كتاب : بدائع الفوائد
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية
فصل عليك السلام تحية الموتى
وأما السؤال الثامن عشر وهو نهى النبي من قال له عليك السلام عن ذلك وقال لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى فما أكثر من ذهب عن الصواب في معناه وخفي عليه مقصوده وسره فتعسف ضروبا من التأويلات المستنكرة الباردة ورد بعضهم الحديث وقال قد صح عن النبي أنه قال في تحية الموتى السلام عليكم دار قوم مؤمنين // رواه مسلم // قالوا وهذا أصح من حديث النهي وقد تضمن تقديم ذكر لفظ السلام فوجب المصير إليه
وتوهمت طائفة أن السنة في سلام الموتى أن يقال عليكم السلام فرقا بين السلام على الأحياء والأموات وهؤلاء كلهم إنما أتوا ما أتوه من عدم فهمهم لمقصود الحديث فإن قوله عليك السلام تحية الموتى ليس تشريعا منه وإخبارا عن أمر شرعي وإنما هو إخبار عن الواقع المعتاد الذي جرى على ألسنة الشعراء والناس فإنهم كانوا يقدمون اسم الميت على الدعاء كما قال قائلهم
عليك سلام الله قيس بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
وقول الذي رثى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
عليك سلام من أمير وباركت ... يد الله في ذاك الأديم الممزق
وهذا أكثر في أشعارهم من أن نذكره ههنا والإخبار عن الواقع لا يدل على جوازه فضلا عن كونه سنة بل نهيه عنه مع إخباره بوقوعه يدل على عدم مشروعيته السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه
وأن السنة في السلام تقديم لفظه على لفظ المسلم عليه في السلام على الأحياء وعلى الأموات فكما لا يقال في السلام على الأحياء عليكم السلام فكذلك لا يقال في سلام الأموات كما دلت السنة الصحيحة على الأمرين وكأن الذي تخيله القوم من الفرق أن المسلم على غيره لما كان يتوقع الجواب وأن يقال له وعليك السلام بدءوا باسم السلام على المدعو له توقعا لقوله وعليك السلام وأما الميت فما لم يتوقعوا منه ذلك قدموا المدعو له على الدعاء فقالوا عليك السلام
وهذا الفرق لو صح كان دليلا على التسوية بين الأحياء والأموات في السلام فإن المسلم على أخيه الميت يتوقع الجواب أيضا
قال ابن عبد البر ثبت عن النبي أنه قال ما من رجل يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام // صحيح // وبالجملة فهذا الخيال قد أبطلته السنة الصحيحة تشريع السلام على الأحياء والأموات
وهنا نكتة بديعة ينبغي التفطن لها وهي أن السلام شرع على الأحياء والأموات بتقديم اسمه على المسلم عليهم لأنه دعاء بخير والأحسن في دعاء الخير أن يتقدم الدعاء به على المدعو له كقوله تعالى رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود 73 وقوله سلام على إبراهيم سلام على نوح سلام على آل ياسين سلام عليكم بما صبرتم الرعد 24
وأما الدعاء بالشر فيقدم فيه المدعو عليه المدعو به غالبا كقوله تعالى لإبليس وإن عليك لعنتي ص 78 وقوله وأن عليك اللعنة الحجر 35 وقوله عليهم دائرة السوء التوبة 98 وقوله وعليهم غضب الشورى 16
وسر ذلك والله أعلم أن في الدعاء بالخير قدموا اسم الدعاء المحبوب الذي تشتهيه النفوس وتطلبه ويلذ للسمع لفظه فيبدأ السمع بذكر الإسم المحبوب المطلوب ويبدأ القلب بتصوره فيفتح له القلب والسمع فيبقى السامع كالمنتظر لمن يحصل هذا وعلى من يحل فيأتي باسمه فيقول عليك أو لك فيحصل له من السرور والفرح ما يبعث على التحاب والتواد والتراحم الذي هو المقصود بالسلام
وأما في الدعاء عليه ففي تقديم المدعو عليه إيذان باختصاصه بذلك الدعاء وأنه عليه وحده كأنه قيل له هذا عليك وحده لا يشركك فيه السامعون بخلاف الدعاء بالخير فإن المطلوب عمومه وكل ما عم به الداعي كان أفضل
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول فضل عموم الدعاء على خصوصه كفضل السماء على الأرض
وذكر في ذلك حديثا مرفوعا عن علي أن النبي مر به وهو يدعو فقال يا علي عم فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض وفيه فائدة ثانية أيضا وهي أنه في الدعاء عليه إذا قال له عليك انفتح سمعه وتشوف قلبه إلى أي شيء يكون عليه فإذا ذكر له اسم المدعو به صادف قلبه فارغا متشوفا لمعرفته فكان أبلغ في نكايته ومن فهم هذا فهم السر في حذف الواو في قوله تعالى وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها الزمر 71 ففاجأهم وبغتهم عذابها وما أعد الله تعالى فيها فهم بمنزلة من وقف على باب لا يدري بما يفتح له من أنواع الشر إلا أنه متوقع منه شرا عظيما ففتح في وجهه وفاجأه ما كان يتوقعه وهذا كما تجد في الدنيا من يساق إلى السجن فإنه يساق إليه وبابه مغلق حتى إذا جاءه فتح الباب في وجهه ففاجأته روعته وألمه بخلاف ما لو فتح له قبل مجيئه
وهذا بخلاف أهل الجنة فإنهم لما كانوا مساقين إلى دار الكرامة وكان من تمام إكرام المدعو الزائر أن يفتح له باب الدار فيجيء فيلقاه مفتوحا فلا يلحقه ألم الإنتظار فقال في أهل الجنة حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لأمره وتعظيما لشأنه على عادتهم في حذف الجوابات لهذا المقصد
وهذه الطريقة تريحك من دعوى زيادة الواو ومن دعوى كونها واو الثمانية لأن أبواب الجنة ثمانية فإن هذا لو صح فإنما يكون إذا كانت الثمانية منسوقة في اللفظ واحدا بعد واحد فينتهون إلى السبعة ثم يستأنفون العدد من الثمانية بالواو وهنا لا ذكر للفظ الثمانية في الآية ولا عدها فتأمله
على أن في كون الواو تجيء للثمانية كلام آخر قد ذكرناه في الفتح المكي وبينا المواضع التي ادعى فيها أن الواو للثمانية وأين يمكن دعوى ذلك وأين يستحيل
فإن قيل فهذا ينتقض عليكم بأن سيد الخلائق يأتي باب الجنة فيلقاه مغلقا حتى يستفتحه
قلنا هذا من تمام إظهار شرفه وفضله على الخلائق أن الجنة تكون مغلقة فلا تفتح لأهلها إلا على يديه فلو جاءها وصادقها مفتوحة فدخلها هو وأهلها لم يعلم الداخلون أن فتحها كان على يديه وأنه هو الذي استفتحها لهم
ألا ترى أن الخلق إذا راموا دخول باب مدينة أو حصن وعجزوا ولم يمكنهم فتحه حتى جاء رجل ففتحه لهم أحوج ما كانوا إلى فتحه كان في ذلك من ظهور سيادته عليهم وفضله وشرفه ما لا يعلم لو جاء هو وهم فوجدوه مفتوحا وقد خرجنا عن المقصود وما أبعدنا ولا تستطل هذه النكت فإنك لا تكاد تجدها في غير هذا التعليق والله تعالى المان بفضله وكرمه فصل إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم
وأما السؤال التاسع عشر وهو دخول الواو في قوله إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم // رواه البخاري ومسلم // فقد استشكلها كثير من الناس كما ذكر في السؤال وقالوا الصواب حذفها وأن يقال عليكم قال الخطابي يرويه عامة المحدثين بالواو وابن عيينة يرويه بحذفها وهو الصواب
وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوا بعينه مردودا عليهم وبإدخال الواو يقع الإشتراك معهم والدخول فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والإجتماع بين الشيئين
قلت معنى ما أشار إليه الخطابي أن الواو في مثل هذا تقتضي تقرير الجملة وزيادة الثانية عليها كما إذا قلت زيد كاتب فقال المخاطب وشاعر فإنه يقتضي إثبات الكتابة له وزيادة وصف الشعر وكذلك إذا قلت لرجل فلان محب لك فقال ومحسن إلي عدة أصحاب الكهف
ومن هنا استنبط السهيلي في الروض أن عدة أصحاب الكهف سبعة قال لأن الله تعالى عطف عليهم الكلب بحرف الواو فقال وثامنهم كلبهم الكهف 22
ولم يذكر الواو فيما قبل ذلك من كلامهم والواو تقتضي تقرير الجملة الأولى وما استنبطه حسن غير أنه إنما يفيد إذا كان المعطوف بالواو ليس داخلا في جملة قولهم بل يكون قد حكى سبحانه أنهم قالوا سبعة ثم أخبر تعالى أن ثامنهم الكلب فحينئذ يكون ذلك تقريرا لما قالوه وإخبارا بكون الكلب ثامنا وأما إذا كان الإخبار عن الكلب من جملة قولهم وأنهم قالوا وهذا وهذا لم يظهر ما قاله ولا تقتضي الواو في ذلك تقريرا ولا تصديقا فتأمله
وأما قوله المحدثون يروونه بالواو فهذا الحديث رواه عبدالله بن عمر أن النبي قال إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا وعليكم // رواه البخاري ومسلم وأبو داود // قال أبو داود وكذلك رواه مالك عن عبدالله بن دينار ورواه الثوري عن عبدالله بن دينار وقال فيه وعليكم انتهى كلامه وأخرجه الترمذي والنسائي كذلك ورواه مسلم وفي بعض طرقه فقل عليك ولم يذكر الواو
وحديث مالك الذي ذكره أبو داود وأخرجه البخاري في صحيحه وحديث سفيان الثوري متفق عليه كلها بالواو وأما ما أشار إليه الخطابي من حديث ابن عيينة فرواه النسائي في سننه بإسقاط الواو
وإذا عرف هذا فإدخال الواو في الحديث لا تقتضي محذورا البتة وذلك لأن التحية التي يحيون بها المسلمين غايتها الإخبار بوقوع الموت عليهم وطلبه لأن السام معناه الموت فإذا حيوا به المسلم فرده عليهم كان من باب القصاص والعدل وكان مضمون رده أنا لسنا نموت دونكم بل وأنتم أيضا تموتون فما تمنيتموه لنا حال بكم واقع عليكم
وأحسن من هذا أن يقال ليس في دخول الواو تقرير لمضمون تحيتهم بل فيه ردها وتقريرها لهم أي ونحن أيضا ندعو عليكم بما دعوتم به علينا فإن دعاءهم قد وقع فإذا رد عليهم المجيب بقوله وعليكم كان في إدخال الواو سر لطيف وهو الدلالة على أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردود عليكم لا تحية غيره فإدخال الواو مفيد لهذه الفائدة الجليلة
وتأمل هذا في مقابلة الدعاء بالخير إذا قال غفر الله لك فقال له ولك المعنى أن هذه الدعوة بعينها مني لك ولو قلت غفر الله لك فقال لك لم يكن فيه
إشعار بأن الدعاء الثاني هو الأول بعينه فتأمله فإنه بديع جدا وعلى هذا فيكون الصواب إثبات الواو كما هو ثابت في الصحيح والسنن
فهذا ما ظهر لي في هذه اللفظة فمن وجد شيئا فليلحقه بالهامش فيشكر الله له وعباده سعيه فإن المقصود الوصول إلى الصواب فإذا ظهر وضع ما عداه تحت الأرجل وقد ذكرنا هذه المسألة مستوفاة بما أمكننا في كتاب تهذيب السنن فصل اقتران الرحمة والبركة بالسلام
وأما السؤال العشرون وهو ما الحكمة في اقتران الرحمة والبركة بالسلام
فالجواب عنه أن يقال لما كان الإنسان لا سبيل له إلى انتفاعه بالحياة إلا بثلاثة أشياء أحدها سلامته من الشر ومن كل ما يضاد حياته وعيشه والثاني حصول الخير له والثالث دوامه وثباته له فإن بهذه الثلاثة يكمل انتفاعه بالحياة
لقد شرعت التحية متضمنة للثلاثة فقوله سلام عليكم يتضمن السلامة من الشر وقوله ورحمة الله يتضمن حصول الخير وقوله وبركاته يتضمن دوامه وثباته كما هو موضوع لفظ البركة وهو كثرة الخير واستمراره
ومن هنا يعلم حكمة اقتران اسمه الغفور باسمه الرحيم في عامة القرآن
ولما كانت هذه الثلاثة مطلوبة لكل أحد بل هي متضمنة لكل مطالبه وكل المطالب دونها ووسائل إليها وأسباب لتحصيلها جاء لفظ التحية دالا عليها بالمطابقة تارة وهو كمالها وتارة دالا عليها بالتضمن وتارة دالا عليها باللزوم فدلالة اللفظ عليها مطابقة إذا ذكرت بلفظها ودلالته بالتضمن إذا ذكر السلام والرحمة فإنهما يتضمنان الثالث ودلالته عليها باللزوم إذا اقتصر على السلام وحده فإنه يستلزم حصول الخير وثباته إذ لو عدم لم تحصل السلامة المطلقة فالسلامة مستلزمة لحصول الرحمة كما تقدم تقريره
قد عرف بهذا فضل هذه التحية وكمالها على سائر تحيات الأمم ولهذا اختارها الله لعباده وجعلها تحيتهم بينهم في الدنيا وفي دار السلام
وقد بان لك أنها من محاسن الإسلام وكماله فإذا كان هذا في فرع من فروع الإسلام وهو التحية التي يعرفها الخاص والعام فما ظنك بسائر محاسن الإسلام
وجلالته وعظمته وبهجته التي شهدت بها العقول والفطر حتى أنها من أكبر الشواهد وأظهر البراهين الدالة على نبوة محمد وكمال دينه وفضله وشرفه على جميع الأديان وأن معزته في نفس دعوته فلو اقتصر عليها كانت آية وبرهانا على صدقه وأنه لا يحتاج معها إلى خارق ولا آية منفصلة بل دينه وشريعته ودعوته وسيرته من أعظم معجزاته عند الخاصة من أمته حتى أن إيمانهم به إنما هو مستند إلى ذلك والآيات في حقهم مقويات بمنزلة تظاهر الأدلة
ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان بل باب من أبواب الجنة العاجلة يرقص القلب فيه طربا ويتمنى أنه له بالدنيا وما فيها
وعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها
وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة ولم يحسن إليهم إحسانا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة ولهذا لم يذكر في القرآن لفظة المن عليهم إلا في سياق ذكرها كقوله لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين آل عمران 164 وقوله يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين الحجرات 17 فهي محض الإحسان إليهم والرأفة بهم وهدايتهم إلى ما به صلاحهم في الدنيا والآخرة لا أنها محض التكليف والإمتحان الخالي عن العواقب الحميدة والغايات التي لا سبيل إليها إلا بهذه الوسيلة فهي لغاياتها المجربة المطلوبة بمنزلة الأكل للشبع والشرب للري والجماع لطلب الولد وغير ذلك من الأسباب التي ربطت بها مسبباتها بمقتضى الحكمة والعزة فلذلك نصب هذا الصراط المستقيم وسيلة وطريقا إلى الفوز الأكبر والسعادة ولا سبيل إلى الوصول إليه إلا من هذه الطريق كما لا سبيل إلى دخول الجنة إلا بالعبور على الصراط
فالشريعة هي حياة القلوب وبهجة النفوس ولذة الأرواح والمشقة الحاصلة فيها والتكليف وقع بالقصد الثاني كوقوعه في الأسباب المفضية إلى الغايات المطلوبة لا أنه مقصود لذاته فضلا عن أن يكون هو المقصود لا سواه فتأمل هذا الموضع وأعطه حقه
من الفكر في مصادرها ومواردها يفتح لك بابا واسعا من العلم والإيمان فتكون من الراسخين في العلم لا من الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون
وكما أنها آية شاهدة له على ما وصف به نفسه من صفات الكمال فهي آية شاهدة لرسوله بأنه رسول حقا وأنه أعرف الخلق وأكملهم وأفضلهم وأقواهم إلى الله وسيلة وأنه لم يؤت عبد مثل ما أوتي فوالهفاه على مساعد على سلوك هذا الطريق واستفتاح هذا الباب والإفضاء إلى ما وراءه ولو بشطر كلمة بل والهفاه على من لا يتصدى لقطع الطريق والصد عن هذا المطلب العظيم ويدع المطي وحاديها ويعطي القوس باريها
ولكن إذا عظم المطلوب قل المساعد وكثر المعارض والمعاند وإذا كان الإعتماد على مجرد مواهب الله وفضله يغنيه ما يتحمله المتحمل من أجله فلا يثنك شنآن من صد عن السبيل وصدق ولا تنقطع مع من عجز عن مواصلة السري ووقف فإنما هي مهجة واحدة فانظر فيما تجعل تلفها وعلى من تحتسب خلقها
أنت القتيل بكل من أحببته ... فانظر لنفسك في الهوى من تصطفي
وأنفق أنفاسك فيما شئت فإن تلك النفقة مردودة بعينها عليك وصائرة لا سواها إليك وبين العبد وبين السعادة والفلاح صبر ساعة لله وتحمل ملامة في سبيل الله
وما هي إلا ساعة ثم تنقضي ... ويذهب هذا كله ويزول
وقد أطلنا ولكن ما أمللنا فإن قلبا فيه أدنى حياة يهتز إذا ذكر الله ورسوله ويود أن لو كان المتكلم كله ألسنة تالية والسامع كله آذانا واعية ومن لم يجد قلبه ثم فليشتغل بما يناسبه فكل ميسر لما خلق له وكل يعمل على شاكلته
وكل امريء يهفو إلى من يحبه ... وكل امريء يصبو إلى ما يناسبه فصل لماذا كانت نهاية السلام عند قوله وبركاته
وقد عرفت بهذا جواب السؤال الحادي والعشرين أن كمال التحية عند ذكر البركات إذ قد استوعبت هذه الألفاظ الثلاث جميع المطالب من دفع الشر وحصول الخير وثباته وكثرته ودوامه فلا معنى للزيادة عليها ولهذا جاء في الأثر المعروف انتهى السلام إلى وبركاته
فصل إضافة الرحمة لله وتجريد السلام عن الإضافة
وأما السؤال الثاني والعشرون وهو ما الحكمة في إضافة الرحمة والبركة إلى الله تعالى وتجريد السلام عن الإضافة
فجوابه أن السلام لما كان اسما من أسماء الله تعالى استغني بذكره مطلقا عن الإضافة إلى المسمى وأما الرحمة والبركة فلو لم يضافا إلى الله لم يعلم رحمة من ولا بركة من تطلب
فلو قيل عليكم ورحمة وبركة لم يكن في هذا اللفظ إشعار بالراحم المبارك الذي تطلب الرحمة والبركة منه فقيل رحمة الله وبركاته
وجواب ثان أن السلام يراد به قول المسلم سلام عليكم وهذا في الحقيقة مضاف إليه ويراد به حقيقة السلامة المطلوبة من السلام سبحانه وتعالى وهذا يضاف إلى الله فيضاف هذا المصدر إلى الطالب الذاكر تارة وإلى المطلوب منه تارة فأطلق ولم يضف
وأما الرحمة والبركة فلا يضافان إلا إلى الله تعالى وحده ولهذا لا يقال رحمتي وبركتي عليكم ويقال سلام مني عليكم وسلام من فلان على فلان
وسر ذلك أن لفظ السلام اسم للجملة القولية بخلاف الرحمة والبركة فإنهما إسمان لمعناهما دون لفظهما فتأمله فإنه بديع
وجواب ثالث وهو أن الرحمة والبركة أتم من مجرد السلامة فإن السلامة تبعيد عن الشر وأما الرحمة والبركة فتحصيل للخير وإدامة له وتثبيت وتنمية وهذا أكمل فإنه هو المقصود لذاته والأول وسيلة إليه ولهذا كان ما يحصل لأهل الجنة من النعيم أكمل من مجرد سلامتهم من النار فأضيف إلى الرب تبارك وتعالى أكمل المعنيين وأتمهما لفظا وأطلق الآخر وفهمت إضافته إليه معنى من العطف وقرينة الحال فجاء اللفظ على أتم نظام وأحسن سياق فصل الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة
وأما السؤال الثالث والعشرين وهو ما الحكمة في إفراد السلام والرحمة وجمع البركة
فجوابه أن السلام إما مصدر محض فهو شيء واحد فلا معنى لجمعه وإما اسم من أسماء الله تعالى فيستحيل أيضا جمعه فعلى التقديرين لا سبيل إلى جمعه
وأما الرحمة فمصدر أيضا بمعنى العطف والحنان فلا تجمع أيضا والتاء فيها بمنزلتها في الخلة والمحبة والرقة ليست للتحديد بمنزلتها في ضربة وتمرة فكما لا يقال رقات ولا خلات ولا رأفات لا يقال رحمات وهنا دخول الجمع يشعر بالتحديد والتقييد بعدد وإفراده يشعر بالمسمى مطلقا من غير تحديد فالإفراد هنا أكمل وأكثر معنى من الجمع وهذا بديع جدا أن يكون مدلول المفرد أكثر من مدلول الجمع
ولهذا كان قوله تعالى قل فلله الحجة البالغة الأنعام 149 أعم وأتم معنى من أن يقال فلله الحجج البوالغ وكان قوله وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إبراهيم 34 أتم معنى من أن يقال وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها وقوله ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة البقرة 201 أتم معنى من أن يقال حسنات وكذا قوله يستبشرون بنعمة من الله وفضل آل عمران 171 ونظائره كثيرة جدا وسنذكر سر هذا فيما بعد إن شاء الله تعالى
وأما البركة فإنا لما كان مسماها كثرة الخير واستمراره شيئا بعد شيء كلما انقضى منه فرد خلفه فرد آخر فهو خير مستمر يتعاقب الإفراد على الدوام شيئا بعد شيء كان لفظ الجمع أولى بها لدلالته على المعنى المقصود بها ولهذا جاءت في القرآن كذلك في قوله تعالى رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت هود 73 فأفرد الرحمة وجمع البركة وكذلك في السلام في التشهد السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته فصل الرحمة المضافة إلى الله
اعلم أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان
أحدهما مضاف إليه إضافة مفعول إلى فاعله والثاني مضاف إليه إضافة صفة إلى الموصوف بها فمن الأول قوله في الحديث الصحيح احتجت الجنة والنار فذكر الحديث وفيه فقال للجنة إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء // رواه مسلم وأحمد // فهذه رحمة
مخلوقة مضافة إليه إضافة المخلوق بالرحمة إلى الخالق تعالى وسماها رحمة لأنها خلقت بالرحمة وللرحمة وخص بها أهل الرحمة وإنما يدخلها الرحماء
ومنه قوله خلق الله الرحمة يوم خلقها مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض // رواه مسلم والحاكم وروى البخاري نحوه // ومنه قوله تعالى ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة هود 9 ومنه تسميته تعالى للمطر رحمة بقوله وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته الأعراف 57
وعلى هذا فلا يمتنع الدعاء المشهور بين الناس قديما وحديثا وهو قول الداعي اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك وذكره البخاري في كتاب الأدب المفرد له عن بعض السلف وحكى فيه الكراهة قال إن مستقر رحمته ذاته وهذا بناء على أن الرحمة صفة وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة
ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جدا وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها ولهذا لا يحسن أن يقال اجمعنا في مستقر جنتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال حسنت مستقرا ومقاما فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الشيء ولا يصح أن يطلب الداعي الجمع في المكان الذي تستقر فيه الجنة فتأمله ولهذا قال مستقر رحمته ذاته والصواب أن هذا لا يمتنع حتى ولو قال صريحا اجمعنا في مستقر جنتك لم يمتنع وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذابا فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى ما يبينه ويميزه من غيره كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر
ونظير هذا أن يقال اجلس في مستقر المسجد أي المستقر الذي هو المسجد والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ولا مستكرهة وأيضا فإن الجنة وإن سميت رحمة لم يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة وهذا ظاهر جدا فلا يمتنع الدعاء بوجه والله أعلم
وهذا بخلاف قول الداعي يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث فإن الرحمة هنا
صفته تبارك وتعالى وهي متعلق الإستغاثة فإنه لا يستغاث بمخلوق ولهذا كان هذا الدعاء من أدعية الكرب لما تضمنه من التوحيد والإستغاثة برحمة أرحم الراحمين متوسلا إليه باسمين عليهما مدار الأسماء الحسنى كلها وإليهما مرجع معانيها جميعها وهو اسم الحي القيوم فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال ولا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفي كمال الحياة وبهذا الطريق العقلي أثبت متكلمو أهل الإثبات له تعالى صفة السمع والبصر والعلم والإرادة والقدرة والكلام وسائر صفات الكمال
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته فإنه القائم بنفسه لا يحتاج إلى من يقيمه بوجه من الوجوه وهذا من كمال غناه بنفسه عما سواه وهو المقيم لغيره فلا قيام لغيره إلا بإقامته وهذا من كمال قدرته وعزته فانتظم هذان الإسمان صفات الكمال والغنى التام والقدرة التامة
فكأن المستغيث بهما مستغيث بكل اسم من أسماء الرب تعالى وبكل صفة من صفاته فما أولى الإستغاثة بهذين الإسمين أن يكونا في مظنة تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإنالة الطلبات والمقصود أن الرحمة المستغاث بها هي صفة الرب تعالى لا شيء من مخلوقاته كما أن المستعيذ بعزته في قوله أعوذ بعزتك مستعيذ بعزته التي هي صفته لا بعزته التي خلقها يعز بها عباده المؤمنين
وهذا كله يقرر قول أهل السنة إن قول النبي أعوذ بكلمات الله التامات يدل على أن كلماته تبارك وتعالى غير مخلوقة فإنه لا يستعاذ بمخلوق
وأما قوله تعالى حكاية عن ملائكته ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما غافر 7 فهذه رحمة الصفة التي وسعت كل شيء كما قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء الأعراف 156 وسعتها عموم تعلقها بكل شيء كما أن سعة علمه تعالى عموم تعلقه بكل معلوم فصل البركة المضافة لله
وأما البركة فكذلك نوعان أيضا
أحدهما بركة هي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة
وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى
والنوع الثاني بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له عز و جل فهو سبحانه المبارك وعبده ورسوله كما قال المسيح عليه السلام وجعلني مباركا أينما كنت مريم 31 فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك
وأما صفته تبارك فمختصة به تعالى كما أطلقها على نفسه بقوله تبارك الله رب العالمين الأعراف 54 تبارك الذي بيده الملك تبارك الله أحسن الخالقين المؤمنون 14 وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون الزخرف 85 تبارك الذي نزل الفرقان على عبده الفرقان 1 تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك الفرقان 10 تبارك الذي جعل في السماء بروجا الفرقان 61
أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوهما فجاء بناء تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمها وسعتها وهذا معنى قوله من قال من السلف تبارك تعاظم
وقال آخر معناه أن تجيء البركات من قبله فالبركة كلها منه وقال غيره كثر خيره وإحسانه إلى خلقه وقيل اتسعت رأفته ورحمته بهم وقيل تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ومن هنا قيل معناه تعالى وتعاظم وقيل تبارك تقدس والقدس الطهارة وقيل تبارك أي باسمه يبارك في كل شيء وقيل تبارك ارتفع والمبارك المرتفع ذكره البغوي وقيل تبارك أي البركة تكتسب وتنال بذكره
وقال ابن عباس جاء بكل بركة وقيل معناه ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال ذكره البغوي أيضا وحقيقة اللفظة أن البركة كثرة الخير ودوامه ولا أحد أحق بذلك وصفا وفعلا منه تبارك وتعالى
وتفسير السلف يدور على هذين المعنيين وهما متلازمان لكن الأليق باللفظة معنى الوصف لا الفعل فإنه فعل لازم مثل تعالى وتقدس وتعاظم
ومثل هذه الألفاظ ليس معناها أنه جعل غيره عاليا ولا قدوسا ولا عظيما هذا مما لا
يحتمله اللفظ بوجه وإنما معناها في نفس من نسبت إليه فهو المتعالي المتقدس فكذلك تبارك لا يصح أن يكون معناها بارك في غيره وأين أحدهما من الآخر لفظا ومعنى هذا لازم وهذا متعد فعلمت أن من فسر تبارك بمعنى ألقى البركة وبارك في غيره لم يصب معناها وإن كان هذا من لوازم كونه متباركا فتبارك من باب مجد والمجد كثرة صفات الجلال والسعة والفضل وبارك من باب أعطى وأنعم ولما كان المتعدي في ذلك يستلزم اللازم من غير عكس فسر من فسر من السلف اللفظة بالمتعدي لينتظم المعنيين فقال مجيء البركة كلها من عنده أو البركة كلها من قبله وهذا فرع على تبارك في نفسه
وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الفتح المكي وبينا هناك أن البركة كلها له تعالى ومنه فهو المبارك ومن ألقى عليه بركته فهو المبارك ولهذا كان كتابه مباركا وبيته مباركا والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة فليلة القدر مباركة وما حول الأقصى مبارك وأرض الشام وصفها بالبركة في أربعة مواضع من كتابه أو خمسة وتدبر قول النبي في حديث ثوبان الذي رواه مسلم في صحيحه عند انصرافه من الصلاة اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام // رواه مسلم وأبو داود وأحمد // فتأمل هذه الألفاظ الكريمة كيف جمعت نوعي الثناء أعني ثناء التنزيه والتسبيح وثناء الحمد والتمجيد بأبلغ لفظ وأوجزه وأتمه معنى فأخبر أنه السلام ومنه السلام فالسلام له وصفا وملكا وقد تقدم بيان هذا في وصفه تعالى بالسلام وأن صفات كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه كلها سلام وكذا الحمد كله له وصفا وملكا فهو المحمود في ذاته وهو الذي يجعل من يشاء من عباده محمودا فيهبه حمدا من عنده وكذلك العزة كلها له وصفا وملكا وهو العزيز الذي لا شيء أعز منه ومن عز من عباده فبإعزازه له
وكذلك الرحمة كلها له وصفا وملكا
وكذلك البركة فهو المتبارك في ذاته الذي يبارك فيمن شاء من خلقه وعليه فيصير بذلك مباركا فتبارك الله رب العالمين وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون وهذا بساط وإنما غاية معارف العلماء الدنو من أول حواشيه وأطرافه
وأما ما وراء ذلك فكما قال أعلم الخلق بالله وأقربهم إلى الله وأعظمهم عنده جاها لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك // رواه مسلم //
وقال في حديث الشفاعة الطويل فأخر ساجدا لربي فيفتح علي من محامده بما لا أحسنه الآن // رواه البخاري ومسلم //
وفي دعاء الهم والغم أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك // صحيح // فدل على أن لله سبحانه وتعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده دون خلقه لا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل
وحسبنا الإقرار بالعجز والوقوف عند ما أذن لنا فيه من ذلك فلا نغلو فيه ولا نجفو عنه وبالله التوفيق فصل السلام على النبي دون الصلاة عليه
وأما السؤال الرابع والعشرون وهو ما الحكمة في تأكيد الأمر بالسلام على النبي بالمصدر دون الصلاة عليه في قوله صلوا عليه وسلموا تسليما
فجوابه أن التأكيد واقع على الصلاة والسلام وإن اختلفت جهة التأكيد فإنه سبحانه أخبر في أول الآية بصلاته عليه وصلاة ملائكته عليه مؤكدا لهذا الإخبار بحرف إن مخبرا عن الملائكة بصيغة الجمع المضاف إليه وهذا يفيد العموم والإستغراق
فإذا استشعرت النفوس أن شأنه عند الله وعند ملائكته هذا الشأن بادرت إلى الصلاة عليه وإن لم تؤمر بها بل يكفي تنبيهها والإشارة إليها بأدنى إشارة فإذا
أمرت بها لم تحتج إلى تأكيد الأمر بل إذا جاء مطلق الأمر بادرت وسارعت إلى موافقة الله وملائكته في الصلاة عله صلوات الله وسلامه عليه فلم يحتج إلى تأكيد الفعل بالمصدر
ولما خلا السلام عن هذا المعنى وجاء في حيز الأمر المجرد دون الخبر حسن تأكيده بالمصدر ليدل على تحقيق المعنى وتثبيته ويقوم تأكيد الفعل مقام تكريره كما حصل التكرير في الصلاة خبرا وطلبا فكذلك حصل التكريم في السلام فعلا ومصدرا فتأمله فإنه بديع جدا والله أعلم
وقد ذكرنا بعض ما في هذه الآية من الأسرار والحكم العجيبة في كتاب تعظيم شأن الصلاة والسلام على خير الأنام وأتينا فيه من الفوائد بما يساوي أدناها رحلة مما لا يوجد في غيره ولله الحمد فنقتصر على هذه النكتة الواحدة فصل تقديم السلام على النبي في الصلاة قبل الصلاة عليه
وأما السؤال الخامس والعشرين وهو ما الحكمة في تقديم السلام على النبي في الصلاة قبل عليه وهلا وقعت البداءة بما بدأ الله به في الآية
فهذا سؤال أيضا له شأن لا ينبغي الإضراب عنه صفحا وتمشية والنبي كان شديد التحري لتقديم ما قدمه الله والبداءة بما بدأ به
فلهذا بدأ بالصفا في السعي وقال نبدأ بما بدأ الله به // صحيح //
وبدأ بالوجه ثم اليدين ثم الرأس في الوضوء ولم يخل بذلك مرة واحدة بل كان هذا وضوءه إلى أن فارق الدنيا ثم يقدم منه مؤخرا ولم يؤخر منه مقدما قط ولا يقدر أحد أن ينقل عنه خلاف ذلك لا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف ومع هذا فوقع في الصلاة والسلام عليه تقديم السلام وتأخير الصلاة وذلك لسر من أسرار الصلاة نشير إليه بحسب الحال إشارة وهو أن الصلاة قد اشتملت على عبودية جميع الجوارح والأعضاء مع عبودية القلب فلكل عضو منها نصيب من العبودية
فجميع أعضاء المصلي وجوارحه متحركة في الصلاة عبودية لله وذلا وخضوعا فلما أكمل المصلي هذه العبودة وانتهت حركاته ختمت بالجلوس بين يدي الرب تعالى جلوس تذلل وانكسار وخضوع لعظمته عز و جل كما يجلس العبد الذليل بين يدي سيده وكان جلوس الصلاة أخشع ما يكون من الجلوس وأعظمه خضوعا وتذللا فأذن للعبد في هذه الحال بالثناء على الله تبارك وتعالى بأبلغ أنواع الثناء وهو التحيات لله والصلوات والطيبات
وعادتهم إذا دخلوا على ملوكهم أن يحيوهم بما يليق بهم وتلك التحية تعظيم لهم وثناء عليهم والله أحق بالتعظيم والثناء من كل أحد من خلقه فجمع العبد في قوله التحيات والصلوات والطيبات أنواع الثناء على الله وأخبر أن ذلك له وصفا وملكا وكذلك الصلوات كلها لله فهو الذي يصلي له وحده لا لغيره وكذلك الطيبات كلها من الكلمات والأفعال كلها له فكلماته طيبات وأفعاله كذلك وهو طيب لا يصعد إليه إلا طيب والكلم الطيب إليه يصعد فكانت الطيبات كلها له ومنه وإليه له ملكا ووصفا ومنه مجيئها وابتداؤها وإليه مصعدها ومنتهاها والصلاة مشتملة على عمل صالح وكلم طيب والكلم الطيب إليه يصعد والعمل الصالح يرفعه فناسب ذكر هذا عند انتهاء الصلاة وقت رفعها إلى الله تعالى سر السلام على النبي
لما أتى بهذا الثناء على الله تعالى التفت إلى شأن الرسول الذي حصل هذا الخير على يديه فسلم عليه أتم سلام معرف باللام التي للإستغراق مقرونا بالرحمة والبركة هذا هو أصح شيء في السلام عليه فلا تبخل عليه بالألف واللام في هذا المقام
ثم انتقل إلى السلام على نفسه وعلى سائر عباد الله الصالحين وبدأ بنفسه لأنها أهم والإنسان يبدأ بنفسه ثم بمن يعول ثم ختم هذا المقام بعقد الإسلام وهو التشهد بشهادة الحق التي هي أول الأمر وآخره وعندها كل الثناء والتشهد ثم انتقل إلى نوع آخر وهو الدعاء والطلب
فالتشهد يجمع نوعي الدعاء دعاء الثناء والخير ودعاء الطلب والمسألة والأول أشرف النوعين لأنه حق الرب ووصفه والثاني حظ العبد ومصلحته وفي الأثر من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين // ضعيف //
لكن لما كانت الصلاة أتم العبادات عبودية وأكملها شرع فيه النوعين وقدم الأول منهما لفضله ثم انتقل إلى النوع الثاني وهو دعاء الطلب والمسألة فبدأ بأهمه وأجله وأنفعه له وهو طلب الصلاة من الله تعالى على رسوله وهو من أجل أدعية العبد وأنفعها له في دنياه وآخرته كما ذكرناه في كتاب تعظيم شأن الصلاة على النبي
وفيه أيضا أن الداعي جعله مقدمة بين يدي حاجته وطلبه لنفسه وقد أشار إلى النبي إلى هذا المعنى في قوله ثم لينتخب من الدعاء أعجبه إليه وكذلك في حديث فضالة بن عبيد إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه ثم ليصل على النبي ثم ليدع
فتأمل كيف جاء التشهد من أوله إلى آخره مطابقا لهذا منتظما له أحسن انتظام فحديث فضالة هذا هو الذي كشف لنا المعنى وأوضحه وبينه فصلوات الله وسلامه على من أكمل به لنا دينه وأتم برسالته علينا نعمته وجعله رحمة للعالمين وحسرة على الكافرين فصل السلام بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة
وأما السؤال السادس والعشرون وهو ما الحكمة في كون السلام وقع بصيغة الخطاب والصلاة بصيغة الغيبة
فجوابه يظهر مما تقدم فإن الصلاة عليه طلب وسؤال من الله أن يصلي عليه فلا يمكن فيها إلا لفظ الغيبة إذ لا يقال اللهم صل عليك وأما السلام عليه فأتى بلفظ الحاضر المخاطب تنزيلا له منزلة المواجه لحكمة بديعة جدا وهي أنه لما كان أحب إلى المؤمن من نفسه التي بين جنبيه وأولى به منها وأقرب وكانت حقيقته الذهنية ومثاله العلمي موجودا في قلبه بحيث لا يغيب عنه إلا شخصه كما قال القائل
مثالك في عيني وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
ومن كان بهذه الحال فهو الحاضر حقا وغيره وإن كان حاضرا للعيان فهو غائب عن الجنان فكان خطابه خطاب المواجهة والحضور بالسلام عليه أولى من سلام الغيبة تنزيلا له منزلة المواجه المعاين لقربه من القلب وحلوله في جيمع أجزائه بحيث لا يبقى في القلب جزء إلا ومحبته وذكره فيه كما قيل
لو شق عن قلبي يرى وسطه ذكرك ...
