كتاب : مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة
المؤلف : محمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية
المملوكون المربوبون وانما تصرفت في ملكك من غير أن يكون قام بهم سبب العذاب فان القوم نفاة الأسباب وعندهم أن كفر الكافرين وشركهم ليس سببا للعذاب بل العذاب بمجرد المشيئة ومحض الإرادة وكذلك الكلام في مناظرة اياس للقدرية إنما أراد بأن التصرفات الواقعة منه تعالى في ملكه لا تكون ظلما قط وهذا حق فان كل ما فعله الرب ويفعله لا يخرج عن العدل والحكمة والمصلحة والرحمة فليس في أفعاله ظلم ولا جور ولا سفه وهذا حق لا ريب فيه فاياس بين أنه سبحانه في تصرفه في ملكه غير ظالم فهذه مجامع طرق العالم في هذا المقام ألقيت إليك محتضرة بذكر قواعدها وأداتها وترجيح الصواب منها وابطال الباطل ولعلك لا تجد هذا التفصيل والكلام على هذه المذاهب وأصولها في كتاب من كتب القوم والله تعالى المسئول لتمام نعمته ومزيد العلم والهدى انه المان بفضله
فصل وكذلك الكلام في الإيجاب في حق الله سواء الأقوال فيه كالأقوال
في التحريم وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين وقال تعالى وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة وقال تعالى أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لمعاذ أتدري ما حق الله على عباده قلت الله ورسوله أعلم قال حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك قلت الله ورسوله أعلم قال حقهم عليه أن لا يعذبهم ومنه قوله صلى الله عليه و سلم في غير حديث من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه كقوله فوربك لنسئلنهم أجمعين فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا وقوله لنهلكن الظالمين وقوله لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وقوله فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار وقوله فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين وقوله فيما يرويه عنه رسول الله صلى الله عليه و سلموعزتي وجلالي لأقتصن للمظلوم من الظالم ولو لطمة ولو ضربة بيد إلي أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسم على نفسه أو منعه نفسه وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب ولهذا قسم الفقهاء وغيرهم اليمين إلي موجب للحظر والمنع أو التصديق والتكذيب قالوا وإذا كان معقولا من العبد أن يكون طالبا من نفسه فتكون نفسه طالبة منها لقوله تعالى أن النفس لأمارة بالسوء وقوله وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى مع كون العبد له آمر وناه فوقه فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يمتنع منه أن يكون طالبا من نفسه فيكتب على نفسه ويحق على نفسه ويحرم على نفسه بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله
قالوا وكتابه ما كتبه على نفسه وإحقاقه ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله ورضاه به يوجب وقوعه بمشيئته واختياره وكراهته للفعل وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء وهذا غير ما يحبه من فعل عبده ويكرهه منه فذاك نوع وهذا نوع ولما لم يميز كثير من الناس بين النوعين وأدخلوهما تحت حكم واحد اضطربت عليهم مسائل القضاء والقدر والحكم والتعليل وبهذا التفصيل سفر لك وجه المسئلة وتبلج صبحها ففرق بين فعله سبحانه الذي هو فعله وبين فعل عباده الذي هو مفعوله فمحبته تعالى وكراهته للأول توجب وقوعه وامتناعه وأما محبته وكراهته للثاني فلا توجب وقوعه ولا امتناعه فانه يحب الطاعة والأيمان من عباده كلهم وان لم تكن محبته موجبة لطاعتهم وأيمانهم جميعا إذا لم يحب فعله الذي هو إعانتهم وتوفيقهم وخلق ذلك لهم ولو أحب ذلك لاستلزم طاعتهم وأيمانهم ويبغض معاصيهم وكفرهم وفسوقهم ولم تكن هذه الكراهة والبغض مانعة من وقوع ذلك منهم إذ لم يكره سبحانه خذلانهم واضلالهم لما له في ذلك من الغايات المحبوبة التي فواتها يستلزم فوات ما هو أحب إليه من إيمانهم وطاعتهم وتعقل ذلك مما يقصر عنه عقول أكثر الناس وقد أشرنا إليه فيما تقدم من الكتاب فالرب تعالى يحب من عباده الطاعة والأيمان ويحب مع ذلك من تضرعهم وتذللهم وتوبتهم واستغفارهم ومن توبته ومغفرته وعفوه وصفحه وتجاوزه ما هو ملزوم لمعاصيهم وذنوبهم ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع وإذا عقل هذا في حق المذنبين فيعقل مثله في حق الكفار وان خلقهم واضلالهم لازم لأمور محبوبة للرب تعالى لم تكن تحصل إلا بوجود لازمها إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فكانت تلك الأمور المحبوبة والغايات المحمودة متوقفة على خلقهم واضلالهم توقف الملزوم على لازمة وهذا فصل معترض لم يكن من غرضنا وان كان أهم مما سقنا الكلام لأجله ونكتة المسألة الفرق بين ما هو فعل له تستلزم محبته وقوعه منه وبين ما هو مفعول له لا تستلزم محبته له وقوعه
من عبده وإذا عرف هذا فالظلم والكفر والفسوق والعصيان وأنواع الشرور واقعة في مفعولاته المنفصلة التي لا يتصف بها دون أفعاله القائمة به ومن انكشف له لهذا المقام فهم معنى قوله صلى الله عليه و سلم والشر ليس إليك فهذا الفرق العظيم يزيل أكثر الشبه التي حارت لها عقول كثير من الناس في هذا الباب وهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بأذنه والله يهدي من يشاء إلي صراط مستقيم فما في مخلوقاته ومفعولاته تعالى من الظلم والشر فهو بالنسبة إلي فاعله المكلف الذي قام به الفعل كما أنه بالنسبة إليه يكون زنا وسرقة وعدوانا وأكلا وشربا ونكاحا فهو الزاني السارق الآكل الناكح والله خالق كل فاعل وفعله وليست نسبة هذه الأفعال إلي خالقها كنسبتها إلي فاعلها الذي قامت به كما أن نسبة صفات المخلوقين إليه كطوله وقصره وحسنه وقبحه وشكله ولونه ليست كنسبتها إلي خالقها فيه فتأمل هذا الموضع واعط الفرق حقه وفرق بين النسبتين فكما أن صفات المخلوق ليست صفات لله بوجه وان كان هو خالقها فكذلك أفعاله ليست أفعالا لله تعالى ولا إليه وان كان هو خالقها فلنرجع الآن إلي ما نحن بصدده فنقول الأمر الذي كتبه على نفسه مستحق عليه الحمد والثناء ويتعالى ويتقدس عن تركه إذ تركه مناف للثناء والحمد الذي يستحقه عليه متضمنا لما يستحق لذاته وهذا بحمد الله بين عند من أوتى العلم والأيمان وهو مستقر في فطرهم لا ينسخه منها شبهات المبطلين وهذا الموضع مما خفى على طائفتي القدرية والجبرية فخبطوا في عشواء وخبطوا في ليلة ظلماء والله الموفق الهادي للصواب
فصل وقد ظهر بهذا بطلان قول طائفتين معا الذين وضعوا لله شريعة
بعقولهم أوجبوا عليه وحرموا منها ما لم يوجبه على نفسه ولم يحرمه على نفسه وسووا بينه وبين عباده فيما يحسن منهم ويقبح وبذلك استطال عليهم خصومهم وأبدوا مناقضتهم وكشفوا عوراتهم وبينوا فضائحهم وكذلك بطلان قول الطائفة التي جوزت عليه كل شيء وأنكرت حكمته وجحدت في الحقيقة ما يستحقه من الحمد والثناء على ما يفعله مما يمدح بفعله وعلى ترك ما يتركه مع قدرته عليه مما يمدح بتركه وجعلت النوعين واحدا ولا فرق عندهم بالنسبة إليه تعالى بين فعل ما يمدح بفعله وبين تركه ولا بين ترك ما يمدح بتركه وبين فعله وبهذا تسلط عليهم خصومهم وأبدوا مناقضتهم وبينوا فضائحهم قال المتوسطون وأما نحن فلا يلزمنا شيء من هذه الفضائح والأباطيل فانا لم نوافق طائفة من الطائفتين على كل ما قالته بل وافقنا كل طائفة فيما أصابت فيه الحق وخالفناها فيما خالفت فيه الحق فكنا أسعد به من الطائفتين ولله المنة والفضل هذا قولنا قد أوضحناه في هذه المسألة غاية الإيضاح وأفصحنا عنه بما أمكننا من الافصاح فمن وجد سبيلا إلى المعارضة أو رام طريقا إلي المناقضة فليبدها فانا من وراء الردة عليه وإهداء عيوب مقالته إليه ونحن نعلم أنه لا يرد علينا مقالتنا إلا بإحدى المقالتين اللتين كشفنا عن عوارهما وبينا فسادهما فليستر عورة مقالته ويصلح فسادها ويرم شعثها ثم ليلق خصومه بها فالمحاكمة إلي النقل الصريح والعقل الصحيح والله المستعان
الوجه الثاني والستون قولكم الوجوب والتحريم بدون الشرع ممتنع لأنه لو ثبت لقامت الحجة بدون الرسل والله سبحانه إنما أقام حجته برسله إلى آخره فيقال لا ريب أن الوجوب والتحريم اللذين هما متعلق الثواب والعقاب بدون الشرع ممتنع كما قررتموه والحجة إنما قامت على العباد بالرسل ولكن هذا الوجوب والتحريم بمعنى حصول المقتضى للثواب والعقاب وان تخلف عنه مقتضاه لقيام مانع أو فوات شرط كما تقدم تقريره وقد قال تعالى ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين فأخبر تعالى أن ما قدمت أيديهم سبب لاصابة المصيبة إياهم وأنه سبحانه أرسل رسوله وأنزل كتابه لئلا يقولوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك فدلت الآية على بطلان قول الطائفتين جميعا الذين يقولون أن أعمالهم قبل البعثة ليست قبيحة لذاتها بل إنما قبحت بالنهي فقط والذين يقولون أنها قبيحة ويستحقون عليها العقوبة عقلا بدون البعثة فنظمت الآية بطلان قول الطائفتين ودلت على القول الوسط الذي اخترناه ونصرناه أنها قبيحة في نفسها ولا يستحقون العقاب إلا بعد إقامة الحجة بالرسالة فلا تلازم بين ثبوت الحسن والقبح العقليين وبين استحقاق الثواب والعقاب فالأدلة إنما اقتضت ارتباط الثواب والعقاب بالرسالة وتوقفهما عليها ولم تقتض توقف الحسن والقبح بكل اعتبار عليها وفرق بين الأمرين
الوجه الثالث والستون قولكم كيف يعلم أنه سبحانه يجب عليه أن يمدح ويذم ويثبت ويعاقب على الفعل بمجرد العقل وهل ذلك إلا غيب عنا فيما يعرف أنه رضى عن فاعل وسخط على فاعل وأنه يثيب هذا ويعاقب هذا ولم يخبر عنه بذلك مخبر صادق ولادل على مواقع رضاه وسخطه عقل ولا أخبر عن معلومه ومحكومه مخير فلم يبق إلا قياس أفعاله على أفعال عباده وهو من أفسد القياس فانه ليس كمثله شيء فيقال هذا لازم للمعتزلة ومن وافقهم حيث يوجبون على الله ويحرمون بالقياس على عباده ولا ريب أن هذا من أفسد القياس وأبطله ولكن من أين ينفى ذلك إثبات صفات أفعال اقتضت حسنها وقبحها عقلا ولم يعلم ترتب الثواب والعقاب عليها إلا بالرسالة كما نصرناه فأنتم معاشر النفاة سلبتم الأفعال خواصها وصفاتها التي لا تنفك عنها ولا تغفل مجردة عنها أبدا وظننتم أن قول المعتزلة الباطل في ايجابها وتحريمها على الله لا يتم إلا بهذا النفي فأخطاتم في الأمرين
معا فان بطلان قولهم لا يتوقف على نفي الحسن والقبح ونفيهما باطل وخصومكم من المعتزلة أثبتوا لله شريعة عقلية أوجبوا عليه فيها وحرموا بمقتضى عقولهم وظنوا أنهم لا يمكنهم إثبات الحسن والقبح إلا بذلك فأخطئوا في الأمرين معا فان الله تعالى كما لا يقاس بعباده في أفعاله لا يقاس بهم في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله واثبات الحسن والقبح لا يستلزم هذا الإيجاب والتحريم العقليين فليتأمل اللبيب هذه الدقائق التي هي مجامع مآخذ الفرق فيها يتبين أن الناس إنما تكلموا في حواشي المسألة ولم يخوضوا لجتها ويقتحموا غمرتها والله المستعان وأما إلزامكم لخصومكم من المعتزلة تلك اللوازم فلا ريب أنها مستلزمة لبطلان قولهم مع أضعافها من اللوازم التي تبين فساد مذهبهم ونحن مساعدوكم عليها كما لا محيد لهم عن الزاماتكم فمنها أنكم سددتم على أنفسكم طريق الاستدلال بالمعجزة على النبوة حيث جوزتم على الله أن يؤيد الكذاب كما يؤيد الصادق وعندكم أن كلا الآمرين بالنسبة إليه تعالى سواء ولم تعتذروا عن هذا الإلزام المقابل لسائر الزاماتكم بعذر صحيح وهذه أعذاركم مسطورة في الصحائف ومنها الزمام الأفحام ونفى المكلف النظر في المعجزة لعدم الوجوب عقلا واعتذاركم عن هذا الزام بأن الوجوب ثابت نظر أو لم ينظر اعتذار يبطل أصلكم فان ثبوت الوجود بدون نظر المكلف لو كان شرعيا لتوقف على الشرع المتوقف في حق المكلف على النظر في المعجزة فلما ثبت الوجوب وان لم ينظر في المعجزة علم أن الوجوب عقلي لا يتوقف على ثبوت الشرع فان قيل هو ثابت في نفس الأمر على تقدير ثبوت الرسالة قيل فحينئذ يعود الإلزام وهو أنه لا ينظر حتى يجب ولا يجب حتى تثبت الرسالة ولا تثبت حتى ينظر ولهذا عدل من عدل لي مقابلة هذا الإلزام بمثله وقالوا هذا لازم للمعتزلة لأن الوجوب عندهم نظري وهذا لا يغني شيئا ولا يدفع الإلزام المذكور بل غايته مقابلة الفاسد بمثله وهو لا يجدي في دفع الإلزام شيئا وهذا يدل على بطلان المقالتين وأما نحن فلنا في دفع هذا الإلزام عشرة مسالك وليس هذا موضع هذه المسألة وانما المقصود أن المعتزلة ألزمت نظير ما ألزموهم به ومنها إلزام التعطيل للشرائع جملة وقد تقدم بيانه قريبا حيث بينا أن متعلق الأمر والنهي إنما هو فعل العبد الاختياري فإذا بطل أن يكون له فعل اختياري بطل متعلق الأمر والنهي فلزمه بطلان الأمر والنهي لأن وجوده بدون متعلقه محال إلى سائر تلك اللوازم التي أسلفناها قبل فلا نطيل بإعادتها قالوا أما نحن فلا يلزمنا شيء من هذه اللوازم من الطرفين فانا لم نسلك واحدا من الطريقين فلا سبيل لأحدى الطائفتين إلي إلزامنا بلازم واحد باطل ولله الحمد فمن رام ذلك فليبده
فان قيل فمن أصلكم إثبات التعليل والحكمة في الخلق والأمر فما تصنعون
بهذه اللوازم التي ألزمناها المعتزلة وماذا جوابكم عنها إذا وجهناها إليكم قيل لا ريب أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه وشهدت به الفطر والعقول من الحكمة في خلقه وأمره ونقول أن كل ما خلقه وأمر به خلقه فيه حكمة بالغة وآيات باهرة لأجلها خلقه وأمر به ولكن لا نقول أن لله تعالى في خلقو وأمره كله حكمة مماثلة لما للمخلوق من ذلك ولا مشابهة له بل الفرق بين الحكمتين كالفرق ين الفعلين وكالفرق بين الوصفين والذاتين فليس كمثله شيء في وصفه ولا في فعله ولا في حكمة مطلوبة له من فعله بل الفرق بين الخالق والمخلوق في ذلك كله أعظم فرق وأبينه وأوضحه عند العقول والفطر وعلى هذا فجميع ما ألزمتموه لأصحاب الصلاح والأصلح بل وأضعافه وأضعاف أضعافه لله فيه حكمة يختص بها لا يشاركه فيها غيره ولأجلها حسن منه ذلك وقبح من المخلوق لانتفاء تلك الحكمة في حقه وهذا كما يحسن منه تعالى مدح نفسه والثناء على نفسه وان قبح من أكثر خلقه ذلك ويليق بجلاله الكبرياء والعظمة ويقبح من خلقه تعاطيهما كما روى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم الكبرياء ازاري والعظمة ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته وكما يحسن منه إماتة خلقه وابتلاؤهم وامتحانهم بأنواع المحن ويقبح ذلك من خلقه وهذا أعظم من أن نذكر أمثلته فليس بين الله وبين خلقه جامع يوجب أن يحسن منه ما حسن منهم ويقبح منه ما قبح منهم وانما تتوجه تلك الالزامات إلى من قاس أفعال الله بأفعال عباده وأما من أثبت له حكمة تختص به لا تشبه ما للمخلوقين من الحكمة فهو عن تلك الالزامات بمعزل ومنزله منها أبعد منزل ونكتة الفرق أن بطلان الصلاح والأصلح لا يستلزم بطلان الحكمة والتعليل والله الموفق الوجه الثالث والستون قولكم أنتم فتحتم بهذه المسألة طريقا للاستغناء عن النبوات وسلطتم عليكم بها الفلاسفة والبراهمة والصابئة وكل منكر للنبوات فان هذه المسألة باب بيننا وبينهم فأنكم إذا زعمتم أن في العقل حاكما يحسن ويقبح ويوجب ويحرم ويتقاضى الثواب والعقاب لم تكن الحاجة إلي البعثة ضرورية لامكان الاستغناء عنها فهذا الحاكم إلى آخره قال المثبتون هذا كلام هائل وهو عند التحقيق باطل لو أنصف مورده لعلم انا وهو كما قال الأول رمتني بدائها وانسلت وقد بينا أن النفاة سدوا على أنفسهم طريق إثبات النبوة بإنكارهم هذه المسألة وقالوا انه يحسن من الله كل شيء حتى إظهار المعجزة على يد الكاذب ولا فرق بالنسبة إليه بين إظهارها على يد الصادق ويد الكاذب وليس في العقل ما يدل على استحالة هذا وجواز هذا وتوقف معرفته على السمع لا سيما إذا انضم إلى ذلك إنكار كون العبد فاعلا مختارا البتة فان ذلك يسد الباب جملة لأن متعلق الأمر والنهي إنما هو أفعال العباد الاختيارية فمن لا فعل له ولا اختيار أصلا فكيف يعقل أن يكون مأمورا منهيا وقد تقدم حديث الافحام وعجزكم
عن الجواب عنه قالوا وأما نحن فانا سهلنا بذلك الطريق إلي إثبات النبوات بل لا يمكن إثباتها إلا بالاعتراف بهذه المسالة فانه إذا ثبت أن من الأفعال حسنا ومنها قبيحا وأن إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح وأن الله يتعالى ويتقدس عن فعل القبائح علمنا بذلك صحة نبوة من اظهر الله على يديه الآيات والمعجزات وأما أنتم فأنكم لا يمكنكم العلم بذلك قالوا وكذلك نحن قلنا أن العبد فاعل مختار لفعله وأوامر الشرع ونواهيه متوجهة إلي مجرد فعله الاختياري القائم به وهو متعلق الثواب والعقاب وأما أنتم فلا يمكنكم ذلك لأن تلك الأفعال عندكم هي فعل الله في العبد لاصنع للعبد فيها أصلا فكيف يتوجه أمر الشرع ونهيه إلي غير فاعل بل يؤمر وينهى بما لا قدرة له عليه البتة بل بفعل غيره قالوا فليتدبر المنصف هذا المقام فانه يتبين له أنه سد على نفسه طريق النبوات وفتح باب الاستغناء عنها قالوا وأيضا فان الله سبحانه فطر عباده على الفرق بين الحسن والقبيح وركب في عقولهم إدراك ذلك والتمييز بين النوعين كما فطرهم على الفرق بين النافع والضار والملائم لهم والمنافر وركب في حواسهم إدراك ذلك والتمييز بين أنواعه والفطرة الأولى هي خاصة الإنسان التي تميز بها عن غيره من الحيوانات وأما الفطرة الثانية فمشتركة بين أصناف الحيوان وحجة الله عليه إنما تقوم بواسطة الفطرة الأولى ولهذا اختص من بين سائر الحيوانات بإرسال الرسل إليه وبالأمر والنهي والثواب والعقاب فجعل سبحانه في عقله ما يفرق بين الحسن والقبح وما ينبغي إيثاره وما ينبغي اجتنابه ثم أقام عليه حجته برسالته بواسطة هذا الحاكم الذي يتمكن به من العلم بالرسالة وحسن الإرسال وحسن ما تضمنه من الأمور وقبح ما نهى عنه فانه لو لا ما ركب في عقله من إدراك ذلك لما أمكنه معرفة حسن الرسالة وحسن المأمور وقبح المحظور ولهذا قلنا أن من أنكر الحسن والقبح العقليين لزمه إنكار الحسن والقبح للشريعة وان زعم أنه مقربه فان أخبار الشرع عن العقل بأنه حسن أو قبيح مطابق لكونه في نفسه كذلك فإذا كان في نفسه ليس بحسن ولا قبيح فان هذا الخبر لا مخبر له إلا مجرد تعلق افعل أو لا تفعل به وهذا التعليق عندكم جائز أن يكون بخلاف ما هو به وان يتعلق الطلب بالمنهي عنه والنهي بالمأمور به والتعلق لم يجعله حسنا ولا قبيحا بل غايته أن جعل الفعل مأمورا منهيا فعاد الحسن والقبح إلي مجرد كونه مأمورا منهيا ولا فرق عندكم بالنظر إلي ذات الفعل بين النوعين بل ما كان مأمورا يجوز أن يقع منهيا وبالعكس فلم يكشف الأمر والنهي صفة حسن ولا قبح أصلا فلا حسن ولا قبح إذا عقلا ولا شرعا وانما هو تعلق الطلب بالفعل والترك وهذا مما لاخلاص منه إلا بالقول بأن للأفعال خواص وصفات عليها في أنفسها اقتضت أن يؤمر بحسنها وينهى عن سيئها ويخبر عن حسنها بما هو عليه ويخبر غيره بقبحها مما نكون عليه
فيكون للخبر مخبر ثابت في نفسه والأمر والنهي متعلق ثابت في نفسه قالوا فعلمه من العقل محسن الحسن وقبح القبيح ثم علمه بأن ما أمرت به الرسل هو الحسن وما نهت عنه هو القبيح طريق إلي تصديق الرسل وأنهم جاؤا بالحق من عند الله ولهذا قال بعض الأعراب وقد سئل بماذا عرفت أن محمدا رسول الله فقال ما أمر بشيء فقال العقل ليته نهى عنه ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به أفلا ترى هذا الأعرابي كيف جعل مطابقة الحسن والقبح الذي ركب الله في العقل ادراكه لما جاء به الرسول شاهدا على صحة رسالته وعلما عليها ولم يقل أن ذلك يقبح طريق الاستغناء عن النبوة بحاكم العقل قالوا أيضا فهذا إنما يلزم أن لو قيل بأن ما جاءت به الرسل ثابت في العقل إدراكه مفصلا قبل البعثة فحينئذ يقال هذا يفتح باب الاستغناء عن الرسالة ومعلوم أن إثبات الحسن والقبح العقليين لا يستلزم هذا ولا يدل عليه بل غاية العقل أن يدرك بالإجمال حسن ما أتى الشرع بتفضيله أو قبحه فيدركه العقل جملة ويأتي الشرع بتفصيله وهذا كما أن العقل يدرك حسن العدل وأما كون هذا الفعل المعين عدلا أو ظلما فهذا مما يعجز العقل عن إدراكه في كل فعل وعقد وكذلك يعجز عن إدراك حسن كل فعل وقبح وان تأتي الشرائع بتفصيل ذلك وتبينه وما أدركه العقل الصريح من ذلك أتت الشرائع بتقريره وما كان حسنا في وقت قبيحا في وقت ولم يهتد العقل لوقت حسنه من وقت قبحه أتت الشرائع بالأمر به في وقت حسنه وبالنهي عنه في وقت قبحه وكذلك الفعل يكون مشتملا على مصلحة ومفسدة ولا تعلم العقول مفسدته أرجح أم مصلحته فيتوقف العقل في ذلك فتأتي الشرائع ببيان ذلك وتأمر براجح المصلحة وتنهى عن راجح المفسدة وكذلك الفعل يكون مصلحة لشخص مفسدة لغيره والعقل لا يدرك ذلك فتأتي الشرائع ببيانه فتأمر به من هو مصلحة له وتنهى عنه من حيث هو مفسدة في حقه وكذلك الفعل يكون مفسدة في الظاهر وفي ضمنه مصلحة عظيمة لا يهتدي إليها العقل فلا يعلم إلا بالشرع كالجهاد والقتل في الله ويكون في الظاهر مصلحة وفي ضمنه مفسدة عظيمة لا يهتدي إليها العقل فتجيء الشرائع ببيان ما في ضمنه من المصلحة والمفسدة الراجحة هذا مع أن ما يعجز العقل عن إدراكه من حسن الأفعال وقبحها ليس بدون ما تدركه من ذلك فالحاجة إلي الرسل ضرورية بل هي فوق كل حاجة فليس العالم إلي شيء أحوج منهم إلي المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ولهذا يذكر سبحانه عباده نعمه عليهم برسوله ويعد ذلك عليهم من أعظم المنن منه لشدة حاجتهم إليه ولتوقف مصالحهم الجزئية والكلية عليه وأنه لاسعادة لهم ولا فلاح ولا قيام إلا بالرسل فإذا كان العقل قد أدرك حسن بعض الأفعال وقبحها فمن
أين له معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته والآية التي تعرف بها الله إلي عباده على السنة رسله و من أين له معرفة تفاصيل شرعه ودينه الذي شرعه لعباده ومن أين له تفاصيل مواقع محبته ورضاه و سخطه
وكراهته ومن أين له معرفة تفاصيل ثوابه وعقابه وما أعد لأوليائه وما اعد لأعدائه ومقادير الثواب والعقاب وكيفيتهما ودرجاتهما ومن أين له معرفة الغيب الذي لم يظهر الله عليه أحدا من خلقه إلا من ارتضاه من رسله إلي غير ذلك مما جاءت به الرسل وبلغته عن الله وليس في العقل طريق إلي معرفته فكيف يكون معرفة حسن بعض الأفعال و قبحها بالعقل مغنيا عما جاءت به الرسل فظهر أن ما ذكرتموه مجرد تهويل مشحون بالأباطيل والحمد لله
وقد ظهر بهذا القصور الفلاسفة في معرفة النبوات وأنهم لا علم عندهم بها إلا كعلم عوام الناس بما عندهم من ألعقليات بل علمهم بالنبوات وحقيقتها وعظم قدرها وما جاءت به اقل بكثير من علم العامة بعقلياتهم فهم عوام بالنسبة إليها كما أن من لم يعرف علومهم عوام بالنسبة إليهم فلولا النبوات لم يكن في العالم علم نافع البتة ولا عمل صالح ولا صلاح في معيشته و لا قوام لمملكة ولكان الناس بمنزلة البهائم والسباع العادية والكلاب الضارية التي يعدو بعضها على بعض وكل دين في العالم
فمن آثار النبوة وكل شيء وقع في العالم أو سيقع فبسبب خفاء آثار النبوة ودروسها فالعالم حينئذ روحه النبوة ولا قيام للجسد بدون روحه ولهذا إذا تم انكساف شمس النبوة من العالم ولم يبق في الأرض شيء من أثارها البتة انشقت سماؤه وانتثرت كواكبه وكورت شمسه وخسفت قمره ونسفت جباله وزلزلت أرضه وأهلك من عليها فلا قيام للعالم إلا بأثار النبوة ولهذا كان كل موضع ظهرت فيه آثار النبوة فأهله أحسن حالا وأصلح بالا من الموضع الذي يخفى فيه آثارها وبالجملة فحاجة العالم إلي النبوة أعظم من حاجتهم إلي نور الشمس وأعظم من حاجتهم إلي الماء والهواء الذي لا حياة لهم بدونه
فصل وأما ما ذكره الفلاسفة من مقصود الشرائع وان ذلك لاستكمال
النفس قوى العلم والعمل والشرائع ترد بتمهيد ما تقرر في العقل بتعبيره إلي آخره فهذا مقام يجب الاعتناء بشأنه و أن لا نضرب عنه صفحا فنقول للناس في المقصود بالشرائع والأوامر و النواهي أربعة طرق : أحدها طريق من يقول أن الفلاسفة وأتباعهم من المنتسبين إلي الملل أن المقصود بها تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك لقبول الحكمة العلمية و العملية ومنهم من يقول لتستعد بذلك لأن تكون محلا لانتقاش صور المعقولات فيها ففائدة ذلك عندهم كالفائدة الحاصلة من صقل المرآة لتستعد لظهور الصور فيها وهؤلاء يجعلون الشرائع من جنس الأخلاق الفاضلة والسياسات العادلة ولهذا رام فلاسفة الإسلام الجمع بين الشريعة والفلسفة كما فعل ابن سينا والفارابي و اضرابهما وآل بهم أن تكلموا في خوارق العادات و المعجزات على طريق الفلاسفة المشائين وجعلوا لها أسبابا ثلاثة أحدها القوى الفلكية والثاني القوى النفسية و الثالث القوى الطبيعية و جعلوا جنس الخوارق
جنسا واحدا وأدخلوا ما للسحرة وأرباب الرياضة والكهنة وغيرهم مع ما للأنبياء والرسل في ذلك وجعلوا سبب ذلك كله واحدا وان اختلفت بالغايات والنبي قصده الخير والساحر قصده الشر وهذا المذهب من افسد مذاهب العالم و أخبثها وهو مبني على إنكار الفاعل المختار وانه تعالى لا يعلم ألجزئيات ولا يقدر على تغيير العالم ولا يخلق شيئا بمشيئته وقدرته وعلى إنكار الجن والملائكة ومعاد الأجسام وبالجملة فهو مبني على الكفر بالله وملائكته و كتبه و رسله واليوم الآخر وليس هذا موضوع الرد هنا على هؤلاء و كشف باطلهم و فضائحهم إذ المقصود ذكر طرق الناس في المقصود بالشرائع والعبادات وهذه الفرقة غاية ما عندها في العبادات و الأخلاق والحكمة العلمية أنهم رأوا النفس لها شهوة وغضب بقوتها العملية ولها تصور وعلم بقوتها العلمية فقالوا كمال الشهوة في العفة وكمال الغضب في الحكم والشجاعة وكمال القوة النظرية بالعلم و التوسط في جميع ذلك بين طرفي الإفراط و التفريط هو العدل
هذا غاية ما عند القوم من المقصود بالعبادات و الشرائع وهو عندهم غاية كمال النفس وهو استكمال قويتها العلمية والعملية فاستكمال قوتها العلمية عندهم بانطباع صور المعلومات في النفس واستكمال قوتها العلمية بالعدل وهذا مع انه غاية ما عندهم من العلم والعمل وليس فيه بيان خاصية النفس التي لا كمال لها بدونه البتة وهو الذي خلقت له و أريد منها بل ما عرفه القوم لأنه لم يكن عندهم من معرفة متعلقة إلا نزر يسير غير مجد ولا محصل للمقصود وذلك معرفة الله بأسمائه وصفاته ومعرفة ما ينبغي لجلاله وما يتعالى ويتقدس عنه و معرفة أمره ودينه والتمييز بين مواقع رضاه وسخطه و استفراغ الوسع في التقريب إليه وامتلاء القلب بمحبته بحيث يكون سلطان حبه قاهرا لكل محبة ولا سعادة للعبد في دنياه ولا أخراه إلا بذلك ولا كمال للروح بدون ذلك
البتة وهذا هو الذي خلق له بل وأريد منه بل ولأجله خلقت السماوات والأرض واتخذت الجنة والنار كما سيأتي تقريره من أكثر من مائة وجه أن شاء الله
ومعلوم أنه ليس عند القوم من هذا خبر بل هم في واد وأهل الشأن في واد و هذا هو الدين الذي الذي أجمعت الأنبياء عليه من أولهم إلي خاتمتهم كلهم جاء به وأخبر عن الله أنه دينه الذي رضيه لعباده وشرعه لهم وأمرهم به كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك رسولا إلا نوحي إليه أنه لا اله إلا أنا فاعبدون
وقال تعالى ومن يبتع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقال تعالى واسأل من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال يأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا أنى بما تعملون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين وقال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين وقال تعالى وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون فالغاية الحميدة التي يحصل بها كمال بني آدم وسعادتهم و نجاحهم هي معرفة الله
ومحبته وعبادته وحده لا شريك له وهي حقيقة قول العبد لا اله إلا الله وبها بعث الرسل ونزلت جميع الكتب ولا تصلح النفس ولا تزكو ولا تكمل إلا بذلك قال تعالى فويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة أي لا يؤتون ما تزكى به أنفسهم من التوحيد و الأيمان ولهذا فسرها غير واحد من السلف بأن قالوا لا يأتون الزكاة لا يقولون لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه هو اعظم وصية جاءت بها الرسل ودعوا إليها الأمم وسنبين أن شاء الله عن قريب بالبراهين الشافية أن النفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله وحده محبوبها و معبودها لا أحب إليها منه ولا آثر عندها من
مرضاته و التقرب إليه وأن النفس محتاجة بل مضطرة إليه حيث هو معبودها و محبوبها وغاية مرادها أعظم من اضطرارها إليه من حيث هو ربها وخالقها وفاطرها ولهذا كان من آمن بالله خالقه ورازقه وربه ومليكه ولم يؤمن بأنه لا اله يعبد ويحب ويخشى ويخاف غيره بل أشرك معه في عبادته غيره فهو كافر به مشرك شركا لا يغفره الله له كما قال تعالى أن الله لا يغفر أن يشرك به وقال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله فأخبر أن من أحب شيئا سوى الله مثل ما يحب الله فقد اتخذ من دون الله أندادا ولهذا يقول أهل النار لمعبوداتهم وهم معهم فيها تالله أن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وهذه التسوية إنما كانت في الحب والتأله لا في الخلق والقدرة والربوبية وهي العدل الذي أخبر به عن الكفار بقوله والحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون وأصح القولين أن المعنى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيجعلون له عدلا يحبونه ويعبدونه ويعبدونه كما يحبون الله ويعبدونه فما ذكر الفلاسفة من الحكمة العملية والعلمية ليس فيها من العلوم والأعمال ما تستعد به النفوس وتنجو به من العذاب فليس في
حكمتهم العلمية إيمان بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا لقائه رسله وليس في حكمتهم العلمية عبادته وحده ولا شريك له واتباع مرضاته واجتناب مساخطه ومعلوم أن النفس لا سعادة لها ولا فلاح إلا بذلك فليس من حكمتهم العلمية والعملية ما تسعد به النفوس و تفوز ولهذا لم يكونوا داخلين في الأمم السعداء في الآخرة وهم الأمم الأربعة المذكورون في قوله تعالى أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولاهم يحزنون
فصل وهذه الكمالات الأربعة التي ذكرها الفلاسفة للنفس لا بد منها
في كما لها وصلاحها ولكن قصروا غاية التقصير في أنهم لم يبينوا متعلقها ولم يحدوا لها حدا فاصلا بين ما تحصل به السعادة وما لا تحصل به فانهم لم يذكروا متعلق العفة ولا عماذا تكون ولا مقدارها الذي إذا تجاوزه العبد وقع في الفجور وكذلك الحلم لم يذكروا مواقعه ومقداره وأين يحسن وأين يقبح وكذلك الشجاعة وكذلك العلم لم يميزوا العلم الذي تزكو به النفوس وتسعد من غيره بل لم يعرفوا أصلا وأما الرسل صلاة الله وسلامه عليهم فبينوا ذلك غاية البيان وفصلوه أحسن تفصيل وقد جمع الله ذلك في كتابه في آية واحدة فقال قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون فهذه الأنواع الأربعة التي حرمها تحريما مطلقا لم يبح منها شيئا لأحد من الخلق ولا في حال من الأحوال بخلاف الميتة والدم ولحم الخنزير فأنها تحرم في حال وتباح في حال وأما هذه الأربعة فهي محرمة فالفواحش متعلقة بالشهوة وتعديل قوة الشهوة باجتنابها والبغي بغير الحق متعلق بالغضب وتعديل القوة الغضبية باجتنابه والشرك بالله ظلم عظيم بل هو الظلم على الإطلاق وهو مناف للعدل والعلم وقوله وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا متضمن تحريم أصل الظلم في حق الله وذلك يستلزم إيجاب العدل في حقه وهو عبادته وحده لا شريك له فان النفس لها القوتان العلمية والعملية وعمل الإنسان عمل اختياري تابع لارادة العبد وكل إرادة فلها مراد وكمال هو أما مراد لنفسه واما مراد لغيره ينتهي إلي المراد لنفسه ولا بد فالقوة العملية تستلزم أن يكون للنفس مراد تستكمل بإرادته فان كان ذلك المراد مضمحلا فانيا زالت الإرادة بزواله ولم يكن للنفس مراد غيره قفاتها أعظم سعادتها وفلاحها فيجب إذا أن يكون مرادها الذي تستكمل بإرادته وحبه وإيثاره باقيا لا يفنى ولا يزول وليس ذلك إلا الله وحده وسنذكر أن شاء الله عن قريب معنى تعلق الإرادة به تعالى وكونه مرادا والعبد مريد له فان هذا مما أشكل على بعض المتكلمين حيث قالوا أن الإرادة لا تتعلق إلا بحادث وأما القديم فكيف يكون مرادا وخفى عليهم الفرق بين الإرادة الغائبة والإرادة الفاعلية وجعلوا الارادتين واحدة والمقصود أن هؤلاء الفلاسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس وانما جعلوا كمالها في تعديل الشهوة والغضب والشهوة هي جلب ما ينفع البدن ويبقى النوغ والغضب دفع ما يضر البدن وما تعرضوا لمراد الروح المحبوب لذاته وجعلوا كمالها العلمي في مجرد العلم وغلطوا في ذلك من وجوه كثيرة منها أن ما ذكروه لا يعطي كمال النفس الذي خلقت له كما بيناه ومنها أن ما ذكروه في كمال القوة العملية إنما غايته إصلاح البدن الذي هو آلة النفس ولم يذكروا كمال النفس الإرادي والعمل بالمحبة والخوف والرجاء ومنها أن كمال النفس في العلم والإرادة لا في مجرد العلم فان مجرد العلم ليس بكمال للنفس ما لم تكن مريدة محبة لمن لا سعادة لها إلا بإرادته ومحبته فالعلم المجرد لا يعطي النفس كما لا ما لم تقترن به الإرادة والمحبة ومنها أن العلم لو كان كمالا بمجرده لم يكن ما عندهم من العلم كما لا للنفس فان غاية ما عندهم علوم رياضية صحيحة مصلحتها من جنس مصالح الصناعات وربما كانت الصناعات أصلح وأنفع من كثير منها واما علم طبيعي صحيح غايته معرفة العناصر وبعض خواصها وطبائعها ومعرفة بعض ما يتركب منها وما يستحيل من الموجبات إليها وبعض ما يقع في العالم من الآثار بامتزاجها واختلاطها وأي كمال للنفس في هذا وأي سعادة لها فيه واما علم الهي كله باطل لم يوفقوا في الإصابة الحق فيه مسألة واحدة
ومنها أن كمال النفس وسعادتها المستفاد عن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ليس عندهم اليوم منه حس ولا خبر ولا عين ولا أثر فهم أبعد الناس من كمالات النفوس وسعاداتها وإذا عرف ذلك وأنه لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا يصلح إلا به ولا يكمل إلا بحبه وإيثاره وقطع العلائق عن غيره وان ذلك هو النهاية وغاية مطلوبها ومرادها الذي إليه ينتهي الطلب فليس ذلك إلا الله الذي لا اله إلا هو قال تعالى أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وليس صلاح الإنسان وحده وسعادته إلا بذلك بل وكذلك الملائكة والجن وكل حي شاعر لاصلاح له إلا بأن يكون الله وحده ألهه ومعبوده وغاية مراده وسيمر بك أن شاء الله بسط القول في ذلك واقامة البراهين على هذا المطلوب الأعظم الذي هو غاية سعادة النفوس وأشرف مطالبها فلنرجع إلي ما كنا فيه من بيان طرق الناس في مقاصد العبادات
الطريق الثاني طريق من يقول من المعتزلة ومن تابعهم أن الله سبحانه عرضهم بها للثواب واستأجرهم بتلك الأعمال للخير فعاوضهم عليها معاوضة قالوا والأنعام منه في الآخرة غير حسن لما فيه من تكرير منه العطاء ابتداء ولما فيه من الإخلال بالمدح والثناء والتعظيم الذي لا يستحق إلا بالتكليف ومنهم من يقول أن الواجبات الشرعية لطف في الواجبات
العقلية ومنهم من يقول أن الغاية المقصودة التي يحصل بها الثواب هي العمل والعلم وسيلة إليه حتى ربما قالوا ذلك في معرفة الله تعالى وأنها إنما وجبت لأنها لطف في أداء الواجبات العملية وهذه الأقوال تصور العاقل اللبيب لها حق التصور كاف في جزمه ببطلانها رافع عنه مؤنة الرد عليها والوجوه الدالة على بطلانها أكثر من أن تذكر هاهنا
الطريق الثالث طريق الجبرية ومن وافقهم أن الله سبحانه امتحن عباده بذلك وكلفهم لا لحكمة ولا لغاية مطلوبة له ولا بسبب من الأسباب فلا لام تعليل ولا باء سبب أن هو إلا محض المشيئة وصرف الإرادة كما قالوا في الخلق سواء وهؤلاء قابلوا من قبلهم من القدرية والمعتزلة أعظم مقابلة فهما طرفا نقيض لا يلتقيان والطريق الرابع طريق أهل العلم والأيمان الذين عقلوا عن الله أمره ودينه وعرفوا مراده بما أمرهم ونهاهم عنه وهي أن نفس معرفة الله ومحبته وطاعته والتقرب إليه وابتغاء الوسيلة إليه أمر مقصود لذاته وأن الله سبحانه يستحقه لذاته وهو سبحانه المحبوب لذاته الذي لا تصلح العبادة والمحبة والذل والخضوع والتأله إلا له فهو يستحق ذلك لأنه أهل أن يعبد ولو لم يخلق جنة ولا نارا ولو لم يضع ثوابا ولا عقابا كما جاء في بعض الآثار لو لم أخلق جنة ولا نارا أما كنت أهلا أن أعبد فهو سبحانه يستحق غاية الحب والطاعة والثناء والمجد والتعظيم لذاته ولما له من أوصاف الكمال ونعوت الجلال وحبه والرضى به وعنه والذل له والخضوع والتعبد هو غاية سعادة النفس وكمالها والنفس إذا فقدت ذلك كانت بمنزلة الجسد الذي فقد روحه وحياته والعين التي فقدت ضوءها ونورها بل أسوأ حالا من ذلك من وجهين :
أحدهما أن غاية الجسد إذا فقد روحه أن يصير معطلا ميتا وكذلك العين تصير معطلة وأما النفس إذا فقدت كمالها المذكور فأنها تبقى معذبة متألمة وكلما اشتد حجابها اشتد عذابها وألمها وشاهد هذا ما يجده المحب الصادق المحبة من العذاب والألم عند احتجاب محبوبه عنه ولا سيما إذا يئس من قربه وحظى غيره بحبه ووصله هذا مع إمكان التعوض عنه بمحبوب آخر نظيره أو خير منه فكيف بروح فقدت محبوبها الحق الذي لم تخلق إلا لمحبته ولا كمال لها ولا صلاح أصلا إلا بأن يكون أحب إليها من كل ما سواه وهو محبوبها الذي لا تعوض منه سواه بوجه ما كما قال القائل :
من كل شيء إذا ضيعته عوض ... وما من الله أن ضيعته عوض
ولو لم يكن احتجابه سبحانه عن عبده أشد أنواع العذاب عليه لم يتوعد به أعداءه كما قال تعالى كلا انهم عن ربهم يؤمئذ لمحجوبون ثم انهم لصالو الجحيم فأخبر أن لهم عذابين أحدهما عذاب الحجاب عنه والثاني صلى الجحيم وأحد العذابين أشد من الآخر وهذا كما أنه سبحانه ينعم على أوليائه بنعيمين نعيم كشف الحجاب فينظرون إليه ونعيم الجنة وما فيها
وأحد النعيمين أحب إليهم من الآخر وآثر عندهم وأقر لعيونهم كما في الصحيح عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إذا دخل أهل الجنة نادى مناديا أهل الجنة أن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه فيقولون ما هو ألم يبيض وجوهنا ويثقل موازيننا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار قال فيكشف الحجاب فينظرون إليه فما أعطاهم شيئا أحب إليهم من النظر إليه وفي حديث غير هذا أنهم إذا نظروا إلي ربهم تبارك وتعالى أنساهم لذة النظر إليه ما هم فيه من النعيم
والوجه الثاني أن البدن والأعضاء آلات للنفس ورعية للقلب وخدم له فإذا فقد بعضهم كماله الذي خلق له كان بمنزلة هلاك بعض جند الملك ورعيته وتعطل بعض آلاته وقد لا يلحق الملك من ذلك ضرر أصلا وأما إذا فقد القلب كماله الذي خلق له وحياته ونعيمه كان بمنزلة هلاك الملك وأسره وذهاب ملكه من يديه وصيرورته أسيرا في أيدي أعاديه فهكذا الروح إذا عدمت كمالها وصلاحها في معرفة فاطرها وبارئها وكونه أحب شيء إليها رضاه وابتغاء الوسيلة إليه آثر شيء عندها حتى يكون اهتمامها بمحبته ومرضاته اهتمام المحب التام المحبة بمرضاة محبوبه الذي لا يجد منه عوضا كانت بمنزلة الملك الذي ذهب منه ملكه وأصبح أسيرا في يدي أعاديه يسومونه سوء العذاب وهذا الألم كامن في النفس لكن يستره ستر الشهوات ويواريه حجاب الغفلة حتى إذا كشف الغطاء وحيل بين العبد وبين ما يشتهى وجد حقيقة ذلك الألم وذاق طعمه وتجرد ألمه عما يحجبه ويواريه وهذا أمر يدرك بالعيان والتجربة في هذه الدار تكون الأسباب المؤلمة للروح والبدن موجودة مقتضية لآثارها ولكن يقوم للقلب من فرحه بحظ ناله من مال أو جاه أو وصال حبيب ما يوارى عنه شهود الألم وربما لا يشعر به أصلا فإذا زال المعارض ذاق طعم الألم ووجد مسه ومن اعتبر أحوال نفسه وغيره علم ذلك فإذا كان هذا في هذه الدار فما الظن عند المفارقة والفطام عن الدنيا والانتقال إلي الله والمصير إليه فليتأمل العاقل الفطن الناصح لنفسه هذا الموضع حق التأمل وليشغل به كل أفكاره فان فهمه وعقله واستمر إعراضه
فما تبلغ الأعداء من جاهل ... ما يبلغ الجاهل من نفسه
وان لم يفهمه لغلظ حجابه وكثافة طبعه فيكفيه الأيمان بما أعد الله تعالى في الجنة لأهلها من نعم الأكل والشرب والنكاح والمناظر المبهجة وما أعد في النار لأهلها من السلاسل والأغلال والحميم ومقطعات الثياب من النار ونحو ذلك والمقصود بيان أن الحاجة إلي الرسل صلوات الله وسلامه عليهم ضرورية بل هي في أعلى مراتب الضرورة وليست نظرا لحاجتهم إلي الحاجة وأسبابها بل هي أعظم من ذلك وأما ما ذكر عن الصابئة من الاستغناء عن النبوة فهذا ليس مذهبا لجميعهم بل فيهم سعيد وشقي كما قال تعالى أن الذين
آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فأدخل المؤمنين من الصابئين في أهل السعادة ولم ينالوا ذلك إلا بالإيمان بالرسل ولكن منهم من أنكر النبوات وعبد الكواكب وهم فرق كثيرة ليس هذا موضع ذكرهم فأما قولهم أن الموجودات في العالم السفلى مركبة في تأثير الكواكب والروحانيات وفي اتصالها سعود ونحوس يوجب أن يكون في آثارها حسن وقبح في الأخلاق والأعمال يدركه كل ذي عقل سليم فلا حاجة لنا إلي من يعرفنا حسنها وقبحها إلي آخر كلامهم فكلام من هو أجهل الناس وأضلهم وأبعدهم عن الإنسانية وقائل هذه المقالة مناد على نفسه أنه لم يعرف فاطره فاطر السموات والأرض ولا صفاته ولا أفعاله بل ولا عرف نفسه التي بين جنبيه ولا ما يسعدها ويشقيها ولا غايتها ولا لماذا خلقت ولا بماذا تكمل وتصلح وبماذا تفسد وتهلك بل هو أجهل الناس بنفسه وبفاطرها وبارئها وهل يتمكن العقل بعد معرفة النفس ومعرفة فاطرها ومبدعها أن يجحد النبوة أو يجوز على الله وعلى حكمته أن يترك النوع البشري الذي هو خلاصة المخلوقات سدى ويدعهم عملا معطلا ويخلقهم عبثا باطلا ومن جوز ذلك على الله سبحانه فما قدره حق قدره بل ولا عرفه ولا آمن به قال تعالى وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء فأخبر تعالى أن من جحد رسالاته فما قدره حق قدره ولا عرفه ولا عظمه ولا نزهه عما لا يليق به تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ثم يقال لهذه الطائفة بماذا عرفتم أن الموجودات بالعالم السفلي كلها مركبة على تأثير الكواكب والروحانيات وهل هذا إلا كذب بحت وبهت فهب أن بعض الآثار المشاهدة مسبب عن تأثير بعض الكواكب والعلويات كما يشاهد من تأثير الشمس والقمر في الحيوان والنبات وغيرهما فمن أين لكم أن جميع أجزاء العالم السفلي صادر عن تأثير الكواكب والروحانيات وهل هذا إلا كذب وجهل فهذا العالم فيه من التغير والاستحالة والكون والفساد مالا يمكن إضافته إلي كوكب ولا يتصور وقوعه إلا بمشيئة فاعل مختار قادر مؤثر في الكواكب والروحانيات مسخر لها بقدرته مدبر لها بمشيئة كما تشهد عليها أحوالها وهيآتها وتسخيرها وانقيادها أنها مدبرة مربوبة مسخرة بأمر قادر قاهر يصرفها كيف يشاء ويدبرها كما يريد ليس لها من الأمر شيء ولا يمكن أن تتصرف في أنفسها بذرة فضلا أن تعطى العلام وجوده فلو أرادت حركة غير حركتها أو مكانا غير مكانها أو هيئة أو حالا غير ما هي عليه لم تجد إلي ذلك سبيلا فكيف تكون ربا لكل ما تحتها مع كونها عاجزة مصرفة مقهورة مسخرة آثار الفقر مسطورة في صفحاتها وآيات العبودية والتسخير
بادية عليها فبأي اعتبار نظر إليها العاقل رأى آثار الفقر وشواهد الحدوث وأدلة التسخير والتصريف فيها فهي خلق من ليس كمثله شيء وآيات من آياته عبيد مسخرات بأمره الإله الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وأما قولهم أن في اتصالات الكواكب نظر سعود ونحوس مما أضحكوا به العقلاء عليهم من جميع الأمم ونادوا به على جهلهم وصاروا به مركزا لكل كذاب وكل أفاك وكل زنديق وكل مفرط في الجهل بالنبوات وما جاءت به الرسل بالحقائق العقلية والبراهين اليقينية وسنريك طرفا من جهالاتهم وكذبهم وتناقضهم وبطلان مقالتهم ليعرف اللبيب نعمة الله عليه في عقله ودينه
فيقال لهم المؤثر في هذه السعود والنحوس هل هو الكوكب وحده والبرج وحده أو الكوكب بشرط حصوله في البرج والكل محال أما الأول والثاني فانهما يوجبان دوام الأثر لكون المؤثر دائم الثبوت والثالث أيضا محال لأنه لما اختلف أثر الكوكب بسبب اختلاف البرجين لزم أن تكون طبيعة كل برج مخالفة بالماهية لطبيعة البرج الثاني إذ لو لم يكن كذلك كانت طبائع جميع البروج متساوية في تمام الماهية فوجب أن يكون أثر الكوكب في جميع البروج أثرا واحدا لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية يمتنع أن تلزمها لوازم مختلفة ولما كانت آثار كل كوكب واجبة الاختلاف بسبب اختلاف البروج لزم القطع بكون البروج مختلفة في الطبيعة والماهية وهذا يقتضي كون الفلك مركبا لا بسيطا وقد قلتم أنتم وجميع الفلاسفة أن الفلك بسيط لا تركيب فيه ومن العجب جواب بعض الأحكاميين عن هذا بان الكواكب حيوانات ناطقة فاعلة بالقصد والاختيار فلذلك تصدر عنها الأفعال المختلفة وهذا مكابرة من هؤلاء ظاهرة فان دلائل التسخير والاضطرار عليها من لزومها حركة لا سبيل لها إلي الخروج عنها ولزومها موضعا من الفلك لا تتمكن من الانتقال عنه واطراد سيرها على وجه مخصوص لا تفارقه البتة أبين دليل على أنها مسخرة مقهورة على حركاتها محركة بتحريك قاهر لا متحركة بإرادتها واختيارها كما قال تعالى والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ثم يقال لا ينفعكم هذا الجواب شيئا فان طبائع البروج أن كانت متساوية في تمام الماهية كان اختصاص كل برج بأثره الخاص ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر بلا مرجح وان لم تكن متساوية لزم تركيب الفلك ومما أضحكتم به العقلاء منكم أنكم جعلتموها أجساما ناطقة فاعلة بالاختيار ونفيتم أن يكون فاطرها ومبدعها حيا قيوما فاعلا بالاختيار وهذه الحوادث مستندة إلي مشيئته واختياره جارية على وفق حكمته وعلمه مع كون هذه الكواكب عبيده وخلق مسخر بأمره ولا تملك لأنفسها ولا لما تحتها ضرا ولا نفعا ولا سعدا ولا نحسا كما قاله العقلاء من بني آدم واتفقت عليه الرسل وأتباعهم فان قيل لا نسلم أن الفلك بسيط بل هو مركب من هذه
البروج وطبيعة كل برج مخالفة لطبيعة البرج الآخر بل طبيعة كل دقيقة وثانية مخالفة لطبيعة الدقيقة الأخرى والثانية الأخرى ولا يتم علم الأحكام إلا بهذا قيل قولكم بأنه قديم أبدى غير قابل للكون والفساد ولا يقبل الانحلال ولا الخرق ولا الالتئام مع كون طبيعة كل جزء منه صغيرا أو كبيرا مخالفة لطبيعة الجزء الآخر كما صرح به أبو معشر جمع بين النقيضين فانه إذا كان مركبا من أجزاء مختلفة الماهية لم يمتنع انحلاله وانفطاره وانشقاقه فكيف جمعتم بين تكذيب الرسل في الأخبار عن انقطاعه وانشقاقه وانحلاله وبين دعواكم تركبه من ماهيات مختلفة في نفسها غير ممتنع على المركب منها الانحلال له والانفطار فلا للرسل صدقتم ولا مع وجوب العقل وقفتم بل أنتم من أهل هذه الآية وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فان قيل لم لا يجوز أن يقال أن كل برج من البروج الاثنى عشر قد ارتسمت فيه كواكب صغيرة بلغت في الصغر إلي حيث لا يمكننا أن نحس بها ثم أن الكواكب إذا وقع في مسامتة برج خاص امتزج نور ذلك الكوكب بأنوار تلك الكواكب الصغار المرتسمة في تلك القطعة في الفلك فيحصل بهذا السبب آثار مخصوصة وإذا كان هذا محتملا ولم يبطل بالدليل ثبوته تعين المصير إليه قيل طبائع تلك الكواكب أن كانت مختلفة بالماهية عاد المحذور المذكور وان كانت واحدة لم يكن ذلك الامتزاج متشابها فلا يتصور صور الآثار المتضادة المختلفة عنه
الوجه الثاني في الكلام على بطلان علم الأحكام أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية ممتنعة وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بالأحوال الفلكية على حدوث الحوادث السفلية وانما قلنا أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية ممتنعة لوجوه أحدها أنه لا سبيل إلي معرفة الكواكب إلا بواسطة القوى الباصرة والمرئي إذا كان صغيرا أو في غاية البعد من الرائي فانه يتعذر رؤيته لذلك فان أصغر الكواكب التي في فلك الثوابت وهو الذي تمتحن به قوة البصر مثل كرة الأرض بضعة عشر مرة وكرة الأرض اعظم من كرة عطارد كذا مرة فلو قدرنا أنه حصل في الفلك الأعظم كواكب كثيرة يكون حجم كل واحد منها مساويا لحجم عطارد فانه لا شك أن البصر لا يقوى على إدراكه فيثبت أنه لا يلزم من عدم إبصارنا شيئا من الكواكب في الفلك الأعظم عدم تلك الكواكب وإذا كان كذلك فاحتمال أن في الفلك الأعظم وفي فلك الثوابت وفي سائر الأفلاك كواكب صغيرة وان كنا لا نحس بها ولا نراها يوجب امتناع معرفة جميع المؤثرات الفلكية فان قلتم أنها لما كانت صغيرة وآثارها ضعيفة لم تصل آثارها وقواها إلي هذا العالم قيل لكم صغر الجنة لا يوجب ضعف الأثر فان عطارد أصغر الأجرام الفلكية جرما عندكم مع أن آثاره قوية وأيضا فالرأس والذنب نقطتان وهميتان واما أنتم فقد أثبتم لهما آثارا وأيضا السهام مثل سهم السعادة وسهم الغيب نقط
