرض النقض ) المعنوي
941 - ومن دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة بوجود الصفة مما يجب القضاء بصحته فإن تعليق العتاقة على أداء العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فقياسه ألا يرفع وأثر فساد الكتابة في رفع وجوب التعليق وهذا خارج ظاهر الخروج عن قياس بابين أحدهما حكم المعاوضة والثاني حكم تعليق العتق والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فالوجه استيلاء حكمه فإن مؤقته يتأبد ومبعضه يتمم فكيف اكتسب ما ليس يفسد وإن ذكر على صيغة الفساد ( قضية ) الفساد ( من ) معاملته واهية بالفساد والجواز فهذا يمنع من ( التشبيه ) ويعارض ما يأتي به ( المشبه ) وينزل في المظنونات منزلة بعد الشيء وإن عن التحاق بالمنصوص عليه لكونه في معناه وقياس الشبه مستند إلى القياس الذى يقال فيه إنه في معنى الأصل فهذا منتهى كلام الفقهاء
942 - وأنا أذكر مسلكا أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول وقد مهدت أن القوانين المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا على أصل وإنما الأقيسة في الأصول إذا لاحت المعانى وإنما تظهر المعانى في الضرورات والحاجات وأقرب قطاع الشبه تعدد الأصول فيما لا ينقدح فيه جامع ضروري أو حاجى
والذى نختتم به الكلام أن أصلين مستندهما المحاسن والمكارم لا تشبه فروع أحدهما فروع الثاني من جهة تعلق كل واحد بأمر ( غيبي لا يضبطه الفكر إذ لا يجري كل مقصود في الغيب على قضية واحدة
943 - فإذا لاح ذلك وتجدد العهد به فالبيع من الضروريات فكيف ينقدح تشبيه فاسده بفاسد قسم لا ضرورة فيه ولا حاجة وهذا قاطع للشبه بالكلية فإذا انقطع ( الشبه ) ولم يلح معنى لم يرتبط الأصل بالفرع
944 - نعم إذا كفى الشافعي احتجاج الخصم ( بالكتابة ) بقيت عليه غائلة في انتقاض ما يطرده ( من ) معناه بالكتابة فان قال المعنى حيد الفاسد عن وضع الشرع والمصير إلى أن الفاسد غير معتد به ولا تنتقل الأملاك إلا بمسلك شرعي وإذا نحن اعتمدنا ذلك صدمتنا الكتابة الفاسدة نقضا فلا وجه إلا مسلكان في دفعه أحدهما أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهة مقصودها وقد تناهينا في تقريب ذلك في ( الأساليب ) والمسلك الثاني وهو الأصولي ألا يلتزم في أقيسة المعاني النقض بالمنتزع عنها كما سنمهده في باب النقض إن شاء الله تعالى
945 - والضرب الخامس متضمنه العبادات ( البدنية ) التي لا يلوح فيها معنى مخصوص لا من مآخذ الضرورات ولا من مسالك الحاجات ولا من مدارك المحاسن كالتنظيف في الطهارة والتسبب إلى العتاقة في الكتابة ولكن يتخيل فيها أمور كلية تحمل عليها المثابرة على وظائف الخيرات ومجاذبة القلوب بذكر الله تعالى والغض من العلو في مطالب الدنيا والاستئناس بالاستعداد للعقبى فهذه أمور كلية لا ننكر على الجملة أنها غرض الشارع في التعبد بالعبادات البدنية وقد أشعر بذلك نصوص من القرآن العظيم في مثل قوله تعالى إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا يمتنع أيضا أن يتخيل فيها أمر آخر وهو أن الإنسان يبعد منه الركوب إلى السكون فالقوى المحركة تحركه لا محالة فإن تركت تحركت في جهات الشهوات وإذا استحثت بالرغبة والرهبة على العبادات انصرفت حركاتها إلى هذه الجهات وهذا فن لا يضبطه القياس ولا يحيط به نظر المستنبط والأمر فيه محال على أسرار الغيوب والله تعالى المستأثر به فلا يسوغ اعتبار ضرب إحداها في جهة اختصاصها ولا يسوغ اعتبارها في إثبات قضيتها الخاصة بغيرها من الضرورب فإنا منعنا اعتبار ضرب بضرب فيما لا يستند إلى ضرورة وحاجة وإن كان يغلب على الظن ( تعين ) مقصود منه على منهاج الأمر بالمحاسن فلأن يمتنع ذلك من العبادات التي لا يتعين منها مقصد ( أولى وأحرى )
946 - فأما اعتبار ( البعض من هذا الضرب بالبعض ) فقد ينقدح فيه معان فقهية نحو اعتبار القضاء بالأداء في أشتراط تبييت النية والجامع أن النية قصد ومرتبطه الحال أو ( عزم ) ومتعلقه الاستقبال وقد أمرنا بإيقاع الصوم أداء وقضاء وعبادة والعبادات إنما تقع على قضية التقرب بالقصد وما مضى لا على حكم القرب يستحل انعطاف القصد والعزم عليه فهذا من ( أجلى ) المعانى المعتمدة وكذلك ما ضاهاها
947 - فأما ما يثبت برسم الشارع ولم يكن معقول المعنى فلا يسوغ
القياس فيه وهذا كورود الشرع بالتكبير عند التحريم والتسليم عند التحليل ومن هذا القبيل اتحاد الركوع وتعدد السجود فمن اراد أن يعتبر غير التكبير بالتكبير مصيرا إلى أنه تمجيد وتعظيم فقد بعد بعدا عظيما وزال من القاعدة الكلية فإن إيجاب الذكر عند التحليل ليس معقول المعنى
948 - وإذا قال الحنفي معنى التكبير معقول قيل ( له ) اشتراط ما يتضمن تمجيدا عند التحريم غير معقول ولا ينفع الاكتفاء يكون التكبير معقول المعنى فإن هذا يرجع إلى وضع اللسان ومعنى الصيغ وليس هذا من معاني الشرع في ورد ولا صدر
949 - قال الشافعي رضي الله عنه في مجاري كلامه في رتب النظر من قال لا غرض للشارع في تخصيص التكبير وفي الاستمرار عليه ولا غرض لصحبة ومن بعدهم من نقله الشرائع والقائلين بها في التكبير على التخصيص وقد استتب الناس عليه مع تناسخ العصور واعتقاب الدهور قولا وعملا وتناوله الخلف عن السلف حتى لو فرض عقد الصلاة بغيره لعد نكرا وحسب هجرا ( فمن ) قال والحالة هذه لا اثر لهذا الاختصاص وإنما هو أمر ( وفاقي ) فقد نادى على نفسه بالجهل بمقاصد الشريعة وقضايا مقاصد المخاطبين فيما يؤمرون به وينهون عنه ولو كان غير التكبير كالتكبير لكان ذكر الشارع التكبير كلاما عريا عن التحصيل نازلا منزلة قول القائل ابتداء أيحرم على الجنب سورة آل عمران مع القطع بان
غيرها من السور بمثابتها ولا ينطق المبتدئ بها إلا ويبين لغوة على عمد إن لم يكن ساهيا
950 - فإذا ثبت قطعا أن تخصيص التكبير ثابت فإن اعترفوا بتعيينه ( بدءا ) ثم طعموا في اعتبار غير التكبير بالتكبير بجامع التمجيد وهو بعينه جار في الاستحباب فقد طعموا في غير مطمع فالخصم بين أمرين أحدهما أن ينكر قصد التخصيص من الشارع فيكون مباهتا قريبا ممن يجحد الضرورات في المعقولات وإن اعترفوا بالتخصيص في وجه وأرادوا الجمع في وجه آخر ينقضه ما سلموه من التخصيص فقد تناقض كلامهم ويخرج مما ذكرناه أن التكبير مخصوص غير معقول الاختصاص فرفع الاختصاص مع ثبوته محال
951 - ومن نظر نظر ذي غرة فقاس غير التكبير على التكبير أوطأه إذ ذاك تطرق فاحشة لا يبوء بها من وقر الدين في صدره وهو إقامة عمد الحدث مقام التسليم من جهةان التسليم يناقض الصلاة مناقضة الحدث إياها ومن استجاز في محاسن الشريعة أن يلحق عمد الحدث بما يجيزه الشارع من التسليم في أختتام الصلاة فهو بين معاند يظهر خلاف ما يضمر وبين من أعمى الله تعالى بصيرته نسأل الله تعالى التوفيق ونعوذ به من الانهماك في أوضار التقليد
952 - ثم أن أجرى مجر ( في ) هذا القسم كلاما ( ظاهره ) التشبيه مثل أن يقول تعين الركوع كتعين التكبير وامتناع إقامة السجود مقامه يضاهي امتناع إقامة غير التكبير مقامه فقد تردد كلام الشافعي في ذلك
فتارة يسميه استشهادا والمعنى به أن ذلك يذكر تقريبا وتحقيقا لمنع القياس ويضرب أمثالا وهو مشبه بتقرير الضرورات على من يجحدها فإنه لا ( يجدي ) مع جاحدها مسلك نظري والوجه في مكالمته إن ريم ذلك تقريب الأمر بضرب الأمثال فهذا مسلك وقد ويقول الشافعي هذا من مآخذ قياس الشبه فإن الاختصاص بالتكبير مأخذه مأخذ الاختصاص في الركوع واذا شبه احدهما بالثاني كان ذلك من قياس الشبه وإن كان ( نتيجته ) منع القياس فإن الاختصاص حكم مطلوب والقياس الشبهي جار فيه نعم القياس المعنوي لا يجري إذ الاختصاص معناه ( نفي ) المعنى المتعدي من محل التخصيص والتنصيص ( فطلب ) المعنى حيث لا معنى بعيد هذا وقد نجز غرضنا من تقاسيم هذه ( الضروب ) فان عدنا إلى تقاسيم المعنى بعد ذلك كان ذلك لغرض آخر ونحن نرى أن نقف حيث انتهينا ونستفتح القول في الاعتراضات
( الباب الرابع ) ( الاعتراضات وأقسامها )
953 - ونقسمها قسمين أحدهما يشتمل على ما يصح عند المحققين ولا احتفال بما يشذ من خلاف منقول عمن لا اكتراث به والقسم الثاني يحتوي على ما يفسد من الاعتراضات عند المحققينفصل القول في الاعتراضات الصحيحة
954 - الأول منها المنع وهو يتوجه على الأصل ويقدر متوجها على الفرع فأما المنع في الأصل فإنه يجري من وجوه أحدها منع كون الأصل معللا فإن الأحكام تنقسم باتفاق النظار إلى ما يعلل وإلى مالا يعلل فمن استمسك بأصل فهم مطالب بتثبيت كونه معللا وهو عندي إنما يتوجه على من لم يذكر تحريرا بعد فأما إذا حرر فإنه قد ادعى أن ما أبداه من الوصف علة في حكم الأصل فان الفرع في العلة ( المحررة ) يرتبط بالأصل بمعنى الأصل وهو الجامع وسبيل افتتاح النظر من طريق القياس أن يبين الرجل حكما في الأصل ويطلب علته فاذا صحت عنده علة الحكم والفاها متعدية أصلها موجودة في غيره فإنه يحكم فيما توجد العلة فيه بحكم الأصل الذي ثبت عنده تعليله فاما إذا لم تظهر علة ( فلم يات بديل ) فلا وجه ( لعد ) المنع في هذا المقام اعتراضا فإن المسئول إذا ذكر الأصل واقتصر عليه فلا ينتهض السائل للاعتراض بل يرتقب استتمام الكلام وما ذلك إلا لانه لم يدخل وقت الاعتراض بعد وان اقتصر على ذكر الأصل وضم إليه ادعاء كون الفرع بمثابه عد عريا عن التحصيل من جهة أنه لم يذكر ربطا ولم يأت بصيغة قياس بعد فسبيل مكالمته إذا تردد وتبلد أن ينبه على اقتصاره على بعض صيغة القياس فإن ذكر معنى ادعاه علة فإن استمكن منه ففى ضمنه إثبات القول كونه معللا
955 - ومن لطيف القول في ذلك أن تعيين العلة وإثبات أصل التعليل مسلك واحد فإن الإنسان يستبين كون الشيء معللا بأن يتجه فيه معنى يصلح لكونه علة وليس من الممكن أن يعرف بطريق الاستنباط كون الشيء معللا على الجملة نعم إن انعقد عليه إجماع أو ورد فيه نص فيستند ( الأعتقاد ) إليهما وإن كان التلقي من الاستنباط فتعيين العلة وتثبت الأصل في التعليل يثبت بمسلك واحد فهذا تحقيق القول في المطالبة بكون الأصل معللا وبيان محله ومنصبه في الجدل
956 - والنوع الثاني من المنع إنكار وجود ما ادعاه المستنبط علة وهذا كثير التداور في المركبات فإن من قاس على انبه خمس عشرة سنة فقد يدعى بلوغها فينكره الخصم فهذا وما يضاهيه إنكار وجود العلة وعلى المطالب فيه ان
( يثبت ) بطريقة على ما سيأتى ذلك في تقاسيم المركبات إن شاء الله تعالى
957 - والنوع الثالث منع الحكم في الأصل فإذا توجه ذلك على المسئول تعين عليه إثباته فإن ( أثبته ) بطريق إثباته استد قياسه وكان بانيا والبناء مقبول ( من المسئول ) ولو رددنا إلى حكم الدين فليس فيه ما يمنع سائلا من نصب دليل ولكن مواقف النظار وأهل الجدال على مسلك رأوه اقرب المسالك ( إلى الدرك ) وأقصدها فأثبتوا الدليل والبناء والابتداء للمسئول وأقاموا السائل مقام المعترض حتى ينتظم على القرب غرض ويلوح في المطلوب مدركه فلو تصدى كل واحد للدليل والاعتراض لانتشر الكلام وطال المرام ولا ينقضى مجلس ( عن ) فائدة ثم المسئول لا يدل في كل موضع بل يدل حيث ( يبنى ) ولو اعترض على علة ابداها السائل معارضا معترضا أو مسندا إليها تأويل ظاهر فإذا أورد المسئول عليها نقضا فمنعه السائل لم يكن للمسئول إثباته بالدليل فإنه بإثباته النقض لا يستفيد إثبات مذهبه الذي سئل عن إثباته وإنما يستفيد إبطال علة السائل وهو في هذا المقام معترض والاعتراض والبناء إذا اجتمعا انتشر الكلام ووقع المعنى المحذور الذي لأجله أقام الجدليون بانيا ومعترضا ثم قد يأتى السائل بما يصلح للبناء وهو يبغي به الأعتراض بطريق المعارضة كما سيأتي ذلك فأما المسئول فيضطر إلى الاعتراض ( بطريق المعارضة ) إذا عارض السائل
958 - والنوع الرابع من المنع المنع من كون ما أبداه المسئول علة فيقال ما الدليل على أن ما أظهرته علة فيتمسك المسئول بما يثبت به العلل وقد مضى القول فيه مفصلا
959 - فوجوه المنع إذا على ما نظمه هؤلاء أربعة المنع من أصل التعليل والمطالبة بتعيين 0 التعليل ) والمطالبة بتحقيق ( وجود ) ما ادعاه المعلل علة ومنع الحكم والمطالبة بإثبات ما عينه
960 - وزاد بعض المتكلفين منع القياس والمطالبه بإثبات أصل القياس وهذا ليس بشيء ( فإنا ) في الاعتراضات على القياس وقد ثبت اصله على منكريه فهذه وجوه المنع في الأصل
961 - فأما المنع في الوصف فلا يتجه فيه إلا منع واحد وهو منع وجود علة الأصل في الفرع وباقي الوجوه توجه على الأصل فإن من وجوه المنع في الأصل المطالبة بأن ما أظهره والمستنبط يصلح لكونه علة وهذا حقه أن يخصص بالأصل إذ منه الاستنباط وإليه الرد به والاعتبار إذا ثبت صلاح ذلك المعنى لكونه علة لم يحتج إلىذلك في الفرع وقد انتجز الفراغ منه فلا يبقى مع الفراغ من مطالبات الأصل إلا ممانعة في أن المعنى الذي ثبت علة في الأصل غير موجود في الفرع وهذا يسمى منع الوصف وقد انتهى غرضنا من القول في المنع
والثاني من الأعتراضات الصحيحة طلب الإخالة
962 - ذا وهذا من أهم الأسئلة وأوقعها في الأقيسة المعنوية فعلى المتمسك بما يدعيه معنى أن يوضح ( مناسبته ) للحكم وإقتضاءه له وإشعاره به فإذا عجز عن ذلك مع ادعائه المعنى كان ذلك انقطاعا منه بينا
963 - قد وقد قال القاضي رحمه الله في بعض مجاري كلام ليس هذا من الأسئلة والاعتراضات بل حق على كل مسئول أن يبدأ بإظهار الإخالة قبل أن يطالب بها فإنه لا يكون آتيا بصورة القياس المعنوي إلا على هذا الوجه ولو سكت عن إظهاره كان مقتصرا على بعض العلة نعم لو ضمن تعليله لفظا ظاهرا أشعر بالإخالة كفى ذلك فإن وجه السائل طلبا كان منسوبا إلى القصور عن درك لفظ التعليل هذا إذا كان تمسكه بقياس المعنى
964 - فأما إذا تمسك بقياس الشبه فلا مناسبة ولا إخالة على الوجه المذكور في المعاني ولكن قد يحتاج المشبه إلى إظهار الشبه الخصيص المغلب على الظن فيكون الطلب بذلك والجواب عنه على حسب ذلك كما إذا شبهنا الوضوء بالتيمم فقد التزمنا أن نذكر شبها أو أشباها تقرب الفرع من الأصل وإن كان لا يقتضي الحكم اقتضاء الإشعار والإخالة ولا يقع الاكتفاء بأمور عامة لا تغلب على الظن ولا يتعرض المشبه لأمر عام إلا وينتقض عليه تشبيهه وإذا تصون عن النقض بارتياد خصوص الأشباه فقد خصص شبها مغلبا على الظن و ( الثالث ) من الاعتراضات الصحيحة القول بالموجب
ولا شك أنه إذا استد على شرطه أسقط الاستدلال وقطع المستدل ثم الأصوليون تارة يقولون القول بالموجب ليس اعتراضا وهو لعمرى كذلك لأنه لا يبطل العلة لأنه إذا جرت العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تجري وحكمها متفق عليه أولى ولكن المتمسك بها في محل النزاع منقطع فإنه أبداها محتجا بها وهو يروم إثبات المتنازع ( فيه ) وقد تبين أن الأمر على خلاف ما قدر وهو بمنزلة ما لو رام إثبات المختلف فيه ونصب علة في غير محل النزاع
966 - ثم القول بالموجب ينشأ من اعتناء المعلل بموجب الحكم ولا يتصور قول ( بالموجب ) ومضمون العلة نفي حكم وإثبات حكم فإن المعلل يثبت ما ينفيه الخصم من الحكم أو ينفي ما يثبته فكيف يتصور المطابقة والأمر كذلك نعم إذا قال الحنفي في مسألة ماء الزعفران ماء طاهر خالطه طاهر فالمخالطة لا تمنع صحة الوضوء قال السائل ( الشافعي ) المخالطة لا تمنع ثم ينقسم في هذا مقام السائل فقد ينقدح له ( إبداء مقتضى ) آخر سوى ما ذكره المعلل مع الاستمرار على الخلاف في الحكم فهذا إن اتفق فهو الغاية في هذا الفن من الاعتراض والغالب في ذلك أن يكون المعلل ذاكرا لبعض ما هو ( علة ) عند السائل فيبين المعترض أنه ليس موجبا على حياله وهو كما ضربناه مثالا الآن فإن المخالطة لها أثر عند الشافعي ولكنها بمجردها لا توجب منع الاستعمال فإن زادالمسئول فقال المخالطة المغيرة لا توجب منع الاستعمال ألزم السائل القول بالموجب أيضا فإن المخالطة المغيرة لا تمنع التوضؤ فإن زاد وقيد الاعتلال بتفاحش
التغيير وإمكان الاحتراز لم يجد أصلا يقيس عليه فإن حذف التعرض للموجب فقال ماء طاهر خالطه طاهر فيجوز التوضؤ به انتقضت العلة كماء الباقلاء إذا كان مغليا بالنار وهذا مضيق يدفع فلا يجد المعلل محيصا عن التعرض للنقض أو القول بالموجب
967 - ومما يطرأ في هذا الفن شيء ليس للرد والقبول فيه مجال وقد ينتهي الأمر بين المعترض والمجيب إلى قريب من الإلباس ونحن نبين الوجه فيه ( فإذا ) قال الشافعي في مسألة تمكين العاقلة مجنونا جنون أحد المتواطئين لا يوجب درء الحد عن الموصوف بالعقل كجنون الموطوءة فقد يقول الحنفي الجنون ليس دارئا وإنما الدارئ خروج وطء المجنون عن كونه زنا فليست المرأة ممكنة زانيا فيقول المجيب إن صح ما قلت فالجنون هو الذي أخرج فعله عن هذه التسمية وغرضي اسقاط أثر الجنون فيقول المعترض نصبت الجنون علة وهو عندي علة العلة وإطلاق التعليل ( بالجنون ) يشعر بكونه مماسا للحكم من واسطة فيجر التفاوض لبسا والذي يختاره المعلل ان ( يقي ) ( علته ) مواقع اللبس حتى لا يكون متمسكا بما يلتحق بمجملات الألفاظ على ما سنعقد في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
968 - فالوجه إذا أن نقول لا ينتهض الجنون سببا فإن قيل بموجب علته أمكن الدفع فإنما يؤثر وإن كان لا يستقل يسمى سببا وإن كان لا يحسن تسميته موجبا ما لم يستقل وحفر البئر سبب الهلاك في الشرع وتسمية سببا لا يجحده أحد من حملة الشريعة وإن كان لا يستقل ما لم ينضم إليه أسباب وإذا قال القائل ثبت هذا الحكم بأسباب كان كلاما منتظما ومعناه أنه أثبت باجتماع أسباب ولا يحسن أن يقال ثبت هذا الحكم بعلل إذا كانت كل واحدة لا تستقل بالاقتضاء فإن العلة المركبة من أوصاف يجوز أن يسمي كل وصف منها سببا في الحكم من حيث إنه لا بد منه وليس كل وصف علة وإنما العلة مجموع الأوصاف وإذا قال القائل لا ينتهض كذا سببا وكان لما ذكره أثر عند الخصم ولا يستقل الحكم دونه فلا يمكنه والحالة هذه أن يقول بموجب العلة و ( الرابع ) من الاعتراضات والنقض
969 - وهو تخلف الحكم في بعض الصور مع وجود ما أدعاه المعلل ( علة ) ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض يبطل العلة المستنبطة وحكى أصحاب المقالات عن طوائف من أصحاب أبي حنيفة رحمه الله أنهم قالوا ليس النقض من مبطلات العلل ولكن متى عورضت علة المعلل بنقض فعليه تعليل تلك المسألة التي ألزمها نقضا والفصل بينهما وبين ( المسائل ) التي ادعىاطراد العلة فيها