والتوحيد في سطر لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا تستنكر استيلاء المحبوب على قلب المحب وغلبته عليه حتى كأنه يراه ولهذا تجدهم في خطابهم لمحبوبهم إنما يعتمدون خطاب الحضور والمشاهدة مع غاية البعد العياني لكمال القرب الروحي فلم يمنعهم بعد الأشباح عن محادثة الأرواح ومخاطبتها ومن كثفت طباعه فهو عن هذا كله بمعزل وإنه ليبلغ الحب ببعض أهله أن يرى محبوبه في القرب إليه بمنزلة روحه التي لا شيء أدنى إليه منها كما قيل
يا مقيما مدى الزمان بقلبي ... وبعيدا عن ناظري وعياني
أنت روحي إن كنت لست أراها ... فهي أدنى إلي من كل داني
وقال آخر
يا ثاويا بين الجوانح والحشا ... مني وإن بعدت علي دياره
وإنه ليلطف شأن المحبة حتى يرى أنه أدنى إليه وأقرب من روحه وهذه أبيات تلم بذلك
وأدنى إلى الصب من نفسه ... وإن كان عن عينه نائيا
ومن كان مع حبه هكذا ... فأنى يكون له ساليا
ثم يلطف شأنها ويقهر سلطانها حتى يغيب المحب بمحبوبه عن نفسه فلا يشعر
إلا بمحبوبه ولا يشعر بنفسه ومن هنا نشأت الشطحات الصوفية التي مصدرها عن قوة الوارد وضعف التمييز فحكم صاحبها فيها الحال على العلم وجعل الحكم له وعزل علمه من البين وحكم المحفوظون فيها حاكم العلم على سلطان الحال وعلموا أن كل حال لا يكون العلم حاكما عليه فإنه لا ينبغي أن يغتر به ولا يسكن إليه إلا كما يساكن المغلوب المقهور لما يرد عليه مما يعجز عن دفعه وهذه حال الكمل من القوم الذين جمعوا بين نور العلم وأحوال من المعاملة فلم تطفيء عواصف أحوالهم نور علمهم ولم يقصر بهم علمهم عن الترقي إلى ما وراءه من مقامات الإيمان والإحسان فهؤلاء حكام على الطائفتين
ومن عداهم فمحجوب بعلم لا نفوذ له فيه أو مغرور بحال لا علم له بصحيحه من فاسده والله تعالى المسؤول من فضله إنه قريب مجيب فالكامل من يحكم العلم على الحال فيتصرف في حاله بعلمه ويجعل العلم بمنزلة النور الذي يميز به الصحيح من الفاسد لا من يقدح في العلم بالحال ويجعل الحال معيارا عليه وميزانا فما وافق حاله من العلم قبله وما خالفه رده ونفاه فهذا أصل الضلال في هذا الباب بل الواجب تحكيم العلم والرجوع إلى حكمه وبهذا أوصى العارفون من شيوخ الطريق كلهم وحرضوا على العلم أعظم تحريض لعلمهم بما في الحال المجرد عنه من الغوائل والمهالك والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم البقرة 213 فصل الثناء على الله في التشهد
وأما السؤال السابع والعشرون وهو ما الحكمة في ورود الثناء على الله في التشهد بلفظ الغيبة مع كونه سبحانه هو المخاطب الذي يناجيه العبد والسلام على النبي بلفظ الخطاب مع كونه غائبا
فجوابه أن الثناء على الله عامة ما يجيء مضافا إلى أسمائه الحسنى الظاهرة دون الضمير إلا أن يتقدم ذكر الإسم الظاهر فيجيء بعده المضمر وهذا نحو قول المصلي الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد الفاتحة 1 5 وقوله في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى
وفي هذا من السر أن تعليق الثناء بأسمائه الحسنى هو لما تضمنت معانيها من صفات
الكمال ونعوت الجلال فأتى بالإسم الظاهر الدال على المعنى الذي يثنى به ولأجله عليه تعالى ولفظ الضمير لا إشعار له بذلك ولهذا إذا كان ولا بد من الثناء عليه بخطاب المواجهة أتى بالإسم الظاهر مقرونا بميم الجمع الدالة على جمع الأسماء والصفات نحو قوله في رفع رأسه من الركوع اللهم ربنا لك الحمد وربما اقتصر على ذكر الرب تعالى لدلالة لفظه على هذا المعنى فتأمله فإنه لطيف المنزع جدا
وتأمل كيف صدر الدعاء المتضمن للثناء والطلب بلفظة اللهم كما في سيد الإستغفار اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك // رواه البخاري // والترمذي والنسائي الحديث وجاء الدعاء المجرد مصدرا بلفظ الرب نحو قول المؤمنين ربنا اغفر لنا ذنوبنا آل عمران 147 وقول آدم ربنا ظلمنا أنفسنا الأعراف 23 وقول موسى رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي وقول نوح رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم هود 47 وكان النبي يقول بين السجدتين رب اغفر لي رب اغفر لي // صحيح //
وسر ذلك أن الله تعالى يسئل بربوبيته المتضمنة قدرته وإحسانه وتربيته عبده وإصلاح أمره ويثنى عليه بإلاهيته المتضمنة إثبات ما يجب له من الصفات العلى والأسماء الحسنى وتدبر طريقة القرآن تجدها كما ذكرت لك
فأما الدعاء فقد ذكرنا منه أمثلة وهو في القرآن حيث وقع لا يكاد يجيء إلا مصدرا باسم الرب
وأما الثناء فحيث وقع فمصدر بالأسماء الحسنى وأعظم ما يصدر به اسم الله جل جلاله نحو الحمد لله الفاتحة 2 حيث جاء ونحو فسبحان الله الأنبياء 22 وجاء سبحان ربك رب العزة الصافات 180 ونحوه سبح لله ما في السموات وما في الأرض الحشر 1 حيث وقعت ونحو تبارك الله رب العالمين الأعراف 54 فتبارك الله أحسن الخالقين المؤمنون 14 تبارك الذي نزل الفرقان على عبده الفرقان 1 ونظائره
وجاء في دعاء المسيح اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء المائدة 14 فذكر الأمرين ولم يجيء في القرآن سواه ولا رأيت أحدا تعرض لهذا ولا نبه عليه
سر عجيب دال على كمال معرفة المسيح بربه وتعظيمه له فإن هذا السؤال كان عقيب سؤال قومه له هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء المائ 112 فخوفهم الله وأعلمهم أن هذا مما لا يليق أن يسأل عنه وأن الإيمان يرده فلما ألحوا في الطلب وخاف المسيح أن يداخلهم الشك إن لم يجابوا إلى ما سألوا بدأ في السؤال باسم اللهم الدال على الثناء على الله بجميع أسمائه وصفاته ففي ضمن ذلك تصوره بصورة المثني الحامد الذاكر لأسماء ربه المثني عليه بها وأن المقصود من هذا الدعاء وقضاء هذه الحاجة إنما هو أن يثني على الرب بذلك ويمجده به ويذكر آلاءه ويظهر شواهد قدرته وربوبيته ويكون برهانا على صدق رسوله فيحصل بذلك من زيادة الإيمان والثناء على الله أمر يحسن معه الطلب ويكون كالعذر فيه فأتى بالإسمين اسم الله الذي يثني عليه به واسم الرب الذي يدعي ويسأل به لما كان المقام مقام الأمرين
فتأمل هذا السر العجيب ولا يثب عنه فهمك فإنه من الفهم الذي يؤتيه الله من يشاء في كتابه وله الحمد وأما السلام على النبي بلفظ الخطاب فقد ذكرنا سره في الوجه الذي قبل هذا فالعهد به قريب فصل السلام في آخر الصلاة وتعريفه
أما السؤال الثامن والعشرون فقد يتضمن ذلك سؤالين أحدهما ما السر في كون السلام في آخر الصلاة والثاني لم كان معرفا
والجواب أما اختتام الصلاة به فقد جعل الله تعالى لكل عبادة تحليلا منها فالتحليل من الحج بالرمي وما بعده وكذلك التحليل من الصوم بالفطر بعد الغروب فجعل السلام تحليلا من الصلاة كما قال النبي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم // صحيح // تحريمها هنا هو بابها الذي يدخل منه إليها وتحليلها بابها الذي يخرج به منها
فجعل التكبير باب الدخول والتسليم باب الخروج لحكمة بديعة بالغة يفهمها من عقل عن الله وألزم نفسه بتأمل محاسن هذا الدين العظيم وسافر فكره في استخراج حكمه وأسراره وبدائعه وتغرب عن عالم العادة والألف فلم يقنع بمجرد الأشباح حتى يعلم ما يقوم به من الأرواح فإن الله تعالى لم يشرع شيئا سدى ولا خلوا من حكمة بالغة بل في طوايا ما شرعه وأمر به من الحكم والأسرار التي تبهر العقول ما يستدل به الناظر فيه على وراءه فيسجد القلب خضوعا وإذعانا
فنقول وبالله التوفيق لما كان المصلي قد تخلى عن الشواغل وقطع جميع العلائق وتطهر وأخذ زينته وتهيأ للدخول على الله تعالى ومناجاته شرع له أن يدخل عليه دخول العبيد على الملوك فيدخل بالتعظيم والإجلال فشرع له أبلغ لفظ يدل على هذا المعنى وهو قول الله أكبر فإن في اللفظ من التعظيم والتخصيص والإطلاق في جانب المحذوف المجرور بمن ما لا يوجد في غيره ولهذا كان الصواب أن غير هذا اللفظ لا يقوم مقامه ولا يؤدي معناه ولا تنعقد الصلاة إلا به كما هو مذهب أهل المدينة وأهل الحديث
فجعل هذا اللفظ واستشعار معناه والمقصود باب الصلاة الذي يدخل العبد على ربه منه فإنه إذا استشعر بقلبه أن الله أكبر من كل ما يخطر بالبال استحيا منه أن يشغل قلبه في الصلاة بغيره فلا يكون موفيا لمعنى الله أكبر ولا مؤديا لحق هذا اللفظ ولا أتى البيت من بابه بل الباب عنه مسدود
وهذا بإجماع السلف أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها وحضره بقلبه وما أحسن ما قال أبو الفرج بن الجوزي في بعض وعظه حضور القلب أول منزل من منازل الصلاة فإذا نزلته انتقلت إلى بادية المعنى فإذا رحلت عنها أنخت بباب المناجاة فكان أول قرى الضيف اليقظة وكشف الحجاب لعين القلب فكيف يطمع في دخول مكة من لا خرج إلى البادية وقد تبعث قلبك في كل واد فربما تفجأك الصلاة وليس قلبك عندك فتبعث الرسول وراءه فلا يصادفه فتدخل في الصلاة بغير قلب
والمقصود أنه قبيح بالعبد أن يقول بلسانه الله أكبر وقد امتلأ قلبه بغير الله فهو قبلة قلبه في الصلاة ولعله لا يحضر بين يدي ربه في شيء منها فلو قضى حق الله أكبر وأتى البيت من بابه لدخل وانصرف بأنواع التحف والخيرات فهذا الباب الذي يدخل منه المصلى وهو التحريم
وأما الباب الذي يخرج منه فهو باب السلام المتضمن أحد الأسماء الحسنى فيكون مفتتحا لصلاته باسمه تبارك وتعالى ومختتما لها باسمه فيكون ذاكرا لاسم ربه أول الصلاة وآخرها فأولها باسمه وآخرها باسمه فدخل فيها باسمه وخرج منها باسمه مع ما في اسم السلام من الخاصية والحكمة المناسبة لانصراف المصلي من بين يدي الله تعالى فإن المصلي ما دام في صلاته بين يدي ربه فهو في حماه الذي لا يستطيع أحد أن يخفره بل هو في حمى من جميع الآفات والشرور فإذا انصرف من بين يديه تبارك وتعالى ابتدرته الآفات والبلايا والمحن وتعرضت له من كل جانب وجاءه الشيطان بمصائده وجنده فهو متعرض لأنواع البلايا والمحن فإذا انصرف من بين يدي الله مصحوبا بالسلام لم يزل عليه حافظ من الله إلى وقت الصلاة الأخرى وكان من تمام النعمة عليه أن يكون انصرافه من بين يدي ربه بسلام يستصحبه ويدوم له ويبقى معه
فتدبر هذا السر الذي لو لم يكن في هذا التعليق غيره لكان كافيا فكيف وفيه من الأسرار والفوائد ما لا يوجد عند أبناء الزمان والحمد في ذلك لله وحده فكما أن المنعم به هو الله وحده فالمحمود عليه هو الله وحده
وقد عرف بهذا جواب السؤال الثاني وهو مجيء السلام هنا معرفا ليكون دالا على اسمه السلام وليكن هذا آخر الكلام في مسألة سلام عليكم فلولا قصد الإختصار لجاءت مجلدا ضخما هذا ولم تتعرض فيها إلى المسائل المسطورة في الكتب من فروع السلام ومسائله فإنها مملوءة فمن أرادها فليأخذها من هناك والحمد لله رب العالمين المعوذتان
تفسير المعوذتين ما ورد في المعوذتين من الأحاديث
روى مسلم في صحيحه من حديث بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس وفي لفظ آخر من رواية محمد بن إبراهيم التيمي عن عقبة أن رسول الله قال له ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون قلت بلى قال قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس وفي الترمذي حدثنا قتيبة بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن علي بن رباح عن عقبة بن عامر قال أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين في دبر كل صلاة // إسناده فيه ضعف وهو صحيح لغيره // قال هذا حديث غريبوفي الترمذي والنسائي وسنن أبي داود عن عبدالله بن حبيب قال خرجنا في ليلة مطر وظلمة نطلب النبي ليصلي لنا فأدركناه فقال قل فلم أقل شيئا ثم قال قل فلم أقل شيئا ثم قال قل قلت يا رسول الله ما أقول قال قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات تكفيك من كل شيء // صحيح // قال الترمذي حديث حسن صحيح
وفي الترمذي أيضا من حديث الجريري عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذهما وترك ما سواهما // حسن // قال وفي الباب عن أنس وهذا حديث غريب نفث النبي بالمعوذتين
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي كان إذا آوى إلى فراشه نفث في كفيه ب قل هو الله أحد والمعوذتين جميعا ثم يسمح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده قالت عائشة فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك به // رواه البخاري ومسلم وأبو داود // قلت هكذا رواه يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة ذكره البخاري ورواه مالك عن الزهري عن عروة عنها أن النبي كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيده رجاء بركتها // رواه البخاري ومسلم //
كذلك قال معمر عن الزهري عن عروة عنها أن النبي كان ينفث على نفسه في مرضه الذي قبض فيه بالمعوذات فلما ثقل كنت أنا أنفث عليه بهن وأمسح بيده نفسه لبركتها فسألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه // رواه البخاري //
ذكره البخاري أيضا وهذا هو الصواب أن عائشة كانت تفعل ذلك والنبي لم يأمرها ولم يمنعها من ذلك وأما أن يكون استرقى وطلب منها أن ترقيه فلا ولعل بعض الرواة رواه بالمعنى فظن أنها لما فعلت ذلك وأقرها على رقيته فليس أحدهما بمعنى الآخر ولعل الذي كان يأمرها به إنما هو المسح على نفسه بيده فيكون هو الراقي لنفسه
ويده لما ضعفت عن التنقل على سائر بدنه أمرها أن تنقلها على بدنه ويكون هذا غير قراءتها هي عليه ومسحها على يديه فكانت تفعل هذا وهذا والذي أمرها به إنما هو تنقل يده لا رقيته والله أعلم
والمقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما وشدة الحاجة بل
الضرورة إليهما وأنه لا يستغني عنهما أحد قط وأن لهما تأثيرا خاصا في دفع السحر والعين وسائر الشرور وأن حاجة العبد إلى الإستعاذة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس والطعام والشراب واللباس
فنقول والله المستعان قد اشتملت السورتان على ثلاثة أصول وهي أصول الإستعاذة أحدها نفس الإستعاذة والثانية المستعاذ به والثالثة المستعاذ منه فبمعرفة ذلك تعرف شدة الحاجة والضرورة إلى هاتين السورتين فلنعقد لهما ثلاثة فصول الفصل الأول في الإستعاذة والثاني في المستعاذ به والثالث في المستعاذ منه
الفصل الأول الإستعاذة وبيان معناها
اعلم أن لفظ عاذ وما تصرف منها يدل على التحرز والتحصن والنجاة وحقيقة معناها الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا كما يسمى ملجأ ووزراوفي الحديث أن ابنة الجون لما أدخلت على النبي فوضع يده عليها قالت أعوذ بالله منك فقال لها قد عذت بمعاذ الحقي بأهلك // رواه البخاري // فمعنى أعوذ ألتجيء وأعتصم وأتحرز وفي أصله قولان
أحدهما أنه مأخوذ من الستر والثاني أنه مأخوذ من لزوم المجاورة فأما من قال إنه من الستر قال العرب تقول للبيت الذي في أصل الشجرة التي قد استتر بها عوذ بضم العين وتشديد الواو وفتحها فكأنه لما عاذ بالشجرة واستتر بأصلها وظلها سموه عوذا فكذلك العائد قد استتر من عدوه بمن استعاذ به منه واستجن به منه
ومن قال هو لزوم المجاورة قال العرب تقول للحم إذا لصق بالعظم فلم يتخلص منه عوذ لأنه اعتصم به واستمسك به فكذلك العائذ قد استمسك بالمستعاذ به واعتصم به ولزمه والقولان حق والإستعاذة تنتظمهما معا فإن المستعيذ مستتر
بمعاذه متمسك به معتصم به قد استمسك قلبه به ولزمه كما يلزم الولد أباه إذا أشهر عليه عدوه سيفا وقصده به فهرب منه فعرض له أبوه في طريق هربه فإنه يلقي نفسه عليه ويستمسك به أعظم استمساك فكذلك العائذ قد هرب من عدوه الذي يبغي هلاكه إلى ربه ومالكه وفر إليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ إليه
وبعد فمعنى الإستعاذة القائم بقلبه وراء هذه العبارات وإنما هي تمثيل وإشارة وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب حينئذ من الإلتجاء والإعتصام والإنطراح بين يدي الرب والإفتقار إليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة
ونظير هذا التعبير عن معنى محبته وخشيته وإجلاله ومهابته فإن العبارة تقصر عن وصف ذلك ولا تدرك إلا بالإتصاف بذلك لا بمجرد الصفة والخبر كما أنك إذا وصفت لذة الوقاع لعنين لم تخلق له شهوة أصلا فلو قربتها وشبهتها بما عساك أن تشبهها به لم تحصل حقيقة معرفتها في قلبه فإذا وصفتها لمن خلقت فيه وركبت فيه عرفها بالوجود والذوق
وأصل هذا الفعل أعوذ بتسكين العين وضم الواو ثم أعل بنقل حركة الواو إلى العين وتسكين الواو فقالوا أعوذ على أصل هذا الباب ثم طردوا إعلاله فقالوا في اسم الفاعل عائذ وأصله عاوذ فوقعت الواو بعد ألف فاعل فقلبوها همزة كما قالوا قائم وخائف وقالوا في المصدر عياذا بالله وأصله عواذا كلواذ فقلبوا الواو ياء لكسرة ما قبلها ولم تحصنها حركتها لأنها قد ضعفت بإعلالها في الفعل وقالوا مستعيذ وأصله مستعوذ كمستخرج فنقلوا كسرة الواو إلى العين قبلها ثم قلبت الواو قبلها كسرة فقلبت ياء على أصل الباب
فإن قلت فلم دخلت السين والتاء في الأمر من هذا الفعل كقوله فاستعذ بالله ولم تدخل في الماضي والمضارع بل الأكثر أن يقال أعوذ بالله وعذت بالله دون أستعيذ واستعذت
قلت السين والتاء دالة على الطلب فقوله أستعيذ بالله أي أطلب العياذ به كما إذا قلت أستخير الله أي أطلب خيرته وأستغفره أي أطلب مغفرته وأستقيله أي أطلب إقالته فدخلت في الفعل إيذانا لطلب هذا المعنى من المعاذ فإذا قال المأمور أعوذ بالله فقد امتثل ما طلب منه لأنه طلب منه الإلتجاء والإعتصام وفرق بين نفس الإلتجاء والإعتصام وبين طلب ذلك فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله أتى بالفعل الدال على ذلك دون الفعل الدال على طلب ذلك فتأمله
وهذا بخلاف ما إذا قيل أستغفر الله فقال أستغفر الله فإنه طلب منه أن يطلب المغفرة من الله فإذا قال أستغفر الله كان ممتثلا لأن المعنى أطلب من الله تعالى أن يغفر لي
وحيث أراد هذا المعنى في الإستعاذة فلا ضير أن يأتي بالسين فيقول أستعيذ بالله تعالى أي أطلب منه أن يعيذني ولكن هذا معنى غير نفس الإعتصام والإلتجاء والهرب إليه فالأول يخبر عن حاله وعياذه بربه وخبره يتضمن سؤاله وطلبه أن يعيذه والثاني طالب سائل من ربه أن يعيذه كأنه يقول أطلب منك أن تعيذني فحال الأول أكمل مجيء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر
ولهذا جاء عن النبي في امتثال هذا الأمر أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأعوذ بكلمات الله التامات وأعوذ بعزة الله وقدرته دون أستعيذ بل الذي علمه الله إياه أن يقول أعوذ برب الفلق أعوذ برب الناس دون أستعيذ فتأمل هذه الحكمة البديعة
فإن قلت فكيف جاء امتثال هذا الأمر بلفظ الأمر والمأمور به فقال قل أعوذ برب الفلق الفلق 1 وقل أعوذ برب الناس ومعلوم أنه إذا قيل قل الحمد لله وقل سبحان الله فإن امتثاله أن يقول الحمد لله وسبحان الله ولا يقول قل سبحان الله
قلت هذا هو السؤال الذي أورده أبي بن كعب على النبي بعينه وأجابه عنه رسول الله فقال البخاري في صحيحه حدثنا قتيبة ثنا سفيان عن عاصم وعبده عن زر قال سألت أبي بن كعب عن المعوذتين فقال سألت رسول الله فقال قيل لي فقلت فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم // رواه البخاري ثم قال حدثنا علي بن عبدالله ثنا سفيان ثنا عبدة بن أبي لبابة عن زر بن حبيش وحدثنا عاصم عن زر قال سألت أبي بن كعب قلت أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا فقال إني سألت رسول الله فقال قيل لي فقلت قل فنحن نقول كما قال رسول الله
قلت مفعول القول محذوف وتقديره قيل لي قل أو قيل لي هذا اللفظ فقلت كما قيل لي وتحت هذا السر أن النبي ليس له في القرآن إلا بلاغة لا أنه هو أنشأه من قبل نفسه بل هو المبلغ له عن الله
وقد قال الله له قل أعوذ برب الفلق فكان يقتضي البلاغ التام أن يقول قل أعوذ برب الفلق كما قال الله وهذا هو المعنى الذي أشار النبي إليه بقوله قيل لي فقلت أي إني لست مبتدئا بل أنا مبلغ أقول كما يقال لي وأبلغ كلام ربي كما أنزله إلي فصلوات الله وسلامه عليه لقد بلغ الرسالة وأدى الأمانة وقال كما قيل له فكفانا وشفانا من المعتزلة والجهمية وإخوانهم ممن يقول هذا القرآن العربي
وهذا النظم كلامه ابتدأ هو به ففي هذا الحديث أبين الرد لهذا القول وأنه بلغ القول الذي أمر بتبليغه على وجهه ولفظه حتى أنه لما قيل له قل لأنه مبلغ محض وما على الرسول إلا البلاغ
الفصل الثاني المستعاذ به هو الله
المستعاذ به وهو الله وحده رب الفلق ورب الناس ملك الناس إله الناس الذي لا ينبغي الإستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه بل هو الذي يعيذ المستعيذين ويعصمهم ويمنعهم من شر ما استعاذوا من شرهوقد أخبر الله تعالى في كتابه عمن استعاذ بخلقه أن استعاذته زادته طغيانا ورهقا فقال حكاية عن مؤمني الجن وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا الجن 6 جاء في التفسير أنه كان الرجل من العرب في الجاهلية إذا سافر فأمسى في أرض قفر قال أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح أي فزاد الإنس الجن باستعاذتهم بسادتهم رهقا أي طغيانا وإثما وشرا يقولون سدنا الإنس والجن
والرهق في كلام العرب الإثم وغشيان المحارم فزادوهم بهذه الإستعاذة غشيانا لما كان محظورا من الكبر والتعاظم فظنوا أنهم سادوا الإنس والجن
واحتج أهل السنة على المعتزلة في أن كلمات الله غير مخلوقة بأن النبي استعاذ بقوله أعوذ بكلمات الله التامات // رواه مسلم // وهو لا يستعيذ بمخلوق أبدا
ونظير ذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك // رواه مسلم // فدل على أن رضاه وعفوه من صفاته وأنه غير مخلوق وكذلك قوله أعوذ بعزة الله وقدرته // أخرجه مسلم // وقوله أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات // إسناده قابل للتحسين // وما استعاذ به النبي غير مخلوق فإنه لا يستعيذ إلا بالله أو صفة من صفاته
وجاءت الإستعاذة في هاتين السورتين باسم الرب والملك والإله وجاءت الربوبية فيها مضافة إلى الفلق وإلى الناس ولا بد من أن يكون ما وصف به نفسه في هاتين السورتين يناسب الإستعاذة المطلوبة ويقتضي دفع الشر المستعاذ منه أعظم مناسبة وأبينها وقد قررنا في مواضع متعددة أن الله سبحانه يدعى بأسمائه الحسنى فيسأل لكل مطلوب باسم يناسبه باسم ويقتضيه
وقد قال النبي في هاتين السورتين أنه ما تعوذ المتعوذون بمثلها فلا بد أن يكون الإسم المستعاذ به مقتضيا للمطلوب وهو دفع الشر المستعاذ منه أو رفعه وإنما يتقرر هذا بالكلام في الفصل الثالث وهو الشيء المستعاذ منه فتتبين المناسبة المذكورة فنقول
الفصل الثالث الشرور المستعاذ منها
في أنواع الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الذي يصيب العبد لا يخلو من قسمين إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالا بصاحبه وإما شر واقع به من غيره وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف والمكلف إما نظيره وهو الإنسان أو ليس نظيره وهو الجني وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمى وغيرهافتضمنت هاتان السورتان الإستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه وأدله على المراد وأعمه استعاذة بحيث لم يبق شر من الشرور إلا دخل تحت الشر المستعاذ منه فيهما
فإن سورة الفلق تضمنت الإستعاذة من أمور أربعة أحدها شر المخلوقات التي لها شر عموما الثاني شر الغاسق إذا وقب الثالث شر النفاثات في العقد الرابع شر الحاسد إذا حسد فنتكلم على هذه الشرور الأربعة ومواقعها واتصالها بالعبد والتحرز منها قبل وقوعها وبماذا تدفع بعد وقوعها
وقبل الكلام في ذلك لا بد من بيان الشر ما هو وما حقيقته فنقول الشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي إليه وليس له مسمى سوى ذلك
فالشرور هي الآلام وأسبابها فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور وإن كان لصاحبها فيا نوع غرض ولذة لكنها شرور لأنها أسباب الآلام ومفضية إليها كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها ولا بد ما لم يمنع السببية مانع أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان وعظمة الحسنات الماحية وكثرتها فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى للأضعف
وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض وأسباب الضعف والقوة والمقصود أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذا لآكله وطاب له مساغه وبعد قليل يفعل به ما يفعل فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال الرعد 11
ومن تأمل ما قص الله تعالى في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم وجد سبب ذلك جميعه إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس
ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له والمقصود أن هذه الأسباب شرور ولا بد وأما كون مسبباتها شرورا فلأنها آلام نفسية وبدنية فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم والغموم والأحزان والحسرات
ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرا كان مفعولا فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء فحينئذ يقول يا ليتني قدمت لحياتي الفجر 24 ويا حسرتي على ما فرطت في جنب الله الزمر 56 مدار المستعاذات على الآلام وأسبابها
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي جميعها مدارها على هذين الأصلين فكل ما استعاذ منه أو أمر بالإستعاذة منه فهو إما مؤلم وإما سبب يفضي إليه فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع وأمر بالإستعاذة منهن وهي عذاب القبر وعذاب النار فهذان أعظم المؤلمات وفتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال // رواه البخاري ومسلم والنسائي // وهذان سبب العذاب المؤلم فالفتنة سبب العذاب وذكر الفتنة خصوصا
وعموما وذكر نوعي الفتنة لأنها إما في الحياة وإما بعد الموت ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ فعادت الإستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها وهذا من أكد أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير وأوجبه ابن حزم في كل تشهد فإن لم يأت به بطلت صلاته استعاذة النبي من ثمانية أشياء
ومن ذلك قوله اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال // رواه البخاري ومسلم والنسائي // فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح ومعذباتها والفرق بينهما أن الهم توقع الشر في المستقبل والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح فإن تعلق بالماضي سمي حزنا وإن تعلق بالمستقبل سمي هما
والعجز والكسل قرينان وهما من أسباب الألم لأنهما يستلزمان فوات المحبوب فالعجز يستلزم عدم القدرة والكسل يستلزم عدم إرادته فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به والتذاذها بإدراكه لو حصل
والجبن والبخل قرينان لأنهما عدم النفع بالمال والبدن وهما من أسباب الألم لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة والبخل يحول بينه دونها أيضا فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان وهما مؤلمان للنفس معذبان لها أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره
ومن ذلك تعوذه من المأثم والمغرم // رواه البخاري // فإنهما يسببان الألم العاجل ومن ذلك قوله أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك // رواه مسلم // فالسخط سبب الألم والعقوبة هي الألم فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها
فصل الشر المستعاذ منه
والشر المستعاذ منه نوعان أحدهما موجود يطلب رفعه والثاني معدوم يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد كما أن الخير المطلق نوعان أحدهما موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه والثاني معدوم فيطلب وجوده وحصوله مطالب العباد أربعة
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين وعليها مدار طلباتهم وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا فهذا الطلب لدفع الشر الموجود فإن الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه
ثم قال وتوفنا مع الأبرار فهذا طلب لدوام الخير الموجود وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه فهذان قسمان ثم قال ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك آل عمران 194 فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه
ثم قال ولا تخزنا يوم القيامة فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة فانتظمت الآيتان للمطالب الأربعة أحسن انتظام مرتبة أحسن ترتيب قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة فإذا عرف هذا فقوله في تشهد الخطبة ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا // صحيح // يتناول الإستعاذة من شر النفس الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة فيسأل دفعه وأن لا يوجد
وأما قوله من سيئات أعمالنا ففيه قولان أحدهما أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت فيكون الحديث قد تناول نوعي الإستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد ومن الشر الموجود فطلب دفع الأول ورفع الثاني والقول الثاني أن سيئات
الأعمال هي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها وعلى هذا يكون من استعاذة الدفع أيضا دفع المسبب والأول دفع السبب فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه وعلى الأول يكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبب إلى سببه والمعلول إلى علته كأنه قال من عقوبة عملي والقولان محتملان فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به فإن مع كل واحد منهما نوعا من الترجيح فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس فشر النفس يولد الأعمال السيئة فاستعاذ من صفة النفس ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة وهذان جماع الشر وأسباب كل ألم فمتى عوفي منها عوفي من الشر بحذافيره
ويترجح الثاني بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل وأسبابها شر النفس فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها والقولان في الحقيقة متلازمان والإستعاذة من أحدهما تستلزم الإستعاذة من الآخر فصل
ولما كان الشر له سبب هو مصدره وله مورد ومنتهى وكان السبب إما من ذات العبد وإما من خارجه ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره كان هنا أربعة أمور شر مصدره من نفسه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى وشر مصدره من غيره وهو السبب فيه ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى
جمع النبي هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم // صحيح // فذكر مصدري الشر وهما النفس والشيطان وذكر مورده ونهايتيه وهما عوده على النفس أو على أخيه المسلم فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظه وأخصره وأجمعه وأبينه
فصل الشرور المستعاذ منها في المعوذتين الشر الأول في قوله من شر ما خلق الفلق 2
فإذا عرفت هذا فلنتكلم على الشرور المستعاذ منها في هاتين السورتين الشر الأول العام في قوله من شر ما خلق وما ههنا موصولة ليس إلا والشر مسند في الآية إلى المخلوق المفعول لا إلى خلق الرب تعالى الذي هو فعله وتكوينه فإنه لا شر فيه بوجه ما فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام
ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلا ولو فعل الشر سبحانه لاشتق له منه اسم ولم تكن أسماؤه كلها حسنى ولعاد إليه منه حكم تعالى وتقدس عن ذلك وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض إذ هو محض العدل والحكمة وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم فالشر وقع في تعلقه بهم وقيامه بهم لا في فعله القائم به تعالى ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة فإنه خالق الخير والشر
ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على باب
أحدهما أن ما هو شر أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلا لا يكون وصفا له ولا فعلا من أفعاله
الثاني أن كونه شرا هو أمر نسبي إضافي فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه فله وجهان هو من أحدهما خير وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى خلقا وتكوينا ومشيئة لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مباديء معرفتها فضلا عن حقيقتها فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد وفاعل الشر لا يفعله لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلا وإن كان هو الخالق للخير والشر فقد عرفت أن كونه شرا هو أمر إضافي وهو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه
فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك بابا عظيما من معرفة الرب ومحبته ويزيل
عنك شبهات حارث فيها عقول أكثر الفضلاء وقد بسطت هذا في كتاب التحفة المكية وكتاب الفتح القدسي وغيرهما الشر في أفعاله تعالى أمر نسبي
وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة أحدها أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس لما فيه من حفظ أموالهم ودفع الضرر عنهم وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمرا وحكما لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموما بإتلاف هذا العضو المؤذي لهم المضر بهم فهو محمود على حكمه بذلك وأمره به مشكور عليه يستحق عليه الحمد من عباده والثناء عليه والمحبة
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم وجلد من يصول عليهم في أعراضهم فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به
أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي فالشر ما قام به من تلك العقوبة وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم
والسر الذي يطلعك على مسألة القدر ويفتح لك الطريق إلى الله ومعرفة حكمته ورحمته وإحسانه إلى خلقه وأنه سبحانه كما أنه البر الرحيم الودود المحسن فهو الحكيم الملك العدل فلا تناقض حكمته رحمته بل يضع رحمته وبره وإحسانه موضعه ويضع عقوبته وعدله وانتقامه وبأسه موضعه وكلاهما مقتضى عزته وحكمته وهو العزيز الحكيم فلا يليق بحكمته أن يضع رضاه ورحمته موضع العقوبة والغضب ولا يضع غضبه وعقوبته موضع رضاه ورحمته ولا يلتفت إلى قول من غلظ حجابه عن الله تعالى أن الأمرين بالنسبة إليه على حد سواء ولا فرق أصلا وإنما هو محض المشيئة بلا سبب ولا حكمة
وتأمل القرآن من أوله إلى آخره كيف تجده كفيلا بالرد على هذه المقالة وإنكارها أشد الإنكار وتنزيه نفسه عنها كقوله تعالى أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون القلم 35 وقوله أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون
الجاثية 21 وقوله أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ص 28 فأنكر سبحانه على من ظن هذا الظن ونزه نفسه عنه فدل على أنه مستقر في الفطر والعقول السليمة أن هذا لا يكون ولا يليق بحكمته وعزته وإلاهيته لا إله هو تعالى عما يقول الجاهلون علوا كبيرا
وقد فطر الله عقول عباده على استقباح وضع العقوبة والإنتقام في موضع الرحمة والإحسان ومكافأة الصنع الجميل بمثله وزيادة فإذا وضع العقوبة موضع ذلك استنكرته فطرهم وعقولهم أشد الإستنكار واستهجنته أعظم الإستهجان وكذلك وضع الإحسان والإكرام في موضع العقوبة والإنتقام كما إذا جاء إلى من يسيء إلى العالم بأنواع الإساءة في كل شيء من أموالهم وحريمهم ودمائهم فأكرمه غاية الإكرام ورفعه وكرمه فإن الفطر والعقول تأبى استحسان هذا وتشهد على سفه من فعله
هذه فطرة الله التي فطر الناس عليها فما للعقول والفطر لا تشهد حكمته البالغة وعزته وعدله في وضع عقوبته في أولى المحال بها وأحقها بالعقوبة وأنها لو أوليت النعم لم تحسن بها ولم تلق ولظهرت مناقضة الحكمة كما قال الشاعر
نعمة الله لا تعاب ولكن ... ربما استقبحت على أقوام
فهكذا نعم الله لا تليق ولا تحسن ولا تجمل بأعدائه الصادين عن سبيله الساعين في خلاف مرضاته الذين يرضون إذا غضب ويغضبون إذا رضى ويعطلون ما حكم به ويسعون في أن تكون الدعوة لغيره والحكم لغيره والطاعة لغيره فهم مضادون في كل ما يريد يحبون ما يبغضه ويدعون إليه ويبغضون ما يحبه وينفرون عنه ويوالون أعداءه وأبغض الخلق إليه ويظاهرونهم عليه وعلى رسوله كما قال تعالى وكان الكافر على ربه ظهيرا الفرقان 55 وقال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو الكهف 50 فتأمل ما تحت هذا الخطاب الذي يسلب الأرواح حلاوة وعقابا وجلالة وتهديدا كيف صدره بإخبارنا أنه أمر إبليس بالسجود لأبينا فأبى ذلك فطرده ولعنه وعاداه من أجل إبائه عن السجود لأبينا ثم أنتم توالونه من دوني وقد لعنته وطردته إذ لم يسجد لأبيكم وجعلته عدوا لكم ولأبيكم فواليتموه وتركتموني فليس هذا من أعظم الغبن وأشد الحسرة عليكم ويوم القيامة يقول تعالى أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولى في دار الدنيا فليعلمن أولياء الشيطان كيف حالهم يوم القيامة إذا ذهبوا مع أوليائهم وبقي أولياء الرحمن لم يذهبوا مع
أحد فيتجلى لهم ويقول ألا تذهبون حيث ذهب الناس فيقولون فارقنا الناس أحوج ما كنا إليهم وإنما ننتظر ربنا الذي كنا نتولاه ونعبده فيقول هي بينكم وبينه علامة تعرفونه بها فيقولون نعم إنه لا مثل له فيتجلى لهم ويكشف عن ساق فيخرون له سجدا
فيا قرة عيون أوليائه بتلك الموالاة ويا فرحهم إذا ذهب الناس مع أوليائهم وبقوا مع مولاهم الحق فسيعلم المشركون به الصادون عن سبيله أنهم ما كانوا أولياءه إن أولياءه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون
ولا تستطل هذا البساط فما أحوج القلوب إلى معرفته وتعقله ونزولها منه منازلها فيالدنيا لتنزل في جوار ربها في الآخرة الذين أنعم الله تعالى عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا فصل حديث لبيك وسعديك
إذا عرفت هذا عرف معنى قوله في الحديث الصحيح لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك // صحيح // وإن معناه أجل وأعظم من قول من قال والشر لا يتقرب به إليك وقول من قال والشر لا يصعد إليك وأن هذا الذي قالوه وإن تضمن تنزيهه عن صعود الشر إليه والتقرب به إليه فلا يتضمن تنزيهه في ذاته وصفاته وأفعاله عن الشر بخلاف لفظ المعصوم الصادق المصدق فإنه يتضمن تنزيهه في ذاته تبارك وتعالى عن نسبة الشر إليه بوجه ما لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في أسمائه وإن دخل في مخلوقاته كقوله قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق الفلق 1 2
وتأمل طريقة القرآن في إضافة الشر تارة إلى سببه ومن قام به كقوله والكافرون هم الظالمون البقرة 254 وقوله والله لا يهدي القوم الفاسقين المائدة 108 وقوله فبظلم من الذين هادوا النساء 160 وقوله ذلك جزيناهم ببغيهم الأنعام 146 وقوله وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين الزخرف 76 وهو في القرآن أكثر من أن يذكر هاهنا
عشر معشاره وإنما المقصود التمثيل وتارة بحذف فاعله كقوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا الجن 10 فحذفوا فاعل الشر ومريده وصرحوا بمريد الرشد
ونظيره في الفاتحة صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين الفاتحة 7 فذكر النعمة مضافة إليه سبحانه والضلال منسوبا إلى من قام به والغضب محذوفا فاعله ومثله قول الخضر في السفينة فأردت أن أعيبها الكهف 79 وفي الغلامين فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك الكهف 82
ومثله قوله ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان الحجرات 7 فنسب هذا التزيين المحبوب إليه وقال زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين آل عمران 14 فحذف الفاعل المزين
ومثله قول الخليل صلى الله عليه و سلم الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين الشعراء 78 82 فنسب إلى ربه كل كمال من هذه الأفعال ونسب إلى نفسه النقص منها وهو المرض والخطيئة وهذا كثير في القرآن الكريم
ذكرنا منه أمثلة كثيرة في كتاب الفوائد المكية وبينا هناك السر في مجيء الذين آتيناهم الكتاب البقرة 121 الذين أوتوا الكتاب البقرة 101 والفرق بين الموضعين وأنه حيث ذكر الفاعل كان من آتاه الكتاب واقعا في سياق المدح وحيث حذفه كان من أوتيه واقعا في سياق الذم أو منقسما وذلك من أسرار القرآن الكريم
ومثله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فاطر 32 وقال فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى الأعراف 169 وبالجملة فالذي يضاف إلى الله تعالى كله خير وحكمة ومصلحة وعدل والشر ليس إليه الشر الأول
فصل من شر ما خلق
وقد دخل في قوله تعالى من شر ما خلق الإستعاذة من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء
فإن قلت فهل في ما هاهنا عموم
قلت فيها عموم تقييدي وصفي لا عموم إطلاقي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر فعمومها من هذا الوجه وليس المراد الإستعاذة من شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة وما فيها ليس فيها شر وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خير محض والخير كله حصل على أيديهم فالإستعاذة من شر ما خلق تعم شر كل مخلوق فيه شر وكل شر في الدنيا والآخرة وشر شياطين الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار والهواء وغير ذلك
وفي الصحيح عن النبي أنه قال من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل منه رواه مسلم روى أبو داود في سننه عن عبدالله بن عمر قال كان رسول الله إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك وشر ما يدب عليك أعوذ بالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد // حسن على الراجح //
وفي الحديث الآخر أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا
فاجر من شر ما خلق وذرا وبرا ومن شر ما نزل من السماء وما يعرج فيها ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ومن شر فتن الليل والنهار ومن شر كل طارق إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن // صحيح //
الشر الثاني فصل شر الغاسق إذا وقب
الشر الثاني شر الغاسق إذا وقب فهذا خاص بعد عام وقد قال أكثر المفسرين أنه الليل قال عبدالله بن عباس الليل إذا أقبل بظلمته من الشرق ودخل في كل شيء وأظلم والغسق الظلمة يقال غسق الليل وأغسق إذا أظلم ومنه قوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل الإسراء 78
وكذلك قال الحسن ومجاهد الغاسق إذا وقب الليل إذا أقبل ودخل والوقوب الدخول وهو دخول الليل بغروب الشمس وقال مقاتل يعني ظلمة الليل إذا دخل سواده في ضوء النهار وفي تسمية الليل غاسقا قول آخر إنه من البرد والليل أبرد من النهار والغسق البرد وعليه حمل عبدالله بن عباس قوله تعالى هذا فليذوقوه حميم وغساق ص 75 وقوله لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا النبأ 24 25 قال هو الزمهرير يحرقهم ببرده كما تحرقهم النار بحرها
وكذلك قال مجاهد ومقاتل هو الذي انتهى برده ولا تنافي بين القولين فإن الليل بارد مظلم فمن ذكر برده فقط أو ظلمته فقط اقتصر على أحد وصفيه والظلمة في الآية أنسب لمكان الإستعاذة فإن الشر الذي يناسب الظلمة أولى بالإستعاذة من البرد الذي في الليل ولهذا استعاذ برب الفلق الذي هو الصبح والنور من شر الغاسق الذي هو الظلمة فناسب الوصف المستعاذ به للمعنى المطلوب بالإستعاذة كما سنزيده تقريرا عن قريب إن شاء الله
فإن قيل فما تقولون فيما رواه الترمذي من حديث ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبدالرحمن
عن أبي سلمة عن عائشة قالت أخذ النبي بيدي فنظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي بالله من شر هذا فإن هذا هو الغاسق إذا وقب // صحيح // قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح
وهذا أولى من كل تفسير فيتعين المصير إليه قيل هذا التفسير حق ولا يناقض التفسير الأول بل يوافقه ويشهد بصحته فإن الله تعالى قال وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة الإسراء 12 فالقمر هو آية الليل وسلطانه فهو أيضا غاسق إذا وقب كما غاسق إذا وقب والنبي أخبر عن القمر بأنه غاسق إذا وقب وهذا خبر صدق وهو أصدق الخبر ولم ينف عن الليل اسم الغاسق إذا وقب وتخصيص النبي له بالذكر لا ينفي شمول الإسم لغيره
ونظير هذا قوله في المسجد الذي أسس على التقوى وقد سئل عنه فقال هو مسجدي هذا // رواه مسلم والنسائي والترمذي // ومعلوم أن هذا لا ينفي كون مسجد قبا مؤسسا على التقوى مثل ذاك
ونظيره أيضا قوله في علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم أجمعين اللهم هؤلاء أهل بيتي // رواه مسلم // فإن هذا لا ينفي دخول غيرهم من أهل بيته في لفظ أهل البيت ولكن هؤلاء أحق من دخل في لفظ أهل بيته
ونظير هذا قوله ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة
والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يفطن له فيتصدق عليه // رواه البخاري ومسلم // وهذا لا ينفي اسم المسكنة عن الطواف بل ينفي اختصاص الإسم به وتناول المسكين لغير السائل أولى من تناوله له
ونظير هذا قوله ليس الشديد بالصرعة ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب // رواه البخاري ومسلم // فإنه لا يقتضي نفي الإسم عن الذي يصرع الرجال ولكن يقتضي أن ثبوته للذي يملك نفسه عند الغضب أولى ونظيره الغسق والوقوب وأمثال ذلك فكذلك قوله في القمر هذا هو الغاسق إذا وقب لا ينفي أن يكون الليل غاسقا بل كلاهما غاسق
فإن قيل فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن المراد به القمر إذا خسف واسود وقوله وقب أي دخل في الخسوف أو غاب خاسفا
قيل هذا القول ضعيف ولا نعلم به سلفا والنبي لما أشار إلى القمر وقال هذا الغاسق إذا وقب لم يكن خاسفا إذ ذاك وإنما كان وهو مستنير ولو كان خاسفا لذكرته عائشة وإنما قالت نظر إلى القمر وقال هذا هو الغاسق ولو كان خاسفا لم يصح أن يحذف ذلك الوصف منه فإن ما أطلق عليه اسم الغاسق باعتبار صفة لا يجوز أن يطلق عليه بدونها لما فيه من التلبيس
وأيضا فإن اللغة لا تساعد على هذا فلا نعلم أحدا قال الغاسق القمر في حال خسوفه وأيضا فإن الوقوب لا يقول أحد من أهل اللغة أنه الخسوف وإنما هو الدخول من قولهم وقيت العين إذا غارت
ومنه الوقب للثقب الذي يدخل فيه المحور وتقول العرب وقب يقب وقوبا إذا دخل
فإن قيل فما تقولون في القول الذي ذهب إليه بعضهم أن الغاسق هو الثريا إذا سقطت فإن الأسقام تكثر عند سقوطها وغروبها وترتفع عند طلوعها
قيل إن أراد صاحب هذا القول اختصاص الغاسق بالنجم إذا غرب فباطل وإن أراد أن اسم الغاسق يتناول ذلك بوجه ما فهذا يحتمل أن يدل اللفظ عليه بفحواه ومقصوده وتنبيهه وأما أن يختص اللفظ به فباطل
فصل سبب الإستعاذة من شر الليل
والسبب الذي لأجله أمر الله بالإستعاذة من شر الليل وشر القمر إذا وقب هو أن الليل إذا أقبل فهو محل سلطان الأرواح الشريرة الخبيثة وفيه تنتشر الشياطين وفي الصحيح أن النبي أخبر أن الشمس إذا غربت انتشرت الشياطين ولهذا قال فاكتفوا صبيانكم واحبسوا مواشيكم حتى تذهب فحمة العشاء // رواه البخاري ومسلم //
وفي حديث آخر فإن الله يبث من خلقه ما يشاء والليل هو محل الظلام وفيه تتسلط شياطين الإنس والجن ما لا تتسلط بالنهار فإن النهار نور والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة وعلى أهل الظلمة
وروي أن سائلا سأل مسيلمة كيف يأتيك الذي يأتيك فقال في ظلماء حندس وسأل النبي كيف يأتيك فقال في مثل ضوء النهار فاستدل بهذا على نبوته وإن الذي يأتيه ملك من عند الله وأن الذي يأتي مسيلمة شيطان ولهذا كان سلطان السحر وعظم تأثيره إنما هو بالليل دون النهار فالسحر الليلي عندهم هو السحر القوي التأثير ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محال الشياطين وبيوتهم ومأواهم والشياطين تجول فيها وتتحكم كما يتحكم ساكن البيت فيه وكلما كان القلب أظلم كان للشيطان أطوع وهو فيه أثبت وأمكن فصل السر في الإستعاذة برب الفلق
ومن هاهنا تعلم السر في الإستعاذة برب الفلق في هذا الموضع فإن الفلق الصبح الذي هو مبدأ ظهور النور وهو الذي يطرد جيش الظلام وعسكر المفسدين في الليل فيأوي كل خبيث وكل مفسد وكل لص وكل قاطع طريق إلى سرب أو كن أو غار وتأوي الهوام إلى أحجرتها والشياطين التي انتشرت بالليل إلى أمكنتها ومحالها
فأمر الله تعالى عباده أن يستعيذوا برب النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها ويقهر عسكرها
وجيشها ولهذا ذكر سبحانه في كل كتاب أنه يخرج عباده من الظلمات إلى النور ويدع الكفار في ظلمات كفرهم قال تعالى الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات البقرة 257 وقال تعالى أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها الأنعام 122 وقال في أعمار الكفار أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور النور 40
وقد قال قبل ذلك في صفات أهل الإيمان ونورهم الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء النور 35
فالإيمان كله نور ومآله إلى نور ومستقره في القلب المضيء المستنير والمقترن بأهله الأرواح المستنيرة المضيئة المشرقة والكفر والشرك كله ظلمة ومآله إلى الظلمات ومستقره في القلوب المظلمة والمقترن بها الأرواح المظلمة فتأمل الإستعاذة برب الفلق من شر الظلمة ومن شر ما يحدث فيها ونزول هذا المعنى على الواقع يشهد بأن القرآن بل هاتان السورتان من أعظم أعلام النبوة وبراهين صدق رسالة محمد ومضادة لما جاء به الشياطين من كل وجه
وإن ما جاء به ما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون فما فعلوه ولا يليق بهم ولا يتأتى منهم ولا يقدرون عليه وفي هذا أبين جواب وأشفاه لما يورده أعداء الرسول عليه من الأسئلة الباطلة التي قصر المتكلمون غاية التقصير في دفعها وما شفوا في جوابها وإنما الله سبحانه هو الذي شفى وكفى في جوابها فلم يحوجنا إلى متكلم ولا إلى أصولي ولا أنظار فله الحمد والمنة لا نحصي ثناء عليه فصل
تفسير الفلق واعلم أن الخلق كله فلق وذلك أن فلقا فعل بمعنى مفعول كقبض
وسلب وقنص بمعنى مقبوض ومسلوب ومقنوص والله عز و جل فالق الإصباح وفالق الحب والنوى وفالق الأرض عن النبات والجبال عن العيون والسحاب عن المطر والأرحام عن الأجنة والظلام عن الإصباح ويسمى الصبح المتصدع عن الظلمة فلقا وفرقا يقال هو أبيض من فرق الصبح وفلقه
وكما أن في خلقه فلقا وفرقا فكذلك أمره كله فرقان يفرق بين الحق والباطل فيفرق ظلام الباطل بالحق كما يفرق ظلام الليل بالإصباح ولهذا سمى كتابه الفرقان ونصره فرقانا لتضمنه الفرق بين أوليائه وأعدائه ومنه فلقة البحر لموسى وسماه فلقا
فظهرت حكمة الإستعاذة برب الفلق في هذه المواضع وظهر بهذا إعجاز القرآن وعظمته وجلالته وأن العباد لا يقدرون قدره وإنه تنزيل من حكيم حميد فصلت 42
الشر الثالث فصل شر النفاثات في العقد
الشر الثالث شر النفاثات في العقد وهذا الشر هو شر السحر فإن النفاثات في العقد هن السواحر اللاتي يعقدن الخيوط وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يردن من السحر والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس ممازج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني القدري لا الأمر الشرعي
فإن قيل فالسحر يكون من الذكور والإناث فلم خص الإستعاذة من الإناث دون الذكور
قيل في جوابه إن هذا خرج على السبب الواقع وهو أن بنات لبيد بن الأعصم سحرن النبي هذا جواب أبي عبيدة وغيره وليس هذا بسديد فإن الذي سحر النبي هو لبيد بن الأعصم كما جاء في الصحيح
والجواب المحقق إن النفاثات هنا هن الأرواح والأنفس النفاثات لا النساء النفاثات
لأن تأثير السحر إنما هو من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة وسلطانه إنما يظهر منها فلهذا ذكرت النفاثات هنا بلفظ التأنيث دون التذكير والله أعلم
ففي الصحيح عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي طب حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئا وما صنعه وأنها دعا ربه ثم قال أشعرت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة وما ذاك يا رسول الله قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال الآخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال له فبماذا قال في مشط ومشاطه وجف طلع ذكر قال فأين هو قال في ذروان بئر في بني زريق قالت عائشة رضي الله عنها فأتاها رسول الله ثم رجع إلى عائشة رضي الله عنها فقال والله لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رءوس الشياطين قال فقلت له يا رسول الله هلا أخرجته قال أما أنا فقد شفاني الله وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمر بها فدفنت // رواه البخاري ومسلم // قال البخاري وقال الليث وسفيان بن عيينة عن هشام في مشط ومشافة ويقال أن المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط والمشاقة من مشاقة الكتان
قلت هكذا في هذه الرواية إنه لم يخرجه اكتفاء بمعافاة الله له وشفائه إياه وقد روى البخاري من حديث سفيان بن عيينة قال أول من حدثنا به ابن جريج يقول حدثني آل عروة عن عروة فسألت هشام عنه فحدثنا عن أبيه عن عائشة كان رسول الله سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن قال سفيان وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر ما بال الرجل قال مطبوب قال ومن طبه قال لبيد بن الأعصم رجل من بني زريق حليف ليهود وكان منافقا قال وفيم قال في مشط ومشاطة قال وأين قال في جف طلع ذكر تحت رعوفة في بئر ذروان قال فأتى البئر حتى استخرجه فقال هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين قال فاستخرج أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا // رواه البخاري //
ففي هذا الحديث أنه استخرجه وترجم البخاري عليه باب هل يستخرج السحر
وقال قتادة قلت لسعيد بن المسيب رجل به طب ويؤخذ عن امرأته أيحل عنه وينشر قال لا بأس به إنما يريدون به الإصلاح فأما ما ينفع الناس فلم ينه عنه فهذان الحديثان قد يظن في الظاهر تعارضهما فإن حديث عيسى عن هشام عن أبيه الأول فيه أنه لم يستخرجه وحديث ابن جريج عن هشام فيه أنه استخرجه ولا تنافي بينهما فإنه استخرجه من البئر حتى رآه وعلمه ثم دفنه بعد أن شفي
وقول عائشة رضي الله عنها هلا استخرجته أي هلا أخرجته للناس حتى يروه ويعاينوه فأخبرها بالمانع له من ذلك وهو أن المسلمين لم يكونوا ليسكتوا عن ذلك فيقع الإنكار ويغضب للساحر قومه فيحدث الشر وقد حصل المقصود بالشفاء والمعافاة فأمر بها فدفنت ولم يستخرجها للناس فالإستخراج الواقع غير الذي سألت عنه عائشة والذي يدل عليه أنه إنما جاء إلى البئر ليستخرجها منه ولم يجيء إليه لينظر إليها ثم ينصرف إذ لا غرض له في ذلك والله أعلم
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث متلقى بالقبول بينهم لا يختلفون في صحته وقد اعتاض على كثير من أهل الكلام وغيرهم وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام وكان غاية ما أحسن القول فيه أن قال غلط واشتبه عليه الأمر ولم يكن من هذا شيء قال لأن النبي لا يجوز أن يسحر فإنه يكون تصديقا لقول الكفار إن تتبعون إلا رجلا مسحورا الإسراء 47 قالوا وهذا كما قال فرعون لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورا الإسراء 101
وقال قوم صالح له إنما أنت من المسحرين الشعراء 153 وقال قوم شعيب له إنما أنت من المسحرين قالوا فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يسحروا فإن ذلك ينافي حماية الله لهم وعصمتهم من الشياطين
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه فما للمتكلمين وما لهذا الشأن وقد رواه غير هشام عن عائشة
وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين قال أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن يزيد بن حباب عن زيد ابن الأرقم قال سحر
النبي رجل من اليهود فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عقدا فأرسل رسول الله عليا فاستخرجها فجاء بها فجعل كلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول الله كأنما أنشط من عقال فما ذكر ذلك لليهودي ولا رآه في وجهه قط // رواه ابن أبي شيبة //
وقال ابن عباس وعائشة كان غلام من اليهود يخدم رسول الله فدنت إليه اليهود فلم يزالوا حتى أخذ مشاطة رأس النبي وعدة أسنان من مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت هاتان السورتان فيه
قال البغوي وقيل كانت مغروزة بالدبر فأنزل الله عز و جل هاتين السورتين وهما أحد عشرة آية سورة الفلق خمس آيات وسورة الناس ست آيات فكلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي كأنما انشط من عقال قال وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاثة أيام فنزلت المعوذتان
قالوا والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه الله منه ولا نقص في ذلك ولا عيب بوجه ما فإن المرض يجوز على الأنبياء وكذلك الإغماء فقد أغمي عليه في مرضه ووقع حين انفكت قدمه وجحش شقه // رواه البخاري ومسلم // وهذا من البلاء الذي يزيده الله به رفعة في درجاته ونيل كرامته وأشد الناس بلاء الأنبياء فابتلوا من أممهم بما ابتلوا به من القتل والضرب والشتم والحبس فليس ببدع أن يبتلى النبي من بعض أعدائه بنوع من السحر كما ابتلى بالذي رماه فشجه وابتلى بالذي ألقى على ظهره السلا وهو ساجد وغير ذلك فلا نقص عليهم ولا عار في ذلك بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند الله قالوا وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي فقال يا محمد اشتكيت فقال نعم فقال باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك بسم الله أرقيك فعوذه جبريل من شر كل نفس وعين حاسد لما اشتكى فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته وإلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره
قالوا وأما الآيات التي استدللتم بها لا حجة لكم فيها أما قوله تعالي عن الكفار
أنهم قالوا إن تتبعون إلا رجلا مسحورا الإسراء 47 وقوله قوم صالح له إنما أنت من المسحرين الشعراء 153 فقيل المراد به من له سحر وهي الرئة أي أنه بشر مثلهم يأكل ويشرب ليس بملك ليس المراد به السحر وهذا جواب غير مرض وهو في غاية البعد فإن الكفار لك يكونوا يعبرون عن البشر بمسحور ولا يعرف هذا في لغة من اللغات وحيث أرادوا هذا المعنى أتوا بصريح لفظ البشر فقالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا أنؤمن لبشر مثلنا أبعث الله بشرا رسولا
وأما المسحور فلم يريدوا به ذا السحر وهي الرئة وأي مناسبة لذكر الرئة في هذا الموضع ثم كيف يقول فرعون لموسى إني لأظنك يا موسى مسحورا أفتراه ما علم أنه له سحرا وأنه بشر ثم كيف يجيبه موسى بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبورا الإسراء 102 ولو أراد بالمسحور أنه بشر لصدقه موسى وقال نعم أنا بشر أرسلني الله إليك كما قالت الرسل لقومهم لما قالوا لهم إن أنتم إلا بشرا مثلنا فقالوا إن نحن إلا بشرا مثلكم ولم ينكروا ذلك فهذا الجواب في غاية الضعف وأجابت طائفة منهم ابن جرير وغيره بأن المسحور هنا هو معلم السحر الذي قد علمه إياه غيره فالمسحور عنده بمعنى ساحر أي عالم بالسحر وهذا جيد إن ساعدت عليه اللغة وهو أن من علم السحر يقال له مسحور ولا يكاد هذا يعرف في الإستعمال ولا في اللغة وإنما المسحور من سحره غيره كالمطبوب والمضروب والمقتول وبابه
وأما من علم السحر فإنه يقال له ساحر بمعنى أنه عالم بالسحر وإن لم يسحره غيره كما قال قوم فرعون لموسى إن هذا لساحر عليم الشعراء 34 ففرعون قذفه بكونه مسحورا وقومه قذفوه بكونه ساحرا فالصواب هو الجواب الثالث وهو جواب صاحب الكشاف وغيره إن المسحور على بابه وهو من سحر حتى جن فقالوا مسحور مثل مجنون زائل العقل لا يعقل ما يقول فإن المسحور الذي لا يتبع هو الذي فسد عقله بحيث لا يدري ما يقول فهو كالمجنون ولهذا قالوا فيه معلم مجنون فأما من أصيب في بده بمرض من الأمراض يصاب به الناس فإنه لا يمنع ذلك من اتباعه وأعداء الرسل لم يقذفوهم بأمراض الأبدان وإنما قذفوهم بما يحذرون به سفهاءهم من اتباعهم وهو أنهم قد سحروا حتى صاروا لا يعلمون ما يقولون بمنزلة المجانين ولهذا قال تعالى انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا الإسراء 48 مثلوك بالشاعر مرة والساحر أخرى والمجنون مرة والمسحور أخرى فضلوا في جميع
ذلك ضلال من يطلب في تيهه وتحيره طريقا يسلكه فلا يقدر عليه فإن أي طريق أخذها فهي طريق ضلال وحيرة فهو متحير في أمره لا يهتدي سبيلا ولا يقدر على سلوكها فهكذا حال أعداء رسول الله معه حتى ضربوا له أمثالا برأه الله منها وهو أبعد خلق الله منها وقد علم كل عاقل أنها كذب وافتراء وبهتان
وأما قولكم إن سحر الأنبياء ينافي حماية الله تعالى لهم فإنه سبحانه كما يحميهم ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم ليستوجبوا كمال كرامته وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم ولتمتليء صاع الكفار فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل والعقوبة الآجلة فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم وله الحكمة البالغة والنعمة السابغة لا إله غيره ولا رب سواه فصل تأثيرات السحر
وقد دل قوله ومن شر النفاثات في العقد وحديث عائشة المذكور على تأثير السحر وأن له حقيقة وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم وقالوا إنه لا تأثير للسحر البتة لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد قالوا وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة والسلف واتفق عليه الفقهاء وأهل التفسير والحديث وأرباب القلوب من أهل التصوف وما يعرفه عامة العقلاء والسحر الذي يؤثر مرضا وثقلا وحلا وعقدا وحبا وبغضا وتزينا وغير ذلك من الآثار موجود تعرفه عامة الناس وكثير منهم قد علمه ذوقا بما أصيب به منه
وقوله تعالى من شر النفاثات في العقد دليل على أن هذا النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهرا كما يقوله هؤلاء لم يكن للنفث ولا للنفاثات شر يستعاذ منه
وأيضا فإذا جاز على الساحر أن يسحر جميع أعين الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به مع أن هذا تغير في إحساسهم فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وقواهم وطباعهم وما الفرق بين التغيير الواقع في الرؤية والتغيير في صفة أخرى من صفات النفس والبدن
فإذا غير إحساسه حتى صار يرى الساكن متحركا والمتصل منفصلا والميت حيا فما المحيل لأن يغير صفات نفسه حتى يجعل المحبوب إليه بغيضا والبغيض محبوبا وغير ذلك من التأثيرات
وقد قال تعالى عن سحرة فرعون إنهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم الأعراف 116 فبين سبحانه أن أعينهم سحرت وذلك إما أن يكون لتغيير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين فظنوا أنها تحركت بأنفسها وهذا كما إذا جر من لا يراه حصيرا أو بساطا فترى الحصير والبساط ينجر ولا ترى الجار له مع أنه هو الذي يجره فهكذا حال الحبال والعصي التبستها الشياطين فقلبتها كتقلب الحية فظن الرائي أنها تقلبت بأنفسها والشياطين هم الذين يقلبونها وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأي الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا فتارة يتصرف في نفس الرأي وإحساسه حتى يرى الشيء بخلاف ما هو به وتارة يتصرف في المرئي باستعانته بالأرواح الشيطانية حتى يتصرف فيها
وأما ما يقوله المنكرون من أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة فإنه لو كان كذلك لم يكن هذا خيالا بل حركة حقيقية ولم يكن ذلك سحرا لأعين الناس ولا يسمى ذلك سحرا بل صناعة من الصناعات المشتركة وقد قال تعالى فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى طه 66 ولو كانت تحركت بنوع حيلة كما يقوله المنكرون لم يكن هذا من السحر في شيء ومثل هذا لا يخفى وأيضا لو كان ذلك بحيلة كما قال هؤلاء لكان طريق إبطالها إخراج ما فيها من الزئبق وبيان ذلك المحال ولم يحتج إلى إلقاء العصا لابتلاعها وأيضا فمثل هذه الحيلة لا يحتاج فيها إلى الإستعانة بالسحرة بل يكفي فيها حذاق الصناع ولا يحتاج في ذلك إلى تعظيم فرعون للسحرة وخضوعه لهم ووعدهم بالتقريب والجزاء وأيضا فإنه لا يقال في ذلك إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فإن الصناعات يشترك الناس في تعلمها وتعليمها وبالجملة فبطلان هذا أظهر من أن يتكلف رده فلنرجع إلى المقصود فصل شر الحاسد إذا حسد
الشر الرابع شر الحاسد إذا حسد وقد دل القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد
يؤذي المحسود فنفس حسده شر يتصل بالمحسود من نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه فإن الله تعالى قال ومن شر حاسد إذا حسد فحقق الشر منه عند صدور الحسد
والقرآن ليس فيه لفظة مهملة ومعلوم أن الحاسد لا يسمى حاسدا إلا إذا قام به الحسد كالضارب والشاتم والقاتل ونحو ذلك ولكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود لاه عنه فإن خطر على ذكره وقلبه انبعثت نار الحسد من قلبه إليه ووجهت إليه سهام الحسد من قبله فيتأذى المحسود بمجرد ذلك فإن لم يستعذ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد من الأذكار والدعوات والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقباله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد فقوله تعالى إذا حسد بيان لأن شره إنما يتحقق إذا حصل منه الحسد بالفعل تأثير العين
وقد تقدم في حديث أبي سعيد الخدري الصحيح رقية جبريل النبي وفيها بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد الله يشفيك فهذا فيه الإستعاذة من شر عين الحاسد ومعلوم أن عينه لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاه ساه عنه كما ينظر إلى الأرض والجبل وغيره لم يؤثر فيه شيئا وإنما إذا نظر إليه نظر من قد تكيفت نفسه الخبيثة واتسمت واحتدت فصارت نفسا غضبية خبيثة حاسدة أثرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود تأثيرا بحسب صفة ضعفه وقوة نفس الحاسد فربما أعطيه وأهلكه بمنزلة من فوق سهما نحو رجل عريان فأصاب منه مقتلا وربما صرعه وأمرضه والتجارب عند الخاصة والعامة بهذا أكثر من أن تذكر
وهذه العين إنما تأثيرها بواسطة النفس الخبيثة وهي في ذلك بمنزلة الحية التي إنما يؤثر سمها إذا عضت واحتدت فإنها تتكيف بكيفية الغضب والخبث فتحدث فيها تلك الكيفية السم فتؤثر في الملسوع وربما قويت تلك الكيفية واشتدت في نوع منها حتى تؤثر بمجرد نظرة فتطمس البصر وتسقط الحبل كما ذكره النبي في الأبتر وذي الطفيتين منها وقال اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبل // رواه البخاري ومسلم //
فإذا كان هذا في الحيات فما الظن في النفوس الشريرة الغضبية الحاسدة إذا تكيفت بكيفيتها الغضبية واتسمت وتوجهت إلى المحسود بكيفيتها فلله كم من قتيل وكم من سليب وكم من معافي عاد مضني على فراشه يقول طبيبه لا أعلم داءه ما هو فصدق ليس هذا الداء من علم الطبائع هذا من علم الأرواح وصفاتها وكيفياتها ومعرفة تأثيراتها في الأجسام والطبائع وانفعال الأجسام عنها عجائب الأرواح وتأثيراتها
وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس والمحجوبون منكرون له ولا يعلم تأثير ذلك وارتباطه بالطبيعة وانفعالها عنه إلا من له نصيب من ذوقه وهل الأجسام إلا كالخشب الملقى وهل الإنفعال والتأثر وحدوث ما يحدث عنها من الأفعال العجيبة والآثار الغريبة إلا من الأرواح والأجسام آلتها بمنزلة آلة الصانع فالصنعة في الحقيقة له والآلات وسائط في وصول أثره إلى الصنع ومن له أدنى فطنة وتأمل أحوال العالم ولطفت روحه وشاهدت أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام وانفعالها عنها كل ذلك بتقدير العزيز العليم خالق الأسباب والمسببات رأى عجائب في الكون وآيات دالة على وحدانية الله وعظمته وربوبيته
وإن ثم عالما تجري عليه أحكام أخرى تشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين الذي أتقن ما صنع وأحسن كل شيء خلقه ولا نسبة لعالم الأجسام إلى عالم الأرواح بل هو أعظم وأوسع وعجائبه أبهر وآياته أعجب
وتأمل هذا الهيكل الإنساني إذا فارقته الروح كيف يصير بمنزلة الخشبة أو القطعة من اللحم فأين ذهبت تلك العلوم والمعارف والعقل وتلك الصنائع الغريبة وتلك الأفعال العجيبة وتلك الأفكار والتدبيرات كيف ذهبت كلها مع الروح وبقي الهيكل سواء هو والتراب وهل يخاطبك من الإنسان أو يراك أو يحبك أو يواليك أو يعاديك ويخف عليك ويثقل ويؤنسك ويوحشك إلا ذلك الأمر الذي وراء الهيكل المشاهد بالبصر
فرب رجل عظيم الهيولي كبير الجثة خفيف على قلبك حلو عندك وآخر لطيف الخلقة صغير الجثة أثقل على قلبك من جبل وما ذاك إلا للطافة روح ذاك وخفتها وحلاوتها وكثافة هذا وغلظ روحه ومرارتها وبالجملة فالعلق والوصل التي بين الأشخاص والمنافرات والبعد إنما هي للأرواح أصلا والأشباح تبعا
فصل العاين والحاسد
والعاين والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا
ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد أو حيوان أو زرع أو مال وإن كان لا يكاد ينفك من حسد صاحبه وربما أصابت عينه نفسه فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديق مع تكيف نفسه بتلك الكيفية تؤثر في المعين
وقد قال غير واحد من المفسرين في قوله تعالى وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر القلم 51 إنه الإصابة بالعين فأرادوا أن يصيبوا بها رسول الله فنظر إليه قوم من العائنين وقالوا ما رأينا مثله ولا مثل حجته
وكان طائفة منهم تمر به الناقة والبقرة السمينة فيعينها ثم يقول لخادمه خذ المكتل والدرهم وآتنا بشيء من لحمها فما تبرح حتى تقع فتنحر
وقال الكلبي كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل ثم يرفع جانب خبائة فتمر به الإبل فيقول لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه فما تذهب إلا قليلا حتى يسفط منها طائفة فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله بالعين ويفعل به كفعله في غيره فعصم الله تعالى وحفظه وأنزل عليه وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم هذا قول طائفة
وقالت طائفة أخرى منهم ابن قتيبة ليس المراد أنهم يصيبونك بالعين كما يصيب العائن بعينه ما يعجبه وإنما أراد أنهم ينظرون إليك إذا قرأت القرآن الكريم نظرا شديدا بالعداوة والبغضاء يكاد يسقطك
قال الزجاج يعني من شدة العداوة يكادون بنظرهم نظر البغضاء أن يصرعوك وهذا مستعمل في الكلام يقول القائل
نظر إلي نظر قد كان يصرعني ...
