كتاب : بيان تلبيس الجهمية
المؤلف : أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني
فيأمر بما يشاء وينهى عما شاء وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمني أسلت تزعم أن فيك روحا قال نعم قال فهل رأيت روحك قال لا قال سمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا تشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله ليس كمثله شيء وهو الله في السموات وفي الأرض و لا تدركه الأبصار فبنى أصل كلامه كله على هؤلاء الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وزعم أن من وصف من الله شيئا مما وصف به نفسه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بشرا كثيرا
فقد ذكر بأن السمنية طالبوه بأن يكون إلاهه معروفا ببعض حواسه الخمس وأن مالا يعرفه هو بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعلمه وهذا يقتضي أنما لا يحسه الإنسان بشيء من حواسه الخمس فإنه لا يعرفه وهذا تغليظ منهم وظن أنهم يقولون إن مذهبهم أن الإنسان لا يعرف شيئا إلا ما يحسه ببعض حواسه الخمس ثم إن الجهم أجابهم بدعوى وجود موجود لا يمكن إحساسه أيضا فقطعهم مع غلطه في المناظرة ومغالطتهم أيضا ولو كانوا هم لا يقرون إلا بما أحسه أحدهم لم يكونوا قد انقطعوا بمثل هذه المناظرة لأن غايتها إثبات وجود موجود غير محسوس فيقاس الرب عليه فلو لم يكونوا يقرون بشيء من القياس العقلي لما سمعوا مثل هذا الكلام ولا أمكن مخاطبتهم به كما لا يمكن أن يحتج بقول الأنبياء على من كذبهم
ولا يقال هو أقام الحجة عليهم ببيان وجود موجود غير محسوس ثم قاس عليه لأنه يقال لو كان من أصلهم أنهم لا يقبلون القياس في المحسوس لكانوا لا يقبلونه فيما لزمهم القول به من غير المحسوس وكانوا يقولون هذا يعلم وجوده كما ذكرت فمن أين يجب علينا أن نعترف بنظيره إذا كان من أصلهم أن الشيء لا يعرف حكمه من جهة النظير
بل الذي يقال إن القوم كانوا يقولون لا يكون شيء موجودا إلا أن يمكن إحساسه فلا يصدق الإنسان بوجود مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس لا يقولون الإنسان المعين لا يعلم إلا ما أحسه هو بل ينكر ما أخبره جميع الناس من الأمور التي تماثل ما أحسه وينكر أيضا وجود نظير ما أحسه أو لا يمكنه الاعتراف بذلك فإن هذا لا يتصور أن تقوله طائفة مدنية وقد ذكر هذا المتكلمون فقالوا إن الطائفة التي تبلغ مبلغ التواتر لا يتفقون على إنكار ما يعرف بالضرورة كما ذكر المؤسس في هذا الكتاب إن الطائفة العظيمة من العقلاء لا يجتمعون على إنكار الضروريات فلا ينقلهم ذلك السلب العام عن طائفة من العقلاء ولا يبين به أن طوائف العقلاء يقعوا في شيء من هذا السلب وكلا الأمرين باطل بل التحقيق أن العقلاء لا يتفقون على إنكار العلوم الضرورية من غير تواطئ واتفاق كما لا يتفقون على الكذب من غير تواطئ ولا اتفاق وذلك أن الله تعالى خلق الإنسان يعلم الأمور الضرورية بغير اختياره كم يجهل بعضها وخلقه بفطرته يخبر بما يعلمه إلا لمعارض يغيره عن فطرته وكذلك خلقه بفطرته يريد العدل والمصلحة إلا لمعارض فهو وإن كان ظلوما جهولا فذاك في كثير من الأمور أما أن تكون
أمة من الأمم تجهل كل شيء أو تكذب في كل شيء أو تظلم في كل شيء فهذا لا يتفق أبدا فإن اجتماع بني آدم في الدنيا وهو الاجتماع الفطري الطبيعي الذي لا يعيشون بدونه لا يتصور مع هذا الإنكار وذلك أنهم لا بد أن يقروا بأن لأحدهم أبا وأخا ونحو ذلك ومن المعلوم أنه لم يعرف بحسه إحبال أبيه لأمه ولا ولادة أمه له وكذلك لم يحس ولادة أهله وأهل مدينته مع أنه لا بد لهم من اعتراف أن هذه أم فلان وهذا ابنها وإنما يشهد الولادة في العادة بعض النساء وكذلك لا بد أن يعرف أن آباءهم وأمهاتهم مولودون وأن أجدادهم ماتوا وأن الناس يموتون في الجملة ولم يحس كل منهم موت من غاب عنه ولا أن أحدهم يستعين بالآخر لجلب منفعة ودفع مضرة مباينة فيصلح له طعاما وشرابا أو لباسا ويحصل ذلك بأنواع الصناعات والمعاوضات الذي لم يشهد بحسه تفاصيل ذلك بل يستفيده من إخبار المباشرين له وكذلك ما يكون في قريته ومدينته من أحوال أهلها وصناعتهم وأحوالهم التي تتعلق مصلحته بها لا يعرف كل منهم كل شيء في ذلك بالمشاهدة بل بعضهم يشهد ذلك ويخبر غيره حتى يخبر بعضهم بعضا بالمدائن القريبة منهم وأحوالها ولا يخفى على سليم العقل أن الطعام الذي يأكله واللباس الذي يلبسه قد أوتي به إليه من مكان لم يشهده وصنع بأساب متنوعة لم يشهد عامتها وكذلك لا بد لكل مة من رئيس مطاع وكبير منهم لا يشهدونه وأكثرهم لا يشهدون تفاصيل أحواله التي تتعلق مصالحهم بها وإنما يتسامعون بها ولهذا جاءت الشريعة بقبول شهادة الاستفاضة في هذا وأمثاله كالموت والنسب باتفاق الفقهاء وإن كان لهم فيما يقبل فيه غير ذلك أقوال مختلفة
ففي الجملة قبول الأخبار المستفيضة والمتواترة ونحو ذلك فيما يحس جنسه هو من الأمور الفطرية الضرورية لبني آدم كما أن الأكل والشرب والنكاح
لهم كذلك فمن قال إن أمة من الأمم عاشت بدون هذه العلوم والأقوال كمن قال إنها عاشت بدون هذه الحياة وهذه الأفعال
ولكن اشتبه النوع بالشخص فلما كان قولهم إنما لا يعرف بجنس الحواس لم يعترف به اشتبه ذلك بأن كل من لا يعرف هذا الجنس المعين لم يعترف به وبين القولين بون عظيم جدا فإن هذا الثاني في غاية الجحد والتكذيب ولهذا اشتد إنكار الناس كلهم لهذا القول وجعل هؤلاء المتكلمين هذا أحد أنواع السفسطة
ولكن غلطهم في تفصيل السفسطة كغلطهم في جملتها فإنهم ذكروا أن من الناس من ينكر جملة العلوم ويجحدها ومنهم من يشك ويقول لا أدري ويسمونهم المتجاهلة واللاأدرية ومنهم من يقول إن الحقائق تتبع العقائد ثم قالوا منهم من يعترف بالحسيات فقط ومنهم من يضم إلى ذلك المتواترات ويقولون إن رئيس هؤلاء شخص يقال له سفسطاء نسبوا إليه كما نسبت المانوية والجهمية إلى رئيسهم وهذا غلط فإن أمة من الأمم لا يتصور أن تنكر ذلك ولا يتصور أن عاقلا يصر على إنكار ذلك ولكن قد يعرض للعقل نوع من الفساد كما يعرض للحس فينكر المنكر لذلك ما دام به ذلك المرض والآفة العارضة لعقله أو حسه أما أن يكون ذلك مقالة ومذهبا يقولها طائفة عقلاء يعيشون بين بني آدم فهذا لا يتصور ولكن وقع اشتباه في هذا النقل فإن هذه الكلمة هي كلمة معربة وأصلها باليونانية سوفسقيا أي حكمة مموهة فإن سوفيا باليونانية هي الحكمة ولهذا يقولون فيلسوف أي محب الحكمة
وهم قسموا الحكمة القياسية إلى خمس أنواع برهانية وخطابية وجدلية وشعرية ومموهة ومفلطية فهذه المموهة المغلطية هي التي تشبه
الحق وتوهم أنها حق باطلة قطعا لا يجوز أن يظن صدقها ولا أن تتأثر النفس عنها فإن الشعرية قد تتأثر النفس عنها كما يتأثر الإنسان عن أقوال الشعر التي فيها من المدح والذم ما يجزم عقله بكذبه لكن لما فيها من التخيل والتشبيه يؤثر في النفس وإن علم أنها ليست مطابقة وأما هذه المموهة فهي تشبه الحق البرهاني ونحوه مما ينبغي قبوله وهي في الحقيقة باطلة يجب ردها ولكن موهت كما يموه الحق بالباطل فسموها سوفسقيا أي حكمة مموهة
ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المأة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم وفيها من أمور الطب والحساب مالا يضر كونه في ذلك وصار الناس فيها أشتاتا قوم يقبلونها وقوم يحلون ما فيها وقوم يعرضون ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب مضموما إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة حتى صار ما مدح من الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرهم ولم يعلموا أن اسم الحكمة مثل اسم العلم والعقل والمعرفة والدين والحق والباطل والخير والصدق والمحبة ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها فإن كل أمة من أهل الكتب وغير أهل الكتب تسمي بهذه الأسماء ما هو عندها كذلك من القول والعمل وإن كانت في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن
وما تهوى الأنفس ولهذا قال تعالى وتقدس كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه كما قال تعالى وتقدس يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع
وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعيرون باللفظة المعربة من سوفسقيا وهي سوفسطا عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق وليس الأمر كذلك وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم فكل من جحد حقا معلوما وموه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرا بأمور أخرى وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره قال تعالى وتقدس وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فهؤلاء سفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى وقال تعالى وتقدس فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولهذا كان جمهور من كذب بالحق الذي بعث به رسله من ذوي التميز هم من الجاحدين المعاندين وهم من شر السوفسطائين
فهكذا ما ذكروه عن السمنية إنما كان أصل قولهم أن الموجود لا بد أن يمكن أن يكون محسوسا بإحدى الحواس لا أنه لا بد لمن أقر به أن يحس به
وهذا الأصل الذي قالوه عليه أهل الأثبات فإن أهل السنة والجماعة المقرين بأن الله تعالى يرى متفقون على أن مالا يمكن معرفته بشيء من الحواس فإنما يكون معدوما لا موجودا
فكان حق الجهم أن يقول لهم إن أردتم أني لا بد أن أحس بإلاهي فلا يجب عندكم أن ينكر الإنسان ما لم يحسه هو وإن أردتم أنه لا بد أن يمكن أن يحس به فإلاهي يمكن أن يرى وأن يسمع كلامه وإن أردتم أنه لا بد أن يكون قد عرفه بالحس بعض الآدميين فهذا مع أنه غير واجب فقد سمع كلامه من سمعه من الرسل وهو أحد الحواس وقد رواه بعضهم أيضا عند كثير من أهل الأثبات وكان يقول لهم أتريدون أنه لا بد أن يحسه هذا الحس الظاهر أم يكفي إحساس الباطن إياه وشهوده إياه الأول منقوض بأحوالنا الباطنية الجسمانية والنفسانية وأما الثاني فمسلم وقد شهدته بعض القلوب
فعدل عن ذلك وادعى وجود موجود لا يمكن إحساسه وهو الروح وهذا هو قول المتفلسفة المشائين فيها وحجته هذه من جنس حجة أبي عبدالله الرازي لما ادعى جواز وجود موجود لا يمكن إحساسه ولا يكون داخل العالم ولا خارجه واحتج على ذلك بقول هؤلاء المتفلسفة ومن وافقهم في العقول والنفوس ويقول بقولهم وقول من وافقهم من متكلمي المسلمين في النفس الناطقة فجهم أول هؤلاء ومقدمهم الأول ولهذا ألزمته هذه الحجة أن يصف الرب تعالى وتقدس من الحلول والاتحاد بنحو مما قالته النصارى في المسيح لكن أولئك خصوه
بالمسيح والجهمية تطلقه في الموجودات فقولهم في كل مكان نظير قول النصارى إنه حال في المسيح
إذا تبين ذلك فنقول المتكلمون والفلاسفة كلهم على اختلاف مقالاتهم هم في قياس الغائب على الشاهد مضطر بين كل منهم يستعمله فيما يثبته ويرد على منازعه ما استعمله في ذلك وإن كان قد استعمل هو في موضع آخر ما هو دونه وسبب ذلك أنهم لم يمشوا على صراط مستقيم بل صار قبوله ورده هو بحسب القول لا بحسب ما يستحقه القياس العقلي كما تجدهم أيضا في النصوص النبوية كل منهم يقبل منها ما وافق قوله ويرد منها ما خالف قوله وإن كان المردود من الأخبار المقبولة باتفاق أهل العلم بالحديث والذي قبله من الأحاديث المكذوبة باتفاق أهل العلم والحديث فحالهم في الأقيسة العقلية كحالهم في النصوص السمعية لهم في ذلك من التناقض والاضطراب مالا يحصيه إلا رب الأرباب
وأما السلف والأئمة فكانوا في ذلك من العدل والاستقامة وموافقة المعقول الصريح والمنقول الصحيح بحال آخر فالعصمة وإن كانت شاملة لجماعتهم فآحادهم مع ذلك لا يجترؤون في مخالفة النصوص المشهورة والمعقولات المعروفة على ما يجترئ عليه هؤلاء المسفسطون وكانوا يستعملون القياس العقلي على النحو الذي ورد به القرآن في الأمثال التي ضربها الله تعالى للناس فإن الله ضرب للناس في القرآن من كل مثل وبين بالأقيسة العقلية المقبولة بالعقل الصريح من المطالب الآلهية والمقاصد الربانية مالا تصل إليه آراء هؤلاء المتكلمين في
المسائل والوسائل في الأحكام والدلائل كما قد تكلمنا على ذلك في غير موضع
والله تعالى له المثل الأعلى فلا يجوز أن يقاس على غيره قياس تمثيل يستوي فيه الأصل والفرع ولا يقاس مع غيره قياس شمول تستوي أفراده في حكمه فإن الله سبحانه ليس مثلا لغيره ولا مساويا له أصلا بل مثل هذا القياس هو ضرب الأمثال لله وهو من الشرك والعدل بالله وجعل الند لله وجعل غيره له كفوا وسميا وهم مع هذا كثير والبراءة من التشبيه والذم له وهم في مثل هذه المقاييس داخلون في حقيقة التمثيل والتشبيه والعدل بالله وجعل غيره له كفوا وندا وسميا كما فعلوا في مسائل الصفات والقدر وغير ذلك ولهذا ذكر الوزير أبو المظفر ابن هبيرة في كتاب الإيضاح في شرح الصحاح أن أهل السنة يحكون أن النطق بإثبات الصفات وأحاديثها يشتمل على كلمات متداولات بين الخالق وخلقه وتحرجوا من أن يقولوا مشتركة لأن الله تعالى لا شريك له بل لله المثل الأعلى وذلك هو قياس الأولى والأحرى فكلما ثبت للمخلوق من صفات الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالخالق أحق به وأولى وأحرى به منه لأنه أكمل منه ولأنه هو الذي أعطاه ذلك الكمال فالمعطي الكمال لغيره أولى وأحرى أن يكون هو موصوفا به إذ ليس أعطى وأنه سلب نفسه ما يستحقه وجعله لغيره فإن ذلك لا يمكن بل وهب
له من إحسانه وعطائه ما وهبه من ذلك كالحياة والعلم والقدرة وكذلك ما كان منتفيا عن المخلوق لكونه نقصا وعيبا فالخالق هو أحق بأن ينزه عن ذلك وقد بسطت هذه القاعدة في غير هذا الموضع
وعلى هذا فجميع الأمور الوجودية المحضة يكون الرب أحق بها لأن وجوده أكمل ولأنه هو الواهب لها فهو أحق باتصافه بها وجميع الأمور العدمية المحضة يكون الرب أحق بالتنزيه عنها لأنه عن العدم أبعد من سائر الموجودات ولأن العدم ممتنع لذاته على ذاته وذاته بذاته تنافي العدم وما كان فيه وجود وعدم كان أحق بما فيه من الوجود وأبعد عما فيه من العدم فهذا أصل ينبغي معرفته فإذا أثبت له صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر وغير ذلك بهذه الطريق القياسية العقلية التي لله فيها المثل الأعلى كان ذلك اعتبارا صحيحا وكذلك إذا نفي عنه الشريك والولد والعجز والجهل ونحو ذلك بمثل هذه الطريق ولهذا كان الإمام أحمد وغيره من الأئمة يستعملون مثل هذه الطريق في الأقيسة العقلية التي ناظروا بها الجهمية
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن كون الموجود قائما بنفسه أو موصوفا أو أن له من الحقيقة والصفة والقدرة ما استحق به ألا يكون بحيث غيره وأن لا يكون معدوما بل ما أوجب أن يكون قائما بنفسه مباينا لغيره وأمثال ذلك هو من الأمور الوجودية باعتبار الغائب فيها بالشاهد صار على هذا الصراط المستقيم فكل ما كان أقرب إلى الوجود كان إليه أقرب وكلما كان أقرب إلى المعدوم فهو عنه أبعد
الوجه الثاني أن يقال من المعلوم أن لفظ الوجود هو في أصل اللغة مصدر وجدت الشيء أجده وجودا ومنه قوله تعالى فلم تجدوا ماءا
وقوله حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده وقوله ألم يجدك يتيما فآوى ووجدك ضالا فهدى وأمثال ذلك فالموجود هو الذي يحده الواجد فنسبة الموجود إلى الوجود كنسبة المعلوم إلى العلم والمذكور إلى الذكر والمحس المحسوس إلى الحس والمشهود والمرئي إلى الرؤية وهذا الاسم إنما يستحقه من يكون موجودا لواجد يجده لكن هم في مثل هذا قد يقولون مشهود ومرئي وموجود ونحو ذلك لما يكون بحيث يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الواجد وإن تكلموا بذلك في الوقت الذي لا يكون فيه يشهده ويراه ويجده غيره وقد لا يقولون هذا إلا في الوقت الذي يشهده الشاهد ويراه الرائي ويجده الوجد وكثيرا ما يقصدون به المعنى الأول فيطلقون الموجود على ما هو كائن ثابت لكونه بحيث يجده الواجد
وكذلك لفظ الوجود يريدون بها تارة المصدر الذي هو الأصل فيها ويريدون بها تارة المفعول أي الموجود كما في لفظ الخلق ونحوه وكذلك لفظ الفعل فإنهم يقولون وجد هذا وهذا صيغة فعل مبني للمفعول فقد يريدون بذلك أنه وجده واجد وقد يريدون بذلك أنه كان وحصل حتى صار بحيث يجده الواجد ثم لما صار هذا المعنى هو الغالب في قصدهم صار لفظ الموجود عندهم والوجود يراد به الثبوت والكون والحصول من غير أن يستشعر فيه وجود واجد له لا بالفعل ولا بالاستحقاق فهذه ثلاث معان لكن غروب هذا المعنى عن الذهن إنما كان لما لم يقصد الناطق إلا نفس الكون والثبوت وإن كان المعنى الآخر لازم له
وحينئذ فنقول اتفاق الناس على استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى دليل على تلازمها فكما أن كل ما وجده واجد فله حصول في نفسه فكما له حصول في نفسه فإنه بحيث يجده الواجد ولا يجوز أن يسمى بالموجود ما يكون حيث لا يجده الواجد لأن هذا سلب لمعنى اللفظ الذي به صح إطلاقه على هذا المسمى
كما أن اسم الحي والعالم والقادر لما أطلقوه على المسمى باعتبار كونه عالما وحيا وقادرا لم يجز أن تخرج هذه المعاني من هذه الأسماء ولهذا كثيرا ممن أطلق هذا الاسم على الله تعالى لا يريد به إلا ما فيه من معنى الإضافة مثل قول الداعي يا مقصود يا موجود وقول المذكر والداعي يا من يجيب من قصده أو من طلب الله صادقا وجده وعلى هذا دل قوله حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فإنما دل على هذا المعنى بلفظ الفعل الماضي وهو قوله ووجد الله عنده لكنه عداه إلى مفعولين وإذا كان كذلك علم أنه يجب أن يكون بحيث يجده القاصد والطالب ويجده الواجدون وهذا بعينه هو أنه بحيث يحسونه فإن وجود الشيء وإحساسه متلازمان بل هو هو لا يستعمل لفظ موجود ووجدته فيما لا يحس ولا يمكن الإحساس به البتة
وهذا معنى احتجاج المثبتة بهذا كما قال القاضي أبو يعلى حيث قال في قوله الآخر أثبت الجهة بعد أن كان ينفيها ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارج منها وقائل هذا بمثابة من قال إثبات موجود مع وجود غيره لا يكون أحدهما قبل وجود الآخر ولا بعده قال ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم فبينوا أن المستقر في فطر الناس أن قولهم طلبته فلم أجده في موضع ما هو يدل على أنهم لم يحسوه في أين من الأيون هذا بمنزلة قولهم فإذا هو معدوم لأن ضد المعدوم هو ما يكون حيث يجده الواجد وقولنا بحيث يجده الواجد هو إشارة إلى الأين الذي يوجد فيه فمالا أين له ولا حيث يمتنع أن يجده الواجد وما امتنع لأن يجده الواجد لم يكن موجودا
بل كان معدوما كما بين أن نفي الأين والحيث ونحوهما من الظروف من جميع الوجوه كنفي المقارنة بالقبل والبعد والمع ومعلوم أن هذا لا ينطبق إلا على المعدوم فكذلك الآخر
والذي يحقق هذا أنك لست تجد أحدا من أهل الفطر السليمة مع ذكائه ونظره وجودة تصوره إلا إذا بينت له حقيقة قول السالبة قال هذا لا شيء ولهذا كثر كلام الناس فيهم بالخبر عنهم بأنهم معطلون وأنهم أعدموه وأمثال ذلك وقد استقرئت أنا في طوائف من الآدميين فوجدت فطرهم كلهم على هذا
الوجه الثالث أن يقولوا نحن نعلم بالضرورة العقلية أن الموجود إما أن يكون موصوفا وإما أن يكون صفة أو نعلم أن القائم بنفسه لا يكون إلا موصوفا وهذا متفق عليه بين الصفاتية ومن نازع في ذلك قيل له أنت توافقنا على ما هو معلوم بالفطرة من أن الموجود القائم بنفسه لا بد أن يوصف أي يخبر عنه بما هو مختص به متميز به عن غيره إذ الموجود في الخارج لا يكون مرسلا مطلقا لا يتميز بشيء بل فساد هذا معلوم بالضرورة باتفاق العقلاء المتفقين على أن الكلي لا يكون في الخارج كليا مطلقا بل لا يكون إلا مخصوصا معينا وإذا كان كذلك فلا يعني بالموصوف إلا ما يوصف سواء قيل إن الصفة ذاتية أو معنوية كقولنا الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وكذلك نعلم أن الموجود إما جسم وإما عرض وإما متحيز وإما قائم بمتحيز لمن كان يفهم معاني هذه العبارات الاصطلاحية فإن من فهم هذا وهذا وهذا وتصوره تصورا تاما حصل له حينئذ العلم البديهي والضروري الفطري فإن العلم البديهي يعنون به ما كان تصور طرفيه كافيا في التصديق به فعدم التصديق به كثيرا ما يكون لعدم التصور الصحيح للطرفين
وهذه العبارات المجملة قد لا يتصور أكثر الناس من إذا هل الاصطلاح بها فإذا تصوروا معناها ومعنى الموصوف والقائم بنفسه كان علمهم بهذا كعلمهم بهذا كل ذلك فطري ولذلك اتفق على ذلك محققو المثبتة ومحققو النفاة أما النفاة العقلاء من المتفلسفة والقرامطة وأهل الوحدة وأمثال هؤلاء فقد علموا أنهم مضطرون إلى أن يقولوا هو الوجود المطلق وهو لا يتعين ولا يتخصص ولا كذا ولا كذا لعلمهم بأنه متى كانت له حقيقة معينة في الخارج وخاصة تميزها لزم أن يكون جسما متحيزا داخل العالم أو خارجه وهم قد يسلمون نفي ذلك فصاروا دائرين بين المعنى الذي سموه تجسيما وبين هذا النفي والتعطيل فذهبوا إلى هذا لكنهم ظنوا إمكان وجود ما أثبتوه في الخارج وجميع العقلاء يعلمون بالفطرة الضرورية استحالة وجود مطلق في الخارج ويعلمون أن المطلق بشرط الإطلاق وجوده في الأذهان لا في الأعيان وهؤلاء أيضا يعلمون ذلك إذا تدبروه ورجعوا إلى ما معهم من العلوم الفطرية الصحيحة العقلية
ولهذا لما خاطبت بهذا غير واحد من أفاضل أهل الوحدة الكبار وثبت هذا لهم تبين الأمر وعلموا من أين دخل الداخل على من كان عندهم أئمة العالم في التحقيق والعرفان ومن كان حاذقا في هذه الأمور منهم يقول ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صرائح العقول ولذلك عبر هذا بالكشف والذوق والمشاهدة وهذا لا يحصل إلا بالرياضة والمجاهدة والخلوة ونحو ذلك من الطرق العبادية الزهدية الصوفية
وقلت لبعض أكابرهم لما خاطبني في هذا وكان مهتما في ذلك وطلب مني أن لا أخاطبه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وقال أنا لا أقول إنها خبر
والخبر محتمل لكن أمور أخرى وكنت علمت من حاله ما علمت معه ضعف تلك الأدلة في نفسه وكان مخاطبته بالأمور العقلية أيسر عليه وأبين له وإن كان ذلك مما بينه كتاب الله تعالى الذي ضرب للناس فيه من كل مثل وجعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه وأخبر المؤمنين عند التنازع في ظلمات و في قول مختلف يؤفك عنه من أفك وقال فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور كما قال تعالى أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ونحو ذلك مما يبين أن القول المختلف باطل وذم من لا يعقل مثل ذلك ويعمى عن الحق المعقول فقلت له لا نزاع في أنه قد يحصل من العلم بالكشف والمشاهدة مالا يحصل بمجرد العقل سواء كان للأنبياء فقط أو للأنبياء والأولياء أو لهم ولغيرهم لكن يجب الفرق بين ما يقصر العقل عن دركه وما يعلم العقل استحالته بين مالا يعلم العقل ثبوته وبين ما يعلم العقل انتفاءه بين محارات العقول ومحالات العقول فإن الرسل صلوات الله عليهم وسلامه قد يخبرون بمحارات العقول وهو ما تعجز العقول عن معرفته ولا يخبرون بمحالات العقول وهو ما يعلم العقل استحالته قلت وهذا بين واضح فلو قال قائل إنه يعلم بالكشف والذوق والمشاهدة أو بالأخبار عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أو غير ذلك أن الواحد ليس نصف الاثنين وأن الواجب لذاته يكون ممتنعا لذاته وأن المخلوق يماثل الخالق في الحقيقة وأن الوجود كله ممكن الوجود ليس في الوجود وجود واجب ولا وجود قديم ونحو ذلك من القضايا التي يعلم العقل وجوبها وامتناعها وإمكانها فمن ادعى أنه يعلم بالكشف والبصر أو بالسماع والخير عن الأنبياء عليهم السلام ما ينافي هذا كانت هذه الدعوى باطلة فلما بينت له ذلك اعترف بهذا الأصل وبه يتبين زيف هؤلاء فلما تقرر
هذا ثبت له أن العقل الصريح يمنع أن يكون في الخارج وجود كلي مطلق بشرط الإطلاق وأن الكليات بشرط إطلاقها أو عمومها إنما وجودها في الأذهان لا في الخارج وكان عارفا بهذه العلوم وبينت له ما تستلزم أقوالهم الكثيرة من الجمع بين المتناقضات التي هي معلوم استحالتها ببداية العقول وما كان كذلك فإذا ادعى أنه عرفه كشفا وشهودا أو ذوقا علم أنه خيالات فاسدة وأذواق فاسدة وذلك أنه لا بد من أحد الأمرين إما أن يكون قد شهد ما وجوده في الأذهان فاعتقد وجوده في الأعيان كما يقع لكثير من الناس ومعلوم أن شهود الشيء غير العلم بكونه في النفس أو الخارج وهؤلاء قد يحصل لهم مجرد الشهود من غير تمييز بين الموجود في النفس أو الخارج وكثيرا ما يضلهم الشيطان بتخيلات لا حقيقة لها في الخارج وإما أن يكون قد شهد ما وجوده في الخارج فظن أنه الخالق وإنما هو مخلوق ليس هو الخالق فكل شهود وذوق وكشف يدعى فيه أن المشهود بالقلب هو الله وذلك مما يناقض المعلوم بصريح العقل ويخالف الكتاب والسنة والإجماع فإنه يكون المشهود به إما في الذهن وإما في الخارج ولكن ليس هو الله ولا هو ما يقال هو وجوده ولا ذاته وبسط الكلام في هذا له موضع آخر
فإن المؤسس وأمثاله وإن كانوا هم وهؤلاء يشتركون في إنكار الأصل وهو إنكار حقيقة وجود الله ومباينته لخلقه الذي يستلزم إنكاره هذه المقالات المتناقضة وفي الإقرار يثبتون ما يخالف ذلك من الأمور الممتنعة لكن هو وأمثاله لا يقولون بهذا ويسلمون أنه ليس وجودا مطلقا بل له حقيقة تختص به يمتاز بها عن من سواه
ولكن المقصود بيان أنه هو وأمثاله كما يعلمون بصريح العقل بطلان قول هؤلاء النفاة فالمثبتة يعلمون بصريح العقل امتناع أن يكون موجودا معينا مخصوصا قائما بنفسه ويكون مع ذلك لا داخل العالم ولا خارجه وأنه في اصطلاحهم لا جسم ولا عرض ولا جسم ولا متحيز كما يعلمون أنه يمتنع أن يقال إنه لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره فإنك إذا استفسرتهم عن معنى التحيز ومعنى الجسم فسروه بما يعلم أنه الموصوف بأنه القائم بنفسه ولهذا لا يعقل أحد ما هو قائم بنفسه إلا ما يقولون هو متحيز وجسم فدعوى المدعين وجود موجود ليس بمتحيز ولا جسم ولا قائم بمتحيز أو جسم مثل دعواهم وجود موجود ليس قائما بنفسه ولا قائما بغيره
وهذا يتبين بالوجه الرابع وهو أن يقال هم لا ينازعون أن الموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره والله سبحانه وتعالى قائم بنفسه وإن نازعوا في وصف غيره بأنه قائم بنفسه لتنازعهم في أن القائم بنفسه هل يراد به الموجود المستغني عن المحل أو المستغني عن المحل والمخصص والمكان وغير ذلك لكن المقصود هنا أنه لا يعقل ما هو قائم بنفسه بمعنى أنه غير حال في محل إلا ما هو مختص بما يقولون إنه جهة وإن كان حقيقته أمرا عدميا وما تصح عليه المحاذاة على اصطلاحهم وما هو في اصطلاحهم جسم ومتحيز هو المعدوم في صرائح العقول ومن قيل له هل تعقل شيئا قائما بنفسه ليس في محل وهو مع هذا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ومع هذا إنه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وأنه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدا عنه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسا له ولا محايثا له وأنه لا يشار إليه بأنه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو
ذلك من الأوصاف السلبية التي يجب أن يوصف بها ما يقال إنه ليس بجسم ولا متحيز لقال حاكما بصريح عقله هذه صفة المعدوم لا الموجود كما سمعنا ورأينا إنه يقول ذلك عامة من يذكر له ذلك من أهل العقول الصحيحة الذكية وكما يجده العاقل في نفسه إذا تأمل هذا القول وأعرض عما تلقنه من الاعتقادات السلبية وما اعتقده من يعظمها ويعظم قائلها واعتقاده أنهم حرروا هذه المعقولات فإن هذه العقائد التقليدية هي التي تصد القلوب عما فطرت عليه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
ثم إن هذه المقالات السلبية لم يقل شيئا منها إمام من أئمة المسلمين ولا نطق بها كتاب ولا سنة والطوائف المتكلمون قد أنكرها من حذاقهم من لا يحصيه إلا الله
فإن قيل الاستغناء عن المحل وصف سلبي فإذا كان القيام بالنفس وصفا سلبيا لم يدل على معنى ثبوتي وهو كونه متحيزا أو جسما
قال له منازعه أولا هذا منقوض بوصف الأجسام والجواهر بأنها قائمة بنفسها غنية عن المحل فإن هذا السلب يستلزم هذا الثبوت
وقالوا ثانيا نحن لم نجعل نفي السلب هو الثبوت وإنما قلت الشيء الموجود المحكوم عليه المخبر عنه بهذا السلب هو الذي يعلم القلب أنه محكوم عليه مخبر عنه بهذا الثبوت ونعلم أن لا يكون هذا السلب عن أمر موجود إلا مع هذا الثبوت
وقالوا ثالثا المستلزم لهذا الثبوت هو الأمر الوجودي المسلوب عنه المحل فهذا الأمر الوجودي هو الذي سموه المتحيز والجسم
وقالوا رابعا وهو الوجه الخامس إن القائم بنفسه لا يقوم بالقائم بنفسه ولا يكونان في حيز واحد بل كل منهما يمتنع أن يكون بحيث هو الآخر وهذا معنى قول المتكلمين إن الأجسام لا تتداخل ولما ذكروا عن النظام أنها تتداخل قالوا هذا قريب من جحد الضرورة ومن قال تتداخل لم يرد المعنى الذي يعلم بالضرورة بطلانه ولكن النظام جعل أعراض الجسم غير الحركة أجساما كاللون والطعم والريح وهذه متداخلة في محل واحد وهذا لا نزاع فيه وإنما النزاع في تسميته أجساما فأما الجسم القائم بنفسه فلم يقل أحد أنه يداخل مثله بل إذا تحلل في تضاعيف غيره زاد ذلك الغير في نفس حجمه وإذا كان القائمان بأنفسهما لا يكون أحدهما بحيث الآخر وإن كان القيام بالنفس عبارة عن عدم المحل فمعلوم أن كل واحد منهما له حيث يخصه وهو حيزه أو له قدر يخصه وجسم يخصه ونحو ذلك من العبارات وذلك مانع من المحايثة والمداخلة وإلا فإذا قدر أن كلا من الصفتين عدمي فالأمور العدمية لا تكون مانعة من الأمور الوجودية
والمتكلمون قد ذكروا تعليق منع كون الجسم بحيث الجسم الآخر فقال المعتزلة وطائفة من الصفاتية المانع منه التحيز والموجب لهذا الامتناع التحيز وعلى هذا فيجب نفي الحكم لانتفاء علته فما لا يكون متحيزا لا يكون مانعا من ذلك ما ذكرناه وقال بعضهم الموجب لذلك تضاد كونهما وعلى هذا فما لا يكون لا يضاد غيره والأكوان إنما تكون للأجسام باتفاقهم وهو ظاهر وقال بعضهم الاستحالة والامتناع لا يعلل أي هي ثابتة للذات وعلى هذا فالمعلوم إن ذلك ثابت للذوات المتحيزة فما لا يكون متحيزا لا تعقل فيه هذه
الاستحالة وعلى كل تقدير فيجب أن يكون ما ليس بمتحيز إذا كان قائما بنفسه أن لا يكون مانعا لغيره أن يداخله وهذا باطل قطعا وإذا كانت القلوب تعلم بالضرورة أن القائم بنفسه مانع لغيره من المداخلة وهذا الحكم مختص بالمتحيز علم أنها لا تعلم قائما بنفسه إلا المتحيز