ونحن نذكر مسالك الفريقين ولا نتعدى مسلكا حتى نتبعه بما عندنا فيه ثم نذكر عند نجاز المسألة ما هو الحق المبين عندنا
970 - فأما الصائرون إلى أن النقض يبطل العلة فقد تمسكوا بطرق منها أنهم قالوا النقض يلحق العلة بعد أن نقضت بالقول المتكافئ والأقوال المتكافئة ساقطة وبيان ذلك بالمثال أن من قال في محاولة إثبات تحليل النبيذ مائع فيحل ( كالماء ) والمعلل غير مبالي بدخول الخمر وغيرها نقضا والمعترض يقول مائع فيحرم كالخمر وهو أيضا لا يحتفل بما يرد عليه من النقض وليس أحد المسلكين بأولى من الثاني وهذا فيه نظر عندنا من جهة أن بطلان المسلكين كان لوقوعهما طردين خارجين عن مسالك المعاني والأشباء المعتبرة فلا يكاد يقوى التعلق بهذا والمعترض متمكن من إبداء وجه من الإبطال سوى ما ادعاه المتمسك بالطريقة
971 - ومما تمسك به هؤلاء أن قالوا من يدعى علة لا يخلو إما أن يدعيها عامة أو يدعيها خاصة ( فإن ادعاها خاصة ) فلتنحصر على محل النص وإن ادعاها عامة ولم تعم فليست وافية بحكم العموم فإنها إذا تعدت لم يكن محل في تعديها أولى من محل وهذا على رشاقته لا يستقل دليلا فإن للمعترض أن يقول أطردها ما لم يمنعي مانع فإن ظهر مانع عللته واستمرت على الطرد في غيره
972 - ومما تتعلق به هذه الطائفة أن من يطرد العلة مدع جريانها متحديا
باطرادها مشبه بمدعى النبوة المؤيدة بالمعجزة فإنه يتحدى بها قائلا لا يأتي أحد بمثلها فلو أتي آت بها بطل تحديه وهذا تخيل لا حاصل له من جهة أن من يعلل النقض لا يتحدى بعموم العلة والمعجزة لا تدل على الصدق قطعا مع فرض صدورها من كذاب
973 - وربما يستدل القاضي رحمه الله لهؤلاء بكلام منشؤه الأصل والقاعدة المعتبرة في الباب وهو أنه قال قد عرفنا تمسك الأولين بالمعاني الجارية فاتبعناهم ولم يثبت عندنا أن معانيهم كانت تنقض ولا ينفكون عنها فهذا مما لا يقطع بثبوته عن الأولين ولا معتصم في إثبات العمل بالقياس إلا الإجماع والاتباع وهذا الكلام وإن كان آثر مما تقدم فقد ينقدح فيه أن يقول قائل ما صح عندنا أنهم كانوا يحذرون ويحترزون ويتصونون تصون المتأخرين ولكنهم يطلقون المعاني ثم إن عن مخالف عللوه وميزوه عما فيه الكلام ( إذ ) كان كلامهم تأسيسا وابتداء ولم يكن كلامهم محررا يدور في النفوس ( منضجا ) بنار الفكر متقدا بذكاء السبر فلا وجه لما ذكره القاضي إذا
974 - وأما من لم يرد النقض مفسدا للعلة فإنه يتمسك بوجوه منها أن الصيغ العامة الواردة لا يمتنع تخصيصها إذا قامت دلالات تقضي التخصيص فإن لم تقم جرت الصيغة على عمومها ولفظ المعلل لا يزيد منصبه على لفظ الشارع ثم المتمسك بالصيغة العامة من لفظ ( الشارع ) يتعلق بها وهي على تجويز أن يخصص بدلالة
975 - وقد قال القاضي هذا إنما يلزم من يثبت للعموم صيغة ولست منهم وقال أيضا في إلزام المعتزلة البيان عندكم لا يتأخر عن مورد الخطاب ويقتضي ذلك أن تقترن القرائن المخصصة باللفظ فهو مع قرائنه محمول على الخصوص وهذا يناظر في علة المعلل ما يتقيد بقرينة مخصصة حذرا مما يفرض نقضا واردا على اللفظ العام وقال أيضا متحكما على من أثبت للعموم صيغة التخصيص على رأي هؤلاء هو الاطلاع على قرينة ولو فرضت صيغة عامة في وضعها متجردة عن القرائن اللفظية والحالية لكانت نصا في اقتضاء العموم فإذا ليس للتخصيص معنى إلا ذهاب المخصص عن قرينة مخصصة ثم اطلاعه عليها
976 - والذي ذكره القاضي في إلزام من منع تأخير البيان عن وقت مورد الخطاب لازم كما ذكره وأما الاحتكام على المعممين بأن الصيغة لو قدر ورودها مجردة لكانت نصا ففي كلام الشافعي رحمه الله رمز إلى التزام ذلك والذي نراه رأيا على مذهب المعممين أن اللفظة إن كانت مجردة عن قرائن الحال والمقال فليست نصا في اقتضاء العموم ولكنها ظاهرة والصيغ منقسمة إلى ما يقع نصا في الوضع وإلى ما يقع ظاهرا والصيغة المجردة في العموم من الظواهر فإن من أطلقها في محاوراته ثم زعم أنه لم يرد بها الاستغراق المحقق لم يكن آتيا منكرا ولكن يقدر مؤولا نعم إن اقترنت بالصيغة قرينة لفظية أو حالية
تحسم مواد التأويل والتخصيص فالصيغة إذ ذاك نص لاقترانها بما يلحقها بالمنصوص عليه وقد مضى في ذلك قول شاف في كتاب العموم والخصوص
977 - والجواب إذا عن استمساك هؤلاء بتخصيص العام أن تخصيصه ليس انحرافا عن موجب اللسان واقتضاؤه العموم ليس نصا قاطعا ولو رددنا ( القياس ) لما علمنا بموجب ظاهر مع تعرضه للتأويل فإن العمل المبتوت لا يرتبط بمشكوك فيه أو مظنون والعمل بموجب الظاهر معلوم ولا يترتب العلم على الظن والعمل بالظاهر مستنده إجماع الماضين وهو مقطوع به ثم تبين منهم التأويل والتخصيص عند قيام الأدلة المعارضة لوجه الظن في الظاهر كما تقرر في كتاب التأويل قوانين الكلام فيما يقبل ويرد
978 - وأما المعلل فإنه مستنبط علة مظنونة ومعتمدة في استنباطها ظنه لصلاحها فإذا طرأت مسألة ( قاطعة لها ) مانعة من طردها انبتر ظنه وبطل مستند استنباطه إذ ليست العلة التي استنبطها معولة في نفسها على ظاهر أو تنصيص فلا معنى للتعلق بالعموم على أن ما نحاوله في النفي والإثبات محاولة القطع وتأسيس الأصول والأقيسة لا تجول في مواضع القطع وإنما تجولها في المظنونات
979 - ومما تعلق به من يجوز تخصيص العلة أن قال إذا لم يبعد تخصيص العلة بزمان لم يبعد اختصاصها بمسائل وأراد بذلك أن الشدة المطربة علة في تحريم الخمر ولم تكن علة قبل نزول تحريمها وهذا كلام
ساقط فإن المعاني الظنية في الأقيسة العملية لا تقتضي الأحكام لأعيانها ولكن تتبع في موارد الشرع بها أو بأمثالها وكان الشرع متبعا فيها ويجوز تقدير النسخ عليها والذي نحن فيه من ( فن ) الاستنباط المظنون بعد قرار الشريعة والانتقاض يوهي ظن المستنبط على تحقيق فأين يقع هذا من جواز تبديل الأحكام
980 - ومما تعلق به هؤلاء جواز تخصيص علة الشارع قالوا فإذا لم يمتنع ذلك في علة الشارع والصدق ألزم له فلا يلزم المستنبط ما لم يلزم الشارع وهذا أيضا كلام غث فإن الشارع إذا علق الحكم بعلة لا تناسب صح وإن كان ذلك طردا لو صدر من المستنبط وسيكون لنا كلام في تخصيص علة الشارع في مسألة معقودة إن شاء الله تعالى فهذه عيون كلام الفريقين
981 - والمسلك الذي نختاره أن المستنبط إذا نصب علة فورد على مناقضة طردها نقض فإن كان ينقدح من جهة المعنى فرق بين ما يرد نقضا وبين ما نصبه المعلل علة له فإن علته تبطل بورود النقض والسبب فيه أنه إذا نظم فرقا بين ما ألزم وبين محل العلة فيصير ما عكسه في محل العلة قيدا لما أطلقه علة ويتبين بهذا أنه ذكر في الأبتداء بعض العلة وأظهر أنه علة مستقلة فإذا أراد التقييد وانتظمت له علة ( مقيدة ) فالعلة الآن سليمة ولكنه منقطع من جهة ادعائه في أول الأمر وابتدائه أن ما جاء به دليل مستقل ( و ) لو لم يصرح بكونه دليلا تاما فالحالة المعهودة بين النظار قرينة مصرحة ( بذلك ) فإنه يسأل أولا عن الحكم فإذا أبان مذهبه ( فيه ) طولب بالدليل عليه فإذا ذكر كلاما في أسعاف السائل المطالب
بالدليل وقطعه وسكت على منقطعه كان ذلك مشعرا بادعائه أن ما جاء به كلام تام ولو جلس الناس يشتورون باحثين فذكر ذاكرا معنى وسبره وخبره فلم يطرد فقيده تقيدا فقهيا كان كذلك له إذ هو في مهلة النظر ومحاولة استتمام الاجتهاد فهذا حقيقة القول في ذلك
982 - ولو اعترضت مسألة على العلة نقضا وكان لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة فإن لم يكن الحكم فيها معللا مجمعا عليه أو ثابتا بمسلك قاطع سمى غير أن المعلل استثناها بمذهبه فعلته تبطل فإنه مناقض لها وتارك للوفاء بحق العلة فإذا لم يف بحق طردها فكيف يلزم الخصم حق طردها في موضع قصده
983 - وإن طرأت مسألة إجتماعية وكان لا ينقدح بينها وبين العلة فرق فهذا موضع الأناة والاتئاد فإن كان الحكم الثابت فيها على مناقضة علة المعلل معللا بعلة معنوية جارية فورودها ينقض العلة من جهة أنها منعت العلةالجريان وعارضها بفقه وهي آكد في اقتضاء بطلان علة المعلل من المعارضة كما سيأتى فإن المعارضة لا تهجم على الطرد بالقطع بل يستقى حكمها من أصل آخر لا ينقض طرد العلة بل يصطدم موجب العلة على التناقض في محل البحث فإذا كانت المعارضة وهي على هذه الصفة ناقضة فالتي ترد مناقضة وقاطعة للطرد أولى بالإبطال
984 - وإن طرأت المسألة قاطعة للطرد ولم ينقدح فرق وكان لا يتأتى تعليل الحكم فيها على المناقضة بعلة فقهية ( فهذا ) موضع التوقف
985 - وقد ذكر القاضي على الجملة ترددا في أن القول ببطلان العلة بما يقطع طردها من القطعيات أو من المجتهدات حتى يقال كل مجتهد فيه مصيب أو مؤاخذ بحكم اجتهاده والذي أراه في ذلك أن الصور التي قدمناها قواطع ومبطلات قطعا وإنما النظر والتوقف في المسألة المانعة من الطرد التي لا ينقدح فرق بينها وبين محل العلة ولا يتأتى في تعليل حكمها على المناقضة معنى وكانت تلك المسألة مما يقال فيها إنها لا يعقل معناها فإذا تصورت ( المسألة بهذه الصورة انقسم القول فيها عندي أيضا فإن كان حل العلة من المسألة اللازمة واقعة ( موقع ) ما يكون في معناه علما وقطعا فالعلة تبطل أيضا من جهة أن التحاق ما في معناها ( بها معلوم ) وأصل وضع العلة مظنون ولا يعارض ظن ( علما ) وإن لم يكن محل العلة منها بهذه المثابة وإنما جرت تلك المسألة شاذة فعند ذلك قد يظن الظان أنها تقطع العلة وتنقضها من جهة أن المستنبط إذا عثر عليها وهى ظنه في نصب ما ظنه علة إذا وجد في الأصل الشرع ما يخالف ذلك ويجوز أن ينقدح له ما عينه علة مناط الحكم إلا أن يمنعه استثناء شرعي لا يعقل معناه
986 - والقاضي إنما تردد في هذه الصورة وهي لعمري موضع التردد والذي نراه فيها أن ورودها لا يقطع العلة إذا كانت العلة ( فقهية ) مناسبة وإنما يلزم المعلل إجراء المعنى ما استمكن منه
والدليل عليه أنا نجد في الشريعة عللا فقهية متفقا عليها في الصحة وقد طرأ عليها استثناء الشرع في مواقع لا تعلل وهذا كجريان العلة في اختصاص كل متلف أو متعد أو ملتزم بالضمان ولا أحد ينكر جريان هذا المعنى في الشرع مع العلم بأن العاقلة تحمل العقل وحملها له خارج ( عن القاعدة ) فإذا وجد أمثال ذلك ( في ) قاعدة الشريعة بنينا عليه طرد المعنى الفقهي المناسب ولم نكع عن التمسك به لورود شيء لم يعلل وأنا فيما ذكرته على قطع فإن معتمدنا فيما نأتي ( ونذر ) ونقبل ونرد من طريق العلل الاتباع للإجماع وقد علمنا قطعا جريان هذه العلل ( في الكليات ) وإن استثنى الشارع منها ما استثنى فمنكر هذه المعاني وقد تأيدت باللإجماع كمنكر أصل القياس والسر في ذلك أن مالا يعقل معناه في مستثنى الشارع والمستثنى لا يقاس عليه وكأنه منقطع عن كثر الشريعة ولا يعتبر شئ منه ولا يعترض به على شئ فهذا سبيل إجرائها فإن كان ينقدح فيها معنى على حال فهو ملتحق بالإقسام المبطلة التي تقدم ذكرها فهذا بيان الأصل ونحن نضرب أمثالا وننزل عليها تحقيق ما نبغيه نفيا وإثباتا
987 - فنقول إذا أردنا إجراء علة في تخصيص الغرامة لمختص بسببها و ( مقتضيها ) طردناها غير ملتزمين بتحميل العاقلة على قطع وتحملهم لا
يعترض على ما تمهد من المعنى فلو ظن ظان أنه ينقدح في تحمل العاقلة معنى يصلح على السبر مأخوذ في المعاونة فهذا غير سديد فإن ذلك لا يجري فيما يتفق تلفه من الأموال وهو أعم وجودا وأغلب وقوعا 0 من ) القتل الواقع خطأ أو على شبه العمد ثم الإعانة في الشريعة إنما تجب إذا كان المعان معسرا وعلى هذا نظمت أبواب النفقات ( والكفارات ) فالقاتل خطا يتحمل عنه وإن كان من أيسر أهل زمانه فليس لمثل هذه التخييلات اعتبار
988 - وكذلك إذا طردنا طريقة في إيجاب المثل في المثليات التي تتشابه أجزاؤها فألزمنا عليها إيجاب رسول الله صلى الله عليه و سلم صاعا من التمر في مقابلة لبن المصراة لم يحتفل بهذا الإلزام ولا تعويل على قول المتكلفين إذ زعموا أن اللبن ( المحتلب ) في أيام ابتلاء الغزارة والبكاءة يقع مجهول القدر فرأى الشافعي رضي الله عنه فيما ورد الشارع فيما يقل ويكثر إثبات مقدر من جنس درءا للنزاع فإن هذا لا جريان له أصلا ويلزم طرد مثله في كل مثلي جهل مقداره وليس لبن المصراة مما يعم ويغلب الابتلاء بالحكم فيه وإن أمثال هذه المعاني البعيدة إنما تثبت بعض الثبوت إذا تقيدت وتأيدت بعموم البلوى على أنها لو كانت كذلك أيضا لكانت من المعاني الكلية التي لا تتخلص في مسالك العرض على السبر ثم تعيين جنس التمر كيف يهتدى إلى تعليله وإنما المطلوب فيما فرضنا الكلام في الجنس المعدول إليه لا في المقدار فإن
ما ذكر من دوام النزاع يقدر انقطاعه بتقدير مقدار من النقدين وهما أثمان الأشياء إذا عسر تقدير الأمثال فاطرد إذا ما ذكرناه واستبان أن أمثال هذه المستثنيات لا تعترض على القياس المعنوي
989 - ومما يضرب مثلا الكتابة الفاسدة فإذا قال الشافعي الملك لا ينتقل إلا بمسلك شرعي والفاسد حائد عن سبيل الصحة غير واقع الموقع المطلوب في الشريعة فلا وقوع له في مقصود العقد الصحيح كان ذلك كلاما بالغا حسنا فإن ألزم ( الخصم ) عليه الكتابة الفاسدة فإنها في تحصيل مقصود الكتابة نازلة منزلة الكتابة الصحيحة والوجه أن يقال للملزم أتعترف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة المعاني أو تدعي جريان المعنى فيها فان ادعى جريان المعنى ( فيها ) فلا يفي بإظهاره إذ ليس في يدي من يتمسك بالكتابة الفاسدة إلا تشبيه محض ولا يستقل معنى بصحيحه السبر في إحلال الكتابة الفاسدة محل الكتابة الصحيحة فإن قال الملزم ليس على المناقض أن يبدي جامعا معنويا بين صورة النقض وبين محل علة الخصم فتكليفكم إيانا إبداء معنى التكليف شطط فإن النقض يلزم من جهة قطعة طرد العلة لا من جهة انتظام رابط بينه وبين محل النزاع وهذه مزلة يجب التثبت عندها فإنا نقول للخصم ما رأيك في علة يطردها الطارد ومضمونها ألا تزر وازرة وزر
أخرى فهل تبطل عندك بتحمل العاقلة العقل فإن سبق إلى مذهب ( من ) يبطل العلة بورود مثل ذلك عليه بطل عليها مذهبه بما تقدم ونسب إلى رد باب عظيم من العلل المتفق على صحتها فإن الأمة قاطبة مجمعون على طرد هذه العلة ( مع أعترافهم بما شذ منها ولا يحكمون على هذه العلة في هذه القاعدة الكلية بالفساد لشذوذ مسألة عن القاعدة ورأى ذوى الأبصار ألا يحكموا بالشاذ على الكل ولكنهم لا يتركون الشاذ على شذوذه ويعدونها كالخارج عن المنهاج
990 - وإن قال الملزم أسلم أن ما ذكرتموه لا يبطل بتحمل العاقلة قلنا لهم والكتابة الفاسدة عندنا بهذه المثابة وآية ذلك أن معناها الجلي يجري في الكتابة الفاسدة وإن فسد عوضها فليس يفسد معنى تعليق العتق فيها وهذا يشير إلى فرق قلنا ما ذكرته خارج عن الطريقة فإنه إيماء إلى وجه من الصحة لو استمر القول فيه والذي نحاوله ألا يثبت للفاسد حكم أثبت للصحيح لجلب مسألة
991 - وإن قال الخصم خذوا الكتابة في منزلة المناقضة شبها فإن الشبة في الأقيسة صحيح مع افتقارها إلى الجوامع فلأن يلزم مسلك الشبه نقضا أولى وليس على الناقض جمع قلنا هذا أوان كشف الغطاء في هذه المحال فنقول لا مشابهة بين صحيح الكتابة وصحيح البيع فإذا لم يتشابها في منزلة الصحة فكيف يتشابهان في الفساد وإن ( قنع ) الملزم بلفظ يجمع البابين ألزم على مقصوده إيراد تحمل العاقلة على أبواب الغرامات
فلاح بما تمهد أنه لا متمسك للخصم بالكتابة الفاسدة على وجه لا على سبيل التعليل ولا على سبيل المناقضة
992 - ومن أمثلة هذا الفصل الاكتفاء بالخرص على من يدعونا إلى التقدير بالكيل أو الوزن الضابطين فالأصل الضبط بالممكن في كل جنس ولكن الخرص أثبته الشرع لحاجة في قضية مخصوصة فهو من المستثنيات ولكن قد ينقدح في هذا المحال أن الوزن أضبط من الكيل ثم الكيل متعين في بعض الأشياء مع أمكان الوزن فالخرص في محل الحاجة كالكيل في المكيل ( بالأضافة إلى الوزن ) فلا يتضح خروج الخرص بالكلية عن القانون حسب أتضاح خروج تحمل العاقلة والكتابة الفاسدة والسبب في ذلك ما جاء ( به ) من المعنى من شوائب التعبد في تعين الكيل مع إمكان الوزن ولكن وإن كان الأمر كذلك فالأصل الرجوع إلى العرف فيما يعد تقديرا فالخرص معدود من الحدس والتخمين المجانب لمدارك اليقين وعلى الجملة بين الداعى إلى التقدير وبين ملزم الخرص تجاذب وتداور من مثل ما ذكرناه والوجه درء الخرص بالمسلك الذي ذكرناه كما تقدم
993 - فإن علل معلل في قطع الخيار عند ظن ( صفة في العبد المبيع ) من غير تصريح والكلام مفروض في ظهور مخايل وأمارات مشعرة بالصفة المطلوبة فثبوت الخيار عند التصرية إذا قال به المعلل ( ينقض تعليله ) فإن إشعار التصرية بإبداء
غزارة اللبن واضح وليس ببعيد عن مسلك المعنى تعليل الخيار فيه وإذا لم ينقض تعليله ببعد التعليل ( على ) حال لزم ما يجري التعليل فيه نقضا فآل مآل الكلام إلى أن ما يورد نقضا إن كان لا ينقدح فيه وجه سديد على جلاء أو خفاء في المعنى فقد استمسك المعلل بالمعنى ولا مبالاة بما وقع مستثنى عن المسلك الذي ارتضيناه فإن كان يثبت فيه معنى وإن خفي وبلغ خفاؤه مبلغا لو عورضت علته بعلة في رتبة علة المعلل لكانت رتبة علة المعلل مرجحة فالالتباس بين الرتبتين لا ينتهض دارئا للنقض ولا احتفال بتخيل معنى ( كلي ) يظنه الظان على بعد كالمعاونة في تحمل العقل وسبيل تداينه من الكتابة الفاسدة فهذه مجامع الكلام في ذلك
994 - وقد رسم القاضي رحمه الله مسألة في أن الحكم ببطلان العلة عند ورود النقص وصحتها قطعي أو ظني وقد ظهر ميله إلى إلحاق ذلك بالظنيات وقد ذكرنا فيما تقدم أن القاضي إنما وقف إذ كان النقض لا يعلل وقد بينا في التفصيل الذي انتجز الآن مدرك الحق وهو مقطوع به عندنا فليتبع الناظر تأمله وليستعن بالله تعالى مسألة
995 - اختلفت مذاهب الأصوليين في أن علة الشارع هل يرد عليها ما يخالف طردها
فذهب الأكثرون إلى أن ذلك غير ممتنع في علة الشارع من جهة أن قوله متبع في تخصيصه وتعميمه و لا معترض عليه إذا خصص علة بمحل ولم يعملها في غير ما نص عليه والمستنبط معتمدة ظنه وإذا تقاعد المستنبط عن الجريان ضعف مسلك ظنه وليس له أن يحتكم بتخصيص العلة
996 - وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن علة الشارع يجب طردها كما يجب في العلة المستنبطة