قال ويدل على صحة هذا المعنى أنه قرن هذا النظر بسماع القرآن الكريم وهم كانوا يكرهون ذلك أشد الكراهة فيحدون إليه النظر بالبغضاء النظر الذي يؤثر في المنظور
قلت النظر الذي يؤثر في المنظور قد يكون بسببه شده العداوة والحسد فيؤثر نظره في
كما تؤثر نفسه بالحسد ويقوى تأثير النفس عند المقابلة فإن العدو إذا غاب عن عدوه قد يشغل نفسه عنه فإذا عاينه قبلا اجتمعت الهمة عليه وتوجهت النفس بكليتها إليه فيتأثر بنظره حتى إن من الناس من يسقط ومنهم من يحم ومنهم من يحمل إلى بيته وقد شاهد الناس من ذلك كثيرا
وقد يكون سببه الإعجاب وهو الذي يسمونه بإصابة العين وهو أن الناظر يرى الشيء رؤية إعجاب به أو استعظام فتتكيف روحه بكيفية خاصة تؤثر في المعين وهذا هو الذي يعرفه الناس من رؤية المعين فإنهم يستحسنون الشيء ويعجبون منه فيصاب بذلك
قال عبد الرزاق بن معمر عن هشام بن قتيبة قال هذا ما حدثنا أبو هريرة قال قال رسول الله العين حق // رواه البخاري ومسلم // ونهى عن الوشم // رواه البخاري ومسلم // وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن عروة عن عامر عن عبيد بن رفاعة أن أسماء بنت عميس قالت يا رسول الله إن ابني جعفر تصيبهم العين أفتسترقي لهم قال نعم فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين // صحيح //
فالكفار كانوا ينظرون إليه نظر حاسد شديد العدواة فهو نظر يكاد يزلقه لولا حفظ الله وعصمته فهذا أشد من نظر العائن بل هو جنس من نظر العائن فمن قال
إنه من الإصابة بالعين أراد هذا المعنى ومن قال ليس به أراد أن نظرهم لم يكن نظر استحسان وإعجاب فالقرآن الكريم حق
وقد روى الترمذي من حديث أبي سعيد أن النبي كان يتعوذ من عين الإنسان // صحيح // فلولا أن العين شر لم يتعوذ منها
وفي الترمذي من حديث علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير حدثني حابس بن حبة التميمي حدثني أبي أنه سمع رسول الله يقول لا شيء في الهام والعين حق // ضعيف لكن قوله والعين حق صحيح //
وفيه أيضا من حديث وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال كان رسول الله يقول لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا // رواه مسلم // وفي الباب عن عبدالله بن عمر وهذا حديث صحيح
والمقصود أن العائن حاسد خاص وهو أضر من الحاسد ولهذا والله أعلم إنما جاء في السورة ذكر الحاسد دون العائن لأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد وليس كل حاسد عائنا فإذا استعاذ من شر الحسد دخل فيه العين وهذا من شمول القرآن الكريم وإعجازه وبلاغته وأصل الحسد هو بغض نعمة الله على المحسود وتمني زوالها الساحر والحاسد
فالحاسد عدو النعم وهذا الشر هو من نفس الحاسد وطبعها ليس هو شيئا اكتسبه من غيرها بل هو من خبثها وشرها بخلاف السحر فإنه إنما يكون باكتساب أمور أخرى واستعانة بالأرواح الشيطانية فلهذا والله أعلم قرن في السورة بين شر
الحاسد وشر الساحر لأن الإستعاذة من شر هذين تعم كل شر يأتي من شياطين الإنس والجن فالحسد من شياطين الإنس والجن والسحر من النوعين
وبقي قسم ينفرد به شياطين الجن وهو الوسوسة في القلب فذكره في السورة الأخرى كما سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى فالحاسد والساحر يؤذيان المحسود والمسحور بلا عمل منه بل هو أذى من أمر خارج عنه ففرق بينهما في الذكر في سورة الفلق
والوسواس إنما يؤذي العبد من داخله بواسطة مساكنته له وقبوله منه ولهذا يعاقب العبد على الشر الذي يؤذيه به الشيطان من الوساوس التي تقترن بها الأفعال والعزم الجازم لأن ذلك بسعيه وإرادته بخلاف شر الحاسد والساحر فإنه لا يعاقب عليه إذ لا يضاف إلى كسبه ولا إرادته فلهذا أفرد شر الشيطان في سورة وقرن بين شر الساحر والحاسد في سورة وكثيرا ما يجتمع في القرآن الحسد والسحر للمناسبة
ولهذا اليهود أسحر الناس وأحسدهم فإنهم لشدة خبثهم فيهم من السحر والحسد ما ليس في غيرهم وقد وصفهم الله تعالى في كتابه بهذا وهذا فقال واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئسما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون البقرة 102
والكلام على أسرار هذه الآية وأحكامها وما تضمنته من القواعد والرد على من أنكر السحر وما تضمنته من الفرقان بين السحر وبين المعجزات الذي أنكره من أنكر السحر خشية الإلتباس وقد تضمنت الآية أعظم الفرقان بينهما في موضع غير هذا إذ المقصود الكلام على أسرار هاتين السورتين وشدة حاجة الخلق إليهما وإن لا يقوم غيرهما مقامهما وأما وصفهم بالحسد فكثير في القرآن كقوله تعالى أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله النساء 54 وفي قوله ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق البقرة 109
والشيطان يقارن الساحر والحاسد ويحادثهما ويصاحبها ولكن الحاسد تعينه الشياطين بلا استدعاء منه للشيطان لأن الحاسد شبيه بإبليس وهو في الحقيقة من أتباعه لأنه
يطلب ما يحبه الشيطان من فساد الناس وزوال نعم الله عنهم كما أن إبليس حسد آدم لشرفه وفضله وأبى أن يسجد له حسدا فالحاسد من جند إبليس وأما الساحر فهو يطلب من الشيطان أن يعينه ويستعينه وربما يعبده من دون الله تعالى حتى يقضي له حاجته وربما يسجد له
وفي كتب السحر والسر المكتوم من هذا عجائب ولهذا كلما كان الساحر أكفر وأخبث وأشد معاداة لله ولرسوله ولعباده المؤمنين كان سحره أقوى وأنفذ ولهذا كان سحر عباد الأصنام أقوى من سحر أهل الكتاب وسحر اليهود أقوى من سحر المنتسبين إلى الإسلام وهم الذين سحروا رسول الله وفي الموطأ عن كعب قال كلمات أحفظهن من التوراة لولاها لجعلتني يهود حمارا أعوذ بوجه الله العظيم الذي لا شيء أعظم منه وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر وبأسماء الله الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم من شر ما خلق وذرأ وبرأ // رواه مالك ورجاله ثقات //
والمقصود أن الساحر والحاسد كل منهما قصده الشر لكن الحاسد بطبعه ونفسه وبغضه للمحسود والشيطان يقترن به ويعينه ويزين له حسده ويأمره بموجبه والساحر بعلمه وكسبه وشركه واستعانته بالشياطين فصل الحسد يشمل الحاسد من الجن والإنس
وقول من شر حاسد إذا حسد يعم الحاسد من الجن والإنس فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله تعالى من فضله كما حسد إبليس أبانا آدم وهو عدو لذريته كما قال تعالى إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فاطر 6
ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن والحسد أخص بشياطين الإنس والوسواس يعمهما كما سيأتي بيانهما والحسد يعمهما أيضا فكلا الشيطانين حاسد موسوس
فالإستعاذة من شر الحاسد تتناولهما جميعا فقد اشتملت السورة على الإستعاذة من كل شر في العالم وتضمنت شرورا أربعة يستعاذ منها شرا عاما وهو شر ما خلق وشر الغاسق إذا وقب فهذا نوعان
ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهي نوعان أيضا لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده وهو الساحر وقلما يتأتى السحر بدون نوع عبادة للشيطان وتقرب إليه إما بذبح باسمه أو بذبح يقصد به هو فيكون ذبحا لغير الله وبغير ذلك من أنواع الشرك والفسوق
والساحر وإن لم يسم هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإن سماه بما سماه به فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه لا لاسمه ولفظه فمن سجد لمخلوق وقال ليس هذا بسجود له هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة كما أقبلها بالنعم أو هذا إكرام لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجودا لغير الله فليسمه بما شاء
وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة بل يسميه استخداما ما وصدق هو استخدام من الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به
والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإنما سماه استخداما قال تعالى ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين يس 60 وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون سبأ 40 41
فهؤلاء وأشباههم عباد الجن والشياطين وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولبئس المولى ولبئس العشير فهذا أحد النوعين والنوع الثاني من يعينه الشيطان وإن لم يستعن به وهو الحاسد لأنه نائبه وخليفته لأن كليهما عدو نعم الله تعالى ومنغصها على عباده فصل تقييد الحاسد بقوله إذا حسد
وتأمل تقييده سبحانه شر الحاسد بقوله إذا حسد لأن الرجل قد يكون عنده حسد ولكن يخفيه ولا يرتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده بل يجد في قلبه شيئا من ذلك ولا يعاجل أخاه إلا بما يحب الله فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمه الله
وقيل للحسن البصري أيحسد المؤمن قال ما أنساك إخوة يوسف لكن الفرق بين القوة التي في قلبه من ذلك وهو لا يطيعها ولا يأتمر بها بل يعصيها طاعة لله وخوفا وحياء منه وإجلالا له أن يكره نعمه على عباده فيرى ذلك مخالفة لله وبغضا لما يحب الله ومحبة لما يبغضه فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك ويلزمها بالدعاء للمحسود وتمني زيادة الخير له بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم هو كله حسد تمني الزوال وللحسد ثلاث مراتب
أحدهما
هي هذه
الثانية وهي تمني استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يحدث الله لعبده نعمة بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو ضعفه أو شتات قلبه عن الله أو قلة دينه فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص وعيب فهذا حسد على شيء مقدر والأول حسد على شيء محقق وكلاهما حاسد عدو نعمة وعدو عباده وممقوت عند الله تعالى وعند الناس ولا يسود أبدا ولا يواسي فإن الناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم
فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه باختيارهم أبدا إلا قهرا يعدونه من البلاء والمصائب التي ابتلاهم الله بها فهم يبغضونه وهو يبغضهم
والحسد الثالث حسد الغبطة وهو تمني أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه بل هذا قريب من المنافسة وقد قال تعالى وفي ذلك فليتنافس المتنافسون خطأ يبحثها المحقق وفي الصحيح عن النبي أنه قال لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا وسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس // رواه البخاري ومسلم // فهذا حسد غبطة الحامل لصاحبه عليه كبر نفسه وحب خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم وأن يكون من سباقهم وعليتهم ومصلهم لا من فساكلهم فتحدث له من هذه الهمة المنافسة والمسابقة والمسارعة مع محبته لمن يغبطه وتمني دوام نعمة الله عليه فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما فهذه السورة من أكبر أدوية المحسود فإنها تتضمن التوكل على الله والإلتجاء إليه
والإستعاذة به من شر حاسد النعمة فهو مستعيذ بولي النعم وموليها كأنه يقول يا من أولاني نعمته وأسداها إلي أنا عائذ بك من شر من يريد أن يستلبها مني ويزيلها عني وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجبر المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته إليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه آمنه مما يخاف ويحذر وجلب إليه كل ما يحتاج إليه من المنافع ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 2 3 فلا تستبطيء نصره ورزقه وعافيته فإن الله تعالى بالغ أمره وقد جعل الله لكل شيء قدرا لا يتقدم عنه ولا يتأخر ومن لم يخفه أخافه من كل شيء وما خاف أحدا غير الله إلا لنقص خوفه من الله قال تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون النحل 98 100 وقال إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين آل عمران 175 أي يخوفكم بأوليائه ويعظمهم في صدوركم فلا تخافوهم وأفردوني بالمخافة أكفكم إياهم فصل كيف يندفع شر الحاسد عن المحسود
ويندفع شر الحاسد عن المحسود بعشرة أسباب
أحدها التعوذ بالله تعالى من شره واللجوء والتحصن به واللجوء إليه وهو المقصود بهذه السورة والله تعالى سميع لاستعاذته عليم بما يستعيذ منه والسمع هنا المراد به سمع الإجابة لا السمع العام فهو مثل قوله سمع الله لمن حمده
وقول الخليل إن ربي لسميع الدعاء ومرة يقرنه بالعلم ومرة بالبصر لاقتضاء حال المستعيذ ذلك فإنه يستعيذ به من عدو يعلم أن الله تعالى يراه ويعلم كيده وشره فأخبر الله تعالى هذا المستعيذ أنه سميع لاستعاذته أي مجيب عليم بكيد عدوه يراه ويبصره لينبسط أمل المستعيذ ويقبل بقلبه على الدعاء
وتأمل حكمة القرآن الكريم كيف جاء في الإستعاذة من الشيطان الذي نعلم وجوده ولا نراه بلفظ السميع العليم في الأعراف والسجدة وجاءت الإستعاذة من شر
الإنس الذين يؤنسون ويرون بالإبصار بلفظ السميع البصير في سورة حم المؤمن فقال إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير غافر 56 لأن أفعال هؤلاء أفعال معاينة ترى بالبصر
وأما نزع الشيطان فوساوس وخطرات يلقيها في القلب يتعلق بها العلم فأمر بالإستعاذة بالسميع العليم فيها وأمر بالإستعاذة بالسميع البصير في باب ما يرى بالبصر ويدرك بالرؤية والله أعلم
السبب الثاني تقوى الله وحفظه عند أمره ونهيه فمن اتقى الله تولى الله حفظه ولم يكله إلى غيره قال تعالى وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا آل عمران 120 وقال النبي لعبدالله بن عباس احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك // صحيح // فمن حفظ الله حفظه الله ووجده أمامه أينما توجه ومن كان الله حافظه وأمامه فممن يخاف ولمن يحذر
السبب الثالث الصبر على عدوه وأن لا يقاتله ولا يشكوه ولا يحدث نفسه بأذاه أصلا فما نصر على حاسده وعدوه بمثل الصبر عليه والتوكل على الله ولا يستطل تأخيره وبغيه فإنه كلما بغى عليه كان بغيه جندا وقوة للمبغي عليه المحسود يقاتل به الباغي نفسه وهو لا يشعر فبغيه سهام يرميها من نفسه ولو رأي المبغي عليه ذلك لسره بغيه عليه ولكن لضعف بصيرته لا يرى إلا صورة البغي دون آخره ومآله وقد قال تعالى ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله الحج 60 فإذا كان الله قد ضمن فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولا فكيف بمن لم يستوف شيئا من حقه بل بغى عليه وهو صابر وما من الذنوب ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم وقد سبقت سنة الله أنه لو بغى جبل على جبل جعل الباغي منهما دكا
السبب الرابع التوكل على الله من يتوكل على الله فهو حسبه الطلاق 3 والتوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم وهو من أقوى الأسباب في ذلك فإن الله حسبه أي
كافية ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ منه مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء له وهو في الحقيقة إحسان إليه وإضرار بنفسه وبين الضرر الذي يتشفى به منه قال بعض السلف جعل الله تعالى لكل عمل جزاء من جنسه وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده فقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولم يقل نؤته كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله تعالى حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا من ذلك وكفاه ونصره
وقد ذكرنا حقيقة التوكل وفوائده وعظم منفعته وشدة حاجة العبد إليه في كتاب الفتح القدسي وذكرنا هناك فساد من جعله من المقامات المعلولة أنه من مقامات العوام وأبطلنا قوله من وجوه كثيرة وبينا أنه من أجل مقامات العارفين وأنه كلما علا مقام العبد كانت حاجاته إلى التوكل أعظم وأشد وأنه على قدر إيمان العبد يكون توكله وإنما المقصود هنا ذكر الأسباب التي يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر والباغي
السبب الخامس فراغ القلب من الإشتغال به والفكر فيه وأن يقصد أن يمحوه من باله كلما خطر له فلا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يملأ قلبه بالفكر فيه وهذا من أنفع الأدوية وأقوى الأسباب المعينة على اندفاع شره فإن هذا بمنزلة من يطلبه عدوه ليمسكه ويؤذيه فإذا لم يتعرض له ولا تماسك هو وإياه بل انعزل عنه لم يقدر عليه فإذا تماسكا وتعلق كل منهما بصاحبه حصل الشر
وهكذا الأرواح سواء فإذا علق روحه وشبثها به وروح الحاسد الباغي متعلقة به يقظة ومناما لا يفتر عنه وهو يتمنى أن يتماسك الروحان ويتشبثا فإذا تعلقت كل روح منهما بالأخرى عدم القرار ودام الشر حتى يهلك أحدهما
فإذا جبذ روحه عنه وصانها عن الفكر فيه والتعلق به وأن لا يخطره بباله فإذا خطر بباله بادر إلى محو ذلك الخاطر والإشتغال بما هو أنفع له وأولى به بقي الحاسد الباغي يأكل بعضه بعضا فإن الحسد كالنار فإذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا
وهذا باب عظيم النفع لا يلقاه إلا أصحاب النفوس الشريفة والهمم العالية وبين الكيس الفطن وبينه حتى يذوق حلاوته وطيبه ونعيمه كأنه يرى من أعظم عذاب القلب
والروح اشتغاله بعدوه وتعلق روحه به ولا يرى شيئا ألم لروحه من ذلك ولا يصدق بهذا إلا النفوس المطمئنة الوارعة اللينة التي رضيت بوكالة الله لها وعلمت أن نصره له خير من انتصارها هي لنفسها فوثقت بالله وسكنت إليه واطمأنت به وعلمت أن ضمانه حق ووعده صدق وأنه لا أوفى بعهده من الله ولا أصدق منه قيلا فعلمت أن نصره لها أقوى وأثبت وأدوم وأعظم فائدة من نصرها هي لنفسها أو نصر مخلوق مثلها لها ولا يقوى على هذا إلا
بالسبب السادس وهو الإقبال على الله والإخلاص له وجعل محبته وترضيه والإنابة إليه في محل خواطر نفسه وأمانيها تدب فيها دبيب الخواطر شيئا فشيئا حتى يقهرها ويغمرها ويذهبها بالكلية فتبقى خواطره وهواجسه وأمانيه كلها في محاب الرب والتقرب إليه وتملقه وترضيه واستعطافه وذكره كما يذكر المحب التام المحبة لمحبوبه المحسن إليه الذي قد امتلأت جوانحه من حبه فلا يجعل بيت إنكاره وقلبه معمورا بالفكر في حاسده والباغي عليه والطريق إلى الإنتقام منه والتدبير عليه هذا ما لا يتسع له إلا قلب خراب لم تسكن فيه محبة الله وإجلاله وطلب مرضاته
بل إذا مسه طيف من ذلك واجتاز ببابه من خارج ناداه حرس قلبه إياك وحمى الملك إذهب إلى بيوت الخانات التي كل من جاء حل فيها ونزل بها ما لك ولبيت السلطان الذي أقام عليه اليزك وأدار عليه الحرس وأحاطه بالسور
قال تعالى حكاية عن عدوه إبليس أنه قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ص آية 81 82 قال تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الحجر 42 وقال إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون النحل 100 وقال في حق الصديق كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين يوسف 24
فما أعظم سعادة من دخل هذا الحصن وصار داخل اليزك لقد آوى إلى حصن لا خوف على من تحصن به ولا ضيعة على من آوى إليه ولا مطمع للعدو في الدنو إليه منه وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الجمعة 4
السبب السابع تجريد التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه فإن الله تعالى يقول وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم الشورى 30 وقال لخير الخلق وهم أصحاب نبيه دونه أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم
مثلها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم آل عمران 165 فما سلط على العبد من يؤذيه إلا بذنب يعلمه أو لا يعلمه وما لا يعلمه العبد من ذنوبه أضعاف ما يعلمه منها وما ينساه مما علمه وعمله أضعاف ما يذكره
وفي الدعاء المشهور اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لم لا أعلم فما يحتاج العبد إلى الإستغفار منه مما لا يعلمه أضعاف أضعاف ما يعلمه فما سلط عليه مؤذ إلا بذنب
ولقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه فقال له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك فدخل فسجد لله وتضرع إليه وتاب وأناب إلى ربه ثم خرج إليه فقال له ما صنعت فقال تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي
وسنذكر إن شاء الله تعالى أنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها فليس للعبد إذا بغي عليه وأوذي وتسلط عليه خصومه شيء أنفع له من التوبة النصوح وعلامة سعادته أن يعكس فكره ونظره على نفسه وذنوبه وعيوبه فيشغل بها وبإصلاحها وبالتوبة منها فلا يبقى فيه فراغ لتدبر ما نزل به بل يتولى هو التوبة وإصلاح عيوبه والله يتولى نصرته وحفظه والدفع عنه ولا بد فما أسعده من عبد وما أبركها من نازلة نزلت به وما أحسن أثرها عليه ولكن التوفيق والرشد بيد الله لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فما كل أحد يوفق لهذا لا معرفة به ولا إرادة له ولا قدرة عليه ولا حول ولاقوة إلا بالله
السبب الثامن الصدقة والإحسان ما أمكنه فإن لذلك تأثيرا عجيبا في دفع البلاء ودفع العين وشر الحاسد ولو لم يكن في هذا إلا تجارب الأمم قديما وحديثا لكفى به فما يكاد العين والحسد والأذى يتسلط على محسن متصدق وإن أصابه شيء من ذلك كان معاملا فيه باللطف والمعونة والتأييد وكانت له فيه العاقبة الحميدة
فالمحسن المتصدق في خفارة إحسانه وصدقته عليه من الله جنة واقية وحصن حصين وبالجملة فالشكر حارس النعمة من كل ما يكون سببا لزوالها
ومن أقوى الأسباب حسد الحاسد والعائن فإنه لا يفتر ولا يني ولا يبرد قلبه حتى تزول النعمة عن المحسود فحينئذ يبرد أنينه وتنطفيء ناره لا أطفأها الله فما حرس العبد نعمة الله تعالى عليه بمثل شكرها ولا عرضها للزوال بمثل العمل فيها بمعاصي الله وهو كفران النعمة وهو باب إلى كفران المنعم
فالمحسن المتصدق يستخدم جندا وعسكرا يقاتلون عنه وهو نائم على فراشه فمن لم
يكن له جند ولا عسكر وله عدو فإنه يوشك أن يظفر به عدوه وإن تأخرت مدة الظفر والله المستعان
السبب التاسع وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه فكلما ازداد أذى وشرا وبغيا وحسدا ازددت إليه إحسانا وله نصيحة وعليه شفقة وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلا عن أن تتعاطاه فاسمع الآن قوله عز و جل ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وأما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فصلت 34 36 وقال أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرأون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون القصص 54
وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا أنه ضربه قومه حتى أدموه فجعل يسلت الدم عنه ويقول اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون // رواه البخاري ومسلم // كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه أحدها عفوه عنهم والثاني استغفاره لهم الثالث اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون الرابع استعطافه لهم بإضافتهم إليه فقال اغفر لقومي كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به هذا ولدي هذا غلامي هذا صاحبي فهبه لي
واسمع الآن ما الذي يسهل هذا على النفس ويطيبه إليها وينعمها به اعلم أن لك ذنوبا بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك
ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خلقه وتقابل به إساءتهم ليعاملك الله هذه المعاملة فإن الجزاء من جنس العمل فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل الله معك في ذنوبك وإساءتك جزاء وفاقا فانتقم بعد ذلك أو اعف وأحسن أو اترك فكما تدين تدان وكما تفعل مع عباده يفعل معك فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى ما أساء إليه هذا مع ما يحصل له بذلك من
نصر الله ومعيته الخاصة كما قال النبي للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيئون إليه فقال لا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك // رواه مسلم // هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه ويصيرون كلهم معه على خصمه فإنه كل من سمع أنه محسن إلى ذلك الغير وهو مسيء إليه وجد قلبه ودعاءه وهمته مع المحسن على المسيء وذلك أمر فطري فطر الله عباده فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكرا لا يعرفهم ولا يعرفونه ولا يريدون منه إقطاعا ولا خبرا هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى من أحب الناس إليه وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه ومن جرب هذا عرفه حق المعرفة والله هو الموفق المعين بيده الخير كله لا إله غيره وهو المسئول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمنه وكرمه
وفي الجملة ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة سنذكرها في موضع آخر إن شاء الله تعالى
السبب العاشر وهو الجامع لذلك كله وعليه مدار هذه الأسباب وهو تجريد التوحيد والترحل بالفكر في الأسباب إلى المسبب العزيز الحكيم
والعلم بأن هذه آلات بمنزلة حركات الرياح وهي بيد محركها وفاطرها وبارئها ولا تضر ولا تنفع إلا بإذنه فهو الذي يحسن عبده بها وهو الذي يصرفها عنه وحده لا أحد سواه قال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله الأنعام 17
وقال النبي لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء كتبه الله عليك // صحيح // فإذا جرد العبد التوحيد فقد خرج من قلبه خوف ما سواه وكان عدوه أهون عليه من أن يخافه مع الله تعالى بل يفرد الله بالمخافة وقد أمنه منه وخرج من قلبه اهتمامه به واشتغاله به وفكره فيه وتجرد الله محبة وخشية وإنابة وتوكلا واشتغالا به عن غيره فيرى أن إعماله فكره في أمر عدوه وخوفه منه واشتغاله به من نقص توحيده
وإلا فلوجرد توحيده لكان له فيه شغل شاغل والله يتولى حفظه والدفع عنه فإن الله يدافع عن الذين آمنوا فإن كان مؤمنا فالله يدافع عنه ولا بد وبحسب إيمانه يكون دفاع الله عنه فإن كمل إيمانه كان دفع الله عنه أتم دفع وإن مزج مزج له وإن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة كما قال بعض السلف من أقبل على الله بكليته أقبل الله عليه جملة ومن أعرض عن الله بكليته أعرض الله عنه جملة ومن كان مرة ومرة فالله له مرة ومرة
فالتوحيد حصن الله الأعظم الذي من دخله كان من الآمنين قال بعض السلف من خاف الله خافه كل شيء ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء
فهذه عشرة أسباب يندفع بها شر الحاسد والعائن والساحر وليس له أنفع من التوجه إلى الله وإقباله عليه وتوكله عليه وثقته به وأن لا يخاف معه غيره بل يكون خوفه منه وحده ولا يرجوا سواه بل يرجوه وحده فلا يعلق قلبه بغيره ولا يستغيث بسواه ولا يرجو إلا إياه ومتى علق قلبه بغيره ورجاه وخافه وكل إليه وخذل من جهته فمن خاف شيئا غير الله سلط عليه ومن رجا شيئا سوى الله خذل من جهته وحرم خيره هذه سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا الأحزاب 62 فصل التأثير لنفوس الحاسدين وأعينهم والأرواح الشيطانية
فقد عرفت بعض ما اشتملت عليه هذه السورة من القواعد النافعة الهامة التي لا غنى للعبد عنها في دينه ودنياه ودلت على أن نفوس الحاسدين وأعينهم لها تأثير وعلى أن الأرواح الشيطانية لها تأثير بواسطة السحر والنفث في العقد وقد افترق العالم في هذا المقام أربع فرق
ففرقة أنكرت تأثير هذا وهذا وهم فرقتان فرقة اعترفت بوجود النفوس الناطقة والجن وأنكرت تأثيرهما البتة وهذا قول طائفة من المتكلمين ممن أنكر الأسباب والتقوى والتأثيرات وفرقة أنكرت وجودهما بالكلية وقالت لا وجود لنفس الآدمي سوى هذا الهيكل المحسوس وصفاته وأعراضه فقط ولا وجود للجن والشياطين سوى أعراض قائمة به وهذا قول كثير من ملاحدة الطبائعيين وغيرهم من الملاحدة المنتسبين إلى الإسلام وهو قول شذوذ من أهل الكلام الذين ذمهم السلف وشهدوا عليهم بالبدعة والضلالة
الفرقة الثانية أنكرت وجود النفس الإنسانية المفارقة للبدن وأقرت بوجود الجن والشياطين وهذا قول كثير من المتكلمين من المعتزلة وغيرهم
الفرقة الثالثة بالعكس أقرت بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأنكرت وجود الجن والشياطين وزعمت أنها غير خارجة عن قوى النفس وصفاتها وهذا قول كثير من الفلاسفة الإسلاميين وغيرهم
وهؤلاء يقولون إنما يوجد في العالم من التأثيرات الغريبة والحوادث الخارقة فهي من تأثيرات النفس ويجعلون السحر والكهانة كله من تأثير النفس وحدها بغير واسطة شيطان منفصل وابن سينا وأتباعه على هذا القول حتى أنهم يجعلون معجزات الرسل من هذا الباب ويقولون إنما هي من تأثيرات النفس في هيولى العالم وهؤلاء كفار بإجماع أهل الملل وليسوا من أتباع الرسل جملة
الفرقة الرابعة وهم أتباع الرسل وأهل الحق أقروا بوجود النفس الناطقة المفارقة للبدن وأقروا بوجود الجن والشياطين وأثبتوا ما أثبته الله تعالى من صفاتهما وشرهما واستعاذوا بالله تعالى منه وعلموا أنه لا يعيذهم منه ولا يجيرهم إلا الله تعالى فهؤلاء أهل الحق ومن عداهم مفرط في الباطل أو معه باطل وحق الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فهذا ما يسر الله تعالى من الكلام على سورة الفلق سورة الناس
وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضا استعاذة ومستعاذا به ومستعاذا منه منه فالإستعاذة تقدمت وأما المستعاذ به فهو الله تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلاهيته لهم ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الإستعاذة من الشيطان الرجيم كما تقدم فنذكر أولا معنى هذه الإضافات الثلاث ثم وجه مناسبتها لهذه الإستعاذة
الإضافة الأولى إضافة الربوبية المتضمنة لخلقهم وتدبيرهم وتربيتهم وإصلاحهم وجلب مصالحهم وما يحتاجون إليه ودفع الشر عنهم وحفظهم مما يفسدهم هذا معنى ربوبيته لهم وذلك يتضمن قدرته التامة ورحمته الواسعة وإحسانه وعلمه بتفاصيل أحوالهم وإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم
الإضافة الثانية إضافة الملك فهو ملكهم المتصرف فيهم وهم عبيده ومماليكه وهو المتصرف لهم المدبر لهم كما يشاء النافذ القدرة فيهم الذي له السلطان التام
عليهم فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم عند الشدائد والنوائب وهو مستغاثهم ومعاذهم وملجؤهم فلا صلاح لهم ولا قيام إلا به وبتدبيره فليس لهم ملك غيره يهربون إليه إذا دهمهم العدو ويستصرخون به إذا نزل العدو بساحتهم
الإضافة الثالثة إضافة الإلهية فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله لهم سواه ولا معبود لهم غيره فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلاههم ومعبودهم فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته كما لا شريك معه في ربوبيته وملكه
وهذه طريقة القرآن الكريم يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلاهية والعبادة وإذا كان وحده هو ربنا ومالكنا وإلاهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا إليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعي ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب سواه ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه ولا يتوكل إلا عليه لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومولي شأنك وهو ربك فلا رب سواه أو تكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه
أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى حياتك وروحك وهو الإله الحق إله الناس الذي لا إله لهم سواه فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجئوا إلى غير حماة فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلاهيته لهم فكيف لا يلتجيء العبد عند النوازل ونزول عدوه به إلى ربه ومالكه وإلهه فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للإستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة وأشدهم ضررا وأبلغهم كيدا
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه فيقول رب الناس وملكهم وإلههم تحقيقا لهذا المعنى وتقوية له فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيهم من الإيذان بالمغايرة
والمقصود الإستعاذة بمجموع هذه الصفات حتى كأنها صفة واحدة وقدم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب وأخر الإلهية لخصوصها لأنه سبحانه إنما هو إله من عبده ووحده واتخذه دون غيره إلها فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه وإن كان في الحقيقة لا إله له سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلها غيره ووسط صفة الملك بين
الربوبية والإلهية لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره فهو المطاع إذا أمر وملكه لهم تابع لخلقه إياهم فملكه من كمال ربوبيته وكونه إلاههم الحق من كمال ملكه فربوبيته تستلزم ملكه وتقتضيه وملكه يستلزم إلهيته ويقتضيها فهو الرب الحق الملك الحق الإله الحق خلقهم بربوبيته وقهرهم بملكه استعبدهم بإلاهيته فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنته هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام وأحسن سياق رب الناس ملك الناس إله الناس وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان وتضمنت معاني أسمائه الحسنى
أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى فإن الرب هو القادر الخالق الباريء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي المانع الضار النافع المقدم المؤخر الذي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ويسعد من يشاء ويشقي ويعز من يشاء ويذل من يشاء إلى غير ذلك من معاني ربوبيته التي له منها ما يستحقه من الأسماء الحسنى
وأما الملك فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمور عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء وله من معنى الملك ما يستحقه من الأسماء الحسنى كالعزيز الجبار الحكم العدل الخافض الرافع المعز المذل العظيم الجليل الكبير الحسيب المجيد الوالي المتعالي مالك الملك المقسط الجامع إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك
وأما الإله فهو الجامع لجميع صفات الكمال ونعوت الجلال فيدخل في هذا الإسم جميع الأسماء الحسنى ولهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبويه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وأن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى فقد تضمنت هذه الأسماء الثلاثة جميع معاني أسمائه الحسنى فكان المستعيذ بها جديرا بأن يعاذ ويحفظ ويمنع من الوسواس الخناس ولا يسلط عليه
وأسرار كلام الله أجل وأعظم من أن تدركها عقول البشر وإنما غاية أولي العلم الإستدلال بما ظهر منها على ما وراء وإن باديه إلى الخافي يسير فصل الإستعاذة من الشر
وهذه السورة مشتملة على الإستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة فسورة الفلق تضمنت الإستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شر من
خارج وسورة الناس تضمنت الإستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر من داخل
فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه لأنه ليس من كسبه والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي فهذا شر المعائب والأول شر المصائب والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما فسورة الفلق تتضمن الإستعاذة من شر المصيبات وسورة الناس تتضمن الإستعاذة من شر العيوب التي أصلها كلها الوسوسة فصل الوسواس
إذا عرف هذا فالوسواس فعلال من وسوس وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يحس فيحترز منه فالوسواس الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد ومن هذا وسوسة الحلي وهو حركته الخفية في الأذن والظاهر والله تعالى أعلم إنها سميت وسوسة لقربها وشدة مجاورتها لمحل الوسوسة من شياطين الإنس وهو الأذن فقيل وسوسة الحلي لأنه صوت مجاور للأذن كوسوسة الكلام الذي يلقيه الشيطان في أذن من يوسوس له
ولما كانت الوسوسة كلاما يكرره الموسوس ويؤكد عند من يلقيه إليه كرروا لفظها بإزاء تكرير معناها فقالوا وسوس وسوسة فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه
ونظير هذا ما تقدم من متابعتهم حركة اللفظ بإزاء متابعة حركة معناه كالدوران والغليان والنزوان وبابه ونظير ذلك زلزل ودكدك وقلقل وكبكب الشيء لأن الزلزلة حركة متكررة وكذلك الدكدكة والقلقلة وكذلك كبكب الشيء إذا كبه في مكان بعيد فهو يكب فيه كبا بعد كب كقوله تعالى فكبكبوا فيها هم والغاوون الشعراء 94 ومثله رضرضة إذا كرر رضه مرة بعد مرة ومثله ذرذره إذا ذره شيئا بعد شيء ومثله صرصر الباب إذا تكرر صريره ومثله مطمط الكلام إذا مطه شيئا بعد شيء ومثله كفكف الشيء إذا كرر كفه وهو كثير
وقد علم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يصب لأن الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر فإذا قلت ذر الشيء وصر
الباب وكف الثوب ورض الحب لم يدل على تكرار الفعل بخلاف ذرذر وصرصر ورضرض ونحوه فتأمله فإنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني وقد تقدم التنبيه على ذلك فلا وجه لإعادته
وكذلك قولهم عج العجل إذا صوت فإن تابع صوته قالوا عجعج وكذلك ثج الماء إذا صب فإن تكرر ذلك قيل ثجثج والمقصود أن الموسوس لما كان يكرر وسوسته ويتابعها قبل وسوس فصل
هل الوسواس وصف أو مصدر
إذا عرف هذا فاختلف النحاة في لفظ الوسواس هل هو وصف أو مصدر الجواب على قولين ونحن نذكر حجة كل قول ثم نبين الصحيح من القولين بعون الله تعالى وفضلهأما من ذهب إلى أنه مصدر فاحتج بأن الفعل منه فعلل والوصف من فعلل إنما هو مفعلل كمدحرج ومسرهف ومبيطر ومسيطر وكذلك هو من فعل بوزن مفعل كمقطع ومخرج وبابه فلو كان الوسواس صفة لقيل موسوس ألا ترى أن اسم الفاعل من زلزل مزلزل لا زلزال وكذلك من دكدك مدكوك وهو مطرد فدل على أن الوسواس مصدر وصف به على وجه المبالغة أو يكون على حذف مضاف تقديره ذو الوسواس قالوا والدليل عليه أيضا قول الشاعر
تسمع للحلي بها وسواسا ...