وهمية ولها عندكم آثار قوية
الوجه الثاني مما يدل على أن معرفة جميع المؤثرات الفلكية غير معلوم أن الكواكب المرئية غير مرصودة بأسرها فأنكم أنتم وغيركم قد قلتم أن المجرة عبارة عن أجرام كوكبية صغيرة جدا مرتكزة في فلك الثوابت على هذا السمت المخصوص ولا ريب أن الوقوف على طبائعها متعذرة وثالثها أن جميع الكواكب الثابتة المحسوسة لم يحصل الوقوف التام على طبائعها لأن كلام الأحكاميين قيل الحاصل لا سيما في طبائع الثوابت نعم غاية ما عندهم أنهم ادعوا أنهم كشفوا بعض الثوابت التي في الفلك الأول والثاني فأما البقية فقلما تكلموا في معرفة طبائعها ورابعها أن بتقدير أنهم عرفوا طبائع هذه الكواكب حال بساطتها لكن لا شبهة أنه لا يمكن الوقوف على طبائعها حال امتزاج بعضها بالبعض لأن الامتزاجات الحاصلة من طبائع ألف كوكب أو أكثر بحسب الأجزاء الفلكية يبلغ في الكثرة إلي حيث لا يقدر العقل على ضبطها وخامسها آلات الرصد لا تفي بضبط الثواني والثوالث ولا شك أن الثانية الواحدة مثل الأرض كذا كذا ألف مرة أو أقل أو أكثر ومع هذا التفاوت العظيم كيف يمكن الوصول إلي الغرض حيث قيل أن الإنسان الشديد الجري بين رفعه رجله ووضعه الأخرى يتحرك جرم الفلك الأقصى ثلاثة آلاف ميل وإذا كان الأمر كذلك فكيف ضبط هذه المؤثرات وسادسها هب أنا عرفنا تلك الامتزاجات الحاصلة في ذلك الوقت فلا ريب أنه لا يمكننا معرفة الامتزاجات التي كانت حاصلة قبله مع أنا نعلم قطعا أن الأشكال السالفة ربما كانت عائقة ومانعة عن مقتضيات الأشكال الحاصلة في الحال ولا ريب أنا نشاهد أشخاصا كثيرة من النبات والحيوان والإنسان مقارنة لطالع واحد مع أن كل واحد منها مخالف للآخر في أكثر الأمور وذلك أن الأحوال السالفة في حق كل تكون مخالفة للأحوال السالفة في حق الآخر وذلك يدل أنه لا اعتماد على مقتضى الوقت بل لا بد من الإحاطة بالطوالع السالفة وذلك مما لا وقوف عليه أصلا فانه ربما كانت الطوالع السالفة دافعة مقتضيات هذا الطالع الحاضر وعلى هذا الوجه عول ابن سينا في كتابيه اللذين سماهما الشفا والنجاه في إبطال هذا العلم فثبت بهذا أن الوقوف التام على المؤثرات جميعها ممتنع مستحيل وإذا كان الأمر كذلك كان الاستدلال بالأشخاص الفلكية على الأحوال السفلية باطلا قطعا الوجه الثالث أن تأثير الكواكب فيما ذكرتم من السعد والنحس أما بالنظر في مفرده واما بالنظر إلي انضمامه إلى غيره فمتى لم يحط المنجم بهاتين الحالتين لم يصح منه أن يحكم له بتأثير ولم يحصل إلا على تعارض التقدير ومن المعلوم أن في فلك البروج كواكب شذت عن الرصد معرفة أقدراها وأعدادها ولم يعرف الأحكاميون ما يوجبه خواص مجموعاتها وأفرادها فخرج الفريقان
أصحاب الرصد والأحكام عن الإحاطة بما في طباعها وما عسى أن تؤثره مع السيارة عند انفرادها واجتماعها فما الذي يؤمنكم كلكم عند وقوع نجم من تلك النجوم المجهولة على درجة الطالع أن يكون موجبا من الحكم ما لا يوجبه النظر بدونه
الوجه الرابع أن تأثير الكواكب يختلف باختلاف أقدارها فما كان من القدر الأول أثر بوقوعه على الدرجة وان لم تضبط الدقيقة وما كان من القدر الأخير لم يؤثر إلا بضبط الدقيقة ولا ريب أن الجهالة بتلك الكواكب ومقاديرها يوجب كذب الأحكام النجومية وبطلانها
الوجه الخامس أنها لو كان لها تأثير كما يزعمون لم يخل أما أن تكون فيه مختارة مريدة أو غير مختارة ولا مريدة وكلاهما محال أما الأول فلانه يوجب جرى الأحكام على وفق اختيارها وارادتها ولم يتوقف على اتصالاتها وانفصالاتها ومفارقتها ومقارنتها وهبوطها بها في حضيضها وارتفاعها في أوجها كما هو المعروف من الفاعل بالاختيار ولا سيما الأجرام العلوية المؤثرة في سائر السفليات ولاختلفت آثارها أيضا عند هذه الأمور بحسب الدواعي والارادات ولامكنها أن تسعد من أراد أنه ينحسه وتنحس من أراد أنه يسعده كما هو شأن الفاعل المختار وان لم تكن مختارة ومريده فتأثيرها بحسب الذات والطبع وما كان هكذا لم يختلف أثره إلا باختلاف القوابل والمعدات وعندكم أن في اختلاف تلك القوابل والمعدات مستند إلى تأثيرها فأي محال أبلغ من هذا وهل هذا إلا دور ممتنع في بداية العقول
الوجه السادس أن هذا العلم مشتمل على أصول يشهد صريح العقل بفسادها وهي وان كانت في الكثرة إلي حيث لا يمكن ذكرها فنحن نعد بعضها فالأول من المعلوم بالضرورة أنه ليس في السماء حمل ولا ثور ولا حية ولا عقرب ولا كلب ولا ثعلب إلا أن المتقدمين لما قسموا الفك إلي أثني عشر قسما أرادوا أن يميزوا كل قسم منها بعلامة مخصوصة شبهوا الكواكب المذكورة في تلك القطعة المعينة بصورة حيوان مخصوص تشبيها بعيدا جدا ثم أن هؤلاء الاحكاميين فرعوا على هذه الأسماء تفريعات طويلة فرعوا أن الصور السفلية مطيعة للصور العلوية فالعقارب مطيعة لصور العقرب والأفاعي مطيعة لصور التنين وكذا القول في الأسد والسنبلة ومن عرف كيف وضعت هذه الأسماء ثم سمع قول هؤلاء الأحكاميين ضحك منهم وتبين له فرط جهلهم وكذبهم
الثاني أن هؤلاء لما عجزوا عن معرفة طالع القرآن أقاموا طالع السنة مقام القرآن ومعلوم أن هذا في غاية الفساد
الثالث أنهم اختلفوا اختلافا شديدا في الواحدة من مسائل هذا العلم فان أقوالهم في حدود الكواكب كثيرة مختلفة وليس مع أحد منهم شبهة ولا خيال فضلا عن حجة واستدلال ثم أن كثيرا منهم من غير حجة ولا دليل ربما أخذوا واحدا من تلك الأقوال من غير بصيرة بل بمجرد التشهي مثل
أخذهم في ذلك بحدود الضربين وذلك من أدل الدلائل على فساد هذا العلم الرابع أن أقوالهم متناقضة فان منهم من يقول كون زحل في بيت المال دليل الفقر ومنهم من يقول يدل على وجدان كنز
الخامس أن هذا العلم مع أنه تقليد محض فليس أيضا تقليدا منتظما لأن لكل قوم فيه مذهبا ولكل طائفة فيه مقالة فللبابليين فيه مذهب وللفرس مذهب آخر وللهند مذهب وللصين مذهب رابع والأقوال إذا تعارضت وتعذر الترجيح كان دليلا على فسادها وبطلانها وسيأتي أن شاء الله بسط هذه الوجوه أكثر من هذا
الوجه السابع مما يدل على بطلان القول بالأحكام أن الطالع عندهم هو الشكل الخصوص الحاصل للفلك عند انفصال الولد من رحم أمه وإذا ثبت هذا فنقول الاستدلال بحصول ذلك الشكل على جميع الأحوال الكلية التي تحصل لهذا الولد إلي آخر عمره استدلال باطل قطعا ويدل عليه وجوه :
أحدها أن ذلك الشكل كما حدث في تلك اللحظة فانه يفنى ويزول ويحدث شكل آخر فذلك الشكل المعين معد في جميع أجزاء عمر هذا الإنسان والمعدوم لا يكون علة للموجود ولا جزء من أجزاء العلة وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بذلك الشكل منهما على الأحوال التي تحدث في جميع أجزاء العمر
الثاني أنه لا مشابهة بين ذلك الشكل المخصوص وبين هذا الإنسان الذي انفصل من بطن الأم إلا في أمر واحد وهو أن كل واحد ظهر بعد الخفاء وهو بمجرد ذلك لا يوجب ارتباط ذلك الشكل المخصوص للفلك بسائر أحوال هذا الإنسان البتة فمدعى ذلك فاسد العقل
والنظر الثالث أنه عند حدوث ذلك الطالع حدثت أنواع من الحيوانات وأنواع من النبات وأنواع من الجمادات فلو كان ذلك يوجب آثارا مخصوصة لوجب اشتراك كل الأشياء التي حدثت في عالمنا هذا في ذلك الوقت في تلك الآثار وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن القول بتأثير الطالع باطل الرابع هب أن الطالع له أثر إلا أن الواجب أن يقال الطالع المعتبر هو طالع مسقط النطفة لا طالع الولادة وذلك لأن عند مسقط النطفة يأخذ ذلك الشخص في التكون والتولد فأما عند الولادة فالشخص قد تم تكونه وحدوثه ولا حادث في هذا الوقت إلا انتقاله من مكان إلي مكان آخر فثبت أنه لو كان للطالع اعتبار لوجب أن يكون المعتبر هو طالع مسقط النطفة لا طالع الولادة الوجه الثامن أن الأرصاد لا تنفك عن نوع الخلل والزلل وقد صنف أبو علي ابن الهيثم رسالة بليغة في أقسام الخلل الواقع في آلات الرصد وبين أن ذلك الخلل ليس في وسع الإنسان دفعه وازالته وإذا عرف هذا فنقول إذا بعد العهد بتجديد الرصد اجتمعت تلك المسامحات القليلة ويحصل بسببها تفاوت عظيم في مواضع الكواكب وكذلك إذا وجد موضع الكواكب
بحسب بعض الزيجات درجة معينة حين وجد بحسب زيج آخر غير تلك الدرجة ربما حصل التفاوت بالبرج ولما كان علم الأحكام مبينا على مواضع الكواكب ومناسبتها ثم قد تبين أن التفاوت الكبير وقع في قطع الكواكب علم بطلان هذا العلم وفساده
الوجه التاسع أن المعقول من تأثير هذه الكواكب في العالم السفلي هو أنها بحسب مساقط شعاعاتها تسخن هذا العالم أنواعا من السخونة فأما تأثيراتها في حصول الأحوال النفسانية من الذكاء والبلادة والسعادة والشقاوة وحسن الخلق وقبحه والغنى والفقر والهم والسرور واللذة والألم فلو كان معلوما لكان طريق علمه أما بالخبر الذي لا يجوز عليه الكذب أو الحس الذي يشترك فيه الناس أو ضرورة العقل أو نظره وشيء من هذا كله غير موجود البتة فالقول به باطل ولا يمكن للآحكاميين أن يدعوا واحدا من الثلاثة الأول وغايتهم أن يدعوا أن النظر والتجربة قادهم إلي ذلك وأوقعهم عليه ونحن نبين فساد هذا النظر والتجربة بما لا يمكن دفعه من الوجوه التي ذكرناها ونذكر غيرها مما هو مثلها وأقوى منها وكل علم صحيح فله براهين يستند إليها تنتهى إلي الحس أو ضرورة العقل وأما هذا العلم فلا ينتهى إلا إلى جحد وتخمين وظنون لا تغنى من الحق شيئا وغاية أهله تقليد من لم يقم دليل على صدقه
الوجه العاشر أنا إذا فرضنا أن رجلين سألا منجمين في وقت واحد في بلد واحد عن خصمين أيهما الظافر بصاحبه فههنا يكون الطالع مشتركا بين كل واحد من ذينك الخصمين فان دل ذلك الطالع على حال الغالب والمغلوب مع كونه مشتركا بين الخصمين لزم كون كل منهما غالبا لخصمه ومغلوبا من جانبه وذلك محال فان قالوا بين حال كل واحد منهما اختلاف بسبب طالع الأصل أو طالع التحويل أو برج الانتهاء قلنا هذا تسليم لقول من يقول أن طالع الوقت لا يدل على شيء أصلا بل لا بد من رعاية الأحوال الماضية لكن الأحوال الماضية كثيرة غير مضبوطة فتوقف دلالة طالع الوقت على تلك الأحوال الماضية يقتضي التوقف على شرائط لا يمكن اعتبارها البتة وقد ساعد أصحاب الأحكام على الاعتراف بأن الاعتماد على طالع الوقت غير مفيد بل لا يتم الأمر إلا عند معرفة طالع الأصل فطالع التحويل وبرج الانتهاء ومعرفة التيسيرات فعند اعتبار جملة هذه الأمور يتم الاستدلال ومع اعتبار جملتها وتحريرها بحيث يؤمن الغلط فيها يكون الاستدلال على سبيل الظن لا على سبيل القطع الوجه الحادي عشر أنا لو فرضنا جادة مسلوكة وطريقا يمشي فيه الناس ليلا ونهارا ثم حصل في تلك الجادة آثار متقاربة بحيث لا يقدر سالك ذلك الطريق على سلوكه إلا بتأمل كثير وتفكر شديد حتى يتخلص من الوقوع في تلك الآثار فان من المعلوم بالضرورة أن سلامة من يمشي في هذه الطريق من العميان لا يكون كسلامة من يمشي من البصراء بل ولا بد أن يكون عطب العميان في
ذلك الطريق كثيرا جدا وأن يكون سلامة البصراء غالبة جدا إذا عرفت هذا فنقول مثال العميان عند الأحكاميين الذي لا يعرفون أحكام النجوم وهم الأكثرون من الخلائق ومثال البصراء عندهم هم أهل هذا العمل وهم الأقلون ومثال الطريق الذي حصلت فيه الآثار العميقة المهلكة الزمان الذي يمضى على الخلق أجمعين ومثال تلك الآثار المصائب الزمانية والمحن والبلايا فلو كان هذا العلم صحيحا لوجب أن يكون فوز المنجمين بالغني والسلامة والنعم أتم فوز وسلامتهم فوق كل سلامة ومعلوم أن الأمر بالعكس والغالب كون المنجمين بالغنى والسلامة والنعم أتم فوز وسلامتهم فوق كل سلامة ومعلوم أن الامر بالعكس والغالب كون المنجمين ومن سمع منهم وعمل بقولهم في الأدبار والنحس والحرمان والواقع أبين شاهد بذلك ولو ذهبنا نذكر الوقائع التي شوهدت من ذلك واشتملت عليها التواريخ لزادت على ألوف عديدة فلا نجد أحدا راعي هذا العلم وتقيد به في حركاته واختياراته إلا وكانت عاقبته قريبا إلي ادبار ونكاية وبلايا لا يصاب بها سواه ومن كثر خبرة بأحوال الناس فانه يعرف من ذلك مالا يعرف غيره
الوجه الثاني عشر انا نشاهد عالما كثيرا يقتلون في ساعة واحدة في حرب و خلقا يغرقون في ساعة واحدة مع القطع باختلاف طوالعهم و اقتضائها عندكم احوالا مختلفة و لو كان للطوالع تأثير في هذا لامتنع عند اختلافها الاشتراك في ذلك ولا ينفعكم جواب من انتصر لكم بان الطوالع قد يكون بعضها أقوى من بعض و لعل طالع الوقت أقوى من طالع الأصل وكان الحكم له فان طالع الوقت لعله اقتضى هلاكا أو غرقا عاما وهو أقوى من طالع الأصل فكان التأثير له لانا نقول هذا بعينه يبطل عليكم طالع المولود و الأصل و يحيل القول بتأثيره و اعتباره جملة فان الطوالع بعده مختلفة كثيرة و اصل بعضها أو اكثرها أقوى منه فيكون الحكم بموجبه باطلا أذلا أمان لكم من اقتضاء الطوالع بعده ضد ما اقتضاه و حينئذ فلا يفيد اعتباره شيئا
الوجه الثالث عشر انا نرى الجيشين العظيمين و الحزبين المتقابلين يقتتلان و يختصمان و قد اخذ طالع الوقت لكل منهما و مع هذا فالمنصور و الغالب أحدهما مع أن الطالع واحد ولا ينفعكم في هذا جواب من انتصر لكم بأنه لا مانع من القول بخطأ الأخذ للطالع في الحساب و الحكم فانه لو اخذ لهما أي طالع كان لم يكن الغالب إلا أحدهما حتى لو كان الطالع قطعا لا يتصور فيه الغلط لم يكن بد من كون أحدهما غالبا و الأخر مغلوبا و هذا يبطل مذهب الأحكام بلا ريب
الوجه الرابع عشر أن الأجزاء المفترضة في الفلك أما أن تكون متشابهة في الطبيعة و الماهية أو مختلفة فيها فان كانت متساوية كان الجزء الذي هو الطالع مساويا لسائر الأجزاء وحكم سائر الأجزاء واحد و أن كانت الأجزاء مختلفة في الماهية و الطبيعة فلا ريب أن الفلك جرمه في غاية العظم حتى قالوا أن الرجل الشديد العدو إذا رفع رجله ووضعها يكن الفولمك قد تحرك ثلاثة آلاف ميل وإذا كان كذلك فمن الوقت
الذي ينفصل الولد من بطن أمه إلي أن يأخذ المنجم الاسطرلاب و يأخذ الارتفاع يكون الفلك قد تحرك مثل كل الأرض و كذا الف مرة وإذا كان الأمر كذلك فالجزء الذي يأخذه المنجم بالاسطرلاب ليس الجزء الطالع في الحقيقة و إذا كانت الأجزاء الفلكية مختلفة في الطبيعة و الماهية علمنا أن اخذ الطوالع محال و قد اعترف فضلاؤكم بهذا و قالوا أن الأمر و أن كان كذلك إلا أن التجربة قد دلت على أن هذا الطالع الذي تعذر على الإنسان تحصيله يدل على كثير من مقدمة المعرفة مع ما فيه من الخلل الكثير الذي ذكرتم فوجب أن لا يهمل و هذا خطأ بين فان التجارب التي دلت على كذب ذلك و بطلانه و ووقوع الأمر بخلافه أضعاف أضعاف التجربة التي دلت على صدقه كما سنذكر قطرة من بحره عن قريب أن شاء الله ولهذا قال أبو نصر الفارابي و اعلم انك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت الحار باردا و البارد حارا و السعد نحسا و النحس سعدا و الذكر أنثى و الأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة و تخطىء تارات وهل معهم إلا الحدس و التخمين و الظنون الكذابة و لقد حكى أن امرأة أتت منجما فأعطته درهما فاخذ طالعها و حكم و قال الطالع يخبر بكذا فقالت لم يكن شيء من ذلك ثم اخذ الطالع وقال يخبر وبكذا فأنكرته حتى قال انه ليدل على قطع في بيت المال فقالت الآنصدقت وهو الدرهم الذي دفعت إليك
الوجه الخامس عشر أن الأجسام لا تنفعل من غيرها إلا بواسطة المماسة وهذه الكواكب لامماسة لها بأعضائنا و أبداننا و أرواحنا فيمتنع كونها فاعلة فينا أقصى ما في الباب أن يقال أنها وان لم تكن مماسة لأعضائنا إلا أن شعاعها يصل إلي أجسامنا فيقال لا ريب أن تأثير الشعاع إنما يكون بالتسخين عند المسامتة أو بالتبريد عند الانحراف عن المسامته فهذا بعد تصحيحه يقتضي أن لا يكون لهذه الكواكب تأثير في هذا العالم إلا على سبيل التسخين و التبريد فأما أن تعطى العلوم الأخلاق و المحبة والبغضاء و الموالاة و المعاداة و العفة و الحرية و النذالة و الخبث و المكر و الخديعة فذلك خارج عن معقول العقلاء و هو من حمقات الاحكاميين و جهالاتهم فان قيل التأثير بالتسخين و التبريد يوجب اختلاف أمزجة الأبدان واختلاف امزجة الأبدان و يوجب اختلاف أفعال النفس قيل فنحن نرى التسخين يقتضي حرارة وحدة في المزاج يفعل بها هذا غاية الخير و الأفعال الحميدة وهذا غاية الشر و الأفعال الخبيثة و الشعاع قد سخن مركبها فما الموجب لانفعال نفسيهما عن هذا التسخين هذا الانفعال المتباعد المتناقض و أيضا فما الموجب لاختلاف القوابل وتأثير الكواكب فيها بطبعه و تسخينه وتبريده فكيف اختلفت القوابل هذا الاختلاف العظيم وهي مستندة إلي تأثير واحد
الوجه السادس عشر أن رجلا لو جلس في دار لها بابان شرقي و غربي فسأل
المنجم وقال من أيهما يقتضي الطالع خروجي فإذا قال له المنجم من الشرقي أمكنه تكذيبه و الخروج من الغربي و بالعكس وكذلك السفر في يوم واحد و ابتداء البناء و غيره في يوم يعينه له المنجم و يحكم باقتضاء الطالع له من غير تقدم عنه و لا تأخر فانه يمكنه تكذيبه في ذلك اجمع
فان قلتم أن المنجم إذا اخبره بما يفعله و يختاره يصير ذلك داعيا له إلي أن يخالفه في قوله و يكذبه فالطريق إلي علم صدقه أن يحكم ذلك المنجم على معين و يكتبه في كتاب و يخفيه أو يذكره لإنسان أخر و يخفيه عن صاحب الواقعة فههنا يظهر صدق المنجم
قلت هذا العذر من أسقط الأعذار لأن النجوم لو كانت كما تزعمون دالة على جميع الكائنات الواقعة في هذا العالم لعرف المنجم ذلك الذي يستقر عليه اختياره على كل حال شاء تكذيبه أو لم يشأه فلما لم يكن الأمر كذلك سقط القول بصحة هذا العذر فان قيل الأشخاص الفلكية مؤثرات والسفلية قوابل ويجوز أن تختلف الأحوال الصادرة عن الفاعل بسبب اختلاف القوابل وإذا كان كذلك فهب أن الدلائل الفلكية دلت على أنه إنما يختار الخروج من الباب الفلاني لأن كون الإنسان مشغوفا بتكذيب المنجم حالة حاصلة في النفس مانعة من ظهور ذلك الأثر الذي تقتضيه الموجبات الفلكية فلهذا الأمر لم يحصل الأمر على وفق حكم المنجم
قيل إذا اقتضت الموجبات الفلكية أثرا امتنع أن يحصل في النفس ما يضاده لأن تلك الإرادة والميول والعزوم الواقعة في النفس هي عندكم من موجبات الآثار الفلكية فيمتنع أن تكون مضادة لموجبها لا سيما والمنجم يحكم بأنه إنما تقتضي النجوم أن يريد الإنسان كذا وكذا وليس حكمه أن الطالع يقتضي كذا وكذا إلا أن يريد الإنسان خلافه هذا ما لا يقوله أحد منكم فعلم بطلان هذا الاعتذار الوجه السابع عشر أنه لا سبيل إلي معرفة طبائع البروج وطبائع الكواكب وامتزاجاتها إلا بالتجربة وأقل ما لا بد منه في التجربة أن يحصل ذلك الشيء على حالة واحدة مرتين إلا أن الكواكب لا يمكن تحصيل ذلك فيها لأنه إذا حصل كوكب معين في موضع معين في الفلك وكانت سائر الكواكب متصلة به على وضع مخصوص وشكل مخصوص فان ذلك الوضع المعين بحسب الدرجة والدقيقة لا يعود إلا بعد ألوف من السنين وعمر الإنسان الواحد لا يفي بذلك بل عمل البشر لا يفي به والتواريخ التي تضبط هذه المدة مما لا يمكن وصولها إلى الإنسان فثبت أنه لا سبيل إلي الوصول إلي هذه الأحوال من جهة التجربة البتة ولا ينفعكم اعتذار من اعتذر عنكم بأنه لا حاجة في التجربة إلي ما ذكرتم لأنا إذا شاهدنا حادثا معينا في وقت مخصوص فلا شك أنه قد تحصل في الفلك اتصالات الكواكب المختلفة في ذلك الوقت فلو قدرنا عود ذلك الوضع الفلكي بتمامه على تلك الحال ألف مرة يعلم أن المؤثر في ذلك الحادث هل مجموع الاتصالات أو اتصال معين منها فإذا علمنا
أن ذلك الوضع بحملته فات وما عاد ولكنه عاد اتصال واحد من تلك الاتصالات وكما عاد ذلك الاتصال المعين فانه يعود ذلك الأثر بعينه لا لأجل سائر الاتصالات فثبت أن الرجوع في هذا الباب إلي التجربة غير متعذر وهذا الاعتذار في غاية الفساد والمكابرة لأن تخلف ذلك الأثر عن ذلك الاتصال العائد أكثر من اقترانه به والتجربة شاهدة بذلك كما قد اشتهر بين العقلاء أن المنجمين إذا أجمعوا على شيء من الأحكام لم يكد يقع ونحن نذكر طرفا من ذلك فنقول في
الوجه الثامن عشر لما نظر حذاقكم وفضلاؤكم سنة سبع وثلاثين عام صفين من مخرج على رضي الله عنه من الكوفة إلي محاربة أهل الشام اتفقوا على أنه يقتل ويقهر جيشه فظهر كذبهم وانتصر جيشه على أهل الشام ولم يقدروا على التخلص منهم إلا بالحيلة التي وضعوها من نشر المصاحف على الرماح والدعاء إلى ما فيها وقد قيل أن الاتفاق منهم إنما كان في حرب المؤمنين للخوارج فانهم اتفقوا على أنه من خرج في ذلك الطالع قتل وهزم جيشه فان القمر كان إذا ذاك في العقرب فخالفهم علي وقال بل نخرج ثقة بالله وتوكلا عليه وتكذيبا لقول المنجم فما غزا غزاة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أتم منها قتل عدوه وأيده الله عليهم بالنصر والظفر بهم ورجع مؤيدا منصورا مأجورا والقصة معروفة في السير والتواريخ وكذلك اتفاق ملأكم في سنة سبع وستين على غلبة عبيد الله بن زياد للمختار بن أبي عبيد وأنه لا بد أن يقتله أو يأسره فسار إليه في نحو من ثمانين ألف مقاتل فلقيه إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار بأرض نصيبين وهو فيما دون سبعة آلاف مقاتل فانهزم أصحاب ابن زياد بعد أن قتل منهم خلق لا يحصيهم ألا الله حتى أنه قيل انهم قتل منهم ثلاثة وسبعون ألفا ولم يقتل من أصحاب ابن الأشتر سوى عدد لا يبلغون مائة وفيهم يقول الشاعر :
برزوا نحوهم بسبعة آلا ... ف أن يهم عجائبا
فتعشوا منهم بسبعين ألفا ... أو يزيدون قبل وقت العشاء
فجزاك ابن مالك وأبا اسح ... ق عنا الإله خير جزاء
يريد بابن مالك إبراهيم بن مالك بن الأشتر وأبو إسحاق كنية المختار وقتل ابن الأشتر عبيدالله ابن زياد في المعركة ولم يعلم به حتى إذا هل الليل قال لأصحابه لقد ضربت على شاطئ هذا النهر رجلا فرجع إلى سيفي وفيه رائحة المسك ورأيت إقداما وجرأة فصرعته فذهبت رجلاه قبل المشرق ويداه قبل المغرب فانظروه فأتوه بالنيران فإذا هو عبيدالله بن زياد ذكر ذلك المبرد في الكامل فانظر حكمة الله من انعكاس ما قال الكاذبون المنجمون وقيل لما علم عبيدالله ابن زياد أن أمر القتال قد تيسر وسأل منجمه عن قوة نجمه ونجم ابن الأشتر وقال والله أنى لأعلم أنه ليس بشيء إلا أني كنت أنا وهو صغيران أن وقعت بيني وبينه خصومة بسبب حمام
كنا نلعب به فضربني إلى الأرض وقعد على صدري وقال والله أني قاتلك ولا يقتلك أحد غيري أن شاء الله وأنا من استثنائه بالمشيئة خائف فذهب به منجمه إلى ما قدره المنجمون له من قوة نجمه وأن هذا وهم منه وحكم النجوم يقضي على وهمه فحقق الله سبحانه ذلك الوهم وأبطل حكم الطالع والنجم ومن ذلك اتفاقهم عند ما تم بناء بغداد سنة ست وأربعين ومائة أن طالعها يقضي بأنه لا يموت فيها خليفة وشاع ذلك حتى هنأ الشعراء به المنصور حتى قال بعض شعرائه :
يهنيك منها بلدة تقضي لنا ... أن الممات بها عليك حرام
لما قضت أحكام طالع وقتها ... أن لا يرى فيها يموت أمام
وأكد هذا الهذيان في نفوس العوام موت المنصور بطريق مكة ثم المهدي بما سبذان ثم الهادي بعسا باذ ثم الرشيد بطوس فلما قتل بها المأمون الأمين بشارع باب الأنبار انخرم الأصل الباطل الذي أصلوه وظهر الزور الذي لفقوه حتى رجع إلى الحق الأول فقال :
كذب المنجم في مقالته التي ... نطقت به كذبا على بغدان
قتل الأمين بها لعمري يقتضي ... تكذيبهم في سائر الحسبان
ثم مات ببغداد جماعة من الخلفاء مثل الواثق والمتوكل والمعتضد والمكتفي والناصر وغير هؤلاء ومن ذلك اتفاقهم في سنة ثلاث وعشرين في قصة عمورية أن المعتصم أن خرج لفتحها كانت عليه الدائرة وأن النصر لعدوه فرزقه الله التوفيق في مخالفتهم ففتح الله على يديه ما كان مغلقا وأصبح كذبهم وخرصهم بعد أن كان موهوما عند العامة محققا ففتح عمورية وما والاها من كل حصن وقلعة وكان ذلك من أعظم الفتوحات المعدودة وفي ذلك الفتح قام أبو تمام الطائي منشدا له على رؤس الأشهاد
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
والعلم في شهب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف منها ومن كذب
تخرصا وأحاديثا ملفقة ... ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
عجائبا زعموا الأيام تجعله ... عنهن في صفر الأصفار أو رجب
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وصيروا الأبرج العليا مرتبة ما ... كان منقلبا أو غير منقلب
يقضون بالأمر عنها وهي غافلة ... ما دار في فلك منها وفي قطب
لو ثبتت قط أمرا قبل موقعه ... لم يخف ما حل بالأوثان والصلب
وهي نحو من سبعين بيتا أجيز على كل بيت منها بألف درهم
ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنتين وتسعين ومائتين في قصة القرامطة على أن المكتفى بالله أن خرج لمقاتلتهم كان هو المغلوب الملزوم وكان المسلمون قد لقوا منهم على توالي الأيام شرا عظيما وخطبا جسيما فأنهم قتلوا النساء والأطفال واستباحوا الحريم والأموال وهدموا المساجد وربطوا فيها خيولهم ودوابهم وقصدوا وفد الله وزوار بيته فأوقعوا فيهم القتل الذريع والفعل الشنيع واباحوا محارم الله وعطلوا شرائعه فعزم المكتفي على الخروج اليهم بنفسه فجمع وزيره القاسم بن عبيدالله من قدر عليه من المنجمين وفيهم زعيمهم أبو الحسن العاصمي وكلهم أوجب عليه بأن يشير على الخليفة أن لا يخرج فانه أن خرج لم يرجع وبخروجه تزول دولته وبهذه تشهد النجوم التي يقضى بها طالع مولده وأخافوا الوزير من الهلاك أن خرج معه وقد كان المكتفي أمر الوزير بالخروج معه فلم يجد بدا من متابعته فخرج وفي قلبه ما فيه وأقام المكتفي بالرقة حتى أخذ أعداء الله جميعا وسيقت جموعهم بكأس السيف نجيعا ثم جاء الخبر من مصر بموت خمارويه بن أحمد بن طولون وكانوا به يستطيلون فأرسل المكتفي من تسلمها واستحضر القواد المصرية إلى حضرته ثم لما عاد أمر القاسم بن عبيدالله الوزير بإحضار رئيس المنجمين وصفعه الصفع الكثير بعد أن وقفه ووبخه على عظيم كذبه وافترائه وتبرأ منه ومن كل من يقول برأيه
قال أبو حيان التوحيدي في كتاب الإتباع والمؤانسة وقد ذكر هذه القصة
فهذا وما أشبهه من الافتراء والكذب لو ظهر ونشر وعير أهله به ووقفوا عليه وزجروا عن الدعوى المشرفة على الغيب لكان مقمعة لمن يطلق لسانه بالإطلاع على مالا يكونوا في غدو قطعا لألسنتهم وكفا لدعواهم و تأديبا لصغيرهم وكبيرهم
ومن ذلك اتفاقهم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة عندما أراد القائد جوهر العزيز بناء مدينة القاهرة وقد كان سبق مولاه الملقب بالمعز إلى الدخول إلى الديار المصرية لما أمره المعز بدخولها بالدعوة وأمره إذا دخلها أن يبني بها مدينة عظيمة تكون نجوم طالعها في غاية الاستقامة ويكون بطالع الكوكب القاهر وهو زحل أو المريخ على اختلاف حاله فجمع القائد جوهر المنجمين بها وأمر كل واحد منهم أن يحقق الرصد ويحكمه وأمر البنائين أن لا يضعوا الأساس حتى يقال لهم ضعوه وأن يكونوا على هيئة من التيقظ والإسراع حتى يوافقوا تلك الساعة التي اتفقت عليها أرصاد أولئك الجماعة فوضعت الأساسات على ذلك في الوقت الحاضر وسموها بالقاهرة إشارة بزعمهم الكاذب إلى الكوكب القاهر واتفقوا كلهم بأن الوقت الذي بنبت فيه يقضي بدوام جدهم وسعادتهم ودولتهم وأن الدعوة لا تخرج فيها عن الفاطمية وان تداولتها الألسن
العربية والعجمية فلما ملكها أسد الدين شيركوه بن شادي ثم ابن أخيه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومع ذلك المصريون قائمون بدعوة العاضد عبدالله بن يوسف توهم الجهال أن ما قال المنجمون من قبل حقا لتبدل اللسان وحال الدعوة مستبقي فلما رد صلاح الدين الدعوة إلى بني العباس انكشف الأمر وزال الالتباس وظهر كذب المنجمين والحمد لله رب العالمين وكانت المدة بين وضع الأساس وانقراض دولة الملاحدة منها نحو مائة وثلاثة وتسعين عاما فنقض انقطاع دولتهم على المنجمين أحكامهم وخرب ديارهم وأهتك أستارهم وكشف أسرارهم وأجرى الله سبحانه تكذيبهم والطعن عليهم على لسان الخاص والعام حتى اعتذر من اعتذر منهم بأن البنائين كانوا قد سبقوا الرصادين إلى وضع الأساس وليس هذا من بهت القوم ووقاحتهم ببعيد فانه لو كان كذلك لرأى الحاضرون تبديل البناء وتغييره فانه لو دخلهم شك في تقديم أو تأخير أو سبق بما دون الدقيقة في التعذر لما سامحوا بذلك مع المقتضى التام والطاعة الظاهرة والاحتياط الذي لا مزيد فوقه وليس في تبديله حجر أو تحويله برفعه ووضعه كبير أمر على البنائين ولا مشقه وقرائن الأحوال في إقامة دولة بتقريرها وإنشاء قاعدة بتحريرها شاهدة بأن الغفلة عن مثل هذا الخطب الجسيم مما لا يسامح بها البتة ويالله العجب كيف لم يظهر سبق البنائين للراصدين إلا بعد انقراض دولة الملاحدة وأما مدة بقاء دولتهم فكان البناء مقارنا للطالع المرصود فهل في البهت فوق هذا
ومن ذلك اتفاقهم سنة خمس وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم على أنها السنة التي ينقضي فيها بمصر دولة العبيديين هذا مع اتفاق أولئك على أن دعوتهم لا تنقطع من القاهرة وذلك عند خروج الوليد بن هشام المعروف بأبي ركوة الأموي وحكم الطالع له بأنه هو القاطع لدعوة العبيديين وأنه لا بد أن يستولي على الديار المصرية ويأخذ الحاكم أسيرا ولم يبق بمصر منجم إلا حكم بذلك وأكبرهم المعروف الفكري منجم الحاكم وكان أبو ركوة قد ملك برقة وأعمالها وكثرت جموعه وقويت شوكته وخرجت إليه جيوش الحاكم من مصر فعادت مغلوبة فلم يشك الناس في حذق المنجمين وكان من تدبير الحاكم أن دعا خواص رجاله وأمرهم أن يعملوا بما رآه من احتياله وهو أن يكاتبوا أبا ركوة بأنهم على مذهبه وأنهم مائلون عن الدعوة الحاكمية وراغبون في الدعوة الوليدية الأموية وأطمعوه بكل ما أوهموه به أنهم صادقون وله مناصحون فلما وثق بما قالوه وخفى عليه ما احتالوه زحف بعساكره حتى نزل موسيم على ثلاثة فراسخ من مصر فخرجت إليه العسكر الحاكمية فهزمته فتحقق أنها كانت خديعة فهرب وقتل خلق كثير من عسكره وطلب فأخذ أسيرا ودخل به القاهرة على جمل مشهور ثم أمر الحاكم بقتله بعد ما أحضر بين يديه مغلولا بغل من حديد وذلك
في رجب سنة سبع وتسعين وثلاثمائة وكان مبدأ خروجه في رجب سنة خمس وتسعين فظهر كذب المنجمين وكان هذا الفكري قد استولى على الحاكم فانه اتفقت له معه قضيتان أمالتاه إليه إحداهما أن الحاكم عزم على إرسال أسطول إلى مدينة صور لمحاربتهم فسأله الفكري أن يكون تدبيره إليه ليخرجه في طالع يختاره وتكون العهدة أن لم يظفر عليه واتفق ظهور الأسطول
الثانية أنه ذكر أن بساحل بركة رميس مسجدا قديما وان تحته كنزا عظيما وسأله أن يتولى هو هدمه فان ظهر الكنز والا بناه هو من ماله وأودعه السجن فاتفق إصابة الكنز فطاش المغرور بذلك فلما حكم عليه الفكري بتغيير دولته وقضى المنجمون بمثل قضائه فوقع للحاكم أن يغير أوضاع المملكة والدولة ليكون ذلك هو مقتضى الحكم النجومي فصار يأمر في يومه بخلاف كل ما يأمر به في أمسه فأمر بسب الصحابة رضوان الله عليهم على رؤس المنابر والمساجد ثم أمر بقطع سبهم وعقوبة من سبهم وأمر بقطع شجرة الزرجون من الأرض وأوجب القتل على من شرب الخمر وأمر بغرس هذه الشجرة وأباح شرب الخمر وأهمل الناس نهب الجانب الغربي من القاهرة وقتلت فيه جماعة ثم ضبط الأمر حتى أمر أن لا تغلق الحوانيت ليلا ولا نهارا وأمر مناديه ينادي من عدم له ما يساوي درهما أخذ من بيت المال عنه درهمين بعد أن يحلف على ما عدمه أو يعضده شهادة رجلين حتى تحيل الناس في ستر حوانيتهم بالجريد لئلا تدخلها الكلاب ثم عمد إلى كل متول في دولته ولاية فعزله وقتل وزيره الحسن بن عماد كل ذلك ليكون قول أهل النجم أن دولته تتغير واقعا على هذا الضرب من التغيير فلما كان من أمر أبي ركوة ما تقدم ذكره ساء ظنه بعلم النجامة فأمر بقتل منجمه الفكري وأطلق في المنجمين العيب والذم وكان قد جمع بين المنجمين بالديار المصرية واستدعا غيرهم وأمرهم أن يرصدوا له رصدا يعتمد عليه فصارت الطوائف النجومية إلى هذا الرصد يتحاكمون وان تضمن بعض خلاف الرصد المأموني ووضعوا له الذبح المسمى بالحاكمي وكان هذا الفكري قد أخذ علم النجامة عمن أخذه عن العاصمي فسير أوقات الحاكم وساعاته ووافقه على ذلك المنجمون فلما قتله لم يزل أثر التنجيم عن نفسه لشرف النفس على التطلع إلى الحوادث قبل وقوعها وكان بعد يتولع بهذا العلم ويجمع أصحابه فحكموا له في جملة أحكامهم بركوب الحمار على كل حال وألزموه أن يتعاهد الجبل المقطم في أكثر الأيام وينفرد وحده بخطاب زحل بما علموه إياه من الكلام ويتعاهد فعل ما وضعوه له من البخورات والأعزام وحكموا بأنه ما دام على ذلك وهو يركب الحمار فهو سالم النفس عن كل إيذاء فلزم ما أشاروا به عليه وأذن الله العزيز العليم رب الكواكب ومسخرها ومدبرها أن هلاكه كان في ذلك الجبل على ذلك الحمار فانه خرج بحماره إلى ذلك
الجبل على عادته وانفرد بنفسه منقطعا عن موكبه وقد استعد له قوم بسكاكين تقطر منها المنايا فقطعوه هنالك للوقت والحين ثم أعدموا جثته فلم يعلم لها خبر فمن هذا يقول أتباعه الملاحدة انه غائب منتظر وأظهرت قدرة الرب القاهر تبارك اسمه وتعالى جده تكذيب قول تلك الطائفة المفترين ووقوع الأمر بضد ما حكموا به ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله لسميع عليم فظهر من كذبهم وجهلهم بتغيير دولته في خروج أبي ركوة وفي هذا الحين فهذا في مبدئها وهذا في ختامها فهل بعد ذلك وثوق للعاقل بالنجوم وأحكامها كلا لعمر الله ليس بها وثوق وانما غاية أهلها الاعتماد على رازق ومرزوق فأما اصابة الفكري بظفر الأسطول فإنما كان بتحيل دبره على أهل صور لا بالطالع فكانت الغلبة له عليهم بالتحيل الذي دبره ساعة القتال لا بما ذكره من حكم الطالع قبل تلك الحال وأما اصابة الكنز فليس من النجوم في شيء ومعرفة مواضع الكنوز علم متداول بين الناس وفيه كتب مصنفة معروفة بأيدي أرباب هذا الفن وفيها خطأ كثير وصواب قد دل الواقع عليه ومن ذلك اتفاقهم سنة اثنين وثمانين وخمسمائة على خروج ريح سوداء تكون في سائر أقطار الأرض عامة فتهلك كل من على ظهرها إلا من اتخذ لنفسه مغارة في الجبال بسبب أن الكواكب كانت بزعمهم أن اجتمعت في برج الميزان وهو برج هوائي لا يختلف فيه منهم اثنان كما اجتمعت في برج الحوت زمن نوح وهو عندهم برج مائي فحصل الطوفان المائي قالوا وكذا اجتماعها في البرج الميزاني يوجب طوفانا هوائيا ودخل ذلك في قلوب الرعاع من الناس فاتخذوا المغارات استدفاعا لما أنذرهم به الكذابون من الله رب العالمين مسخر الرياح ومدبر الكواكب ثم لما كان ذلك الوقت الذي حدوه والأجل الذي عدوه قل هبوب الرياح عن عادتها حتى أهم الناس ذلك ورأوا من الكرب بقلة هبوب الرياح ما هو خلاف المعتاد فظهر كذبهم للخاص والعام وكانوا قد دبروا في قصة هذه الريح التي ذكروها بأن عزوها إلى على رضي الله عنه وضمنوها جزء بمضمون هذه الريح وذكروا قصة طويلة في آخرها أن الراوي عن علي رضي الله عنه قال له لقد صدقني المنجمون فيما حكيت عنك وقالوا انه تجتمع الكواكب في برج الميزان كما اجتمعت في برج الحوت على عهد نوح وأحدثت الغرق فقلت له يا أمير المؤمنين كم تقيم هذه الريح على وجه الأرض قال ثلاثة أيام ولياليها وتكون قوتها من نصف الليل إلى نصف النهار عن اليوم الثاني وانظر إلى اتفاقهم على أن الكواكب إذا اجتمعت في برج الميزان حصل هذا الطوفان الهوائي واتفاقهم على اجتماعها فيه في ذلك الوقت ولم يقع ذلك الطوفان ومن ذلك اتفاقهم في الدولة الصلاحية بحكم زحل والدالي أن مدينة الاسكندرية لا يموت فيها من الغز وال فلما مات بها الملك المعظم شمس الدولة
توران شاه ابن أيوب بن شاذي سنة خمس وسبعين وخمسمائة ثم واليها فخر الدين قراجا ابن عبدالله سنة تسع وثمانين ثم واليها سعد الدين سودكين بن عبدالله سنة خمس وستمائة انخرمت هذه القاعدة أصلا وبطل قولهم فرعا وأصلا حتى قال بعض شعراء ذلك العصر عند موت الأمير فخر الدين :
وقضى طلوع الثغر عند مماته ... أن المنجم كاذب لا يصدق
لو كان فيه لا يموت مؤمر ... أودى وفخر الدين حي يرزق
ومن ذلك اجتماعهم في سنة خمس وعشرة وستمائة لما نزل الفرنج على دمياط على انهم لا بد أن يغلبوا على البلاد فيتملكوا ما بأرض مصر من رقاب العباد وانهم لا تدور عليهم الدائرة إلا إذا قام قائم الزمان وظهر براياته الخافقة ذلك الأوان فكذب الله ظنونهم وأتى من لطفه الخفي ما لم يكن في حساب ورد الفرنج بعد القتل الذريع فيهم والأسر على العقاب وكان المنجمون قد أجمعوا في أمر هذه الواقعة على نحو ما أجمع عليه من قبلهم في شأن عمورية واتفق أن كان مبدأ هذا الفتح في سابع رجب سنة ثمان عشرة وستمائة ومبدأ ذلك الفتح في سابع رجب أيضا سنة ثلاث وعشرين ومائتين قال الفاضل العلامة محمد بن عبدالله بن محمود الحسيني ولما كذب الله هؤلاء القوم فيما ادعوه نسجت على منوال أبي تمام في قصيدته البائية المكسورة فعملت بائية مفتوحة وهي :
الحمد لله حمدا يبلغ الأربا ... نقضي به من حقوق الله ما وجبا
حمدا يزيد إذا النعمي تزيد به ... أخراه أولاه تعطى ضعف ما وهبا
لا ييأس المرء من روح الإله فكم ... من راح في مستهل كان قد صعبا
فكم مشى بك مكروه ركضت به ... من غير علم إلى ما تشتهي خببا
وكم تقطع دون المشتهى سبب ... وكان منك لأعلى المنتهى سببا
لا ينبغي لك في مكروه حادثة ... أن تبتغى لك في غير الرضا طلبا
لله في الخلق تدبير يفوت مدى ... أسرار حكمته أحكام من حسبا
ا ابغ النجاء إذا ماذو النجامة في ... زور من القول يقضي كل ما قربا
وذو الأراجين مما قد يقول فدع ... فما أراجيز شيء كان قد كتبا
ما كان لله في ديوان قدرته ... من كاتب بحدوس الظن إذ كتبا
لا يعلم الغيب إلا الله خالقنا ... لا عالم غيره عجبا ولا عربا
لا شيء أجهل ممن يدعي ثقة ... بحدسه وترى فيما يرى ريبا
قد يجهل المرء ما في بيته نظرا ... فكيف عنه بما في غيبه احتجبا
قد كذب الله قول القائلين غدا ... إذا أتى رجب لم تحمدوا رجبا
قالوا يرى عجب فيه فقلت لهم ... بالنصر بعد اياس تبصروا عجبا
في منقضى السبعة الأيام منه أتى ... ما يأت في مقتضاه السبعة الشهبا
وأعتمت فيه عواء النجوم على ... عواء ذئب من الكفار قد حربا
والشعريان فكل منهما شعرت ... بأن للحق فيهم سيف من غلبا
وصح عن قمر الأفلاك أنهم ... ما فيهم غير مقهور وقد نشبا
غطاؤهم رد في وجهي عطاردهم ... إلى الذي منهم ما شاء قد سلبا
وقد بدت زهرة الإسلام زاهرة ... قد أظلمت فوقهم من دونها سحبا
وأجملت حمرة المريخ حكمهم ... ففسرت بدم فيهم لمن خضبا
ولم يك المشترى تقضي سعادته ... إلا إلى المشتري نفسا بما طلبا
وقبل منقلب الأبراج ذو قدر ... فعاد منه مبان النفع منقلبا
كم حامل ثائر في الثور أو حمل ... أجاز فيهم على جوزائهم حربا
ولم يدر فلك إلا لذي ملك ... يدير جيشا عليهم عسكرا نجيا
حتى غدا ثغر دمياط وقد حكموا ... أن لا يرى باسما مستجمعا شنبا
يفتر عن صبح إيمان به جذلا ... وكان في ليل كفر بات مكتئبا
ومد كفاله التوحيد فانقبضت ... رجل من الشرك في تأخيره هربا
وتلك حرب صليب عودها فقضت ... أن لا يعود صليب بعد منتصبا
وأطلق القول بالتأذين إذ خرست ... له نواقيس جرجيس فما احتسبا
ومما اتفق عليه المنجمون أن الإنسان إذا أراد أن يستجيب الله دعاءه جعل الرأس في وسط المساء مع المشتري أو شطر منه مقبل والقمر متصلا به أو منصرفا عنه متصل بصاحب الطالع أو صاحب الطالع متصل بالمشتري ناظر إلى الرأس نظرة مودة فهنالك لا يشكون أن الإجابة حاصلة قالوا وكانت ملوك اليونان يلزمون ذلك فيحمدون عقباه والعاقل إذا تأمل هذا الهذيان لم يحتج في علمه ببطلانه ومحاله إلى فكر ونظر فان رب السموات والأرض سبحانه لا يتأثر بحركات النجوم بل يتقدس ويتعالى عن ذلك فيا للعقول التي أضحكت عليها العقلاء من المؤمنين والكفار ما هذه الاتصالات حتى تكون على وجوب إجابة الله من أقوى الدلالات ومما عليه المنجمون متفقون أو كالمتفقين أن الخبر إذا ورد في وقت أو بادنا منه 1 الوجوه والقمر وعطارد في بروج ثوابت والقمر منصرف عن السعود فالخبر ليس بباطل والباطل مثل هذا فانه يلزمهم
أن من وضع خبرا باطلا في ذلك الوقت أن الطالع المذكور يصححه أو يقولوا لا يمكن أحدا أو يكذب في ذلك الوقت وقد أورد أبو معشر المنجم هذا السؤال في كتاب الأسرار له وأجاب عنه أن الأخبار تختلف فان ورد خبر مكروه من أسباب الشر والجور والأفعال المنسوبة إلى طبائع النحوس والطالع في القمر منصرف عن سعد فالخبر باطل وان ورد خبر محبوب ومن أسباب الخير والعدل والأفعال المنسوبة إلى طبائع السعود وفي الطالع سعد والقمر منصرف عن سعد فالخبر حق قال وزحل لا يدل في كل حال على الكذب بل يدل على وجود العوائق عما يوقع ذلك الخبر لكن البلاء المريخ أو الذنب إذا استوليا على الأوتاد وعلى القمر أو عطارد فانهما يدلان على الكذب والبطلان ثم قال وعلى كل حال فالقمر في العقرب والبروج الكاذبة تنذر بكذب في نفس الخبر أو زيادة أو نقصان وفي الحمل والبروج الصادقة تدل على صدق فيه واستواء وفي السرطان والبروج المنقلبة لا تدل على انقلاب الخبر إلى باطل ولكنه قد ينقلب فيصير أقوى مما هو عليه الآن إلا أن ينظر إليه نحس فيفسده ويبطله ثم قال واعرف صدق الخبر من سهم الغيب إذا شككت فيه فان كان سليما من المريخ والذنب وينظر إليه صاحبه أو القمر أو الشمس نظر صلاح فهو حق هذا منتهى كلامه في الجواب وهو كما تراه متضمن أن عند هذه الاتصالات التي ذكرها يكون الخبر صحيحا صدقا وعند تلك الاتصالات الأخر تكون منذرة بالكذب فيقال لهؤلاء الكذابين المفترين المبلسين أيستحيل عندكم معاشر المنجمين أن يضع أحدكم خبرا كاذبا عند تلك الاتصالات أم ذلك واقع في دائرة الإمكان بل هو موجود في الخارج وكذلك يستحيل أن يصدق مخبر عند الاتصالات الأخر أو يبعد صدق العالم عندها ويكون كذبهم إذا ذاك أكثر منه في غير ذلك الوقت وهل في الهوس أبلغ من هذا ولو تتبعنا أحكامهم وقضاياهم الكاذبة التي وقع الأمر بخلافها لقام منها عدة أسفار وأما نكبات من تقيد بعلم أحكام النجوم في أفعاله وسفره ودخوله البلد وخروجه منه واختياره الطالع لعمارة الدار والبناء بالأهل وغير ذلك فعند الخاصة والعامة منهم عبر يكفي العاقل بعضها في تكذيب هؤلاء القوم ومعرفته لافترائهم على الله وأقضيته وأقداره بل لا يكاد يعرف أحد تقيد بالنجوم في ما يأتيه ويذره إلا نكب أقبح نكبة وأشنعها مقابلة له بنقيض قصده وموافات النحوس له من حيث ظن أنه يفوز بسعده فهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه أو ركن إلى مخلوق يدبره أجرى الله له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به آماله وانظر ما كان أقوى تعلق بني برمك بالنجوم حتى في ساعات أكلهم وركوبهم وعامة أفعالهم وكيف كانت نكبتهم الشنيعة وانظر حال أبي علي ابن مقلة الوزير وتعظيمه لأحكام النجوم ومراعاته لها أشد المراعات ودخوله دارا بناها بطالع زعم الكذابون
المفترون أنه طالع سعد لا يرى به في الدار مكروها فقطعت يده ونكب في آثاره أقبح نكبة نكبها وزير قبله وقتلى المنجمين أكثر من أن يحصيهم إلا الله عز و جل
الوجه التاسع عشر أن هؤلاء القوم قد أقروا على أنفسهم وشهادة بعضهم على بعض بفساد أصول هذا العلم وأساسه فقد كان أوائلهم من الأقدمين وكبار رصادهم من عهد بطليموس وطيموحارسي حارس ومانالاوس قد حكموا في الكواكب الثابتة بمقدار واتفقوا أنه صحيح الاعتبار وأقام الأمر على ذلك فوق سبعمائة عام والناس ليس بأيديهم سوى تقليدهم حتى كان في عهد المأمون فاتفق من رصادهم وحكامهم علماء الفريقين مثل خالد بن عبد الملك المروزي وحسن صاحب الزبج المأموني ومحمد بن الجهم ويحيى بن أبي منصور على أنهم امتحنوا رصد الأوائل فوجدوهم غالطين فيما رصدوه فرصدوهم رصدا لأنفسهم وحرروه وسموه الرصد الممتحن وجعلوه مبدأ ثانيا بعد ذلك الزمن كان لأوائلهم إجماع على صحة رصدهم ولهؤلاء إجماع على خطأهم فيه فتضمن ذلك إجماع الأواخر على الأوائل أنهم كانوا غالطين واقرار الأواخر على أنفسهم أنهم كانوا بالعمل به مخطئين ثم حدثت طائفة أخرى منهم كبيرهم وزعيمهم أبو معشر محمد ابن جعفر وكان بعد الرصد الممتحن بنحو من ستين عاما فرد عليهم وبين خطأهم كما ذكر أبو سعيد ابن شاذان بن بحر المنجم في كتاب أسرار النجوم قال قال أبو معشر أخبرني محمد بن موسى المنجم الحليس وليس الخوارزمي قال حدثني يحيى بن آبي منصور أو قال حدثني محمد بن محمد الحليس قال دخلت على المأمون وعنده جماعة المنجمين وعنده رجل قد تنبأ وقد دعا القضاة والفقهاء ولم يحضروا بعد ونحن لا نعلم فقال لي ولمن حضر من المنجمين اذهبوا فخذوا الطالع لدعوى رجل في شيء يدعيه وعرفوني بما يدله عليه الفلك من صدقه وكذبه ولم يعلمنا المأمون أنه متنبيء فجئنا إلى ناحية من القصر وأحكمنا أمر الطالع وصورناه فوقع الشمس والقمر في دقيقة الطالع والطالع الجدي والمشتري في السنبلة ينظر إليه والزهرة وعطارد في العقرب ينظر إليه فقال كل من حضر من المنجمين هذا الرجل صحيح لا كذب فيه قال يحيى وأنا ساكت فقال لي المأمون قل فقلت هو في طلب تصحيحه وله حجة زهرية وعطاردية وتصحيح ما يدعيه لا يتم له فقال من أين قلت فقلت لأن صحة الدعاوى من المشتري وهو ينظر إليه زحل موافقة إلا أنه كاره لهذا البرج ولا يتم له التصديق ولا التصحيح والذي قالوه إنما هو من حجة عطاردية وزهرية وذلك يكون من جنس التحسين والتزويق والخداع عن غير حقيقة فقال لله درك ثم قال تدرون ما يدعى هذا الرجل قلنا لا قال هذا يدعى النبوة فقلت يا أمير المؤمنين ومعه شيء يحتج به فسأله فقال نعم معي خاتم ذو فصين ألبسه فلا يتغير مني شيء ويلبسه غيري فلا يتمالك من الضحك حتى ينزعه ومعي قلم شامي أكتب به ويأخذه غيري
فلا تنطلق أصبعه به فقلت يا سيدي هذا عطارد والزهرة قد عملا عملهما فأمره أمير المؤمنين فأظهر ما أدعاه منهما وكان ذلك ضرب من الطلسمات فما زال به المأمون أياما كثيرة حتى أقر وتبرأ من دعوى النبوة ووصف الحيلة التي احتالها في الخاتم والقلم فوهب له المأمون ألف دينار وصرفه فلقيناه بعد ذلك فإذا هو أعلم الناس بعلم النجوم ومن أكبر أصحاب عبدالله القشيري وهو الذي عمل طلسم الخنافس في دور بغداد قال أبو معشر لو كنت في القوم ذكرت أشياء خفيت عليهم كنت أقول الدعوى باطلة من أصلها إذ البرج منقلب وهو الجدي والمشتري في الوبال والقمر في المحاق والكوكبان الناظران إلى الطالع في برج كذاب وهو العقرب فتأمل كيف اختلفت أحكامهم مع اتحاد الطالع وكل منهم يمكنه تصحيح حكمه بشبهة من جنس شبهة الآخر فلو اتفق أن أدعى رجل صادق في ذلك الوقت والطالع دعوى ألم يكن ادعاؤه ممكنا غير مستحيل ودعواه صحيحة في نفسها أم تقولون انه لا يمكن أن يدعى أحد في ذلك الوقت والطالع دعوى صحيحة البتة ومن المعلوم لجميع العقلاء أنه يمكن إذ ذاك دعوتين من رجل محق ومبطل بذلك الطالع بعينه فما أسخف عقل من ارتبط بهذا الهذيان وبني عليه جميع حوادث الزمان وليس بيد القوم إلا ما اعترف به فاضلهم وزعيمهم أبو معشر
وقال شاذان في الكتاب المذكور أيضا قلت لأبي معشر الذنب بارد يابس فلم قلتم انه يدل على التأنيث فقال هكذا قالوا قلت فقد قالوا انه ليس بصادق اليبس لكنه بارد فنظر لي فقال كل الأعراض الغائبة توهم لا يكون شيء منها يقينا وانما يكون توهم أقوى من توهم
ومن تأمل أحوال القوم علم أن ما معهم إلا زرق وتفرس يصيبون معها ويخطئون
قال شاذان في كتابه المذكور كان الرازي الثنوي الذي بالهند يكاتب أبا لعشر ويهاديه فأنفذ لأبي معشر مولدا لابن مالك سر نديب طالعه الجوزاء والشمس والقمر في الجدي والقمر خارج عن الشعاع وعطارد في الدلو والمشتري في الحمل وزحل في السرطان راجع في بحران الرجوع فحكم له أبو معشر بأنه يعيش دور زحل الأوسط فقلت سبحان الله جاءه راجع في بحران الرجوع في بيت ساقط عن الأوتاد لا يعطيه إلا دور الأصغر ويحتاج أن يسقط منه الخمسين وجعلت أنكر عليه ذلك وأخوفه أن تسقط منزلته عند أهل تلك البلاد إلى أن ذكر محاورة طويلة انتهت بهما إلى أن أبا معشر أخذ ذلك من عادات أهل الهند في طول الأعمار وقال شاذان في مسألة سئل عنها ما أنتم الازراقين ثم حدثت بعد هؤلاء جماعة منهم أبو الحسين عبدالرحمن بن عمر بن عبد المعروف بالصوفي وكان بعد أبي معشر بنحو من سبعين عاما فذكر أنه قد عثر من غلط الأواخر بعد الأوائل على أشياء كثيرة وصنف كتابا في معرفة الثوابت وحمله إلى عضد الدولة بن بويه فاستحسنه
