كتاب :اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم
المؤلف : شيخ الإسلام ابن تيمية
-
اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكمل لنا ديننا وأتم علينا نعمته ورضي لنا الإسلام دينا وأمرنا أن نستهديه صراطه المستقيم صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم اليهود ولا الضالين النصارى
واشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالدين القيم والملة الحنيفية وجعله على شريعة من الأمر أمره باتباعها وأمره بأن يقول هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما
وبعد فإني قد نهيت إما مبتدئا وإما مجيبا عن التشبه بالكفار في أعيادهم وأخبرت ببعض ما في ذلك من الأثر القديم والدلالة الشرعية وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة هدي الكفار من الكتابيين والأميين وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة كثيرة الشعب وأصلا جامعا من أصولها كثير الفروع لكني نبهت على ذلك بما يسره الله تعالى وكتبت جوابا في ذلك لم يحضرني الساعة وحصل بسبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه
ثم بلغني بأخرة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده لمخالفة عادة قد نشؤا عليها وتمسكوا في ذلك بعمومات وإطلاقات اعتمدوا عليها فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة لكثرة فائدتها وعموم المنفعة بها ولما قد عم كثيرا من الناس من الابتلاء بذلك حتى صاروا في نوع جاهلية فكتبت ما حضرني الساعة مع أني لو استوفيت ما في ذلك من الدلائل وكلام العلماء واستقريت الآثار في ذلك لوجدت فيه أكثر مما كتبه
ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه ورأى إيماآت الشرع ومقاصده وعلل الفقهاء ومسائلهم يشك في ذلك بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه وخلص إليه حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي لا يقبل من أحد سواه إذا نبه على هذه النكتة إلا كانت حياة قلبه وصحة إيمانه توجب استيقاظه بأسرع تنبيه ولكن نعوذ بالله من رين القلوب وهوى النفوس اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه
فصل
في حال البشر قبل البعثة المحمديةاعلم أن الله سبحانه وتعالى أرسل محمدا صلى الله عليه و سلم إلى الخلق وقد مقت أهل الأرض عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا أو أكثرهم قبل مبعثه
والناس إذ ذاك أحد رجلين إما كتابي معتصم بكتاب إما مبدل وإما منسوخ أو بدين دارس بعضه مجهول وبعضه متروك وإما أمي من عربي وعجمي مقبل على عبادة ما استحسنه وظن أنه ينفعه من نجم أو وثن أو قبر أو تمثال أو غير ذلك والناس في جاهلية جهلاء من مقالات يظنونها علما وهي جهل وأعمال يحسبونها صلاحا وهي فساد
وغاية البارع منهم علما وعملا أن يحصل قليلا من العلم الموروث عن الأنبياء المتقدمين مشوب بأهواء المبدلين والمبتدعين قد اشتبه عليهم حقه بباطله أو يشتغل بعمل القليل منه مشروع وأكثره مبتدع لا يكاد يؤثر في صلاحه إلا قليلا أو أن يكدح بنظره كدح المتفلسفة فتذوب مهجته في الأمور
الطبيعية والرياضية وإصلاح الأخلاق حتى يصل إن وصل بعد الجهد الذي لا يوصف إلى نزر قليل مضطرب لا يروي غليلا ولا يشفي عليلا ولا يغني من العلم الإلهي شيئا باطله أضعاف حقه إن حصل وأنى له ذلك مع كثرة الاختلاف بين أهله والاضطراب وتعذر الأدلة عليه والأسباب
فهدى الله الناس ببركة نبوة محمد صلى الله عليه و سلم وبما جاء به من البينات والهدى هداية جلت عن وصف الواصفين وفاقت معرفة العارفين حتى حصل لأمته المؤمنين به عموما ولأولي العلم منهم خصوصا من العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق العظيمة والسنن المستقيمة ما لو جمعت حكمة سائر الأمم علما وعملا الخالصة من كل شوب إلى الحكمة التي بعث بها لتفاوتتا تفاوتا يمنع معرفة قدر النسبة بينهما فلله الحمد كما يحب ربنا ويرضى
ودلائل هذا وشواهده ليس هذا موضعها
ثم إنه سبحانه بعثه بدين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم وفرض على الخلق أن يسألوه هدايته كل يوم مرارا في صلاتهم ووصفه بأنه صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قال عدي بن حاتم رضي الله عنه أتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو جالس في المسجد فقال القوم هذا عدي بن حاتم وجئت بغير أمان ولا كتاب فلما دفعت إليه أخذ بيدي وقد قال قبل ذلك إني لأرجو أن يجعل الله يده في يدي قال فقام بي فلقيته امرأة وصبي معها فقالا إن لنا إليك حاجة فقام معهما حتى قضى حاجتهما ثم أخذ بيدي حتى أتى بي داره فألقت له الوليدة وسادة فجلس عليها وجلست بين يديه فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال ما يفرك أيفرك أن تقول لا إله إلا الله فهل تعلم من إله سوى الله قال قلت لا ثم تكلم ساعة ثم قال إنما يفرك أن تقول الله أكبر أو تعلم شيئا أكبر من الله قال قلت لا قال فإن اليهود مغضوب عليه والنصارى ضلال قال فقلت فإني حنيف مسلم قال فرأيت وجهه ينبسط فرحا
وذكر حديثا طويلا رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب وقد دل كتاب الله على معنى هذا الحديث قال الله سبحانه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت والضمير عائد إلى اليهود والخطاب معهم كما دل عليه سياق الكلام
وقال تعالى ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم وهم المنافقون الذين تولوا اليهود باتفاق أهل التفسير وسياق الآية يدل عليه
وقال تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وذكر في البقرة قوله تعالى وباءوا بغضب من الله وفيها أيضا فباءوا بغضب على غضب وهذا بيان أن اليهود مغضوب عليهم
وقال في النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة إلى قوله قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا
أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وهذا خطاب للنصارى كما دل عليه السياق ولهذا نهاهم عن الغلو وهو مجاوزة الحد كما نهاهم عنه في قوله يا أهل الكتب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه
واليهود مقصرون عن الحق والنصارى غالون فيه
فأما وسم اليهود بالغضب والنصارى بالضلال فله أسباب ظاهرة وباطنة ليس هذا موضعها
وجماع ذلك أن كفر اليهود أصله من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه قولا أو عملا أولا قولا ولا عملا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون على الله مالا يعلمون ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة وغيره يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى وليس هذا أيضا موضع شرح ذلك
ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله كفارس والروم قال ومن الناس إلا أولئك
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم
وقد كان صلى الله عليه و سلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة وأخبر صلى الله عليه و سلم ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة و أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته
فعلم بخبره الصدق أن لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف بل وقد لا يفسق أيضا بل قد يكون الإنحراف كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا
وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم التي ابتليت بها هذه الأمة ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين
قال الله سبحانه ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم
وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح وهو خلق مذموم مطلقا وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم
وقال الله سبحانه والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله
فوصفهم بالبخل الذي هو البخل بالعلم والبخل بالمال وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو المقصود الأكبر فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه الآية وقوله تعالى إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا الآية وقوله إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار الآية وقوله تعالى وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن
فوصف المغضوب عليهم بأنهم يكتمون العلم تارة بخلا به وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا وتارة خوفا أن يحتج عليهم بما أظهروه منه
وهذا قد ابتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه وتارة اعتياضا عنه برياسة أو مال ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نقص ماله وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة فيكتم من العلم ما فيه حجة لمخالفه وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم
وليس الغرض تفصيل ما يحب وما يحتسب بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به
وقال تعالى وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل
علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق الآية بعد أن قال وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين
فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم
وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه و سلم فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلاما جاءت به طائفتهم ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه و سلم
وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ووصفهم بأنهم يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب والتحريف قد فسر بتحريف التنزيل وبتحريف التأويل
فأما تحريف التأويل فكثير جدا وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة
وأما تحريف التنزيل فقد وقع فيه كثير من الناس يحرفون ألفاظ الرسول ويروون أحاديث بروايات منكرة وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم وكلم الله موسى تكليما
وأما تطاول بعضهم إلى السنة بما يظن أنه من عند الله فكوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه و سلم أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة
وهذا الضرب من نوع أخلاق اليهود وذمها في النصوص كثير لمن تدبر في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث
وقال سبحانه عن النصارى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته
وقال لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم إلى غير ذلك من المواضع
ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد ما هو أقبح من قول النصارى أو مثله أو دونه
وقال تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم الآية وفسره النبي صلى الله عليه و سلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه بأنهم أحلوا الحرام فأطاعوهم وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم
وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال
وقال سبحانه عن الضالين ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله وقد ابتلى طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم
وقال الله سبحانه قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا فكان الضالون بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم أمته عن ذلك في غير موضع حتى في وقت مفارقته الدنيا بأبي هو وأمي ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة
ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة فلا يهتمون في أمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات
ثم إنك تجد أن هذه الأمة قد ابتليت من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد بالصور والأصوات الجميلة لإصلاح القلوب والأحوال ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين
وقال سبحانه وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى وأنت تجد كثيرا من المتفقهة إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئا بل يرى أن التمسك بهما منقطع عن الله وأنه ليس عند أهلها شيء مما ينفع عند الله
والصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل
وأما مشابهة فارس والروم فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا والآثار الفارسية قولا وعملا مالا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه
وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة مما تضارع طريق المغضوب عليهم أو الضالين وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه إما لاجتهاد أخطأ فيه وإما لحسنات محت السيئات أو غير ذلك
وإنما الغرض أن تتبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم وأن ينفتح لك باب إلى معرفة الانحراف لتحذره
ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك
وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعورا وأحوالا
وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له
فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور
منها أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسبا وتشاكلا بين المتشابهين يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال وهذا أمر محسوس فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضيا لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع
ومنها أن المخالفة في الهدى الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع
عن موجبات الغضب وأسباب الضلال والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهرا أو باطنا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطنا أو ظاهرا أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد
ومنها أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهرا بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحا محضا لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم
فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم
فصل
في ذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم
لما كان الكلام في المسألة الخاصة قد يكون مندرجا في قاعدة عامة بدأنا بذكر بعض ما دل من الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار والنهي عن مشابهتهم في الجملة سواء كان ذلك عاما في جميع الأنواع المخالفة أو خاصا ببعضها وسواء كان أمر إيجاب أو أمر استحباب
ثم أتبعنا ذلك بما يدل على النهي عن مشابهتهم في أعيادهم خصوصا
وهنا نكتة قد نبهت عليها في هذا الكتاب وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة
وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه و سلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها
وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة
واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيدا
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه
فنحن نذكر من آيات الكتاب ما يدل على أصل هذه القاعدة في الجملة ثم نتبع ذلك الأحاديث المفسرة لمعاني ومقاصد الآيات بعدها
قال الله سبحانه ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم
والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين
أخبر سبحانه أنه أنعم على بني إسرائيل بنعم الدين والدنيا وأنهم اختلفوا بعد مجيء العلم بغيا من بعضهم على بعض ثم جعل محمدا صلى الله عليه و سلم على شريعة من الأمر شرعها له وأمره باتباعها ونهاه عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون وقد دخل في الذين لا يعلمون كل من خالف شريعته وأهواءهم هي ما يهوونه وما عليه المشركون من هديهم الظاهر الذي هو من موجبات دينهم الباطل وتوابع ذلك فهم يهوونه وموافقتهم فيه اتباع لما يهوونه ولهذا يفرح الكافرون بموافقة المسلمين في بعض أمورهم ويسرون به ويودون أن لو بذلوا مالا عظيما ليحصل ذلك ولو فرض أن ليس الفعل من اتباع أهوائهم فلا ريب أن مخالفتهم في ذلك أحسم لمادة متابعتهم في أهوائهم وأعون على حصول مرضاة الله في تركها وأن موافقتهم في ذلك قد تكون ذريعة إلى موافقتهم في غيره فإن من حام حول الحمى أوشك أن يواقعه
وأي الأمرين كان حصل المقصود في الجملة وإن كان الأول أظهر
ومن هذا الباب قوله سبحانه والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق
فالضمير في أهوائهم يعود والله أعلم إلى ما تقدم ذكره وهم الأحزاب الذين ينكرون بعض ما أنزل إليه فدخل في ذلك كل من أنكر شيئا
من القرآن من يهودي أو نصراني أو غيرهما وقد قال ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم بل يحصل اتباع أهوائهم بما هو دون ذلك
ومن هذا أيضا قوله تعالى ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهوائهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير
فانظر كيف قال في الخبر ملتهم وفي النهي أهواءهم لأن القوم لا يرضون إلا باتباع الملة مطلقا والزجر وقع عن اتباع أهوائهم في قليل أو كثير ومن المعلوم أن متابعتهم في بعض ما هم عليه من الدين نوع متابعة لهم في بعض ما يهوونه أو مظنة لمتابعتهم فيما يهوونه كما تقدم
ومن هذا الباب قوله سبحانه ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون الحق من ربك فلا تكونن من الممترين ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وإنه للحق من ربك وما الله بغافل عما تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم
قال غير واحد من السلف معناه لئلا يحتج اليهود عليكم بالموافقة في القبلة فيقولوا قد وافقونا في قبلتنا فيوشك أن يوافقونا في ديننا فقطع الله بمخالفتهم في القبلة هذه الحجة إذ الحجة اسم لكل ما يحتج به من حق
وباطل إلا الذين ظلموا منهم وهم قريش فإنهم يقولون عادوا إلى قبلتنا فيوشك أن يعودوا إلى ديننا
فبين سبحانه أن من حكمة نسخ القبلة وتغييرها مخالفة الكافرين في قبلتهم ليكون ذلك أقطع لما يطمعون فيه من الباطل ومعلوم أن هذا المعنى ثابت في كل مخالفة وموافقة فإن الكافر إذا اتبع في شيء من أمره كان له من الحجة مثل ما كان أو قريب مما كان لليهود من الحجة في القبلة
وقال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات البينات وهم اليهود والنصارى الذين افترقوا على أكثر من سبعين فرقة ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن متابعتهم في نفس التفرق والاختلاف مع أنه صلى الله عليه و سلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة مع أن قوله لا تكن مثل فلان قد يعم مماثلته بطريق اللفظ أو المعنى وإن لم يعم دل على أن جنس مخالفتهم وترك مشابهتهم أمر مشروع ودل على أنه كلما بعد الرجل عن مشابهتهم فيما لم يشرع لنا كان أبعد عن الوقوع في نفس المشابهة المنهي عنها وهذه مصلحة جليلة
وقال سبحانه لموسى وهرون فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون وقال سبحانه وقال موسى لأخيه هرون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين وقال تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم إلى غير ذلك من الآيات
وما هم عليه من الهدى والعمل هو من سبيل غير المؤمنين بل من سبيل المفسدين والذين لا يعلمون وما يقدر عدم اندراجه في العموم فالنهي ثابت عن جنسه فيكون مفارقة الجنس بالكلية أقرب إلى ترك المنهي عنه ومقاربته في مظنة وقوع المنهي عنه
قال سبحانه وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه أو مظنة لا تباع ما يهوونه وتركها معونة على ترك ذلك وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه
واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير مثل قوله لما ذكر ما فعله بأهل الكتاب من المثلات فاعتبروا يا أولي الأبصار وقوله لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب وأمثال ذلك
ومنه ما يدل على مقصودنا ومنه ما فيه إشارة وتتميم للمقصود
ثم متى كان المقصود بيان أن مخالفتهم في عامة أمورهم أصلح لنا فجميع الآيات دالة على ذلك وإن كان المقصود أن مخالفتهم واجبة علينا فهذا إنما يدل عليه بعض الإيات دون بعض
ونحن ذكرنا ما يدل على أن مخالفتهم مشروعة في الجملة إذا كان هذا هو المقصود هنا
وأما تمييز دلالة الوجوب أو الواجب عن غيرها وتمييز الواجب عن غيره فليس هو الغرض هنا
وسنذكر إن شاء الله أن مشابهتهم في أعيادهم من الأمور المحرمة فإنه هو المسألة المقصودة هنا بعينها وسائر المسائل سواها إنما جلبها إلى هنا تقرير القاعدة الكلية العظيمة المنفعة
قال الله عز و جل المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هي حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مدين والمؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير
بين الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أخلاق المنافقين وصفاتهم وأخلاق المؤمنين وصفاتهم وكلا الفريقين مظهر للإسلام ووعد المنافقين المظهرين للإسلام مع هذه الإخلاق والكافرين المظهرين للكفر نار جهنم وأمر نبيه بجهاد الطائفتين
ومنذ بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه و سلم وهاجر إلى المدينة صار الناس ثلاثة أصناف مؤمن ومنافق وكافر فأما الكافر وهو المظهر للكفر فأمره بين وإنما الغرض هنا متعلق بصفات المنافقين المذكورة في الكتاب والسنة
فإنها هي التي تخاف على أهل القبلة فوصف الله سبحانه المنافقين بأن بعضهم من بعض وقال في المؤمنين بعضهم أولياء بعض
وذلك لأن المنافقين تشابهت قلوبهم وأعمالهم وهم مع ذلك تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى فليست قلوبهم متوادة متوالية إلا ما دام الغرض الذي يؤمونه مشتركا بينهم ثم يتخلى بعضهم عن بعض بخلاف المؤمن فإنه يحب المؤمن وينصره بظهر الغيب وإن تناءت بهم الديار وتباعد الزمان
ثم وصف الله سبحانه كل واحدة من الطائفتين بأعمالهم في أنفسهم وفي غيرهم وكلمات الله جوامع
وذلك أنه لما كانت أعمال المرء المتعلقة بدينه قسمين أحدهما أن يعمل ويترك والثاني أن يأمر غيره بالفعل والترك ثم فعله إما أن يختص هو بنفعه أو ينفع به غيره فصارت الأقسام ثلاثة ليس لها رابع
أحدها ما يقوم بالعامل ولا يتعلق بغيره كالصلاة مثلا
والثاني ما يعمله لنفع غيره كالزكاة
والثالث ما يأمر غيره أن يفعله فيكون الغير هو العامل وحظه هو الأمر به
فقال سبحانه في وصف المنافقين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف وبإزائه في وصف المؤمنين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر
والمعروف اسم جامع لكل ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح
والمنكر اسم جامع لكل ما كرهه الله ونهى عنه
ثم قال ويقبضون أيديهم قال مجاهد يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله وقال قتادة يقبضون أيديهم عن كل خير فمجاهد أشار إلى النفع بالمال وقتادة أشار إلى النفع بالمال والبدن وقبض اليد عبارة عن الإمساك كما في قوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
وفي قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وهي حقيقة عرفية ظاهرة من اللفظ أو هي مجاز مشهور
وبإزاء قبض أيديهم قوله في المؤمنين يؤتون الزكاة فإن الزكاة وإن كانت قد صارت حقيقة شرعية في الزكاة المفروضة فإنها اسم لكل نفع للخلق من نفع بدني أو مالي فالوجهان هنا كالوجهين في قبض اليد
ثم قال نسوا الله فنسيهم ونسيان الله ترك ذكره
وبإزاء ذلك قال في صفة المؤمنين يقيمون الصلاة فإن الصلاة أيضا تعم الصلاة المفروضة والتطوع وقد يدخل فيها كل ذكر الله إما لفظا وإما معنى قال ابن مسعود رضي الله عنه ما دمت تذكر الله فأنت في صلاة وإن كنت في السوق وقال معاذ بن جبل مدارسة العلم التسبيح
ثم ذكر ما وعد الله به المنافقين والكفار من اللعنة ومن النار والعذاب المقيم في الآخرة
وبإزائه ما وعد الله المؤمنين من الجنة والرضوان ومن الرحمة
ثم في ترتيب الكلمات وألفاظها أسرار كثيرة ليس هذا موضعها وإنما الغرض تمهيد قاعدة لما سنذكره إن شاء الله
وقد قيل إن قوله ولهم عذاب مقيم إشارة إلى ما هو لازم لهم في الدنيا والآخرة من الآلام النفسية غما وحزنا وقسوة ظلمة قلب وجهلا فإن للكفر والمعاصي من الآلام العاجلة الدائمة ما الله به عليم ولهذا تجد غالب هؤلاء لا يطيبون عيشهم إلا بما يزيل عقولهم ويلهي قلوبهم من تناول مسكر أو رؤية مله أو سماع مطرب ونحو ذلك
وبإزاء ذلك قوله في المؤمنين أولئك سيرحمهم الله فإن الله يعجل للمؤمنين من الرحمة في قلوبهم وغيرها بما يجدونه من حلاوة الإيمان ويذوقونه من طعمه وانشراح صدورهم للإسلام إلى غير ذلك من السرور بالإيمان والعلم النافع والعمل الصالح بما لا يمكن وصفه
ثم قال سبحانه في تمام خبر المنافقين كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا وهذه الكاف قد قيل إنها رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره أنتم كالذين من قبلكم وقيل إنها نصب بفعل محذوف تقديره فعلتم كالذين من قبلكم كما قال النمر بن تولب ... كاليوم مطلوبا ولا طالبا ...