فهذا مصدر بمعنى الوسوسة سواء
قال أصحاب الرأي الآخر الدليل على أنه وصف أن فعلل ضربان أحدهما صحيح لا تكرار فيه كدحرج وسرهف بيطر وقياس مصدر هذه الفعللة كالدحرجة والسرهفة والبيطرة والفعلان بكسر الفاء كالسرهاف والدحراج والوصف منه مفعلل كمدحرج ومبيطر
والثاني فعلل الثنائي المكرر كزلزل ودكدك ووسوس وهذا فرع على فعلل المجرد عن التكرار لأن الأصل السلامة من التكرار ومصدر هذا النوع والوصف منه مساو لمصدر الأول ووصفه فمصدره يأتي على الفعللة كالوسوسة والزلزلة والفعلال كالزلزال وأقيس المصدرين وأولاهما بنوعي فعلل الفعلان لأمرين
أحدهما أن فعلل مشاكل لأفعل في عدد الحروف وفتح الأول والثالث والرابع وسكون الثاني فجعل أفعال مصدر أفعل وفعلال مصدر فعلل ليتشاكل المصدران كما يتشاكل الفعلان فكان الفعلان أولى بهذا الوزن من الفعللة الثاني أن أصل المصدر أن يخالف وزنه وزن فعله ومخالفة فعلال لفعلل أشد من مخالفة فعللة له فكان فعلال أحق بالمصدرية من فعللة أو تساويا في الإطراد من أن فعللة أرجع في الإستعمال وأكثر هذا هو الأصل
وقد جاءوا بمصدر هذا الوزن المكرر مفتوح الفاء فقالوا وسوس الشيطان وسواسا ووعوع الكلب وعواعا إذا عوى وعظعظ السهم عظعاظا والجاري على القياس فعلال بكسر الفاء أو فعللة وهذا المفتوح نادر لأن الرباعي الصحيح أصل للمتكرر ولم يأت مصدر الصحيح مع كونه أصلا إلا على فعللة وفعلال بالكسر فلم يحسن بالرباعي المكرر لفرعيته أن يكون مصدره إلا كذلك لأن الفرع لا يخالف أصله بل يحتذي فيه حذوه وهذا يقتضي أن لا يكون مصدره على فعلال بالفتح فإن شذ حفظ ولم يزد عليه
قالوا وأيضا فإن فعلالا المفتوح الفاء قد كثر وقوعه صفة مصوغة من فعلل المكرر ليكون فيه نظير فعال من الثلاثي لأنهما متشاركان وزنا فاقتضى ذلك أن لا يكون لفعلال من المصدرية نصيب كما لم يكن لفعال فيها نصيب فلذلك استندروا وقوع وسواس ووعواع وعظعاظ مصادر وإنما حقها أن تكون صفات دالة على المبالغة في مصادر هذه الأفعال
قالوا وإذا ثبت هذا فحق ما وقع منها محتملا للمصدرية والوصفية أن يحمل على الوصفية حملا على الأكثر الغالب وتجنبا للشاذ فمن زعم أن الوسواس مصدر مضاف إليه ذو تقديرا فقوله خارج عن القياس والإستعمال الغالب ويدل على فساد ما ذهب إليه أمران
أحدهما أن كل مصدر أضيف إليه ذو تقديرا فتجرده للمصدرية أكثر من الوصف به كرضي وصوم وفطر وفعلال المفتوح لم يثبت تجرده للمصدرية إلا في ثلاثة ألفاظ فقط وسواس ووعواع وعظعاظ على أن منع المصدرية في هذا ممكن لأن غاية ما يمكن أن يستدل به على المصدرية قولهم وسوس إليه الشيطان وسواسا وهذا لا يتعين للمصدرية لاحتمال أن يراد به الوصفية وينتصب وسواسا على الحال ويكون حالا مؤكدة فإن الحال قد يؤكد بها عاملها الموافق لها لفظا ومعنى كقوله تعالى وأرسلناك للناس رسولا النساء 79 وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره نعم إنما تتعين مصدرية الوسواس بالسمع أعوذ بالله من وسواس الشيطان ونحو ذلك مما يكون الوسواس فيه مضافا إلى فاعله كما سمع ذلك في الوسوسة ولكن أين لكم ذلك فهاتوا شاهده فبذلك يتعين أن يكون الوسواس مصدرا بانتصابه بعد الفعل
الوجه الثاني من دليل فساد من زعم أن وسواسا مصدر مضاف إليه ذو تقديرا إن المصدر المضاف إليه ذكر تقديرا لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع بل يلزم طريقة واحدة ليعلم أصالته في المصدرية وأنه عارض الوصفية فيقال امرأة صوم وامرأتان صوم ونساء صوم لأن المعنى ذات صوم وذاتا صوم وذوات صوم وفعلال الموصوف به ليس كذلك بل يثنى ويجمع ويؤنث فتقول رجل ثرثار وامرأة ثرثارة ورجال ثرثارون
وفي الحديث أبغضكم إلى الثرثارون المتفيهقون // حسن // وقالوا ريح رفرافة أي
تحرك الأشجار وريح سفسافة أي تنخل التراب ودرع فضفاضة أي متسعة والفعل من ذلك كله فعلل والمصدر فعللة وفعلال بالكسر ولم ينقل في شيء من ذلك فعلال بالفتح وكذلك قالوا تمتام وفأفاء ولضلاض أي ماهر في الدلالة وفجفاج كثر الكلام وهرهار أي ضحاك وكهكاه ووطواط أي ضعيف وحشحاش وعسعاس أي خفيف وهو كثير ومصدره كله الفعللة والوصف فعلال بالفتح
ومثله هفهاف أي خميص ومثله دحداح أي قصير ومثله بجباج أي جسيم وتختاج أي ألكن شمشام أي سريع وشيء خشخاش أي مصوت وقعقاع مثله وأسد فضفاض أي كاسر وحية نضناض تحرك لسانها فقد رأيت فعلال في هذا كله وصفا لا مصدرا فما بال الوسواس أخرج عن نظائره وقياس بابه فثبت أن وسواسا وصف لا مصدر كثرثار وتمتام ودحداح وبابه
ويدل عليه وجه آخر وهو أنه وصفه بما يستحيل أن يكون مصدرا بل هو متعين الوصفية وهو الخناس فالوسواس والخناس وصفان لموصوف محذوف وهو الشيطان وحسن حذف الموصوف ههنا غلبة الوصف حتى صار كالعلم عليه والموصوف إنما يقبح حذفه إذا كان الوصف مشتركا فيقع اللبس كالطويل والقبيح والحسن ونحوه فيتعين ذكر الموصوف ليعلم أن الصفة له لا لغيره فأما إذا غلب الوصف واختص ولم يعرض فيه اشتراك فإنه يجري مجرى الإسم ويحسن حذف الموصوف كالمسلم والكافر والبر والفاجر والقاصي والداني والشاهد والوالي ونحو ذلك فحذف الموصوف هنا أحسن من ذكره
وهذا التفصيل أولى من إطلاق من منع حذف الموصوف ولم يفصل ومما يدل على أن الوسواس وصف لا مصدر أن الوصفية أغلب على فعلال من المصدرية كما تقدم فلو أريد المصدر لأتي بذو المضافة إليه ليزول اللبس وتتعين المصدرية فإن اللفظ إذا احتمل الأمرين على السواء فلا بد من قرية تدل على تعيين أحدهما فكيف والوصفية أغلب عليه من المصدرية
وهذا بخلاف صوم وفطر وبابهما فإنها مصادر لا تلبس بالأوصاف فإذا جرت أوصافا علم أنها على حذف مضاف أو تنزيلا للمصدر منزلة الوصف مبالغة على الطريقتين في ذلك فتعين أن الوسواس هو الشيطان نفسه وأنه ذات لا مصدر والله أعلم
فصل الخناس وبيان اشتقاقه
وأما الخناس فهو فعال من خنس يخنس إذا توارى واختفى ومنه قول أبي هريرة لقيني النبي في بعض طرق المدينة وأنا جنب فانخنست منه وحقيقة اللفظ اختفاء بعد ظهور فليست لمجرد الإختفاء ولهذا وصفت بها الكواكب في قوله تعالى فلا أقسم بالخنس التكوير 15 قال قتادة هي النجوم تبدو بالليل وتخنس بالنهار فتختفي ولا ترى وكذلك قال علي رضي الله عنه هي الكواكب تخنس بالنهار فلا ترى وقالت طائفة الخنس هي الراجعة التي ترجع كل ليلة إلى جهة المشرق وهي السبعة السيارة
قالوا وأصل الخنوس الرجوع إلى وراء والخناس مأخوذ من هذين المعنيين فهو من الإختفاء والرجوع والتأخر فإن العبد إذا غفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان وانبسط عليه وبذر فيه أنواع الوساوس التي هيأصل الذنوب كلها فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس وانقبض كما ينخنس الشيء ليتوارى وذلك الإنخناس والإنقباض هو أيضا تجمع ورجوع وتأخر عن القلب إلى خارج فهو تأخر ورجوع معه اختفاء
وخنس وانخنس يدل على الأمرين معا قال قتادة الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان فإذا ذكر العبد ربه خنس
ويقال رأسه كرأس الحية وهو واضع رأسه على ثمرة القلب يمنيه ويحدثه فإذا ذكر الله تعالى خنس وإذا لم يذكره عاد ووضع رأسه يوسوس إليه ويمنيه
وجيء من هذا الفعل بوزن فعال الذي للمبالغة دون الخانس والمنخنس إيذانا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه ودينه لا أنه يعرض له ذلك عند ذكر الله أحيانا بل إذا ذكر الله هرب وانخنس وتأخر فإن ذكر الله هو مقمعته التي يقمع بها كما يقمع المفسد والشرير بالمقامع التي تردعه من سياط وحديد وعصي ونحوها
فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه كالسياط والمقامع التي تؤذي من يضرب بها ولهذا يكون شيطان المؤمن هزيلا ضئيلا مضنى مما يعذبه ويقمعه به من ذكر الله وطاعته
وفي أثر عن بعض السلف أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيره في السفر لأنه كلما اعترضه صب عليه سياط الذكر والتوجه والإستغفار والطاعة فشيطانه معه في عذاب شديد ليس بمنزلة شيطان الفاجر الذي هو معه في راحة ودعة ولهذا يكون قويا عاتيا شديدا
فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله تعالى وتوحيده واستغفاره وطاعته عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار فلا بد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يعذبه شيطانه
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارا حتى يعزم عليها العبد وجاء بناء الخناس على وزن الفعال الذي يتكرر منه نوع الفعل لأنه كلما ذكر الله انخنس ثم إذا غفل العبد عاوده بالوسوسة فجاء بناء اللفظين مطابقا لمعنييهما فصل الصفة الثالثة للشيطان
وقوله الذي يوسوس في صدور الناس صفة ثالثة للشيطان فذكر وسوسته أولا ثم ذكر محلها ثانيا وأنها في صدور الناس وقد جعل الله للشيطان دخولا في جوف العبد ونفوذا إلى قلبه وصدره فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل بالعبد فلا يفارقه إلى الممات
وفي الصحيحين من حديث الزهري عن علي بن حسين عن صفية بنت حيي قالت كان رسول الله معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته ثم قمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي أسرعا فقال النبي على رسلكما إنها صفية بنت حيي فقالا سبحان الله يا رسول الله فقال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما سوءا أو قال شيئا // رواه البخاري //
وفي الصحيح أيضا عن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبي هريرة قال قال رسول الله إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط فإذا قضى أقبل فإذا ثوب بها أدبر فإذا قضي أقبل حتى يخطر بين الإنسان وقلبه فيقول اذكر كذا اذكر كذا حتى لا يدري أثلاثا صلى أم أربعا فإذا لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا سجد سجدتي السهو // رواه البخاري ومسلم //
ومن وسوسته ما ثبت وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي قال يأتي
الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا ومن خلق كذا حتى يقول من خلق الله فمن وجد ذلك فليستعذ بالله ولينته // رواه البخاري ومسلم // وفي الصحيح أن أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله إن أحدنا ليجد في نفسه ما لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يتكلم به قال الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة // صحيح //
ومن وسوسته أيضا أن يشغل القلب بحديثه حتى ينسيه ما يريد أن يفعله ولهذا يضاف النسيان إليه إضافته إلى سببه قال تعالى حكاية عن صاحب موسى إنه قال إني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره الكهف 63
وتأمل حكمة القرآن الكريم وجلالته كيف أوقع الإستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس ولم يقل من شر وسوسته لتعم الإستعاذة شره جميعه فإن قوله من شر الوسواس الناس 4 يعم كل شره ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شرا وأقواها تأثيرا وأعمها فسادا وهي الوسوسة التي هي مباديء الإرادة فإن القلب يكون فارغا من الشر والمعصية فيوسوس إليه ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها له ويحسنها ويخيلها له في خيال تميل نفسه إليه فيصير إرادة ثم لا يزال يمثل ويخيل ويمني ويشهي وينسى علمه بضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط وينسى ما وراء ذلك فتصبر الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب فيبعث الجنود في الطلب فيبعث الشيطان معهم مدادا لهم وعونا فإن فتروا حركهم وإن ونوا أزعجهم كما قال تعالى ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا مريم 83 أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا كلما فتروا أو ونوا أزعاجتهم الشياطين وأزتهم وأثارتهم فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب وتنظم شمل الإجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة
قد رضي لنفسه بالقيادة لفجرة بني آدم وهو الذي استكبر وأبى أن يسجد لأبيهم بتلك النخوة والكبر ولا يرضاه أن يصير قوادا لكل من عصى الله كما قال بعضهم
عجبت من إبليس في تيهه ... وقبح ما أظهر من نخوته
تاه على آدم في سجدة ... وصار قوادا لذريته شرور الشيطان
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة فلهذا وصفه بها لتكون الإستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضا
فمن شره أنه لص سارق لأموال الناس فكل طعام أو شراب لم يذكر اسم الله تعالى عليه فله فيه حظ بالسرقة والخطف وكذلك يبيت في البيت إذا لم يذكر فيه اسم الله تعالى فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم فيدخل سارقا ويخرج مغيرا ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقي في قلوب الناس يقظة ومناما إنه فعل كذا وكذا ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه أحد من الناس فيصبح والناس يتحدثون به وما ذاك إلا أن الشيطان زينه له وألقاه في قلبه ثم وسوس إلى الناس بما فعل وألقاه فأوقعه في الذنب ثم فضحه به فالرب تعالى يستره والشيطان يجهد في كشف ستره وفضيحته فيغتر العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله تعالى ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته وفضيحته وقل من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة ومن شره أنه إذا نام العبد عقد على رأسه عقدا تمنعه من اليقظة كما في صحيح البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله قال ويعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقدة يضرب على كل عقدة مكانها عليك ليل طويل فارقد فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة كلها فأصبح نشيطا طيب النفس وإلا أصبح خبيث النفس كسلان // رواه البخاري ومسلم //
ومن شره أن يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح كما ثبت عن النبي أنه ذكر عنده رجل نام ليله حتى أصبح قال ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه أو قال في أذنيه // رواه البخاري // رواه البخاري ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه بجهده أن يسلكه فإن خالفه وسلكه ثبطه فيه وعوقه وشوش عليه بالمعارضات والقواطع فإن عمله وفرغ منه قيض له ما يبطل أثره ويرده على حافرته
ويكفي من شره أنه أقسم بالله ليقعدن لبني آدم صراطه المستقيم وأقسم ليأتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولقد بلغ شره أن أعمل المكيدة وبالغ في الحيلة حتى أخرج آدم من الجنة ثم لم يكفه ذلك حتى استقطع من أولاده شرطة النار من كل ألف وتسعة وتسعين ثم لم يكفه ذلك حتى أعمل الحيلة في إبطال دعوة الله من الأرض وقصد أن تكون الدعوة له وأن يعبد من دون الله فهو ساع بأقصى جهده على إطفاء نور الله وإبطال دعوته وإقامة دعوة الكفر والشرك ومحو التوحيد وأعلامه من الأرض
ويكفي من شره أنه تصدى لإبراهيم خليل الرحمن حتى رماه قومه بالمنجنيق في النار فرد الله تعالى كيده عليه وجعل النار على خليله بردا وسلاما وتصدى حتى أراد اليهود قتله وصلبه فرد الله كيده وصان المسيح ورفعه إليه وتصدى لزكريا ويحيى حتى قتلا واستثار فرعون حتى زين له الفساد العظيم في الأرض ودعوى أنه ربهم الأعلى وتصدى للنبي وظاهر الكفار على قتله بجهده والله تعالى يكبته ويرده خاسئا وتفلت على النبي بشهاب من نار يريد أن يرميه به وهو في الصلاة فجعل النبي يقول ألعنك بلعنة الله
وأعان اليهود على سحرهم للنبي فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فكيف الخلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده وإعاذته ولا يمكن حصر أجناس شره فضلا عن آحادها إذ كل شر في العالم فهو السبب فيه ويكن ينحصر شره في ستة أجناس لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحدا منها أو أكثر
الشر الأول شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه وهو أول ما يريد من العبد فلا يزال به حتى يناله منه فإذا نال ذلك صيره من جنده وعسكره وإستنابه على أمثاله وأشكاله فصار من دعاة إبليس ونوابه
فإذا يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي البدعة وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعد وهي ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعا إلى خلاف ما جاءوا به وهي باب الكفر والشرك فإذا نال منه البدعة وجعله من أهلها بقي أيضا نائبه وداعيا من دعائه
فإن أعجزه من هذه المرتبة وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة ومعاداة أهل البدع والضلال نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر وهي الكبائر على اختلاف أنواعها فهو أشد حرصا على أن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالما متبوعا فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه ثم يشيع من ذنوبه ومعاصيه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها ويذيعها تدينا وتقربا بزعمه إلى الله تعالى وهو نائب إبليس ولا يشعر فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم هذا إذا أحبوا إشاعتها وإذاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها وإذاعتها لا نصيحة منهم ولكن طاعة لإبليس ونيابة عنه كل ذلك لينفر الناس عنه وعن الإنتفاع به وذنوب هذا ولو بلغت عنان السماء أهون عند الله من ذنوب هؤلاء فإنها ظلم منه لنفسه إذا استغفر الله وتاب إليه قبل الله توبته وبدل سيئاته حسنات وأما ذنوب أولئك فظلم للمؤمنين وتتبع لعورتهم وقصد لفضيحتهم والله سبحانه بالمرصاد لا تخفى عليه كمائن الصدور ودسائس النفوس
فإن عجز الشيطان عن هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض // صحيح // وذكر حديثا معناه أن كل واحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة فطبخوا واشتووا ولا يزال يسهل عليه أمر الصغائر حتى يستهين بها فيكون صاحب الكبيرة الخائف منها أحسن حالا منه
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي إشغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب بل عاقبتها فوت الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها
فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة وكان حافظا لوقته شحيحا به يعلم مقدار أنفاسه
وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب نقله إلى المرتبة السادسة وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيأمره بفعل الخير المفضول ويحضه عليه ويحسنه له إذا تضمن ترك ما هو أفضل وأعلى منه وقل من يتنبه لهذا من الناس فإنه إذا رأى فيه داعيا قويا ومحركا إلى نوع من الطاعة لا يشك أنه طاعة وقربة فإنه لا يكاد يقول إن هذا الداعي من الشيطان فإن الشيطان لا يأمر بخير ويرى أن هذا خير فيقول هذا الداعي من الله وهو معذور ولم يصل علمه إلى أن الشيطان يأمر بسبعين بابا من أبواب الخير إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر وإما ليفوت بها خيرا أعظم من تلك السبعين بابا وأجل وأفضل
وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد يكون سببه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها إليه وأرضاها له وأنفعها للعبد وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين خاصتهم وعامتهم ولا يعرف هذا إلا من كان من ورثة الرسول ونوابه في الأمة وخلفائه في الأرض وأكثر الخلق محجوبون عن ذلك فلا يخطر بقلوبهم والله تعالى يمن بفضله على من يشاء من عباده
فإن أعجزه العبد من هذه المراتب الست وأعيا عليه سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والتضليل والتبديع والتحذير منه وقصد إخماله وإطفائه ليشوش عليه قلبه ويشغل بحربه فكره وليمنع الناس من الإنتفاع به فيبقى سعيه في تسليط المبطلين من شياطين الإنس والجن عليه ولا يفتر ولا يني فحينئذ يلبس المؤمن لأمة الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت ومتى وضعها أسر أو أصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله
فتأمل هذا الفصل وتدبر موقعه وعظيم منفعته واجعله ميزانك تزن به الناس وتزن به الأعمال فإنه يطلعك على حقائق الوجود ومراتب الخلق والله المستعان وعليه التكلان ولو لم يكن في هذا التعليق إلا هذا الفصل لكان نافعا لمن تدبره ووعاه فصل الصدور والقلوب
وتأمل السر في قوله تعالى يوسوس في صدور الناس ولم يقل في قلوبهم والصدر هو ساحة القلب وبيته فمنه تدخل الواردات إليه فتجتمع في الصدر ثم تلج
في القلب فهو بمنزلة الدهليز له ومن القلب تخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر ثم تتفرق على الجنود
ومن فهم هذا فهم قوله تعالى وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم آل عمران 154 فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته فيلقي ما يريد إلقاءه في القلب فهو موسوس في الصدر ووسوسته واصلة إلى القلب ولهذا قال تعالى فوسوس إليه الشيطان طه 120 ولم يقل فيه لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله فيه فدخل في قلبه فصل الجار والمجرور من الجنة والناس
وقوله تعالى من الجنة والناس اختلف المفسرون في هذا الجار والمجرور بم يتعلق
فقال الفراء وجماعة هو بيان للناس الموسوس في صدورهم والمعنى يوسوس في صدور الناس الذين هم من الجن والإنس أي الموسوس في صدورهم قسمان إنس وجن
فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي وعلى هذا القول فيكون من الجنة والناس نصب على الحال لأنه مجرور بعد معرفة على قول البصريين وعلى قول الكوفيين نصب بالخروج من المعرفة هذه عبارتهم ومعناها أنه لما يصلح أن يكون نعتا للمعرفة انقطع عنها فكان موضعه نصبا والبصريون يقدرونه حالا أي كائنين من الجنة والناس وهذا القول ضعيف جدا لوجوه
أحدها أنه لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجن ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي ويجري منه مجراه من الإنسي فأي دليل يدل على هذا حتى يصح حمل الآية عليه
الثاني أنه فاسد من جهة اللفظ أيضا فإنه قال الذي يوسوس في صدور الناس فكيف يبين الناس بالناس فإن معنى الكلام على قوله يوسوس في صدور الناس الذين هم أو كائنين من الجنة والناس أفيجوز أن يقال في صدور الناس الذين هم من الناس وغيرهم هذا ما لا يجوز ولا هو استعمال فصيح
الثالث أن يكون قد قسم الناس إلى قسمين جنة وناس وهذا غير صحيح فإن الشيء لا يكون قسيم نفسه
الرابع أن الجنة لا يطلق عليهم اسم الناس بوجه لا أصلا ولا اشتقاقا ولا استعمالا ولفظهما يأبى ذلك فإن الجن إنما سموا جنا من الإجتنان وهو الإستتار فهو مستترون عن أعين البشر قسموا جنا لذلك من قولهم جنه الليل وأجنه إذا ستره وأجن الميت إذا ستره في الأرض قال
ولا تبك ميتا بعد ميت أجنه ... علي وعباس وآل أبي بكر
يريد النبي ومنه الجنين لاستتاره في بطن أمه قال تعالى وإذا أنتم أجنة في بطون أمهاتكم النجم 31 ومنه المجن لاستتار المحارب به من سلاح خصمه
ومنه الجنة لاستتار داخلها بالأشجار ومنه الجنة بالضم لما بقي الإنسان من السهام والسلاح ومنه المجنون لاستتار عقله وأما الناس فبينه وبين الإنس مناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط وهو عقد تقاليب الكلمة إلى معنى واحد والإنس والإنسان مشتق من الإيناس وهو الرؤية والإحساس ومنه قوله آنس من جانب الطور نارا القصص 29 أي رآها
ومنه فإن آنستم منهم رشدا النساء 6 أي أحسستموه ورأيتموه فالإنسان سمي إنسانا لأنه يونس أي يرى بالعين والناس فيه قولان أحدهما أنه مقلوب من أنس وهو بعيد والأصل عدم القلب والثاني هو الصحيح أنه من النوس وهو الحركة المتتابعة فسمي الناس ناسا للحركة الظاهرة والباطنة كما سمي الرجل حارث وهمام أصدق الأسماء كما قال النبي صلى الله عليه و سلم // صحيح // لأن كل أحد له هم
وإرادة وهي مبدأ وحرث وعمل هو منتهى فكل أحد حارث وهمام والحرث والهم حركتا الظاهر والباطن وهو حقيقة النوس وأصل ناس نوس تحركت الواو قبلها فصارت ألفا هذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس
وأما قول بعضهم أنه من النسيان وسمي الإنسان إنسانا لنسيانه وكذلك الناس سموا ناسا لنسيانهم فليس هذا القول بشيء وأين النسيان الذي مادته ن س ي إلى الناس الذي مادته ن و س وكذلك أين هو من الإنس الذي مادته ا ن س وأما إنسان فهو فعلان من أ ن س والألف والنون في آخره زائدان لا يجوز فيه غير هذا البتة إذ ليس في كلامهم أنس حتى لا يكون إنسانا إفعالا منه ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوله زائدتين إذ ليس في كلامهم انفعل فيتبين أنه فعلان من الأنس ولو كان مشتقا من نسي لكان نسيانا لا إنسانا
فإن قلت فهلا جعلته إفعلالا وأصله إنسيان كليلة إصحيان ثم حذفت الياء تخفيفا فصار إنسانا
قلت يأبى ذلك عدم افعلال في كلامهم وحذف الياء بغير سبب ودعوى ما لا نظير له وذلك كله فاسد على أن الناس قد قيل إن أصله الأناس فحذفت الهمزة فقيل الناس واستدل بقول الشاعر
إن المنايا يطلعن على الأناس الغافلين ...
ولا ريب أن أناسا فعال ولا يجوز فيه غير ذلك البتة فإن كان أصل ناس أناسا فهو أقوى الأدلة على أنه من أنس ويكون الناس كالإنسان سواء في الإشتقاق ويكون وزن ناس على هذا القول عال لأن المحذوف فاؤه وعلي القول الأول يكون وزنه فعل لأنه من النوس
وعلى القول الضعيف يكون وزنه فلع لأنه من نسي فقلبت لامه إلى موضع العين فصار ناسا ووزنه فلعا
والمقصود أن الناس إسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم فلا يصح أن يكون من الجنة والناس بيانا لقوله في صدور الناس وهذا واضح لا خفاء فيه
فإن قيل لا محذور في ذلك فقد أطلق على الجن اسم الرجال كما في قوله تعالى وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن الجن 6 فإذا أطلق عليهم اسم الرجال لم يمتنع أن يطلق عليهم اسم الناس
قلت هذا هو الذي غر من قال إن الناس اسم للجن والإنس في هذه الآية وجواب ذلك أن اسم الرجال إنما وقع عليهم وقوعا مقيدا في مقابلة ذكر الرجال من الإنس ولا يلزم من هذا أن يقع اسم الناس والرجال عليهم مطلقا
وأنت إذا قلت إنسان من حجارة أو رجل من خشب ونحو ذلك لم يلزم من ذلك وقوع اسم الرجل والإنسان عند الإطلاق على الحجر والخشب وأيضا فلا يلزم من إطلاق اسم الرجل على الجني أن يطلق عليه اسم الناس وذلك لأن الناس والجنة متقابلان وكذلك والإنس والجن فالله تعالى يقابل بين اللفظين كقوله يا معشر الجن والإنس الرحمن 33 وهو كثير في القرآن
وكذلك قوله من الجنة والناس الناس 6 يقتضي أنهما متقابلان فلا يدخل أحدهما في الآخر بخلاف الرجال والجن فإنهما لم يستعملا متقابلين فلا يقال الجن والرجال كما يقال الجن والإنس وحينئذ فالآية أبين حجة عليهم في أن الجن لا يدخلون في لفظ الناس لأنه قابل بين الجنة والناس فعلم أن أحدهما لا يدخل في الآخر فالصواب القول الثاني وهو أن قوله من الجنة والناس بيان للذي يوسوس وأنهما نوعان إنس وجن فالجني يوسوس في صدور الإنس والإنسي أيضا يوسوس إلى الإنسي
فالموسوس نوعان إنس وجن فإن الوسوسة هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي ووسوسته إنما هي بواسطة الأذن والجني لا يحتاج إلى تلك الواسطة لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم
على أن الجني قد يتمثل له ويوسوس إليه في أذنه كالإنسي كما في البخاري عن عروة عن عائشة عن النبي أنه قال إن الملائكة تحدث في العنان والعنان الغمام بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة فتقرها في أذن الكاهن كما تقر القارورة فيزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم // رواه البخاري والترمذي // فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن
ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني قال تعالى وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا الأنعام 112
فالشيطان يوحي إلى الإنسي باطله ويوحيه الإنسي إلى إنسي مثله فشياطين الإنس والجن يشتركان في الوحي الشيطاني ويشتركان في الوسوسة وعلى هذا فتزول تلك الإشكالات والتعسفات التي ارتكبها أصحاب القول الأول وتدل الآية على الإستعاذة من شر نوعي الشياطين شياطين الإنس والجن وعلى القول الأول إنما تكون الإستعاذة من شر شياطين الجن فقط فتأمله فإنه بديع جدا
فهذا ما من الله به من الكلام على بعض أسرار هاتين السورتين وله الحمد والمنة وعسى الله أن يساعد بتفسير على هذا النمط فما ذلك على الله بعزيز والحمد لله رب العالمين ونختم الكلام على السورتين بذكر
قاعدة نافعة اعتصام العبد من الشيطان
فما يعتصم به العبد من الشيطان ويستدفع به شره ويحترز منه وذلك في عشرة أسبابالحرز الأول الإستعاذة بالله من الشيطان أحدهما الإستعاذة بالله من الشيطان قال تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم فصلت 36 وفي موضع آخر إنه هو سميع عليم وقد تقدم أن السمع المراد به هاهنا سمع الإجابة لا مجرد السمع التام
وتأمل سر القرآن الكريم كيف أكد الوصف بالسميع العليم بذكر صيغة هو الدال على تأكيد النسبة واختصاصها وعرف الوصف بالألف واللام في سورة حم لاقتضاء المقام لهذا التأكيد وتركه في سورة الأعراف لاستغناء المقام عنه فإن الأمر بالإستعاذة في سورة حم وقع بعد الأمر بأشق الأشياء على النفس وهو مقابلة إساءة المسيء بالإحسان إليه وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الصابرون ولا يلقاه إلا ذو حظ عظيم كما قال الله تعالى
والشيطان لا يدع العبد يفعل هذا بل يريه أن هذا ذل وعجز ويسلط عليه عدوه فيدعوه إلى الإنتقام ويزينه له فإن عجز عنه دعاه إلى الإعراض عنه وأن لا يسيء إليه ولا يحسن فلا يؤثر الإحسان إلى المسيء إلا من خالفه وآثر الله تعالى وما عنده على حظه العاجل فكان المقام مقام تأكيد وتحريض فقال فيه وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم
وأما في سورة الأعراف فإنه أمره أن يعرض عن الجاهلين وليس فيها الأمر بمقابلة إساءتهم بالإحسان بل بالإعراض وهذا سهل على النفوس غير مستعص عليها فليس حرص الشيطان وسعيه في دفع هذا كحرصه على دفع المقابلة بالإحسان فقال وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم
وقد تقدم ذكر الفرق بين هذين الموضعين وبين قوله في حم المؤمن فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير وفي صحيح البخاري عن عدي بن ثابت عن سليمان بن صرد قال كنت جالسا مع النبي ورجلان يستبان فأحدهما احمر وجهه وانتفخت أوداجه فقال النبي إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد // رواه البخاري ومسلم //
الحرز الثاني قراءة هاتين السورتين فإن لهما تأثيرا عجيبا في الإستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه ولهذا قال النبي ما تعوذ المتعوذون بمثلهما وقد تقدم أنه كان يعوذ بهما كل ليلة عند النوم وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة
وتقدم قوله إن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثا حين يمسي وثلاثا حين يصبح كفته من كل شيء
الحرز الثالث قراءة أية الكرسي ففي الصحيح من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان فأتى آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله فذكر الحديث فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي فإنه لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فقال النبي صدقك وهو كذوب ذاك الشيطان // رواه البخاري //
وسنذكر إن شاء الله تعالى السر الذي لأجله كان لهذه الآية العظيمة هذا التأثير العظيم في التحرز من الشيطان واعتصام قارئها بها في كلام مفرد عليها وعلى أسرارها وكنوزها بعون الله تعالى وتأييده
الحرز الرابع قراءة سورة البقرة ففي الصحيح من حديث سهل عن عبدالله عن أبي هريرة أن رسول الله قال لا تجعلوا بيوتكم قبورا وأن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان // رواه مسلم والترمذي //
الحرز الخامس قراءة خاتمة سورة البقرة فقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى الأنصاري قال قال رسول الله من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه // رواه البخاري ومسلم // وفي الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي قال إن الله كتب كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة فلا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان // صحيح //
الحرز السادس أول سورة حم المؤمن إلى قوله تعالى إليه المصير مع آية الكرسي في الترمذي من حديث عبدالرحمن بن أبي بكر عن ابن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله من قرأ حم المؤمن إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح // ضعيف // وعبدالرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته
الحرز السابع لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ففي الصحيحين من حديث سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله قال من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشرة رقاب
وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك // رواه البخاري ومسلم // فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله تعالى عليه
الحرز الثامن كثرة ذكر الله وهو من أنفع الحروز من الشيطان ففي الترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي قال إن الله أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات أن يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها وأنه كاد يبطيء بها فقال عيسى إن الله أمرك بخمس كلمات لتعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم
فقال يحيى أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي أو أعذب فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ وقعدوا على الشرف فقال إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأمركم أن تعملوا بهن أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن مثل من أشرك بالله كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق فقال هذه داري وهذا عملي فاعمل وأد إلي فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده فأيكم يرضى أن يكون عبده كذلك
وإن الله أمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا تلتفتوا فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت
وأمركم بالصيام فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها مسك فكلهم يعجب أو بعجبه ريحها وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك
وأمركم بالصدقة فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يده إلى عنقه وقدموه ليضربوا عنقه فقال أنا أفديه منكم بالقليل والكثير ففدى نفسه منهم
وأمركم أن تذكروا الله فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في أثره سراعا حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم كذلك العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله
قال النبي وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإن من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن ادعى دعوى الجاهلية فإنه من حثاء جهنم فقال رجل يا رسول الله
وإن صلى وصام قال وإن صلى وصام // صحيح // فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله
قال الترمذي هذا حديث حسن غريب صحيح وقال البخاري الحارث الأشعري له صحبة وله غير هذا الحديث فقد أخبر النبي في هذا الحديث أن العبد لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة قل أعوذ برب الناس فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس والخناس الذي إذا ذكر العبد الله انخنس وتجمع وانقبض وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب وألقى إليه الوساوس التي هي مباديء الشر كله فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله عز و جل
الحرز التاسع الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز به منه ولا سيما عند توارد قوة الغضب والشهوة فإنها نار تغلي في قلب ابن آدم كما في الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي أنه قال ألا وإن الغضب جمرة في قلب ابن آدم أما رأيتم إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحس بشيء من ذلك فليلصق بالأرض // صحيح //
وفي أثر آخر إن الشيطان خلق من نار وإنما تطفأ النار بالماء // ضعيف // فما
أطفأ العبد جمرة الغضب والشهوة بمثل الوضوء والصلاة فإنها نار والوضوء يطفئها والصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال فيها على الله أذهبت أثر ذلك كله وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل عليه
الحرز العاشر إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس فإن الشيطان إنما يتسلط على ابن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة فإن فضول النظر يدعو إلى الإستحسان ووقوع صورة المنظور إليه في القلب والإشتغال به والفكرة في الظفر به فمبدأ الفتنة من فضول النظر كما في المسند عن النبي أنه قال النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره لله أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه // ضعيف جدا // أو كما قال فالحوادث العظام إنما كلها من فضول النظر فكم نظرة أعقبت حسرات لا حسرة كما قال الشاعر
كل الحوادث مبداها من النظر ... ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها ... فتك السهام بلا قوس ولا وتر
وقال الآخر
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا ... لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر ... عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقال المتنبي
وأنا الذي جلب المنية طرفه ... فمن المطالب والقتيل القاتل
ولي من أبيات
يا راميا بسهام اللحظ مجتهدا ... أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء له ... توقه إنه يرتد بالعطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض ... فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنيا نفسه في إثر أقبحهم ... وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهبا عمره في مثل ذا سفها ... لو كنت تعرف قدر العمر لم تهب
وبائعا طيب عيش ما له خطر ... بطيف عيش من الآلام منتهب
عينت والله غبنا فاحشا فلو اس ... ترجعت ذا العقد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفو عيش كله كدر ... أمامك الورد صفوا ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا ... لكل داهية تدنو من العطب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب ... وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها ... والطي في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد فاز وانقشعت ... عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذات التخلف والدنيا قد ارتحلت ... ورسل ربك قد وافتك في الطلب
ما في الديار وقد سارت ركائب من ... تهواه للصب من سكني ولا أرب
فأفرش الخد ذياك التراب وقل ... ما قاله صاحب الأشواق في الحقب
ما ربع مية محفوفا يطوف به ... غيلان أشهى له من ربعك الخرب
ولا الخدود وإن أدمين من ضرج ... أشهى إلى ناظري من خدك الترب
منازلا كان يهواها ويألفها ... أيام كان منال الوصل عن كثب
فكلما جليت تلك الربوع له ... يهوى إليها هوي الماء في صب
أحيا له الشوق تذكار العهود بها ... فلو دعا القلب للسلوان لم يجب
هذا وكم منزل في الأرض يألفه ... وما له في سواها الدهر من رغب
ما في الخيام أخو وجد يريحك إن ... بثثته بعض شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتديا ... بنفحة الطيب لا بالنار والحطب
وعاد كل أخي جبن ومعجزة ... وحارب النفس لا تلقيك في الحرب
وخذ لنفسك نورا تستضيء به ... يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب
فالجسر ذو ظلمات ليس بقطعه ... إلا بنور ينجي العبد في الكرب
والمقصود أن فضول النظر أصل البلاء وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابا من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب كلها وكم من حرب جرتها كلمة واحدة وقد قال النبي لمعاذ وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم // صحيح لغيره // وفي الترمذي أن رجلا من الأنصار توفي
فقال بعض الصحابة طوبى له فقال النبي فما يدريك فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه // ضعيف // وأكثر المعاصي إنما تولدها من فضول الكلام والنظر وهما أوسع مداخل الشيطان فإن جارحتيهما لا يملأن ولا يسأمان بخلاف شهوة البطن فإنه إذا امتلأ لم يبق فيه إرادة للطعام وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا من النظر والكلام فجنايتهما متسعة الأطراف كثيرة الشعب عظيمة الآفات وكان السلف يحذرون من فضول النظر كما يحذرون من فضول الكلام وكانوا يقولون ما شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان
وأما فضول الطعام فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقلها عن الطاعات وحسبك بهذين شرا فكم من معصية جلبها الشبع وفضول الطعام وكم من طاعة حال دونها فمن وقى شر بطنه فقد وقى شرا عظيما والشيطان أعظم ما يتحكم من الإنسان إذا ملأ بطنه من الطعام ولهذا جاء في بعض الآثار ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم وقال النبي ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ولو لم يكن في الإمتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله ساعة واحدة جثم عليه الشيطان ووعده ومناه وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت وجالت وطافت على أبواب الشهوات وإذا جاعت سكنت وخشعت وذلت مخالطة الناس
إن فضول المخالطة هي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة وكم زرعت من عداوة وكم غرست في القلب من حزازات تزول الجبال الراسيات وهي في القلوب لا تزول ففضول المخالطة فيه خسارة الدنيا والآخرة وإنما ينبغي للعبد أن يأخذ من المخالطة بمقدار الحاجة ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر ولم يميز بينهما دخل عليه الشر
أحدها من مخالطته كالغذاء لا يستغنى عنه في اليوم والليلة فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة ثم إذا احتاج إليه خالطه هكذا على الدوام وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر وهم العلماء بالله تعالى وأمره ومكايد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها الناصحون لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولخلقه فهذا الضرب في مخالطتهم الربح كله
القسم الثاني من مخالطته كالدواء يحتاج إليه عند المرض فما دمت صحيحا فلا حاجة لك في خلطته وهم من لا يستغنى عنه مخالطتهم في مصلحة المعاش وقيام ما أنت محتاج إليه من أنواع المعاملات والمشاركات والإستشارة والعلاج للأدواء ونحوها فإذا قضيت حاجتك من مخالطة هذا الضرب بقيت مخالطتهم من
القسم الثالث وهم من مخالطته كالداء على اختلاف مراتبه وأنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال والمرض المزمن وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد من أن تخصر عليه الدين والدنيا أو أحدهما فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت فهي مرض الموت المخوف
ومنهم من مخالطته كوجع الضرس يشتد ضربا عليك فإذا فارقك سكن الألم
ومنهم من مخالطته حمى الروح وهو الثقيل البغيض العقل الذي لا يحسن أن يتكلم فيفيدك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك ولا يعرف نفسه فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصي تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه وفرحه به فهو يحدث من فيه كلما تحدث ويظن أنه مسك يطيب به المجلس وإن سكت فأثقل من نصف الرحا العظيمة التي لا يطاق حملها ولا جرها على الأرض
ويذكر عن الشافعي رحمه الله أنه قال ما جلس إلى جانبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أنزل من الجانب الآخر
ورأيت يوما عند شيخنا قدس الله روحه رجلا من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله فالتفت إلي وقال مجالسة الثقيل حمى الربع ثم قال لكن قد أدمنت أرواحنا على الحمى فصارت لها عادة أو كما قال وبالجملة فمخالطة كل مخالف حمى للروح فعرضية ولازمة
ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب وليس له بد من معاشرته ومخالطته فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا
القسم الرابع من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم فإن اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء وما أكثر هذا الضرب في الناس لا كثرهم الله وهم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة والمعروف منكرا والمنكر معروفا إن جردت التوحيد بينهم قالوا تنقصت جناب الأولياء والصالحين وإن جردت المتابعة لرسول الله قالوا أهدرت الأئمة المتبوعين
وإن وصفت الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير قالوا أنت من المشبهين وإن أمرت بما أمر الله به ورسوله من المعروف ونهيت عما نهى الله عنه ورسوله من المنكر قالوا أنت من المفتنين وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا أنت من أهل البدع المضلين وإن انقطعت إلى الله تعالى وخليت بينهم وبين جيفة الدنيا قالوا أنت من المبلسين وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم فأنت عند الله تعالى من الخاسرين وعندهم من المنافقين فالحزم كل الحزم التماس مرضاة الله تعالى ورسوله بإغضابهم وأن لا تشتغل بإعتابهم ولا باستعتابهم ولا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإن عين كمالك كما قال
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وقال آخر
وقد زادني حبا لنفسي أنني ... بغيض إلى كل امريء غير طائل
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرزه من الشيطان فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه أبواب جهنم وفتح عليها أبواب الرحمة وانغمر ظاهره وباطنه ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد القوم التقي وعند الصباح يحمد القوم السرى والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه
بسم الله الرحمن الرحيم فصل دعاء العبادة ودعاء المسألة
قوله عز و جل ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنينهاتان الآيتان مشتملتان على آداب نوعي الدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة فإن الدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويرادبه مجموعهما وهما متلازمان فإن دعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي وطلب كشف ما يضره أو دفعه وكل من يملك الضر والنفع فإنه هو المعبود حقا والمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضرر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا
وذلك كثير في القرآن كقوله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم وقوله تعالى ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك وقوله تعالى قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم وقوله تعالى أفتعبدون من دون الله ما لاينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله وقوله تعالى واتل عليهم نبأإبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذا تدعون أو ينفعونكم أو يضرون وقوله تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا فنفى سبحانه عن هؤلاء المعبودين من دونه النفع والضر القاصر والمتعدي فلا يملكونه لأنفسهم ولا لعابديهم
وهذا في القرآن كثير بيد أن المعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعي خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان
فعل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وعلى هذا فقوله تعالى إذا سألك عبادى عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان يتناول نوعي الدعاء وبكل منهما فسرت الآية قيل أعطيه إذا سألني وقيل أثيبه إذا عبدني والقولان متلازمان وليس هذا من استعمال اللفظ المشترك في معنييه كليهما أو استعمال اللفظ في حقيقة ومجازه بل هذا استعمال له في حقيقةته الواحدة المتضمنة للأمرين جميعا فتأمله فإنه موضع عظيم النفع قل من يفطن له وأكثر ألفاظ القرآن الدالة على معنيين فصاعدا هي من هذا القبيل ومثال ذلك قوله أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل فسر بالزوال وفسر الدلوك بالغروب وحكيا قولين في كتب التفسير وليسا بقولين بل اللفظ يتناولهما معا فإن الدلوك هو الميل ودلوك الشمس ميلها ولهذا الميل مبدأ ومنتهى فمبدأه الزوال ومنتهاه الغروب فاللفظ متناول لهما بهذا الاعتبار لا يتناول المشترك لمعنييه ولا اللفظ لحقيقته ومجازه
ومثاله أيضا ما تقدم من تفسير الغاسق بالليل والقمر وإن ذلك ليس باختلاف بل يتناولهما لتلازمهما فإن القمر آية الليل ونظائره كثيرة
ومن ذلك قوله عز و جل قل ما يعبأبكم ربي لولا دعاؤكم قيل لولا دعاؤكم إياه وقيل دعاؤه إياكم إلى عبادته فيكون المصدر مضافا إلى المفعول وعلى الأول مضافا إلى الفاعل وهو الأرجح من القولين وعلى هذا فالمراد به نوعا الدعاء وهو في دعاء العبادة أظهر أي ما يعبأبكم ربي لولا أنكم تعبدونه وعبادته تستلزم مسألته فالنوعان داخلان فيه
ومن ذلك قوله تعالى وقال ربكم ادعوني أستحب لكم فالدعاء يتضمن النوعين وهو في دعاء العبادة أظهر ولهذا عقبة بقوله إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين الدعاء هو العبادة
فسر الدعاء في الآية بهذا وهذا وقد روى سفيان عن منصور عن ذر يسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله يقول على المنبر
إن الدعاء هو العبادة
ثم قرأ ادعوني أستحب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين رواه الترمذي // صحيح // وقال حديث حسن صحيح
وأما قوله تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وقوله إن يدعون من دونه إلا إناثا وقوله وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وكل موضع ذكر فيه دعاء المشركين لأصنامهم وآلهتهم فالمراد به دعاء العبادة المتضمن دعاء المسألة فهو في دعاء العبادة أظهر لوجوه ثلاثة
أحدها أنهم قالوا إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى فاعترفوا بأن دعاءهم إياهم هو عبادتهم لهم
الثاني أن الله تعالى فسر هذا الدعاء في مواضع أخرى بأنه العبادة كقوله وقيل لهم أينما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون وقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم وقوله قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون وهو كثير في القرآن فدعاؤهم لآلهتهم هو عبادتهم لها
الثالث أنهم إنما كانوا يعبدونها ويتقربون بها إلى الله فإذا جاءتهم الحاجات والكربات والشدائد دعوا الله وحده وتركوها ومع هذا فكانوا يسألونها بعض حوائجهم ويطلبون منها وكان دعاؤهم لها دعاء عبادة ودعاء مسألة وقوله تعالى فادعوا الله مخلصين له الدين هو دعاء العبادة والمعنى اعبدوه وحده وأخلصوا عبادته لا تعبدوا معه غيره
وأما قول إبراهيم الخليل إن ربي لسميع الدعاء فالمراد بالسمع هنا السمع الخاص وهو سمع الإجابة والقبول لا السمع العام لأنه سميع لكل مسموع وإذا كان كذلك فالدعاء هنا يتناول دعاء الثناء ودعاء الطلب وسمع الرب تبارك وتعالى له إثابته على الثناء وإجابته للطلب فهو سميع لهذا وهذا وأما قول زكريا ولم أكن بدعائك رب شقيا فقد قيل إنه دعاء المسألة
والمعنى إنك عودتني إجابتك وإسعافك ولم تشقني بالرد والحرمان فهو توسل
إليه تعالى بما سلف من إجابته وإحسانه كما حكى أن رجلا سأل رجلا وقال أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا وكذا فقال مرحبا بمن توسل إلينا بنا وقضي حاجته وهذا ظاهر ههنا ويدل عليه أنه قدم ذلك أمام طلبه الولد وجعله وسيلة إلى ربه فطلب منه أن يجاريه على عادته التي عوده من قضاء حوائجه إلى ما سأله قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن
فأما قوله تعالى قل ادعوا الله او ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فهذا الدعاء المشهور وأنه دعاء المسألة وهو سبب النزول قالوا كان النبي يدعوا ربه فيقول مرة
يا لله
ومرة
يا رحمن
فظن الجاهلون من المشركين أنه يدعوا إليهين فأنزل الله تعالى هذه الآية قال ابن عباس سمع المشركون النبي في سجوده يا رحمن يا رحيم فقالوا هذا يزعم أنه يدعوا واحدا وهو يدعوا مثنى مثنى فأنزل الله هذه الآية قل ادعو الله أو ادعوا الرحمن
وقيل إن الدعاء ههنا الدعاء ههنا بمعنى التسمية كقولهم دعوت ولدي سعيدا وادعه بعبد الله ونحوه والمعنى سموا الله أو أو سموا الرحمن فالدعاء ههنا بمعنى التسمية وهذا قول الزمخشري
والذي حمله على هذا قوله أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى فإن المراد بتعدده معنى أي وعمومها ههنا تعدد الأسماء ليس إلا والمعنى أي اسم سميتموه به من أسماء الله تعالى إما الله إما الرحمن فله الأسماء الحسنى أي فللمسمي سبحانه الأسماء الحسنى والضمير في له يعود إلى المسمى فهذا الذي أوجب له أن يحمل الدعاء في الداء في هذه الآية على التسمية وهذا الذي قاله هو من لوازم المعنى المرادبالدعاء في الآية وليس هو عين المراد بل المراد بالدعاء معناه المعهود المطرد في القرآن وهو دعاء السؤال ودعاء الثناء ولكنه متضمن معنى التسمية فليس المراد مجرد التسمية الخالية عن العبادة والطلب بل التسمية الواقعة في دعاء الثناء والطلب فعلى هذا المعنى يصح أن يكون في تدعوا معنى تسموا فتأمله
والمعنى أيا ما تسموا في ثنائكم ودعائكم وسؤالكم والله أعلم
وأما قوله تعالى إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم فهذا دعاء العبادة المتضمن للسؤال رغبة ورهبة والمعنى إنا كنا من قبل نخلص له العبادة وبهذا استحقوا أن وقاهم عذاب السموم لا بمجرد السؤال المشترك بين الناجي وغيره فإن الله سبحانه يسأله من في السموات ومن في الأرض والفوز والنجاة إنما هي بإخلاص العبادة لا بمجرد السؤال والطلب
وكذلك قول الفتية أصحاب الكهف ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها أي لن نعبد غيره وكذلك قوله تعالى أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين
وأما قوله تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوا فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذا من دعاء المسألة يبكتهم الله عز و جل ويخزيهم يوم القيامة بإراءتهم أن شركاءهم لا يستجيبون لدعوتهم وليس المراد اعبدوهم
وهو نظير قوله تعالى ويوم يقول نادوا شركائى الذي زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وهذا التقرير نافع في مسألة الصلاة وأنها هل نقلت عن مسماها في اللغة فصارت حقيقة شرعية منقولة أو استعملت في هذه العبادة مجازا للعلاقة بينها وبين المسمى اللغوي أو هي باقية على الوضع اللغوي وضم إليها أركان وشرائط وعلى ما قررناه ولا حاجة إلى شيء عبادة وثناء أو دعاء طلب ومسألة وهو في الحالين داع فما خرجت الصلاة عن حقيقة الدعاء فتأمله إخفاء الدعاء
إذا عرفت هذا فقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فإنه يتناول نوعي الدعاء لكنه ظاهر في دعاء المسألة متضمن دعاء العبادة ولهذا أمر بإخفائه وإسراره قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم وذلك أن الله تعالى
يقول ادعوا ربكم تضرعا وخفية وأن الله تعالى ذكر عبدا صالحا ورضي بفعله فقال إذ نادي ربه نداء خفيا وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة
أحدها أنه أعظم إيمانا لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمع دعاءه الخفي وليس كالذي قال أن الله يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا
ثانيها أنه أعظم في الأدب والتعظيم ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تسأل برفع الأصوات وإنما تخفض عندهم الأصوات ويخف عندهم الكلام بمقدار ما يسمعونه ومن رفع وصوته لديهم مقتوه ولله المثل الأعلى فإذا كان يسمع الدعاء الخفي فلا يليق بالأدب بين يديه إلا خفض الصوت به
ثالثها أنه أبلغ في التضرع والخشوع الذي هو روح الدعاء ولبه ومقصوده فإن الخاشع الذليل الضارع إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه وذلت جوارحه وخشع صوته حتى إنه ليكاد تبلغ به ذلته ومسكنته وكسره وضراعته إلى أن ينكسر لسانه فلا يطاوله بالنطق فقلبه سائل طالب مبتهل ولسانه لشدة ذله وضراعته ومسكنته ساكت وهذه الحالة لا يتأتى معها رفع الصوت بالدعاء أصلا
رابعها أنه أبلغ في الأخلاص
خامسها أنه أبلغ في جمعه القلب على الله تعالى في الدعاء فإن رفع الصوت يفرقه ويشتته فكلما خفض صوته كان أبلغ في صمده وتجريد همته وقصده للمدعو سبحانه وتعالى
سادسها وهو من النكت السرية البديعة جدا أنه دال على قرب صاحبه من الله وأنه لاقترابه منه وشدة حضوره يسأله مسألة أقرب شيء إليه فيسألة مسألة مناجاة للقريب لا مسألة نداء البعيد للبعيد
ولهذا أثنى سبحانه على عبده زكريا بقوله إذ نادى ربه نداء خفيا فكلما استحضر القلب قرب الله تعالى منه وإنه أقرب إليه من كل قريب وتصور ذلك أخفى دعاءه ما أمكنه ولم يتأت له رفع الصوت به بل يراه غير مستحسن كما أن من خاطب جليسا له يسمع خفي كلامه فبالغ في رفع الصوت استهجن ذلك منه
ولله المثل الأعلى سبحانه وقد أشار النبي هذا المعنى بعينه بقوله في الحديث
الصحيح لما رفع الصحابة أصواتهم بالتكبير وهم معه في السفر فقال
اربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنكم تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته وقال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان
وقد جاء أن سبب نزولها أن الصحابة قالوا يا رسول الله ربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله عز و جل وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان
وهذا يدل على إرشادهم للمناجاة في الدعاء لا للنداء الذي هو رفع الصوت فإنهم عن هذا سألوا فأجيبوا بأن ربهم تبارك وتعالى قريب لا يحتاج في دعائه وسؤاله إلى النداء وإنما يسأل مسألة القريب المناجي لا مسألة البعيد المنادي وهذا القرب من الداعي هو قرب خاص ليس قربا عاما من كل أحد فهو قريب من داعيه وقريب من عابده
وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد وهو أخص من قرب الإنابة وقرب الإجابة الذي لم يثبت أكثر المتكلمين سواه بل هو قرب خاص من الداعي والعابد كما قال النبي راويا عن ربه تبارك وتعالى
من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا
// رواه البخاري ومسلم //
فهذا قربه من عابده وأما قربه من داعيه وسائله فكما قال تعالى وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعى إذا دعان وقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية فيه الإشارة والإعلام بهذا القرب
وأما قربة تبارك وتعالى من محبه فنوع آخر وبناء آخر وشأن آخر كما قد ذكرناه في كتاب التحف المكية على أن العبارة تنبو عنه ولا تحصل في القلب حقيقة معناه أبدا لكن بحسب قوة المحبة وضعفها يكون تصديق العبد بهذا القرب وإياك ثم إياك أن تعبر عنه بغير العبارة النبوية أو يقع في قلبك غير معناها ومرادها فتزل قدم بعد ثبوتها وقد ضعف تمييز خلائق في هذا المقام وساء تعبيرهم فوقعوا في أنواع من الطامات والشطح وقابلهم من غلط حجابه فأنكر محبة العبد لربه جملة وقربه منه وأعاد ذلك إلى مجرد الثواب المخلوف فهو عنده المحبوب القريب ليس إلا
وقد ذكرنا من طرق الرد على هؤلاء وهولاء في كتاب التحفة أكثر من مائة طريق والمقصود ههنا الكلام علي هذه الآية
سابعها أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال فإن اللسان لا يمل والجوارح لا تتعب بخلاف ما إذا رفع صوته فإنه قد يكل لسانه وتضعف بعض قواه وهذانظير من يقرأويكرر رافعا صوته فإنه لا يطول له ذلك بخلاف من يخفض صوته
ثامنها أن إخفاء الدعاء أبعد له من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذاأخفى دعاءه لم يدر به أحد فلا يحصل هناك تشويش ولا غيره وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والأنس فشوشت عليه ولا بد ومانعته وعارضته ولو لم يكن إلا أن تعلقها به يفرق عليه همته فيضعف أثر الدعاء لكفى ومن له تجربة يعرف هذا فإذا أسر الدعاء وأخفاه أمن هذه المفسدة
تاسعها إن أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتل إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقت أو جلت ولا نعمة أعظم من هذه النعمة فأنفس الحاسدين المنقطعين متعلقة بها وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد وأن لا يقصد إظهارها له
وقد قال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين وكم من صاحب قلب وجمعية وحال مع الله قد تحدث بها وأخبر بها فسلبه إياها الأغيار فأصبح يقلب كفيه ولهذا يوصى العارفون والشيوخ بحفظ السر مع الله وأن لا يطلعوا عليه أحدا ويتكتمون به غاية التكتم كما أنشد بعضهم في ذلك
من سارروه فأبدي السر مجتهدا ... لم يأمنوه على الأسرار ما عاشا
وأبعدوه فلم يظفر بقربهم ... وأبدلوه مكان الأنس إيحاشا
لا يأمنون مذيعا بعض سرهم ... حاشا ودادهم من ذلكم حاشا
والقوم أعظم شيء كتمانا لأحوالهم مع الله وما وهب الله لهم من محبته والأنس به وجمعية القلب عليه ولا سيما للمبتدىء والسالك فإذا تمكن أحدهم وقوي وثبتت أصول تلك الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء في قلبه بحيث لا
يخشي عليه من العواصف فإنه إذا أبدى حاله وشأنه مع الله ليقتدي به ويؤتم به لم يبال وهذا باب عظيم النفع وإنما يعرفه أهله
وإذا كان الدعاء المأمور بإخفائه يتضمن دعاء الطلب والثناء والمحبة والإقبال على الله فهو من أعظم الكنوز التي هي أحق بالإخفاء والستر عن أعين الحاسدين وهذه فائدةشريفة نافعة
عاشرها أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي
أفضل الدعاء الحمد لله // حسن // فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل ان الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن إبي الصلت
أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء
إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى واذكر ربك في نفسك تضرعا وخفية ودون الجهر من القول فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه
قال مجاهد وابن جريج أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح وقد تقدم حديث أبي موسى كنا مع النبي في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال
يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا اقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
// رواه البخاري ومسلم // وتأمل كيف قال في آية الذكر واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة وفي آية الدعاء ادعوا ربكم تضرعا وخفية فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء وخص الدعاء الخفيه لما ذكرنا من الحكم وغيرها
اقتران محبة الله بالخوف منه
وخص الذكر بالخفيه لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولا بد فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ أليس الفقهاء يقولون إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه فقال له بلى فقال له فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه فقال له هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه أو كما قال
فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من الخاصة أنواع العبادة
وسبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن
وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ويقول المحب لا يضره ذنب
وصنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب وهذا كذب قطعا مناف للإسلام فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن
ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ وأما عن رسول الله فمعاذ الله
من ذلك فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب لأن الإصرارعلى الذنب مناف لكونه محبا لله وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره فهذا المعنى صحيح والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب
فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضغف إيمانه بحسبه اقتران الخيفة والخفية بالذكر والدعاء
فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في هذا الاقتران فإنه قال اذكر ربك في نفسك فلم يحتج بعدها أن يقول خفية وقال في الدعاء وادعوه خوفا وطمعا فلم يحتج أن يقول في الأول ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن انتظام ودلت على ذلك أكمل دلالة وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين فصل المقصود بقوله إنه لا يحب المعتدين
وقوله تعالى إنه لا يحب المعتدين قيل المراد أنه لا يحب المعتدين في الدعاء
كالذي يسأل ما لا يليق به من منازل الأنبياء وغير ذلك وقد روى أبو داود في سنته من حديث حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نعامة أن عبد الله بن مغفل سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بنى سل الله الجنة وتعوذ به من النار فإني سمعت رسول الله
يقول إنه سيكون في هذه الآمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء أنواع الاعتداء في الدعاء
وعلى هذا فالاعتداء بالدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المحرمات وتارة بأن يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يساله تخليده إلى يوم القيامة أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب أو يسأله أن يطلعه على غيبه أو يساله أن يجعله من المعصومين أو يسأله أن يهب له ولدا من غير زوجة ولا أمة ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء فكل سؤال يناقض حكمه الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره أو يتضمن خلاف ما أخبر به فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحب سائله وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضا في الدعاء
قال ابن جريح من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء والنداء في الدعاء والصياح وبعد فالآية أعم من ذلك كله وإن كان الاعتداء في الدعاء مرادا بها فهو من جملة المراد والله لا يحب المعتدين في كل شيء دعاء كان أو غيره كما قال ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وعلى هذا فيكون قد أمر بدعائه وعبادته وأخبر أنه لا يحب أهل العدوان وهم الذين يدعون معه غيره فهؤلاء أعظم المعتدين عدوانا فإن أعظم العدوان الشرك وهو وضع العبادة في غير موضعها فهذا العدوان لا بد أن يكون داخلا في قوله أنه لا يحب المعتدين ومن العدوان أن يدعوه غير متضرع بل دعاء مدل كالمستغني بما عنده المدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته فمن لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد
ومن الاعتداء أن تعبده بما لم يشرعه وتثني عليه بما لم يثن به على نفسه ولا أذن فيه فإن هذا اعتداء في دعاء الثناء والعبادة وهو نظير الاعتداء في دعاء المسألة والطلب
وعلى هذا فتكون الآية دالة على شيئين أحدهما محبوب للرب تبارك وتعالى مرض له وهو الدعاء تضرعا وخفية
الثاني مكروه له مبغوض مسخوط وهو الاعتداء فأمر بما يحبه الله وندب إليه وحذر مما يبغضه وزجر عنه بما هو ابلغ طرق الزجر والتحذير وهو أنه لا يحب فاعله ومن لم يحبه الله فأي خير يناله وفي قوله إنه لا يحب المعتدين عقب قوله ادعو ربكم تضرعا وخفية دليل على أن من لم يدعه تضرعا وخفية فهو من المعتدين الذين لا يحبهم فقسمت الآية الناس إلى قسمين داع لله تضرعا وخفية ومعتد بترك ذلك فصل الإفساد في الأرض بالمعاصي والدعاء لغير الله
وقوله تعالى ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة والدعاء إلى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة إلى غيره والشرك به هو أعظم فساد في ألأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره قال تعالى ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس وقال عطية في الآية ولا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بمعاصيكم
وقال غير واحد من السلف إذا قحط المطر فإن الدواب تلعن عصاة بني آدم وتقول اللهم العنهم فبسببهم أجدبت الأرض وقحط المطر وبالجملة فالشرك والدعوة إلى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هو المعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والأتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته إذا أمر بطاعة الرسول فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة فإن الله أصلح الأرض برسوله ودينه وبالأمر بتوحيده ونهي عن إفسادها بالشرك به وبمخالفة رسوله
ومن تدبير أحوال العالم وجد كل صلاح في الأرض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلا وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة إلى غير الله ورسوله
ومن تدبر هذا حق التدبر وتأمل أحوال العالم منذ قام إلى الآن وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين وجد هذا الأمر كذلك في خاصة نفسه وفي حق غيره عموما وخصوصا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فصل تكرار الأمر بالدعاء
وقوله تعالى وادعوا خوفا وطمعا إنما كرر الأمر بالدعاء لما ذكر معه من الخوف والطمع فأمر أولا بدعائه تضرعا وخفية ثم أمر بأن يكون الدعاء أيضا خوفا وطمعا وفصل بين الجملتين إحداهما خبرية ومتضمنة للنهي وهي قوله إنه لا يحب المعتدين والثانية طلبية وهي قوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها والجملتان مقررتان مقويتان للجملة الأولى مؤكدتان لمضمونها
ثم لما ثم تقريرها تقدم وبيان ما يضادها ويناقضها أمر بدعائه خوفا وطمعا ثم قرر ذلك وأكد مضمونة بجملة خبرية وهي إن رحمة الله قريب من المحسنين فتعلق هذه الجملة بقوله وادعواه خوفا وطمعا كتعلق قوله إنه لا يحب المعتدين بقوله ادعوا ربكم تضرعا وخفية
ولما كان قوله تعالى وادعوه خوفا وطمعا مشتملا على جميع مقامات الإيمان والإحسان وهي الحب والخوف والرجاء عقبها بقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين أي إنما ينال من دعاة خوفا وطمعا فهو المحسن والرحمة قريب منه لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابله الاعتداء بعدم التضرع والخفية عقب ذلك بقوله إنه لا يحب المعتدين وجوب انتصاب قوله خوفا وطمعا
إن انتصاب قوله تضرعا وخفية وخوفا وطمعا قيل هو على الحال أي ادعوه متضرعين مخفين خائفين طامعين وهذا هو الذي رجحه السهيلي وغيره وقيل هو نصب على المفعول له وهذا قول كثير من النحاة وقيل هو نصب على المصدر وفيه على هذا تقديران أحدهما أنه منصوب بفعل مقدر من لفظ المصدر
والمعنى تضرعوا إليه تضرعا واخفوا خفية الثاني أنه منصوب بالفعل المذكور نفسه لأنه في معنى المصدر فإن الداعي متضرع في حصول مطلوبة خائف من فواته فكأنه قال تضرعوا تضرعا 2
والصحيح في هذا أنه منصوب على الحال والمعنى عليه فإن المعنى ادعوا ربكم متضرين إليه خائفين طامعين ويكون وقوع المصدر موقع الإسم على حد قوله ولكن البر من آمن بالله وقولهم رجل عدل ورجل صوم قال الشاعر
فإنما هي إقبال وإبار ...
وهو أحسن من أن يقال ادعوه متضرعين خائفين والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت اذكر ربك تضرعا فإنك تريد اذكره متضرعا إليه واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معا ولذلك إذا قلت ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله وكذلك إذا قلت ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا كان المراد ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة
فتأمل هذا الباب تجده كذلك فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال ومما يدل على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف فإذا قيل كيف أدعوه قيل تضرعا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولا له لكان جوابا ل لم ولا تحسن هنا ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن يقال لم أدعوه فيقول تضرعا وخفية وهذا واضح ولا هو انتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا ل كيف
وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال بل الإتيان بالحال ههنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلم
فصل حق العبد الرحمة وواجبه الإحسان
وقوله تعالى إن رحمة الله قريب من المحسنين فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور به هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله هو رحمته ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أمروا به من دعائه خوفا وطمعا فقرب مطلوبكم منكم وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه منكم وهو الإحسان الذي هو في الحقيقة إحسان إلى أنفسكم فإن الله تعالى هو الغني الحميد وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم
وقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين له دلالة بمنطوقه ودلالة بإيمائه وتعليله ودلالة بمفهومه فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان ودلالته بتعليله وإيمانه على أن هذا القرب مستحق بالإحسان فهو السبب في قرب الرحمة منهم ودلالته بمفهومه على بعد الرحمة من غير المحسنين فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة
وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة منهم لأنها إحسان من الله أرحم الراحمين وإحسانه تعالى إنما يكون لأهل الإحسان لأن الجزاء من جنس العمل فكما أحسنوا بأعماهلم أحسن إليهم برحمته
وأما من لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بعد عن الإحسن بعدت عنه الرحمة بعدا ببعد وقربا بقرب فمن تقرب بالإحسان تقرب الله إليه برحمته ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته والله سبحانه يحب المحسنين وببغض من ليس من المحسنين ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيء منه ومن أبغضه فرحمته أبعد شيء منه
والإحسان ههنا هو فعل المأمور به سواء كان إحسانا إلى الناس أو إلى نفسه فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله والإقبال عليه والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالا ومهابه وحياء ومحبة وخشية فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي وقد سأله جبريل عن الإحسان فقال
أن تعبد الله كأنك تراه // رواه مسلم الترمذي والنسائي وغيرهم // وإذا كان هذا هو الإحسان فC قريب من صاحبه فإن الله إنما يرحم أهل توحيده المؤمنين به
وإنما كتب رحمته للذين ويتقون الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون والذين يتبعون رسوله فهؤلاء هم أهل الرحمة كما أنهم هم المحسنون
وكما أحسنوا جوزوا بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه قال ابن عباس هل جزاء من قال لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك قال قرأ رسول الله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ثم قال هل تدرون ما قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة // ضعيف // فصل الرحمة مؤنته وقريب مذكر
وأما الإخبار عن الرحمة وهي مؤنثة بالتاء بقوله قريب وهو مذكر ففيه اثنا عشر مسلكا نذكرها ونبين ما فيها من صحيح وسقيم ومقارب
المسلك الأول أن فعيلا على ضربين احدهما يأتي بمعنى فاعل كقدير وسميع وعليم والثاني يأتي بمعنى مفعول كقتيل وجريح وكف خضيب وطرف كحيل وشعر دهين كله بمعنى مفعول
فإذا أتى بمعنى فاعل فقياسه أن يجري مجراه في إلحاق التاء به مع المؤنث دون المذكر
كجميل وجميلة وشريف وشريفة وصبيح وصبيه وصبي وصبية ومليح ومليحة فطويل وطويلة ونحوه
وإذ أتى بمعنى مفعول فلا يخلو إما أن يكون يصحب الموصوف كرجل قتيل وامرأة قتيل أو يفرد عنه فإن صحب الموصوف استوى فيه المذكر والمؤنث كرجل قتيل وامرأة قتيل وإن لم يصحب الموصوف فإنه يؤنث إذا جرى على المؤنث نحو قتيلة بني فلان
ومنه قوله تعالى حرمت عليكم الميتة إلى قوله والنطيحة هذا حكم فعيل وفعول قريب منه لفظا ومعنى فإنهما مشتبهان في الوزن والدلالة على المبالغة وورودها بمعنى فاعل ومفعول
ولما كان فعيل أخف استغنى به عن فاعل في المضاعف كجليل وعزيز وذليل كراهية منهم لثقل التضعيف إذ قالوا جالل وعازز وذالل فأتوا بفعيل مفصولا فيه بين المثلين بالياء الساكنة ولم يأتوا في هذا بفعولا لأن فعيلا أخف منه ولخفته أيضا اطرد بناؤه من فعل كشريف وظريف وجميل ونبيل وليس لفعول بناء يطرد منه ولخفته أيضا كان في أسماء الله تعالى أكثر من فعول فإن الرحيم والقدير والحسيب والجليل والرقيب ونظائره أكثر من ألفاظ الرؤوف والغفور والشكور والصبور والودود والعفو ولا يعرف إلا هذه الألفاظ الستة
وإذا ثبت التشابه بين وفعيل فعول فيما ذكرنا وكانوا قد خصوا فعولا الذي بمعنى فاعل بتجريده من التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث وشركوا بينهما في لفظ المذكر فقالوا رجل صبور وشكور وامرأة صبور وشكور ونظائرهما وأما عدو وعدوة فشاذ
فإن قصد بالتاء المبالغة لحقت المذكر والمؤنث كرجل ملولة وفروقة وامراة كذلك وإن كان فعول في معنى مفعول لحقته التاء في المؤنث كحلوبة وركوبة فإذا تقر فقريب في الآية هو فعيل بمعنى فاعل وليس المراد أنه بمعنى قارب بل بمعنى اسم الفاعل العام فكان حقه أن يكون بالتاء ولكنهم أجروه مجرى فعيل بمعنى مفعول فلم يلحقوه التاء كما جرى فعيل بمعنى مفعول مجرى فعيل بمعنى فاعل في إلحاقه التاء كما قالوا خصلة حميدة وفعله ذميمة بمعنى محموده ومذمومة فحملا على جميلة وشريفة في لحاق التاء فحملوا قريبا على امرأة قتيل وكف خضيب وعين كحيل في عدم إلحاق التاء حملا لكل من البابين على الآخر
ونظيره قوله تعالى قال من يحيى العظام وهي رميم فحمل
رميما وهي بمعنى فاعل على امرأة قتيل وبابه فهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة وعليه يعتمدون وقد اعترض عليه بثلاثة اعتراضات
أحدها أن ذلك يستلزم التسوية بين اللازم والمتعدي فإن فعيلا بمعنى مفعول بابه الفعل المتعدى وفعيلا بمعنى فاعل بابه الفعل اللازم لأنه غالب ما يأتي من فعل المضموم العين فلو جرى على أحدهما حكم الآخر لكان ذلك تسوية بين اللازم والمتعدي وهو ممتنع
الاعتراض الثاني إن هذا أن ادعى على وجه العموم فباطل وإن ادعى على سبيل الخصوص فما الضابط وما الفرق بين ما يسوغ فيه هذا الاستعمال وما لا يسوغ
الاعتراض الثالث أن العرب قد نطقت في فعيل بالتاء وهو بمعنى مفعول وجردته من التاء وهو بمعنى فاعل قال جرير يرثي خالته
نعم القرين وكنت علق مضنه ... وأرى بنعق بلية الأحجار
فجرد القرين من التاء وهو بمعنى فاعل وقال
فسقاك حيث حللت غير فقيدة ... هزج الرواح وديمة لا تقلع
فقرن فقيدة بالتاء وهو فعيل بمعنى مفعول أي غير مفقودة وقال الفرزدق
فداويته عامين وهي قريبة ... أراها وتدنوا لي مرار وأرشف
ويقولون امرأة فتين وسريح وهريت فجردوه عن التاء وهو بمعنى فاعل وقالوا امرأة فروك وهلوك ورشوف وأنوف فجردوه وهو بمعنى فاعل كصبور وقالوا امرأة عروب فجردوه وهو بمعنى فاعل أيضا ودعوى أن التاء ههنا للمبالغة لا دليل عليها فقد رأيت اشتراك فعول وفعيل في الاقتران بالتاء والتجرد منها فدعوى أصالة المجرد منهما وشذوذ المقرون مقابلة بمثلها ومع مقابلها قياس اللغة في اقتران المؤنث وتجريد المذكور
وأما ما استشهدتم به من قوله تعالى من يحيى العظام وهي رميم فهو على وفق قياس العربية فإن العظام جمع عظيم وهو مذكر ولكن جمعه جمع تكسير وجمع التكسير يجوز أن يراعى فيه تأنيث الجماعة وباعتباره قال وهي ولم يقل وهو ويراعى فيه معنى الواحد وباعتبار قال رميم كما يقال عظم رميم مع أن رميما يطلق على جمع المذكر مفردا وجمعا قال جرير
إلى المهلب جذ الله دابرهم ... أمسو رميما فلا أصل ولا طرف
فهذا الاعتراض على هذا المسلك فصل
المسلك الثاني أن قريبا في الآية من باب تأويل المؤنث بمذكر موافق له في المعنى كقول الشاعر
أرى رجلا منهم أسيفا كأنما ... يضم إلى كشحيه مخضبا
فكف مؤنث ولكن تأويله بمعنى عضو وطرف فذكر صفته فكذلك تؤل الرحمة وهي مؤنثة بالإحسان فيذكر خبرها قالوا وتأويل الرحمة أولى من تأويل الكف بعضو لوجهين
أحدهما أن الرحمة معنى قائم بالرحم والإحسان هو بر المرحوم ومعنى القرب في البر من المحسنين أظهر منه في الرحمة
الثاني أن ملاحظة الإحسان بالرحمة الموصوفة بالقرب من المحسنين هو مقابلة للإحسان الذي صدر منهم وباعتبار المقابلة ازداد المعنى قوة واللفظ جزالة حتى كأنه قال إن إحسان الله قريب من أهل الإحسان كما قال تعالى هل جزاء الإحسان إلاالإحسان فذكر قريبا ليفهم منه أنه صفة لمذكر وهو الإحسان فيفهم المقابلة المطلوبة قالوا ومن تأويل المؤنث بمذكر ماأنشده الفراء
وقائع في مضر تسعة ... وفي وائل كانت العاشرة
فتأول الوقائع وهي مؤنثة بأيام الحرب المذكرة فأنث العدد الجاري عليها فقال تسعة ولولا هذا التأويل لقال تسع لأن الوقائع مؤنثة قالوا وإذا جاز تأويل المذكر بمؤنث في قول من قال جاءته كتابي أي صحيفتي وفي قول الشاعر
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... سائل بني أسد ما هذه الصوت
أي ما هذه النصيحة مع أنه حمل أصل على فرغ فلأن يجوز تأويل مؤنث بمذكر لكونه حمل فرع على أصل أولى وأحرى وهذا وجه جيد وقد اعترض عليه باعتراضين فاسدين غير لازمين
أحدهما أنه لو جاز تأويل المؤنث بمذكر يوافقه وعكسه لجاز أن يقال كلمتني زيد أكرمتني عمرو وكلمني هند وأكرمني زينب تأويلا لزيد وعمرو بالنفس والجثة وتأويلا لهند وزينب بالشخص والشيخ وهذا باطل وهذا الاعتراض غير لازم فإنهم لم يدعوا اطراد ذلك وإنما ادعوا أنه مما يسوغ أن يستعمل وفرق بين ما يسوغ في بعض الأحيان وبين ما يطرد كرفع الفاعل ونصب المفعول وهم لم يدعوا أنه من القسم الثاني
ثم إن هذا الاعتراض مردود بكل ما يسوغ استعماله بمسوغ وهو غير مطرد وهو أكثر من أن يذكر ههنا ولا ينكره نحوى أصلا وهل هذا إلا اعتراض على قواعد العربية بالتشكيكات والمناقضات وأهل العربية لا يلتفتون إلى شيء من ذلك فلو أنهم قالوا يجوز تاويل كل مؤنث بمذكر يوافقه وبالعكس لصح النقض وأنما قالوا يسوغ أحيانا تاويل أحدهما بالآخر لفائدة يتضمنها التأويل كالفائدة التي ذكرناها من تأويل الرحمة بالإحسان
الاعتراض الثاني أن حمل الرحمة على الإحسان إما أن يكون حملا على حقيقتة أو مجازة وهما ممتنعان فإن الرحمة والإحسان متغايران لا يلزم من أحدهما وجود الآخر لأن الرحمة قد توجد وافرة في حق من لا يتمكن من الإحسان كالوالدة العاجزة ونحوها وقد يوجد الإحسان ممن لا رحمة في طباعة كالملك القاسي فإنه قد يحسن إلى بعض أعدائه وغيرهم لمصلحة ملكه مع أنه لا رحمة عنده وإذا تبين انفكاك أحدهما عن الآخر لم يجز إطلاقه عليه لا حقيقة ولا مجازا
أما الحقيقة فظاهر وأما المجاز فإن شرطه خطور المعنى المجازي بالبال ليصح انتقال الذهن إليه فإذا كان منفكا عن الحقيقة لم يخطر بالذهن وهذا الاعتراض أفسد من الذي قبله وهو من باب التعنت والمناكدة
وأين هذا من قول أكثر المتكلمين ولعل هذا المعترض منهم أنه لا معنى
للرحمة غائبا إلا الإحسان المحض وأما الرقة التي في الشاهد فلا يوصف الله تعالى بها وإنما رحمته مجرد إحسانه ومع أنا لا نرتضي هذا القول بل تثبت لله تعالى الرحمة حقيقة كما أثبتها لنفسه منزهة مبراة عن خواص صفات المخلوقين كما نقوله في سائر صفاته من إرادته وسمعه وبصره وعلمه وحياته وعلمه وحياته وسائر صفات كماله فلم نذكره إلا لنبين فساد اعتراض هذا المعترض على قول أئمته
ومن قال بقوله من المتكلمين ثم نقول الرحمة لا تنفك عن إرادة الإحسان فهي مستلزمة للإحسان أو إرادته استلزام الخاص للعام فكما يستحيل وجود الخاص بدون العام فكذلك الرحمة بدون الإحسان أو إرادته يستحيل وجودها
وأما قضية الأم العاجزة فإنها وإن لم تكن تقدر على الإحسان بالفعل فهي محسنة بالإرادة فرحمتها لا تنفك عن إرادتها التامة للإحسان التي يقترن بها مقدورها إما بدعاء وإما بأيثار بما تقدر عليه ونحو ذلك فتخلف بعض الإحسان الذي لا تقدر عليه عن رحمتها لا يخرج رحمتها عن استلزامها للإحسان المقدور وهذا واضح وأما الملك القاسي إذا أحسن فإن إحسانه لا يكون رحمة فهذا لأن الإحسان أعم من الرحمة والأعم لا يستلزم الأخص وهم لم يدعوا ذلك فلا يلزمهم وأيضا فإن الإحسان قد يقال إنه يستلزم الرحمة وما فعله الملك المذكور فليس بإحسان في الحقيقة وإن كانت صورته صورة الإحسان وبالجملة فالعنت والمناكدة على هذا الاعتراض أبين من أن يتكلف معه رده وإبطاله فصل
المسلك الثالث أن قريبا في الآية من باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه مع الالتفات إلى المحذوف فكأنه قال إن مكان الرحمة قريب من المحسنين ثم حذف المكان وأعطى الرحمة إعرابه وتذكيره ومن ذلك قول الشاعر حسان
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردي يصفق بالرحيف السلسل
فقال يصفق بالياء وبردى هي مؤنث لأنه أراد ماء بردى ومنه قول النبي وقد
أخذ بيديه ذهبا وحريرا فقال
هذان حرام على ذكور أمتي
// صحيح // فقال حرام بالإفراد والمخبر عنه مثنى كأنه قال استعمال هذين حرام وهذا المسلك ضعيف جدا لأن حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه لا يسوغ ادعاؤه مطلقا وإلا لالتبس الخطاب وفسد التفاهم وتعطلت الأدلة إذ ما من لفظ أمر أو نهي أو خبر متضمن مأمورا به ومنهيا عنه ومخبرا إلا ويمكن على هذا أن يقدر له لفظ مضاف يخرجه عن تعلق الأمر والنهي والخبرية
فيقول الملحد في قوله ولله على الناس حج البيت أي معرفة حج البيت وكتب عليكم الصيام أي معرفة الصيام وإذا فتح هذا الباب فسد التخاطب وتعطلت الأدلة وإنما يضمر المضاف حيث يتعين ولا يصح الكلام إلا بتقديره للضرورة كما إذا قيل اكلت الشاة فإن المفهوم من ذلك أكلت لحمها فحذف المضاف لا يلبس وكذلك إذا قلت أكل فلان كبد فلان إذا أكل ماله فإن المفهوم أكل ثمرة كبده فحذف المضاف هنا لا يلبس ونظائره كثيرة
وليس منه واسأل القرية وإن كان أكثر الأصوليين يمثلون به فإن القرية اسم للسكان في مسكن مجتمع فإنما تطلق القرية باعتبار الأمرين كالكأس لما فيه من الشراب والذنوب للدلو الملآن ماء النهر والخوان للمائدة إذا كان عليها طعام ونظائره
ثم إنهم لكثرة استعمالهم لهذه اللفظه ودورانها في كلامهم أطلقوها على السكان تارة وعلى المسكن تارة بحسب سياق الكلام وبساطه وإنما يفعلون هذا حيث لا لبس فيه فلا إضمار في ذلك ولا حذف فتأمل هذا الموضع الذي خفي على القوم مع وضوحه
وإذا عرفت هذا فقوله إن رحمة الله قريب من المحسنين ليس في اللفظ ما يدل على إرادة موضع ولا مكان أصلا فلا يجوز دعوى إضماره بل دعوى إضمار خطأ قطعا لأنه يتضمن الإخبار بأن المتكلم أراد المحذوف ولم ينص على إرادته دليلا لا صريحا ولا لزوما فدعوى المدعي أنه أراده دعوى باطلة وأما قوله بردى يصفق فليس أيضا من باب حذف المضاف بل اراد ببردى النهر وهو مذكر فوصفه بصفة المذكر فقال يصفق فلم يذكر بناء على حذف المضاف وإنما ذكر بناء على أن بردى المراد به النهر
فإن قلت فلا بد من حذف مضاف لأنهم إنما يسقون ماء بردى لا نفس النهر قلت هذا وإن كان مراد الشاعر فلم يلزم منه صحة ما ادعاه من أنه ذكر يصفق باعتبار الماء المحذوف فإن تذكيره إنما يكون باعتبار إرادة النهر وهو مذكر فلا يدل على ما ادعوه
وأما قوله هذان حرام
ففي إفراد الخبر سر بديع جدا وهو التنبيه والإشارة على أن كل واحد منهما بمفرده موصوف بأنه حرام فلو ثنى الخبر لم يكن فيه تنبيه على هذا المعنى فلهذا أفرد الخبر فكأنه قال وكل واحد من هذين حرام فدل إفراد الخبر على إرادة الإخبار عن كل واحد واحد بمفرده فتأمله فإنه من بديع اللغة وقد تقدم بيانه في هذا التعليق في مسألة كلا وكلتا وإن قولهم كلاهما قائم بالافراد لا يدل على أن كلا مفرد كما ذهب إليه البصريون بل هو مثنى حقيقة وإنما أفردوا الخبر للدلالة على أن الإخبار عن كل واحد منهما بالقيام وقد قررنا ذلك هناك بما فيه كفاية فصل
المسلك الرابع أنه من باب حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة كأنه قال إن رحمة الله شيء قريب من المحسنين أو لطف قريب أو بر قريب ونحو ذلك وحذف الموصوف كثير فمنه قول الشاعر
قامت تبكيه على قبره ... من لي من بعدك يا عامر
تركتني في الدار ذا غربة ... قد ذل من ليس له ناصر
المعنى تركتني شخصا أو إنسانا ذا غربة ولولا ذلك لقالت تركتني ذات غربة ومنه قول الآخر
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق
أراد وأنت شخص أو إنسان صديق وعلى هذا المسلك حمل سيبويه قولهم للمرأة حائض وطالق وطال فقال كأنهم قالوا شيء حائض وشيء طامث وهذا المسلك أيضا ضعيف لثلاثة أوجه
أحدها أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقاومة إنما يحسن بشرطين أن تكون الصفة خاصة يعلم ثبوتها لذلك الموصوف بعينه لا لغيره
الثاني أن تكون الصفة قد غلب استعمالها مفردة على الموصوف كالبر والفاجر
والعالم والجاهل والمتقي والرسول والنبي ونحو ذلك مما غلب استعمال الصفة فيه مجردة عن الموصوف فلا يكاد يجيء ذكر الموصوف معها كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المتقين في جنات وعيون وقوله إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وقوله والكافرون هم المظالمون وهو كثير جدا في القرآن وكلام العرب وبدون ذلك لا يحسن الاقتصار على الصفة فلا يحسن أن تقول جاءني طويل ورأيت جميلا أو قبيحا وأنت تريد جاءني رجل طويل ورأيت
رجلا جميلا أو قبيحا ولا تقول سكت في قريب تريد في مكان قريب مع دلالة السكنى على المكان
الثاني إن الشيء أعم المعلومات فإنه يشمل الواجب والممكن فليس في تقديره ولا في اللفظ به زيادة فائدة يكون الكلام بها فضلا عن أن يكون بها في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة فأي فصاحة وبلاغة في قول القائل في حائض وطامث وطالق شيء حائض وشيء طامث وشىء طالق وهو لو صرح بهذا لاستهجنه السامع فكيف يقدر في الكلام مع أنه لا يتضمن فائدة أصلا إذ كونه شيئا أمر معلوم عام لا يدل على مدح ولا ذم ولا كمال ولا نقصان
وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز و جل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الاعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن غيره
وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به
ومثل قول بعضهم في قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك والمقيمين الصلاة إن
المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهى بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانية فإن نسبة معانية إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله
الوجه الثالث أن طالقا وحائضا وطامثا إنما حذفت تاؤه لعدم الحاجة إليها فإن التاء إنما دخلت للفرق بين المذكر والمؤنث في محل اللبس فإذا كانت الصفة خاصة بالمؤنث فلا لبس فلا حاجة إلى التاء هذا هو الصواب في ذلك وهو المذهب الكوفي
فإن قلت هذا خلاف مذهب سيبويه
قلت فهل يرتضي محصل برد موجب الدليل الصحيح لكونه خلاف قول عالم معين هذه طريقة الخفافيش فأما أهل البصائر فإنهم لا يردون الدليل وموجبه بقول معين ابدا وقليل ما هم
ولا ريب أن أبا بشر رحمة الله ضرب في هذا العلم بالقدح المعلى وأحرز من قصبات سبقه واستولى من أمده على ما لم يستول عليه غيره فهو المصلى في هذا المضمار ولكن لا يوجب ذلك أن يعتقد أنه أحاط بجميع كلام العرب وإن لا حق إلا ما قاله وكم لسيبويه من نص قد خالفه جمهور أصحابه فيه والمبرزون منهم ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال الكلام به
ولا تنس قوله في باب الصفة المشبهة مررت برجل حسن وجهه بإضافة حسن إلى الوجه والوجه إلى الضمير ومخالفة جميع البصريين والكوفيين في ذلك فسيبويه رحمة الله ممن يؤخذ من قوله ويترك وأما أن نعتقد صحة قوله في كل شيء فكلا وسنفرد إن شاء الله كتابا للحكومة بين البصريين والكوفيين فيما اختلفوا فيه وبيان الراجح من ذلك وبالله التوفيق والتأييد
فإن قلت يكفي في رد ما اخترتموه في طامث وحائض وطالق من المذهب الكوفي قوله تعالى يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت فهذا وصف يختص به الإناث وقد جاء بالتاء قلت ليس في هذا ولله الحمد رد لهذا المذهب ولا إبطال له فإن دخول التاء ههنا يتضمن فائدة لا تحصل بدونها فتعين الإتيان بها وهي أن المراد بالمرضعة فاعلة الرضاع فالمراد الفعل لا مجرد الوصف ولو أريد الوصف المجرد بكونها من أهل الإرضاع لقيل مرضع كحائض وطامث
ألا ترى إلى قوله يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار // صحيح // فإن المراد به الموصوفة بكونها من أهل الحيض لا من يجري دمها فالحائض والمرضع وصف عام يقال على من لها ذلك وصفا وإن لم يكن قائما بها ويقال على من قام بها بالفعل فأدخلت التاء ههنا إيذانا بأن المراد من تفعل الرضاع فإنها تذهل عما ترضعه لشدة هول زلزلة الساعة وأكد هذا المعنى بقوله عما أرضعت فعلم أن المراد المرضعة التي ترضع بالفعل لا بالقوة والتهيؤ وترجيح هذا المذهب له موضع غير هذا فصل
المسلك الخامس أن هذا من باب اكتساب المضاف حكم المضاف إليه إذا كان صالحا للحذف والاستغناء عنه بالثاني كقول الشاعر