997 - وهذه المسألة عندنا قريبة المأخذ نزرة الفائدة ليس فيها جدوى من طريق المعنى والوجه فيها أن ما نصبه الشارع على صيغة العلة إن لم يكن نصا في كونه علة بل كان ظاهرا في هذا الغرض فإذا ورد عليه ما يمنع جريان العلة فيظهر منه أن الشارع لم يرد التعليل وإن ظهر ذلك منه في مقتضى لفظه وتخصيص الظواهر ليس بدعا
وأن نص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل تصدى في ذلك نوع آخر من النظر وهو أن ما نصبه علة إن عم نصبه على صفة لا يتطرق إليها تخصيص ببعص الصور التي تطرد العلة فيها فلا مطمع في اعتراض ما يخالف طرد العلة وقد ثبت والأمر على ما صورناه على القطع أمران
أحدهما انتصاب المعنى المذكور علة والآخر جريانه على اطراد من غير اعتراض مخالف ونص الشارع لا يصادم
وإن نص الشارع على نصب شيء على الجملة ونص على تخصيصه في كونه علة بمسائل معدودة ومواقع محدودة فليس يمتنع ذلك على هذا الوجه فإن علل الأحكام لا تقتضيها لذواتها وأعيانها وإنما تصير أعلاما عليها إذا نصبت ثم إذا نصبها الشارع في محال على الخصوص دون غيرها فلا معترض عليه في تنصيصه وتخصيصه ولو نص على نصب علة على وجه لا يقبل أصل النصب تأويلا ولم يجر في لفظ الشارع تنصيص على التعميم على وجه لا يؤول ولا تنصيص على التخصيص بمواقع مخصوصة فحكم هذا اللفظ الإجراء على العموم ولكن لا يمنع قيام دليل على تخصيص العلة ببعض الصور
998 - فأما ما ذكرنا أن للشارع أن يصرح بالتخصيص ولا يكون في تصريحه بالتخصيص تناقض مع التنصيص على التعليل في موقع الخصوص فإذا كان لا يمتنع التصريح ( بهذا وليس في اللفظ ما يأباه إباء النصوص وليس يمتنع إزالة الظواهر ) فيخرج من مجموع ذلك أنه لا يمتنع تخصيص العلة ببعض المسائل
999 - والأستاذ أبو إسحاق يمنع النص على التعليل على وجه لا يقبل التأويل مع تجويز التخصيص ويقول إن تعرض اللفظ لقبول الخصوص في جريانه لزم أن يكون في وضعه متعرضا للحمل على غير قصد التعليل ولو كان نصا في قصد التعليل فهو نص في قصد التعميم إذ لو لم يكن كذلك لكان خروجه عن حكم العلة في بعض المسائل متضمنا خروجه عن حقيقة العلة في أصل الوضع وذلك يخالف موجب التنصيص على كونه علة وهذا الذي ذكره يعترض عليه التنصيص على النصب مع التنصيص على
التخصيص ببعض المسائل فإن ذلك سائغ في الوضع ولو كان التخصيص ببعض المحال مخرجا للمنصوب عن كونه علما لكان الجمع بين التنصيص على النصب والتخصيص متناقضا وفي كلام الأستاذ تشبيب بمنع هذا وهو في مجاري كلامه جسور هجوم على منع ما لا سبيل إلى منعه فإن قدر منه القول بهذا رد الكلام معه إلى ما تقدم ذكره من كون هذا غير ممتنع من جهة أن أعلام الأحكام لا تقتضيها لأعيانها وإنما معنى كونها عللا أنها أعلام تنتصب بنصب الشارع وإذا كان كذلك ( فلا معترض ) على من ينصب علما في تعميمه وتخصيصه ولذلك لا يمتنع أن ينصب الشارع علما مثله متى طرده ولم يتضمن إشعارا ولا شبها مقبولا
1000 - فهذا منتهى القول في هذا الفصل وعلى الجملة تخصيص المستنبط علة ينفصل عن تخصيص الشارع فإنه ليس للمستنبط وضع العلل على اختياره وإنما له النظر إلى درك ما يتخيله موضوعا بمسلك الظنون وإذا لم تجر العلة عامة فقد وهى ظنه على ما فصلنا القول في ذلك كما نفصل القول فيه قبل أن بينا المختار فيما يجوز ويمتنع
فصل
( في ) توابع القول في النقض جدلى يعين على مدرك المقصود المعنوي 1001 - فإذا نصب الناصب علما مستنبطا وذكر لفظا مقتضاه العموم فطرا نقص فقال أخصص لفظي بغير المسألة الواردة نقضا فإن ( تقييد ) اللفظ إلى فكيف السبيل إلى ذلك والقول في هذا يتصل الآن بتفسير العلم وما يقبل منه وما لا يقبل وأما التخصيص فيترتب الأمر فيه على ما يسوغ ويمتنع من طريق المعنى أولا فإن خصص تخصيصا يمنعه فهو غير مقبول منه وقد ( ذكرنا ) في تفصيل المعنى المقصود من هذا الفصل ما يبطل العلة من ( النقوض ) وإن كان ذكر تخصيصا لو صرح به لم يمتنع مثل أن تكون المسألة الواردة غير معللة وقد تقرر أن ما لا يعلل في حكم المستثنى فإذا أطلق المعلل ( لفظه ) عاما ثم لما ورد عليه مثل ما وصفناه الآن حاول تخصيص ( عموم لفظه فهذا الآن تعلق بالجدل فإن المسألة الواردة ليست مبطلة من طريق ) المعنى فقال قائلون من الجدليين إطلاقه لفظه إشارة في بناء الكلام منه فإنه معمم للكلام ملتزم طردا فإذا وردت المسألة بإزائه لم يف بما التزمه
1002 - ونحن نقول الأحسن أن يشير إلى ما يرد تصريحا وتلويحا مثل أن يقول هذه علة ما لم يستثن الشارع فإن لم يتعرض لهذا فلا معاب فإن
العلل إنما يلتزم المستنبط طردها إذا لم يحتكم الشارع في استخراج بعض المسائل فليس على من يطرد علة في الغرم على المتلف أو علة في نفي الغرم على من لم يتلف التعرض للعاقلة وحملها وهذا يظهر في الذي طرأ استثناؤه والقول في ذلك كله قريب من المعنى واعتقاد كون الوارد غير خارج
1003 - ومما يتعلق بالتفسير أن المعلل إذا ذكر لفظة مجملة ثم استفسر السائل ففسرها فقد اختلف الجدليون في ذلك فجوزه بعضهم وامتنع منه المحققون فإن الغرض من المناظرة التفاوض بما يعلم ويفهم ومن ذكر لفظا مجملا وسكت عنه فحاله مشعر بإسعافه على قطع السائل الطالب بالدليل ومن حكم إسعافه إياه أن ( يفهمه ) ما طلبه وإذا لم يفهمه فقد أظهر أنه مسعف والأمر على خلاف ما أظهر فإن ذكر لفظا مفهوما في وضعه واستراب السائل فيه واستفسر فالذي يأتي به المجيب من إرشاد وهداية ليس تفسيرا وإنما هو تنبيه للسائل على قصوره عن درك ما هو مفهوم في وضعه ويخرج من جملة ذلك أنه ليس على المعلل تفسير فيما ذكرناه فإن أتى بمجمل فقد قصر وعد ذلك من سوء الإيراد وإن لم يكن منقطعا في المعنى فإن أتى بلفظ مستقل مفهوم في وضع اللسان فلا حاجة إلى التفسير والذي نذكره عند ( الاستبهام ) على السائل سبر تقصير لا سبر تفسير وقد ( نجز القول ) في النقض وهو في التحقيق تخلف الحكم مع وجود العلة المدعاة
ونحن نبتدىء الآن القول في تخلف العلة مع جريان الحكم ( الخامس من الاعتراضات )
1004 - وهو الاعتراض المترجم بعدم التأثير ونحن نجري في رسم هذا الفن على مسالك الأولين وتقسيمهم ثم نذكر بعد نقل مراسمهم وجه التحقيق إن شاء الله تعالى
1005 - قال أصحاب الجدل عدم التأثير ينقسم إلى ما يقع في وصف العلة وإلى ما يقع في أصلها ( فأما ) الواقع في ( الوصف ) فهو عدم الانعكاس وقد سبق في ذلك قول بين بالغ يطلع على الأسرار والنهايات ونحن نذكر الآن ما يليق بهذا المقام ولا نغادر مضطربا معنويا ولا جدليا فنقول العلة ( المعنوية ) إذا اطردت فإنها كما تشعر بالحكم في إطرادها فقد يشعر عدمها بعدم الحكم ( على حال ) ولكن لا يبلغ ( إشعار ) العدم بانتفاء الحكم ( مبلغ ) إشعار الوجود بالوجود وسبب ذلك أنه لا يمتنع في وضع المعاني ارتباط حكم بعلل تجويزا وإن كنا ادعينا فيما تقدم أن ذلك غير واقع وأن ما ظنه الخائضون في هذا الفن حكما معللا بعلل في التحقيق أحكام
وهو كقولهم تحريم المحرمة الصائمة المعتدة الحائض معلل بهذه العلل المزدحمة وقد ذكرنا أن كل قضية من هذه القضايا توجب حكما مغايرا لحكم القضية فلا يعدم الأنيس بالفقه استمكانا من تقدير التعدد في الموجبات بوجوه ترشد إلى التغاير والاختلاف وقد يظن الظان ( في هذا المقام ) أن المسئول إذا فرض الكلام في طرف من أطراف المسألة لغرض وإيضاح كلام فصورة الغرض تختص بعلة وتشبهها مع سائر الأطراف علة عامة وإذا كان كذلك فقد علل الحكم في هذا الطرف بعلة خاصة هي مقصود الفارض وعلة عامة وهذا على حسنه غير صاف عن القذى والكدر
1006 - وأنا أضرب في ذلك أمثلة توضح الغرض فأقول إذا قدم الغاصب الطعام ( المغصوب ) إلى إنسان مضيفا فأكله المضاف ظانا أن الطعام ملك المقدم المضيف فقرار الضمان في قول الشافعي على المقدم ومعتمد هذا القول تقدير التغرير وكون ( الغرور ) مناطا للضمان وقد قال أبو حنيفة لو أكره الغاصب إنسانا على تناول ذلك الطعام فالقرار على الطاعم وإن كان مجبرا ( موجرا ) كما إذا كان مختارا في التناول فإذا فرض الفارض الكلام في صورة ( الإكراه ) فهذه الصورة لا يجرى فيها
عموم التعليل بالتغرير إذ الإجبار ينافى الاغترار ومن ضرورة الاغترار فرض الاختيار في المغرور مع استناد اختياره إلى اغتراره فأما المجبر المكره فلا يتصور تصوره مغترا وإن فرض منه ظن فليس ذلك الاغترار المعنى فهذا النوع من الفرض غير معنى من جهة أنه يجانب محل السؤال أولا ( والفرض ) المستحسن هو الواقع في طرف يشتمل عليه عموم سؤال السائل وذلك محمول على استشعاره انتشار الكلام في جميع الأطراف وعدم وفاء مجلس واحد باستتمام الكلام فيها فإذا فرض المجيب فيستفيد بالفرض فيه التعريف على قرب ومهما تعرض المجيب للكلام فيما لم يشتمل عليه سؤال السائل لم يكن للكلام وجه إلا البناء إذ له أن يثبت كلاما في غير محل السؤال ثم يبنى عليه محل السؤال وليس ( ذلك ) من الفرض وإنما هو بناء ولست أرى في البناء في المسألة التي فرضناها وجها فإنه إذا ثبت ( أن ) الضمان لا يستقر على المكره فكيف ينبنى عليه عدم القرار على المختار الطاعم ولا معتمد في التقدير على المختار إلا الاغترار وهو مفقود في ( الإجبار ) وشرط البناء جمع فقيه بين ما عليه البناء وبين محل السؤال نعم أساء أبو حنيفة رحمه الله إذ قرر الضمان على من لا اختيار له إساءة لا ارتباط لها بمأخذ الكلام في صورة الغرور
1007 - ونحن نفرض صورة من الفرض المستحسن يتبين بها قصارى المقصود فنقول إذا سأل السائل عن نفوذ عتق الراهن فسؤاله يعم المعتق المعسر والموسر ( و ) إذا رأى المسئول ( فرض الكلام ) في المعسر فمحمل كلامه يندرج تحت سؤال السائل والفارض يستفيد بالفرض في المعسر أمرين أحدهما دفع أسئلة قد يعتاص الجواب عنها على ( البكى ) الذي لا تطاوعه العبارة فإن من أسئلة الخصم سريان العتق إلى ملك الشريك فإذا كان يسرى سلطانه إلى غير ملك المعتق فقد يبعد عن محل ملكه مع صحة عبارته فإذا وقع الفرض في المعسر فلا يلزم في أطراف الكلام سريان العتق فإن عتق المعسر غير سار على أصل الشافعي فهذه فائدة وأعلى منها أن الخصم قد يتمسك في أطراف الكلام في أن قيمة العبد في فرض المالية نازلة منزلة العبد فليس الراهن المعتق ( مفوتا على المرتهن ) غرضه من الاستيثاق بالمالية فإذا أقام قيمة العبد رهنا مقامه فهو غير معترض على محل حق المرتهن وهذا الفن من الكلام لا حقيقة له إذ ليس هو معنى من ينفذ عتق الراهن فإن عتقه لا ينفذ عند من ينفذه لإمكان إقامة القيمة مقامه بل سبب نفوذه صحة عبارته
وثبوت ملكه فيستفيد الفارض بفرضه دفع هذا الكلام الواقع فضلة لا أثر لها ( فليكن ) قصد المحقق إذا فرض مثل ذلك
1008 - والآن نذكر في هذا الفن الغرض الذي استفتحنا القول في الفرض لأجله فنقول يتجه للفارض في المعسر أن يقول استأصل المعتق المعسر لو نفذ عتقه حق المرتهن بكماله مشيرا إلى أنه لا يجد ما يبذله غارما فيظهر كلامه من جهة الاستئصال والتسبب إلى قطع حق المرتهن من الاستيثاق بالكلية وهنا وقفة محتومة على طالب الغايات فنقول من منع نفوذ العتق يكتفى بما يقرره بأن نفوذ العتق لو قبل منه أدى إلى قطع حق لازم للمرتهن في عين الرهن فإذا كفى هذا فأي حاجة إلى التعرض لقطع المالية وحسم الطلب في القيمة يوشك لو تفطن الفارض أنه يقع في المحذور الذي نبهنا عليه الآن وهو النطق بما لا اعتناء به ولا وقع له فإن قال قائل ما المانع من ازدحام علتين في هذه الصورة إحداهما قطع المالية بالكلية والثانية قطع حق المرتهن عن العين المخصوصة فيكون امتناع النفوذ معللا بعلة خاصة وهي قطع المالية وأخرى عامة وهي قطع الحق عن عين العبد ( فإن ) هذا مما يعم الموسر والمعسر وإنما تتبعنا هذا الكلام مع فوائد جمة لهذا الغرض
1009 - ونحن نقول هذا ليس بشيء فإن المالية ليست مرعية في حق المرتهن وإنما المعتبر حق استيثاقه بعين يتمسك به إذا اعترض له توقعات العسر
في الذي يقع في الذمم وهو ( يأنس ) مستوثقا بالعين التي استمسك بها فهذا غرض الرهن وإذا لم يكن الراهن مطالبا بالدين فقد خرج عن مقصود الرهن ولهذا السر لا يجوز رهن الدين نعم لو فرض من الراهن إتلاف الرهن فالشرع يتقاضاه أن يقيم قيمته مقامه إذ مسلك الشرع إثبات الضمان جبرانا لكل فائت فلا ينبغي أن تعد قضايا الشرع في مظان الضرورات من القضايا الوضعية في تأسيس الأصول وهذا يناظر عندي مسلكين في توزيع العوض على مختلفين في أحد شقى العقد عند مسيس الحاجة في شفعة لو فرض تلف أحد العوضين
1010 - وقد زل جماهير الفقهاء فاعتقدوا التوزيع مقصود العقد كما نبهت عليه في مسألة العجوة في ( الأساليب ) وهذا زلل في سوء مدرك فإن العقد ما انبنى على التوزيع وإنما هو أمر ضروري أحوج إثبات الشفعة إليه وهو إذ ذاك أقرب معتبر
1011 - وإن اعتقد الفارض في الراهن المعسر الفصل بينه وبين الموسر صار إلى أن الراهن إذا كان موسرا نفذ عتقه ويلزمه إحلال القيمة محل العبد وإن كان معسرا لا ينفذ عتقه لتعذر تغريمه وإفضاء الإعتاق فيه لو قدر نفوذه إلى إبطال اختصاص المرتهن باستيثاقه بالكلية وشبه ( ذلك ) بتفصيل مذهبه في تسرية عتق الشريك إذا كان موسرا ومنع تسريته إذا كان معسرا فاتحاد العلة على هذا المذهب أوضح فإن صاحبه متشوف إلى اعتبار انقطاع علقة المرتهن من غرض الوثيقة بالكلية وليس لبطلان حق المرتهن من غير الراهن عنده وقع أصلا ولذلك يبعد عتق الموسر الراهن فلم ينتظم على المسلكين علتان عامة وخاصة في صورة
الفرض
1012 - ومما نجريه مثالا في ذلك أن الشافعي رحمه الله إذا فرض ( من هو على مذهبه ) الكلام في مسألة ضمان المنافع في طرف الإتلاف وطرد ما يرتضيه فيه فقد يعتقد الفطن أنه يجتمع في هذا الفرض معنيان أحدهما الإقدام على الإتلاف وهو من أقوى أسباب الضمان ولذلك ( اختار ) الفارض ( تعيين هذا ) الطرف وتخصيصه بالكلام المختص به وقد اجتمع فيه الإتلاف والتلف تحت اليد العادية وهذا أقرب مسلك في تخيل اجتماع معنيين لحكم واحد
1013 - ونحن نقول فيه العلة في الضمان الإتلاف في هذه الصورة فحسب فإن التلف ( الحاصل ) تحت اليد العادية إنما يضمن من جهة اعتداء ذي اليد ومنعه الحق مستحقه فصار الضياع الذي وقع مساويا في أطراد منع المعتدى مشبها بالإتلاف فإذا تحقق الإتلاف لم يبق لتخيل التلف على دوام المنع المشبه بالإتلاف معنى والإتلاف هو المشبه به واعتقاد اجتماع المشبه والمشبه به في صورة واحدة محال
1014 - وأنا أشبه هذا المساق من الكلام بمسألة أصولية ذكرناها في أوائل هذا المجموع وهي قوله صلى الله عليه و سلم لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل فقد ذهب ذاهبون إلى أن الصيغة عامة في نفي الكمال والجواز وهذا زلل فإن العموم إنما يتحقق إذا أمكن اعتقاد اجتماع المسميات تحت قضية اللفظ المقدر
عاما حتى يكون اللفظ شاملا لها وهذا لا يتحقق فيما فيه الكلام فإن الجواز إذا انتفى لم يتحقق مع انتفائه تخيل نفى الكمال إذ من ضرورة نفى الكمال ( إجزاء ) الشيء وجوازه على حكم النقصان وقد قررنا ذلك بما فيه أكمل مقنع
1015 - وقد تبين بمجموع ما ذكرناه في تقاسيم الفرض أنه لا يكاد يجتمع معنيان وقوعا يصلح كل واحد منهما لتعليل الحكم الواحد ولكن إن لم يقع هذا ولم يتفق فليس في العقل عند النظر في قواعد الشرع بالتعبد ما يحيل ذلك ولو قدرنا وقوع هذا المجوز لما اقتضى انتفاؤه معنى عدم الحكم إذ الحكم في هذا التقدير مستقل بما بقى من المعاني فليس إشعار عدم المعنى بانتفاء الحكم على نحو إشعار ثبوت المعنى بثبوت الحكم
1016 - وأقرب مثال فيما نحاوله من الفصل بين الإشعارين أن نقول العلة المفردة المعنوية تناسب الحكم مناسبة الاستقلال بالاقتضاء ولو فرضت علة مركبة من صفات فقهية فلا يناسب وصف واحد من الأوصاف الحكم واقتضاءه مناسبة العلة المفردة المستقلة ولكنه لا يعرى عن مناسبة لائقة بالحكم مستمدة من قضية فقهية الأوصاف فلو قدرنا عللا وقدرنا انتفاء جميعها ولم يرد شرع باطراد الحكم مع انتفاء جميع العلل فإن الحكم ينتفى عند ارتفاض العلل جميعا إذ يستحيل
( تقدير ) بقاء الحكم غير مرتبط بوصف أو علة وإذا زال بعضها كان لزوال البعض أثر في ( النفس ) يضاهي زوال ترجيح وتأكد ونحن لا ننكر اجتماع الترجيحات وزوال وصف واحد من العلة ( المركبة من الأوصاف تتضمن انتفاء الحكم لاختلال العلة ) إذ هي مركبة وشرطها تكامل أوصافها فكان انتفاء الحكم محالا على ( اختلال ) العلة أصلا ولم ( نورد ) الوصف الواحد مثلا ونحن ( نريد أن نشبهه ) في كل الوجوه بآحاد العلل عند ( تقدير ) اجتماعها وإنما أوردناه لانحطاط حظه من الإشعار عن حظ العلة المستقلة عند تكامل الصفات فكل وصف من أوصاف العلة عند توافيها على حظ وكل علة من العلل التي قدرنا اجتماعها إذا انتفت على حظ من اقتضاء الانتفاء فشابه خفاء إشعار انتفاء علة من علل بانتفاء الحكم خفاء إشعار آحاد الصفات عند توافيها بالحكم
1017 - وإذا تقرر ما ذكرناه فنقول بعده إذا طرد المعلل علة فاطردت له وهو يعتقد اتحاد العلة ولو يقم عنده توقيف في ثبوت الحكم عند انتفاء العلة فإنه يعتقد لا محالة انتفاء الحكم عند انتفاء العلة ويلتزم ذلك غير أنه لا يلزمه في مراسم الجدل أن يبدي توقيفا مقتضيا منع الانعكاس إن كانت العلة لا تنعكس
1018 - وهذا يستدعي مزيد كشف الآن فنقول والله المستعان قد ذكرنا ترددا في أن العلة إذا امتنع اطرادها بمسألة غير معللة مستندها توقيف فهل يتضمن ( ذلك ) بطلان العلة وهل يوهى مسلك ظن المستنبط في روم الطرد فمن سبق إلى اعتقاد كون هذا قاطعا للطرد لا يقول إذا قام توقيف مانع من
الانعكاس تضمن ذلك بطلان روم الطرد وذلك الإشعار لا يحط الإشعار بالعكس عن الإشعار بالطرد على أنا ذكرنا أن الطرد لا ينقطع بمواقع الاستثناء أصلا ومن اعتقد انقطاعه فقوله أقرب من قول من يصير إلى عدم الانعكاس متضمن بطلان الطرد فليفهم الناظر ما يلقى إليه من تفاوت المراتب في مآخذ النظر إن كانت مستوية في عقده ولهذا المعنى نقول إذا اعترضت مسألة على مناقضة الطرد غير معللة فعلى المتمسك بالعلة أن يبين خروج المسألة المعترضة عن المعللات والتحاقها بالمستثنيات في أدب الجدل وليس على من ألزم عدم الانعكاس أن يبين السبب التوقيفي المانع من الانعكاس فإن ذلك لو فرض الخوض فيه كان داعية إلى انتشار الكلام والخروج عن الضبط الجدلي وإن كنا نرى أن العلل غير مجتمعة وقوعا وعلى المجتهد فيها أن يبحث عن طرق المناظر في الطرد والعكس وليس كل ما يلتزمه المجتهد في ترددات اجتهاده يذكره في مفاوضة من يناظره