وأجزل ثوابه وبين في هذا الكتاب من أغاليط أتباع الرصد الثاني أمورا كثيرة لعطارد المنجم ومحمد بن جابر التباني وعلي بن عيسى الحراني فقال في مقدمة كتابه ولما رأيت هؤلاء القوم مع ذكرهم في الآفاق وتقدمهم في الصناعة وإقتداء الناس بهم واشتغالهم بمؤلفاتهم قد تبع كل واحد منهم من تقدمه من غير تأمل لخطئه وصوابه بالعيان والنظروا أوهموا الناس بالرصد حتى ظن كل من نظر في مؤلفاتهم أن ذلك عن معرفة بالكواكب ومواضعها إلى أن قال ومعولهم على آلات مصورة من عمل من لا يعرف الكواكب بأعيانها وانما عولوا على ما وجدوه في الكتب من أطوالها وعروضها فرسموها في الكرة من غير معرفة خطئها وصوابها ثم قال وزادوا أيضا على أطوال الكواكب أطوالا كثيرة وعلى عروضها دقائق يسيرة ونقصوا منها أوهموا بذلك أنهم رصدوا الكل وأنهم وجدوا بين أرصادهم وأوضاع بطليموس من الخلاف في أطوالها وعروضها القدر الذي خالفوا به سوى الزيادة التي وجدوها من حركاتها في المدة التي بينهم وبينه من السنين من غير أن عرفوا الكواكب بأعيانها وله تواليف أخر مشحونة ببيان أغاليطهم وإيضاح أكاذيبه2م وتخاليطهم وشهد عليهم بأنهم تارة قلدوا في الأقوال النجومية وتارة قلدوا فيما وجدوه من الصور الكوكبية فهم مقلدون في القول والعمل ليس مع القوم بصيرة وشهد عليهم بأنهم مموهون مدلسون بل كاذبون مفترون من جهة أنهم زادوا دقائق ما بين زمانهم وزمان بطليموس وأوهموا بها أنهم رصدوا ما رصده من قبلهم فعثروا على ما لم يعثروا عليه ثم حدثت جماعة أخرى منهم الكوشيار بن ياسر بن الديلمي ومن تآليفه الزيجات والجامع والمجمل في الأحكام وهو عندهم نهاية في الفن وكان بعد الصوفي بنحو ثلاثين عاما وذكر في مقدمة كتابه المجمل أني جمعت في هذا الكتاب من أصول صناعة النجوم والطريق إلى التصرف فيها ما ظننته كافيا في معناه مغنيا عما سواه وأكثر الأمر فيما أخذت به أقرب طريق عزوته إلى القياس وأوضح سبيل سلكته إلى الصواب إذ هي صناعة غير مبرهنة وللخواطر والظنون مجال بلا نهاية صواب ومجال إلى أن ذكر علم الأحكام فقال فيه ولا سبيل للبرهان عليه ولا هو مدرك بكليته نعم ولا بأكثره لن الشيء الذي يستعمل فيه هذا العلم أشخاص الناس وجميع ما دون الفلك القمري مطبوع على الانتقال والتغيير ولا يثبت على حال واحدة في أكثر الأمر ولا للإنسان بكامل القوة من الحدس بخواص الأحوال التي تكون من امتزاجات الكواكب فبلغ من الصعوبة وتعسر الوقوف عليه إلى أن دفعه بعض الناس وظنوا أنه شيء لا يدركه أحد البتة وأكثر المنفردين بالعلم الأول يعنى علم الهيئة ينكرون هذا العلم ويجحدون منفعته ويقولون هو شيء يقع بالانفاق وليس عليه برهان إلى أن قال ومن المنفردين بالعلم الثاني يعنى علم الأحكام من يأتي على
جزئياته بحجج على سبيل النظر والجدل فظن أنها برهان لجهله بطريق البرهان وطبيعته فحصل من كلام هذا تجهيل أصحاب الأحكام كما حصل في كلام الصوفي تكذيب أصحاب الأرصاد وهذان رجلان من عظمائهم وزعمائهم ثم حدثت جماعة أخرى منهم المنجم المعروف بالفكري منجم الحاكم بالديار المصرية وكان قد انتهت إليه رياسة هذا العلم وكان قد قرأ على من قرأ على العاصمي فوضع هو وأصحابه رصدا آخر وهو الرصد الحاكمي وخالف فيه أصحاب الرصد الممتحن في أشياء وعلى ذلك التفاوت بنوا الذريح الحاكمي وكان الحاكم قد أمرهم أن يحذوا على فعل المأمون فأمر أن يجتمعوا عنده فاجتمع المنجمون ورئيسهم الفكري فوضعوا الذبح الحاكمي وخالفوا أصحاب الرصد المأموني ومالوا أتباعهم إلى الرصد الحاكمي ولو اتفق بعد ذلك رصد آخر لسلك أصحابه في خلاف من تقدمهم مسلك أوائلهم هذا ومستند لهم ومعولهم الحس والحساب وهما هما لا يقبلان التغليط فما الظن بما يدعونه من علم الأحكام الذي مبناه على هواجس الظنون وخيالات الأوهام ثم حدثت جماعة أخرى منهم أبو الريحان البيروتي مؤلف كتاب التفهيم إلى صناعة التنجيم جمع فيه بين الهندسة والحساب والهيئة والأحكام وكان بعد كوشيار بنحو من أربعين سنة فخالف من تقدمه وأتى من مناقضتهم والرد عليهم بما هو دال على فساد الصناعة في نفسها وختم كتابه بقوله في الخبى والضمير ما أكثر افتضاح المنجمين فيه وما أكثر اصابة الراصدين فيه بما يستعملون من كلامه وقت السؤال ويرونه باديا من آثار وأفعال على السائل وقال وعند البلوغ إلى هذا الموضع من صناعة التنجيم كافية ومن تعداه فقد عرض نفسه وصناعته لما بلغت إليه الآن من السخرية والاستهزاء فقد جهلها المتفقهون فيها فضلا عن المنتسبين إليها انتهى كلامه
ثم حدثت جماعة أخرى منهم أبو الصلت أمية بن عبدالعزيز بن أمية الأندلسي الشاعر المنجم الطبيب الأديب وكان بعد البيروتي بنحو من ثمانين عاما ودخل مصر وأقام بها نحو عامين ولما كان بالغرب توفيت والدة الأمين على بن يميم صاحب المهدية وكان قد وافق موتها أخبار المنجمين بذلك قبل وقوعه فعمل أمية قصيدة يرثيها وهي من مستحسن شعره فقال فيها
وراعك قول للمنجم موهم ... ومن يعتقد زرق المنجم يوهم
فواعجبا يهذي المنجم دهره ... ويكذب إلا فيك قول المنجم
وكان المذكور رأسا في الصناعة وقد اعترف بأن المنجم كذاب صاحب زرق وهذيان ثم حدثت طائفة أخرى بالغرب منهم أبو اسحق الزر قال واصحابه وهو بعد أبي الصلت بنحو من مائة عام وقد خالف الأوائل والأواخر في الصناعتين والرصدية والأحكامية فأسقط من
الرصد الممتحن المأموني في البروج درجات ومن الرصد الحاكمي دقائق وسلك في الأحكام طرقا غير الطرق المعهودة منه اليوم وزعم أن عليها المعول وأن طرق من تقدمه ليست بشيء ولو حدث في هذا العصر من يشبه من تقدمه لرأينا اختلافا آخر ولكن هذه الصناعة قد ماتت ولم يبق بأيدي المنتسبين إليها إلا تقليد هؤلاء الضلال فيما فهموه من كلامهم الباطل وما لم يفهموه منه فقد يظنون أنه صحيح ولكن إفهامهم نبت عنه وهذا شأن جميع أهل الضلال مع رؤسائهم ومتبوعيهم فجهال النصارى إذا ناظرهم الموحد في تثليثهم وتناقضه وتكاذبه قالوا الجواب على القسيس والقسيس يقول الجواب على المطران والمطران يحيل الجواب على البترك والبترك على الأسقف والأسقف على الباب والباب على الثلاثمائة والثمانية عشر أصحاب المجمع الذي اجتمعوا في عهد قسطنطين ووضعوا للنصارى هذا التثليث والشرك المناقض للعقول والأديان ولعلهم عند الله أحسن حالا من أكثر القائلين بأحكام النجوم الكافرين برب العالمين وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر
فصل ورأيت لبعض فضلائهم وهو أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى رسالة
بليغة في الرد عليهم وإبداء تناقضهم كتبها لما بصره الله رشده واراه بطلان ما عليه هؤلاء الضلال الجهال كتبها نصيحة لبعض إخوانه فأحببت أن أوردها بلفظها وان تضمنت بعض الطول والتكرار وأتعقب بعض كلامه بتقرير ما يحتاج إلى تقرير وسؤال يورد عليه ويطعن به على كلامه ثم بالجواب عنه ليكون قوة للمسترشد وبيانا للمتحير وتبصرة للمهتدي ونصيحة لأخواني المسلمين وهذا أولهابسم الله الرحمن الرحيم عصمك الله من قبول المحالات واعتقاد ما لم تقم عليه الدلالات وضاعف لك الحسنات وكفاك المهمات بمنه ورحمته كنت أدام الله توفيقك وتسديدك ذكرت لي اهتمامك بما قد لهج به وجوه أهل زماننا من النظر في الأحكام النجوم وتصديق كل ما يأتي من أدعى أنه عارف بها من علم الغيب الذي تفرد الله سبحانه وتعالى به ولم يجعله لأحد من الأنبياء والمرسلين ولا ملائكته المقربين ولا عباده الصالحين من معرفة طويل الأعمار وقصيرها وحميد العواقب وذميمها وسائر ما يتجدد ويحدث ويتخوف ويتمنى وسألنى أن اعمل كتابا أذكر فيه بعض ما وقع من اختلافهم في أصول الأحكام الدالة على وهمهم قبح اعتقادهم وما يستدل به من طريق النظر والقياس على ضعف مذهبهم وألخص ذلك واختصره واقربه بحسب الوسع والطاقة فوعدتك بذلك وقد ضمنته كتابي هذا والله أسأل
عونا على ما قرب منه وتوفيقا لما أزلف لديه انه قريب مجيب فعال لما يريد لست مستعملا للتحامل على من أثبت تأثير الكواكب في هذا العالم وترك إنصافهم كما فعل قوم ردوا عليهم فانهم دفعوهم عن أن يكون لها تأثير البتة غير وجود الضياء في المواضع التي تطلع فيها الشمس والقمر وعدمه فيما غابا عنه وما جرى هذا المجرى بل أسلم لهم أنها تؤثر تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض مزاجه يميل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله ضعيف وألوانهم سود وصفر كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض مزاجه يميل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله وأجسامهم عبلة والوانهم بيض وشعورهم شقر مثل الترك والصقالبة ومثل أن يكون النبات ينمو ويقوى ويتكامل وينضج ثمره بالشمس والقمر فان أهل الصحراء ومن يعانيها مجمعون على أن القثاء تطول و تغلظ بالقمر وقد شاهدت غير شجرة كبيرة حاملة من التين والتوت وغيرهما فما قابل الشمس منه أسرع نضج الثمر الكائن فيه وما خفى منها عنها بقي ثمره فجا وتأخر إدراكه ومثال ذلك ما شاهد من حال الريحان الذي يقال له اللينوفر وحال الخبازي وورق الخطمى والأدريون وأشياء كثيرة من النبات فانا نراه يتحرك وينفتح مع طلوع الشمس ويضعف إذا غابت لأن هذه أمور محسوسة وليس الكلام في هذا التأثير كيف هو وعلى أي سبيل يقع فما يليق بغرضنا ههنا فلذلك أدعه فأما ما يزعمونه فيما عدا هذا من أن النجوم توجب أن يعيش فلان كذا كذا سنة وكذا كذا شهرا وينتهون في التحديد إلى جزء من ساعة وأن يدل على تقليد رجل بعينه الملك وتقليد آخر بعينه الوزارة وطول مدة كل واحد منهما في الولاية وقصرها وما فعله الإنسان وما يفعله في منزله وما يضمره في قلبه وما هو متوجه فيه من حاجاته وما هو في بطن الحامل والسارق ومن هو والمسروق وما هو وأين هو وكميته وكيفيته وما يجب بالكسوف وما يحدث معه والمختار من الأعمال في كل يوم بحسب اتصال القمر بالكواكب من أن يكون هذا اليوم صالحا للقاء الملوك والرؤساء وأصحاب السيوف وهذا يوم محمود للقاء الكتاب والوزراء وهذا اليوم محمود للقاء القضاة وهذا اليوم محمود لأمور النساء وهذا اليوم محمود لشرب الدواء والفصد والحجامة وهذا اليوم محمود للعب الشطرنج والنرد وغير ذلك فمحال أن يكون معلوما من طريق الحس وليس نص من كتاب الله بل قد نص الله سبحانه وتعالى فيه على بطلانه بقوله تبارك وتعالى قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم بل قد جاء عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال من أتى عرافا أو كاهنا أو منجما فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ولا هاهنا ضرورة تدعو إلى القول به ولا هو أول في المعقول ولا يأتون عليه ببرهان ولا دليل
مقنع وهذه هي الطرق التي تثبت بها الموجودات وتعلم بها حقائق الأشياء لا طريق هاهنا غيرها ولا شيء لأحكام النجوم منها وانا ابتدئ الآن بوصف جملة من اختلافهم في الأصول التي يبنون عليها أمرهم ويفرعون عنها أحكامهم وأذكر المستبشع من أقاويلهم وقضاياهم وظاهر مناقضاتهم ثم آتى بطرف من احتجاجهم والاحتجاج عليهم والله والموفق للصواب بفضله
ذكر اختلافهم في الأصول زعموا جميعا أن الخير والشر والاعطاء والمنع وما أشبه ذلك يكون في العالم بالكواكب وبحسب السعود منها والنحوس وعلى حسب كونها من البروج الموافقة والمنافرة لها وعلى حسب نظر بعضها إلى بعض من التسديس والتربيع والتثليث والمقابلة وعلى حسب محاسدة بعضها بعضا وعلى حسب كونها في شرفها وهبوطها ووبالها ثم اختلفوا على أي وجه يكون ذلك فزعم قوم منهم أن فعلها بطبائعها وزعم آخرون أن ذلك ليس فعلا لها لكنها تدل عليه بطبائعها قلت وزعم آخرون أنها تفعل في البعض بالعرض وفي البعض بالذات قال وزعم آخرون أنها تفعل بالاختيار لا بالطبع ألا أن السعد منها لا يختار إلا الخير والنحس منها لا يختار إلا الشر وهذا بعينه نفى للاختيار فان حقيقة القادر المختار القدرة على فعل أي الضدين شاء وترك أيهما شاء قلت ليس هذا بشيء فانه لا يلزم من كون المختار مقصود الاختيار على نوع واحد سلب اختياره ولكن الذي يبطل هذا أنهم يقولون أن الكوكب النحس سعد في برج كذا وفي بيت كذا وإذا كان الناظر إليه من النجوم كذا وكذا وكذلك الكوكب السعد ويقولون أنها تفعل بالذات خيرا وبالعرض شرا وبالعكس وقد يقولون أنها تختار في زمان خلاف ما تختار في زمان آخر وقد تتفق كلها أو أكثرها على إيثار الخير فيكون في العالم في ذلك الوقت على الأكثر الخير والنفع والحسن قالوا كما كان في زمن بهمن وفي أيام أنوشروان وبضد ذلك أيضا فيقال إذا كانت مختارة وقد تتفق على إرادة الخير وعلى إرادة الخير والشر بطل دلالة حصولها في البروج المعينة ودلالة نظر بعضها إلى بعض بتسديد أو تربيع أو تثليث أو مقابلة لأن هذا شأن من يقع فعله إلا عن وجه واحد في وقت معين على شروط معينة ولا ريب أن هذا ينفي الاختيار فكيف يصح قولكم بذلك وجمعكم بين هاتين القضيتين أعني جواز اختيارها في زمان خلاف ما تختاره في زمان آخر وجواز اتفاقها على الخير واتفاقها على الشر من غير ضابط ولا دليل يدلكم عليه ثم تحكمون بتلك الأحكام مستندين فيها إلى حركاتها المخصوصة وأوضاعها ونسبة بعضها إلى بعض وهل هذا الاضحكة للعقلاء قال وزعم آخرون أنها لا تفعل باختيار بل تدل باختيار وهذا كلام لا يعقل معناه إلا أنى ذكرته لما كان مقولا واختلفوا فقالت فرقة من الكواكب ما هو سعد ومنها ما هو نحس وهي تسعد غيرها وتنحسه وقالت فرقة هي في أنفسها طبيعة واحدة
وانما تختلف دلالتها على السعود والنحوس وان لم تكن في أنفسها مختلفة واختلفوا فقال قوم أنها تؤثر في الأبدان والأنفس جميعا وقال الباقون بل في الأبدان دون الأنفس قلت أكثر المنجمين على القول بأنها تسعد وتنحس غيرها وأما الفرقة التي قالت هي دالة على السعد والنحس فقولهم وان كان أقرب إلى التوحيد من قول الأكثرين منهم فهو أيضا قول مضطرب متناقض فان الدلالة الحسية لا تختلف ولا تتناقض وهذا قول من يقول منهم أن الفلك طبيعة مخالفة لطبيعة الاستقصاب الكائنة الفاسدة وأنها لا حارة ولا باردة ولا يابسة ولا رطبة ولا سعد ولا نحس فيها وانما يدل بعض أجرامها وبعض أجزائها على الخير وبعضها على الشر وارتباط الخير والشر والسعد والنحس بها ارتباط المدلولات بأدلتها لا ارتباط المعلومات بعللها ولا ريب أن قائل هذا أعقل وأقرب من أصحاب القول بالاقتضاء الطبيعي والعلية وأما القول بتأثيرها في الأبدان والأنفس فهو قول بطليموس وشيعته وأكثر الأوائل من المنجمين وهؤلاء لهم قولان أحدهما أنها تفعل في الأنفس بالذات وفي الأبدان بالعرض لأن الأبدان تنفعل عن الأنفس والثاني أنها هي سبب جميع ما في عالم الكون والفساد وفعلها في ذلك كله بالذات وكأنه لاخلاف بين الطائفتين فان الذين قالوا فعلها في النفوس لا يضيفون انفعال الأبدان إلى غيرها بذاتها بل بوسائط قال واختلف رؤساؤهم بطليموس ودورسوس وانطيقوس وريمسس وغيرهم من علماء الروم والهند وبابل في الحدود وغيرها وتضادوا في المواضع التي يأخذون منها دليلهم فبعضهم يغلب رب بيت الطالع وبعضهم يقول بالدليل المستولى على الحظوظ واختلفوا فزعم بطليموس أنهم يعلم منهم السعادة بأن يأخذ أبدا العدد الذي يحصل من موضع الشمس إلى موضع القمر ويبتدئ من الطالع فيرصد منه مثل ذلك العدد ويأخذ إلى الجهة التي تتلو من البروج فيكون قد عرف موضع السهم وزعم غيره أنه يعد من الشمس ثم يبتدئ من الطالع فيعد مثل ذلك إلى الجهة المتقدمة من البروج قلت وزعم آخرون أن بطليموس يرى أن جميع ما يكون ويفسد إنما يعرف دليله من موضع التقاء النيرين إما الاجتماع واما الامتلاء لأن هذين الكوكبين عنده مثل الرئيسين العظيمين أحدهما يأتمر لصاحبه وهو القمر وهما سببا جميع ما يحدث في عالم الكون والفساد وأن الكواكب الجارية والثابتة منهما بمنزلة الجند والعسكر من السلطان فإذا اراد النظر في أمر من الأمور فان كان بعد الاجتماع أو عنده فانه يأخذ الدليل عليه من الكوكب المستولى على جزء الاجتماع وجزئي الشمس والقمر في الحال وشاركه مع الشمس بالنسبة إلى الطالع وإذا كان بعد الامتلاء أو عنده فانه ينظر أي النيرين كان فوق الأرض عند الامتلاء وينظر إلى الكوكب المستولى على ذلك الجزء وجزء النير الذي كان بعد الشمس من الطالع كبعد القمر من سهم السعادة
فلذلك يجب عنده أن يؤخذ العدد أبدا من الشمس إلى القمر لتبقى تلك النسبة وهي البعد بين كل واحد من النيرين طالعه محفوظ فهذا قول آخر غير قول أولئك وللفرس مذهب آخر وهو أنهم قالوا لما كانت الشمس لها نوبة النهار والقمر له نوبة الليل وكان سهم السعادة بالنهار يؤخذ من الشمس إلى القمر وجب أن يعكس ذلك بالليل لأن نسبة النهار إلى الشمس مثل نسبة الليل إلى القمر وكل واحد من النيرين ينوب واحدا من الزمانين فيأخذون منهم السعادة بالليل من القمر إلى الشمس وبالنهار بالعكس وزعموا أن كلام بطليموس إنما يدل على هذا لأنه قال وان أخذنا من الشمس إلى القمر إلى خلاف تأليف البروج وألقيناه بالعكس كان موافقا للأول فقالوا يجب أن يعكس الأمر بالليل فهذا اختلاف المنجمين على بطليموس ينقض بعضه بعضا وليس بأيدي الطائفة برهان يرجحون به قولا على قول أن يتبعون إلا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلى الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم أن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى قال واختلفوا فرتبت طائفة منهم البروج المذكورة والمؤنثة من البرج الطالع فعدوا واحدا مذكرا وآخر مؤنثا وصيروا الابتداء بالمذكر وقسمت طائفة أخرى البروج أربعة أجزاء وجعلوا البروج المذكرة هي التي من الطالع إلى وسط السماء والتي يقابلها من الغرب إلى وتد الأرض وجعلوا الربعين الباقيين مؤنثين قلت ومن هذيانهم في هذا الذي أضحكوا به عليهم العقلاء أنهم جعلوا البروج قسمين حار المزاج وبارد المزاج وجعلوا الحار منها ذكرا والبارد أنثى وابتدؤا بالحمل وصيروه ذكرا حارا ثم الذي بعده مؤنثا باردا ثم هكذا إلى آخرها فصارت ستة ذكورا وستة أناثا وليست على الأوائل واحد ذكر وثلاثة أخر أنثى مخالف له في الطبيعة والذكورية والأنوثية مع أن قسمة الفلك إلى البروج قسمة فرضية وضعية فهل في أنواع هذيان الهاذين أعجب من هذا ولما رأى من به رمق من عقل منهم تهافت هذا الكلام وسخرية العقلاء منه رام تقريبه بغاية جهده وحذقه فقال إنما ابتدأ بالذكر دون الأنثى لأن الذكر أشرف من الأنثى لأنه فاعل والأنثى منفعلة فاعجبوا يا معشر العقلاء واسألوا الله أن لا يخسف بعقولكم كما خسف بعقول هؤلاء لهذا الهذيان افترى في البروج ناكحا ومنكوحا يكون المنكوح منها منفعلا لناكحه بالذكورية والأنوثية تابعة لهذا الفعل والانفعال فيها قال وأيضا فالذكورية بسبب الانفراد وازواج فيها فان الأفراد ذكور والأزواج إناث وهذا أعجب من الأول أن الذكر ينضم إلى الذكر فيصير المضموم إليه أنثى فتبا للمصغي إليكم والمجوز عقله صدقكم واصابتكم وأما أنتم فقد أشهد الله سبحانه عقلاء عباده وأنبأهم مقدار عقولكم وسخافتها فلله الحمد والمنة قال هذا المنتصر لهم وانما جعلوا الأفراد لذكور والأزواج للأنثى لأن الفرد
يحفظ طبيعته أعنى ينقسم دائما إلى فرد والزوج لا يحفظ طبيعته أعني ينقسم مرة إلى الأفراد ومرة إلى الأزواج كما يعرض ذلك للأنثى فانها تلد مرة مثلها ومرة ذكرا مخالفا لها ومرة ذكرين ومرة أنثيين ومرة ذكرا وأنثى وفساد هذا والعلم بفساد عقل صاحبه ونظره مغن لذي اللب عن تطلب دليل فساده قال المنتصر وانما جعلوا للبرج الأنثى بل برج الذكر فلان الطبيعة هكذا ألف الاعداد واحدا فردا وآخر زوجا هكذا بالغا ما بلغ هذه القسمة عندهم هي قسمة ذاتية للبروج ولها قسمة ثانية بالعرض وهي أنهم يبدؤن من الطالع إلى الثاني عشر فيأخذون واحدا ذكرا وهو الأول وآخر أنثى وهو ما يليه وهذه تختلف بحسب اختلاف الطالع والقسمة الأولى إنما كانت ذاتية لأن الابتداء لها برأس الحمل وهو موضع تقاطع الدائرتين اللتين هما فلك البروج ومعدل النهار وأما الليل للقسمة فانه لا يبقى على حال واحدة لأنه مأخوذ من الجزء المماس لأفق البلد وهو دائما يتغير بحركته مع الكل وحصول الأجزاء كلها واحدا بعد آخر على الأفق دوره واحدة وأما قسمة الفلك أرباعا فانهم قالوا إذا خرج خط من أفق المشرق إلى أفق المغرب وخط من وتد الأرض إلى وسط السماء انقسمت البروج أربعة أقسام كل قسم ثلاثة بروج على طبيعة واحدة ابتداء كل قسم من طرف قطر إلى طرف القطر الذي يليه وأطراف هذين القطرين تسمى أوتاد العالم والقسم الأول من وتد المشرق إلى وتد العاشر ذكر شرقي مخفف سريع ومن وتد العاشر إلى وتد الغارب مؤنث جنوبي محرق وسط ومن ذيل الغارب إلى وتد الرابع ذكر مقبل رطب غربي بطيء ومن وتد الرابع إلى وتد الطالع مؤنث دليل مبرد شمالي وسط وهذه القسمة مخالفة لتلك القسمتين لان هذه قسمة البروج بأربعة أقسام متساوية كل ثلاثة بروج منها تسعين درجة لها طبيعة تخصها مع أن الفلك شيء واحد وطبيعة واحدة وقسمته إلى الدرج والبروج قسمة وهمية بحسب الوضع فكيف اختلفت طبائعها وأحكامها وتأثيراتها واختلفت بالذكروية والأنوثية ثم أن بعض الأوائل منهم لم يقتصر على ذلك بل ابتدأ بالدرجة الأولى من الحمل فنسبها إلى الذكورية والثانية إلى الأنوثية هكذا إلى آخر الحوت ولا ريب أن الهذيان لازم لمن قال بقسمة البروج إلى ذكر وأنثى وقال الذكر طبيعة الفرد والأنثى طبيعة الزوج فان هذا بعينه لازم لهم في درجات البرج الواحد وكأن هذا القائل تصور لزومه لأولئك فالتزمه وأما بطليموس فله هذيان آخر فانه ابتدأ بأول درجة كل برج ذكر فنسب منها إلى تمام أثنى عشر درجة وبضعا إلى الذكورية ومنه إلى تمام خمس وعشرين درجة إلى الأنوثية ثم قسم باقي البرج بالنصفين فنسب النصف الأول إلى الذكر والنصف الآخر إلى الأنثى وعلى هذه القسمة ابتدأ بالبروج الأنثى فنسب الثلث ونصف السدس إلى الأنوثية ومثلها بعده إلى الذكروية وبقى
سدس قسمه بنصفين فنسب النصف الأول إلى الأنثى والآخر إلى الذكر كما عمل بالبرج الذكر حتى أتى على البروج كلها وأما دوروسوس فله هذيان آخر فانه يقسم البروج كلها كل برج ثمانية وخمسين دقيقة ومائة وخمسين ثانية ثم ينظر فان كان البرج ذكرا أعطى القسمة الأولى للذكر ثم الثانية للأنثى إلى أن يأتي على الأقسام كلها وان البرج أنثى أعطى القسمة الأولى للذكر إلى أن يأتي على الأقسام كلها ولو قدر أن جاهلا آخر تفنن في هذه الأوضاع وقلبها وتكلم عليها لكان من جنس كلامهم ولم يكن عندهم من البرهان ما يردون به قوله بل أن رأوه قد أصاب في بعض أحكامه لا في أكثرها أحسنوا به الظن وتقلد واقوله وجعلوه قدوة لهم وهذا شأن الباطل عدنا إلى كلام عيسى في رسالته قال واختلفوا في الحدود فزعم أهل مصر أنها تؤخذ من أرباب البيوت وزعم الكلدانيون أنها تؤخذ من مدبر المثليات وإذا كان اختلاف الذين يعتدون بهم في أصولهم هذا الاختلاف وليس هم ممن يطالب بالبرهان ولا يعتقد الشيء حتى يصح على البحث والقياس فيعرفون مع من الحق من رؤسائهم وفي أي قول هو من أقوالهم فيعملون به وانما طريقتهم التسليم لما وجدوه في الكتب المنقولة من لسان إلى لسان فكيف يجوز لهم أن يتفردوا باعتقاد قول من هذه الأقوال وينصرفوا عما سواه إلا على طريق الشهوة والتخمين والله المستعان ذكر بعض ما يستبشع من أقوالهم ويستدل به على مناقضتهم
من ذلك زعمهم أن الفلك جسم واحد وطبيعة واحدة وأنه شيء واحد وليس باشياء مختلفة ثم زعموا بعد ذلك أن بعضه ذكر وبعضه أنثى ولا دلالة لهم على ذلك ولا برهان ولا وجدنا جسما واحدا في الشاهد بعضه ذكر وبعضه أنثى قلت قد رام بعض المبلسين من فضلائهم تصحيح هذا الهذيان فقال ليس يستحيل أن يكون جسم واحد بعضه أنثى وبعضه ذكر كالرجل مثلا فان العين والأذن واليد والرجل منه مؤنثة والرأس والصلب والصدر والظهر منه ذكر وأيضا فان الجسم مركب من الهيولى والصورة والهيولي مذكرة والصورة مؤنثة وأيضا لما وجد المنجمون الشمس تدل على الآباء والأب ذكر والقمر يدل على الآم وهي أنثى قالوا أن الشمس ذكر والقمر أنثى قالوا وقد قال أرسطو في كتاب الحيوان طمث المرأة يقل في نقصان الشهر وكذلك قال بعض الناس أن القمر أنثى قالوا وأيضا فالشمس إذا كانت قريبا من سمت الرؤس كان الحر واليبس وهما من طبيعة الذكورية والقمر إذا كان يقرب من سمت الرؤس بالليل كان البرد والرطوبة وهما من طبيعة الأنثى فليعجب العاقل اللبيب من هذه الخرافات فأما أعضاء الإنسان الذكور والأنثى فذلك أمر راجع إلى مجرد اللفظ والحاق علامة التأنيث في تصغيره ووصفه وخبره وعود الضمير عليه بلفظ التأنيث وجمعه جمع المؤنث وليس ذلك عائد إلى طبيعة العضو ومزاجه فنظير هذا قول النحاة الشمس مؤنثة للحاق العلامة لها في تصغيرها فنقول شميسة وفي الخبر عنها نحو الشمس طالعة والقمر مذكر لعدم
لحاق العلامة له في شيء من ذلك فعلى هذا الوجه وقع التذكير والتأنيث في أعضاء الحيوان وأما قسمتكم البروج وأجزاء الفلك إلى مذكر ومؤنث فليست بهذا الاعتبار بل باعتبار الفعل والانفعال والحرارة والرطوبة فتشبيه أحد البابين بالآخر تلبيس وجهل وأما تركب الجسم من الهيولى والصورة فأكثر العقلاء نفوه وقالوا هو شيء واحد متصل متوارد عليه الاتصال والانفصال كما يتوارد عليه غيرهما من الأغراض فيقبلها ولا يلزم من قبول الاتصال والانفصال أن يكون هناك شيء آخر غير الجسمية يقبل به ذلك والذين قالوا بتركيبه منهما لم يقل أحد منهم أصلا أنه مركب من ذكر وأنثى والصورة مؤنثة في اللفظ لا في الطبيعة واضحكاه على عقولهم السخيفة وأما دلالة الشمس على الأب وهو مذكر ودلالة القمر على الأم وهي أنثى فلو سلمت لكم هذه الدلالة كيف يلزم منها تذكير مادل على الذكر وتأنيث ما يدل على الأنثى وأين الارتباط العقلي بين الدليل والمدلول في ذلك كيف ودلالة الشمس على الأب والقمر على الأم مبنى على تلك الدعاوي الباطلة التي ليس لها مستند إليه إلا خيالات وأوهام لا يرضاها العقلاء
وأما ما حكوه عن ارسطو فنقل محرف ونحن نذكر نصه في الكتاب المذكور فان لنا به نسخة مصححه قد اعتنى بها قال في المقالة الثامنة عشر بعد أن تكلم في علة الاذكار والايناث وذكر قول من قال أن سبب الاذكار حرارة الرحم وسبب الايناث برودته وأبطل هذا بأن الرحم مشتمل على الذكر والأنثى معا في الإنسان وفي كل حيوان يلد قال فقد كان ينبغي على قول هذا القائل أن يكون التوأمان إما ذكرين واما أنثيين وأبطله بوجوه أخر وهذا رأي أنبذ فليس وذكر قول ديمقراطيس أن ذلك ليس لأجل حرارة الرحم وبرودته بل بحسب الماء الذي يخرج من الذكر وطبيعته في الحرارة والبرودة وجعل قوة الاذكار والايناث تابعة لماء الذكر وذكر قول طائفة أخرى أن خروج الماء من الناحية اليمنى من البدن هي علة الاذكار وخروجه من الناحية اليسرى هي علة الايناث قال أن الناحية اليمنى من الجسد أسخن من الناحية اليسرى وأنضج وأدفأ من غيرها ورجع قول ديمقراطيس بالنسبة إلى هذه الآراء ثم قال فقد بينا العلة التي من أجلها يخلق في الرحم ذكر وأنثى والأغراض التي تعرض تشهد لما بينا أن الأحداث يلدون الإناث أكثر من الشباب والمتشيبون يلدون إناثا أيضا أكثر من الشباب لأن الحرارة التي في الأحداث ليست بتامة بعد الحرارة التي في الشيوخ ناقصة والأجسام الرطبة التي خلقتها شبيهة بخلقة بعض النساء تلد إناثا أكثر ثم قال فإذا كانت الريح شمالا كان الولد ذكرا وإذا كانت جنوبا كان المولود أنثى لأن الأجساد إذا هبت الجنوب كانت رطبة وكذلك يكون الزرع أكثر وكلما كثر الزرع يكون الطبخ غير نضج ولحال هذه العلة يكون زرع الذكرية ويكون دم طمث النساء من قبل الطباع عند خروجه أرطب أيضا قلت ومراده بالزرع الماء الذي يكون من
الرجال قال ولحال هذه العلة يكون طمث النساء من قبل الطباع في نقص الأهلة أكثر لأن تلك الأيام أبرد من سائر ايام الشهر وهي أرطب أيضا لنقص الأهلة وقلة الحرارة والشمس تصير الصيف والشتاء في كل سنة فأما القمر فيفعل ذلك في كل شهر فتأمل كلام الرجل فأنه لم يتعرض لكون القمر ذكر ولا أنثى ولا أحال على ذلك وانما أحال على الأمور الطبيعية في الكائنات الفاسدات وبين تأثير النيرين في الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة وجعل لذلك تأثيرا في الاذكار والايناث لا للنجوم والطوالع ومع أن كلامه أقرب إلى العقول من كلام المنجمين فهو باطل من وجوه كثيرة معلومة بالحس والعقل وأخبار الأنبياء فان الاذكار والايناث لا يقوم عليه دليل ولا يستند إلى أمر طبيعي وانما هو مجرد مشيئة الخالق البارئ المصور الذي يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ويزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما انه عليم قدير الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى وكذا هو قرين الأجل والرزق والسعادة والشقاوة حيث يستأذن الملك الموكل بالمولود ربه وخالقه فيقول يا رب أذكر أم أنثى سعيد أم شقي فما الرزق فما الأجل فيقضى الله ما يشاء ويكتب الملك
ولاستقصاء الكلام في هذه المسألة موضع هو أليق بها من هذا وقد أشبعنا الكلام فيها في كتاب الروح والنفس وأحوالها وشقاوتها وسعادتها ومقرها بعد الموت والمقصود الكلام على أقوال الأحكاميين من أصحاب النجوم وبيان تهافتها وأنها إلى المحالات والتخيلات أقرب منها إلى العلوم والحقائق وأما قول المنتصر لكم أن الشمس إذا كانت مسامتة الرؤوس كان الحر واليبس وهما من طبيعة الذكور وإذا كان القمر مسامة للرؤس كان البرد والرطوبة وهما من طبيعة الإناث فيقال هذا لا يدل على تأنيث القمر وتذكير الشمس بوجه من الوجوه فان البرد والرطوبة يكونان أيضا بسبب بعد الشمس من المسامتة وميلها عن الرءوس وحصولها في البروج الشمالية سواء كان القمر مسامتا أو غير مسامت فينبغي على قولكم أن يكون سبب هذا البرد أنثى وهذا لا يقوله عاقل بل الأسباب طبيعية من برد الهواء وتكاثفه وتأثير الشمس في تحليل الأبخرة التي تكون منها الحرارة بسبب بعدها عن الرؤس وليس سبب ذلك أنثى اقتضته وفعلته فقد جمعتم إلى جهلكم بالطبيعة والكذب على الخلقة القول الباطل على الله وعلى خلقه وليس العجب إلا ممن يدعى شيئا من العقل والمعرفة كيف ينقاد له عقله بالإصغاء إلى محالاتكم وهذاياناتكم ولكن كل مجهول مهيب ولما تكايس من تكايس منكم في أمر الهيولي وزعم أنها أنثى وان الصورة ذكر وان الجسم الواحد مشتمل على الذكر والأنثى أضحك عقلاء الفلاسفة عليه فان زعيمهم ومعلمهم الأول قد نص في كتاب الحيوان له على أن الهيولى في الجسم كالذكر وان قلتم فهذا يشهد لقولنا أيضا لأنها أن كانت عنده كالذكر فالصورة أنثى فصار الجسم الواحد بعضه ذكر وبعضه أنثى قلنا القائلون
بتركب الأجسام من الهيولى والصورة لم يقولوا أن أحدهما متميز عن الآخر كما زعمتم ذلك في أجزاء الفلك بل عندهم الهيولي والصورة قد اتحدا وصارا شيئا واحدا فالإشارة الحسية إلى أحدهما هي بعينها إشارة إلى الآخر وأنتم جعلتم الجزء المذكر من القلب مباينا للجزء الأنثى منه بالوضع والحقيقة والإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى آخر وللكلام مع أصحاب الهيولي مقام آخر ليس هذا موضعه فان دعوى تركب الجسم منهما دعوى فاسدة من وجوه كثيرة وليس يصح شيء منه غير الهيولي الصناعية كالخشب للسرير والطبيعية كالمني للمولود وهي المادة الصناعية والطبيعية وما سوى ذلك فخيال ومحال والله المستعان عدنا إلى كلام صاحب الرسالة قال ومن ذلك زعمهم انه أن اتفق مولود ابن ملك وان حجام في البلد والوقت والطالع والدرجة وكانت سائر دلالات السعادة موجودة في مولديهما وجب أن يكون من ابن الملك ملك جليل سائس مدبر ومن ابن الحجام حجام حاذق وهذا يخرج النجوم عن أن تكون تدل على ما يتحدد من حال الإنسان ويجعلها تدل على حذقه وصناعة أبيه وتقصيره فيها قلت ومما يوضح فساد قولهم في ذلك أن بطليموس جعل الكواكب الدالة على الصناعات ثلاثة المريخ والزهرة وعطارد وقال لأن الصناعات العملية تحتاج إلى ثلاثة أشياء ضرورية أحدها المعرفة والثاني الآلة والثالث الطاقة في الكف ليخرج المعلول المصنوع حسنا والآلة للمريخ التي يشير إليها يكون على الأكثر إما حديد واما مصاحبة للحديد ولذلك يقولون صورته صورة شاب بيمناه سيف مسلول وبيسراه رأس سنان وهو راكب أسدا وثيابه حمر تلهب وآخرون منهم يقولون على رأسه بيضة وبيسراه طبرزين وعليه خرقة حمراء وهو راكب فرسا أشهب والمعرفة لعطارد ولذلك يقولون صورته صورة شاب بيمناه حبة وبيسراه لوح يقرأه وعلى رأسه تاج وثبابه ملوثة بالتزاويق والنقوش وما شاكل ذلك للزهرة ولذلك يقولون صورتها صورة امرأة حسنة بين يديها مدق تضرب به وهي راكبة على جمل ومنهم من يقول امرأة جالسة مرخاة الشعر ذوائبها بيسراها وباليمنى مرآة تنظر فيها نظيفة الثوب وعليها طوق واسورة وخلاخل وأما الشمس والقمر فهما الدالان على الملك فالشمس صورتها صورة رجل بيده اليمنى عصا يتوكأ عليها وباليسرى جزر راكب عجلة تجرها أربعة نمور ومنهم من يقول صورتها صورة رجل جالس قابض على أربعة أعنة أفراس ووجهه كالطبق يلتهب نارا قالوا ودلائل الملك ليست بأعيانها هي دلائل الصناعات ودلائل الصناعات هي دلالات الملك بل قد يجوز أن يدل على رياسة ما إلا أن الملك أخص من الرياسة ولكل واحد من الكواكب على الإطلاق دلالة على رياسة ما في معنى من المعاني فيقال أرأيتم أن حصلت أدلة الملك في طالع مولود ليس من الملك في شيء بل أكثر المولودين لا ينالون الملك البتة
وانما يناله واحد من الناس ولا يلزم أن يكون في آبائه ملك ولا يكون ابن ملك فما بال طالع الملك المشترك بين عدة أولاد خص هذا وحده حتى أن أكثركم ينظر بنص بطليموس إلى جنس المولود وما يصلح له فيحكم على ابن الملك بالملك وعلى ابن الحجام بالحجامة فان كان طالعهما واحدا حكم بتقدم ابن الحجام في رياسة صناعته وكونه كملكهم ومعلوم أن الحس والوجود أكبر المكذبين لكم في هذه الحكام فما كثر من نال الملك وليس هو من أبناء الملوك البتة ولا كان طالعه يقتضي ذلك وحرمه من يقتضيه طالعه بزعمكم ممن أبوه ملك وكذلك الكلام في غير الملك من الطالع الذي يقتضي كون المولود حكيما عالما أو حاذقا في صناعته كم قد أخلف وحصل العلم والحكمة والتقدم في الصناعة لغير أرباب ذلك الطالع وفي ذلك أبين تكذيب لكم وابطال لقولكم والله المستعان قال صاحب الرسالة وأبعد من ذلك قولهم أن الكواكب المتحيرة أجل من الثوابت وأبين تأثيرا في العالم وان كل واحد من الكواكب الثابتة يفعل فعلا واحدا لا يزول عنه من غير أن ينحس أو يسعد وان عطارد هو من الكواكب المتحيرة ليس له طبع يعرف وأنه نحس إذا قارن النحوس وسعد إذا قارن السعود ومن ذلك قولهم أن قوة القمر الترطيب وان العلة في ذلك قرب فلكه من الأرض وقبوله البخارات الرطبة التي ترتفع إليه منها وان قوة زحل أن يبرد ويجفف تجفيفا يسيرا وان علة ذلك بعده عن حرارة الشمس وعن البخارات الرطبة التي ترتفع من الأرض وان قوة المريخ مجففة محرقة لمشاكلة لونه للون النار ولقربه من الشمس لأن الكرة التي فيها الشمس موضوعة تحته قلت فليتأمل العاقل ما في هذا الكلام من ضروب المحال وما للفلك ووصول البخارات الأرضية إليه وهل في قوة البخارات تصاعدها إلى سطح الفلك مع البعد المفرط والبخار إذا ارتفع فغاية ارتفاعه كارتفاع السحاب لا يتعداه وهل تتأثر العلويات بطبائع السفليات وتتكيف بكيفياتها وتنفعل عنها
ومما يدل على فساد ذلك أيضا أن القمر لو كان مترطبا من البخارات وجب أن تزداد رطوبته في كل يوم لأنه دائم القبول للبخارات ولا يقولون ذلك وان التزامه منهم مكابر وقال كل يوم يزداد رطوبة
قلت له فما تنكر أن تكون دلالة زحل والمريخ على النحوس تتزايد وتكون دلالته على النحوس في اليوم أكثر من دلالته في الأمس ولو فتح عليكم هذا الباب فلعل السعد ينقلب نحسا وبالعكس وهذا يرفع الأمان عن أصول هذا العلم
وأيضا فإذا جوزتم انفعال الفلكيات عن أجزاء هذا العالم السفلي لزمكم تجويز فساد هذه الكواكب من هذه الأجرام العنصرية ولزمكم تجويز أن ترتفع إلى القمر من الأدخنة ما يوجب جفافه وبلوغه في اليبس الغاية وأيضا فاذا جوزتم ذلك فلم لا تجوزون نفوذ تلك البخارات إلى ما ورا
فلك القمر حتى يترطب فلك الأفلاك فان قلتم فلك القمر عائق عن ذلك
قلنا وكرة الأثر حائلة بين عالمنا هذا وبين فلك القمر فكيف جوزتم وصول البخارات الأرضية إلى فلك القمر وفي مشابهة لون المريخ للون النار مما يقتضي تأثيره الإحراق والتجفيف وهل في الهذيان أعجب من هذا فان أرادوا النار البسيطة فإنها لا لون لها وان أرادوا النار الحادثة فهي بحسب مادتها التي توجب حمرتها وصفرتها وبياضها وأما كون الشمس تحته فهذا لا يقتضي تأثيرها فيه واعطاؤه قوة التجفيف والاحراق فإن الشمس لو أثرت فيه ذلك واعطه إياه لكانت الشمس بهذا التأثير والإعطاء للزهرة أولى لأن كرتها فوق كرة الزهرة ونسبتها إلى كرة الزهرة كنسبتها إلى كرة المريخ فهلا كانت قوة الزهرة التجفيف والإحراق بل تأثير الشمس فيما تحتها أولى من تأثيرها فيما فوقها قال صاحب الرسالة وان الكواكب الثابتة التي في الدب الأكبر قوتها كقوة المريخ وهذا غلط عظيم لأن لون هذه الكواكب غير مشبه للون النار وليست الكرة التي فيها الشمس موضوعة تحتها بل الكرة التي فيها زحل موضوعة تحتها فهي بأن يكون حالها مشبها لحال زحل أولى لأنها فوقه وبعدها عن الشمس وعن حرارات الأرض أكثر من بعده قلت والعجب من هؤلاء يعلمون قول مقدمهم بطليموس أن طبائع الأجرام السماوية واحدة ثم يحكمون على بعضها بالحرارة وعلى بعضها بالبرودة وكذلك بالرطوبة واليبوسة قال وزعموا أن عطارد معتدل في التجفيف والترطيب لأنه لا يبعد في وقت من الأوقات عن حر الشمس بعدا كثيرا ولا وضعه فوق كرة القمر وان الكواكب الثابتة التي في الجاني حالها شبيهة بحاله وليس يوجد لها من السببين اللذين دلا على طبيعة عطارد شيئا بل الدور يوجد لها ضد ذلك وهو أنها بعيدة من الشمس في أكثر الأوقات وان فلكها أبعد أفلاك الكواكب من كرة القمر وقالوا أن الكواكب التي من النعاد 1 تشبه حال عطارد وزحل في بعض الأوقات وتشبه حال المشتري والمريخ في بعضها
قلت وقد استدل فضلاؤكم على اختلاف طبائع الكواكب باختلاف ألوانها فقالوا زحل لونه الغبرة والكمودة فحكمنا بأنه على طبع السوداء وهو البرد واليبس فان السوداء لها من الألوان الغبرة وأما المريخ فانه يشبه لونه لون النار فلا جرم قلنا طبعه حار يابس وأما الشمس فهي حارة يابسة لوجهين : أحدهما أن لونها يشبه لون الحمرة الثاني أنا نعلم بالتدبير أنها مسخة للأجسام منشفة للرطوبات وأما الزهرة فانا نرى لونها كالمركب من البياض والصفرة ثم أن البياض يدل على طبيعة البلغم الذي هو البرد والرطوبة والصفرة تدل على الحرارة ولما كان بياض الزهرة أكثر من صفرتها حكمنا عليها بأن بردها ورطوبتها أكثر وأما المشتري فلما
كانت صفرته أكثر مما في الزهرة كانت سخونته أكثر من سخونته الزهرة وكان في غاية الاعتدال وأما القمر فهو أبيض وفيه كمودة فبياضه يدل على البرد وأما عطارد فانا نرى عليه اللوان مختلفة فربما رأيناه أخضر وربما رأيناه أغبر وربما رأيناه على خلاف هذين اللونين وذلك في أوقات مختلفة مع كونه من الأفق على ارتفاع واحد فلا جرم قلنا انه لكونه قابلا للألوان المختلفة يجب أن يكون له طبائع مختلفة إلا أنا لما وجدنا في الغالب عليه الغبرة الأرضية قلنا طبيعته أميل إلى الأرض واليبس وهذا التقرير باطل من وجوه عديدة
أحدها أن المشاركة في بعض الصفات لا تقتضي المشاركة في الماهية والطبيعة ولا في صفة أخرى
الوجه الثاني أن الدلالة بمجرد اللون على الطبيعة ضعيفة جدا فان النورة والنوشادر والزرنيخ والزئبق المصعد والكبريت في غاية البياض مع أن طبائعها في غاية الحرارة الثالث أن ألوان الكواكب ليست كما ذكرتم فزحل رصاصي اللون وهذا مخالف للغبرة والسواد الخالص وأما المشتري فلا بد أن بياضه أكثر من صفرته فيلزم على قولكم أن برده أكثر من حره وهم ينكرون ذلك وأما الزهرة فلا صفرة فيها البتة بل الزرقة ظاهرة في أمرها فيلزم أن تكون خالصة البرد وأما المريخ فان كان حره لشبهه بالنار في لونه فهذه المشابهة في الشمس والنار أتم فيلزم أن تكون حرارة الشمس وسخونتها أقوى من حرارة المريخ وهم لا يقولون ذلك وأما عطارد فانا وان رأيناه مختلف اللون في الأوقات المختلفة إلا أن السبب فيه أنا لا نراه إلا إذا كان قريبا من الأفق وحينئذ يكون بيننا وبينه بخارات مختلفة فلا جرم أن اختلف لونه لهذا السبب وأما القمر فقد قال زعيمكم المؤخر أبو معشر أنه لا ينسب لونه إلى البياض إلا من عدم الحس البصري فتبين بطلان قولكم في طبائع الكواكب وتناقضه واختلافه ولما علم بعض فضلائكم فساد قولكم في طبائع الكواكب وان العقل يشهد بتكذيبه صدف عنه وأنكره وقال إنما نشير بهذه القوى والطبائع إلى ما يحدث عن كل واحد من الأجرام السماوية وينفعل بها من الكائنات الفاسدات لا أنها بطبائعها تفعل ذلك بل يحدث عنها ما يكون حارا أو باردا أو رطبا أو يابسا كما يقال أن الحركة تسخن والصوم يجفف لا على أنها تفعل ذلك بطبائعها بل بما يحدث عنها فبطليموس قال أن القمر مرطب والشمس تسخن بحسب ما يحدث عنهما وتنفعل المنفعلات بتلك القوى لا بأن طبائعها مكيفات فقال نحن لم ننازعكم في تأثير الشمس والقمر في هذا العالم بالرطوبة والبرودة واليبوسة وتوابعها وتأثيرها في أبدان الحيوان والنبات ولكن هما جزء من السبب المؤثر وليسا بمؤثر تام فان تأثير الشمس مثلا إنما كان بواسطة الهواء وقبوله للسخونة والحرارة بانعكاس شعاع الشمس عليه عند مقابلتها لجرم الأرض ويختلف هذا القبول عند قرب الشمس من الأرض وبعدها
فيختلف حال الهواء وأحول الأبخرة في تكاثفها وبرودتها وتلطفها وحرارتها فتختلف التأثيرات باختلاف هذه الأسباب والسبب جزء الشمس في ذلك والأرض جزء والمقابلة الموجبة لانعكاس الأشعة جزء والمحل القابل للتأثير والانفعال جزء ونحن لا ننكر أن قوة البرد بسبب بعد الشمس عن سمت رؤسنا وقوة الحر بسبب قرب الشمس من سمت رؤسنا ولا ننكر أن الشمس إذا طلت فإن الحيوان ناطقة وبهيمة يخرج من مكامنه وأكنته وتظهر القوة والحركة فيهم ثم مادامت الشمس صاعدة في الربع الشرقي فحركات الحيوان في الازدياد والقوة والاستكمال قإذا مالت الشمس عن وسط السماء أخذت حركات الحيوان وقواهم في الضعف وتستمر هذه الحال إلى غروب الشمس ثم كلما ازداد نور الشمس عن هذا العالم بعدا ازداد الضعف والفتور في حركة الحيوان وهدأت الأجساد ورجعت الحيوانات إلى مكامنها فإذا طلعت الشمس رجعوا إلى الحالة الأولى ولا ننكر أيضا ارتباط فصول العالم الأربعة بحركات الشمس وحلولها في أبراجها ولا ننكر أن السودان لما كان مسكنهم خط الاستواء إلى محاذاة ممر رأس السرطان وكانت الشمس تمر على رؤسهم في السنة إما مرة وإما مرتين تسودت أبدانهم وجعدت شعورهم وقلت رطوبانهم فساءت أخلاقهم وضعفت عقولهم وأما الذين مساكنهم أقرب إلى محاذاة ممر السرطان فالسواد فيهم أقل وطبائعهم أعدل وأخلاقهم أحسن وأجسامهم الطف كأهل الهند واليمن وبعض أهل الغرب وعكس هؤلاء الذين مساكنهم على ممر رأس السرطان إلى محاذاة بنات نعش الكبرى فهؤلاء لأجل أن الشمس لا تسامت رؤسهم ولا تبعد عنهم أيضا بعدا كثيرا لم يعرض لهم حر شديد ولا برد شديد قالوا إنهم متوسطة وأجسامهم معتدلة وأخلاقهم فاضلة كأهل الشام والعراق وخراسان وفارس والصين ثم من كان من هؤلاء أميل إلى ناحية الجنوب كان أتم في الذكاء والفهم ومن كان منهم يميل إلى ناحية الشرق فهم أقوى نفوسا وأشد ذكورة ومن كان يميل إلى ناحية الغرب غلب عليه اللين والرزانة ومن تأمل هذا حق التأمل وسافر بفكره في أقطار العالم علم حكمة الله في نشره مذهب أهل العراق وما فيه من اللين وما شاكله كله في أهل المشرق ومذهب أهل المدنية وما فيه من الشدة والقوة في أهل المغرب وأما من كانت مساكنهم محاذية لبنات نعش وهم الصقالبة والروم فإنهم لكثرة بعدهم عن مسامتة الشمس صار البرد غالبا عليهم والرطوبة الفضلية فيهم لأنه ليس من الحرارة هناك ما ينشفها وينضجها فلذلك صارت ألوانهم بيضاء وشعورهم سبطة شقراء وأبدانهم رخصة وطبائعهم مائلة إلى البرودة وأذهانهم جامدة وكل واحد من هذين الطرفين وهما الأقليم الأول والسابع يقل فيه العمران وينقطع بعضه عن بعض لأجل غلبة اليبس ثم لاتزال العمارة تزداد في الإقليم
الثاني والسادس والخامس ويقل الخراب فيها وأما الإقليم الرابع فإنه أكثر الأقاليم عمارة وأقلها خرابا بالفصل الوسط على الأطراف بسبب اعتدال المزاج وهو الذي انتشرت فيه دعوة الإسلام وضرب الدين بجرانة فيه وظهر فيه أعظم من ظهوره في سائر الأقاليم ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي مازوى لي منها فكان انتشار دعوته صلى الله عليه و سلم في أعدل الأرض ولذلك انتشرت شرقا وغربا أكثر من انتشارها جنوبا وشمالا ولهذا زويت له فأرى مشارقها ومغاربها وبشر أمته بانتشار مملكتها في هذين الربعين فإنهما أعدل الأرض وأهلها أكمل الناس خلقا وخلقا فظهر الكمال له في الكتاب والدين والأصحاب والشريعة والبلاد والممالك صلوات الله وسلامه عليه فإن قيل فقد فضلتم الإقليم الرابع على سائر الأقاليم مع أن شيئا من الأدوية لا تتولد فيه الأدواء ضعيفا وإنما تتكون الأدوية في سائر الأقاليم قيل هذا من أدل الدلائل على فضله عليها لأن طبيعة الدواء لا تكون معتدلة إذ لو حصل فيها الاعتدال لكان غذاء لا دواء والطبيعة الخارجة عن الاعتدال لا تحدث إلا في المساكن الخارجة عن الاعتدال وكذلك حال الشمس في المواضع التي تسامتها فموضع حضيضها وغابة قربها من الأرض في البراري الجنوبية تكون تلك الأماكن محترقة نارية لا يتكون فيها حيوان البتة ولذلك والله أعلم كان أكثر البخار من الجانب الجنوبي دون الشمالي لأن الشمس إذا كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض وإذا كانت في أوجها كانت أبعد وعند قربها من الأرض يعظم تسخينها والسخونة جاذبة للرطوبات وإذا انجذبت الرطوبات إلى الجانب الجنوبي انكشف الجانب الشمالي ضرورة وصار مستقرا للحيوان الأرضي والجنوبي أعظم الجانبين رطوبة وأكثرها مياها ومقرا للحيوان المائي وأما المواضع المسامتة لأوج الشمس في الشمال فهي غير محترقة بل معتدلة لبعد الشمس من الأرض وسبب التفاوت القليل الحاصل بين أقرب قرب الشمس من الأرض وأبعد بعدها منها صار الجنوبي محترقا والجانب الشمالي معتدلا فلو كانت الشمس حاصلة في فلك الكواكب لفسد هذا العالم من شدة البرد ولو فرضنا أنها انحدرت إلى فلك القمر لأحرقت هذا العالم فاقتضت حكمة العزيز العليم الحكيم أن وضع الشمس وسط الكواكب السبعة وجعل حركتها المعتدلة وقربها المعتدل سببا لاعتدال هذا العالم وجعل قربها وبعدها وارتفاعها وانخفاضها سببا لفصوله التي هي نظام مصالحة فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين وأهل الإقليم الأول لأجل قربهم من الموضع المحازى لحضيض الشمس كانت سخونة هوائهم شديدة ولا جرم كانوا أشد سواءا من مكان خط الاستواء وأهل الإقليم الثاني سخونة هوائهم ألطف فكانوا سمر الألوان والإقليم الثالث والرابع أعدل الأقاليم مزاجا بسبب اعتدال الهواء بسبب تعديل ارتفاع الشمس لا تكون في
بعدها عن الأرض فههنا وإن حصلت مسامتة مفيدة لمزيد السخونة لكن حصل أيضا البعد المقلل للسخونة فحصل الاعتدال من بعض الوجوه وفي الجانب الجنوبي وإن حصل مزيد القرب من الأرض لكن لم يحصل هناك مسامتة للمساكن المعمورة لخط الاعتدال في الجانبين بهذه الطريق وصار أهل الإقليم الثالث والرابع أفضل الناس صورا وأخلاقا وأما الإقليم الخامس فإن سخونة الهواء هناك اقل من الاعتدال بمقدار يسير فلا جرم صار في جزء البرد وصارت طبائع أهله أقل نضجا من طبائع أهل الإقليم الرابع إلا أن بعدهم عن الاعتدال قليل وأما أهل الإقليم السادس والسابع فإن أهلها محرورون ولغلبة البرد والرطوبة عليهم يشتد بياض ألوانهم وزرقة عيونهم وأما المواضع التي تقرب من أن يكون الخط فيها فوق الرأس فهناك لا يصل تسخين الشمس إليها فلا جرم عظم البرد فيها ولم يكن هناك حيوان البتة وهذا كله يدل على أن الشمس جزء السبب وأن الهواء جزء السبب والأرض جزء وانعكاس الشعاع جزء وقبول المنفعلات جزء مجموع ذلك سبب واحد قدرة العليم القدير وأجرى عليه نظام العالم وقدر سبحانه أشياء أخر لا يعرفها هؤلاء الجهال ولا عندهم منها خبر من تدبير الملائكة وحركاتهم وطاعة استقصات العالم ومواده لهم وتصريفهم تلك المواد بحسب ما رسم لهم من التقدير الإلهي والأمر الرباني ثم قدر تعالى أشياء آخر تمانع هذه الأسباب عند التصادم وتدافعها وتقهر موجبها ومقتضاها ليظهر عليها اثر القهر والتسخير والعبودية وأنها مصرفة مدبرة بتصريف قاهر قادر كيف يشاء ليدل عباده على أنه هو وحده الفعال لما يريد لخلقه كيف يشاء وأن كل ما في المملكة الإلهية طوع قدرته وتحت مشيئته وأنه ليس شيء يستقل وحده بالفعل إلا الله وكل ما سواه لا يفعل شيئا إلا بمشارك ومعاون وله ما يعاوقه ويمانعه ويسلبه تأثيره فتارة يسلب سبحانه النار إحراقها ويجعلها بردا كما جعلها على خليله بردا وسلاما وتارة يمسك بين أجزاء الماء فلا يتلاقى كما فعل بالبحر لموسى وقومه وتارة يشق الأجرام السماوية كما شق القمر لخاتم أنبيائه ورسله وفتح السماء لمصعده وعروجه وتارة يقلب الجماد حيوانا كما قلب عصا موسى ثعبانا وتارة يغير هذا النظام ويطلع الشمس من مغربها كما أخبر به أصدق خلقه عنه فإذا أتى الوقت المعلوم فشق السموات وفطرها ونثر الكواكب على وجه الأرض ونسف جبال العالم ودكها مع الأرض وكور شمس العالم وقمره ورأى ذلك الخلائق عيانا ظهر للخلائق كلهم صدقه وصدق رسله وعموم قدرته وكمالها وأن العالم بأسره منقاد لمشيئته طوع قدرته لا يستعصي عليه انفعاله لما يشاؤه ويريده منه وعلم الذين كفروا وكذبوا رسله من الفلاسفة والمنجمين والمشركين والسفهاء الذين سموا أنفسهم الحكماء أنهم كانوا كاذبين