الوجه السادس أن يقال ما علم به أن الموجود الممكن والمحدث لا يكون إلا جسما أو عرضا أو لا يكون إلا جوهرا أو جسما أو عرضا أو لا يكون إلا متحيزا أو قائما بمتحيز أو لا يكون إلا موصوفا أو لا يكون إلا قائما بنفسه أو بغيره يعلم به أن الموجود لا يكون إلا كذلك فإن الفطرة العقلية التي حكمت بذلك لم تفرق فيه بين موجود وموجود ولكن لما اعتقدت أن الموجود الواجب القديم يمتنع فيه هذا أخرجته من التقسيم لا لأن الفطرة السليمة والعقل الصريح مما يخرج ذلك ونحن لم نتكلم فيما دل على نفي ذلك عن الباري فإن هذا من باب المعارض وسنتكلم عليه وإنما المقصود هنا بيان أن ما به يعلم هذا التقسيم في الممكن والمحدث هو بعينه يعلم به التقسيم في الموجود مطلقا والمعتزلة ومن اتبعهم الذين يخرجون القديم من هذا التقسيم مما اعتقدوه لما اعتقدوه وهذا قول طائفة من الفلاسفة لا جميعهم وكذلك ذاك قول طائفة من المتكلمين لا جميعهم وكما أن قول هؤلاء الفلاسفة لم يكن مانعا للمتكلمين ومن وافقهم من الفلاسفة من هذا التقسيم فكذلك قول هؤلاء المتكلمين ليس مانعا لمن خالفوه من جماهير الناس وأهل الكلام والفلسفة من هذا التقسيم
ولهذا قال أئمة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة والنجارية والضرارية ومن أخذ ذلك عنهم من متكلمي الصفاتية كالأستاذ أبي المعالي إمام الحرمين وأمثاله في
تقسيم الموجودات الموجود إما أن كون له أول وإما أن يكون بلا أول والذي له أول هو الحادث وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي الحوادث إلى المحل وهذه القسمة أيضا تستند إلى نفي وإثبات قال ولو قيل هذه القسمة قسمة الموجودات لم يكن بعيدا غير أن الوجود الأول لا بدو له ولا نهاية لوجوده وكذلك أيضا لا نهاية لذاته ولا نهاية لصفاته وجودا وحكما فكذلك لا يتطرق إلى ذات القديم ولا إلى صفاته الأوهام ولا تجول فيه الأفكار
قلت وهذا لا يمنع من التقسيم فإن وصفه بالنهاية وعدمها فيه ما هو معروف في موضعه وهو لا يريد بسلبها أن ذاته لا تتناهى إنما يريد أنها بحيث لا يقال فيها هي متناهية أو ليست متناهية فهي عنده لا تقبل أحدا من الوصفين كما لا تقبل الوصف بالمحايثة والمباينة والدخول والخروج ونحو ذلك والخلو عن هذين الوصفين فرع إمكان ذلك أو ثبوته فلا يجعل دليلا على ما يقتضي وجوده إذ الشيء لا يكون دليلا على نفسه إذا كان مطلوبا بالدليل فكيف تكون دعوى الإمكان والثبوت دليلا على وجود الشيء قبل العلم بوجوده
وأيضا فقوله لا تتطرق إليه الأوهام ولا تجول فيه الأفكار إن أراد به لا تحيط به ولا تدركه فهذا حق وإن أراد به لا تثبته ولا تقر به فهذا باطل
وأيضا فعدم التناهي وعدم تطرق الأوهام والأفكار لا يمنع صحة التقسيم كما إذا قلنا الموجود إما قديم وإما حادث والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره وإما خالق وإما مخلوق وقد قال أولا في أقسام الموجودات تنقسم قسمين موجود لا افتتاح لوجوده وهذا القديم سبحانه وصفاته وموجود
لوجوده افتتاح وهو الحادث قال وهذه قسمة بديهية مستندة إلى إثبات ونفي لأن الموجود إما أن يكون له أول وإما أن لا يكون له أول فإذا كان قد أدخله في تقسيم الموجود إلى قديم ومحدث فكذلك يجب أن يدخله في قسمة الموجود إلى مستقل ومفتقر بل هذا التقسيم أبين وأوضح والعقلاء متفقون عليه فإنه لا نزاع بينهم أن الباري سبحانه هو موجود مستقل غير مفتقر كما أنهم متفقون على أنه قديم غير محدث لكن العلم باستقلاله وقيامه بنفسه هو أولى به وأبين وأسبق في القلب من كونه قديما كما أن العلم بوجوده أولى به من العلم بوجوب وجوده إذ لو لم يكن مستقلا بنفسه غنيا عن المحل امتنع أن يكون واجبا بخلاف العكس فإن ما لم يكن قديما وحده أو لم يكن واجبا بنفسه يمتنع أن يكون مستقلا أو موجودا فصار هذا مع هذا كالذات والصفات
وأيضا فإذا كان الموجود الأزلي لا بدو له ولا نهاية لوجوده وذلك لا يمنع من دخوله في تقسيم الموجود إلى قديم وحادث فكذلك كونه لا نهاية لذاته وضعا إن صح ذلك لا يكون مانعا من دخوله في التقسيم إلى مستقل ومفتقر
ومما يبين ذلك أن التقسيم الأول بالنسبة إلى الدهر والزمان كالتقسيم الثاني بالنسبة إلى الحيز والمكان فإن الحادث بالنسبة إلى الدهر والزمان كالمفتقر إلى محل بالنسبة إلى الحيز والمكان والقديم لا تحصره الأزمنة كالمستقبل الذي لا تحويه الأمكنة
ثم قال هؤلاء المحدث الذي يستغني عن المحل هو الجوهر في اصطلاح المتكلمين والمفتقر إلى المحل هو العرض ويشمل القسمين اسم العالم ثم إن طائفة من متكلمة المعتزلة لما أثبتوا أعراضا لا في محل كالإرادة
والكراهة والفناء اتفق سائر العقلاء على أن هذا خروج عن المعقول لكونه أثبت مالا يقوم بنفسه لا في محل فكذلك من أثبت قائما بنفسه ليس مباينا لغيره فإن علم العقل باستحالة عرض لا في محل كعلمه باستحالة قائم بنفسه ليس بمباين أو ليس بجسم كما أن الأول فيه جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل كذلك في الثاني جمع بين المتناقضين في الحس والخيال والعقل
ثم قالوا فإن قيل هل في المقدور حدوث ما يخرج عن القسمين
قلنا إنما يوصف الرب سبحانه وتعالى بالاقتدار على الممكنات وليس ذلك من الممكنات فإن الذي يحصره ويضبطه الذكر حسا أو حكما على هذا الحكم قسمان أحدهما موجود وهو جرم متحيز لو اتصل بمثله اتصل به على طريق المجاورة لا بالمداخلة والحقيقية بل ينحاز أحدهما عن الآخر ويختص عنه بجهة ويصير أحد جهاته ولو نظر الناظر إليهما أدركهما شيئين متجاورين لكل واحد منهما حظ من المساحة وما هذا وصفه قد يسمى قائما بنفسه لاستغنائه عن محل يقوم به فيكون صفة له ومعنى تحيزه شغله الحيز وأنه إذا وجد في فراغ أخرجه عن كونه فراغا وما هذا وصفه يسمى جوهرا وأما القسم الثاني وهو الذي لو قدر شيئان منه لا يمتنع حصولهما في محل واحد وحيث واحد ولا يتصور ازدحامهما فيه
ومن تأمل ما ذكرنا من القسمين وأنصف علم استحالة تقدير قسم ثالث خارج عن القسمين وهذا الكلام يتناول الموجود مطلقا ويقال فيه مطلقا ما قاله في المحدث فإن قوله الذي يضبطه الذكر حسا أو حكما يعم ذلك في الموجود لا يفرق في ذلك بين كونه قديما أو محدثا بل ضبط الذكر حسا
أو حكما لهذين القسمين هو للموجود مطلقا من غير تقييد بحدوث أو قدم ويبين ذلك أن الذكر يضبط هذين القسمين قبل علمه بانقسام الموجود إلى محدث وقديم وقبل علمه باستحالة وصف القديم بأحدهما أو بهما أو جواز ذلك عليه
وبالجملة فحكم الفطرة إن كان مقبولا في هذا التقسيم فهو مقبول مطلقا وإن لم يكن مقبولا فليس مقبولا مطلقا إذ الفطرة لا تفرق ولهذا كان يقول غير واحد من الفضلاء العالمين بالفلسفة والشريعة ما ثم إلا مذهب المثبتة أو الفلاسفة وما بينهما متناقض وثبت أن الفلاسفة أكثر تناقضا
الوجه السابع أن ما به يعلم أنه لا بد لكل موجود في الخارج من صفة وخاصة ينفصل بها ويتميز بها عما سواه يعلم أنه لا بد لكل موجود من حد ومقدار ينفصل به عما سواه إذ كل موجود فلا بد له من صفة تخصه وقدر يخصه وليس المراد بالحد هنا الحد النوعي فإن ذلك هو القول الدال على المحدود وهو كلي لا يمنع تصور معناه من وقوع الشركة فيه وإذا أريد بالحد نفس المحدود وحقيقته فليس في الخارج محدود كلي بشرط كونه كليا بل يقال حقيقة هذا تشبه حقيقة هذا فالحدود على هذا تتشابه وتتماثل إذا عني بها حقيقة الموجودات الخارجية ولا بد لكل موجود من هذه الحدود والحقائق كما ذكرنا وتقدير موجود قائم بنفسه ليس له صفة ولا قدر هو الذي يراد بالكيفية والكمية كتقدير موجود ليس قائما بنفسه ولا بغيره وهو الذي يراد بالعرض والجوهر ولهذا كان السلف والأئمة يقولون إن الكيف غير معقول وغير معلوم ويقولون إن لله عز و جل حدا لا يعلمه إلا هو فهم دائما ينفون علم العباد بكيفية الرب وكيفية صفاته وبحده وحد صفاته لا ينفون ثبوت ذلك في نفسه بل ينفون علمنا به
يبين هذا أن الذي قاله أئمة أهل الكلام في الصفة يقال مثله في القدر قال الأستاذ أبو المعالي ذهب قدماء المعتزلة إلى أن حقيقة الإله قدمه وذلك أخص وصفة وقال بعضهم حقيقته وجوب وجوده وقال أبو هاشم أخص وصف الإله به حال هو عليها يوجب كونه حيا عالما قادرا قال فهذا قول جهم لا بيان له قال وأما أصحابنا فقال بعضهم حقيقته تقدسه عن مناسبة الحوادث في جهات الاتصالات وقال بعضهم حقيقته غناه وقال بعضهم حقيقته قيامه بنفسه بلا نهاية قال وهذه العبارات تشير إلى نفي الحاجة وقال الأستاذ يعني أبا إسحاق حقيقة الإله صفة تامة اقتضت له التنزه عن مناسبة الحدثان قال أبو المعالي وهذا أيضا فيه إيهام لأنه يلقى من صفة النفي إثبات قال وحكى القاضي أبو جعفر السمناني عن القاضي أبي بكر حقيقة الإله لا سبيل إلى إدراكها هذا الأوان قال وسنعود إلى هذا في كتاب الإدراكات قال وكان شيخنا أبو القاسم القشيري يقول هو الظاهر بآياته الباطن فلا سبيل إلى درك حقيقته وقال الأستاذ أبو المعالي لا شك في ثبوت وجوده سبحانه وتعالى فأما الموجود المرسل من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره فمحال لكن ليس يتطرق إليها العقول ولا هي علم هجمي ولا علم مبحوث عنه إنا لا نقول إن حقيقة الإله لا يصح العلم بها فإنه سبحانه وتعالى يعلم حقيقة نفسه وليس للمقدور الممكن من مزايا العقول عندنا موقف ينتهي إليه ولا يمتنع في قضية العقل مزية لو وجدت لاقتضت العلم بحقيقة الإله
قلت المقصود هنا أنه بين امتناع أن يكون وجوده مرسلا وهو المطلق من غير اختصاص بصفة تميزه عن غيره وأنه يعلم تلك الحقيقة وجوز أن يعلمها العباد
وأما الذي أحال عليه في كتاب الإدراكات فإنه قال في باب الرؤية
فصل
قال ضرار بن عمرو إن الباري يستحيل أن يدرك بالحواس الخمس ولكن يجوز أن يخلق الله تعالى لأهل الثواب حاسة سادسة تخالف الحواس الخمس فيدركونه بها ثم قال هذا الرجل لله عز و جل مائية لا يعلمها في وقتنا إلا هو ثم تردد فقال مرة لا يصح أن يعلم مائية الرب تعالى في الدنيا والعقبى غيره وقال مرة بل يعلمها من يدرك الرب تعالى ويراه وهو سبحانه رأى نفسه عالم بمائيته ونحن إذا رأيناه علمنا مائيته قال القاضي أبو بكر الخلسة قد تطلق والمراد بها الإدراك يقال أحس فلان إذا أدركه وقد يراد بها الجارحة فإن أراد ضرار بالحاسة الجارحة والبينة المخالفة لبقية الحواس شاهدا فقد سبق الرد على من قال الإدراك مفتقر إلى بينة وإن زعم أن الإدراك هو الذي أثبته خارج من قبيل الإدراكات إلا أنه مخالف لها مخالفة متعلقه متعلق الإدراكات فهذا صحيح ولكنه أخطأ في تسميته سادسا وإن هو أومى فيما ذهب إليه إلى اختلاف الإدراكات فتخرج الإدراكات شاهدا عن الخمس والخمسين قال القاضي فلو قال قائل فما مذهب الرجل قلنا مذهبه إثبات الرؤية بشرط بينة سادسة وصرف الحاسة إلى البينة والتأليف دون الإدراك
قلت الحاسة يراد بها الإدراك ويراد بها القوة التي في العضو والسادس يجوز أن يراد به البينة والتأليف ويجوز أن يراد به القوة
ويجوز أن يراد به الإدراك أي يخلق جنسا من الرؤية مخالفا للجنس الموجود في الدنيا وهذا من جنس قول هؤلاء الذين يقولون يرى لا في جهة وليس المقصود هنا ذلك
قال وأما المائية التي أثبتها فقد صار إلى إثباتها بعض الكرامية ولم يسلكوا في ذلك مسلك ضرار فإنه من نفاة الصفات وإن عنى بها صفة نفسه وحالا فهو مذهب أبي هاشم فإنه صار إلى أنه سبحانه وتعالى في ذاته على صفة وحالة وهي أخص وصفه وبها يخالف خلقه وهذا تصريح بمذهب ضرار وإنما اختلفا في العبارة فإن أبا هاشم سماها خاصة وسماها ضرار مائية وقد رددنا على أبي هاشم مذهبه في إثبات الأحوال وقال القاضي أبو بكر لا بعد عندي فيما قاله ضرار فإن الرب سبحانه وتعالى يخالف خلقه بأخص صفاته فيعلم على الجملة اختصاص الرب بصفة يخالف بها خلقه ولا سبيل إلى صرف الأخص إلى الوجود والعدم ولا شك في امتناع صرفها إلى الصفات المعنوية فهذا أقصى ما يقال في ذلك قال وقد تردد القاضي في أن الذين يرون الله في الدار الآخرة هل يعلمون تلك الصفة التي يسميها أخص وصفه وسماها ضرار مائية أم لا فمرة قال يعلمونها ومرة قال لا يعملها أحد إلا الله تعالى قال وقد قدمنا من مذهب الأستاذ أبي إسحاق أنه أوجب لله صفة توجب التقديس عن الأحياز والجهات والانفراد بنعوت الجلال فإنا نعلم أنه ليس من قبيل ما نشاهده من الجواهر والأعراض وأنه مما لا يتصور في الأوهام ولسنا نعني بقولنا ليس في العالم ولا خارج العالم نفي وجوده تعالى كما نسبتنا إلى ذلك المجسمة وإنما نعني به إثبات وجود غير محدود بوجه ومن أثبت لله حدا ونهاية من وجه فيلزمه إثبات النهاية من سائر الجهات فإن قول القائل إنه في العالم أو خارج العالم يقتضي حدا ونهاية يصح لأجلهما عليه الدخول
في العالم أو الخروج منه وقال بعض المتكلمين أخص وصفه وجوب وجوده وقال بعض أصحابنا أخص وصفه قيامه بنفسه مع انتفاء النهاية والحجمية وهذا معنى قول الأستاذ ولم ينقل عن شيخنا أبي الحسن رحمه الله تعالى في ذلك شيء غير أنه قال إنما ينفرد الرب سبحانه عن الأغيار بالآلهية وهي قدرته على الاختراع واستحقاقه لنعوت الجلال وذكر الأستاذ أبو بكر في كتاب الانتصار عن بعض الأصحاب أنه قال لله سبحانه وتعالى مائية ثم فسرها بصفاته التي تفرد بها عن المخلوقات من العلم المحيط والقدرة الكاملة والإرادة النافذة وغير ذلك من تقدسه عن سمات الحدث ومن الكرامية من أثبت لله كيفية ومائية فإن عنوا بالمائية ما أشار أليه القاضي والأستاذ وما أراهم يريدون ذلك فيبقى بيننا وبينهم الاختلاف في الاسم فنحن نقول المائية تقتضي الجنس والكيفية تقتضي الكمية والشكل ويتعالى الله عن ذلك فإنه ليس نوعا لجنس ولا جنسا لنوع بل هو الأحد الصمد
قلت ليس هذا موضع بسط الكلام على هذا فإن قوله المائية تقتضي الجنس إنما يعني أن يكون له ما يجانسه أي يماثله في حقيقته وليس الأمر كذلك فإن من أثبت له مائية وهي الحقيقة التي تخصه ويمتاز بها عن غيره لم يلزمه أن تكون تلك المائية من جنس المائيات كما أن الذين يطلقون عليه اسم الذات لا يلزمهم أن تكون ذاته من جنس سائر الذوات وإن فسر ذلك بثبوت قدر ما يتفقان فيه فهذا لا بد منه على كل تقدير ولفظ الجنس فيه عدة اصطلاحات فإن فسر بما يوجب مثلا لله فهو منتف عنه وإن فسر بالحد اللغوي الذي هو مدلول الأسماء المتواطأة والمشككة كما في اسم الحي والعليم والقدير ونحو ذلك من الأسماء فهذا لا بد منه باتفاق أهل الأثبات والنزاع في ذلك معروف عن الملاحدة ومن ضاهاهم ونفي ذلك تعطيل محض
وأما قوله الكيفية تقتضي الكمية والشكل فإنه إن أراد أنها تستلزم ذلك فمعلوم أن الذين أثبتوا الكيفية إنما أرادوا الصفات التي تخصه كما تقدم وإذا كان هذا مستلزما للكمية فهو الذي يذكره المنازعون أنه ما من موصوف بصفة الأولة قدر يخصه وأكثر أهل الحديث والسنة من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله وغيرهم لا ينفون ثبوت الكيفية في نفس الأمر بل يقولون لا نعلم الكيفية ويقولون لا تجري ماهيته في مقال ولا تخطر كيفيته ببال بل كما قال الشريف أبو علي ابن أبي موسى وأبو الفرج المقدسي وغيرهما وهو موافق لقول السلف رضي الله عنهم والأئمة كما قالوا لا يعلم كيف هو إلا هو كما قال مالك الاستواء معلوم والكيف مجهول وأمثال هذا كثير في كلامهم ومنهم من ينفي ذلك ويقول لا ماهية له فتجري في مقال ولا كيف فيخطر ببال وهذا قول ابن عقيل وغيره وهذا موافق لقول نفاة الصفات
فقد تبين أن الأقوال في وجود الحق على مراتب فمن قال إنه وجود مطلق فقوله باطل بالبديهة ومن قال إنه يتميز بصفات سلبية مثل امتناع عدمه ونحو ذلك فهو نظيره بل هو هو ومن قال يتميز ببعض الصفات المعنوية كعلمه وقدرته قيل له وإن اختص بذلك لكن لا بد من ذات موصوفة بتلك الصفة وأن تكون الذات لها حقيقة في نفسها يتميز بها عن سائر الحقائق وإن القول الرابع وهو أن له حقيقة يختص بها هو الصواب ومعلوم أن الموجود ينظر في نفسه وفي صفته وفي قدره وإن كان اسم الصفة يتناول قدره ويستلزم ذاته أيضا
فإذا علم بصريح العقل أنه لا بد له من وجود خاص أو حقيقة يتميز بها ولا بد له من صفات تختص به لا يشركه فيها أحد فيقال وكذلك قدره
فإن الموجود لا يتصور أن يكون موجودا إلا بذلك ودعوى وجود موجود بدون ذلك دعوى تخالف البديهة والضرورة العقلية وكذلك حكموا على من نفى ذلك بالتعطيل لأنه لازم قوله وإن كان لا يعلم لزومه
والتحقيق أنه جمع في قوله بين الإقرار بما يستلزم وجوده والإقرار بما يستلزم عدمه فهو مقر به من وجه منكر له من وجه متناقض من حيث لا يشعر ولهذا يقول المشايخ العارفون إن هؤلاء المنكرين لا تتنور قلوبهم ولا يفتح عليها ولا ينالون زينة أولياء الله تعالى الكاملين لما عندهم من الجحود والإنكار المانع لهم من حقيقة معرفة الله تعالى ومحبته والقرب منه فإنهم التزموا التكذيب بالحق الذي تقربهم معرفته وقصده إلى الله تعالى ففاتهم من معرفة الله وقصده والتقرب إليه بقلوبهم ما به ينالون ولايته التي نعت بها أولياءه المتقين العاملين وإن كانوا قالوا من ذلك بحسب ما عندهم من الإيمان والتقوى
الوجه الثامن إنه قد ثبت بالسنة المتواترة وباتفاق سلف الأمة وأئمتها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة أهل الإسلام الذين ائتموا بهم في دينهم أن الله سبحانه وتعالى يرى في الدار الآخرة بالأبصار عيانا وقد دل على ذلك القرآن في مواضع كما ذلك مذكور في مواضعه والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة متواترة في الصحاح والسنن والمساند وقد اعتنى بجمعها أئمة مثل الدارقطني في كتاب الرؤية وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر الآجري وطوائف كثيرون وفي الصحيحين نحو عشرة أحاديث فيها أن رؤية الأبصار ليست ممتنعة
والجهمية الذين يدخلون في هذا الاسم عند السلف كالمعتزلة والنجارية والفلاسفة ينكرون الرؤية ويقولن لأن ذلك يستلزم أن يكون بجهة من الرائي وأن يكون جسما متحيزا وذلك منتف عندهم ومسألة الرؤية كانت من أكبر المسائل الفارقة بين السنة المثبتة وبين الجهمية حتى كان علماء أهل الحديث والسنة يصنفون الكتب في الأثبات ويقولون كتاب الرؤية والرد على الجهمية وكذلك الأحاديث التي تنكرها الجهمية من أحاديث الرؤية وما يتبعها ويعدون من أنكر الرؤية معطلا
قال الخلال في كتاب السنة أخبرني حنبل قال سمعت أبا عبدالله يقول وأدركنا الناس وما ينكرون من هذه الأحاديث شيئا أحاديث الرؤية وكانوا يحدثون بها على الجملة يمرونها على حالها غير منكرين لذلك ولا مرتابين قال وسمعت أبا عبدالله يقول القوم يرجعون إلى التعطيل في قولهم ينكرون الرؤية قال وسمعت أبا عبدالله يقول قالت الجهمية إن الله لا يرى في الآخرة ونحن نقول إن الله يرى لقول الله تعالى وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال تعالى لموسى فإن استقر مكانه فسوف تراني فأخبر الله تعالى أنه يرى وقال النبي صلى الله عليه و سلم إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر رواه جرير وغيره عن النبي صلى الله عليه و سلم وقال كلكم يخلو به ربه إن الله يضع كنفه على عبده فيسأله ماذا عملت هذه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم تروى صحيحة عن الله تعالى أنه يرى في الآخرة أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم غير مدفوعة والقرآن شاهد أن الله يرى في القيامة وقول إبراهيم لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر فثبت أن الله يسمع
ويبصر وقال الله تعالى يعلم السر وأخفى وقال إنني معكما أسمع وأرى وقال أبو عبدالله فمن دفع كتاب الله ورده والأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و سلم واخترع مقالة من نفسه وتأول رأيه فقد خسر خسرانا مبينا وسمعت أبا عبدالله يقول من قال إن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر وكذب بالقرآن ورد على الله أمره يستتاب فإن تاب وإلا قتل وروى عن يعقوب بن بختان أنه سمع أبا عبدالله يقول صارت حجتهم كفرا صراحا يقولون إن الله تبارك وتعالى لا يرى في الآخرة وسمعته يقول كفرهم ضروب وعن حنبل سمعت أبا عبدالله يقول إن الله لا يرى في الدنيا ويرى في الآخرة فثبت في القرآن وفي السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم والصحابة والتابعين
وقال الإمام أبو سعيد عثمان بن سعيد في نقضه على الجهمي المريسي العنيد فيما افترى على الله تعالى في التوحيد ثم انتدب المريسي الضال لرد ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الرؤية في قوله عليه السلام إنكم سترون ربكم يوم القيامة لا تضامون في رؤيته كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر فأقر الجاهل بالحديث وصححه وثبت روايته عن النبي صلى الله عليه و سلم ثم تلطف لرده وإبطاله بأقبح تأويل وأسمج تفسير ولو قد رد الحديث أصلا كان أعذر له من تفاسيره هذه المقلوبة التي لا يوافقه عليها أحد من أهل العلم ولا من أهل العربية فادعى الجاهل أن تفسير قول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنكم سترون ربكم لا تضامون في رؤيته تعلمون أن لكم ربا لا تشكون فيه كما لا تشكون في القمر أنه قمر لا على أن أبصار المؤمنين تدركه جهرة يوم القيامة لأنه نفى ذلك عن نفسه بقوله لا تدركه الأبصار قال وليس على معنى المشبهة فقوله ترون ربكم تعلمون أن لكم ربا لا تعتريكم فيه الشكوك والريب ألا ترون أن الأعمى يجوز أن يقال ما أبصره أي ما أعلمه وهو لا يبصر شيئا ويجوز أن يقول الرجل نظرت في المسألة
وليس للمسألة جسم ينظر إليه فقوله نظرت فيها رأيت فيها فتوهمت المشبهة الرؤية جهرة وليس ذلك من جهة العيان
فيقال لك أيها المريسي أقررت بالحديث وثبته عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخذ الحديث بحلقك لما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قرن التفسير بالحديث فأوضحه ولخصه فجمعهما جميعا إسناد واحد حتى لم يدع لمتأول فيه مقالا فأخبر أمته بروية العيان نصا كما توهم هؤلاء الذين سميتهم بجهلك مشبهة فالتفسير فيه مأثور مع الحديث وأنت تفسره بخلاف ما فسره الرسول صلى الله عليه و سلم من غير أثر تأثره عمن هو أعلم منك فأي شقي من الأشقياء وأي غوي من الأغوياء يترك تفسير رسول الله صلى الله عليه و سلم المقرون بحديثه المقبول عند العلماء الذي يصدقه ناطق الكتاب ثم يقبل تفسيرك المحال الذي لا تأثره إلا عن من هو أجهل منك وأضل
أليس قد أقررت أن النبي صلى الله عليه و سلم قال ترون ربكم لا تضامون فيه كما لا تضامون في رؤية الشمس والقمر يعني معاينة قلت وإنما قال النبي صلى الله عليه و سلم لأصحابه لا تشكون يوم القيامة في ربوبيته وهذا التفسير مع ما فيه من معاندة الرسول محال باطل خارج عن المعقول لأن الشك في ربوبية الله زائل عن المؤمن والكافر يوم القيامة وكل مؤمن وكافر يعلم يومئذ أنه ربهم لا يعتريهم في ذلك شك فيقبل الله ذلك من المؤمن ولا يقبله من الكافرين ولايعذرهم يومئذ بمعرفتهم ويقينهم به فما فضل المؤمن على الكافر يوم القيامة عندك في معرفة الرب إذ مؤمنهم وكافرهم لا يعتريه في ربوبيته شك
أو ما علمت أيها المريسي أنه من مات ولم يعرف قبل موته أن الله ربه في حياته حتى يعرفه بعد مماته فإنه يموت كافرا ومصيره النار أبدا ولن ينفعه الإيمان يوم القيامة يرى من آياته إن لم يكن آمن به من قبل فما موضع بشرى رسول الله
صلى الله عليه و سلم للمؤمنين برؤية ربهم يوم القيامة إذ كل مؤمن وكافر في الرؤية يومئذ سواء عندك إذ كل لا يعتريه فيه شك ولا ريبة
أولم تسمع أيها المريسي قول الله تعالى ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا فقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم به يومئذ موقنون فكيف المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين سألوه هل نرى ربنا تعالى قد علموا قبل أن سألوه أن الله ربهم لا يعتريهم في ذلك شك ولا ريب أو لم تسمع ما قال الله تعالى يوم تأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا يقال في تفسيره إنها طلوع الشمس من مغربها فإذا لم ينفع الرجل إيمانه عند الآيات في الدنيا فكيف ينفعه يوم القيامة فيستحق به النظر إلى الله تعالى فاعقل أيها المريسي ما يجلب عليك كلامك من الحجج الآخذة بحلقك
وأما إدخالك على رسول الله صلى الله عليه و سلم فيما حقق من رؤية الرب تعالى يوم القيامة فإنما يدخل على من عليه نزل وقد عرف ما أراد الله تعالى به وعقل فأوضحه تفسيرا وعبرة تعبيرا ففسر الأمرين جميعا تفسيرا شافيا كافيا سأله أبو ذر هل رأيت ربك يعني في الدنيا قال نور أنى أراه حدثنا الحوضي وغيره عن يزيد بن إبراهيم عن قتادة عن عبدالله بن سفيان عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه و سلم فهذا معنى قوله لا تدركه الأبصار في الحياة الدنيا فحين سئل عن رؤيته في المعاد قال نعم جهرة كما ترى الشمس والقمر ليلة البدر ففسر رسول الله صلى الله عليه و سلم المعنيين على خلاف ما ادعيت
والعجب من جهلك بظاهر لفظ رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ تتوهم في رؤية الله جهرة أنها كرؤية الشمس والقمر ثم تدعي أنه من توهم من سميتهم بجهلك مشبهة فرسول الله صلى الله عليه و سلم في دعواك أول المشبهة إذ شبه رؤيته برؤية الشمس والقمر كما شبهه هؤلاء المشبهون في دعواك
وأما أغلوطتك التي غلطت بها جهال أصحابك في رؤية الله تعالى يوم القيامة فقلت ألا ترى أن قوم موسى حين قالوا أرنا الله جهرة أخذتهم الصاعقة وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وقالوا أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا فادعيت أن الله تعالى أنكر عليهم ذلك وعابهم بسؤالهم الرؤية
فيقال لهذا المريسي تقرأ كتاب الله وقلبك غافل عما يتلى عليك فيه ألا ترى أن أصحاب موسى سألوا موسى رؤية الله في الدنيا إلحافا فقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ولم يقولوا حتى نرى الله في الآخرة ولكن في الدنيا فأخذتهم الصاعقة لظلمهم وسؤالهم ما حظره على أهل الدنيا ولو قد سألوه رؤيته في الآخرة كما سأل أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه و سلم لم تصبهم تلك الصاعقة ولم يقل لهم إلا ما قال محمد صلى الله عليه و سلم لأصحابه إذ سألوه هل نرى ربنا يوم القيامة فقال نعم لا تضارون في رؤيته فلم يعبهم الله تعالى ولا رسوله بسؤالهم عن ذلك بل حسنه لهم وبشرهم بشرى جميلة كما رويت أيها المريسي عنه وقد بشرهم الله تعالى بها قبله في كتابه فقال عز من قائل وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة وقال للكفار كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون
إلى أن قال وقد فسرنا أمر الرؤية وروينا ما جاء فيها من الآثار في الكتاب الأول الذي أمليناه في الجهمية وروينا منها صدرا في صدر هذا الكتاب أيضا فالتمسوها هناك واعرضوا ألفاظها على قلوبكم وعقولكم تنكشف لكم عورة كلام هذا المريسي وتأويله ودحوض حجته إن شاء الله تعالى
وهو في الكتاب الأول الذي أحال عليه ذكر في ذلك عدة من الأحاديث والآثار مثل حديث جرير وأبي هريرة وأبي سعيد المشهورين الطويلين وهذه في الصحيحين ومثل حديث صهيب في قوله تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة وحديث أبي موسى وجابر في الورود وهذه في صحيح مسلم ومثل ابن عمر في الدجال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وهذه الألفاظ في الصحيح وذكر حديث أبي بكر الصديق المرفوع وحديث عبادة في الدجال وحديث ابن الحسين عن بعض الصحابة وحديث ابن عباس وحديث أنس في يوم المزيد وحديث عمار بن ياسر الذي فيه أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وحديثا عن ابن عمر في النظر وهذه الأحاديث في السنن والمساند وذكر الآثار عن الصديق وحذيفة وأبي موسى وابن أبي ليلى والضحاك وعامر بن سعد في تفسير الزيادة أنها النظر إلى وجه الله تعالى وذكر قول أبي موسى فكيف بكم إذا رأيتم الله جهرة وذكر أيضا النظر إليه عن عمار وأنس والضحاك وعكرمة وكعب وعمر بن عبدالعزيز والذي تركه من ذلك أكثر مما رواه
ثم قال أبو سعيد فهذه أحاديث كلها وأكثر منها قد رويت في الرؤية على تصديقها والإيمان بها أدركت أهل الفقه من مشائخنا ولم يزل المسلمون
قديما وحديثا يروونها ويؤمنون بها لا يستنكرونها وينكرونها ومن أنكرها من أهل الزيغ نسبوه إلى الضلال بل كان من أكبر رجائهم وأجزل سؤالهم الله تبارك وتعالى في أنفسهم النظر إلى وجه الله الكريم خالقهم يوم القيامة حتى ما يعدلون به شيئا من نعيم الجنة قال وقد كلمت بعض أولئك المعطلة وذكر كلاما طويلا في تقرير الرؤية والجواب عن شبه النفاة إلى أن قال
وقال بعضهم إنا لا نقبل هذه الآثار قلت أجل ولا كتاب الله تعالى تقبلون أراكم إن لم تقبلوها أتشكون أنها مروية عن السلف مأثورة عنهم مستفيضة فيهم يتوارثونها عن أعلام الناس وفقهائهم قرنا بعد قرن قالوا نعم قلنا فحسبنا بإقراركم بها عليكم حجة لدعوانا أنها مشهورة مروية تداولها العلماء والفقهاء فما تواتر عنهم مثلها حجة لدعواكم التي كذبتها الآثار كلها فلا تقدرون أن تأتوا فيها بخبر ولا أثر وقد علمتم إن شاء الله تعالى أنه لا يستدرك سنن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وأحكامهم وقضاياهم إلا هذه الآثار والأسانيد على ما فيها من الاختلاف وهي السبب إلى ذلك والنهج الذي درج عليه المسلمون وكانت إمامهم في دينهم بعد كتاب الله تعالى منها يقتبسون العلم وبها يقضون وبها يفتون وعليها يعتمدون وبها يتزينون يورثها الأول منهم الآخر ويبلغها الشاهد منهم الغائب احتجاجا واحتسابا في أدائها إلى من لم يسمعها يسمونها السنن والآثار والفقه والعلم ويضربون في طلبها شرق الأرض وغربها يحلون بها حلال الله تعالى ويحرمون بها حرامه ويميزون بها بين الحق والباطل والسنن والبدع ويستدلون بها على تفسير القرآن ومعانيه وأحكامه ويعرفون بها ضلالة من ضل عن الهدى فمن رغب عنها فإنما يرغب عن آثار السلف وهديهم ويريد مخالفتهم ليتخذ دينه هواه وليتأول كلام الله برأيه خلاف ما عنى
الله به فإن كنتم من المؤمنين وعلى منهاج أسلافهم فاقتبسوا العلم من أثرهم واقتبسوا الهدى في سبيلهم وارضوا بهذه الآثار إماما كما رضي بها القوم لأنفسهم إماما فلعمري ما أنتم أعلم بكتاب الله منهم ولا مثلهم ولا يمكن الاقتداء بهم إلا باتباع هذه الآثار على ما تروى فمن لم يقبلها فإنه يريد أن يتبع غير سبيل المؤمنين وقال الله ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا
فقال قائل منهم لا بل نقول بالمعقول قلنا هنا ضللتم عن سواء السبيل ووقعتم في تيه لا مخرج لكم منه لأن المعقول ليس لشيء واحد موصوف بحدود عند جميع الناس فيقتصر عليه ولو كان كذلك لكان راحة للناس ولقلنا به ولم نعد ولكن الله تبارك وتعالى قال كل حزب بما لديهم فرحون فوجدنا المعقول عند كل حزب ما هم عليه والمجهول عندهم ما خالفهم فوجدنا فرقكم معشر الجهمية في المعقول مختلفين كل فرقة منكم تدعي أن المعقول عندها ما تدعو إليه والمجهول ما خالفها فحين رأينا المعقول اختلف منا ومنكم ومن جميع أهل الأهواء ولم نقف له على حد بين في كل شيء رأينا أرشد الوجوه وأهداها أن ترد المعقولات كلها إلى أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم وإلى المعقول عند أصحابه المستفيض بين أظهرهم لأن الوحي كان ينزل بين أظهرهم فكانوا أعلم بتأويله منا ومنكم وكانوا مؤتلفين في أصول الدين لم يتفرقوا فيه ولم تظهر فيهم البدع والأهواء الجائزة عن الطريق فالمعقول عندنا ما وافق هديهم والمجهول ما خالفهم ولا سبيل إلى معرفة هديهم وطريقهم إلا هذه الآثار وقد انسلختم منها وانتفيتم منها بزعكمم فأنى تهتدون
قلت كلام السلف والأئمة كثير في مسألة الرؤية وتقرير وجودها بالسمع وتقرير جوازها بالعقل وتقرير أن نفي جوازها مستلزم للتعطيل وقد نبه السلف ومتكلمة الصفاتية على ما هو معلوم بالمعقول أنه من قال إنه لا يمكن رؤيته فقد لزمه أن يعطله ويجعله معدوما لأنه إذا كان موجودا جازت رؤيته
ثم للناس هنا طريقان أحدهما وهي طريقة أبي محمد ابن كلاب وغيره كأبي الحسن ابن الزاغوني أن كل ما هو قائم بنفسه فإنه تجوز رؤيته ولم يلتزم ذلك في سائر الأعراض والصفات والثانية وهي طريقة أبي الحسن الأشعري ومن اتبعه وقد سلكها القاضي أبو يعلى وغيره أن كل موجود تصح رؤيته سواء كان قائما بنفسه أو قائما بغيره وقد قرروا ذلك بطرق منها ما هو غير بين ويرد عليه أسولة والتزموا لأجل ذلك لوازم يظهر فسادها وقد بينا في غير هذا الموضع كيف تقرر الطريقة العقلية في ذلك على وجه يفيد المقصود ولكن نشير هنا إشارة فنقول
معلوم أن الرؤية تعلق بالموجود دون المعدوم ومعلوم أنها أمر وجودي محض لا يسيطر فيها أمر عدمي كالذوق الذي يتضمن استحالة شيء من المذوق وكالأكل والشرب الذي يتضمن استحالة المأكول والمشروب ودخوله في مواضع من الآكل والشارب وذلك لا يكون إلا عن استحالة وخلق وإذا كانت أمرا وجوديا محضا ولا تتعلق إلا بموجود فالمصحح لها الفارق بين ما يمكن رؤيته ومالا يمكن رؤيته إما أن يكون وجودا محضا أو متضمنا أمرا عدميا والثاني باطل لأن العدم لا يكون له تأثير في الوجود المحض فلا يكون سببا له ولا يكون أيضا شرطا أو جزءا من السبب إلا أن يتضمن وجودا فيكون ذلك الوجود هو المؤثر في الوجود ويكون ذلك العدم دليلا عليه ومستلزما له ونحو ذلك وهذا من الأمور البينة عند التأمل
ومن قال من العلماء إن العدم يكون علة للأمر الثبوتي أو جزء علة أو شرط علة فإنما يقولون ذلك في قياس الدلالة ونحوه مما يستدل فيه بالوصف على الحكم لا يقول أحد إن نفس العدم هو المقتضى للوجود ولا يقول إن الوصف المركب من وجود وعدم هما جميعا مقتضيان للوجود المحض وشروط العلة هي من جملة أجزاء العلة التامة
وإذا كان المقتضي لجواز الرؤية والمصحح للرؤية والفارق بينما تجوز رؤيته وبينما لا تجوز إما أن يكون وجودا محضا فلا حاجة بنا إلى تعيينه سواء قيل هو مطلق الوجود أو القيام بالنفس أو بالعين بشرط المقابلة والمحاذاة أو غير ذلك مما يقال إنه مع وجوده تصح الرؤية ومع عدمه تمتنع لكن المقصود أنه أمور وجودية
وإذا كان كذلك فقد علم أن الله تعالى هو أحق بالوجود وكماله من كل موجود إذ وجوده هو الوجود الواجب ووجود كل ما سواه هو من وجوده وله وله الكلام التام في جميع الأمور الوجودية المحضة فإنها هي الصفات التي بها يكون كمال الوجود وحينئذ فيكون الله وله المثل الأعلى أحق بأن تجوز رؤيته لكمال وجوده ولكن لم نره في الدنيا لعجزنا عن ذلك وضعفنا كما لا نستطيع التحديق في شعاع الشمس بل كما لا تطيق الخفاش أن تراها لا لامتناع رؤيتها بل ضعف بصره وعجزه كما قد لا يستطاع سماع الأصوات العظيمة جدا لا لكونها لا تسمع بل لضعف السامع وعجزه ولهذا يحصل لكثير من الناس عند سماع الأصوات العظيمة ورؤية الأشياء الجليلة ضعف أو رجفان أو نحو ذلك مما سببه ضعفه عن الرؤية والسماع لا لكون
ذلك الأمر مما تمتنع رؤيته وسماعه ولهذا وردت الأخبار في قصة موسى عليه الصلاة و السلام وغيره بأن الناس إنما لا يرون الله في الدنيا للضعف والعجز والله سبحانه وتعالى قادر على أن يقويهم على ما عجزوا عنه وتمام بسط هذا وتقريره له في موضع آخر
وأنما المقصود أن نقول إذا ثبتت رؤيته فمعلوم في بداية العقول أن المرئي القائم بنفسه لا يكون إلا بجهة من الرائي وهذه الرؤية التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم حيث قال ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر فأخبر أن رؤيته كرؤية الشمس والقمر وهما أعظم المرئيات ظهورا في الدنيا وإنما يراهم الناس فوقهم بجهة منهم بل من المعلوم أن رؤية مالا يكون داخل العالم ولا خارجه ممتنع في بداية العقول وهذا مما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم من السلف والأئمة وأهل الحديث والفقه والتصوف وجماهير أهل الكلام المثبتة والنافية والفلاسفة وإنما خالف فيه فريق من أصحاب الأشعري ومن وافقهم من الفقهاء كما قد يوافقهم القاضي أبو يعلى في المعتمد هو وغيره ويقولون ما قاله أولئك في الرؤية إنه يرى لا في جهة ويلتزمون ما اتفق أهل العقول على أنه من الممتنع في بداية العقول بل يقولون إن المعلوم ببداية العقول أنه لا يرى إلا ما هو متحيز أو قائم بمتحيز ومن ادعى رؤية ما ليس بمتحيز ولا قائما بمتحيز فقد خرج عن ضرورات العقول باتفاق عقلاء بني آدم من جميع الطوائف إلا هذا الفريق الذي اتفق الناس على تناقضهم فإن موافقيهم من الجهمية الفلاسفة والمعتزلة ونحوهم على إمكان وجود موجود ليس بمتحيز ولا حال فيه وعلى إمكان معرفة ذلك بالعقل وإن كانوا عند جمهور العقلاء مخالفين لضرورة العقل فإنهم لا يوافقونهم على أن من كان كذلك فإنه يرى بل هؤلاء يوافقون جمهور العقلاء في أن مالا يكون متحيزا ولا حالا في متحيز
لا يمكن رؤيته حتى إن أئمة أصحاب الأشعري المتأخرين كأبي حامد وابن الخطيب وغيرهما لما تأملوا ذلك عادوا في الرؤية إلى قول المعتزلة أو قريب منه وفسروها بزيادة العلم كما يفسرها بذلك الجهمية والمعتزلة وغيرهم وهذا في الحقيقة تعطيل للرؤية الثابتة بالنصوص والإجماع المعلوم جوازها بدلائل المعقول بل المعلوم بدلائل العقول امتناع وجود موجود قائم بنفسه لا يمكن تعلقها به لكن هؤلاء المثبتة الذين وافقوا عامة المؤمنين على إمكان رؤيته وانفردوا عن الجماعة بأنه يرى لا فوق الرائي ولا عن يمينه ولا عن شماله ولا في شيء من جهاته هم قد وافقوا أولئك الجهمية في وجود موجود يكون كذلك فموافقتهم لهؤلاء في إمكان وجود موجود بهذا الوصف أبعد عن الشرع والعقل من قولهم يمكن رؤية هذا الموجود ولهذا تنكر الفطر وجوده أعظم مما تنكر رؤيته بتقدير وجوده كما قد ذكرنا أن قولهم هو فوق العرش وليس بجسم أقرب من قولهم لا داخل العالم ولا خارجه
وهذا أيضا مما عظم فيه إنكار المدعين للجمع بين الشريعة والفلسفة كالقاضي أبي الوليد ابن رشد الحفيد فإنه قال في كتابه الذي سماه مناهج الأدلة في الرد على الأصولية وقال ما ذكرناه عنه قبل هذا في مسائل الجسم ومسألة الجهة وزعم ما ذكرناه عنه إلى قوله ولذلك اضطررنا نحن أيضا إلى وضع قول في موافقة الحكمة للشريعة قال وإذا تبين هذا فلنرجع إلى حيث كنا فنقول إن الذي بقي علينا من هذا الخبر ومن المسائل المشهورة هي مسألة الرؤية فإنه قد يظن أن هذه المسألة هي بوجه ما داخلة في هذا الجزء المتقدم لقوله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
ولذلك أنكرها المعتزلة وردت الآثار الواردة في الشرع بذلك مع كثرتها وشهرتها فشنع الأمر عليهم وسبب وقوع هذه الشبهة في الشرع أن المعتزلة لما اعتقدوا انتفاء الجسمية عنه سبحانه وتعالى واعتقدوا وجوب التصريح بها لجميع المكلفين ووجب عندهم إذا انتفت الجسمية أن تنتفي الجهة وإذا انتفت الجهة انتفت الرؤية إذ كل مرئي في جهة من الرائي فاضطروا لهذا المعنى لرد الشرع المنقول واعتلوا للأحاديث بأنها أخبار آحاد وأخبار الآحاد لا توجب العلم مع أن ظاهر القرآن معارض لها أعني قوله تعالى لا تدركه الأبصار
وأما الأشعرية فراموا الجمع بين الاعتقادين أعني بين انتفاء الجسمية وبين جواز الرؤية لما ليس بجسم بالحس فعسر ذلك عليهم ولجؤوا في ذلك إلى حجج سوفسطائية مموهة أعني الحجج التي توهم أنها حجج وهي كاذبة وذلك أنه يشبه أن يكون في الحجج ما يوجد في الناس أعني أنه كما يوجد في الناس الفاضل التام الفضيلة فيوجد فيهم من هو دون ذلك في الفضل ويوجد فيهم من يوهم أنه فاضل وليس بفاضل وهو المرائي وكذلك الأمر في الحجج أعني أن منها ما هو في غاية اليقين ومنها ما هو دون اليقين ومنها حجة مرائية وهي التي توهم أنها يقين وهي كاذبة والأقاويل التي سلكها الأشعرية في هذه المسألة منها أقاويل في دفع دليل المعتزلة ومنها أقاويل لهم في إثبات جواز الرؤية لما ليس بجسم وأنه ليس يعرض من فرضها محال
فأما ما عاندوا به قول المعتزلة أن كل مرئي فهو في جهة من الرائي فمنهم من قال إن هذا إنما هو حكم الشاهد لا حكم الغائب وإن هذا الموضوع ليس هو من المواضع التي يجب فيها نقل حكم الشاهد إلى الغائب وأنه جائز أن يرى الإنسان ما ليس في جهة إذا كان جائزا أن يرى الإنسان بالقوة المبصرة نفسها دون عين
وهؤلاء اختلط عليهم إدراك العقل مع إدراك البصر فإن العقل هو الذي يدرك ما ليس في جهة أعني في مكان وأما إدراك البصر فظاهر من أمره أن من شرطه أن يكون المرئي منه في جهة ولا في كل جهة فقط بل في جهة ما مخصوصة ولذلك ليس تتأتى الرؤية بأي وضع اتفق أن يكون البصر من المرئي بل بأوضاع محدودة وشروط محدودة أيضا وهي ثلاثة أشياء حضور الضوء والجسم الشفاف المتوسط بين البصر والمبصر وكون المبصر ذا ألوان ضرورة والرد لهذه الأمور المعروفة بنفسها في الإبصار هو رد للأوائل المعلومة بالطبع للجميع وإبطال لجميع معلوم المناظرة والهندسة
وقد قال القوم أعني الأشعرية إن أحد المواضع التي يجب أن ينقل فيها حكم الشاهد إلى الغائب هو الشرط مثل حكمنا أن كل عالم حي لكون الحياة تظهر من الشاهد شرطا في وجود العلم وإن كان ذلك قلنا لهم وكذلك تظهر في الشاهد أن هذه الأشياء هي شروط في الرؤية فألحقوا الغائب فيها بالشاهد على أصلكم
وقد رام أبو حامد في كتابه المعروف بالمقاصد أن يعاند هذه المقدمة أعني كل مرئي في جهة من الرائي بأن الإنسان يبصر ذاته في المرآة وأن ذاته ليست منه في جهة غير جهة مقابلة وذلك أنه لما كان يبصر ذاته وكانت ذاته ليست تحل في المرآة التي في الجهة المقابلة فهو يبصر ذاته في غير جهة وهذه مغالطة فإن الذي يبصر هو خيال ذاته والخيال منه هو في جهة إذ كان الخيال في المرآة والمرآة في جهة
وأما حجتهم التي أتوا بها في إمكان رؤية ما ليس بجسم فإن المشهور عنهم في ذلك حجتان إحداهما وهي أشهر عندهم ما يقولونه من أن الشيء
لا يخلو أن يرى من جهة ما هو متلون أو من جهة أنه جسم أو من جهة أنه لون أو من جهة أنه موجود وربما عددوا جهات أخر غير هذه الموجودة ثم يقولون وباطل أن يرى من قبل أنه جسم إذ لو كان ذلك كذلك لما رؤي اللون وباطل أن يرى لمكان أنه لون إذ لو كان كذلك لما رؤي الجسم وإذا بطلت جميع هذه الأقسام التي تتوهم في هذا الباب فلم يبق أن يرى الشيء إلا من قبل أنه موجود والمغالطة في هذا القول بينة فإن المرئي منه ما هو مرئي بذاته ومنه ما هو مرئي لذاته وهذه هي حال اللون والجسم فإن اللون مرئي بذاته والجسم مرئي من قبل اللون ولذلك لما لم يكن له لون لم يبصر ولو كان الشيء إنما يرى من حيث هو موجود فقط لوجب أن تبصر الأصوات وسائر المحسوسات الخمس فكان يكون البصر والسمع وسائر الحواس الخمس حاسة واحدة وهذه كلها خلاف ما يعقل
وقد اضطر المتكلمون لمكان هذه المسألة وما أشبهها إلى أن يسلموا أن الألوان ممكنة أن تسمع والأصوات ممكنة أن ترى وهذا كله خروج عن الطبع وعن ما يمكن أن يعقله الإنسان فإنه في الظاهر أن حاسة البصر غير حاسة السمع وأن محوس هذه غير محوس تلك وأن آلة هذه غير آلة تلك وأنه ليس ممكن أن ينقلب البصر سمعا كما ليس يمكن أن يعود اللون صوتا والذين يقولون إن الصوت يمكن أن يبصر في وقت ما فقد يجب أن يسألوا فيقال لهم ما هو البصر فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها المرئيات الألوان وغيرها ثم يقال لهم ما هو السمع فلا بد أن يقولوا هو قوة تدرك بها الأصوات فإذا وضعوا هذا قيل لهم فهل البصر عند إدراكه هو بصر فقط أو سمع فقط فإن قالوا هو سمع فقط فقد سلموا أنه لا يدرك الألوان وإن قالوا إنه بصر فقط فليس يدرك الأصوات وإذا لم يكن بصرا فقط لأنه يدرك الأصوات ولا سمعا فقد لأنه يدرك الألوان
فهو بصر وسمع معا وعلى هذا فتكون الأشياء كلها شيئا واحدا حتى المتضادات وهذا شيء فيما أحسبه يسلمه المتكلمون من أهل ملتنا أو يلزمهم تسليمه يعني هؤلاء الأشعرية وهو رأي سوفسطائي لأقوام قدماء مشهورين بالسفسطة
وأما الطريقة الثانية التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف بالإرشاد وتلخيصها أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض فهو أحوال ليست بذوات فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذوات والذات هي نفس الموجود المشترك لجميع الموجودات فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود وهذا كله في غاية الفساد ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لما أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه وإلا لكان بالجملة لا يمكن في الحواس لا في البصر أن يدرك فصول الألوان ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا فلا يكون فرق بين مدرك البصر وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها لمحسوساتها الخاصة بها فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيا أخذ أنه مدرك بذاته ولولا النشأ على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة
والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل الهجينة التي هي ضحكه من عنى بتمييز أصناف
الأقاويل أدنى عناية هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله به وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت وهذا أيضا لا يليق الإفصاح به للجمهور وأنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرب من قوة التخيل مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة ولا يشبهه ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من هذا بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور ضرب المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها لأنه إذا قيل له نور وأنه له حجابا من نور كما جاء في القرآن والسنن الثابتة ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا حق العلماء وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها أو كفروا المصرح لهم بها فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل
وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على أن تلك المعاني نفسها التي ضرب مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا صنفا من الناس وألا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية ولذلك قال عليه السلام إنا معشر الانبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم وأن نخاطبهم على قدر عقولهم ومن جعل الناس شرعا واحدا في التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول
وقد تبين لك من هذا أن الرؤية معنى ظاهر وأنه ليس يعرض فيه شبهه إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها
قلت قد عرف أن هذا الرجل يرى رأي الفلاسفة وإنما أخبرت به الرسل في الإيمان بالله واليوم الآخر أكثره أمثال مضروبة وهذا من أفسد الآراء وهو قول حذاق المنافقين الزنادقة وإن كانوا لا يعلمون أن ذلك نفاقا وزندقة بل يحسبونه كمال التحقيق والمعرفة كما يحسب ذلك هؤلاء المتفلسفة وليس هذا الموضع موضع بيان ذلك
وإنما المقصود أنه مع كونه في الباطن يرى رأي الفلاسفة والمعتزلة في الرؤية وأنها مزيد علم ما يرى نحوا منه طائفة من متأخري الأشعرية فقد علم أنه لا يمكن إثبات الرؤية التي أخبر بها الشارع مع نفي ما يقولون إنه الجسم بل إثباتها مستلزم لما يقولون إنه الجسم والجهة فقد تبين أنه من جمع بين هذين فإنه مكابر للمعقول والمحسوس وهذا مما قد بينه بالدليل فيقبل منه
وأما زعمه أنها في الباطن مزيد علم فهو لم يذكر على ذلك حجة وقد بين فيما تقدم أنه لا صحة له على أصل ذلك وهو نفي كونه جسما إلا إثبات أن النفس الناطقة ليست بجسم وبين فساد ما احتج به المتكلمون على أنه ليس بجسم بحجج واضحة ومعلوم أن الأصل الذي بنى عليه هو هذا النفي وهي مسألة النفس أضعف بكثير وأن جمهور العقلاء يضحكون مما يقوله هؤلاء في النفس من الصفات السلبية أكثر مما يضحكون ممن يثبت رؤية مرئي ليس هو في اصطلاحهم بجسم ولا في جهة كما قد بيناه في غير هذا الموضع
وأما دعواه ودعوى غيره من الجهمية من المعتزلة ونحوهم أن الرؤية التي أخبر بها الرسول مزيد علم فمن سمع النصوص علم بالاضطرار أن الرسول إنما أخبر برؤية المعاينة
وأيضا فإن أدلة المعقول الصريحة تجوز هذه الرؤية وإن لم يسلك في ذلك ما ذكروه من المسالك الضعيفة فإن تلك المسالك إنما ضعفت لأن أصحابها أثبتوا رؤية ما ليس في جهة ولا هو متحيز ولا حال في متحيز فاحتاجوا لذلك أن يحذفوا من الرؤية الشروط التي لا تتم الرؤية بدونها لاعتقادهم امتناع تلك الشروط في حق الله تعالى فأما إذا قيل إن الرؤية المعروفة يصح تعلقها بكل قائم بنفسه وإن شرط فيها أن يكون المرئي بجهة من الرائي وأن يكون متحيزا وقائما بمتحيز كانت الأدلة العقلية على إمكان هذه الرؤية مالا يمكن العقلاء أن يتنازعوا في جوازها وإنما ينفيها من نفاها لظنه أن الله تعالى ليس فوق العالم وأنه على اصطلاحهم ليس بجسم ولا متحيز ولا حال في المتحيز ونحو ذلك من الصفات السلبية التي ابتدعوها مع مخالفتها لصحيح المنقول وصريح المعقول
والمقصود أن المنازعين للمؤسس يقولون له نحن نثبت بالكتاب والسنة والإجماع ونثبت بالأدلة العقلية الصريحة إمكان رؤية الرب نثبت بالضرورة وبالنظر أن الرؤية لا تتعلق إلا بما يكون في اصطلاحهم في جهة وإلا بما يكون متحيزا أو حالا في المتحيز وإذا ثبت أن الرؤية لا تتعلق إلا بمتحيز أو حال في المتحيز مع أن المصحح لها هو الوجود وكماله ثبت أنه ليس في الموجودات مالا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز بل ثبت امتناع وجود ذلك وهذا يبقي هذه الصفة في النفس وفي الملائكة وفي الرب سبحانه وتعالى كما تقدم من الوجوه وكما ذكروه من الضرورة العقلية
الوجه التاسع أن يقال قد ثبت بالفطرة التي اتفق عليها أهل الفطر السليمة وبالنقول المتواترة عن المرسلين من الأخبار وما نطقت به كتب الله واتفق عليه المؤمنون بالرسل قبل حدوث البدع أن الله تعالى عز و جل فوق العالم وثبت أيضا بالكتاب والسنة والإجماع أنه استوى على العرش فالعلو على العالم معروف بالفطرة والمعقول وبالشرعة والمنقول وأما الاستواء فإنما علم بالسمع المنقول وأكثر أهل الكلام والفلسفة من النفاة والمثبتة يقولون هذا لا يمكن إلا أن يكون جسما متحيزا فيكون التحيز من لوازم علوه على العرش كما قد يقول ذلك أهل الفطر السليمة إذا بين لهم معنى الكلام وهذا يقتضي المعقول والمنقول يستلزم ذلك وهذه المقدمة الثانية قد قررها المؤسس ومتأخرو أصحابه في غير موضع والأولى قد قررها عامة الناس من المثبتين للصفات وسائر أهل الفطر السليمة حتى أئمة أصحابه وإذا ثبت هذا في واجب الوجود امتنع أن يكون غيره من النفس وغيرها موصوفا بهذا السلوب لأن أحدا
لم يقل ذلك من العقلاء ولأن الفطرة والشرعة يقضي ذلك فيها أيضا فإنهم يعلمون بهذه الطرق أن جميع هذه الأمور داخلة في العالم وجزء منه يمتنع أن تكون لا داخلة فيه ولا خارجة منه
فصل
ثم قال الرازي ولنختم هذا الباب بما روي عن أرسطا ليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرىقال أبو عبدالله الرازي وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فإنه ذكر مراتب تكوين الجسد في قوله تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال ثم أنشأناه خلقا آخر وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح ليس مثل انقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال ثم أنشأناه خلقا آخر فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلا آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلىمعرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة
قلت والكلام على هذا من وجوه
أحدها أن هذا الكلام هو وما ذكره من الحجة أشبه بكلام أهل الجهل والضلال ومن لا يدري ما يخرج منه من المقال من كلام أهل العقل
والعلم والبيان وهو أشبه بكلام جهال القصاص والمغالطين من كلام العلماء المجادلين بالحق وما أحسن ما قال الإمام أحمد رحمه الله في بشر المريسي إمام الجهمية قال كان صاحب خطب لم يكن صاحب حجج بل هذا الكلام دون كلام أهل الخطب والحجج
الثاني أن يقال له ألم يكن في أثارة الأنبياء والمرسلين ما يستغنى به في أعظم المطالب وأشرف المعارف عن ما يروى عن معلم المبدلة من الضالين الذين انتقلوا عن الحنيفية الثابتة بالعقل والدين وهو رأس هؤلاء الدهرية ثم هذا الكلام لم تعلم أنه ثابت عنه وإنما قلت بما يروى عنه فهو منقطع هؤلاء الصابئة المبدلين
الثالث أنه لو نقل واحد في هذا الباب شيئا من الإسرائيليات عن المتقدمين لم تقم به حجة إن لم يكن ذلك ثابتا بنقل نبينا محمد صلى الله عليه و سلم عنهم وأما يذكره لنا أهل الكتابين ومن أسلم منهم عن الأنبياء المتقدمين فليس لنا تصديقه ولا تكذيبه إن لم يكن فيما علمناه ما يدل على صدقه أو كذبه كما في صحيح البخاري عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية وفي سنن أبي داود عن ابن أبي تميلة الأنصاري عن أبيه أنه بينما هو جالس عند رسول الله صلى الله عليه و سلم وعنده رجل من اليهود مر بجنازة فقال يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة فقال النبي صلى الله عليه و سلم الله أعلم قال اليهودي إنها تتكلم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم
وقولوا آمنا بالله ورسله فإن كان باطلا لم تصدقوه وإن كان حقا لم تكذبوه وروى البخاري أيضا عن الزهري عن عبدالله بن عبدالله بن عتبة أن ابن عباس قال كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسوله أحدث الكتب عهدا بالرحمن تقرؤونه محضا لم يشب وقد أخبركم ربكم أن أهل الكتاب بدلوا كلام الله وغيروه وكتبوا بأيديهم وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ألا نهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم لا والله ما رأينا أحدا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم وروى البخاري أيضا عن الزهري أخبرني حميد بن عبدالرحمن سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار فقال إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب وإن كنا مع ذلك لنبلوا عليه الكذب
فإذا كان أهل الكتاب الذي أنزله الله تعالى والذي وجب علينا أن نؤمن بما فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم و قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم الآية وقال قولوا آمنا بالله ورسله إذا رووا لنا شيئا من ذلك لم نصدقه إن لم نعلم من غير ذلك أنهم صادقون وهم يقرؤون ذلك بلسان الأنبياء ثم يترجمون لنا بالعربية
فهؤلاء الذين قرؤوا كتب الصابئة من الفلاسفة وغيرهم بلغتهم اليونانية وغيرها ثم ترجموها بالعربية كيف نقبل ذلك منهم والمنقول عنهم ليسوا أنبياء ولا ممن يصدقون لو شافهونا إذ كان من علماء أهل الكتابين لم يقبل ما يقولونه فكيف وهم من الصابئة المتكلمين في العلم الإلهي بما يخالف ما جاءت به الرسل عليهم السلام وهم أشد تبديلا وتغييرا من أهل الكتابين بشيء كثير فكيف في كلام مرسل لم يوجد في كتبهم وإنما نقل عنهم مطلقا
الوجه الرابع أن جميع العقلاء الذين خبروا كلام آرسطو وذويه في العلم الإلهي علموا أنهم من أقل الناس نصيبا في معرفة العلم الإلهي وأكثر الناس اضطرابا وضلالا فإن كلامه وكلام ذويه في الحساب والعدد ونحوه من الرياضيات مثل كلام بقية الناس والغلط في ذلك قليل نادر وكلامهم في الطبيعيات دون ذلك غالبه جيد وفيه باطل وأما كلامهم في الإلهيات ففي غاية الاضطراب مع قلته فهو لحم جمل غث على رأس جبل وعر لا سهل فيرتقي ولا سمين فينتقل هو قليل كثير الضلال عظيم المشقة يعرفه كل من له نظر صحيح في العلوم الإلهية فكيف يستدل بكلام مثل هؤلاء في العلم الإلهي وحالهم هذه الحال
وهذا المصنف هو القائل لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي غليلا ولا تروي عليلا ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن هذا بمنزلة أن يستدل الرجل في مسائل الحلول والتثليث بكلام بطرس صاحب الرسائل التي عند النصارى وهو ممن غير دين المسيح وبدله وقد اعترف أساطين الفلسفة بأن العلم الإلهي لا سبيل لهم إلا العلم واليقين فيه وإنما يؤخذ فيه بالأولى والأخلق الأحرى وممن ذكر ذلك عنهم صاحب هذا الكتاب أبو عبدالله الرازي الذي سماه المطالب العالية فإذا كانوا معترفين بأنه ليس عندهم علم ولا يقين في العلم الإلهي كيف يستدل بكلامهم فيه
الوجه الخامس يقال له لم تقبل هذه الوصية التي نقلتها عن الذي ائتممت به من أئمة الضلال وذلك أنه قال من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى وهذا يناسب ترتيب تعاليمه حيث ينقل أتباعه
من درجة إلى درجة كما ينقلهم من المنطق والرياضي إلى الطبيعي ثم إلى الإلهي الذي لهم فجعل ذلك معلقا على إرادة الشرع في المعارف الإلهية وأنت جعلت ما تذكره من النظر في هذا الباب اعتقادا واجبا على جميع المسلمين خاصتهم وعامتهم بل كفرت في الكتاب من خالفك فلو تركت الناس على ما هم عليه إلا من أراد أن يشرع في معارفك لكنت متابعا لهذا الإمام المضل لكنك ابتدأت بخطاب ذلك الملوك والعامة وغيرهم ممن لم يرد الشروع في معارفك الإلهية
الوجه السادس أن يقال ما معنى قوله فليستحدث لنفسه فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة وهذا غير مقدور للبشر فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك وهذا هو الذي يصلح أن يريده فهذا أمر بتبديل فطرة الله تعالى التي فطر عليها عباده وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله تعالى وشرعته كما قال النبي صلى الله عليه و سلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى ما به بدلوه وحرفوه وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله التي فطر الله عباده عليها وغيروا منها ما غيروه
ولهذا قيل إن آرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم فغيروا فطرة الله تعالى وبدلوا كتاب الله والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها وبعث إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشريعة
المنزلة وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته خلقه وأمره وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم إدراكاتهم وحركاتهم قولهم وعملهم من هذا وهذا كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم إنه قيل لهم ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة فدخلوا الباب يزحفون على أستاههم وقالوا حبة في شعرة
وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود وأن الجعد بن دهم ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك عنهم
وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل آرسطو وذويه ظهر في ذلك الزمان الخرمية وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل والنفس وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة وكسوا ذلك عبارات وتصرفوا فيه وأخرجوه إلى المسلمين وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان وهم كانوا يميلون كثيرا إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت رسائل إخوان الصفا وذكر ابن سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها قال ابن سينا وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة لكونهم كانوا يرونها وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر وظهر بذلك تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب
لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك
ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كل ما ظهر نورها انطفت البدع وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج والتشيع ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا كفرهم من جنس كفر فرعون بل شر منه
الوجه السابع أن يقال هذه الوصية مخالفة لما بعث الله تعالى به رسله وأن يقروهم على فطرتهم التي فطروا عليها وبذلك جاءتهم الرسل لم يأمروهم باستحداث فطرة غير الفطرة التي فطروا عليها ولا بتغيير تلك الفطرة كما أمرهم هؤلاء المبدلون لفطرة الله تعالى وكتبه والله سبحانه وتعالى قد فطر عباده على الإقرار به وعبادته وحده قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله
التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون وهؤلاء الصابئة المبدلون ومن بدل دينه من اليهود والنصارى وسائر المشركين هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون هم من الذين اختلفوا من بعد ما كانوا أمة واحدة كما قال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم
ولهذا يوجد في هؤلاء الصابئة المتفلسفة وغيرهم من الاختلاف والافتراق في أصول الدين أعظم مما يوجد بين اليهود والنصارى لأن أهل الكتاب أقرب إلى الهدى من الصابئين فمبتدعتهم دون مبتدعة الصابئين والتفرق والاختلاف في الصابئين أكثر ولهذا فيهم من عبادة الأصنام والكواكب والشرك مالا يوجد منه في أهل الكتابين وإن كان قد وجد فيهم من الشرك ما وجد فهو في أولك أعظم وهؤلاء وأمثالهم هم الذين بدلوا وغيروا ما فطر الله تعالى عليه عباده وأرسل به رسله وصار فيهم من الاستكبار وطلب العلو ودعوى التحقيق في العلوم والمعارف وعلو الهمة في الأعمال ما هم في الحقيقة متصفون عنده كما قال تعالى فيهم الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه وقال تعالى وتقدس فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا
به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا وقال تعالى وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون
وبالجملة فهؤلاء وأشباههم أعداء الرسل وسوس الملل وخطاب القرآن لهم كثير جدا فإنهم أئمة لأتباعهم وهم من السادة والكبراء الذين قال الله تعالى في أتباعهم إن الله لعن الكافرين وأعد لهم سعيرا خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا ولا نصيرا يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا أنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وكان فرعون موسى من أكابر ملوك هؤلاء وقد ذكر الله تعالى في قصته في القرآن ما فيه عبرة وكذلك مشركو قريش الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه و سلم أولا كان فيهم الشبه بهؤلاء أن يكونوا أئمة من كفر بعدهم كما قال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح الناس تبع لقريش في هذا الشأن مؤمنهم تبع لمؤمنهم وكافرهم تبع لكافرهم
وكان في أئمة الكفر الوحيد الذي قال الله تعالى ذرني ومن خلقت وحيدا وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا إلى قوله تعالى إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر فاستعمل نظر أهل المنطق من التفكير الذي يطلب به الحد الأوسط ثم التقدير الذي هو القياس الذي ينتقل فيه من الحد الأوسط إلى المطلوب وكذب بكون القرآن كلام الله تعالى وجعله كلام البشر وهذا في الحقيقة قول هؤلاء المتفلسفة كما قد بيناه في غير هذا الكتاب
فأمر الأمة بقبول وصية أمثال هؤلاء دون أن يذكر في ذلك ما أوصى الله تعالى به عباده وما وصت به رسله والوصية متضمنة تبديل فطرة الله تعالى بفطرة أخرى من أعظم تبديل الفطرة في العلوم والأعمال وذلك من تبديل دين الله
فصل
قال أبو عبدالله الرازي المقدمة الثانية اعلم أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وأنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشي واحتج عليه بثلاث حجج ثم قال فظهر فساد قول من يقول لا يمكن أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله وبينا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية
قلت نفي النظير والمثل والكفئ والسمي ونحو ذلك عن الله سبحانه وتعالى متفق عليه بين المسلمين الذين يؤمنون بالقرآن وقد بينا فيما تقدم بالدلائل القاطعة الشرعية والعقلية أنه يمتنع أن يكون لله مثل بوجه من الوجوه وبينا أن التماثل بينه وبين خلقه ممتنع لذاته وأنه يستلزم كون الشي الواحد موجودا معدوما قديما محدثا خالقا مخلوقا ممكنا والحجج الثلاثة التي ذكرها الرازي في هذا المطلوب ضعيفة كما سنبينه إن شاء الله وإن كانت
هذه المقدمة في نفسها حقا إذا فسرت بما يوافق الكتاب والسنة والعقل الصريح فإن هذا الرجل ربما يقول الحق ولكن تكون الحجج التي يقيمها عليه ضعيفة وكثيرا ما يقول ما ليس بحق وكثيرا ما يتناقض وهو في هذه المقدمة لم يثبت نفي الشبيه والنظير عن الله تعالى ولكن أراد أن يثبت أنه لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه فأثبت سلب هذا العموم لم يثبت نفي النظير عن الله تعالى ومتى ثبت نفي المثل عن الله تعالى ثبت سلب هذا العموم لانتقاض هذه القضية العامة الكلية ولا يلزم من ثبوت نقيض هذه القضية وسلبها ثبوت نفي المثل عن الله فإنه إذا لم يجب أن يكون لكل موجود نظير لم يلزم من ذلك عدم وجود النظير لكل موجود إذ نفي الوجوب لا ينفي الوجود ولو ثبت أن في الموجودات مالا نظير له بل ما يجب نفي النظير عنه لم يثبت بمجرد هذا الإبهام أنه الله إلا بدليل آخر فكيف إذا لم يثبت إلا مجرد عدم وجوب النظير لكل موجود
وإذا عرف مضمون هذه المقدمة فإن ما استفاد بها قوله فثبت فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا
وإذا كان هذا هو الذي استفاده بهذه المقدمة فينبغي أن يعلم أن هذا الكلام لا يقوله من يجزم بقول ولا يقوله أحد من أهل الأقوال المعتبرة وما أعلم أحدا يقوله ممن يذكر له قول لكن لعله قد قاله بعض الجهال بالمذاهب والدلائل وأهل الريب والشك في ذلك وذلك أن المنازعين له عندهم يعلم بضرورة العقل ونظره امتناع وجود موجود لا داخل ولا خارجه وإذا كان هذا ممتنعا عندهم لم يجز أن يكون لهذا الممتنع نظير ولم يجز أن يقول عاقل إن هذا الممتنع لا أعقله إلا إذا كان له نظير فإن هذا يكون تعليقا لعقله على وجود نظيره ويكون
عاقلا له إذا كان له نظير ومتى جوز وجود نظيره لم يكن هو في نفسه ممتنعا عنده والقائل لهذا إن كان يعتقد امتناعه لم يجز أن يكون له في نفسه وجود فضلا عن أن يجوز وجود نظير له وان كان يعتقد إمكانه لم يحتج عقله إلى وجود نظير لكن قد يقول هذا من لا يعلم امتناعه ولا إمكانه ويقول أنا لا أعقل شيئا إلا بشيء له نظير فهذه المقدمة تبطل هذا القول لو كان أقام حجة صحيحة عليها
وتحقيق الأمر أن لفظ النظير إن أراد به هذا القائل أني لا أعقل شيئا إن لم يكن له نظير من كل وجه فهذا لا ينفعه فإنه سلم أن الله تعالى ليس له نظير من كل وجه وإن قال إن لم يكن له نظير من بعض الوجوه يعنى أن يكون بينه وبين غيره مشابهة في شيء فالرازي لم يقم دليلا على إفساد هذا بل قد سلم في كتبه أن هذا في كتبه أن هذا يقول كل أحد قال في كتابه نهاية العقول وهو أجل ما صنفه في الكلام في المسألة الثالثة في أن مخالف الحق من أهل الصلاة هل يكفر أولا قال قال أبو الحسن الأشعرى في أول كتاب مقالات الاسلاميين اختلف المسلمون بعد نبيهم صلى الله عليه و سلم في أشياء ضلل بعضهم بعضا فصاروا فرقا متباينين إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم قال فهذا مذهبه وعليه أكثر الأصحاب ومن الأصحاب من كفر المخالفين قال فأما الفقهاء فقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال لا أرد شهادة كل أهل الأهواء والأقوال إلا الخطابية فانهم يعتقدون حل الكذب وأما أبو حنيفة فقد حكى الحاكم صاحب المختصر في كتاب المنتقى عن أبي حنيفة أنه لم يكفر
أحدا من أهل القبلة وحكى الرازى عن الكرخي وغيره مثل ذلك قال وأما المعتزلة فالذين كانوا قبل أبو الحسين تحامقوا وكفروا أصحابنا في إثبات الصفات وخلق الأعمال قال وأما المشبهة فقد كفرهم مخالفوهم من أصحابنا ومن المعتزلة وكان الاستاذ أبو اسحق يقول أكفر من يكفرني فكل مخالف يكفرنا نكفره وإلا فلا قال والذي نختاره أنا لا نكفر أحدا من أهل القبلة وهذا الذي اختاره آخرا خلاف ما ذكره في تأسيسه ومحصلة من تكفير المجسمة ومن غيرهم
والمقصود هنا أنه ذكر حجج من كفر المشبهة وتكلم عليها فقال وأما تكفير المشبهة فقد كفرهم أصحابنا والمعتزلة من وجوه إلى أن قال ورابعها أن الأمة مجمعة على أن المشبه كافر ثم المشبه لا يخلو إما أن يكون هو أن يذهب الى كون الله تعالى وتقدس مشبها لخلقه من كل الوجوه أوليس والأول باطل لأن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك ولا يجوز أن يجمعوا على تكفير من لا وجود له بل المشبه الذي يثبت الاله على صفة يشبهه فيها بخلقه والمجسم كذلك لأنه إذا اثبت جسما مخصوصا غير معين فإنه يشتبه عليه بالأجسام المحدثة فثيت أن المجسم مشبه وكل مشبه كافر بالإجماع فالمجسم كافر
ثم قال في الجواب عن هذا قوله المجسم مشبه والمشبه كافر قلنا إن عنيتهم بالمشبه من يكون قائلا بكون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه
فلا شك في كفره لكن المجسمة لا يقولون بذلك فلا يلزم من قولهم بالتجسيم قولهم بذلك ألا ترى أن الشمس والقمر والنمل والبق أجسام ولا يلزم من اعترافنا باشتراكهما في الجسمية كوننا مشبهين للشمس والقمر بالنمل والبق
قال وإن عنيتم بالمشبه من يقول بكون الله تعالى شبيها بخلقه من بعض الوجوه فهذا لا يقتضي الكفر لأن المسلمين اتفقوا على أن الله موجود وشيء وعالم وقادر والحيوانات أيضا كذلك وذلك لا يوجب الكفر وإن عنيتم بالمشبه من يقول الإله جسم مختص بالمكان فلا نسلم انعقاد الإجماع على تكفير من يقول بذلك بل هو دعوى الإجماع في محل النزاع فلا يلتفت إليه
قلت هذا الكلام منه تسليم لأن كون الله شبيها بخلقه من لعض الوجوه متفق عليه بين المسلمين لاتفاقها على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر وعلى هذا فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه لاشتراكها في الوجود والشبه فقوله بعد هذا لا يجب أن يكون لكل موجود نظير وشبيه إن عنى به شبيها به من كل وجه فقد ذكر أن أحدا من العقلاء لم يذهب الى ذلك وإن عنى به شبيها من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا محل وفاق بين المسلمين وإن أراد نوعا من التشبيه فهو لم يذكره في هذه المقدمة ولم يوضح سبيلا
ومن العجب أنه ذكر في نهايته على لسان منازعيه إجماع المسلمين على تكفير المشبهة وأنه ليس هو الذي يذهب إلى كون الله تعالى وتقدس شبيها بخلقه من كل الوجوه فإن هذا لم يذهب إليه عاقل فتعين أن يكون هو الذي أثب الإله على صفة شبهه معها بخلقه ثم ذكر هو إجماع المسلمين على كون الله شبيها
بخلقه من بعض الوجوه فالذي ذكر أولئك إجماع المسلمين على تكفير قائله ذكر هو إجماع المسلمين على القول به
وهذا الذي قرره في نهاية العقول في علم الأصول الذي صنفه بعد هذا الكتاب وقرر في أوله أن علم أصول الدين أجل العلوم وأشرفها وأعلاها وأنهاها قال ثم إن جماعة من الأفاضل الذين لا يوجد أمثالهم إلا على تباين الأعصار ونوادر الأدوار لما طال اقتراحهم لدي وكثر إلحاحهم علي في تصنيف كتاب في أصول الدين يشتمل على نهايات الأفكار العقلية وغايات المباحث العلمية صنفت هذا الكتاب بتوفيق الله تعالى على نحو ملتمسهم وأوردت فيه من الدقائق والحقائق ما لا يكاد يوجد في شيء من كتب الأولين والآخرين والسابقين واللاحقين من الموافقين والمخالفين وإن كتابي يتميز على سائر الكتب المصنفة في هذا المعنى بثلاثة أمور أحدها الاستقصاء في الأسولة والأجوبة والتعمق في بحار المشكلات على وجه ربما يكون انتفاع صاحب كل مذهب بكتابي هذا أكثر من انتفاعه بالكتب التي صنفها أصحاب ذلك المذهب فإني أوردت من كل كلام زبدته ومن كل بحث نقاوته حتى أني إذا لم أجد لأصحاب ذلك المذهب كلاما بعول عليه ويلتفت إليه في نصرة مذهبهم وتقرير مقالتهم استنبطت من نفسي أيضا ما يمكن أن يقال في تقرير ذلك المذهب وتحرير ذلك المطلب وإن كنا نرد بالعاقبة كل رئي ونزيف كل رواية سوى ما اختاره أهل السنة والجماعة ونبين بالبراهين الباهرة والأدلة القاهرة أن ذلك الذي يجب له الانقياد بالسمع والطاعة
وثانيهما استنباط الأدلة الحقيقية والبراهين اليقينية المفيدة للعلم الحقيقي واليقين التام لا الا لزامات التي المقصود من إيرادها مجرد التعجيز وألافحام
وثالثها الترتيب العجيب والتلفيق الأنيق الذي يوجب إلزامه على ملتزمه إيراد جميع مداخل الشكوك والشبهات والإجتناب على الحشو والاطناب وهذا كله لا يعلمه إلا من تقدم تحصيله لأكثر كلام العلماء وتحقق وقوعه على مجامع العقلاء من المحقين والمبطلين والموافقين والمخالفين حتى يمكن بعد ذلك فهم ما فيه من الأدلة العقلية والشكوك العويصة القوية فأني قل ما تكلمت في المبادىء والمقدمات بل أكثر العناية كان مصروفا إلى تخليص النهايات والغايات
قال ولما خرج الكتاب على هذا الوجه سميته نهاية العقول في دراية الأصول ليكون الاسم موافقا واللفظ مطابقا للمعنى وجعلته خالصا لوجه الله تعالى الكريم وطلب مرضاته والفوز العظيم بثوابه والهرب من أليم عذابه وسألت الله تعالى أن بعظم لي الإنتفاع للمسلمين في الدارين ويجعله سبب السعادة في المنزلتين أنه قريب مجيب
فهذا وصفه لكلامه في هذا الكتاب الذي صنفه بعد هذا وقد نقض فيه ما ذكر في هذا الكتاب في اسم المشبهة وتكفيرهم وذكر اتفاق المسلمين على إثبات التشبيه من بعض الوجوه وإذا كانوا متفقين عليه كيف يكون صاحبه هو المشبه المذموم في قول المسلمين وذكر أن القائلين بالجسم واختصاص الله تعالى بالمكان وإن عناهم متكلم بلفظ فلا حجة على تكفيرهم
وقد ذكر في هذا الكتاب ضد هذين القولين في اسم التشبيه وفي تكفير المشبه مع أن الحج التي ذكرها في هذا الكتاب من جانب منازعه
قوية عظيمة توافق ما رجع إليه في نهايته فقال في القسم الرابع وقد جعله ثلاثة فصول قال
الفصل الثاني في أن المجسم هل يوسف بأنه مشبه أم لا قال المجسم إنا وإن قلنا إنه جسم مختص بالحيز والجهة إلا أنا نعتقد أنه بحلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته وذلك يمنع من القول بالتشبيه فإن إثبات المساواة في بعض الأمور لا يوجب إثبات التشبيه ويدل على ذلك أنه تعالى صرح في كتابه بالمساواة في الصفات الكثيرة ولم يقل أحد بأن ذلك يوجب التشبيه فالأول قال سبحانه وتعالى في صفة نفسه إنني معكما أسمع وأرى وقال في صفة الإنسان فجعلناه سميعا بصيرا الثاني قال واصنع الفلك بأعيننا وقال في الإنسان ترى أعينهم تفيض من الدمع حزنا الثالث قال بل يداه مبسوطتان وفي الإنسان بما قدمت يداك وقال في نفسه مما عملت أيدينا أنعاما وفي الإنسان يد الله فوق أيديهم الرابع قال الرحمن على العرش استوى وفي الإنسان لتستووا على ظهوره الخامس قال في صفة نفسه العزيز الجبار ووصف الخلق بذلك فقال إخوة يوسف أيها العزيز وقال كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار والسادس سمى نفسه العظيم ثم وصف العرش فقال رب العرش العظيم والسابع وصف نفسه الحفيظ العليم ووصف يوسف بها فقال إني حفيظ عليم وقال وبشروه بغلام عليم وقال في آية أخرى بغلام حليم الثامن سمى تحيتنا سلاما فقال تحيتهم يوم يلقونه سلام وسمى نفسه سلاما كما صلى الله عليه و سلم بعد فراغه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام التاسع المؤمن قال
تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ووصف نفسه تعالى به فقال السلام المؤمن العاشر الحكم قال الله ألا له الحكم ووصفنا به فقال فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها الحادي عشر الراحم الرحيم وهو ظاهر الثاني عشر الشكور فقال إن ربنا لغفور شكور الثالث عشر العلي والإنسان يسمى بذلك منهم كعلي رضي الله عنه الرابع عشر الكبير قال في نفسه وهو العلي الكبير وقال إن له أبا شيخا كبيرا وقال في حكاية عن المرأتين وأبونا شيخ كبير الخامس عشر الحكيم والله تعالى وصف نفسه وكتابه السادس عشر الشهيد قال في حق الخلق فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وقال في حق نفسه أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد السابع عشر قال الله تعالى فتعالى الله الملك الحق وقال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل الملك يومئذ الحق للرحمن ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق الثامن عشر الوكيل قال تعالى وهو على كل شيء وكيل وقد يوصف الخلق بذلك فيقال فلان وكل فلانا التاسع عشر المولى قال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ثم قال تعالى في حقنا ولكل جعلنا موالي والنبي صلى الله عليه و سلم قال من كنت مولاه فعلي مولاه العشرون الولي قال تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا وقال النبي صلى الله عليه و سلم أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل وقال تعالى
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الحادي والعشرون الحي قال الله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم وقال وجعلنا من الماء كل شيء حي الثاني والعشرون قال تعالى إنما هو إله واحد ويقع هذا الوصف على أكثر الأشياء فيقال ثوب واحد وإنسان واحد الثالث والعشرون الثواب قال الله تعالى إن الله كان توابا رحيما وسمى الخلق به فقال إن الله يحب التوابين الرابع والعشرون الغني قال الله تعالى والله الغني وقال إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء وقال النبي صلى الله عليه و سلم خذها من أغنيائهم وردها على فقرائهم الخامس والعشرون النور قال الله تعالى الله نور السموات والأرض وقال يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم السادس والعشرون الهادي قال الله تعالى ولكن الله يهدي من يشاء وقال إنما أنت منذر ولكل قوم هاد السابع والعشرون الاستماع قال الله تعالى فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون وقال لموسى فاستمع لما يوحى الثامن والعشرون القديم قال تعالى حتى عاد كالعرجون القديم
قال واعلم أنه لا نزاع في أن لفظ الموجود والشيء والواحد والذات والمعلوم والمذكور والعالم والقادر والحي والمريد والسميع والبصير والمتكلم والباقي واقع على الحق سبحانه وتعالى وعلى خلقه فثبت بما ذكرناه أن المشابهة من بعض الوجوه لا توجب أن يكون قائله موصوفا بأنه شبه الله
بالخلق وبأنه مشبه ونحن لا نثبت المشابهة بينه وبين خلقه إلا في بعض الأحوال والصفات إلا أنا نعتقد أنه تعالى وإن كان جسما إلا أنه بخلاف سائر الأجسام في ذاته وحقيقته فثبت أن إطلاق اسم المشبه على هذه الطائفة كذب وزور وهذا جملة كلامهم في هذا الباب
قال واعلم أن حاصل هذا الكلام من جانبنا أنا قد دللنا في القسم الأول من هذا الكتاب على أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية فلو كان الباري جسما لزم أن يكون مثلا لهذه الأجسام في تمام الماهية وحينئذ فيكون القول بالتشبيه لازما أما ما لم يدل الدليل على أن الأشياء المتساوية في الموجودية والعالمية والقادرية فإنه لا يجب تماثلها في تمام الماهية فظهر الفرق
قلت قد ذكر ما ذكر في حجج الذين سماهم مجسمة مع تقصير فيها فإنها حجج كثيرة جدا ومع هذا فلم يمكنه أن يمنعهم ثبوت التشبيه من بعض الوجوه كما قرره ولا أمكنه أن يمنع أن هذا ثابت بالكتاب والسنة واتفاق المسلمين لكن ادعى أن التجسيم يوجب إثبات مثل لله في تمام ماهيته وذلك ليس تشبيها في بعض الأمور بل هو مماثلة في كمال الحقيقة والماهية
قلت ولا ريب أن من أثبت لله مثلا في كمال حقيقته فهو مشبه بل هو أعظم من أن يقال مشبه بل هو جاعل لله تعالى كفوا وشبها ولذا قال فالأشياء المستركة في الموجودية والعالمية والقادرية لا يجب تماثلها في تمام الماهية قلت وهذا حق فإن اشتراك الشيئين في كونهما موجودين أو عالمين أو قادرين لا يوجب استواءهما في حقيقتهما
والغرض أنه في هذا الكتاب أيضا قد اعترف بأن التشبيه من بعض الوجوه ثابت بالكتاب والسنة واتفاق العقلاء فضلا عن المسلمين لكن خصومه المجسمة إنما عابهم بإثباتهم المشابهة في تمام الماهية وهذا مورد النزاع بينه وبينهم وسنذكر إنشاء الله تعالى ما يجب من الحكم بالقسط بينه وبينهم إذا انتهينا إلى ذكر حججه التي أحال عليها ونبين أن الأجسام كلها هل هي مستوية في تمام ماهيتها وكمال حقيقتها أم لا إذ هذا ليس موضع الكلام في ذلك وهذا الفصل وإن كان ذكره في آخر الكتاب فذكرناه في هذا الموضع لنبين اعترافه واعتراف سائر الخلق بما قامت عليه الأدلة الشرعية والعقلية من ثبوت المشابهة في بعض الأمور وأن ذلك لا يستلزم التماثل في الحقيقة وظهر بذلك ما في هذا اللفظ من العموم والخصوص والإطلاق والتقييد
والمقصود هنا أن لفظ الشبيه والنظير فيه إجمال كبير واشتراك في اللفظ وإجمال في المعنى فإن أراد بما نفاه بهذه المقدمة نفي التشبيه من كل وجه فهذا محل وفاق ولا ينفعه ذلك وإن أراد به نفي التشبيه من بعض الوجوه فقد ذكر أن هذا متفق على ثبوته فلم يرد نفيه ولم يقم دليلا على نفيه والقول الذي ذكره عن بعض منازعيه لا يمكننا عقل موجود لا متصل ولا منفصل إلا إذا وجدنا له نظيرا قد ذكرنا أنه لا يقوله من يعلم امتناع موجود لا متصل ولا منفصل ولا يقوله من يعلم إمكانه وإنما يقوله الواقف الذي يطلب للشيء نظيرا وقد ذكر هذا الرازي أنه لا يطلب أحد من العقلاء نظيرا من كل وجه وذكر أن الشبيه من بعض الوجوه ثابت للرب سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين فضلا عن أن يكون ثابتا لغيره وهذا المنازع له لا يطلب إلا نظيرا من بعض الوجوه فإذا كان مطلوبه حاصلا باتفاق المسلمين لم يكن قوله فاسدا فأحد الأمرين لازم إما أن لا يكون قال أحد هذا القول أو يكون هذا القول حقا مسلما بالاتفاق وعلى التقديرين فلا تصح مناظرة قائله
فإن قيل هذا المنازع طلب نظيرا في مورد النزاع وهو أني لا أثبت موجودا لا داخل العالم ولا خارجه إن لم يكن له شبيه من هذا الوجه والمخالفون له لا يثبتون المشابهة من هذا الوجه
قيل هذا حق وهو تشبيه من وجه مخصوص لكن المصنف لم يثبت جواز وجود موجود بدون هذا التشبيه الخاص إذ لو أثبت ذلك لكان قد أثبت جواز موجود لا يكون داخل العالم ولا خارجه وذلك لو أثبت كانت له مغنيا عن هذه المقدمة بل ادعى أنه لا يجب الوجود الشبيه والنظير لكل موجود ولفظ الشبيه مجمل كما ذكره هو وإذا كانت الدعوى مجملة تحتمل مورد النزاع وما هو أعم منه وما هو أخص منه لم تكن إقامة الدليل عليها دافعة للخصم وهذا بين
وأما حججه فإنه قال الحجة الأولى أن بديهة العقل لا تستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية إذا لم يكن هذا مدفوعا في بداية العقول علمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء
وعلى هذا وجوه الأول إن عدم استبعاد البديهة لا يقتضي عدم استبعاد العلم النظري وكذلك كونه غير مدفوع في بديهة العقل لا يقتضى أنه لا يكون مدفوعا في نظره فإن حاصل هذا أنه لا يعلم بالبديهة امتناع هذا وفرق بين أن لا يعلم بالبديهة امتناعه وبين أن يعلم بالبديهة إمكانه وإذا لم يعلم بالبديهة امتناعه لم يجز أن يقال فعلمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم الشيء فإن هذا لم يعلم مما ذكره إنما أفاد عدم العلم البديهي بوجود موجود لا نظير له لم يعدم
وجود علم بإمكانه ولو كان قد قال نعلم بالبديهة أن الشيء قد يكون موجودا ولا يكون له نظير أو نعلم بالبديهة إمكان وجود شيء لا نظير له لكان الدليل تاما لكن هو لم يذكر إلا الإمكان الذهني دون الخارجي والإمكان الذهني ليس فيه علم لا بالامتناع ولا بالإمكان ولكن العلم بالإمكان الخارجي فيه بالإمكان
الثاني أن الذي ادعاه أنه لا يستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية وهذا إثبات للمخالفة في الخصوصية وإن كانت المشابهة ثابتة في غير الخصوصية بحيث يكون بينهما قدر مشترك وقدر مميز والمنازع له لم ينف وجود هذا بل قد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لم يثبت المشابهة من كل وجه فلا يفيده هذا الوجه
الثالث أن المنازع له الذي ذكره في هذه المقدمة طلب إثبات شيء يكون لا داخل العالم ولا خارجه وذكر أنه لا يقر بهذا إلا إذا علم المشابهة في هذا فإن لم يقم دليلا على أن وجود الموجود لا يقتضي وجود شبيه له من هذا الوجه إما دليلا يخص هذا الوجه أو دليلا يعم هذا الوجه وغيره لم يكن قد استدل وهذا الدليل إنما فيه جواز المخالفة في تلك الخصوصية ولا يلزم من جواز المخالفة في تلك الخصوصية جواز المخالفة في كونه لا داخل العالم ولا خارجه
ثم قال الحجة الثانية وهو أن الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه أو لا يتوقف والأول باطل لأنهما لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بداية العقول
يقال هذه الحجة أفسد من التي قبلها من وجوه
أحدها أن هذه إنما تنفي وجوب التشابه الموجب للاستواء في جميع اللوازم وهذا هو التماثل وقد حكى الإجماع على أن أحدا من العقلاء لا يثبت لله مثلا يشاركه في جميع اللوازم ولا ريب أن انتفاء هذا الظاهر وإذا كان أحد من العقلاء لم يقل بهذا لم ينفعه في دفع ما ذكره عن منازعه الذي طلب التشابه في صفة واحدة لا في جميع اللوازم
الوجه الثاني أنه كثيرا ما يحتج بمثل هذه الحجة في كتبه وهي من الأغاليط ولا يميز بين دور التقدم والتأخر وبين دور التفاوت وذلك أنه يمتنع أن يكون كل من الشيئين علة للآخر لأن العلة متقدمة للمعلول فيلزم أن يكون كل منهما علة للآخر ومعلولا له فيلزم تقدمه عليه وتأخره عنه وذلك يلزم تقدمه على نفسه بدرجتين وتأخره عن نفسه بدرجتين ويستلزم كونه علة لنفسه ومعلولا لنفسه لأنه يكون علة علته ومعلولا معلوله جميعا ولا يمتنع أن يكون كل من الشيئين مقارنا للآخر بحيث لا يوجد إلا معه كالأمور المتضايفة مثل الأبوة والبنوة ونحو ذلك وهذا دور الشروط فيجوز أن يكون وجود كل من الأمرين شرطا في وجود الآخر بحيث لا يوجد إلا معه فهذا جائز ليس بممتنع فقوله وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما يشابهه إن أراد بالتوقف توقف العلل بحيث يكون كل منهما موجودا مع الآخر فلم قال إن هذا ممتنع
قوله لأن التشابه يقتضي الاستواء في اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول
يقال له غايته إنه توقف كل منهما على وجود الآخر وهذا أول المسألة وهو توقف الشيء على وجود ما يشبهه فلم قلت إن هذا محال إذا أريد بالتوقف
وجوب وجوده معه لا وجوب وجوده به ومعلوم أن هذا لا يقتضي وقف الشيء على نفسه وأن هذا ليس بمحال في بداية العقول بل المحال أن يكون وجود كل منهما بوجود الآخر وفرق بين كون وجوده معه أو وجوده به فهذه الحجة كما قال الإمام أحمد رحمه الله في هؤلاء يتمسكون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يلبسون عليهم
الوجه الثالث أن يقال نختار القسم الثاني وهو أن وجود الشيء لا يتوقف على وجود ما يشبهه بل يجوز وجوده بدونه لكن لم قلت إذا كان وجوده لا يتوقف على النظير أنه لا يجب أن يكون له نظير وإن لم يتوقف عليه وجوده كمعلولي العلة الواحدة لا يتوقف أحدهما على الآخر بأن كان وجود أحدهما مستلزما لوجود الآخر
وأيضا فالمنازع الذي ذكرته لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا إنما نفى عقل نفسه فلم قلت إنه إذا جاز وجود هذا الموجود يمكن عقلنا له وهذا لا يحصل إلا إذا ثبت أنه يمكن أن يعقل كل ما جاز وجوده وهذا لم تذكر عليه حجة
ثم قال الحجة الثالثة هو أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بداية العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لا يوجب القول بعدم الشيء
يقال هذه الحجة أفسد من غيرها وهي أيضا من غلطاته فإنه لم يذكر فيها ما يدل على مطلوبه لوجوه
أحدها أن إثبات نظير الشيء وشبهه ومثله يقتضي أن يكون عين أحدهما ليست عين الآخر إذ لو كانت عينه عينه لم يكن مثله ونظيره بل كان هو إياه وإذا كان نفس إثبات النظير يقتضي التغاير في التعيين صار وجود النظير مستلزما لامتناع كون أحدهما عين الآخر وثبوت اللازم لا يقتضي عدم الملزوم فكون عين الشيء يمتنع أن يكون لغيره لا يقتضي نفي ذلك كما لا يقتضي ثبوته وإذا لم يكن مقتضيا ثبوت النظير ولا نفيه لم يكن فيه إعدام الدليل على وجوب النظير وعدم الدليل ليس دليل العدم فتبين أن ما ذكره لا يمنع وجوب النظير كما لا يوجب ثبوت النظير ولكن غايته أنه لا يدل على ثبوت النظير
لكن قد يقول هو إذا كان تعيينه يمتنع أن يكون لغيره فلا يقتضي وجود التعيين وجوده ولا عدمه
فيقال هذه الحجة لم تفد غير ما هو معروف بدونها من أنه يمكن العقل أن يتصور وجود الشيء الذي ليس له نظير وأن ذلك ممكن فإن هذه الحجة ليس فيها إقامة دليل خاص على نفي الحاجة إلى النظير وإنما غايتها وجود عين الشيء من غير نظير ولو قال قائل قد يكون وجود الشيء موقوفا على نظيره لكون وجوده مشروطا بوجود النظير أو وجود الغير كالأمور المتضايفة وأنتم لم تقيموا دليلا على نفي وجوب التلازم فإنه ليس في حجته ما ينفي التلازم لكان قوله صحيحا لكن يقال نحن نتصور إمكان وجوده بدون التلازم فلا حاجة إلى حجته
يبين ذلك أنه يكون امتناع كون عين الشيء حاصلا في غيره يمنع وجوب الشبيه أو النظير فإن ذلك يستلزم أن يكون إثبات الشيء مستلزما
لعدمه لأن إثبات التشابه والتناظر والتساوي يقتضي ثبوت التغاير في التعيين وأن أحدهما ليست عين الآخر فلو كان هذا التغاير في التعيين مانعا من وجوب مشابه لكان لازما الشيء بل بعض معناه مانعا من وجوبه فإن اللازم لا يمنع وجوب الملزوم ولا يوجب وجوده
الوجه الثاني أن كون تعيين الشيء ممتنع الحصول في غيره لا يقتضي عدم نظير ذلك التعيين في الثاني وإنما يقتضي عدم نفس ذلك التعيين في الثاني والمنازع إنما يثبت نظير التعيين في الثاني لا نفس التعيين فلم قلت إن نظير ذلك التعيين غير واجب فإن قلت يلزم أن يكون لكل نظير نظيرا قيل له كل من التعيينين نظير الآخر
الوجه الثالث أن تعين الشيء في اقتضائه لنفي وجوب لمثل كما هو في اقتضائه لنفي وجود المثل ثم من المعلوم أنه إذا كان امتناع حصول العين في الغير يقتضي نفي المثل وجب أن لا يكون لشيء من الأشياء نظير ولا شبيه ولا مثل فإنه ما من شيء إلا له عين مخصوصة يمتنع حصولها في غيره فإن كان عدم حصول عين الشيء في غيره يقتضي عدم مثله ونظيره فليس في الوجود ماله نظير وشبيه وهذا من أبطل الأشياء وإذا لم يكن تعيين الشيء مانعا من وجود النظير لم يكن مانعا من وجوب النظير فإنه لا يدل على هذا ولا هذا
فصل
قال الرازي المقدمة الثالثة أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الإنسان الشاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهؤلاء يجوزون الانتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول عنهم أنه على صورة نور من الأنوار
وقال وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة
واعلم أن كثيرا من هؤلاء يمتنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد منتاه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم وبينهم اختلاف في ذلك فهذا تمام الكلام في المقدمات وبالله التوفيق
قلت هذا الكلام فيه تقصير كثير في معرفة مذاهب الناس وتحقيقها وذلك أن القائلين بأن الله تعالى فوق العرش والقائلين بالصفات الخبرية وهم السلف وأهل الحديث وأئمة الأمة وجماهيرها وجمهور الصفاتية من الكلابية والأشعرية والكرامية وجمهور المشهورين بالإمامة في الفقه والتصوف