1019 - فإن قيل هل يسوغ أن يضع المستدل كلامه مبنيا على الدعاء إلى العكس قلنا لا يستقل في هذا كلامه المطلق بل يحتاج إلى أن يقرر معناه ويبين فساد ما عداه مما انتحله الخصم وادعاه ثم يشير إلى ( انتفاء ) التوقيف المانع من الوفاء بالعكس فينتظم من مجموع ذلك الدعاء إلى العكس لما ذكرناه من الإشعار ( الخفى ) به وعليه يخرج التعلق بالعلة القاصرة حيث يصح ويظهر بطلان ما يقدر متعديا فيدعو المتمسك بالعلة القاصرة خصمه إلى الوفاء بمقتضى
العكس وسيكون لنا إلى ذلك عودة إن شاء الله تعالى عند الكلام في العلة القاصرة فهذا هو الذي أردنا إيراده في حقائق العكس في هذا المقام وقد يخرج ذلك في الاستدلال أيضا وكل ما ذكرناه معدود عند أصحاب الجدل من عدم التأثير في الوصف ( الكلام عن عدم التأثير في الأصل )
1020 - فأما ما عد من عدم التأثير في الأصل فنحن نمثله ونتكلم عليه فنقول إذا علل الشافعي منع نكاح الأمة الكتابية وقال أمة كافرة فلا يحل لمسلم ( نكاحها ) كالأمة المجوسية ولا أثر للفرق في الأصل ( فإن الحرة المجوسية محرمة والتمجس يستقل بإثارة منع النكاح والرق مستغنى عنه وذكر الرق عديم التأثير في الأصل ) والذي صار إليه المحققون فساد العلة بما ذكرناه وذهب ذاهبون إلى أن التمسك بذلك صحيح من جهة أن للرق أثرا على الجملة في المنع فذكره مع التمجس ليس عريا عن إشعار وإن كان لا يحتاج إليه وزعم هؤلاء أن هذه الزيادة مع ما فيها من الإشعار بالمنع على خفاء مشبهة بشهادة شاهد ثالث وقد استقلت الحكومة بشهادة عدلين وهذا غير سديد فإن الرق في الأصل ليس علة ولا وصفا لعلة فوقع التعرض له لغوا ولا حكم له لما فيه من الإشعار على بعد إذ كان لا ينتهض علة ولا ركنا
لعلة وليس هذا كما استشهد به من يصحح ذلك في شهادة الشاهد الثالث فإن ذلك استظهار في الحكومة والشاهد الثالث متهيء لأن يقدر أحد الشاهدين الواقعين ركنا ولا يتصور أن يقع الرق المجرد ركنا في محاولة التحريم على التعميم فقد نأى ما نحن فيه عما استشهد به من تقدم وتعين القول قطعا من سقوط العلة
1021 - وما ذكرناه فيه إذا كان للوصف أثر على بعد في أصل الحكم المطلوب وإن كان لا يؤثر في تفصيله فأما إذا كان الوصف الزائد غير محتاج إليه ولم يكن معه إشعار نظر فإن لم يكن في ذكره غرض فهذا لغو لا وقع له ولا يقضى بأنه يبطل العلة إذا كانت مستقلة مع حذف الزيادة ولكن ينسب ذاكرها إلى الهذر وذكر ما لا يحتاج إليه وهذا في مراسم الجدل كترك السنن والهيئات في العبادات ولو كانت العلة تنتقض لو قدر حذف الزيادة والزيادة لا إشعار لها فهي عند المحققين منحذفة غير عاصمة من النقض وذهب القائلون بالطرد إلى قبول هذا ورأوا ذلك أولى من الطرد المجرد من حيث انطوت العلة على فقه على حال ووجه ولصاحب هذه الزيادة درء النقض
1022 - ونحن نقول إن كان النقض ينفصل عن محل العلة فذاكر العلة غير آت بتمام العلة ولا يقع الانفصال بالزيادة التي أثبتها والعلة باطلة وإن كانت المسألة المعترضة ( غير معللة فلا ضير في ذكر الزيادة فإنها منبهة على كون المسألة المعترضة ) ملتحقة باستثناء الشارع وقد جرى التنبيه على ذلك
وتقدم فهذا تمام القول فيما أردناه
1023 - وعلينا الآن فضل كلام في فصل الأصحاب بين عدم التأثير في الوصف ( وعدم ) التأثير في الأصل فنقول عد الجدليون عدم التأثير في الوصف قولا في العكس كما تفصل وفسروا عدم التأثير في الأصل بذكر صفة لا تستقل علة وعلة الأصل تستقل دونها والذي نراه أن القسمين ينشآن من الأصل فإن فرض الأصل معللا بعلل ( فالعلة ) الواحدة لا يتضمن انتفاؤها انتفاء الحكم وهذا منشؤه من تعدد العلة في الأصل وإن اتحدت العلة جر ذلك الانعكاس والقول في ذلك كما مضى فوضح أن تقسيم الكلام إلى الأصل والوصف لا حاصل له
1024 - ونحن الآن نسرد في بسط المقالات كلاما مجموعا في الخلاف والوفاق حتى يجدها الناظر مجموعة فقد أطلنا ( التقرير ) بعض الإطالة فنقول ذهب شرذمة إلى اشتراط الانعكاس جملة وهذا مذهب مهجور وعلى قلة البصيرة محمول ولست أعدها مقالة معتدا بها فأما التزام الانعكاس مع اتحاد العلة وانتفاء توقيف مانع منه فلا بد
منه عندنا وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يلزم لأن إشعار النفي كالمنفى والمقصود طرد خفي لا استقلال له والإنصاف في ذلك أن يقال إنه لا يلزم في الاجتهاد والمطالبة به لا تحسن في الجدل والمعلل إذا ألزم فله الاكتفاء برد الأمر إلى إبهام في المانع من العكس فهذا بيان المقالات في العكس
1025 - فأما ما به قوة عدم التأثير في الأصل فينقسم إلى مخيل وإلى ما لا يخيل فأما الصفة المشعرة إذا كانت علة الأصل يستقل دونها الحكم وهي لا تستقل علة فالوجه القطع ببطلانها ومن الجدليين من لم يبطلها وإن لم تكن مناسبة ( ولا ) حاجة فهي من اللغو كما مضى وإن رام المعلل بها دفع نقض فهذا على ما تقدم شرحه فمن الناس من قبله والمختار عندنا أن النقض إن كان فقهيا لم تغن هذه الصفة والوجه ذكر الفقه الفاصل بين ما اعترض به وبين محل العلة وإن كان الغرض من ذكرها التنبيه على مسألة غير معللة فهذا مستحسن ولكنه لا يلزم الذكر في الرأي الواضح فهذه مجامع المذاهب وقد نجز بنجازها القول في عدم التأثير و ( الخامس ) من الاعتراضات فساد الوضع
1026 - وهو على أنحاء وأقسام ( وحاصل ) القول فيه يحصره نوعان أحدهما أن يبين المعترض أن القياس موضوع على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة وهذا يشمل فنونا وقد تقدم القول فيها أحدها أن يكون على مخالفة الكتاب والآخر أن يكون على مخالفة السنة والكتاب والسنة مقدمان على قياس المستنبط وكذلك القول في الخبر الذي ينقله الآحاد على الصحة المألوفة في أمثالها فخبر الواحد مقدم كما تقدم ذكره ومن هذا الفن محاولة الجمع بالقياس بين شيئين فرق بينهما الخبر أو محاولة الفرق بين شيئين اقتضى الخبر الجمع بينهما ولا معنى لتعديد وجوه المخالفات فإنها ترتبط بالتزام عد مقتضيات الشرع ولا معنى للإسهاب بعدها ويكفى فيما نرومه أن القياس إذا خالف وضعه موجب متمسك في الشرع هو مقدم على القياس والقياس مردود فاسد الوضع ( فهذا أحد النوعين )
1027 - والنوع الثاني أن يقع المعنى الذي ربط القايس الحكم به مشعرا بنقيض قصد القايس وهذا بالغ في إفساد القياس وهو زائد على إفساد القياس على الطرد وقد قدمنا أن الطرد إنما يرد من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به ( فالذي لا يشعر به ) بل يشعر بخلافه ( أولى ) أن يرد وهذا كذكر سبب يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من ذلك
مسألة
1028 - إذا اعتبر القايس القصاص بالدية في الثبوت على الشركاء حيث يبغى ذلك أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط حين يلتمسه أو قاس الحد على المهر ( في طلب الثبوت أو المهر على الحد ) في محاولة السقوط فقد أطلق طوائف من الجدليين أقوالهم بفساد القياس صائرين إلى أن العقوبات تدرأ بالشبهات وأروش الجنايات تثبت الشبهات فاعتبار أحد البابين بالآخر فاسد الوضع
1029 - وسنبين القياس الصحيح باعتبار ما يسقط بالشبهة ( بما ) لا يسقط بها أو على العكس وهذا أطلقه حذاق في كتبهم وليس الأمر عندي كذلك على الإطلاق فإن المهر وإن كان قد يجب مع الشبهة فلا يقضى الشرع بثبوته أبدا ولكنه قد يسقط في بعض الأحوال ( وكذلك القصاص ) فإن كان يتعرض للسقوط بالشبهة فلا شك أنه ( يجب ) في بعض الأحوال فإذا تعرض القايس لحالة يقتضى حكم الإخالة فيها اجتماع القصاص والدية في السقوط واجتماعهما في الثبوت فقد تعرض جاريا لتبيين الرشاد والسداد وليس يلتزم القايس في التفصيل قياس باب القصاص على باب الدية فلو حاول ذلك لكان مبطلا فتحصل من مجموع ذلك أن المتبع في هذا أن اعتبار الباب بالباب مع افراقهما في أصل الوضع محال متناقض لما عليه وضع الشرع
وذلك إذا التزم الجامع أن يجب القصاص حيث تجب الدية أو تسقط الدية حيث يسقط القصاص
1030 - فأما إذا كان القياس جزئيا ناصا على بعض الصور فينظر في الجامع فإن أخال وصح على الطرد حكم بصحته وإن لم يخل أو صادف صورة يقتضى وضع الباب مفارقة أحدهما الثاني في صورة الجمع فالقياس فاسد في وضعه وعلى هذا النسق لا يطلق القول ببطلان قياس الرخص على الوظائف الثابتة ولا ننكر أيضا عكس ذلك
1031 - والغرض من مضمون هذه المسألة أن افتراق البابين على الجملة فيما نحن فيه ليس يوجب افتراقهما أبدا بل إن أطلق ذلك فالمراد به الافتراق في خصوص أحكام في صورة معينة فليجتنب الجامع في جمعه محل افتراق البابين وليلزم مع هذا الاجتناب شرائط الأقيسة فهذا الرشد والمسلك القصد و ( السادس ) من الاعتراضات القلب
1032 - وهو ينقسم إلى قلب فيه التصريح بالحكم وإلى قلب وضعه إبهام الغرض فأما القلب الصريح فقد مثله أهل هذا الشأن ( بأن ) الشافعي إذا قال عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر الفرض فيه بالربع قياسا على سائر الأعضاء فيقول الحنفي عضو من أعضاء الطهارة فلا يكتفي فيه بما ينطلق عليه الاسم قياسا على سائر الأعضاء وهو مما ظهر فيه الاختلاف
1033 - فذهب ذاهبون إلى رده وتمسكوا بأن ما جاء به القالب ليس مناقضا لمقصود المعلل ومقصود المعلل نفى التقدير بالربع وضده أن يتقدر بالربع فلا يستمكن القالب من ذلك أبدا فإن أصل المعلل والقالب واحد ولا يتصور أن يشهد أصل واحد على التصريح بنقيضين وإن فرض إجزاء ذلك فالأصل يشهد لأحد الوجهين دون الثاني فالقلب إذا حائد عن مقصد المعلل ومحل العلة وهو في حكم معارضة في غير محل التعليل والمعارضة إذا لم تجر على المناقضة المحققة بموجب العلة فهي غير قادحة لوقوعها مجانبة لمقصود العلة
1034 - ومن قال إن القلب قادح استدل بأن العلة وقلبها في الصورة التي ذكرناها مشتملان على حكمين لا سبيل إلى الجمع بينهما فإن من يكتفي بالاسم لا يقدر ومن يقدر لا يكتفي بالاسم فإذا كان كذلك فقد تحقق اشتمال العلة والقلب على أمرين لا يتأتى التزام جمعهما على الموافقة فكان ذلك كالتصريح بالمناقضة
1035 - ثم للقلب عند القائل به مرتبة على المعارضة من جهة أن العلتين المتعارضتين تعتزى كل واحدة منهما إلى أصل لا يشهد للعلة الأخرى والأصل متحد في العلة وقلبها ( فكان ذلك أبين ) في التناقض ومن أسرار هذا أن القالب لا يأتي بالقلب وهو يجوز كونه متعلقا بما يريده ولو كان رام ذلك لكانت العلة قلبا لما يبغيه فإن كان القلب قادحا من جهة كونه قلبا فعلة الخصم قلب القلب فإذا وضع القالب على الإبطال وهو في حكم معارضة الفاسد بالفاسد وإبانة عدم شهادة الأصل على المراد فالعلة إذا عورضت بأخرى فلا يمتنع ارتباط الحكم بإحداهما للترجيح كما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى
فهذا مغزى قول الفريقين
1036 - ونحن نقول ما وقع الاستشهاد به في حكم مسح الرأس باطل ( لا ) من جهة القلب ولكن من جهة جريان الكلام من الجانبين طردا فإن إطلاق اسم العضو لا يشعر بمقصود المعلل ولا مقصود القالب فخرج الكلامان عن رتبة الإشعار ووقعا طردين فإن قيل إن لم ( يستد ) القياس المعنوي فهلا قدر أحد الكلامين شبها وهلا قدرا شبهين متعارضين قلنا ما نرى الأمر كذلك فإن أعضاء الوضوء غير متشابهة لا في أقدار محل الفرض ولا في كيفية تأدية الفرض إذ بعضها مستوعب وبعضها غير مستوعب وبعضها مغسول وبعضها ممسوح فإذا قال القائل عضو من أعضاء الطهارة فلا يتقدر فرضه بالربع فليس الذي جاء به من الشبه في شيء إذ ليس في عضو من الأعضاء ما ينافى تقديرا وإنما لها أوضاع في الشرع وفاقية وهي في وضع الشرع على التقارب فمن يبغى شبها في التسوية في نفي أو إثبات فليس كلامه واقعا في مظنة التشبيه فإن عاود معاود بأن الأعضاء الثلاثة التي هي أصل القياس متساوية في عدم التقدير بالربع والمطلوب التشبيه في هذه الخصلة قيل له هي وإن لم تتقدر ففرضها
مختلف الأقدار في وضعها فلم يتأصل فيها شبه في ثبوت ولا نفى وما ( يتخيله ) القائل على بعد يصادمه ما تقرر من وقوع فرائضها على التفاوت في الشرع والمتمسك بما لم يقع في جميعها لا حاصل له إذ لم يقع في الوجه واليدين ما وقع في الرجلين ولم يقع في الرجلين ما وقع في الوجه واليدين لما ذكرناه من ابتناء الأصل على التفاوت فلم ( يمنع أن ) يتفق الربع في الرأس ولا يقع في سائر الأعضاء
1037 - نعم لو قال القائل ورد ذكر الرأس محلا للمسح وثبت بالسنة المأثورة أن الاستيعاب غير واجب ولم يثبت توقيف في مقدار والتقدير استنباط واعتبار ( والتحكم ) به محال فيبقى اسم المسح مطلقا مع بطلان المصير إلى طرفي الاستيعاب والتقدير فيتعين والحال هذه حمله على أقل مقتضيات الاسم فهذا مسلك حسن بالغ في المسألة ولكنه ليس من القياس بسبيل وإنما هو متلقى من الكتاب والسنة وإبطال ( الاحتكام ) بالتقدير فليس قياسا ولا يستقل في هذا الطريق ظاهر الكتاب ولا يقتضى ما نقل أن النبي عليه السلام مسح بناصيته وظاهر عمامته ولا يختص إبطال مذهب الخصم في التقدير بل لا بد من التعرض لإبطال اشتراط الاستيعاب بالسنة وإبطال التقدير وإذا بطلا وانحسم جواز فهم كل واحد منهما من ظاهر الخطاب لم يبق للمسح مصرف إلا التنزيل على أقل مقتضى التسمية وأين يقع هذا من القياس وإنما هو مسلك بدع جدا لا يعهد له نظير
1038 - فإن قيل لو قدر التعليل الذي ذكرتموه مثلا مخيلا مناسبا وقدر القلب مناسبا في غرضه فماذا كنتم تقولون قلنا هذا أولا لا يتصور فليثق الفاهم بهذا فإن الأصل الواحد لا يجوز أن يدل على حكمين نقيضين ويشعر بكل واحد منهما وإذا كان لا يتفق وقوع الشيء فلا معنى لتقدير بفرض الكلام عليه فإن كانت إخالة فإنها تختص بالعلة ويقع القلب طردا ويختص بالقلب وتقع العلة طردا ثم يبطل ما وقع طردا ولا معنى والحالة هذه لابتغاء مسلك في البطلان وراء ما ذكرناه فإن الطرد ليس على صيغ الأدلة حتى يتوقع فيه اعتراض وإنما هو دعوى عرية بمثابة دعوى المذاهب
1039 - ولو تكلف متكلف في محال الأشباه استمساك المعلل والقالب بوجهين من الشبه يطابق في طريق الظن كل وجه من الشبه مراد صاحبه في الوجه الذي أبداه معللا أو قالبا فهذا إن تشبثوا به موضع الكلام وتلتبس به الحظوظ المعينة بالمراسم الجدلية فلا يشك ذو نظر أن القلب لا يعارض العلة معارضة المضادة ومناقضة النفي للإثبات بل يقع القلب للعلة في طرفين فيتجه من طريق الجدل إذا كان المسئول هو المقلوب عليه أن يقول للسائل لم تتعرض لمقصود علتي وأنت محمول على حصر كلامك في الاعتراض على مساق كلامي ممنوع عما يكون فرضا وتخصيصا للكلام بجانب من جوانب المسألة فهذا وجه لائح من وجوه الجدل
1040 - وإن قال السائل اتباع المقاصد أولى من التمسك بالصيغ والألفاظ فالعلة وقلبها يعسر الجمع بينهما مذهبا ومعنى والمعارضة المناقضة على التصريح إنما
كانت اعترافا من جهة استحالة الجمع بينها وبين العلة وإذا تحقق عسر الجمع بين مقتضى العلة وموجب القلب كان القلب في وجه قدح المعارضة كالمعارضة وقد تحقق هذا النوع من الكلام بأن المجتهد إذا استنبط علة لعمل أو فتوى وعن له وجه من القلب فلا يحل له إمضاء الاجتهاد بموجب العلة ( ما لم ) يدفع القلب وإذا كان كذلك فشرط سلامة العلة السلامة من القلب والمسئول قد التزم الإتيان بعلة سليمة من الاعتراضات فعليه الوفاء بالملتزم ويقع القلب على هذا التقدير مطالبة بتسليم العلة عما يقدح فيها وإذا اتجه هذا المسلك المعنوي لم تقف له تلفيقات الجدليين
1041 - ومما يحقق الغرض والمقصد منه أن منصب السائل في وضع الجدل يمنعه من الدليل ويحصر كلامه في التعرض للاعتراضات ثم إذا عارض علة المسئول بعلة فهو في مقام المستدلين ولكن قبل ذلك لوقوع ما أتى به اعتراضا
1042 - فهذا منتهى كلام الجدليين وأصحاب المعاني من الأصوليين ولى بعد المسلكين نظر آخر وهو مختارى فأقول إن كان مضمون القلب تعرضا لطرد لا يناسب مضمون العلة من طريق المعنى ولكن اتفق مذهب الخصم في الطرفين على مقتضى في نفي أو إثبات ولا يمتنع أن يفرق بينهما فارق فيثبت أحدهما وينفى الثاني ولكن القائل قائلان أحدهما يثبت أمرا والثاني ينفيه ولو قدر مصير صائر إلى إثبات أحدهما ونفى الثاني لم
يكن ذلك متناقضا فإذا وقع القلب والعلة على هذا النسق فالقالب فارض وقلبه غير قادح ( لا ) جدلا ولا معنى إذ لا تعلق لواحد من الطرفين بالثاني وكأن المسئول فرض الكلام في طرف وفرض السائل الكلام في طرف آخر وهذا ممنوع لا شك فيه ويمكن أن نمثل ( هذا ) بما قدمناه في العلة والقلب في مسح الرأس لو أخذنا بكونهما شبهين فإن المعلل قال في حكم علته لا يتقدر الفرض بالربع وقال القالب لا يكتفى بالاسم ( ولا يمتنع من طريق المعنى ألا يتقدر بالربع ولا يكتفى بالاسم ) وهذا يقوى جدا إذا صح مذهب معتبر غيرهما والأمر كذلك في المسح فإن مالكا رضي الله عنه أوجب الاستيعاب فلا ينتهض اتفاق مذهبي ( الخصمين ) في الطرفين على نفي وإثبات سببا في توجه الاعتراض إذا لم يكن الكلام في وضعه قادحا فأما إذا كان في القلب تعرض من طريق المعنى لمناقضة مقتضى العلة أصلا وسياقا وتفريعا فهذا إذ ذاك قدح من جهة تلاقي العلة والقلب على قضية التناقض ضمنا وإن لم يتلاقيا صريحا وهذا بمثابة قول القائل مكث في محل مخصوص فلا يكون قربة لعينه كالوقوف بعرفة وغرض المعلل اشتراط الصوم في الاعتكاف ولكنه لم يستمكن من اشتراط ذلك صريحا لأنه لو صرح به لم يجد أصلا فإذا قال الشافعي مكث فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفة
فهذا القلب لم يتعرض للعلة تعرضا بينا فكان قادحا
1043 - والقول الضابط في ذلك أن قول القائل لا يستقل بإثبات مذهبة من جهة أنه لا يكتفى بانضمام كل عبادة إلى الاعتكاف ولكن لم يتأت له التصريح فأبهم وأثبت طرفا من المذهب فإذا استمكن القادح تصريحا في مصادمته فيما ( شبب ) به تلويحا كان ذلك قدحا معينا
1044 - وفي القلب شيء يجب التنبه له وهو أن الصوم عبادة مستقلة فوقوعها شرطا بعيد وهي عبادة معينة في ذاتها والخصم لا يكتفي بانكفاف المعتكف عن المفطرات حسب أكتفاء المصلي الصائم بالإمساك والذي وقع القياس عليه لا يشترط فيه قربة مستقلة بل هو ركن من عبادة فكان لزوم القلب متجها