لما أتى خبر الزبير تواضعت ... سور المدينة والجبال الخشع
وقال الآخر
مشين كما اهتزت رماح تسفهت ... أعاليها مر الرياح النواسم
وقال الآخر
بغي النفوس معيدة نعماءها ... نقما وإن عمهت وطال غرورها
فأنت في الأول السور المضاف إلى المدينة وفي الثاني المر المضاف إلى الرياح وفي الثالث البغي المضاف إلى النفوس لتأنيث المضاف إليه مع أن التذكير أصل والتأنيث فرع فحمل الأصل على الفرع فلأن يجوز تذكير المؤنث لإضافته إلى غير مؤنث أولى لأنه حمل للفرع على الأصل
ومن الأول أيضا قول الشاعر
وتشرق بالأمر الذي قد أذعته ... كما شرقت صدر القناة من الدم
فأنث الصدر لإضافته إلى القناة وأنشدني بعض أصحابنا لأبي محمد بن حزم في هذا المعنى بإسناد لا يحضرني
تجنب صديقا مثل ما واحذرالذي ... تراه كعمرو بين عرب وأعجم
فإن صديق السوء يردي وشاهدي ... كما شرقت صدر القناة من الدم
ومنه قول النابغة الذبياني
حتى استغن بأهل الملح ضاحية ... يركضن قد قلقت عقد الأطانيب
وهذا المسلك وإن كان قد ارتضاه غير واحد من الفضلاء فليس بقوي لأنه إنما يعرف
ومنه قول لبيد
فمضى وقدمها وكانت عادة ... منه إذا هي عردت أقدامها مجيئه في الشعر ولا يعرف في الكلام الفصيح منه إلا النادر كقولهم ذهبت بعض أصابعه والذي قواه ههنا شدة اتصال المضاف بالمضاف إليه وكونه جزؤه حقيقة فكأنه قال ذهبت إصبع وإصبعان من أصابعه وحمل القرآن على المكثور الذي خلافه أفصح منه ليس بسهل فصل
المسلك السادس إن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الأخ لكونه تبعا له ومعنى من معانيه فإذا ذكر أغنى عن ذكره لأنه يفهم منه
ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين فاستغنى عن خبر الأعناق بالخبر عن أصحابها ومنه في أحد الوجوه قوله تعالى والله ورسوله أحق أن يرضوه
المعنى والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله إذ إرضاؤه هو ارضاء رسوله فلم يحتج أن يقول يرضوهما فعلى هذا يكون الأصل في الآية إن الله قريب من المحسنين وإن رحمة الله قريبة من المحسنين فاستغنى بخبر المحذوف عن خبر الموجود وسوغ ذلك ظهور المعنى وهذا المسلك مسلك حسن إذا كسي تعبيرا أحسن من هذا وهومسلك لطيف المنزع دقيق على الأفهام وهو من أسرار القرآن والذي ينبغي أن يعبر عنه به أن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه لأن الصفة لا تفارق موصوفها فإذا كانت قريبة من المحسنين فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منه بل قرب رحمته تبع لقربه هو تبارك وتعالى من المحسنين
وقد تقدم في أول الآية أن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته ومن أهل سؤاله بإجابته وذكرنا شواهد ذلك وأن الإحسان يقتضي قرب الرب من عبده كما أن العبد قرب من ربه بالإحسان وأن من تقرب منه شبرا تقرب الله منه ذراعا ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا فالرب تبارك وتعالى قريب من المحسنين ورحمته قريبة منهم وقربة يستلزم قرب رحمته ففي حذف التاء ههنا تنبيه على هذه الفائدة العظيمة الجليلة
وأن الله تعالى قريب من المحسنين وذلك يستلزم القربين قربة وقرب رحمته ولو قال إن رحمة الله قريبة من المحسنين لم يدل على قربه تعالى منهم لأن قربة تعالى أخص من قرب رحمته والأعم لا يسلتزم الأخص بخلاف قربة فإنه لما كان أخص استلزم الأعم وهو قرب رحمته فلا تستهن بهذا المسلك فإن له شأنا وهو متضمن لسر بديع من أسرار الكتاب وما أظن صاحب هذا المسلك قصد هذا المعنى ولا ألم به وإنما أراد أن الإخبار عن قرب الله تعالى من المحسنين كاف عن الإخبار عن قرب رحمته منهم
فهو مسلك سابع في الآية وهو المختار وهو من أليق ما قيل فيها وإن شئت قلت قربة تبارك وتعالى من المحسنين وقرب رحمته منهم متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر فإذا كانت رحمته قريبة منهم فهو أيضا قريب منهم وإذا كان المعنيان متلازمين صح إرادة كل واحد منهما فكان في بيان قربه سبحانه من المحسنين من التحريض على الإحسان واستدعائه من النفوس وترغيبها فيه غاية حظ وأشرفه وأجله على الإطلاق وهو أفضل إعطاء أعطيه العبد وهو قربة تبارك وتعالى من عبده الذي هو غاية الأماني ونهاية الآمال وقرة العيون وحياة القلوب وسعادة العبد كلها فكان في
العدول عن قريب إلى قريب من استدعاء الإحسان وترغيب النفوس فيه ما لا يتخلف بعده إلا من غلبت عليه شقاوته ولا قوة إلا بالله تعالى فصل
المسلك الثامن إن الرحمة مصدر والمصادر كما لا تثنى ولا تجمع فحقها أن لا تؤنث وهذا المسلك ضعيف جدا فإن الله سبحانه حيث ذكر الرحمة أجرى عليها التأنيث كقوله ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون وقوله فيما حكى عنه رسوله إن رحمتي غلبت أو سبقت غضبي // رواه البخاري ومسلم والترمذي // ولو كان حذف التاء من الرحمة لكونها مصدرأ والمصادر لا حظ للتأنيث فيها لم يعد عليها الضمير إلا مذكرا وكذلك ما كان من المصادر بالتاء كالقدرة
والإرادة والحكمة والهمة ونظائرها وفي بطلان ذلك دليل على بطلان هذا المسلك
المسلك التاسع أن القريب يراد به شيئان
أحدهما النسب والقرابة فهذا بالتاء تقول فلانه قريبة لي
والثاني قرب المكان وهذا بلا تاء تقول جلست فلانه قريبا مني ولا تقول قريبة منى وهذا مسلك الفراء رحمة الله وجماعة وهو أيضا ضعيف فإن هذا إنما هو إذا كان لفظ القريب ظرفا فإنه يذكر كما قال تقول جلست المرأة مني قريبا فأما إذا كان اسما محضا فلا فصل
المسلك العاشر أن تأنيث الرحمة لما كان غير حقيقي ساغ فيه حذف التاء كما تقول طلع الشمس وطلعت وهذا المسلك أيضا فاسد فإن هذا إنما يكون إذا أسند الفعل إلى ظاهر المؤنث
فإما إذا أسند إلى ضميره فلا بد من التاء كقولك الشمس طلعت وتقول الشمس طالعة ولا تقول طالع لأن في الصفة ضميرها فهي بمعنى الفعل في ذلك سواء
فصل
المسلك الحادي عشر أن القريبا مصدر لا وصف وهو بمنزلة النقيض فجرد من التاء لأنك إذا أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ولهذا تقول امرأة عدل ولا تقول عدلة وامرأة صوم وصلاة وصدق وبر ونظائره وهذا المسلك من أفسد ما قيل عن القريب فإنه لا يعرف استعماله مصدرا أبدا وإنما هو وصف والمصدر هو القرب لا القريب فصل
المسلك الثاني عشر إن فعيلا وفعولا مطلقا يستوي فيهما المذكر والمؤنث حقيقيا كان أو غير حقيقي كما قال امرؤ القيس
يرهرهه رودة رخصة ... كخرعوبة البانة المنقطر
قطيع القيام فتور الكلام ... تفتر عن ذي عزوب خصر
وقال أيضا
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم ... قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
وقال جرير
أتنفعك الحياة وأم عمرو ... قريب لا تزور ولا تزار
وقال جرير أيضا
كأن لم نحارب يا بثين لو أنها ... تكشف غماها وأنت صديق
وقال أيضا
دعون الهون ثم ارتهن قلوبنا ... بأسهم أعداء وهن صديق
قالوا وشواهد ذلك كثيرة
وفي هذا المسلك غنية عن تلك التعسفات والتأويلات وهذا المسلك ضعيف أيضا ومما رده أبو عبد الله بن مالك فقال هذا القول ضعيف لأن قائله إما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع وغيره يستحق ما يستحقه فعول من الجري على المذكر والمؤنث بلفظ واحد وإما أن يريد أن فعيلا في هذا الموضع خاصة محمول على فعول
فالأول مردود لإجماع أهل العربية على التزام التاء في ظريفة وشريفة وأشباههما
وزنا ودلالة ولذلك احتاج علماؤهم أن يقولوا في قوله تعالى وما كانت أمك بغيا وقوله ولم أك بغيا أن الأصل هو يغوى على فعول فلذلك لم تلحقه التاء ثم أعل بإبدال الواو ياء والضمة كسرة فصار لفظه كلفظ فعيل ولو كان فعيلا أصلا للحقته التاء فقيل الم أك بغية
والثاني أيضا مردود لأن لفعيل على فعول من المزايا ما لايليق به أن يكون تبعا له بل العكس أولى أن يكون فعولا تبعا لفعيل ولأنه يتضمن حمل فعيل على فعول وهما مختلفان لفظا ومعنى أما اللفظ فظاهر وأما المعنى فلأن قريبا لا مبالغة فيه لأنه يوصف به كل ذي قرب وإن قل وفعول لا بد فيه من المبالغة
وأيضا فإن الدال على المبالغة لا بد أن يكون له بنية لا مبالغة فيها ثم يقصد به المبالغة فتتغير بنيته كضارب وضروب وعالم وعليم وقريب ليس كذلك فلا مبالغة فيه وأما بيت امرؤ القيس فلا حجة فيه لوجوه
أحدها أنه نادر فلا حكم له فلا كثرت صوره ولا جاء على الأصل كاستجوذ واستوثق البعير واغيمت السماء واغور واحول وما كان كذلك فلا حكم له
الثاني أن يكون قد أراد قطيعة القيام ثم حذف التاء للإضافة فإنها تجوز بحذفها عند الفراء وغيره وعليه حمل قوله تعالى وإقام الصلاة أي إقامتها لأن المعروف في ذلك إنما هو لفظ الإقامة ولا يقال إقام دون إضافة كما لا يقال أراد في أرادة ولا أقال في إقالة لأنهم جعلوا هذه التاء عوضا عن ألف إفعال أو عينه لأن أصل إقامة أقوام فنقلت حركة العين إلى الفاء فانقلبت ألفا فالتقت ألفان فحذفت إحداهما فجاءوا بالتاء عوضا فلزمت إلا مع الإضافة فإن حذفها جائز عند قوم قياسا وعند أخرين سماعا ومثلها في اللزوم تاء عدة وزنة وأصلهما وعد ووزن فحذفت الواو وجعلت التاء عوضا منها فلزمت وقد تحذف للإضافة كقول الشاعر
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا ... وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي أخلفوك عدة الأمر فحذف التاء وعلى هذه اللغة قرأ بعض القراء ولو ارادوا الخروج لأعدوا له عدة بالهاء أي عدته فحذف التاء
الثالث أن يكون فعيل في قوله قطيع القيام بمعنى مفعول لأن صاحب المحكم حكى أنه قال مبينا على قطعه وأقطعه إذا بكته وأقطعه إذا بكته وقطع هو فهو قطيع القول فقطيع على هذا بمعنى مقطوع أي مبكت فحذف التاء على هذا التوجيه ليس مخالفا للقياس وإن جعل قطيعا مبنيا على قطع كسريع من سرع فحقه على ذلك أن يلحقه التاء عند جريه على
المؤنث إلا أنه شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول فأجرى مجراه فهذا تمام اثنى عشر مسلكا في هذه الآية اصحها المسلك المركب من السادس والسابع وباقيها ضعيف وواه ومحتمل
والمبتدىء والمقلد لا يدرك هذه الدقائق والفاضل المنصف لا يخفى عليه قويها من ضعيفها وليكن هذا آخر الكلام على الآية والله أعلم فائدة تقسيم الخب إلى مفرد وجمله
خبر المبتدأ إما مفرد وإما جملة فإن كان جملة فإما أن يكون نفس المبتدأأو غيره فإن كان نفس المبتدأ لم يحتج إلى رابط يربطها به إذ لا رابط أقوى من اتحادهما نحو قولي الحمد لله
وإن كانت غير المبتدأ فلا بد فيها من رابط يربطها بالمبتدأ لئلا يتوهم استقلالها وانقطاعها عن المبتدأ لأن الجملة كلام قائم تام بنفسه وذلك الرابط لا يتعين أن يكون ضميرا بل يجوز أن يكون ضميرا وهو الأكثر واسم إشارة كقوله تعالى ولباس التقوى ذلك خيرا وقوله والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ونظائره كثيرة
واسما ظاهرا قائما مقام الضمير كقوله تعالى والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين
وقد يستغني عن الضمير إذا علم الرابط وعدم الاستقلال بالسياق وباب هذا التفصيل بعد الجملة ففيه يقع الاستغناء عن الضمير كثيرا كقولك المال لهؤلاء لزيد درهم ولعمرو درهمان ولخالد ثلاثة ومثله الناس واحد في الجنة وواحد في النار ولا حاجة إلى تقدير ضمير رابط محذوف تقديره لزيد منه درهم وواحد منهم في الجنة
فإن تفصيل المبتدأبالجملة بعده رابط أغنى عن الضمير فتأمله ومثله السمن منوان بدرهم وهذا بخلاف قولك زيد عمرو مسافر فإنه لا رابط بينهما بوجه فلذلك يحتاج أن يقول في حاجته ونحو ذلك ليفيد الإخبار
هذا حكم الجملة وأما المفردا فقد اشتهر على ألسنة النحاة أنه إن كان مشتقا فلا بد من ضمير يربطه بالمبتدأوإن كان جامدا لم يحتج إلى ضمير
وبعضهم يتكلف تأويله بالمشتق وهذا موضع لا بد من تحريره فنقول الخبر المفرد لما كان نفس المبتدأكان اتحادهما أعظم رابط يمكن فلا وجه لاشتراط الرابط بعد هذا أصلا فإن المخاطب يعرف أن الخبر مسند لى المبتدأوأنه هو نفسه ومن هنا يعلم غلط المنطقيين في قولهم إنه لا بد من الرابط إما مضمرا وإما مظهرا وهذا كلام من هو بعيد من تصور المعاني وارتباطها بالألفاظ ولا تستنكر هذه العبارة في حق المنطقيين فإنهم من أفسد الناس تصورا ولا يصدق بهذا إلا من عرف قوانين القوم وعرف ما فيها من التخبيط والفساد
وأما إن كان الخبر اسما مشتقا مفردا فلا بد فيه من ضمير ولكن ليس الجالب لذلك الضمير ربطه بالمبتدأبل الجالب له أن المشتق كالفعل في المعنى فلا بد له من فاعل ظاهر أو مضمر
فإن قيل وما الذي يدل على أن في الفعل ضميرا حتى يكون في ثانية ضمير فإذا قلت زيد قام فإن هذا اللفظ لا ضمير فيه يستمع فدعوى تحمله للضمير دعوى محضة
قيل الذي يدل على أن فيه الضمير تأكيدهم له وعطفهم عليه وإبدالهم منه كقولك في التأكيد إن زيدا سيقوم نفسه برفع نفس وفي العطف كقوله تعالى سيصلى نارا ذات لهب وامرأته فامرأته رفع عطفا على الضمير في سيصلى وفي الإبدال قولك إن زيدا يعجبني علمه على أن يكون علمه بدل اشتمال لا فاعل فإذا كان المشتق مفردا كان الضمير الذي فيه فعلا كان أو اسما نحو زيد يذهب وزيد ذاهب
وأما في التثنية والجمع فلا يكون ضميرا إلا في الأفعال نحو يذهبان ويذهبون وأما في الأسماء فإنه لا يكون فيها إذا ظهر إلا علامة لا ضميرا نحو ذاهبان وذاهبون فهما في الاسم حرفان وفي الفعل اسمان برهان ذلك انقلابهما في الاسم ياء في التثنية والجمع كما ينقلبان فيما لا يحتمل ضميرا كزيدين والزيدين ولو كان ضميرا ك هما في الفعل لبقيا على لفظ واحد كما تقول في الفعل هؤلاء رجال يذهبون ومررت برجال يذهبون ورأيت رجالا يذهبون وكذلك في التثنية سواء فلا يتغير لفظ الواو لأنها فاعل وليست علامة إعراب الفعل فثبت بهذا صحة دعوى النحاة على العرب أن الضمير المستتر في الإسم المشتق لا يظهر في تثنية ولا جمع
وأن الضمير المستتر في الفعل يظهر في التثنية والجمع ولولا الدليل الذي ذكرناه لما
عرف هذا أبدا لأن العرب لم تشافهنا بهذا مشافهة ولا أفصحت عن هذا القدر في هذا ونحوه إلا باستقراء كلامها والتتبع لأنحائها ومقاصدها الموصل إلى غرائب هذه اللغة وأسرارها وحكمها
فإن قيل فقد عرفنا صحة ذلك فما هي الحكمة التي من أجلها فرقوا بين المواطنين فجعلوها ضمائر في الأفعال وحروفا في الأسماء
قيل في ذلك حكمة بديعة وهي أن الأسماء لما كان أصلها الإعراب كانت أحوج إلى علامة إعراب منها إلى علامة إضمار والأفعال أصلها البناء ولم يكن لها بد من الفاعل ضرورة فكانت احوج إلى علامة إضمار الفاعلين منها إلى علامة إعراب مع أن هذه العلامة في الأسماء علامة تثنية وجمع وحروف إعراب أيضا والأفعال لا تثنى ولا تجمع إذ هي مشتقة من المصدر وهو لا يثنى ولا يجمع لأنه يدل على القليل والكثير بلفظ واحد هذه علة النحاة
وفيه علة أخرى هي أصح من هذه وألطف وأدق قد تقدمت في أول هذا التعليق وإذا ثبت أن الأفعال لا تثنى ولا تجمع وعلامة التثنية والجمع حروف إعراب فلا يكون الواو والألف إلا علامة إضمار ولا يكون في الأسماء وإن احتملت الضمائر إلا علامة تثنية وجمع وحروف إعراب على قول سيبويه أي محل الأعراب أو هي الأعراب نفسها على قول قطرب وغيره بمنزلة الحركات في المفرد أو دليل إعراب على قول أبي الحسن الأخفش وأبي العباس المبرد فصل حكم الخبر إذا كان ظرفا أو جارا ومجرورا
هذا حكم الخبر إذا كان مفردا أو جملة فأما إذا كان واقعا موقع الخبر وليس هو نفسه خبرا كالظرف والمجرور فإنه واقع موقع مشتق متحمل للضمير وهو إما مفرد وإما جملة
وأكثر النحاة يقدرونه بمفرد مشتق نظرا إلى أن الأصل في الخبر أن يكون مفردا فتقديره كذلك موافق للأصل وأيضا فإنما قدر لضرورة صحة الكلام فإن الظرف والمجرور ليس هو نفس المبتدأ وما قدر للضرورة لا يتعدى به ما تقتضيه الضرورة وهي تزول بالمفرد فتقدير الجملة مستغنى عنه مع أنه خلاف الأصل
وأيضا فإنه قدر للتعلق وهذا التعلق يكفي فيه المفرد وأيضا فإنه يقع في موضع لا يصح فيه تقدير الجملة كقولك أما عندك فزيد وأما في الدار فعمر فإن أما لا يليها إلا اسم مفرد فإذا تعين المفرد ههنا يرجح في الباقي ليجري الباب على سنن واحد ولا ينتقض هذا بوقوعه في صلة الموصول كقولك جاءني الذي في الدار إذ يتعين تقدير الجملة لأن كلامنا في التقدير في باب الخبر لا في التقدير في سائر الأبواب كالصلة والصفة والحال ولا يلزم من تعين الجملة في التقدير في الصلة تعينها ولا ترجيحها في باب المبتدأ
وسأل أبو الفتح بن جني أبا علي عن هذه المسألة فلم يراجعه بجواب شاف أكثر من أن قال له تقدير الاسم ههنا أولى لأن خبر المبتدأ في أغلب أحواله اسم
وكشف الغطاء عن هذه المسألة أن يقال الجار هنا لا يتصور تعليقه بفعل محض إذ الفعل المحض ما دل على حدث وزمان ودلالته على الزمان ببنيته فإذا لم يكن له وجود في اللفظ لم يكن له بنية تدل على الزمان مع أن الجار لا تعلق له بالزمان ولا يدل عليه إنما هو في أصل وضعه لتقييد الحدث وجره إلى الإسم على وجه ما من الإضافة فلا تعلق له إلا بالحدث والحدث الذي هو المصدر لا يمكن تقديره ههنا لأنه خبر المبتدأ والمبتدأ ليس هو الحدث فبطل أن يكون التقدير زيد استقرار في الدار
وبطل أيضا بما تقدم أن يكون التقدير زيد استقر في الدار ألا ترى أن يقبح أن يقال زيد في الدار أمس أو أول من أمس
وإذا بطل القسمان أعنى إضمار المصدر والفعل لم يبق إلا القسم الثالث وهو إضمار اسم الفاعل فتتضح الفائدتان
أحدهما أن يكون خبرا عن المبتدأويضمر فيه ما يعود عليه إذ لا يمكن ذلك في المصدر
والثانية أن يصبح تعلق الجار به إذ مطلوبة الحدث واسم الفاعل متضمن للحدث لا للزمان إذا عرف هذا فلا يصح ارتفاع الاسم بعد الظرف والمجرور بالاستقرار على أنه فاعل وإن كان في موضع خبر أو نعت وإنما يرتفع بالابتداء كما يرتفع في قولك قائم زيد بالابتداء لا بقائم خلافا للأخفش فإذا قلت في الدار زيد فارتفاع زيد بالابتداء لا بالاستقرار
اسم الفاعل
فإن قلت إليس إذا قلت زيد قائم أبوه ورأيت رجلا قائما أبوه ومررت برجل
قائم أبوه فترفع الاسم بقائم إذا كان معتمدا على مبتدأأو منعوت أو ذي حال وكذلك إذا كان قبله استفهام أو نفي نحو أقائم زيد وما قائم زيد
قيل اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اقترن به ألف الاستفهام أو قرينة من القرائن التي ذكرت التي يقوي بها معنى الفعل عمل عمل الفعل بخلاف قائم زيد فإنه لا قرينة معه تقتضي أن يعمل عمل الفعل فحمل على أصله من الابتداء والخبر
فإن قيل فهلا قلت إن الظرف والمجرور إذا اعتمد كما يعتمد اسم الفاعل أنه يرفع الاسم كما هو معزى إلى سيبويه
فإذا قلت زيد في الدار أبوه كان أبوه مرفوعا بالظرف كما إذا قلت زيد قائم أبوه قلت قد توهم قوم أن هذا مذهب سيبويه وأنك إذا قلت مررت برجل معه صقر أن صقرا مرفوعا بالظرف لاعتماده على الموصوف وكنا نظن ذلك زمانا حتى تبين أن هذا ليس بمذهبه وأنه غلط عليه وقد بين أبو سعيد السيرافي مراد سيبويه من كلامه وشرح وجه الغلط عليه بما فيه كفاية فراجعه في كتابه
والفرق بين الظرف وبين اسم الفاعل ما تقدم أن اسم الفاعل مشتق وفيه لفظ الفعل ومعناه فإذا اعتمد أن اقترنت به قرينة جانب الفعلية فيه فعمل عمل الفعل وأما الظرف فلا لفظ للفعل فيه إنما هو معنى يتعلق به الفعل ويدل عليه ولم يكن في قوة القرينة التي يعتمد عليها أن تجعله كالفعل كما لم يكن في قوته إذا كان ملفوظا به دون قرينة أن يكون كالفعل فإذا اجتمع الاعتماد المقوي لمعنى الفعل مع اللفظ المشتق من الفعل عمل الاسم حينئذ عمل الفعل
ووجه آخر من الفرق بين المسألتين أنك إذا قلت مررت برجل قائم أبوه فالقيام لا محالة مسند إلى الأب في المعنى وهو في اللفظ جار على رجل والكلام له لفظ معنى فقائم في اللفظ جار عل ما قبله وفي المعنى مسند إلى ما بعده وأما الظرف والمجرور فليس كذلك إنما هو معنى يتعلق به الجار وذلك المعنى مسند إلى الاسم المرفوع وخبر عنه فصح أنه مبتدأ والمجرور خبر عنه والجملة في موضع نعت أو خبر
فإن قيل فليزمكم إذا قدمتم الظرف في موضع الخبر وقدرتم فيه ضميرا يعود على المبتدأ أن تجيزوا في الدار نفسه زيد وفيها أجمعون إخوتك وهذا لا يجوزه أحد وفي هذا حجة للأخفش ولمن قال بقوله في أن رفع الاسم بالظرف
قيل إنما قبح توكيد المضمر إذا كان الظرف خبرا مقدما لأن الظرف في الحقيقة ليس
هو الحامل للضمير إنما هو متعلق بالاسم الحامل للضمير وذلك الاسم غير موجود في اللفظ حتى يقال إنه مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى وإذا لم يكن ملفوظا به فهو في المعنى والرتبة بعد المبتدأوالمجرور المقدم قبل المبتدأ دال عليه والدال على الشيء غير الشيء فلذلك قبح فيها أجمعون الزيدون لأن التوكيد لا يتقدم على المؤكد ولذلك صح تقديم خبر إن على اسمها إذا كان ظرفا لأن الظرف ليس هو الخبر في الحقيقة إنما هو متعلق بالخبر والخبر منوي في موضعه مقدر في مكانه ولذلك لم ينكسر أصل الخليل في منعه تقديم خبر المبتدأ مع كثرة هذا النحو في الكلام أعني في الدار زيد ولذلك عدل سيبويه في قولهم فيها قائما رجل ولمية موحشا طلل إلى أن جعل الحال من النكرة ولم يجعلها حالا من الضمير الذي في الخبر لأن الخبر مؤخر في النية وهو العامل في الحال وهو منوي والحال لا يتقدم على العامل المنوي فهذا كله مما يبين أن الظرف والمجرور ليس هو الخبر في الحقيقة ولا الحامل للضمير ولا العامل في شيء من الأشياء لا في حال ولا في ظرف ولا في فاعل
ومن جهة المفعول أن الدار إذاانفردت بلفظها لم يصح أن تكون خبرا عن زيد ولا عاملة ولا حاملة للضمير وكذلك في ومن وسائر حروف الجر لو انفردت لم يكن فيها شيء من ذلك فقد وضح أن الخبر غيرها وأنها واقعة موقعة والله أعلم
فإن قيل فما تقول فيما حكاه الزجاج عن بعض النحاة أنك إذا قلت قائم زيد أن قائما مبتدأوزيد فاعل به سد مسد الخبر
قيل هذا وإن كان قد جوزه بعض النحاة فهو فاسد في القياس لأن اسم الفاعل اسم محض واشتقاقه من الفعل لا يوجب له عمل الفعل كمسجد ومرقد ومروحة ومغرفة
ولكن إنما يعمل إذا تقدم ما يطلب الفعل أو كان في موضع لا تدخل عليه العوامل اللفظية نحو النعت والخبر والحال فيقوى حينئذ معنى الفعل فيه ويعضد هذامن السماع أنهم لم يحكوا قائم الزيدان وذاهب إخوتك عن العرب إلا على الشرط الذي ذكرنا ولو وجد الأخفش ومن قال بقوله سماعا لاحتجوا به على الخليل وسيبويه فإذا لم يكن مسموعا وكان بالقياس مدفوعا فأخرى به أن يكون باطلا ممنوعا
فإن قلت فما تصنع في قول الشاعر
خبير بني لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبي إذا الطير مرت
فهذا صريح في أن خبير مبتدأوبنو لهب فاعل به وفي قول الآخر
فخير نحن عند الناس منكم ... إذا الداعي المثوب قال يالا
قلت أما البيت الأول فعلى شذوذه وندرته لا يعرف قائله ولم يعرف أن متقدمي النحاة وأئمتهم استشهدوا به وما كان كذلك فإنه لا يحتج به باتفاق على أنه لو صح أن قائله حجة عند العرب لاحتمل أن يكون المبتدأ محذوفا مضافا إلى بني لهب وأصله كل بني لهب خبير وكل يخبر عنها بالمفرد كما تقدم في أول التعليق ثم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه فاستحق إعرابه
ويدل على إرادة العموم عجز البيت وهو قوله فلا تك ملغيا مقالة لهبي أفلا ترى كيف يعطي هذا الكلام أن كل واحد من بني لهب خبير فلا تلغ مقالة لهبي وكذلك البيت الثاني فلا متعلق فيه أصلا لأن أفعل التفضيل إذا وقع خبرا عن غيره وكان مقترنا بمن كان مفردا على كل حال نحو الزيدون خير من العمرين فصل وجوه اسم الفاعل
إذا ثبت هذا فيجوز في اسم الفاعل إذا اعتمد على ماقبله أو كان معه قرينة مقتضية للفعل وبعده اسم مرفوع وجهان
أحدهما أن يكون خبرا مقدما والاسم بعده مبتدأ وأن يكون مبتدأوالمرفوع بعده فاعل نحو أقائم زيد وما قائم عمرو ونحوه إلا أن يمنع مانع من ذلك وذلك في ثلاث مسائل
أحدها قولك زيد قائم أخواه فإن هذا يتعين فيه أن يكون أخواه فاعلا بقائم ولا يجوز أن يكون أخواه مبتدأ وقائم الخبر لعدم المطابقة
الثانية قولك زيد قائمان أخواه فإن هذا يتعين فيه على الأفصح أن يكون مبتدأ وخبرا لو كان من باب الفعل والفاعل لقلت قائم أخواه كما تقول قام أخواه
الثالثة قولك زيد قائم أنت إليه وزيد قائم هو إذا كان الفاعل ضميرا منفصلا فإن هذا لا يكون إلا مبتدأوخبرا لأن الضمير المنفصل لا يكون فاعلا مع اتصاله بعامله إنما يكون فاعلا إذا لم يمكن اتصاله نحو ما قائم إلا أنت ونحو الضار به هو
فإذا عرفت ذلك فقوله في حديث المبعث أو مخرجي هم // رواه البخاري ومسلم والترمذي // فمخرجي
يتعين أن يكون خبرا مقدما وهم مبتدألأن الرواية اتفقت على تشديد مخرجي وكان أصله مخرجون لي فحذف اللام وأضيف مخرجون إلى الياء فسقط نون الجمع لأنها تسقط للإضافة فصار مخرجوي فاجتمع الواو والياء والسابق منهما ساكن فقلبت الواو ياء فصار مثلان فأدغم أحدهما في الآخر فجاء مخرجي
ومثله ضاربي ومكرمي ولو أن لصفة ههنا رافعة للضمير لكانت مفردة وكان يقول أو مخرجي هم بالتخفيف كما تقول أضاربي إخوتك ولو جعلته مبتدأ خيرا لقلت أضاربي بالتشديد والله أعلم
فان قلت ما هم بمخرجي تعين التشديد ليس إلا لأن الفاعل لا يتقدم فلو خففت لكانت المسألة من باب الفعل والفاعل والفاعل لا يتقدم عامله وإن أخرت الضمير جاز لك الوجهان كما تقدم ظروف الزمان والإخبار عن الجثة
قولهم ظروف الزمان لا تكون إخبار عن الجثة ليس على إطلاقه بل فيه تفصيل يعرف من العلة في منع ذلك والعلة أن الزمان لما كان عبارة عن أوقات الحوادث وكانوا محتاجين إلى تقييد حوادثهم بأزمنة تقارنها معلومة عن المتكلم والمخاطب كما يقدرونها بالإماكن التي تقع فيها جعل الله سبحانه وتعالى حركات الشمس والقمر وما يحدث بسببها من الليل والنهار والشهور وألاعوام معيارا يعلم به العباد مقادير حوادث أفعالهم وتاريخها ومعيارها لشدة حاجتهم إلى ذلك في الآجال كالعدد والإجارات والسلم والديون المؤجلة ومعرفة مواقيت الحج والصيام وغيرها فصارت حركة الشمس والقمر تاريخا وتقييدا ومعيار للأفعال والحياة والموت والمولد وغير ذلك
فالزمان إذا عبارة عن مقارنة حادث لحادث مقارنة الحادث من الحركة العلوية للحادث من حركات العباد ومعيارا له ولهذا سماه النحاة ظرفا لأنه مكيال ومعيار يعلم به مقدار الحركة والفعل وتقدمه وتأخره وقربه وبعده وطوله وقصره وانقطاعه ودوامه
فإذا أخبرت أن فعلك قارن ذلك الحادث المعلوم من حركة الشمس والقمر يوقت له ويقيد به فسمي وقتا وهو في الأصل مصدر وقت الشيء أوقته حددته وقدرته حتى لو أمكن أن يقيد ويؤرخ بما يقارن الفعل من الحوادث غير الزمان استغنى عن الزمان نحو قمت عند خروج الأمير وعند قدوم الحاج وعند موت فلان لكن ذلك لا يشترك في علمه ومعرفته كالاشتراك في معرفة يوم الجمعة وشهر رمضان ونحوه ولا
يطرد مع أنه أيضا توقيت وتاريخ بالزمان في الحقيقة فإن قولك عند خروج الأمير وقدوم الحاج إنما تريد به هذه الأوقات والأزمنة ولكن المعلوم عند جميع المخاطبين إنما هي أجزاء الزمان كالشهر والسنة واليوم وأبعاض ذلك
وإذا عرف ذلك فلا معنى لقولك زيد اليوم وعمرو غدا لأن الجثث ليست بأحداث فتحتاج إلى تقييدها بما يقارنها وإلى تاريخها بحدث معها فما ليس بحدث لا معنى لتقييده بالحدث الذي هو الزمان
وعلى هذا فإذا أردت حدوث الجثة ووجودها فهو أيضا حادث فيجوز أن يخبر عنه بالزمان إذا كان الزمان يسع مدتها تقول نحن في المائة الثامنة وكان الأوزاعي في المائة الثانية والإمام أحمد في المائة الثالثة ونحو هذا
وعلى هذا إذا قلت الليلة الهلال صح ولا حاجة بك إلى تكليف إضمار الليلة طلوع الهلال فإن المراد حدوث هلال ذلك الشهر فجرى مجرى الأحداث وكذلك تقول الورد في ايار وتقول الرطب في شهر كذا وكذا ومنه قول الشاعر
أكل عام نعم يحوونه ... يلقحه قوم وتنتجونه
ومثله قولك البدر ليلة رابع عشرة ولا حاجة إلى تكلف طلوع البدر بل لا يصح هذا التقدير لأن السائل إذا سألك أي وقت البدر فإنه لم يسألك عن الطلوع إذ هو لا يجهله وإنما يسألك عن ذات البدر ونفسه فقولك هو ليلة أربع عشرة تريد به أن ليلة أربع عشرة هي ليلة كونه بدرا لا ليلة طلوعه فتأمله
وعلى هذا فلا يسوغ هذا الاستعمال حتى يكون الزمان يسع ما قيدته به من الحدث والجثة التي في معناه فلو كان الزمان أضيق من ذلك لم يجز التقييد به لأن الوقت لا يكون أقل من المؤنث فلا تقول نحن في يوم السبت وإن صح أن تقول نحن في المائة الثامنة ولا تقول الحجاج في يوم الخميس وتقول الحجاج في زمن بني أمية والله اعلم إشكالات إعرابية
قوله عز و جل إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون وقال تعالى سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم وقوله تعالى سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون مما أشكل إعرابه على فحول العربية واختلفت أقوالهم في ذلك
فقال صاحب الكشاف سواء اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ومنه قوله تعالى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وقوله تعالى في أربعة أيام سواء للسائلين بمعنى مستوية وارتفاعه على أنه خبر لأن وأنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع رفع على الفاعلية
كأنه قيل إن للذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه كما تقول إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه أو يكون أنذرتهم أم لم تنذرهم في موضع الابتداء وسواء خبرا مقدما بمعنى سواء عليهم إنذارك وعدمه والجملة خبر لأن
فإن قلت الفعل أبدا خبر لا مخبر عنه فكيف صح الإخبار عنه في هذا الكلام
قلت هو من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعني وقد وجدنا العرب يميلون في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلا بينا
من ذلك قولهم لا تأكل السمك وتشرب اللبن معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل والهمزة وأم مجردتان بمعنى الاستواء وقد انسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا
قال سيبويه جرى هذا على حرف الاستفهام كما جرى على حرف النداء في قولك اللهم اغفر لنا أيتها العصابة يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء ومعنى الاستواء استواؤهما في علم المستفهم عنهما لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين
قلت هذا قوله وقول طائفة من النحاة وقد اعترض على ما ذكراه بأنه يلزم القائل به أن يجيز سواء قمت أم قعدت دون أن تقول علي أو عليك وأنه يجيز سيان أذهب زيد أم جلس ويتفقان أقام زيد أم قعد وما كان نحو هذا مما لا يجوز في الكلام ولا روي عن أحد لأن التقدير الذي قدروه منطبق على هذا
وقالت طائفة أخري سواء ههنا مبتدأوالجملة الاستفهامية في موضع الخبر وإنما قالوا هذا وإن كان سواء نكرة لأن الجملة لا تكون في موضع المبتدأأبدا ولا في موضع الفاعل وأورد عليهم أن الجملة إذا وقعت خبرا فلا بد فيها من ضمير يعود على المبتدأفأين الضمير العائد على سواء ههنا فأجابوا عن هذا بأن سواء وإن كان مبتدأ في اللفظ فهو في المعنى خبر لأن المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه
قالوا ولا يلزم أن يعود من المبتدأضمير على الخبر فلما كان سواء خبر في المعنى دون اللفظ روعي المعنى
ونظير هذا قولهم ضربي زيدا قائما فإنه لم يعد على ضربي ضمير من الحال التي سدت مسد الخبر لأن معناه اضرب زيدا أو ضربت زيدا والفعل لا يعود عليه ضمير فكذلك ما هو في معناه وقوته
ونظيره أيضا أقائم أخوك لان اخوك وإن سد مسد الخبر فإنه فاعل في المعنى وقائم معناه معنى الفعل الرافع للفاعل فروعيت هذه المعاني في هذه المواضع وهجر فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى وبقي حكم الابتداء مقتضيا للرفع لفظا والمبتدأ متضمن لمعنى يخالف معنى الابتداء فحكم لذلك المعنى فلم يعد على اللفظ ضمير وحكم للفظ المبتدأ بحكم الابتداء فارتفع
فهذا قول هذه الطائفة الأخرى واعترض عليه بعد الاعتراف بحسنه وقوته بأن العرب لم تنطق بمثل هذا في سواء حتى قرنته بالضمير المجرور ب على نحو سواء عليكم وسواء عليهم وسواء علي فإن طردوا ما أصلوه في سواء سواء قرن ب على أم لم يقرن فليس كذلك وإن خصوه بالمقرون ب على فلم يبينوا سر اختصاصه بذلك
وقالت طائفة ثالثة منهم السهيلي وهذا لفظه لما كانت العرب لا تقول سيان أقمت أم قعدت ولا مثلان ولا شبيهان ولا يقولون ذلك إلا في سواء مع المجرور ب على وجب البحث عن السر في ذلك وعن مقصد القوم في هذا الكلام وعن المساواة بين أي شيء هي وفي أي الصفات هي من الأسمين الموصوفين بالتساوى فوجدنا معنى الكلام ومقصوده إنما هو تساوي عدم المبالاة بقيام أو قعود أو إنذار أو ترك إنذار ولو أرادوا المساواة في صفة موجودة في الذات لقالوا سواء الإقامة والشخوص كما يقولون سواء زيد وعمرو
وسيان ومثلان يعنى استواءهما في صفة ذاتيهما فإذا أردت أن تسوى بين أمرين في عدم المبالاة وترك الالتفات لهما وأنهما قد هانا عليك وخفا عليك
قلت سواء علي أفعل أم لم يفعل كما تقول لا أبالي أفعل أم لم يفعل لأن المبالاة فعل من افعال القلب وأفعال القلب تلغي إذا وقعت بعدها الجمل المستفهم عنها أو المؤكد باللام تقول لا أدرى أقام زيد أم قعد وقد وقعت بعدها ليقومن زيد ولكن لا تلغى هذه الأفعال القلبية حتى يذكر فاعلها في اللفظ أو في المعنى فتكون حينئذ في موضع المفعول بالعلم ثم قال
فصل إعراب سواء عليهم أأنذرتهم
فإذا ثبت هذا ف سواء مبتدأ في اللفظ وعلى وعليكم أو عليهم مجرور في اللفظ وهو فاعل في المعنى المضمون من مقصود الكلام إذ قولك سواء علي في معنى لا أبالي وفي أبالي فاعل وذلك الضمير الفاعل هو المجرور ب على في المعنى لان الأمرين إنما استويا عليك في عدم المبالاة فإن لم تبال بهما لم تلتفت بقلبك إليهما وإذا لم تلتفت فكأنك قلت لا أدري أقمت أم قعدت
فلما صارت الجملة الاستفهامية في معنى المفعول لفعل من افعال القلب لم يلزم أن يكون فيها ضمير يعود على ما قبلها إذ لبس قبلها في الحقيقة إلا معنى فعل يعمل فيها من المفعول ضمير على عاملة ولولا قولك علي وعليكم ما قوى ذلك المعنى ولا عمل في الجملة ولكن لما تعلق الجارية صار في حكم المنطوق به وصار المجرور هو الفاعل في المعنى كالفاعل في علمت ودريت وباليت
ألا ترى كيف صار المجرور في قولهم له صوت غراب بمنزلة الفاعل في يصوت حتى كأنك نطقت بيصوت فنصب صوت غراب لذلك
وإذا قلت عليه نوح الحمام رفعت نوح الحمام لأن الضمير المخفوض ب على ليس هو الفاعل الذي ينوح كما كان في قولك له صوت صوت غراب
وكذلك المجرور في سواء عليهم هوالفاعل الذي في قولك لا يبالون ولا يلتفتون إذ المساواة إنما هي في عدم المبالاة والالتفات والمتكلم لا يريد غير هذا فصار الفاعل مذكورا والمبالاة مفعوله مقصوده فوقعت الجملة الاستفهامية مفعولا لها
قال ونظير هذه المسألة حذو القذة بالقذه قوله تعالى ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الأيات ليسجننه حتى حين فبدا فعل ماض فلا بد له من فاعل والجملة المؤكدة باللام لا تكون في موضع فاعل أبدا وإنما تكون في موضع المفعول ب علمت وأن لم يكن في اللفظ علموا ففي اللفظ ما هو معناه لأن قولهم بدا ظهر للقلب لا للعين
وإذا ظهر الشيء للقلب فقد علم والمجرور من قوله لهم هو الفاعل فلما حصل معنى العلم وفاعله مقدما على الجملة المؤكدة باللام صارت الجملة مفعولا لذلك العلم كما تقول علمت ليقومن زيد ولام الابتداء وألف الاستفهام يكون قبلها أفعال القلب ملغاة
فكذلك سواء عليهم أأنذرتهم رفعت الجملة الاستفهامية في المعنى بعد فعل من أفعال القلب وبعد فاعله كما تقدم بيان ذلك حين قدرناه بقولك لا يبالون فالواو في يبالون هو الفاعل والضمير في عليهم هو الفاعل في المعنى
إلا ترى كيف اختص ب على من بين حروف الجر لأن المعنى إذا كان يرجع إلى عدم المبالاة فقد هان عليك الأمران وصار أخف شيء على من لا يبالهما ويلتفت إليهما فتأمله تجد المعاني صحيحة والفوائد كثيرة مزدحمة تحت هذا اللفظ الوجيز
فلذلك نبت عنه كثير من الأفهام حتى تناقضت عليهم الأصول التي اصلوها واضطربوا في الجواب عن الاعتراضات التي التزموها مع ما غاب عنهم من فوائد هذه الآيات وإعجازها وسمانه هذه الكلمات على إيجازها ثم قال فصل الاستفهام مع أم
فإن قيل ما بال الاستفهام في هذه الجملة والكلام خبر محض
قلنا الاستفهام مع أم يعطي معنى التسوية فإذا قلت أقام زيد أم قعد فقد سويت بينهما في علمك فهذا جواب فيه مقنع
وإما التحقيق في الجواب فأن تقول الف الاستفهام لم يخلع منها ما وضعت له ولا عزلت عنه وإنما معناه علمت أقام زيد أم قعد أي علمت ما كنت أقول فيه هذا القول واستفهم عنه بهذا اللفظ فحكيت الكلام كما كان كما كان ليعلم المخاطب ما كان مستفهما عنه معلوم كما تقول قام زيد فترفعه لأنه فاعل ثم تقول ما قام زيد فيبقى الكلام كما كان وتبقى الجملة محكية على لفظها لتدل على أنه ما كان خبرا متوهما عند المخاطب فهو الذي نغى بحرف النفي
ولهذا نظائر يطول ذكرها فكذلك قوله سواء عليهم أأنذرتهم لما لم يبالوا بالإنذار ولا نفعهم ولا ذخل في قلوبهم منه شيء صار في حكم المستفهم عنه أكان أم لم يكن فلا تسمى الألف ألف التسوية كما فعل بعضهم ولكن ألف الاستفهام بالمعنى الذي وضعت له ولم يزل عنه مجىء أنذرتهم و أدعوتهم بلفظ الماضي
فإن قيل فلم جاء بلفظ الماضي أعني أنذرتهم وكذلك أدعوتموهم أم أنتم
صامتون وأقام زيد أم قعد ولم يجىء بلفظ الحال ولا المستقبل فالجواب من وجهين
أحدهما أن في الكلام معنى الشرط والشرط يقع بعد المستقبل بلفظ الماضي تقول إن قام زيد غذا قمت وههنا يتعذر ذلك المعنى كأنك قلت إن قام زيد أو قعد لم أباله ولا ينتفع القوم إن أنذرتهم أم لم تنذرهم فلذلك جاء بلفظ الماضي
وقد قال الفارسي قولا غير هذا ولكنه قريب منه في اللفظ قال إن ألف الاستفهام تضارع إن التي للجزاء لأن الاستفهام واجب كما أن الشرط ليس بحاصل إذا عدم المشروط فهذه العبارة فاسدة من وجوه يطول ذكرها ولو رأي المعنى الذي قدمناه لكان أشبه
على أنه عندي مدخول أيضا لأن معنى الشرط يطلب الاستقبال خاصة دون الحال والماضي وقوله سواء عليكم أدعوتموهم وسواء عليهم أأنذرتهم لا تختص بالاستقبال بل المساواة في عدم المبالاة موجودة في كل حال بل هي أظهر في فعل الحال ولا يقع بعد حرف الشرط فعل حال بوجه
والتحقيق في الجواب أن تقول قد أصلنا في نتائج الفكر أصلا وهو أن الفعل لم يشتق من المصدر مضافا إلا ليدل على كون الاسم مخبرا عنه أعني الفاعل الذي كان المصدر مضافا إليه ولم تختلف أبنيته بعدما اشتق من المصدر إلا لاختلاف أحوال الحدث من مضي أو استقبال فإن كان قصد المتكلم أن لا يقيد الحدث بزمان دون زمان ولا بحال استقبال دون حال مضي بل يجعله مطلقا جاء بلفظ الماضي الذي لا زوائد فيه ليكون أخف على اللسان وأقرب إلى لفظ الحدث المشتق منه ألا ترى أنهم يقولون لا أفعله ما لاح برق وما طار طائر بلفظ الماضي خاصة لما أرادوا مدة مطلقة غير مقيدة وأنه لا يفعل هذا الشيء في مدة لوح البرق وطيران الطائر ونحو ذلك فلم يجاوزوا لفظ الماضي لأنهم لا يريدون استقبالا ولا حالا على الخصوص
فإن قلت ولا يريدون أيضا ماضيا فكيف جاء بلفظ الماضي
قلنا قد قرن معه لا أكلمه ولا أفعله فدل على أن قوله ما لاح برق لا يريد به لوحا قد انقضى وانقطع إنما يريد مقارنة الفعل المنفي للفعل الآخر في المدة على الإطلاق والدوام فليس في قوله ما لاح برق إلا معنى اللوح خاصة غير أنه ترك لفظ المصدر ليكون البرق مخبرا عنه كما تقدم فمتى أردت هذا ولم ترد تقييدا بزمان فلفظ الماضي أحق وأولى
وكذلك قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أضاف الإنذار إلى المخاطب المخبر عنه فاشتق من الإنذار الفعل ليدل على أن المخاطب فاعل الإنذار وترك الفعل بلفظ الماضي لأنه مطلق في الزمان كله وأن القوم لم يبالوا بهذا ولا هم في حال مبالاة فلم يكن لإدخال الزوائد الأربع معنى إذ ليس المراد تقييد الفعل بوقت ولا تخصيصه بحال
فإن قلت لفظ الماضي يخصصه بالانقطاع
قلت حدث حديثين امرأة وفيما قدمناه ما يغني عن الجواب مع ما في قوله سواء عليهم أأنذرتهم من ثبوت هذه الصفة فيهم وحصولها في الحال وفي المآل فلا تقول سواء ثوباك أو غلاماك إذا كان الاستواء فيما مضى وهما الآن مختلفان فهذه القرينة تنفي الانقطاع الذي يتوهم في لفظ المضي كما كان لفظ الحال في قولك لا أكلمه ما دامت السموات والأرض بنفي الانقطاع المتوهم في دام وإذا انتفى الانقطاع وانتفت الزوائد الأربع بقي الحدث مطلقا غير مقيد في المسألتين جميعا فتأمل هذا تجده صحيحيا فصل واو الثمانية
الكلام على واو الثمانية قولهم إن الواو تأتي للثمانية ليس عليه دليل مستقيم وقد ذكروا ذلك في مواضع فلنتكلم عليها واحدا واحدا
الموضع الأول قوله تعالى التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر فقيل الواو في والناهون واو الثمانية لمجيئها بعد استيفاء الأوصاف السبعة وذكروا في الآية وجوها آخر
منها أن هذا من التفنن في الكلام أن يعطف بعضه ويترك عطف بعضه
ومنها أن الصفات التي قبل هاتين الصفتين صفات لازمة متعلقة بالعامل وهاتان الصفتان متعديتان متعلقتان بالغير فقطعتا عما قبلهما بالعطف
ومنها أن المراد التنبيه على أن الموصوفين بالصفات المتقدمة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وكل هذه الأجوبة غير سديدة وأحسن ما يقال فيها أن الصفات إذا ذكرت في مقام التعداد فتارة يتوسط بينها حرف العطف لتغايرها في نفسها
وللإيذان بأن المراد ذكر كل صفة بمفردها وتارة لا يتوسطها العاطف لاتحاد موصوفها وتلازمها في نفسها وللإيذان بأنها في تلازمها كالصفة الواحدة وتارة يتوسط العاطف بين بعضها ويحذف مع بعض بحسب هذين المقامين
فإذا كان المقام مقام تعداد الصفات من غير نظر إلى جمع أو انفراد حسن إسقاط حرف العطف وإن أريد الجمع بين الصفات أوالتنبيه على تغايرها حسن إدخال حرف العطف فمثال ألأول التائبون العابدون الحامدون وقوله مسلمات مؤمنات قانتات تائبات
ومثال الثاني قوله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن وتأمل كيف اجتمع النوعان في قوله تعالى حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول فأتي بالواو في الوصفين الأولين وحذفها في الوصفين الآخرين لأن غفران الذنب وقبول التوب قد يظن أنهما يجريان مجرى الوصف الواحد لتلازمهما فمن غفر الذنب قبل التوب فكان في عطف أحدهما على الآخر مايدل على أنهما صفتان وفعلان متغايران ومفهومان مختلفان لكل منهما حكمه
أحدهما يتعلق بالإساءة والإعراض وهو المغفرة
والثاني يتعلق بالإحسان والإقبال على الله تعالى والرجوع إليه وهو التوبة فتقبل هذه الحسنة وتغفر تلك السيئة
وحسن العطف ههنا هذا التغاير الظاهر وكلما كان التغاير أبين كان العطف أحسن ولهذا جاء العطف في قوله هو الأول والآخر والظاهر والباطن وترك في قوله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وقوله الخالق الباريء المصور وأما شديد العقاب ذي الطول فترك العطف بينهما لنكته بديعة وهي الدلالة على اجتماع هذين الأمرين في ذاته سبحانه وأنه حال كونه شديد العقاب فهو ذو الطول وطوله لا ينافى شدة عقابه بل هما مجتمعان له بخلاف الأول والآخر فإن الأولية لا تجامع الآخرية ولهذا فسرها النبي بقوله أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء فأوليته أزليته وآخريته أبديته
فإن قلت فما تصنع بقوله والظاهر والباطن فإن ظهوره تعالى ثابت مع بطونه فيجتمع في حقه الظهور والبطون والنبي الظاهر بأنه الذي ليس فوقه شيء والباطن بأنه الذي ليس دونه شيء وهذا العلو والفوقية مجامع لهذا القرب والدنو والإحاطة
قلت هذا سؤال حسن والذي حسن دخوله الواو ههنا أن هذه الصفات متقابلة متضادة وقد عطف الثاني منها على الأول للمقابلة التي بينهما والصفتان الأخريان كالأوليين في المقابلة ونسبة الباطن إلى الظاهر كنسبة الآخر إلى الأول فكما حسن العطف بين الأوليين حسن بين الأخريين
فإذا عرف هذا فالآية التي نحن فيها يتضح بما ذكرناه معنى العطف وتركه فيها لأن كل صفة لم تعطف على ما قبلها فيها كان فيه تنبيه على أنها في اجتماعها كالوصف الواحد لموصوف واحد فلم يحتج إلى عطف فلما ذكر الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهما متلازمان مستمدان من مادة واحدة حسن العطف ليتبين أن كل وصف منهما قائم على حدته مطلوب تعيينه لا يكتفي فيه بحصول الوصف الآخر بل لا بد أن يظهر أمره بالمعروف بصريحة ونهيه عن المنكر بصريحة وأيصا فحسن العطف ههنا ما تقدم من التضاد فلما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضدين أحدهما طلب الإيجاد والآخر طلب الإعدام كانا كالنوعين المتغايرين المتضادين فحسن لذلك العطف
الموضع الثاني قوله تعالى عسى ربه إن طلقكن أن بيدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات إلى قوله تعالى ثيبات وأبكارا فقيل هذه واو الثمانية لمجيئها بعد الوصف السابع وليس كذلك ودخول الواو ههنا متعين لأن الأوصاف التي قبلها المراد اجتماعها في النساء وأما وصفا البكارة والثيوبة فلا يمكن اجتماعهما فتعين العطف لأن المقصود أنه يزوجه بالنوعين الثيبات والأبكار
الموضع الثالث قوله تعالى سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قيل المراد إدخال الواو ههنا لأجل الثمانية وهذا يحتمل أمرين أحدهما هذا والثاني أن يكون دخول الواو ههنا إيذانا بتمام كلامهم عند قولهم سبعة ثم ابتدأ قوله وثامنهم كلبهم وذلك يتضمن تقرير قولهم سبعة كما إذا قال لك زيد فقيه فقلت ونحوي وهذا اختيار السهيلي
وقد تقدم الكلام عليه وأن هذا إنما يتم إذا كان قوله وثامنهم كلبهم ليس داخلا في المحكي بالقول والظاهر خلافه والله أعلم
الموضع الرابع قوله تعالى وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها فأتى بالواو لما كانت أبواب الجنة ثمانية وقال في النار حتى أذا جاءونا فتحت أبوابها لما كانت سبعة وهذا في غاية البعد ولا دلالة في اللفظ على الثمانية حتى تدخل الواو لأجلها بل هذامن باب حذف الجواب لنكتة بديعة وهي أن تفتيح أبواب النار كان حال موافاة أهلها ففتحت في وجوههم لأنه أبلغ في مفاجأة المكروه
وأما الجنة فلما كانت ذات الكرامة وهي مأدبة الله وكان الكريم إذا دعا أضيافه إلى داره شرع لهم أبوابها ثم استدعاهم إليها مفتحة الأبواب أتى بالواو العاطفة ههنا الدالة على أنها جاءوها بعدما فتحت أبوابها وحذف الجواب تفخيما لشأنه وتعظيما لقدرة كعادتهم في حذف الأجوبة وقد أشبعنا الكلام على هذا فيما تقدم والله اعلم فصل اتصال لولا بضمير متصل
مذهب سيبويه أن لولا إذا اتصل بها الضمير المتصل نحو لولا ه ولولاك كان مجرورا وخالفه الأخفش وقال الأخفش والكوفيون هذه الضمائر مما وقع المضمر المتصل موقع المنفصل كما وقع المنفصل موقع المتصل في قولهم ما أنا كأنت ولا أنت كأنا وقد وقع المتصل موقع المنفصل في قوله
وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... أن لا يجاورنا إلاك ديار
وقال المبرد بقول الكوفيين فأما حجة سيبويه فهي الاستعمال قال الشاعر
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بإجرامه من قلة النيق منهوي
وقال الآخر
لولاك هذا العام لم أحجج ...