أي لم أر كاليوم والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل وقيل إن التشبيه في العذاب
ثم قيل العامل محذوف أي لعنهم وعذبهم كما لعن الذين من قبلكم وقيل هو أجود بل العامل ما تقدم أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم ولعنهم كلعن الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم فمحلها نصب ويجوز أن يكون رفعا أي عذاب كعذاب الذين من قبلكم
وحقيقة الامر على هذا القول أن الكاف تنازعها عاملان ناصبان أو ناصب ورافع من جنس قولهم أكرمت وأكرمني زيد والنحويون لهم فيما إذا لم يختلف العامل كقولك أكرمت وأعطيت زيدا قولان
أحدهما وهو قول سيبويه وأصحابه أن العامل في الاسم هو أحدهما وأن الآخر حذف معموله لأنه لا يرى اجتماع عاملين على معمول واحد
والثاني قول الفراء وغيره من الكوفيين أن الفعلين عملا في هذا الاسم وهو يرى أن العاملين يعملان في المعمول الواحد
وعلى هذا اختلافهم في نحو قوله عن اليمين وعن الشمال قعيد وأمثاله
فعلى قول الأولين يكون التقدير وعد الله المنافقين النار كوعد الذين من قبلكم ولهم عذاب مقيم كالذين من قبلكم أو كعذاب الذين من قبلكم ثم حذف اثنان من هذه المعمولات لدلالة الآخر عليهما وهم يستحسنون حذف الأولين
وعلى القول الثاني يمكن أن يقال الكاف المذكورة بعينها هي المتعلقة بقوله وعد وبقوله لعن وبقوله ولهم عذاب مقيم لأن الكاف لا يظهر فيها إعراب وهذا على القول بأن عمل الثلاثة النصب ظاهر
وإذا قيل إن الثالث يعمل الرفع فوجهه أن العمل واحد في اللفظ إذ التعلق تعلق معنوي لا لفظي
وإذا عرفت أن من الناس من يجعل التشبيه في العمل ومنهم من يجعل التشبيه في العذاب فالقولان متلازمان إذ المشابهة في الموجب تقتضي المشابهة في الموجب وبالعكس فلا خلاف معنوي بين القولين
وكذلك ما ذكرناه من اختلاف النحويين في وجوب الحذف وعدمه إنما هو اختلاف في تعليلات ومآخذ لا تقتضي اختلافا لا في إعراب ولا في معنى
فإذن الأحسن أن تتعلق الكاف بمجموع ما تقدم من العمل والجزاء فيكون التشبيه فيهما لفظيا
وعلى القولين الأولين يكون قد دل على أحدهما لفظا ودل على الآخر لزوما
وإن سلكت طريقة الكوفيين على هذا كان أبلغ وأحسن فإن لفظ الآية يكون قد دل على المشابهة في الأمرين من غير حذف وإلا فيضمر حالكم كحال الذين من قبلكم ونحو ذلك وهو قول من قدره أنتم كالذين من قبلكم ولا يسع هذا المكان بسطا أكثر من هذا فإن الغرض متعلق بغيره
وهذه المشابهة في هؤلاء بإزاء ما وصف الله به المؤمنين من قوله ويطيعون الله ورسوله فان طاعة الله ورسوله تنافي مشابهة الذين من قبلكم قال سبحانه كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا
فالخطاب في قوله كانوا أشد منكم قوة وقوله فاستمتعتم إن كان للمنافقين كان من باب خطاب التلوين والالتفات وهذا انتقال من الغيبة إلى الحضور كما في قوله الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين ثم حصل الانتقال من الخطاب إلى الغيبة في قوله أولئك حبطت أعمالهم وكما في قوله حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فإن الضمير في قوله أولئك حبطت أعمالهم الأظهر أنه عائد إلى المستمتعين الخائضين من هذه الأمة كقوله فيما بعد ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم وإن كان الخطاب لمجموع الأمة المبعوث إليها فلا يكون الإلتفات إلا في الموضع الثاني
وأما قوله فاستمتعوا بخلاقهم ففي تفسير عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله فاستمتعوا بخلاقهم قال بدينهم ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه
وروي عن أبي عباس بنصيبهم من الآخرة في الدنيا وقال آخرون بنصيبهم من الدنيا
قال أهل اللغة الخلاق هو النصيب والحظ كأنه ما خلق للانسان أي ما قدر له كما يقال القسم لما قسم له والنصيب لما نصب له أي أثبت ومنه قوله تعالى ماله في الآخرة من خلاق و وماله في الآخرة من خلاق أي من نصيب وقول النبي صلى الله عليه و سلم إنما يلبس الحرير من لا خلاق له في الآخرة
والآية تعم ما ذكره العلماء جميعهم فإنه سبحانه قال كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعموا بها للدنيا والآخرة وكذلك أموالهم وأولادهم وتلك القوة والأموال والأولاد هو الخلاق فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة والأموال هي دينهم وتلك الأعمال لو أرادوا بها الله والدار الآخرة لكان لهم ثواب في الآخرة عليها فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجلة بها فدخل في هذا من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان جنس العمل من العبادات أو غيرها
ثم قال سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا
وفي الذي وجهان أحسنهما أنها صفة المصدر أي كالخوض الذي خاضوه فيكون العائد محذوفا كما في قوله أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون وهو كثير فاش في اللغة
والثاني أنه صفة الفاعل أي كالفريق أو الصنف أو الجيل الذي خاضوه كما لو قيل كالذين خاضوا
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به أو يقع في العمل بخلاف الاعتقاد الحق والأول هو البدع ونحوها والثاني هو فسق الأعمال ونحوها
والأول من جهة الشبهات والثاني من جهة الشهوات
ولهذا كان السلف يقولون احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه وصاحب دنيا أعمته دنياه
وكانوا يقولون احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يتبعونه وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم
ووصف بعضهم أحمد بن حنبل فقال رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره وبالماضين ما كان أشبهه أتته البدع فنفاها والدنيا فأباها
وقد وصف الله أئمة المتقين فقال وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون فبالصبر تترك الشهوات وباليقين تدفع الشبهات
ومنه قوله في سورة العصر وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وقوله واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار
ومنه الحديث المرسل عن النبي صلى الله عليه و سلم إن الله يحب البصير الناقد عند ورود الشبهات ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات
فقوله سبحانه فاستمتعتم بخلاقكم إشارة إلى اتباع الشهوات وهو داء العصاة
وقوله وخضتم كالذي خاضوا إشارة إلى اتباع الشبهات وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات وكثيرا ما يجتمعان فقل من تجد في اعتقاده فسادا إلا وهو ظاهر في عمله وقد دلت الآية على أن الذين كانوا من قبل استمتعوا وخاضوا وهؤلاء فعلوا مثل أولئك
ثم قوله فاستمتعتم و خضتم خبر عن وقوع ذلك في الماضي وهو ذم لمن يفعله إلى يوم القيامة كسائر ما أخبر الله به عن أعمال وصفات الكفار والمنافقين عند مبعث عبده ورسوله محمد صلى الله عليه و سلم فإنه ذم لمن يكون حاله حالهم إلى يوم القيامة
وقد يكون خبرا عن أمر دائم مستمر لأنه وإن كان بضمير الخطاب فهو كالضمير في نحو قوله اعبدوا واغسلوا واركعوا واسجدوا وآمنوا كما أن جميع الموجودين في وقت النبي صلى الله عليه و سلم وبعده إلى يوم القيامة مخاطبون بهذا الكلام لأنه كلام الله وإنما الرسول مبلغ عن الله
وهذا مذهب عامة المسلمين وإن كان بعض من تكلم في أصول الفقه اعتمد أن ضمير الخطاب إنما يتناول الموجودين حين تبليغ الرسول وأن سائر الموجودين دخلوا إما بما علمناه بالاضطرار من استواء الحكم كما لو خاطب النبي صلى الله عليه و سلم واحدا من الأمة وإما بالسنة وإما بالاجماع وإما بالقياس فيكون كل من حصل منه هذا الاستمتاع والخوض مخاطبا بقوله فاستمتعتم وخضتم وهذا أحسن القولين
وقد توعد الله سبحانه هؤلاء المستمتعين الخائضين بقوله أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون
وهذا هو المقصود هنا من هذه الآية وهو أن الله قد أخبر أن في هذه الأمة
من استمتع بخلاقه كما استمتعت الأمم قبلهم وخاض كالذي خاضوا وذمهم على ذلك وتوعدهم على ذلك
ثم حضهم على الاعتبار بمن قبلهم فقال ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم قوم نوح وعاد وثمود الآية
وقد قدمنا أن طاعة الله ورسوله في وصف المؤمنين بإزاء ما وصف به هؤلاء من مشابهة القرون المتقدمة وذم من يفعل ذلك وأمره بجهاد الكفار والمنافقين بعد هذه الآية دليل على جهاد هؤلاء المستمتعين الخائضين
ثم هذا الذي دل عليه الكتاب مشابهة بعض هذه الأمة للقرون الماضية في الدنيا وفي الدين وذم من يفعل ذلك دلت عليه أيضا سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وتأول هذه الآية على ذلك أصحابه رضي الله عنهم
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لتأخذن كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعا بذراع وشبرا بشبر وباعا بباع حتى لو أن أحدا من أولئك دخل حجر ضب لدخلتموه قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم كالذين من قبلكمكانوا أشد منكم قوة الآية قالوا يا رسول الله كما صنعت فارس والروم وأهل الكتاب قال فهل الناس إلا هم
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية أنه قال ما أشبه الليلة بالبارحة هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا
وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال المنافقون الذين منكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا وكيف قال أولئك كانوا يخفون نفاقهم وهؤلاء أعلنوه
وأما السنة فجاءت بالإخبار بمشابهتهم في الدنيا وذم ذلك والنهي عن ذلك وكذلك في الدين
فأما الأول الذي هو الاستمتاع بالخلاق ففي الصحيحين عن عمرو بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فواوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف فتعرضوا له فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآهم ثم قال أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا أجل يا رسول الله فقال أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه لا يخاف على أمته فتنة الفقر وإنما يخاف بسط الدنيا وتنافسها وإهلاكها وهذا هو الاستمتاع بالخلاق المذكور في الآية
وفي الصحيحين عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض وإني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكن أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها وفي رواية ولكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها وتقتتلوا فتهلكوا كما هلك من كان قبلكم قال عقبة فكان آخر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إذا فتحت عليكم خزائن فارس والروم أي قوم أنتم قال عبد الرحمن بن عوف نكون كما أمرنا الله عز و جل فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم تنافسون ثم تحاسدون ثم تدابرون أو تباغضون أو غير ذلك ثم تنطلقون إلى مساكن المهاجرين فتحملوا بعضهم على رقاب بعض
وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم على المنبر وجلسنا حوله فقال إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح من زهرة الدنيا وزينتها فقال رجل أو يأتي الخير بالشر يا رسول الله فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم فقيل ما شأنك تكلم رسول الله ولا يكلمك وقال ورأينا أنه ينزل عليه فأفاق يمسح عنه الرحضاء وقال اين هذا السائل وكأنه حمده فقال إنه لا يأتي الخبر بالشر وفي رواية فقال أين السائل آنفا أو خير هو ثلاثا إن الخير لا يأتي إلا بالخير وإن مما
ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل أو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم وإنه من يأخذه بغير حقه كالذي يأكل ولا يشبع ويكون عليه شاهدا يوم القيامة
وروى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله سبحانه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
فحذر رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنة النساء معللا بأن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء
وهذا نظير ما سنذكره من حديث معاوية عنه صلى الله عليه و سلم أنه قال إنما هلك بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم يعني وصل الشعر
وكثير من مشابهات أهل الكتاب في أعيادهم وغيرها إنما يدعو إليها النساء
وأما الخوض كالذي خاضوا فروينا من حديث الثوري وغيره عن عبد الرحمن بن زياد بن أنغم الأفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إذا كان منهم من أتى أمة علانية كان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا من هي يا رسول الله قال ما أنا عليه اليوم وأصحابي رواه أبو عيسى الترمذي وقال هذا حديث غريب مفسر لا نعرفه إلا من هذا الوجه
وهذا الافتراق مشهور عن النبي صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه وسعد ومعاوية وعمرو بن عوف وغيرهم وإنما ذكرت حديث ابن عمرو لما فيه من المشابهة
فعن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح
وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وقال إنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه فلا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به محمد صلى الله عليه و سلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به
هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو عن الأزهر بن عبد الله الحرازي وعن أبي عامر عبد الله بن يحيى عن معاوية ورواه عنه غير واحد منهم أبو اليمان وبقية وأبو المغيرة رواه أحمد وأبو داود في سننه وقد روى ابن ماجه هذا المعنى من حديث صفوان بن عمرو عن راشد بن سعد عن عوف بن مالك الأشجعي ويروى من وجوه أخر
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم بافتراق أمته على ثلاث وسبعين فرقة واثنتان وسبعون لا ريب أنهم الذين خاضوا كخوض الذين من قبلهم
ثم هذا الاختلاف الذي أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم إما في الدين فقط وإما في الدين والدنيا ثم قد يؤول إلى الدنيا وقد يكون الاختلاف في الدنيا فقط
وهذا الاختلاف الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو مما نهى الله عنه في قوله سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وقوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وهو موافق لما رواه مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه أقبل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في طائفة من أصحابه من العالية حتى إذا مر بمسجد بني معاوية دخل فركع فيه ركعتين وصلينا معه ودعا ربه طويلا ثم انصرف إلينا فقال سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها وسألت ربي أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها
وروى أيضا في صحيحه عن ثوبان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما روى منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها أو قال من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين
لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى
وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه و سلم من غير وجه يشير إلى أن الفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة وكان يحذر أمته منه لينجو من الوقوع فيه من شاء الله له السلامة كما روى النزال بن سبرة عن عبد الله بن مسعود قال سمعت رجلا قرأ آية سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ خلافها فأخذت بيده فانطلقت به إلى النبي صلى الله عليه و سلم فذكرت ذلك له فعرفت في وجهه الكراهية وقال كلاكما محسن ولا تختلفوا فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه مسلم
نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين مامع الآخر من الحق لأن كلا القارئين كان محسنا فيما قرأه وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا ولهذا قال حذيفة لعثمان أدرك هذه الأمة لا تختلف في الكتاب كما اختلفت فيه الأمم قبلهم لما رأى أهل الشأم وأهل العراق يختلفون في حروف القرآن الاختلاف الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم
فأفاد ذلك شيئين
أحدهما تحريم الاختلاف في مثل هذا
والثاني الاعتبار بمن كان قبلنا والحذر من مشابهتهم
واعلم أن أكثر الاختلاف بين الأمة الذي يورث الأهواء تجده من هذا الضرب وهو أن يكون كل واحد من المختلفين مصيبا فيما يثبته أو في بعضه مخطئا في نفي ما عليه الآخر كما أن القارئين كل منهما كان مصيبا في القراءة بالحرف الذي علمه مخطئا في نفي حرف غيره فإن أكثر الجهل إنما يقع في النفي الذي هو الجحود والتكذيب لا في الإثبات لأن إحاطة الإنسان بما يثبته أيسر
من إحاطته بما ينفيه ولهذا نهيت هذه الأمة أن تضرب آيات الله بعضها ببعض لأن مضمون الضرب الإيمان بإحدى الآيتين والكفر بالأخرى إذا اعتقد أن بينهما تضادا إذ الضدان لا يجتمعان
ومثل ذلك ما رواه مسلم أيضا عن عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله ابن عمرو قال هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما فسمعت أصوات رجلين اختلفا في آية فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال إنما هلك من كان قبلكم من الأمم باختلافهم في الكتاب
فعلل غضبه صلى الله عليه و سلم بأن الاختلاف في الكتاب هو كان سبب هلاك من قبلنا وذلك يوجب مجانبة طريقهم في هذا عينا وفي غيره نوعا
والاختلاف على ما ذكره الله في القرآن قسمان
أحدهما أنه يذم الطائفتين جميعا كما في قوله ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف وكذلك قوله ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وكذلك قوله وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم وقوله ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقوله إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء وكذلك وصف اختلاف النصارى بقوله فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون ووصف اختلاف اليهود بقوله وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله وقال فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون
وكذلك النبي صلى الله عليه و سلم لما وصف أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة قال كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وفي الرواية الأخرى من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي
فبين أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا فرقة واحدة وهم أهل السنة والجماعة
وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد ونحو ذلك فيجب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته ليتميز عليه أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له وما أكثر هذا في بني آدم وهذا ظلم
ويكون سببه تارة أخرى جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا
والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا
أما أنواع الاختلاف فهي في الأصل قسمان اختلاف تنوع واختلاف تضاد
واختلاف التنوع على وجوه منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة حتى زجرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الاختلاف وقال كلاكما محسن
ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة والاستفتاح
والتشهدات وصلاة الخوف وتكبيرات العيد وتكبيرات الجنازة إلى غير ذلك مما شرع جميعه وإن كان قد يقال إن بعض أنواعه أفضل
ثم نجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم كاختلافهم على شفع الإقامة وإيثارها ونحو ذلك وهذا عين المحرم ومن لم يبلغ هذا المبلغ فتجد كثيرا منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر أو النهي عنه ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم
ومنه ما يكون كل من القولين هو في الواقع في معنى قول الآخر لكن العبارتان مختلفتان كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود والتعريفات وصيغ الأدلة والتعبير عن المسميات وتقسيم الأحكام وغير ذلك ثم الجهل أو الظلم هو الذي يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى
ومنه ما يكون المعنيان غيرين لكن لا يتنافيان فهذا قول صحيح وذلك قول صحيح وإن لم يكن معنى أحدهما هو معنى الآخر وهذا كثير في المنازعات جدا
ومنه ما يكون طريقتان مشروعتان ولكن قد سلك رجل أو قوم هذه الطريقة وآخرون قد سلكوا الأخرى وكلاهما حسن في الدين ثم الجهل أو الظلم يحمل على ذم أحدهما أو تفضيله بلا قصد صالح أو بلا علم أو بلا نية
وأما اختلاف التضاد فهو القولان المتنافيان إما في الأصول وإما في الفروع عند الجمهور الذين يقولون المصيب واحد وإلا فمن قال كل مجتهد مصيب فعنده هو من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد
فهذا الخطب فيه أشد لأن القولين يتنافيان لكن نجد كثيرا من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما أو معه دليل يقتضي حقا ما فيرد الحق في هذا الأصل كله حتى يبقى هذا مبطلا في البعض كما كان الأول مبطلا في الأصل كما رأيته لكثير من أهل السنة في مسائل القدر والصفات والصحابة
وغيرهم وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر وكما رأيته لكثير من الفقهاء أو لأكثر المتأخرين في مسائل الفقه وكذلك رأيت منه كثيرا بين بعض المتفقهة وبعض المتصوفة وبين فرق المتصوفة ونظائره كثيرة
ومن جعل الله له هداية ونورا رأى من هذا ما يتبين له به منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه وإن كانت القلوب الصحيحه تنكر هذا ابتداء لكن نور على نور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور
وهذا القسم الذي سميناه اختلاف التنوع كل واحد من المختلفين مصيب فيه بلا تردد لكن الذم واقع على من بغى على الآخر فيه وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل هذا إذا لم يحصل من أحداهما بغي كما في قوله ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وقد كان الصحابة في حصار بني النضير اختلفوا في قطع الأشجار والنخيل فقطع قوم وترك آخرون وكما في قوله وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالعلم والحكم
وكما في إقرار النبي صلى الله عليه و سلم يوم بني قريظة وقد كان أمر المنادي ينادي لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة من صلى العصر في وقتها ومن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة وكما في قوله صلى الله عليه و سلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد ولم يصب فله أجر ونظائره كثيرة
وإذا جعلت هذا قسما آخر صار الاختلاف ثلاثة اقسام
وأما القسم الثاني من الاختلاف المذكور في كتاب الله فهو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم فيه الأخرى كما في قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات
وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا
فقوله ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر حمد لإحدى الطائفتين وهم المؤمنون وذم للآخرى
وكذلك قوله هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية مع ما ثبت في الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه أنها نزلت في المقتتلين يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث والذين بارزوهم من قريش وهم عتبة وشيبة والوليد بن عتبة
وأكثر الاختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول وكذلك آل إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ولا تنصفها بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل والأخرى كذلك
وكذلك جعل الله مصدر الإختلاف البغي في قوله وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم لأن البغي مجاوزة الحد وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة
وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم
فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به معللا ذلك بأن سبب هلاك الأولين
إنما كان لكثرة السؤال ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية كما أخبرنا الله عن بني إسرائيل من مخالفتهم أمر موسى في الجهاد وغيره وفي كثرة سؤالهم عن صفات البقرة التي أمرهم بذبحها
لكن هذا الاختلاف على الأنبياء هو والله أعلم مخالفة للأنبياء كما يقال اختلف الناس على الأمير إذا خالفوه
والاختلاف الأول مخالفة بعضهم بعضا وإن كان الأمران متلازمين أو أن الاختلاف على الأنبياء هو الاختلاف فيما بينهم فإن اللفظ يحتمله
ثم الاختلاف كله قد يكون في التنزيل والحروف كما في حديث ابن مسعود وقد يكون في التأويل كما يحتمله حديث عبد الله بن عمرو فإن حديث عمرو ابن شعيب يدل على ذلك إن كانت هذه القصة
قال أحمد في المسند حدثنا إسماعيل حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن نفرا كانوا جلوسا بباب النبي صلى الله عليه و سلم فقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا وقال بعضهم ألم يقل الله كذا وكذا فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان فقال أبهذا أمرتم أو بهذا بعثتم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض إنما ضلت الأمم قبلكم بمثل هذا إنكم لستم مما ههنا في شيء انظروا الذي أمرتكم به فاعملوا به والذي نهيتكم عنه فانتهواعنه
وقال حدثنا يونس حدثنا حماد بن سلمة عن حميد ومطر الوراق وداود ابن أبي هند أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر فذكر الحديث
وقال أحمد حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حمر النعم أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم جلوس
عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القرآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول مهلا يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه
وقال أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر قال فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب قال فقال لهم ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض بهذا هلك من كان قبلكم قال فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس إذا لم أشهده
هذا حديث محفوظ عن عمرو بن شعيب رواه عنه الناس ورواه ابن ماجه في سننه من حديث أبي معاوية كما سقناه
وقد كتب أحمد في رسالته إلى المتوكل هذا الحديث وجعل يقول لهم في مناظرته يوم الدار إنا قد نهينا أن نضرب كتاب الله بعضه ببعض
وهذا لعلمه رحمه الله بما في خلاف هذا الحديث من الفساد العظيم
وقد روى هذا المعنى الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وقال حديث حسن غريب قال وفي الباب عن عمر وعائشة وأنس
وهذا باب واسع لم نقصد له ههنا وإنما الغرض التنبيه على ما يخاف على الأمة من موافقة الأمم قبلها إذ الأمر في هذا الحديث كما قاله رسول الله صلى الله عليه و سلم أصل هلاك بني آدم إنما كان التنازع في القدر وعنه نشأ مذهب المجوس القائلين بالأصلين النور والظلمة ومذهب الصابئة وغيرهم القائلين
بقدم العالم ومذاهب كثير من مجوس هذه الأمة وغيرهم ومذاهب كثير ممن عطل الشرائع
فإن القوم تنازعوا في علة فعل الله سبحانه وتعالى لما فعله فأرادوا أن يثبتوا شيئا يستقيم لهم به تعليل فعله بمقتضى قياسه سبحانه على المخلوقات فوقعوا في غاية الضلال إما بأن زعموا أن فعله ما زال لازما له وإما بأن زعموا أن الفاعل اثنان وإما بأن زعموا بأنه يفعل البعض والخلق يفعلون البعض وإما بأن ما فعله لم يأمر بخلافه وما أمر به لم يقدر خلافه
وذلك حين عارضوا بين فعله وأمره حتى أقر فريق بالقدر وكذبوا بالأمر وأقر فريق بالأمر وكذبوا بالقدر حين اعتقدوا جميعا أن اجتماعهما محال وكل منهما مبطل بالتكذيب بما صدق به الآخر
وأكثر ما يكون ذلك لوقوع المنازعة في الشيء قبل إحكامه وجمع حواشيه وأطرافه ولهذا قال ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه
والغرض من ذكر هذه الأحاديث هو التنبيه من الحديث والسنة على مثل ما في القرآن من قوله تعالى وخضتم كالذي خاضوا
ومن ذلك ما روى الزهري عن سنان بن أبي سنان الدؤلي عن أبي واقد الليثي أنه قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى حنين ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينيطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه مالك والنسائي والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح ولفظه لتركبن سنة من كان قبلكم
وقد قدمت ما خرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه و سلم قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن
وما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع قالوا فارس والروم قال فمن الناس إلا أولئك
وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات
فعلم أن مشابهة هذه الأمة اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذمه الله ورسوله وهو المطلوب
ولا يقال فإذا كان الكتاب والسنة قد دلا على وقوع ذلك فما فائدة النهي عنه لأن الكتاب والسنة أيضا قد دلا على أنه لا يزال في هذه الأمة طائفة متمسكة بالحق الذي بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم إلى قيام الساعة وأنها لا تجتمع على ضلالة ففي النهي عن ذلك تكثير لهذه الطائفة المنصورة وتثبيتها وزيادة إيمانها فنسأل الله المجيب أن يجعلنا منها
وأيضا لو فرض أن الناس لا يترك أحد منهم هذه المشابهة المنكرة لكان في العلم بها معرفة القبيح والإيمان بذلك فإن نفس العلم والإيمان بما كرهه الله خير وإن لم يعمل به بل فائدة العلم والإيمان أعظم من فائدة مجرد العمل الذي لم يقترن به علم فإن الإنسان إذا عرف المعروف وأنكر المنكر كان خيرا من أن يكون ميت القلب لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه و سلم قال من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان رواه مسلم
وفي لفظ ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل
وإنكار القلب هو الإيمان بأن هذا منكر وكراهته لذلك
فإذا حصل هذا كان في القلب إيمان وإذا فقد القلب معرفة هذا المعروف وإنكار هذا المنكر ارتفع هذا الإيمان من القلب
وأيضا فقد يستغفر الرجل من الذنب مع إصراره عليه أو يأتي بحسنات تمحوه أو تمحو بعضه وقد تقلل منه وقد تضعف همته في طلبه إذا علم أنه منكر
ثم لو فرض أنا علمنا أن الناس لا يتركون المنكر ولا يعترفون بأنه منكر لم يكن ذلك مانعا من إبلاغ الرسالة وبيان العلم بل ذلك لا يسقط وجوب الإبلاغ ولا وجوب الأمر والنهي في إحدى الروايتين عن أحمد وقول كثير من أهل العلم على أن هذا ليس موضع استقصاء ذلك ولله الحمد على ما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم من أنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله
وليس هذا الكلام من خصائص هذه المسألة بل هو وارد في كل منكر قد أخبر الصادق بوقوعه
ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم قال قتادة وغيره كانت اليهود تقوله استهزاء فكره الله للمؤمنين أن يقولوا مثل قولهم وقال أيضا كانت اليهود تقول للنبي صلى الله عليه و سلم راعنا سمعك يستهزؤن بذلك وكانت في اليهود قبيحة
وروى أحمد عن عطية العوفي قال كان يأتي ناس من اليهود فيقولون راعنا سمعك حتى قالها ناس من المسلمين فكره الله لهم ما قالت اليهود
وقال عطاء كانت لغة في الأنصار في الجاهلية وقال أبو العالية إن
مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه راعني سمعك فنهوا عن ذلك وكذلك قال الضحاك
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهي المسلمون عن قولها لأن اليهود كانوا يقولونها وإن كانت من اليهود قبيحة ومن المسلمين لم تكن قبيحة لما كانت مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار وطريقهم إلى بلوغ غرضهم
وقال سبحانه إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون
ومعلوم أن الكفار فرقوا دينهم وكانوا شيعا كما قال سبحانه ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وقال وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة وقال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وقال عن اليهود وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة
وقد قال تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام لست منهم في شيء وذلك يقتضي تبرؤه منهم في جميع الأشياء ومن تابع غيره في بعض أموره فهو منه في ذلك الأمر لأن قول القائل أنا من هذا وهذا مني أي أنا من نوعه وهو من نوعي لأن الشخصين لا يتحدان إلا بالنوع كما في قوله تعالى بعضكم من بعض وقوله عليه الصلاة و السلام لعلي أنت مني وأنا منك
فقول القائل لست من هذا في شيء أي لست مشاركا له في شيء بل أنا متبرئ من جميع أموره
وإذا كان الله قد برأ رسوله صلى الله عليه و سلم من جميع أمورهم فمن كان
متبعا للرسول صلى الله عليه و سلم حقيقة كان متبرئا منهم كتبرئه صلى الله عليه و سلم منهم ومن كان موافقا لهم كان مخالفا للرسول بقدر موافقته لهم
فإن الشخصين المختلفين من كل وجه في دينهما كلما شابهت أحدهما خالفت الآخر
وقال سبحانه وتعالى لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين
وقد روى مسلم في صحيحه عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآيات اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم بركوا على الركب فقالوا أي رسول الله كلفنا ما نطيق من الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد نزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى في إثرها آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك
المصير فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال نعم ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال نعم ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به قال نعم واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين قال نعم
فحذرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يتلقوا أمر الله بما تلقاه به أهل الكتابين وأمرهم بالسمع والطاعة فشكر الله لهم ذلك حتى رفع الله عنهم الآصار والأغلال التي كانت على من كان قبلهم
وقال الله في صفته صلى الله عليه و سلم ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فأخبر الله سبحانه أن رسوله عليه الصلاة و السلام يضع الآصار والأغلال التي كانت على أهل الكتاب
ولما دعا المؤمنون بذلك أخبرهم الرسول أن الله قد استجاب دعاءهم
وهذا وإن كان رفعا للإيجاب والتحريم فإن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته قد صح ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم وكذلك كان النبي عليه الصلاة و السلام يكره مشابهة أهل الكتابين في هذه الآصار والأغلال وزجر أصحابه عن التبتل وقال لا رهبانية في الإسلام وأمر بالسحور ونهى عن المواصلة وقال فيما يعيب أهل الكتابين ويحذرنا عن موافقتهم فتلك بقاياهم في الصوامع وهذا باب واسع جدا
وقال سبحانه وتعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وقال سبحانه ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم يعيب بذلك المنافقين الذين تولوا اليهود إلى قوله
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو ابناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه إلى قوله أولئك حزب الله الا أن حزب الله هم المفلحون وقال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياه بعض إلى قوله والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلى قوله والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم الآيات
فعقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار وبين من آمن من بعدهم وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه والجهاد باق إلى يوم القيامة
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد والنفوس القوية قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات
وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين وهم أمة محمد صلى الله عليه و سلم الذين آمنوا به إيمانا صادقا
وقال إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ونظائر هذا في غير موضع من القرآن يأمر سبحانه بموالاة المؤمنين حقا الذين هم حزبه وجنده ويخبر أن هؤلاء لا يوالون الكافرين ولا يوادونهم
والموالاة والموادة وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أهون على المؤمن من مقاطعة الكافرين ومباينتهم
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سببا قريبا أو بعيدا إلى نوع ما
من الموالاة والموادة فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوع ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة وتدل عليه العادة ولهذا كان السلف رضي الله عنهم يستدلون بهذه الآيات على ترك الاستعانة بهم في الولايات
فروى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال قلت لعمر رضي الله عنه إن لي كاتبا نصرانيا قال مالك قاتلك الله أما سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ألا اتخذت حنيفا قال قلت يا أمير المؤمنين لي كتابته وله دينه قال لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله
ولما دل عليه معنى الكتاب وجاءت به سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها بمخالفتهم وترك التشبه بهم
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم أمر بمخالفتهم
وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرا مقصودا للشارع لأنه إن كان الأمر بجنس المخالفة حصل المقصود وإن كان الأمر بالمخالفة في تغيير الشعر فقط فهو لأجل ما فيه من المخالفة فالمخالفة إما علة مفردة أو علة أخرى أو بعض علة
وعلى جميع التقديرات تكون مأمورا بها مطلوبة للشارع لأن الفعل المأمور به إذا عبر عنه بلفظ مشتق من معنى أعم من ذلك الفعل فلا بد أن يكون ما منه الاشتقاق أمرا مطلوبا لا سيما إن ظهر لنا أن المعنى المشتق منه معنى مناسب للحكمة كما لو قيل للضيف أكرمه بمعنى أطعمه وللشيخ الكبير وقره بمعنى اخفض صوتك له أو نحوه وذلك لوجوه
أحدها أن الأمر إذا تعلق باسم مفعول مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة
للحكم كما في قوله عز و جل فاقتلوا المشركين وقوله فأصلحوا بين أخويكم وقول النبي صلى الله عليه و سلم عودوا المريض وأطعموا الجائع وفكوا العاني وهذا كثير معلوم
فإذا كان نفس الفعل المأمور به مشتقا من معنى أعم منه كان نفس الطلب والاقتضاء قد علق بذلك المعنى الأعم فيكون مطلوبا بطريق الأولى
الوجه الثاني أن جميع الأفعال مشتقة سواء كانت هي مشتقة من المصدر أو كان المصدر مشتقا منها أو كان كل واحد منهما مشتقا من الآخر بمعنى أن بينهما مناسبة في اللفظ والمعنى لا بمعنى أن أحدهما أصل والآخر فرع بمنزلة المعاني المتضايفة كالأبوة والبنوة أو كالأخوة من الجانبين ونحو ذلك
فعلى كل حال إذا أمر بفعل كان نفس مصدر الفعل أمرا مطلوبا للآمر مقصودا له كما في قوله واتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين وفي قوله آمنوا بالله ورسوله وفي قوله اعبدوا الله ربي وربكم وفي قوله فعليه توكلوا فإن نفس التقوى والإحسان والإيمان والعبادة والتوكل أمور مطلوبة مقصودة بل هي نفس المأمور به
ثم المأمور به أجناس لا يمكن أن تقع إلا معينة وبالتعيين تقترن بها أمور غير مقصودة الفعل للآمر لكن لا يمكن العبد إيقاع الفعل المأمور به إلا مع أمور معينة له فإنه إذا قال فتحرير رقبة فلا بد إذا أعتق العبد رقبة أن يقترن بهذا المطلق تعيين من سواد أو بياض أو طول أو قصر أو عربية أو عجمية أو غير ذلك من الصفات لكن المقصود هو المطلق المشترك من هذه المعينات
وكذلك إذا قيل اتقوا الله وخالفوا اليهود فان التقوى تارة تكون بفعل واجب من صلاة أو صيام وتارة تكون بترك محرم من كفر أو زنا أو نحو ذلك فخصوص ذلك الفعل إذا دخل في التقوى لم يمنع دخول غيره
فإذا رؤي رجل هم بزنا فقيل له اتق الله كان أمرا له بعموم التقوى داخلا فيه الأمر بخصوص ترك ذلك الزنا لأن سبب اللفظ العام لا بد أن يدخل فيه
كذلك إذا قيل إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم كان أمرا بعموم المخالفة داخلا فيه المخالفة بصبغ اللحية لأنه سبب اللفظ العام
وسببه أن الفعل فيه عموم وإطلاق لفظي ومعنوي فيجب الوفاء به
وخروجه على سبب توجب أن يكون داخلا فيه لا يمنع أن يكون غيره داخلا فيه
وإن قيل إن اللفظ العام يقصر على سببه لأن العموم ههنا من جهة المعنى فلا يقبل من التخصيص ما يقبله العموم اللفظي
فإن قيل الأمر بالمخالفة أمر بالحقيقة المطلقة وذلك لا عموم فيه بل يكفي فيه المخالفة في أمر ما وكذلك سائر ما يذكرونه فمن أين اقتضى ذلك المخالفة في غير ذلك الفعل المعين
قلت هذا سؤال قد يورده بعض المتكلمين في عامة الأفعال المأمور بها ويلبسون به على الفقهاء
وجوابه من وجهين
أحدهما أن التقوى والمخالفة ونحو ذلك من الأسماء والأفعال المطلقة قد يكون العموم فيها من جهة عموم الكل لأجزائه لا من جهة عموم الجنس لأنواعه
فإن العموم ثلاثة أقسام عموم الكل لأجزائه وهو ما لا يصدق فيه الاسم العام ولا أفراده على جزئه
والثاني عموم الجمع لأفراده وهو ما يصدق فيه أفراد الاسم العام على آحاده
والثالث عموم الجنس لأنواعه وأعيانه وهو ما يصدق فيه نفس الاسم العام على أفراده
فالأول عموم الكل لأجزائه في الأعيان والأفعال والصفات كما في قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فإن اسم الوجه يعم الخد والجبين والجبهة
ونحو ذلك وكل واحد من هذه الأجزاء ليس هو الوجه فإذا غسل بعض هذه الأجزاء لم يكن غاسلا للوجه لانتفاء المسمى بانتفاء جزئه
وكذلك في الصفات والأفعال إذا قيل صل فصلى ركعة وخرج بغير سلام أو قيل صم فصام بعض يوم لم يكن ممتثلا لانتفاء معنى الصلاة المطلقة والصوم المطلق
وكذلك إذا قيل أكرم هذا الرجل فأطعمه وضربه لم يكن ممتثلا لأن الإكرام المطلق يقتضي فعل ما يسره وترك ما يسوؤه كما قال النبي صلى الله عليه و سلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه فلو أطعمه بعض كفايته وتركه جائعا لم يكن مكرما له لانتفاء أجزاء الإكرام ولا يقال الإكرام حقيقة مطلقة وذلك يحصل باطعام أي شيء ولو لقمة
وكذلك إذا قال خالفوهم فالمخالفة المطلقة تنافي الموافقة في بعض الأشياء أو في أكثرها على طريق التساوي لأن المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فيكون الأمر بأحدهما نهيا عن الآخر
ولا يقال إذا خالف في شيء ما فقد حصلت المخالفة كما لا يقال إذا وافقه في شيء ما فقد حصلت الموافقة
وسر ذلك الفرق بين مفهوم اللفظ المطلق وبين المفهوم المطلق من اللفظ فإن اللفظ يستعمل مطلقا ومقيدا فإذا أخذت المعنى المشترك بين جميع موارده مطلقها ومقيدها كان أعم من المعنى المفهوم منه عند إطلاقه وذلك المعنى المطلق يحصل بحصول بعض مسميات اللفظ في أي استعمال حصل من استعمالاته المطلقة أو المقيدة
وأما معناه في حال إطلاقه فلا يحصل بعض معانيه عند التقييد بل يقتضي أمورا كثيرة لا يقتضيها اللفظ المقيد فكثيرا ما يغلط الغالطون هنا
ألا ترى أن الفقهاء يفرقون بين الماء المطلق وبين المائية المطلقة الثابتة في
المني والمتغيرات وسائر المائعات فأنت تقول عند التقييد أكرم الضيف بإعطائه هذا الدرهم فهذا إكرام مقيد فإذا قلت أكرم الضيف كنت آمرا بمفهوم اللفظ المطلق وذلك يقتضي أمورا لا تحصل بحصول إعطائه الدرهم فقط
وأما القسم الثاني من أقسام العموم فهو عموم الجنس لأفراده كما يعم قوله تعالى اقتلوا المشركين كل مشرك
والقسم الثالث من أقسام العموم عموم الجنس لأعيانه كما يعم قوله صلى الله عليه و سلم لا يقتل مسلم بكافر جميع أنواع القتل المسلم والكافر إذا تبين هذا فالمخالفة المطلقة لا تحصل بالمخالفة في شيء ما إذا كانت الموافقة قد حصلت في أكثر منه وإنما تحصل بالمخالفة في جميع الأشياء أو في غالبها إذ المخالفة المطلقة ضد الموافقة المطلقة فلا يجتمعان بل الحكم للغالب
وهذا تحقيق جيد لكنه مبني على مقدمة وهي أن المفهوم من لفظ المخالفة عند الإطلاق يعم المخالفة في عامة الأمور الظاهرة
فإن خفي هذا الموضع المعين فخذ في الوجه الثاني وهو العموم المعنوي وهو أن المخالفة مشتقة فإنما أمر بها لمعنى كونها مخالفة كما تقدم تقريره وذلك ثابت في كل فرد من الأفراد المخالفة فيكون العموم ثابتا من جهة المعنى المعقول
وبهذين الطريقين يتقرر العموم في قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار وغير ذلك من الأفعال وإن كان أكثر الناس إنما يفزعون إلى الطريق الثاني وقل منهم من يتفطن للطريق الأول وهذا أبلغ إذا صح
ثم نقول هب أن الإجزاء يحصل بأي يسمى مخالفة لكن الزيادة على القدر المجزئ مشروعة إذ كان الأمر مطلقا كما في قوله اركعوا واسجدوا ونحو ذلك من الأوامر المطلقة
الوجه الثالث في أصل التقرير أن العدول بالأمر عن لفظ الفعل الخاص به إلى لفظ أعم منه معنى كالعدول به عن لفظ أطعمه إلى لفظ أكرمه وعن لفظ فاصبغوا إلى لفظ فخالفوهم لا بد له من فائدة وإلا فمطابقة اللفظ
للمعنى أولى من إطلاق اللفظ العام وإرادة الخاص وليست هنا فائدة تظهر إلا تعلق القصد بذلك المعنى العام المشتمل على هذا الخاص وهذا بين عند التأمل
الوجه الرابع أن العلم بالعام عاما يقتضي العلم بالخاص والقصد للمعنى العام عاما يوجب القصد للمعنى الخاص فإنك إذا علمت أن كل مسكر خمر وعلمت أن النبيذ مسكر كان علمك بذلك الأمر العام وبحصوله في الخاص موجبا لعلمك بوصف الخاص كذلك إذا كان قصدك طعاما مطلقا أو مالا مطلقا وعلمت وجود طعام معين أو مال معين في مكان حصل قصدك له إذ العلم والقصد يتطابقان في مثل هذا والكلام يبين مراد المتكلم ومقصوده
فإذا أمر بفعل باسم دال على معنى عام مريدا به فعلا خاصا كان ما ذكرناه من الترتيب الحكمي يقتضي أنه قاصد بالأولى لذلك المعنى العام وأنه إنما قصد ذلك الفعل الخاص لحصوله به
ففي قوله أكرمه طلبان طلب للإكرام المطلق وطلب لهذا الفعل الذي يحصل به المطلق وذلك لأن حصول المعين مقتض لحصول المطلق وهذا معنى صحيح إذا صادف فطنة من الإنسان وذكاء انتفع به في كثير من المواضع وعلم به طريق البيان والدلالة
بقي أن يقال هذا يدل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وهذا صحيح لكن قصد الجنس قد يحصل الاكتفاء فيه بالمخالفة في بعض الأمور فما زاد على ذلك لا حاجة إليه
قلت إذا ثبت أن الجنس مقصود في الجملة كان ذلك حاصلا في كل فرد من أفراده ولو فرض أن الوجوب سقط بالبعض لم يرفع حكم الاستحباب عن الباقي
وأيضا فإن ذلك يقتضي النهي عن موافقتهم لأنه من قصد مخالفتهم بحيث
أمرنا بإحداث فعل يقتضي مخالفتهم فيما لم تكن الموافقة فيه من فعلنا ولا قصدنا فكيف لا ينهانا عن أن نفعل فعلا فيه موافقتهم سواء قصدنا موافقتهم أو لم نقصدها
الوجه الخامس أنه رتب الحكم على الوصف بحرف الفاء فيدل هذا الترتيب على أنه علة له من غير وجه حيث قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم فإنه يقتضي أن علة الأمر بهذه المخالفة كونهم لا يصبغون فالتقدير اصبغوا لأنهم لا يصبغون وإذا كان علة الأمر بالفعل عدم فعلهم له دل على أن قصد المخالفة لهم ثابت بالشرع وهو المطلوب
يوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ لم يكن لذكرهم فائدة ولا حسن تعقيبه به
وهذا وإن دل على أن مخالفتهم أمر مقصود للشرع فذلك لا ينفي أن تكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين
أحدهما أن نفس المخالفة لهم في الهدى الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من مرض القلب الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان
والثاني أن نفس ما هم عليه من الهدى والخلق قد يكون مضرا أو منقصا فينهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها مضرة وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله فهو يقبل الزيادة والنقص
فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملا قط
فإذا المخالفة فيها منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا حتى ما هم عليه من إتقان أمور دنياهم قد يكون مضرا بآخرتنا أو بما هو أهم منه من أمر دنيانا فالمخالفة فيه صلاح لنا
وبالجملة فالكفر بمنزلة مرض القلب أو اشد ومتى كان القلب مريضا لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة وإنما الصلاح أن لا تشابه مريض القلب في شيء من أموره وإن خفي عليك مرض ذلك العضو لكن يكفيك أن فساد الأصل لا بد أن يؤثر في الفرع ومن انتبه لهذا قد يعلم بعض الحكمة التي أنزلها الله فإن من في قلبه مرض قد يرتاب في الأمر بنفس المخالفة لعدم استبانته لفائدته أو يتوهم أن هذا من جنس أمر الملوك والرؤساء القاصدين للعلو في الأرض ولعمري إن النبوة غاية الملك الذي يؤتيه الله من يشاء وينزعه ممن يشاء ولكن ملك النبوة هو غاية صلاح من أطاع الرسول من العباد في معاشه ومعاده
وحقيقة الأمر أن جميع أعمال الكافر وأموره لا بد فيها من خلل يمنعها أن تتم له منفعة بها ولو فرض صلاح شيء من أموره على التمام لاستحق بذلك ثواب الآخرة ولكن كل أموره إما فاسدة وإما ناقصة
فالحمد لله على نعمة الإسلام التي هي أعظم النعم وأم كل خير كما يحب ربنا ويرضى
فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة ولهذا كان الإمام أحمد بن حنبل وغيره من الأئمة رضي الله عنهم يعللون الأمر بالصبغ بعلة المخالفة
قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول ما أحب لأحد إلا أن يغير الشيب
ولا يتشبه بأهل الكتاب لقول النبي صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا بأهل الكتاب
وقال إسحاق بن إبراهيم سمعت أبا عبد الله يقول لأبي يا أبا هاشم اختضب ولو مرة واحدة فأحب لك أن تختضب ولا تشبه باليهود
وهذا اللفظ الذي احتج به أحمد قد رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود قال الترمذي حديث حسن صحيح
وقد رواه النسائي من حديث محمد بن كناسة عن هاشم بن عروة عن عثمان ابن عروة عن أبيه عن الزبير عن النبي صلى الله عليه و سلم قال غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ورواه أيضا من حديث عروة عن عبد الله بن عمر لكن قال النسائي كلاهما ليس بمحفوظ
وقال الدارقطني المشهور عن عروة مرسلا
وهذا اللفظ أدل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم فإنه إذا نهى عن التشبه بهم في بقاء بياض الشيب الذي ليس من فعلنا فلأن ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى ولهذا كان هذا التشبه بهم يكون محرما بخلاف الأول
وأيضا ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه
فأمر بمخالفة المشركين مطلقا ثم قال أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى وهذه الجملة الثانية بدل من الأولى فإن الإبدال يقع في الجمل كما يقع في المفردات كقوله تعالى يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم
فهذا الذبح والاستحياء هو سوم العذاب كذلك هنا هذا هو المخالفة للمشركين المأمور بها هنا لكن الأمر بها أولا
فلفظ مخالفة المشركين دليل على أن جنس المخالفة أمر مقصود للشارع وإن عينت هنا في هذا الفعل فإن تقديم المخالفة علة تقديم العام على الخاص كما يقال أكرم ضيفك أطعمه وحادثه فأمرك بالإكرام أولا دليل على أن إكرام الضيف مقصود ثم عينت الفعل الذي يكون إكرامه إكراما له في ذلك الوقت
والتقرير من هذا الحديث شبيه بالتقرير من قوله لا يصبغون فخالفوهم وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم جزوا الشوارب وأرخوا اللحى خالفوا المجوس
فعقب الأمر بالوصف المشتق المناسب وذلك دليل على أن مخالفة المجوس أمر مقصود للشارع وهو العلة في هذا الحكم أو علة أخرى أو بعض علة وإن كان الأظهر عند الإطلاق أنه علة تامة