1045 - ولو علل الشافعي بما ذكرناه على صيغة القلب فقال مكث في مكان مخصوص فلا يشترط في وقوعه قربة صوم كالوقوف بعرفه فقال الحنفي فلا يقع بمجرده قربة كالوقوف بعرفة فهذا معترض لعله الشافعي من جهة أن متضمن القلب ( إنكار ) وقوع المكث المحض قربة فعلى الشافعي أن يدرا هذا القلب ودرؤه ممكن بأن يقول الوقوف جزء في عبادة وليس الاعتكاف من الصوم ولا الصوم من الأعتكاف إذ ليسا عبادة واحدة واشتراط عبادة في عبادة بعيد خلا الإيمان فإنه أصل ولا يعقل ملابسة فرع دونه وليس القلب في صورته ( مبطلا إبطالا ) لايستدرك كالنقض فإنه لا ينفع بعد اتجاهه فرق ولا تعليل فإن القلب وإن اتجه فهو في معرض المعارضة وإذا
عورضت علة المجيب وتمكن من إبطال ما عورض به وترجيح علته سلمت العلة واندفعت المعارضة فهذا منتهى الكلام في القلب المصرح به
1046 - فأما القلب المبهم فينقسم قسمين أحدهما إبهام في غير تسوية والآخر إبهام بالتسوية فالإبهام من غير تسوية مثل أن يقول الحنفي صلاة شرع فيها الجماعه فلا يثنى فيها الركوع في ركعة واحدة قياسا لصلاة الخسوف على صلاة العيدين فيقول القالب فجاز أن تختص بزيادة كصلاة العيدين إذ فيها تكبيرات زائدة فهذا قلب مبهم
1047 - والقاضي رحمه الله قضى بإبطال هذا القلب وذكر وجوها ( نسردها ) ونتتبعها ) منها أنه قال هذا الذي ذكره القالب ينقلب عليه فإن المعلل يقول لا تختص بزيادة وهي ركوع وإذا كان كذلك فالقلب لو كان فادحا لوجب أن يفسد من حيث يقدح إذا أمكن قلب القالب وإذا فسد لم ينقدح وهذا الذي ذكره غير سديد فإن هذا الذي فرضه قلبا للقلب هو إعادة العلة
وليس أمرا زائدا عليها ولا قلب في عالم الله تعالى إلا وهو بهذه الصفة وغرض القالب أن يورد ما يقتضي تعارضا وإذا ذكر المعلل علته في معرض القلب فهو ( مقرر ) لوجه التعارض وهو القادح وهو بمثابة ما لو عورضت علته بعلة أخرى فأعاد المجيب علته على صيغة المعارضة لما عورض به فثمرة هذا اعترافه بتعارض العلتين
1048 - ومما تمسك به القاضي أن قال المصرح مرجح على المبهم فلو قدر القلب معارضة لوجب سقوطه من جهة ( ظهور ترجح الصريح ) عليه وهذا غير سديد أيضا فإن ما ذكره إن كان وجها في الترجيح فقد يعارضه ترجيح أقوى منه فرب مبهم أفقه من صريح فلا ينبغي أن يحتكم بتقديم كل صريح على كل مبهم ويرد الأمر في هذا إلى منازل الترجيح وفي المصير إلى هذا قبول القلب والنظر إلى الترجيح
1049 - ومما تمسك به القاضي أيضا أن قال المبهم قاصر النظر والمصرح تام النظر ولا يعارض نظر قاصر نظر تاما فإن النظر القاصر لا يناط به حكم وهذا تلبيس من جهة أن القالب ناط بقلبه ما يجوز أن يكون معتقدا مستقلا ومذهبا تاما في النفي والإثبات وإنما يقصر الاجتهاد ( مالا ) يشعر بمذهب تام مستقل ثم غرضه ( مما ) أتى به القدح فإذا ظهر ما أتى به القادح تلاقي القلب والعلة علي قضية المناقضة فقد ظهر غرض القادح
10550 - فإن قيل فما المرضي عندكم
قلنا قدمنا أنه لا يجري في مواقع الظنون علة وقلبها إلا وهما طرديان أو أحدهما طردي وإن كانا معنويين فلا تلاقي بينهما بل يقعان في طرفين لا يمنع إثبات أحدهما ونفي الثاني فإن تلاقيا على قضية متناقضة فلا بد أن يكونا طردين أو يكون أحدهما فقهيا والثاني خليا عن الفقه نعم قد يفرض الفطن في مجال الأشباه اشتمال كل واحد منهما على شبه فإن اتفق ذلك فالقلب وإن كان مبهما إذا ناقض فقد عارض فتعين الاعتناء بدفعة بما يندفع به معارضة العلة فهذا قسم من الإبهام في القلب
1051 - فأما القسم الثاني وهو قسم التسوية فمثاله أن يقول الحنفي في طلاق المكره مكلف قاصد إلى لفظ الطلاق فأشبه المختار فإذا قال الشافعي فيستوى إقراره وإنشاؤه كالمختار فهذا الفن مختلف فيه وكل ما ذكرناه في القلب المبهم الذي لا تسويه فيه يعود في ذلك فإن التسوية لا بد فيها من الإبهام وقد أخذ فصل الإبهام ( بحظه ) ولقالب التسويه مزية مزيد يتعرض لها فإن الشيئين اللذين سوى القالب بينهما لو فصل غرضه فيهما لكان مطلوبه مناقضا لحكم الأصل فإن الشافعي ( يبغي ) بالتسوية بين اقراره وإنشائه ألا يقع الإنشاء ولا ينفذ في الفرع كما لا ينفذ الإقرار وهما جميعا نافذان في الأصل فصار صائرون ممن يقبل القلب المبهم إلى رد التسوية لهذا المعنى
1052 - والأستاذ أبو إسحاق رحمه الله يختار قبول قلب التسوية ويقول
غرض القالب التسوية المبهمة وهي على قضية معقولة معتقدة وإذا ثبتت جرت على المسائل ردا وقبولا وبيانه فيما ضربناه مثلا أن الإقرار والإنشاء يظهر تساويهما على تعين المثارات ويستفيد بإثباتهما أمرا واقعا في الاقرار فاتجه مراده ( ولا احتفال ) بما ذكره الرادون من مناقضة الأصل إذ لا مناقضة في مقصود التسوية والأمر على ما ذكره الأستاذ أبو إسحاق وهو الحق المبين عندنا ولكن القالب في الصورة التي ذكرناها أراه طاردا فإن التقييد بالتكليف لا أثر له إذ يستوى من غير المكلف إقراره وإنشاؤه طاردا ووجه قبول التسوية استرسالها على عموم الأحوال فلينظر الناظر في منازل القلب نظرا أوليا في الطرد والإخالة ثم لينظر ثانيا في التلاقي على التناقض وعدم التلاقي وليحصر إمكان القلب إن كان في ملتطم ( الأشباه ) ثم ليعقده مبهما كان أو مصرحا به وليتكلم عليه كلامه على المعارضات وتندرج التسوية تحت المبهمات وقد نجز القول في القلب و ( السابع ) من الاعتراضات المعارضة
1053 - فإذا نصب المجيب علة التحريم فأتى السائل المعترض بعلة في التحليل كان ما جاء به اعتراضا صحيحا في نوعه ثم هو مقبول منه في رسم الجدل وذهب بعض الجدليين إلى أن المعارضة غير مقبولة من السائل لأنه ينتهض مستدلا والذي تقتضيه مراسم الجدل أن يحصر السائل كلامه في الاعتراضات المحضه والعلة التي عارض بها على صيغة الأدلة والسائل يحتاج في الوفاء بإثباتها إلى تقرير
علتها بالأدلة فان القياس لا يستقل إذ ثبتت علة أصله ( بمسلك ) من المسالك المتقدمة في إثبات علل الأصول وإن لم يات السائل بذلك كان ما جاء به أمرا غير مثمر وإن أثبت علة الأصل ( مصورة ) بصورة ( البانين ) وخرج عن رتبة السائلين الهادمين
1054 - وهذا مسلك ضري به طوائف من المنتمين إلى الجدل وهو عرى عن التحصيل عند ذوي التحقيق من وجوه منها أن المعارضة اعتراض من جهة أن العلة التي تمسك بها المجيب لا تستقل ما لم يسلم عنها وقد حصل الوفاق على تسليم الاعتراض للسائل وهو لم يبد العلة ثانيا مثبتا لمذهبه وإنما أبداها معترضا بها والذي حاول منها في الاعتراض محقق ( كائن ) فليسغ منه المعارضه اعتراضا والذي يكشف الحق في ذلك أن المجيب لما كان بانيا فلو عارضت علته علة عسر عليه إفسادها وترجيح علته على ما عورض به كان ذلك مبطلا لغرضه والسائل إذا عارضه لايلتزم وراء المعارضة إفسادا ولا ترجيحا لأنه جرد قصده إلى الاعتراض فتبين أن ما أتى به اعتراضا فهو اعتراض واقع وإنما ( الممتع ) من السائل أن يعارض ويضم إلى المعارضة الترجيح أو أفسادا وراء المعارضة كدأب من يبني ويثبت هذا إن فعله كان مجاوزة لمراسم الجدل
1055 - ومن الدليل على قبول ( العلة و ) المعارضة أن المجيب التزم إذ نطق بالعلة ( تصحيحها ) والوفاء بإتمام هذا هذا الغرض منها ( في مسلك الظن ) ولن يتم
هذا الغرض ما لم تسلم العلة عن المعارضة ولو قيل أظهر الاعتراضات وأكثرها وقوعا المعارضات في تقابل الظنون لكان ذلك ترجيحا فالمقصود أنه لا يتطرق الكلام ما لم يغلب على الظن ثبوت علة المجيب ومن ضرورة ذلك درء المعارضات عنها والسائل مرتب في مراسم النظر لإيراد ما يقدح لو ثبت فإذا فعل ما رتب له شيئا تصدى المجيب لدفعه والجواب عنه فيكونان متعاونين على البحث اعتراضا وجوابا والذي ذكره هؤلاء ( من ) أن السائل ممنوع من الإتيان بصورة الدليل لا طائل وراءه فإن صورة الأدلة ما امتنعت من حيث إنها تسمى أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض آتيا بكلام على الابتداء ليس اعتراضا فهذا يخرم شرط الجدل من جهة أن السائل إذا كان كذلك مع المسئول لا يتلاقيان على مباحثة والغرض من المناظرة التعاون على البحث والفحص
1056 - وبالجملة إذا كان يقبل من السائل اعتراض لا يستقل في نوعه كلاما فلأن يقبل منه كلام ينقدح ويستقل اعتراضا أولى ولم يختلف أرباب النظر قاطبة في أن المجيب إذا تمسك بظاهرة فللسائل أن يؤوله فإذا كان التأويل مقبولا منه فمن ضرورته اعتضاده بدليل وإذا جاء بما يعضد التأويل فهو دليل فإن قبل من جهة كونه عضد التأويل الواقع اعتراضا فليقبل معارضة القياس بالقياس على قصد الاعتراض وإن تشبث متسبث بمنع قبول التأويل من صاحب التأويل فقد تصدى لأمرين عظيمين
أحدهما أن يقبل التأويل منه من غير دليل وهذا خرق فإن المستدل معترف بتوجه التاويل ( وإمكانه ) مقر بأن متمسكه ظاهر وليس بنص فهذا أحد أحد الأمرين والثاني أن يفسد باب التأويل على السائل ويتوخى المناظرة بذكر المسئول ظاهرا وهذا اقتحام عظيم وأن التزم السائل أن يعارض الظاهر بالظاهر فقد يقدمه ( في هذا المقام ) ثم في هذا اعتراف بقبول المعارضة فليجر مثله في الأقيسة
1057 - فإذا تبين أن المعارضة من أقوى الاعتراضات الصحيحة المفسدة فالجواب عنها ينحصر في مسلكين أحدهما أن يتصدى المجيب لإفساد ما عورض به تمسلك من المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة والثاني أن يرجح علته على ما عورض به على ما سيأتى شرح قواعد الترجيح وتفاصيلها في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى فإذا لم يتأت أحد المسلكين كان منقطعا
1058 - ومن أسرار المعارضات أنه إذا غلب على الظن استواء العلتين فسدتا فلو قال قائل ترجيح السائل غير مقبول ابتداء وانحسام الترجيح يفسد ما جاء به وليس بين هذين المسلكين مسلك قيل هذا منتهى غرض السائل ومنه قال المحققون معارضة الفاسد بالفاسد اعتراض صحيح وعند ذلك يتبين تحقيق المعارضة الصادرة من السائل إذ غرضه الإفساد المحض لا البناء
1059 - ثم مما يتصل بأحكام المعارضة أن المجيب إذا رجح علته لم ينحسم على السائل مسلك معارضه الترجيح بالترجيح فليفعل ذلك وليجرد قصده إلى طلب المساواة فإنها إذا ثبتت فسد بها كلام المسئول ومن خرق السائل أن يتشوف إلى الزيادة على قصد المساواه فإنه إذا فعل ذلك كان ذاهبا إلى مضاهاة قول البانين ولا يبعد أن ينسب فيه إلى الجهل بمراسم الجدل فلو ذكر المسئول ترجيحا فعارضه السائل بترجيحين وفي أحدهما كفاية في طلب المساواة فهو مجاوز لسواء القصد وإن عارض بترجيح واحد ( ولكنه أوقع ) من كلام المسئول فهذا يقبل منه فإنه قد لا ( يجد ) غيره ومنعه من الإتيان به يمنعه من معارضة العلة بعلة أجلى منها وأظهر في بوادي الظنون والسبب في قبول هذا الفن أن ما في الترجيح من مزية القوة والظهورلا يمكن قطعه من الكلام وهو إذ جيء به اعتراض فليقبل اعتراضا إذ لم يقبل بناء وابتداء فهذا منتهى الكلام في ذلك
1060 - ومما يتعلق بالمعارضة وهو مفتتح القول في الفرق أن السائل إذا اقتصر على معارضة علة الأصل بعلة أخرى ( بحكم الأصل ولم ) يأت بعلة مستقلة ذات فرع وأصل على ما نعهده من صيغ التعليل فهذا يستند أولا إلى ماسبق تمهيده من أن الحكم الواحد هل يعلل بعلتين وقد مضى في ذلك قول بالغ فمن لم يمنع تعليل حكم بعلتين لم يعتد بما جاء به السائل اعتراضا من جهة أن ثبوت ما أورده السائل ( علة ) منتهى مراده ولو سلم له ما يحاوله لم يندفع دليل المسئول وقد ذكرنا ما نختاره في ذلك وأنهينا الكلام غاية انفصل القول عنها مع
القطع بأن الحكم الواحد لا يعلل بعلتين فليقع التعويل على المختار ووراءه عرض الفصل فإنا رأينا امتناع ذلك وقوعا وإن كان لا يمتنع من ناحية التجويز العقلي فينشأ من ذلك قضية جدلية لطيفة مشوبة بحقائق الأصول مسألة
1061 - إذا قبلنا من السائل معارضة العلة بالعلة المستقلة فلو عارض علة الأصل التي جعلها المسئول رابطة القياس بعلة أخرى وزعم أن العلة ما أبداها معترضا لا ما أتى به المعلل جامعا رابطا فمن الجدليين من يرى ذلك اعترضا واقعا وأوجب على المجيب الجواب عنه ومنهم من لم يره اعتراضا فالمذهبان جميعا في المسألة المعقود مبنيان على منع تعليل الحكم بأكثر من علة واحدة
1062 - فأما من { رأى ذلك اعتراضا فوجهه أن من شرط سلامة علة الخصم عروها عن المعارضة من جهة امتناع ( تعدد ) العلة فإذا أبدى المعترض علة أخرى فقد عارض معارضه يمتنع معها لو صحت تقديرا ثبوت علة المجيب كما يمتنع ذلك في العلتين المستقلتين الجاريتين على التناقض في التعارض وحقيقة هذا المذهب آيل إلى أن المعلل لا يستقل كلامه ما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر التعليل به فإذا علل ولم يبسر فعورض في معنى الأصل بعلة فكأنه طولب بالوفاء بالسبر وتتبع كل ما سوى علته بالنقض
1063 - ومن لم ير ذلك اعتراضا استدل بأن إبداء معنى آخر من المعارض
على صورة دعوى عرية عن الدليل وقد سبق المسئول في إثبات معنى أصله بالدليل إما معتنيا به بعد طرد العلة ومضمنا ذلك علته من جهة إشعارها ووفقها وإخالتها والسائل إذا ابدى معنى غير مقرون بدليل على تهيئة وصلاحه لكونه علة للحكم فصيغة كلامه معارضة كلام مدلول عليه بدعوى فهذا القائل لو أبدى المعنى وقرنه بما يعد دليلا على إثبات المعنى كانت معارضة مقبولة ويتعين إذ ذاك على المسئول الجواب عنه
1064 - فيرجع مطلب المسألة المبينة على امتناع تعليل الحكم بعلتين فصاعدا إلى أنا هل نوجب على المعلل بعد إثباته ( علته ) التتبع والسبر أم لا وذلك يجري وكلام السائل دعوى محضه ولو أتى السائل بدليل على ما أبداه من معناه فيتعين الجواب عنه على هذا الأصل وهذه المسألة التي ذكرناها متصلة بالمعارضة وتحقيقها ( يعود ) في الفرق وحقائق القول فيه الثامن من الاعتراضات فصل في الفرق
1065 - فأما الفرق فقد ظهر خلاف أرباب الجدل ( فيه ) قديما وحديثا فذهب ذاهبون إلى أنه ليس باعتراض وسبق إليه طوائف من الأصوليين وذهب جماهير الفقهاء إلى أنه من أقوى الاعتراضات وأجدرها بالاعتناء به فأما من لم يعده اعتراضا مقبولا فإن متعلقه وجوه منها أن الجامع لم يلتزم بجمعه مساواة الفرع للأصل في كل القضايا وإنما مغزاه
ومنتهاه إثبات اجتماع الأصل والفرع في الوجه الذي يبغيه فإذا استتب له ما يريده من ذلك وينتحيه وكان وجها يعترف به الفقيه في قصد الجمع ويرتضيه فالفرق يقع وراءه وهو قار على حاله وصاحب الجمع معترف بأنه غير ملتزم اجتماع الفرع والأصل في كل ورد وصدر وكل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع الاستمرار على مقصده من العلة فليس قادحا وإنما الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المسألة نعم إن تمكن من ( وقف موقف الفارقين ) من إبطال الجمع فذاك السؤال اعتراض مقبول وليس فرقا وإنما يتحقق هذا بان يخرم ما جاء به المعلل زاعما أنه مناسب مخيل فيتبين أن الذي تعلق به غير مشعر بالحكم ويلتحق كلامه بالطرد المقضى ببطلانه فإذا تمكن السائل من ذلك فلا حاجة به إلى الفرق وإنما الفرق هو الواقع بعد سلامة فقه الجمع فينبغي ألا يلتزم لما سبق من أنه غير مناقض لمقصود المعلل
1066 - وذهب معظم المحققين إلى قبول الفرق وعده من الأسئلة الواقعة واحتج القاضي رحمه الله بأن متبوعنا في الأقيسة والعمل بها وما درج عليه الأولون قبل ظهور الأهواء واختلاف الآراء ولقد كانوا يجمعون ويفرقون وثبت اعتناؤهم بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد ثبت ذلك في وقائع جرت في مجامع من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم منها القصة الجارية في إرسال عمر بن الخطاب رضي الله عنه رسوله وتحميله إياه تهديد مومسة واجهاضها بالجنين لما بلغها الرسالة ثم أنه رضي الله عنه جمع الصحابة واستشارهم في الجنين فقال عبد الرحمن ابن عوف رضي الله عنه إنه مؤدب ولا أرى عليك بأسا فقال علي رضي الله عنه إن لم يجتهد فقد
غشك وإن اجتهد فقدأخطأ أرى عليك الغرة قال القاضي رحمه الله كانوا رضى اللة عنهم لا يقيمون مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على المقاصد فكأن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا وجعل الجامع أنه فعل ما له أنه يفعله فاعترض عليه علي رضي الله عنه وشبب الفرق وأبان أن المباحات المضبوطة النهايات ليست ( كالتعزيرات ) التي يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى إتلافات ولو تتبع المتتبع مناظرات أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسائل الجد وغيرها من قواعد الفرائض لألفى معظم كلامهم في المباحثات جمعا وفرقا ويهون على الموفق تقدير جريان الجمع والفرق من الأولين مجرى واحدا في طريق النقل المستفيض
1067 - فهذا كلام القاضي ولا يتبين مدرك الحق إلا بتفصيل نبديه وفيه تبين مدرك الحق في الفرق فنقول رب فرق يلحق جمع الجامع بالطرد وإن كان لولاه لكان الجمع فقهيا فما كان كذلك فهو مقبول لا محالة غير معدود من الفروق التي يختلف فيها ومن آية هذا القسم أن الفارق ( يعيد ) جمع الجامع ويزيد فيه ما يوضح بطلان أثره ومثال ذلك أن الحنفى إذا قال في مسألة البيع الفاسد معاوضة جرت على تراض فتفيد ملكا كالصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنها معاوضة جرت على وفق الشرع ( فنقلت ) الملك بالشرع بخلاف المعاوضة الفاسدة فينتهض هذا الكلام إذا وفي صاحبه بتحقيقه مبطلا إخاله كلام المعلل وما أدعاه من إشعاره بالحكم فهذا النوع مقبول ومن خصائصه إمكان البوح منه بالغرض لا على سبيل الفرق بأن
يقول السائل لا تعويل على التراضي بل المتبع الشرعي في الطرق الناقلة إلى حد ما يعرفه الفقيه
1068 - ومما يقع مدانيا لهذا أن الحنفي إذا قال طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية كإزالة النجاسة فالفارق يعيد كلامه ويزيد قائل المعنى في الأصل أنها طهارة بالماء عينيه والوضوء طهارة حكمية ومقصودة أن ( يخرم ) فقه الجامع ويلحقه بالطرد وهذا محطوط عما استشهدنا به أولا من جهة أنا نرى مدار الكلام في هذه المسألة على الأشباه وقد يظن الحنفي أن الطهارة بالماء أشبه بالطهارة بالماء والفارق يدعى مسلكا فقهيا وإنما يبغي تشبيها ومدار الكلام في المسألة الأولى على اتباع التراضي أو اتباع الشرع فليفهم الفاهم ما يلقى إليه من حقائق الكلام
1069 - ومما نجريه مثلا أن المالكي إذا قال الهبة عقد تمليك فيترتب على صحة الإيجاب والقبول فيها الملك ( كالمعاوضة ) فإذا قال الفارق المعاوضة متضمنها النزول عن المعوض والرضا بالعوض وذلك يحصل بنفس العقد والتبرع عقد لا يقابله عوض فيشترط فيه ( الإقباض ) المشعر بنهاية الرضا لم يكن هذا الفرق مبطلا بالكلية فقه الجمع ولكن سره أن الجامع أبدا يجمع بوصف عاموالفارق يفرق بوجه خاص فإن لم يبطل ما أبداه من خصوص الفرق في عموم الجمع فهذا مما تنازع فيه الأصوليون وإن أبطل فقه الجمع فلا شك في كونه اعتراضا
