كتاب : شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل
تأليف:محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
ذلك المخلوق إن كان ميتا فالحي أكمل منه فيمتنع أن يكون الناس مفطورين على عبادة الميت وإن كان حيا فهو أيضا مريد فله إله تألهه وحينئذ فلزم الدور الممتنع أو التسلسل الممتنع فلا بد للخلق كلهم من إله يألهوه ولا يأله هو غيره وهذا برهان قطعي ضروري فإن قلت هذا يستلزم أنه لا بد لكل حي مخلوق من إله ولكن لم لا يجوز أن يكون مطلوب النفس هو مطلق التأله والمألوه لا إلها معينا كما تقوله طوائف الاتحادية، قلت هذا يتبين بالوجه السادس عشر وهو أن المراد إما أن يراد لنوعه أو لعينه فالأول كإرادة العطشان والجائع والعاري لنوع الشراب والطعام واللباس فإنه إنما يريد النوع وحيث أراد المعين فهو القدر المشترك بين أفراده وذلك القدر المشترك كلي لا وجود له في الخارج فيستحيل أن يراد لذاته إذ المراد لذاته لا يكون إلا معينا ويستحيل أن يوجد في اثنين فإن إرادة كل واحد منهما لذاته تنافي إرادته لذاته إذ المعنى بإرادته لذاته أنه وحده هو المراد لذاته الخاصة وهذا يمنع أن يراد معه ثان لذاته وإذا عرف ذلك فلو كان القدر المشترك بين أفراد النوع أو بين الاثنين هو المراد لذاته لزم أن يكون ما يختص به أحدهما ليس مراد لذاته وكذلك ما يختص به الآخر والموجود في الخارج إنما هو الذات المختصة لا الكلي المشترك (هامش) تعلق الثالثة بالقدر المشترك لم يكن للخلف في الخارج إله ولكان إلههم أمرا ذهنيا وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهذا هو الذي يألهه طوائف أهل الوحدة والجهمية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى لا خارج العالم ولا داخله فإن هذا إنما هو إله مفروض يفرضه الذهن كما يفرض سائر
ص -307- الممتنعات الخارجة وتظنه واجب الوجود وليس هو ممكن الوجود فضلا عن وجوبه وبهذا يتبين أن الجهمية وإخوانهم من القائلين بوحدة الوجود ليس لهم إله معين في الخارج يألهونه ويعبدونه بل هؤلاء ألهوا الوجود المطلق الكلي وأولئك ألهوا المعدوم الممتنع وجوده وأتباع الأنبياء إلههم الله الذي لا إله إلا هو الذي خلق الأرض والسماوات العلى الرحمن على العرش استوى له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى هو الذي فطر القلوب على محبته والإقرار به وإجلاله وتعظيمه وإثبات صفات الكمال له وتنزيهه عن صفات النقائص والعيوب وعلى أنه فوق سماواته بائن من خلقه تصعد إليه أعمالهم على تعاقب الأوقات وترفع إليه أيديهم عند الرغبات يخافونه من فوقهم ويرجون رحمته تنزل إليهم من عنده فهممهم صاعدة إلى عرشه تطلب فوقه إلها عليا عظيما قد استوى على عرشه واستولى على خلقه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرض إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم والمقصود أنه إذا لم يكن في الحسيات الخارجة عن الأذهان ما هو مراد لذاته لم يكن فيها ما يستحق أن يأله أحد فضلا أن يكون فيها ما يجب أن يألهه كل أحد فتبين أنه لا بد من إله معين هو المحبوب المراد لذاته ومن الممتنع أن يكون هذا غير فاطر السموات والأرض وتبين أنه لو كان في السموات والأرض إله غيره لفسدتا وأن كل مولود يولد على محبته ومعرفته وإجلاله وتعظيمه وهذا دليل مستقل كاف فيما نحن فيه وبالله التوفيق، تم الكتاب والحمد الله.