واجتمع جماعة من الكبراء والفضلاء يوما فقرأ قارىء إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال
سيرت حتى بلغ علمت نفس ما أحضرت وفي الجماعة أبو الوفاء ين عقيل فقال له قائل يا سيدي هب أنه أنشر الموتى للبعث والحساب وزوج النفوس بقرنائها للثواب والعقاب فما الحكمة في هدم الأبنية وتسيير الجبال ودك الأرض وفطر السماء ونثر النجوم وتخريب هذا العالم وتكوير شمسه وخسف قمره فقال ابن عقيل على البديهة إنما بني لهم هذه الدار للسكنى والتمتع وجعلها وما فيها للاعتبار والتفكر والاستدلال عليه بحسن التأمل والتذكر فلما انقضت مدة السكنى وأجلاهم عن الدار وخربها لانتقال الساكن منها فأراد أن يعلمهم بأن في أحالة الأحوال وإظهار تلك الأهوال وإبداء ذلك الصنع العظيم بيانا لكمال قدرته ونهاية حكمته وعظمة ربو بيته وعرا جلاله وعظم شأنه وتكذيبا لأهل الإلحاد وزنادقة المنجمين وعباد الكواكب والشمس والقمر والأوثان ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين فإذا رأوا أن منار آلهتهم قد انهدم وأن معبوداتهم قد انتثرت والأفلاك التي زعموا أنها وما حوته هي الأرباب المستولية على هذا العالم قد تشققت وانفطرت ظهرت حينئذ فضائحهم وتبين كذبهم وظهر أن العالم مربوب محدث مدبر له رب يصرفه كيف يشاء تكذيبا لملاحده الفلاسفة القائلين بقدمه فكم لله من حكمة في هدم هذه الدار ودلالة على عظيم قدرته وعزته وسلطانه وانفراده بالربوبية وانقياد المخلوقات بأسرها لقهره وإذعانها لمشيئته فتبارك الله رب العالمين ونحن لا ننكر ولا ندفع أن الزرع والنبات لا ينمو ولا ينشأ إلا في المواضع التي تطلع عليها الشمس ونحن نعلم أيضا أن وجود بعض النبات في بعض البلاد لا سبب له الإختلاف البلدان في الحر والبرد الذي سببه حركة الشمس وتقاربها في قربها وبعدها من ذلك البلد وأيضا فأن النخل ينبت في البلاد الحارة ولا ينبت في البلاد الباردة وشجر الموز لا ينبت في البلاد الباردة وكذلك ينبت في البلاد الجنوبية أشجار وفواكه وحشائش لا يعرف شيء منها في جانب الشمال وبالعكس وكذلك الحيوانات يختلف تكونها بحسب اختلاف حرارة البلاد وبرودتها فإن النسر والفيل يكونان بأرض الهند ولا يكونان في سائر الأقاليم التي هي دونها في الحرارة وكذلك غزال المسك والكركند وغير ذلك وكذلك لا ندفع تأثير القمر في وقت امتلائه في الرطوبات حتى في جزر البحار ومدها فإن منها ما يأخذ في الازدياد من حين يفارق القمر الشمس إلى وقت الامتلاء ثم إنه يأخذ في الانتقاص ولا يزال نقصانه يستمر بحسب نقصان القمر حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المحاق ومن البحار ما يحصل فيه المد والجزر في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وغروبه وذلك موجود في بحر فارس وبحر الهند وكذلك بحر الصين وكيفيته أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ابتدأ البحر بالمد ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك
المواضع فعند ذلك ينتهي منتهاه فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد من تحت الأرض ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاهمنتهاه ثم يبتديء الجزر ثانيا ويرجع الماء كما كان وسكان البحر كلما رأوا في البحر انتفاخا وهيجان رياح عاصفة وأمواج شديدة علموا أنه ابتدأ المد فإذا ذهب الانتفاخ وقلت الأمواج والرياح علموا أنه وقت الجزر وأما أصحاب الشطوط والسواحل فانهم يجدون عندهم في وقت المد للماء حركة من أسفله إلى أعلاه فإذا رجع الماء ونزل فذلك وقت الجزر وكذلك أيام بحرانات الأمراض بحسب زيادة القمر ونقصانه منطبقة عليها وكذلك الأخلاط التي في بدن الإنسان مادام القمر آخذا في الزيادة فإنها تكون أزيد ويكون ظاهر البدن أكثر رطوبة وحسنا فإذا نقص ضوء القمر صارت الأخلاط في غور البدن والعروق وأزداد ظاهر البدن يبسا وكذلك ألبان الحيوانات تتزايد من أول الشهر إلى نصفه فإذا أخذ القمر في النقصان نقصت غزارتها وكذلك أدمغة الحيوانات في أول الشهر أزيد منها في نصفه الأخير وإن حدث في أجواف الطيور بيض في النصف الأول من الشهر كان بياضه أكثر من بياض الحادث في نصفه الثاني وكذلك الإنسان إذا نام أو قعد في ضوء القمر حدث في بدنه الاسترخاء والكسل وهاج عليه الزكام والصداع وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة تحت ضوء القمر تغيرت طعومها وتعفنت وكذلك السمك في البحار والآجام الجارية توجد من أول الشهر إلى وقت الامتلاء أكثر وخروجها من قعور البحار والآجام أظهر ومن بعد الامتلاء إلى الاجتماع فإنها تدخل قعور البحار والآجام الذي يظهر من سمين السمك فالنصف الأول أكثر من الذي يظهر في الثاني منه وكذلك حرشة الأرض يكون خروجها من إجحرتها في النصف الأول من الشهر أكثر من خروجها في النصف الثاني وأصحاب الغراس يزعمون أن الأشجار والغروس إذا غرست والقمر زائد الضوء كان نشؤها وكمالها وإسراعها في النبات أحمد من التي تغرس في محاقة وذهاب نوره وكذلك تكون الرياحين والبقول والأعشاب من الاجتماع إلى الامتلاء أزيد نشوا وأكثر نموا وفي النصف الثاني بالضد من ذلك وكذلك القثاء والقرع والخيار والبطيخ ينمو نموا بالغا عند ازدياد الضوء وأما في وسط الشهر عند حصول الإمتلاء فهناك يعظم النمو حتى يظهر التفاوت للحس في الليلة الواحدة وكذلك الينابيع تزداد في النصف الأول من الشهر وتنقص في النصف الثاني إلى غير ذلك من الوجوه التي تؤثر فيها الشمس والقمر في هذا العالم فنحن لم ندفعكم عن هذه التأثيرات وإضعافها إنما الذي أنكره عليكم العقلاء من أهل الملل وغيرهم أن جملة الحوادث في هذا العالم خيرها وشرها وصلاحها وفسادها وجميع أشخاصه وأنواعه وصوره وقواه ومدد بقاء أشخاصه وجميع أحوالها العارضة لها وتكون الجنين ومدة لبثه في بطن أمه وخروجه إلى الدنيا
وعمره ورزقه وشقاوته وسعادته وحسنه وقبحه وأخلاقه وحذقه وبلادته وجهله وعلمه بل ونزول الأمطار واختلاف أنواع الشجر والنبات في الشكل واللون والطعوم والروائح والمقادير بل انقسام الحيوان إلى الطير وأصنافه والبحري وأنواعه والبرى وأقسامه وأشكال هذه الحيوانات واختلاف صورها وأنواعها وأفعالها وأخلاقها ومنافعها بل وتكون المعادن المنطبعة كالحديد والرصاص والنحاس والذهب والفضة بل وغير المنطبعة كالملح والقارو والزرنيخ والنفط والزئبق بل العداوة الواقعة بين الذئاب والغنم والحيات والسباع وبني آدم والصداقة والعداوة بين أفراد النوع الواحد سيما بين ذكوره وإناثه وبالجملة فالأرزاق والآجال والعز والذل والرفعة والخفض والغناء والفقر والغناء والفقر والإحياء والإماتة والمنع والإعطاء والضر النفع والهدى والضلال والتوفيق والخذلان وجميع ما في العالم والأشخاص وأفعالها وقواها وصفاتها وهيأتها والمعطى له هذه واتصالاتها وانفصالاتها واتصالاتها بنقط وانفصالاتها عن نقط ومقارنتها ومفارقتها ومساقتها ومباينتها فهي المعطية لهذا كله المدبرة الفاعلة فهي الآلهة والأرباب على الحقيقة وما تحتها عبيد خاضعون لها ناظرون إليها فهذا كما أنه الكفر الذي خرجوا به عن جميع الملل وعن جملة شرائع الأنبياء ولم يمكنهم أن يقيموا بين أرباب الملل ألا بالتستر بهم ومنافقتهم والتزي بزيهم ظاهرا وإلا فقتل هؤلاء من الأمر الضروري في كل ملة لأنهم سوسها وأعداؤها فهو من الهذيان الذي أضحكوا به العقلاء على عقولهم حتى رد عليهم من لا يؤمن بالله واليوم الآخر من الفلاسفة كالفارابي وابن سينا وغيرهما من عقلاء الفلاسفة وسخروا منهم واستضعفوا عقولهم ونسبوهم إلى الزرق والزينجة والتلبيس وقد رد عليهم أفضل المتأخرين من فلاسفة الإسلام أبو البركات البغدادي في كتاب التعبير له فقال وأما أحكام النجوم فإنه لا يتعلق به منه أكثر من قولهم بغير دليل الحر الكواكب وبردها ورطوبتها ويبوستها واعتدالها كما يقولون بأن زجل منها بارد يابس والمريخ حار يابس والمشتري معتدل والاعتدال خير والافراط شر وينتجون من ذلك أن الخير يوجب سعادة والشر يوجب منحسة وما جانس ذلك مما لم يقل به علماء الطبيعيين ولم تنتجه مقدماتهم في أنظارهم وإنما الذي أنتجته هو أن السماء والسماويات فعالة فيما تحويه وتشتمل عليه وتتحرك حوله فعلا على الاطلاق لم يحصل له من العلم الطبيعي حد ولا تقدير والقائلون به ادعوا حصوله من التوقيف والتجربة والقياس منهما كما ادعى أهل الكيمياء وإلا فمتى يقول صاحب العلم الطبيعي بحسب أنظاره التي سبقت أن المشتري سعيد والمريخ نحسن والمريخ حار يابس وزحل بارد يابس والحار والبارد من الملموسات وما دله على هذا المس كما يستدل بلمس الملموسات فإن ذلك ما ظهر للحس كما ظهر في الشمس حيث تسخن الارض بشعاعها وإن كان في السماء بيان شيء من طبائع الاضداد فالأولى أن تكون كلها حارة لأن كواكبها كلها منيرة ومتى
يقول الطبيعي بتقطع الفلك وقسمته كما قسمه المنجمون قسمة وهمية إلى بروج ودرج ودقائق وذلك جائز للمتوهم كجواز غيره غير واجب في الوجود ولا حاصل ونقلوا ذلك التوهم الجائز إلى الوجود الواجب في أحكامهم وكان الأصل فيه على زعمهم حركة الشمس في الأيام والشهور فجعلوا منها قسمة وهمية وجعلوها حيث حكموا كالحاصلة الوجودية المتميزة بحدود وخطوط كأن الشمس بحركتها من وقت إلى وقت مثله خطت في السماء خطوطا وأقامت فيها جدرانا وحدودا وغرست في أجزائها طباعا معتبرا بنفي فتبقى به القسمة إلى تلك البروج والدرج مع جواز الشمس عنها وليس في جوهر الفلك اختلاف يتميز موضع منه عن موضع سوى الكواكب والكواكب تتحرك عن أمكنتها فتبقى الأمكنة على التشابه فما يتميز درجة عن درجة ويبقى اختلافها بعد حركة المتحرك في سمتها فكيف يقيس الطبيعي على هذه الاصول وينتج منها نتائج ويحكم بحسنها أحكاما فكيف أن يقول بالحدود التي تجعل خمس درجات من برج الكوكب وستة لآخر وأربعة لآخر ويختلف فيها المصريون والبابليون ويصدق الحكم مع الاختلاف وأرباب اليبوسات كأنها أملاك بنيت بصكوك وحكام الأسد للشمس والسرطان للقمر وإذا نظر الناظر وجد الأسد اسدا من جهة كواكب شكلوها بشكل الأسد ثم انتقلت عن مواضعها التي كان بها أسدا كأن الملك بنيت للشمس مع انتقال الساكن وكذلك السرطان للقمر هذا من ظواهر الصناعة وما لا يمارى فيه ومن طالعه الأسد فالشمس كوكبه وربه بيته ومن الدقائق في الحقائق النجومية المذكرة والمؤنثة والمظلمة والنيرة والزائدة في السعادة ودرج الآثار من جهة أنها أجزاء الفلك التي قطعوها وما انقطعت مع انتقال أن الكوكب ينظر إلى الكوكب من ستين درجة نظر تسديس لانه سدس الفلك ولا ينظر إليه من خمسين ولا سبعين وقد كان قبل الستين بخمس درج وهو اقرب من ستين وبعدها بخمس درج وهو ابعد من الستين لا ينظر فليت شعري ما هو هذا النظر أترى الكوكب يظهر للكوكب ثم يحتجب عنه أو شعاعه يختلط بشعاعه عند حد لا يختلط به قبله ولا بعده وكذلك التربيع من الربع الذي هو تسعون درجة والتثليث من الثلث الذي هو مائة وعشرون فلم لا يكون التخميس من الخمس والتسبيع من السبع والتعشير من العشر والحمل حار يابس من البروج النارية والثور بارد يابس من الأرضية والجوزاء حارة رطبة من الهوائية والسرطان بارد رطب من المائية ما قال الطبيعي قط هذا ولا يقول به وإذا احتجوا وقاسوا كانت مبادىء قياساتهم أن الحمل منقلب لأن الشمس إذا نزلت فيه ينقلب الزمان من الشتاء إلى الربيع والثور ثابت لأنه إذا نزلت الشمس فيه يثبت الربيع على ربيعيته والحق أنه لا انقلاب في الحمل ولا ثبات في الثور بل هو في كل يوم غير
ما هو في الآخر ثم إن الزمان انقلب بحلول الشمس فيه وهو يبقى دهره منقلبا مع خروج الشمس منه وحلولها فيه أتراها تختلف فيه أثرا وتحيل منه طباعا وتبقي تلك الاستحالة إلى أن تعود فتجددها ولم لا يقول قائل أن السرطان حار يابس لأن الشمس إذا نزلت اشتد حر الزمان وما يجانس هذا مما لا يلزم لا هو ولا ضده ما في الفلك اختلاف معرفة الطبيعي إلا بما فيه من الكواكب ومواضعها وهو واحد متشابه الجوهر والطبع وهذه أقوال قالها قائلا فقبلها قابل ونقلها ناقل فحسن بها ظن السامع واغتر بها من لا خبرة له ولا قدرة له على النظر ثم حكم بحسبها الحاكمون بجيد وردىء وسلب وإيجاب سعد ونحوس فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق فاغتر به المغترون ولم يلتفتوا إلى ما كذب منه فيكذبون بل عذروا وقالوا هو منجم ما هو نبي حتى يصدق في كل ما يقول واعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به ولو أحاط به لصدق في كل شيء ولعمر الله أنه لو أحاط به علما صادقا لصدق والشأن أن يحيط به على الحقيقة لا على أن يفرض فرضا ويتوهم وهما فينقله إلى الوجود ويثبته في الموجود وينسب إليه ويقيس عليه والذي يصح منه ويلتفت إليه العقلاء هي أشياء غير هذه الخرفات التي لا أصل لها مما حصل بتوقيف أو تجربة حقيقية كالقرانات والانتقالات والمقابلة من جملة الاتصالات فانها المقارنة من جهة أن تلك غاية القرب وهذه غاية البعد وممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة وما يفرض للمتحيرة من رجوع واستقامة ورجوع في شمال وانخفاض في جنوب وغير ذلك وكأني أريد أن اختصر الكلام ههنا وأوفق إشارتك واعمل بحسب اختيارك رسالة في ذلك أذكر ما قيل فيها من علم إحكام النجوم من أصول حقيقية أو مجازية أو وهمية أو غلطية وفروع نتائج أنتجت عن تلك الأصول وأذكر الجائز من ذلك والممتع والقريب والبعيد فلا أرد علم الأحكام من كل وجه كما رده من جهله ولا أقبل فيه كل قول كما قبله من لم يعقله بل أوضح موضع القبول والرد في المقبول وموضع التوقف والتجويز والذي من المنجم والذي من التنجيم والذي منهما وأوضح لك أنه لو أمكن الإنسان أن يحيط بشكل كل ما في الفلك علما لأحاط علما بكل ما يحويه الفلك لأن منه مبادى الأسباب لكنه لا يمكن ويبعد عن الإمكان بعدا عظيما والبعض الممكن منه لا يهدى إلى بعض الحكم لأن البعض الآخر المجهول قد يناقض المعلوم في حكمه ويبطل ما يوجبه فنسبه المعلوم إلى المجهول من الإحكام كنسبة المعلوم إلى المجهول من الاسباب وكفى بذلك بعدا انتهى كلامه ولو ذهبنا نذكر من رد عليهم من عقلاء الفلاسفة والطبائعين والرياضيين لطال ذلك جدا هذا غير رد المتكلمين عليهم فإنا لا نقنع به ولا نرضى أكثره فإن فيه من المكابرات والمنوع الفاسدة والسؤالات الباردة والتطويل الذي ليس تحته تحصيل ما يضيع الزمان في غير شيء
وكان تركهم لهذه المقاتلة خيرا لهم منها فانهم لا للتوحيد والإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا والله المستعان وعليه التكلان
فصل فلنرجع إلى كلام صاحب الرسالة قال زعموا أن القمر والزهرة
مؤنثان وان الشمس وزحل والمشترى والمريخ مذكرة وان عطارد ذكر أنثى مشارك للجنسين جميعا وان سائر الكواكب تذكر وتؤنث بسبب الأشكال التي تكون لها بالقياس إلى الشمس وذلك أنها إذا كانت مشرقة متقدمة للشمس فهي مذكرة وان كانت مغربة تابعة كانت مؤنثة وان ذلك أيضا يكون بالقياس إلى اشكالها إلى الأفق وذلك أنها إذا كانت في الأشكال التي من المشرق إلى وسط السماء مما تحت الارض فهي مذكرة لأنها إذا كانت شرقية فهي من ناحية مهب الصبا وإذا كانت في الربعين الباقيين فهي مؤنثة لانها في ناحية مهب الدبور وإذا كان هذا هكذا صارت الكواكب التي يقال إنها مؤنثة مذكرة والتي يقال أنها مذكرة مؤنثة وصارت طباعها مستحيلة بل تصير أعيانها تنقلب وأن القمر والزهرة مؤنثتان والكواكب الخمسة الباقية مذكرة على الوضع الاول فإن تقدم القمر والزهرة الشمس وكانا شرقيين صارا مذكرين وإن تأخرت الكواكب الخمسة وكانت مغربة تابعة كانت مؤنثة على الموضوع الثاني ويصير عطارد ذكرا إذا شرق أنثى إذا غرب وذكرا أنثى إذا لم يكن بأحد هاتين الصفتينقلت وقد أجاب بعض فضلائهم عن هذا الإلزام فقال ليس ذلك بممكن لأنا قد نقول إن الأدكن أبيض إذا قسناه إلى الأسود ونقول إنه أسود إذا قسناه إلى الابيض وهو شيء واحد بعينه مرة يكون اسود ومرة يكون أبيض وهو في نفسه لا اسود ولا أبيض وكذلك الكواكب يقال أنها ذكران وإناث بالقياس إلى الأشكال أعني الجهات والجهات إلى الرياح والرياح إلى الكيفيات لأنها ذكران وإناث وهذا تلبيس منه فان الأدكن فيه شائبة البياض والسواد فلذلك صدق عليه اسمهما لأن الكيفيتين محسوستان فيه فتكيفه بهما أوجب أن يقال عليه الاسمان وأما تقسيم الكواكب إلى الذكور والإناث فهي قسمة وضعتم فيها تمييز كل نوع عن الآخر بحقيقته وطبيعته وقلتم البروج تنقسم إلى ذكور وإناث قسمة تميز فيها قسم عن قسم لا أن حقيقتها متركبة من طبيعتين ذكورية وأنوثية بحيث يصدقان على كل برج برج فنظير ما ذكرتم من الأدكن أن يكون كل برج ذكرا وأنثى فأين أحد البابين من الآخر لولا التلبيس والمحال وأيضا فانقسامها إلى الذكور والإناث انقسام بحسب الطبيعة والتأثير والتأثر الذي هو الفعل والانفعال وما كان كذلك لم تنقلب حقيقته وطبيعته بحسب الموضع والقرب والبعد قال صاحب الرسالة وزعموا أن القمر منذ الوقت الذي يهل فيه إلى وقت انتصافه الأول في الضوء يكون فاعلا للرطوبة خاصة
ومنذ وقت انتصافه الأول في الضوء إلى وقت الامتلاء يكون فاعلا للحرارة ومنذ وقت الامتلاء إلى وقت الانتصاف الثاني في الضوء يكون فاعلا لليبس ومنذ وقت الانتصاف إلى الوقت الذي يخفى فيه ويفارق الشمس يكون فاعلا للبرودة وأي شيء اقبح من هذا ولا سيما وقد أعطى قائله أن القمر رطب وأنه يفعل بطبعه لا باختياره وكيف أن يفعل شيء واحد بطبعه الأشياء المتضادة مرة في الدهر فضلا عن أن يفعلها في كل شهر وهل القول بأن شيئا واحدا يفعل بطبعه في الأشياء الترطيب في وقت ويفعل بطبعه التجفيف في آخر ويفعل الاسخان في وقت ويفعل التبريد في آخر إلا كالقول بأن شيئا واحدا تنقلب عينه
وقتا بعد وقت قلت قد قالوا إن الشمس لما كانت تفعل هذه الأفاعيل بحسب صعودها وهبوطها في فلكها فإنها إذا كانت من خمسة عشر درجة من الحوت إلى خمسة عشر من الجوزاء فعلت الترطيب وهو زمان الربيع وكذلك من خمسة عشر درجة من القوس إلى خمسة عشر من الحوت تفعل التبريد وهو زمان الشتاء وهذا دورها في الفلك مرة في العام والقمر يدور في شهر واحد صارت نسبة دور القمر في الفلك كنسبة دور الشمس فيه فكانت نسبة الشهر إلى القمر كنسبة السنة إلى الشمس فالشهر يجمع الفصول الأربعة كما تجمعه السنة وما تفعله الشمس في كل تسعين يوما وكسر يفعله القمر في سبعة أيام وكسر قالوا فآخر الشهر شبيه بالشتاء وأوله شبيه بالربيع والربع الثاني من الشهر شبيه بالصيف والربع الثالث منه شبيه بالخريف فهذا غاية ما قرروا به هذا الحكم قالوا وأما كون الشيء الواحد سببا للضدين فقد قضا أرسطا طاليس في كتاب السماع الطبيعي على جوازه والجواب عن هذا أن الشمس ليست هي السبب الفاعل لهذه الطبائع المختلفة وإنما قربها وبعدها وارتفاعها وانخفاضها أثر في سخونة الهواء وتبريده وفي تحلل البخارات وتكاثفها فيحدث بذلك في الحيوان والنبات والهواء هذه الطبائع والكيفيات والشمس جزء السبب كما قررناه وأما القمر فلا يؤثر قربه ولا بعده وامتلاؤه ونقصانه في الهواء كما تؤثره الشمس فلو كان كذلك لكان كل شهر من شهور العام يجمع الفصول الأربعة بطبائعها وتأثيراتها وأحكامها وهذا شيء يدفعه الحس فضلا عن النظر والمعقول وقياس القمر على الشمس في ذلك من أفسد القياس فان الفارق بينهما في الصفة والحركة والتأثير أكثر من الجامع فالحكم على القمر بأنه يحدث الطبائع الأربعة قياسا على الشمس والجامع بينهما قطعة للفلك في كل شهر كما تقطعه في سنة لا يعتمد عليه من له خبره بطرق الأدلة وسنعة البرهان وأما قولكم أن أرسطا طاليس نص في كتابه على ان الواحد قد يكون سببا للضدين فنحن نذكر كلامه بعينه في كتابه ونبين ما فيه وقال في المقالة الثانية وأيضا فإن الواحد قد يكون سببا للضدين فان الشيء الذي بحضوره يكون أمر من الأمور فغيبته قد تكون سببا لضده فيقال في ذلك
إن غيبة الربان سبب غرق السفينة وهو الذي كان حضوره سبب سلامتها فتأمل هذا الكلام وقابل بينه وبين كلامهم في فعل القمر الامور المتضادة يظهر لك تلبيس القوم وجهلهم فان نظر ذلك يوجب بطلان هذه الطبائع والكيفيات عند انقطاع تعلق القمر بهذا العالم كما بطل عمل السفينة وجريها عند غيبة الربان عنها انقطاع تعلقة بها فلم يكن الربان هو سبب الغرق الذي هو ضد السلامة كما كان القمر سببا لليبس الذي هو ضد الرطوبة وللحرارة التي هي ضد البرودة وإنما كانت أسباب الغرق غيبة أحد الأسباب التي كان الربان يمنع فعلها فلما غاب عنها عمل ذلك السبب عمله فغرقت وهذا أوضح من أن يحتاج إلى تقرير ولكن الأذهان التي قد اعتادت قبول المحالات قد يحتاج في علاجها إلى مالا يحتاج إليه غيرها وبالله التوفيق
قال صاحب الرسالة وقالوا في معرفة أحوال أمهات المدن أن ذلك يعلم من المواضع التي فيها الشمس والقمر في أول ابتنائها ومواضع الاوتاد فهو خاصة وتد الطالع كما يفعل في المواليد فإن لم يتوقف على الزمان الذي بنيت فيه فلينظر إلى موضع وسط السماء في مواليد الولاة والملوك الذين كانوا في ذلك الزمان الذي بنيت فيه تلك المدن قلت ونظير هذا من هذيانهم قولهم أنا نعرف أحوال الأب من مولد الابن إذا لم يعرف مولد الأب قالوا أن هذا الموضع تالي المرتبة للطالع وهو أخص المواضع بالطالع كما أن الأب أخص الأشياء بالابن فكذلك أخص الأشياء بالملك مملكته فموضع وسط سمائه يدل على مدينته وأحوالها وكل عاقل يعلم بطلان هذه الدلالة وفسادها وأته لا ارتباط بين طالع المدينة وطالع السلطان كما لا ارتباط بين طالع ولادة الابن وطالع ولادة أبيه وإنما هذه تشبيهات بعيدة ومناسبات في غاية البعد
قال صاحب الرسالة وقالوا في معرفة حال الوالدين إن الشمس وزحل يشاكلان الآباء بالطبع ولست أدرى كيف تعقل دلالة شيء ليس مما يتوالد بطبعه على شيء من طريق التوالد لأن الأب إنما يكون أبا باضافته إلى ابنه والابن إنما يكون ابنا باضافته إلى أبيه وانهم يستدلون على حال الأولاد بالقمر والزهرة والمشترى وأن أحوال الأب تعرف من مواليد ابنه بأن يقام موضع الكوكب الدال عليه وهو الشمس أو زحل مقام الطالع ويستدل على حال الابن من مولد أبيه بأن يقام موضع الكوكب الدال عليه وهو أحد الكواكب الثلاثة القمر والمشترى والزهرة مقام الطالع وقد يكون الإنسان في أكثر الأوقات أبا فيكون الشمس وزحل يدل عليه من مولد ابنه وله في نفسه مولد لامحالة ويمكن أن يكون رب طالع مولده كوكبا غير الكوكبين الدالين على حاله من مولد أبيه وابنه فيكون حاله يعرف من ثلاثة كواكب وثلاثة بروج مختلفة الأشكال والطبائع وتناقض هذا القول بين لمستعمله فضلا عن متوهمة
قلت قد قالوا في الجواب عن هذا أنه
لا تناقض فيه بل هو حق واجب قالوا إذا أردنا أن نعرف حال سقراط مثلا من حيث هو إنسان أليس ينظر إلى ما يخص الحيوان والإنسان الكلي وإذا أردنا أن نعرف حاله من حيث هو أب أن ننظر إلى المضاف وما يلحقه وإذا أردنا أن نعرف حاله من حيث هو عالم ننظر إلى الكيفية وما يخصها والأول جوهر والباقي أعراض وسقراط واحد ونعرف أحواله من مواضع مختلفة متباينة مرة يكون جوهرا ومرة عرضا فكذلك إذا أردنا أن نعرف حاله من مولده نظرنا إلى الطالع وربه وإذا أردنا أن نعرف حاله من مولد أبيه نظرنا إلى العاشر والشمس وكذلك إذا أردنا أن نعرف حاله من مولد ابنه نظرنا إلى موضع آخر وليس ذلك متناقضا كما أن الأول ليس متناقضا فيقال هذا تنبيه فاسد واعتبار باطل فأنا نظرنا في طالع الأب لنستدل به على حال الولد ونظركم في الطالع لتستدلوا به على حال الأب هو استدلال على شيء واحد وحكم عليه بسبب لا يقتضيه ولا يفارقه فأين هذا من تعرف إنسانية سقراط وأبوته وعدالته وعلمه مثلا وطبيعته فإن هذه أحوال مختلفة لها أدلة وأسباب مختلفة فنظيرها أن نعرف حال الولد من جهة سعادته ومحبته وصحته وسقمه من طالعه وحاله من جهة ما يناسبه من الأغذية والأدوية من مزاجه وحاله من جهة أفعاله ورئاسته من أخلاقه كالحياء والصبر والبذل وحاله من جهة اعتدال مزاجه من اعتدال أعضائه وتركيبه وصورته فهذه أحوال بحسب اختلاف أسبابها فأين هذا من أخذ حال الولد وعمره وسعادته وشقاوته من طالع أبيه وبالعكس فالله يعين العقلاء على تلبيسكم ومحالكم ويثبت عليهم ما وهبهم من العقول التي رغبت بها ورغبوا بها عن مثل ما أنتم عليه
قال وزعم بطليموس أن الفلك إذا كان على شكل ما ذكره في مولد ما وكانت الكواكب في مواضع ذكرها وجب أن يكون الولد أبيض اللون سبطا وإن وجد مولود في بلاد الحبشة والفلك متشكل على ذلك الشكل والكواكب في المواضع التي ذكرها لم يمض ذلك الحكم عليه ومضى على المولود إن كان من الصقالبة أو من قرب مزاجه من مزاجهم وزعم أن الفلك إذا كان على شكل ما ذكره في مولد ما وكانت الكواكب في مواضع ذكرها فإن صاحب الولد يتزوج أخته إن كان مصريا فإن لم يكن مصريا لم يتزوجها وزعم أن الفلك إذا كان على شكل آخر ذكره في مولد من المواليد وكانت الكواكب في مواضع بينهما تزوج الولد بأمه إن كان فارسيا وإن لم يكن فارسيا لم يتزوجها
وهذه مناقضة شنيعة لأنه ذكر علة ومعلولا يوجد بوجودها وترتفع بارتفاعها ثم ذكر أنها توجد من غير أن يوجد معلولها
قلت أرباب هذا الفن يقولون لا بد من معرفة الأصول التي يحكم عليها لئلا يغلط الحاكم ويذهب كلامه إن لم يعرف الأصول وهى الجنس والشريعة والأخلاق والعادات مما يحتاج المنجم إن يحصلها ثم يحكم عليها وكذلك قال بطليموس أنه يجب على المنجم النظر في صور الأبدان وخواص حالات الأنفس
واختلاف العادات والسنن
قال ويجب على من نظر في هذه الأشياء على المذهب الطبيعي إن يتشبث أبدا بالأسباب الأول الصحيحة لئلا يغلط بسبب اشتباه المواليد فيقول مثلا أن المولود في بلاد الحبش يكون أبيض اللون سبط الشعر وأن المولود في بلاد الروم أسود اللون جعد الشعر أو يغلط أيضا في السنن والعادات التي يخص بها بعض الأمم في الباه فيقول مثلا أن الرجل من أهل انطاكية يتزوج بأخته وكان الواجب أن ينسب ذلك الفارسي وفي الجملة ينبغي أن يعلم أولا حالات القضاء الكلى ثم يأخذ حالات القضاء الجزئي ليعلم منها الأمر في الزيادة والنقصان وكذلك يجب ضرورة أن يقدم في قسمة الأزمان أصناف الأسنان الزمانية وموافقتها لكل واحد من الأحداث وأن يتفقد أمرها لئلا يغلط في وقت من الأوقات في الأعراض العامة البسيطة التي ينظر فيها في المواليد فيقول أن الطفل يباشر الأعمال أو يتزوج أو يفعل شيئا من الأشياء التي يفعلها من هو أتم سنا منه وأن الشيخ الفاني يولد له أو يفعل شيئا من أفعال الأحداث وهذا ونحوه يدل على أن الأمور وغيرها إنما هي بحسب اختلاف العوائد والبلاد وخواص الأنفس واختلاف الأسنان والأغذية وقواها أيضا مما فيها تأثير قوى وكذا الهواء والتربة واللباس وغيرها كل هذه لها تأثير في الأخلاق والأعمال وأكبرها العوائد والمربا والمنشأ فإحالة هذه الأمور على الكواكب والطالع والمقارنة والمفارقة والمناظر من أبين الجهل ولهذا اضطر إمام المنجمين ومعلمهم إلى مراعات هذه الأمور وأخبر أن الحاكم بدون معرفتها والتشبث بها يكون مخطئا وحينئذ فالطالع المعتبر المؤثر إنما هو طالع العوائد والسنن والبلاد وخواص هيأت النفوس الإنسانية وقوى أغذية أبدانها وهوائها وتربتها وغير ذلك مما هو مشاهد بالعيان تأثيره في ذلك أفليس من أبين الجهل الإعراض عن هذه الأسباب والحوالة على حركات النجوم واجتماعها وافتراقها ومقابلتها في تربيع أو تثليث أو تسديس مما لوصح لكان غايته ان يكون جزء سبب من الأسباب التي تقتضي هذه الآثار ثم إن لها من المقارنات والمفارقات والصوارف والعوارض مالا يحصى المنجم القليل من عشر معشاره أفليس الحكم بمجرد معرفة جزء من أجزاء السبب بالظن والحدس والتقليد لمن حسن ظنه به حكم كاذب ولهذا كذب المنجم أضعاف أضعاف صدقه بكثير حتى صداق أن بعض الزراقين وأصحاب الكشف وأرباب الفراسة والجزائين أكثر من صدق هؤلاء بكثير وما ذاك إلا لأن المجهول من جمل الأسباب وما يعارضها ويمنع تأثيرها أكثر من المعلوم منها فكيف لا يقع الكذب والخطأ بل لا يكاد يقع الصدق والصواب إلا على سبيل التصادف ونحن لا ننكر ارتباط المسببات بأسبابها كما ارتكبه كثير من المتكلمين وكابروا العيان وجحدوا الحقائق كما أنا لا نرضى بهذيانات الأحكاميين ومحالاتهم بل نثبت
الأسباب والمسببات والعلل والمعلولات ونبين مع ذلك بطلان ما يدعونه من علم أحكام النجوم وأنها هي المدبرة لهذا العالم المسعدة المشقية المحيية المميتة المعطية للعلوم والأعمال والأرزاق والآجال وأن نظركم في هذا العالم موجب لكم من علم الغيب ما انفردتم به عن سائر الناس وليس في طوائف الناس أقل علما بالغيب منكم بل انتم أجهل الناس بالغيب على الإطلاق ومن اعتبر حال حذقائكم وعلمائكم واعتمادهم على ملاحم مركبة من إخبارات بعض الكهان ومنامات وفراسات وقصص متوارثة عن أهل الكتاب وغيرهم ومزج ذلك بتجارب حصلت مع اقترانات نجومية واتصالات كوكبية يعلم بالحساب حصولها في وقت معين فقضيتم بحصول تلك الآثار أو نظيرها عندها إلى أمثال ذلك من أسباب علم تقدمه المعرفة التي قد جرب الناس منها مثل ماجربتم فصدقت تارة وكذبت تارة فغاية الحركات النجومية والاتصالات الكوكبية أن تكون كالعلل والأسباب المشاهدة التي تأثيراتها موقوفة على انضمام أمور أخرى إليها وارتفاع موانع تمنعها تأثيرها فهي أجزاء أسباب غير مستقلة ولا موجبة هذا لو أقمتم على تأثيرها دليلا فكيف وليس معكم إلا الدعاوى وتقليد بعضكم بعضا واعتراف حذاقكم بأن الذي يجهل من بقية الأسباب المؤثرة ومن الموانع الصارفة أعظم من المعلوم منها بأضعاف مضاعفة لا يدخل تحت الوهم فكيف يستقيم لعاقل الحكم بعد هذا وهل يكون في العالم أكذب منه قال صاحب الرسالة وإذا كان الفلك متى تشكل شكلا ما دل إن كان في مولد مصري على أنه يتزوج أخته فذلك سنة كانت لهم وعادة وإن كان في مولد غيره لم يدل على ذلك ونحن نجد أهل مصر في وقتنا هذا قد زالوا عن تلك العادة وتركوا تلك السنة بدخولهم في الإسلام والنصرانية واستعمالهم أحكامهما فيجب أن تسقط هذه الدلالة من مواليدهم لزوالهم عن تلك العادة أو تكون الدلالة توجب ذلك في مولد كل أحد منهم ومن غيرهم أو تسقط الدلالة وتبطل بزوال أهل مصر عما كانوا عليه وكذلك جمهور أهل فارس وأي ذلك كان فهو دال على قبيح المناقضة وشدة المغالطة وقد رأيت وجههم بطليموس يقول في كتابه المعروف بالأربعة فيحدث كذا وكذا توهمنا أنه يكون كذا وكذا قلت الذي صرح به بطليموس إن علم أحكام النجوم بعد استقصاء معرفة ما ينبغي معرفته إنما هو على جهة الحدس لا العلم واليقين فمن ذلك قوله هذا وبالجملة فإن جميع علم حال هذا العنصر إنما يستقيم أن يلحق على جهة الظن والحدس لا على جهة اليقين وخاصة منه ما كان مركبا من أشياء كثيرة غير متشابهة قال شارح كلامه وإنما ذهب إلى ذلك لأن الأفعال التي تصدر عن الكواكب إنما هي بطريق العرض وإنها لا تفعل بذواتها شيئا والدليل على ذلك قوله في الباب الثاني من كتاب الأربعة وإذا كان الإنسان قد استقصى معرفة حركة جميع الكواكب والشمس والقمر حتى أنه لا يذهب عليه شيء من المواضع والأوقات التي تحدث لها فيها الأشكال وكانت عنده
معرفة بطبائعها قد أخذها عن الأخبار المتواترة التي تقدمته وأن لم يعلم طبائعها في نفس جواهرها لكن يعلم قواها التي تفعل بها كالعلم بقوة الشمس أنها تسخن وكالعلم بقوة القمر أنها ترطب وكذلك يعلم أمر قوى سائر الكواكب وكان قويا على معرفة أمثال سائر هذه الأشياء لا على المذهب الطبيعي فقط لكن يمكنه أيضا أن يعلم بجودة الحدس خواص الحال التي تكون من امتزاج جميع ذلك
قال الشارح وبطليموس يرى أن علم الأحكام إنما يلحق على جهة الحدس لا على جهة اليقين قلت وكذلك صرح أرسطاطا ليس في أول كتابه السماع الطبيعي أنه لا سبيل إلى اليقين بمعرفة تأثير الكواكب فقال لما كانت حال العلم واليقين في جميع السبل التي لها مباديء أو أسباب أو استقصا آت إنما يلزم من قبل المعرفة بهذه فإذا لم تعرف الكواكب على أي وجه تفعل هذه الأفاعيل أعني بذاتها أو بطريق العرض ولم تعرف ما هيتها وذواتها لم تكن معرفتنا بالشيء أنه يفعل على جهة اليقين
وهذا ثابت بن قرة وهو هو عندهم يقول في كتاب ترتيب العلم وأما علم القضاء من النجوم فقد اختلف فيه أهله اختلافا شديدا وخرج فيه قوم إلى ادعاء مالا يصح ولا يصدق بما لا اتصال له بالأمور الطبيعية حتى أدعوا في ذلك ما هو من علم الغيب ومع هذا فلم يوجد منه إلى زماننا هذا قريب من التمام كما وجد غيره هذا لفظه مع حسن ظنه به وعدله في العلوم وهذا أبو نصر الفارابي يقول واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت السعد نحسا والنحس سعدا والحار باردا والبارد حارا والذكر أنثى والأنثى ذكرا ثم حكمت لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب تارة وتخطيء تارة
وهذا أبو على بن سينا قد أتى في آخر كتابه الشفاء في رد هذا العلم وإبطاله بما هو موجود فيه وقرأت بخط رزق الله المنجم وكان من زعمائهم في كتاب المقايسات لأبي حيان التوحيدي مناظرة دارت بين جماعة من فضلائهم جمع جمعهم بعض المجالس فذكرتها مخلصة ممالا يتعلق بها بل ذكرت مقاصدها قال أبو حيان هذه مقايسة دارت في مجلس أبي سليمان محمد بن ظاهر بن بهرام السجستاني وعنده أبو زكريا الصيمري والبوشنجاني أبو الفتح وأبو محمد العروضي وأبو محمد المقدسى والقوطسي وغلام زحل وكل واحد من هؤلاء إمام في شأنه فرد في صناعته فقيل في المجلس لم خلا علم النجوم من الفائدة والثمرة وليس علم من العلوم كذلك فإن الطب ليس على هذه الحال ثم ذكرت فائدته والمنفعة به وكذلك الحساب والنحو والهندسة والصنائع ذكرت وذكرت منافعها وثمراتها ثم قال السائل وليس علم النجوم كذلك فإن صاحبه إذا استقضى وبلغ الحد الأقصى في معرفة الكواكب وتحصيل سيرها واقترانها ورجوعها ومقابلتها وتربيعها وتثليثها وتسديسها وضروب مزاجها في مواضعها من بروجها وأشكالها ومطالعها ومعاطفها ومغاربها ومشارقها ومذاهبها حتى إذا
حكم أصاب وإذا أصاب حقق وإذا حقق جزم وإذا جزم حتم فإنه لا يستطيع البتة قلب شيء عن شيء ولا صرف شيء عن شيء ولا تبعيد حال قد دنت ولا نفي خلة قد كتبت ولا رفع سعادة قد حمت وأظلت أعنى أن أمرءا ما لا يقدر على أن يجعل الإقامة سفرا ولا الهزيمة ظفرا ولا العقد حلا ولا الإبرام نقضا ولا اليأس رجاء ولا الإخفاق دركا ولا العدو صديقا ولا الولي عدوا ولا البعيد قريبا ولا القريب بعيدا فكان العالم به الحاذق المتناهي في خفياته بعد هذا التعب والنصب وبعد هذا الكد والدأب وبعد هذه الكلفة الشديدة والمعرفة الغليظة هو ملتزم للمقدار مستجد لما يأتي به الليل والنهار وعادت حاله مع علمه الكثير إلى حال الجاهل بهذا العلم الذي انقياده كانقياده واعتباره كاعتباره ولعل توكل الجاهل أحسن من توكل العالم به ورضاه في الخير المشتهي ونجاته من الشر المتقي أقوى وأصح من رجاء هذا المدل بزيجه وحسابه وتقويمه واسطر لا به ولهذا لما لقي أبو الحسين النوري ما نيا المنجم قال له أنت تخاف زحل وأنا أخاف رب زحل وأنت ترجو المشترى وأنا أعبد رب المشترى وأنت تعدو بالإشارة وأنا أعدو بالاستخارة فكم بيننا وهذا أبو شروان وكان من الملوك الأفاضل كان لا يرفع بالنجوم رأسا فقيل له في ذلك فقال صوابه يشبه الحدس وخطأه شديد على النفس فمتى أفضى هذا الفاضل النحرير والحاذق البصير إلى هذا الحد والغاية كان علمه عاريا من الثمرة خاليا من الفائدة حائلا عن النتيجة بلا عائدة ولا مرجوع وإن أمراأوله على ما قررناه وآخره على ما ذكرناه لحري أن لايشغل الزمان به ولا يوهب العمر له ولا يعار الهم والكد ولا يعاج عليه بوجه ولا سبب هذا إن كانت الأحكام صحيحة مدركه محققة ومصابة ملحقة معروفة محصلة ولم يكن المذهب على ما زعم أرباب الكلام والذين يأبون تأثير هذه الأجرام العالية في الأجسام السافلة وينفون الوسائط بينهما والوصائل ويدفعون الفواعل والقوابل ثم السؤال
فأجاب كل من هؤلاء بما سنح له فقال قائل منهم عن هذا السؤال المهول جوابان
أحدهما هو زجر عن النظر فيه لئلا يكون هذا الإنسان مع ضعف تجربته واضطراب غريزته وضعف بنيته علا على ربه شريكا له في غيبه متكبرا على عباده ظانا بأنه فيما يأتي من شأنه قائم بجده وقدرته وحوله وقوته وتشميره وتقليصه وتهجيره وتقريبه فأن هذا النمط محجز الإنسان عن الخشوع لخالقه والإذعان لربه ويبعده عن التسليم لمدبره ويحول بينه وبين طرح الكاهل بين يدي من هو أملك له وأولى به
وأما الجواب الآخر فهو بشرى عظيمة على نعمة جسيمة لمن حصل له هذا العلم وذلك سر لو اطلع عليه وغيب لو وصل إليه لكان ما يجده الإنسان فيه من الروح والراحة والخير في العاجلة والآجلة تكفيه مؤنه هذا الخطب الفادح وتغنيه عن تجشم هذا الكد الكادح فاجعل أيها المنكر لشرف هذا العلم
قبل عينك ما تخفي عليك خفيه ومكنونه تذللا لله تقدس اسمه فيما استبان لك معلومه ووضح عندك مظنونه ثم قال أعلم أن العلم به حق ولكن الإصابة بعيدة وليس كل بعيد محالا ولا كل قريب صوابا ولا كل صواب معروفا ولا كل محال موصوفا وإنما كان العلم حقا والاجتهاد فيه مبلغا والقياس فيه صوابا وبذل السعي دونه محمودا لاشتبال هذا العالم السفلي بذلك العالم العلوي واتصال هذه الأجسام القابلة بتلك الأجسام الفاعلة واستحالة هذه الصور بحركات تلك المحركات المشاكلة بالوحدة وإذا صح هذا الاتصال والتشابك وهذه الحبال والروابط صح التأثير من العلوي وقبول التأثير من السفلي بالمواضع الشعاعية وبالمناسبات الشكلية والأحوال الخفية والجلية وإذا صح التأثير من المؤثر وقبوله من القابل صح الاعتبار واستتب القياس وصدق الرصد وثبت الإلف واستحكمت العادة وانكشفت الحدود وانشالت العلل وتعاضدت الشواهد وصار الصواب غامرا والخطأ مغمورا والعلم جوهرا راسخا والظن عرضا زائلا فقيل هل تصح الأحكام أم لا فقال الأحكام لا تصح بأسرها ولا تبطل من أصلها وذلك سبب يتبين إذا أنعم النظر وبسط الإصغاء وصمد نحو الفائدة بغير متابعة الهوى وايثار التعصب ثم قال الأمور الموجودة على ضربين ضرب له الوجود الحق وضرب له الوجود ولكن ليس الوجود الحق فأما الأمور الموجودة بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود الحق وأما الأمور الموجودة لا بالحق فقد أعطت الأخرى نسبة من جهة الوجود وارتجعت منها حقيقية ذلك فالحكم بالاعتبار الفاحص عن هذه الأسرار إن أصاب فبسبب الوجود الذي هو هذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي وإن أخطأ فبآفات هذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي والإصابة في هذه الأمور السيالة المتبدلة عرض والإصابة في أمور الفلك جوهر وقد يكون هناك ما هو كالخطأ ولكن بالعرض لا بالذات كما يكون ههنا لا هو بالصواب والحق لكن بالعرض لا بالذات فلهذا صح بعض الأحكام وبطل بعضها ومما يكون شاهدا لهذا أن هذا العالم السفلي مع تبدله في كل حالة واستحالته في كل طرف ولمح متقبل لذلك العالم العلوي يتحرك شرقا إلى كماله وعشقا لجماله وطلبا للتشبه به وتحققا بكل ما أمكن من شكله فهو بحق التقبل معط هذا العالم السفلي ما يكون به مشابها للعالم العلوي وبهذا التقبل يقبل الإنسان الناقص الكامل ويقبل الكامل من البشر الملك ويقبل الملك الباري جل وعز
قال آخر إنما وجب هذا التقبل والتشبه لأن وجود هذا العالم وجود متهافت مستحيل لا صورة له ثابتة ولا شكل دائم ولا هيئة معروفة وكان من هذا الوجه فقيرا إلى ما يمده ويشده فأما مسحه فهو موجود وثابت مقابل لذلك العالم الموجود الثابت وإنما عرض ما عرض لأن أحدهما مؤثرة والآخر قابل فبحق هذه المرتبة ما وجد التواصل وقال
آخر قد يغفل مع هذا كله المنجم اعتبار حركات كثيرة من أجرام مختلفة لأنه يعجز عن نظمها وتقويمها ومزجها وتسييرها وتفصيل أحوالها وتحصيل خواصها مع بعد حركة بعضها وقرب حركة بعضها وبطئها وسرعتها وتوسطها والتفاف صورها والتباس تقاطعها وتداخل أشكالها ومن الحكمة في هذا الإغفال أن الله تقدس اسمه يتم بذلك القدر المقفل والقليل الذي لا يؤبه والكثير الذي لا يحاول البحث عنه أمرؤ لم يكن في حسبان الخلق ولا فيما أعملوا فيه القياس والتقدير والتوهم ولهذا يحكم هذا الحاذق في صناعته لهذا الملك وهذا الماهر في عمله لهذا الملك ثم يلتقيان فتكون الدائرة على أحدهما مع شدة الوقاع وصدق المصاع هذا وقد حكم له بالظفر والغلب
وقال آخر وهو البوشنجاني إنما يؤتي أحد الحاكمين لأحد السائلين لا من جهة غلط يكون في الحساب ولا من قلة مهارة في العمل ولكن يكون في طالعه إن لا يصيب في ذلك الحكم ويكون في طالع الملك إن لا يصيب منجمه في تلك الحرب فمقتضى حاله وحال صاحبه يحول بينه وبين الصواب ويكون الآخر مع صحة حسابه وحسن إدراكه قد وجب في طالع نفسه وطالع صاحبه ضد ذلك فيقع الأمر الواجب ويبطل الآخر الذي ليس بواجب وقد كان المنجمان من جهة العلم والحساب أعطيا للصناعة حقها ووفيا ما عليهما ووقفا موقفا واحدا على غير مزية بينة ولا علة قائمة
قال آخر ولو لا هذه البقية المندفنة والغاية المستترة التي استأثر الله بها لكان لا يعرض هذا الخطأ مع صحة الحساب ودقة النظر وشدة الغوص وتوفي المطلوب ومع غلبة الهوى والميل إلى المحكوم له وهذه البقية دائرة في أمور هذا الخلق فاضلهم وناقصهم و متوسطهم في دقيقها وجليلها وصعبها ومن كان له في نفسه باعث على التصفح والنظر والبحث والاعتبار وقف على ما أومأت إليه وسلم وبحكمة جليلة ضرب الله دون هذا العلم بالاسداد وطوي حقائقه عن أكثر العباد وذلك أن العلم بما سيكون ويحدث ويستقبل علم حلو عند النفس وله موقع عند العقل فلا أحد إلا وهو يتمنى إن يعلم الغيب ويطلع عليه ويدرك ما سوف يكون في غد وبجد سبيلا إليه ولو ذلل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه ولا يؤثرون شيئا آخر عليه لحلاوة هذا العلم عند الروح ولصوقه بالنفس وغرام كل أحد به وفتنة كل إنسان فيه فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب ولم يكشف دونه الغطاء حتى يرتقي كل أحد روضة ويلزم حده ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له أما عاجلا وأما آجلا فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب ونشر لهم نبذا منه وشيئا يسيرا يتعللون به ليكون هذا العلم محروصا عليه كسائر العلوم ولا يكون مانعا من غيره قال فلولا هذه البقية التي فضحت الكاملين وأعجزت القادرين لكان تعجب الخلق من غرائب الأحداث وعجائب الصروف وطرائف الأحوال عبثا وسفها
وتوكلهم على الله لهوا ولعبا
فقال آخر وهذا يتضح بمثال وليكن المثال أن ملكا في زمانك وبلادك واسع الملك عظيم الشأن بعيد الصيت سابغ الهيبة معروفا بالحكمة مشهورا بالحزم يضع الخير في مواضعه ويوقع الشر في مواقعه عنده جزاء كل سيئة وثواب كل حسنة قد رتب لبريده أصلح الأولياء له وكذلك نصب لجباية أمواله أقوم الناس بها وكذلك ولى عمارة أرضه أنهض الناس بها وشرف آخر بكتابته وآخر بوزارته وآخر بنيابته فإذا نظرت إلى ملكه وجدته مؤزرا بسداد الرأي ومحمود التدبير وأولياؤه حواليه وحاشيته بين يديه وكل يحف إلى ما هو منوط به ويستقصي طاقته ويبذل فيه والملك يأمر وينهى ويصدر ويورد ويثيب ويعاقب وقد علم صغير أوليائه وكبيرهم ووضيع رعاياه وشريفهم ونبيه الناس وخاملهم أن الأمر الذي تعلق بكذا وكذا صدر من الملك إلى كاتبه لأنه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخل في شرائطها ووثائقها والأمر الآخر صدر إلى صاحب بريده لأنه من أحكام البريد وفنونه والأمر الآخر ألقى إلى صاحب المعونة لأنه من جنس ما هو مرتب له منصوب من أجله والحديث الآخر صدر إلى القاضي لأنه من باب الدين والحكم والفصل وكل هذا مسلم إلى الملك لا يفتات عليه في شيء منه ولا يستبد بشيء دونه فالأحوال على هذا كلها جارية على أصولها وقواعدها في مجاريها لا يرد شيء منها إلى غير شكله ولا يرتقي إلى غير طبقته فلو وقف رجل له من الحزم نصيب ومن اليقظة قسط على هذا الملك الجسيم وتصفح أبوابه بابا بابا وحالا حالا وتخلل بيتا بيتا ورفع سجفا سجفا لا يمكنه أن يعلم بما يثمره له هذا النظر وميزه له هذا القياس وأوقعه عليه هذا الحدس ما سيفعله هذا الملك غدا وما يتقدم به إلى شهر وما يكاد يكون منه إلى سنة وسنتين لأنه يعاني الأحوال ويقايس بينها ويلتقط ألفاظ الملك ولحظاته وإشاراته وحركاته ويقول في بعضها رأيت الملك يفعل كذا وكذا وبفعل كذا وكذا وهذا يدل على كذا وكذا وإنما جرأه هذه الجرأة على هذا الحكم والبت أنه قد ملك لحظ الملك ولفظه وحركته وسكونه وتعريضه وتصريحه وجده وهزله وشكله وسجيته وتجعده واسترساله ووجومه ونشاطه وانقباضه وانبساطه وغضبه ورضاه ثم هجس في نفس هذا الملك هاجس وخطر بباله خاطر فقال أريد أن أعمل عملا وأوثر أثرا وأحدث حالا لا يقف عليها أوليائي ولا المطيعون لي ولا المختصون بقولي ولا المتعلقون بحبالي ولا أحد من أعدائي المتتبعين لأمري والمحصين لأنفاسي ولا أدرى كيف افتتحه ولا اقترحه لأني متى تقدمت في ذلك إلى كل من يلوذ بي ويطوف بناحيتي كان الأمر في ذلك نظير جميع أموري وهذا هو الفساد الذي يلزمني تجنبه ويجب على التيقظ فيه فيقدح له الفكر الثاقب انه ينبغي أن يتأهب للصيد ذات يوم فيتقدم بذلك ويذيعه فيأخذ أصحابه
وخاصته في أهبة ذلك واعداد الآلة فإذا تكامل ذلك له أصحر للصيد وتقلب في البيداء وصمم على ما يلوح له وأمعن وراءه وركض خلفه جواده ونهى من معه أن يتبعه حتى إذا وغل في تلك الفجاج الخاوية والمدارج المتنائية وتباعد عن متن الجادة ووضح المحجة صادف أنسانا فوقف وحاوره وفاوضه فوجده حصينا محصلا يتقدفهما فقال له أفيك خير فقال نعم وهل الخير إلافي وعندي وإلا معي الق إلى ما بدا لك وخلني وذلك فقال له إن الواقف عليك المكلم لك ملك هذا الإقليم فلا ترع وأهدأ فقال السعادة فيضتني لك والجد أطلعك على فيقول له الملك أني أريد أن أطلعك لأرب في نفسي وأبلغ بك إن بلغت لي ذلك أريد أن تكون عينا لي وصاحبا لي نصوحا وأطوي سري عن سلخ فؤادك فضلا عن غيره فإذا بلغ منه التوثقة والتوكيد ألقي إليه ما يأمره به ويحثه على السعي فيه وأزاح علته في جميع ما يتعلق المراد به ثم ثني عنان دابته إلى وجه عسكره وأوليائه والحق بهم فقضى وطره ثم عاد إلى سريره وليس عند أحد من رهطه وبطانته وغاشيته وخاصته وعامته علم بما قد أسره إلى ذلك الإنسان فبينما الناس على مكانهم وغفلاتهم إذ أصبحوا ذات يوم في حادث عظيم وخطب جسيم وشأن هائل فكل يقول ذلك عند ذلك ما أعجب هذا من فعل هذا متى تهيأ هذا هذا صاحب البريد ليس عنده منه أثر هذا صاحب المعونة وهو عن الخبر بمعزل وهذا الوزير الأكبر وهو متحير وهذا القاضي وهو متفكر وهذا حاجبه وهو ذاهل وكلهم عن الأمر الذي دهم غافل وقد قضى الملك مأربته وأدرك حاجته وطلب بغيته ونال غرضه فلذلك ينظر المنجم إلى زحل والمشتري والمريخ والشمس والقمر وعطارد والزهرة وإلى البروج وطبائعها والرأس والذنب وتقاطهما والهيلاج والكامداه وإلى جميع ماداني هذا وقاربه وكان له فيه نتيجة وثمرة فيحسب ويمزج ويرسم فينقلب عليه أشياء كثيرة من سائر الكواكب التي لها حركات بطيئة وآثار مطوية فينبعث فيما أهمله وأغفله وأضرب عنه لم يتسع له ما يملك عليه حسه وعقله وفكره ورويته حتى لا يدري من أين أتى ومن أين دهى وكيف انفرج عليه الأمر وأنسد دونه المطلب وفات المطلوب وعزب عنه الرأي هذا ولا خطأ له في الحساب ولا نقص في قصد الحق وهذا كي يلاذ بالله وحده في الأمور كلها ويعلم أنه مالك الدهور ومدبر الخلائق وصاحب الدواعي والعلائق والقائم على كل نفس والحاضر عند كل نفس وأنه إذا شاء نفع وإذا شاء ضر وإذا شاء عافا وإذا شاء أسقم وإذا شاء أغنى وإذا شاء أفقر وإذا شاء أحيا وإذا شاء أمات وأنه كاشف الكربات مغيث ذوي اللهفات قاضي الحاجات مجيب الدعوات ليس فوق يده يد وهو الأحد الصمد على الأبد والسرمد وقال آخر هذه الأمور وإن كانت منوطة بهذه العلويات