1070 - ثم الفرق والجمع إذا ازدحما على فرق فاصل في محل النزاع
فالمختار فيه اتباع الإخالة فإن كان الفرق ( أخيل ) أبطل الجمع وإن كان الجمع ( أخيل ) سقط الفرق وإن استوى أمكن أن يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتا على صيغة التساوي وأمكن أن يقال الجمع مقدم من جهة وقوع الفرق بعده غير مناقض له والجامع يقول لم ألتزم انسداد مسالك الفرق كما ذكره الذين ردوا الفرق فالأوجه اتجاهه ووجوب الجواب عنه
1071 - فإن قيل هلا قلتم الفرق يشتمل على معارضة معنى الأصل ثم معارضة العلة بعلة مستقلة في جانب الفرع فهو على التحقيق سؤالان قلنا قد قال بقبول المعارضة كل معتبر عليه معول ومضى في معارضة معنى الأصل ما فيه مقنع والكلام في الفرق وراء ذلك فإنه ينتظم من مجموع كلام الفارق فقه يناقض قصد الجامع وهو خاصية الفرق وسره ومن رد الفرق لا يرد المعارضة بل يرد خاصية الفرق
1072 - وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثه مذهب أحدها رد الفرق جملة وإنما يستمر هذا المذهب مع المصير إلى رد المعارضة في جانبي الأصل والفرع جميعا وخاصيه الفرق مردودة هذا عند القائل بما سبق تقريره من أن الجامع إذااستمر جمعه لم يحتفل بالافتراق في وجه لم يقع له التعرض ورد الفرق على الإطلاق يستند إلى إبطال المعارضة في الأصل والفرع وعدم المبالاة بوقوع الفرق من وجه بعد استمرار الجمع من الجهة التي أرادها الجامع فهذا مذهب وهو عند المحصلين ساقط مردود
1073 - والمذهب الثاني وهو معزو إلى إبن سريج وهو مختار الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله أن الفرق ليس سؤالا على حياله واستقلاله وإنما هو معارضة ( معنى ) الأصل بمعنى ومعارضة العلة التي نصبها المسئول في الفرع بعلة
مستقلة ومعارضة العلة بعلة مقبولة فإن تردد المترددون في معارضة معنى الأصل فالفرق عند هذا القائل آيل إلى ما ذكره والمقبول منه المعارضة وقد مضى القول بالغا في قبول المعارضة
1074 - والمذهب الثالث وهو المختار عندنا وارتضاه كل من ينتمي إلى التحقيق من الفقهاء والأصوليين أن الفرق صحيح مقبول وهو وإن اشتمل على معارضة معنى الأصل ومعارضته علة ( الفرع ) بعلة فليس المقصود منه المعارضة وإنما الغرض منه مناقضة الجمع ثم الصحيح المقبول منه ينقسم على الوجه المقدم إلى ما يبطل فقه الجمع رأسا ويلحقه بالطرد وهذا على التحقيق ليس هو الفرق المطلوب فإنه أبدى سقوط فقه علة الخصم على صيغة مخصوصة ومنه مالا يحيط فقه الجمع بالكلية ولكنه يشتمل على فقه آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة على العلة وإلى مساويها كما سبق
1075 - والقول الوجيز فيه أن قصد الجمع ينتظم بأصل وفرع ومعنى رابط بينهما على شرائط بينة والفرق معنى يشتمل على ذكر أصل ( وفرع ) وهما يفترقان فيه وهذا يقع على نقيض غرض الجمع ومن ضرورته معارضة معنى الأصل والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجمع بوجه فقه أو بوجه شبه إن كان القياس من فن الشبه فعلى هذا إذا لو سمى ( مسم ) الفرق معارضة لم يكن مبعدا ولكن ليس الغرض منه الإتيان بمعارضة على الطرد والعكس لاتصال أحدهما بالآخر بل القصد منه فقه ينتظم من معارضتين يشعر بمفارقة الأصل للفرع على مناقضة
الجمع فهذا سر الفرق وسنبين أثر ذلك في التفاصيل
1076 - ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته استبيان أن المعارضة الكبرى التي عليها تناجز الفقهاء وتنافس الكلام على الفرق والجمع أبدا يأتي بما يخيل اقتضاء الجمع ويكون ما يأتي به في محل يأتي الفرق صفة عامة بالإضافة إلى الفرق ويأتي الفارق بأخص منه مع الاعتراف به ويبين أن الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان الحكم بافتراقهما أوقع من الحكم باجتماعهما للوصف العام ثم يتجاذبان أطراف الكلام فهذا قول بالغ في تحقيق المذهب وسر كل رأي وبيان المختار الذي ينتحيه المحققون وما مهدناه يتهذب بمسائل نذكرها تترى إن شاء الله تعالى ( مسائل في الفرق ) مسألة
1077 - إذا ذكر الفارق معنى في الأصل مغايرا المعنى المعلل وعكسه في الفرع وربط ( به ) الحكم مناقضا لحكم علة الجامع فهل يشترط رد معنى الفرع إلى الأصل على القول بقبول الفرق ذهب طوائف من الجدليين إلى أن ذلك لا بد منه وهذا ينبني على أصلين أحدهما المصير إلى إبطال الاستدلال على ما سيأتي القول فيه مشروحا بعد نجاز القول في القياس إن شاء االله تعالى ومن ينفي الاستدلال لا يجوز الاستمساك قط بمعنى غير مستند إلى أصل وإن كان مناسبا مخيلا فهذا أحد
الأصليين و ( الأصل ) الثاني أن الغرض من الفرق المعارضة ( والمعارضة ) ينبغي أن تشتمل على علة مستقلة فهذا مأخذ هذا المذهب
1078 - قال القاضي رحمه الله رأينا تصحيح الاستدلال على ما سيأتي ولو كنت من القائلين بإبطال الاستدلال لقبلته على صيغة الفرق فإن الغرض ( من الفرق ) إبداء فقه يناقض غرض الجامع وهذا يحصل من غير رد إلى أصل ثم قد يقع الكلام وراء ذلك في ترجيح العلة على ما أبداه الفارق من حيث إن العلة مستندة إلى أصل وما أظهره الفارق لا أصل له وفيه كلام يطول استقصاؤه في الترجيح فآل حاصل القول في هذه المسألة إلى أن من يري الفرق معارضة ينزل منزلة المعارضات ومن يرى خاصية الفرق ( في ) مضادة جمع الجامع فلا يشترط فيه ما يشترط في العلة المستقلة مسألة قريبة المأخذ من التي تقدمت
1079 - ذهب ذاهبون من الذين صاروا إلى أن شرط الفرق استناده في جانب الفرع إلى أصل ( إلى ) أن الفارق إذا أبدى في الأصل معنى مغايرا لمعنى المعلل فينبغي أن يرد ذلك أيضا إلى أصل فيأتي في كلامه في شقي الفرع والأصل بأصلين ولا شك أن صدر هذا الكلام عن رأي من ينكر الاستدلال ولا يراه حجة وذهب آخرون ممن يشترط استناد الفرع إلى الأصل إلى أن ذلك غير مشروط في الأصل
واحتج كل فريق على مخالفة بما عن له
1080 - فأما من لم يشترط ذلك فتمسك بأن الغرض الأظهر من الفرق معارضة معنى الأصل والتحاقه في محل النزاع فإذا ( أيد ) ذلك بأصل فقد وفى بالمعارضة في محل الخلاف فكفاه ذلك وأيضا فإنا لو ( كلفناه ) إلحاق معناه الذي أبداه في جانب الأصل بأصل فقد لا يمتنع في ذلك الأصل الذي نقدره معارضه معنى آخر ثم قد ينقدح رد ذلك المعنى إلى أصل ثابت ويلزم من مساق ذلك أن يقال إذا عورض معنى الأصل فعلى المسئول وقد عورض معناه بمعنى غيره أن يأتي بمعناه الذي ادعاه بأصل ( آخر ) فإنه والمعترض تساويا في ادعاء معنيين فليس أحدهما ( بالاحتياج ) إلى إبداء أصل آخر أولى من الثاني إذ المسألة فيه ( إذا ) لم يبطل أحدهما معنى صاحبه بل اقتصر على معارضته ثم لا يزالان كذلك في كل مستند وتتعطل المسألة عن غرضها وتحوج المعلل والمعترض إلى أصول لا ينتهي القول فيها إلى ضبط وهذا ظاهر البطلان
1081 - وقد نقل بعض النقلة أن من صار إلى التزام ذلك يذهب إلى أن الكلام لا يقف أو ينتهي الكلام إلى أصل يتحد معناه ولا يتأتي معارضة فيه وهذا تكلف عظيم وأمر معوص ومن شرط ذلك يقول كل كلام لا أصل له فهو استدلال مردود وإذا تأتي معارضة معنى الأصل بمعنى آخر فقد صار معنى الأصل متنازعا فيه فلا بد من تأييد الكلام بأصل غيره
1082 - والكل عندنا ضبط وتخليط ومن احاط بسر الفرق واستبان أن الغرض منه هذا لم يتخيل كل هذا الانحلال ولم يشترط في الفرق إلا ما يليق ويطلب منه وهو مضادة قصد الجامع كما سبق تقريره مسألة
1083 - وإذا تمكن الفارق من إبداء معنى في الأصل مغاير لمعنى الجامع وعكسه في الفرع من غير مزيد فهو الفرق الذي فيه الكلام وإن احتاج إلى إبداء مزيد في جانب الفرع فقد ظهر اختلاف الجدليين فيه ولا معنى للتطويل فمن اعتقد الفرق معارضة فمقتضى مذهبه أن الزيادة ممتنعة فإن الفارق معارض والمعارضة تنقسم إلى ما يذكر على صيغة الفرق وإلى ما يذكر ابتداء ولا أثر لاختلاف الصيغ عند هذا القائل والغرض المعارضة المحضة
1084 - ومن طلب من الفرق الخاصية التي ذكرناها وهي مضادة الجمع فيخرم هذه القضية عند مسيس الحاجة الى ذكر زيادة ومزية في جانب الفرع فإنا قد أوضحنا أن الفارق مستمسك بجهة خاصة مرتبة على الجهة العامة التي جمع بها الجامع مشعرة باقتضاء الافتراق فإذا كان عكس معنى الأصل على قضية الخصوص غير مشعر بنقيض ما أشعر به الوصف العام لم يكن الفرق مستقلا بذاته جاريا على حقيقته وخاصيته فإن كان يتأتى مع مزية في إشعار بالافتراق فهو على تكلف وبعد فإن صفوة الفرق مأخوذة من متلقي النفي والإثبات والطرد والعكس من غير احتياج إلى مزيد ولا شك ( أن ) المزيد المذكور في جانب الفرع يقع خارجا عن قضية الفرق إذ ليس لها في جانب الأصل ذكر على الثبوت إذ لو كان لها ذكر لكان الفرق جاريا على سداده
وقد يذكر الفارق مزيد الدرء قاعدة ولو لم يذكرها لو ردت تلك القاعدة نقضا فيقع عند ذلك الكلام في أن القواعد هل تنقض الأقيسة إذا كانت مستقلة وقد قدمنا في ذلك أبلغ قول في فصل النقض فلا حاجة إلى إعادته مسألة
1085 - مما ذكره الذاكرون على صيغة الفرق وليس هو على التحقيق فرقا وإن كان مبطلا للعلة ما ننص عليه الآن فنقول إذا جمع الجامع ( بين ) مختلف فيه ومتفق عليه في تفصيل حكم ( وأصل ) ذلك الحكم منفي في الأصل مثل أن يقول الحنفي في منع اشتراط ( تعيين ) النية ما تعين أصله لم يشترط فيه تعين النية كرد الغصوب والودائع فنقول أصل النية ليس مرعيا في الأصل وهو معتبر في محل النزاع وهذا قد نورده على صيغة الفرق وليس بفرق ولكن الجمع باطل باتفاق الأصوليين فإن الكلام في تفصيل النية يقع فرعا لتسليم أصل النية وأبو حنيفة رضي الله عنه لا يراعي التعيين مع اشتراط أصل النية صائرا إلى أن أصل النية كاف مغن عن التفصيل والتعيين فكيف يتأتى الاستمساك بما لا يشترط أصل النية فيه ولا يعد من قبيل القربات فهذا إذا باطل من قصد الجامع وصيغة الفرق تقرر الجمع ويقع وراءه أفتراق في أمر ( أخص ) منه كما تمهد ذكره فيما سبق
فصل في الاعتراض على الفرع مع قبوله في الأصل
1086 - والقول الوجيز في ذلك أن كل ما يعترض به على العلل المستقلة فقد يذكر فرضه موجها على القول الفارق في جانب الفرع ونحن وإن كنا لا نرى الفرق معارضة فمستنده إلى صورة معارضة ثم تلك الصورة في النفي والإثبات تثبت خاصة كما سبق تقريرها فإذا بطل مستند الفرق بطل الفرق فأما الكلام المظهر في جانب الأصل فحاصله ادعاه معنى آخر وينتظم عليه الخلاف القائم في أن الحكم هل يعلل بعلتين فمن لم يمتنع من تعليل الحكم بعلتين فقد يقول أنا قائل بهما وإنما يتأتى ذلك إذا استمكن من طرد المعنى الذي أبداه الفارق في جانب الأصل على وجه يطابق مذهبه وأما نحن فلا نرى تعليل حكم بعلتين أمرا واقعا وإن لم نستبعده في مساق الأقيسة أن لو قدر وقوعه والأولون يرون الفرق سؤالين ( وقول ) المعلل في الأصل بالمعنيين إذا جرى له ذلك غير كاف فإن الكلام في جانب الفرع قائم بعد والسؤالان على هذا الرأي لا ارتباط لأحدهما بالثاني فكأن الفارق وجه سؤالين فتعرض المعلل للجواب على أحدهما1078 - ونحن نقدر الآن لانفسنا مذهبا لا نعتقده ونبني عليه سرا هو خاتمة الكلام في الفرق فنقول لو كنا من القائلين بتعليل حكم واحد بعلتين لما رأينا مصير المعلل إلى القول بهما جوابا عن سؤال من جهة أن الفرق وإن اشتمل على كلامين فهو في
حكم سؤال واحد وقد استقل كلام الفارق وجرى مرامه في الإشعار بالفرق فإذا قال المعلل بالعلتين في الأصل لم يخرم ذلك غرض الفارق والجواب الخاص عن الفرق الواقع السالم عما يعترض على المعاني والمعلل عدم إشعاره بإثارة الفرق أو يتبين ترجيح مسلك الجامع عن طريق الفقه في اقتضاء الجمع على مسلك الفارق مسألة
1088 - إذا لم يذكر الفارق معنى ( في ) الأصل معكوسا من الفرع ولكنه أطلق في جانب الأصل حكما ونفاه في الفرع فهذا مما طول فيه القاضي نفسه والكلام عندنا فيه قريب وقد ذكرنا وقع ذلك في العلل ابتداء وسميناه فيما يظن قياس الدلالة أو قريبا من الأشباه فإذا قال القائل من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فليس ما جاء به من فن المعاني المختصة المشعرة بالحكم وإن كان مقبولا فإذا وقع الفرق على هذه الصفة نظر فإن كانت العلة على نحوها قبل ذلك في الأصل ووقع الكلام في التلويح والترجيح وتقريب الأشباه فإن كان القياس معنويا فقهيا وجرى الفرق على صيغة إلحاق حكم بحكم فهذا من الفارق محاولة معارضة المعنى المناسب بالأشباه أو ما هو في معناها ولا يقع ذلك موقع القبول فإن أدنى المعاني المناسبة يتقدم على أعلى الاشباه المظنونة وهذا يهذبه الترجيح إن شاء الله تعالى وقد انتهى غرضنا في القول في الفرق وانتهى بانتهائه الكلام على الاعتراضات الصحيحة في قواعدها
فصل القول في الاعتراضات الفاسدة
1089 - ما يفسد من الاعتراضات لا ينحصر وفي ضبط ما يصح منها كما تقدم حكم بفساد ما عداه وإنما نعقد هذا الباب للكلام على اعتراضات استعملها بعض من لابس الجدل وهي باطلة عند المحققين فلا نذكر صيغا منها إلا وفيها خلاف ونحن نرتبها ونرسمها مسائل أن شاء الله تعالى مسألة1090 - إذا استنبط القايس علة في محل النص وكانت مقتصرة عليه منحصرة فيه لا تتعداه فالعلة صحيحة عند الشافعي رضي الله عنه ونفرض المسألة في تعليل الشافعي تحريم ربا الفضل في النقدين بالنقديه وهي مختصة بالنقدين لا تعدوهما وقال بعض أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه إذا لم تتعد العلة محل النص كانت باطلة والمعتمد في صحة العلة أنها مستجمعة شرائط الصحة إخالة ومناسبة وسلامة عن الاعتراضات ومعارضات النصوص وهي على مساق العلل الصحيحة ليس فيها إلا ( اقتصارها ) وانحصارها على محل النص وحقيقة هذا يئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد بصحتها أولى من أن يشهد على فسادها وليس يمتنع في حكم الله تعالى ووضع شرعه أن تكون العلة المستثارة هي العلة المرعية ( الشرعية ) في القضية التي ثبت حكمها بالنص فإذا لم يمتنع ذلك وقوعا ولم يوجد إلا موافقة النص ومطابقته لموجب العلة فلا وجه
( للحكم ) بفسادها
1091 - ويتوجه وراء ذلك سؤالان والانفصال عنهما يبين حقيقة المسألة أحدهما أن قائلا لو قال العلة تستنبط وتستثار لفوائدها ولا فائدة في العلة القاصرة فإن النص يغني عنها ولسنا نمنع الظان أن يظن حكمه في مورد النص ومن اكتفى بهذا التقدير سوعد وليس ذلك محل الخلاف المعنى بالصحة والفساد فإن الغرض إبانة كون العلة القاصرة مأمورا بها ومعنى صحتها موافقتها الأمر ومعنى فسادها عدم تعلق الأمر بها ولا حرج على المفكرين في استنباط حكم إذا لم يكن استنباطهم مناطا لأمر فيخرج من ذلك أن القائل بالعلة ( القاصرة ) إن لم يظهر لها فائدة لزمه الاعتراف بكونها ساقطة الاعتبار خارجة عن تعلق الأمر الشرعي ولقد أضطرب أرباب الأصول عند هذا المنتهى
1092 - ونحن نذكر المختار من طرقهم ونعترض على ما يتطرق الاعتراض إليه ثم ننص على ما نراه قال قائلون ممن يصحح العلة القاصرة فائدة تعليل تحريم التفاضل في النقدين تحريم التفاضل في الفلوس ( إذا جرت نقودا وهذا خرق من قائله وضبط على الفرع والأصل فإن المذهب أن الربا لا يجري في الفلوس ) إن استعملت نقودا فإن النقدية الشرعية مختصة بالمصنوعات من التبرين والفلوس في حكم العروض وإن غلب استعمالها ثم أن صح هذا المذهب قيل لصاحبه إن كانت الفلوس داخلة تحت أسم الدراهم فالنص متناول لها والطلبة بالفائدة قائمة وإن لم يتناولها النص فالعلة متعدية إذا والمسألة مفروضة في العلة القاصرة
1093 - وقال قائلون العلة القاصرة تفيد بعكسها فإذا ثبتت النقدية علة في النقدين فالنص مغن عن محل طرد العلة ولكن عدم النقدية يشعر بانتفاء تحريم الربا والنص على ( اللقب ) لا مفهوم له فهذا وجه إفادة العلة ويتوجه على هذا وجوه من الكلام واقعة لا استقلال بالجواب عنها منها أن الانعكاس لا يتحتم في علل الأحكام ولا يمتنع ثبوت علة يناط الحكم بها مع انتفاء العلة المعينة وإذا كان ذلك لا يمتنع فالعكس يضطر إلى إبطال ما يدعيه الخصم من العلة في معارضة العكس فإن لم يقدر على ذلك لم يستقل كلامه وإن تمكن من افساد ما يبديه الخصم من العلل المتعدية فلا حاجة أيضا إلى تكلف العكس فإن الأحكام تثبت غير متعلقة بدلالة وأمارة فليكتف الناظر بالنص في محل إثبات الحكم ( ثم يكفيه في محل العكس عدم الدلالات على ثبوت نقيض الحكم ) الذي يشهد عليه النص في محله ورجع حاصل القول إلى تكلفة طردا وعكسا من غير فائدة ومما يوضح الغرض في ذلك أن العلة إنما تنعكس ويتعين التعلق بها في إثبات نقيض حكم الطرد وبعكسها بشرطين أحدهما أن تكون مخيلة في الطرد والعكس يشعر العدم فيها بالعدم كما يشعر الوجود فيها بالوجود والآخر ألا تخلف العلة الزائلة في الثبوت علة فإن لم تخلف علة وأحال النفي في الانتفاء إحالة الثبوت في الإثبات فإذ ذاك يتصور محل الطرد
والعكس بصورة مسألتين مشتملتين على علتين وكل واحدة منهما سليمة عما يشترط سلامة العلل عنها وإذا كان الأمر كذلك فلتكن النقدية مخيلة حتى يتخيل فيها الانعكاس وليست النقدية مخيلة فقهية فقد سقط طلب إفادتها من جهة الانعكاس
1094 - فإن قال قائل إذا سلمتم أن العلة اذا لم تفد فلا يحكم عليها بصحة ولا فساد ولا تقدر متعلقا لأمر ولا نهي وعدت خطرة في مجاري الوسواس وخرجت عن الرتب المعول بها في الأقيسة فإين تستعمل هذه العلة القاصرة قلنا إن كان كلام الشارع نصا لا يقبل التأويل فلا نرى للعلة القاصرة وقعا ولكن يمتنع عن الحكم بفسادها لما ذكرناه في صدر المسألة وإنما ( يفيد ) إذا كان قول الشارع ظاهرا يتأتى تأويله ويمكن تقدير حمله على الكثير مثلا دون القليل فإذا سنحت علة توافق الظاهر فهي تعصمه عن التخصيص بعلة أخرى لا تترقى ( في ) مرتبتها على المستنبطة القاصرة
1095 - ثم في ذلك سر وهو أن الظاهر إذا كان يتعرض للتأويل ولو أول لخرج بعض المسميات ولارتد الظاهر إلى ما هو نص فيه فالعلة في محل الظاهر كأنها ثابتة في مقتضى النص متعدية إلى ما اللفظ ظاهر فيه حيث عصمته عن التخصيص والتأويل فكان ذلك إفادة وإن لم يكن تعديا حقيقيا فلا يتجه غير ذلك في العلة القاصرة فليفهم الفاهم ما يرد ( عليه من ) ذلك
1096 - فإن قيل قول الرسول علسه السلام لا تبيعوا الورق بالورق الحديث نص أو ظاهر فإن زعمتم أنه نص فالتعليل ( بالنقدية ) باطل وإن كان