ولهذا لما فهم السلف كراهة التشبه بالمجوس في هذا وغيره كرهوا أشياء غير منصوصة بعينها عن النبي صلى الله عليه و سلم من هدى المجوس
وقال المروزي سألت أبا عبد الله يعني أحمد بن حنبل عن حلق القفا فقال هو من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم
قال أيضا قيل لأبي عبد الله تكره للرجل أن يحلق قفاه أو وجهه فقال أما أنا فلا أحلق قفاي وقد روي فيه حديث مرسل عن قتادة في كراهيته وقال إن حلق القفا من فعل المجوس
قال وكان أبو عبد الله يحلق قفاه وقت الحجامة
وقال أحمد أيضا لا بأس أن يحلق قفاه قبل الحجامة وقد روى عنه ابن منصور قال سألت أحمد عن حلق القفا فقال لا أعلم فيه حديثا إلا ما يروى عن إبراهيم أنه كره قردايرقوس ذكر الخلال هذا وغيره
وذكر أيضا بإسناده عن الهيثم بن حميد قال حف القفا من شكل المجوس
وعن المعتمر بن سليمان التيمي قال كان أبي إذا جز شعره لم يحلق قفاه قيل له لم قال كان يكره أن يتشبه بالعجم
والسلف تارة يعللون الكراهة بالتشبه بأهل الكتاب وتارة بالتشبه بالأعاجم
وكلا العلتين منصوص في السنة مع أن الصادق صلى الله عليه و سلم قد أخبر بوقوع المشابهة لهؤلاء وهؤلاء كما قدمنا بيانه
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خفافهم رواه أبو داود
وهذا مع أن نزع اليهود نعالهم مأخوذ عن موسى عليه السلام لما قيل له فاخلع نعليك
وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب إكلة السحر
رواه مسلم في صحيحه
وهذا يدل على أن الفصل بين العبادتين أمر مقصود للشارع
وقد صرح بذلك فيما رواه أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون
وهذا نص في أن ظهور الدين حاصل بتعجيل الفطر هو لأجل مخالفة اليهود والنصارى
وإذا كانت مخالفتهم سببا لظهور الدين فإنما المقصود بإرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله فتكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة
وهكذا روى أبو داود من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال لا تزال أمتي بخير أو قال على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم
ورواه ابن ماجة من حديث العباس ورواه الإمام أحمد من حديث السائب ابن بريد وقد جاء مفسرا تعليله لا يزالون بخير ما لم يؤخرواالمغرب إلى طلوع النجوم مضاهاة لليهود وما لم يؤخروا الفجر إلى محاق النجوم مضاهاة للنصرانية
وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الصلت بن بهرام عن الحارث بن وهب عن عبد الرحمن الصنابحي قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تزال أمتي على مسكة ما لم ينتظروا بالمغرب اشتباك النجوم مضاهاة لليهودية ومالم ينتظروا بالفجر محاق النجوم مضاهاة للنصرانية وما لم يكلوا الجنائز إلى أهلها
وقال سعيد بن منصور حدثنا عبيد الله بن زياد بن لقيط عن أبيه عن ليلى امرأة بشر بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة فنهاني عنه بشر وقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهاني عن ذلك وقال إنما يفعل ذلك النصارى صوموا كما أمركم الله وأتموا الصوم كما أمركم الله ثم أتموا الصيام إلى الليل فإذا كان الليل فأفطروا وقد رواه أحمد في المسند
فعلل النهي عن الوصال بأنه صوم النصارى وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ويشبه أن يكون من رهبانيتهم التي ابتدعوها
وعن حماد عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم النبي صلى الله عليه و سلم فأنزل الله عز و جل ويسألونك عن المحيض إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم اصنعوا كل شيء
إلا النكاح فبلغ ذلك اليهود فقالوا ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيءا إلا خالفنا فيه فجاء أسيد بن حصير وعباد بن بشر فقالا يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا أفلا نجامعهن فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنه لم يجد عليهما رواه مسلم
فهذا الحديث يدل على كثرة ما شرعه الله لنبيه من مخالفة اليهود بل على أنه خالفهم في عامة أمورهم حتى قالوا ما يريد أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه
ثم إن المخالفة كما سنبينها تارة تكون في أصل الحكم وتارة في وصفه
ومجانبة الحائض لم يخالفوا في أصلها بل خالفوا في وصفها حيث شرع الله مقاربة الحائض في غير محل الأذى فلما أراد بعض الصحابة أن يتعدى في المخالفة إلى ترك ما شرعه الله تغير وجه رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهذا الباب باب الطهارة كان على اليهود فيه أغلال عظيمة فابتدع النصارى ترك ذلك كله بلا شرع من الله حتى إنهم لا ينجسون شيئا فهدى الأمة الوسط بما شرعه لها إلى الوسط من ذلك وإن كان ما كان عليه اليهود كان أيضا مشروعا فاجتناب مالم يشرع الله اجتنابه مقاربة لليهود وملابسة ما شرع الله اجتنابه مقاربة للنصارى وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم
وعن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة قال كنت وأنا في الجاهلية أظن أن الناس على ضلالة فإنهم ليسوا على شيء وهم يعبدون الأوثان قال فسمعت برجل بمكة يخبر أخبارا فقعدت على راحلتي فقدمت عليه فإذا هو رسول الله صلى الله عليه و سلم مستخفيا جرآء عليه قومه فتلطفت حتى دخلت عليه بمكة
فقلت له ما أنت فقال أنا نبي فقلت وما نبي فقال أرسلني الله فقلت بأي شيء أرسلك قال أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحد الله لا يشرك به شيء فقلت له فمن معك على هذا قال حر وعبد قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال فقلت إني متبعك قال إنك لن تستطيع ذلك يومك هذا ألا ترى حالي وحال الناس ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فائتني قال فذهبت إلى أهلي وقدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة وكنت في أهلي فجعلت أستخبر الأخبار وأسأل الناس حتى قدم نفر من أهل يثرب أي من أهل المدينة فقلت ما فعل هذا الرجل الذي قدم المدينة فقالوا الناس إليه سراع وقد أراد قومه قتله فلم يستطيعوا ذلك فقدمت المدينة فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني قال نعم أنت الذي لقيتني بمكة قال فقلت يا نبي الله أخبرني عما علمك الله وأجهله أخبرني عن الصلاة قال صل صلاة الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محصورة حتى يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإن حينئذ تسجر جهنم فإذا أقبل الفي فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وذكر الحديث رواه مسلم
فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت الغروب معللا ذلك النهي بأنها تطلع وتغرب بين قرني شيطان وأنه حينئذ يسجد لها الكفار
ومعلوم أن المؤمن لا يقصد السجود إلا لله تعالى وأكثر الناس قد لا يعلمون
أن طلوعها وغروبها بين قرني شيطان ولا أن الكفار يسجدون لها ثم إنه صلى الله عليه و سلم نهى عن الصلاة في هذا الوقت حسما لمادة المشابهة بكل طريق
ويظهر بعض فائدة ذلك بأن من الصابئة المشركين اليوم ممن يظهر الإسلام يعظم الكواكب ويزعم أنه يخاطبها بحوائجه ويسجد لها وينحر ويذبح وقد صنف بعض المنتسبين إلى الإسلام في مذهب المشركين من الصابئة والبراهمة كتبا في عبادة الكواكب توسلا بذلك زعموا إلى مقاصد دنيوية من الرئاسة وغيرها وهي من السحر الذي كان عليه الكنعانيون الذين كان ملوكهم النماردة الذين بعث الله الخليل صلوات الله وسلامه عليه بالحنيفية وإخلاص الدين كله لله إلى هؤلاء المشركين
فإذا كان في هذه الأزمنة من يفعل مثل هذا تحققت حكمة الشارع صلوات الله وسلامه عليه في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات سدا للذريعة وكان في تنبيه على أن كل ما يفعله المشركون من العبادات ونحوها مما يكون كفرا أو معصية بالنية ينهى المؤمنون عن ظاهره وإن لم يقصدوا به قصد المشركين سدا للذريعة وحسما للمادة
ومن هذا الباب أنه صلى الله عليه و سلم كان إذا صلى إلى عود أو عمود جعله إلى حاجبه الإيمن أو الأيسر ولم يصمد له صمدا
ولهذا نهى عن الصلاة إلى ما عبد من دون الله في الجملة وإن لم يكن العابد يقصد ذلك ولهذا ينهى عن السجود لله بين يدي الرجل وإن لم يقصد الساجد ذلك لما فيه من مشابهة السجود لغير الله
فانظر كيف قطعت الشريعة المشابهة في الجهات وفي الأوقات وكما لا يصلى إلى القبلة التي يصلون إليها كذلك لا يصلى إلى ما يصلون له بل هذا أشد
فسادا فإن القبلة شريعة من الشرائع قد تختلف باختلاف شرائع الأنبياء أما السجود لغير الله وعبادته فهو محرم في الدين الذي اتفقت عليه رسل الله كما قال سبحانه وتعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة تعبدون
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلا يتكئ على يده اليسرى وهو قاعد في الصلاة فقال له لا تجلس هكذا فإن هكذا يجلس الذين يعذبون وفي رواية تلك صلاة المغضوب عليهم وفي رواية نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده روى هذا كله أبو داود
ففي هذا الحديث النهي عن هذه الجلسة معللا بأنها جلسة المعذبين وهذه مبالغة في مجانبة هديهم
وأيضا فقد روى البخاري عن مسروق عن عائشة أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول إن اليهود تفعله
ورواه أيضا من حديث أبي هريرة قال نهى عن التخصر في الصلاة وفي لفظ نهى أن يصلي الرجل متخصرا
قال وقال هشام وأبو هلال عن ابن سيرين عن أبي هريرة نهى النبي صلى الله عليه و سلم وهكذا رواه مسلم في صحيحه نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم
وعن زياد بن صبيح قال صليت إلى جنب ابن عمر فوضعت يدي على خاصرتي فلما صلى قال هذا الصلب في الصلاة وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عنه رواه أحمد وأبو داود والنسائي
وأيضا عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال اشتكى رسول الله صلى الله عليه و سلم فصلينا وراءه وهو قاعد وأبو بكر يسمع الناس تكبيره فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا فصلينا بصلاته قعودا فلما سلم قال إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم يقومون على ملوكهم وهم قعود فلا تفعلوا ائتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا رواه مسلم وأبو داود من حديث الليث عن أبي الزبير عن جابر
ورواه أبو داود وغيره من حديث الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع القرشي عن جابر قال ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم فرسا بالمدينة فصرعه على جذم نخلة فانفكت قدمه فأتيناه نعوده فوجدناه في مشربة لعائشة يسبح جالسا قال فقمنا خلفه فسكت عنا ثم أتيناه مرة أخرى نعوده فصلى المكتوبة جالسا فقمنا خلفه فأشار إلينا فقعدنا قال فلما قضى الصلاة قال إذا صلى الإمام جالسا فصلوا جلوسا وإذا صلى الإمام قائما فصلوا قياما ولا تفعلوا كما يفعل أهل فارس بعظمائها
وأظن في غير رواية أبي داود ولا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضا
ففي هذا الحديث أنه أمرهم بترك القيام الذي هو فرض في الصلاة وعلل ذلك بأن قيام المأمومين مع قعود الإمام يشبه فعل فارس والروم بعظمائهم في قيامهم وهم قعود
ومعلوم أن المأموم إنما نوى أن يقوى لله لا لإمامه
وهذا تشديد عظيم في النهي عن القيام للرجل القاعد ونهى أيضا عما يشبه ذلك وإن لم يقصد به ذلك ولهذا نهى عن السجود لله بين يدي الرجل وعن الصلاة إلى ما عبد من دون الله كالنار ونحوها
وفي هذا الحديث أيضا نهى عما يشبه فعل فارس والروم وإن كانت نيتنا غير نيتهم لقوله فلا تفعلوا
فهل بعد هذا في النهي عن مشابهتهم في مجرد الصورة غاية
ثم هذا الحديث سواء كان محكما في قعود الإمام أو منسوخا فإن الحجة منه قائمة لأن نسخ القعود لا يدل على فساد تلك العلة وإنما يقتضي أنه قد عارضها ما ترجح عليها مثل كون القيام فرضا في الصلاة فلا يسقط الفرض بمجرد المشابهة الصورية وهذا محل اجتهاد وأما المشابهة الصورية فإذا لم تسقط فرضا فإن تلك العلة التي علل بها رسول الله صلى الله عليه و سلم تكون سليمة عن معارض أو عن نسخ لأن القيام في الصلاة ليس بمشابهة في الحقيقة فلا يكون محذورا فالحكم إذا علل بعلة ثم نسخ مع بقاء العلة فلا بد أن يكون غيرها ترجح عليها وقت النسخ أو ضعف تأثيرها أما أن تكون في نفسها باطلة فهذا محال
هذا كله لو كان الحكم هنا منسوخا فكيف والصحيح أن هذا الحديث محكم قد عمل به غير واحد من الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و سلم مع كونهم علموا بصلاته في مرضه الذي توفي فيه
وقد استفاض عنه صلى الله عليه و سلم الأمر به استفاضة صحيحة صريحة يمتنع معها أن يكون حديث مرض موته ناسخا له على ما هو مقرر في غير هذا الموضع إما بجواز الأمرين إذ فعل القيام لا ينافي فعل القعود وإما بالفرق بين المبتدئ للصلاة قاعدا وبين الصلاة التي ابتدأها الإمام قائما لعدم دخول هذه الصلاة في قوله وإذا صلى قاعدا ولعدم المفسدة التي علل بها ولأن بناء فعل آخر الصلاة على أولها أولى من بنائها على صلاة الإمام ونحو ذلك من الأمور المذكورة في غير هذا الموضع
وأيضا فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا اتبع جنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد فتعرض له حبر فقال هكذا نصنع يا محمد قال فجلس رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال خالفوهم
رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال الترمذي بشر بن رافع ليس بالقوي في الحديث
قلت قد اختلف العلماء في القيام للجنازة إذا مرت ومعها إذا شيعت وأحاديث الأمر بذلك كثيرة مستفيضة ومن اعتقد نسخها أو نسخ القيام للمارة فعمدته حديث علي وحديث عبادة هذا وإن كان القول بهما كليهما ممكنا لأن المشيع يقوم لها حتى توضع عن أعناق الرجال لا في اللحد فهذا الحديث إما أن يقال به جمعا بينه وبين غيره أو يكون ناسخا لغيره وقد علل بالمخالفة
ومن لا يقول به يضعفه وذلك لا يقدح في الاستشهاد والاعتضاد به على جنس المخالفة
وقد روى البخاري عن عبد الرحمن بن القاسم أن القاسم كان يمشي بين يدي الجنازة ولا يقوم لها ويخبر عن عائشة أنها قالت كان أهل الجاهلية يقومون لها يقولون إذا رأوها كنت في أهلك ما كنت مرتين
فقد استدل من كره القيام بأنه كان فعل الجاهلية
وليس الغرض هنا الكلام في عين هذه المسألة
وأيضا فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أهل السنن الأربعة
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اللحد لنا والشق لغيرنا رواه أحمد وابن ماجة وفي رواية لأحمد والشق لأهل الكتاب وهو مروي من طرق فيها لين لكن يعضد بعضها بعضا
وفيه التنبيه على مخالفتنا لأهل الكتاب حتى في وضع الميت في أسفل القبر
وأيضا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية متفق عليه
ودعوى الجاهلية ندب الميت وتكون دعوى الجاهلية في العصبية
ومنه قوله فيما رواه أحمد عن أبي بن كعب قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا
وأيضا عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر بالاحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم
ذم في هذا الحديث من دعا بدعوى الجاهلية وأخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه
وهذا كله يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله سبحانه وتعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن ذلك ذم للتبرج وذم لحال الجاهلية الأولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة
ومنه قوله لأبي ذر رضي الله عنه لما عير رجلا بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية فإنه ذم لذلك الخلق ولأخلاق الجاهلية التي لم يجيء بها الإسلام
ومنه قوله تعالى إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فإن إضافة الحمية إلى الجاهلية يقتضي ذمها فما كان أخلاقهم وأفعالهم فهو كذلك
ومن هذا ما رواه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن أبي يزيد أنه سمع ابن عباس قال ثلاث خلال من خلال الجاهلية الطعن في الانساب والنياحة ونسيت الثالثة قال سفيان ويقولون إنها الاستسقاء بالأنواء
وروى مسلم في صحيحه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت
فقوله هما بهم أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر وهما قائمتان بالناس
لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافرا الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه و سلم ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الإثبات
وفرق أيضا بين معنى الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن وبين المعنى المطلق للاسم في جميع موارده كما في قوله لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض
فقوله يضرب بعضكم بعض تفسير للكفار في هذا الموضع وهؤلاء يسمون كفارا تسمية مقيدة ولا يدخلون في الاسم المطلق إذا قيل كافر أو مؤمن كما أن قوله تعالى من ماء دافق سمى المني ماء تسمية مقيدة ولم يدخل في الاسم المطلق حيث قال فلم تجدوا ماء فتيمموا
ومن هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد ثاب معه ناس من المهاجرين حتى كثروا وكان من المهاجرين رجل لعاب فكسع أنصاريا فغضب الأنصاري غضبا شديدا حتى تداعوا وقال
الأنصاري يا للأنصار وقال المهاجري ياللمهاجرين فخرج النبي صلى الله عليه و سلم فقال ما بال دعوى الجاهلية ثم قال ما شأنهم فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري قال فقال النبي صلى الله عليه و سلم دعوها فانها منتنة وقال عبد الله بن أبي ابن سلول أو قد تداعوا علينا لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل فقال عمر ألا نقتل يا رسول الله هذا الخبيث لعبد الله فقال النبي صلى الله عليه و سلم لا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه
ورواه مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين ونادى الأنصاري يا للأنصار فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال ما هذا أدعوى الجاهلية قالوا لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره
فهاذان الإسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل وفي هذا وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى
ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفة منتصرا بها أنكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم ليبين النبي صلى الله عليه و سلم أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته
مطلقا فعل أهل الجاهلية فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب
ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله ما العصبية قال أن تعين قومك على الظلم
وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال خيركم المدافع عن عشيرته مالم يأثم رواه أبو داود
وروى أبو داود أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية
وروى أبو داود أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه
فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي ما هي إما مباحة أو مكروهة
وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره
ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عبد الرحمن بن أبي عقبة عن ابي عقبة وكان مولى من أهل فارس
قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم أحدا فضربت رجلا من المشركين فقلت خذها مني وأنا الغلام الفارسي فالتفت إلي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري
حضه رسول الله صلى الله عليه و سلم على الانتساب إلى الأنصار وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة وهي نسبة حق ليست محرمة
ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها كان ذلك لله كان خيرا للمرء
فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا وهو المطلوب في هذا الكتاب
ومثل هذا ما روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر سقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن رواه أبو داود وغيره وهو صحيح
فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية
ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي قيس زياد بن رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية ومن قاتل تحت راية عمياء يغضب لعصبية أو يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتل قتل قتلة جاهلية ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه
ذكر صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاء والعداة وأهل العصبية
فالقسم الأول الخارجون عن طاعة السلطان فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة وبين أنه إن مات ولا طاعة عليه لإمام مات ميتة جاهلية فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو معروف من سيرتهم
ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك
وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا
وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده
وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل فقيل كيف يكون ذلك قال الهرج القاتل والمقتول في النار
والقسم الثالث الخوارج على الأمة إما من العداة الذين غرضهم الأموال كقطاع الطريق ونحوهم أو غرضهم الرياسة كمن يقتل أهل مصر الذين هم تحت حكم غيره مطلقا وإن لم يكونوا مقاتلة أو من الخارجين عن السنة الذين يستحلون دماء أهل القبلة مطلقا كالحرورية الذين قتلهم علي رضي الله عنه
ثم إنه صلى الله عليه و سلم سمى الميتة والقتلة ميتة جاهلية وقتلة جاهلية على وجه الذم لها والنهي عنها وإلا لم يكن قد زجر عن ذلك
فعلم أنه كان قد تقرر عند أصحابه أن ما أضيف إلى الجاهلية من ميتة وقتلة ونحو ذلك فهو مذموم منهي عنه وذلك يقتضي ذم كل ما كان من أمور الجاهلية وهو المطلوب
ومن هذا ما أخرجاه في الصحيحين عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر عليه حلة وعلى غلامه مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه ساب رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه و سلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه و سلم إنك امرؤ فيك جاهلية وفي رواية قلت على ساعتي هذه من كبر السن قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه
ففي هذا الحديث أن كل ما كان من أمر الجاهلية فهو مذموم لأن قوله فيك جاهلية ذم لتلك الخصلة فلولا أن هذا الوصف يقتضي ذم ما اشتمل عليه لما حصل به المقصود
وفيه أن التعبير بالأنساب من أخلاق الجاهلية
وفيه أن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذلك كفره ولا فسقه
وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه عن نافع عن جبير بن مطعم عن ابن عباس
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال أبغض الناس إلى الله ثلاثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة جاهلية ومطل دم امرئ بغير حق ليريق دمه
أخبر صلى الله عليه و سلم أن أبغض الناس إلى الله هؤلاء الثلاثة وذلك لأن الفساد إما في الدين وإما في الدنيا فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدين الذي هو الكفر
وأما فساد الدين فنوعان نوع يتعلق بالعمل ونوع يتعلق بمحل العمل
فأما المتعلق بالعمل فهو ابتغاء سنة الجاهلية
وأما ما يتعلق بمحل العمل فالالحاد في الحرم لأن أعظم محال العمل هو الحرم وانتهاك حرمة المحل المكاني أعظم من انتهاك حرمة المحل الزماني ولهذا حرم من تناول المباحات من الصيد والنبات في البلد الحرام مالم يحرم مثله في الشهر الحرام
ولهذا كان الصحيح أن حرمة القتال في البلد الحرام باقية كما دلت عليه النصوص الصحيحة بخلاف الشهر الحرام فلهذا والله أعلم ذكر صلى الله عليه و سلم الإلحاد في الحرم وابتغاء سنة جاهلية
والمقصود أن من هؤلاء الثلاثة من ابتغى في الإسلام سنة جاهلية فسواء قيل مبتغيا أو غير مبتغ فإن الابتغاء هو الطلب والإرادة فكل من أراد في الإسلام أن يعمل بشيء من سنن الجاهلية دخل في هذا الحديث
والسنة الجاهلية كل عادة كانوا عليها فإن السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لتتسع لأنواع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة قال تعالى قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض وقال النبي صلى الله عليه و سلم لتتبعن سنن من كان قبلكم والاتباع هو الاقتفاء والاستثنان فمن عمل بشيء من سننهم فقد اتبع سنة جاهلية
وهذا نص عام يوجب تحريم متابعة كل شيء كان من سنن الجاهلية في أعيادهم وغير أعيادهم
ولفظ الجاهلية قد يكون اسما للحال وهو الغالب في الكتاب والسنة وقد يكون اسما لذي الحال
فمن الأول قول النبي صلى الله عليه و سلم لأبي ذر رضي الله عنه إنك امرؤ فيك جاهلية وقول عمر إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة وقول عائشة كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء وقولهم يا رسول الله كنا في جاهلية وشر أي في حال جاهلية أو طريقة جاهلية أو عادة جاهلية ونحو ذلك
فإن لفظ الجاهلية وإن كان في الأصل صفة لكنه غلب عليه الاستعمال حتى صار اسما ومعناه قريب من معنى المصدر
وأما الثاني فتقول طائفة جاهلية وشاعر جاهلي وذلك نسبة إلى الجهل الذي هو عدم العلم أو عدم اتباع العلم فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل جهلا بسيطا فإن اعتقد خلافه فهو جاهل جهلا مركبا فإن قال خلاف الحق عالما بالحق أو غير عالم فهو جاهل أيضا كما قال تعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وقال النبي صلى الله عليه و سلم إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يفسق ولا يجهل ومن هذا قول بعض الشعراء ... ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا ...