في الأمة من جميع الطوائف جمهورهم لا يقول هو جسم ولا ليس بجسم لما في اللفظين من الإجمال والاشتراك المشتمل على الحق والباطل ومنهم طوائف يقولون هو جسم وطوائف يقولون ليس بجسم ثم إن كثيرا من أئمة السنة والحديث أو أكثرهم يقولون إنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه بحد ومنهم من لم يطلق لفظ الحد وبعضهم أنكر الحد وممن ذكر ما عنده في ذلك من مذاهب أهل الحديث والكلام وإن كان بمقالات أهل الكلام أخبر أبو الحسن الأشعري في كتاب مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين الذي من أو ما ذكر فيه أخذ الرازي وغيره مذهبه في عدم تكفير أهل الصلاة
قال أبو الحسن هذه حكاية قول جملة أصحاب الحديث وأهل السنة جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة الإقرار بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله وأن الله سبحانه وتعالى إله واحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له يدين بلا كيف كما قال خلقت بيدي وكما قال تعالى بل يداه مبسوطتان وأن له عينين بلا كيف كما قال تجري بأعيننا وأن له وجها كما قال تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله كما قال المعتزلة والخوارج وأقروا أن لله علما كما قال أنزله بعمله وكما قال وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله تعالى كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله تعالى القوة كما قال او لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وذكر
مذهبهم في القدر إلى أن قال ويقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ و الوقف من قال بالوقف أو اللفظ فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقولون إن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرىالقمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون لأنهم عن الله محجوبون قال تعالى كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وأن موسى عليه السلام سأل الله تعالى الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا بل يراه في الآخرة وذكر مذهبهم في باب الإيمان والوعيد والأسماء والأحكام إلى أن قال ويقولون إن الله لم يأمر بالشر بل نهى عنه وأمر بالخير فلم يرض بالشر وإن كان مريدا له وذكر مذهبهم في الصحابة والخلافة والتفضيل
ثم قال ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله ينزل إلى سماء الدنيا فيقول هل من مستغفر فأغفر له ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال تعالى فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم مالم يأذن به الله ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك والملك صفا صفا وأن الله تعالى يقرب من خلقه كيف شاء كما قال ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وذكر مذهبهم في الأمراء والصلاة خلفهم وترك الخروج عليهم وأشياء غير ذلك ثم قال وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب
ثم قال فأما أصحاب عبدالله بن سعيد القطان يعني ابن كلاب فإنهم يقولون بأكثر مما ذكرناه عن أهل السنة ويثبتون أن الله لم يزل حيا عالما قادرا سميعا بصيرا عظيما جليلا كبيرا كريما مريدا متكلما جوادا ويثبتون العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والعظمة والجلال والكبرياء والإرادة والكلام صفات لله تعالى وذكر غير ذلك قال وكان يزعم أن الباري لم يزل ولا مكان ولا زمان قبل الخلق وأنه على ما لم يزل وأنه مستو على عرشه كما قال وأنه فوق كل شيء
ثم قال ذكر قول زهير الأثري فأما أصحاب زهير الأثري فإن زهيرا كان يقول إن الله تعالى بكل مكان وأنه مع ذلك مستو على عرشه وأنه يرى بالأبصار بلا كيف وأنه موجود الذات بكل مكان وأنه ليس بجسم ولا محدود ولا يجوز عليه الحلول والمماسة ويزعم أنه يجيء يوم القيامة كما قال وجاء ربك بلا كيف ويزعم أن القرآن كلام محدث غير مخلوق وأن القرآن يوجد في أماكن كثيرة في وقت واحد وإن إرادة الله ومحبته قائمان بالله تعالى ويقول بالاستثناء كما يقول أصحاب الاستثناء المرجئة الذين حكينا قولهم في الوعيد ويقول في القدر بقول المعتزلة وذكر قوله في الإيمان أنه موافق لقول المرجئة
قال وأما أبو معاذ التومني فإنه يوافق زهيرا في أكثر أقواله ويخالفه في القرآن ويزعم أن كلام الله غير محدث ولا مخلوق وهو قائم بالله لا في مكان وكذلك قوله في إرادته ومحبته
وقال في باب اختلاف الناس في الباري هل هو في مكان دون مكان أم لا في مكان أم في كل مكان وهل تحمله الحملة أو يحمله العرش وهل هم ثمانية أملاك أم ثمانية أصناف من الملائكة اختلفوا في ذلك على سبع عشرة مقالة قد ذكرنا قول من امتنع من ذلك وقال إنه في كل مكان حال وقول من قال لا نهاية له وأنه هاتين الفرقتين أنكرت القول بأنه في مكان دون مكان
قال وقال القائلون هو جسم خارج من جميع صفات الجسم ليس بطويل ولا عريض ولا عميق ولا يوصف بطعم ولا لون ولا مجسة ولا شيء من صفات الأجسام وأنه ليس في الأشياء ولا على العرش إلاعلى معنى أنه فوقه غير مماس له وأنه فوق الأشياء وفوق العرش ليس بينه وبين الأشياء أكثر من أنه فوقها
قال وقال هشام بن الحكم إن ربه تعالى في مكان دون مكان وأن مكانه هو العرش وأنه مماس للعرش وأن العرش قد حواه وحده وقال بعض أصحابه أن الباري قد ملأ العرش وأنه مماس له قال وقال بعض من ينتحل الحديث إن العرش لم يمتلىء به وأنه يقعد نبيه صلى الله عليه و سلم معه على العرش
قال وقال أهل السنة وأصحاب الحديث ليس بجسم ولا يشبهه الأشياء وأنه على العرش كما قال الرحمن على العرش استوى ولا نقدم بين يدي الله تعالى في القول بل نقول استوى بلا كيف وأن له وجها كما قال ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن له يدين كما قال خلقت
بيدي وأن له عينين كما قال تجري بأعيننا وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وقالت المعتزلة إن الله استوى على عرشه بمعنى استولى وقال بعض الناس الاستواء القعود والتمكن
قال واختلف الناس في حملة العرش ما الذي تحمل قال قائلون الحملة تحمل الباري تعالى وإنه إذا غضب ثقل على كواهلهم وإذا رضي خف فيتبينون غضبه من رضاه وأن العرش له أطيط إذا ثقل عليه كأطيط الرحل قال الأشعري وقال بعضهم ليس يثقل الباري ولا يخف ولا تحمله الحملة ولكن العرش هو الذي يخف ويثقل وتحمله الحملة قال وقال بعضهم الحملة ثمانية أملاك وقال بعضهم ثمانية أصناف قال وقال قائلون إنه تعالى على العرش وإنه بائن منه لا بعزلة وإشغال لمكان غيره بل بينونة ليس على العزلة والبينونة من صفات الذات
قال أبو الحسن الأشعري واختلفوا يعني الأمة في العين واليد الوجه على أربع مقالات فقالت المجسمة له يدان ورجلان ووجه وعينان وجنب يذهبون إلى الجوارح والأعضاء وقال أصحاب الحديث لسنا نقول في ذلك إلا ما قال الله تعالى أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فنقول وجه بلا كيف ويدان وعينان بلا كيف وقال عبدالله ابن كلاب أطلق اليد والعين والوجه خبرا لأن الله تعالى أطلق ذلك ولا أطلق غيره فأقول هي صفات لله تعالى كما قال في العلم والقدرة والحياة إنها صفات
وقالت المعتزلة بإنكار ذلك إلا الوجه وقالت اليد بمعنى النعمة وقوله تجري بأعيننا أي بعلمنا والجنب بمعنى الأمر وقالوا في قوله تعالى أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله أي في أمر الله وقالوا نفس الباري هي هو وكذلك ذاته هي هو وتألوا قوله الصمد على وجهين أحدهما أنه السيد والآخر أنه المصمود إليه بالحوائج قال وأما وجهه فإن المعتزلة قالت فيه قولين قال بعضهم وهو أبو الهذيل وجه الله هو الله تعالى وقال غيره معنى قوله ويبقى وجه ربك أي يبقى ربك من غير أن يكون يثبت وجها يقال إنه هو الله تعالى أو لا يقال ذلك فيه
قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالإبصار على تسع عشرة مقالة فقال قائلون يجوز أن نرى الله بالإبصار في الدنيا ولسنا ننكر أن يكون بعض من نلقاه في الطرقات وأجاز بعضهم عليه الحلول في الأجسام وأصحاب الحلول إذا رأوا إنسانا يستحسنونه لم يدروا لعل إلههم فيه وأجاز كثير ممن أجاز رؤيته في الدنيا مصافحته وملامسته ومزاورته إياهم وقالوا إن المخلصين يعانقونه في الدنيا والآخرة إذ أرادوا ذلك حكي ذلك عن أصحاب مضر وكهمس وحكي عن أصحاب عبدالواحد بن زيد أنهم كانوا يقولون إن الله تعالى يرى على قدر الأعمال فمن كان عمله أفضل رآه أحسن وقد قال قائلون إنا نرى الله تعالى في الدنيا في النوم فأما في اليقظة فلا وروي عن رقبة بن مصقلة أنه قال رأيت رب العزة في النوم فقال لأكرمن مثواه يعني سليمان التيمي صلى الفجر بطهر العشاء أربعين سنة قال وامتنع كثير من القول إنه يرى في الدنيا ومن سائر ما أطلقوه وقالوا إنه يرى في الآخرة
قال واختلفوا أيضا في ضرب آخر فقال قائلون نرى جسما محدودا مقابلا لنا في مكان دون مكان وقال زهير الأثري ذات الباري في كل مكان وهو مستو على عرشه ونحن نراه في الآخرة على عرشه بلا كيف وكان يقول إن الله تعالى يجيء يوم القيامة إلى مكان لم يكن خاليا منه وأنه ينزل إلى سماء الدنيا ولم تكن خالية منه
قال واختلفوا في رؤية الله تعالى بالأبصار هل هي إدراك له بالأبصار أم لا فقال قائلون هي إدراك له بالأبصار وهو يدرك الأبصار وقال قائلون يرى الله تعالى بالأبصار ولا يدرك بالأبصار
واختلفوا في ضرب آخر فقال قائلون نرى الله جهرة ومعاينة وقال قائلون لا يرى الله جهرة ولا معاينة ومنهم من يقول أحدق إليه إذا رأيته ومنهم من يقول لا يجوز التحديق إليه وقال قائلون منهم ضرار وحفص الفرد إن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها وندرك ما هو بتلك الحاسة وقالت البكرية إن الله يخلق صورة يوم القيامة يرى فيها ويكلم خلقه منها وقال الحسين النجار يجوز أن يحول الله تعالى العين إلى القلب ويجعل لها قوة العلم فيعلم بها ويكون ذلك العلم رؤية له أي علما له
قال وأجمعت المعتزلة على أن الله تعالى لا يرى بالأبصار واختلفت هل يرى بالقلوب فقال أبو الهذيل وأكثر المعتزلة أن الله تعالى يرى بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها وأنكر ذلك الفوطي وعباد وقالت المعتزلة والخوارج وطوائف من المرجئة وطوائف من الزيدية إن الله لا يرى بالأبصار بالدنيا والآخرة ولا يجوز ذلك عليه واختلفوا في الرؤية لله تعالى في الأبصار وهل يجوز أن تكون أو هي كائنة لا محالة على مقالتين فقال قائلون يجوز أن يرى الله تعالى في الآخرة بالأبصار وقال قائلون إنه بتاتا وقال نقول إنه يرى بالأبصار وقال قائلون نقول بالأخبار المروية وبما جاء في القرآن أنه يرى بالأبصار في الآخرة بتاتا يراه المؤمنون
قال وكل المجسمة إلا نفرا يسيرا يقولون بإثبات الرؤية وقد يثبت الرؤية من لا يقول بالتجسيم
قال واختلفوا هل يقال إن الباري تعالى لم يزل عالما قادرا حيا أم لا يقال ذلك على مقالتين فقال قائلون لم يزل الله تعالى عالما قادرا حيا وزعم كثير من المجسمة أن الباري كان قبل أن يخلق الخلق ليس بعالم ولا قادر ولا سميع ولا بصير ولا مريد ثم أراد وإرادته عندهم حركته فإذا أراد كون شيء تحرك فكان الشيء لأن معنى أراد تحرك وليست الحركة غيره وكذلك قالوا في قدرته وعلمه وسمعه وبصره إنها معان وليست غيره وليست بشيء لأن الشيء هو الجسم وقال قائلون إن حركة الباري غيره
واختلف القائلون بتحركه تعالى على مقالتين فزعم هشام أن حركة الباري هي فعله الشيء وكان يأبى أن يكون الباري يزول مع قوله يتحرك وأجاز عليه السكاك الزوال وقال لا يجوز عليه الطفر وحكي عن رجل كان يعرف بأبي شعيب أن الباري يسر بطاعة أوليائه وينتفع بها وبإنابتهم ويلحقه العجز بمعاصيهم إياه
قال واختلف المعتزلة في المكان فقال قائلون إن الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل عليه وقال قائلون الباري في كل مكان بمعنى أنه حافظ الأماكن وذاته مع ذلك موجودة بكل مكان
وقال أيضا اختلفت المعتزلة في المكان فقال قائلون الباري بكل مكان بمعنى أنه مدبر لكل مكان وأن تدبيره في كل مكان والقائلون بهذا القول جمهور المعتزلة أبو هذيل والجعفران والإسكافي والجبائي وقال قائلون الباري لا في مكان بل هو على ما لم يزل وهو قول هشام الفوطي وعبا د بن سليمان وأبي زفر وغيرهم من المعتزلة قال وقالت المعتزلة في قول الله تعالى الرحمن على العرش استوى يعني استولى
قال أبو الحسن وهذا شرح اختلاف الناس في التجسيم قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري تعالى ليس بجسم ولا محدود ولا ذي نهاية ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم
قلت وهذا الذي أحال عليه ذكره في قول المعتزلة فقال هذا شرح قول المعتزلة في التوحيد وغيره أجمعت المعتزلة على أن الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي أبعاض ولا أجزاء وجوارح وأعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وأمام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه الممساسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم ولا يوصف بأنه متناهي ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود ولا والد ولا مولود ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار ولا تدركه الحواس ولا يقاس بالناس ولا يشبهه الخلق بوجه من الوجوه ولا تجري عليه الآفات ولا تحل به العاهات وكل ما خطر بالبال وتصور بالوهم فغير مشبه له ولم يزل أولا سابقا متقدما للمحدثات موجود قبل المخلوقات ولم يزل عالما قادرا حيا ولا يزال كذلك لا تراه العيون ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأوهام ولا يسمع بالأسماع شيء لا كالأشياء عالم قادر حي لا كالعلماء القادرين الأحياء وأنه القديم وحده ولا قديم غيره ولا إله سواء ولا شريك له في ملكه ولا وزير له في سلطانه ولا معين على إنشاء ما أنشأ وخلق ما خلق لم يخلق الخلق على مثال سبق وليس خلق شيء بأهون عليه من خلق شيء آخر ولا أصعب منه لا يجوز عليه اجترار المنافع ولا تلحقه المضار
ولا يناله السرور واللذات ولا يصل إليه الأذى والآلام ليس بذي غاية فيتناهى ولا يجوز عليه الفناء ولا يلحقه العجز والنقص تقدس عن ملامسة النساء وعن اتخاذ الصاحبة والأبناء
قال أبو الحسن فهذه جملة قولهم في التوحيد وقد شركهم في هذه الجملة الخوارج وطوائف من الشيعة وإن كانوا للجملة التي يظهرونها ناقضين ولها تاركين
ثم ذكر من اختلافهم في مسائل الصفات ما ليس هذا موضع حكايته كلاما طويلا
قلت فهذا هو قوله قد أخبرنا عن المنكرين للتجسيم أنهم يقولون إن الباري ليس بجسم ولا محلول ولا ذي نهاية
ونحن الآن نخبر عن أقاويل المجسمة واختلافهم في التجسيم قال واختلفت المجسمة فيما بينهم من التجسيم وهل للباري تعالى وتقدس قدر من الأقدار وفي مقداره على ست عشر مقالة وقال هشام بن الحكم إن الله جسم محدود عريض عميق طويل طوله مثل عرضه وعرضه مثل عمقه نور ساطع له قدر من الأقدار بمعنى أن له مقدارا في طوله وعرضه وعمقه لا يتجاوزه في مكان دون مكان كالسبيكة الصافية يتلألأ كاللؤلؤة المستديرة من جميع
جوانبها ذو لون وطعم ورائحة ومجسة لونه هو طعمه وهو رائحته وهو مجسته وهو نفسه لون ولم يثبت لونا غيره وإنه يتحرك ويسكن ويقوم ويقعد
قال وحكى عنه ابن الراوندي أنه يزعم أن الله يشبه الأجسام التي خلقها من جهة من الجهات ولولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه أنه قال إنه جسم لا كالأجسام ومعنى ذلك أنه شيء موجود
قال وقد ذكر عن بعض المجسمة أنه كان يثبت الباري ملونا ويأبى أن يكون ذا طعم ورائحة ومجسة وأن يكون طويلا وعريضا وعميقا وزعم أنه في مكان دون مكان من وقت خلق الخلق قال وقال قائلون إن الباري وأنكروا أن يكون موصوفا بلون أو طعم أو رائحة أو مجسة أو شيء مما وصفه هشام غير أنه تعالى على العرش مباين له دون ما سواه
قال أبو الحسن واختلفوا في مقدار الباري تعالى بعد أن جعلوه جسما فقال قائلون هو جسم وهو في كل مكان وفاضل عن جميع الأماكن وهو مع ذلك متناه غير أن مساحته أكبر من مساحة العالم إلا أنه أكبر من كل شيء وقال بعضهم مساحته على قدر العالم وقال بعضهم إن الباري عز و جل جسم له مقدار من المساحة ولا ندري كم ذلك المقدار وقال بعضهم هو تعالى في أحسن الأقدار وأحسن الأقدار يكون ليس بالعظيم الجافي ولا بالقليل القميء وحكى عن هسام بن الحكم إن أحسن الأقدار أن يكون سبعة أشبار بشبر نفسه وقال بعضهم ليس لمساحة الباري تعالى نهاية
ولا غاية وأنه ذاهب في الجهات الست اليمين والشمال والأمام والخلف والفوق والتحت قالوا وما كان كذلك لا يقع عليه اسم جسيم ولا طويل ولا عريض ولا عميق وليس بذي حدود ولا هيئة ولا قطب وقال بعضهم إن معبودهم هو الفضاء وليس بجسم والأشياء قائمة به قال وقال داود الجواربي ومقاتل بن سليمان إن الله جسم وأنه جثة على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي أنه كان يقول أجوف من فيه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وكثير من الناس يقولون هو مصمت ويتأولون قول الله تعالى الصمد المصمت الذي ليس بأجوف
قال وقال هشام بن سالم الجواليقي إن الله تعالى على صورة الإنسان وأنكر أن يكون لحما ودما وأنه نور ساطع يتلألأ بياضا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان سمعه غير بصره وكذلك سائر حواسه له يد ورجل وأذن وعين وأنف وفم وأن له وفرة سوداء قال أبو الحسن وممن قال بالصورة من ينكر أن يكون الباري جسما وممن قال بالتجسيم من ينكر أن يكون الباري
وقد ذكر أبو محمد الحسن بن موسى النبخي في كتاب الآراء والديانات وهو ممن يذهب مذهب المعتزلة في توحيدهم وعدلهم فقال في
كتابه باب قول الموحدين والمسبهين زعمت المعتزلة بأجمعها والخوارج بأسرها وأكثر الزيدية وكثير من الشيعة والمرجئة سوى أصحاب الحديث من أهل الإرجاء أن الله ليس بجسم ولا صورة ولا جزء ولا عرض وليس يشبه شيئا من ذلك
وقال هشام بن الحكم وعلي بن منصور ومحمد بن الخليل والسكاك ويونس بن عبدالرحمن ومن قال بقولهم من الشيع إن الله تعالى جسم لا كالأجسام هذه جملة اجتمع هشام بن الحكم وأصحابه عليها فاجتمعت حكاية الحاكين لهذا القول عنه إلا ما أومأ إليه الراوندي في كتابه الذي احتج به لمذهب هشام في الجسم فزعم أنه تعالى وتقدس يشبه الخلق من جهة دون جهة والذي صح عندي من قول هشام بعد ذلك عمن وافقه من أصحابه بعد في الحكاية عنه أنه كان يزعم أن الله تعالى بعد حدوث الأماكن في مكان دون مكان وأنه يجوز أن يتحرك وسمعت قوما من أصحابه يحكون عنه أنه يزعم أنه نور وقال آخرون منهم إنه كان يزعم أنه متناهى الذات واختلف الحاكون من مخالفي هشام عن هشام فحكوا عنه دروبا من الأقاويل مختلفة لا تليق به وما رأيت أصحابه يدفعونها عنه فمن ذلك أن الجاحظ ذكر عن النظام أن هشاما قال في التشبيه في سنة واحدة خمسة أقاويل قطع في آخرها أن معبوده بشبر نفسه سبعة أشبار وحكى أبو عيسى الوراق في كتابه عن المشبهة عن كثير من مخالفي هشام أنه كان يزعم أن القديم على هيئة السبيكة وقال بعضهم إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية الاستدارة التي من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة وحكى بعضهم كما قلت إنه سبعة أشبار قال وحكى بعضهم أنه ذو صورة وحكوا غير ذلك أيضا مما رأيت أصحاب هشام يدفعونه عنه وينكرونه ويزعمون أنه لم يرد على
قوله جسم كالأجسام وإنما أراد بذلك إثباته أنه نور لقوله تعالى الله نور السموات والأرض وينفون عنه المساحة والذرع والشبر والتحديد قال وسمعت ذلك من غير واحد منهم ممن ينتحل القول بالجسم وناظرونا به وقد وجدت الأمر على ما حكاه الوراق من ذلك وقد أضاف قوم القول في الجسم إلى أبي جعفر الأحول المعروف بشيطان الطاق الذي يسميه أصحابه مؤمن الطاق واسمه محمد بن النعمان والي هشام بن سالم المعروف بالجواليقي والي أبي مالك الحضرمي قال وليس من هؤلاء أحد جرد القول بالجسم ولكنهم كانوا يقولون هو نور على صورة الإنسان وينكرون قول القائل بالجسم فقاس من حكى ذلك عنهم عليهم وحكى من طريق القياس إذ كان الحاكي كذلك يعتقد أن الصور لا تكون إلا للأجسام فغلط عليهم وهكذا غلط كثير من أهل الكلام وذكر أن هشام بن سالم وأبا جعفر الأحول أمسكا بعد قولهما بالصورة عن الكلام في الله تعالى رجعا إلى تأويل أنه من القرآن فرويا عمن يوجبان تصديقه أنه سئل عن قول الله تعالى وإن إلى ربك المنتهى قال فإذا بلغ الكلام إلى الله فأمسكا عن الكلام في ذلك والخوض فيه حتى ماتا وأقام على القول بالصورة من أقام عليه من أتباعهما قال النوبختي وأقول إن هذا الذي ذكره الوراق قد روي وقد رأيت نفرا من أصحاب هشام بن سالم يزعمون نه لم يزل يناظر على القول بالصورة إلى أن مات
قال أبو عيسى وأما علي بن إسماعيل بن ميثم فإن أصحابه ومخالفيه مختلفون في الإخبار عنه فبعضهم يزعم أنه كان يقول بالجسم والصورة وبعضهم
يزعم أنه كان لا يقول بالصورة وبعضهم يزعم أنه كان يقول بالصورة ولا يقول بالجسم قال ولا ثبت عندي في ابن ميثم أنه قال بالصورة ولا بالجسم
قال أبو عيسى في هذا الباب وقد حكى ذلك لي كثير من المتكلمين أن مقاتل بن سليمان ونعيم بن حماد المصري وداود الجواربي في خلق كثير من العامة وأصحاب الحديث قالوا إن لله تعالى صورة والأعضاء قال أبو عيسى وبلغني عن داود الجواربي أنه قال اعفوني عن الفرج والجثة واسألوني عما وراء ذلك أو قال عما شئتم وقد حكى كثير من المتكلمين عن داود ومقاتل أنهما قالا إن معبودهم جسم ولحم ودم وله جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين وهو مع ذلك لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره وحكى عن الجواربي حكاية أخرى أنه كان يقول إنه أجوف من فمه إلى صدره ومصمت ما سوى ذلك وذكر أن مقاتل بن سليمان يأبى هذا القول الأخير
وحكى إبراهيم النظام في كتابه عن المشبهة أن قوما لا أدري هم في الملة أو ليسوا في الملة زعموا أن معبودهم جسم فضاء وأن الأجسام كلها فيه وحكى أن آخرين قالوا هو فضاء وليس بجسم لأن الجسم يحتاج إلى مكان وهو نفسه المكان وحكى الجاحظ في كتابه عن المشبهة أن بعضهم قال هو جسم في مكانه إلا أنه فاضل عن الأماكن خلا أن له نهاية لازمة قال وزعم بعضهم أنه ذاهب في الجهات الست لا إلىنهاية وهو ليس بجسم وهذا أيضا قول ما علمت أن أحدا من أهل الصلاة قال به ولا كان شيئ منه وهذه أقاويل أهل الملة
قال النوبختي وللفلاسفة القدماء في الباري أقوال مظلمة غير بينة وكان عنايتهم بغير أمر الديانات وكان أكثر كلامهم في أمور الطبيعة والنفس
والفلك والكون والفساد والجواهر والأعراض وقد زعم آرسطاطا ليس على ما قرأناه في مقالة اللام التي فسرها ثامسطيوس أن الله تعالى جوهر أزلي بسيط غير مركب ليس بجسم ولا تجوز عليه الحركة والسكون والاجتماع والافتراق وسماه مرة عقلا وطبيعة تارة وقال في موضع آخر من هذه المقالة إنه حياة وقال في موضع آخر منها إنه يعقل ذاته ويعلم ذاته وسائر الأشياء التي هو علة لها وذكر فرفوريوس في رسالته التي زعم أنه يحكي فيها مذاهب أرسطاطا ليس في الباري والمبادئ إنه يصف الله تعالى لأنه خير وأنه حكيم وأنه قوي وزعم أفلاطون في كتابه كتاب النواميس أن أشياء لا ينبغي للإنسان أن يجهلها منها أن له صانعا وأن صانعه يعلم أفعاله فأثبت لله العلم بأفعاله
وزعم قوم من فلاسفة دهرنا أن أفلاطون إنما وضع هذا على سبيل التأديب للناس وبحسب السنة وما كان يذهب إليه لا على الاعتقاد قال وهذا ظن من هؤلاء القوم فأما قول أفلاطون فهو ما ذكره في كتابه وحكى يحيى النحوي في المقالة الأولى من كتابه في تفسير سمع الكنان أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب فيقال إنه لا شبه له ولا مثال إلا الشمس وحدها فإنه كما أن الشمس تفوق جميع الأشياء التي في العالم كذلك تفوق العلة الأولى جميع الموجودات وتفضلها فضلا يجوز كل قياس قال وكما أن الشمس تدبر جميع الأشياء على طريقة واحدة
وقال أبو الحسن الأشعري أيضا اختلفت الروافض أصحاب الإمامة في التجسيم وهم ست فالفرقة الأولى هشامية أصحاب هشام بن الحكم الرافضي يزعمون أن معبودهم جسم وله نهاية وحد وذكر مثل ما تقدم عن هشام وزاد أنهم لم يعينوا طولا غير الطويل وإنما قالوا طوله مثل عرضه على المجاز دون التحقيق وأنه قد كان لا في مكان ثم حدث المكان بأن تحرك فحدث المكان بحركته فكان فيه وزعم أن المكان هو العرش قال وذكر أبو الهذيل في بعض كتبه أن هشام بن الحكم قال له إن ربه جسم ذاهب جاء يتحرك تارة ويسكن أخرى ويقعد مرة ويقوم أخرى وأنه طويل عريض عميق لأن ما لم يكن كذلك دخل في حد التلاشي قال فقلت له فأيما أعظم إلهك أو هذا الجبل قال وأومأت إلى جبل أبي قبيس قال فقال هذا الجبل يومى عليه أي هو أعظم منه
قال وذكر أيضا ابن الراوندي أن هشام بن الحكم كان يقول إن بين إلهه وبين الأجسام المشاهدة تشابها من جهة من الجهات لولا ذلك ما دلت عليه وحكى عنه خلاف هذا أنه كان يقول إنه جسم وأبعاض لا يشبهها ولا تشبهه غير أن هشام بن الحكم في بعض كتبه كان يزعم أن الله تعالى إنما يعلم ما تحت الثرى بالشعاع المتصل منه الذاهب في عمق الأرض ولوا ملابسته لما وراء ما هنالك لما درى ما هناك وزعم أن بعضه يرى وهو شعاعه وأن الثرى محال على بعضه ولو زعم هشام أن الله يعلم ما تحت الثرى بغير اتصال ولا خبر ولا قياس كان قد ترك تعلقه بالمشاهدة وقال بالحق وذكر عن هشام أنه قال في ربه في عام واحد خمسة أقاويل زعم مرة أنه كالبلورة وزعم مرة
أنه كالسبيكة وزعم مرة أنه غير صورة وزعم مرة أنه بشبر نفسه سبعة أشبار ثم رجع عن ذلك وقال هو جسم لا كالأجسام
قال وزعم أبو عيسى الوراق أن بعض أصحاب هشام أجابه مرة إلى أن الله تعالى وتقدس على العرش مماس له وأنه لا يفضل عن العرش ولا يفضل العرش عنه
قال والفرقة الثانية من الرافضة الإمامية يزعمون أن ربهم ليس بصورة ولا كالأجسام وإنما يذهبون في قولهم إنه جسم إلى أنه موجود ولا يثبتون الباري تعالى ذا أجزاء مؤتلفة وأبعاض متلاصقة ويزعمون أن الله تعالى وتقدس على العرش مستو بلا مماسة ولا كيف
والفرقة الثالثة منهم يزعمون أن ربهم تعالى وتقدس على صورة الإنسان ويمنعون أن يكون جسما
والفرقة الرابعة منهم الهشامية أصحاب هشام بن صالح الجواليقي يزعمون أن ربهم على صورة الإنسان وينكرون أن يكون لحما ودما ويقولون هو نور ساطع يتلألا بياضا وأنه ذو حواس خمس كحواس الإنسان له يد ورجل وأنف وأذن وعين وفم وأنه يسمع بغير ما يبصر به وكذلك سائر حواسه متغايرة عندهم قال وحكى أبو عيسى الوراق أن هشام بن سالم كان يزعم أن لربه تعالى وتقدس وفرة سوداء وأن ذلك نور أسود
والفرقة الخامسة يزعمون أن رب العالمين ضياء خالص ونور بحت وهو كالمصباح الذي من حيث ما جئته يلقاك بأمر واحد وليس بذي صورة
ولا أعضاء ولا اختلاف في الأجزاء وأنكروا أن يكون على صورة الإنسان أو على صورة شيء من الحيوان
قال والفرقة السادسة من الرافضة يزعمون أن ربهم ليس بجسم ولا صورة ولا يشبه الأشياء ولا يتحرك ولا يسكن ولا يماس وقالوا في التوحيد بقول المعتزلة والخوارج وهؤلاء قوم من متأخريهم فأما أوائلهم فكانوا يقولون ما حكيناه عنهم من التشبيه
قال أبو الحسن واختلف الرافضة في حملة العرش هل يحملون العرش أم يحملون الباري تعالى وتقدس وهم فرقتان فرقة يقال لهم اليونسية أصحاب يونس بن عبدالرحمن القمي مولى آل يقطين ويزعمون أن الحملة يحملون الباري واحتج يونس في أن الحملة تطيق حمله وشبههم بالكركي وأن رجليه يحملانه وهما دقيقتان وقالت فرقة أخرى إن الحملة تحمل العرش والباري يستحيل أن يكون محمولا
قال أبو الحسن الأشعري واختلفت الروافض في إرادة الله تعالى وهم أربع فرق الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب هشام بن الحكم وهشام الجواليقي يزعمون أن إرادة الله تعال حركة وهي معنى لا هي الله ولا هي غيره وأنها صفة لله تعالى ليست غيره وذلك أنهم يزعمون أن الله إذا أراد الشيء تحرك فكان ما أراد والفرقة الثانية منهم أبو مالك الحضرمي وعلي بن ميثم ومن تابعهما يزعمون أن إرادة الله تعالى غيره وهي حركة الله تعالى كما قال
هشام إلا أن هؤلاء خالفوه فزعموا أن الإرادة حركة وأنها غير الله بها يتحرك والفرقة الثالثة منهم وهم القائلون بالاعتزال والإمامة يزعمون أن إرادة الله تعالى ليست بحركة فمنهم من أثبتها غير المراد فيقول إنها مخلوقة لله تعالى لا بإرادة ومنهم من يقول إرادة الله تعالى لتكوين الشيء وإرادته لأفعال العباد هي أمره إياهم بالفعل وهي غير فعلهم وهم يأبون أن يكون الله تعالى أراد المعاصي فكانت والفرقة الرابعة منهم يقولون لا نقول قبل الفعل إن الله تعالى أراده فإذا فعلت الطاعة قلنا أرادها وإذا فعلت المعصية فهو كاره لها غير محب لها
وذكر عنهم في القول بأن الله حي عالم قادر سميع بصير إله وغير ذلك مقالات يطول وصفها جمهورها يقتضي وصفه بالحركة والتحول كما في الإرادة
قال أبو الحسن الأشعري مقالات المرجئة في التوحيد فقال القائلون منهم في التوحيد بقول المعتزلة وقال قائلون منهم بالتشبيه وهم ثلاث فرق فقالت الفرقة الأولى منهم وهم أصحاب مقاتل بن سليمان إن الله تعالى جسم وأن له جمة وأنه على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ولسان ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه وقالت الفرقة الثانية أصحاب داود الجواربي مثل ذلك غير أنهم قالوا أجوف من فيه إلى صدره مصمت ما سوى ذلك وقالت الفرقة الثالثة هو جسم كالأجسام
فقد ذكر الأشعري أن القول بأن الله تعالى فوق العرش وثبوت الصفات الخبرية هو قول أهل السنة وأصحاب الحديث وذكر أن ذلك قول ابن كلاب وأصحابه وقوله وذكر التنازع في نفي هذه الصفات وإثباتها بين فرق الأمة فنفي الجسم وهذه الصفات هو قول المعتزلة والخوارج وطائفة من المرجئة ومتأخري الشيعة وإثبات الجسم وهذه الصفات قول جمهور الإمامية المتقدمين وطائفة من المرجئة وغيرهم
وهو مع هذا لم يذكر تفصيل أقوال أئمة الإسلام وسلف الأمة وعلماء الحديث وإنما ذكر قولا مجملا ولهم في هذا الباب من الأقوال المفصلة وعندهم في ذلك من النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ما هو معروف عند أهله
وقد ذكر الأشعري عشرة أصناف فقال واختلف المسلمون عشرة أصناف الشيع والخوارج والمرجئة والمعتزلة والجهمية والضرارية والحسينية وهم النجارية والبكرية والعامة وأصحاب الحديث والكلابية أصحاب عبدالله بن سعيد بن كلاب القطان
ومعلوم أن أئمة الأمة وسلفها ليسوا في شيء من هذه الطوائف إلا في أهل الحديث والعامة وهؤلاء مع جمهور الشيع والمرجئة والكلابية والأشعرية من أهل الأثبات بأن الله تعالى فوق العرش والصفات الخبرية وإن كان فيهم من يثبت الجسم ومنهم من لا ينفيه ولا يثبته وأما نفي ذلك مطلقا فإنما ذكره عن المعتزلة والخوارج وأما الضرارية والبكرية والنجارية فتوافقهم في بعض ذلك وتوافق أهل الأثبات في بعض ذلك وهذه المقالة التي نسبها هو الي المعتزلة هي المشهورة في كلام الأئمة علماء الحديث بمقاله الجهمية فإن الأيمة نسبوها غلى من