ظاهر فالأمة مجمعة على إجرائه في القليل والكثير فقد صار بقرينة الاجماع نصا فأي حاجة إلى التعليل فهذا منتهى القول فيه فنقول أما الحظ الأصولي فقد وفينا به والأصول لا تصح على الفروع فإن تخلفت مسألة فلتمتحن بحقيقة الأصول فإن لم تصح فلتطرح
1097 - فإن قيل ما ذكرتموه تصريح بإبطال التعليل بالنقدية قلنا لم نر أحدا ممن خاض في مسائل الربا على تحصيل فيما نورده ونصدره والصحيح عندنا أن مسائل الربا شبهية ومن طلب فيها إخالة اجترا على العرب كما قررناه في مجموعاتنا ثم الشبه على وجوه فمنها التعلق بالمقصود وقد بينا أن المقصود من الأشياء الأربعة الطعم والمقصود من النقدين النقدية وهي مقتصرة لا محالة وليست علة إذ لاشبه لها ولا إخالة فيها ولكن لما انتظم فيها اتباع المقصود عد من مسالك الاشياء الأربعة وليس بعد هذا نهاية
1098 - السؤال الثاني فإن قال قائل النص مقطوع به والعلة مستنبطة مظنونة ومجال الاجتهاد عند انعدام القواطع فلتبطل العلة القاصرة من حيث إنها مظنونة وهذا قريب المأخذ من السؤال الأول فإن غايته ترجع إلى أن لا فائدة فيها ولا أثر لها وما اخترناه يدرأ هذا فإنا بينا أن العلة إنما تستنبط ولفظ الشارع ظاهر ثم نبهنا على التحقيق
1099 - وقد ذكر بعض المنتمين إلى الأصول وهو الحليمي طريقة
( وأخذ ( يتبجج بها وقال من ينشئ نظره لا يدري أيقع على قاصرة أم متعدية فإن العلم بصفة العلة غير ممكن حالة إنشاء النظر فيجب النظر من هذه ( 5 ) الجهة وقائل هذا قليل ( النزل ) فإن الخصم لا ينكر هذا وإنما الخلاف فيما تحقق قصوره فما قول هذا الشيخ إذا انكشف النظر والعلة قاصرة ولا مزيد إذا على ما تقدم
1100 - ثم تكلم القائلون بالعلة القاصرة إذا عارضتها علة متعدية وثبت بمسلك قاطع من إجماع أو غيره اتحاد العلة في مورد النص فأي العلتين أقوى فذهبت طوائف من الفقهاء إلى أن المتعدية أقوى من حيث إنها المفيدة والقاصرة يغنى النص عنها وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أن القاصرة أولى فإن النص شاهد لحكمها وامتنع آخرون من الترجيح من جهة التعدي والقصور وكل ذلك عندنا خارج عن حقيقة المسألة ومن أطلع على ما قدمناه هانت
عليه هذه المدارك وآل القول إلى أن القاصرة والمتعدية إذا سنحتا في مورد ظاهر والظاهر شاهد للقاصرة وهو أيضا شاهد في مضمونه للمتعدية فإن المتعدية تستوعب محل الظاهر وتزيد فقد استويا في الشهادة واختصت المتعدية بالإفادة وهي المعتبرة في تقدير توجه الأمر بالقياس فإذا جرت المتعدية سليمة لم يقدح فيها غير معارضة القاصرة
1101 - والذي يظهر عندي أن المتعدية أولى وهذا إذا استوتا في المرتبة جلاء وخفاء وسيعود هذا الفصل بعينه في كتاب الترجيح إن شاء الله تعالى وما قدرناه لا يجري في ( النقدين ) فإن العلة التي عداها الخصم فيها باطلة من وجوه سوى المعارضة وإنما الذي ذكرناه كلام مرسل حيث يتصور سلامة القاصرة والمتعدية ولو فرضت كل واحدة منهما مفردة مسألة
1102 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا تعلق المتعلق بما يدل على فساد في الفرع واستشهد به على فساد الأصل كان ذلك مقبولا عند المحققين وقد يناكد في مدافعه ذلك بعض الجدليين ويقول التفريع تسليم الأصل وخوض في تسليم الفرع والتصرف في الفرع اعتراف بصحة الاصل وثبوته فإذا قلنا نكاح لا يفيد الحل مع إمكان الاستمتاع وجهوا هذا السؤال وهذا الاعتراض فاسد لا خفاء بسقوطه فإن ( صحة ) الأصول إذا كانت
تقتضي صحة الفروع ( ففساد الفروع ) يدل على فساد الأصول وإنما يستمر هذا الاعتبار إذا قدر المعتبر أن الأصل إذا صح مقتضاه نقيض ما ثبت في الفرع في محل الاعتلال وإذا ثبت ذلك كان ذلك باعتبار حكم الفرع في نهاية الظهور وغاية القايسين الوصول إلى غلبات الظنون ولا مزيد على ما فيه الكلام فإذا ثبت اقتضاء أصل حكما وتبين أن ذلك الحكم غير ثابت ظهر أن الأصل لم يثبت على الصحة ولا يبقى مع هذا الإلحاح الجدلي ولجاجة في عبارة الأصل والفرع معنى
1103 - ومن لطيف الكلام في ذلك أن من لا يقول بالاستدلال ويزعم أن كل معنى يستدعي الاستناد إلى أصل وإن كان مخيلا فالذي يقتضيه قياسه أن يستثني هذا الفن ويقول به وإن لم يجد ( أصلا ) فإنه اذا سلم اقتضاء العقد حكما ثم لم يثبت مقتضاه فلا يستريب في اختلال العقد إذا تخلف عن اقتضائه ثم من صحح هذا النوع اضطربوا في أنه ( هل هو ) من قياس المعنى أو من قياس الشبه فقال قائلون هو من أجلى الأشباه وقال آخرون هو من أقيسة المعاني والصحيح عندنا أنه من أقيسة الدلالة كقول القائل من صح طلاقه صح ظهاره بل هذا الذي نحن فيه أعلى ( منه ) فإنه تعلق بغير مقتضى الشيء ولا يجوز المحصل مباينة المقتضى مقتضاه والطلاق والظهار حكمان متغايران
مسألة
1104 - ومن الاعتراضات الفاسدة أنه إذا طرد طارد علة في حكم واستمر له فقال المعترض هلا طردتها في حكم آخر بعينه فهذا الاعتراض فاسد مثاله أنا إذا اعتبرنا كون الشيء مقتاتا مستنبتا في تعلق العشر فإنا نسلم هذا الاعتبار عن وجوه الاعتراضات الواقعة فقال المعترض بعد هلا اعتبرتم ( ذلك ) في تحريم ربا الفضل فإذا أبطلتموه في الربا فأبطلوه في الزكاة فنقول هذا لا وجه له فإن من طرد علة في حكم فلا يلتزم إلا كونها مشعرة به إن كانت معنوية مع السلامة عن الوجوه المبطلة ولا سبيل إلى تكليف المعلل طرد علته في جميع الأحكام فإن زعم المعترض أن تحريم الربا في معنى الزكاة كان مدعيا مطالبا بإثبات ما يدعيه هذا حكم الجدل في المسلك الحق وليس من المدافعات ولكن الناظر البالغ مبلغ الاجتهاد إذا كان يبغي مدرك مأخذ الكلام فحق عليه أن يعرف انفصال كل باب عما عداه في سبيله وليس كل ما يلتزمه المجتهد في نفسه يلزمه البوح به في النظر مسألة
1105 - ومن الاعتراضات الفاسدة التعرض للفرق بين الأصل والفراغ بما هو نتيجة ( افتراقهما ) في
الاجتماع والخلاف ومثاله إذا قاس القايس النبيذ المشتد على الخمر فقال المعترض مستحل الخمر كافر ومستحل النبيذ لا يفسق وهذا يرجع حاصله إلى أن تحريم الخمر متفق عليه ثابت من جهة الشرع قطعا ومنكر ذلك جاحد للشرع وتحريم النبيذ مختلف فيه ومن هذا الجنس قول أصحابنا في طلب الفرق بين المدبرة والمستولدة إن القضاء ببيع المستولدة منقوض بخلاف المدبرة وهذا باطل لصدره عن افتراق الأصل والفرع في ظهور الحكم في الأصل وكونه مجتهدا فيه في الفرع مسألة
1106 - ومن الاعتراضات الفاسدة قول القائل الحكم يثبت في الأصل متأخرا والمعلول لا يسبق العلة فإذا قسنا الوضوء في الافتقار إلى النية على التيمم قالوا ثبوت التيمم متأخر عن الوضوء والجواب عن ذلك لائح ولا يليق بهذا المجموع ذكر أمثال ذلك إلا رمزا فنقول إذا ثبت اشتراط النية في التيمم فاعتبار الوضوء به في الحال متجه وسؤال المعترض مباحثة عن أمر منقض وحقه ألا يتعرض لما مضى فإن الناظر في تأخر النزاع قد لا يشك في أن النية في الوضوء كانت عند مثبتيها مدلولة بدلالة أخرى قبل ثبوت التيمم فإذا ثبت التيمم دل عليها والعلامات قد تترتب تقدما وتأخرا وذلك غير مستنكر في دلالات العقول فما الظن بالأمارات ثم لا يمتنع أن يقال إذا ثبت كون الوضوء في معنى التيمم ثم ثبتت النية في
التيمم أرشد ذلك من طريق السبر والاستناد إلى أن النية كانت مرعية في الوضوء فيما سبق وهذا تكلف مستغنى عنه فإن المناظرات لا تدار على الأحكام الماضية ومنتهى هذا السؤال آيل إلى المطالبة بما دل على ( النية قبل ) ثبوت التيمم وهذا لا يلزم الجواب عنه مسألة
1107 - ومن الاعتراضات الفاسدة جعل المعلول علة والعلة معلولا مثاله إنا إذا قلنا في ظهار الذمي من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فإذا قال المعترض جعلتم الظهارة معلولا والطلاق علة وأنا أقول في الأصل المقيس عليه ( المسلم 9 إنما صح طلاقه لأنه صح ظهاره فأجعل ما جعلتموه علة معلولا وما جعلتموه معلولا علة فإذا كان لا ينفصل ما ادعيتموه عما ادعيناه ولا يتأتى تميز العلة عن المعلول لم يصح فإن باب العلة ينبغي أن يتميز بحقيقته وخاصيته عن باب المعلول وقد يستشهد هذا السائل بلقب قرع مسامعه من المعقولات ويقول العلة والمعلول في الشرعيات على مضاهاة العلل في العقليات ثم العلة العقلية متميزة عن المعلول فليكن الأمر كذلك في السمعيات وهذا عند ذوي التحقيق ركيك من الكلام وإنما يتوجه هذا الفن من الاعتراض على قياس الدلالة كالطلاق والظهار وما أشبهها فإن الغرض أن يدل باب على باب بوجه يغلب على الظن ومن يروم ذلك يتمسك بالمتفق عليه من البابين ويجعله علما ودلالة على المختلف فيه فإن كان هذا المعترض يتشبث برد قياس الدلالة ويجعل
ما ذكره عبارة عن هذا المقصود فالوجه إثبات هذا الباب من القياس وقد تقدم ذكر ذلك وإن كان يعترف بقياس الدلالة فالذي ذكره جار فيه ثم لا ننكر أن يكون الظهار علما دالا على الطلاق حيث تمس الحاجه إلى ذلك والغرض ألا يختلف البابان إذا غلب على الظن اجتماعهما فقد تبين سقوط الاعتراض وأما مل ذكره من الاستشهاد بالعله والمعلول في المعقول فما أبعدهم عن ذلك وهو عمدة صناعة الكلام والذي انتهى إليه اختيارنا بعد استيعاب معظم العمر في المباحثة أن ليس في العقل علة ولا معلول فكون العالم عالما هو العلم فيه بعينه وإنما صار إلى القول بالعلة والمعلوم من أثبت الأحوال وزعم أن كون العالم عالما معلول والعلم علة له وهذا مما لا نرضاه ولا نراه ثم العلل الشرعية لا تجري مجرى المعقولات فإن الأحكام العقلية تستند إلى صفات الأنفس والذوات والعلل الشرعية مستندها النصب وليست هي مقتضية معلولاتها لأنفسها وإذا كان انتصابها عللا راجعة إلى نصب ناصب إياها أعلاما فلا يمتنع تقدير ( حكمين ) كل واحد منهما علم على الثاني مشعر بوقوعه عند وقوعه مسألة
1109 - ومن الاعتراضات الفاسدة أن يقول القائل هذا الذي نصبته علما هو صورة المسألة فالعلة حقها أن
تكون زائدة على الحكم وهذا لا حاصل له فإن الذي نصبه ( الناصب علما ) إن أخال وجرى سليما عن المبطلات غير معترض على الأصول فلا معنى لقول القائل أنها صورة المسألة إذ لا علة في عالم الله تعالى إلا وهي كذلك فالوجه إقامة شرائط العلة واطرح هذا الفن من السؤال وحظ هذا الفن من التحقيق أن من نص على صورة المسألة وميزها بخاص وصفها فلا يتصور أن يجد أصلا متفقا عليه وإن ذكر عبارة تعم صورة المسألة وأصلا متفق عليه فالوجه الذي به العموم هو الجمع ولا تتصور العلل إلا كذلك فهذا منتهى المراد في هذا وقد نجز بنجازه ( الكلام في ) الاعتراضات الصحيحة والفاسده
فصل القول في المركبات
فصل ( التركيب في الأصل )1110 - وهذا يستدعي تجديد العهد بالطرق التي تثبت بها علل الأصول وقد سبقت فليجدد الناظر عهده بها مما تقدم في هذا المجموع ولا مطمع والمسألة مختلف فيها في علة تكون في الأصل متفقا عليها فإنها لو كانت مجمعا عليها وهي م موجودة في محل النزاع فلا يتصور والحالة هذه الخلاف في الفرع ومما تمس الحاجة إلى ذكره أن من ذكر في علة الأصل صفة مضمونة إلى أخرى وكانت ( إحدهما ) تستقل بإثبات الحكم المطلوب في الأصل وهذا النوع من التعليل باطل مثل أن نقول في النكاح بلا ولي أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة فكأنه ذكر الأنوثة والصغير في الأصل فهذه مقدمات لا بد من التنبه لها
1111 - ثم التركيب يقع في الأصل والوصف فأما التركيب في الأصل فمنه البين والفاحش ومنه ما لا يتفاحش ونحن ( نرسم الصور ) ونذكر في كل صورة ما يليق بها ثم نذكر قولا جامعا بعد نجاز الصور والأقوال فيها فمن الصور أن يقول المعلل أنثى فلا تزوج نفسها كابنة خمس عشرة سنة والخصم يعتقد أنها صغيرة ولو كانت كذلك لكان ما جاء به المعلل قياسا على
الصغيرة وقد ذكرنا بطلانه وإن ثبت أنها كبيرة فسيمنع الحكم ويقضي بأنها تزوج نفسها
1112 - والذي ذهب إليه طوائف من الجدليين القول بصحة التركيب وحاصل كلامهم يئول إلى ألى أن الحكم متفق عليه والمعلل يلتزم إثبات الأنوثة علة فإن أثبتها ثبتت العلة وتشعب المذاهب بعد ذلك لا اصل له وإن لم يتمكن المعلل من إثبات ما ذكره في الفرع علة في الأصل فالذي جاء به باطل وإن لم يكن مركبا فإذا لا أثر للتركيب كان أو لم يكن وإنما المتبع إثبات علل الأصول وهذا باطل عند المحققين فإن المخالف يقول ظننت ابنة الخمس عشرة صغيرة ولو كانت كذلك لكان القياس على الصغيرة باطلا كما تقدم إلحاقا بالقياس على ما لو مس وبال وإن ثبت بما يغلب على الظن أن ابنة الخمس عشرة بالغة فلها أن تزوج نفسها ولا يخلو التقدير من هذين فالعلة مرددة بين منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير
1113 - فإن قيل أرأيتم لو أثبت المعلل الأنوثة علة قلنا ما نراه يقدر على ذلك فإن فرض إمكان ذلك فالعلة لا أصل ( لها ) ويرجع الكلام إلى الاستدلال المحض كما سنذكره بعد نجاز القول في المركبات فإن قيل يثبت المعلل أن الأنوثة علة في ابنة الخمس عشرة قلنا مع اعتقاد صغرها أو مع ثبوت بلوغها فإن ثبت بلوغها فالحكم ممنوع وإن ثبت وإن ثبت صغرها فالصغر مستقل بالمنع
1114 - صورة أخرى إذا قلنا في تزويج الأب البكر بكر فيزوجها أبوها مجبرا كبنت الخمس عشرة
فهذه الصورة دون الأولى فإنه وإن ثبت صغرها فالقياس على البكر الصغيرة غير ممتنع عند الشافعية إذ مجرد الصغر لا يثبت ولاية الأب فإن الثيب الصغيرة لا يزوجها أبوها عندهم فتصدى في الأصل تقدير منع بأن يقول الخصم ابنة الخمس عشرة صغيرة فإذا أنكر عليه قال هذا مظنون فإن ثبت أنها بالغة فلا يجبرها الأب ولا شك أن من يقول بالتركيب يقبل هذا وهذه الصورة تنفصل عن الأولى فإن الأولى تبطل على تقدير الصغر والبلوغ جميعا ( والصورة ) الثانية لا تبطل على تقدير الصغر ولكن يتوجه على تقدير الكبر منع من الخصم ( ويضطر المعلل ) إلى رد القياس إلى الصغيرة بالبكر فيلغو تعيين خمس عشرة
فصل ( التركيب في الوصف )
1115 - وأما التركيب في الوصف فمنه المتفاحش وهو أن يقول الشافعي في قتل المسلم بالذمي من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا يستوجب بقتله بالسيف كالأب في ابنه فهذا يصححه بعض الجدليين بناء على ما تقدم وهو على نهاية الفساد عندنا فإن المثقل على رأي الخصم ليس آلة القصاص فإن ثبت أنه ليس آلة القصاص كان القصاص باطلا ( آيلا ) إلى أن من لا يستوجب القصاص بقتل شخص خطأ لا يستوجب بقتله عمدا وإن ثبت أنه آلة القصاص منع الخصم الحكم فالعلة بين منع بطلان
1116 - وقد يجري في الوصف تركيب قريب يضاهي عند المحققين التمسك بمناقضة الخصم وشرط ذلك أن يكون مشعرا بفقه ومثاله قولنا في الثمرة التي لم تؤبر أنها تتبع الشجرة في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت مطلق تسميتها كالأغصان ووجه الفقه أن الشفعة في وضعها لا تختص بالمنقولات فأشعر أخذ الشفيع الثمرة بكون الثمرة معدودة من إجزاء الشجرة ملتحقة بها فأما إذا قال الخصم سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى ولذلك أثبت أخذ الثمار المؤبرة ( للشفيع ) فالوجه أن يقول الحكم المطلوب ثابت والمناسبة كما تريدها ظاهرة ومعناكم ظاهر على السبر فقد جرى هذا فقها وسببه مناقضتكم فليسند التعلق به وما يتعلق تعلقا ظاهرا فإنه يتضمن إلحاق الثمرة بأجزاء الشجرة وهو المقصود الأقصى والتركيب البعيد لا يناسب غرض المسألة والتعويل فيه على ( زلل ) الخصم
1117 - مسألة أخرى ليست من محل النزاع بسبيل كغلط يتفق في سن البلوغ فلا تعلق له بتزويج المرأة أو امتناع
ذلك عليها فإذا توصل ذو الجدل إلى صورة فيها غلط للخصم عنده في حد البلوغ فإنا نستجيز طالب المعنى ( استثارة ) غرض النكاح من غلطه ( في ) سن البلوغ
1118 - وإذا اعتبرنا القصاص ( في النفس بالقصاص في الطرف ) في صورة تغرضها في قتل المسلم بالذمي وذلك إذا فرضنا في المسلم والذمية ثم اعتبرنا النفس بالطرف كان الاعتبار واقعا مناسبا لغرض ( المسألة ) إما من جهة ( تشبيه ) أو من جهة إشارة إلى معنى فقه فإذا ذهبوا يخبطون في الأطراف كان ذلك من مناقضاتهم وسوء نظرهم وعلى هذا يجري تدرب النظار في مناقضات الخصوم فهذا منتهى القول فيما يصح ويبطل من التركيب في الأصل والوصف مسألة ( في التعدية )
1119 - ثم ضرى أهل الزمان بفن من الكلام يسمونه التعدية وهو عرى عن التحصيل ولكن لا سبيل إلى تعرية هذا المجموع عن ذكره والتنبه على فساده فنفرض ( من صوره ) صورة في التركيب ونرتب عليها صورة التعدية فإذا قلنا أنثى لا تزوج نفسها كبنت الخمس عشرة فيقول المعترض المعنى فيها انها صغيرة وأعدى ذلك إلى منع استقلالها بالتصرفات واطراد ولاية الولى
عليها فإذا قال المعلل دعواك الصغر ممنوعة وكذلك فروعها قال المعدي كذلك الأنوثة ليست علة وقد ادعيتها علة ودعديتها إلى فرعك فادعيت الصغر علة وعديتها إلى فروعي فاستوى القدمان وآل الأمر إلى التزامك إبطال علتي أو ترجيح علتك وقد ينقدح للمعدي جهتان في التعدية و ( ذلك ) إذا قال المعلل بكر فيجبرها أبوها كبنت الخمس عشرة فينقدح للمعدي أن يقول المعنى فيها أنها صغيرة وأعدى ذلك إلى اضطراد الحجر عليها فهذا وجه في التعدية وقد يقول المعنى فيها أنها صغيرة واعديها إلى جواز تزويجها مجبرا وإن كانت ثيبا وهذا يطرد للمعدي في الصغيرة الثيب التي يتفق على صغرها
1120 - ثم تكلم أصحاب التركيب على التعدية من وجوه لست ارى ذكر معظمها فمنها أنهم قالوا معناى مسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما أنازع في إثباته علة وهذا يجري في ( كل ) علة مستثارة في محل الاجتهاد وما ادعيته علة لا أسلم وجوده فإن اشتغلت بإثبات وجوده كنت منتقلا إلى مسألة أخرى ليست من مسألتنا بسبيل والانتقال ممنوع لا سبيل إليه ويستوي فيه السائل والمسئول فهذا وجه التضييق الذي تخيله المركبون فلو عدى المسئول لم يقبل منه فإن دليل المسئول إنما يقبل في نفس المسألة أو فيما تنبني عليه فإنه إذا احتاج إلى
إثبات مسألة لا تعلق لها بمحل النزاع فقد عد متنقلا
1121 - وقد يسلك المركب في إبطال التعدية مسلكا آخر فيقول لو ثبت معناك لقلت به ضمنا إلى معناي فإن الحكم لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد لا يجري في بعض المركبات فإنا إذا قلنا بكر فتجبر كما ذكرناه فذكر المعدي الصغر لم يمكنا أن نجعل الصغر علة في الإجبار فإن الثيب الصغيره لا تجبر عندنا