وهذا كثير وكذلك من عمل بخلاف الحق فهو جاهل وإن علم أنه
مخالف للحق كما قال سبحانه إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم كل من عمل سوءا فهو جاهل
وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلا بهذا الاعتبار
ومن هنا تعرف دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة لا مجازا وإن لم يكن كل من ترك شيئا من الأعمال كافرا أو خارجا عن أصل مسمى الإيمان وكذلك اسم العقل ونحو ذلك من الأسماء
ولهذا يسمي الله تعالى أصحاب هذه الأحوال موتى وعميا وصما وبكما وضالين وجاهلين ويصفهم بأنهم لا يعقلون ولا يسمعون
ويصف المؤمنين بأولي الألباب والنهى وأنهم مهتدون وأن لهم نورا وأنهم يسمعون ويعقلون
فإذا تبين ذلك فالناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه و سلم كانوا في حال جاهلية منسوبة إلى الجهل فإن ما كانوا عليه من الأقوال والأعمال إنما أحدثه لهم جهال وإنما يفعله جاهل وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون من يهودية ونصرانية فهي جاهلية وتلك كانت الجاهلية العامة
فأما بعد ما بعث الله الرسول صلى الله عليه و سلم فالجاهلية المطلقة قد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار الكفار وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم فإنه يكون في جاهلية وإن كان في دار الإسلام
فأما في زمان مطلق فلا جاهلية بعد مبعث محمد صلى الله عليه و سلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة
والجاهلية المقيدة قد تقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من المسلمين كما قال صلى الله عليه و سلم أربع في أمتي من أمر الجاهلية وقال لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية ونحو ذلك
فقوله في هذا الحديث ومبتغ الإسلام سنة جاهلية يندرج فيه كل جاهلية مطلقة أو غير مقيدة يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو صابئة أو وثنية أو شركية من ذلك أو بعضه أو منتزعة من بعض هذه الملل الجاهلية فإنها جميعها مبتدعها ومنسوخها صارت جاهلية بمبعث محمد صلى الله عليه و سلم وإن كان لفظ الجاهلية لا يقال غالبا إلا على حال العرب التي كانوا عليها فإن المعنى واحد
وفي الصحيحين عن نافع عن ابن عمر أن الناس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها الناقة
ورواه البخاري من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من بئارها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه و سلم أن يطرحوا ذلك العجين ويهريقوا ذلك الماء
وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال لما مر بالحجر لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فان لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم ما أصابهم
فنهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن الدخول إلى أماكن المعذبين إلا مع البكاء خشية أن يصيب الداخل ما أصابهم
ونهى عن الانتفاع بمياههم حتى أمرهم مع حاجتهم في تلك الغزوة وهي غزوة العسرة وهي أشد غزوة كانت على المسلمين أن يعلفوا النواضج بعجين مائهم
وكذلك أيضا روي عنه صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن الصلاة في أماكن العذاب
فروى أبو داود عن سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري أن عليا رضي الله
عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ قال إن حبيبي النبي صلى الله عليه و سلم نهاني أن أصلي في المقبرة ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة
ورواه أيضا عن أحمد بن صالح حدثنا ابن وهب أيضا أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعناه ولفظه فلما خرج منها مكان برز
وقد روى الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله بإسناد أصح من هذا عن علي رضي الله عنه نحوا من هذا أنه كره الصلاة بأرض بابل وأرض الخسف أو نحو ذلك
وكره الإمام أحمد الصلاة في هذه الأمكنة اتباعا لعلي رضي الله عنه
وقوله نهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة يقتضي أن لا يصلي في أرض ملعونة
والحديث المشهور في الحجر يوافق هذا فإنه إذا كان قد نهى عن الدخول إلى أرض العذاب دخل في ذلك الصلاة وغيرها من باب أولى
ويوافق ذلك قوله سبحانه عن مسجد الضرار لا تقم فيه أبدا فإنه كان من أمكنة العذاب قال سبحانه أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم
وقد روى أنه لما هدم خرج منه دخان
وهذا كما أنه ندب إلى الصلاة في أمكنة الرحمة كالمساجد الثلاثة ومسجد قباء فكذلك نهي عن الصلاة في أماكن العذاب
فأما أماكن الكفر والمعاصي التي لم يكن فيها عذاب إذا جعلت مكانا للايمان والطاعة فهذا حسن كما أمر النبي صلى الله عليه و سلم أهل الطائف
أن يجعلوا المسجد مكان طواغيتهم وأمر أهل اليمامة أن يتخذوا المسجد مكان بيعة كانت عندهم وكان موضع مسجده صلى الله عليه و سلم مقبرة للمشركين فجعله صلى الله عليه و سلم مسجدا بعد نبش القبور
فإذا كانت الشريعة قد جاءت بالنهي عن مشاركة الكفار في المكان الذي حل بهم فيه العذاب فكيف بمشاركتهم في الأعمال التي يعملونها واستحقوا بها العذاب
فإنه إذا قيل هذا العمل الذي يعملونه لو تجرد عن مشابهتهم لم يكن محرما ونحن لا نقصد التشبه بهم فيه فنفس الدخول إلى المكان ليس بمعصية لو تجرد عن كونه أثرهم ونحن لا نقصد التشبه بهم بل المشاركة في العمل أقرب إلى اقتضاء العذاب من الدخول إلى الديار فإن جميع ما يعملونه مما ليس من أعمال المسلمين السابقين إما كفر وإما معصية وإما شعار كفر أو شعار معصية وإما مظنة للكفر والمعصية وإما أن يخاف أن يجر إلى المعصية وما أحسب أحدا ينازع في جميع هذا ولئن نازع فيه فلا يمكنه أن ينازع في أن المخالفة فيه أقرب إلى المخالفة في الكفر والمعصية وأن حصول هذه المصلحة في الأعمال أقرب من حصولها في المكان
ألا ترى أن متابعة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين في أعمالهم أنفع وأولى من متابعتهم في مساكنهم ورؤية آثارهم
وأيضا مما هو صريح في الدلالة ما روى أبو داود في سننه حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو النضر يعني هاشم بن القاسم حدثنا عبد الرحمن بن ثابت حدثنا حسان بن عطية عن أبي منيب الجرشي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم وهذا إسناد جيد فإن ابن أبي شيبة وأبا النضر وحسان بن عطية ثقات مشاهير أجلاء من رجال الصحيحين وهم أجل من أن يحتاجوا إلى أن يقال هم من رجال الصحيحين
وأما عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فقال يحيى بن معين وأبو زرعة وأحمد بن عبد الله العجلي ليس به بأس وقال عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم هو ثقة وقال أبو حاتم هو مستقيم الحديث
وأما أبو منيب الجرشي فقال فيه أحمد بن عبد الله العجلي هو ثقة وما علمت أحدا يذكره بسوء وقد سمع منه حسان بن عطية وقد احتج الإمام أحمد وغيره بهذا الحديث
وهذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم
وهو نظير ما سنذكره عن عبد الله بن عمرو أنه قال من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة
فقد يحمل هذا على التشبه المطلق فإنه يوجب الكفر ويقتضي تحريم أبعاض ذلك وقد يحمل على أنه صار منهم في القدر المشترك الذي شابههم فيه فإن كان كفرا أو معصية أو شعارا للكفر أو للمعصية كان حكمه كذلك
وبكل حال فهو يقتضي التشبه بهم بعلة كونه تشبها
والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذا عن ذلك الغير
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه ففي كون هذا تشبها نظر لكن قد ينهى عن هذا لئلا يكون ذريعة إلى التشبه ولما فيه من المخالفة كما أمر بصبغ اللحى وإعفائها وإحفاء الشوارب مع أن قوله صلى الله عليه و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود دليل على أن التشبه بهم يحصل بغير قصد منا ولا فعل بل بمجرد ترك تغيير ما خلق فينا وهذا أبلغ من الموافقة الفعلية الاتفاقية
وقد روى في هذا الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه نهى عن التشبه بالأعاجم وقال من تشبه بقوم فهو منهم ذكره القاضي أبو يعلى
وبهذا احتج غير واحد من العلماء على كراهة أشياء من زي غير المسلمين
قال محمد بن حرب سئل أحمد عن نعل سندي يخرج فيه فكرهه للرجل والمرأة وقال إن كان للكنيف والوضوء فلا بأس وأكره الصرار وقال هو من زي الأعاجم وقد سئل سعيد بن عامر عنه فقال سنة نبينا أحب إلينا من سنة باكهن
وقال في رواية المروذي وقد سأله عن النعل السندي فقال أما أنا فلا أستعملها ولكن إذا كان للطين أو المخرج فأرجو وأما من أراد الزينة فلا ورأى على باب المخرج نعلا سنديا فقال نتشبه بأولاد الملوك
وقال حرب الكرماني أيضا قلت لأحمد فهذه النعال الغلاظ قال هذه السندية إذا كانت للوضوء أو للكنيف أو لموضع ضرورة فلا بأس وكأنه كره أن يمشي بها في الأزقة قيل فالنعل من الخشب قال لا بأس بها أيضا إذا كان موضع ضرورة
قال حرب حدثنا أحمد بن نصر حدثنا حبان بن موسى قال سئل ابن المبارك عن هذه النعال الكرمانية فلم تعجبه وقال أما في هذه غنية عن تلك
وروى الخلال عن أحمد بن إبراهيم الدورقي قال سألت سعيد بن عامر عن لباس النعال السبتية فقال زي نبينا أحب إلينا من زي باكهن ملك الهند ولو كان في مسجد المدينة لأخرجوه من المدينة
سعيد بن عامر الضبعي إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد قال يحيى بن سعيد القطان وذكر عنده سعيد بن عامر الضبعي فقال
هو شيخ البصرة منذ أربعين سنة وقال أبو مسعود بن الفرات ما رأيت بالبصرة مثل سعيد بن عامر
وقال الميموني رأيت أبا عبد الله عمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك وقال العرب عمائمها تحت أذقانها
وقال أحمد في رواية الحسن بن محمد يكره أن تكون العمامة تحت الحنك كراهة شديدة وقال إنما يتعمم بمثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس
ولهذا أيضا كره أحمد لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد ونحوه وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال هو من فعل اليهود
وقد روى أبو حفص العكبري بإسناده عن بلال بن أبي حدرد قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم تمعددوا واخشوشنوا وانتعلوا وامشوا حفاة
وهذا مشهور محفوظ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب به إلى المسلمين وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في كلام الخلفاء الراشدين
وقال الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال ليس منا من تشبه بغيرنا لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع وتسليم النصارى الإشارة بالأكف قال وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة ولم يرفعه
وهذا وإن كان فيه ضعف فقد تقدم الحديث المرفوع من تشبه بقوم فهو منهم وهو محفوظ عن حذيفة بن اليمان أيضا من قوله وحديث ابن لهيعة يصلح للاعتضاد كذا كان يقول أحمد وغيره
وأيضا ما روى أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد الثقفي حدثنا محمد بن ربيعة حدثنا أبو الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة أو محمد بن علي بن ركانة عن أبيه أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه النبي صلى الله عليه و سلم قال ركانة سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقول فرق ما بيننا وبين المشركين بالعمائم على القلانس
وهذا يقتضي أنه حسن عند أبي داود ورواه الترمذي أيضا عن قتيبة وقال غريب وليس إسناده بالقائم ولا نعرف أبا الحسن العسقلاني ولا ابن ركانة
وهذا القدر لا يمنع أن يعتضد بهذا الحديث ويستشهد به
وهذا بين في أن مفارقة المسلم المشرك في اللباس أمر مطلوب للشارع كقوله فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت
فإن التفريق بينهما مطلوب في الظاهر إذ الفرق بالاعتقاد والعمل بدون العمامة حاصل فلولا أنه مطلوب بالظاهر أيضا لم يكن فيه فائدة
وهذا كما أن الفرق بين الرجال والنساء لما كان مطلوبا ظاهرا وباطنا لعن صلى الله عليه و سلم المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين من الرجال بالنساء وقال أخرجوهم من بيوتكم ونفى الخنث لما كان رجلا متشبها في الظاهر بغير جنسه
وأيضا عن أبي غطفان المري سمعت عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يقول حين صام رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا يا رسول الله إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى قال رسول الله صلى الله عليه و سلم
إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم رواه مسلم في صحيحه
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم صوموا يوم عاشوراء وخالفوا فيه اليهود وصوموا يوما قبله ويوما بعده والحديث رواه ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس
فتدبر هذا يوم عاشوراء يوم فاضل يكفر صيامه سنة ماضية صامه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بصيامه ورغب فيه ثم لما قيل له قبيل وفاته إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى أمر بمخالفتهم بضم يوم آخر إليه وعزم على فعل ذلك
ولهذا استحب العلماء منهم الإمام أحمد أن يصوم تاسوعا وعاشوراء وبذلك عللت الصحابة رضي الله عنهم
قال سعيد بن منصور حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع عطاء عن ابن عباس يقول صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود
وأيضا عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين رواه البخاري ومسلم
فوصف هذه الأمة بترك الكتابة والحساب الذي يفعله غيرها من الأمم في أوقات عبادتهم وأعيادهم وأحالها على الرؤية حيث قال في غير حديث صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته وفي رواية صوموا من الوضح إلى الوضح أي من الهلال إلى الهلال
وهذا دليل على ما أجمع عليه المسلمون إلا من شذ من بعض المتأخرين المخالفين المسبوقين بالإجماع من أن مواقيت الصوم والفطر والنسك إنما تقام بالرؤية عند إمكانها لا بالكتاب والحساب الذي تسلكه الأعاجم من الروم والفرس والقبط والهند وأهل الكتاب من اليهود والنصارى
وقد روى غير واحد من أهل العلم أن أهل الكتابين قبلنا إنما أمروا بالرؤية أيضا في صومهم وعبادتهم وتأولوا على ذلك قوله تعالى كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ولكن أهل الكتابين بدلوا ولهذا نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن تقدم رمضان باليوم واليومين
وعلل الفقهاء ذلك بما يخاف من أن يزاد في الصوم المفروض ما ليس منه كما زاده أهل الكتاب من النصارى فإنهم زادوا في صومهم وجعلوه فيما بين الشتاء والصيف وجعلوا له طريقة من الحساب يتعرفونه بها
وقد يستدل بهذا الحديث على خصوص النهي عن أعيادهم فإن أعيادهم معلومة بالكتاب والحساب والحديث فيه عموم
أو يقال إذا نهينا عن ذلك في عيد الله ورسوله ففي غيره من الأعياد والمواسم أولى وأحرى أو لما في ذلك من مضارعة الأمة الأمية سائر الأمم
وبالجملة فالحديث يقتضي اختصاص هذه الأمة بالوصف الذي فارقت به غيرها وذلك يقتضي أن ترك المشابهة للأمم أقرب إلى حصول الوفاء بالاختصاص
وأيضا ففي الصحيحين عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية عام حج على المنبر وتناول قصة من شعر كانت في يد حرسي فقال يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم ينهى عن مثل هذه ويقول إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم
وفي رواية سعيد بن المسيب في الصحيح أن معاوية قال ذات يوم إنكم اتخذتم زي سوء وإن النبي النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن الزور قال وجاء رجل بعصا على رأسها خرقة قال معاوية ألا وهذا الزور قال قتادة يعني ما يكثر به النساء اشعارهن من الخرق
وفي رواية عن ابن المسيب في الصحيح قال قدم معاوية المدينة فخطبنا
وأخرج كبة من شعر فقال ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود إن رسول الله صلى الله عليه و سلم بلغه فسماه الزور
فقد أخبر النبي صلى الله عليه و سلم عن وصل الشعر أن بني إسرائيل هلكوا حين أحدثه نساؤهم يحذر أمته مثل ذلك ولهذا قال معاوية ما كنت أرى أن أحدا يفعله إلا اليهود
فما كان من زي اليهود الذي لم يكن عليه المسلمون إما أن يكون مما يعذبون عليه أو مظنة لذلك أو يكون تركه حسما لمادة ما عذبوا عليه لا سيما إذا لم يتميز ما هو الذي عذبوا عليه من غيره فإنه يكون قد اشتبه المحظور بغيره فيترك الجميع كما أن ما يخبرون به لما اشتبه صدقه بكذبه ترك الجميع
وأيضا ما روى نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قال قال عمر إذا كان لأحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم يكن له إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح
وهذا المعنى صحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم من رواية جابر وغيره أنه أمر في الثوب الضيق بالاتزار دون الاشتمال وهو قول جمهور أهل العلم وفي مذهب أحمد قولان
وإنما الغرض أنه قال لا يشتمل اشتمال اليهود فان المنهي عنه إلى اليهود دليل على أن لهذه الإضافة تأثيرا في النهي كما تقدم التنبيه عليه
وأيضا فمما نهانا الله سبحانه فيه عن مشابهة أهل الكتاب وكان حقه أن يقدم في أوائل الكتاب قوله سبحانه ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون
فقوله ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب نهي مطلق عن مشابهتهم وهو خاص أيضا في النهي عن مشابهتهم في قسوة قلوبهم وقسوة القلوب من
ثمرات المعاصي وقد وصف الله سبحانه بها اليهود في غير موضع فقال تعالى فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وقال تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين
وإن قوما من هذه الأمة ممن ينسب إلى علم أو دين قد أخذوا من هذه الصفات بنصيب يرى ذلك من له بصيرة فنعوذ بالله من كل ما يكرهه الله ورسوله ولهذا كان السلف يحذرون هذا
فروى البخاري في صحيحه عن أبي الأسود قال بعث أبو موسى إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرءوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة
فحذر أبو موسى القراء أن يطول عليهم الأمد فتقسوا قلوبهم
ثم لما كان نقض الميثاق يدخل فيه نقض ما عهد الله إليهم من الأمر والنهي وتحريف الكلم عن مواضعه وتبديل وتأويل كتاب الله أخبر ابن مسعود رضي الله عنه بما يشبه ذلك
فروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري حدثنا عبد الله حديثا ما سمعت حديثا هو أحسن منه إلا كتاب الله أو رواية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم اشتهته قلوبهم واستحلته أنفسهم وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم ثم قالوا لا بل أرسلوا إلى فلان رجل من علمائهم فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد فأرسلوا إليه فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله ثم جعلها في قرن ثم علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا أتؤمن بهذا فأوما إلى صدره فقال آمنت بهذا ومالي لا اومن بهذا يعني الكتاب الذي في القرن فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا فيه الكتاب فقالوا ألا ترون قوله آمنت بهذا ومالي لا أومن بهذا إنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذي القرن قال عبد الله وإن من بقي منكم سيرى منكرا وبحسب امرئ يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره
ولما نهى الله عن التشبه بهؤلاء الذين قست قلوبهم ذكر أيضا في آخر السورة حال الذين ابتدعوا الرهبانية فما رعوها حق رعايتها فعقبها بقوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
فإن الإيمان بالرسول هو تصديقه وطاعته واتباع شريعته وفي ذلك مخالفة للرهبانية لأنه لم يبعث بها بل نهى عنها وأخبر أن من اتبعه من أهل الكتاب كان له أجران وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة من طريق ابن عمر وغيره في مثلنا ومثل أهل الكتاب
وقد صرح صلى الله عليه و سلم بذلك فيما رواه أبو داود في سننه من حديث ابن وهب أخبرني سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة فقال إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم
هذا الذي في رواية اللؤلؤي عن أبي داود وفي رواية ابن داسة عنه أنه دخل هو وأبوه على أنس بن مالك بالمدينة في زمان عمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة فإذا هو يصلي صلاة خفيفة كأنها صلاة مسافر أو قريب منها فلما سلم قال يرحمك الله أرأيت هذه الصلاة المكتوبة أم شيء تنفلته قال إنها المكتوبة وإنها لصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقول لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ثم غدا
من الغد فقال ألا تركب وننظر لنعتبر قال نعم فركبا جميعا فإذا بديار باد أهلها وانقضوا وفنوا خاوية على عروشها قال أتعرف هذه الديار فقال نعم ما أعرفني بها وبأهلها هؤلاء أهل ديار أهلكهم الله ببغيهم وحسدهم إن الحسد يطفئ نور الحسنات والبغي يصدق ذلك أو يكذبه والعين تزني والكف والقدم والجسد واللسان والفرج يصدق ذلك أو يكذبه
فأما سهل بن أبي أمامة فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وروى له مسلم وغيره أما ابن أبي العمياء فمن أهل بيت المقدس ما أعرف حاله لكن رواية أبي داود للحديث وسكوته عنه يقتضي أنه حسن عنده وله شواهد في الصحيح
فأما ما فيه من وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتخفيف ففي الصحيحين عنه أعني أنس بن مالك قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يوجز الصلاة ويكملها
وفي الصحيحين أيضا عنه قال ما صليت وراء إمام قط أخف صلاة ولا أتم من صلاة النبي صلى الله عليه و سلم زاد البخاري وإن كان ليسمع بكاء الصبي فيخفف مخافة أن تفتتن أمه
وما ذكره أنس بن مالك من التخفيف فهو بالنسبة إلى ما كان يفعله بعض الأمراء وغيرهم في قيام الصلاة فإن منهم من كان يطيل زيادة على ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله في غالب الأوقات ويخفف الركوع والسجود والإعتدال عما كان النبي ص - يفعله في غالب الأوقات ولعل أكثر الأئمة أو كثيرا منهم كانوا قد صاروا يصلون كذلك ومنهم من كان يقرأ في الآخريين مع الفاتحة سورة وهذا كله قد صار مذاهب لبعض الفقهاء
وكان الخوارج أيضا قد تعمقوا وتنطعوا كما وصفهم النبي صلى الله عليه و سلم بقوله يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم ولهذا لما صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالبصرة قال عمران بن حصين لقد أذكرني
هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وكانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم معتدلة كان يخفف القيام والقعود ويطيل الركوع والسجود وقد جاء هذا مفسرا عن أنس بن مالك نفسه
فروى النسائي عن قتيبة عن العطاف بن خالد عن زيد بن أسلم قال دخلنا على أنس بن مالك فقال صليتم قلنا نعم قال يا جارية هلمي لي وضوءا ما صليت وراء إمام أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم من إمامكم هذا قال زيد وكان عمر بن عبد العزيز يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود
وهذا حديث صحيح فإن العطاف بن خالد المخزومي قال فيه يحيى بن معين غير مرة هو ثقة وقال أحمد بن حنبل هو من أهل مكة ثقة صحيح الحديث روى عنه نحو مائة حديث وقال ابن عدي يروي قريبا من مائة حديث ولم أر بحديثه بأسا إذا حدث عنه ثقة
وروى أبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن إبراهيم بن عمر بن كيسان حدثني أبي عن وهب بن مانوس سمعت سعيد بن جبير يقول سمعت أنس بن مالك يقول ما صليت وراء أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم من هذا الفتى يعني عمر بن عبد العزيز قال فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات وفي سجوده عشر تسبيحات وقال يحيى بن معين إبراهيم بن عمر بن كيسان يماني ثقة وقال هشام بن يوسف أخبرني إبراهيم بن عمر وكان من أحسن الناس صلاة وابنه عبد الله قال فيه أبو حاتم صالح الحديث ووهب بن مانوس بالنون يقوله عبد الله هذا وكان عبد الرزاق يقوله بالباء المنقوطة بواحدة من أسفل وهو شيخ كبير قديم قد أخذ عنه إبراهيم هذا واتبع ما حدثه به ولولا ثقته عنده لما عمل بما حدثه به وحديثه موافق لرواية زيد بن أسلم وما أعلم فيه قدحا
وروى مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة أخبرنا ثابت عن أنس
ابن مالك قال ما صليت خلف أحد أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم متقاربة وكانت صلاة أبي بكر متقاربة فلما كان عمر رضي الله عنه مد في صلاة الفجر وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم
ورواه أبو داود من حديث حماد بن سلمة أنبأنا ثابت وحميد عن أنس بن مالك قال ما صليت خلف رجل أوجز صلاة من رسول الله صلى الله عليه و سلم في تمام وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى نقول قد أوهم ثم يكبر ثم يسجد وكان يقعد بين السجدتين حتى نقول قد أوهم
فجمع أنس رضي الله عنه في هذا الحديث الصحيح بين الإخبار بإيجاز النبي صلى الله عليه و سلم الصلاة وإتمامها وبين أن من إتمامها الذي أخبر به إطالة الاعتدالين وأخبر في الحديث المتقدم أنه ما رأى أوجز من صلاته ولا أتم
فيشبه والله أعلم أن يكون الإيجاز عاد إلى القيام والإتمام إلى الركوع والسجود لأن القيام لا يكاد يفعل إلا تاما فلا يحتاج إلى الوصف بالإتمام بخلاف الركوع والسجود والاعتدالين
وأيضا فإنه بإيجاز القيام وإطالة الركوع والسجود تصير الصلاة تامة لاعتدالها وتقاربها فيصدق قوله ما رأيت أوجز ولا أتم
فأما إن أعيد الإيجاز إلى لفظ لا أتم والإتمام إلى لفظ لا أوجز فإنه يصير في الكلام تناقضا لأن من طول القيام على قيامه صلى الله عليه و سلم لم يكن دونه في إتمام القيام إلا أن يقال الزيادة في الصورة تصير نقصا في المعنى وهذا خلاف ظاهر اللفظ فإن الأصل أن يكون معنى الإيجاز والتخفيف غير معنى الإتمام والإكمال ولأن زيد بن أسلم قال كان عمر يخفف
القيام والقعود ويتم الركوع والسجود فعلم أن لفظ الإتمام عندهم هو إتمام الفعل الظاهر
وأحاديث أنس كلها تدل على أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يطيل الركوع والسجود والاعتدالين زيادة على ما فعله أكثر الأئمة وسائر روايات الصحيح تدل على ذلك
ففي الصحيحين عن حماد بن زيد عن ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال إني لا آلو أن أصلي لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي بنا قال ثابت فكان أنس يصنع شيئا لا أراكم تصنعونه وإذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائما حتى يقول القائل قد نسي وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى نقول قد نسي
وفي رواية في الصحيح وإذا رفع رأسه بين السجدتين
وفي رواية للبخاري من حديث شعبة عن ثابت كان أنس ينعت لنا صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي
فهذا يبين لك أن أنسا أراد بصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إطالة الركوع والسجود والرفع فيهما على ما كان الناس يفعلونه وتقصير القيام عما كان الناس يفعلونه
وروى مسلم في صحيحه من حديث جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة
فبين أن التخفيف الذي كان يفعله صلى الله عليه و سلم هو تخفيف القراءة وإن كان يقتضي ركوعا وسجودا يناسب القراءة ولهذا قال كانت صلاته متقاربة أي يقرب بعضها من بعض
وصدق أنس فإن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بنحو الستين إلى المائة يقرأ في الركعتين بطول المفصل بآلم تنزل وهل أتى وبالصافات وبقاف وربما قرأ أحيانا بما هو أطول من ذلك وأحيانا بما هو أخف
فأما عمر رضي الله عنه فكان يقرأ في الفجر بيونس وهود ويوسف ولعله علم أن الناس خلفه يؤثرون ذلك
وكان معاذ رضي الله عنه قد صلى خلف النبي صلى الله عليه و سلم العشاء الآخرة ثم ذهب إلى بني عمرو بن عوف بقباء فقرأ فيها بسورة البقرة فأنكر النبي صلى الله عليه و سلم ذلك وقال أفتان أنت يا معاذ إذا أممت الناس فخفف فإن من ورائك الكبير والضعيف وذا الحاجة هلا قرأت بسبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها ونحوهما من السور
فالتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم معاذا وغيره من الأئمة هو ما كان يفعله بأبي هو وأمي صلى الله عليه و سلم فإنه كما قال أنس كان أخف الناس صلاة في تمام وقد قال صلوا كما رأيتموني أصلي
ثم إن عرض حال عرف منها إيثار المأمومين للزيادة على ذلك فحسن فإنه صلى الله عليه و سلم قرأ في المغرب بطولى الطوليين وقرأ فيها بالطور
وإن عرض ما يقتضي التخفيف عن ذلك فعل كما قال في بكاء الصبي ونحوه
فقد تبين أن حديث أنس تضمن مخالفة من خفف الركوع والسجود تخفيفا كثيرا ومن طول القيام تطويلا كثيرا وهذا الذي وصفه أنس ووصفه سائر الصحابة
وروى مسلم في صحيحه وأبو داود في سننه عن هلال بن أبي حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه و سلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء
وروى مسلم أيضا في صحيحه عن شعبة عن الحكم قال غلب على الكوفة رجل قد سماه زمن بن الأشعث قال فأمر أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن يصلي بالناس فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام قدر ما أقول اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد قال الحكم فذكرت ذلك لعبد الرحمن بن أبي ليلى فقال سمعت البراء بن عازب يقول كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم وركوعه وإذا رفع رأسه من ركوعه وسجوده وما بين السجدتين قريبا من السواء قال شعبة فذكرته لعمرو بن مرة فقال قد رأيت عبد الرحمن بن أبي ليلى فلم تكن صلاته هكذا
وروى البخاري هذا الحديث ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء وذلك لأنه لا شك أن القيام قيام القراءة وقعود التشهد يزيد على بقية الأركان لكن لما كان صلى الله عليه و سلم يوجز القيام ويتم بقية الأركان صارت قريبا من السواء
فكل واحدة من الروايتين تصدق الأخرى وإنما البراء تارة قرب ولم يحدد وتارة استثنى وحدد وإنما جاز أن يقال في القيام مع بقية الأركان قريبا بالنسبة إلى الأمراء الذين يطيلون القيام ويخففون الركوع والسجود حتى يعظم التفاوت
ومثل هذا أنه صلى الله عليه و سلم صلى صلاة الكسوف فقرأ في الركعة الأولى بنحو من سورة البقرة وركع فكان ركوعه نحوا من قيامه وكذلك سجوده ولهذا نقول في أصح القولين إن ركوع صلاة الكسوف وسجودها يكون قريبا من قيامه بقدر معظمه أكثر من النصف
ومن أصحابنا وغيرهم من قال إذا قرأ البقرة يسبح في الركوع والسجود بقدر قراءة مائة آية وهو ضعيف مخالف للسنة
وكذلك روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وغيره أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقول بعد الرفع من الركوع من الذكر ما يصدق حديث أنس والبراء وكذلك صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم التطوع فإنه كان إذا صلى بالليل وحده طول لنفسه ما شاء وكان يقرأ في الركعة بالبقرة وآل عمران والنساء ويركع نحوا من قيامه ويرفع نحوا من ركوعه ويسجد نحوا من قيامه ويجلس نحوا من سجوده
ثم هذا القيام الذي وصفه أنس وغيره بالخفة والتخفيف الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم قد فسره النبي صلى الله عليه و سلم بفعله وأمره وبلغ ذلك أصحابه فإنه لما صلى على المنبر قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي وقال لمالك بن الحويرث وصاحبه صلوا كما رأيتموني أصلي
وذلك أنه ما من فعل في الغالب إلا وقد يسمى خفيفا بالنسبة إلى ما هو أطول منه ويسمى طويلا بالنسبة إلى ما هو أخف منه فلا حد له في اللغة وليس الفعل في الصلاة من العادات كالإحراز والقبض والاصطياد وإحياء الموات حتى يرجع في حده إلى عرف اللفظ بل هو من العبادات والعبادات يرجع في صفاتها ومقاديرها إلى الشارع كما يرجع في أصلها إلى الشارع ولأنه لو جاز الرجوع فيه إلى عرف الناس في الفعل أو في مسمى التخفيف لاختلفت الصلاة الشرعية الراتبة التي أمرنا بها في غالب الأوقات عند عدم المعارضات المقتضية للطول أو القصر اختلافا مباينا لا ضبط له ولكان لكل أهل عصر ومصر بل لكل أهل حي وسكة بل لأهل كل مسجد عرف في معنى اللفظ وفي عادة الفعل مخالفا لعرف الآخرين وهذا مخالف لأمر الله ورسوله حيث قال صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يقل كما يسميه أهل أرضكم
خفيفا أو كما يعتادونه وما أعلم أحدا من العلماء يقول ذلك فإنه يفضي إلى تغيير الشريعة وموت السنن إما بزيادة وإما بنقص وعلى هذا دلت سائر روايات الصحابة
فروى مسلم في صحيحه عن زهير عن سماك بن حرب قال سألت جابر ابن سمرة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال كان يخفف الصلاة ولا يصلي صلاة هؤلاء قال وأنبأني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد ونحوها
وروى أيضا عن شعبة عن سماك عن جابر بن سمرة قال كان النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك وفي الصبح أطول من ذلك
وهذا يبين ما رواه مسلم أيضا عن زائدة عن سماك عن جابر بن سمرة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان يقرأ في الفجر بقاف والقرآن المجيد وكان صلاته بعد تخفيفا أنه أراد والله أعلم بقوله وكانت صلاته بعد أي بعد الفجر أي أنه يخفف الصلوات التي بعد الفجر عن الفجر فإنه في الرواية الأولى جمع بين وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم بالتخفيف وأنه كان يقرأ في الفجر بقاف
وقد ثبت في الصحيح عن أم سلمة أنها سمعت النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في الفجر بالطور في حجة الوداع وهي طائفة من حول الناس تسمع قراءته وما عاش بعد حجة الوداع إلا قليلا والطور نحو من سورة قاف
وثبت في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بني لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرأ بها في المغرب
فقد أخبرت أم الفضل أن ذلك آخر ما سمعته يقرأ بها في المغرب وأم الفضل
لم تكن من المهاجرات بل هي من المستضعفين كما قال ابن عباس كنت أنا وأبي من المستضعفين الذين عذرهم الله فهذا السماع كان متأخرا
وكذلك في الصحيح عن زيد بن ثابت أنه سمع النبي صلى الله عليه و سلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين وزيد من صغار الصحابة
وكذلك صلى بالمؤمنين في الفجر بمكة وأدركته سعلة عند ذكر موسى وهارون فهذه الأحاديث وأمثالها تبين أنه صلى الله عليه و سلم كان في آخر حياته يصلي في الفجر بطوال المفصل وشواهد هذا كثيرة ولأن سائر الصحابة اتفقوا على أن هذه كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي ما زال يصليها ولم يذكر أحد أنه نقص صلاته في آخر عمره عما كان يصليها وأجمع الفقهاء على أن السنة أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل
وقوله ولا يصلي صلاة هؤلاء إما أن يريد به من كان يطيل الصلاة على هذا ومن كان ينقصها عن ذلك أي إنه كان صلى الله عليه و سلم يخففها ومع ذلك فلا يحذفها حذف هؤلاء الذين يحذفون الركوع والسجود والاعتدالين كما دل عليه حديث أنس والبراء أو كان أولئك الأمراء ينقصون القراءة أو القراءة وبقية الأركان عما كان النبي صلى الله عليه و سلم يفعله كما روى أبو قزعة قال أتيت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه وهو مكثور عليه فلما تفرق الناس عنه قلت إني لا أسألك عما سألك هؤلاء عنه قلت أسألك عن صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال مالك في ذلك من خير فأعادها عليه فقال كانت صلاة الظهر تقام فينظلق أحدنا إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه و سلم في الركعة الأولى
وفي رواية مما يطولها رواه مسلم في صحيحه
فهذا يبين لك أن أبا سعيد رأى صلاة الناس أنقص من هذا
وفي الصحيحين عن أبي برزة قال كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة هذا لفظ البخاري
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال إن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم ليأمرنا بالتخفيف وإن كان ليؤمنا بالصافات رواه أحمد والنسائي
وعن الضحاك بن عثمان عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن أبي هريرة قال ما صليت وراء أحد أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه و سلم من فلان قال سليمان كان يطيل الركعتين الأوليين من الظهر ويخفف الأخيرتين ويخفف العصر ويقرأ في المغرب بقصار المفصل ويقرأ في العشاء بأوساط المفصل ويقرأ في الصبح بطوال المفصل رواه النسائي وابن ماجه وهو إسناد على شرط مسلم
والضحاك بن عثمان قال فيه أحمد ويحيى هو ثقة وقال فيه ابن سعد كان ثبتا
ويدل على ما ذكرناه ما روى مسلم في صحيحه عن عمار بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا
فقد جعل طول الصلاة علامة على فقه الرجل وأمر باطالتها
وهذا الأمر إما أن يكون عاما في جميع الصلوات وإما أن يكون المراد به صلاة الجمعة
فإن كان اللفظ عاما فظاهر وإن كان المراد به صلاة الجمعة فإذا أمر بإطالتها مع كون الجمع فيها يكون عظيما من الضعفاء والكبار وذوي الحاجات ما ليس في غيرها ومع كونها تفعل في شدة الحر مسبوقة بخطبتين فالفجر ونحوها التي تفعل وقت البرد مع قلة الجمع أولى وأحرى والأحاديث في هذا كثيرة
وإنما ذكرنا هذا التفسير لما في حديث أنس من تقدير صلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ قد يحسب من يسمع هذه الأحاديث أن فيها نوع تناقض أو يتمسك بعض الناس ببعضها دون بعض ويجهل معنى ما تمسك به
وأما ما في حديث أنس المتقدم من قول النبي صلى الله عليه و سلم لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ففيه نهي النبي صلى الله عليه و سلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع
والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة
وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه و سلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين أو غير متأولين ولا معذورين
وفيه أيضا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداء يكون سببا لتشديد آخر يفعله الله إما بالشرع وإما بالقدر
فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه و سلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم ومثل أن من نذر شيئا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب
وأما القدر فكثيرا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم مثل كثير من الموسوسين
في الطهارات إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة
وهذا المعنى الذي دل عليه الحديث موافق لما قدمناه في قوله تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم من أن ذلك يقتضي كراهة موافقتهم في الآصار والأغلال
والآصار ترجع إلا الإيجابات الشديدة والأغلال هي التحريمات الشديدة فان الإصر هو الثقل والشدة وهذا شأن ما وجب والغل يمنع المغلول من الانطلاق وهذا شأن المحظور وعلى هذا دل قوله سبحانه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وسبب نزولها مشهور
وعلى هذا ما في الصحيحين عن أنس بن مالك قال جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه و سلم يسألون عن عبادة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا وقال الآخر وأنا اصوم الدهر أبدا وقال الآخر وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه و سلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وافطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه البخاري وهذا لفظه ورواه مسلم ولفظه عن أنس أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه و سلم عن عمله في السر فقال بعضهم لا أتزوج النساء وقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أنام على فرش فحمد الله وأثنى عليه وقال ما بال أقوام قالوا كذا وكذا وكذا لكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس
مني والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أن سنته التي هي الاقتصاد في العبادة وفي ترك الشهوات خير من رهبانية النصارى التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره والغلو في العبادات صوما وصلاة
وقد خالف هذا بالتأويل ولعدم العلم طائفة من الفقهاء والعباد
ومثل هذا ما رواه أبو داود في سننه عن العلاء بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة أن رجلا قال يا رسول الله ائذن لي في السياحة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم بأن أمته سياحتهم الجهاد في سبيل الله
وفي حديث آخر إن السياحة هي الصيام والسائحون هم الصائمون ونحو ذلك وذلك تفسير لما ذكره الله تعالى في القرآن من قوله السائحون وقوله سائحات
وأما السياحة التي هي الخروج في البرية من غير مقصد معين فليست من عمل هذه الأمة ولهذا قال الإمام أحمد ليست السياحة من الإسلام في شيء ولا من فعل النبيين ولا الصالحين مع أن جماعة من إخواننا قد ساحوا السياحة المنهي عنها متأولين في ذلك أو غير عالمين بالنهي عنه من الرهبانية المبتدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه و سلم لا رهبانية في الإسلام
والغرض هنا بيان ما جاءت به الحنيفية من مخالفة اليهود فيما أصابهم من القسوة عن ذكر الله وعما أنزل من الهدى الذي به حياة القلوب ومخالفة النصارى فيما هم عليه من الرهبانية المبتدعة وإن كان قد ابتلي بعض المنتسبين منا إلى علم أو دين بنصيب من هذا ومن هذا ففيهم شبه بهؤلاء وهؤلاء
ومثل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم غداة العقبة وهو على ناقته القط لي حصى فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا ثم قال
أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم
وقوله إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال
والغلو هو مجاوزة الحد بأن يزاد في حمد الشيء أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك
والنصارى أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم
وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه مثل رمي الحجارة الكبار ونحو ذلك بناء على أنه قد بالغ في الحصى الصغار ثم علل ذلك بأن ما أهلك من كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه في النصارى
وذلك يقتضي أن مجانبة هديهم مطلقا أبعد عن الوقوع فيما به هلكوا وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه أن يكون هالكا
ومن ذلك أنه صلى الله عليه و سلم حذرنا عن مشابهة من قبلنا في أنهم كانوا يفرقون في الحدود بين الاشراف والضعفاء وأمر أن يسوى بين الناس في ذلك وأن كثيرا من ذوي الرأي والسياسة قد يظن أن إعفاء الرؤساء أجود في السياسة
ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها في شأن المخزومية التي سرقت لما كلم أسامة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال يا أسامة أتشفع في حد من حدود الله تعالى إنما أهلك بنو إسرائيل أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها
وكان بنو مجزوم من أشرف بطون قريش واشتد عليهم أن تقطع يد امرأة منهم فبين النبي صلى الله عليه و سلم أن هلاك بني إسرائيل إنما كان في تخصيص رؤساء الناس بالعفو عن العقوبات وأخبر أن فاطمة ابنته التي هي أشرف النساء لو سرقت وقد أعاذها الله من ذلك لقطع يدها ليبين أن وجوب العدل والتعميم في الحدود لا يستثنى منه بنت الرسول فضلا عن بنت غيره
وهذا يوافق ما في الصحيحين عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال مر على النبي صلى الله عليه و سلم بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم فقالوا نعم فدعا رجلا من علمائهم قال أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم قال لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال صلى الله عليه و سلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم فأنزل الله عز و جل يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه يقول ائتوا محمدا فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا فأنزل الله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون في الكفار كلها
وأيضا ما روى مسلم في صحيحه عن جندب بن عبد الله البجلي قال سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله
أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك
وصف رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الذين كانوا قبلنا كانوا يتخذون قبور الأنبياء والصالحين مساجد وعدى هذا الوصف بالأمر بحرف الفاء أن لا يتخذوا القبور مساجد وقال إنه صلى الله عليه و سلم ينهانا عن ذلك ففيه دلالة على أن اتخاذ من قبلنا سبب لنهينا إما مظهر للنهي وإما موجب للنهي
وذلك يقتضي أن أعمالهم دلالة وعلامة على أن الله ينهانا عنها أو أنها علة مقتضية للنهي وعلى التقديرين يعلم أن مخالفتهم أمر مطلوب للشارع في الجملة
والنهي عن هذا العمل بلعنة اليهود والنصارى مستفيض عنه صلى الله عليه و سلم
ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي لفظ لمسلم لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وفي الصحيحين عن عائشة وابن عباس قالا لما نزل برسول الله صلى الله عليه و سلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتنم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن أم سلمة وأم حبيبة ذكرتا لرسول الله صلى الله عليه و سلم كنيسة رأتاها بأرض الحبشة يقال لها مارية وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله عز و جل