مربوطة بالفلكيات عنها تحدث ومن جهتها تنبعث فإن في عرضها مالا يستحق أن ينسب إلى شيء منها إلا على وجه التقريب ومثال ذلك ملك له سلطان واسع ونعمة جمة فهو يفرد كل أحد بما هو لائق به وبما هو ناهض فيه فيولي بيت المال مثلا خازنا أمينا كافيا شهما يفرق على يده ويخرج على يده ثم أن هذا الملك قد يضع في هذه الخزانة شيئا لا علم للخازن به وقد يخرج منها شيئا لا يقف الخازن عليه ويكون هذا منه دليلا على ملكه واستبداده وتصرفه وقدرته
وقال آخر لما كان صاحب علم النجوم يريد أن يقف على أحداث الزمان ومستقبل الوقت من خير وشر وخصب وجدب وسعادة ونحس وولاية وعزل ومقام وسفر وغم وفرح وفقر ويسار ومحبة وبغض وجدة وعدم ووجدان وعافية وسقم وإلفة وشتات وكساد ونفاق وإصابة وإخفاق وحياة وممات وهو إنسان ناقص في الأصل لأن نقصانه بالطبع وكماله بالعرض ومع هذه الحال المحوطة بالنسخ المعروفة بالظن قد بارى بارئه ونازع ربه وتتبع غيبه وتحلل حكمه وعارض مالكه فحرمه الله فائدة هذا العلم وصرفه عن الانتفاع به والاستثمار من شجرته وإضافة إلى من لا يحيط بشيء منه ولا يخل بشيء فيه ونظمه في باب القسر والقهر وجعل غاية سعيه فيه الخيبة ونهاية علمه به الحيرة وسلط عليه في صناعته الظن والحدس والحيلة والزرق والكذب والختل ولو شئت لذكرت لك من ذلك صدرا وهو مثبوت في الكتب ومنثور في المجالس ومتداول بين الناس فلذلك وأشباهه حط رتبته ورده على عقيبه ليعلم أنه لا يعلم إلا ما علم وأنه ليس له أن يتخطى بما علم على ما جهل فإن الله سبحانه لا شريك له في غيبه ولا وزير له في ربو بيته وأنه يؤنس بالعلم ليطاع ويعبد ويوحش بالجهل ليفزع إليه ويقصد عز ربنا وجل إلها وتقدس مشارا إليه وتعالى معتمدا عليه
وقال آخر وهو العروضي قد يقوى هذا العلم في بعض الدهر حتى يشغف به ويدان بتعلمه بقوة سماوية وشكل فلكي فيكثر الاستنباط والبحث وتشتد العناية والفكر فتغلب الإصابة حتى يزول الخطأ وقد يضعف هذا العلم في بعض الدهر فيكثر الخطأ فيه بشكل آخر يقتضي ذلك حتى يسقط النظر فيه ويحرم البحث عنه ويكون الدين حاضر الطلب والحكم به وقد يعتدل الأمر في دهر آخر حتى يكون الخطأ في قدر ذلك الصواب والصواب في قدر الخطأ وتكون الدواعي والصوارف متكافئة ويكون الدين لا يحث عليه كل الحث ولا يحظر على طالبه كل الحظر قال وهذا إذا صح تعلق الأمر كله بما يتصل بهذا العالم السفلي من ذلك العالم العلوي فإذا الصواب والخطأ محمولان على القوى المثبتة والأنوار الشائعة والآثار الذائعة والعلل الموجبة والأسباب المتوافية وقال آخر وهو البوشنجاني أيها القوم اختصروا الكلام وقربوا البقية فإن الإطالة مصدة عن الفائدة مضلة للفهم والفطنة هل تصح الأحكام فقال غلام زحل ليس عن هذا جواب
يثبت على كل وجه فصل ولم يبن ذلك قال لأن صحتها وبطلانها يتعلقان بآثار الفلك وقد يقتصى شكل الفلك في زمان أن لا يصح منها شيء وأن غيص على دقائقها وبلغ إلى أعماقها وقد يزول ذلك الشكل في وقت آخر إلى أن يكثر الصواب فيها والخطأ ويتقاربان ومتى وقف الأمر على هذا الحد لم يثبت على قضاء ولم يوثق بجواب
وقال آخر أن الله تعالى وتقدس اخترع هذا العالم وزينه ورتبه وحسنه ووشحه ونظمه وهذبه وقومه وأظهر عليه البهجة وأبطن في أثنائه الحكمة وحقه بم اضطر العقول إلى تصفحه ومعرفته وحشاه بكل ما حاش النفوس إلى علمه وتعليمه والتعجب من أعاجيبه وأمتع الأرواح بمحاسنه وأودعه أمورا واستحزنه أسرارا ثم حرك الألباب عليها حتى استثارتها ولقطتها وأحبتها وعشقتها ودارت عليها لأنها عرفت بها ربها وخالقها وإلهها وواضعها وصانعها وحافظها وكافلها ثم أنه تعالى مزج بعض ما فيه ببعض وركب بعضه على بعض ونسج بعضه في بعض وأمد بعضه من بعض وأحال بعضه إلى بعض بوسائط من أشخاص وأجناس وطبائع وأنفس وعلوم وعقول وتصرف في ملكه بقدرته وجوده وحكمته لا معيب الفضل ولا معدوم الاختيار ولا مردود الحكمة ولا مجحود الذات ولا محدود الصفات سبحانه وهو مع هذا كله لم يستفد شيئا ولم ينتفع بشيء بل استفاد منه كل شيء وانتفع به كل شيء وبلغ غايته كل شيء بحسب مادته المنقادة وصورته المعتادة ولم يثبت بشيء وثبت به كل شيء فهو الفاعل القادر الجواد الواهب والمنيل المفضل والأول السابق فلما كان الباحث عن العالم العلوي يتصفح سكانه ومعرفة آثاره ومواقعه وأسراره متعرضا لأن يكون مثبتا بها لبارئه مناسبا لربه بهذا الوجه المعروف استحال أن يستفيد بعلمه كما استحال أن يستفيد خالقه بفعله لمن بقصد لصوبه وحكمه لزمه كليته بدت منه وصفته عادت عليه وهذه حال إذا فطن لها وأشرف ببصيرة ثاقبة عليها وتحقق بحقيقتها وترقي للخبرة بسني ما فيها علم اضطرارا عقليا أنها أجل وأعلى وأنفس وأسمى وأدوم وأبقي من جميع فوائد سابق العلوم التي حازها أولئك العاملون لأن علم أولئك فوائد علومهم فيما حفظ عليهم حد الإنسان وخلقه وعادته وخلقه وشهوته وراحته في اجتلاب نفع ودفع ضرر ونقصت رتبتهم عن ومشابهته والتشبه بخاصته والتحلي بحليته ولذلك جبر الله نقصهم في علمهم بفوائد نالوها ومنافع خبروها فأما من أراد معرفة هذه الخفايا والأسرار من هذه الأجرام والأنوار على ما هيأت له ونظمت عليه فهو حري جدير أن يعري من جميع ما وجده صاحب كل علم في علمه من المرافق والمنافع ويفرد بالحكم من رتبها على ما هي عليه غير مستفيد بذلك فائدة ولا جدوى وهذه لطيفة شريفة متى وقف عليها حق الوقوف وتقبلت حتى التقبل كان المدرك لها أجل من كل فائت وإن عز
لأنها بشرية صارت إلهيه وجسمية استحالت روحانية وطينية انقلبت نوريه ومركب عاد بسيطا وجزء استحال كلا وهذا أمر قلما يهتدي إليه ويتنبه عليه
وقال آخر وهو أبو سليمان المنطقي وقد سأله أبو حيان تلميذه عن هذه الأجوبة وما فيها من حق وباطل أن ههنا أنفسا خبيثة وعقولا رديه ومعارف خسيسة لا يجوز لأربابها أن ينشقوا ريح الحكمة أو يتطاولوا إلى غرائب الفلسفة والنهى ورد من أجلهم وهو حق فأما النفوس التي قوتها الحكمة وبلغتها العلم وعدتها الفضائل وعقدتها الحقائق وذخرها الخيرات وعادتها المكارم وهمتها المعالي فأن النهى لم يوجه إليها والعتب لم يوقع عليها وكيف يكون ذلك وقد بان بما تكرر من القول أن فائدة هذا العلم أجل فائدة وثمرته أجل ثمرة ونتيجته أشرف نتيجة فليكن هذا كله كافا عن سوء الظن وكافيا لك فيما وقع فيه القول وطال بين هؤلاء السادة الجحاجحة في العلم والفهم والبيان والنصح انتهت الحكاية فليتأمل من أنعم الله عليه بالعقل والعلم والإيمان وصانه عن تقليد هؤلاء وأمثالهم من أهل الحيرة والضلال ما في هذه المحاورة وما انطوت عليه من اعترافهم بغاية علمهم ومستقر أقدامهم فيه وما حكموا به على أنفسهم من مقتضي حكمة الله فيهم أن يسلبهم ثمرات علوم الناس وفوائدها وأن يكسوهم لباس الخيبة وقهر الناس لهم وإذلالهم إياهم وإن يجعل نصيب كل أحد من العلم والسعادة فوق نصيبهم وأن يجعل رزقهم من أبواب الكذب والظن والزرق وهو أخبث مكاسب العالم ومكسب البغايا وأرباب المواخير خير من مكاسب هؤلاء لأنهم كسبوها بذنوب وشهوات وهؤلاء اكتسبوا ما اكتسبوه بالكذب على الله وادعاء ما يعلمون هم فيه كذب أنفسهم
والعجب من شهادتهم على أنفسهم أن حكمة الله سبحانه اقتضت ذلك فيهم لتعاطيهم مشاركته في غيبه والاطلاع على أسرار مملكته وتعديهم طور العبودية التي هي سمتهم إلى طور الربوبية الذي لم يجعل لأحد سبيلا إليه فاقتضت حكمة العزيز الحكيم إن عاملهم بنقيض قصودهم وعكس مراداتهم وجعل كل واحد فوقهم في كل ملة ورمي الناس باللسان العام والخاص لهم بأنهم أكذب الناس فأنهم هم الزنادقة الدهرية أعداء الرسل وسوس المال وإن طالعهم على من حسن الظن بهم وتقيد بأحكامهم في حركاته وسكناته وتدبيره شر طالع والملك والولاية المسوس بهم أذل ملك وأقله ومن له شيء من تجارب الأمم وأخبار الدول والوزراء وغيرهم فعنده من العلم بهذا ما ليس عند غيره ولهذا الملوك والخلفاء والوزراء الذين لهم قبول في العالم وصيت ولسان صدق هم أعداء هؤلاء الزنادقة كالمنصور والرشيد والمهدى وكخلفاء بني أمية وكالملوك المؤيدين في الإسلام قديما وحديثا كانوا أشد الناس إبعاد لهؤلاء عن أبوابهم ولم تقم لهم سوق في عهدهم إلا عند أشباههم ونظرائهم من كل منافق متستر بالإسلام أو جاهل مفرط
في الجهل أو ناقص العقل والدين وهؤلاء المذكورون في هذه المحاورة لما صحوا وخلا بعضهم ببعض ولم يمكنهم أن يعتمدوا من التلبيس والكذب والزرق مع بعضهم بعضا ما يعتمدونه مع غيرهم تكلموا بما عندهم في ذلك من الإعتراف بالجهل وأن الأمر إنما هو حدس وظن وزرق وأن أحوال العالم العلوي أجل وأعظم من أن تدخل تحت معارفهم وتكال بقفزان عقولهم وأن جهلهم بذلك يوجب ولابد جهلهم الأحكام وأنهم لا توثق لهم بشيء مما فيه لجواز تشكل الفلك بشكل يقتضى بطلان جميع الاحكام وتشكله بشكل يكون بطلانها وصحتها بالنسبة إليه على السواء وليس لهم علم بانتفاء هذا الشكل ولا بوقت حصوله فإنه ليس جاريا على قانون مضبوط ولا على حساب معروف ومع هذا فكيف ينبغي لعاقل الوثوق بشيء من علم أحكامهم وهذه شهادة فضلائهم وأئمتهم ولو أن خصومهم الذين لا يشاركونهم في صناعتهم قالوا هذا القول لم يكن مقبولا كقبوله منهم والحمد لله الذي أشهد أهل العلم والإيمان جهل هؤلاء وحيرتهم وضلالهم وكذبهم وافترئهم بشهادتهم على نفوسهم وعلى صناعتهم وأن استفاد كل ذي علم بعمله وكل ذي صناعة بصناعته أعظم من استفادتهم بعلمهم وأن أحدا منهم لا يمكنه أن يعيش إلا في كنف من لم يحط من هذا العلم بشيء وتحت ظل من هو أجهل الناس ومن العجب قولهم أن طالع أحد الملكين المتغالبين قد يكون مقتضيا أن لا يصيب منجمه في تلك الحرب وطالع المنجم يقتضي خطأه في ذلك الحكم وطالع خصمه ومنجمه بالضد فليعجب ذو اللب من هذا الهذيان وتهافته فإذا كان الطالع مقتضيا أن لا يصيب المنجم في تلك الحرب وقد أعطى الحساب والحكم حقه عند أرباب الفن بحيث يشهد كل واحد منهم أن الحكم ما حكم به أفليس هذا من أبين الدلائل على بطلان الوثوق بالطالع وأن الحكم به حكم بغير علم وحكم بما يجوز كذبه فما في الوجود أعجب من هذا الطالع الصادق الكاذب المصيب المخطيء وأعجب من هذا أن الطالع بعينه يكون قد حكم به لظفر عدو هذا عليه منجمه فوافق القضاء والقدر ذلك الطالع وذلك الحكم فيكون أحد المنجمين قد أصاب لملكه طالعا وحكما والآخر قد أخطأ لملكه وقد خرجا بطالع واحد وأعجب من هذا كله تشكل الفلك بشكل وحصول طالع سعد فيه باتفاق ملأكم فيحدث معه من علو كلمة من لا يعبؤن به ولا يعدونه وظهور أمرهم واستيلائهم على المملكة والرئاسة والعز والحياة ولهجهم بذمكم وعيبكم وإبداء جهلكم وزندقتكم وإلحادكم محتاجون أن تنضوواإليهم وتعتصموا بحبلهم وتترسوا بهم وتقولون لهم بألسنتكم ما تنطوي قلوبكم على خلاقه مما لو أظهر تموه لكنتم حصائد سيوفهم كما صرتم حصائد ألسنتهم فأي سعد في هذا الطالع لعمري أم أي خير فيه وليت شعري كيف لم يوجب لكم هذا الطالع بارقة من سعادة أو لائحا من عز وقبول ولكن هذه حكمة رب
الطالع ومدبر الفلك وما حواه ومسخر الكواكب ومجريها على ما يشاء سبحانه أن جعلكم كالذمة بل أذل منهم تحت قهر عبيده وجعل سهام سعادتهم من كل خير وعلم ورئاسة وجاه أوفر من سهامكم وبيوت شرفهم في هذا العالم اعمر من بيوتكم بل خرب بيوتكم بأيديهم فلا ينعمر منها بيت ألا بالانضمام إليهم والانتماء إلى شريعتهم وملتهم وهذا شأن العزيز الحكيم في الكذابين عليه قال تعالى أن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذله في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذه الأمة يوم القيامة وهذه المحاورة التي جرت بين أصحاب هذا المجمع هي غاية ما يمكن النجومي أن يقوله ولا يصل إلى ذلك المبرزون منهم ومع هذا فقد رأيت حاصلها ومضمونها ولعلهم لو علموا أن هذه الكلمات تعتد من جماعتهم وتتصل بأهل الإيمان لم ينطقوا منها ببنت شفة ويأبى الله إلا أن يفضح المفترى الكذاب وينطقه بما يبين باطلة 0
فصل قال صاحب الرسالة ذكر جمل من احتجاجهم والاحتجاج عليهم من إوكد
ما يستدلون به على أن الكواكب تفعل في هذا العالم أولها دلالة على ما يحدث فيه انهم امتحنوا عدة مواليد صححوا طوالعها وجماعة مسائل راعوها فوجدوا القضية في جميع ذلك صادقة فدلهم ذلك على أن الأصول التي عملوا عليها صحيحة فيقال لهم إذا كان ما تدعونه من هذا دليلا على صحة الأحكام فما الفضل بينكم وبين من قال الدليل على بطلان الأحكام أن امتحنا مواليد صححنا طوالعها ومسائل تفقدنا أحوالها فوجدنا جميعها باطلا ولم يصح الحكم في شيء منهافإن قالوا إنما يكون هذا لجواز الغلط على المنجم الذي عملها قيل لكم فما تنكرون من أن يكون صدق المنجم في حكمه باتفاق وتخمين كإخراج الزوج والفرد وصدق الحزر في الوزن والكيل والذرع والعدد وإذا كانت الدلالة على صحة مقالتكم صدقكم في بعض أحكامكم فالدلالة على بطلانها كذبكم في بعضها
فإن قالوا ليس ما قلناه بتخمين لانا إنما نحكمه على أصول موضوعة في كتب القدماء قيل لهم لسنا نشك في أنكم تتبعون ما في الكتب وتقلدون من تقدمكم وما يقع من الصدق فإنما يقع بحسب الأنفاق والذي حصلتم عليه هو الحدس والتخمين بحسب ما في الكتب
ومما يستدل به من ينتسب إلى الإسلام منهم على تصحيح دلالة النجوم قوله تعالى فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ولا حجة في هذا البتة لأن إبراهيم عليه الصلاة و السلام إنما قال هذا ليدفع به قومه عن نفسه ألا ترى أنه عز و جل قال بعد فتولوا عنه مدبرين فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون فبين تبارك وتعالى أنه إنما قال ذلك ليدفعهم به لما كان عزم عليه من أمر
الأصنام وليس يحتاج أحد إلى معرفة أصحيح هو أم سقيم من النجوم لأن ذلك يوجد حسا ويعلم ضرورة ولا يحتاج فيه إلى استدلال وبحث قلت قد احتج لهم بغير هذه الحجج فنذكرها ونبين بطلان استدلالهم بها وبيان الباطل منها قال أبو عبد الله الرازى اعلم أن المثبتين لهذا العلم احتجوا من كتاب الله بآيات
إحداها الآيات الدالة على تعظيم هذه الكواكب فمنها قوله تعالى فلا أقسم بالخنس والجواري الكنس وأكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تسير راجعة تارة ومستقيمة أخرى ومنها قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم وقد صرح تعالى بتعظيم هذا القسم وذلك يدل على غاية جلالة مواقع النجوم ونهاية شرفها ومنها قوله تعالى والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب قال ابن عباس الثاقب هو زحل لأنه يثقب بنوره سمك السموات السبع ومنها أنه تعالى بين ألهيته بكون هذه الكواكب تحت تدبيره وتسخيره فقال والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين النوع الثاني الآيات الدلة على أن لها تأثيرا في هذا العالم كقوله تعالى فالمدبرات أمرا وقوله فالمقسمات أمرا قال بعضهم المراد هذه الكواكب
النوع الثالث الآيات الدالة على أنه تعالى وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فقال هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق وقال تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا
النوع الرابع أنه تعالى حكى عن إبراهيم عليه السلام انه تمسك بعلوم النجوم فقال فنظرة نظرة في النجوم فقال إني سقيم النوع الخامس أنه قال لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون ولا يكون المراد من هذا كبر الجثة لأن كل أحد يعلم ذلك فوجب أن يكون المراد كبر القدر والشرف وقال تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ولا يجوز أن يكون المراد أنه تعالى خلقها ليستدل بتركيبها وتأليفها على وجود الصانع لأن هذا القدر حاصل في تركيب البقة والبعوضة وفي حصول الحياة في بنية الحيوانات على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الأجرام الفلكية على وجود الصانع لأن الحياة لا يقدر عليها أحد ألا الله أما تركيب الأجسام وتأليفها فقد يقدر على جنسه غير الله فلما كان هذا النوع من الحكمة حاصلا في غير الأفلاك ثم أنه تعالى خصها بهذا التشريف وهو قوله ربنا ما خلقت هذا باطلا علمنا أن له تعالى في تخليقها أسرارا عالية وحكما بالغة تتقاصر عقول البشر عن إدراكها ويقرب من هذه الآية قوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ولا يمكن أن يكون المراد أنه تعالى خلقها على وجه يمكن
الاستدلال بها على وجود الصانع الحكيم لأن كونها دالة على الافتقار إلى الصانع أمر ثابت لها لذاتها لأن كل متحيز فهو محدث وكل محدث فإنه مفتقر إلى الفاعل فثبت أن دلالة المتحيزات على وجود الفاعل أمر ثابت لها لذواتها وأعيانها وما كان كذلك لم يكن سبب الفعل والجعل فلم يمكن حمل قوله وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا على هذا الوجه فوجب حمله على الوجه الذي ذكرناه
النوع السادس روى أن عمر بن الخيام كان يقرأ كتاب المجسطي على استاذه فدخل عليهم واحد من أجلاف المتفقهة فقال لهم ماذا تقرؤن فقال عمر بن الخيام نحن في تفسير آية من كتاب الله افلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج فنحن ننظر كيف خلق السماء وكيف بناها وكيف صانها عن الفروج : النوع السابع أن إبراهيم عليه السلام لما استدل على إثبات الصانع تعالى بقوله ربى الذي يحي ويميت قال له نمرود أتدعى أنه يحي ويميت بواسطة الطبائع والعناصر أو لا بواسطة هذه الأشياء فان ادعيت الأول فلذلك مما لا تجده البتة لأن كل ما يحدث في هذا العالم فإنما يحدث بواسطة أحوال العناصر الأربعة والحركات الفلكية وإذا ادعيت الثاني فمثل هذا الإحياء والإماتة حاصل منى ومن كل أحد فإن الرجل قد يكون سببا لحدوث الولد لكن بواسطة تمزيج الطبائع وتحريك الأجرام الفلكية ولذلك قد نمت بهذه الوسائط وهذا هو المراد من قوله تعالى حكاية عن الخصم أنا أحي وأميت ثم أن إبراهيم عليه الصلاة و السلام أجاب عن هذا السؤال بقوله فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب يعني هب أنه سبحانه إنما يحدث حوادث هذا العالم بواسطة الحركات الفلكية لكنه تعالى هو المبديء للحركات الفلكية لأن تلك الحركات لا بد لها من سبب ولا سبب لها سوى قدرة الله تعالى فثبت أن حوادث هذا العالم وأن سلمنا إنها إنما حصلت بواسطة الحركات الفلكية لكنه لما كان المدبر لتلك الحركات بواسطة الطبائع وحركات الأفلاك إلا أن حركات الأفلاك ليست منا بدليل أنا لا نقدر على تحريكها على خلاف التحريك الإلهي وظهر الفرق وهذا هو المراد من قول إبراهيم عليه الصلاة و السلام فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب يعنى هب أن هذه الحوادث في هذا العالم حصلت بحركة الشمس من المشرق إلا أن هذه الحركات من الله لأن كل جسم متحرك فلا بد له من محرك وذلك المحرك لست أنت ولا أنا فلم لا نحركها من المغرب فثبت أن اعتماد إبراهيم الخليل عليه السلام في معرفة ثبوت الصانع على الدلائل الفلكية وأنه ما نازع الخصم في كون هذه الحوادث السفلية مرتبطة بالحركات الفلكية واعلم انك إذا عرفت نهج الكلام في هذا الباب علمت أن القرآن مملوء من تعظيم الأجرام الفلكية وتشريف الكرات الكوكبية :
وأما الأخبار فكثيرة منها ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال الشمس والقمر واستدرهما ومنها أنه لما مات ولده إبراهيم انكسفت الشمس ثم إن الناس قالوا إنما انكسفت لموت إبراهيم فقال إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة ومنها ما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه و سلم قال إذا ذكر القدر فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فامسكوا وإذا ذكر النجوم فامسكوا ومن الناس من يروى إنه صلى الله عليه و سلم قال لا تسافروا والقمر في العقرب ومنهم من يروى ذلك عن على رضى الله عنه وأن كان المحدثون لا يقبلونه
وأما الآثار فكثيرة منها أن رجلا أتاه فقال له إني أريد الخروج في تجارة وكان ذلك في محاق الشهر فقال تريد أن يمحق الله تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج وعن عكرمة أن يهوديا منجما قال له ابن عباس ويحك تخبر الناس بما لا تدرى فقال اليهودي أن لك ابنا وهو في المكتب ويجيء غدا محموما ويموت في اليوم العاشر منه قال ابن العباس ومتى تموت أنت قال في رأس السنة ثم قال لابن عباس قال لا تموت أنت حتى تعمى ثم جاء ابن عباس وهو محموم ومات في العاشر ومات اليهودي في رأس السنة ولم يمت ابن عباس رضى الله عنه حتى ذهب بصره وعن الشعبي رضى الله عنه قال أبو الدرداء والله لقد فارقنا رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركنا ولا طائر يطير بجناحيه إلا ونحن ندعى فيه علما وليست الكواكب موكلة بالفساد والصلاح ولكن فيها دليل بعض الحوادث عرف ذلك بالتجربة وجاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم وذلك إنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل البيت وتفرقوا عنه في الأرض وكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم وكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب فيقف على حالته وعن ميمون بن مهران أنه قال إياكم والتكذيب بالنجوم فإنه علم من علم النبوة وعنه أيضا انه قال ثلاث ارفضوهن لا تنازعوا أهل القدر ولا تذكروا أصحاب نبيكم ألا بخير وإياكم والتكذيب بالنجوم فإنه من علم النبوة وروى أن الشافعي كان عالما بالنجوم وجاء لبعض جيرانه ولد فحكم له الشافعي أن هذا الولد ينبغي أن يكون على العضو الفلان منه خال صفته كذا وكذا فوجد الأمر كما قال وأيضا انه تعالى حكى عن فرعون أنه كان يذبح أبناه بني إسرائيل ويستحي نساءهم والمفسرون قالوا إن ذلك إنما كان لأن المنجمين أخبروه بأنه سيجيء ولد من بني إسرائيل ويكون هلاكه على يده وهذه الرواية ذكرها محمد بن إسحاق وغيره وهذا يدل على اعتراف الناس قديما وحديثا بعلم النجوم وأما المعقول فهو أن هذا علم ما خلت عنه ملة من الملل ولا أمة من الأمم ولا يعرف تاريخ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهل ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعولين عليه
في معرفة المصالح ولو كان هذا العلم فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه
وقال بطليموس في بعض كتبه بعض الناس يعيبون هذا العلم وذلك العيب إنما حصل من وجوه الأول عجزهم عن معرفة حقيقة موضع الكواكب بدقائقها ومراتبها وذلك إن الآلات الرصدية لا تنفك عن مسامحات لا يفي بضبطها الحس لأجل قلتها في الآلات الرصدية لكنها وإن قلت هذه الآلات إلا أنها في الأجرام الفلكية كثيرة فإذا تباعدت الأرصاد حصل بسبب تلك المسامحات تفاوت عظيم في مواضع الكواكب
الثاني أن هذا العلم علم مبني على معرفة الدلائل الفلكية وتلك الدلائل لا تحصل إلا بتمزيجات أحوال الكواكب وهي كثيرة جدا ثم أنها مع كثرتها قد تكون متعارضة ولا بد فيها من الترجيح وحينئذ يصعب على أكثر الإفهام الإحاطة بتلك التمزيجات الكثيرة وبعد الإحاطة بها فإنه يصعب الترجيحات الجيدة فلهذا السبب لا يتفق من يحيط بهذا العلم كما ينبغي إلا الفرد بعد الفرد ثم أن الجهال يظهرون من أنفسهم كونهم عارفين بهذا العلم فإذا حكموا وأخطؤا ظن الناس أن ذلك بسبب أن هذا العلم ضعيف الثالث أن هذا العلم لا يفي بإدراك الجزئيات على وجه الفصيل الباهر فمن حكم على هذا الوجه فقد يقع في الخطأ فلهذه الأسباب الثلاثة توجهت المطاعن إلى هذا العلم وحكى أن الأكاسرة كان إذا أراد أحدهم طلب الولد أمر بإحضار المنجم ثم كان ذلك الملك يخلو بامرأته فساعة ما يقع الماء في الرحم يأمر خادما على الباب بضرب طستا يكون في يده فإذا سمع المنجم طنين الطست أخذ الطالع وحكم عليه حتى يخبر بعدد الساعات التي يمكث في بطن أمه ثم أنه كان يأخذ الطالع أيضا عند الولادة مرة أخرى ويحكم فلا جرم كانت أحكامهم كاملة قوية لأن الطالع الحقيقي هو طالع مسقط النطفة فإن حدوث الولد إنما يكون في ذلك الوقت فأما طالع الولادة فهو وطالع مستعار لأن الولد لا يحدث في ذلك الوقت وإنما ينتقل من مكان إلى مكان آخر وروى أن في عهد أردشير بن بابك أنه قال في العهد الذي كتبه لولده لولا اليقين بالبوار الذي على رأس ألف سنة لكنت أكتب لكم كتابا أن تمسكتم به لن تضلوا أبدا وعنى بالبوار ما أخبره المنجمون من أنه يزول ملكهم عند رأس ألف سنة من ملك كستاست والمراد منه زوال دولتهم وظهور دولة الإسلام وروى أنه دخل المفضل ابن سهل على المأمون في اليوم الذي قتل فيه وأخبره أنه يقتل في هذا اليوم بين الماء والنار وأنكر المأمون ذلك عليه وقوى قلبه ثم اتفق أنه دخل الحمام فقتل في الحمام وكان الأمر كما أخبر ثم قال واعلم إن التجارب في هذا الباب كثيرة وفيما ذكرناه كفاية
قلت فهذا أقصى ماقرر به الرازى كلام هؤلاء ومذهبهم ولقد نثر الكنانة ونفض الجعبة واستفرغ الوسع وبذل الجهد وروح وبهرج وقعقع وفرقع وجعجع ولا ترى طحنا وجمع بين ما يعلم بالاضطرار أنه كذب على
رسول الله صلى الله عليه و سلم وعلى أصحابه وبين ما يعلم بالاضطرار أنه خطأ في تأويل كلام الله ومعرفة مراده ولا يروج ما ذكره ألا على مفرط في الجهل بدين الرسل وما جاؤا به أو مقلد لأهل الباطل والمحال من المنجمين و أقاويلهم فإن جمع بين الأمرين شرب كلامه شربا ونحن بحمد الله ومعونته وتأييده نبين بطلان استدلاله واحتجاجه فنقول أما الاستدلال بقوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس فإن أكثر المفسرين على أن المراد هو الكواكب التي تسير راجعة تارة ومستقيمة أخرى وهذا القول قد قاله جماعة من المفسرين وأنها الكواكب الخمسة زحل وعطارد والمشترى والمريخ والزهرة وروى عن على واختاره ابن مقاتل وابن قتيبة قالوا وسماها خنسا لأنها في سيرها تتقدم إلى جهة المشرق ثم تخنس أي تتأخر وكنوسها إستتارها في معربها كما تكنس الظباء وتفر من الوحوش إلى أن تأوي إلى كناسها وهي أكنتها وتسمى هذه الكواكب المتحيرة لأنها تسير مستقيمة وتسير راجعة وقيل كنوسها بالنسبة إلى الناظر وهو استتارها تحت شعاع الشمس وقيل هي النجوم كلها وهو اختيار أبي عبيدة وقال الحسن وقتادة وعلى هذا القول فيكون باعتبار أحوالها الثلاثة من طلوعها وغروبها وما بينهما فهي خنس عند أول الطلوع لأن النجم منها يرى كأنه يبدو ويخنس وتكنس عند غروبها تشبها بالظباء التي تأوي إلى كناسها وهي جوار ما بين طلوعها وغروبها خنس عند الطلوع جوار بعده كنس عند الغروب وهذا كله بالنسبة إلى أفق كل بلد تكون لها فيه الأحوال الثلاثة وقال عبد الله بن مسعود هي بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره سعيد بن جبير وقيل وهو أضعف الأقوال الملائكة حكاه المروزي في تفسيره فإن كان المراد بعض هذه الأقوال غير ما حكاه الرازي فلا حجة له وإن كان المراد ما حكاه فغايته إن يكون الله سبحانه وتعالى قد أقسم بها كما أقسم بالليل والنهار والضحى والوالد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والنفس والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات وما نبصره ومالا نبصره من كل غائب عنا وحاضر مما فيه التنبيه على كمال ربو بيته وعزته وحكمته وقدرته وتدبيره وتنوع مخلوقاته الدالة عليه المرشدة إليه بما تضمنته من عجائب الصنعة وبديع الخلقة وتشهد لفاطرها وبارئها بأنه الواحد الأحد الذي لا شريك له وأنه الكامل في علمه وقدرته ومشيئته وحكمته وربو بيته وملكه وأنها مسخرة مذللة منقادة لأمره مطيعة لمراده منها ففي الأقسام بها تعظيم لخالقها تبارك وتعالى وتنزيه له عما نسبه إليه أعداؤه الجاحدون المعطلون لربو بيته وقدرته ومشيئتة ووحدانيته وأن من هذه عبيده ومماليكه وخلقه وصنعه وإبداعه فكيف تجحد ربو بيته وألهيته وكيف تنكر صفات كماله ونعوت جلاله وكيف يسوغ لذي حس سليم وفطرة
مستقيمة تعطيلها عن صانعها أو تعطيل صانعها عن نعوت جلاله وأوصاف كماله وعن أفعاله فأقسامة بها أكبر دليل على فساد قول نوعي المعطلة والمشركين الذين جعلوها آلهة تعبد مع دلائل الحدوث والعبودية والتسخير والافتقار عليها وإنها أدلة على بارئها وفاطرها وعلى وحدانيته وأنه لا تنبغي الربوبية والإلهية لها بوجه ما بل لا تنبغي ألا لمن فطرها وبرأها كما قال القائل :
تأمل سطور الكائنات فإنها إلى الملك الأعلى إليك رسائل ... وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وقال آخر :
فوا عجبا كيف يعصي الألهه ... أم كيف يجحده جاحد
لله في كل تحريكة ... وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
فلم يكن إقسامه بها سبحانه مقررا بذلك علم الأحكام النجومية كما يقوله الكاذبون المفترون بل مقررا لكمال ربوبيته ووحدانيته وتفرده بالخلق والابداع وكمال حكمته وعلمه وعظمته وهذا نظير إخباره سبحانه عن خلقها وعن حكمة خالقها بقوله الله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما وقوله وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون وقوله ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون وقوله إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقوله وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون وهؤلاء المشركون يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيما يسجدون لها ويتذللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم ودعوات لا ينبغي أن يدعى بها إلا خالقها وفاطرها وحده ويقول بعضهم في كتاب مصحف الشمس مصحف القمر مصحف زحل مصحف عطارد بعضهم يقول تسبيحة الشمس تسبيحة القمر تسبيحة عطارد تسبيحة زحل ولا يتحاشى من ذلك وبعضهم يقول دعوة الشمس دعوة القمر دعوة عطارد دعوة زحل وبعضهم يقول هيكل الشمس والقمر وعطارد وأصله أن الهيكل هو البيت المبني للعبادة وكان الصابئون يبنون لكل كوكب من هذه الكواكب هيكلا ويصورون فيه ذلك الكوكب ويتخذونه لعبادته وتعظيمه ودعائه ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تتنزل عليهم فتخاطبهم وتقضي حوائجهم وشاهدوا
ذلك منها وعاينوه وتلك الروحانية هي الشياطين تنزلت عليهم وخاطبتهم وقضت حوائجهم ثم لما رام هذا الفعل من تستر منهم بالإسلام ولم يمكنه أن يبني لها بيوتا يعبدها فيه كتب لها دعوات وتسبيحات وأذكارا سماها هيا كل ثم من اشتد تستره وخوفه أخرجها في قالب حروف وكلمات لا تفهم لئلا يبادر انكارها وردها ومن لم يخف منهم صرح بتلك الدعوات والتسبيحات والاذكار بلسان من يخاطبه بالفارسية والعربية وغيرها فلما أنكر عليه أهل الإيمان قال إنما ذكرت هذا معرفة لهذا العلم وإحاطة به لا اعتقادا له ولا ترغيبا فيه وقد وصف ذلك العلم وقرره أتم تقرير وحمله هدية إلى ملكه فأثابه عليه جملة من الذهب يقال أنه ألف دينار وصار ذلك الكتاب إماما لأهل هذا الفن إليه يلجئون وعليه يعولون وبه يحتجون ويقولون شهرة مصنفة وجلالته وعلمه وفضله لا تنكر ولا تجحد وفي هذا الكتاب من مخاطبة الشمس والقمر والكواكب بالخطاب الذي لا يليق إلا بالله عز و جل ولا ينبغي لاحد سواه ومن الخضوع والذل والعبادة التي لم يكن عباد الأصنام يبلغونها من آلهتهم فبالله أتجعل قوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوارى الكنس دليلا على هذا ومقدمة له في أول الكتاب فان كان الإقسام بها دليلا على تأثيراتها في العالم كما يقولون فينبغي أن يكون سائر ما أقسم به كذلك وان لم يكن القسم دليلا بطل الاستدلال به وأما قوله تعالى فلا أقسم بمواقع النجوم ففيها قولان
أحدهما أنها النجوم المعروفة وعلى هذا ففي مواقعها أقوال أحدها انه انكدارها وانتشارها يوم القيامة وهذا قول الحسن والمنجمون يكذبون بهذا ولا يقرون به والثاني مواقعها منازلها قاله عطاء وقتادة والثالث انه مغاربها والرابع انه مواقها عند طلوعها وغروبها حكاه ابن عطية عن مجاهد وأبي عبيدة
والخامس أن مواقعها مواضعها من السماء وهذا الذى حكاه ابن الجوزى عن قتادة حكاه ابن عطية عنه فيحتمل أن يكونا واحدا وان يكونا قولين
السادس أن مواقعها انقضاضها أثر العفريت وقت الرجوم حكاه ابن عطية ايضا ولم يذكر أبو الفرج ابن الجوزى سوى الثلاثة الأول والقول الثاني أن مواقع النجوم هى منازل القرآن ونجومه التى نزلت على النبي صلى الله عليه و سلم فى مدة ثلاث وعشرين سنة قال ابن عطية ويؤيد هذا القول عود الضمير على القرآن في قوله انه لقرآن كريم في كتاب مكنون وذلك ان ذكره لم يتقدم الا على هذا التأويل ومن لا يتأول هذا التأويل يقول ان الضمير يعود على القرآن وان لم يتقدم ذكره لشهرة الأمر ووضوح المعنى كقوله تعالى حتى توارت بالحجاب وكل من عليها فان وغير ذلك قلت ويؤيد القول الأول انه أعاد الضمير بلفظ الإفراد والتذكير ومواقع النجوم جميع فلو كان الضمير عائدا عليها لقال انها لقرآن كريم الا لأن يقال مواقع النجوم دل على القرآن فأعاد الضمير
عليه لأن مفسر الضمير يكتفى فيه بذلك وهو من أنواع البلاغة والايجاز فأن كان المراد من القسم نجوم القرآن بطل استدلاله بالآية وان كان المراد الكواكب وهو قول الأكثرين فلما فيها من الآيات الدالة على ربوبية الله تعالى وانفراده بالخلق والابداع فانه لا ينبغى ان تكون الإلهية ألا له وحده كما انه وحده المتفرد بخلقها وابداعها وما تضمنته من الآيات والعجائب فالإقسام بها أوضح دليل على تكذيب المشركين والمنجمين والدهرية ونوعى المعطلة كما تقدم وكذلك قوله والنجم الثاقب على ان فيه قولين آخرين غير القول الذى ذكره
أحدهما أنه الثريا وهذا قول ابن زيد حكاه عنه أبو الفرج بن الجوزى وعنه رواية ثانية انه زحل حكاها عنه ابن عطية
والثانى انه الجدى حكاه ابن عطية عن ابن عباس وقول آخر حكاه أبو الفرج بن الجوزى عن على بن أحمد النيسابوري أنه جنس النجوم وأما قوله تعالى فالمدبرات أمرا فلم يقل احد من الصحابة ولا التابعين ولا العلماء بالتفسير انها النجوم وهذه الروايات عنهم فقال ابن عباس هى الملائكة قال عطاء وكلت بأمور عرفهم الله العمل بها وقال عبد الرحمن بن ساباط يدبر أمور الدينا أربعة جبريل وهو موكل بالوحي والجنود وميكائيل وهو موكل بالقطر والنبات وملك الموت وهو موكل بقبض الأنفس واسرافيل وهو ينزل بالأمر عليهم وقيل جبريل للوحي واسرافيل للصور وقال ابن قتيبة فالمدبرات أمرا الملائكة تنزل بالحلال والحرام ولم يذكر المتوسعون في نقل أقوال المفسرين كان الجوزى والماوردى وابن عطية غير الملائكة حتى قال ابن عطية ولا أحفظ فلانا انها الملائكة هذا مع توسعه في النقل وزيادته فيه على ابي الفرج وغيره حتى انه لينفرد بأقوال لا يحكيها غيره فتفسير المدبرات بالنجوم كذب على الله وعلى المفسرين وكذلك المقسمات امرا لم يقل أحد من أهل التفسير العالمين به أنها النجوم بل قالوا هى الملائكة التى تقسم أمر الملكوت باذن ربها من الأرزاق والآجال والخلق في الأرحام وأمر الرياح والجبال قال ابن عطية لأن كل هذا إنما هو بملائكة تخدمه فالآية تتضمن جميع الملائكة لأنهم كلهم في أمور مختلفة قال أبو الطفيل عامر بن وائلة كان على بن أبي طالب علم المنبر فقال لا تسألون عن آية من كتاب الله وسنة ماضية ألا قلت لكم فقام إليه ابن الكواء فسأله عن الذاريات ذروا فالحملات وقرأ فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا فقال الذاريات الرياح والحاملات السحاب والجاريات السفن والمقسمات الملائكة ثم قال سل سؤال تعلم ولا تسأل سؤال تعنت وكذلك قال أبو الفرج ولم يذكر فيه خلافا في المقسمات امرا يعنى الملائكة تقسم الأمور على ما امر الله به قال ابن السائب المقسمات أربعة جبريل وهو صاحب الوحي والغلظة يعنى العقوبة على أعداء الرسل وميكائيل وهو صاحب الرزق والرحمة وإسرافيل وهو صاحب الصور واللوح وعزرائيل وهو قابض الأرواح فتفسير الآية
بأنها النجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وأما وصفه تعالى بعض الأيام بأنها أيام نحس كقوله فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في ايام نحسات فلا ريب أن الأيام التي أوقع الله سبحانه فيها العقوبة بأعدائه وأعداء رسله كانت أياما نحسات عليهم لأن النحس أصابهم فيها وإن كانت أيام خير لأوليائه المؤمنين فهي نحس على المكذبين سعد المؤمنين وهذا كيوم القيامة فإنه عسير على الكافرين يوم نحس لهم يسير على المؤمنين يوم سعد لهم قال مجاهد أيام نحسات مشائيم وقال الضحاك معناه شديد أي البرد حتى كان البرد عذابا لهم قال أبو علي وأنشد الاصمعي في النحس بمعنى البرد :
كان سلافة عرضت بنحس ... يحيل شفيفها الماء الزلالا
وقال ابن عباس نحسات متتابعات وكذلك قوله إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر وكان اليوم نحسا عليهم لإرسال العذاب عليهم أي لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها بل هذا النحس دائم على هؤلاء المكذبين للرسل ومستمر صفة للنحس لا لليوم ومن ظن أنه صفة لليوم وانه كان يوم أربعاء آخر الشهر وأن هذا اليوم نحس أبدا فقد غلط واخطأ فهم القرآن فان اليوم المذكور بحسب ما يقع فيه وكم لله من نعمة على أوليائه في هذا اليوم وان كان له فيه بلايا ونقم على أعدائه كما يقع ذلك في غيره من الأيام فسعود الأيام ونحوسها إنما هو بسعود الأعمال وموافقتها لمرضاة الرب ونحوس الأعمال مخالفتها لما جاءت به الرسل واليوم الواحد يكون يوم سعد لطائفة ونحس لطائفه كما كان يوم بدر يوم سعد للمؤمنين ويوم نحس على الكافرين فما للكوكب والطالع والقرانات وهذا السعد والنحس وكيف يستنبط علم أحكام النجوم من ذلك ولو كان المؤثر في هذا النحس هو نفس الكوكب والطالع لكان نحسا على العالم فأما أن يقتضي الكوكب كونه نحسا لطائفة سعدا لطائفة فهذا هوالمحال
فصل وأما الاستدلال بالآيات الدالة على أن الله سبحانه وضع حركات
هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم بقوله هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق ذلك إلا بالحق وقوله تعالى تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا الآية فمن أطرف الاستدلال فأين في هذه الآيات ما يدل على ما يدعيه المنجمون من كذبهم وبهتانهم وافترائهم ولو كان الأمر كما يدعيه هؤلاء الكذابون لكانت الدلالة والعبرة فيه أعظم من مجرد الضياء والنور والحساب ولكان الأليق ذكر ما تقتضيه من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والآجال والصنائع والعلوم والمعارف والصور الحيوانية والنباتية والمعدنية وسائر ما في هذا العالم من الخير والشر وأما قوله تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سرجا وقمرا منيرا فهو تعظيم وثناء منه تعالى على نفسه بجعل هذه البروج والشمس والقمر في السماء وقد اختلف في البروج المذكورة في هذه الآية فأكثر السلف على أنها القصور أو الكواكب العظام
قال ابن المنذر في تفسيره حدثنا موسى حدثنا شجاع حدثنا ابن إدريس عن ابيه عن عطية جعل في السماء بروجا قال قصورا فيها حرس
حدثنا موسى حدثنا أبو بكر حدثنا أبو معاوية ووكيع عن اسماعيل عن يحيى بن رافع قال قصورا في السماء حدثنا موسى حدثنا أبو بكر حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن ابي نجيح عن مجاهد قال النجوم يعني بروجا وكذلك قال عكرمة حدثنا أبو أحمد حدثنا يعلي حدثنا إسماعيل عن أبي صالح تبارك الذي جعل في السماء بروجا قال النجوم الكبار وهذا موافق لمعنى اللفظة في اللغة فإن العرب تسمي البناء المرتفع برجا قال تعالى اينما تكونوا يدرككم الموت لو كنتم في بروج مشيدة وقال الأخطل :
كأنها برج رومي يشيده ... بأن بحض وآجر وأحجار
قال الأعمش كان أصحاب عبد الله يقرؤنها تبارك الذي جعل في السماء قصورا وأما المتأخرون من المفسرين فكثير منهم يذهب إلى أنها البروج الإثني عشر التي تنقسم عليها المنازل كل برج منزلتان وثلث وهذه المنازل الثمانية والعشرون يبدو منها للناظر أربعة عشر منزلا ابدا ويخفى منها أربعة عشر منزلا كما أن البروج يظهر منها أبدا ستة ويخفى ستة والعرب تسمى أربعة عشر منزلا منها شامية وأربعة عشر يمانية فأول الشامية السرطان وآخرها السماك الأعزل وأول اليمانية الغفر وآخرها الرشا إذا طلع منها منزل من المشرق غاب رقيبه من المغرب وهو الخامس عشر وبها تنقسم فصول السنة الأربع فللربيع منها الحمل والثور والجوزاء ومنازلها الشرطين والبطين والثريا والدبران والهقعة والهنعة والذراع وللصيف منها السرطان والأسد والسنبلة ومنازلها النثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك وللخريف منها الميزان والعقرب والقوس ومنازلها الغفر والزبان والأكليل والقلب والشولة والنعائم والبلدة وللشتاء منها الجدي والدلو والحوت ومنازلها سعد الذابح وسعد بلع وسعد السعود وسعد الأخبية والفرع المقدم ويسمى الأول والفرع المؤخر ويسمى الثاني والرشا ولما كان نزول القمر في هذه المنازل معلوما بالعيان والمشاهدة ونزول الشمس فيها إنما هو بالحساب لا بالرؤية قال تعالى هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل وقال تعالى والشمس تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه
منازل حتى عاد كالعرجون القديم فخص القمر بذكر تقدير المنازل دون الشمس وأن كانت مقدرة المنازل لظهور ذلك للحس في القمر وظهور تفاوت نوره بالزيادة والنقصان في كل منزل ولذلك كان الحساب القمرى أشهر وأعرف عن والأمم وأبعد من الغلط وأصح للضبط من الحساب الشمسى ويشترك فيه الناس دون الحساب الشمسى ولهذا قال تعالى في القمر وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ولم يقل ذلك في الشمس ولهذا كانت اشهر الحج والصوم والأعياد ومواسم الإسلام انما هي على حساب القمر وسيره ونزوله في منازله لا على حساب الشمس وسيرها حكمة من الله ورحمة وحفظا لدينه لاشتراك الناس في هذا الحساب وتعذر الغلط والخطأ فيه فلا يدخل في الدين من الاختلاف والتخليط ما دخل في دين أهل الكتاب فهذا الذي اخبرنا تعالى به من شأن المنازل وسير القمر فيها وجعل الشمس سراجا وضياء يبصر به الحيوان ولولا ذلك لم يبصر ألحيوان فأين هذا مما يدعيه الكذابون من علم الأحكام التى كذبها اضعاف صدقها 0
فصل وأما ماذكره عن إبراهيم خليل الرحمن أنه تمسك بعلم النجوم حين
قال إني سقيم فمن الكذب والافتراء على خليل الرحمن عليه السلام فإنه ليس في الآية اكثر من أنه نظر نظرة في النجوم ثم قال لهم إني سقيم فمن ظن من هذا أن كلم أحكام النجوم من علم الأنبياء وأنهم كانوا يراعونه ويعانونه فقد كذب على الأنبياء ونسبهم إلى مالا يليق وهو من جنس من نسبهم إلى الكهانة والسحر وزعم أن تلقيهم الغيب من جنس تلقى غيرهم وأن كانوا فوقهم في ذلك لكمال نفوسهم وقوة استعدادها وقبولها لفيض العلويات عليها وهؤلاء لم يعرفوا الأنبياء ولا آمنوا بهم وإنما هم عندهم بمنزلة أصحاب الرياضات الذين خصوا بقوة الإدراك وزكاة النفوس وزكاة الأخلاق ونصبوا أنفسهم لإصلاح الناس وضبط امورهم ولا ريب أن هؤلاء أبعد الخلق عن الأنبياء واتباعهم ومعرفتهم ومعرفة مرسلهم وما ارسلهم به هؤلاء في شأن والرسل في شأن آخر بل هم ضدهم في علومهم واعمالهم وهديهم وإرادتهم وطرائقهم ومعادهم وفي شأنهم كله ولهذا نجد أتباع هؤلاء ضد أتباع الرسل في العلوم والأعمال والهدى والإرادات ومتى بعث الله رسولا يعانى التنجيم والنرجات والطلسمات والأوفاق والتداخين و البخورات ومعرفة القرانات والحكم على الكواكب بالسعود والنحوس والحرارة والبرودة والذكورة والأنوثة وهل هذه إلا صنائع المشركين وعلومهم وهل بعثت الرسل ألا بالإنكار على هؤلاء ومحقهم ومحق علومهم وأعماهم من الأرض وهل للرسل أعداء بالذات إلا هؤلاء ومن سلك سبيلهم وهذا معلوم بالاضطرار لكل من آمن بالرسل صلوات الله وسلامه عليهم وصدقهم فيما جاؤا به وعرف مسمى رسول الله وعرف مرسله وهل كان لإبراهيم الخليل عليه الصلاة و السلام عدو مثل هؤلاء المنجمين الصابئين وحر إن كانت دار مملكتهم والخليل أعدى عدو لهم وهم المشركون حقا والأصنام التى كانوا يعبدونها كانت صورا وتماثيل للكواكب وكانوا يتخذون لها هياكل وهي بيوت العبادات لكل كوكب منها هيكل فيه أصنام تناسبه فكانت عبادتهم للأصنام وتعظيمهم لها تعظيما منهم للكواكب التى وضعوا الأصنام عليها وعبادة لها وهذا أقوى السببين في الشرك الواقع في العالم وهو الشرك بالنجوم وتعظيمها واعتقاد أنها أحياء ناطقة ولها روحانيات تتنزل على عابديها ومخاطبيها فصوروا لها الصور الأرضية ثم جعلوا عبادتها وتعظيمها ذريعة إلى عبادة تلك الكواكب واستنزال روحانياتها وكانت الشياطين تتنزل عليهم وتخاطبهم وتكلمهم وتريهم من العجائب ما يدعوهم إلى بذل نفوسهم وأولادهم وأموالهم لتلك الأصنام والتقرب إليها وكان مبدأ هذا الشرك تعظيم الكواكب وظن السعود والنحوس وحصول الخير والشر في العالم منها وهذا شرك خواص المشركين وأرباب النظر منهم وهو شرك قوم إبراهيم عليه الصلاة و السلام
والسبب الثاني عبادة القبور والإشراك بالأموات وهو شرك قوم نوح عليه الصلاة و السلام وهو أول شرك طرق العالم وفتنته أعم واهل الإبتلاء به أكثر وهم جمهور أهل الإشراك وكثيرا ما يجتمع البيان في حق المشرك يكون مقابريا نجوميا قال تعالى عن قوم نوح وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا
قال البخارى في صحيحه قال ابن عباس كان هؤلاء رجالا صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحي الشياطين إلى قومهم أن انصبوا على مجالسهم التى كانوا يجلسون عليها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت ولهذا لعن النبي صلى الله عليه و سلم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ونهى عن الصلاة إلى القبور وقال اللهم لا تجعل قبرى وثنا يعبد وقال اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وقال إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد إلا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني انها كم عن ذلك وأخبر أن هؤلاء شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهؤلاء هم أعداء نوح كما ان المشركين بالنجوم أعداء إبراهيم فنوح عاداه المشركون بالقبور وإبراهيم عاداه المشركون بالنجوم والطائفتان صوروا الأصنام على صور معبوديهم ثم عبدوها وإنما بعثت الرسل بمحق الشرك من الأرض ومحق أهله وقطع اسبابه وهدم بيوته ومحاربة أهله فكيف يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث سبحانك هذا بهتان عظيم وإنما كانت النظرة التى نظرها
في علم النجوم من معاريض الأفعال كما كان قوله فعله كبيرهم هذا وقوله إني سقيم وقوله عن امرأته سارة هذه أختي من معاريض المقال ليتوصل بها إلى غرضه من كسر الأصنام كما توصل بتعريضه بقوله هذه أختي إلى خلاصها من يد الفاجر ولما غلظ فهم عن كثير من الناس وكشفت طباعهم عن إدراكه ظنوا أن نظره في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن نجمة وطالعه يقضى عليه بالسقم وحاشا لله أن يظن ذلك بخليله صلى الله عليه و سلم أو بأحد من أتباعه وهذا من جنس معاريض يوسف الصديق صلى الله تعالى عليه وسلم حين تفتيش أوعية أخيه عن الصاع فإن المفتش بدأ بأوعيتهم مع علمه أنه ليس فيها وأخر وعاء أخيه مع علمه أنه فيها تعريضا بأنه لا يعرف في أى وعاء هي ونفيا للتهمة عنه بأنه لو كان عالما في أى الأوعية هي لبادر إليها ولم يكلف نفسه تعب التفتيش لغيرها فلهذا نظر الخليل صلى الله عليه و سلم في النجوم نظر تورية وتعريض محض ينفي به عنه تهمة قومه ويتوصل به إلى كيد أصنامهم 0
فصل وأما الاستدلال بقوله تعالى لخلق السموات والأرض أكبر من خلق
الناس وإن المراد به كبر القدر والشرف لا كبر الجثة ففي غاية الفساد فإن المراد من الخلق ههنا الفعل لانفس المفعول وهذا من أبلغ الأدلة على المعاد أى أن الذى خلق السموات والأرض وخلقها أكبر من خلقكم كيف يعجزه خلقكم بعدما تموتون خلقا جديدا ونظير هذا في قوله في سورة يس أوليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم أى مثل هؤلاء المنكرين فهذا استدلال بشمول القدر للنوعين وأنها صالحة لهما فلا يجوز أن يثبت تعلقها بأحد المقدورين دون الآخر فكذلك قوله لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس أى من لم تعجز قدرته عن خلق العالم العلوي والسفلي كيف يعجز عن خلق الناس خلقا جديدا بعد ما أماتهم ولا تعرض في هذا لأحكام النجوم بوجه قط ولا لتأثير الكواكب واما قوله تعالى ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا فلا ريب أن خلق السموات والأرض من أعظم الأدلة على وجود فاطرهما وكمال قدرته وعلمه وحكمته وانفراده بالربوبية والوحدانية ومن سوى بين ذلك وبين البقة وجعل العبرة والدلالة والعلم بوجود الرب الخالق البارىء المصور منهما سواء فقد كابر والله سبحانه إنما يدعو عباده على النظر والفكر في مخلوقاته العظام لظهور أثر الدلالة فيها وبديع عجائب الصنعة والحكمة فيها واتساع مجال الفكر والنظر في أرجائها وألاففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد ...