أحدث هذه المقالات وابتدعها ودعا الناس إليها والمعتزلة إنما أخذوها عنه كما ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله أنه أخذ ذلك عن الجهم قوم من أصحاب عمرو بن عبيد وأصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن أول المعتزلة هو واصل بن عطاء وإنما كان شعار المعتزلة أولا هو المنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد وبه اعتزلوا الجماعة ثم دخلوا بعد ذلك في إنكار القدر وأما إنكار الصفات فإنما ظهر بعد ذلك وكذلك حكاية ذلك عن الخوارج إنما يكون عن متأخرة الخوارج الموجودين بعد حدوث هذه المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك وأما قدماء الخوارج الذين كانوا على عهد الصحابة والتابعين فماتوا قبل حدوث هذه الأقوال المضافة إلى المعتزلة والجهمية وذلك أن مقالات هؤلاء ونحوهم إنما نقلها من كتب المقالات التي صنفها المعتزلة والشيعة كما قد ذكر هو ذلك لم يقف هو على شيء من كلام الخوارج والمعتزلة يستكثر بالخوارج لموافقتهم لهم في إنفاذ الوعيد ونفي الإيمان والخروج عن الأئمة والأمة لكن الأشعري كان بمقالات المعتزلة أعلم منه بغيرها لقراءته عليهم أولا وعلمه بمصنفاتهم وكثيرا ما يحكي قول الجبائي عنه مشافهة
وقد ذكر مقالة جهم في كتابه فقال ذكر قول الجهمية الذي تفرد بها جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله تعالى وحده وأنه هو الفاعل وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز كما يقال تحركت الشجرة ودار الفلك وزالت الشمس وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله تعالى إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا بذلك كما خلق له طولا كان به طويلا ولونا كان به
متلونا قال وكان الجهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقتل جهم بمرو قتله سلم بن أحوز المازني في آخر ملك بني أمية قال ويحكى عنه قال يقول لا أقول إن الله تعالى شيء لأن ذلك تشبيه له بالأشياء قال وكان يقول إن علم الله تعالى محدث فيما حكي عنه ويقول بخلق القرآن وإنه لا يقال إن الله لم يزل عالما بالأشياء قبل أن تكون وكذلك قال أبو الحسن الأشعري في كتاب الإبانة له بعد الخطبة أما بعد فإن كثيرا من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى التقليد لرؤسائهم ومن مضى من أسلافهم فتأولوا القرآن على رأيهم تأويلا لم ينزل الله به سلطانا ولا أوصح به برهانا ولا نقلوه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا عن سلف المتقدمين فخالفوا روايات الصحابة رضي الله عنهم أجمعين عن نبي الله صلى الله عليه و سلم في رؤية الله تعالى بالأبصار وقد جاءت بذلك روايات من الجهات المختلفات وتواترت بها الآثار وتتابعت بها الأخبار وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه و سلم للمذنبين وردوا الرواية في ذلك عن السلف المتقدمين وجحدوا عذاب القبر وأن الكفار في قبورهم يعذبون وقد أجمع على ذلك الصحابة والتابعون ودانوا بخلق القرآن نظيرا لقول إخوانهم من المشركين الذين قالوا إن هذا إلا قول البشر فزعموا أن القرآن كقول البشر وأثبتوا أن العباد يخلقون الشر نظيرا لقول المجوس الذين أثبتوا خالقين أحدهما يخلق الخير والآخر يخلق الشر
وزعمت القدرية أن الله يخلق الخير وأن الشيطان يخلق الشر وزعموا أن الله تعالى يشاء مالا يكون ويكون مالا يشاء خلافا لما أجمع عليه المسلمون من أن
ما شاء الله كان وما لم يشأكم لم يكن وردا لقول الله تعالى وما تشاؤون إلا أن يشاء الله فأخبر الله أنا لا نشاء شيئا إلا قد شاء الله أن نشاءه ولقوله ولو شاء الله ما اقتتلوا وقوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولقوله تعلى فعال لما يريد ولقوله سبحانه وتعالى خبرا عن شعيب أنه قال وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ولهذا سماهم رسول الله صلى الله عليه و سلم مجوس هذه الأمة لأنهم دانوا بديانة المجوس وضاهوا قولهم وزعموا أن للخير والشر خالقين كما زعمت المجوس ذلك وأنه يكون من الشر مالا يشاء الله كما قالت المجوس وزعموا أنهم يملكون الضر والنفع لأنفسهم ردا لقوله الله تعالى قل لا أملك لنفسي نفعاولا ضرا إلا ما شاء الله وإعراضا عن القرآن وعما أجمع المسلمون عليه وزعموا أنهم ينفردون بالقدرة على ما لم يصفو الله بالقدرة عليه كما أثبت المجوس للشيطان من القدرة على الشر ما لم يثبتوه لله عز و جل فكانوا مجوس هذه الأمة إذ دانوا بديانة المجوس وتمسكوا بأقاويلهم ومالوا إلى أضاليلهم وقنطوا الناس من رحمة الله وأيسوهم من روح الله وحكموا على العصاة بالنار والخلود فيها خلافا لقول الله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وزعموا أن من دخل الناء لا يخرج منها خلافا لما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله يخرج من النار قوما بعد ما امتحشوا فيها وصاروا حمما ودفعوا أن يكون لله وجه مع قوله ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأنكروا أن يكون له عينان مع قوله تجري بأعيننا وقوله تعالى ولتصنع على عيني ونفوا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم من قوله صلى الله عليه و سلم إن الله ينزل إلى سماء الدنيا قال وأنا ذاكر ذلك بابا بابا إن شاء الله تعالى
قال فإن قيل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون
قيل له قولنا الذي به نقول وديانتنا التي بها ندين التمسك بكتاب الله عز و جل وبسنة نبينا صل الله عليه وسلم وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان أحمد بن حنبل نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته قائلون ولما خالف قوله مخالفون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلالة وأوضح به المناهج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم وكبير مفهم وعلى جميع أئمة المسلمين
وجملة قولنا أنا نقر بالله تبارك وتعالى وملائكته وكتبه ورسله وما جاء من عند الله وما روى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لا نرد من ذلك شيئا وأن الله عز و جل واحد أحد فرد صمد لا غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمد عبده ورسوله والجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله مستو على عرشه كما قال الرحمن على العرش استوى وأن له وجها كما قال عز و جل ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام وأن له يدين كما قال عز و جل بل يداه مبسوطتان وقال سبحانه وتعالى خلقت بيدي وأن له عينين بلا كيف كما قال عز و جل تجري بأعيننا وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وأن لله تعالى علما كما قال تعالى
أنزله بعلمه وقال سبحانه وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه ونثبت لله قدرة وقوة كما قال تعالى أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة ونثبت لله تعالى السمع والبصر ولا ننفي ذلك عنه كما نفته المعتزلة والجهمية والخوارج ونقول إن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنه لم يخلق شيئا إلا وقد قال له كن كما قد قال سبحانه وتعالى إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون وأنه لا يكون في الأرض شيء من خير أو شر إلا ما شاء وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى وذكر الكلام في مسائل القدر وخلق الأفعال
إلى أن قال ونقول إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود وأن من قال بخلق القرآن كان كافرا وندين بأن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون كما جاءت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ونقول إن الكافرين إذا رآه المؤمنون عنه محجوبون كما قال الله عز و جل كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون وأن موسى سأل الله عز و جل الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكا فأعلم بذلك موسى أنه لا يراه في الدنيا ونرى ألا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب يرتكبه كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما دانت بذلك الخوارج وزعمت أنهم بذلك كافرون ونقول إن من عمل كبيرة وما أشبهها مستحلا لها غير معتقد لتحريمها كان كافرا ونقول إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله تعالى يقلب القلوب وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن وأنه يضع السموات على أصبع والأرضين على
أصبع كما جاءت الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وندين بأن لا ننزل أحدا من الموحدين المتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين ونقول إن الله عز و جل يخرج من النار قوما بعدما امتحشوا بشفاعة محمد صلى الله عليه و سلم ونؤمن بعذاب القبر وبأن الميزان حق والحوض حق والصراط حق والبعث بعد الموت حق وأن الله عزوجل يوقف العباد بالموقف ويحاسب المذنبين وأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وندين بحب السلف رضي الله عنهم الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم ونثني عليهم بما أثنى الله تعالى عليهم ونتولاهم ونقول إن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأن الله سبحانه وتعالى أعز به الإسلام والدين وأظهره على المرتين وقدمه المسلمون للإمامة كما قدمه رسول الله صلى الله عليه و سلم للصلاة ثم عمر بن الخطاب رضوان الله عليه ثم عثمان نضر الله وجهه قتلوه قاتلوه ظلما وعدوانا ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهؤلاء الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم ونكف عما شجر بينهم وندين لله تعالى أن الأئمة الأربعة راشدين مهديين فضلاء لا يوازيهم في الفضل غيرهم
ونصدق بجميع الروايات التي يثبتها أهل النقل من النزول إلى السماء الدنيا وأن الرب عز و جل يقول هل من سائل هل من مستغفر وسائر ما أثبتوه ونقلوه خلافا لما قاله أهل الزيغ والتضليل ونعول فيما اختلفنا فيه على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله تعالى بدعة لم يأذن الله تعالى بها ولا نقول على الله مالا نعلم ونقول إن الله عز و جل يجيء يوم القيامة كما قال تعالى وجاء ربك والملك صفا صفا وأن الله تعالى يقرب من عباده كيف شاء كما قال تعالى ونحن أقرب إليه من حبل الوريد وكما قال عز و جل ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ومن ديننا أن نصلي الجمعة والأعياد خلف كل بر وفاجر وسائر الصلوات والجماعات كما روي عن عبدالله بن عمر أنه كان يصلي خلف الحجاج ونرى المسح على الخفين سنة في الحضر والسفر خلافا لقول من أنكر ذلك ونرى الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح والإقرار بإمامتهم وتضليل من رأى الخروج عليهم إذا ظهر منهم ترك الاستقامة وندين بترك الخروج عليهم بالسيف وترك القتال في الفتنة ونقر بخروج الدجال كما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ونؤمن بعذاب القبر ومنكر ونكير ومسألتهما للمدفونين في قبورهم ونصدق بحديث المعراج ونصحح كثيرا من الرؤيا في المنام ونقر أن لذلك تفسيرا ونرى الصدقة عن موتى المسلمين والدعاء لهم ونؤمن بأن الله تعالى ينفعهم بذلك ونصدق بأن في الدنيا سحرة وسحرا وأن السحر كائن موجود في الدنيا وندين بالصلاة على من مات من أهل القبلة مؤمنهم وفاجرهم وتوارثهم ونقر أن الجنة والنار مخلوقتان وأن من مات أو قتل فبأجله مات أو قتل وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده حلالا وحراما وأن الشيطان يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه خلافا لقول المعتزلة والجهمية
كما قال الله تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس وكما قال من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس ونقول إن الصالحين يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات يظهرها عليهم وقولنا في أطفال المشركين إن الله يؤجج لهم نارا في الآخرة ثم يقول اقتحموها كما جاءت الرواية بذلك وندين بأن الله تعالى يعلم ما العباد عاملون وإلى ما هم صائرون وما كان وما يكون ومالا يكون أن لو كان كيف كان يكون وبطاعة الأئمة ونصيحة المسلمين ونرى مفارقة كل داعية إلى بدعة ومجانبة أهل الأهواء وقال وسنحتج لما ذكرنا من قولنا ومما بقي منه مما لم نذكره بابا بابا وشيئا شيئا ثم ذكر من دلائل ذلك وحججه ما قد يذكر بعضه إن شاء الله تعالى عند الكلام على ما ذكره الرازي من الأدلة
وقال أبو سعيد عثمان بن سعيد الدارمي في كتابه الذي سماه نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله في التوحيد قال فيه باب الحد والعرش وادعى المعارض ايضا أنه ليس له حد ولا غاية ولا نهاية قال وهذا الأصل الذي بنى عليه جهم جميع ضلالته واشتق منه أغلوطاته وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين فقال له قائل ممن حاوره قد علمت مرادك أيها الأعجمي تعني أن الله تعالى لا شيء لأن الخلق كلهم علموا أنه ليس شيء يقع عليه اسم الشيء إلا وله حد وغاية وصفة وأنه لا شيء ليس له حد ولا غاية ولا صفة فالشيء أبدا موصوف لا محالة ولا شيء يوصف بلا حد ولا غاية وقولك لا حد له تعني أنه لا شيء
قال أبو سعيد والله تعالى له حد لا يعلمه غيره ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده غاية في نفسه ولكن نؤمن بالحد ونكل علم ذلك إلى الله تعالى ولمكانه أيضا حد وهو على عرشه فوق سمواته فهذان حدان اثنان قال وسئل ابن المبارك بما نعرف ربنا قال بأنه على العرش بائن من خلقه قيل بحد قال بحد حدثناه الحسن بن الصباح البزار عن علي بن الحسين بن شقيق عن ابن المبارك فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن وادعى أنه لا شيء لأن الله تعالى وصف حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال الرحمن على العرش استوى أأمنتم من في السماء يخافون ربهم من فوقهم إني متوفيك ورافعك إلي إليه يصعد الكلم الطيب فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد ومن لم يعترف به فقد كفر بتنزيل الله تعالى وجحد آيات الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله فوق عرشه فوق سماوته وقال للأمة السوداء أين الله قالت في السماء قال أعتقها فإنها مؤمنة فقول رسول الله صلى الله عليه و سلم إنها مؤمنة إنها لو لم تؤمن بأن الله في السماء لم تكن مؤمنة وأنه لا يجوز في الرقبة المؤمنة إلا من يحد الله أنه في السماء كما قال الله ورسوله فحدثنا أحمد بن منيع البغدادي الأصم حدثنا أبو معاوية عن شبيب بن شيبة عن الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لأبيه يا حصين كم تعبد اليوم إلها قال سبعة ستة في الأرض وواحد في السماء قال فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك قال الذي في السماء فلم ينكر النبي صلى الله عليه و سلم على الكافر إذ عرف أن إله العالمين في السماء كما قاله النبي صلى الله عليه و سلم فحصين في كفره يومئذ كان أعلم بالله الجليل الأجل من المريسي وأصحابه مع ما ينتحلون من الإسلام إذ ميز بين الإله الخالق الذي في السماء وبين الآلهة والأصنام المخلوقة التي في الأرض وقد اتفقت الكلمة من المسلمين والكافرين أن الله في السماء وحدوده بذلك إلا المريسي
الضال وأصحابه حتى الصبيان الذين لم يبلغوا الحنث قد عرفوه بذلك إذا حزب الصبي شيء يرفع يديه إلى ربه يدعوه في السماء دون ما سواها فكل أحد بالله تعالى وبمكانه أعلم من الجهمية
قال ثم انتدب المعارض لتلك الصفات التي ألفها وعددها في كتابه من الوجه والسمع والبصر وغير ذلك يتأولها ويحكم على الله تعالى وعلى رسوله فيها حرفا بعد حرف وشيئا بعد شيء بحكم بشر بن غياث المريسي لا يعتمد فيها على إمام أقدم منه ولا أرشد منه عنده فاغتنمنا ذلك منه إذ صرح باسمه وسلم فيها لحكمه لما أن الكلمة قد اجتمعت من عامة الفقهاء في كفره وهتوك ستره وافتضاحه في مصره وسائر الامصار الذين سمعوا بذكره وذكر الكلام في الصفات
وقال الخلال في كتاب السنة أخبرنا أبوبكر المروذي قال سمعت أبا عبدالله قيل له روى عن علي بن الحسن بن شقيق عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله عز و جل قال علىالعرش بحد قال قد بلغني ذلك عنه وأعجبه ثم قال أبو عبدالله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام ثم قال وجاء ربك والملك صفا صفا قال الخلال أخبرنا الحسن بن صالح العطار حدثنا هارون بن يعقوب الهاشمي سمعت أبي يعقوب بن العباس قال كنا عند أبي عبدالله قال فسألناه عن قول ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا على العرش استوى بحد فقلنا له ما معنى قول ابن المبارك بحد قال لا أعرفه ولكن
لهذا شواهد من القرآن في خمسة مواضع إليه يصعد الكلم الطيب أأمنتم من في السماء تعرج الملائكة والروح إليه وهو على العرش وعلمه مع كل شيء قال الخلال وأخبرنا محمد بن علي الوراق حدثنا أبو بكر الأثرم حدثنا محمد بن إبراهيم القيسي قال قلت لأحمد بن حنبل يحكى عن ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال الخلال أخبرنا حرب بن إسماعيل قال قلت لاسحاق يعني ابن راهويه على العرش بحد قال نعم بحد وذكر عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلفه بحد
وقد ذكر أيضا حرب بن إسماعيل في آخر كتابه في المسائل كلها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والشام والحجاز وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبدالله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل إلى أن قال وخلق الله سبع سموات بعضها فوق بعض وقد تقدم حكاية
قوله إلى قوله لأن الله تبارك وتعالى على العرش فوق السماء السابعة العليا يعلم ذلك كله وهو بائن من خلقه لا يخلو من علمه مكان ولله عرش وللعرش حملة يحملونه وله حد الله تعالى أعلم بحده والله تعالى على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره ولكن هذا اللفظ يحتمل أن يعود فيه الحد إلى العرش بل ذلك أظهر فيه
قال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل رأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء سمعت أبا بكر بن أبي داود سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تعالى حد فقال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تبارك وتعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يقول محدقين
وروى الخلال أيضا في كتاب السنة أخبرني يوسف بن موسى أن أبا عبدالله قيل له ولا يشبه ربنا تبارك وتعالى شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه قال نعم ليس كمثله شيء قال أخبرني عبيدالله بن حنبل حدثني أبي حنبل بن إسحاق قال قال عمي نحن نؤمن بالله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف ويحده أحد فصفات الله له ومنه وهو كما وصف نفسه لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية وهو يدرك الأبصار وهو عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ولا يدركه وصف واصف وهو كما وصف نفسه ليس في الله شيء محدود ولا يبلغ علم قدرته أحد غلب الأشياء كلها بعلمه وقدرته وسلطانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وكان الله تعالى قبل أن يكون شيئا والله تعالى الأول وهو الآخر ولا يبلغ أحد حد صفاته والتسليم لأمر الله والرضا بقضائه نسأل الله التوفيق والسداد إنه على كل شيء قدير
فهو في هذا الكلام أخبر أنه بلا حد ولا وصف يبلغها واصف أو بحد أحد فنفى أن تحيط به صفة العباد أو حدهم وكذلك قال لا تدركه الأبصار بحد ولا غاية فبين أن الأبصار لا تدرك له حدا ولا غاية وقال أيضا ولا يدركه صفة واصف وهو كما وصف نفسه وليس من الله تعالى شيء محدود كما قال بعد هذا ولا يبلغ أحد حد صفاته فنفى في هذا الكلام كله أن يكون وصف العباد أو حد العباد يبلغه أو يدركه كما لا تدركه الأبصار
قال الخلال وأخبرني علي بن عيسى أن حنبل حدثهم قال سألت أبا عبدالله عن الأحاديث التي تروى أن الله تعالى ينزل إلى سماء الدنيا وأن الله تعالى يرى وأن الله تعالى يضع قدمه وما أشبه هذه الأحاديث فقال أبو عبدالله نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد منها شيئا ونعلم أن ما جاءت به الرسل حق ونعلم أن ما ثبت به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحيحة ولا نرد على قوله ولا نصف الله تبارك وتعالى بأعظم مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية وقال حنبل في مواضع أخر ليس كمثله شيء في ذاته كما وصف به نفسه قد أجمل تبارك وتعالى بالصفة لنفسه فحد لنفسه صفة ليس يشبهه شيء فيعبد الله تعالى بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف نفسه قال تعالى وهو السميع البصير وقال حنبل في مواضع أخر قال فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير ولا يبلغ الواصفون وصفاته منه وله ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه كما وصف نفسه تعالى ولا نتعدى ذلك ولا تبلغه صفة الواصفين نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت ووصف وصف به نفسه من كلام ونزول وخلوة بعبده يوم القيامة ووضع كنفه عليه هذا كله يدل على أن الله تعالى يرى في الآخرة والتحديد في هذا بدعة والتسليم لله بأمره بغير صفة
ولا حد إلا ما وصف به نفسه سميع بصير لم يزل متكلما حيا عالما غفورا عالم الغيب والشهادة علام الغيوب فهذه صفاته وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال ثم استوى على العرش كيف شاء المشيئة إليه عز و جل والاستطاعة له ليس كمثله شئ وهو خالق كل شئ وهو كما وصف نفسه سميع بصير بلا حد ولا تقدير قول إبراهيم لأبيه لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا فثبت أن الله سميع بصير صفاته منه لا نتعدى القرآن والحديث والخبر يضحك الله ولا يعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه و سلم وتثبيت القرآن لا يصفه الواصفون ولا يحده أحد تعالى الله عما يقول الجهمية والمشبهة
وقال أبو عبد الله قال لي إسحاق بن إبراهيم لما قرأ الكتاب بالمحنة تقول ليس كمثله شئ فقلت له ليس كمثله شئ وهو السميع البصير قال ما أردت بها قلت القرآن وصفه من صفات الله وصف بها نفسه لا ننكر ذلك ولا نرده قلت له المشبهة ما يقولون قال من قال بصر كبصري ويد كيدي وقال حنبل في موضع آخر وقد تقدم فقد شبه الله تعالى بخلقه وهذا يحده وهذا كلام سوء وهذا محدود الكلام في هذا لا أحبه قال أبو عبد الله جردوا القرآن وقال النبى صلى الله عليه و سلم يضع قدمه نؤمن به ولا نحده ولا نرده على رسول الله بل نؤمن به قال الله تعالى وما آتكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا فقد أمرنا الله عز و جل بالأخذ بما جاء به والنهي عما نهى وأسماؤه وصفاته منه غير مخلوقة ونعوذ بالله من الزلل والارتياب والشك إنه على كل شئ قدير وقال الخلال وزادني أبو القاسم عن حنبل
في هذا الكلام وقال تبارك وتعالى لا إله إلا هو الحي القيوم لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر هذه صفات الله عز و جل وأسماؤه تبارك وتعالى
فهذا الكلام من الإمام أبى عبد الله أحمد رحمه الله يبين أنه نفى أن العباد يحدون الله تعالى أو صفاته بحد أو يقدرون ذلك بقدر أو أن يبلغوا إلى أن يصفوا ذلك وذلك لا ينافي ما تقدم من إثبات أنه في نفسه له حد يعلمه هو لا يعلمه غيره أو أنه هو يصف نفسه وهكذا كلام سائر أئمة السلف يثبتون الحقائق وينفون علم العباد بكنهها كما ذكر من كلامهم في غير هذا الموضع ما يبين ذلك
وأصحاب الإمام أحمد منهم من ظن أن هذين الكلامين يتناقضان فحكى عنه في إثبات الحد لله تعالى روايتين وهذه طريقة الروايتين والوجهين ومنهم من نفى الحد عن ذاته تعالى ونفى علم العباد به كما ظنه موجب ما نقله حنبل وتأول ما نقله المروذي والأثرم وأبو داود وغيرهم من إثبات الحد له على أن المراد إثبات حد للعرش ومنهم من قرر الأمر كما يدل عليه الكلامان أو تأول نفى الحد بمعنى آخر والنفي هو طريقة القاضي أبى يعلى أولا في المعتمد وغيره فإنه كان ينفي الحد والجهة وهو قوله الأول قال
فصل
وقد وصف الله تعالى نفسه بالاستواء على العرش والواجب إطلاق هذه الصفة من غير تفسير ولا تأويل وأنه استواء الذات على العرش لا على معنى العلو والرفعة ولا على معنى الاستيلاء والعلم وقد قال أحمد في رواية حنبل نحن
نؤمن أن الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد قال فقد أطلق القول في ذلك من غير كيفية الاستواء وقد علق القول في موضع آخر فقال في رواية المروذي يروى عن ابن المبارك أنه قيل له كيف نعرف الله تعالى قال على العرش بحد قال قد بلغني ذلك وأعجبه قال القاضي وهذا محمول على أن الحد راجع إلى العرش لا إلى الذات ولا إلى الاستواء وقصد أن يبين أن العرش مع عظمته محدود
قلت وهذا الذي قاله القاضي في الاستواء هنا هو الذي يقوله أئمة الأشعرية المتقدمين وهو قريب من قول أبي محمد ابن كلاب وأبي العباس القلانسي وغيرهم من أهل الحديث والفقه ولهذا قال خلافا لمن قال من المعتزلة معناه الاستيلاء والغلبة وخلافا لمن قال من الأشعرية معناه العلو من طريق الرتبة والمنزلة والعظمة والقدرة وهذا قول بعض الأشعرية لا أئمتهم المتقدمون قال وخلافا للكرامية والمجسمة معناه المماسة للعرش بالجلوس عليه ثم أنه قال في الحجة والذي بين صحة ما ذكرنا أنه مقالة السلف من أهل اللغة وغيرهم فذكر ابن قتيبة في كتاب مختلف الحديث الرحمن على العرش استوى استقر كما قال الله تعالى فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك أي استقررت وذكر ابن بطة عن ابن الإعرابي قال أرادني ابن أبي داود أن أطلب في بعض لغات العرب ومعانيها الرحمن على العرش استولى فقلت والله ما يكون هذا
ولا أصبته وقال يزيد بن هارون من زعم أن الرحمن على العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي وعن عبد الوهاب قال الرحمن على العرش استوى قال قعد وعن ابن المبارك قال الله على العرش بحد
والقاضي في هذا الكتاب ينفي الجهة عن الله كما قد صرح بذلك في غير موضع كما ينفي أيضا هو وأتباعه كأبي الحسن ابن الزاغونى وغيره التحيز والجسم والتركيب والتأليف والتبعيض ونحو ذلك ثم رجع عن نفي الجهة والحد وقال بإثبات ذلك كما ذكر قوليه جميعا فقال في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات لما تكلم على حديث الأوعال فإذا ثبت أنه تعالى على العرش فالعرش في جهة وهو على عرشه وقد منعنا في كتابنا هذا في غير موضع إطلاق الجهة عليه والصواب جواز القول بذلك لأن أحمد قد اثبت هذه الصفة التي هي الاستواء على العرش وأثبت أنه في السماء وكل من أثبت هذا اثبت الجهة وهم أصحاب ابن كرام وابن مندة الأصبهاني المحدث والدلالة عليه أن العرش في جهة بلا خلاف وقد ثبت بنص القرآن أنه مستو على العرش فاقتضى أنه في جهة ولأن كل عاقل من مسلم وكافر إذا دعا الله تعالى فإما يرفع يديه ووجهه إلى نحو السماء وفي هذا كفاية ولأن من نفى الجهة من المعتزلة والأشعرية يقولون ليس هو في جهة ولا خارجا منها وقائل هذا بمثابة من قال بإثبات موجود مع وجود
غيره ولا يكون وجود أحدهما قبل وجود الآخر ولا معه ولا بعده ولأن العوام لا يفرقون بين قول القائل طلبته فلم أجده في موضع ما وبين قوله طلبته فإذا هو معدوم قال وقد احتج ابن منده على إثبات الجهة بأنه لما نطق القرآن بأن الله تعالى على العرش وأنه في السماء وجاءت السنة بمثل ذلك وبأن الجنة مسكنه وأنه في ذلك وهذه الأشياء أمكنة في أنفسها فدل على أنه في مكان
قلت وهذا الكلام من القاضي وابن منده ونحوهما يقتضي أن الجهة أمر وجودي ولهذا حكوا عن النفاة أنه ليس في جهة ولا خارجا منها وأنها غيره وفي كلامه الذي سيأتي ما يقتضي أن الجهة والحد هي من الله تعالى وهو ما حاذى لذات العرش فهو الموصوف بأنه جهة وحد ثم ذكر أن ذلك من صفات الذات
ثم قال وإذا ثبت استواؤه وأنه في جهة وأن ذلك من صفات الذات فهل يجوز إطلاق الحد عليه قد أطلق أحمد القول بذلك في رواية المروذي وقد ذكر له قول ابن المبارك نعرف الله على العرش بحد فقال أحمد بلغني ذلك وأعجبه وقال الأثرم قلت لأحمد يحكى عن ابن المبارك نعرف ربنا في السماء السابعة على عرشه بحد فقال أحمد هكذا هو عندنا قال ورأيت بخط أبي إسحاق حدثنا أبو بكر أحمد بن نصر الرفاء قال سمعت أبا بكر بن أبي داود قال سمعت أبي يقول جاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال لله تبارك وتعالى حد قال نعم لا يعلمه إلا هو قال الله تعالى وترى الملائكة حافين من حول العرش يقول محدقين قال فقد أطلق أحمد القول بإثبات الحد لله تعالى وقد نفاه في رواية حنبل فقال نحن نؤمن بان الله تعالى على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حد ولا صفة يبلغها واصف أو يحده أحد فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الحد الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما على معنى انه
تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات الستة بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها من غيره ويتميز ولهذا يسمى البواب حدادا لأنه يمنع غيره من الدخول فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته
قال وقد منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرنا
ثم قال ويجب أن يحمل اختلاف كلام أحمد في إثبات الحد على اختلاف حالتين فالموضع الذي قال إنه على العرش بحد معناه أنما حاذى العرش من ذاته هو حد له وجهة له والموضع الذي قال هو على العرش بغير حد معناه ما عدى الجهة المحاذية للعرش وهي الفوق والخلف والأمام واليمنة واليسرة وكان الفرق بين جهة التحت المحاذية للعرش وبين غيرها ما ذكرنا أن جهة التحت تحاذي العرش بما قد ثبت من الدليل والعرش محدود فجاز أن يوصف ما حاذاه من الذات أنه حد وجهة وليس كذلك فيما عداه لأنه لا يحاذي ما هو محدود بل هو مار في اليمنة واليسرة والفوق والأمام والخلف إلى غير غاية فلذلك لم يوصف واحد من ذلك بالحد والجهة وجهة العرش تحاذي ما قابله من جهة الذات ولم تحاذ جميع الذات لأنه لا نهاية لها