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لعن رسول الله صلى الله عليه و سلم
زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن الأربعة وقال الترمذي حديث حسن وفي بعض نسخه صحيح
فهذا التحذير منه صلى الله عليه و سلم واللعن عن مشابهة أهل الكتاب في بناء المسجد على قبر الرجل الصالح صريح في النهي عن المشابهة في هذا ودليل على الحذر عن جنس أعمالهم حيث لا يؤمن في سائر أعمالهم أن تكون من هذا الجنس
ثم من المعلوم ما قد ابتلي به كثير من هذه الأمة من بناء المساجد على القبور واتخاذ القبور مساجد بلا بناء وكلا الأمرين محرم ملعون فاعله بالمستفيض من السنة وليس هذا موضع استقصاء ما في ذلك من سائر الأحاديث والآثار إذ الغرض القاعدة الكلية وإن كان تحريم ذلك قد ذكره غير واحد من علماء الطوائف من اصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم ولهذا كان السلف من الصحابة والتابعين يبالغون في المنع مما يجر إلى مثل هذا وفيه من الآثار ما لا يليق ذكره هنا حتى روى أبو يعلى الموصلي بسنده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يزيد بن الحباب حدثنا جعفر بن إبراهيم من ولد ذي الجناحين حدثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن الحسن أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه و سلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه فقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم وأخرجه محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ في مستخرجه
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل ابن أبي سهيل قال رآني علي الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال مالي رأيتك عند القبر قلت سلمت على النبي صلى الله عليه و سلم
فقال إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء
ولهذا ذكر الأئمة أحمد وغيره من أصحاب مالك وغيرهم إذا سلم على النبي صلى الله عليه و سلم وقال ما ينبغي له أن يقول ثم أراد أن يدعو فإنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره
فصل
في ذكر فوائد خطبته صلى الله عليه و سلم العظيمة في يوم عرفةروى مسلم في صحيحه عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن ابيه عن جابر في حديث حجة الوداع قال حتى إذا زالت الشمس يعني يوم عرفة أمر بالقصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي فخطب الناس وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحرث كان مسترضعا في بني سعد فقتلته هذيل وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع كله فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني فماذا أنتم قائلون قالوا نحن نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس اللهم اشهد ثلاث مرات ثم أذن فأقام فصلى
الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى أتى الموقف وذكر تمام الحديث
فقوله صلى الله عليه و سلم كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع يدخل فيه كل ما كانوا عليه من العبادات والعادات مثل دعواهم يال فلان ويال فلان ومثل أعيادهم وغير ذلك من أمورهم
ثم خص بعد ذلك الدماء والأموال التي كانت تستباح باعتقادات جاهلية من الربا الذي كان في ذمم أقوام ومن قتيل قتل في الجاهلية قبل إسلام القاتل وعهده أو قبل إسلام المقتول وعهده إما لتخصيصها بالذكر بعد العام وإما لأن هذا إسقاط لأمور معينة يعتقدون أنها حقوق لا لسنن عامة لهم فلا تدخل في الأول كما لم تدخل الديون التي ثبتت ببيع صحيح أو قرض ونحو ذلك
ولا يدخل في هذا اللفظ ما كانوا عليه في الجاهلية واقره الله في الإسلام كالمناسك وكدية المقتول بمائة من الإبل وكالقسامة ونحو ذلك لأن أمر الجاهلية معناه مفهوم منه ما كانوا عليه مما لم يقره الإسلام فيدخل في ذلك ما كانوا عليه وإن لم ينه في الإسلام عنه بعينه
وأيضا ما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث عياش بن عباس عن أبي الحصين المصري يعني الهيثم بن شفي قال خرجت أنا وصاحب لي يكنى أبا عامر رجل من المعافر لنصلي بإيلياء وكان قاصهم رجل من الأزد يقال له أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين فسبقني صاحبي إلى المسجد ثم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني هل أدركت قصص أبي ريحانة قلت لا قال سمعته يقول نهى رسول الله صلى الله عليه و سلم عن عشر عن الوشر والوشم والنتف وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل بأسفل ثيابه حريرا مثل الأعاجم أو يجعل على منكبيه حريرا
مثل الأعاجم وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان وفي رواية عن أبي ريحانة قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه و سلم
وهذا الحديث محفوظ من حديث عياش بن عباس رواه عنه المفضل ابن فضالة وجيوة بن شريح المصري ويحيى بن أيوب وكل منهم ثقة وعياش بن عباس روى له مسلم وقال يحيى بن معين ثقة وقال أبو حاتم صالح وأما أبو الحصين الهيثم بن شفي قال الدارقطني شفي بفتح الشين وتخفيف الفاء وأكثر المحدثين يقولون شفي وهو غلط وأبو عامر الحجري الأزدي فشيخان قد روى عن كل واحد منهما أكثر من واحد وهما من الشيوخ القدماء
وهذا الحديث قد أشكل على أكثر الفقهاء من جهة أن يسير الحرير قد دل على جوازه نصوص متعددة ويتوجه تحريمه على الأصل وهو أن يكون صلى الله عليه و سلم إنما كره أن يجعل الرجل بأسفل ثيابه أو على منكبيه حريرا مثل الأعاجم فيكون المنهي عنه نوعا كان شعارا للأعاجم فنهى عنه لذلك لا لكونه حريرا فإنه لو كان النهي عنه لكونه حريرا لعم الثوب كله ولم يخص هذين الموضعين ولهذا قال فيه مثل الأعاجم والأصل في الصفة أن تكون لتقييد الموصوف لا لتوضيحه
وعلى هذا يمكن تخريج ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قال لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير فأومأ الحسن إلى جيب قميصه
قال قال ألا وطيب الرجال ريح لا لون له ألا وطيب النساء لون لا ريح له قال سعيد أراه قال إنما حملوا قوله في طيب النساء على أنها إذا خرجت فأما إذا كانت عند زوجها فلتطيب بما شاءت أو يخرج هذا الحديث على الكراهية فقط وكذلك قد يقال في الحديث الأول لكن في ذلك نظر
وأيضا ففي الصحيحين عن رافع بن خديج قال قلت يا رسول الله إنا لاقوا العدو غدا وليس معنا مدي أفنذبح بالقصب فقال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم وأما الظفر فمدي الحبشة
نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن الذبح بالظفر معللا بأنها مدي الحبشة كما علل السن بأنه عظم
وقد اختلف الفقهاء في هذا فذهب أهل الرأي إلى أن علة النهي كون الذبح بالسن والظفر يشبه الخنق أو هو مظنة الخنق والمنخنقة محرمة وسوغوا على هذا الذبح بالسن والظفر المنزوعين لأن التذكية بالآلات المنفصلة المحددة لا خنق فيها
والجمهور منعوا من ذلك مطلقا لأن النبي صلى الله عليه و سلم استثنى السن والظفر مما أنهر الدم فعلم أنه من المحدد الذي لا يجوز التذكية به ولو كان لكونه خنقا لم يستثنه والمظنة إنما تقام مقام الحقيقة إذا كانت الحكمة خفية أو غير منضبطة فأما مع ظهورها وانضباطها فلا
وأيضا فإنه مخالف لتعليل رسول الله صلى الله عليه و سلم المنصوص في الحديث
ثم اختلف هؤلاء هل يمنع من التذكية بسائر العظام عملا بعموم العلة على قولين في مذهب أحمد وغيره
وعلى الأقوال الثلاثة فقوله صلى الله عليه و سلم أما الظفر فمدي الحبشة بعد قوله سأحدثكم عن ذلك يقتضي أن هذا الوصف وهو كونه مدي الحبشة له تأثير في المنع إما أن يكون علة أو دليلا على العلة أو وصفا من أوصاف العلة أو دليلها والحبشة في أظفارهم طول فيذكون بها دون سائر الأمم فيجوز أن يكون نهيه عن ذلك لما فيه من مشابهتهم فيما يختصون به
وأما العظم فيجوز أن يكون نهيه عن التذكية به كنهيه عن الاستنجاء به لما فيه من تنجيسه على الجن إذ الدم نجس
وليس الغرض هنا ذكر مسألة الذكاة بخصوصها فإن فيها كلاما ليس هذا موضعه
وأيضا في الصحيحين عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء وقال قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن العاص الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب
وروى مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة ابن خندف أخا بني كعب وهو يجر قصبه في النار
وللبخاري من حديث أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أبو خزاعة
هذا من العلم المشهور أن عمرو بن لحي هو أول من نصب الأنصاب حول البيت ويقال إنه جلبها من البلقاء من أرض الشام متشبها بأهل البلقاء وهو أول من سيب السائبة ووصل الوصيلة وحمى الحامي فأخبر النبي صلى الله عليه و سلم أنه رآه يجر قصبه في النار وهي الأمعاء ومنه سمى القصاب بذلك لأنها تشبه القصب
ومعلوم أن العرب قبله كانوا على ملة أبيهم إبراهيم على شريعة التوحيد
والحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم فتشبهوا بعمرو بن لحي وكان عظيم أهل مكة يومئذ لأن خزاعة كانوا ولاة البيت قبل قريش وكان سائر العرب متشبهين بأهل مكة لأن فيها بيت الله وإليها الحج ما زالوا معظمين من زمن إبراهيم عليه السلام فتشبه عمرو بمن رآه في الشام واستحسن بعقله ما كانوا عليه ورأى أن في تحريم ما حرمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي تعظيما لله ودينا فكان ما فعله أصل الشرك في العرب أهل دين إبراهيم وأصل تحريم الحلال وإنما فعله متشبها فيه بغيره من أهل الأرض فلم يزل الأمر يتزايد ويتفاقم حتى غلب على أفضل الأرض الشرك بالله عز و جل وتغير دينه الحنيف إلى أن بعث الله رسوله صلى الله عليه و سلم فأحيا ملة إبراهيم عليه السلام واقام التوحيد وحلل ما كانوا يحرمونه
وفي سورة الأنعام من عند قوله تعالى وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا إلى قوله قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها
بغير علم وحرموا ما رزقهم الله إلى آخر السورة خطاب مع هؤلاء الضرب ولهذا يقول تعالى في اثنائها سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء
ومعلوم أن مبدأ هذا التحريم ترك الأمور المباحة تدينا وأصل هذا التدين هو من التشبه بالكفار وإن لم يقصد المتدين التشبه بهم
فقد تبين لك أن من أصل دروس دين الله وشرائعه وظهور الكفر والمعاصي التشبه بالكافرين كما أن من أصل كل خير المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم ولهذا عظم وقع البدع في الدين وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت الوصفين ولهذا جاء في الحديث ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع عنهم من السنة مثلها
وأيضا فقد روى أبو داود في سننه وغيره من حديث هشيم أخبرنا أبو بشر عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال اهتم النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له انصب راية عند حضور الصلاة فاذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك قال فذكروا له القنع شبور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال هو من أمر اليهود قال فذكر له الناقوس فقال هو من فعل النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم النبي صلى الله عليه و سلم فأري الأذان في منامه قال فغدا على رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره فقال يا رسول الله إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان قال وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوما قال ثم أخبر النبي صلى الله عليه و سلم فقال له ما منعك أن تخبرنا فقال سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله قال فأذن بلال قال أبو بشر فحدثني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا لجعله رسول الله صلى الله عليه و سلم مؤذنا
وروى سعيد بن منصور في سننه حدثنا أبو عوانة عن مغيرة عن عامر الشعبي أن رسول الله صلى الله عليه و سلم اهتم بأمر الصلاة اهتماما شديدا ليتبين ذلك فيه وكان فيما اهتم به من أمر الصلاة أن ذكر الناقوس ثم قال هو من فعل النصارى ثم أراد أن يبعث رجالا يؤذنون الناس بالصلاة في الطرق ثم قال أكره أن أشغل رجالا عن صلاتهم بأذان غيرهم وذكر رؤيا عبد الله بن زيد
ويشهد لهذا ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس قال لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا ويضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة
وفي الصحيحين عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون للصلاة وليس ينادي بهم أحد فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى وقال بعضهم قرنا مثل قرن اليهود فقال عمر أو تبعثون رجلا ينادي بالصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا بلال قم فناد بالصلاة
ما يتعلق بهذا الحديث من شرح الأذان ورؤيا عبد الله بن زيد وعمر وأمر عمر أيضا بذلك وما روي من أن النبي صلى الله عليه و سلم كان قد سمع الأذان ليلة أسري به إلى غير ذلك ليس هذا موضع ذكره وذكر الجواب عما قد يستشكل منه
وإنما الغرض هنا أن النبي صلى الله عليه و سلم لما كره بوق اليهود المنفوخ
بالفم وناقوس النصارى المضروب باليد علل هذا بأنه من أمر اليهود وعلل هذا بأنه من أمر النصارى لأن ذكر الوصف عقيب الحكم يدل على أنه علة له وهذا يقتضي نهيه عن كل ما هو من أمر اليهود والنصارى هذا مع أن قرن اليهود يقال إن أصله مأخوذ عن موسى عليه السلام وأنه كان يضرب بالبوق في عهده وأما ناقوس النصارى فمبتدع إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم
وهو يقتضي كراهية هذا النوع من الأصوات مطلقا في غير الصلاة أيضا لأنه من أمر اليهود والنصارى فإن النصارى يضربون بالنواقيس في أوقات متعددة غير أوقات عباداتهم
وإنما شعار الدين الحنيف الأذان المتضمن للاعلان بذكر الله سبحانه الذي به تفتح أبواب السماء وتهرب الشياطين وتنزل الرحمة
وقد ابتلي كثير من هذه الأمة من الملوك وغيرهم بهذا الشعار شعار اليهود والنصارى حتى إنا رأيناهم في هذا الخميس الحقير الصغير يبخرون البخور ويضربون له بنواقيس صغار حتى إن من الملوك من كان يضرب بالأبواق والدبادب في أوقات الصلوات الخمس وهو نفس ما كرهه رسول الله صلى الله عليه و سلم ومنهم من كان يضرب بها طرفي النهار تشبها منه كما زعم بذي القرنين ووكل ما دون ذلك إلى ملوك الأطراف
وهذه المشابهة لليهود والنصارى وللأعاجم من الروم والفرس لما غلبت على ملوك الشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدى المسلمين ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله سلط الله عليهم الترك الكافرين الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد مالم يجر في دولة الإسلام مثله وذلك تصديق قوله صلى الله عليه و سلم
لتركبن سنن من كان قبلكم كما تقدم
وكان المسلمون على عهد نبيهم وبعده لا يعرفون وقت الحرب إلا بالسكينة وذكر الله تعالى
قال قيس بن عبادة وهو من كبار التابعين كانوا يستحبون خفض الصوت عند الذكر وعند القتال وعند الجنائز
وكذلك سائر الآثار تقتضي أنهم كانت عليهم السكينة في هذه المواطن مع امتلاء القلوب بذكر الله وإجلاله وإكرامه كما أن حالهم في الصلاة كذلك وكان رفع الصوت في هذه المواطن الثلاث عادة أهل الكتاب والأعاجم ثم قد ابتلى بها كثير من هذه الأمة وليس هذا موضع استقصاء ذلك
وأيضا فعن عمرو بن ميمون الأزدي قال قال عمر رضي الله عنه كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس ويقولون أشرق ثبير كيما نغير قال فخالفهم النبي صلى الله عليه و سلم وأفاض قبل طلوع الشمس وقد روى في هذا الحديث فيما أظنه أنه قال خالف هدينا هدي المشركين وكذلك كانوا يفيضون من عرفات قبل الغروب فخالفهم النبي صلى الله عليه و سلم بالإفاضة بعد الغروب وبهذا صار الوقوف إلى ما بعد الغروب واجبا عند جماهير العلماء وركنا عند بعضهم وكرهوا شدة الإسفار بالفجر صبيحة جمع
ثم الحديث قد ذكر فيه قصد المخالفة للمشركين
وأيضا فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة متفق عليه
وعن جبير بن نفير عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم علي ثوبين معصفرين فقال إن هذه من ثياب الكفار لا تلبسها رواه مسلم وعلل النهي عن لبسها بأنها من ثياب الكفار وسواء أراد أنها مما يستحله الكفار بأنهم يستمتعون بخلاقهم في الدنيا أو مما يعتاده الكفار لذلك كما أنه في الحديث قال إنهم يستمتعون بآنية الذهب والفضة في الدنيا وهي للمؤمنين في الآخرة ولهذا كان العلماء يجعلون اتخاذ الحرير وأواني الذهب والفضة تشبها بالكفار
ففي الصحيحين عن أبي عثمان الهندي قال كتب إلينا عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان مع عتبة بن فرقد يا عتبة إنه ليس من كد أبيك ولا من كد أمك فأشبع المسلمين في رحالهم مما تشبع منه في رحلك وإياك والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم بإصبعيه الوسطى والسبابة وضمهما
وروى أبو بكر الخلال بإسناده عن محمد بن سيرين أن حذيفة بن اليمان أتى بيتا فرأى فيه حادثتين فيه أباريق الصفر والرصاص فلم يدخله وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وفي لفظ آخر فرأى شيئا من زي العجم فخرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وقال علي بن أبي صالح السواق كنا في وليمة فجاء أحمد بن حنبل فلما دخل نظر إلى كرسي في الدار عليه فضة فخرج فلحقه صاحب الدار فنفض يده في وجهه وقال زي المجوس زي المجوس
وقال في رواية صالح إذا كان في الدعوة مسكر أو شيء من منكر آنية المجوس الذهب والفضة أو ستر الجدران بالثياب خرج ولم يطعم
ولو تتبعنا ما في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه و سلم مع ما دل عليه كتاب الله لطال بنا القول
فصل
وأما الإجماع فمن وجوه
من ذلك أن أمير المؤمنين عمر في الصحابة رضي الله عنهم ثم عامة الأئمة بعده وسائر الفقهاء جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم فيما شرطوه على أنفسهم أن نوقر المسلمين ونقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم قلنسوة أو عمامة أو نعلين أو فرق شعر ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتنى بكناهم ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور وأن نجز مقادم رءوسنا وأن نلزم زينا حيثما كان وأن نشد الزنانير على أوساطنا وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ولا نظهر صليبا ولا كتبا من كتب ديننا في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيفا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين رواه حرب بإسناد جيد
وفي رواية أخرى رواها الخلال وأن لا نضرب بنواقيسنا إلا ضربا خفيفا في جوف كنائسنا ولا نظهر عليها صليبا ولا نرفع أصواتنا في الصلاة ولا القراءة في كنائسنا فيما يحضره المسلمون وأن لا نخرج صليبا ولا كتابا في سوق المسلمين ولا نخرج باعوثا والباعوث أنهم يخرجون مجتمعين كما نخرج يوم الأضحى والفطر ولا شعانينا ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ولا نظهر النيران معهم
في أسواق المسلمين وأن لا نجاوزهم بالجنائز ولا نبيع الخمور إلى أن قال وأن نلزم زينا حيثما كنا وأن لا نتشبه بالمسليمن في لبس قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ولا في مراكبهم ولا نتكلم بكلامهم ولا نكتني بكناهم وأن نجز مقادم رءوسنا ولا نفرق نواصينا وأن نشد الزنانير على أوساطنا
وهذه الشروط أشهر شيء في كتب الفقه والعلم وهي مجمع عليها في الجملة بين العلماء من الأئمة المتبوعين وأصحابهم وسائر الأئمة ولولا شهرتها عند الفقهاء لذكرنا ألفاظ كل طائفة فيها وهي أصناف
الصنف الأول ما مقصوده التمييز عن المسلمين في الشعور واللباس والأسماء والمراكب والكلام ونحوها ليتميز المسلم من الكافر ولا يشبه أحدهما الآخر في الظاهر ولم يرض عمر رضي الله عنه والمسلمون بأصل التمييز بل بالتمييز في عامة الهدى على تفاصيل معروفة في غير هذا الموضع
وذلك يقتضي إجماع المسلمين على التميز عن الكفار ظاهرا وترك التشبه بهم ولقد كان أمراء الهدى مثل العرين وغيرهما يبالغون في تحقيق ذلك بما يتم به المقصود
ومقصودهم من هذا التميز كما روى الحافظ أبو الشيخ الأصبهاني بإسناده في شروط أهل الذمة عن خالد بن عرفطة قال كتب عمر رضي الله عنه إلى الأمصار أن لا يجزوا نواصيهم يعني النصارى ولا يلبسوا لبس المسلمين حتى يعرفوا
وقال القاضي أبو يعلى في مسألة حدثت في وقته أهل الذمة مأمورون بلبس الغيار فإن امتنعوا لم يجز لأحد من المسلمين صبغ ثوب من ثيابهم لأنه لم يتعين عليهم صبغ ثوب بعينه
قلت وهذا فيه خلاف هل يلزمون بالتغيير أو الواجب علينا إذا امتنعوا أن نغير نحن وأما وجوب أصل المغايرة فما علمت فيه خلافا
وقد روى أبو الشيخ الأصبهاني في شروط أهل الذمة بإسناده أن عمر كتب أن لا تكاتبوا أهل الذمة فيجري بينكم وبينهم المودة ولا تكنوهم وأذلوهم ولا تظلموهم ومروا نساء أهل الذمة أن لا يعقدن زناراتهن ويرخين نواصيهن ويرفعن عن سوقهن حتى نعرف زيهن من المسلمات فإن رغبن عن ذلك فليدخلن إلى الإسلام طوعا أو كرها
وروى أيضا أبو الشيخ بإسناده عن محمد بن قيس وسعيد بن عبد الرحمن بن حبان قال دخل ناس من بني تغلب على عمر بن عبد العزيز وعليهم العمائم كهيئة العرب فقالوا يا أمير المؤمنين ألحقنا بالعرب قال فمن أنتم قالوا نحن بنو تغلب قال أولستم من أواسط العرب قالوا نحن نصارى قال علي بجلم فأخذ من نواصيهم وألقى العمائم وشق رداء كل واحد شبرا يحترم به وقال لا تركبوا السروج واركبوا على الأكف ودلوا أرجلكم من شق واحد
وعن مجاهد بن الأسود قال كتب عمر بن عبد العزيز أن لا يضرب الناقوس خارجا من الكنيسة
وعن معمر أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنع من قبلك فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب وتقدم في ذلك أشد التقدم واكتب فيه حتى لا يخفى على أحد نهي عنه وقد ذكر لي أن كثيرا ممن قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا لبس المناطق على أوساطهم واتخذوا الوفر والجمم وتركوا التقصيص ولعمري إن كان يصنع ذلك فيما قبلك إن ذلك بك ضعف وعجز فانظر كل شيء كنت نهيت عنه وتقدمت فيه إلا تعاهدته وأحكمته ولا ترخص فيه ولا تعد عنه شيئا
ولم أكتب سائر ما كانوا يأمرون به في أهل الكتاب إذ الغرض هنا التمييز وكذلك فعل جعفر بن محمد بن هرون المتوكل بأهل الذمة في خلافته واستشارته في ذلك الإمام أحمد بن حنبل وغيره وعهوده في ذلك وجوابات أحمد ابن حنبل له معروفة