ولكن أين الآية والدلالة في خلق العالم العلوي والسفلي إلى خلق القملة والبرغوث
والبقة فكيف يسمح لعاقل عقله أن يسوي بينهما ويجعل الدلالة من هذا كالدلالة من الآخر والله سبحانه إنما يذكر من مخلوقاته للدلالة عليه أشرفها وأظهرها للحس والعقل وأبينها دلالة وأعجبها صنعة كالسماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والنجوم والجبال والسحاب والمطر وغير ذلك من آياتة ولا يدعو عباده إلى التفكر في القمل والبراغيث والبعوض والبق والكلاب والحشرات ونحوها إنما يذكر ما يذكر من ذلك في سياق ضرب الأمثال مبالغة في الاحتقار والضعف كقوله تعالى أن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنفذوه منه فهنا لم يذكر الذباب في سياق الدلالة على إثبات الصانع تعالى وكذلك قوله أن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها وكذلك قوله مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وان أوهن البيوت لبيت العنكبوت فتأمل ذكر هذه المخلوقات الحقيرة في أى سياق وذكر المخلوقات العظيمة في أى سياق
وأما قول من قال من المتكلمين المتكلفين أن دلالة حصول الحياة في الأبدان الحيوانية أقوى من دلالة السموات والأرض على وجود الصانع تعالى فبناء هذا القائل على الأصل الفاسد وهو إثبات الجوهر الفرد وإن تأثير الصانع تعالى في خلق العالم العلوي والسفلي هو تركيب تلك الجواهر وتأليفها هذا التأليف الخاص والتركيب جنسه مقدور للبشر وغيرهم وأما الأحداث والاختراع فلا يقدر عليه إلا الله والقول بالجوهر الفرد وبناء المبدأ والمعاد عليه مما هو من اصول المتكلمين الفاسدة التى نازعهم فيها جمهور العقلاء قالوا وخلق الله تعالى وإحداثه لما يحدثه من أجسام العالم هو إحداث لأجزائها وذواتها لا مجرد تركيب الجواهر منفردة ثم قد فرغ من خلقها وصنعه وإبداعه الآن إنما هو في تأليفها وتركيبها وهذا من اقوال اهل البدع التى ابتدعوها في الإسلام وبنوا عليها المعاد وحدوث العالم فسلطوا عليهم أعداء الإسلام ولم يمكنهم كسرهم لما بنوا المبدأ والمعاد على أمر وهمى خيالى وظنوا انه لا يتم لهم القول بحدوث العالم وإعادة الأجسام إلا به وأقام منازعوهم حججا كثيرة جدا على بطلان القول بالجوهر واعترافهم بقوة كثير منها وصحته فأوقع ذلك شكا لكثير منهم في أمر المبدأ والمعاد لبنائه على شفا جرف هار وأما ائمة الإسلام وفحول النظار فلم يعتمدوا على هذه الطريقة وهي عندهم أضعف وأوهي من أن يبنوا عليها شيئا من الدين فضلا عن حدوث العالم وإعادة الأجسام وإنما اعتمدوا على الطرق التى أرشد الله سبحانه إليها في كتابه وهي حدوث ذات الحيوان والنبات وخلق نفس العالم العلوي والسفلي وحدوث السحاب والمطر والرياح وغيرها من الأجسام التى يشاهد حدوثها بذواتها لامجرد حدوث تأليفها وتركيبها فعند القائلين بالجوهر لا يشهد ان الله أحدث في هذا العالم شيئا من
الجواهر وإنما أحدث تأليفها وتركيبها فقط وإن كان أحداثه بجواهره سابقا متقدما قبل ذلك وأما الآن فإنما تحدث الأعراض من الاجتماع والافتراق والحركة والسكون فقط وهي الأكوان عندهم وكذلك المعاد فإنه سبحانه يفرق أجزاء العالم وهو اعدامه ثم يؤلفها ويجمعها وهو المعاد وهؤلاء احتاجوا إلى أن يستدلوا على كون عين الإنسان وجواهره مخلوقة إذ المشاهد عندهم بالحس دائما هو حدوث أعراض في تلك الجواهر من التأليف الخالص وزعموا أن كل ما يحدثه الله من السحاب والمطر والزروع والثمار والحيوان فإنما يحدث فيه أعراضا وهي جمع الجواهر التي كانت موجودة وتفريقها وزعموا أن أحدا لا يعلم حدوث عين من الأعيان بالمشاهدة ولا بضرورة العقل وإنما يعلم ذلك بالاستدلال وجمهور العقلاء من الطوائف يخالفون هؤلاء ويقولون الرب لا يزال يحدث الأعيان كما دل على ذلك الحس والعقل والقرآن فإن الأجسام الحادثة بالمشاهدة ذواتها وأجزاؤها حادثة بعد إن لم تكن جواهر مفرقة فاجتمعت ومن قال غير ذلك فقد كابر الحس والعقل فإن كون الإنسان والحيوان مخلوقا محدثا كائنا بعد إن لم يكن أمر معلوم بالضرورة لجميع الناس وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد إن لم يكن وإن عينه حدثت كما قال الله تعالى وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا وليس هذا عندهم مما يستدل عليه بل يستدل به كما هي طريقة القرآن فإنه جعل حدوث الإنسان وخلقه دليلا لا مدلولا عليه
وقولهم إن الحادث أعراض فقط وأنه مركب من الجواهر المفردة قولان باطلان بل يعلم حدوث عين الإنسان وذاته وبطلان الجوهر الفرد ولو كان القول بالجوهر صحيحا لم يكن معلوما إلا بأدلة خفية دقيقة فلا يكون من أصول الدين بل ولا مقدمة فيها فطريقتهم تتضمن جحد المعلوم وهو حدوث الأعيان الحادثة وذواتها وإثبات ما ليس بمعلوم بل هو باطل وهو إثبات الجوهر الفرد وليس هذا موضع استقصاء هذه المسئلة والمقصود الكلام على قوله إن الاستدلال بحصول الحياة في بنية الحيوان على وجود الصانع أقوى من دلالة تركيب الاجرام الفلكية وهو مبنى على هذا الأصل الفاسد
فصل وأما استدلاله بقوله تعالى وما خلقنا السماء والأرض وما
بينهما باطلا فعجب من العجب فإن هذا من اقوى الأدلة وأبينها على بطلان قول المنجمين والدهرية الذين يسندون جميع ما في العالم من الخير والشر إلى النجوم وحركاتها واتصالاتها ويزعمون أن ما تأتي به من الخير والشر فعن تعريف الرسل والأنبياء وكذلك ما تعطيه من السعود والنحوس وهذا هو السبب الذي سقنا الكلام لأجله معهم لما حكينا قولهم أنه لما كانت الموجودات في العالمالسفلي مترتبة على تأثير الكواكب والروحانيات التي هي مدبرات الكواكب وإن كان في اتصالاتها نظر سعد ونحس وجب أن يكون في آثارها حسن وقبح في الخلق والأخلاق والعقول الإنسانية متساوية في النوع فوجب أن يدركها كل عقل سليم ولا يتوقف إدراكها على من هو مثل ذلك العاقل في النوع ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم إلى آخر كلامكم المتضمن خلق السموات والأرض بغير أمر ولا نهي ولا ثواب ولا عقاب وهذا هو الباطل الذي نفاه الله سبحانه عن نفسه وأخبر أنه ظن أعدائه الكافرين ولهذا اتفق المفسرون على أن الحق الذي خلقت به السموات والأرض هو الأمر والنهي وما يترتب عليهما من الثواب والعقاب فمن جحد ذلك وجحد رسالة الرسل وكفر بالمعاد وأحال حوادث العالم على حركات الكواكب فقد زعم أن خلق السموات والأرض ابطل الباطل وأن العالم خلق عبثا وترك سدى وخلى هملا وغاية ما خلق له أن يكون متمتعا باللذات الحسية كالبهائم في هذه المدة القصيرة جدا ثم يفارق الوجود وتحدث حركات الكواكب أشخاصا مثله هكذا أبدا فأي باطل أبطل من هذا وأي عبث فوق هذا أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وإنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم والحق الذي خلقت به السموات والأرض وما بينهما هو إلهية الرب المتضمنة لكمال حكمته وملكه وامره ونهيه المتضمن لشرعة وثوابه وعقابه المتضمن لعدله وفضله ولقائه فالحق الذي وجد به العالم كون الله سبحانه هو الإله الحق المعبود والآمر الناهي المتصرف في الممالك بالأمر والنهي وذلك يستلزم إرسال الرسل وإكرام من استجاب لهم وتمام الإنعام عليه وإهانة من كفر بهم وكذبهم واختصاصه بالشقاء والهلاك وذلك معقود بكمال حكمة الرب تعالى وقدرته وعلمه وعدله وتمام ربوبيته وتصرفه وانفراده بالإلهية وجريان المخلوقات على موجب حكمته وإلهيته وملكه التام وأنه أهل أن يعبد ويطاع وأنه أولى من أكرم أحبابه وأولياءه بالإكرام الذي يليق بعظمته وغناه وجوده وأهان أعداءه المعرضين عنه الجاحدين له المشركين به المسوين بينه وبين الكواكب والأوثان والأصنام في العبادة بالإهانة التي تليق بعظمته وجلاله وشدة بأسه فهو الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذو الطول لا إله إلا هو إليه المصير وهو ذو الرحمة الواسعة الذي لا يرد باسه عن القوم المجرمين ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وهو سبحانه خلق العالم العلوي والسفلي بسبب الحق ولأجل الحق وضمنه الحق فبالحق كان وللحق كان وعلى الحق اشتمل والحق هو توحيده وعبادته وحده لا شريك له وموجب ذلك ومقتضاه وقام بعدله الذي هو الحق وعلى الحق اشتمل فما خلق الله شيئا إلا بالحق وللحق ونفس خلقه له حق وهو شاهد من شواهد الحق فإن أحق الحق هو التوحيد كما
أن أظلم الظلم هو الشرك ومخلوقات الرب تعالى كلها شاهدة له بأنه الله الذي لا إله إلا هو وإن كل معبود باطل سواه وكل مخلوق شاهد بهذا الحق إما شهادة نطق وإما شهادة حال وإن ظهر بفعله وقوله خلافها كالمشرك الذي يشهد حال خلقه وإبداعه وصنعه لخالقه وفاطره أنه الله الذي لا إله إلا هو وإن عبد غيره وزعم أن له شريكا فشاهد حاله مكذب له مبطل لشهادة فعله وقاله
وأما قوله أنه لا يمكن أن يقال المراد أنه خلقها على وجه يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم إلى آخر كلامه
فيقال له إذا كانت دلالتها على صانعها أمرا ثابتا لها لذواتها وذواتها إنما وجدت بإيجاده وتكوينه كانت دلالتها بسبب فعل الفاعل المختار لها ولكن هذا بناء منه على أصل فاسد يكرره في كتبه وهو ان الذوات ليست بمجعولة ولا تتعلق بفعل الفاعل وهذا مما أنكره عليه أهل العلم والإيمان وقالوا أن كونها ذواتا وإن وجودها وأوصافها وكل ما ينسب إليها هو بفعل الفاعل فكونها ذواتا وما يتبع ذلك من دلالتها على الصانع كله بجعل الجاعل فإنه لما جعلها على هذه الصفة مستلزمة لدلالتها عليه كانت دلالتها عليه بجعله فإن قيل لو قدر عدم الجاعل لها لم يرتفع كونها ذواتا ولو كانت ذواتا بجعله لارتفع كونها ذواتا بتقدير ارتفاعه
قيل ما تعنى بكونها ذواتا وما هيات اتعنى به تحقق ذلك في الخارج أو في الذهن أو أعم منها فإن عنيت الأول فلا ريب في بطلان كونها ذوات وما هيات على تقدير ارتفاع الجاعل وإن عنيت الثانى فالصور الذهنية مجعولة له أيضا لأنه هو الذي علم فإوجد الخلائق الذهنية في العلم كما أنه الذي خلق فأوجد الحقائق الذهنية في العين فهو الأكرم الذي خلق وعلم فما في الذهن بتعليمه وما في الخارج بخلقه وإن عنيت القدر المشترك بين الخارج والذهن وهو مسمى كونها ذوات وما هيات بقطع النظر عن تقييده بالذهن أو الخارج قيل لك هذه ليست بشيء البتة فإن الشيء إنما يكون شيئا في الخارج أو في الذهن والعلم وما ليس له حقيقة خارجية ولا ذهنية فليس بشيء بل هو عدم صرف ولا ريب ان العدم ليس بفعل فاعل ولا جعل جاعل
فإن قيل هي لا تنفك عن أحد الوجودين أما الذهني واما الخارجي ولكن نحن أخذناها مجردة عن الوجودين ونظرنا إليها من هذه الحيثية وهذا الاعتبار ثم حكمنا عليها بقطع النظر عن تقيدها بذهن أو خارج قيل الحكم عليها بشيء ما يستلزم تصورها ليمكن الحكم عليها وتصورها مع أخذها مجردة عن الوجود والذهن محال فإن قيل مسلم أن ذلك محال ولكن إذا أخذناه مع وجودها الذهني أو الخارجي فهنا أمران حقيقتها وماهيتها والثاني وجودها الذهني أو الخارجي فنحن أخذناها موجودة وحكمنا عليها مجردة فالحكم على جزء هذا المأخوذ المنصور
قيل هذا القدر المأخوذ عدم محض كما تقدم والعدم لا يكون بجعل جاعل ونكتة المسألة أن
الذوات من حيث هي ذوات أما أن تكون وجودا او عدما فإن كانت وجودا فهي بجعل الجاعل وإن كانت عدما فالعدم كاسمه لا يتعلق بجعل الجاعل 0
فصل وأما قوله إن إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان اعتماده في
إثبات الصانع على الدلائل الفلكية كما قرره فيقال من العجب ذكركم لخليل الرحمن في هذا المقام وهو أعظم عدو لعباد الكواكب والأصنام التى اتخذت على صورها وهم أعداؤه الذين ألقوه في النار حتى جعلها الله عليه بردا وسلاما وهو عليه السلام أعظم الخلق براءة منهم وأما ذلك التقرير الذي قرره الرازي في المناظرة بينه وبين الملك المعطل فمما لم يخطر بقلب إبراهيم ولا بقلب المشرك ولا يدل اللفظ عليها البتة وتلك المناظرة التى ذكرها الرازي تشبه أن تكون مناظرة بين فيلسوف ومتكلم فكيف يسوغ أن يقال أنها هي المرادة من كلام الله تعالى فيكذب على الله وعلى خليله وعلى المشرك المعطل وإبراهيم أعلم بالله ووحدانيته وصفاته من أن يوحي إليه بهذه المناظرة ونحن نذكر كلام أئمة التفسير في ذلك ليفهم معنى المناظرة ومادل عليه القرآن من تقريرها قال ابن جرير معنى الآية ألم تر يا محمد إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم ربي الذي يحي ويميت يعنى بذلك ربي الذي بيده الحياه والموت يحي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء قال أنا أفعل ذلك فإحيي وأميت أستحي من أردت قتله فلا أقتله فيكون ذلك منى إحياء له وذلك عند العرب يسمى إحياء كما قال تعالى ومن أحياها فكأنما أحياء الناس جميعا واقتل آخر فيكون ذلك منى إماتة له قال إبراهيم له فإن الله هو الذي يأتي بالشمس من مشرقها فإن كنت صادقا إنك آله فأت بها من مغربها قال الله عز و جل فبهت الذي كفر يعنى انقطع وبطلت حجته ثم ذكر من قال ذلك من السلف فروى عن قتادة ذكر لنا أنه دعا برجلين فقتل أحدهما واستحيا الآخر وقال أنا أحي هذا وأميت هذا قال إبراهيم عند ذلك فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب وعن مجاهد أنا أحيي وأميت أقتل من شئت وأستحيي من شئت أدعه حيا فلا أقتله وقال ابن وهب حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن الجبار قال لإبراهيم أنا أحيي وأميت إن شئت قتلتك وأن استحييتك فقال إبراهيم إن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فبهت الذي كفر وقال الربيع لما قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال هو يعنى نمرود فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين فاستحيا أحدهما وقتل الآخر وقال أنا أحيي وأميت أى أستحي من شئت فقال إبراهيم فأن الله يأتي بالشمس من المشرق قال السدى لما خرج إبراهيم من النار أدخلوه على الملك ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه وقال له من ربك قال ربي الذي يحيي ويميت قال نمرود أنا احيي وأميت أنا آخذأربعة نفرا فأدخلهم بيتا فلا يطعمون ولا يسقون حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا وتركت الإثنين فماتا فعرف إبراهيم ان له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر وقال إن هذا إنسان مجنون فأخرجوه ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها وأن النار لم تأكله وخشى أن يفتضح في قومة وكان يزعم أنه رب فأمر بإبراهيم فأخرج وقال مجاهد أحيي فلا أقتل وأميت من قتلت وقال ابن جريج أتي برجلين فقتل أحدهما وترك الآخر فقال أنا أحيي وأميت فأميت من قتلت وأحيي فلا أقتل وقال ابن إسحاق ذكر لنا والله أعلم أن نمرود قال لإبراهيم أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التى تعظمه بها على غيرها ما هي قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال نمرود أنا أحيي وأميت فقال له إبراهيم كيف تحيي وتميت قال آخذ الرجلين قد استوجيا القتل في حكمى فاقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن عن الآخر فاتركه فأكون قد أحييته فقال له إبراهيم عند ذلك فأن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب أعرف أنه كما تقول فبهت عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئا وعرف أنه لا يطيق ذلك فهذا كلام السلف في هذه المناظرة وكذلك سائر المفسرين بعدهم لم يقل أحد منهم قط أن معنى الآية أن هذا الإحياء والإماتة حاصل منى ومن كل أحد فأن الرجل قد يكون منه الحدوث بواسطة تمزيج الطبائع وتحريك الأجرام الفلكية بل نقطع بأن هذا لم يخطر بقلب المشرك المناظر البتة ولا كان هذا مراده فلا يحل تفسير كلام الله بمثل هذه الأباطيل ونسأل الله أن يعيذنا من القول عليه بما لم نعلم فإنه أعظم المحرمات على الإطلاق وأشدها إثما وقد ظن جماعة من الأصوليين وأرباب الجدل أن إبراهيم أنتقل مع المشرك من حجة إلى حجة ولم يجبه عن قوله أنا أحيي وأميت قالوا وكان يمكنه أن يتم معه الحجة الأولى بأن يقول مرادى بالأحياء إحياء الميت وإيجاد الحياة فيه لا استبقاؤه على حياته وكان يمكنه تتميمها بمعارضته في نفسها بأن يقول فأحيي من أمت وقلت ان كنت صادقا ولكن انتقل إلى حجة أوضح من الأولى فقال إن الله يأتي بالشمس من المشرق فات بها من المغرب فانقطع المشرك المعطل وليس الأمر كما ذكروه ولا هذا انتقال بل هذا مطالبة له بموجب دعواه الإلهية والدليل الذي استدل به إبراهيم قد تموثبت موجبه فلما ادعى الكافر أنه يفعل كما يفعل الله فيكون إلها مع الله طالبه إبراهيم بموجب دعواه مطالبة تتضمن بطلانها فقال إن كنت أنت ربا كما تزعم فتحيي وتميت كما يحيي ربي ويميت فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فتنصاع لقدرته وتسخيره ومشيئته فإن كنت أنت ربا فات بها من المغرب وتأمل قول الكافر أنا أحيي وأميت ولم يقل أنا الذي أحيي
وأميت يعنى أنا أفعل كما يفعل الله فأكون ربا مثله فقال له إبراهيم فأن كنت صادقا فافعل مثل فعله في طلوع الشمس فإذا أطلعها من جهة فأطلعها انت من جهة أخري ثم تأمل ما في ضمن هذه المناظرة من حسن الاستدلال بافعال الرب المشهودة المحسوسة التى تستلزم وجوده وكمال قدرته ومشيئته وعلمه ووحدانيته من الإحياء والإماتة المشهودين الذين لا يقدر عليهما إلا الله وحده وإتيانه تعالى بالشمس من المشرق لا يقدر أحد سواه على ذلك وهذا برهان لا يقبل المعارضة بوجه وإنما ليس عدو الله وأوهم الحاضرين أنه قادر من الإحياء والإماتة على ما هو مماثل لمقدور الرب تعالى فقال له إبراهيم فأن كان الأمر كما زعمت فأرني قدرتك على الإتيان بالشمس من المغرب لتكون مماثله لقدرة الله على الإتيان بها من المشرق فأين الانتقال في هذا الاستدلال والمناظرة بل هذا من أحسن ما يكون من المناظرة والدليل الثاني مكمل لمعنى الدليل الأول ومبين له ومقرر لتضمن الدليلين افعال الرب الدالة عليه وعلى وحدانيته وانفراده بالربوبية والإلهية كما لا تقدر انت ولا غير الله على مثلها ولما علم عدو الله صحة ذلك وان من هذا شأنه على كل شيء قدير لا يعجزه شيء ولا يستصعب عليه مراد خاف أن يقول لإبراهيم فسل ربك أن يأتي بها من مغربها فيفعل ذلك فيظهر لأتباعه بطلان دعواه وكذبه وانه لا يصلح للربوبية فبهت وامسك وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا وهي أن شرك العالم إنما هو مسند إلى عبادة الكواكب والقبور ثم صورت الأصنام على صورها كما تقدم فتضمن الدليلان اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت ولا يصلح الحي الذي يموت للإلهية لا في حال حياته ولا بعد موته فإن له ربا قادرا قاهرا متصرفا فيه إحياء وإماتة ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ الصنم على صورته ويعبد من دونه وكذلك الكواكب أظهرها وأكبرها للحس 0
هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة لا تصرف لها في نفسها بوجه ما بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد لأمره ومشيئته فهي مربوبة مسخرة مدبرة لا أله يعبد من دون الله 0
فصل وأما استدلاله بأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عند قضاء الحاجة عن استقبال
الشمس والقمر واستدبارهما فكأنه والله أعلم لما رأى بعض الفقهاء قد قالوا ذلك في كتبهم في آداب التخلى ولا تستقبل الشمس والقمر ظن أنهم إنما قالوا ذلك لنهى النبي صلى الله عليه و سلم عنه فاحتج بالحديث وهذا من أبطل الباطل فإن النبي صلى الله عليه و سلم لم ينقل عنه ذلك في كلمة واحدة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متصل وليس لهذه المسألة أصل في الشرع والذين ذكروها من الفقهاء منهم من قال العلة
أن اسم الله مكتوب عليهما ومنهم من قال لأن نورهما من نور الله ومنهم من قال إن التنكب عن استقبالهما واستدبارهما أبلغ في التستر وعدم ظهور الفرجين وبكل حال فما لهذا ولا أحكام النجوم فان كان هذا دالا على دعواكم فدلالة النهي عن استقبال الكعبة بذلك أقوى وأولى وأما استدلاله بأن النبي صلى الله عليه و سلم قال يوم موت ولده ابراهيم إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فاذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وهذا الحديث صحيح وهو من أعظم الحجج على بطلان قولكم فانه صلى الله عليه و سلم أخبر أنهما آيتان من آيات الله وآيات الله لا يحصيها إلا الله فالمطر والنبات والحيوان والليل والنهار والبر والبحر والجبال والشجر وسائر المخلوقات آياته تعالى الدلالة عليه وهي في القرآن أكثر من أن نذكرها ههنا فهما آيتان لا ربان ولا إلهان ولا ينفعان ولا يضران ولا لهما تصرف في أنفسهما وذواتهما البتة فضلا عن إعطائهما كل ما في العالم من خير وشر وصلاح وفساد بل كل ما فيه من ذراته وأجزائه وكلياته وجزئياته له تعالى الله عن قول المفترين المشركين علوا كبيرا وفي وقوله صلى الله عليه و سلم لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته قولان
أحدهما أن موت الميت وحياته لا يكون سببا في انكسافهما كما كان يقوله كثير من جهال العرب وغيرهم عند الانكساف إن ذلك لموت عظيم أو لولادة عظيم فأبطل النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وأخبر أن موت الميت وحياته لا يؤثر في كسوفهما البتة
والثاني أنه لا يحصل عن انكسافهما موت ولا حياة فلا يكون انكسافهما سببا لموت ميت ولا لحياة حي وإنما ذلك تخويف من الله لعباده أجرى العادة بحصوله في اوقات معلومة بالحساب كطلوع الهلال وإبداره وسراره فأما سبب كسوف الشمس فهو توسط القمر بين جرم الشمس وبين أبصارنا فان القمر عندهم جسم كثيف مظلم وفلكه دون فلك الشمس فاذا كان على مسامته إحدى نقطتي الرأس أو الذنب أو قريبا منهما حالة الإجتماع من تحت الشمس حال بيننا وبين نور الشمس كسحابة تمر تحتها إلى أن يتجاوزها من الجانب الآخر فإن لم يكن للقمر عرض ستر عنا نور كل الشمس وإن كان له عرض فبقدر ما يوجبه عرضه وذلك أن الخطوط الشعاعية تخرج من بصر الناظر إلى المرئي على شكل مخروط راسه عند نقطة البصر وقاعدته عند جرم المرئي فإن وجهنا أبصارنا إلى جرم الشمس حالة كسوفها فإنه ينتهي إلى القمر أو لا مخروط الشعاع فاذا توهمنا نفوذه منه إلى الشمس وقع جرم الشمس في وسط المخروط وإن لم يكن للقمر عرض انكسف كل الشمس وإن كان للقمر عرض فبقدر ما يوجبه عرضه ينحرف جرم الشمس عن مخروط الشعاع ولا يقع كله فيه فينكسف بعضه ويبقى الباقي على ضيائه وذلك إذا كان العرض المرئي اقل من نصف مجموع قطر الشمس والقمر حتى إذا ساوى العرض المرئي نصف مجموع القطرين كان صفحة القمر تماس مخروط الشعاع فلا ينكسف
ولا يكون لكسوف الشمس لبث لأن قاعدة المخروط المتصل بالشمس مساو لقطريها فكما ابتدأ القمر بالحركة بعد تمام الموازاة بينه وبين الشمس تحرك المخروط وابتدأت الشمس بالإسفار إلا أن كسوف الشمس يختلف باختلاف أوضاع المساكن حتى أنه يرى في بعضها ولا يرى في بعضها ويرى في بعضها أقل وفي بعضها أكثر بسبب اختلاف المنظر إذ الكاسف ليس عارضا في جرم الشمس يستوى فيه النظار من جميع الأماكن بل الكاسف شيء متوسط بينها وبين الأبصار وهو قريب منها والمحجوب عنا بعيد فيختلف التوسط باختلاف مواضع الناظرين وكذلك يختلف كسوف الشمس في مباديها وعند انجلائها في كمية ما ينكسف منها وفي زمان كسوفها الذي هو من أول البدو إلى وسط الكسوف ومن وسط الكسوف إلى آخر الانجلاء
فإن قيل فجرم القمر أصغر من جرم الشمس بكثير فكيف يحجب عنا كل الشمس قيل إنما يحجب عنا جرم الشمس لقربه منا وبعدها عنا لأن الشيئين المختلفين في الصغر والكبر إذا قرب الصغير من الكبير يرى من أطراف الكبير أكثر ما يرى منها مع بعد الأصغر عنه وكلما بعد الأصغر عنه وازداد قربه من الناظر تناقص ما يرى من أطراف الأكبر إلى أن ينتهي إلى حد لا يرى من الأكبر شيء والحس شاهد بذلك
وأما سبب خسوف القمر فهو توسط الأرض بينه وبين الشمس حتى يصير القمر ممنوعا من اكتساب النور من الشمس ويبقى ظلام ظل الأرض في ممره لأن القمر لا ضوء له أبدا وأنه يكتسب الضوء من الشمس وهل هذا الاكتساب خاص بالقمر أم يشاركه فيه سائر الكواكب ففيه قولان لأرباب الهيئة : أحدهما أن الشمس وحدها هي المضيئة بذاتها وغيرها من الكواكب مستضيئة بضيائها على سبيل العرض كما عرف ذلك في القمر والقول الثاني أن القمر مخصوص بالكمودة دون سائر الكواكب وغيره من الكواكب مضيئة بذاتها كالشمس ورد هؤلاء على ارباب القول الأول بأن الكواكب لو استفادت أضواءها من الشمس لاختلف مقادير تلك الأضواء فيما كان تحت فلك الشمس منها بسبب القرب والبعد من الشمس كما في القمر فإنه يختلف ضوؤه بحسب قربه وبعده من الشمس
والذي حمل أرباب القول الأول عليه ما وجدوه من تعلق حركات الكواكب بحركات الشمس وظنوا أن ضوءها من ضيائها وليس الغرض استيفاء الحجاج من الجانبين وما لكل قول وعليه والمقصود ذكر سبب الخسوف القمرى ولما كانت الأرض جسما كثيفا فإذا أشرقت الشمس على جانب منها فإنه يقع لها ظل في الجهة الأخرى لأن كل ذي ظل يقع في الجهة المقابلة للجرم المضىء فمتى أشرقت عليها من ناحية الشرق وقعت أظلالها في ناحية الغرب وإذا وقعت عليها من ناحية الغرب مالت أظلالها إلى ناحية المشرق والأرض
أصغر من جرم الشمس بكثير فينبعث ظلها ويرتفع في الهواء على شكل مخروط قاعدته قريبة من تدوير الارض ثم لا يزال ينخرط تدويره حتى يدق ويتلاشى لأن قطر الشمس لما كان أعظم من قطر الأرض فالخطوط الشعاعية المارة من جوانب الشمس إلى جوانب الأرض تكون متلاقية لا متوازية فإذا مرت على الاستقامة إلى الأرض انقذفت على جوانبها فتلتقي لا محالة إلى نقطة فينحصر ظل الأرض في سطح مخروط فيكون مخروطا لا محالة قاعدته حيث ينبعث من الأرض ورأسه عند نقطة تلافي الخطوط ولو كان قطر الأرض مساويا لقطر الشمس لكانت الخطوط الشعاعية تخرج إليها على التوازي فيكون الظل متساوي الغلظ إلى أن ينتهي إلى محيط العالم ولو كان قطر الشمس أصغر من قطر الأرض لكانت الخطوط تخرج على التلاقي في جهة الشمس وأوسعها عند قطر الأرض ولكان الظل يزداد غلظا كلما بعد عن الأرض إلى أن ينتهي إلى محيط العالم ويلزم من ذلك أن ينخسف القمر في كل استقبال والوجود بخلافه ولما ثبت أن ظل الأرض مخروطي الشكل وقد وقع في الجهة المقابلة لجهة الشمس فيكون نقطة رأسه في سطح فلك البروج لا محالة ويدور بدوران الشمس مسامتا للنقطة المقابلة لموضع الشمس وهذا الظل الذي يكون فوق الأرض هو الليل فإن كانت الشمس فوق الأرض كان الظل تحت الرض بالنسبة إلينا ونحن في ضياء الشمس وذلك النهار والزمان الذي يوازي دوام الظل فوق الأرض هو زمان الليل فإذا اتفق مرور القمر على محاذاة نقطتى الرأس والذنب حالة الاستقبال يقع في مخروط الظل لا محالة لأن الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز الشمس ثم بمركز القمر من الجانب الآخر ينطبق على سهم مخروط الظل فيقع القمر في وسط المخروط فينخسف كله ضرورة لأن الأرض تمنعه من قبول ضياء الشمس فيبقي القمر على جوهرة الأصلى فإن كان للقمر عرض ينحرف عن سهم المخروط بقي الضوء فيه بقدره وطبعه وقد يقع كله في المخروط ولكن يمر في جانب منه وقد يقع بعضه في المخروط ويبقي بعضه خارجا وربما يماس مخروط الظل ولا يقع من جرمه شيء وإنما يختلف هذا باختلاف بعده من الخط الخارج من مركز العالم المار بمركز الشمس المطابق لسهم المخروط حتى إذا عظم عرضه بأن لا يبقى بينه وبين إحدى نقطتي الرأس والذنب أكثر من ثلاثة عشر دقيقة لا يماس المخروط أصلا وإذا وقع في جانب منه قل مكثه وربما لم يكن له مكث أصلا وإنما يعرف ذلك بتقديم معرفة قطر الظل وقطر يختلف باختلاف أبعاده عن الأرض وكذلك قطر الظل أيضا يختلف باختلاف أبعاد الشمس عن الأرض فإن الشمس متى قربت من الأرض كان ظل الأرض دقيقا قصيرا وإذا بعدت عنها كان ظل الأرض طويلا غليظا لأنها متى بعدت عن الأرض يرى قطرها أصغر وأقرب تلاقيا منها وكلما كان أعظم مقدارا في رأى
العين فالخطوط الشعاعية أقصر وأقرب تلاقيا فلذلك يختلف قطع القمر غلظ الظل في أوقات الكسوفات والموضع الذي يقطعة القمر من الظل يسمونه فلك الجوزهر وإذا عرف عرف قطر الظل وعرف مقدار قطر نصف القمر وجمع بينهما ونصف ذلك وعرف عرض القمر إن كان له عرض فإن كان العرض مساويا لنصف مجموع القطرين فإن القمر يماس دائرة الظل ولا ينكسف وإن كان العرض أقل من نصف مجموعهما فإنه ينكسف فينظر إن كان مساويا لنصف قطر الظل انكسف من القمر مثل نصف صفحته وإن كان العرض أقل من نصف قطر الظل فينتقص العرض من نصف قطر الظل فإن كان الباقي مثل قطر القمر انكسف كله ولا يكون له مكث وإذا لم يكن له عرض انكسف كله ويمكث زمانا أكثر وأطول ما يمتد زمان الكسوف القمري أربع ساعات وأما زمان لكسوف الشمسى فلا يزيد على ساعتين وكسوف القمر يختلف باختلاف أوضاع المساكن إذ الكسوف عارض في جهة وهو عبوره في ظلام ظل الأرض بخلاف كسوف الشمس وإنما يختلف الوقت فقط بأن يكون في بعض المساكن على مضى ساعة من الليل وفي بعضها على مضى نصف ساعة وقد يطلع منكسفا في بعض المساكن وينكسف بعد الطلوع في بعضها وقد لا يرى منكسفا أصلا إذا كانت الشمس فوق الأرض حالة الاستقبال ويرى الخسوف في القمر أبدا يكون من طرفه الشرقي إذ هو الذاهب إلى الاستقبال نحو للشرق والدخول في الظل بحركته ثم ينحرف قليلا قليلا إلى الشمال أو الجنوب في بدء انجلائه أيضا من طرفه الشرقي وأما في الشمس فبدء الكسوف من طرفها الغربي إذ الكاسف لها يأتي إليها من ناحية الغرب وكذلك الانجلاء أيضا من الطرف الغربي لكن بانحراف منه إلى الشمال والجنوب وإنما ذكرنا هذا الفصل ولم يكن من غرضنا لأن كثيرا من هؤلاء الأحكاميين يموهون على الجهال بأمر الكسوف ويؤهمونهم إن قضاياهم وأحكامهم النجومية من السعد والنحس والظفر والغلبة وغيرها هي من جنس الحكم بالكسوف فيصدق بذلك الأغمار والرعاع ولا يعلمون أن الكسوف يعلم بحساب سير النيرين في منازلهما وذلك أمر قد أجرى الله تعالى العادة المطردة به كما أجراها في الأبدار والسرار والهلال فمن علم ما ذكرناه في هذا الفصل علم وقت الكسوف ودوامه ومقداره وسببه
وأما انه يقتضي من التأثيرات في الخير والشر والسعد والنحس والإماتة والإحياء وكذا وكذا مما يحكم به المنجمون فقول على الله وعلى خلقه بما لا يعلمون نعم لا ننكر أن الله سبحانه يحدث عند الكسوفين من أفضيته وأقداره ما يكون بلاء لقوم ومصيبة لهم ويجعل الكسوف سببا لذلك ولهذا أمر النبي صلى الله عليه و سلم عند الكسوف بالفزع إلى ما ذكر الله والصلاة والعتاقة والصدقة والصيام لأن هذه الأشياء تدفع موجب الكسف الذي جعله الله سببا لما جعله فلولا انعقاد سبب التخويف لما أمر بدفع موجبه بهذه
العبادات ولله تعالى في أيام دهره أوقات يحدث فيها ما يشاء من البلاء والنعماء ويقضي من الأسباب بما يدفع موجب تلك الأسباب لمن قام به أو يقلله أو يخففه فمن فزع إلى تلك الأسباب أو بعضها اندفع عنه الشر الذى جعل الله الكسوف سببا له أو بعضه ولهذا قل ما يسلم أطراف الأرض حيث يخفي الإيمان وما جاءت به الرسل فيها من شر عظيم يحصل بسبب الكسوف وتسلم منه الأماكن التى يظهر فيها نور النبوة والقيام بما جاءت به الرسل أو يقل فيها جدا ولما كسفت الشمس على عهد النبى صلى الله عليه و سلم قام فزعا مسرعا يجز رداءه ونادى في الناس الصلاة جامعة وخطبهم بتلك الخطبة البليغة وأخبر أنه لم ير كيومه ذلك في الخير والشر وأمرهم عند حصول مثل تلك الحالة بالعتاقة والصدقة والصلاة والتوبة فصلوات الله وسلامه على أعلم الخلق بالله وبأمره وشأنه وتعريفه أمور مخلوقاته وتدبيره وأنصحهم للأمة ومن دعاهم إلى ما فيه سعادتهم في معاشهم ومعادهم ونهاهم عما فيه هلاكهم في معاشهم ومعادهم ولقد خفى ما جاءت به الرسل على طائفتين هلك بسببهما من شاء الله ونجا من شركهما من سبقت له العناية من الله إحدى الطائفتين وقفت مع ما شاهدته وعلمته من أمور هذه الأسباب والمسببات وإحالة الأمر عليها وظنت أنه ليس لها شىء فكفرت بما جاءت به الرسل وجحدت المبدأ والمعاد والتوحيد والنبوات وغيرها ما انتهى إليه علومها ووقفت عنده أقدامها من العلم بظاهر من المخلوقات وأحوالها وجاء ناس جهال رأوهم قد أصابوا في بعضها أو كثير منها فقالوا كل ما قاله هؤلاء فهو صواب لما ظهر لنا من صوابهم وانضاف إلى ذلك أن أولئك لما وقفوا على الصواب فيما أدتهم إليه أفكارهم من الرياضيات وبعض الطبيعيات وثقوا بعقولهم وفرحوا بما عندهم من العلم وظنوا أن سائر ما خدمته أفكارهم من العلم بالله وشأنه وعظمته هو كما أوقعهم عليه فكرهم وحكمه حكم ما شهد به الحس من الطبيعيات والرياضيات فتفاقم الشر وعظمت المصيبة وجحد الله وصفاته وخلقه للعالم وإعادته له وجحد كلامه ورسله ودينه ورأى كثير من هؤلاء انهم هم خواص النوع الإنساني وأهل الألباب وأن ماعداهم هم القشور وأن الرسل إنما قاموا بسياستهم لئلا يكونوا كالبهائم فهم بمنزلة قم المارستان وأما أهل العقول والرياضيات والأفكار فلا يحتاجون إلى الرسل بل هم يعلمون الرسل ما يصنعونه للدعوة الإنسانية كما تجد في كتبهم وينبغى للرسول أن يفعل كذا كذا والمقصود أن هؤلاء لما أوقفتهم أفكارهم على العلم بما خفى على كثير من اسرار المخلوقات وطبائعها وأسبابها ذهبوا بأفكارهم وعقولهم وتجاوزوا ما جاءت به الرسل وظنوا أن إصابتهم في الجميع سواء وصار المقلد لهم في كفرهم إذا خطر له إشكال على مذهبهم أودهمه ما لا حيلة له في دفعه من تناقضهم وفساد أصولهم يحسن الظن بهم ويقول لاشك أن علومهم مشتملة على حكمة
والجواب عنه إنما يعسر على إدراكه لأن من لم يحصل الرياضيات ولم يحكم المنطقيات وتمده علوم قد صقلتها أذهان الأولين وأحكمتها أفكار المتقدمين فالفاضل كل الفاضل من يفهم كلامهم
وأما الاعتراض عليهم وإبطال فاسد أصولهم فعندهم من المحال الذي لا يصدق به وهذا من خداع الشيطان وتلبيسه بغروره لهؤلاء الجهال مقلدى أهل الضلال كما ليس على أئمتهم وسلفهم بأن أوهمهم ان كل ما نالوه بأفكارهم فهو صواب كما ظهرت إصابتهم في الرياضيات وبعض الطبيعيات فركب من ضلال هؤلاء وجهل أتباعهم ما اشتدت به البلية وعظمت لأجله الرزية وضرب لآجله العالم وجحد ما جاءت به الرسل وكفر بالله وصفاته وأفعاله ولم يعلم هؤلاء أن الرجل يكون أماما في الحساب وهو أجهل خلق الله بالطب والهيئة والمنطق ويكون راسا في الطب ويكون من اجهل الخلق بالحساب والهيئة ويكون مقدما في الهندسة وليس له علم بشيء من قضايا الطب وهذه علوم متقاربة والعبد بينها وبين علوم الرسل التى جاءت بها عن الله أعظم من العبد بين بعضها وبعض فإذا كان الرجل إماما في هذه العلوم ولم يعلم بأي شيء جاءت به الرسل ولا تحلى بعلوم الإسلام فهو كالعامى بالنسبة إلى علومهم بل أبعد منه وهل يلزم من معرفة الرجل هيئة الأفلاك والطب والهندسة والحساب أن يكون عارفا بالآلهيات واحوال النفوس البشرية وصفاتها ومعادها وسعادتها وشقاوتها وهل هذا إلا بمنزلة من يظن أن الرجل إذا كان عالما بأحوال الأبنية وأوضاعها ووزن الأنهار والقنى والقنطرة كان عالما بالله وأسمائه وصفاته وما ينبغى له وما يستحيل عليه فعلوم هؤلاء بمنزلة هذه العلوم التى هي نتائج الأفكار والتجارب فما لها ولعلوم الأنبياء التى يتلقونها عن الله بوسائط الملائكة هذا وإن تعلق الرياضيات التى هي نظر في نوعى الكم المتصل والمنفصل والمنطقيات التى هى نظر في المعقولات الثانية ونسبة بعضها إلى بعض بالكلية والجزئية والسلب والإيجاب وغير ذلك بمعرفة رب العالمين وأسمائه وصفاته وأفعاله وأمره ونهيه وما جاءت به رسله وثوابه وعقابه ومن الخدع الإبليسية قول الجهال أن فهم هذه الأمور موقوف على فهم هذه القضايا العقلية وهذا هو عين الجهل والحمق وهو بمنزلة قول القائل لا يعرف حدوث الرمانة من لم يعرف عدد حباتها وكيفية تركيبها وطبعها ولا يعرف حدوث العين من لم يعرف عدد طبقاتها وتشريحها وما فيها من التركيب ولا يعرف حدوث هذا البيت من لم يعرف عدد لبناته وأخشابه وطبائعها ومقاديرها وغير ذلك من الكلام الذي يضحك منه كل عاقل وينادي على جهل قائله وحمته بل العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه لا يحتاج إلى شيء من ذلك ولا يتوقف عليه وآيات الله التى دعا عباده إلى النظر فيها دالة عليه بأول النظر دلالة يشترك فيها كل سليم العقل والحاسة واما أدلة هؤلاء فخيالات وهمية وشبه عسرة المدرك بعيدة التحصيل متناقضة الأصول غير
مؤدية إلى معرفة الله ورسله والتصديق بها مستلزمة للكفر بالله وجحد ما جاءت به رسله وهذا لا يصدق به إلا من عرف ما عند هؤلاء وعرف ما جاءت به الرسل ووازن بين الأمرين فحينئذ يظهر له التفاوت وأما من قلدهم وأحسن ظنه بهم ولم يعرف حقيقة ما جاءت به الرسل فليس هذا عشه بل هو في أودية هائم حيران ينقاد لكل حيران 0
يغدو من العلم في ثوبين من طمع ... معلمين بحرمان وخذلان
والطائفة الثانية رأت مقابلة هؤلاء برد كل ما قالوه من حق وباطل وظنوا ان من ضرورة تصديق الرسل رد ما علمه هؤلاء بالعقل الضرورى وعلموا مقدماته بالحس فنازعوهم فيه وتعرضوا لإبطاله بمقدمات جدلية لا تغنى من الحق شيئا وليتهم مع هذه الجناية العظيمة لم يضيفوا ذلك إلى الرسل بل زعموا إن الرسل جاؤا وبما يقولونه فساء ظن أولئك الملاحدة بالرسل وظنوا أنهم هم أعلم وأعرف منهم ومن حسن ظنه بالرسل قال أنهم لم يخف عليهم ما نقوله ولكن خاطبوهم بما تحتمله عقولم من الخطاب الجمهورى النافع للجمهور وأما الحقائق فكتموها عنهم والذي سلطهم على ذلك جحد هؤلاء لحقهم ومكابرتهم إياهم على ما لايمكن المكابرة عليه مما هو معلوم لهم بالضرورة كمكابرتهم إياهم في كون الأفلاك كروية الشكل والأرض كذلك وأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وأن الكسوف القمرى عبارة عن انمحاء ضوء القمر بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث انه يقتبس نوره منها والأرض كرة والسماء محيطة بها من الجوانب فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس كما قدمناه وكقولهم أن الكسوف الشمسى معناه وقوع جرم القمر بين الناظر وبين الشمس عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة وكقولهم بتأثير الأسباب المحسوسة في مسبباتها وإثبات القوى والطبائع والأفعال وانفعالات مما تقوم عليه الأدلة العقلية والبراهين اليقينية فيخوض هؤلاء معهم في إبطاله فيغريهم ذلك بكفرهم وإلحادهم والوصية لأصحابهم بالتمسك بما هم عليه فإذا قال لهم هؤلاء هذا الذى تذكرونه على خلاف الشرع والمصير إليه كفر وتكذيب الرسل لم يستريبوا في ذلك ولم يلحقهم فيه شك ولكنهم يستريبون بالشرع وتنقص مرتبة الرسل من قلوبهم وضرر الدين وما جاءت به الرسل بهؤلاء من أعظم الضرر وهو كضرره بأولئك الملاحدة فهما ضرران على الدين ضرر من يطعن فيه وضرر من بنضره بغير طريقة وقد قيل إن العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل فإن الصديق الجاهل يضرك من حيث يقدر أنه بنقعك والشأن كل الشأن أن تجعل العاقل صديقك ولا تجعله عدوك وتغريه بمحاربة الدين وأهله0 فإن قلت فقد أطلت في شأن الكسوف وأسبابه وجئت بما شئت به من البيان الذى لم يشهد له الشرع بالصحة ولم يشهد له بالبطلان بل جاء الشرع بما هو أهم منه وأجل فائدة من الأمر عند الكسوفين
بما يكون سببا لصلاح الأمة في معاشها ومعادها وأما أسباب الكسوف وحسابه والنظر في ذلك فإنه من العلم الذي لايضر الجهل به ولا ينفع نفع العلم بما جاءت به الرسل وبين علوم هؤلاء فكيف نصنع بالحديث الصحيح عن النبى صلى الله عليه و سلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة فكيف يلائم هذا ما قاله هؤلاء في الكسوف قيل وأى مناقضة بينهما وليس فيه إلا نفي تأثير الكسوف في الموت والحياة على أحد القولين أو نفي تأثير النيرين بموت أحد أو حياته على القول الآخر وليس فيه تعرض لإبطال حساب الكسوف وإلا الأخبار بأنه من الغيب الذى لا يعلمه إلا الله وأمر النبي صلى الله عليه و سلم عنده بما أمر به من العتاقة والصلاة والدعاء والصدقة كأمره بالصلوات عند الفجر والغروب والزوال مع تضمن ذلك دفع موجب الكسوف الذي جعله الله سبحانه سببا له فشرع النبي صلى الله عليه و سلم للأمة عند انعقاد هذا السبب ما هو أنفع لهم وأجدى عليهم في دنياهم وأخراهم من اشتغالهم بعلم الهيئة وشأن الكسوف وأسبابه فإن قيل فما تصنعون بالحديث الذي رواه ابن ماجه في سننه والإمام أحمد والنسائى من حديث النعمان بن بشير قال انكسفت الشمس على عهد النبى صلى الله عليه و سلم فخرج فزعا يجر ثوبه حتى أتي المسجد فلم يزل يصلى حتى انجلت ثم قال أن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء وليس كذلك أن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا تجلى الله لشىء من خلقه خشع له
قيل قد قال أبو حامد الغزالى ان هذه الزيادة لم يصح نقلها فيجب تكذيب قائلها وإنما المروى ما ذكرنا يعنى الحديث الذي ليست هذه الزيادة فيه قال ولو كان صحيحا لكان تأويله أهون من مكابرة أمور قطعية فكم من ظواهر أولت بالأدلة العقلية التى لا تتبين في الوضوح إلى هذا الحد وأعظم فانفرج به الملحدة ان يصرح ناصر الشرع بأن هذا وامثاله على خلاف الشرع فيسهل عليه طريق إبطال الشرع وإن كان شرطه أمثال ذلك وليس الأمر في هذه الزيادة كما قاله أبو حامد فأن اسنادها لا مطعن فيه قال ابن ماجه حدثنا محمد بن المثنى وأحمد بن ثابت وحميد بن الحسن قالوا حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا خالد الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير فذكره وهؤلاء كلهم ثقات حفاظ لكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف فقد رواها عن النبي صلى الله عليه و سلم بضعة عشر صحابيا عائشة أم المؤمنين وأسماء بنت أبي بكر وعلى بن أبي طالب وأبي بن كعب وأبو هريرة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله في حديثه وسمرة بن جندب وقبيصة الهلالى وعبد الرحمن بن سمرة فلم يذكر أحد منهم هذه اللفظة التى ذكرت في حديث النعمان بن بشير فمن ههنا نخاف أن تكون أدرجت في الحديث إدراجا
وليست من لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم على أن ههنا مسلكا بعيد المأخذ لطيف المنزع يتقبله العقل السليم والفطرة السليمة وهو أن كسوف الشمس والقمر وجب لهما من الخشوع والخضوع بانمحاء نورهما وانقطاعه عن هذا العالم ما يكون فيه سلطانهما وبهاؤهما وذلك يوجب لا محالة لهما من الخشوع والخضوع لرب العالمين وعظمته وجلاله وما يكون سببا لتجلى الرب تبارك وتعالى لهما ولا يستنكرون ان يكون تجلى الله سبحانه وتعالى لهما في وقت معين كما يدنو من أهل الموقف عشية عرفة وكما ينزل كل ليلة إلى سماء الدينا عند مضى نصف الليل فيحدث لهما ذلك التجلى خشوعا آخر ليس هو الكسوف ولم يقل النبى صلى الله عليه و سلم أن الله إذا تجلى لهما انكسفا ولكن اللفظة فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له ولفظ الإمام أحمد في الحديث إذا بدا الله لشىء من خلقه خشع له فهنا خشوعان خشوع أوجبه كسوفهما بذهاب ضوئهما وانمحائه فتجلى الله سبحانه لهما فحدث لهما عند تجليه تعالى خشوع آخر سبب التجلى كما حدث للجبل إذ تجلى تبارك وتعالى له ان صار دكا وساخ في الأرض وهذا غاية الخشوع لكن الرب تبارك وتعالى ثبتهما لتجليه عناية بخلقه لانتظام مصالحهم بهما ولو شاء سبحانه لثبت الجبل لتجليه كما ثبتهما ولكن أرى كليمه موسى أن الجبل العظيم لم يطق الثبات له فكيف تطيق أنت الثبات للرؤية التى سألتها 0
فصل وأما استدلاله بحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا ذكر القدر
فأمسكوا وإذا ذكر أصحابي فامسكوا وإذا ذكر النجوم فامسكوا فهذا الحديث لو ثبت لكان حجة عليه لا له إذ لو كان علم الأحكام النجومية حقا لا باطلا لم ينه عنه النبي صلى الله عليه و سلم ولا أمر بالإمساك عنه فإنه لا ينهى عن الكلام في الحق بل هذا يدل على أن الخائض فيه خائض فيما لا علم له به وانه لا ينبغى له أن يخوض فيه ويقول على الله مالا يعلم فأين في هذا الحديث ما يدل على صحة علم أحكام النجوم0 وأما أحاديث النهي عن السفر والقمر في العقرب فصحيح من كلام المنجمين وأما رسول رب العالمين فبرىء ممن نسب إليه هذا الحديث وامثاله ولكن إذا بعد الإنسان عن نور النبوة واشتدت غربته عما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم جوز عقله مثل هذا كما يجوز عقل المشركين يقول النبي صلى الله عليه و سلم لو حسن أحدكم ظنه بحجر نفعه وهذا ونحوه من كلام عباد الأصنام الذين حسنوا ظنهم بالأحجار فساقهم حسن ظنهم إلى دار البوار