قلت هذا الذي جمع به بين كلامي أحمد وأثبت الحد والجهة من ناحية العرش والتحت دون الجهات الخمس يخالف ما فسر به كلام أحمد أولا من التفسير المطابق لصريح الفاظه حيث قال فقد نفى الحد عنه على الصفة المذكورة وهو الذي يعلمه خلقه والموضع الذي أطلقه محمول على معنيين أحدهما يقال على
جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو والثاني أنه على صفة يبين بها عن غيره ويتميز فهو تعالى فرد واحد ممتنع عن الاشتراك له في أخص صفاته قال منعنا من إطلاق القول بالحد في غير موضع من كتابنا ويجب أن يجوز على الوجه الذي ذكرناه فهذا القول الوسط من أقوال القاضي الثلاثة هو المطابق لكلام أحمد وغيره من الأئمة وقد قال إنه تعالى في جهة مخصوصة وليس هو ذاهبا في الجهات بل هو خارج العالم متميز عن خلقه منفصل عنهم غير داخل في كل الجهات وهذا معنى قول أحمد حد لا يعلمه إلا هو ولو كان مراد أحمد رحمه الله الحد من جهة العرش فقط لكان ذلك معلوما لعباده فانهم قد عرفوا أن حده من هذه الجهة هو العرش فعلم أن الحد الذي لا يعلمونه مطلق لا يختص بجهة العرش
وروى شيخ الإسلام في ذم الكلام ما ذكره حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائلة قال قلت لإسحاق بن إبراهيم وهو الإمام المشهور المعروف بابن راهويه ما تقول في قوله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة الآية قال حيث ما كنت هو أقرب إليك من حبل الوريد وهو بائن من خلقه قلت لإسحاق على العرش بحد قال نعم بحد وذكره عن ابن المبارك قال هو على عرشه بائن من خلقه بحد وقال حرب أيضا قال إسحاق بن إبراهيم لا يجوز الخوض في أمر الله تعالى كما يجوز الخوض في فعل المخلوقين لقول الله تعالى لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولا يجوز لأحد أن يتوهم على الله بصفاته
وأفعاله يعني كما نتوهم فيهم وإنما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين وذكر أنه يمكن أن يكون الله عز و جل موصوفا بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثاها إلى سماء الدنيا كما يشاء ولا يسأل كيف نزوله لأن الخالق يصنع ما شاء كما شاء
وروى شيخ الإسلام عن محمد بن إسحاق الثقفي سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال دخلت يوما على طاهر بن عبد الله وأظنه عبد الله بن طاهر وعنده منصور بن طلحة فقال لي منصور يا أبا يعقوب تقول إن الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة قلت ونؤمن به إذا أنت لا تؤمن إن لك ربا في السماء فلا تسألني عن هذا فقال ابن طاهر ألم أنهك عن هذا الشيخ وروى عن محمد بن حاتم سمعت إسحاق بن راهويه يقول قال لي عبد الله بن طاهر يا أبا يعقوب هذه الأحاديث التي تروونها وقال في النزول ما هي قال قلت أيها الأمير هذه الأحاديث جاءت مجئ الأحكام الحلال والحرام ونقلها العلماء ولا يجوز أن ترد هي كما جاءت بلا كيف فقال عبد الله بن طاهر صدقت ما كنت اعرف وجوهها حتى الآن وفي رواية قال رواها من روى الطهارة والغسل والصلاة والأحكام وذكر أشياء فإن يكونوا مع هذه عدولا وإلا فقد ارتفعت الأحكام وبطل الشرع فقال شفاك الله كما شفيتني أو كما قال
وروى أيضا شيخ الإسلام ما ذكره أبو محمد عبد الرحمن ابن أبي حاتم في الرد على الجهمية حدثنا علي بن الحسن السلمي سمعت أبي يقول حبس هشام بن عبيد الله وهو الرازي صاحب محمد بن الحسن الشيباني رجلا في التجهم فتاب فجئ به إلى هشام ليمتحنه فقال الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله تعالى على عرشه بائن من خلقه فقال أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب
قال شيخ الإسلام شرحت مسألة حد البينونة في كتاب الفاروق باب أغنى عن تكريره هاهنا
قال شيخ الإسلام وسألت يحيى بن عمار عن أبي حاتم ابن حبان البستي قلت رأيته قال كيف لم أره ونحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ولم يكن كبير دين قدم علينا فأنكر الحد لله فأخرجناه من سجستان
قلت وقد أنكره طائفة من أهل الفقه والحديث ممن يسلك في الإثبات مسلك ابن كلاب والقلانسي وأبي الحسن ونحوهم في هذه المعاني ولا يكاد
يتجاوز ما أثبته أمثال هؤلاء مع ماله من معرفة بالفقه والحديث كأبي حاتم هذا وأبي سليمان الخطابي وغيرهما ولهذا يوجد للخطابي وأمثاله من الكلام ما يظن أنه متناقض حيث يتأول تارة ويتركه أخرى وليس بمتناقض فإن أصله إن الصفات التي في القرآن والأخبار الموافقة له أو ما في الاخبار المتواترة دون ما في الأخبار المحضة أو دون ما في غير المتواترة وهذه طريقة ابن عقيل ونحوه وهي إحدى طريقي أئمة الأشعرية كالقاضي أبي بكر ابن الباقلاني وهم مع هذا يثبتونها صفات معنوية
قال الخطابي في الرسالة الناصحة له ومما يجب أن يعلم في هذا الباب ويحكم القول فيه أنه لا يجوز أن يعتمد في الصفات إلا الأحاديث المشهورة إذ قد ثبت صحة أسانيدها وعدالة ناقليها فإن قوما من أهل الحديث قد تعلقوا منها بألفاظ لا تصح من طريق السند وإنما هي من رواية المفاريد والشواذ فجعلوها أصلا في الصفات وأدخلوها في جملتها كحديث الشفاعة وما روي فيه من قوله صلى الله عليه و سلم فأعود إلى ربي فأجده بمكانه أو في مكانه فزعموا على هذا المعنى أن الله تعالى مكانا تعالى الله عن ذلك وإنما هذه لفظة تغرد بها من هذه القصة شريك بن عبد الله ابن أبي نمر وخالفه أصحابه فيها ولم يتابعوه عليها وسبيل مثل هذه الزيادة أن ترد ولا تقبل لاستحالتها ولأن مخالفة أصحاب الراوي له روايته كاختلاف البينة وإذا تعارضت البينتان سقطتا معا وقد تحتمل هذه اللفظة لو كانت صحيحة أن يكون معناها أن يجد ربه عز و جل بمكانه الأول من الإجابة في الشفاعة والإسعاف بالمسألة إذ كان مرويا في الخبر أنه يعود مرارا فيسأل ربه تعالى في المذنبين من أمته كل ذلك يشفعه فيهم ويشفعه في مسألتهم
قال ومن هذا الباب أن قوما منهم زعموا أن لله حدا وكان أعلا ما احتجوا به في ذلك حكاية عن ابن المبارك قال علي بن الحسن بن شقيق قلت لابن المبارك نعرف ربنا بحد أو نثبته بحد فقال نعم بحد فجعلوه أصلا في هذا الباب وزادوا الحد في صفاته تعالى الله عن ذلك سبيل هؤلاء القوم عفانا الله وإياهم أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب أو من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم دون قول أحد من الناس كائنا من كان علت درجته أو نزلت تقدم زمانه أو تأخر لأنها لا تدرك من طريق القياس والاجتهاد فيكون فيها لقائل مقال ولناظر مجال على أن هذه الحكاية قد رويت لنا أنه قيل له أنعرف ربنا بجد قال نعم بجد بالجيم لا بالحاء وزعم بعضهم أنه جائز أن يقال له تعالى حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي فيقال له إنما أحوجنا إلى أن نقول يد لا كالأيدي لأن اليد قد جاء ذكرها في القرآن وفي السنة فلزم قبولها ولم يجز ردها فأين ذكر الحد في الكتاب والسنة حتى نقول حد لا كالحدود كما نقول يد لا كالأيدي أرأيت إن قال جاهل رأس لا كالرؤوس قياسا على قولنا يد لا كالأيدي هل يكون الحجة عليه إلا نظير ما ذكرناه في الحد من أنه لما جاء ذكر اليد وجب القول به ولما يجئ ذكر الرأس لم يجز القول به
قلت أهل الإثبات المنازعون للخطابي وذويه يجيبون عن هذا بوجوه
أحدها أن هذا الكلام الذي ذكرناه إنما يتوجه لو قالوا إن له صفة هي الحد كما توهمه هذا الراد عليهم وهذا لم يقله أحد ولا يقوله عاقل فإن هذا الكلام لا حقيقة له إذ ليس في الصفات التي يوصف بها شئ من الموصوفات كما وصف باليد والعلم صفة معينة يقال لها الحد وإنما الحد ما يتميز به الشئ
عن غيره من صفته وقدره كما هو المعروف في لفظ الحد في الموجودات فيقال حد الإنسان وحد كذا وهي من الصفات المميزة له ويقال حد الدار والبستان وهي جهاته وجوانبه المميزة له ولفظ الحد في هذا أشهر في اللغة والعرف العام ونحو ذلك و لما كان الجهمية يقولون ما مضمونه إن الخالق لا يتميز عن الخلق فيجحدون صفاته التي تميز بها ويجحدون قدره حتى يقول المعتزلة إذا عرفوا أنه حي عالم قدير قد عرفنا حقيقته وماهيته ويقولون إنه لا يباين غيره بل إما أن يصفوه بصفة المعدوم فيقولوا لا داخل العالم ولا خارجه ولا كذا ولا كذا أو يجعلوه حالا في المخلوقات أو وجود المخلوقات فبين ابن المبارك أن الرب سبحانه وتعالى على عرشه مباين لخلقه منفصل عنه وذكر الحد لأن الجهمية كانوا يقولون ليس له حد وما لا حد له لا يباين المخلوقات ولا يكون فوق العالم لأن ذلك مستلزم للحد فلما سألوا أمير المؤمنين في كل شئ عبد الله بن المبارك بماذا نعرفه قال بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه فذكروا لازم ذلك الذي تنفيه الجهمية وبنفيهم له ينفون ملزومه الذي هو موجود فوق العرش ومباينته للمخلوقات فقالوا له بحد قال بحد وهذا يفهمه كل من عرف ما بين قول المؤمنين أهل السنة والجماعة وبين الجهمية الملاحدة من الفرق
الوجه الثاني قوله سبيل هؤلاء أن يعلموا أن صفات الله تعالى لا تؤخذ إلا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه و سلم دون قول أحد من الناس فيقولون له لو وفيت أنت ومن اتبعه بإتباع هذه السبيل لم تحوجنا نحن وأئمتنا إلى نفي بدعتكم بل تركتم موجب الكتاب والسنة في النفي والإثبات
أما في النفي فنفيتم عن الله تعالى أشياء لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا إمام من أئمة المسلمين بل والعقل لا يقضي بذلك عند التحقيق وقلتم إن العقل نفاها فخالفتم الشريعة بالبدعة والمناقضة المعنوية وخالفتم العقول الصريحة وقلتم ليس هو بجسيم ولا جوهر ولا متحير ولا في جهة ولا يشار إليه بحس ولا يتميز منه شئ عن شئ وعبرتم عن ذلك بأنه تعالى ليس بمنقسم ولا مركب وأنه لا حد له ولا غاية تريدون بذلك انه يمتنع عليه أن يكون له حد وقدر أو يكون له قدر لا يتناها و أمثال ذلك ومعلوم أن الوصف بالنفي كالوصف بالإثبات فكيف ساغ لكم هذا النفي بلا كتاب ولا سنة مع اتفاق السلف على ذم من ابتدع ذلك وتسميتهم إياهم جهمية وذمهم لأهل هذا الكلام
وأما في الإثبات فإن الله تعالى وصف نفسه بصفات ووصفه رسوله بصفات فكنتم أنتم الذين تزعمون أنكم من أهل السنة والحديث دع الجهمية والمعتزلة تارة تنفونها وتحرفون نصوصها أو تجعلونها لا تعلم إلا أماني وهذا مما عاب الله تعالى به أهل الكتاب قبلنا وتارة تقرونها إقرارا تنفون معه ما أثبته المنصوص من أن يكون النصوص نفته وتاركين من المعاني التي دلت عليه مالا ريب في دلالتها عليه مع ما في جمعهم بين الأمور المتناقضة من مخالفة صريح المعقول فأنت وأئمتك في هذا الذي تقولون إنكم تثبتونه إما أن تثبتوا ما تنفونه فتجمعوا بين النفي والإثبات وإما أن تثبتوا ما لا حقيقة له في الخارج ولا في النفس وهذا الكلام تقوله النفاة المثبتة لهؤلاء كمثل الأشعري والخطابي والقاضي أبي يعلى وغيرهم من الطوائف
ويقول هؤلاء المثبتة كيف سوغتم لأنفسكم هذه الزيادات في النفي وهذا التقصير في الإثبات على ما أوجبه الكتاب والسنة وأنكرتم على أئمة الدين ردهم لبدعة ابتدعها الجهمية مضمونها إنكار وجوب الرب تعالى وثبوت حقيقته وعبروا عن ذلك بعبارة فأثبتوا تلك العبارة ليبينوا ثبوت المعنى الذي نفاه أولئك وأين في الكتاب والسنة أنه يحرم رد الباطل بعبارة مطابقة له فإن هذا اللفظ لم نثبت به صفة زائدة على ما في الكتاب والسنة بل بينا به ما عطله المبطلون من وجود الرب تعالى ومباينته لخلقه وثبوت حقيقته
ويقولون لهم قد دل الكتاب والسنة على معنى ذلك كما تقدم احتجاج الإمام أحمد لذلك بما في القرآن مما يدل على أن الله تعالى له حد يتميز به عن المخلوقات وأن بينه وبين الخلق انفصالا ومباينة بحيث يصح معه أن يعرج الأمر إليه ويصعد إليه ويصح أن يجئ هو ويأتي كما سنقرر هذا في موضعه فإن القرآن يدل على المعنى تارة بالمطابقة وتارة بالتضمن وتارة بالالتزام وهذا المعنى يدل عليه القرآن تضمنا أو التزاما
ولم يقل أحد من أئمة السنة إن السني هو الذي لا يتكلم إلا بالألفاظ الواردة التي لا يفهم معناها بل من فهم معانى النصوص فهو أحق بالسنة ممن لم يفهمها ومن دفع ما يقوله المبطلون مما يعارض تلك المعاني وبين أن معاني النصوص تستلزم نفي تلك الأمور المعارضة لها فهو أحق بالسنة من غيره وهذه نكت لها بسط له موضع آخر
وممن نفى لفظ الحد أيضا من أكابر أهل الإثبات أبو نصر السجزى قال في رسالته المشهورة إلى أهل زبيد وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته وأن الأمكنة غير خالية من علمه وهو بذاته تعالى فوق العرش بلا كيف بحيث لا مكان
وقال أيضا فاعتقد أهل الخق أن الله سبحانه وتعالى فوق العرش بذاته من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على القول بالمماسة ضلال
وقال وليس من قولنا إن الله فوق العرش تحديد له وإنما التحديد يقع للمحدثات فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود والله سبحانه وتعالى فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد لاتفاقنا أن الله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان وهو كما كان قبل خلق المكان قال وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه وتعالى على مكان وقد علم أن الأمكنة محدودة فإن كان فيها بزعمهم كان محدودا وعندنا أنه مباين للأمكنة ومن حلها وفوق كل محدث فلا تحديد لذاته في قولنا هذا لفظه
وأما قول الرازي وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى أصغر من ذلك
الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الاله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة
فالكلام على هذا من وجوه
أحدها انه من العجب أن يذكر عن أبي معشر ما يذم به عبادة الأوثان وهو الذي اتخذ أبا معشر أحد الأئمة الذين اقتدى بهم في الأمر بعبادة الأوثان لما ارتد عن دين الإسلام وأمر بالإشراك بالله تعالى وعبادة الشمس والقمر والكواكب والأوثان في كتابه الذي سماه السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وقد قيل إنه صنفه لأم الملك علاء الدين ابن محمد أبي بكر ابن جلال الدين هو أنها أعطته عليه ألف دينار وكان مقصودها ما فيه من السحر والعجائب والتوصل بذلك إلى الرئاسة وغيرها من المآرب وقد ذكر فيه عن أبي معشر أنه عبد القمر وأن في عبادته ومناجاته من الأسرار والفوائد ما ذكر فمن تكون هذه حاله في الشرك وعبادة الأوثان كيف يصلح أن يذم أهل التوحيد الذين يعبدون الله تعالى لا يشركون به شيئا ولم يعبدوا لا شمسا ولا قمرا ولا كوكبا ولا وثنا بل يرون الجهاد لهؤلاء المشركين الذين ارتد إليهم أبو معشر والرازي وغيرهما مدة وإن كانوا قد رجعوا عن هذه الردة إلى الإسلام فإن سرائرهم عند الله لكن لا نزاع بين المسلمين إن الأمر بالشرك كفر وردة إذا كان منا مسلم وأن مدحه والثناء عليه والترغيب فيه كفر وردة إذا كان من مسلم فأهل التوحيد وإخلاص الدين لله تعالى وحده الذين يرون جهاد هؤلاء المشركين ومن ارتد إليهم من أعظم
الواجبات و أكبر القربات كيف يصلح أن يعيبهم بعض المرتدين إلى المشركين بأنهم يوافقون المشركين على أصل الشرك وهؤلاء لا يؤمنون بالله وبما أنزل إلى انبيائه وما أشبه حال هؤلاء بقوله تعالى قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلى قوله عن سواء السبيل فإن هؤلاء النفاة الجهمية منهم من عبد الطاغوت وأمر بعبادته ثم هؤلاء يعيبون من آمن بالله ورسوله
يوضح ذلك أن هذا الرازي اعتمد في الإشراك وعبادة الأوثان على مثل تنكلوا شاه البابلي ومثل طمطم الهندي ومثل ابن وحشية أحد مردة المتكلمين بالعربية ومعلوم أن الكلدانيين والكشدانيين من أهل بابل وغيرهم أتباع نمرود بن كنعان البابلي وغيره وأهل الهند هم أعظم الأمم شركا وهم اعداء إبراهيم الخليل إمام الحنفاء فكيف يكون أتباع هؤلاء المشركين أعداء إبراهيم الخليل عليه السلام معيرين بأتباع المشركين لأهل الملة الحنفية الذين اتبعوا إبراهيم وآل إبراهيم في إثبات صفات الله وأسمائه وعبادته فإن هؤلاء الجهمية ينكرون حقيقة خلة الله تعالى وتكليمه كما أنكره سلفهم أعداء الخليل وأعداء الكليم
وأول من أظهر في الإسلام التجهم وهذا المذهب الذي نصره الرازي وأبو معشر ونحوها هو الجعد بن درهم أنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه
فهذا أول الجهمية نفاة الصفات في هذه الأمة هو مكذب حقيقة ما خص الله به إمام الحنفاء المخلصين الذين يعبدون الله لا يشركون به شيئا وكليم الله الذي اصطفاه برسالاته وبكلامه والله تعالى يفضل هذين الرسولين ويخصهما في مثل قوله تعالى إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى وقوله أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى وهما اللذان رآهما رسول الله صلى الله عليه و سلم ليلة المعراج فوق الأنبياء كلهم في السماء السادسة والسابعة فرأى أحدهما في السادسة ورأى الآخر في السابعة وقد جاءت الأحاديث التي في الصحيح بعلو هذا وعلو هذا
فإذا كان سلف الجهمية ومخاطبي الكواكب هم من أعظم المشركين المعادين لرسل الله تعالى الآمرين بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له كيف يصلح لهم أن يعيبوا أهل الأيمان بالله ورسوله الذين يقرون بتوحيد الله وعبادته وحده لا شريك له يقرون بتوحيد الله العلمي القولي كالتوحيد الذي ذكره في سورة قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين كيف يصلح لأولئك الذين أشركوا وأتموا بالمشركين في نقيض التوحيد من هذين الوجهين فأمروا بعبادة غير الله ودعائه ورغبوا في ذلك وعظموا قدره وجهلوا من ينكر ذلك وينهى عنه وأنكروا من أسماء الله تعالى وصفاته وحقيقة عبادته ما لا يتم الأيمان والتوحيد إلا به كيف يصلح لهؤلاء أن يعيبوا أولئك باتباع المشركين ويجعلوا موافقيهم على هذا الكفر أعظم قدرا من أولئك المؤمنين الدين ليس لهم نصيب من قوله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت الى قوله نصيرا فإن سبب نزول هذه الآية ما فعله كعب بن الأشرف رئيس اليهود من تقديمه لدين المشركين على دين
المؤمنين لما كان بينه وبين المؤمنين من العداوة فمن آمن بالجبت وهو السحر والطاغوت وهو ما عظم بالباطل من دون الله تعالى مثل رؤساء المشركين وله من علوم المسلمين ما له ففيه شبه من الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الذين يؤمنون بالجبت والطاغوت وإذا كان هؤلاء يتعصبون لأولئك المشركين وينصرونهم ويذمون المؤمنين ويعيبونهم ألم يكن لهم نصيب من قوله تعالى ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا فيكون لهم نصيب من قوله تعالى أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا وتمام الكلام في قوله تعالى ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا وهذه الآية مطابقة لحال هؤلاء كما بيناه في غير موضع
الوجه الثاني أن الاستدلال في توحيد الله تعالى الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه بمثل كلام أبي معشر المنجم ونقله عن الأمم المتقدمة يليق بمثل الرازي وذويه أترى أبا معشر لو كان من علماء أهل الكتاب المسلمين كمن أسلم من الصحابة والتابعين ونقل لنا شيئا عن الأنبياء المتقدمين أكان يجوز لنا في الشريعة تصديق ذلك الخبر إذ لم نعلم صدقه من جهة أخرى إذا كان الناقل لنا إنما أخبره عن أهل الكتاب وفي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه و سلم
أنه قال إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه وأما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه فكيف وأبو معشر الناقل لذلك وإنما خبرة الرجل بكلام الصائبة المشركين عباد الكواكب ونحوهم وهم من أقل الناس خبرة ومعرفة بالتوحيد الذي بعث الله به رسله وبحال أهله المؤمنين مع الكفار المشركين
الوجه الثالث إن هذه الحكاية تقتضي أن الناس كانوا قبل ابتداع الشرك على المذهب الذي سماه مذهب المشبهة وأنهم كانوا حينئذ يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا كما ذكره فيكون هذا الاعتقاد وهو مذهب القوم في الدهر الأقدم قبل عبادة الأوثان ثم إنه بسبب هذا الاعتقاد استحسنوا عبادة الأوثان ومعلوم أن الناس كانوا قبل الشرك على دين الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي دين الإسلام العام الذي لا يقبل الله من أحد غيره كما قال تعالى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وقال تعالى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على الإسلام وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه ذكر في حديث الشفاعة عن نوح قول أهل الموقف له وأنت أول نبي بعثه الله إلى أهل الأرض وقد قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فإذا كان الله قد بعث في كل أمة رسولا يدعوها إلى عبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الطاغوت ونوح أول من بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض علم أنه لم يكن قبل قوم نوح
مشركون كما قال ابن عباس وإذا كان كذلك وأولئك على الإسلام ومذهبهم هو المذهب الذي سماه مذهب المشبهة ثبت بموجب هذه الحكاية أن هذا هو مذهب الأنبياء والمرسلين والمسلمين من كل أمة
الوجه الرابع إن في هذه الحكاية إنهم اشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد انهم يعبدون الإله والملائكة وقد ذكر الله تعالى قول المشركين في كتابه الذين جعلوا معه إلها آخر فلم يذكر أنهم كانوا يعتقدون أنهم يعبدون الله إذا عبدوا الأوثان ولكن ذكر أنهم اتخذوا هذه الأوثان شفعاء وذكر أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ولكن في هؤلاء الجهمية الاتحادية من يقول إن عباد الأوثان ما عبدوا إلا الله تعالى وأن عابد الوثن هو العابد لله كما ذكرنا ذلك فيما تقدم عن صاحب الفصوص وذويه وهو من رؤساء هؤلاء الجهمية وأئمتهم
الوجه الخامس أن عبادة الأوثان إنما هي مشهورة ومعروفة عن نفاة الصفات من الفلاسفة الصابئين سلف أبي معشر والرازي وذويهم مثل النمرود بن كنعان وقومه أعداء الخليل عليه الصلاة و السلام وأتباعه وأولياء رهط أبي معشر ومثل فرعون عدو موسى كليم الرحمن عز و جل وأتباعه وأولياء الجهمية نفاة الصفات ومن يدخل فيهم من الاتحادية والقرامطة وكما صرح بعضهم بموالاته فرعون وتعظيمه كما فعل صاحب البلاغ الأكبر والناموس الأعظم
الذي صنفه للقرمطة وكما فعله صاحب الفصوص وذويه ومن لم يصرح بموالاة فرعون ولم يعتقد موالاته فإنه موافق له فيما كذب فيه موسى حيث قال يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا قال خلائق من العلماء وممن قال ذلك أبو الحسن الأشعري إمام طائفة الرازي قال فرعون كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات وهؤلاء النفاة يوافقون فرعون في هذا التكذيب لموسى
الوجه السابع إن القول الذي يسمونه مذهب المشبهة بل التشبيه الصريح لا يوجد إلا في أهل الكتب الالهية كاليهود والمسلمين كما ذكر الرازي ذلك عن مشبهة اليهود ومشبهة المسلمين ومن ليس له كتاب فلا يعرف عنه شئ من التشبيه الذي يعير أهله بأنه تشبيه أو الذي يقول منازعوهم إنه تشبيه ومن المعلوم أن أصل الشرك لم يكن من أهل الكتب وإنما كان من غيرهم فإن الله لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا إلا بالتوحيد كما قال تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون وقال تعالى وأسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتني إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب وقال تعالى أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله وقال
ياأيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعلمون عليم وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأتقون
ولم يحدث في أهل الكتب وأتباع الرسل من العرب وبني إسرائيل وغيرهم شرك إلا مأخوذ من غير أهل الكتاب كما ابتدع عمرو بن لحي بن قميثة سيد خزاعة الشرك في العرب الذين كانوا على ملة إبراهيم إمام الحنفاء ابتدعه لهم بأوثان نقلها من الشام من البلقاء التي كانت إذ ذاك دار الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه وكذلك بنو إسرائيل عبد منهم الأوثان كما ذكر الله ذلك في كتابه تعالى وتقدس وإنما حدث فيهم هذا من جيرانهم الصابئة المشركين سلف أبي معشر وذويه فإذا كان أصل المذهب الذي سموه مذهب التشبيه لا يعرف إلا عن من هو من أهل كتاب منزل من السماء وأهل الكتب لم يكونوا هم نواهم الذين ابتدعوا الشرك أولا علم أن الشرك لم يبتدعه أولا القوم الذين سماهم أهل التشبيه
الوجه الثامن أنه إذا كان الإشراك متضمنا لما سماه تشبيها فمن المعلوم أن المرسلين كلهم ليس فيهم من تكلم بنقيض هذا المذهب ولا نهى الناس عن هذا الذي سماه تشبيها فليس في القرآن عن محمد صلى الله عليه و سلم ولا عن المرسلين المتقدمين ولا في التوراة والأنجيل وغيرهما من الكتب ولا في الأحاديث المأثورة عن أحد من المرسلين أنهم نهوا المشركين أو غيرهم أن يقولوا إن الله تعالى فوق السموات أو فوق العرش أو فوق العالم أو أن يصفوه بالصفات الخبرية التي يسميها هؤلاء تشبيها بل ولا عنهم حرف واحد بأن الله ليس
بداخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز ولا نحو ذلك فإن كان الشرك متضمنا لما سموه تشبيها والرسل لم تنه عما سموه تشبها ولا ذموه ولا أنكروه ولا تكلموا بما هو عند هؤلاء توحيد وتنزيه ينافي هذا التشبيه عندهم أصلا ثبت أن المرسلين صلوات الله عليهم وسلامه كلهم كانوا مقررين لهذا الذي سموه تشبيها وذلك يقتضي أنه حق فهذا النقل الذي نقله أبو معشر واحتج به الرازي إن كان حقا فهو من أعظم الحجج على صحة مذهب خصومهم الذين سموهم مشبهة وإن لم يكن حقا فهو كذب فهم إما كاذبون مفترون وأما مخصومون مغلوبون كاذبون مفترون في نفس المذهب الذي انتصروا عليه
الوجه التاسع أن الشرك كان فاشيا في العرب ولم يعلم أحد منهم كان يعتقد أن الوثن على صورة الله وقبلهم كان في أمم كثيرة وله أسباب معروفة مثل جعل الأوثان صورا لمن يعظمونه من الأنبياء والصالحين وطلاسم لما يعبدونه من الملائكة والنجوم ونحو ذلك ولم يعرف عن أحد من هؤلاء المشركين أنه اعتقد أن هذا الوثن صورة الله والشرك في أيام الاسلام ما زال بأرض الهند والترك فاشيا والهند فلاسفة وهم من أعظم سلف أبي معشر ومع هذا فليس في الهند والترك من يقول هذا فعلم أن هذا أول مفترى
الوجه العاشر لو كان هذا من أسباب الشرك فمن المعلوم أن غيره من أسباب الشرك أعظم وأكثر وأن الشرك في غير هؤلاء الذي سماهم مشبهة أكثر فإن كان الشرك في بعض مثبتة هذه الصفات عيبا فالشرك في غيرهم أكثر وأكثر كان الطعن والعيب على نفاة الصفات بما يوجد فيهم من الشرك أعظم وأكبر
الوجه الحادي عشر قوله فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب الشبهة كلام مجمل فإن من الفرع ما يكون لازما لأصله فإذا كان الأصل مستلزما لوجود الفرع الفاسد كان فساد الفرع وعدمه دليلا على فساد الأصل وعدمه ومن الفروع ما يكون مستلزما للأصل لا يكون لازما له وهو الغالب فلا يلزم من فساده وعدمه فساد الأصل وعدمه ولكن يلزم من فساده وعدمه فساد هذا الفرع وعدمه
فالأول كما قال تعالى ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة كيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار فالكلمتان كلمة الأيمان واعتقاد التوحيد وكلمة الكفر واعتقاد الشرك فلا ريب أن الاعتقادات توجب الأعمال بحسبها فإذا كان الاعتقاد فاسدا أورث عملا فاسدا ففساد العمل وهو الفرع يدل على فساد أصله وهو الاعتقاد كذلك الأعمال المحرمة التي تورث مفاسد كشرب الخمر الذي يصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة ويوقع العداوة والبغضاء فهذه المفاسد الناشئة من هذا العمل هي فرع لازم للأصل ففسادها يدل على فساد الأصل وهكذا كل أصل فهو علة لفرعه وموجب له
وأما القسم الثاني فالأصل الذي شرطا لا يكون علة كالحياة المصححة للحركات والإدراكات وأصول الفقه التي هي العلم بأجناس أدلة الفقه وصفة الاستدلال ونحو ذلك فهذه الأصول لا تستلزم وجود الفروع وإذا كان الفرع فاسدا لم يوجب ذلك فساد أصله إذ قد يكون فساده من جهة أخرى غير جهة الأصل وذلك نظير تولد الحيوان بعضه من بعض فالوالدان
أصل للولد والله تعالى وتقدس يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فالكافر يلد المؤمن والمؤمن يلد الكافر
وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن اعتقاد ثبوت الصفات بل اعتقاد التشبيه المحض ليس موجبا لعبادة الأصنام ولا داعيا إليه وباعثا عليه أكثر ما في الباب أن يقال اعتقاد أن الله تعالى وتقدس مثل البشر يمكن معه أن يجعل الصنم على صورة الله بخلاف من لم يعتقد هذا الاعتقاد فإنه لا يجعل الصنم على صورة الله تعالى فيكون ذلك الاعتقاد شرطا في اتخاذ الصنم على هذا الوجه وهذا القدر إذا صح لم يوجب فساد ذلك الاعتقاد بالضرورة فإن كل باطل في العالم من الاعتقادات والإرادات وتوابعها هي مشروطة بأمور صحيحة واعتقادات صحيحة ولم يدل فساد هذه الفروع المشروطة على فساد تلك الأصول التي هي شرط لها فإن الإنسان لا يصدر منه عمل إلا بشرط كونه حيا قادرا شاعرا ولم يدل فساد ما يفعله من الاعتقادات والارادات على فساد هذه الصفات
والذين أشركوا بالله تعالى وتقدس وعبدوا معه إلها آخر كانوا يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هم شفعاؤنا عند الله ويعتقدون أن الله يملكهم كما كانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك وقد قال تعالى ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما تملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم وقد أخبر عنهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله وقال قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله قل أفلا تذكرون قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شئ
وهو يجير ولا يجار عليه أن كنتم تعلمون سيقولون لله قل فأنى تسحرون وقال تعالى وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون قال عكرمة يؤمنون أنه رب كل شئ وهم يشركون به
فإذا كانوا إنما أشركوا به لاعتقادهم أنه رب كل شئ وملكيه وأن هذه الشفعاء والشركاء ملكه وآمنوا بأنه رب كل شئ ثم اعتقدوا مع ذلك أن عبادة هذه الأوثان تنفعهم عنده فهل يكون ما ابتدعوه من الشرك الذي هو فرع مشروط بذلك الأصل قادحا في صحة ذلك الأيمان والإقرار الحق الذي قالوه