1122 - وقال الأستاذ أبو إسحاق وهو من المركبين سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول معناي عندكم دعوى غير مثبتة ( بما ) تثبت به معاني الأصول أم قد يثبت مدلولا فإن لم يقم عليه دليل ( فلست ) معللا بعد ولا مقيما متمسكا في محل النزاع فابتدارك إلى معارضتي بالتعدية غير متجه وإن اعترفت بكون معناي ثابتا فمعناك الذي ابتدأته ليس مناقضا لمعناي وإنما تقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في المقتضى فهذا مضطرب المركبين والمعدين وقد بان أصلنا فيما نقبله ونرده في تركيب الأصل والفرع
1123 - ونحن الآن نجمع المقصود والمدرك الحق في تقسيم فنقول الأقيسة ( الخلية ) عن معنى التركيب في الأوصاف والأصول بينة وقد قدمنا تقاسيمها وذكرنا مراتبها فأما ما يليق بما نحن فيه فينقسم إلى قسمين أحدهما يتلقى انتظامه من مذهب الخصم لا تعلق له بمحل النزاع ولا يشعر
به ولا يقتضيه بطريق التشبيه وهذا كمصير أبي حنيفة إلى أن بنت الخمس عشرة صغيرة فهذا لا يناسب تزويج المرأة نفسها ولا امتناع ذلك منها وليس منها على معنى ولا تشبيه ومذهبه ذكر التركيب فهو إذا ( تعقيد ) على الشادين والمبتدئين ومدافعة لهم عن مسلك الرشد وتعميه عليهم وقد أجمع الناظرون في هذا الباب أن هذا القسم لا يجوز أن يكون مستند الفتوى ولا الحكم وليس هو مناطا لحكم الله تعالى لا معلوما ولا مظنونا فهذا هو المردود فإن الجدل الحسن المأمور به هو الذي ( يقرب ) من مثار الاحكام ( فيرشد ) إلى مناطها وهذا القسم هو المردود عندنا
11240 - وأما التركيب المشعر بفقه كما قدمنا تصويره فينقسم إلى قسمين منه ما الحكم فيه مع المعنى الفقيه متفق عليه فما كان كذلك فهو مقبول مستند للفتوى والحكم ووجوب العمل وهذا كقياسنا القصاص في النفس على القصاص في الطرف في بعض صور الوفاق وإن وقع القصاص في الطرف مركبا عند الخصم كان التركيب منه معدودا من خبطه وتعلق القياس بالإجماع على الحكم والمعنى الفقيه أو وجه لائح في التشبيه فهذا قسم
1125 - والقسم الثاني من هذا أن ينفرد الخصم بتسليم الحكم ثم يبتدئ منه تركيبا فهذا لا ينتهض مستند الفتوى والحكم ولكن يجوز التمسك به في المناظرة كما يجوز التمسك بمناقضة الخصم والسبب فيه أن المناقضات لها تعلق بفقه المسألة وفي المباحثة عنها التنبيه على مآخذ الكلام والتدرب في الجدل المفضى إلى مدرك الحق وهذا من فوائد المناظرات
1126 - فيترتب من مجموع ما ذكرنا مركب مردود حكما ونظرا ومركب معمول به حكما ومن ضرورته أن يكون مقبولا نظرا ومركب مقبول نظرا والغرض منه التدرب في المسلك المطلوب في المناظرات وليس معمولا به في فتوى ولا قضاء وقد نجز بهذا تمام القول في المركبات بل وفي تقاسم الأقيسة وما يصح وما يفسد من الاعتراضات وطرق الانفصال عنها ونحن الآن نفتتح الكلام في الاستدلال
-
الكتاب الرابع
- كتاب الاستدلال القول في الاستدلال1127 - اختلف العلماء المعتبرون والائمة الخائضون في الاستدلال وهو معنى مشعر بالحكم مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلي من غير وجدان أصل متفق عليه والتعليل المنصوب جار فيه
1128 - فذهب القاضي وطوائف من متكلمي الأصحاب إلى رد الاستدلال وحصر المعنى فيما يستند إلى أصل
1129 - وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال فرئى يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة وجره ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في غالب الظن وإن لم يجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول ثم لا وقوف عنده بل الرأي رأيه ما استند نظره وانتقض عن أوضار التهم والأغراض
1130 - وذهب الشافعي ومعظم أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهما إلى ( اعتماد ) الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل ولكنه لا يستجيز النأي والبعد والإفراط وإنما يسوغ تعليق الأحكام بمصالح يراها شبهية بالمصالح المعتبرة وفاقا وبالمصالح المستندة إلى أحكام ثابتة الأصول قارة في الشريعة
1131 - فالمذهب إذا في الاستدلال ثلاثة أحدها نفيه والاقتصار على اتباع كل معنى له أصل والثاني جواز إتباع وجوه الاستصلاح والاستصواب قربت من موارد النص أو بعدت إذا لم يصد عنها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع والمذهب الثالث هو المعروف من مذهب الشافعي التمسك بالمعنى وإن لم يستند إلى أصل على شرط قربه من معاني الأصول الثابتة
1132 - أما القاضي فإنه احتج بأن قال الكتاب والسنة متلقيان بالقبول والإجماع ملتحق بهما والقياس المستند إلى الاجماع هو الذي يعتمد حكما وأصله متفق عليه أما الاستدلال فقسم لا يشهد له أصل من الأصول الثلاثة وليس يدل لعينه دلالة ادلة العقول على مدلولاتها فانتفاء الدليل على العمل بالاستدلال دليل انتفاء العمل به وقال أيضا المعاني إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشارع وإذا لم يكن يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر ورجع الشرع إلى اتباع وجوه الرأي واقتفاء حكمة الحكماء فيصير ذوو الأحلام بمثابة الأنبياء ولا ينسب ما يرونه إلى ربقة الشريعة وهذا ذريعة في الحقيقة إلى إبطال أبهة الشريعة ومصير إلى أن كلا يفعل ما يراه ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان والمكان وأصناف الخلق وهو في الحقيقة خروج عما درج عليه الأولون
1133 - وأما الشافعي فقال إنا نعلم قطعا أنه لا تخلو واقعه عن حكم الله تعالى معزو إلى شريعة محمد صلى الله عليه و سلم على ما سنقرره في كتاب الفتوى والذي يقع به الاستقلال هاهنا أن الائمة السابقين لم يخلوا واقعه ( على ) كثرة المسائل وازدحام الأقضية والفتاوى عن حكم الله تعالى ولو كان ذلك ممكنا لكانت تقع وذلك مقطوع به أخذا من مقتضى العادة وعلى هذا علمنا بأنهم رضى الله عنهم استرسلوا في بناء الأحكام استرسال واثق ( بأنبساطها ) على الوقائع متصد لإثباتها فيما يعن ويسنح متشوف إلى ما سيقع ولا يخفى على المنصف أنهم ( ما ) كانوا يفتون فتوى من فتوى من تنقسم الوقائع عنده إلى ما يعرى عن حكم ( الله ) وإلى ما لا يعرى عنه فإذا تبين ذلك بنينا عليه المطلوب وقلنا لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعاني المستثارة منها لما اتسع باب الاجتهاد فإن المنصوصات ومعانيها المعزوة إليها لا تقع من متسع الشريعة غرفة من بحر ولو لم يتمسك الماضون بمعان في وقائع لم يعهدوا أمثالها لكان ( وقوفهم عن ) الحكم يزيد على جريانهم وهذا ( إذا ) صادف تقريرا لم يبق لمنكرى الاستدلال مضطربا
1134 - ثم عضد الشافعي هذا بأن قال من سبر أحوال الصحابة رضي الله عنهم وهم القدوة والأسوة في النظر لم ير لواحد منهم في مجالس الأشتواء تمهيد أصل واستثارة معنى ثم بناء الواقعة عليه ولكنهم يخوضون في وجوه الراى من
غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فإذا ثبت اتساع الاجتهاد واستحال حصر ما اتسع منه في المنصوصات وانضم إليه عدم احتفال علماء الصحابة تطلب الأصول أرشد مجموع ذلك إلى القول بالاستدلال
1135 - ومما يتمسك به الشافعي رضي الله عنه أن يقول إذا استندت المعاني إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست الأصول وأحكامها حججا وإنما الحجج في المعنى ثم المعنى لا يدل بنفسه حتى يثبت بطريق ( إثباته ) وأعيان المعاني ليست منصوصة وهي ( المتعلق ) فقد خرجت المعاني عن ضبط النصوص وهي متعلق النظر والاجتهاد ولا حجة في انتصابها إلا تمسك الصحابة رضي الله عنهم بأمثالها وما كانوا يطلبون الأصول في وجوه الرأي فإن كان الأقتداء بهم فالمعاني كافية وإن كان التعلق بالاصول فهي غير دالة ومعانيها غير منصوصة
1136 - ومن تتبع كلام الشافعي لم يره متعلقا بأصل ولكنه ينوط الأحكام بالمعاني المرسلة فإن عدمها التفت إلى الأصول ( مشبها ) كدأبه إذ قال طهارتان فكيف يفترقان ولا بد في التشبيه من الأصل كما سنجري في ذلك فصلا إن شاء الله تعالى
1137 - وأما ذكره القاضي من المسلك الأول ففي طرد كلام الشافعي ما يدرؤه ولو قيل لم يصح في النقل عن واحد طرد القياس على ما يعتاده بنو الزمان من تمثيل أصل واستثارة معنى منه وربط فرع به لكان ذلك أقرب مما قال القاضي
1138 - وأما ما ذكره من خروج الأمر عن الضبط والمصير إلى انحلال ورد الأمر إلى آراء ذوي الأحلام فهذا انما يلزم مالكا رضي الله عنه ورهطه إن صح ما
روى عنه كما ( سنقيم ) الآن واضح الرأي على أبي عبد الله مالك رضي الله عنه أولا حتى إذا انتجز ضممنا ( النشر ) وأنهينا النظر وأتينا بمسلك اليقين والحق المبين مستعينين بالله تعالى وهو خير معين
1139 - فنقول لمالك رحمه الله ( أتجوز ) التعلق بكل رأي فإن أبي لم نجد مرجعا نقر ( عنده ) إلا التقريب الذي ارتضاه الشافعي رضي الله عنه كما سنصفه وإن لم يذكر ضبطا وصرح بأن ما لا نص فيه ولا أصل له فهو مردود إلى الرأي المرسل واستصواب ذوي العقول فهذا الآن اقتحام عظيم وخروج عن الضبط ويلزم منه ما ذكره القاضي رحمه الله
1140 - وما نزيده الآن قائلين لو صح التمسك بكل رأي من غير قرب ومداناة لكان العاقل ذو الرأي العالم بوجوه الإيالات إذا راجع المفتين في حادثة فأعلموه أنها ليست منصوصة في كتاب ولا سنة ولا أصل لها يضاهيها لساغ والحالة هذه أن يعمل العاقل بالأصوب عنده والأليق بطرق الاستصلاح وهذا مركب صعب لا يجترىء عليه متدين ومساقه رد الأمر إلى عقول العقلاء وإحكام الحكماء ونحن على قطع نعلم أن الأمر بخلاف ذلك ثم وجوه الرأي تختلف بالأصقاع والبقاع والأوقات ولو كان الحكم ما ترشد إليه العقول في طرق الإستصواب ومسالكه تختلف للزم أن تختلف الأحكام ( باختلاف ) الأسباب التى ذكرناها ثم عقول العقلاء قد تختلف وتتباين على النقائض والأضداد في المظنونات ولا يلزم مثل ذلك فيما له أصل أو تقريب فإن ( شوف ) الناظرين إلى الأصول
الموجودة فإذا رمقوها واتخذوها معتبرهم لم يتباعد أصلا اختلافهم ولو ساغ ما قاله مالك رضي الله عنه إن صح عنه لاتخذ العقلاء أيام كسرى أنو شروان في العدل والإيالة معتبرهم
وهذا يجر خبالالا استقلال به
1141 - وإن أخذ مالك رحمه الله وأتباعه يقربون وجه الرأى من القواعد الثابتة في الشريعة فالذي جاءوا به مذهب الشافعي رحمه الله على ما سنصف طريقة
وإنما وجهنا ما ذكرناه على من يتبع الرأى المجرد ولا يروم ربطة بأصول الشريعة ويكتفي ألا يكون في الشريعة أصل يدرؤوه من نص كتاب أو سنة أو إجماع
1142 - فإن قيل فما معنى التقريب الذي نسبتموه إلى الشافعي
قلنا هذا محز الكلام ونحن نقول قد ثبتت أصول معللة اتفق القايسون على عللها فقال الشافعي أتخذ تلك العلل معتصمي وأجعل الإستدلالات قريبة منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والإستدلال معتبر بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة بمعنى جامع فإن متعلق الخصم من صورة الأصل معناها لا حكمها فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده أصل كان استدلالا مقبولا وهذا يتبين برسم مسألة واستقصاء القول فيها ونحن نجريها ونذكر ما فيها حتى تنتجد الأصول والمعاني والإستدلالات
مسألة
1143 - الرجعية محرمة الوطء عند الشافعي وهي مباحة الوطء عند أبي حنيفة رضي الله عنهما
ومعتمد الشافعي أنها متربصة في تبرئة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذي تؤمر فيه بالتبرئة متناقض
وهذا معقول فإن المرأة لو تربصت قبل الطلاق واعتزلها الزوج لم يعتد بما جاءت به عدة فلو كانت تحل قبل الطلاق وبعده لما كان لأختصاص الأعتداد بما بعد الطلاق معنى ولم يطلب الشافعي بهذا المعنى أصلا وما ذكره قريب من القواعد فإنه كلام منشؤه من فقه العدة ثم عضده بما قبل الطلاق
1444 - وقال بعض اصحابه نقيس الرجعية على البائنة في العدة ويتسع الآن القول في إثبات الحكم بالعلتين ونفى ذلك والغرض يتبين بفرض أسئلة وأجوبة عنها
فإذا قلنا معتدة فتكون محرمة كالمعتدة البائنة فيقول المعترض المعنى في تحريمها أنها بائنة وهذا المعنى يستقل باقتضاء الحكم ولا خلاف أن البينونة علة في اقتضاء التحريم فليقع الأكتفاء عنها
وربما أكد السائل كلامه بأن قياس الرجعية على البائنة بمثابة قياس البالغة على الصغيرة بجامع الأنوثة فإذا قال القائل أنثى فلتلحق بالصغيرة كان ذلك مردودا فإن الصغر بمجرده يستقل نافيا للإستقلال فلا أثر للأنوثة وقد قدمنا ذلك في العلل المركبة وهذا القول يلتحق بقول القائل مس فصار كما لو مس وبال
وقد أجاب عن ذلك الأولون فقالوا لسنا ننكر كون البينونة علة ولكن العدة علة أخرى وليس بين العلتين تعارض إذ ليس بين حكميهما تناقض ولا يمتنع
ارتباط الحكم الواحد بعلتين وأما القياس على الأنثى الصغيرة فهو في صوره كقياس الرجعية على البائنة ولكن الأنوثة ليست مخيلة والمستدل بتلك الصورة طارد فكان بطلان العلة لذلك وكذلك سبيل القياس على ما لو مس وبال
1145 - فإن قيل قد قدمتم أن الحكم لا يعلل بعلتين فلم سوغتموه الآن قلنا حاصل كلامنا فيما مضى آيل إلى أن ذلك غير ممتنع من طريق النظر فإن العلل الشرعية أمارات ولا يمتنع انتصاب أمارات على حكم واحد كما لا يمتنع ازدحام أدلة عقلية على مدلول واحد وإنما كان يمتنع تقدير ذلك أن لو كانت الأمارات موجبات كالعلل العقلية عند مثبتيها فإنها موجبة معلولاتها فيمتنع على هذا التقدير ثبوت موجبين لموجب واحد مع الاستقلال بأحدهما وينجر القول إلى سقوط فائدة إحدى العلتين وهذا لا يتحقق في العلامات ولكنا مع هذا قلنا هذا الذي لا يمتنع في مسلك النظر لم يتفق وقوعه ثم أوردنا صورا يتعلق بها في ظاهر الأمر حكم بعلل وأوردنا أنها أحكام تعلل بعلل وإنما يتخيلها الناظر حكما واحدا لضيق المحل عن الوفاء بأعدادها عند ازدحامها وقد سبق في هذا قول مقنع تام والغرض من تجديد العهد به أن القايس على البائنة ( يستدل بأن ) يقول اجتمع في البائنة المعتدة علتان وتحريمان أحد التحريمين تحريم البينونة وانقطاع النكاح وهذا لا يختص بالعدة فإنها لو ( أبينت ) قبل الدخول من غير عدة لحرمت والتحريم الثاني تحريم التربص فهذا هو المطلوب وهو المعلل بالعدة وليس في هذا التقدير إثبات حكم واحد بعلتين فإن أنكر ( منكر ) كون العدة علة فعلى
السابر الجامع أن يثبت ذلك بما يثبت به علل الأصول فهذا وجه الكلام
1146 - ونحن نذكر الآن في هذا الفن سرا بديعا يتخذه الناظر معتبرا في أمثاله فإن قال قائل إنما يستقيم ما ذكرتموه من تجريد النظر إلى العدة بأن تقدروا زوال البينونة وتمحض العدة من غير انقطاع النكاح ولو كان كذلك لكان ما تعتقدونه أصلا عين مسألة الخلاف فإن المعتدة التى ليست بائنة هي الرجعية وينقدح في هذا السؤال الذي اعتمدناه في رد التركيب إذ قلنا المركب يقول إن كانت ابنه الخمس عشرة كبيرة فالحكم ممنوع كذلك إن فرض تجريد العدة عن البينونة فيكون الحكم ممنوعا عند الخصم وهذا الذي نحن فيه نوع من التركيب في العلل ومهما سلم الجامع ثبوت علة أبداها المعترض ( في الأصل ) سوى ما وقع الجمع به فيتوجه تقدير المنع على هذا الترتيب الذي ذكرناه وهذا من لطيف الكلام في هذا الباب فليتنبه الناظر له وهو يجري في القياس على ما لو مس وبال ( لو ) كان قوله مس مخيلا فإن رجع الكلام إلى أنه مس فصار كما لو مس فلا يستبد التعلق بالعدة في اقتضاء التحريم إلا استدلالا
1147 - فإن قيل لو قال من يحرم الرجعية معتدة فشابهت المعتدة عن وطء شبهة طارىء على النكاح فهل يصلح هذا وهل يستقيم ( تقدير عدة الشبهة ) أصلا قلنا هذا على اطراده من أحسن فنون الطرد فإن المعتدة في الأصل مشغولة الرحم بماء محترم لغير الزوج وفي إقدام الزوج على وطئها اختلاط الماءين ولا
خلاف أن التحريم في الأصل معلل بهذا لا غير ومن يريد جمعا في متعلق له إلا اسم المعتمدة فكان طاردا فإن أخذ يبدي ( في عدة المعتدة الرجعية ) ما ذكرناه استدلالا من كونها متربصة عن الزوج لم يتحقق هذا في الأصل فالعلة ( ألاولى ) فيها اخالة ربط حكم أو حكمين متماثلين بعلتين وهذه العلة إن ردت إلى طالب الإخالة فالأمة مجمعة على أن الفرع والأصل غير مجتمعين في المعنى المقتضى فلا يبقى الاجتماع إلا في نعت واسم والذي يحقق ذلك أن العدة عن الغير تمنع ابتداء النكاح لغير من عنه العدة ولو كانت العدة من الزوج ولم تقع الحرمة الكبرى لما امتنع على الزوج النكاح فاستبان أن محرم الرجعية إن عول على العدة لم يجد أصلا
1148 - فإن قيل فما رأيكم في استعمال ذلك استدلالا قلنا هو الآن يتعلق بفن من الفقه ولكن إذا انتهى الكلام إليه نأتي فيه بما يليق بهذه المحال ونقول إن تمسك المحرم بمناقضة التربص المستدعىالبراءة للوطء الشاغل فلست أرى هذا المعنى واقعا من جهة أن الوطء عند الخصم لو جرى لانقطعت العدة وإنما الممتنع ( اجتماع ) العدة والتشاغل بالوطء على مذهب من يبيح الرجعية بل هو رجعة عنده ثم الرجعة والعدة عنده لا ( يجتمعان ) ولكن ( طريان ) الرجعة يتضمن انقطاع العدة فليكن الوطء كذلك
1149 - فإن قيل فما الرأي في قول من يتمسك بالاحتساب بالعدة ويقول
ولو كانت مستحلة كما كانت لما احتسبت الأقراء ( عدة ) كما لو وجدت صورة الأقراء قبل الطلاق قلنا هذا أمثل قليلا وهو في التحقيق تمسك بالعكس وجواب الخصم عنه ( أوضح منه ) فإنه يقول الطلاق في غير الممسوسة ينجز البينونة وهو في الممسوسة يثبت المصير إلى البينونة وذلك يحصل بالخلو عن العدة والعدة زمان الجريان إلى البينونة وهذا لا يتحقق قبل الطلاق إذ ليس قبله مرد إلى البينونة يتوقع المصير إليها فالذي أوجب الفصل بين ما قبل الطلاق وبعده في الاعتداد ما ذكرناه والتي انقضت عدتها بعد الطلاق ( و ) صارت بريئة الرحم تلتحق بالتي لم تمس أصلا فهذا وجه الكلام
1150 - فإن تعلق المحرم بان الطلاق أوجب المصير إلى البينونة فليكن هذا محرما لم يستبد هذا ايضا من جهة أن الزوج إذا علق الطلاق الثلاث بمجئ رأس الشهر لم تحرم المرأة في الأمد المضروب فإن كانت البينونة هي المحرمة فهي منتظرة غير واقعة وإن كان الطلاق هو المحرم فلم ينتصب دليلا عليه بعد فإن قيل لو كانت مستحلة لما احتيج إلى الرجعة فللخصم أن يقول الرجعة تقطع وقوع البينونة فإنها لو تركت لصارت إليها
1151 - ولم نذكر هذه المعارضات إلا ليستبين الناظر وجه التمسك بالمعاني التي لا أصول لها واعتماد المستدل على الإخالة والمناسبة فالوجه في مسألة الرجعية إذا اعترضت أن تقع البداية بأن الوطء لا يكون رجعة ( وثبت ) ذلك سهل كما