وأما الرواية عن علي أنه نهى عن السفر والقمر في العقرب فمن الكذب على علي رضى الله عنه والمشهور عنه خلاف ذلك وعكسه وانه أراد الخروج لحرب الخوارج فاعترضه منجم فقال يا أمير المؤمنين لا تخرج فقال لأى شىء قال إن القمر في العقرب فإن خرجت أصبت وهزم عسكرك فقال علي رضى الله عنه ما كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم
ولا لأبي بكر ولا لعمر منجم بل أخرج ثقة بالله وتوكلا على الله وتكذيبا لقولك فما سافر بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم سفرة أبرك منها قتل الخوارج وكفي المسلمين شرهم ورجع مؤيدا منصورا فائزا ببشارة النبي صلى الله عليه و سلم لمن قتلهم حيث يقول شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه وفي لفظ طوبى لمن قتلهم وفي لفظ تقتلهم أولى الطائفتين بالحق وفي لفظ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وقال علي لأصحابه لولا ان تنكلوا لحدثتكم بما لكم عند الله في قتلهم فكان هذا الظفر ببركة خلاف ذلك المنجم وتكذيبه والثقة بالله رب النجوم والاعتماد عليه وهذه سنة الله فيمن لم يلتفت إلى النجوم ولا بني عليها حركاته وسكناته وأسفاره وإقامته كما أن سنته نكبة من كان منقادا لأربابها عاملا بما يحكمون له به وفي التجارب من هذا ما يكفى اللبيب المؤمن والله الموفق 0
فصل والذي أوجب للمنجمين كراهية السفر والقمر في العقرب انهم قالوا
السفر امر يراد لخير من الخيرات فإذا كان الوصول إلى ذلك الأمر أسرع كان أجود فينبغى على هذا أن يكون القمر في برج منقلب والعقرب برج ثابت والثوابت عندهم تدل على الأمور البطيئة قالوا وأيضا البرج للمريخ والمريخ عندهم نحس أكبر والنحس ينحس الحظوظ على أصحابها فينبغى أن يكون القمر في برج سعد لأن السعد ينفع والنحس يضر وأيضا فإن هذا البرج هو برج هبوط القمر وإذا كان الكوكب في هبوطه لا يلتئم لصاحبه ما يريده ويقصده بل يكون وبالا عليه لأن الكوكب الهابط عندهم كالمنكس وأيضا فإن القمر عندهم رب تاسع العقرب وإذا كان رب التاسع منحوسا فالسفر مكروه لأن التاسع منسوب إلى السفر وبالجملة فإن العقرب عندهم شر البروج والقمر على الإطلاق قالوا فلذلك ينبغى الحذر من السفر والقمر في العقرب قالوا فمن كره السفر إذا ذاك فانما يكرهه بعلمه وعقله وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه أعقل أهل زمانه واعلمهم فهو اولى بكراهته وليس ذلك مخصوصا عندهم بالسفر وحده بل يكرهون جميع الابتدا آت والاختيارات والقمر في العقرب ولما كان القمر اسرع الكواكب حركة فهو أولى أن يكون دليلا على الأمور المنقلبة والسفر أمر منقلب والعقرب برج ثابت غير منقلب والتجربة والواقع من أكبر شاهد على تكذيبهم في هذا الحكم فكم ممن سافر وتزوج وابتدأ واختار والقمر في العقرب وتم له مراده على أكمل ما كان يؤمله ولا يزال الناس ينشؤن الأسفار والابتدا آت والاختيارات في كل وقت والقمر في العقرب وغيره ويحمدون عواقب أسفارهم كما أنشأأمير المؤمنين علي رضى الله عنه سفر جهاده للخوارج والقمر في العقرب وأنشأ المعتصم سفر فتح عمورية وجهاد أعداء الله والقمر في العقرب وقد أجمع الكذابونانه إن خرج كسر عسكره وقتل أو أسر فبين الله للمسلمين كذبهم بذلك الفتح الجليل ولو استقصينا أمثال هذه الوقائع لطال الأمر جدا و من أراد أن يعلم كذبهم قطعا فليبتدىء سفرا أو اختيار او بناء او غيره والقمر في العقرب وليتوكل على الله وليسافر فإنه يرى ما يغبطه ويسره ومن أبين الكذب والبهت الكذب على الحس والواقع وهذا الذي كرهوه وحذروا منه لو كان الواقع شاهدا به لكان الناس لا يختارون ولا يسافرون ولا يبتدئون شيئا البتة والقمر في العقرب وكان عليهم بهذا وتجربتهم له معلوما بالضرورة فكيف والأمر بالعكس وأيضا فيقال قد يكون القمر في العقرب وتجامعه السعود وهما المشتري والزهرة مثلا ويكن رب بيت السفر وبيت الطالع وبيت السفر أيضا سعودات فهلا قلتم ان السفر حينئذ يكون صالحا لإجتماع هذه السعودات في البرج المنقلب واجتماعها يكسبها قوة بل قال قضاؤكم يكون القمر في العقرب مسعودا إن جامع السعود بل قالوا إن السعود ايضا تنتحس فيه فاذا حل السعود العقرب انتحست فيه ولذلك قلتم إن الشمس إذا حلت ضعفت فيه أيضا جدا وإن كان معه السعدان أعني المشتري والزهرة فلو قلب عليكم هذا الاستدلال وقيل إذا حلت السعود في هذا البرج قوي فعلها وتضافر بعضها مع بعض فقوى السعد باجتماعها ولم يقوى البرج على انحاسها وقوة زحل والمريخ النحسين على هذا البرج لا يستلزم إنحاس هذه السعود بل إن سعادتها تؤثر في نحسها كان من جنس قولكم ومن هنا قال أبو نصر الفارابي واعلم أنك لو قلبت أوضاع المنجمين فجعلت السعد نحسا والنحس سعدا والحار باردا وعكسه لكانت أحكامك من جنس أحكامهم تصيب وتخطىء
فصل وأما ما احتج به من الأثر عن علي أن رجلا أتاه فقال
إني أريد السفر وكان ذلك في محاق الشهر فقال أتريد أن يمحق الله تجارتك استقبل هلال الشهر بالخروج فهذا لا يعلم ثبوته عن علي والكذابون كثيرا ما ينفقون سلعهم الباطله بنسبتها إلى علي وأهل بيته كأصحاب القرعة والجفر والبطاقة والهفت والكميان والملاحم وغيرها فلا يدري ما كذب على أهل البيت إلا الله سبحانه ثم لو صح هذا عن علي رضي الله عنه لم يكن فيه تعرض لثبوت إحكام النجوم بوجه ولا ريب أن استقبال الأسفار والأفعال في أوائل النهار والشهر والعام لها مزية والنبي صلى الله عليه و سلم قد قال اللهم بارك لأمتي في بكورها وكان صخر الغامدي راوي الحديث إذا بعث تجارة له بعثها في أول النهار فأثرى وكثر ماله ونسبة أول النهار نسبة أول الشهر إليه وأول العام إليه فللأوائل مزية القوة وأول النهار والشمس بمنزلة شبابه وآخره بمنزلة شيخوخته وهذا أمر معلوم بالتجربة وحكمة الله تقتضيهوأما ما ذكره عن اليهودي الذي أخبر ابن عباس بما أخبره من موت
ابنه إلى تمام ذكر القصة فهذه الحكاية إن صحت فهى من جنس أخبار الكهان بشىء من المغيبات وقد أخبر ابن صياد النبي صلى الله عليه و سلم بما خبأ له في ضميره فقال له أنت من إخوان الكهان وعلم تقدمه المعرفة لا تختص يما ذكره المنجمون بل له عدة اسباب يصيب ويخطىء ويصدق الحكم معها ويكذب منها الكهانة ومنها المنامات ومنها الفأل والزجر ومنها السانح والبارح ومنها الكف ومنها ضرب الحصى ومنها الحظ في الأرض ومنها الكشوف المستندة إلى الرياضة ومنها الفراسة ومنها الجزاية ومنها علم الحروف وخواصها إلى غير ذلك من الأمور التى ينال يها جزء يسير من علم الكهان وهذا نظير الأسباب التى يستدل بها الطبيب والفلاح والطبائعى على أمور غيبية بما تقتضيه تلك الأدلة مثال الطبيب إذا رأى الجرح مستديرا حكم بأنه عسر البرء وإذا رآه مستطيلا حكم بأنه أسرع برءا وكذلك علامات البحارين وغيرها ومن تأمل ما ذكره بقراط في علائم الموت رأى العجائب وهى علامات صحيحة مجربة وكذلك ما علم به الربان في أمور تحدث في البحر والريح بعلامات تدل على ذلك من طلوع كوكب أو غروبه أو علامات أخرى فيقول يقطع مطر أو يحدث ريح كذا وكذا أو يضطرب البحر في مكان كذا ووقت كذا فيقع ما يحكم به وكذلك الفلاح يرى علامات فيقول هذه الشجرة يصيبها كذا وتيبس في وقت كذا وهذه الشجرة لا تحمل العام وهذه تحمل وهذا النبات يصيبه كذا وكذا لما يرى من علامات يختص هو بمعرفتها بل هذا أمر لا يختص بالإنسان بل كثير من الحيوان يعرف أوقات المطر والصحو والبرد وغيره كما ذكره الناس في كتب الحيوان والفرس الردىء الخلق إذا رأى اللجام من بعيد نفر وجزع وعض من يريد ان يلجمه علما منه بما يكون بعد اللجام وهذه النملة إذا خزنت الحب في بيوتها كسرته بنصفين علما منها بأنه ينبت إذا كان صحيحا وأنه إذا انكسر لا ينبت فإذا خزنت الكفرة كسرتها بأربعة أرباع علما منها بأنها تنبت إذا كسرت بنصفين وهذا السنور يدفن أذاه ويغطيه بالتراب علما منه بأن الفأر تهرب من رائحته فيفوته الصيد ويشمه أولا فإن وجد رائحته شديدة غطاه بحيث يوارى الرائحة والجرم وإلا اكتفى بأيسر التغطية وهذا الأسد إذا مشى في لين سحب ذنبه على آثار رجليه ليفطيها علما منه بأن المار يرى مواطىء رجليه ويديه وإذا ألف السنور المنزل منع غيره من السنانير الدخول إلى ذلك المنزل وحاربهم أشد محاربة وهم من جنسه علما منه بأن أربابه ربما استحسنوه وقدموه عليه أو شاركوا بينهما في المطعم وأن أخذ شيئا مما يجزيه أصحاب المنزل عنه هرب علما بما يكون إليه منهم من الضرب فإذا ضربوه تملقهم أشد التملق وتمسح بهم ولطع أقدامهم علما منه بما يحصله له الملق من العفو والإحسان وهذا في الحيوان البهيم أكثر من أن
نذكره فله من تقدمة المعرفة ما يليق به وللخيل والحمام من ذلك عجائب وكذلك الثعلب وغيره فعلم ان هذا أمر عام للانسان والحيوان أعطى من تقدمه المعرفة بحسبه وأسباب هذه التقدمة تختلف والأمم الذين لم يتقيدوا بالشرائع لهم اعتبار عظيم بهذا وكذلك من قل التفاته واعتناؤه بما جاءت به الرسل فإنه يشتد التفاته ويكثر نظره واعتناؤه بذلك وأما أتباع الرسل فقد أغناهم الله بما جاءت به الرسل من العلوم النافعة والأعمال الصالحة عن هذا كله فلا يعتنون به ولا يجعلونه من مطالبهم المهمة لأن ما يطلبونه أعلى وأجل من هذا ومع هذا فلهم منه أوفر نصيب بحسب متابعتهم الرسل من الفراسة الصادقة والمنامات الصالحة الصحيحة والكشوفات المطابقة وغيرها وهممهم لا تقف عند شىء من ذلك بل هى طامحة نحو كشف ما جاء به الرسل من الهدى ودين الحق في كل مسألة وهذا اعظم الكشوف وأجله وأنفعه في الدارين مع كشف عيوب النفس وآفات الأعمال واما الكشف الجزئي عما أكل فلان وعما أحدثه في داره وعما يجرى له في غده ونحو ذلك فهذا ممالا يعبا به من علت همته ولا يلتفت إليه ولا يعده شيئا على أنه مشترك بين المؤمن والكافر فلعباد الأصنام والمجوس والصابئة والفلاسفة والنصارى من ذلك شىء كثير وذلك لا ينفعهم عند الله ولا يخلصهم من عذابه وهؤلاء الكهان وعبيد الجن والسحرة لهم من ذلك أمور معروفة وهم أكفر الخلق فغاية هذا المنجم اليهودي الذي أخبر ابن عباس بما أخبره أن يكون واحدا من هؤلاء فكان ماذا وهل يقف عند هذا إلا الهمم الدنيئة السفلية التى لا نهضة لها إلى الله والدار الآخرة لما يرى لها بذلك من التميز عن الهمج الرعاع من بني آدم
فصل وأما احتجاجه بحديث أبي الدرداء لقد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم وتركنا
وما طائر يقلب جناحيه إلا وقد ذكرلنا منه علما فهذا حق وصدق وهو من أعظم الأدلة على إبطال قولكم وتكذيبكم فيما تدعونه من علم أحكام النجوم فإنه صلى الله عليه و سلم ذكرهم على كل شيء حتى الخرأة ذكرهم من علم كل طائر وكل حيوان وكل ما في هذا العالم ولم يذكرهم من علم أحكام النجوم شيئا البته وهو صلى الله عليه و سلم أجل من هذا وأعظم وقد صانه الله سبحانه عن ذلك وإنما الذى ذكركم بهذه الأحكام المشركون عباد الأصنام والكواكب مثل بطليموس وبنكلوسا وطمطم صاحب الدرج وهؤلاء مشركون عباد أصنام وكذلك أتباعهم أفلا يستحي رجل أن يذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم في هذا المقام نعم رسول الله صلى الله عليه و سلم ذكر أمته من تكذيبكم وكفركم ومعاداتكم والبراءة منكم والإخبار بأنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ما يعرفه من عرف ما جاء به من أمته والبهت والفرية والكذب على الله ورسوله0
هل كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أو أحد من أهل بيته مثبتا لأحكام النجوم
عاملا بها في حركاته وسكناته وأسفاره كما هو المعروف من المشركين وأتباعهم سبحانك هذا بهتان عظيم
وأما قوله أنه جاء في الآثار أن أول من أعطى هذا العلم آدم لأنه عاش حتى أدرك من ذريته أربعين ألف أهل بيت وتفرقوا عنه في الأرض فكان يغتم لخفاء خبرهم عليه فأكرمه الله تعالى بهذا العلم فكان إذا أراد أن يعرف حال أحدهم حسب له بهذا الحساب فيقف على حالته فليس هذا ببدع من بهت المنجمين والملاحدة وإفكهم وافترائهم على آدم وقد علموا بالمثل السائر هنا : إذا كذبت فابعد شاهدك 0
فصل وأما ما نسبه إلى الشافعى من حكمه بالنجوم على عمر ذلك المولود
فلقد نسب الشافعى إلى هذا العلم وحكمه فيه بأحكام ليعجز عن مثلها ائمة المنجمين وأظن الذى غره في ذلك أبو عبد الله الحاكم فإنه صنف في مناقب الشافعى كتابا كبيرا وذكر علومه في أبواب وقال الباب الرابع والعشرون في معرفته تسيير الكواكب من علم النجوم وذكر فيه حكايات عن الشافعى تدل على تصحيحه لأحكام النجوم وكان هذا الكتاب وقع للرازي فتصرف فيه وزاد ونقص وصنف مناقب الشافعى من هذا الكتاب على أن في كتاب الحاكم من الفوائد والآثار مالم يلم به الرازي والذي غر الحاكم من هذه الحكايات تساهله في إسنادها ونحن نبينها ونبين حالها ليتبين أن نسبة ذلك إلى الشافعى كذب عليه وان الصحيح عنه من ذلك ما كانت العرب تعرفه من علم المنازل والاهتداء بالنجوم في الطرقات وهذا هو الثابت الصحيح عنه بأصح إسناد إليه قال الحاكم حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الربيع بن سليمان قال قال الشافعى قال الله عز و جل هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وقال وعلامات وبالنجم هم يهتدون كانت العلامات جبالا يعرفون مواضعها من الأرض وشمسا وقمرا ونجما مما يعرفون من الفلك ورياحا يعرفون صفاتها في الهواء تدل على قصد البيت الحرام وأما الحكايات التى ذكرت عنه في أحكام النجوم فثلاث حكايات إحداها قال الحاكم قرىء على أبي يعلى حمزة بن محمد العلوى وأكثر ظنى أني حضرته حدثنا أبو اسحاق إبراهيم ابن محمد بن العباس الآزدى في آخرين قالوا حدثنا محمد بن أبي يعقوب الجوال الدينورى حدثنا عبد الله بن محمد البلوى حدثنى خالى عمارة بن زيد قال كنت صديقا لمحمد ابن الحسن فدخلت معه يوما على هرون الرشيد فساءله ثم أني سمعت محمد بن الحسن وهو يقول إن محمد بن أدريس يزعم أن للخلافة أهلا قال فاستشاط هرون من قوله غضبا ثم قال على به فلما مثل بين يديه أطرق ساعة ثم رفع رأسه إليه فقال إيها قال الشافعى ما إيها يا أمير المؤمنين أنت الداعى وأنا المدعو وأنت السائل وأنا المجيب فذكر حكاية طويلة سأله فيها عن العلوم ومعرفته بها إلى أن قال كيف علمك بالنجوم قال أعرف الفلك الدائر والنجم السائر والقطب الثابت والمائى والناري وما كانت العرب تسميه الأنواء ومنازل النيران والشمس والقمر والاستقامة والرجوع والنحوس والسعود وهيآتها وطبائعها وما استدل به من برى ويجري وأستدل في أوقات صلاتي وأعرف ما مضى من الأوقات في كل ممسي ومصبح وظعنى في أسفارى قال فكيف علمك بالطب قال اعرف ما قالت الروم مثل ارسطاطا ليس ومهراريس وفرفوريس وجالينوس وبقراط واسد فليس بلغاتهم وما نقل من أطباء العرب وفلاسفة الهند ونمقته علماء الفرس مثل حاماسف وشاهمرو وبهم ردويوز جمهر ثم ساق العلوم على هذا النحو في حكاية طويلة يعلم من له علم بالمنقولات أنها كذب مختلق وافك مفترى على الشافعى والبلاء فيها من عند محمد بن عبد الله البلوى هذا فإنه كذاب وضاع وهو الذي وضع رحلة الشافعى وذكر فيها مناظرته لأبي يوسف بحضرة الرشيد ولم ير الشافعى أبا يرسف ولا اجتمع به قط وإنما دخل بغداد بعد موته ثم إن في سياق الحكاية ما يدل من له عقل على انها كذب مفترى فإن الشافعى لم يعرف لغه هؤلاء اليونان البتة حتى يقول إني أعرف ما قالوه بلغاتهم وأيضا فإن هذه الحكاية أن محمد بن الحسن وشى بالشافعى إلى الرشيد وأراد قتله وتعظيم محمد الشافعى ومحبته له وتعظيم الشافعى له وثناؤه عليه هو المعروف وهو يدفع هذا الكذب وأيضا فإن الشافعى رحمه الله لم يكن يعرف علم الطب اليوناني بل كان عنده من طب العرب طرف حفظ عنه في منثور كلامه بعضه كنهيه عن أكل الباذنجان بالليل وأكل البيض المصلوق بالليل وكان يقول عجبا لمن يتعشى ببيض وينام كيف يعيش وكان يقول عجبا لمن يخرج من الحمام ولا يأكل كيف يعيش وكان يقول عجبا لمن يحتجم ثم يأكل كيف يعيش يعنى عقب الحجامة وكان يقول احذر أن تشرب لهؤلاء الأطباء دواء ولا تعرفه وكان يقول لا تسكن ببلدة ليس فيها عالم ينبئك عن دينك ولا طبيب ينبئك عن أمر بدنك وكان يقول لم أر شيئا انفع للوباء من البنفسج يدهن به ويشرب إلى امثال هذه الكلمات التى حفظت عنه فأما أنه كان يعلم طب اليونان والروم والهند والفرس بلغاتها فهذا بهت وكذب عليه قد أعاذة الله عن دعواه وبالجملة فمن له علم بالمنقولات لا يستريب في كذب هذه الحكاية عليه ولولا طولها لسقناها ليتبين اثر الصنعة والوضع عليها
وأما الحكاية الثانية فقال الحاكم أخبرنا أبو الوليد الفقيه قال حدثت عن الحسن بن سفيان عن حرملة قال كان الشافعى يديم النظر في كتب النجوم وكان له صديق وعنده وجارية قد حبلت فقال إنها تلد إلى سبعة
وعشرين يوما ويكون في فخذ الولد الأيسر خال أسود ويعيش أربعة وعشرين يوما ثم يموت به على النعت الذى وصف وانقضت
مدته فمات فأحرق الشافعى بعد ذلك تلك الكتب وما عاود النظر في شيء منها وهذا الإسناد رجاله ثقات لكن الشأن فيمن حدث أبا الوليد بهذه الحكاية عن الحسن بن سفيان أو فيمن حدث بها الحسن عن حزملة وهذه الحكاية لو صحت لوجب أن تثنى الخناصر على هذا العلم وتشد به الأيدى لا أن تحرق كتبه ويهان غاية الإهانة ويجعل طعمة للنار وهذا لا يفعل إلا بكتب المحال والباطل
ثم إنه ليس في العالم طالع للولادة يقتضى هذا كله كما سنذكره عن قريب إن شاء الله تعالى والطالع عند المنجمين طالعان طالع مسقط النطفة وهو الطالع الأصلى وهذا لا سبيل إلا العلم به إلا في أندر النادر الذي لا يقتضيه الوجود والثاني طالع الولادة وهم معترفون أنه لا يدل على أحوال الولد وجزئيات امره لأنه انتقال الولد من مكان إلى مكان وإنما أخذوه بدلا من الطالع الأصلى لما تعذر عليهم اعتباره وهذا الحكاية ليس فيها أخذ واحد من الطالعين لأن فيها الحكم على المولود قبل خروجه من غير اعتبار طالعه الأصلى والمنجم يقطع بأن الحكم على هذا الولد لا سبيل إليه وليس في صناعة النجوم ما يوجب الحكم عليه والحالة هذه وهذا يدل على أن هذه الحكاية كذب مختلق على الشافعى على هذا الوجه وكذلك الحكاية الثالثة وهي ما رواه الحاكم أيضا أنباني عبد الرحمن بن الحسن القاضى أن زكريا بن يحيى الساجى حدثهم أخبرني أحمد بن محمد بن بنت الشافعى قال سمعت أبي يقول كان الشافعى وهو حدث ينظر في النجوم وما نظر في شيء إلا فاق فيه فجلس يوما وامرأة تلد فحسب فقال تلد جارية عوراء على فرجها خال أسود وتموت إلى كذا وكذا فولدت فكان كما قال فجعل على نفسه ألا ينظر فيه أبدا وأمر هذه الحكاية كالتى قبلها فأن ابن بنت الشافعى لم يلق الشافعى ولا رآه والشأن فيمن حدثه بهذا عنه والذي عندى في هذا أن الناقل إن أحسن به الظن فإنه غلط على الشافعى والشافعى كان من أفرس الناس وكان قد قرأ كتب الفراسة وكانت له فيها اليد الطولى فحكم في هذه القضية وأمثالها بالفراسة فأصاب الحكم فظن الناقل أن الحاكم كان يستند إلى قضايا النجوم وأحكامها وقد برأ الله من هو دون الشافعى من ذلك الهذيان فكيف بمثل الشافعى رحمه الله في عقله وعلمه ومعرفته حتى يروج عليه هذيان المنجمين الذي لا يروج إلا على جاهل ضعيف العقل وتنزيه الشافعى رحمه الله عن هذا هو الذى ينبغى أن يكون من مناقبه فأما أن يذكر في مناقبه أنه كان منجما يرى القول بأحكام النجوم وتصحيحها فهذا فعل من يذم بما يظنه مدحا وإذا كان الشافعى شديد الإنكار على المتكلمين مزريا بهم وكان حكمه فيهم أن يضربوا بالحديد ويطاف بهم في القبائل فماذا رأيه في المنجمين وهو أجل وأعلم من ان يحكم بهذا الحكم على أهل الحق ومن قضاياهم في الصدق ينتهى إلى الحد الذى ذكر في هذه الكتابة فذكر عبد الرحمن بن أبي حاتم والحاكم وغيرهما عن الحميدى قال قال الشافعى خرجت
إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها ثم لما كان انصرافي مررت في طريقي برجل وهو محتب بفناء داره أزرق العين نأتيء الجبهة سفاط فقلت له هل من منزل قال نعم قال الشافعى وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة فأنزلنى فرأيت أكرم رجل بعث إلى بعشاء وطيب وعلف لدوابي وفراش ولحاف وجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب فلما أصبحت قلت للغلام أسرج فأسرج فركبت ومررت عليه وقلت له إذا قدمت مكة ومررت بذى طوى فاسأل عن منزل محمد بن إدريس الشافعى فقال لى الرجل أمولا لأبيك أنا قلت لا قال فهل كانت لك عندى نعمة قلت لا قال فأين ما تكلفت لك البارحة قلت وما هو قال اشتريت لك طعاما بدرهمين وأدما بكذا وعطرا بثلاثة دراهم وعلفا لدوابك بدرهمين وكرى والفراش واللحاف درهمان قال قلت يا غلام فهل بقى شيء قال كرى المنزل فأني وسعت عليك وضيقت على نفسى فغبطت نفسي بتلك الكتب فقلت له بعد ذلك هل بقى شيء قال امض أخزاك الله فما رأيت شرا منك
وقال الربيع اشتريت للشافعى طيبا بدينار فقال لى ممن اشتريته فقلت من ذلك الأشقر الأزرق فقال أشقر أزرق أذهب فرده وقال الربيع مر أخي في صحن الجامع فدعاني الشافعى فقال لى ياربيع أنظر إلى الذى يمشى هذا أخوك قلت نعم أصلحك الله قال اذهب ولم يكن رآه قبل ذلك
قال قتيبة بن سعيد رأيت محمد بن الحسن والشافعى قاعدين بفناء الكعبة فمر الرجل فقال أحدهما لصاحبه تعال نركز على هذا المار أى حرفة معه فقال أحدهما هذا خياط وقال الآخر هذا نجار فبعثا إليه فسألاه فقال كنت خياطا واليوم أنجر أو كنت نجارا واليوم أخيط
وقال الربيع سمعت الشافعى وقدم عليه رجل من أهل صنعاء فلما رآه قال له من أهل صنعاء قال نعم قال فحداد أنت قال نعم
وقال كنت عند الشافعى إذ أتاه رجل فقال له الشافعى أنساج أنت قال عندى أجراء وقال كنا عند الشافعى إذا مر به رجل فقال الشافعى لا يخلو هذا أن يكون حائكا أو نجارا قال فدعوناه فقال ما صنعتك فقال نجار فقلنا أو غير ذلك قال عندى غلمان يعملون الثياب
وقال حرملة سمعت الشافعى يقول احذروا من كل ذى عاهة في بدنه فإنه شيطان قال حرملة قلت من أولئك قال الأعرج والأحوال والأشل وغيره
وقال اشتهى الشافعى يوما عنبا أبيض فأمرني فاشتريت له منه بدرهم فلما رآه استجاده فقال لى يا أبا محمد ممن أشتريت هذا فسميت له البائع فنحى الطبق من بين يديه وقال لى رده عليه واشترى لى من غيره فقلت له وما شأنه فقال ألم أنهك أن تصحب الأزرق والأشقر فإنه لا ينجب فكيف آكل من شيء اشتريته لى ممن أنهى عن صحبته قال الربيع فرددت العنب على البائع واعتذرت إليه بكلام واشتريت له عنبا من غيره
وقال حرملة سمعت الشافعى يقول احذروا
الأعور والأحول والأعرج والأحدب والأشقر والكوسج وكل من به عاهة في بدنه وكل ناقص الخلق فاحذروه فإنه صاحب لؤم ومعاملته مره وقال مرة أخرى فإنهم أصحاب خب
وقال الربيع دخلنا على الشافعى عند وفاته أنا والبويطى والمزني ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم قال فنظر إلينا الشافعى ساعة فأطال ثم التفت فقال أما أنت يا أبا يعقوب فستموت في حديد يعنى البويطى وأما أنت يا مزني فسيكون لك بمصر هنات وهنات ولتدركن زمانا تكون أقيس أهل ذلك الزمان وأما انت يا محمد فسترجع إلى مذهب أبيك وأما أنت يا ربيع فأنت أنفعهم لى في نشر الكتب قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة قال الربيع فكان كما قال
وقال الربيع ما رأيت أفطن من الشافعى لقد سمى رجالا ممن يصحبه فوصف كل واحد منهم بصفة ما أخطأ فيها فذكر المزني والبويطى وفلانا فقال ليفعلن فلان كذا وفلان كذا وليصحبن فلان السلطان وليقلدن القضاء وقال لهم يوما وقد اجتمعوا ما فيكم أنفع من هذا وأوما إلى لأنه أمثلكم بأخيه وذكر صفاتا غير هذه قال فلما مات الشافعى صار كل منهم إلى ما ذكر فيه ما أخطأ في شيء من ذلك
وقال حرملة لما وقع الشافعى في الموت خرجنا من عنده فقلت لأبي يا أبه كل فراسة كانت للشافعى أخذناها يدا بيد إلا قوله يقتلنى أشقر وها هو في السياق فوافينا عبد الله بن عبد الحكم ويوسف ابن عمرو فقلنا إلى أين قالا إلى الشافعى فما بلغنا المنزل حتى أدركنا الصراخ عليه قلنا مه مالكم قالوا مات الشافعى فقال أبي من غمضه قالوا يوسف بن عمرو وكان أزرق وهذه الآثار وغيرها ذكرها ابن أبي حاتم والحاكم في مصنفيهما في مناقب الشافعى وهي اللائقة بجلالته ومنصبه لا ما باعده الله منه من أكاذيب المنجمين وهذياناتهم والله أعلم وأما ما احتج به من أن فرعون كان يذبح أبناء بنى أسرائيل ويستحي نساءهم لأن المفسرين قالوا كان ذلك بأن المنجمين أخبروه بأنه سيجىء بنى إسرائيل مولود يكون هلاكه على يديه فأكثر المفسرين إنما أحالوا ذلك على خبر الكهان وروى بعضهم أن قومه أخبروه بأن بنى أسرائيل يزعمون أنه يولد منهم مولود يكون هلاكك على يديه وهاتان الروايتان هما الدائران في كتب المفسرين وأما هذه الرواية أن المنجمين قالوا له ذلك فغايتها أنها من أخبار أهل الكتاب وقد خالفها غيرها من الروايات فكيف يسوغ التمسك بها في الأمر العظيم وفي أخبار الكهان ما هو أعجب من ذلك فقد أخبروا بظهور خاتم الرسل محمد صلى الله عليه و سلم قبل ظهوره وذلك موجود في دلائل النبوة ونحن لا ننكر علم تقدمة المعرفة بأسباب مفضية إليه تختلف قوى الناس في ادراكها وتحصلها وإنما كلامنا معكم في أصول علم الأحكام وبيان فسادها وكذب أكثر الأحكام التى يسندونها إليها وبيان أن ضرر هذا العلم لو كان حقا أعظم من نفعة في
الدنيا والآخرة وأن أهله لهم أوفر نصيب من قوله إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدينا وكذلك نجزى المفترين وأهل هذا العلم أذل أذل الناس في الدنيا لا يمكن أحدا منهم أن يأكل رزقه بهذا العلم إلا بأعظم ذل وعزيزهم لابد أن يتعبد وينضوى إلى مكاس أو ديوان أو وال يكون تحت ظله وفي كنفه وسائرهم على الطرقات وفي كسر الحوانيت مدسسين صيدهم كل ناقص العقل والإيمان والدين من صبى أو امرأة أو حمار في سلاح آدمى أو ذباب طمع لو لاح له في عبادة الأصنام والشمس والقمر والنجوم لكان أول العابدين ورأس مالهم الكذب والزرق وأخذ أحوال السائل منه ومن فلتات لسانه وهيئته وإعراضه فيخبرونه بما يناسب ذلك من الأحوال فينفعل عقله لهم ويقول لقد أعطى هؤلاء عطاء لم يعطه غيرهم وتراهم في الغالب يقصد أحدهم قرية أو دكانا منزويا عن الطريق ويصلي فيه للصيد وينصب الشرك فإذا لاح له بدوى أو حيشى أو تركماني فإنه يتبرك بطلعته ويقول اجلس حتى أبين لك ما يقتضيه نجمك وطالعك وبيت مالك وبيت فراشك وبيت أفراحك وهمومك وكم بقى عليك من القطع نعم ما اسمك واسم أمك وأبيك فإذا قال له اسمه واسم أبويه أخرج له الاصطرلاب أو الكرة النحاس وقال كيف قلت اسمك فإذا أخبره ثانية قال وكيف قلت اسم الوالدة طول الله عمرها فإذا قال درجت إلى رحمة الله تعالى قال مامات من خلف مثلك ثم يحسب ويقول فلانة تسعة وتزيد عليها تسعة تسقط منها خمسة يبقى منها أربعة أقعد واسمع يا أخي إني أرى عليك حججا مكتوبة ووثائق ولا بد لك من الوقوف بين يدى ولى أمر إما حاكم واما وال وأرى دما خارجا عنك ما أنت من أهله وأرى ناسا قد اجتمعوا حولك وإن كان شكل ذلك الرجل شكل من هو من أرباب التهم قال وأرى خشبا ينصب ومسامير تضرب وجنايات تؤخذ نعم يا أخي برجك بالأسد وهو نارى مذكر أخذت منه نطاح مقدام بطل نجمك الزهرة أنت قليل البخت عند الناس مكفور الإحسان مقصود بالأذى قل أن صاحبت أحدا فأثمرت لك صحبته خيرا نعم يا أخي أسعد أيامك يوم الجمعة وخير كسبك كد يدك اعلم أنه لابد لك من أسفار وغربة وركوب أهوال واقتحام اخطار وأمور عظام أبينها لك إن شاء الله هات لا تبخل على نفسك حط يدك في جيبك حل الكيس ولا يزال يلكزه ويجذبه ويطمعه حتى يستخرج ما تسمح به نفسه فإن رأى منه تباطيا قال عجل قبل خروج هذه الساعة السعيدة فإنها ساعة مباركة أما سمعت قول نبيك يسروا ولا تعسروا فإذا حاز ما أخذه قال له زدني فإن أمورك كثيرة ويحتاج إلى تعب وفكر وحساب طويل فإذا تم له ما يأخذه منه بقى هو من جوا فكال له من جراب الكذب ما أمكنه ولا يبالى أكذبه أم صدقه ثم يقول له أخي
برجك الأسد وهو سهم العداوة والحسد وما عاداك أحد قط وأفلح بل يظفرك الله به وينصرك عليه نعم وهو برج ناري والنار من النور والنور فيه البهجة والسرور ابشر فأنت طويل العمر لا تموت في هذا الوقت عمرك من الستين إلى السبعين إلى الثمانين إلى التسعين بيت كسبك كذا وكذا وأرى حاجة مهمة قد خرجت عن يدك نعم بغير مرادك وأنت في غالب أحوالك الخارج عن يدك أكثر من الداخل فيها بالله صدقت أم لا فيقول والله صحيح والأمر كما قلت ولكن أحمد الله كلما بقي عليك من القطع أربعة أشهر وعشرة أيام وتخرج من نحسك وتدخل في برج سعادتك وتنجو ويخلف الله عليك بالخيرات والبركات ولا بد لك الساعة من رزق يأتيك الله به ويفرح به أهلك وعيلتك وتصلح حالك ويستقيم سعدك
الثالث يا أخي من برجك الميزان وهو بيت الإخوان سعدك يا أخي منهم منقوص وحظك منهم منحوس غالب من أوليته منهم خيرا جازاك بالشر وغالب من قلت فيه الخير منهم يقول فيك الشر بالله أما الأمر هكذا وذلك يا أخي أنك خفيف الدم كل من رآك مال إليك وأنس بك وأنت محسود تحسد في مالك وفي عافيتك وفي أهلك وأولادك وكل ما تعمله بيدك ولكن العين لا تؤثر فيك لأن كل من برجه الأسد لا بد أن يكون له في رأسه أو جسده علامة مثل شجة أو ضربة بين أكتافه أو في ساقه وما هو بعيد أن في جسدك شامة أو في جسمك ثلمة وهذا هو الذي يدفع عنك العين وأنت لا تدري
الرابع من بروجك العقرب وهو بيت الآباء أراك كنت قليل السعد بين أبويك ومع هذا فكان أكثر ميلهم وإشفاقهم مع غيرك هم عليك وكان حظك منهم ناقصا ولهم تطلع إلى كدك وكسبك
الخامس من بروجك القوس وهو بيت البنين أراك قليلا ما يعيش لك أولاد تدفنهم كلهم ثم تموت أنت بعدهم بل سوف يكون لك ولد يشد الله به عضدك ويقوي أمرك وتنال من جهته راحة وخيرا وربما تكون سعادتك على يديه
السادس من بروجك الجدي وهو برج أمراضك وأعلالك يا أخي أمراضك وأسقامك كثيرة وأكثرها في رأسك وربما يكون في أجنابك وهي أمراض قوية طوال الله يعافينا وإياك وكنت في صغرك لا ترقد في السرير إلا بعد جهد جهيد وعهدي بك الآن لا ترقد في فراشك إلا بعد شدة نعم وأكثر أمراضك في الصيف والخريف
السابع من بروجك الدلو وهو بيت الفراش وأرى فراشك خاليا أثم زوجة فإن قال نعم قال لا بد لك من فراقها عن قريب إما بموت وإما بطلاق فإن المريخ منك في بيت الفراش وإن قال لا قال عجيب والله لقد ابصرت في الطبائع أن فراشك فارغ وأرى روحا ناظرة إليك بعين الألفة والمحبة خطورك وخطوره عليك وأرى لك من قبله منفعة ولك به اتصال وفرح أبين لك على أي سبب يكون اجتماعكما نعم فإن قال له نعم قال هات
فإن الذي أعطيتني قليل فاذا أخذ منه قال اعلم أنه لا بد لك من الاتصال بهذا الشخص على كل حال إلا أني ارى قد عمل لك عمل وعقد لك عقد وأنت في هم وغم من ذلك فان شئت عملت لك كتابا نافعا يكون لك حرزا من كل ما تخافه وتحذره ولا يزال يفتل له في الذروة والقرب حتى يستكتبه الحرز وكذب هذه الطائفة وجهلها وزرقها يعني شهرته عند الخاصة والعامة عن تكليف إرادة وكلما كان المنجم أكذب وبالزرق أعرف كان على الجهال أروج
فصل وأما قوله إن هذا علم ما خلت عنه ملة من الملل ولا
أمة من الأمم ولا يعرف تاريخ من التواريخ القديمة والحديثة إلا وكان أهل ذلك الزمان مشتغلين بهذا العلم ومعولين عليه في معرفة المصالح ولو كان هذا العلم فاسدا بالكلية لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب عليه فانظر ما في هذا الكلام من الكذب والبهت والافتراء على العالم من أول بنائه إلى آخره فإن آدم وأولاده كانوا برآء من ذلك وائمتكم معترفون بأن أول من عرف منه الكلام في هذا العلم وتلقيت عنه أصوله وأوضاعه هو إدريس النبي عليه السلام وكان بعد بناء هذا العالم بزمن طويل هذا لو ثبت ذلك عن إدريس فكيف وهو من الكذب الذي ليس مع صاحبه إلا مجرد القول بلا علم والكذب على رسول الله عليه وسلم أو ليس من الفرية والبهت أن ينسب هذا العلم إلى أمة موسى في زمنه ويعدوه بأنهم كانوا معولهم في مصالحهم على هذا العلم وكذلك أمه عيسى وأمة يونس والذين كانوا مع نوح ونجوا معه في السفينة وحسبك بهذا الكذب والافتراء على تلك الأمة المضبوط أمرها المحفوظ فعلها فهل كان النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه يعولون على هذا العلم ويعتمدون عليه في مصالحهم أو قرن التابعين يفعله او قرن تابعى التابعين وهذه هى خيار قرون العالم على الإطلاق كما أن هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس وهم اعلم الأمم واعرفها وأكثر كتبا وتصانيف وأعلاها شأنا وأكملها في كل خير ورشد وصلاح كما ثبت في المنسد وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله فهل رأيت خيار قرون هذه الأمة والموفقين من خلفائها وملوكها وساداتها وكبرائها معولين على هذا العلم أو معتمدين عليه في مصالحهم وهذه سيرهم ما بعهدها من قدم ولا يتأتي الكذب عليهم هذا وقد أعطوا من التأييد والنصر والظفر بعدوهم والاستيلاء على ممالك العالم مالم يظفر به أحد من المعولين على أحكام النجوم بل لا تجد المنجمين الا ذمة لهم لولا اعتصامهم بحبل منهم لقطعت حبال أعناقهم ولا تجد المعولين على هذا العلم إلا مخصوصين بالخذلان والحرمان وهذا لأنهم حق عليهم قوله تعالى إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحيوة الدنيا وكذلك تجزي المفترين قال أبو قلابة هي لكل مفتر من هذا لأممة إلى يوم القيامة نعم لا ننكر أن هذا العلم له طلبة مشغولون بهمعتنون بأمره وهذا لا يدل على صحته فهذا السحر لم يزل في العالم من يشتغل به ويتطلبه أعظم من اشتغاله بالنجوم وطلبه لها بكثير وتأثيره في الناس ممالا ينكر أفكان هذا دليلا على صحته وهذه الأصنام لم تزل تعبد في الأرض من قبل نوح وإلى الآن ولها الهياكل المبنية والسدنة ولها الجيوش التى تقاتل عنها وتحارب لها وتختار القتل والسبي وعقوبة الله تعالى ولا تنتهى عنها أفيدل هذا على صحة عباداتها وإن عبادها على الحق ومن العجب قوله لو كان هذا العلم فاسدا لاستحال أطباق أهل المشرق والمغرب من أول بناء العالم إلى آخره عليه وليس في الفرية أبلغ من هذا ولا في البهتان أترى هذا الرجل ما وقف على تأليف لأحد من أهل المشرق والمغرب في إبطال هذا العلم والرد على أهله فقد رأينا نحن وغيرنا ما يزيد على مائة مصنف في الرد على أهله وإبطال أقوالهم وهذه كتبهم بأيدي الناس وكثير منها للفلاسفة الذين يعظمهم هؤلاء ويرون أنهم خلاصة العالم كالفارابي وابن سينا وأبي البركات الأوحد وغيرهم وقد حكينا كلامهم وأما الردود في ضمن الكتب حين يرد على أهل المقالات فأكثر من أن تذكر ولعلها أن تزيد على عدة الألف تجد في كل كتاب منها الرد على هؤلاء وإبطال مذهبهم ونسبتهم إلى الكذب والزرق ولو أن مقابلا قابله وقال لو كان هذا العلم صحيحا لاستحال إطباق أهل المشرق والمغرب على رده وأبطاله لكان قوله من جنس قوله ولكن أهل المشرق فيهم هذا وهذا كما يشهد به الحس والتواريخ القديمة والحديثة ولقد رأينا من الردود القديمة قبل قيام الإسلام على هؤلاء ما يدل على أن العقلاء لم يزالوا يشهدون عليهم بالجهل وفساد المذهب وينسبونهم إلى الدعاوى الكاذبة والآراء الباطلة التى ليس مع أصحابها إلا القول بلا علم 0
فصل وأما ما ذكره في أمر الطالع عن الفرس وأنهم كانوا يعتنون بطالع
مسقط النطفة وهو طالع الأصل ثم يحكم بموجبه حتى يحكم بعدد الساعات التى يمكثها الولد في بطن أمه فهذا من الكذب والبهت ومن أراد أن يختبر كذبه فليجربه فإن تجربة مثل هذا ليست بمشقة ولا عسرة ثم إن هذا الواطىء لا علم له ولا لأحد أن الولد إنما يخلق من أول وطئه الذي أنزل فيه دون ما بعده وإن فرض أنه أمسك عن وطئها بعد المرة الأولى وحبسها بحيث يتيقن أن غيره لم يقربها وهذا في غاية الندرة لم يمكن المنجم أن يعلم أحوال ذلك المولود ولا تفاصيل أمره البتة ومدعى ذلك مجاهر بالكذب والبهت وقد اعترف القوم بأن طالع الولادة مستعار لا يفيد شيئا لأن الولد لا يحدث في ذلك الوقت وإنما ينتقل من مكان إلى مكان وقد اعترفوا بأن ضبطه متعسر جدا بل متعذر فإن في اللحظة الواحدة من اللحظات تتغير نصبة الفلك تغيرا لا يضبط ولا يحصيه إلا الله ولا ريب أن الطالع يتغير بذلك تغيرا عظيما لا يمكن ضبطه وقد اعترفوا هم بهذا وأن سبب هذا التفاوت يحيل أحكامهم واعترفوا بأنه لا سبيل إلى الاحتراز من ذلك فأى وثوق لعاقل بهذا العلم بعد هذا كله وقد بينا أن غاية هذا لوصح وسلم من الخلل جميعه ولا سبيل إليه لكان جزء السبب والعلة والحكم لا يضاف إلى جزء سببه ثم لو كان سببا تاما فصوارفه وموانعه لا تدخل تحت الضبط البتة والحكم إنما يضاف إلى وجود سببه التام وانتقاء مانعه وهذه الأسباب والموانع مما لاتدخل تحت حصر ولا ضبط إلا لمن أحصى كل شيء عددا وأحاط بكل شيء علما لا إله هو علام الغيوب فلو ساعدناهم على صحة أصول هذا العالم وقواعده لكانت أحكامهم باطلة وهي أحكام بلا علم لما ذكرناه من تعذر الإحاطة بمجموع الأسباب وانتفاء الموانع ولهذا كثيرا ما يجمعون على حكم من أحكامهم الكاذبه فيقع الأمر بخلافه كما تقدم
وأما تلك الحكايات المتضمنة لإصابتهم في بعض الأحوال فليسبب بأكثر من الحكايات عن أصحاب الكشف والفأل وزجر والطائر والضرب بالحصى والطرق والعيافة والكهانة والخط والحدس وغيرها من علوم الجاهلية وأعنى بالجاهلية كل من ليس من أتباع الرسل كالفلاسفة والمنجمين والكهان وجاهلية العرب الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه و سلم فأن هذه كانت علوما لقوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل ومن هؤلاء من يزعم أنه يأخذ من الحروف علم المكان ولهم في ذلك تصانيف وكتب حتى يقولون إذا أردت معرفة ما في رؤيا السائل من خير أو شر فخذ أول حرف من كلامه الذي يكلمك به وفسر رؤياه على معنى ذلك الحرف فإن كان أول ما نطق به باء فرؤياه لأن الباء من البهاء من الخير ألا تراها في البر والبركة وبلوغ الآمال والبقاء والبشارة والبيان والبخت فإذا كان أول حرف من كلامه باء فاعلم أنه قد عاين ما أبهاه وبشره من الخيرات وإن كان أول كلامه تاء فقد بشر بالتمام والكمال وإن كان ثاء فبشره بالأثاث والمتاع لقوله تعالى هم أحسن أثاثا ورئيا ثم قالوا فعليك بهذه الأحرف الثلاثة فليس شيء يخلو منها ويجاوزها وإذا تأملت جهل هؤلاء رايته شديدا فكيف حكموا على الباء بالبهاء والبركة دون البأس والبغى والبين والبلاء والبوار والبعد وكيف حكموا على الثاء بالأثاث دون الثقل والثقل والشلب ونحوه وكذلك استدلاله بأول ما يقع بصره عليه كما حكى عن أبي معشر أنه وقف هو وصاحب له على واحد من هؤلاء وكانا سائرين في خلاص محبوس فسألاه فقال أنتما في طلب خلاص مسجون فعجبا من ذلك فقال له أبو معشر هل يخلص أم لا فقالا تذهبان تلتقيانه قد خلص فوجدا الأمر كما قال فاستدعاه أبو معشر وأكرمه وتلطف له في السؤال عن كيفية علم ذلك فقال نحن نأخذ الفأل بالعين والنظر فينظر أحدنا إلى الأرض ثم يرفع رأسه فأول شيء يقع نظره عليه يكون الحكم به فلما سألتماني كان أول ما رأيت ماء في قربة فقلت
هذا محبوس ثم لما سألتماني في الثانية نظرت فإذا هو أفرغ من القربة فقلت يخلص ويصيب تارة ويخطىء تارة
ومن هذا أخذ بعضهم الجواب عن التفاؤل بالأيام فإذا رأى أحد رؤيا مثلا يوم أحد أو ابتدأ فيه امرا قال حدة وقوة وإن كان يوم الجمعة قال اجتماع والفة وإن كان يوم سبت قال قطع وفرقة
ومن هذا استدلال المسئول بالمكان الذي يضع السائل يده عليه من جسده وقت السؤال فإن وضع يده على رأسه فهو رئيسه وكبيره والرجلين قوامه والأنف بناء مرتفع أو تل أو نحوه والفم بئر عذبة اللحية أشجار وزروع وعلى هذا النحو من ذلك ما حكى عن المهدى أنه رأى رؤيا وأنسيها فأصبح مغتما بها فدل على رجل كان يعرف الزجر والفأل وكان حاذقا به واسمه خويلد فلما دخل عليه أخبره بالذي أراده له فقال له يا أمير المؤمنين صاحب الزجر والفأل ينظر إلى الحركة وأخطار الناس فغضب المهدي وقال سبحان الله أحدكم يذكر بعلم ولا يدري ما هو ومسح يده على رأسه ووجهه وضرب بها على فخذه فقال له أخبرك برؤياك يا أمير المؤمنين قال هات قال رأيت كأنك صعدت جبلا فقال المهدي لله ابوك يا سحار صدقت قال ما أنا بساحر يا أمير المؤمنين غير أنك مسحت بيدك على رأسك فزجرت لك وعلمت أن الرأس ليس فوقه أحد إلا السماء فأولته بالجبل ثم نزلت بيدك إلى جبهتك فزجرت لك بنزولك إلى أرض ملساء فيها عينان مالحتان ثم انحدرت إلى سفح الجبل فلقيت رجلا من فخذك قريش لأن أمير المؤمنين مسح بعد ذلك بيده على فخذه فعلمت أن الرجل الذي لقيه من قرابته قال صدقت وأمر له بمال وأمر أن لا يحجب عنه
ومن ذلك هؤلاء أصحاب الطير السانح والبارح والقعيد والناطح وأصل هذا أنهم كانوا يزجرون الطير والوحش ويثيرونها فما تيامن منها وأخذ ذات اليمين سموه سانحا وما تياسر منها سموه بارحا وما استقبلهم منها فهو الناطح وما جاءهم من خلفهم سموه القعيد فمن العرب من يتشاءم بالبارح ويتبرك بالسانح ومنهم من يرى خلاف ذلك قال المدائني سألت رؤبة بن العجاج ما السانح قال ما ولاك ميامنه قال قلت فما البارح قال ما ولاك مياسره قال والذي يجيء من قدامك فهو الناطح والنطيح والذي يجىء من خلفك فهو القاعد والقعيد وقال المفضل الضبي البارح ما يأتيك عن اليمين يريد يسارك والسانح ما يأتيك عن اليسار فيمر على اليمين وإنما اختلفوا في مراتبها ومذاهبها لأنها خواطر وحدوس وتخمينات لا أصل لها فمن تبرك بشيء مدحه ومن تشاءم به ذمه ومن اشتهر بإحسان الزجر عندهم ووجوهه حتى قصده الناس بالسؤال عن حوادثهم وما أملوه من أعمالهم سموه عائفا وعرافا وقد كان في العرب جماعة يعرفون بذلك كعراف اليمامة والأبلق الأسيدى والأجلح وعروة بن يزيد وغيرهم فكانوا يحكمون بذلك ويعملون به ويتقدمون ويتأخرون في جميع ما يتقلبون فيه ويتصرفون في حال الأمن والخوف والسعة والضيق والحرب والسلم فان أنجحوا
فيما يتفاءلون به مدحوه وداوموا عليه وإن عطبوا فيه تركوه وذموه ومنهم من أنكرها بعقله وأبطل تأثيرها بنظره وذم من اغتربها واعتمد عليها وتوهم تأثيرها فمنهم الرقشى حيث يقول :
ولقد غدوت وكنت لا ... أغدو عل واق وحاتم
فإذا الاشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شر على أحد بدائم
لا يمنعنك من بغا ... ء الخير تعقاد التمائم
قد خط ذلك في السطو ... ر الأوليات القدائم
وقال جهم الهذلي :
ألم تر أن العائفين وإن جرت ... لك الطير عما في غذ عميان
يظنان ظنا مرة يخطيانه ... وأخرى على بعض الذي يصفان
قضى الله أن لا يعلم الغيب غيره ... ففي أي أمر الله يمتريان
وقال آخر :
وما أنا ممن يزجر الطير همه ... أطار غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمر سليم القرن أم مر أعضب
وقال آخر يمدح منكرها :
وليس بهياب إذا ش ... له يقول عداني اليوم واق وحاتم
ولكنه يمضي على ذاك مقدما ... إذا حاد عن تلك الهنات الختارم
يعني بالواق الصرد وبالحاتم الغراب سموه حاتما لأنه كان عندهم يحتم بالفراق والختارم العاجز الضعيف الرأي المتطير
وقد شفى النبي صلى الله عليه و سلم أمته في الطيرة حيث سئل عنها فقال ذاك شيء يجده أحدكم فلا يصدنه وفي أثر آخر إذا تطيرت فلا ترجع أي أمض لما قصدت له ولا يصدنك عنه الطيرة واعلم أن التطير إنما يضر من أشفق منه وخاف وأما من لم يبال به ولم يعبأ به شيئا لم يضره البتة ولا سيما أن قال عند رؤية ما يتطير به أو سماعه اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك فالطيرة باب من الشرك والقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته يكبر ويعظم شأنها على من اتبعها نفسه واشتغل بها وأكثر العناية بها وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها ولا القى إليها باله ولا شغل بها نفسه وفكره واعلم أن من كان معتنيا بها قائلا بها كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدر فتحت له
أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه فإذا سمع سفر جلا أو أهدى إليه تطير به وقال سفر وجلاء وإذا رأى ياسمينا أو سمع اسمه تطير به وقال يأس ومين وإذا رأى سوسنة أو سمعها قال سوء يبقى سنه وإذا خرج من داره فاستقبله أعور أو أشل أو أعمى أو صاحب آفة تطير به وتشاءم بيومه ويحكى عن بعض الولاة أنه خرج في بعض الأيام لبعض مهماته فاستقبله رجل أعور فتطير به وأمر به إلى الحبس فلما رجع من مهمه ولم يلق شرا أمر باطلاقه فقال له سألتك بالله ما كان جرمى الذى حبستنى لأجله فقال له الوالى لم يكن لك عندنا جرم ولكن تطيرت بك لما رأيتك فقال فما أصبت في يومك برؤيتى فقال مما لم ألق إلا خيرا فقال أيها الأمير أنا خرجت من منزلى فرايتك فلقيت في يومى الشر والحبس وأنت رأيتنى فلقيت في يومك الخير والسرور فمن أشأمنا والطيرة بمن كانت فاستحيا منه الوالى ووصله
وقال أبو القاسم الزجاجى لم أر أشد تطيرا من ابن الرومى الشاعر وكان قد تجاوز الحد في ذلك فعاتبته يوما على ذلك فقال يا أبا القاسم الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان وهذا جواب من استحكمت علته فعجز عنها وهو أيضا بمنزلة من قد غلبته الوساوس في الطهارة فلا يلتفت إلى علم ولا إلى ناصح وهذه حال من تقطعت به أسباب التوكل وتقلص عنه لباسه بل تعرى منه ومن كان هكذا فالبلايا إليه أسرع والمصائب به أعلق والمحن له ألزم بمنزلة صاحب الدمل والقرحة الذى يهدى إلى قرحته كل مؤذ وكل مصادم فلا يكاد يصدم من جسده او يصاب غيرها والمتطير متعب القلب منكد الصدر كاسف البال سيء الخلق يتخيل من كل ما يراه أو يسمعه أشد الناس خوفا وأنكدهم عيشا وأضيق الناس صدرا وأحزنهم قلبا كثير الاحتراز والمراعاة لما لا يضره ولا ينفعه وكم قد حرم نفسه بذلك من حظ ومنعها من رزق وقطع عليها من فائدة ويكفيك من ذلك قصة النابغة مع زياد بن سيار الفزارى حين تجهز إلى الغزو فلما أراد الرحيل نظر النابغة إلى جرادة قد سقطت عليه فقال جرادة تجرد وذات ألوان عزيز من خرج من هذا الوجه ونفذ زياد لوجهه ولم يتطير فلما رجع زياد سالما غانما أنشأ يقول 0
تخير طيرة فيها زياد ... ليخبره وما فيها خبير
أقام كان لقمان بن عاد ... أشار له بحكمته مشير
تعلم أنه لا طير إلا ... على متطير وهو الثبور
بلى شىء يوافق بعض شيء ... أحيايينا وباطله كثير
ولم يحك الله التطير إلا عن أعداء الرسل كما قالوا لرسلهم انا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون
وكذلك حكى الله سبحانه عن قوم فرعون فقال فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وأن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله حتى إذا أصابهم الخصب والسعة والعافية قالوا لنا هذه أى نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله وإن أصابهم بلاء وضيق وقحط ونحوه قالوا هذا بسبب موسى وأصحابه أصبنا بشؤمهم ونفض علينا غبارهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده كما قال تعالى عن أعداء رسوله وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وأن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك فهذه ثلاثة مواضع حكى فيها التطير عن أعدائه وأجاب سبحانه عن تطيرهم بموسى وقومه بأن طائرهم عند الله لا بسبب موسى وأجاب عن تطير أعداء رسول الله صلى الله عليه و سلم بقوله قل كل من عند الله وأجاب عن الرسل بقوله إلا طائركم معكم وأما قوله ألا إنما طائركم عند الله فقال ابن عباس طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أى إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله وقال أيضا ان الأزراق والأقدار تتبعكم وهذه كقوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج أى ما يطير له من الخير والشر فهو لازم له في عنقه والعرب تقول جرى له الطائر بكذا من الخير والشر قال أبو عبيدة الطائر عندهم الحظ وهو الذى تسميه العامة البخت يقولون هذا يطير لفلان أى يحصل له قلت ومنه الحديث فطار لنا عثمان بن مظعون أى أصابنا بالقرعة لما اقترع الأنصار على نزول المهاجرين عليهم وفي حديث رويفع ابن ثابت حتى أن أحدنا ليطير له النصل والريش والآخر القدح أى يحصل له بالشركة في الغنيمة وقيل في قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه أن الطائر ههنا هو العمل قاله الفراء وهو يتضمن الرد على نفاه القدر وخص العنق بذلك من بين سائر أجزاء البدن لأنها محل الطوق الذي يطوقه الإنسان في عنقه فلا يستطيع فكاكه ومن هذا يقال إثم هذا في عنقك وافعل كذا واثمه في عنقي والعرب تقول طوقها طوق الحمامة وهذا ربقة في رقبته وعن الحسن بن آدم لتنظر لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك فخصوا العنق بذلك لأنه موضع القلادة والتميمة واستعمالهم التعاليق فيها كثير كما خصت الأيدى بالذكر في نحو بما كسبت أيدكم بما قدمت يداك ونحوه وقيل المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار وهو الذي أصابهم في الدنيا وقيل المعنى أن سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجرى عليه ما يسوؤهم ويعاقبون عليهم بعد موتهم بما وعدهم الله ولا طائر أشأم من هذا وقيل حظهم ونصيبهم وهذا لا يناقض قول الرسل طائركم معكم أى حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم
وعدوانكم فطائر الباغى الظالم معه وهو عند الله كما قال تعالى وأن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولو فقهوا او فهموا لما تطيروا بما جئت به لأنه ليس فيما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم ما يقتضى الطيرة فإنه كله خير محض لا شر فيه وصلاح لا فساد فيه وحكمه لا عبث فيها ورحمة لاجور فيها فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا فإن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير المحض والمصلحة والحكمة والرحمة وليس فيما أتيتهم به لو فهموا ما يوجب تطيرهم بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم وأنصبائهم التى يتناولوها منه باعمالهم وكسبهم ويحتمل أن يكون المعنى طائركم معكم أى راجع عليكم فالطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم وهذا من باب القصاص في الكلام مثل قوله في الحديث أخذنا فالك من فيك ونظيره قول النبي صلى الله عليه و سلم إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم فعلى هذا معنى طائركم معكم اى تصيبكم طيرتكم التى تطيرتم بها لأنهم اعتقدوا الشؤم فيها ولا شؤم فيها البتة فقيل لهم الشؤم منكم وهو نازل بكم فتأمله وهذا يشبه قوله تعالى وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لنزول منه الجبال قيل جزاء مكرهم عنده فمكر بهم كما مكا مكروا برسله ومكره تعالى بهم إنما كان بسبب مكرهم فهو مكرهم عاد عليهم وكيدهم عاد عليهم فهكذا طيرتهم عادت عليهم وحلت بهم وسمى جزاء المكر مكرا وجزاء الكيد كيدا تنبيها على أن الجزاء من جنس العمل ولما ذكر سبحانه أن ما أصابهم من حسنة وسيئة أى نعمة ومحنة فالكل منه تعالى بقضائه وقدره فكأنهم قالوا فما بالك أنت تصبيك الحسنات والسيئات كما تصيبنا فذكر سبحانه أن ما أصابه من حسنة فمن الله من بها عليه وأنعم بها عليه وما أصابه من سيئة فمن نفسه أى بسبب من قبله أى لا لنقص ما جاء به ولا لشر فيه ولا لشؤم يقتضى أن تصيبه السيئة بل بسبب من نفسه ومن قبله وقد قيل في قوله تعالى طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون أن طائرهم ههنا هو السبب الذي يجىء فيه خيرهم وشرهم فهو عند الله وحده وهو قدره وقسمه إن شاء رزقكم وعافاكم وإن شاء حرمكم وابتلاكم ومن هذا قالوا طائر الله لا طائر كلبى قدر الله الغالب الذي يأتي بالحسنات ويصرف السيئات ومنه اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك وعلى هذا فالمعنى بطائركم نصيبكم وحظكم الذي يطيركم ومن فسره بالعمل فالمعنى طائركم الذي طار عنكم من أعمالكم بهذين القولين فسر معنى قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأنه ما طار عنه من عمله أو صار لازما له مما قضى الله عليه وقدر عليه وكتب له من الرزق والأجل والشقاوة والسعادة 0 فصل
وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في وصف
السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون زاد مسلم وحده ولا يرقون فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول هذه الزيادة وهم من الراوى لم يقل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يرقون لأن الراقي محسن إلى أخيه وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم وقد سئل عن الرقي فقال من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقي مالم يكن شركا والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مسقط ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن نافع
قلت والنبي صلى الله عليه و سلم لا يجعل ترك الإحسان المأذون فيه سببا للسبق إلى الجنان وهذا بخلاف ترك الإسترقاء فإنه توكل على الله ورغبة عن سؤال غيره ورضاء بما قضاه وهذا شيء وهذا شيء وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم لا عدوى ولا طيرة وأحب الفال الصالح ونحوه من حديث انس وهذا يحتمل أن يكون نفيا وأن يكون نهيا أى لا تطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفى وإبطال هذه الأمور التى كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهى لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهى إنما يدل على المنع منه وقد روى ابن ماجه في سننه من حديث سفيان عن سلمة عن عيسى بن عاصم عن ذر عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم الطيرة شرك وما منا ولكن الله يذهبه بالتوكل وهذه اللفظة وما منا إلى آخره مدرجة في الحديث ليست من كلام النبي صلى الله عليه و سلم كذلك قاله بعض الحفاظ وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك كما هو في أثر مرفوع من ردته الطيرة فقد قارن الشرك وفي أثر من أرجعته الطيرة من حاجة فقد أشرك قالوا وما كفارة ذلك قال أن يقول أحدكم اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمى أنه قال يا رسول الله ومنا أناس يتطيرون فقال ذلك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنه فأخبر أن تأذية وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لافي المتطير به فوهمه وخوفه وإشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح صلى الله عليه و سلم لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه لتطمئن قلوبهم ولتسكن نفوسهم إلى وحدانيتة تعالى التى أرسل بها رسله وأنزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار فبسبب التوحيد ومن أجله جعل الجنة دار التوحيد وموجباته وحقوقه والنار دار الشرك ولو ازمه وموجباته فقطع صلى الله عليه و سلم علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علقة منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهله البتة
وفي الحديث المعروف أقول
على مكانتها قال أبو عبيدة في الغريب أراد لا تزجروها ولا تلتفتوا إليها أقروها على مواضعها التي جعلها الله لها ولا تتعدوا ذلك إلى غيره أي أنها لا تضر ولا تنفع وقال غيره المعنى أقروها على أمكنتها فإنهم كانوا في الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرا أو امرا من الأمور أثار الطير من أوكارها لينظر أي وجه تسلك وإلى ناحية تطير فان خرجت ذات اليمين خرج لسفره ومضى لأمره وإن أخذت ذات الشمال رجع ولم يمض فأمرهم أن يقروها في أمكنتها وأبطل فعلهم ذلك ونهاهم عنه كما أبطل الاستقسام بالأزلام
وقال ابن جرير معنى ذلك أقروا الطير التي تزجرونها في مواضعها المتمكنة فيها التي هي لها مستقر وامضوا لأموركم فان زجركم إياها غير مجد عليكم نفعا ولا دافع عنكم ضررا
وقال آخرون هذا تصحيف من الرواة وخطأ منهم ولا يعرف المكنات إلا أسماء البيض الضباب دون غيرها قال الجوهرى الممكن البيض الضب قال ومكن الضباب طعام العرب لا تشتهيه نفوس العجم وفي الحديث أقروا على الطير مكانها بالضم والفتح قال أبو زياد الكلابي وغيره إنا لا نعرف للطير مكنات فأما المكنات فانما هي الضباب قال أبو عبيد ويجوز في الكلام وإن كان الممكن الضباب في أن يجعل للطير تشبيها بذلك كقولهم مشافر الحبش وإنما المشافر للإبل وكقول زهير يصف الأسد * له لبد أظفاره لم تقلم * وإنما له مخالب قال هؤلاء فلعل الراوي سمع أقر الطير في وكناتها بالواو ولأن وكنات الطير عشها وحيث تسقط عليه من الشجر وتأوى إليه وفي اثر آخر ثلاث من كن فيه لم ينل الدرجات العلى من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر من طيرة وقد رفع هذا الحديث فمن استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع بأحسن الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال له ابن عباس لا خير ولا شر مبادرة بالإنكار عليه لئلا يعتقد له تأثيرا في الخير أو الشر وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عنده والله لا تصحبني وقيل لكعب هل تتطير فقال نعم فقيل له فكيف تقول إذا تطيرت قال أقول اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا غيرك ولا قوة إلا بك وكان بعض السلف يقول عند ذلك طير الله لا طيرك وصياح الله لا صياحك ومساء الله لامساك وقال ابن عبد الحكم لما خرج عمر بن عبد العزيز من المدينة قال مزاحم فنظرت فإذا القمر في الدبر ان فكرهت أن اقول له فقلت ألا تنظر إلى القمر ما أحسن استواءه في هذه الليلة قال فنظر عمر فإذا هو في الدبران فقال كأنك اردت أن تعلمني أن القمر في الدبران يا مزاحم إنا لا نخرج بشمس ولا بقمر ولكنا نخرج بالله الواحد القهار فان قيل فما تقولون فيما
روى عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يستحب الفأل ففي الصحيحين من حديث أنس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم لا عدوى ولا طيرة وخيرها الفأل وفي لفظ وأصدقها الفال وفي لفظ وكان يعجبه الفأل وفي لفظ مسلم ويعجبني الفأل الصالح أي الكلمة الحسنة وقال إذا أبردتم إلى بريدا فاجعلوه حسن الإسم حسن الوجه وروى عن يحيى بن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال للقحة تحلب من يحلب هذه فقام رجل فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما إسمك فقال الرجل مرة فقال النبي صلى الله عليه و سلم إجلس ثم قال من يجلب هذه فقام رجل فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما إسمك فقال الرجل حرب فقال له النبي صلى الله عليه و سلم إجلس ثم قال من يجلب هذه فقام رجل فقال له النبي صلى الله عليه و سلم ما إسمك فقال الرجل يعيش فقال له النبي صلى الله عليه و سلم يعيش احلب فحلب زاد ابن وهب في جامعة في هذا الحديث فقام عمر بن الخطاب فقال أتكلم يا رسول الله أم اصمت قال بل اصمت وأخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير إلا طيرة ولا خير إلا خيره ولكن أحب الفأل وفي جامع ابن وهب أن
رسول الله صلى الله عليه و سلم أتى بغلام فقال ما سميتم هذا الغلام فقالوا السائب فقال لا تسموه السائب ولكن عبدالله قال فغلبوا على اسمه فلم يمت حتى ذهب عقله وصحيح البخاري من رواية الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما إسمك قال حزن قال أنت سهل قال لا أغير اسما اسمانيه أبي قال ابن المسيب فما زالت الحزونة فينا بعد وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب قال لرجل ما اسمك قال جمرة قال ابن من قال ابن شهاب فقال ممن قال من الحرقة قال أين مسكنك قال بحرة النار قال بأيها قال بذات لظى فقال له عمر أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال عمر وفي غير رواية مالك هذه القصة عن مجالد عن الشعبي قال جاء رجل من جهينة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له ما اسمك قال شهاب قال ابن من قال ابن جمرة قال ابن من قال ابن ضر ام قال ممن قال من الحرقة قال وأين منزلك قال بحرة النار قال ويحك أدرك منزلك أو أهلك فقد احترقوا قال فأتاهم فألفاهم قد احترق عامتهم وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يعجبه التيمن ما استطاع في تنعله وترجله ووضوئه وفي شأنه كله وفي صحيح البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه و سلم قال الشؤم في ثلاث في المرأة والدار والدابة وفي الصحيح ايضا من حديث سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن يعني الشؤم وفي الموطأ عن يحيى بن سعيد قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم دعوها ذميمة ولما رأى النبي صلى الله عليه و سلم يوم أحد فرسا قد لوح بذنبه ورجل قد استل سيفه فقال له شم سيفك فأني أرى السيوف ستسل اليوم وكذلك قوله لما رمى واقد ابن عبد الله عمر بن الحضرمي فقتله فقال وقدت الحرب وعامر عمرت الحرب وابن الحضرمي
حضرت الحرب ولما خرج النبي صلى الله عليه و سلم إلى بدر استقبل في طريقه جبلين فسأل عنهما فقالوا اسم أحدهما مسلح والأخر مخرىء وأهلهما بنو النار وبنو محراق فكره المرور عليهما وتركهما على يساره وسلك ذات اليمين وعرض عبدالله بن جعفر مالا له على معاوية يقال له الدعان وقال له اشتره مني فقال له معاوية هذا مال يقول دعني ولم نزل الحسين بن علي بكر بلاء قال ما اسم هذا الموضع قالوا كربلاء قال كرب وبلاء ولما خرج عبدالله بن الزبير من المدينة إلى مكة أنشده أحد أخوية
وكل بني أم سيمسون ليلة ... ولم يبق من أغنامهم غير واحد
فقال له عبدالله ما أردت إلى هذا قال لم أتعمده قال هو أشد على وقد كره السلف ومن بعدهم أن يتبع الميت بنار إلى قبره من مجمر أو غيره وفي معناه الشمع قالت عائشة لا تجعلوا آخر زاده أن تتبعوه بالنار ولما بايع طلحة بن عبيدالله علي بن أبي طالب وكان أول من بايع قال رجل أول يد بايعته يد شلاء لا يتم هذا الأمر له ولما بعث علي رضي الله عنه معقل بن قيس الرباحي من المدائن في ثلاثة آلاف وأمره أن يأخذ على الموصل ويأتي نصيبين ورأس عين حين يأتي الرقة فيقيم بها فسار معقل حتى نزل الحديثة فبينما هو ذات يوم جالسا إذ نظر إلى كبشين يتناطحان حتى جاء رجلان فأخذ كل منهما كبشا فذهب به فقال شداد بن أبي ربيعة الخثعمي ستصرفون من وجهكم هذا لا تغلبون ولا تغلبون لافتراق الكبشين سليمين فكان كذلك ولما بعث معاوية في شأن حجر بن عدى وأصحابه كان الذي جاءهم أعور يقال له هدبه وكانوا ثلاثة عشر رجلا مع حجر فنظر إليه رجل منهم فقال إن صدق الفأل قتل نصفنا لأن الرسول أعور فلما قتلوا سبعة وافى رسول ثان ينهى عن قتلهم فكفوا عن الباقين وقال عوانه بن الحكم لما دعا ابن الزبير إلى نفسه قام عبدالله بن مطيع ليبايع فقبض عبدالله بن الزبير يده وقال لعبيد الله بن أبي طالب قم فبايع فقال عبدالله قم يا مصعب فبايع فقام فبايع فتفاءل الناس وقالوا أبي أن يبايع ابن مطيع وبايع مصعبا ليكونن في أمره صعوبة أو شر فكان كذلك وقال سلمة بن محارب نزل الحجاج في محاربته لابن الأشعث دير قرة ونزل عبد الرحمن ابن الأشعث دير الجماجم فقال الحجاج استقر الأمر في يدى وتجمجم به أمره والله لأقتلنه وقال عمرو بن مروان الكلبي حدثني مروان بن يسار عن سلمة مولى يزيد بن الوليد قال كنت مع يزيد بن الوليد بناحية القريتين قبل خروجه على الوليد بن يزيد ونحن نتذاكر أمره إذ عرض لنا ذئب هناك فتناول يزيد قوسه فرمى الذئب فاصاب حلقه فقال قتلت الوليد ورب الكعبة فكان كما قال وقال داود بن عيسى بن محمد بن علي خرج أبي وأبو جعفر غازيين في بلاد الروم ومعه غلام له ومع أبي جعفر مولى فسنحت له اربعة أظب ثم مضت تخاتلنا
حتى غابت عنا ثم رجعت ومضى واحد فقال لنا أبو جعفر والله لا نرجع جميعا فمات مولى أبي جعفر وأمر بعض الأمراء جارية له تغني
فاندفعت تقول :
هم قتلوه كي يكونوا مكانه كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فقال ويلك غني غير هذا فغنت
هذا مقام مطرد هدمت منازله ودوره
فقال ويلك غني غير هذا فقالت والله يا سيدي ما أعتمد إلا ما يسرك ويسبق إلى لساني ما ترى ثم غنت
كليب لعمري كان أكثر ناصرا وأيسر جرما منك ضرج بالدم
فقال ما أرى أمري إلا قريبا فسمع قائلا يقول قضى الأمر الذي فيه تستفتيان وقد ذكر في حرب بني تغلب أن تيم اللات أرسل بنيه في طلب مال له فلما أمسى سمع صوت الريح فقال لمرأته أنظرى من أين نشأ السحاب ومن أين نشأت الريح فأخبرته أن الريح طالع من وجه السحاب فقال والله إني لأرى ريحا تهد هذه الصخرة وتمحق الأثر فلما دخل عليه بنوه قال لهم ما لقيتم قالوا سرنا من عندك فلما بلغنا غصن شعثمين إذا بعفر جاثمات على دعص من رمل فقال أمشرقات أم مغربات قالوا مغربات قال فما ريحكم ناطح أم دابر أم بارح أم سانح فقالوا ناطح فقال لنفسه يا تيم اللات دعص الشعثمين والشعثم الشيخ الكبير وأنت شعثم بني بكر وجواثم بدعص وريح ناطح نطحت فبرحت قال ثم ماذا قالوا ثم رأينا ذئبا قد دلع لسانه من فيه وهو يطحر وشعره عليه فقال ذلك حران ثائر ولسان عذول حامى الظهر همه سفك الدماء وهو أرقم الأراقم يعني مهلهلا قال ثم ماذا قالوا ثم رأينا ريحا وسحابا قال فهل مطرتم قالوا بلى قال ببرق قالوا قد كان ذلك فقال أماء سائل فقالوا نعم فقال ذلك دم سائل ومرهفات قال ثم مه قالوا ثم طلعنا قلعة الضعفاء ثم تصوبنا من تل فاران قال فكنتم سواء أو مترادفين قالوا بل سواء قال فما سماؤكم قالوا خبا قال فما ريحكم قالوا ناطح قال فما فعل الجيش الذين لقيتم قالوا نجونا منه هربا وجد القوم في أثرنا قال ثم مه قالوا ثم رأينا عقابا منقضة على عقاب فتشابكا وهويا إلى الأرض قال ذاك جمع رام جميعا فهو لاقيه قال ثم مه قالوا ثم رأينا سبعا على سبع ينهشه وبه بقية لم يمت فقال ذروني أما والله أنها لقبيلة مصروعة مأكولة مقتولة من بني وائل بعد عز وامتناع وذكروا أن تيم اللات هذا مر يوما بجمل أجرب وعليه ثلاث غرابيب فقال لبنيه ستقفون على مقتولا فكان كما قال وقتل عن قريب وكذلك قول علقمة في مسيره مع أصحابه وقد مروا في الليل بشيخ فان فقال لقيتم شيخا كبيرا فانيا يغالب الدهر والدهر يغالبه يخبركم أنكم ستلقون قوما فيهم ضعف ووهن ثم لقي سبعا فقال دلاج لا يغلب ثم رأى غرابا ينفض
بجؤجؤه فقال أبشروا ألا ترون أنه يخبركم أن قد أطمأنت بكم الدار فكان كذلك
وذكر المدائني قال خرج رجل من لهب ولهم عيافة في حاجة له ومعه سقاء من لبن فسار صدر يومه ثم عطش فأناخ ليشرب فإذا الغراب ينعب فأثار راحلته ومضى فلما أجهده العطش أناخ ليشرب فنعب الغراب فاثار راحلته ثم الثالثة نعب الغراب وتمرغ في التراب فضرب الرجل السقاء بسيفه فإذا فيه أسود ضخم ثم مضى فإذا غراب على سدرة فصاح به فوقع على سلمه فصاح به فوقع على صخرة فانتهى إليه فإذا تحت الصخرة كنز فلما رجع إلى أبيه قال له ما صنعت قال سرت صدر يوم ثم أنخت لأشرب فإذا الغراب ينعب قال أثره وإلا لست بابني قال أثرته ثم أنخت لأشرب فنعب الغراب وتمرغ في التراب قال أضرب السقاء وإلا لست باني قال فعلت فإذا أسود ضخم قال ثم مه قال ثم رأيت غرابا واقعا على سدرة قال أطره وإلا لست بابني قال أطرته فوقع على سلمة قال أطره وإلا لست بابني قال فوقع على صخرة قال أخبرني بما وجدت فأخبرته
وذكر أيضا أن أعرابيا أضل ذودا له وخادما فخرج في طلبهما إذ اشتدت عليه الشمس وحمى النهار فمر برجل يحلب ناقة قال أظنه من بني أسد فسأله عن ضالته قال أدن فاشرب من اللبن وأدلك على ضالتك قال فشرب ثم قال ما سمعت حين خرجت قال بكاء الصبيان ونباح الكلاب وصراخ الديكة وثغاء الشاء قال ينهاك عن الغدو ثم مه قال ثم ارتفع النهار فعرض لي ذئب قال كسوب ذو ظفر ثم مه قال ثم عرضت لي نعامة قال ذات ريش واسمها حسن هل تركت في أهلك مريضا يعاد قال نعم قال ارجع إلى أهلك فذودك وخادمك عندهم فرجع فوجدهم
وذكر أبو خالد التيمي قال كنت آخذ الإبل بضمان فأرعاها في ظهر البصرة فطردت فخرجت أقفو أثرها حتى انتهيت إلى القادسية فاختلطت على الآثار فقلت لو دخلت الكوفة فتحسست عنها فأتيت الكناسة فإذا الناس مجتمعون على عراف اليمامة فوقفت ثم قلت له حاجتي فقال بعيدة أشيطان الهوى جمع مثلها على العاجز الباغي الغي ذو تكاليف ولترجعن قال فوجدتها في الشام مع ابن عم لي فصالحت أصحابها عنها وقال المدائني كان بالسواد زاجر يقال له مهر فأخبر به بعض العمال فجعل يكذب زجره ثم أرسل إليه فلما أتاه قال إني قد بعثت بغنم إلى مكان كذا وكذا فانظر هل وصلت أم لم تصل وقد عرف العامل قبل ذلك أن بينها ويبن الكلاء رحلة فقال لغلامه أخرج فانظر أي شيء تسمع قال وكان العامل قد أمر غلامه أن يكمن في ناحية الدار ويصيح صياح ابن آوى فخرج غلاء الزاجر ليسمع وصاح غلام العامل فرجع إلى الزاجر غلامه وأخبره بما سمع فقال للعامل قد ذهبت عنك وقطع عليها الطريق فاستيقت قال فضحك العامل وقال قد جاءني خبرها أني وصلت والصائح الذي صاح غلامي قال إن كان الصائح الذي الصاح ابن آوى فقد ذهبت
وإن كان غلامك فقد ذهب الراعي قال فبلغه بعد ذلك ذهاب الغنم وقتل الراعي وذكر عن العكلي أنه خرج في تسعة نفر هو عاشرهم ليصيبوا الطريق فرأى غرابا واقعا فوق بانة فقال يا قوم أنكم تصابون في سفركم هذا فازدجروا وأطيعوني وارجعوا فأبوا عليه فأخذ قوسه وانصرف وقتلت التسعة فأنشد يقول :
رأيت غرابا واقعا فوق بانه ... ينشنش أعلى ريشه ويطايره
فقلت غراب اغتراب من النوى ... وبانة بين من حبيب تجاوره
فما أعيف العكلي لا دردره ... وازجره للطير لا عز ناصره
وذكر عن كثير عزة أنه خرج يريد مصر وكانت بها عزة فلقيه أعرابي من نهد فقال أين تريد قال أريد عزة بمصر قال ما رأيت في وجهك قال رأيت غرابا ساقطا فوق بانة ينتف ريشه فقال ماتت عزة فانتهى ومضى فوافى مصر والناس منصرفون من جنازتها فأنشأ يقول :
فأما غراب فاغتراب وغربة ... وبان فبين من حبيب تعاشره
وذكر عنه أيضا أنه هوى امرأة من قومه بعد عزة يقال لها أم الحويرث وكانت فائقة الجمال كثيرة المال فقالت له أخرج فاصب مالا وأتزوجك فخرج إلى اليمن وكان عليها رجل من بني مخزوم فلما كان ببعض الطريق عرض له قوط والقوط الجماعة من الظباء فمضى ثم عرض له غراب ينعب ويفحص التراب على راسه فأتى كثير حيا من الأزد ثم من بني لهب وهم من أزجر العرب وفيهم شيخ قد سقط حاجباه على عينيه فقص عليه ما عرض له فقال إن كنت صادقا لقد ماتت هذه المرأة أو تزوجت رجلا من بني كعب فاغتم كثيرا لذلك وسقى بطنه فكان ذلك سبب موته وقال في ذلك :
تيممت لهبا أبتغى العلم عندهم ... وقد رد علم العائفين إلى لهب
فيممت شيخا منهم ذو أمانة ... بصيرا يزجر الطير منحنى الصلب
فقلت له ماذا ترى في سواغ ... وصوت غراب يفحص الأرض بالترب
فقال جرى الطير السنيح بينها ... ونادي غراب بالفراق وبالسلب
فان لا تكن ماتت فقد حال دونها ... سواك حليل باطن من بني كعب
وقال رجل من بني أسد تزوجت ابنة عم لي فخرجت أريدها فلقيني شيء كالكلب مدليا لسانه في شق فقلت أخفت ورب الكعبة فأتيت القوم فلم أصل إليها وناقرني أهلها حرجت عنهم فمكثت ثلاثة أيام ثم بدا لي فيهم فخرجت نحوهم فلقيت كلبة تنظف أطباؤها لبنا فقلت أدركت ورب الكعبة فدخلت بأهلي وحملت مني بغلام ثم آخر حتى ولدت أولادا وذكر عن
يحيى بن خالد قال حج رجلان فقيل لهما ههنا امرأة تزجر قال فأتياها فسألاها فقال أحدهما ما نضمر فقالت أنك لتسألني عن رجل مقتول فقال هو والله الذي سال عنه صاحبي فقالت هو كما قلت فسألاها عن تفسير ذلك فقالت أما رأيتما الجارية التي مرت ومعها ديك مشدود الرجلين حين سألني الأول قالا بلى قالت فلذلك قلت أنه محبوس مقيد قالت ورأيت الجارية حين رجعت وسألتنى أنت والديك مذبوح فقلت مقتول 00
وذكر 2المداينى أن أهل بيت من العجم كانوا إذا غاب الرجل عن أهله ولم يأتهم خبره أربع حجج زوجوا امرأته فتزوج منهم رجل جارية وغاب أربع حجح لايأتيهم فأرادوا تزويج الجارية وكانت مشغوفة به فقالت دعونى سنة أخرى فأبوا عليها وأتوا زاجرا لهم فخرج الزاجر ومعه تلميذ له فتلقاهم قوم يحملون ميتا ويد الميت على صدره فقال الزاجر لتلميذه مات الرجل قال ما مات ألا ترى يد الميت على صدره يخبر أنه هو الميت والرجل صحيح فرجعا فأخبرا الحاكم أنه لم يمت فأمر بتأجيلها سنة فجاء زوجها بعد شهر 00 وذكر ابن قتيبة عن إبراهيم بن عبدالله قال دخلت على رجل ضرير زاجر من العرب وقد خبأت سحابة عنوان من كتان فقلت أحبرنى بما خبأت لك فنظر قليلا ثم قال هو من نبات الماء فقلت زدنى فى الشرح قال هو قطعة من كتان قال فسألته عن ذلك فقال سألتنى عن الخبىء فوقعت يدى على الحصير فقلت إنه من نبات الماء قال فقلت زدنى فقال وصاح صائح من جانب الدار فقضيت بالسواد وبأنه صغير للتصفير ثم نظرت فلم يكن ذلك أولى بأن يكون قطعة من كتان قال وسألته عن مقراضين فى يدى قد أدخلت أصبعى فى حلقتيهما فقال فى يدك خاتم من حديد وذكر ابن عيينة عن الزهرى عن محمد بن جبير بن مطعم عن ابيه عن عمر بن الخطاب رضى الله أنه كان يرمى الجمرة فجاءته حصاة فأصابت جبهته ففصدت منه عرقا فقال رجل من بنى لهب أشعر أمير الؤمنين ورب الكعبة لا يقوم هذا المقام أبدا فقتل بعد ذلك وثبت فى الصحيحين من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى عليه وسلم قال الشؤم فى الدار والمرأة والفرس وفى لفظ فيهما لا عدوى ولا صفر ولا طيرة وإنما الشؤم فى ثلاثة المرأة والفرس والدار وفى لفظ آخر فيهما إن يكن الشؤم فى شىء حقا ففى الفرس والمسكن والمرأة وفى بعض طرق البخارى والدابة بدل الفرس وفى الصحيحين أيضا عن سهل بن سعد الساعدى قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن كان ففى المرأة والفرس والمسكن يعنى الشؤم 00وقال البخارى إن كان شىء وفى صحيح مسلم عن عبدالله عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن كان فى شىء ففى الربع والخادم والفرس 00وفى صحيح مسلم عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه و سلم قال لا يورد ممرض على
مصح 00وفى موطأ مالك أنه بلغه عن بكير بن عبدالله بن الأشج عن أبي عطية أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا عدوى ولا هام ولا صفر ولا يحل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء قالوا يا رسول الله وما ذاك فقال رسول الله عليه وسلم إنه أذى 00وقال ابن وهب أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال كان أبو هريرة رضى الله عنه يحدثنا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أنه لا عدوى وحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا يورد ممرض على مصح الحديث ثم صمت أبو هريرة بعد ذلك عن قوله لا عدوى وأقام أن لا يورد ممرض على مصح الحديث قال فقال الحارث بن أبى ذئاب وهو ابن عم أبى هريرة قد كنت أسمعك يا أبا هريرة تحدثنا مع هذا الحديث حديثا آخر قد سكت عنه كنت تقول قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عدوى فأبى أبو هريرة أن يحدث ذلك وقال لا يورد ممرض على مصح فمارآه الحارث في ذلك حتى غضب أبو هريرة ورطن بالحبشية فقال للحارث أتدرى ماذا قلت قال لا قال أبو هريرة إني أقول أبيت أبي قال أبو سلمة فلعمري لقد كان أبو هريرة يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا عدوى فلا أدرى أنسى أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الآخر قالوا هذا النهى عن إيراد المريض على المصح إنما هو من أجل الطيرة التى تلحق المصح 00وقال مسدد حدثنا يحي بن هشام عن يحي بن أبى كثير عن الحضرمي بن لاحق عن سعيد بن المسيب قال سألت سعد بن مالك عن الطيرة فانتهرني وقال من حدثك فكرهت أن أحدثه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا عدوى ولا طيرة ولا هامة وإن كانت الطيرة في شىء ففى الفرس والمرأة والدار فإذا كان الطاعون بأرض وأنتم بها فلا تفروا 00وفي صحيح مسلم عن الشريد بن سويد قال كان فى وفد ثقيفة رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم أنا قد بايعناك فأرجع وفي حديث آخر فر من المجذوم فرارك من الأسد0
فصل الآن التقت حلقتا البطان وتداعى نزال الفريقان نعم وههنا أضعاف
أضعاف ما ذكرتم وأضعاف أضعافه وللناس ههنا مسلكان عليهما يعتمد المتكلمون في هذا الباب لا نرتضيهما بل نسلك مسلك العدل والتوسط بين طرفي الأفراط والتفريط فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه والوادي بين الجبلين والهدى بين الضلالتين وقد جعل الله هذه الأمة هي الأمة الوسط في جميع أبواب الدين فإذا انحرف غيرها من الأمم إلى أحد الطرفين كانت هي في الوسط كما كانت وسطا في باب أسماء الرب تعالى وصفاته بين الجهمية والمعطلة والمشبهة الممثلة وكان وسطا في باب الإيمان بالرسل بين من عبدهم واشركهم بالله كالنصارى وبين من قتلهموكذبهم فأمنوا بهم وصدقوهم وتركوهم من العبودية وكانت وسطا في القدر بين الجبرية الذين ينفون أن يكون للعبد فعل أو كسب أو اختيار البتة بل هو مجبور متهور لا اختيار له ولا فعل وبين القدرية النفاة الذين يجعلونه مستقلا بفعله ولا يدخل فعله تحت مقدور الرب تعالى ولا هو واقع بمشيئة الله تعالى وقدرته فأثبتوا له فعلا وكسبا واختيارا حقيقة وهو متعلق الأمر والنهي والثواب والعقاب وهو مع ذلك واقع بقدرة الله ومشيئته فما شاء الله من ذلك كان وما لم يشأ لم يكن ولا يتحرك ذرة إلا بمشيئته وإرادته والعباد أضعف وأعجز أن يفعلوا ما لم يشأه الله لا قوة له ولا قدرة عليه وكذلك هم وسط في المطاعم والمشارب بين اليهود الذين حرمت عليهم الطيبات عقوبة لهم وبين النصارى الذين يستحلون الخبائث فأحل الله لهذه الأمة الوسط الطيبات وحرم عليهم الخبائث وكذلك لا تجد أهل الحق دائما إلا وسطا بين طرفي الباطل وأهل السنة وسط في النحل كما أن المسلمين وسط في الملل وكذلك ما نحن فيه من هذا الباب فإنهم وسط بين النفاة الذين ينفون الأسباب جملة ويمنعون ارتباطها بالمسببات وتأثيرها بها ويسدون هذا الباب بالكلية ويضطربون فيما ورد من ذلك فيقابلون بالتكذيب منه ما يمكنهم تكذيبه ويحيلون على الاتفاق والمصادقة مالا قبل لهم بدفعه من غير أن يكون لشيء من هذه الأمور مدخل في التأثير أو تعلق بالسببية البتة وربما يقولون أن أكثر ذلك مجرد خيالات وأوهام في النفوس تنفعل عنها النفوس كانفعال أرباب الخيالات والامراض والأوهام وليس عندهم وراء ذلك شيء وهذا مسلك نفاة الأسباب وارتباط المسببات بها وهذا جواب كثير من المتكلمين والمسلك الثاني مسلك المثبتين لهذه الأمور والمعتقدين لها الذاهبين إليها وهي عندهم أقوى من الأسباب الحسية أو في درجتها ولا يلتفتون إلى قدح قادح فيها والقدح فيها عندهم من جنس القدح في الحسيات والضروريات ونحن لا نسلك سبيل هؤلاء ولا سبيل هؤلاء بل نسلك سبيل التوسط والإنصاف ونجانب طريق الجور والإنحراف فلا نبطل الشرع بالقدر ولا نكذب بالقدر لأجل الشرع بل نؤمن بالمقدور ونصدق الشرع فنؤمن بقضاء الله وقدره وشرعه وأمره ولا نعارض بينهما فنبطل الأسباب المقدورة أو نقدح في الشريعة المنزلة كما فعله الطائفتان المنحرفتان فإحداهما بطلت ما قدره الله من الأسباب بما فهمته من الشرع وهذا من تقصيرها في الشرع والقدر والأخرى توصلت إلى القدح في الشرع وإبطاله بما تشاهده من تأثير الأسباب وإرتباطها بمسبباتها لما ظنت أن الشرع نفاها وكذبت بالشارع فالطائفتان جانيتان على الشرع لكن الموفقون المهديون آمنوا بقدر الله وشرعه ولم يعارضوا أحدهما بالآخر بل صدر منهما الآخر عندهم وقرره فكان الأمر تفصيلا للقدر وكاشفا عنه وحاكما عليه والا أصل للأمر ومنفذ له وشاهد له ومصدق له فلولا القدر لما وجد الأمر ولا تحقق
على ساقه ولولا الأمر لما تميز القدر ولا تبينت مراتبه وتصاريفه فالقدر مظهر للأمر والأمر تفصيل له والله سبحانه له الخلق والأمر فلا يكون إلا خالقا آمرا فأمره تصريف لقدره وقدره منفذ لأمره ومن أبصر هذا حق البصر وانفتحت له عين قلبه تبين له سر ارتباط الأسباب بمسبباتها وجريانها فيها وأن القدح فيها وإبطالها إبطال للأمر وتبين له أن كمال التوحيد بإثبات الأسباب لا أن إثباتها نقض للتوحيد كما زعم منكروها حيث جعلوا إبطالها من لوازم التوحيد فجنوا على التوحيد والشرع والتزموا تكذيب الحس والعقل ووقعوا في أنواع من المكابرة سلطت عليهم أعداء الشريعة وأوجبت لهم إن أساؤا بها الظن وتنقصوها وزعموا أنها خطابية وإقناعية وجدلية لابرهانية فعظم الخطب وتفاقم الأمر واشتدت البلية بالطائفتين وقد قيل أن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل ونحن بحمد الله نبين الأمر في ذلك ونوضح أيضا ما يتبين به تصديق كل من الأمرين الآخر وشهادته له وتزكيته له ونبين ارتباط كل من الأمرين وعدم انفكاكه عنه فنقول وبالله التوفيق 000
أما ما ذكرتم من أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يعجبه الفأل الحسن فلا ريب في ثبوت ذلك عنه وقد قرن ذلك بإبطال الطيرة كما في الصحيحين من حديث الزهري عن عبيد بن عبدالله عن أبى هريرة رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى عليه وسلم لاطيرة وخيرها الفأل قالوا وما الفأل يا رسول الله قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم فابتدأهم النبي صلى الله عليه و سلم بإزالة الشبهة وأبطال الطيرة لئلا يتوهموها عليه في إعجابه بالفأل الصالح وليس في الإعجاب بالفأل ومحبته شىء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة وموجب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى مايلائمها ويوافقها مما ينفعها كما أخبرهم أنه حبب إليه من الدنيا النساء والطيب 00
وفي بعض الآثار أنه صلى الله عليه و سلم كان يعجبه الفاغية وهى نور الحناء وكان يحب الحلواء والعسل وكان يحب الشراب البارد الحلو ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع إليه ويحب معالي الأخلاق ومكارم الشيم وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي إليهما والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الإسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم إليه وكذلك جعل فيها الإرتياح والاستبشار والسرور باسم السلام والفلاح والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر والغنم والربح والطيب ونيل الأمنية والفرح والغوث والعز والغنى وأمثالها فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوى بها القلب وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال فأحزنها ذلك وأثار لها خوفا وطيرة وأنكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه فأورث لها ذلك ضررا في الدنيا ونقصا في الإيمان ومقارفة للشرك كما ذكره أبو عمر
في التمهيد من حديث المقري عن أبى لهيعة حدثنا ابن هبيرة عن أبى عبد الرحمن الجيلى عن عبدالله بن عمر عن رسول صلى الله عليه و سلم قال من أرجعته الطيرة من حاجته فقد أشرك قال وما كفارة ذلك يا رسول الله قال أن يقول أحدهم اللهم لاطير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا إله غيرك ثم يمضى لحاجته 00
وذكر ابن وهب قال أخبرني أسامة بن زيد قال سمعت نافع بن جبير ابن مطعم يقول سأل كعب الأحبار عبدالله بن عمر هل تتطير فقال نعم قال فكيف تقول إذا تطيرت قال أقول اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ولا رب غيرك ولا قوة إلا بك فقال كعب أنه أفقه العرب والله إنها لكذلك في التوراة وهذا الذي جعله الله سبحانه في طباع الناس وغرائزهم من الإعجاب بالأسماء الحسنة والألفاظ المحبوبة وهو نظير ما جعل في غرائزهم من الإعجاب بالمناظر الأنيقة والرياض المنورة والمياه الصافية والألوان الحسنة والروائح الطيبة والمطاعم المستلذة وذلك أمر لا يمكن دفعه ولا يحد القلب عنه انصرافا فهو ينفع المؤمن ويسر نفسه وينشطها ولا يضرها في إيمانها وتوحيدها وأخبر صلى الله عليه و سلم في حديث أبى هريرة أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فقال لا طيرة وخيرها الفأل فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خيرها ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهما ومضرة الآخر ونظير هذا منعه من الرقاء بالشرك وإذنه في الرقية إذا لم تكن شركا لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة وقد اعتاص هذا الفرقان على أفهام كثير ممن غلظ عن معرفة الحق والدين حجابه وغلظ عنه طبعه وكشف عنه فهمه فقال السامع إذا سمع مثلا يا بشارة أو أبشر أو لا تخف أو يانجيح ونحوه وسمع ضد ذلك فأما أن يوجب الأمر أن مايشاكلهما وأما وأن لا يوجبا شيئا فأما أن يوجب أحدهما دون الآخر فلا وجه له وهذا من عمى عن الهدى وصم عن سماعه وإنما تحصل الهداية من ألفاظ رسول الله صلى عليه وسلم وتشرق ألفاظها في صدر من تلقاها بالتصديق والقبول فأذعن لها بالسمع والطاعة وقابلها بالرضى والتسليم وعلم أنها منبع الهدى ومعين الحق ونحن بحمد الله نوضح لمن اشتبه ذلك عليه فرقان ما بينهما وفائدة الفأل ومضرة الطيرة فنقول 00
الفأل والطيرة وإن كان مأخذهما سواء ومجتناهما واحدا فإنهما يختلفان بالمقاصد ويفترقان بالمذاهب فما كان محبوبا مستحسنا تفاءلوا به وسموه الفأل وأحبوه ورضوه وما كان مكروها قبيحا منفرا تشاءموا به وكرهوه وتطيروا منه وسموه طيرة تعرقة بين الأمرين وتفصيلا بين الوجهين وسئل بعض الحكماء فقيل له ما بالكم تكرهون الطيرة وتحبون الفأل فقال لنا في الفأل عاجل البشرى وإن قصر عن الأمل ونكره الطيرة لما يلزم قلوبنا من الوجل وهذا الفرقان حسن جدا وأحسن منه ما قاله ابن الرومي في ذلك الفأل لسان الزمان والطيرة عنوان الحدثان وقد كانت العرب تقلب الأسماء تطيرا وتفاؤل
فيسمون اللديغ سليما باسم السلامة وتطيرا من اسم السقم ويسمون العطشان ناهلا أي سنهل والنهل الشرب تفاؤلا باسم الري ويسمون الفلاة مفازة أي منجاة تفاؤلا بالفوز والنجاة ولم يسموها مهلكة لأجل الطيرة وكانت لهم مذاهب في تسمية أولادهم فمنهم من سموه بأسماء تفاؤلا بالظفر على أعدائهم نحو غالب وغلاب ومالك وظالم وعارم ومنازل ومقاتل ومعارك ومسهر ومؤرق ومصبح وطارق ومنهم من تفاءل بالسلام كتسميتهم بسالم وثابت ونحوه ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ والسعادة كسعد وسعيد وأسعد ومسعود وسعدى وغانم ونحو ذلك ومنهم من قصد لتسميته بأسماء السباع ترهيبا لأعدائهم نحو أسد وليث وذئب وضرغام وشبل ونحوها ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن من الأجسام تفاؤلا بالقوة كحجر وصخر وفهر وجندل ومنهم من كان يخرج من منزله وامرأته تمخض فيسمى ما تلده باسم أول ما يلقاه كائنا ما كان من سبع أو ثعلب أو ضب أو كلب أو ظبي أو حشيش أو غيره وكان القوم على ذلك إلى أن جاء الله بالإسلام ومحمد رسوله صلى الله عليه و سلم ففرق به بين الهدى والضلال والغي والرشاد وبين الحسن والقبيح والمحبوب والمكروه والضار والنافع والحق والباطل فكره الطيرة وأبطلها واستحب الفأل وحمده فقال لا طيرة وخيرها الفأل قالوا وما الفأل قال الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم وقال عبدالله بن عباس لا طيرة ولكنه فأل والفأل المرسل يسار وسالم ونحوه من الإسم يعرض لك على غير ميعاد وسئل بعض العلماء عن الفأل فقال أن تسمع وأنت قد أضللت بعيرا أو شيئا يا واجد أو أنت خائف يا سالم وقال الأصمعي سألت ابن عون عن الفأل فقال أن يكون مريضا فيسمع يا سالم وأخبرك عن نفسي بقضية من ذلك وهي أني أضللت بعض الأولاد يوم التروية بمكة وكان طفلا فجهدت في طلبه والنداء عليه في سائر الركب إلى وقت يوم الثامن فلم أقدر له على خبر فأيست منه فقال لي إنسان إن هذا عجز اركب وادخل الآن إلى مكة فتطلبه فيها فركبت فرسا فما هو إلا أن استقبلت جماعة يتحدثون في سواد الليل في الطريق وأحدهم يقول ضاع له شيء فلقيه فلا أدري انقضاء كلمته كان اسرع أم وجداني الطفل مع بعض أهل مكة في محملة عرفته بصوته فقوله صلى الله عليه و سلم ولا طيرة وخيرها الفأل ينفي عن الفأل مذهب الطيرة من تأثير أو فعل أو شركة ويخلص الفال منها وفي الفرقان بينهما فائدة كبيرة وهي أن التطير هو التشاؤم من الشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفره وامتنع بها مما عزم عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله والتطير مما يراه أو يسمعه وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين وأعبده وتوكل عليه وعليه توكلت وإليه أنيب فيصير قلبه متعلقا بغير الله عبادة وتوكلا فيفسد عليه قلبه وإيمانه