وقال آخر
لولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ...
واحتج سيبويه على أن الضمير هنا مجرور بأن هذه الضمائر التي هي الهاء والكاف والياء إما أن تكون ضمائر نصب أو ضمائر جر ومحال أن تكون ضمائر رفع ولا يجوز أن تكون ضمائر نصب لأن الحروف إذا اتصل بها ياء المتكلم وكانت في موضع
نصب اتصل بها نون الوقاية نحو إني وأنني وكأني وكأنني فإن أدى ذلك إلى اجتماع مثلين جاز حذف نون الوقاية فيقال إني وكأني ولكني فلو كانت الياء ضمير نصب لقالوا لولاني كما قالوا ليتني ولم يات ذلك فتعين أن تكون ضمير جر فإذا ثبت هذا في الياء فكذلك في الكاف والهاء
وأما الكوفيين فاحتجوا بأن الظاهر لا يقع بعد هذه الحروف إلا مرفوعا فكذلك المضمر وقد وجد ذلك في المنفصل فيكون المتصل كذلك ولكن هذه الضمائر المتصلة وقعت موقع الضمائرالمنفصلة كما يقع المنفصل موقع المتصل فهما يتعاقبان ويتعاوضان فقالوا ما أنا كأنت فأوقعوا الرفع موقع ضمير الجر فلذلك قالوا لولاك فأوقعوا ضمير الجر موقع ضمير الرفع فالتغيير وقع في الصيغة لا في الإعراب قالوا وقد ثبت أن لولا لا تعمل في الظاهر فكيف تعمل في المضمر
وإجاب البصريون عن هذا بأن الأصل أن الضمائر لا يقع بعضها موقع بعض إلا للضرورة في الشعر وبأنه يستلزم مخالفة الأصل من وجهين
أحدهما إيقاع المتصل موقع المنفصل
والثاني إيقاع المجرور موقع المرفوع وهذا تغيير مرتين فالتغينير في لولا بكونها حرف جر في هذا الموضع أسهل قالوا وأما عملها في المضمر خاصة فليس بمستنكر عمل العامل في بعض الأسماء دون بعض فهذه لدن لا تعمل إلا في غدوة وحدها فإذا كان العامل يعمل في بعض الظاهرات دون بعض وهي جنس واحد فلأن يعمل في المضمر دون الظاهر وهما جنسان أولى وقد رد بعض النحاة هذا الاستعمال جملة وقال هو لحن واختلف على المبرد فقيل إن هذا مذهبه وقيل إن مذهبه قول الكوفيين والله اعلم فصل مذهب النحاة في المستثنى
اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرج فذهب الكسائي إلي أنه مخرج من المستثنى منه وهو المحكوم عليه فقط
فإذا قلت جاء القوم إلا زيدا فزيدا مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم
الذين ليس فيهم زيد بالمجي وأما هو فلم تخبر عنه بشيء بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء
والفرق بين الأمرين واضح وعلى قوله فالإسناد وقع بعد الإخراج وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه
وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معا فله اعتباران أحدهما كونه مستثنى وبهذا الاع4تبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه والثاني كونه محكوما عليه بضد حكم المستثنى منه وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه والتحقيق في ذلك أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق الاحتجاج لكل مذهب
ونذكر هنا ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج
احتج الكسائي بقوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبي ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجا من الحكم لكان قوله أبي تكرار لأنه قد علم بالاستثناء وأجيب عن هذا بأنه تأكيد واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد فلا يقال ما قام زيد نفيا وهل قام عمرو استفهاما ولكن قام زيد استدراكا ونحوه لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه
والتحقيق في الجواب أن ابي أفاد معنى زائدا وهو ان عدم سجوده استند إلى إبانه وهو أمر وجودي اتصف به نشأعنه الذنب فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة بل كان إباء واستكبارا
ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء وإنما المفهوم منه عدم سجوده وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين فإن نفي كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه
منها أنه لو كان ما بعد إلا سكوتا عن حكمه لم يكن قولنا لا إله إلاالله توحيدا واللازم باطل فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان
ومنها أن الاستئناء المنقطع لا يتصور الإخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه فكذلك المتصل
ومنها أنه لو كان الإخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة كقولك زيد أخوك إلا أنه ناء عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا
ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدا فإنه قام ولو كان الإخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه لجار إثبات القيام له كما جاز نفيه عنه فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضا للاسئثناء
وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب مخرج من الحكم لا من الاسم وكذلك الباب كله ومأجيب عن ذلك بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرا إذ يقدر ألأول شاملا بوجه ليصح الاستثناء ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب
وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الإخراج من الاسم والحكم معا فالاسم المستثنى مخرج من المستثنى منه وحكمه مخرج من حكمه وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ البتة فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعا فكان استثناؤه غير معقول ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة
منها أنك اذا قلت ما قام إلا زيد وما ضربت إلا عمرا وما مررت إلا بزيد ونحوه من الاستثناءات المفرغات لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد إلا كما أنك سلبتها عن غيره بل إثباتها للمستثني أقوى من سلبها عن غيره
ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد وهو باطل قطعا
ومنها أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على الإثبات أعظم من دلالة قولنا الله إله ولا يستريب أحد في هذا البتة
ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم فإنه
ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلا
ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي وذلك الإثبات البتة وذلك جرى عندهم مجرى فهم الأمر والنهي النفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز و جل فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما أنه أخبر عن تسع مائة عام وخمسين عاما وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم
وكذلك قوله تعالى قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات
ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدا لم يكن كلامه صدقا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد ولهذا من أراد تكذيبه قال له كذبت بل قام زيد ولو كان زيد مسكوتا عنه لم يكن هذا تكذيبا له والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبا
إذ عرف هذا فبه بنحل الإشكال الذي أورده بعض المتاخرين على الاستثناء وقال الاستثاء مشكل التعقل قال لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدا فإما أن يكون زيد داخلا في القوم أم لا فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقض لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين
ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح وإن أراد التركيب النحوى فباطل والجواب عن هذا الإشكال أنه لا يحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفردات فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيد ا فها هنا خمسة أمور
أحدها القيام بمفردة الثاني القوم بمفردهم الثالث زيد بمفرده الرابع النسبة بين المفردين الخامس الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد فزيد دخل في
القوم على تقدير عدم الإسناد وخرج منهم على تقدير الإسناد ثم أسند بعد إخراجه فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة فهو من القوم غير محكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم هذا إيضاح هذا الإشكال وحله والله الموفق فصل جعل المستثني تابعا لما قبله
المستثني إذا جعل تابعا لما قبله فمذهب البصريين أنه بدل وقد نص عليه سيبويه ومذهب الكوفيين أنه عطف فأما القول بالبدل فعليه إشكالان
أحدهما أنه لو كان بدلا لكان بدل بعض إذ يمتنع أن يكون بدل كل من كل وبدل البعض لا بد فيه من ضمير يعود على المبدل منه نحو قبضت المال نصفه
الثاني أن حكم البدل حكم المبدل منه لأنه تابع يشارك متبوعه في حكمه وحكم المستثنى ههنا مخالف لحكم المستثى منه فكيف يكون بدلا وأجيب عن الأول بأن إلا وما بعدها من تمام الكلام الأول وإلا قرينة مفهمة أن الثاني قد كان تناوله الأول فمعلوم أنه بعض الأول فلا يحتاج فيه إلى رابط بخلاف قبضت المال نصفه
وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء قسم على حدته ليس من تلك الأبدال التي تبينت في غير الاستثناء وأجيب عنه أيضا بأن البدل في الاستثناء إنما المراعى فيه وقوعه مكان المبدل منه فإذا قلت ما قام أحد إلا زيد ف إلا زيد هو البدل وهو الذي يقع موقع أحد فليس زيد وحده بدلا من أحد فإلا زيد هو الأحد الذي نفيت عنه القيام فقولك إلا زيد هو بيان ألأحد الذي عنيت وعلى هذا فالبدل في الاستثناء أشبه ببدل الشيء من الشيء من بدل البعض من الكل
وأما الإشكال الثاني فقال السيرافي مجيبا عنه هو بدل منه في عمل العامل فيه وتخافهما بالنفي والإيجاب لا يمنع البدلية لأن مذهب البدلية أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه
وتتخالف الصفة والموصوف نفيا وإثباتا نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب
ومعنى هذا الجواب أنه إنما يشترط في البدل أن يحل محل الأول في العامل خاصة وأما أن يكون حكمهما واحدا فلا
وأما القول الكوفي أنه عطف فإنهم جعلوا إلا من حروف العطف في هذا الباب خاصة والحامل لهم على ذلك وجود المخالفة المذكورة
قال ثعلب كيف يكون بدلا وهو موجب ومتبوعة منفي والعطف توجد فيه المخالفة في المعنى كالمعطوف ب بل ولكن وهذا ممكن خال من التكلف ولا يقال إنه يستلزم الاشتراك في الحروف وهو مذهب ضعيف لأنا نقول ليس هذا من الاشتراك في الحروف فإن إلا للإخراج على بابها وإنما سموا هذا النوع من الإخراج عطفا على نحو تسميتهم الإخراج ب بل ولكن عطفا والاشتراك المردود قول من يقول إن إلا تكون بمعنى الواو لكن قد رد قولهم بالعطف بأن إلا لو كانت عاطفة لم تباشر العامل في نحو ما قام إلا زيد لأن حروف العطف لا تلي العوامل ويجاب عن هذا بأن إلا التي باشرت العامل ليست هي العاطفة فليس ههنا عطف ولا بدل البتة وإنما الكلام فيما إذا كان ما بعد إلا تابعا لما قبلها
قال ابن مالك ولمقوي العطف أن يقول تخالف الصفة والموصوف كلا تخالف لأن نفي الصفتين إثبات لضديهما فإذا قلت مررت برجل لا كريم ولا شجاع فكأنك قلت بخيل جبان وليس كذلك تخالف المستثني والمستثنى منه فإن جعل زيد بدلا من أحد إذا قيل ما فيها أحد إلا زيد يلزم منه عدم النظير إذ لا يدل في غير محل النزاع إلا وتعلق العامل به مساو لتعلقه بالمبدل منه والأمر فيما قام أحد إلا زيد بخلاف ذلك فيضعف كونه بدلا إذ ليس في الإبدال ما يشبهه وإن جعل معطوفا لم يلزم من ذلك مخالف المعطوفات بل يكون نظير المعطوف ب لا وبل ولكن فكان جعله معطوفا أولى من جعله بدلا قلت ويقوى العطف أيضا أنك تقول لا أحد في الدار إلا عبد الله فعبد الله لا يصح أن يكون بدلا من أحد فإنه لا يحل محله
فإن قيل هذا جائز على توهم ما فيها أحد إلا عبد الله إذ المعنى واحد فأمكن أن يحل أحدهما محل الأخر قيل هذا كاسمه وهم والحقائق لا تبني على الأوهام وأجاب ابن عصفور عن هذا بأن قال لا يلزم أن يحل عبد الله محل أحد الواقع بعد لا لأن المبدل إنما يلزم أن يكون على نية تكرار العامل وقد حصل ذلك كله في هذه المسألة وأمثالها ألا ترى أن عبد الله بدل من موضع لا أحد فيلزم أن يكون العامل فيه الابتداء كما أن العامل في موضع لا أحد الابتداء
وبلا شك أنك إذا أبدلته منه كان مبتدا في التقدير وخبره محذوف وكذلك حرف النفي لدلالة ما قبله عليه والتقدير لا أحد فيها إلا عبد الله ثم حذف
واختصر وهذا الجواب غير قوي إذ لو كان الأمر كما زعم لصح البدل مع الإيجاب نحو قام القوم إلا زيد لصحة تقدير العامل في الثاني وهم قد منعوا ذلك وعللوه بعدم صحة حلول الثاني محل الأول فدل على أنه مشترط
فصل الاستثناء في قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله
قوله تعالى قل لا يعلم من في السموات وألأرض الغيب إلا الله قال الزمخشري هو استثناء منقطع جاء على لغة تميم لأن الله تعالى وإن صح الإخبار عنه بأنه في السماوات والأرض فإنما ذلك على المجاز لأنه مقدس عن الكون في المكان بخلاف غيره فإن الإخبار عنه أنه في السماء أو في الأرض ليس بمجاز وإنما هو حقيقة ولا يصح حمل اللفظ في حال واحد على الحقيقة والمجازقلت وقوله على لغة تميم يريد أن من لغتهم أن الاستثناء المنقطع يجوز اتباعه كالمتصل إن صح الاستثناء به عن المستثنى به وقد صح ههنا إذ يصح أن يقال لا يعلم الغيب إلا الله قال ابن مالك والصحيح عندي أن الاستثناء في الآية متصل وفي متعلقة بعقل غير استقر من الأفعال المنسوبة حقيقة إلى الله تعالى وإلى المخلوقين كذكر ويذكر ونحوه كأنه قيل لا يعلم من يذكر في السموات والأرض الغيب إلا الله تعالى
قال ويجوز تعليق في باستقر مستند إلى مضاف حذف وأقيم المضاف إليه مقامه والأصل لا يعلم من استقر ذكره في السموات وألارض الغيب إلا الله
ثم حذف الفعل والمضاف واستتر المضمر لكونه مرفوعا
وهذا على تسليم امتناع إرادة الحقيقة والمجاز في حال واحد وليس عندي ممتنعا لقولهم القلم أحد اللسانين والخال أحد الأبوين وقوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي وقوله النبي الأيدي ثلاثة يد الله ويد المعطى ويد السائل تم كلامه
فهذا كلام هذين الفاضلين في هذه الآية وأنت ترى ما فيه من التكلف الظاهر الذي لا حاجة بالآية إليه بل الأمر فيها أوضح من ذلك الصواب في الاستثناء في هذه الآية
والصواب أن الاستثناء متصل وليس في الآية استعمال اللفظ في حقيقة ومجازة لأن من في السموات والأرض ههنا أبلغ صيغ العموم وليس المراد بها معينا فهي في قوة أحد المنفي بقولك لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السموات والأرض أحد المنفي بقولك لا يعلم أحد الغيب إلا الله وأتى في هذا بذكر السموات والأرض تحقيقا لإرادة العموم والإحاطة فالكلام مؤد معنى لا يعلم أحد الغيب إلا الله
وإنما نشأ الوهم في ظنهم أن الظرف ههنا للتخصيص والتقييد وليس كذلك بل لتحقيق الاستغراق والإحاطة فهو نظير الصفة في قوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه فإنها ليست للتخصيص والتقييد بل لتحقيق الطيران المدلول عليه بطائر فكذلك قوله من في السموات والأرض لتحقيق الاستغراق المقصود بالنفي
ومن تأمل الآية علم أنه لم يقصد بها إلا ذلك وقد قيل أنه لا يمتنع أن يطلق عليه تعالى أنه في السموات كما أطلقه على نفسه وأطلق عليه رسوله قالوا ولا يلزم أن يكون هذا الإطلاق مجاز بل له منه الحقيقة التي تليق بجلاله ولا يشابهه فيها شيء من مخلوقاته وهذا كما يطلق عليه أنه سميع بصير عليم قدير حي مريد حقيقة ويطلق ذلك على خلقه حقيقة والحقيقة المختصة به لا تماثل الحقيقة التي لخلقه فتناول الإطلاق بطريق الحقيقة لهما لا يستلزم تماثلهما حتى يفر منه إلى المجاز
وأما قوله أن الظرف متعلق بفعل غير استقر من الأفعال المنسوبة إلى الله وإلى المخلوقين حقيقة كذكر ويذكر إلى آخره فيقال حذف عامل الظرف لا يجوز إلا إذا كان كونا عاما أو استقرار عاما فإذا كان استقرار أو كونا خاصا مقيدا لم يجز حذفه وعلى هذا جاء مصرحا به في قوله تعالى فلما رآه مستقرا عنده لأن المراد به الاستقرار الذي هو الثبات واللزوم لا مطلق الحصول عنده فكيف يسوغ حذف عامل الظرف في موضع ليس بمعهود حذفه فيه وأبعد من هذا التقدير ما ذكره في التقدير الثاني أن عامل الظرف استقرار مضاف إلى ذكر محذوف استغنى به عن المضاف إليه
والتقدير استقر ذكره فإن هذا لا نظير له وهو حذف لا دليل عليه والمضاف يجوز أن يستغنى به عن المضاف إليه بشرطين أن يكون مذكورا وأن يكون معلوم الوضع مدلولا عليه لئلا يلزم اللبس
وأما ادعاء إضافة شيء محذوف الى شيء محذوف ثم يضاف المضاف إليه إلى شيء آخر محذوف من غير دلالة في اللفظ عليه فهذا مما يصان عنه الكلام الفصيح فضلا عن كلام رب العالمين
وأما قوله على أنه لا يمتنع إرادة الحقيقة والمجاز معا واستدلاله على ذلك بقولهم القلم أحد اللسانين فلا حاجة فيه لأن اللسانين اسم مثنى فهو قائم مقام النطق بإسمين أريد بأحدهما الحقيقة وبالآخر المجاز وكذلك الخال أحد الأبوين وكذلك الأيدي ثلاثة
وأما قوله تعالى إن الله وملائكته يصلون على النبي فالاستدلال به أبعد من هذا كله فإن الصلاة على النبي الله وملائكته حقيقة بلا ريب والحقيقة المضافة إلى الله من ذلك لا تماثل الحقيقة المضافة إلى الملائكة كما أذا قيل الله ورسوله والمؤمنون يعلمون أن القرأن كلام الله لم يجز أن يقال إن هذا استعمال اللفظ في حقيقتة ومجازه وإن كان العلم المضاف إلى الله غير مماثل للعلم المضاف إلى الرسول والمؤمنين فتأمل هذه النكت البديعة ولله الحمد والمنة فصل الاستثناء المنقطع
المعروف عند النحاة أن الاستثناء المنقطع هو أن لا يكون المستثنى داخلا في المستثنى منه عبروا عنه بأن لا يكون المستثنى من جنس المستثنى منه وهذا يحتمل شيئين
احدهما أن يكون المستثنى فردا من أفراد المستثنى منه
الثاني أن لا يكون داخلا في ماهيته ومسماه فنحو جاء القوم إلا فرسا منقطع اتفاقا وجاءوا إلا زيدا متصل ورأيت زيدا إلا وجهه منقطع على الاعتبار الأول لأن الوجه ليس فردا من أفراد المستثنى منه ولكن لا أعلم أحدا من النحاة يقول ذلك ويلزم من ذلك أن يكون استثناء كل جزء من كل منقطعا ونحو قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموته الأولى منقطع على التفسير الاول لعدم
دخول الموته الأولى في المستثنى منه متصل على التفسير الثاني لأنها من جنس الموت في الجملة وفي الاستثناء المنقطع عبارة أخرى وهي أن يكون منقطعا مما قبله إما في العمل إما في تناوله له فالمنقطع تناولا جاء القوم إلا حمارا والمنقطع عملا نحو قوله تعالى لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر فهذا استثناء منقطع بجملة كذا قاله ابن خروف وغيره وجعلوا من مبتدأ ويعذبه خبره ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط
وجعل الفراء من هذا قوله تعالى فشربوا منه إلا قليلا منهم على قراءة الرفع وقدره إلا قليل منهم لم يشربوا وقواه ابن خروف واستحسنه
ومن هذا قولهم ما للشياطين من سلاح أبلغ في الصالحين من النساء إلا المتزوجون أولئك المطهرون المبرؤون من الخناء
وقيل إن من هذا قوله تعالى فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم في قراءة الرفع ويكون امرأتك مبتدأوخبره ما بعده
وهذا التوجيه أولى من أن يجعل الاستثناء في قراءة من نصب من قوله فأسر بأهلك وفي قراءة من رفع من قوله ولا يلتفت منكم أحد ويكون الاستثناء على هذا من فأسر بأهلك رفعا ونصبا وإنما قلنا إنه أولى لأن المعنى عليه فإن الله تعالى أمره أن يسري بأهله إلا امرأته
ولو كان الاستثناء من الالتفات لكان قد نهي المسري بهم عن الالتفات وأذن فيه لامرأته وهذاممتنع لوجهين
أحدهما أنه لم يأمره أن يسرى بامرأته ولا دخلت في أهله الذين وعد بنجاتهم
والثاني أنه لم يكلفهم بعدم الالتفات ويأذن فيه للمرأة إذا عرف هذا فاختلف النحاة هل من شرط الاستثناء المنقطع تقدير دخوله في المستثني منه بوجه أو ليس ذلك بشرط
فكثير من النحاة لم يشترطوا فيه ذلك وشرطه آخرون قال ابن السراج إذا كان الاستثناء منقطعا فلا بد من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثنى فعلى الأول لا يحتاج إلى تقدير وعلى الثاني فلا بد من تقدير الرد ولنذكر لذلك أمثله
المثال الأول قوله تعالى ما لهم به من علم إلا اتباع الظن فمن لم يشترط التقدير أجراه مجرى المفرغ والمعنى ما عندهم أو ما لهم إلا اتباع الظن وليس اتباع الظن متعلقا بالعلم أصلا
ومن اشترط التقدير قال المعنى ما لهم من شعور إلا اتباع الظن والظن وإن لم يدخل في العلم تحقيقا فهو داخل فيه تقدير إذ هو مستحضر بذكره وقائم مقامه في كثير من المواضع فكان في اللفظ إشعاره به صح به دخوله وإخراجه وهذا بعد تقريره فيه ما فيه فإن المستثنى هو اتباع الظن لا الظن نفسه فهو غير داخل في المستثنى منه تحقيقا ولا تقديرا فالأحسن فيه عندي أن يكون التقدير ما لهم به من علم فيتبعونه ويلقون به إن يتبعون إلا الظن فليس اتباع الظن مستثنى من العلم وإنما هو مستثنى من المقصود بالعلم والمراد به هو اتباعه فتأمله
هذا على تقدير اشتراط التناول لفظا أو تقديرا وأما إذا لم يشترط وهو الأظهر فتكون فائدة الاستثناء ههنا كفائدة الاستدراك ويكون الكلام قد تضمن نفي العلم عنهم وإثبات ضده لهم وهو الظن الذي لا يغني من العلم شيئا
ومثله قوله تعالى وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون ليس المراد به نفي الحكم الجازم وإثبات الحكم الراجح بل المراد نفي العلم وإثبات ضده وهو الشك الذي لا يغنى عن صاحبه شيئا والمذكور من الأمثلة يزيد هذا وضوحا
المثال الثاني قوله تعالى إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين فهذا استثناء منقطع لأن اتباعه الغاوين لم يدخلوا في عبادة المضافين إليه وإن دخلوا في مطلق العباد فإن الأضافة فيها معنى التخصيص والتشريف كما لم تدخل الخانات والحمامات في بيوت الله قال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا إلى آخر الأيات وقال عينا يشرب بها عباد الله فعباده المضافون إليه هم الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون
قال تعالى إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وقال تعالى يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين
ومن هذا قوله تعالى قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فعبادة ههنا الذين يغفر ذنوبهم جميعا هم المؤمنون التائبون والانقطاع في هذا قول ابن خروف وهو الصواب
وقال الزمخشري هو متصل وجعل لفظ العباد عاما وقد عرفت غلطه وعلي تقدير الانقطاع فإن لم يقدر دخوله في الأول فظاهر وإن قدرنا دخوله فقالوا تقديره إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا على غيرهم إلا من اتبعك من الغاوين ولا يخفي التكلف الظاهر عليه بل الأحسن أن يقال لما ذكر العباد وأضافهم إليه والإضافة يحتمل أن تكون إلى ربوبيته العامة فتكون إضافة ملك وأن تكون إلى الهيئة فتكون إضافة اختصاص ومحبة
والغاووين داخلون في العباد عند التعميم والإطلاق لقوله تعالى إنكل من في السماوات والارض إلا آتى الرحمن عبدا فالأول متناول له بوجه فصح إخراجه
المثال الثالث قوله تعالى لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم على أصح الوجوه في الآية فإنه تعالى لما ذكر العاصم استدعى معصوما مفهوما من السياق فكأنه قيل لا معصوم اليوم من أمره إلا من رحمة فإنه لما قال لا عاصم اليوم من أمره الله بقى الذهن طالبا للمعصوم فكأنه قيل فمن الذي يعصم فأجيب بأنه لا يعصم إلا من رحمة الله ودل هذا الفظ باختصاره وجلالته وفصاحته علي نفي كل عاصم سواه وعلى نفي كل معصوم سوى من رحمة الله فدل الاستثناء على أمرين على المعصوم من هو وعلى العاصم وهو ذو الرحمة وهذا من أبلغ الكلام وأفصحه وأوجزه ولا يلتفت إلي ما قيل في الآية بعد ذلك وقد قالوا فيها ثلاثة أقوال آخر
أحدها أن عاصما بمعنى معصوم كماء دافق وعيشة راضية والمعنى لا معصوم إلا من رحمة الله وهذا فاسد لأن كل واحد من اسم الفاعل واسم المفعول موضوع لمعناه الخاص به فلا يشاركه فيه الآخر وليس الماء الدافق بمنى المدفوق بل هو فاعل على بابه كما يقال ماء جار فدافق كجار فما الموجب للتكليف البارد وأما عيشة راضية فهي عند سيبويه على النسب كتامر ولابن أي ذات رضي وعند غيره كنهار صائم وليل قائم على المبالغة
والقول الثاني أن من رحم فاعل لا مفعول والمعنى لا يعصم اليوم من أمر الله إلا الراحم فهو استثناء فاعل من فاعل وهذا وإن كان أقل تكلفا فهو أيضا ضعيف جدا وجزالة الكلام وبلاغته تأباه بأول نظر
والقول الثالث إن في الكلام مضافا محذوفا قام المضاف إليه مقامه والتقدير لا معصوم عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمة الله وهذا من أنكر الأقوال وأشدها منافاة للفصاحة والبلاغة ولو صرح به لكان مستغثا
المثال الربع قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف فهذا من الاستثناء السابق زمان المستثنى فيه زمان المستثنى منه فهو غير داخل فيه فمن لم يشترط الدخول فلا يقدر شيئا ومن قال لا بد من دخوله قدر دخوله في مضمون الجملة الطلبية بالنهي لأن مضمون قوله تعالى ولالا تنكحوا ما نكح آباؤكم الإثم والمؤاخذة أي أن الناكح ما نكح أبوه آثم مؤاخذ إلا ما قد سلف قبل النهي وإقامة الحجة فإنه لا تتعلق به المؤاخذة وأحسن من هذا عندي أن يقال لما نهى سبحانه عن نكاح منكوحات الآباء أفاد ذلك أن وطأهن بعد التحريم لا يكون نكاحا البتة بل لا يكون إلا سفاحا فلا يترتب عليه أحكام النكاح من ثبوت الفراش ولحوق النسب بل الولد فيه يكون ولد زنية وليس هذا حكم ما سلف قبل التحريم فإن الفراش كان ثابتا فيه والنسب لاحق فأفادا الاستثناء فائدة جليلة عظيمة وهي أنولد من نكح ما نكح أبوه قبل التحريم ثابت النسب وليس ولد زنا والله أعلم
المثال الخامس قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ومعلوم أن التقاة ليست بموالاة ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضي ذلك معاداتهم والبراءة منهم ومجهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم فأباح لهم التقية وليست التقية موالاة لهم
والدخول ههنا ظاهر فهو إخراج من متوهم غير مراد
المثال السادس قوله تعالى لست عليهم بمصيطر إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الاكبر فهذا من المنقطع لا بالاعتبار الذي ذكره ابن خروف من كون المستثنى جملة مستقلة بل باعتبار آخر وهو أنه ليس المراد إثبات السيطرة على الكفار فإن الله سبحانه بعثه نذيرا مبلغا لرسالات ربه فمن أطاعة فله الجنة ومن عصاه فله النار قال تعالى فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ وقال تعالى قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها
وما أنا عليكم بوكيل قال المفسرون المعنى انك لم ترسل مسلطا عليهم قاهرا لهم جبارا كالملوك بل أنت عبدي ورسولي المبلغ رسالاتي فمن أطاعك فله الجنة ومن عصاك فله النار ويوضح هذا أن المخاطبين بهذا الخطاب هم الكفار فلا يصح أن يكونوا هم المستثنين
المثال السابع قوله تعالى لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما
وهذا فيه نفي لسماع اللغو والتأثيم وإثبات لضده وهو السلام المنافي لهما فالمقصود به نفي شيء وإثبات ضده وعلى هذا فلا حاجة إلى تكلف دخوله تحت المستثنى منه لأنه يتضمن زوال هذه الفائدة من الكلام ومن رده إلى الأول قال لما نفي عنهم سماع اللغو والتأثيم وهما مما يقال فكأن النفس تشوفت إلى أنه هل يسمع فيها شيء غيره فقال إلا قيلا سلاما سلاما فعاد المعنى إلى لا يسمعون فيها شيئا إلا قيلا سلاما سلاما وأنت إذا تأملت هذين التقديرين رأيت الأول أصوب فإنه نفى سماع شيء وأثبت ضده وعلى الثاني نفى سماع كل شيء إلا السلام وليس المعنى عليه فإنهم يسمعون السلام وغيره فتأمله
المثال الثامن قوله تعالى لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى فهذا من الاستثناء السابق زمانه زمان المستثنى منه ولما كانت الموته الأولى من جنس الموت المنفى زعم بعضهم أنه متصل وقال بعضهم إلا بمعنى بعد والمعنى لا يذوقون بعد الموتة الأولى موتا في الجنة وهذا معنى حسن جدا يفتقر إلى مساعدة اللفظ عليه ويوضحه أنه ليس المراد إخراج الموته الأولى من الموت المنفي ولا ثم شيء متوهم يحتاج لأجله إلى الاستثناء وإنما المراد الإخبار بأنهم بعد موتتهم الأولى التي كتبها الله عليهم لا يذوقون غيرها
وعلى هذا فيقال لما كان ما بعد إلا حكمه مخالف لحكم ما قبلها والحياة الدائمة في الجنة إنما تكون بعد الموته الأولى كانت أداة إلا مفهمة هذه البعدية وقد أمن اللبس لعدم دخولها في الموت المنفى في الجنة فتجردت لهذا المعنى فهذا من أحسن ما يقال في الآية فتأمله
المثال التاسع قوله تعالى لا بثين فيها أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا فهذا على عدم تقدير التناول يكون فيه نفي الشيء وإثبات ضده وهو أظهر وعلى تقدير التناول لما نفي ذوق البرد
والشراب فبربما توهم أنهم لا يذوقون غيرهما فقال إلا حميما وغساقا فيكون الاستثناء من عام مقدر
المثال العاشر قوله تعالى إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فعلى تقدير عدم الدخول نفي الخوف عن المرسلين وأثبته لمن ظلم ثم تاب وعلى تقدير الدخول يكون المعنى ولا غيرهم إلا من ظلم
وإما قول بعض الناس أن إلا بمعنى الواو والمعنى ولا من ظلم فخبط منه فإن هذا يرفع الأمان عن اللغة ويوقع اللبس في الخطاب والواو وإلا متنافيتان فإحداهما تثبت للثاني نظير حكم الأول والأخرى تنفى عن الثاني ذلك فدعوى تعاقبتهما دعوى باطلة لغة وعرفا والقاعدة أن الحروف لا ينوب بعضها عن بعض خوفا من اللبس وذهاب المعنى الذي قصد بالحرف وإنما يضمن ويشرب معنى فعل آخر يقتضي ذلك الحرف فيكون ذكر الفعل مع الحرف الذي يقتضيه غيره قائما مقام الذكر الفعلين وهذا من بديع اللغة وكمالها ولو قدر تعاقب الحروف ونيابة بعضها عن بعض فإنما يكون ذلك إذا كان المعنى مكشوفا واللبس مأمونا فيكون من باب التفنن في الخطاب والتوسع فيه فإما أن يدعى ذلك من غير قرينة في اللفظ فلا يصح وسنشبع الكلام على هذا في فصل مفرد إن شاء الله تعالى
والذي حملهم على دعوى ذلك أنهم لما رأوا الخوف منتفيا عن المذكور بعد إلا ظنوا أنها بمعنى الواو لكون المعنى عليه وغلطوا في ذلك فإن الخوف ثابت له حال ظلمه وحال تبديله الحسن بعد السوء
أما حال ظلمه فظاهر وأما حال التبديل فلأنه يخاف أنه لم يقم بالواجب وأنه لم يقبل منه ما أتى به كما في الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله والذين يؤتون ما اتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يزني ويسرق ويخاف قال يا بنت الصديق هو الرجل يصوم ويصلي ويخاف أن لا يقبل منه فمن ظلم ثم تاب فهو أولى بالخوف وإن لم يكن خوف عليه // حسن لغيره // وقد يجيء الانقطاع في هذا الاستثناء
من وجه آخر وهو ان ما بعد إلا جملة مستقلة بنفسها فهى منقطة مما قبلها انقطاع الجمل بعضها عن بعض فسمى منقطعا بهذا الاعتبار كما تقدم نظيره والله أعلم
المثال الحادي عشر قوله تعالى بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوعون فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون فهذا يبعد تقدير دخوله فيما تقدم قبله جدا وإنما هو إخبار عن مال الفريقين فلما بشر الكافرين بالعذاب بشر المؤمنين بالأجر غير الممنون فهذا من باب المثاني الذي يذكر فيه الشيء وضده كقوله تعالى إن الأبرار لفي نعيم وإنالفجار لفي جحيم فليس هناك مقدر يخرج منه هذا المستثنى والله أعلم
المثال الثاني عشر قوله تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فمن آمن ليس داخلا في الأموال والأولاد ولكنه من الكلام المحمول على المعنى لأنه تعالى أخبر أن أموال العباد وأولادهم لا تقربهم إليه وذلك يتضمن أن أربابها ليسوا هم من المقربين إليه فاستثنى منهم من آمن وعمل صالحا أي لا قريب عنده إلا من آمن وعمل صالحا سواء كان له مال وولد أو لم يكن له والانقطاع فيه أظهر فإنه تعالى نفى قرب الناس إليه بأموالهم وأولادهم وأثبت قربهم عنده بإيمانهم وعملهم الصالح فتقدير لكن ههنا أظهر من تقدير الاتصال في هذا الاستثناء
وإذا نأملت الكلام العربي رأيت كثيرا منه واردا على المعنى لوضوحه فلو ورد على قياس اللفظ مع وضوح المعنى لكان عيا وبهذه القاعدة تزول عنك إشكالات كثيرة ولا تحتاج إلىتكلف التقديرات التي إنما عدل عنها المتكلم لما في ذكرها من التكلف فقدر المتكلفون لنطقه ما فر منه وألزموه بما رغب عنه وهذا كثير في تقديرات النحاة التي لا تخطر ببال المتكلم أصلا ولا تقع في تراكيب الفصحاء ولو سمعوها لاستهجنوها وسنعقد إن شاء الله تعالى فصلا مستقلا
المثال الثالث عشر قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى وتقدير الدخول في هذا أظهر إذ المعنى لن ينالوا منكم إلا أذى وأما الضرر فإنهم لن ينالوه منكم وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا فنفى لحوق ضرر كيدهم بهم مع انهم لا يسلمون من أذى يلحقهم بكيدهم ولو أنه بالإرهاب والكلام وإلجائهم إلى محاربتهم وما ينالهم بها من الأذى والتعب ولكن ليس ذلك بضارهم ففرق بين الأذى والضرر
المثال الرابع عشر قوله تعالى لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم المشهور ظلم مبنى للمفعول وعلى هذا ففي الاستثناء قولان
أحدهما أنه منقطع أي لكن من ظلم فإنه إذا شكا ظالمة وجهر بظلمه له لم يكن آثما وتقدير الدخول في الأول علي هذا القول ظاهر فإن مضمون لا يحب كذا أنه يبغضه ويبغض فاعلة إلا من ظلم فإن جهره وشكايته لظالمه حلال له كما قال النبي الواجد يحل عرضه وعقوبته // حسن // فعرضه شكاية صاحب الحق له
وقوله ظلمني ومطلني ومنعني حقي وعقوبته ضرب الأمام له حتي يؤدي ما عليه في أصح القولين في مذهب أحمد وهو مذهب مالك وقيل هو حبسه وقيل هو استثناء متصل والجهر بالسوء هو جهره بالدعاء أن يكشف الله عنه ويأخذ له حقه أو يشكوا ذلك إلى الإمام ليأخذ له بحق
وعلى هذا التقدير فيجوز فيه الرفع بدلا من احد المدلول عليه بالجهر أي لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا المظلوم ويجوز فيه النصب بدلا من الجهر والمعنى إلا جهر من ظلم وقرىء من ظلم بالفتح وعلى هذه القراءة فمنقطع ليس إلا أي لكن الظالم يجهر بالسوء من القول
المثال الخامس عشر قوله تعالى يا أيها الذين آمنو لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فهذا استثناء منقطع تضمن نفي الأكل بالباطل وإباحة الأكل بالتجارة الحق ومن قدر دخوله في الأول قدر مستثنى منه عاما أي لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب إلا أن تكون تجارة أو يقدر بالباطل ولا بغيره إلا بالتجارة ولا يخفي التكلف على هذا التقدير بل هو فاسد إذا المراد بالنهي الأكل بالباطل وحده وقرىء برفع التجارة ونصبها فالرفع على التمام والنصب على انها خبر كان الناقصة وفي إسمها علي هذا وجهان
إحدهما التقدير إلا أن يكون سبب الأكل أو المعاملة تجارة والثاني إلا أن تكون أموال الناس تجارة
المثال السادس عشر قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وهذا من أشكل مواضع الاستثناء لأن مملوكته إذا كانت محصنة 4
إحصان التزويج فهي حرام عليه والإحصان ههنا إحصان التزويج بلا ريب إذ لا يصح أن يراد به إحصان العفة ولا إحصان الحرية ولا إحصان الإسلام فهو إحصان التزويج قطعا فكيف يستثنى من المحرمات به لمملوكه فقال كثير من الناس الاستثناء ههنا منقطع والمعنى لكن ما ملكت أيمانكم فهن لكم حلال
ورد هذا بأنه استثناء من موجب والانقطاع إنما يقع حيث يقع التفريغ ورد هذا الرد بأن الانقطاع يقع في الموجب وغيره قال تعالى فبشرهم بعذاب أليم إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات
وقالت طائفة الاستثناء على بابه متصل وما ملكت أيمانكم مستثنى من المزوجات ثم اختلفوا
فقالت طائفة من الصحابة منهم ابن عباس وغيره وبعض التابعين أنه إذا زوج أمته ثم باعها كان بيعها طلاقا وتحل للسيد لأنها ملك يمينه واحتج لهم بالآية
ورد هذا المذهب بأمور أحدها أنه لو كان صحيحا لكان وطؤها حلالا لسيدها إذا زوجها لأنها ملك يمينه فكما اجتمع ملك سيدها لها وحلها للزوج فكذلك يجتمع ملك مشتريها لها وحلها للزوج وتناول اللفظ لهما واحد ما دامت مزوجة وينتقل إل المشتري ما كان يملكه فملكها المشترى مسلوبة منفعة البضع
الثاني أن المشتري خليفة البائع فانتقل إليه بعقد الشراء ما كان يملكه بائعها وهو كان يملك رقبتها مسلوبة منفعة البضع فإذا فارقها زوجها رجع إليه البضع كما كان يرجع إلى بائعها
كذلك فهذا محض الفقه والقياس
الثالث أنه قد ثبت في الصحيحين أن عائشة رضي الله عنها اشترت بريرة وكانت مزوجة فعتقتها وخيرها النبي // رواه البخاري // ولو بطل النكاح بالشراء لم يخبرها وهذا مما أخذا الأئمة الأربعة وغيرهم فيه برواية ابن عباس وتركوا رأيه فإنه راوي رواي الحديث وهو ممن يقول بيع الأمة طلاقها
وقالت طائفة أخرى الآية مختصة بالسبايا قال أبو سعيد الخدري نزلت في سبايا أوطاس قالوا فأباح الله تعالى للمسلمين وطء ما ملكوه من السبي وإن كن محصنات
ثم اختلف هؤلاء متى يباح وطء المسبيه فقال الشافعي وأبو الخطاب وغيرهما يباح وطؤها إذا تم استبراؤها سواء كان زوجها موجودا أو مفقودا واحتجوا بثلاث حجج
إحداها أن الله سبحانه أباح وطء المسبيات بملك اليمين مستثنيا لهن من المحصنات الثانية ما روى مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله حنين بعث جيشا إلى أوطاس فلقي عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم وأصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب النبي من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله عز و جل في ذلك والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم أي فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن
وفي الترمذي عن أبي سعيد أصبنا سبايا يوم أو طاس لهن أزواج في قومهن فذكروا ذلك لرسول الله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وهذا صريح في إباحتهن في وإن كن ذوات أزواج
وفي الترمذي ومسند أحمد من حديث العرباض بن سارية أن النبي حرم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن فهذا التحريم إلى غاية وهي وضع الحمل فلا بد أن يحصل الحل بعد الغاية ولو كان وجود أزواجهن مانعا من الوطء لكان له غايتان
إحداهما عدم الزوج والثاني وضع الحمل وهو خلاف الحديث ظاهر الحديث قالوا ولأن ملك الكافر الحربي البضع لم يبق له حرمة ولا عصمة إذ قد ملك المسلمون عليه ما كان يملكه فملكوا رقبة زوجته فكيف يقال ببقاء العصمة في ملك البضع لا سيما والمسلمون يستحقون ملك رقبته وأولاده وسائر أملاكه فما بال ملك البضع وحده باقيا على العصمة فهذا لا نص ولا قياس ولا معنى قالوا فقد أذن النبي وطء
السبايا بعد انقضاء عدتهن مطلقا ولو كان بقاء الزوج مانعا لم يأذن في وطئهن إلا بعد العلم بموته وهذا المذهب كما تراه قوة وصحة
وقال أصحابنا القاضي وغيره إنما يباح وطؤها إذا سبيت وحدها فلو سبيت مع زوجها فهما على نكاحهما ولا يباح وطؤها قالوا لأنها إذا سبيت وحدها فبقاء الزوج مجهول والمجهول كالمعدوم فنزلت منزلة من لا زوج لها فحل وطؤها
ولا كذلك إذا كان زوجها معها ثم أوردوا على أنفسهم سؤالا وهو إذا سبيت وحدها وعلم بقاء زوجها في دار الحرب وهذا سؤال لا محيد لهم عنه ولا ينجيهم منه إلا قولهم بالحل وإن علم بقاء الزوج استنادا إلى زوال عصمة النكاح بالسبي فإنهم إذا أجابوا بالتزام التحريم خالفوا النصوص خلافا بينا وإن أجابوا بالحل مع تحقيق بقاء الزوج نقضوا أصلهم حيث أسندوا الحل إلى كون المسبية خالية من الزوج تنزيلا للمجهول منزلة المعدوم
فقول أبي الخطاب أفقة وأصح وعليه تنزل الاية والأحاديث ويظهر به أن الاستثناء متصل وأن الله تعالى أباح من المحصنات من سباها المسلمون
فإن قيل فعلى ما قررتموه يزول الإحصان بالسبي فلا تدخل في المحصنات فيجيء الانقطاع فى الاستثناء
قيل لما كانت محصنة قبل السبي صح شمول الاسم لها فأخرجت الاستثناء
فإن قيل فما تقولون في الأمة المزوجة إذا بيعت محصنة قد ملكت نفسها فهل هي مخصوصة من هذا العموم أو غير داخلة فيه
قيل ههنا مسلكان للناس
أحدهما أنها خصت من العموم بالأدلة على أن البيع لا يفسخ النكاح وأن الفرج لا يكون حلالا لشخصين في قت واحد
المسلك الثاني أنها لم تدخل في المستثنى منه لأن السيد إذا زوجها فقد اخرج منفعة البضع عن ملكه فإذا باعها فقد انتقل إلى المشتري ما كان للبائع فملكها المشتري مسلوبه منفعة البضع فلم تدخل هذه المنفعة في ملكه بعقد البيع فلم تتناولها الآية وهذا المسلك ألطف وأدق من الأول والله أعلم
فوائد شتى منقولة من خط القاضي أبي يعلي رحمه الله تعالى فائدة الجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء
إسماعيل بن سعيد عن أحمد لا يجهر بالقراءة في صلاة الاستسقاء ويصلي صلاة الناس ليس فيها تكبير مثل تكبير العيدين وعند محمد بن الحكم والكوسج والمرزوي يجهر بالقراءة فيها لحديث عبد الله بن زياد قال أبو حفص يحتمل أن هذا القول هو المتأخر لأنه قد قيل إن إسماعيل بن سعيد سماعه قديم فائدة صلاة الخوف ركعة
قال أحمد لا تعجبني صلاة الخوف ركعة لما روى أبو عياش الزرقي عن النبي أنه صلى بعسفان ويوم بنى سليم // صحيح // وكذلك روى جابر // رواه مسلم // وابن عباس // رواه البخاري // وابن أبي خيثمة // رواه البخاري في ذات الرقاع وكذلك أبو هريرة في عام نجد أنه صلى ركعتين // صحيح // وكذا روت عائشة وابن عمرو وأبو موسى // رواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي // فائدة الصلاة وقت الغارة
ابن لحيان عن أحمد في القوم إذا أرادوا الغارة فخشوا أن يتبادرهم العدو يصلون على دوابهم أو يؤخرون الصلاة إلى طلوع الشمس
قال أي ذلك شاءوا فعلوا والحجة فيه تأخير النبي أربع صلوات يوم الخندق // ضعيف وهو قابل للتحسين // وعنه أبو طالب إن كانوا منهزمين يصلون ركبانا يومئون ولا يؤخرون الصلاة على ما صلى النبي الآية نزلت بعدما صلى النبي قوله تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فائدة فيمن صلى ركعتين من فرض ثم أقيمت صلاة
نقل محمد بن الحكم عن أحمد بن حنبل في رجل صلى ركعتين من فرض ثم أقيمت الصلاة قال إن شاء دخل مع الإمام فإذا صلى معه ركعتين سلم وأعجب إلى أن يقطع الصلاة ويدخل مع الإمام قال القاضي وظاهر هذا الدخول من غير تحريمه غير انه اختار القطع والدخول بتحريمه
فائدة
أبو طالب سألت أحمد عن الرجل يدخل المسجد يظن أنهم قد وصلوا فيصلي ركعتين فتقام الصلاة قال قد اختلفوا فيها
بعضهم قال يمضي لا يدخل فرض فيلا فرض وبعضهم قال يسلم
قلت ما تقول قال ما يبالي كيف قلت يسلم ويدخل معه قال نعم قال القاضي وظاهره هذا أنه منع من الدخول لأنه قال يستأنف فإذا قلنا لا يدخل معه فهل يمضي في صلاته أو يقطع على روايتين محمد بن الحكم عنه إن شاء دخل معه وأعجب إلى أن يقطع
أبو طالب يسلم ويدخل معه والثانية يمضي
فعنه أبو الحارث وقد سئل عن رجل دخل في مسجد فافتتح صلاة مكتوبة وهو يرى أن قد صلوا فلما صلى ركعة أو ركعتين أقيمت الصلاة قال يتم الصلاة التي افتتحها ثم إن شاء صلى مع القوم وإن شاء لم يدخل معهم
قال أبو حفص وكذلك نقول فيمن افتتح تطوعا ثم أقيمت الصلاة أنه لا يقطعها ولكن يتمها ووجهه قول النبي تحليلها التسليم فوجب أن لا يخرج منها بغير التسليم الذي بعد التمام
ابن مسعود من دخل في صلاة فلا يقطع حتى يفرغ ووجه الأخرى وأنه يخرج منها أن صلاة الجماعة واجبة فإن قلنا يمضي في صلاته ففرغ ثم أدرك الجماعة في المسجد فهل يدخل معهم أو يكون مخيرا في الدخول والانصراف على روايتين
إحداهما يخير وهو المنصوص في رواية أبي الحارث والأخرى يجب أن يصلي معهم إذا حضر في مسجد أهله يصلون وهو الأكثر في مذهبه وبه وردت السنة فإن أحرم بتطوع ثم أقيمت الصلاة فهل يقطعها ويدخل في الجماعة أو يتمها
على روايتين ولا فرق بين ركعتى الفجر وغيرها كاختلاف قولية فيمن انفرد بصلاة فريضة ثم أقيمت الصلاة فإن دخل في تطوع ثم ذكر أن عليه فريضة فعنه يعجبني أن ينصرف عن شفع ثم يقضي الفريضة
قال أبو حفص ويخرج عنه في هذه المسألة رواية أخرى كما ذكرنا فيمن دخل في تطوع ثم أقيمت الصلاة ووجهه قوله إذا ذكرها
فائدة إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة
قال أبو الحارث سئل أحمد عن العشاء إذا وضع وأقيمت الصلاة قال قد جاءت أحاديث وكان القوم في مجاعة فأما اليوم فلو قام رجوت وقال في رواية جماعة يبدا بالطعام فإن قلنا يبدأ بالطعام فهل يتناول منه شيئا أويتم عشاءه
حنبل عنه إذا كان الرجل قد أكل من طعامه لقمة أو نحو ذلك فلا بأس أن يقوم إلى الصلاة فيصلى ثم يرجع إلى العشاء لأن النبي دعى إلى الصلاة وقد كان يجتز من كتف الشاة فألقى السكين وقام // رواه البخاري //
أحمد بن الحسين سألت أحمد إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة قال أبدا بالعشاء قلت أنال منه شيئا ثم أخرج إلى الصلاة قال لابل تعش قلت أخاف أن تفوتني الصلاة جماعة قال أن الرجل إذا تناول منه شيئا ثم تركه فكان في نفسه شغل من ترك الطعام إذا لم ينل منه حاجته قلت فيأتي على ما يريد من الطعام ثم يصلي قال نعم وأن خاف أن تفوته الصلاة ما دام في وقت حرب قلت لأحمد الرجل يصلي بحضرة الطعام قال إن كان قد أكل بعضه فأقيمت الصلاة فإنه يتم أكله وإن كان لم يأكل فأحب إلى أن يصلي قال القاضي وظاهر هذا الفرق بين أن يكون ابتدأفيستوفي طعامه وبين أن لا يبتدىء فيؤخره فائدة
هل يجوز للجماعة أن يقوموا قبل رؤية الإمام
إذا أقيمت الصلاة والإمام غير حاضر مثل أن يكون لم يخرج من بيته بعد أو هو المؤذن وهو في المنارة فعلى روايتينروى جماعة لا يقوموا حتى يروه للحديث
وروى الأثرم وغيره أنه جائز للمأمومين أن يقوموا قبل ان يروا الإمام لحديث أبي هريرة أقيمت الصلاة وصف الناس صفوفهم وخرج النبي مقامه ثم أومأإليهم بيده أن مكانكم // راه البخاري // ولم ينكر عليهم فدل على جوازه
وروى جعفر بن محمد والمروزي وغيرهما عنه انه وسع العمل بالحديثين جميعا فإن شاءوا قاموا قبل أن يروه وإن شاءوا لم يقوموا حتى يروه فائدة انتظار الإمام للمؤذن
قال أحمد في رواية أبي طالب إن انتظر الإمام المؤذن فلا بأس قد فعل ذلك عمر وإن لم ينتظره فلا بأس ووجهه قول بلال للنبي لا تسبقني بآمين // صحيح // فدل على أنه لم ينتظره فائدة
عبد الله والكوسج قالا كان أبو عبد الله أحمد بن حنبل يضع نعليه بين يديه ولا يجعلهما بين رجليه يعنى في الصلاة إماما كان أو غير إمام
قال عبد الله بن أحمد كان أبي يصلي الفريضة والتطوع ونعلة بين يديه ونقل حنبل واحمد بن علي يجعلهما عن يساره
وجه الأولى أنه لا يؤذي بهما أحدا وقد أشار النبي إلى ذلك في الحديث ووجه الثانية أنه يوم الفتح بمكة فوضع نعليه عن يساره // صحيح //
فائدة الوقوف وراء الإمام
قال في رواية على بن سعيد في الرجل الجاهل يقوم خلف الإمام فيجىء من هو أعلم بالسبة منه فيؤخره أو يدفعه ويقوم في مقامه لا أرى ذلك فذكر له حديث قيس بن عباد حين أخره أبي بن كعب رضي الله عنهما فقال إنما كان غلاما قال القاضي إنما لم يجز تأخيره لأنه كبير قد سبق إلى ذلك الموضع
وأجاب أحمد عن حديث أبي بأن قيسا كان غلاما
قلت وقد يؤخذ من كلام أحمد جواز تأخير الصبي وصلاة الرجل مكانه وقد قال أحمد في رواية الميموني يلي الإمام الشيوخ وأصحاب القرآن ويؤخر الغلام والصبيان
وقال في رواية أبي طالب في الصف يكون طويلا فيكون في آخره صبي فيجيء رجل فيقوم خلف الصبي لا بأس هو متصل بالصف
قال بعض أصحابنا وهذا يدل على أنه إذا كان في الصف خلل مقام رجل لا يبطل الموقف لأن الصبي لا يضاف الرجل وقد حكم باتصاله بالصف فإن كان قد أمتلا الصف وفيه صبي فجاء رجل فللرجل إذا جاء أن يؤخره ويقوم مقامه لأنه أولى بالتقدمة فائدة
قال المروزي كان أبو عبد الله يقوم خلف الإمام فجاء يوما وقد تجافي الناس أن يصلي أحد في ذلك الموضع فاعتزل وقام في طرف الصف وقال قد نهى أن يتخذ الرجل مصلاه مثل مربض البعير فائدة الجاهل يصلي برجل فيجعله عن يساره
قال أحمد في رواية ابن عبد الله لو أن رجلا جاهلا صلى برجل فجعله عن يساره كان مخالفا للسنة ورد إليها وجازت صلاته
وقال في رواية جعفر بن محمد في الرجل يقيم الصلاة وليس معه إلا غلام لا يؤمه في الفريضة وإنما أم النبي عباس في تطوع صلاة الليل // رواه البخاري ومسلم وأبو داود //
وكذلك حديث أنس إنما هو تطوع // رواه البخاري ومسلم والنسائي وابو داود //
وروى هذه أيضا عنه حرب وابن سندي قال بعض أصحابنا وجه ذلك أنه لا يصح أن يكون إماما في هذه الصلاة فلم تنعقد به كالمرأة والعبد في صلاة الجمعة ولا يلزم أنه إذا صلى بامرأة أن تنعقد الجماعة لأنها تصح أن تكون إمامة فيها في حق النساء فائدة علة منع البالغ من مصاففة الصبي
اختلف أصحابنا في علة منع البالغ من مصاففة الصبي فقال أبو حفص يخشي ان لا يكون متطهرا يعنى فيصير البالغ فذا وقال غيره لما لم يجز أن يؤمه لم يجز أن يصافه كالمرأة وعكسه صلاة النافلة لما جاز أن يؤمه جاز أن يصافه
وإذا ثبت ذلك فالإمام مخير بأن يقف في وسطهما الرجل عن يمينه والصبي عن يساره وبين أن يقفا جميعا عن يمينه إن كانت الصلاة فرضا وإن كانت نافلة جاز ان يقفا خلفه نص عليه فقال إذا كان رجل وغلام لم يدرك في صلاة الفريضة فيقوم الرجل وسطهم بينهما كما فعل ابن مسعود في الفريضة قيل له حديث أنس أمنا رسول الله قال ذلك في التطوع
قال أبو حفص واحتج أبو عبد الله في أن الرجل يقف على يمين الإمام والغلام عن يساره بما رواه حدثنا يعقوب ثنا أبي عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن ابيه قال دخلت أنا وعمي علقمة على عبد الله بن مسعود بالهاجرة قال فأقام لصلاة الظهر فقمنا خلفه فأخذ بيدي وبيد عمي ثم جعل احدنا عن يمينه
والآخر عن يساره ثم قام بيننا فصففنا صفا واحدا ثم قال هكذا كان رسول الله يصنع إذا كانوا ثلاثة
وحجته في التطوع أنهما يقفان خلف الإمام ما رواه أحمد ثنا عبد الرزاق عن مالك أخبرني إسحاق بن عبد الله بن ابي طلحة عن أنس فذكر الحديث وفيه فقمت أنا واليتيم وراءة قال أبو حفص على أن حديث أنس لم يقطع به أبو عبد الله
قال في رواية عبد الله كان قلبي لا يجسر على حديث إسحاق لأن حديث موسى يعنى خلافه ليس فيه ذكر لليتيم إنما فيه أن أنسا قام عن يمين النبي قال أحمد ثنا حجاج ابن محمد قال شعبة قال سمعت عبد الله بن المختار عن موسى ابن أنس يحدث عن أنس أنه كان هو ورسول الله وأمه وخالته خلفهما قال شعبة وكان عبد الله بن المختار أشب مني فائدة صفوف الجماعة وترتيبها
الأفضل إذا كانا رجلين أن يصليا خلفه نص عليه لحديث جابر وجبار فأما ما ذهب إليه ابن مسعود إذا كانوا ثلاثة يقوم وسطهم فإن أبا عبد الله قال لم يبلغ عبد الله هذه الأخبار
وقد سهل أبو عبد الله في ذلك قال وأرجوا أن يكون الإمام في الثلاثة واسعا واحب إلى أن يتقدم كما فعل عمر وروى عنه المروزي في الرجل يجيء والأمام في التشهد وإلى لزقه رجل هل يقوم معه أو يجذبه قال أعجب إلى أن يتقدم الإمام ويجذب الرجل
قال أبو حفص قوله يتقدم الإمام ليقل تأخر المأموم ويقرب الإمام من السترة وقد أجاز جذب الرجل ليصح مقامه معه خلف الإمام
وأكثر الروايات عنه أنه كره أن يجذب رجلا لأنه يؤخره عن موقفه فإن اختار هو ذلك وقال في رواية أبي طالب إذا صلى الإمام مع رجل وجلس وجاء رجل
فليجلس عن يساره حتى يقوم لأن تأخي الجالس يثقل وكون المأموم عن يسار الإمام إذا كان عن يمينه رجل موسع فائدة صلاة المأمومين على علو اختلف قول أحمد في صلاة المأمومين على علو فنقل عنه صالح أنه أجاز ذلك للضرورة إذا كان موضعا ضيقا وقال في الرجل يصلي فوق البيت بصلاة الإمام إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس
ونقل حرب وحنبل وأبو الحارث الجواز مطلقا أن يصلي المأموم وهو يسمع قراءة الإمام في دار أو فوق سطح أو في الرحبة أو رجل منزله مع المسجد يصلي على سطحه بصلاة الإمام أو على سطح المسجد بصلاة الإمام أسفل وذكر الآثار بذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عمر وابن عباس
واختلف قوله إذا كان بينهم نهر أو طريق أو حائط فنقل حرب عنه أنه أجاز للمرأة أنها تصلي فوق بيت بصلاة الإمام وبينهما وبين الإمام طريق ولفظه أرجو أن لا يكون به بأس وذكر حديث أنس أنه كان يفعل ذلك فقيل إذا كان وحده قال لا من صلى خلف الصف وحده أعاد
ونقل أبو طالب المنع فقال في الرجل يصلي فوق سطح بصلاة الإمام قال إذا كان بينهما طريق او نهر فلا قيل أنس صلى قال أنس صلى يوم الجمعة في عرفة بعدما كبر ويوم الجمعة لا يكون طريق يمتلىء من الناس
ونقل ابن الحكم جواز ذلك للضرورة قال إذا كان موضع ضرورة أجزأ عنه يروى عن أنس فأما التراويح فتجوز فوق سطح وإن كان بينهما طريق نص عليه وقال ذلك تطوع
قال أبو حفص وجائز أن يصلي الناس يوم الجمعة في طاقات باب خراسان وخارج الطاقات نص عليه
قال أبو حفص إذا فعل الرجل مثل فعل أبي بكرة مع العلم بنهى النبي لأبي بكرة // رواه البخاري // فيه فروايتان
إحدهما يعيد وعنه أنه أجاز للرجل أن يكبر ويركع فيما دون الصف ثم يمشي حتى يدخل في الصف إذا علم أنه لا يدرك فقال في رجل كبر قبل أن يدخل في الصف وركع ثم مشي حتى دخل في الصف فقال يجوز له ذلك قد روى أن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يأمره أن يعيد
وقد روى أيضا عن ابن مسعود وزيد انهما ركعا دون الصف وقال في رواية إسحاق ابن إبراهيم أرى إذا علم أنه يدرك الركعة لم يركع دون الصف وإذا علم أنه لا يدرك ركع وإثنان أحب إلى أن يكبرا جميعا ويدبا إلى الصف
قال أبو حفص ووجه ذلك ما روى عبد الله بن أحمد رحمهما الله تعالى ثنا زكريا بن يحيى ثنا إبراهيم بن سعد الزهري عن قبيصة بن ذؤيب قال رأيت زيد ابن ثابت يدخل المسجد والقوم ركوع فيركع ثم يدب حتى يصل إلى الصف وعن ابن مسعود مثله
ابن جريج عن عطاء أنه سمع ابن الزبير على المنبر يقول للناس إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم ليدب راكعا حتى يدخل في الصف فإن ذلك من السنة قال عطاء وقد رأيته هو يفعل ذلك قال ابو حفص البرمكي وقول النبي بكرة لا تعد نهى عن شدة السعى بدليل قول ابن الزبير فإن ذلك من السنة فائدة
قال أحمد في رواية إسحق بن إبراهيم في رجل مكفوف دخل في الصف فلما اراد أن يركع التزق الذين كانوا معه في الصف بصف آخر وبقي هو وحده يعيد وقال في رواية مهنا في رجل صلى يوم الجمعة مع الإمام ركعة وسجدتين في الصف ثم زحموه فصلى الركعة الأخرى خلف الصف وحده يعيد الركعة التي الركعة التي صلى وحده قال في رواية الحسن بن محمد إذا ركع ركعة وسجد ثم دخل في الصف يعيد الركعة التي صلاها ولا يعيد الصلاة كلها
وقال في رواية مهنا في رجل ركع ركعة وسجدتين دون الصف ثم جاء الناس فقاموا إلى جنبه في الثلاث ركعات يعيد الصلاة كلها ثم قال لو ركع ركعة وحدها ولم يسجد السجدتين لم يكن عليه إعادة لأن أبا بكرة ركع دون الصف ولم يسجد
قال أبو حفص اختلف قول ابي عبد الله في رجل يصلي خلف الصف ركعة كاملة ثم يدخل الصف أو ينضاف إليه قوم هل يعيد تلك الركعة وحدها أو الصلاة كلها
قال أبو حفص والأصح عندي أنه يعيد ما صلى خلف الصف حسب فيعيد الركعة أو الركعتين ولا يعيد ما صلى مع غيره قال لأن تكبيرة الإحرام لم تفسد لأنه لا يختلف قوله أنه إذا كبر وحده أنها صحيحة قال القاضي وتحرير قول أبي حفص أنه صلى بعض الصلاة منفردا فلم تبطل جميعها كالتكبيرة والركوع من غير سجود ووجه البطلان ان القياس يقتضي بطلان الصلاة في التكبيرة والركوع لن ما يفسد جميع الصلاة يفسد بعضها كالحدث وإنما أجاز أحمد ذلك القدر لحديث أبي بكرة قال أحمد إذا صلى بين الصفين وحده يعيدها لأنه فذ وإن كان بين الصفين
وقال في الرجل ينتهي إلى الصف الأول وقد تم يدخل بين رجلين إذا علم أنه لا يشق عليهم وذلك أنهم قد أمروا أن لا يكون بينهم خلل ويكره أن يمد رجلا من الصف إليه نص عليه قال أما أنا فأستقبح أن يمد رجلا يدخل مع القوم أو ينتزع رجلا من الصف فيركع معه
قال بعض أصحابنا ويقرب من هذه المسألة أنه يباح تخطي رقاب الناس إذ تركوا قدامه فرجة في رواية
قال في رواية المروزي إذا جاء وليس يمكنه الدخول في الصف هل يمد رجلايصلي معه قال لا ولكن يزاحم الصف ويدخل
وقال أبو حفص وقد ذكرنا عن أحمد جواز جر الرجل في رواية المروزي فإن صح النقل كان في المسألة روايتان روي عن أبي أيوب قال تحريك الرجل من الصف ظلم
قلت وفي المدونة قال مالك هو خطأ منهما وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ينكره أيضا ويقول يصلي خلف الصف فذا ولا يجذب غيره قال وتصح صلاته في هذه الحالة فذا لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر فائدة انفراج القدمين وضمهما
قال مهنأرأيت أحمد إذا قام إلى الصلاة يفرج بين قدميه وإذا انحدر للسجود ضم قدميه
قال القاضي إنما قلنا يفرج بين قدميه لما روى حرب ثنا أبو حفص ثنا أبو عاصم
عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال لا تقارب ولا تباعد وكيع عن ابن عيينة عن ابن عبد الرحمن بن حوشب قال قال كنت مع أبي في المسجد يعنى مسجد البصرة فنظر إلى رجل قائما يصلي قد ضيق بين قدميه وألزق إحداهما بالأخرى فقال أبي لقد أدركت في هذا المسجد ثمانية عشر من أصحاب رسول الله ما رأيت أحدا منهم يصنع هكذا ولأنه أمكن للقيام في الصلاة وضم القدمين عند الانحدار للسجود أمكن للانحدار
قال في رواية حرب وقد سأله الرجل يصف بين قدميه أحب إليك أم يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة
قال يراوح بين قدميه أحب إلي يعتمد على هذه مرة وعلى هذه مرة لما روى الأعمش عن المنهال عن أبي عبيدة قال رأى عبد الله رجلا يصلي صافا بين قدميه فقال لو راوح هذا بين قدميه كان أفضل ولأنه أروح للمصلى وقد رفع النبي المشقة عن المصلى بقوله أبردوا بالصلاة // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // وكان يتوقى بالثوب في الصلاة حر الأرض وبردها // إسناده ضعيف وله ما يشهد لصحه معناه //
وقال حنبل رأيته يراوح بين قدميه في صلاة التطوع فإذا كانت المكتوبة قام منتصبا لا يتحرك منه شيء وقال أحمد بن الحسين الترمذي رأيت أبا عبد الله إذا افتتح الصلاة رفع يديه قريبا من شحمه أذنيه ونشر أصابعه
وقال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل سئل تذهب إلى نشر الأصابع إذا كبرت قال لا قال أبو حفص لعل أبا عبد الله أراد بالنشر الذي لم يذهب إليه التفريق الذي كان يقول به أولا والنشر الذي ذهب إليه آخرا هو مد اليدين
وقد قال صالح سألت أبي عن رفع اليدين في التكبيرة الأولى فقال يا بني كنت أذهب إلى حديث أبي هريرة كان النبي إذا كبر نشر أصابعه // إسناده فيه ضعف وهو قابل للتحسين // فظننت أنه التفريق فكنت أفرق أصابعي فسألت أهل العربية فقالوا هو الضم وهذا النشر ومد أبي أصابعه مدا مضمومة وهذا التفريق وفرق بين أصابعه قال أحمد حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير ثنا ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله كان إذا قام إلى الصلاة رفع يديه مدا // صحيح // رفع اليدين في الصلاة
قال أحمد في رواية الفضل بن زيد وقد سأله عن رجل بلي بأرض ينكرون فيها رفع اليدين في الصلاة وينسبونه إلى النقص يجوز له ترك الرفع قال لا يترك ذلك يداريهم إنما قال يداريهم لأنه لا طاقة له بهم وأمر النبي بالرفق قال في رواية ابن مشيش رفع اليدين في الصلاة من السنة وهذا يدل على أن الهيئات في الصلاة يطلق عليها اسم السنة
قال أبو حفص فأما حديث أحمد بن يونس عن أبي بن بكر بن عياش عن حصين عن مجاهد عن ابن عمر أنه كان لا يرفع يديه فإن أبا عبد الله قيل له إن مجاهدا قال ما رأيت ابن عمر رفع يديه إلا في افتتاح الصلاة قال هذا خطأ نافع وسالم اعلم بحديث ابن عمر وإن كان مجاهد أقدم فنافع أعلم منه
قال بعض أصحابنا وهذا من أحمد يدل على أصلين أحدهما أن رواية الأعلم مقدمة على رواية غيره والثاني أن رواية من يختص بالصحبة أولى من غيره فائدة
اختلف قول أحمد في رفع اليدين فيما عدا المواضع الثلاثة فأكثر الروايات عنه أنه لم ير الرفع عند الانحدار إلى السجود ولا بين السجدتين ولا عند القيام من الركعتين ولا فيما عدا المواضع الثلاثة في حديث ابن عمر
ونقل عنه ابن الأثرم وقد سئل عن رفع اليدين فقال في كل خفض ورفع قال ابن الأثرم ورايت أبا عبد الله يرفع يديه في الصلاة في كل خفض ورفع ونقل عنه جعفر بن محمد وقد سئل عن رفع اليدين فقال يرفع يديه في كل موضع إلا بين السجدتين
ونقل عنه المروزي لا يعجبني أن يرفع يديه بين السجدتين فإن فعل فهو جائز
عمرو بن مرة عن أبي البحترى عن عبد الرحمن اليحصبي عن وائل بن حجر أن النبي كان يرفع يديه مع التكبير // صحيح //
وقد حكى احمد لفظ هذا الحديث في موضع آخر أنه كان يرفع يديه كلما كبر قال أبو حفص وظاهر هذا الحديث يأتي على جميع الصلاة في كل خفض ورفع
أحمد عن ابن فضيل عن عاصم بن كليب عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي إذا نهض من الركعتين رفع يديه // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // قال أحمد لا بأس بحديثه يعنى عاصم ابن كليب
رفدة بن قضاعة عن الأوزاعي عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي عن أبيه عن جده قال كان رسول الله يديه مع كل تكبير في الصلاة المكتوبة // إسناده ضعيف //
قال أحمد ويحيى بن معين ليس بصحيح ولا يعرف عبيد بن عمير يحدث عن أبيه شيئا ولا عن جده
قال أحمد لا أعرف رفده وجه الثالث حديث ابن عمر ولا يرفع بين السجدتين بعد ذكر المواضع الثلاثة واختلف قوله في حد الرفع فعنه أنه اختار إلى منكبية وعنه فروع أذنيه وجه الأولى حديث ابن عمر ووجه الثانية حديث مالك بن الحويرث أن النبي يديه إلى فروع أذنيه // رواه مسلم والنسائي وغيرهما //
وكيع عن قطن عن عبد الجبار بن وائل عن ابيه قال رأيت رسول الله يديه حين افتتح الصلاة حتى جاوزت إبهاماه شحمة أذنيه // صحيح //
وكيع عن ابيه عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء ابن عازب قال كأني أنظر إلى إبهامي رسول الله حاذتا شحمة أذنيه في الصلاة
قال أبو حفص الأمر عند أبي عبد الله واسع إلى أي موضع رفع ما لم يتجاوز الأذنين ولم يقصر عن المنكبين
الحسين بن محمد الأنماطي رأيت أبا عبد الله إذا رفع رأسه من الركوع لا يرفع يديه حتى يستتم قائما
والحجة فيه حديث أبي حميد فيقول سمع الله لمن حمده ثم يرفع يديه أبو داود قلت لأحمد افتتح الصلاة ولم يرفع يديه أيعيد قال لا
حجته أن النبي يعلمه للأعرابي // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // ولا نعلم أحدا قال بالإعادة إلا محمد بن سرين فإن أحمد ذكر عنه أنه قال يقضي فائدة وضع اليدين في الصلاة
اختلف قوله في صفة وضع اليد على اليد فعنه أحمد بن أصرم المزني وغيره انه يقبض بيمينه على رسغ يساره وعنه أبو طالب يضع يده اليمنى وضعا بعضها على ظهر كفة اليسرى وبعضها على ذراعه الأيسر
للأولى حديث وائل رأيت النبي اليمنى على اليسرى قريبا من الرسغ // صحيح // وفي حديث ثم ضرب بيمينه على شماله فأمسكها // صحيح //
وللثانية ما روى أنس أنه وضع يمينه على شماله على هذا الوصف وفي حديث وائل وفي طريق زائدة عن عاصم بن كليب قال ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه والرسغ والساعد واختلف في موضع الوضع فعنه فوق السرة وعنه تحتها وعنه أبو طالب سألت أحمد أين يضع يده إذا كان يصلي قال على السرة أو أسفل وكل ذلك واسع عنده إن وضع فوق السرة أو عليها أو تحتها
علي رضي الله عنه من السنة في الصلاة وضع الأكف على الأكف تحت السرة // ضعيف //
عمرو بن مالك عن ابي الجوزاء عن ابن عباس مثل تفسير علي إلا أنه غير صحيح والصحيح حديث علي
قال في رواية المزني أسفل السرة بقليل ويكره أن يجعلهما على الصدر وذلك لما روى عن النبي أنه نهى عن التكفير وهو وضع اليد على الصدر
مؤمل عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل أن النبي يده على صدره فقد روى هذا الحديث عبد الله بن الوليد عن سفيان لم يذكر ذلك
ورواه شعبة وعبد الواحد لم يذكرا خلاف سفيان قال في رواية صالح والكوسج إذا التفت في الصلاة قد أساء وما عملت أني سمعت فيه حديثا أي أنه يعيد
وقال في رواية أبي طالب الالتفات في الصلاة لا يقطع إنما كره لأنه يترك الخشوع والإقبال على صلاته قال هو اختلاس يختلسه الشيطان الحديث // رواه البخاري والنسائي وغيرهم // فلو كلف الإعادة شق إذ المصلي لا يكاد يسلم من اختلاسه فائدة الاستفتاح في الصلاة
قال في رواية حنبل كان ابن مسعود وأصحابه لا يعرفون الافتتاح يكبرون ولو فعل هذا رجل أجزأه واهل المدينة لا يعرفون الافتتاح
وحجته في سقوط وجوب الافتتاح ما روى عن ابن مسعود لأن في الأخبار ضعفاء قلت ابن مسعود كان يذهب في الصلاة إلى أشياء خالفه فيها سائر الصحابة
فمنها ترك الرفع فيما عدا الافتتاح ومنها التطبيق في الركوع ومنها قيام إمام الثلاثة في وسطهم ومنها ترك الافتتاح وأحمد لم يضعف أحاديث الافتتاح ولا أسقط وجوبة من أجل ضعفها ولا من أجل ترك ابن مسعود له وإنما لم يوجبه لعدم الأمر به فإن النبي قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ولم يأمره بالاستفتاح
روى حنبل عنه إذا أراد أن يبتدىء الصلاة يكبر ثم يستفتح استفتاح عمر ثم يتعوذ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم ثم يقرأ ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم هذا كله يخافت به فإن جهر بها فهو سهو يسجد سجدتي السهو إذا جهر بها
قال أبو حفص ليس السجود واجبا حرب عنه لا يقرأ الإمام إلا بعد سكته حتى يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب عبد الله عنه يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم هذا أعجب إلي وكذا نقل المروزي ثم قال والأمر سهل
الأصل فيه قوله تعالى قوله تعالى فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم وقوله وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله وفي هذا جمع بين الأمرين
وعن النبيى قصة عائشة قال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // إن الذين جاءوا بالإفك
روى أحمد بن إبراهيم بن هشام عن أبي عبد الله أنه سئل عن بسم الله الرحمن الرحيم من فاتحة الكتاب فقال نعم هي إحدى آياتها
قال أبو حفص ليست هذه الرواية في كتاب الخلال لكنها في سماعنا وروى أبو طالب إذا نسي أن يقرا بسم الله الرحمن الرحيم يسجد سجدتي السهو قال لا قال أبو حفص هذا على إحدى الروايتين إذا تركها عند قراءة السورة
وروى عنه الفضل وأبو الحارث وقد سئل عن الجهر ب آمين قال اجهر بها فإنها سنة ذهبت من الناس وهذا يدل على أن الهيئة سنة عند أحمد لأن الجهر هيئة في الكلام
وروى عنه أسحق بن إبراهيم آمين أمر من النبي أمن القارىء فأمنوا وهذا يدل على أن المندوب مامور به عند أحمد وروى عنه حنبل يجهر بها في المكتوبة وغيرها لعموم الإخبار
ابن منصور عن أحمد وقد سأله عن قول أبي هريرة لا تسبقني بآمين قال يتأيد حتى يجيء المؤذن لفضل التأمين نسيان القراءة أول الصلاة
وروى عنه الأثرم وقد سئل إذا كان خلف الإمام فقرأ خلفه فيما يجهر فيه أيقول آمين قال لا أدري ولا أعلم به بأسا
اختلف قوله إذا لم يقرأأول الصلاة هل يقضي فروى عنه عبد الله ابنه أنه إن ترك القراءة في الأولتين قرأفي الآخرتين وسجد سجدتي السهو قبل السلام وإن ترك القراءة في الثالثة ثم ذكر وهو في الرابعة فسدت صلاته واستأنف الصلاة
وروى عنه إسماعيل بن سعيد فيمن ترك القراءة من صلاة الغداة أو في ركعتين من الظهر عمدا أو سهوا لا يعتد بتلك الركعة التي لم يقرأفيها وبيني على صلاته ويقرأ
وروى عنه ابن مشيش في إمام صلى بقوم الظهر فلما فرغ ذكر أنه لم يقرأيعيد ويعيدون وهو الصحيح وجه الأول ما روى احمد ثنا وكيع ثنا عكرمة ابن عمار عن ضمضم بن جوس الهسفاني عن عبد الله بن حنظلة بن الراهب قال صلى بنا عمر المغرب فنسى أن يقرأفي الركعة الأولى فلما قام في الثانية قرأ بفاتحة الكتاب مرتين وسورتين فلما قضي الصلاة سجد سجدتين // إسناده حسن // ووجه الثانية قوله صلاة إلا بفاتحة الكتاب والركعة // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // الواحدة صلاة
وروى محمد بن أبي عدي عن الشعبي قال قال الأشعري صلى بنا عمر فدخل ولم يقرأشيئا قال فاتبعته حتى أتيت الإطناب فقلت يا أمير المؤمنين إنك لم تقرأ
شيئا فقال لقد رأيتني أجهز عبرا بكذا وأفعل كذا قال فأمر المؤذنين فأذنوا وأقاموا فأعاد بنا الصلاة // مرسل // قال القاضي اذا قلنا يعيد فإنه يعيد الأذان قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد وقد سأله هل يعيدون الآذان والإقامة إذا كانوا على ذلك قال نعم
ووجهه حديث عمر ولأن فيه إعلام الناس ليجتمعوا للإعادة وروى عنه أحمد بن الحسين الترمذي وقد سئل عن حديث عمر أنه صلى بالناس وهو جنب فأعاد ولم يعيدوا قال هكذا تقول
قلت فإن لم يقرأ الإمام الجنب والذي على غير طهر ومن خلفه قال يعيد ويعيدون انتهى
قلت والفرق بين القراءة وترك الطهارة أن القراءة يتحملها الإمام عن المأموم فإذا لم يقرأ لم يكن ثم تحمل والطهارة لا يتحملها الإمام عن المأموم فلا يتعدى حكمها إلى المأموم بخلاف القراءة فإن حكمها يتعدى إليه
فإن قيل كيف يتحمل الجنب القراءة عن المأموم وليس من أهل التحمل
قيل كيف يتحمل الجنب القراءة وليس من أهل التحمل
قيل لما كان معذورا بنسيانه حدثه نزل في حق المأموم منزلة الطاهر فلا يعيد المأموم وفي حق نفسه تلزمه الإعادة وهذا بخلاف المتعمد للصلاة محدثا أو جنبا فإنه لما لم يكن معذورا نزل فعله بالنسبة إلى المأموم منزلة العبث الذي لا يعتد به
وأيضا لما كان هذا يكثر مع السهو لم يتعد بطلان صلاته إلى المأموم رفعا للمشقة والحرج ولما كان يندب مع التعمد تعدى فساد صلاته إليهم
واختلف قوله في الصلاة بغير الفاتحة فروى حرب عنه فيمن نسي أن يقرأ بفاتحة الكتاب وقرأ قرآنا قال وما بأس بذلك أليس قد قرأ القرآن
قال وسمعته مرة أخرى يقول كل ركعة لا يقرأفيها بفاتحة الكتاب فإنها ليست بجائزة وعلى صاحبها أن يعيدها
قال الخلال الذي رواه حرب قد رجع عنه أبو عبد الله وبين عنه خلف كثير أنه لا يجزئه إلا أن يقرأفي كل ركعة للثانية ما روى مالك عن وهب بن كيسان عن جابر قال من صلى ركعة لم يقرأفيها بأم القرآن لم يصل إلا وراء إمام
وروى عنه أبو طالب من نسي أول ركعة ثم ذكر في آخر ركعة أنه لم يقرالا يعتد بالركعة التي لم يقرأ فيها ويصلي ركعة أخرى مكان تلك الركعة فإن ذكرها وقد سلم وتكلم أعادة الصلاة قراءة القرآن في الفرائض
اختلف قوله في قراءة القرآن الكريم في الفرائض على التأليف على سبيل الدرس فروى عنه ابنه عبد الله أنه قال سألت أبي عن الرجل يقرأالقرآن كله في الصلاة الفريضة قال لا أعلم فعل هذا وقد روى عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه كان يقرأ بعض القرآن سورا على التأليف وروى عنه حرب في الرجل يقرأعلى التأليف في الصلاة اليوم سورة الرعد وغدا التي تليها ونحو ذلك قال ليس في هذا شيء أنه يروى عن عثمان أنه فعل ذلك في المفصل وحدها وروى عنه مهنا أنه رخص أن يقرأفي الفرائض حيث ينتهي
سأل ابن قتيبة عن سهل بن أبي حذيفة عن ثابت عن أنس قال كانوا يقرؤون في الفريضة من أول القرآن إلى آخره // ضعيف //
وروى المروزي أن أحمد سئل عن حديث أنس هذا فقال هذا حديث منكر روى حنبل عنه إذا كان المسجد على قارعة الطريق أو طريق يسلك فالتخفيف أعجب إلى وإن كان مسجدا معتزلا أهله فيه ويرضون بذلك فلا ارى به بأسا وأرجو إن شاء الله
وروى عنه أبو الحارث إذا قرأبفاتحة الكتاب وهو يحسن غيرها إن كان عامدا فلا أحب له ذلك وإن كان ساهيا فلا بأس صلاته تامة
وعنه محمد بن الحكم هو عندي مسيء إذا عمد ذلك قلت يريد الاقتصار على
الفاتحة وكلامه يدل على أحد أمرين إما أن تكون السورة واجبة وإما أن يكون تارك سنة الصلاة مسيئا
وروى الفضل بن زياد عنه وقد سئل الرجل يقرأفي المكتوبة في كل ركعة بالحمد لله وسورة قال قد كان عمر يفعل قيل فترات قال لا قد فعل النبي هذا اقرأفي الأوليين انتهى
وروى عن علي وجابر قالا في الركعتين الأخرين بفاتحة الكتاب
وروى أبو طالب سألت أبا عبد الله عن الرجل يصلي بالناس المكتوبة فيقرأ في الأربع كلها بالحمد لله ورسورة قال لا ينبغي أن يفعل قلت ساهيا قال يسجد سجدتين وروى عنه أحمد بن هاشم وقد سئل عن رجل قرأ في الركعتين الآخريين بالحمد لله وسورة ناسيا هل عليه سجدتا السهو قال لا وكذلك قال مهنا والميموني
وروى عنه ابو الحارث في إمام صلى بقوم فقرأ بفاتحة الكتاب ثم قرأبعض السورة ولم يتمها ثم ركع لا بأس ثم قال أحمد ثنا عبد الله بن إدريس ثنا يزيد بن ابي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أبزي قال صليت خلف عمرو فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم وقع عليه البكاء فركع ثم قرأسورة النجم فسجد فيها ثم قام فقرأ إذا زلزلت وروى عنه صالح وقد سأله رجل عن رجل يصلي فيبدأمن أوسط السورة أو من آخرها قال أما آخر السورة فأرجو وأما وسطها فلا
وروى عنه أحمد بن هشام الأنطاكي هل يجزىء مع قراءة الحمد آية قال إن كانت مثل آية الدين أو مثل آية الكرسي
وروى عنه محمد بن حبيب يكره أن يقرأالرجل في صلاة الفجر ب قل يا أيها الكافرون و أرأيت إلا أن يكون في سفر
محمد بن حبيب ثنا عمر والناقد ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعيد ثنا أبي عن أسحاق عن مسعر ومالك بن مغول عن الحكم عن عمرو بن ميمون عن عمر أنه صلي بهم الفجر في طريق مكة فقرأب قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد
وروى الميموني صلى بنا أبو عبد الله الفجر فقرأفي الأولى وفي الثانية ب الفجر وكنا نصلي خلف أبي عبد الله بغلس فيقرأبنا في الأولى تبارك ونحوها ويقرأفي الثانية إذا الشمس كورت
وروى عنه احمد بن الحسين بن حسان في إمام يقصر في الركعة الأولى ويطول في الآخيره لا ينبغي هذا يطول في الأولى ويقصر في الآخرة
قال أبو حفص وقد روى عن أنس أنه قرأفي الركعة الأولى قل هو الله أحد وفي الثانية ب قل يا أيها الكافرون وهذا يدل على جواز الإطالة في الثانية وليس ما ذكره بقوي ومن خطايا القاضي مما قال انتقيته من كتاب الصيام لأبي حفص من صام رمضان وهو ينوى التطوع
نقل عبد الله قال سألت أبي عمن صام رمضان وهو ينوى بها تطوعا قال لا يفعل هذا إنسان من أهل الإسلام لا يجزئه حتى ينوي لو أن رجلا قام فصلى أربع ركعات لا ينوى بها صلاة فريضة أكان يجزئه ثم قال لا تجزئه صلاه فريضة حتى ينويها
قال أبو حفص وقد قال الشافعي ولو عقد رجل على أن غدا عنده من رمضان في يوم الشك ثم بان أنه من رمضان أجزأه قال وهذا موافق لما قال أبو عبد الله في الغيم قال عبد الله قلت لأبي إذا صام شعبان كله قال لا بأس أن يصوم اليوم الذي يشك فيه إذا لم ينو انه من رمضان لأن النبي كان يصل شعبان برمضان فقد دخل ذلك اليوم في صومه قال أبو حفص مراد أبي عبد الله في هذه المسألة إذا كان الشك في الصحو لما تقدم من مذهبه في الغيم ومن خط القاضي أيضا مما ذكر أنه انتقاه من كتاب حكم الوالدين في مال ولدهما عتق الأب جارية ابنه
جمع أبي حفص البرمكي قال أختلف قول ابي عبد الله في عتق الأب جارية ابنه قبل قبضها فروى عنه بكر بن محمد أنه قال ويعتق الأب في ملك الابن وهو في ملك الابن حتى يعتق الأب أو يأخذ فيكون للأب ما اخذ
وعنه المروزي ولو أن لابنه جارية فأعتقها كان جائزا وعنه بكر بن محمد إذا كانت للابن جارية فأراد عتقها قبضها ثم أعتقها ولا يعتق من مال ابنه إلا أن يقبضها وكذا روى عنه عبد الله وغيره
قلت الروايتان مأخذهما أن من ملك أن يملك بتصرف قبل تملكه هل ينفذ تصرفه فيه قولان وعلى هذا يخرج تصرف الزوج في نصف الصداق إذا طلق بعد الاقباض وقبل الدخول وتصرف الموصى له إذا تصرف بعد الموت وقبل القبول على أن
الذي تقتيضيه قواعد أحمد وأصوله صحة التصرف ويجعل هذا قبولا واسترجاعا للصداق قد قارن التصرف ومن منع صحته قال إن غاية هذا التصرف أن يكون دالا على الرجوع والقبول الذي هو سبب الملك ولم يتقدم على التصرف والملك لا بد أن يكون سابقا للتصرف فكما لا يتاخر عنه لا يقارنه
ولمن نصر الأول أن يجيب عن هذا بأن المحذور أن يرد العقد على ما لا يملكه ولا يكون مأذونا له في التصرف فيه فإذا قارن العقد سبب التملك لم يرد العقد إلا على مملوك فقولكم لا بد أن يتقدم الملك العقد دعوى محل النزاع فمنازعوكم يجوزون مقارنة العقد لسبب التملك وهذه المسألة تشبه مسالة حصول الرجعة بالوطء فإنه بشروعه بالوطء تحصل الرجعة وإن لم يتقدم على الوطء فما وطأ إلا من ارتجعها وإن كانت رجعته مقارنة لوطئها فتأمله فإنه من أسرار الفقة
ونظير هذه المسألة الجارية مسألةالموهوبة للولد سواء قال أحمد في رواية أبي طالب إذا وهب لإبنه جارية وقبضها الابن لم يجز للأب عتقها حتى يرجع فيها ويردها إليه قال أبو حفص البرمكي ويخرج في هذه المسألة رواية أخرى بصحة العتق والأول أصح
قال إسحاق بن إبراهيم سألت أبا عبد الله رحمه الله تعالى عن جارية وهبها رجل لإبنه ثم قبضها الابن من الأب فأعتقها الأب بعدما قبضها الابن قال الجارية للابن وأعتق الأب ما ليس له
قلت فحديث النبي ومالك لأبيك // صحيح // قال من قال أن عتق الأب جائز يذهب إلى هذا فأما الحسن وابن أبي ليلى يقولان عتقه عليه جائز ولا أذهب إليه قلت إيش الحجة في هذا قال لا يجوز عتقه على ما وهبه الابن وأجازه قبض الأب صداق ابنته
احتلف في قبض الأب صداق ابنته فروى عنه مهنا لا يبرأالزوج بذلك وروى عنه المروزي وأبو طالب أنه يبرأوأصل الروايتين عند أصحابنا ابراء الأب عن الصداق فإن فيه روايتين فإن قلنا يصح ابراؤه صح قبضه وإلا فلا كالأجنبي
قلت وعندي أن الروايتين في القبض غير منيتين على رواية الابراء بل لما ملك الأب الولاية على أبنته في هذا العقد ملك قبض عوضه فلما ملك تزويجها وهو كإقباض البضع وتمكين الزوج منه ملك قبل الصداق وهذه هي العادة بين الناس
والرواية الأخرى لا يقبض لها إلا بإذنها فلا يبرأ الزوج بإقباضه كما لا يتصرف في مالها إلا بإذنها والله أعلم يستقرض الرجل من مال أولاده ثم يوصي بما اخذ
روى المروزي عنه في الرجل يستقرض من مال أولاده ثم يوصي بما أخذ من ذلك قال ذلك إليه فإن فعل فلا بأس وهذه الرواية تدل على أن الدين يثبت في ذمته وإن لم يملك الابن المطالبة به إذ لولا ثبوته في الذمة لم يملك الوصية به وكانت وصيته لوارث
وقد روى عنه أبو الحارث في رجل له على أبيه دين فمات الأب قال يبطل دين الإبن
قلت وهذه الرواية عندي تحتمل أمرين
أحدهما بطلانه وسقوطه جملة وهو الظاهر والثاني بطلان المطالبة ! به فلا يختص به من التركة ثم يقسم الباقي فلو أوصي له به من غير مطالبة فله أخذه يقدم به من التركة موافقا لنصه الاخر في رواية المروزي والله أعلم
فإن قيل لو اشتغلت الذمة به لوجبت الوصية به كسائر الديون
قلت لما كان للأب من الاختصاص في مال ولده ما ليس لغيره فيملك أن يتملك عليه عين ماله فلذلك يملك أن يسقطه من ذمته نفسه وأن يوفيه إياه فتأمله أخذ الأب من مال ابنه ومات ووجده الابن فهل يأخذه
اختلفت الرواية عن أحمد فيما أخذه الأب من مال ابنه ومات ووجده الابن بعينه هل يكون له أخذه على روايتين نقلهما أبو طالب في مسائلة واحتج بجواز الأخذ بقول عمر
قال أبو حفص ولأنا قد بينا أن الحق في ذمته ولا يمتنع أن يسقط الرجوع إذا كان دينا ويملك إذا كان عينا كالمفلس بثمن المبيع ووجه الأخرى أن الأب قد حازه فسقط الرجوع كما لو أتلفه
روى عنه أبو الحارث كلما أحرزه الأب من مال ولده فهو له رضي أو كره يأخذ ما شاء من قليل وكثير والأم لا تأخذ إنما قال أنت ومالك لأبيك ولم يقل لأمك
وروى عنه إسحاق بن إبراهيم لا يحل لها يعنى الأم أن تتصدق بشيء من غير علمه قال أحمد أما الذى سمعنا أن المرأة تتصدق من بيت زوجها ما كان من رطب والشيء الذى تطعمه فأما الرجل فلا أحب له أن يتصدق بشيء إلا بإذنها
وروى عنه حنبل في الرجل يقع على جارية أبيه أو ابنه أو امه لا أراه يلزق به الولد عاهر إلا ان يحلها له
قال أبو حفص البرمكي يحتمل أن يريد بقوله يحلها له أى بالهبة ويحتمل ان يريد لأنه بحل فرجها لأنه إذا أحل فرجها فوطئها لحقه الولد لأجل الشبهة إلا ترى أنا ندرأ عن المحصن الرجم في هذا لحديث النبي في رواية بكر بن محمد في رجل له جارية يطؤها فوثب عليها ابنه فوطئها فحملت منه وولدت هى أمه تباع لأنه بمنزلة الغريب وهو أشد عقوبة من الغريب لا يثبت له نسب ولكن لو اعتقد الأب قوله وهو أشد عقوبة لوجهين
أحدهما وطؤه موطوءة أبيه والثاني أنها محرمة عليه على التأبيد وإنما أختار عتقه لأنه من ماء ولده مخلوق ولم يوجبه لعدم ثبوت النسب
عبد الله ابنه إذا دفع إليه ابنه مالا يعمل به فذهب الابن فاشترى جارية واعتقها وتزوج بها مضي عتقها وله أن يرجع على ابنه بالملك ويلحق به الولد وليس له الرجوع بالجارية
حنبل عنه قال أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئا من ذلك لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة
وعنه المروزي إذا وهب لابنه جارية فأراد أن يشتريها فإن كان وهبها على وجه المنفعة فلا بأس أن يأخذها بما تقوم وإذا جعل الجارية لله تعالى أو في السبيل أو أعطاها ابنه لم يعجبني أن يشتريها
أبو حفص إذا وهبها على جهة المنفعة دون الصدقة جاز أن يشتريها لأن النبي أجاز الرجوع في هبة الولد // رواه البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم // وإن جعل الجارية صدقة على إبنته وقصد