الوجه الثاني عشر إن الذين أشركوا بالله تعالى حقيقه من عباد الشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء والصالحين والذين اتخذوا أوثانا لهذه المعبودات إنما فعلوا ذلك لاعتقادهم وجود االشمس والقمر والكواكب والملائكة والأنبياء واعتقادهم ما تفعله من الخير تشبيها فهل يكون إشراكهم بها قادحا في وجودها وفي اعتقاد ما هي متصفة أم لا فإن كان كذلك فيلزم أبا معشر والرازي أن يقدحوا في العلوم الطبيعية والرياضية ويقدحوا في الملائكة والنبيين وإن لم يكن كذلك كان ما ذكره من الحجة باطلا
الوجه الثالث عشر قوله فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع على مذهب المشبهة
يقال له الثبوت إنما يكون بذكر حجة عقلية أو سمعية وهب ما ذكره أبو معشر إنما هو خبر عن أمم متقدمين لم يذكرهم ولم يذكر إسناده في معرفة ذلك وليس أبو معشر من يحتج بنقله في الدين بإجماع أئمة الدين فإنه
إن لم يكن كافرا منافقا كان فاجرا فاسقا وقد قال الله تعالى وتقدس يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا فلو قدر أن هذا النقل نقله بعض أئمة التابعين عن رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن هذا خبرا مرسلا لا يثبت به حكم في فرع من الفروع فكيف والناقل له مثل أبي معشر عن أمم متقدمة فهذا خبر في غاية الانقطاع ممن لا تقبل روايته فهل يحسن بذي عقل أو دين أن يثبت بهذا شيئا في أصول الدين
ومن العجب أن هذا الرجل المحاد لله ولرسوله عمد إلى الأخبار المتفيضة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم التي توارثها عنه أئمة الدين وورثة الأنبياء والمرسلين واتفق على صحتها جميع العارفين فقدح فيها قدحا يشبه الزنادقة المنافقين ثم يحتج في أصول الدين بنقل أبي معشر أحد المؤمنين يالجبت والطاغوت أئمة الشرك والضلال نعوذ بالله من ششرورهم وأقوالهم والله المستعان على ما يصفون والله سبحانه وتعالى أعلم
فصل
قال الرازي الفصل الثاني في تقرير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز والجهةقلت لم يذكر في هذا الفصل حجة تدل على مطلوبه دلالة ظاهرة فضلا عن أن تكون نصا بل إما أن يكون ما ذكره عديم الدلالة على مطلوبه أو يكون على نقيض مطلوبه أدل منه على مطلوبه وذلك يتبين بذكر حججه
قال الحجة الأولى قوله تعالى قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد قال وأعلم قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه و سلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل الله هذه السورة إذا عرفت هذا فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال السائل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذا ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة كان باطلا
قلت كون هذه السورة من المحكمات وكون كل مذهب يخالفها باطلا هو حق لا ريب فيه بل هذه السورة تعدل ثلث القرآن كما ثبت ذلك في الأحاديث الصحيحة وهي صفة الرحمن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح وعليها اعتمد الأئمة في تنزيه الله كما ذكره الفضيل بن عياض والإمام أحمد وغيرهم من أئمة الإسلام وهي على نقيض مطلوب الجهمية أدل منها على مطلوبهم كما قررناه في موضعه وإنما نذكر منه هاهنا ما ييسره الله
لكن سائر الآيات المذكورة فيها أسماء الله وصفاته مثل أية الكرسي وأول الحديد وآخر الحشر ونحو ذلك هي كذلك كل ذلك من الآيات المحكمات لكن هذه السورة ذكر فيها ما لم يذكر في غيرها من اسمه الأحد الصمد
ومثل نفي الأصول والفروع والنظراء جميعا وإلا فأسمه الرحمن أنزله الله لما أنكر المشركون هذا الإسم فأثبته الله لنفسه ردا عليهم وهذا أبلغ في كونه محكما من هذه السورة إذ الرد على المنكر أبلغ في إثبات نقيض قوله من جواب السائل الذي لم يرد عليه بنفي ولا إثبات وقد قال وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا وقال تعالى كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب وكذلك قول فرعون يا هامان إبن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا هذا أبلغ في كون موسى صرح له بأن إلهه فوق السموات حتى قصد تكذيبه بالفعل من الأخبار عن ذلك بلفظ موسى
وكذلك مسألة الصحابة للنبي صلى الله عليه و سلم هل نرى ربنا يوم القيامة فقال هل تضارون في رؤية الشمس صحوا ليس دونها سحاب وهل تضارون في رؤية القمر صحوا ليس دونه سحاب فقالوا لا قال فإنكم لا تضارون في رؤيته كما لا تضارون في رؤية الشمس والقمر وسائر ما في هذا المعنى من الأحاديث الصحيحة المتواترة مع ورودها على سؤال السائل وجوابه بهذا التصريح هو من أبلغ ما يكون في إثبات هذه الرؤية وأبعد عن التشابه كما يظنه الرازي وغيره ممن يحرف الرؤية عن حقيقتها إتباعا للمريسي وغيره من الجهمية وإن كان الرازي في الظاهر مقرا بالرؤية فإن إقراره بها كإقرار المريسي وذويه بألفاظها ثم يحرفون الكلم عن مواضعه
ثم قال الرازي فنقول إن قوله تعالى أحد يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله
أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الوحدانية فكان قوله أحد منافيا للجسمية
قال وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين ينكرون الجوهر الفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لا بد أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكلما تميز فيه شئ فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لا يسار ويساره موصوف بأنه يسار لا يمين فلو كان يمينه عين يساره لأجتمع في الشئ الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشئ الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله موصوفا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزا أصلا وذلك ينفي كونه جوهرا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فأنه لا يمكنهم الاستدلال على نفي كونه تعالى جوهرا من هذا الاعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتأليف في الذات فقد يراد به أيضا نفي الضد والند ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد مثلا له وذلك ينفي كونه أحدا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى ولم يكن له كفوا أحد ولو كان جوهرا لكان كل جوهر فرد كفوا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسيم ولا جوهر وجب أن لا يكون في شئ من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصا بحيز وجهة فإن كان منقسما كان جسما وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن كان جوهرا ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلا
فثبت أن قوله أحد يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة أصلا
قلت هذا الاستدلال هو معروف قديما من استدلال الجهمية النافية فأنهم يزعمون أن إثبات الصفات ينافي التوحيد ويزعمون أنهم هم الموحدون فإن من أثبت الصفات فهو مشبه ليس بموحد وأنه يثبت تعدد القدماء لا يجعل القديم واحدا فقط فالجهمية من المتلفسفة والمعتزلة وغيرهم يبنون على هذا وقد يسمون أنفسهم الموحدين ويجعلون نفي الصفات داخلا في مسمى التوحيد ومبني ذلك على أصل واحد وهو أنهم سموا أقوالهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان إن هي إلا أسماء سموها هم وآباؤهم وجعلوا مسمى الأسماء الواردة في الكتاب والسنة أشياء أخر ابتدعوها هم فألحدوا في أسماء الله وآياته وحرفوا الكلم عن مواضعه
وقد ذكر تلبيسهم وتمويههم وإلحادهم أئمة السلف والخلف وممن نبه عليه الإمام أحمد قال في رسالته في الرد على الزنادقة والجهمية فقالت الجهمية لنا لما وصفنا هذه الصفات إن زعمتم أن الله ونوره والله وقدرته والله وعظمته فقد قلتم بقول النصارى حين زعمتم أن الله لم يزل ونوره ولم يزل وقدرته قلنا لا نقول أن الله لم يزل وقدرته ولا نقول ولم يزل ونوره ولكن نقول لم يزل بقدرته ونوره لا متى قدر ولا كيف قدر فقالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شئ فقلنا نحن نقول قد كان الله ولا شئ ولكن
إذا قلنا إن الله لم يزل بصفاته كلها أليس إنما نصف إلها واحدا بجميع صفاته وضربنا لهم مثلا في ذلك فقلنا أخبرونا عن هذه النخلة أليس لها جذع وكرب وليف وسعف وخوص وجمار وأسمها أسم شئ واحد وسميت نخلة بجميع صفاتها فكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد لا نقول إنه قد كان في وقت من الأوقات ولا قدرة حتى خلق قدرته والذي ليس له قدرة هو عاجز ولا نقول قد كان في وقت من الأوقات ولا يعلم والذي لا يعلم هو جاهل ولكن نقول لم يزل الله عالما قادرا مالكا لا متى ولا كيف قال وسمى الله رجلا كافرا أسمه الوليد بن المغيرة المخزومي فقال ذرني ومن خلقت وحيدا وقد كان الذي سماه وحيدا له عينان وأذنان ولسان وشفتان ويدان ورجلان وجوارح كثيرة وقد سماه وحيدا بجميع صفاته وكذلك الله وله المثل الأعلى بجميع صفاته إله واحد
فهذا القول الذي ذكره الإمام أحمد عنهم أنهم قالوا لا تكونون موحدين أبدا حتى تقولوا قد كان الله ولا شئ وهو كلام مجمل ولكن مقصودهم أنه لم يكن موجودا بشئ يقال إنه من صفاته فإن ثبوت الصفات يستلزم عندهم التركيب والتجزءة إما تركيب المقدار كالتركيب الذي يزعمونه في تأليف الجسم من أجزائه وإما التركيب الذي يزعمونه في الحدود وهو التركيب من الصفات كما يقولون النوع مركب من الجنس والفصل ويستلزم أيضا التشبيه والتوحيد عندهم نفي التشبيه والتجسيم ويقولون إن الأول يعنون به عدم النظير والثاني يعنون به أنه لا ينقسم
وهم يفسرون الواحد والتوحيد بما ليس هو معنى الواحد والتوحيد في كتاب الله وسنة رسوله وليس هو التوحيد الذي أنزل الله به كتابه وأرسل به رسوله وهذا أصل عظيم تجب معرفته
فقال نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والفلاسفة ونحوهم الواحد هو الذي لا صفة له ولا قدرة ويعبرون عن هذا المعنى بعبارات فيقول من يريد هذا المعنى من الفلاسفة كابن سينا وأمثاله إن واجب الوجود واحد من كل وجه ليس فيه أجزاء حد ولا أجزاء كم أو يقال ليس فيه كثره حد ولا كثرة كم ويقال ليس فيه تركيب المحدود من الجنس والفصل ولا تركيب الأجسام ومقصود هذه العبارات أنه ليس لله صفة ولا له قدرة
وكذلك تقول الجهمية من المعتزلة وغيرهم إن القديم واحد ليس معه في القدم غيره ولو قامت به الصفات لكان معه غيره وأنه ليس بجسم إذ الجسم مركب مؤلف منقسم وهذا تعدد ينافي التوحيد أو يقولون أيضا إن ثبوت الصفات يقتضي كثرة وعددا في ذاته خلاف التوحيد ويسمون أنفسهم الموحدين والعلم الذي يعلم به هذا علم التوحيد وهذا عندهم أول الأصول الخمسة التي هي عندهم التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين وإنفاذ الوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومن هنا أخذ محمد ابن التومرت هذا اللقب وسمى طائفته الموحدين ووضع لهم المرشدة المتضمنة لمثل عقيدة المعتزلة وغيرهم من
الجهمية في التوحيد لم يذكر اعتقاد الصفاتية كابن كلاب والأشعري فضلا عن اعتقاد السلف والأئمة لكن ذكر في القدر مذهب أهل الإثبات وهذا الذي ذكر يشبه قول حسين النجار وضرار بن عمرو وكان حفص الفرد من أصحاب النجار وكان برغوث من أصحاب ضرار وذاك خصم الشافعي وهذا من خصوم أحمد
وذهب حسين النجار وطائفة من المعتزلة إلى أن معنى الواحد هو الذي لا شبيه له كما يقول فلان واحد دهره وقد يقولون التوحيد يجمع المعنيين جميعا فالأول نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه فإن نفي الصفات عندهم هو نفي التجسيم وهذا نفي التشبيه والتوحيد ينافي التشبيه والتجسيم وجماع قولهم أن التوحيد ثلاث معان أنه واحد في نفسه لا صفة له ولا قدر فليس بمركب ولا محدود ولا موصوف بصفة تقوم به وهو أيضا واحد لا شبيه له فهذان نفي التجسيم والتشبيه والثالث أنه واحد في أفعاله لا شريك له فهذا الثالث هو متفق عليه بين المسلمين لكن الناس يقولون هذا التوحيد لا يتم للقدرية الذين يجعلون بعض العالم مفعولا لغير الله ويجعلون من يفعل كفعل الله فإن هذا إثبات شريك له في الملك
ثم أن المعتزلة وغيرهم من الجهمية وإن وافقهم بقية المسلمين على نفي التشبيه فإنهم يدخلون في اسم التشبيه كل من أثبت لله صفة كما هو معروف عنهم ولذلك نقله عنهم الأئمة كما ذكر الإمام أحمد في الرد عليهم فقال في وصف الجهم وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وزعم أن من وصف من الله شيئا وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم كان كافرا وكان من المشبهة وأضل بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة
وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة ووضع دين الجهمية وأكثر الشيعة المتأخرين على هذا التوحيد ونفي القدر وأما الشيعة المتقدمون الذين أدركوا زمن الأئمة فكان جهورهم على الإثبات وغالب الإمامية مصرحون بالتجسيم
قلت أصحاب عمرو بن عبيد هم المعتزلة فإن عمرا هو الإمام الأول الذي ابتدع دين المعتزلة هووواصل بن عطاء وأما الذين اتبعوه من أصحاب أبي حنيفة فهم من جنس الذين قاموا بأمر محنة المسلمين على دين الجهمية لما دعوا الناس إلى القول بخلق القرآن وغيره من أقوال الجهمية وهم مثل بشر المريسي وأحمد بن أبي داود قاضي القضاة وأمثالهم
ولما دخلت الجهمية هذا النفي الذي ابتدعوه في مسمى التوحيد أظهر المسلمون خلافهم من الأئمة والفقهاء وأهل الحديث والكلام كما
وروى أبو عبد الرحمن السلمي ومن طريقه شيخ الإسلام الأنصاري عن عبد الرحمن بن مهدي قال دخلت على مالك وعنده رجل يسأله عن القرآن فقال لعلك من أصحاب عمرو بن عبيد لعن الله عمرا فإنه ابتدع هذه البدع من الكلام ولو كان الكلام علما لتكلم فيه الصحابة والتابعون كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل وكان المثبتة من أهل الكلام يخالفونهم في مسمى الواحد وكذلك الصفاتية وقد تقدم كلام أبي محمد ابن كلاب في معنى الواحد وأنه قال في كتاب التوحيد في معنى قول القائل إن الله واحد وفي معنى قولنا مطلقا للشئ
إنه واحد فقال معنى قولنا الله واحد أنه منفرد بنفسه لا يدخله غيره وقال في معنى مطلق قولنا إنه واحد إنه قد يقال ذلك لما هو أشياء كثيرة مجتمعة وهو أجسام متماثلة كما يقال إنسان واحد وقولنا للخالق واحد لا على هذا المنهاج لأجل أنه المنفرد بنفسه الذي لا يدخله غيره قال وقد كان الله واحدا قبل خلقه فلم تداخله الأشياء حين خلقها ولم يداخلها ولو كان ذلك كذلك لم يكن واحدا قال ولو كان داخلا فيها لكان حكمه حكمها ولو كانت داخلة فيه كان كذلك ومن زعم أنها فيه أو هو فيها لزمه أن يحكم فيه بحكم المخلوق إذ كان في المخلوقات أو المخلوقات فيه فلما استحال في ربنا أن يداخل المخلوقين فيكون بعضا لهم أو يداخلوه فيكونوا بعضا له لم نجد منزلة ثالثة غير أنه بائن بخلق الأشياء فهي غير داخلة فيه ولا مماسة له ولا هو داخل فيها ولا ماس لها ولولا أن ذلك كذلك كان حكمه حكمها فإن قالوا فيعتقبه الطول والعرض قيل لهم هذا محال لأنه واحد لا كالآحاد عظيم لا تقاس عظمته بالمخلوقات كما أنه كبير عليم لا كالعلماء كذلك هو واحد عظيم لا كالآحاد العظماء فإن قلت العظيم لا يكون إلا متحيزا قيل لك والعليم لا يكون إلا متحيزا وكذلك السميع والبصير لأنك تقيس على المخلوقات قال ابن فورك وحكى حاكون عن ابن كلاب أنه لا يصح أن يضبط بالوهم شئ واحد أراد أنه إن كان قديما فلا بد من صفات وإن كان محدثا فمن أعراض
قلت هذا الكلام يقال إبطالا لمذهب الجهمية ونحوهم من الفلاسفة والمعتزلة إن الواحد لا صفة له فيقال لهم فيمتنع على هذا القول أن يكون في الوجود واحد كما سنبين إن شاء الله مخالفة وقولهم للغة والعقل والشرع
وكان كثير من متكلمة الصفاتية من أصحاب الأشعري ونحوهم فسروا الواحد والتوحيد بنحو تفسير المعتزلة وغيرهم من الجهمية ولم يفسروه
بما ذكره ابن كلاب ولا بغير ذلك كما سنذكره لكن مع تفسيرهم إياه بما ينفي التجسيم والتشبيه لم يلتزموا أن ذلك ينفي الصفات بل عندهم تفسير الواحد بذلك لا ينافي ثبوت الصفات القائمة به وهذا من مواضع النزاع بينهم وبين المعتزلة والفلاسفة وغيرهم من الجهمية فإن هؤلاء يزعمون أن نفي الصفات داخل في مسمى الواحد وأما الصفاتية فينكرون ذلك
قال الأستاذ أبو المعالي قال أصحابنا الواحد هو الشئ الذي لا ينقسم أو لا يصح انقسامه قال القاضي أبو بكر ولو قلت الواحد هو الشئ كان كافيا ولم يكن في الحد تركيب وفي قول القائل الشئ الذي لا ينقسم نوع تركيب قال الأستاذ أبو المعالي يقال للقاضي التركيب في الحدود وهو أن يأتي الحاد بوصف زائد يستغني عنه وقد لا تفهم من الشئ المطلق ما تفهم من القيد وليس يفهم من الشئ ما يفهم من الواحد الذي لا ينقسم فإن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشئ المقصود من التحديد والإيضاح أجاب القاضي بأن قال كلامنا في الحقائق والشئ المطلق هو الواحد الذي لا ينقسم قال منازعوه ويقال قد ذكرنا أن الوحدة تشعر بانتفاء القسمة عن الشئ فهما أمران متلازمان فلا بد من التعرض لهما ثم قال أبو المعالي ثم قال أصحابنا إذا سئلنا عن الواحد فنقول هذه اللفظة تردد بين معان فقد يراد به الشئ لا يقبل وجود القسمة وقد يطلق والمراد به نفي الأشكال والنظائر عنه وقد يطلق والمراد أنه لا ملجأ وملاذ سواه وهذه المعاني متحققة في وصف القديم سبحانه وتعالى
وقال الأستاذ أبو بكر ابن فورك إنه سبحانه واحد في اته لا قسيم له وواحد في صفاته لا شبيه له وواحد في أفعاله لا شريك له وحكي عن أبي إسحاق الأسفرائيني أنه قال الواحد هو الذي لا يقبل الرفع والوضع يعني الوصل والفصل
قال الأنصاري أشار إلى وحدة الإله فإن الجوهر واحد لا ينقسم ولكن يقبل النهاية والإله سبحانه واحد على الحقيقة فلا يقبل فصلا ولا وصلا
قال فإن قال قائل الوحدانية ترجع إلى صفة إثبات أم هي من الأوصاف التي تفيد النفي قلنا قال بعض المتكلمين المقصد من الواحد انتفاء ما عدى الموجود الفرد وربما يميل القاضي أبو بكر إلى هذا وقال الجبائي كونه واحدا ثابت لا للنفس ولا للمعنى وطرد ذلك شاهدا وغائبا والذي يدل عليه كلام القاضي أن الأتحاد صفة إثبات ثم هي صفة النفس
قال أبو المعالي فإن قيل أوضحوا معنى التوحيد قيل مراد المتكلمين من إطلاق هذه اللفظة الوحدانية والحكم بذلك وأبو المعالي كثيرا ما يقول قال الموحدون ويعني بهم هؤلاء وسلك سبيله ابن التومرت في لفظة الموحدين لكن لم يذكر في مرشدته الصفات الثبوتية كما يذهب إليه أبو المعالي ونحوه لكن اقتصر على الصفات السلبية وعلى الأحكام وهذه طريقة المعتزلة والنجارية ونحوهم
وكذلك قد وافق هؤلاء في تفسير الواحد بهذه المعاني الثلاثة طائفة من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم قال القاضي أبو يعلى في المعتمد كما ذكر ابن الباقلاني وأما الواحد والفرد والوتر فمعناه استحالة التجزئة والانقسام والتبعيض عليه فقال ونفي الشريك عنه ونفى الثاني عنه فيما لم يزل ونفي المثل عنه تعالى وعن صفاته الأزلية فجعل في هذا الموضع اسم الواحد يعم
هذه المعاني الثلاثة وأما في كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات ففسر الواحد بما لا شريك له وجعل هذه المعاني ثلاثة أقوال فقال وأما وصفه بأنه واحد فمعناه الذي لا شريك له القهار ويقهر كل جبار والأحد والواحد بمعنى واحد وقيل معناه شيء وكل شيء واحد وكل واحد شيء فإذا قيل للجملة إنها واحدة فإنه يقدر فيها حكم الواحد الذي لا ينقسم وقيل المراد به نفي النظير كقوله فلان واحد زمانه
لكن كثير ممن يفسر الواحد بعدم التجزي يريد بذلك ما يعرفه الناس من معنى التجزي وهو انفصال جزء عن الآخر كما يعنون بلفظ المنقسم انفصال قسم من قسم وليس هذا فقط هو المعنى الذي يريده نفاة الجسم بقولهم ليس بمنقسم ولا متجزئ فإن هذا المعنى لا يشترطون فيه وجود الأنفصال ولا إمكان وجوده وهذا الاصطلاح قول أبي الوفاء ابن عقيل في كتاب الكفاية باب في نفي الولد والتجزية وهو سبحانه واحد لا يتجزأ لقوله تعالى لم يلد لأنه لو كان والدا لكان متجزئا لأن الولد هو انفصال جزء من الوالد قال سبحانه وجعلوا من عباده جزءا يعني ولدا قال لأن التجزي لا يجوز إلا على المركبات وقد أفسدنا التركيب حيث أفسدنا كونه جسما قال ونخص هذا بدلالة أخرى فنقول إن الايلاد تحلل والتحلل لا يجوز إلا على ذات مستحيلاة تتعاقب عليها الأزمان وتتغالب فيها الطباع تأخذ من الأغذية حظا وتعيد منها فضلا والقديم سبحانه ذات لا يداخله شئ ولا يداخل شيئا ولا يتصل بشيء ولا ينفصل عنه شيء لأنه واحد والتجزي والانقسام لا يتصور إلا على آحاد التأمت بالاجتماع فتوحدت وتفككت بالانقسام فتعددت ألا ترى أن العلل والأحكام والعقول والعلوم لما لم توصف بالتركيب لم تتسلط عليها التجزءة
وكذلك قال أبو الوفاء ابن عقيل في باب نفي التشبيه وهو سبحانه غير مشبه بالأشياء فليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا على صفة من صفات الموجودات قال سبحانه ليس كمثله شئ معناه ليس مثله شئ والكاف زائدة والدلالة على أنه ليس بجسيم ولا مشبه للأشياء أنه لو كان جسما لكان مؤلفا لأن حقيقة الجسم هو المؤلف ولهذا أدخلت عليه العرب التزايد فيقال هذا أجسم ويراد به أكثر أجساما وأكبر جثة ولو كان مؤلفا لأحتاج إلى مؤلف كما احتاجت سائر الأجسام ويجاز عليه ما يجوز عليها من التجزي والانقسام والتفكك والالتآم ولو جوزنا قدم غائب مع كونه جسما لاقتبسنا العلم بحدث هذا الجسم الحاضر حدث الغائب ولأن المشبه للشئ ما سد مسده وقام مقامه فلو أشبه هذه الأشياء الموجودة أو أشياء منها لسد مسده وقام مقامه في القدم والأحداث والصفة والاختراع إلى غير ذلك من صفات القديم سبحانه ولأنه لو كان يشبهها من وجه من الوجوه لأحتاج إلى ما احتاجت إليه من الأمكنة لوجود قدم الكائنات وفي وفي ذلك إما قدم العالم أو حدث القديم وكلاهما محال فما أدى إليه محال
قلت وطائفة أخرى تجعل قول النصارى في الأقانيم بمعنى الأجزاء والأبعاض لكن ليس في نقلهم أنهم يوجبون كون الولادة انفصال جزء عن غيره كما يذكر الأولون قال أبو عبد الله بن الهيصم الفصل الرابع وأما القول في أنه أحدي الذات فإن النصارى زعمت أن الله جل عن قولهم أقانيم ثلاثة رب واحد وفسر بعضهم الأقانيم بأنها الأشخاص وقال بعضهم إنها الخواص قال وقال أهل التوحيد إن الله واحد في ذاته ليس بذي أقانيم ولا أبعاض واحتجت النصارى بأنكم قد وافقتمونا على أن الله عز ذكره قد كان لم يزل وله حياة وكلام وذلك ما أردناه بقولنا أقانيم ثلاثة
قال والرد عليهم أن يقال لهم إن الحياة والكلام عندنا صفتان لذاته وليستا في حكم الذات ولا يقع عليهما اسم الله فإن الله هو الموصوف بهما دونهما وليس يصح إضافة شئ من أفعال الربوبية إليهما لأن الحياة والكلام لا يفعلان وإنما يفعل الحي المتكلم وهو الله الموصوف بهما وليس كذلك قولكم من قبل أنكم جعلتم الروح والابن أقنومين يتناولهما اسم الله وأفعال الربوبية عندكم منسوبة إلى مجموع الأب ولابن والروح القدس قد جعلتموها بمنزلة أركان الإنسان التي يتناولها مجموعها اسم الإنسان وتنسب إلى جملتها أفعاله وهذا هو وصفه بالتجزئة والتبعيض وليس ما وصفنا به من الحياة والكلام كذلك
ثم يقال لهم وإذ كان الله عندنا وعندكم موصوفا بالقدرة والعلم والمشيئة والسمع والبصر والرحمة والعزة كما كان موصوفا بالحياة والكلام فهلا جعلتم هذه كلها أقانيم له ومالكم قصرتم الأقانيم على الثلاثة وفي هذا ما يدل على أنكم لم تذهبوا من الأقانيم مذهب إثبات الصفات له لذلك فرقتم بين هذه الصفات وبينها وإنما ذهبتم فيها مذهب الأبعاض والأجزاء تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
قلت مذهب النصارى لكونه متناقضا في نفسه لا يعقل إذ لا حقيقة له كما لا تعقل الممتنعات صاروا يضطربون في قوله فكل طائفة منهم تفسره بغير ما تفسره الأخرى وكذلك يضطرب الناس في نقله فلهذا ذكر هذا أن الأقانيم عندهم أبعاض كأركان الإنسان وأن كان الآخرون من النصارى لا يقولون ذلك فإن عندهم كل واحد من الأقانيم إله يدعى ويعبد مع قولهم أن الثلاثة إله واحد وبعض الإله ليس هو إلها
ولكن عندهم الذات الموصوفة بالأمور الثلاثة مع كل صفة أقنوم ثم يقولون إن الواحد هو المتحد بالمسيح فإن كان متحدا لصفة فالصفة ليست إلها يخلق ويرزق وعندهم المسيح إله وإن كان المتحد الذات فيكون المسيح هو الأب والابن والروح القدس إله وهم لا يقولون ذلك وإنما يقولون المتحد به الكلمة التي هي الابن ويقولون هو ابن الله لذلك ويقولون أيضا هو الله لأن المتحد به هو الذات التي هو الله فيجعلون المتحد به هو الذات بصفة دون الذات بالصفتين الأخريين ومن المعلوم أن الصفات لا تفارق الذات وقد يكونون يقولون كما حكى هذا الأقانيم أبعاض وأجزاء كل منهما إله أيضا
وإذا عرف أن مراد أئمة هذا القول بنفي التجزي والانقسام ليس هو وجود الانقسام بانفصال بعضه عن بعض ولا إمكان ذلك وان كان اللفظ في ذلك أظهر منه في غيره فإن عامة ألفاظهم الاصطلاحية لا يريدون بها ما هو المعروف في اللغة من معناها بل معاني اختصوا هم بالكلام فيها نفيا وإثباتا ولهذا قال الإمام أحمد فيهم يتكلمون بالمتشابهة من الكلام ويلبسون على جهال الناس بما يشبهون عليهم
وهذان المعنيان مما اتفق المسلمون فيما أعلمه على تنزه الله وتقدسه عنهما فإن الله سبحانه أحد صمد لا يتجزى ويتبعض وينقسم بمعنى أنه ينفصل بعضه عن بعض كما ينفصل الجسم المقسوم المعضى مثل ما تقسم الأجسام المتصلة كالخبز واللحم والثياب ونحو ذلك ولا ينفصل عن الحيوان ما ينفصل من عضلاته وهذه المعاني هو منزه عنها بمعنى أنها معدومة وأنها ممتنعة في حقه فلا تقبل ذاته التفريق والتبعيض بل ليس هو بأجوف كما قال الصحابة والتابعون
في تفسير الصمد أنه الذي لا جوف له كما سيأتي بيانه وأكثر الناس لا يفهمون من نفي التبعيض والتجزئة والانقسام والتركيب إلا هذين المعنيين ونحوهما وذلك متفق على نفيه بين المسلمين اللهم إلا أن يكون بعض من لا أعلم من الجهال الضلال قد جوز على الله أن ينفصل منه بعضه عن بعض كما يحكى ذلك عن بعض الكفار فبنوا آدم لا يمكن حصر ما يقولونه وإنما المقصود أن المقالات المحكية عن طوائف الأمة لم أجد فيها من حكى هذا القول عن أحد من الطوائف
وإنما مراد أئمة هذا القول من الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن اتبعهم من الصفاتية بنفي ذلك ما ينفونه عن الجسم المطلق وهو أنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يتميز منه شيء عن شيء بحيث لا يكون له قدر وحد وجوانب ونهاية ولا عين قائمة بنفسها يمكن أن يشار إليها أو يشار إلى شيء منها دون شيء ولا يمكن أيضا عند التحقيق أن يرى منه شيء دون شيء وهذا عندهم نفي الكم والمساحة وأما غير الصفاتية فيريدون أنه لا صفة له إذ وجود الصفات يستلزم التجسيم والتجزئة والتركيب كما سيأتي بيان قولهم فيه
وهؤلاء ينفون التجسيم والتشبيه وهم متناقضون في ذلك عند النفاة والمثبتة الذين يخالفونهم كما أن النفاة تثبت موجودا مطلقا مجردا عن الصفات والمقادير وهم في ذلك متناقضون عند جماهير العقلاء وكذلك من أثبت أنه حي عالم قادر ونفي الصفات كانت متناقضا عند جماهير العقلاء ومن أثبت من الصفاتية الخبرية كالوجه واليدين مع نفي التجسيم والتشبيه هم متناقضون في ذلك عند من يخالفهم من الصفاتية والمثبتة كما هو قول ابن كلاب والأشعري وغيرهما ثم متكلمة أهل الحديث وفقهاؤهم الذين يوافقون هؤلاء على النفي مع إثبات المعاني الواردة في آيات الصفات وأحاديثها هم متناقضون في ذلك عند هؤلاء
ولهذا لما صنف القاضي أبو يعلى كتابه الذي سماه كتاب إبطال التأويلات لأخبار الصفات وقال في أوله أحمده حمدا يرضيه وأستعينه على أوامره ونواهيه وابرأ إليه من التجسيم والتشبيه وصار في عامة ما يذكره من أحاديث الصفات يقر الحديث على ما يقول إنه ظاهره ومقتضاه مع قوله بنفي التجسيم كما يقول سائر الصفاتية في الوجه واليد وكما يقولونه في العلم والقدرة ونحو ذلك وهذا تناقض عند أكثر أهل الإثبات والنفي
ولهذا صار في أصحاب الإمام أحمد وغيرهم من يشهد بتناقضه إما مائلا إلى النفي كرزق الله التميمي وابن عقيل وابن الجوزي وغيرهم وأما مائلا إلى الإثبات كطوائف أجل وأكثر من هؤلاء من أهل السنة والحديث وغيرهم وطوائف آخرون من أصحاب أحمد وغيرهم يوافقونه على مجمل ما ذكره وإن نازعوه في بعض المواضع وهؤلاء أكثر وأجل من المائلين إلى النفي كالشريف أبي جعفر وأبي الحسن القزويني والقاضي أبو الحسين وأبي وإن كانو يخالفونه في أشياء مما أثبتها إما لضعف الحديث أو لضعف دلالته
وأما التشبيه فهو في اصطلاح المتكلمين وغيرهم هو التمثيل والمتشابهان هما المتماثلان وهما ما سد أحدهما سد صاحبه وقام مقامه وناب منابه وبينهم نزاع في إمكان التشابه الذي هو التماثل من وجه وهل التشابه الذي هو التماثل بنفس الذوات أو بالصفات القائمة بالذوات وهذا التشبيه أيضا منتف عن الله وإنما خالف فيه المثبتة الممثلة الذين وصفهم الأئمة وذموهم كما قال الإمام أحمد المشبه الذي يقول بصر كبصري ويد كيدي وقدم
كقدمي ومن قال هذا فقد شبه الله بخلقه وكما قال إسحاق وأبو نعيم ومحققو المتكلمين على أن هذا التشابه الذي هو التماثل لا يكون بالموافقة في بعض الصفات بل الموافقة في جميع الصفات الذاتية التي بها يقوم بها أحدهما مقام الآخر
وأما التشبيه في اللغة فإنه قد يقال بدون التماثل في شئ من الحقيقة كما يقال للصورة المرسومة في الحائط إنها تشبه الحيوان ويقال هذا يشبه هذا في كذا وكذا وإن كانت الحقيقتان مختلفتين
ولهذا كان أئمة أهل السنة ومحققو أهل الكلام يمنعون من أن يقال لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه فأن مقتضى هذا كونه معدوما ومنهم طوائف يطلقون هذا
لكن من هؤلاء من يريد بنفي التشابه نفي التماثل فلا يكون بينهما خلاف معنوي إذ هم متفقون على نفي التماثل بوجه من الوجوه كما دل على ذلك القرآن كما قد بيناه في غير هذا الموضع كما يعلم أيضا بالعقل
وأما النفاة من الجهمية وأشباههم فلا يريدون بذلك إلا نفي الشبه بوجه من الوجوه وهذا عند كل من حقق هذا المعنى لا يصلح إلا للمعوم وقد قرر ذلك غير واحد من أئمة المتكلمين حتى أبو عبد الله الرازي كما سنذكر كلامه في ذلك
وكذلك لفظ التجسيم هو كلفظ التأليف والتركيب والتبعيض والتجزئة من معناه ما هو متفق على نفيه بين المسلمين ومنه ما هو متفق على نفيه بين علماء المسلمين من جميع الطوائف إلا ما يحكى عن غلاة المجسمة من أنهم