ومن جملة الشروط ما يعود بإخفاء منكرات دينهم وترك إظهارها كمنعهم من إظهار الخمر والناقوس والنيران والأعياد ونحو ذلك
ومنها ما يعود بإخفاء شعار دينهم كأصواتهم بكتابهم
فاتفق عمر رضي الله عنه والمسلمون معه وسائر العلماء بعده ومن وفقه الله تعالى من ولاة الأمور على منعهم من أن يظهروا في دار الإسلام شيئا مما يختصون به مبالغة في أن لا يظهروا في دار الإسلام خصائص المشركين فكيف إذا عملها المسلمون وأظهروها هم
ومنها ما يعود بترك إكرامهم وإلزامهم الصغار الذي شرعه الله تعالى
ومن المعلوم أن تعظيم أعيادهم ونحوها بالموافقة فيها هو نوع من إكرامهم فإنهم يفرحون بذلك ويسرون به كما يغتمون بإهمال أمر دينهم الباطل
الوجه الثاني من دلائل الإجماع أن هذه القاعدة قد أمر بها غير واحد من الصحابة والتابعين في أوقات متفرقة وقضايا متعددة وانتشرت ولم ينكرها منكر
فعن قيس بن أبي حازم قال دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال ما لها لا تتكلم قالوا حجت مصمتة فقال لها تكلمي فإن هذا لا يحل هذا عمل الجاهلية فتكلمت فقالت من أنت قال امرؤ من المهاجرين فقلت من أي المهاجرين قال من قريش قالت من أي قريش قال إنك لسؤل وقال أنا أبو بكر قالت ما بقاؤنا على هذا الأمر الصلح ! الذي جاء الله به بعد الجاهلية قال بقاؤكم عليه ما استقامت لكم أئمتكم قالت
وما الأئمة قال أما كان لقومكم رءوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم قالت بلى قال فهم أولئك على الناس رواه البخاري في صحيحه
فأخبر أبو بكر أن الصمت المطلق لا يحل وعقب ذلك بقوله هذا من عمل الجاهلية قاصدا بذلك عيب هذا العمل وذمه
وتعقيب الحكم بالوصف دليل على أن الوصف علة فدل على أن كونه من عمل الجاهلية وصف يوجب النهي عنه والمنع منه
ومعنى قوله من عمل الجاهلية أي إنه مما انفرد به أهل الجاهلية ولم يشرع في الإسلام فيدخل في هذا كل ما اتخذ من عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به ولم يشرع الله التعبد به في الاسلام وإن لم ينوه عنه بعينه كالمكاء والتصدية فإن الله تعالى قال عن الكافرين وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية والمكاء الصفير ونحوه والتصدية التصفيق فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام
وكذلك بروز المحرم وغيره للشمس حتى لا يستظل بظل أو ترك الطواف بالثياب العادية أو ترك كل ما عمل في غير الحرم ونحو ذلك من أمور الجاهلية التي كانوا يتخذونها عبادات وإن كان قد جاء نهي خاص في عامة هذه الأمور بخلاف السعي بين الصفا والمروة وغيره من شعائر الحج فإن ذلك من شعائر الله وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة
وقد قدمنا ما رواه البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى المسلمين المقيمين ببلاد فارس إياكم وزي أهل الشرك
وهذا نهي منه للمسلمين عن كل ما كان من زي المشركين
وقال الإمام أحمد في المسند حدثنا يزيد حدثنا عاصم عن أبي عثمان النهدي عن عمر أنه قال اتزروا وارتدوا وانتعلوا والبسوا الخفاف
والسراويلات والقوا الركب وانزوا نزوا وعليكم بالمعدية وارموا الأغراض وذروا التنعم وزي العجم وإياكم والحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد نهى عنه وقال لا تلبسوا من الحرير إلا ما كان هكذا واشار رسول الله صلى الله عليه و سلم بإصبعيه
وقال أحمد حدثنا حسن بن موسى حدثنا زهير حدثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان قال جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بأذربيجان يا عتبة ابن فرقد إياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهانا عن لبوس الحرير وقال إلا هكذا ورفع لنا رسول الله صلى الله عليه و سلم إصبعيه
وهذا ثابت على شرط الصحيحين
وفيه أن عمر رضي الله عنه أمر بالمعدية وهي زي بني معد بن عدنان وهم العرب فالمعدية نسبة إلى معد ونهى عن زي العجم وزي المشركين وهذا عام كما لا يخفى وقد تقدم هذا مرفوعا والله أعلم
وروى الإمام أحمد في المسند حدثنا أسود بن عامر حدثنا حماد بن سلمة عن ابي سنان عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب أن عمر كان بلجابية فذكر فتح بيت المقدس قال حماد بن سلمة فحدثني أبو سنان عن عبيد بن آدم قال سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لكعب أين ترى أن أصلي فقال إن اخذت عني صليت خلف الصخرة فكانت القدس كلها بين يديك فقال عمر ضاهيت اليهودية لا ولكن أصلي حيث صلى
رسول الله صلى الله عليه و سلم فتقدم إلى القبلة فصلى ثم جاء فبسط رداءه فكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس
قلت فصلاة رسول الله صلى الله عليه و سلم في مسجد بيت المقدس في ليلة الإسراء قد رواها مسلم في صحيحه من حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه قال فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء قال ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليع السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء وذكر الحديث
وقد كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ينكر أن يكون صلى فيه لأنه لم يبلغه ذلك واعتقد أنه لو صلى فيه لوجب على الأمة الصلاة فيه
فعمر رضي الله عنه عاب على كعب الأحبار مضاهاة اليهودية أي مشابهتها في مجرد استقبال الصخرة لما فيه من مشابهة من يعتقدها قبلة باقية وإن كان المسلم لا يقصد أن يصلي إليها
وقد كان لعمر رضي الله عنه في هذا الباب من السياسات المحكمة ما هي مناسبة لسائر سيرته المرضية فإنه رضي الله عنه هو الذي استحالت ذنوب الإسلام بيده غربا فلم يفر عبقري فريه حتى صدر الناس بطعن فأعز الله به الإسلام وأذل
الكفر وأهله وأقام شعائر الدين الحنيف ومنع من كل أمر فيه نزوع إلى نقض عرى الإسلام مطيعا في ذلك لله ورسوله وقافا عند كتاب الله ممتثلا لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم محتذيا حذو صاحبيه مشاورا في أموره للسابقين الأولين مثل عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم وغيرهم ممن له علم أو فقه أو رأي أو نصيحة للاسلام وأهله حتى إن العمدة في الشروط على أهل الكتاب على شروطه وحتى منع من استعمال كافر أو ائتمانه على الأمة وإعزازه بعد أن أذله الله وحتى روى عنه أنه حرق الكتب العجمية وغيرها وهو الذي منع أهل البدع من أن ينبغوا وألبسهم ثوب الصغار حيث فعل بصبيغ بن عسل التميمي ما فعل في قصته المشهورة وستأتي عند ذكرها إن شاء الله تعالى في خصوص أعياد الكفار من النهي عن الدخول عليهم فيها ومن النهي عن تعلم رطانة الأعاجم ما يتبين به ثبوت قوة شكيمته في النهي عن مشابهة الكفار والأعاجم ثم ما كان عمر قد قرره من
السنن والأحكام والحدود فعثمان رضي الله عنه أقر ما فعله عمر وجرى على سنته في ذلك فقد علم موافقة عثمان لعمر في هذا الباب
وروى سعيد في سننه حدثنا هشيم عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن أبيه قال خرج علي رضي الله عنه فرأى قوما قد سدلوا فقال ما لهم كأنهم اليهود خرجوا من فهورهم ورواه ابن المبارك وحفص بن غياث عن خالد
وفيه أنه رأى قوما قد سدلوا في الصلاة فقال كأنهم اليهود خرجوا من فهرهم وقد روينا عن ابن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يكرهان السدل في الصلاة
وقد روى أبو داود عن سليمان الأحول وعسل بن سفيان عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى عن السدل في الصلاة وأن يغطي الرجل فاه ومنهم من رواه عن عطاء عن النبي صلى الله عليه و سلم مرسلا لكن قال هشيم حدثنا عامر الأحول قال سألت عطاء عن السدل في الصلاة فكرهه فقلت عن النبي صلى الله عليه و سلم قال عن النبي صلى الله عليه و سلم والتابعي إذا أفتى بما رواه دل على ثبوته عنده
لكن قد روي عن عطاء من وجوه جيدة أنه كان لا يرى بالسدل بأسا وأنه كان يصلي سادلا فلعل هذا كان قبل أن يبلغه الحديث ثم لما بلغه رجع أو لعله نسي الحديث والمسألة مشهورة وهو عمل الراوي بخلاف روايته هل يقدح في روايته
والمشهور عن أحمد وأكثر العلماء أنه لا يقدح فيها لما تحتمله المخالفة من وجوه غير ضعف الحديث
وقد روى عبد الرزاق عن بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أن أباه كره السدل في الصلاة قال أبو عبيدة وكان أبي يذكر أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عنه
وأكثر العلماء يكرهون السدل مطلقا وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي والمشهور عن أحمد
وعنه أنه إنما يكره فوق الإزار دون القميص توفيقا بين الآثار في ذلك وحملا للنهي عن لباسهم المعتاد
ثم اختلف هل السدل محرم يبطل الصلاة
فقال ابن أبي موسى فإن صلى سادلا ففي الإعادة روايتان أظهرهما لا يعيد
وقال أبو بكر عبد العزيز إن لم تبد عورته فلا يعيد باتفاق ومنهم من لم يكره السدل وهو قول مالك وغيره
والسدل المذكور هو أن يطرح الثوب على إحدى كتفيه ولا يرد أحد طرفيه على كتفه الأخرى هذا هو المنصوص عن أحمد وعلله بأنه فعل اليهود
وقال أحمد بن حنبل قال أبو عبد الله والسدل أن يسدل أحد طرفي الإزار ولا ينعطف به عليه وهو لبس اليهود وهو على الثوب وغيره مكروه في الصلاة
وقال صالح بن أحمد سألت أبي عن السدل في الصلاة فقال يلبس الثوب فإذا لم يطرح أحد طرفيه على الآخر فهو السدل وهذا هو الذي عليه عامة العلماء
وأما ما ذكره أبو الحسن الآمدي وابن عقيل من أن السدل هو إسبال الثوب بحيث ينزل عن قدميه يجره فيكون هو إسبال الثوب وحره المنهي عنه فغلط مخالف لعامة العلماء وإن كان الإسبال والجر منهيا عنه بالاتفاق والأحاديث فيه أكثر وهو محرم على الصحيح لكن ليس هو السدل
وليس الغرض هنا عين هذه المسألة وإنما الغرض أن عليا رضي الله عنه شبه السادلين باليهود مبينا بذلك كراهة فعلهم
فعلم أن مشابهة اليهود أمر كان قد استقر عندهم كراهته
وفهر اليهود بضم الفاء مدراسهم وأصلها بهرو هي عبرانية فعربت هكذا ذكره الجوهري وكذلك ذكر ابن فارس وغيره أن فهر اليهود مدراسهم وفي كتاب العين عن الخليل بن أحمد أن فهر اليهود مدراسهم
وسنذكر عن علي رضي الله عنه من كراهية التكلم بكلامهم ما يؤيد هذا
وأما ما في الحديث المذكور من النهي عن تغطية الفم فقد علله بعضهم بأنه فعل المجوس عند نيرانهم التي يعبدونها فعلى هذا تظهر مناسبة الجمع بين النهي عن السدل وعن تغطية الفم بما في كل منهما من مشابهة الكفار مع أن في كل منهما معنى آخر يوجب الكراهة ولا محذور في تعليل الحكم بعلتين
فهذا عن الخلفاء الراشدين
وأما سائر الصحابة رضي الله عنهم فكثير مثل ما قدمناه عن حذيفة بن اليمان أنه لما دعي إلى وليمة فرأى شيئا من زي العجم خرج وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وروى أبو محمد الخلال بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سأله رجل أحتقن قال احتقن لا تبد العورة ولا تستن بسنة المشركين
قوله لا تستن بسنة المشركين عام
وقال أبو داود حدثنا الحسن بن علي حدثنا يزيد بن هارون أنبأنا الحجاج بن حسان قال دخلنا على أنس بن مالك فحدثني أخي المغيرة قال وأنت
يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان فمسح رأسك وبرك عليك وقال احلقوا هذين أو قصوهما فإن هذا زي اليهود
علل النهي عنهما بأن ذلك زي اليهود وتعليل النهي بعلة يوجب أن تكون العلة مكروهة مطلوبا عدمها فعلم أن زي اليهود حتى في الشعر مما يطلب عدمه وهو المقصود
وروى ابن أبي عاصم حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد الواسطي عن عمران بن حدير عن أبي مجلز أن معاوية قال إن تسوية القبور من السنة وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تشبهوا بهم يشير معاوية إلى ما رواه مسلم في صحيحه عن فضالة بن عبيد أنه أمر بقبر فسوي ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يأمر بتسويتها رواه مسلم
وعن أبي الهياج الأسدي عن علي أيضا قال أمرني النبي صلى الله عليه و سلم أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته ولا تمثالا إلا طمسته رواه مسلم
وسنذكر إن شاء الله تعالى عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال من بنى ببلاد المشركين وصنع نيروزهم ومهرجانهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة
وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها كرهت الاختصار في الصلاة وقالت لا تشبهوا باليهود هكذا رواه بهذا اللفظ سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة وقد تقدم من رواية البخاري في المرفوعات
وروى سعيد حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن إسماعيل بن عبد الرحمن بن ذؤيب قال دخلت مع ابن عمر مسجدا بالجحفة فنظر إلى شرفات فخرج إلى موضع فصلى فيه ثم قال لصاحب المسجد إني رأيت في مسجدك هذا يعني الشرفات شبهتها بأنصاب الجاهلية فمر بها أن تكسر
وروى سعيد أيضا عن ابن مسعود أنه كان يكره الصلاة في الطاق وقال إنه من الكنائس فلا تشبهوا بأهل الكتاب
وعن عبيد بن أبي الجعد قال كان أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم يقولون إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المسجد يعني الطاقات
وهذا الباب فيه كثرة عن الصحابة
وهذه القضايا التي ذكرناها بعضها في مظنة الاشتهار وما علمنا أحدا خالف ما ذكرناه عن الصحابة رضي الله عنهم من كراهة التشبه بالكفار والأعاجم في الجملة وإن كان بعض هذه المسائل المعينة فيها خلاف وتأويل ليس هذا موضعه
وهذا كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يختلف في بعض أعيان المسائل لتأويل
فعلم اتفاقهم على كراهة التشبه بالكفار والأعاجم
الوجه الثالث في تقرير الإجماع ما ذكره عامة علماء الإسلام من المتقدمين والائمة المتبوعين وأصحابهم في تعليل النهي عن أشياء بمخالفة الكفار أو مخالفة الأعاجم وهو أكثر من أن يمكن استقصاؤه وما من أحد له أدنى نظر في الفقه إلا وقد بلغه من ذلك طائفة وهذا بعد التأمل والنظر يورث علما ضروريا باتفاق الأئمة على النهي عن موافقة الكفار والأعاجم والأمر بمخالفتهم
وأنا أذكر من ذلك نكتا في مذاهب الأئمة المتبوعين اليوم مع ما تقدم في أثناء الكلام عن غير واحد من العلماء
فمن ذلك أن الأصل المستقر عليه الأمر في مذهب أبي حنيفة أن تأخير الصلوات أفضل من تعجيلها إلا في مواضع يستثنونها كاستثناء يوم الغيم وكتعجيل الظهر في الشتاء وإن كان غيرهم من العلماء يقول إن الأصل أن التعجيل أفضل فيستحبون التأخير للفجر والعصر والعشاء والظهر إلا في الشتاء في غير الغيم
ثم قالوا يستحب تعجيل المغرب لأن تأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود وهذا أيضا قول سائر الأئمة وهذه العلة منصوصة كما تقدم
وقالوا أيضا يكره السجود في الطاق لأنه يشبه صنيع أهل الكتاب من حيث تخصيص الإمام بالمكان بخلاف ما إذا كان سجوده في الطاق وهذا أيضا ظاهر مذهب أحمد وغيره وفيه آثار صحيحة عن الصحابة ابن مسعود وغيره
وقالوا لا بأس أن يصلي وبين يديه مصحف معلق أو سيف معلق لأنهما لا يعبدان وباعتباره تثبت الكراهة إلى غيرهما ولا بأس أن يصلي على بساط فيه تصاوير لأن فيه استهانة بالصورة ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عبادة الصور وأطلق الكراهة في الأصل لأن المصلى معظم لله
قالوا ولو لبس ثوبا فيه تصاوير كره لأنه يشبه حامل الصنم ولا يكره تماثيل غير ذي روح لأنها لا تعبد
وقالوا أيضا إن صام يوم الشك ينوى أنه من رمضان كره لأنه تشبه بأهل الكتاب لأنهم زادوا في مدة صومهم
وقالوا أيضا فإذا غربت الشمس أفاض الإمام والناس معه على هيئتهم حتى يأتوا مزدلفة لأن فيه إظهار مخالفة المشركين
وقالوا أيضا لا يجوز الأكل والشرب والأدهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء للنصوص ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بتنعم المترفين والمسرفين
وقالوا في تعليل المنع من لباس الحرير في حجة أبي يوسف ومحمد على أبي حنيفة في المنع من افتراشه وتعليقه والستر به لأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام قال عمر إياكم وزي الأعاجم
وقال محمد في الجامع الصغير ولا يتختم إلا بالفضة
قالوا وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام للحديث المأثور أن النبي صلى الله عليه و سلم رأى على رجل خاتم أصفر فقال مالي أجد منك ريح الأصنام ورأى على آخر خاتم من حديد فقال مالي أرى عليك حلية أهل النار ومثل هذا كثير في مذهب أبي حنيفة وأصحابه
وأما مذهب مالك وأصحابه ففيه ما هو أكثر من ذلك حتى قال مالك فيما رواه ابن القاسم في المدونة لا يحرم بالأعجمية ولا يدعوا بها ولا يحلف قال ونهى عمر رضي الله عنه عن رطانة الأعاجم وقال إنها خب قال وأكره الصلاة إلى حجر منفرد في الطريق وأما أحجار كثيرة فجائز
قال ويكره ترك العمل يوم الجمعة كفعل أهل الكتاب يوم السبت والأحد
قال ويقال من تعظيم الله تعظيم ذي الشيبة المسلم قيل فالرجل يقوم للرجل له الفضل والفقه قال أكره ذلك ولا بأس بأن يوسع له في مجلسه قال وقيام المرأة لزوجها حتى يجلس من فعل الجبابرة وربما يكون الناس ينتظرونه فإذا طلع قاموا فليس هذا من فعل الإسلام وهو فيما ينهى عنه من التشبه بأهل الكتاب والأعاجم وفيما ليس من عمل المسلمين أشد من عمل الكوفيين وأبلغ مع أن الكوفيين يبالغون في هذا الباب حتى تكلم أصحاب أبي حنيفة في تكفير من تشبه بالكفار في لباسهم وأعيادهم
وقال بعض أصحاب مالك من ذبح بطيخة في أعيادهم فكأنما ذبح خنزيرا
وكذلك أصحاب الشافعي ذكروا هذا الأصل في غير موضع من مسائلهم كما جاءت به الآثار كما ذكر غيرهم من العلماء مثل ما ذكروه في النهي عن الصلاة في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها مثل طلوع الشمس وغروبها
ذكروا تعليل ذلك بأن المشركين يسجدون للشمس حينئذ كما في الحديث إنها ساعة يسجد لها الكفار
وذكروا في السحور وتأخيره أن ذلك فرق بين صيامنا وصيام أهل الكتاب
وذكروا في اللباس النهي عما فيه تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال
وذكروا أيضا ما جاء من أن المشركين كانوا يقفون بعرفات إلى اصفرار الشمس ويفيضون من جمع بعد طلوع الشمس وأن السنة جاءت بمخالفة المشركين في ذلك بالتعريف إلى الغروب والوقوف بجمع إلى قبيل طلوع الشمس كما جاء في الحديث خالفوا المشركين وخالف هدينا هدي المشركين
وذكروه أيضا في الشروط على أهل الذمة منعهم من التشبه بالمسلمين في لباسهم وغيره مما يتضمن منع المسلمين أيضا من مشابهتهم في ذلك تفريقا بين علامة المسلمين وعلامة الكفار
وبالغ طائفة منهم فنهوا عن التشبه بأهل البدع مما كان شعارا لهم وإن كان في الأصل مسنونا كما ذكره طائفة منهم في تسنيم القبور فإن مذهب الشافعي أن الأفضل تسطيحها ومذهب أحمد وأبي حنيفة أن الأفضل تسنيمها ثم قال طائفة من أصحاب الشافعي بل ينبغي تسنيمها في هذه الأوقات لأن شعار الرافضة اليوم تسطيحها ففي تسطيحها تشبه بهم فيماهو شعار لهم
وقالت طائفة بل نحن نسطحها فإذا سطحناها لم يكن تسطيحها شعار لهم
واتفقت الطائفتان على أن النهي عن التشبه بأهل البدع فيما هو شعار لهم وإنما تنازعوا في أن التسطيح هل يحصل به ذلك أم لا
فإذا كان هذا في التشبه بأهل البدع فكيف بالكفار
وأما كلام أحمد وأصحابه في ذلك فكثير جدا أكثر من أن يحصر وقد قدمنا منه طائفة من كلامه عند ذكر النصوص عند قوله صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم وقوله أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى لا تشبهوا بالمشركين وقوله إنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة
مثل قول أحمد ما أحب لأحد أن يغير الشيب لا يتشبه بأهل الكتاب
وقال لبعض أصحابه أحب إليك أن تخضب ولا تشبه باليهود وكره حلق القفا وقال هو من فعل المجوس وقال من تشبه بقوم فهو منهم
وقال أكره النعل الصرار وهو من زي العجم
وكره تسمية الشهور بالعجمية والأشخاص بالأسماء الفارسية مثل آذرماه وقال للذي دعاه زي المجوس ونفض يده في وجهه وهذا كثير في نصوصه لا ينحصر
وقال حرب الكرماني قلت لأحمد الرجل يشد وسطه بحبل ويصلي قال على القباء لا بأس به وكرهه على القميص وذهب إلى أنه من اليهود فذكرت له السفر وأنا نشد ذلك على أوساطنا فرخص فيه قليلا وأما المنطقة والعمامة ونحو ذلك فلم يكرهه إنما كره الخيط وقال هو أشنع
قلت وكذلك كره أصحابه أن يشد وسطه على الوجه الذي يشبه فعل أهل الكتاب فأما ما سوى ذلك فإنه لا يكره في الصلاة على الصحيح المنصوص بل يؤمر من صلى في قميص واسع الجيب أن يحتزم كما جاء في الحديث لئلا يرى عورة نفسه
وقال الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد وغيره منهم القاضي أبو يعلى وابن عقيل والشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي وغيرهم في أصناف اللباس وأقسامه ومن اللباس المكروه ما خالف زي العرب واشبه زي الأعاجم وعادتهم ولفظ عبد القادر ويكره كل ما خالف زي العرب وشابه زي الأعاجم
وقال أيضا اصحاب أحمد وغيرهم منهم أبو الحسن الآمدي المعروف بابن البغدادي وأظنه نقله أيضا عن ابي عبد الله بن حامد ولا يكره غسل اليدين في الإناء الذي لا أكل فيه لأن النبي صلى الله عليه و سلم فعله وقد
نص أحمد على ذلك وقال لم يزل العلماء يفعلون ذلك ونحن نفعله وإنما تنكره العامة وغسل اليدين بعد الطعام مسنون رواية واحدة
وإذا قدم ما يغسل فيه اليد فلا يرفع حتى يغسل الجماعة أيديهم لأن الرفع من زي الأعاجم
وكذلك قال الشيخ أبو محمد عبد القادر الجيلي ويستحب أن يجعل ماء اليد في طشت واحدة لما روي في الخبر لا تبددوا يبدد الله شملكم وروي أنه صلى الله عليه و سلم نهى أن يرفع الطشت حتى يطف يعني يمتلئ
وقالوا أيضا ومنهم أبو محمد عبد القادر في تعليل كراهة حلق الرأس على إحدى الروايتين لأن في ذلك تشبها بالأعاجم وقال صلى الله عليه و سلم من تشبه بقوم فهو منهم
بل قد ذكر طوائف من الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما كراهة أشياء لما فيها من التشبه بأهل البدع مثل ما قال غير واحد من الطائفتين ومنهم عبد القادر ويستحب أن يتختم في يساره للآثار ولأن خلاف ذلك عادة وشعار للمبتدعة
وحتى إن طوائف من أصحاب الشافعي يستحبون تسنيم القبور وإن كانت السنة عندهم تسطيحها
قالوا لأن ذلك صار شعار المبتدعة
وليس الغرض هنا تقرير أعيان هذه المسائل ولا الكلام على ما قيل فيها بنفي ولا إثبات وإنما الغرض بيان ما اتفقت عليه العلماء من كراهة التشبه بغير أهل الإسلام
وقد يتردد العلماء في بعض فروع هذه القاعدة لتعارض الأدلة فيها أو لعدم اعتقاد بعضهم اندراجه في هذه القاعدة مثل ما نقله الأثرم قال
سمعت أبا عبد الله يسأل عن لبس الحرير في الحرب فقال أرجو أن لا يكون به بأس قال وسمعت أبا عبد الله يسأل عن المنطقة والحلية فيها فقال أما المنطقة فقد كرهها قوم يقولون هي زي الأعاجم وكانوا يحتجزون العمائم
وهذا إنما علق القول فيه لأن في المنطقة منفعة عارضت ما فيها من التشبه
ونقل عن بعض السلف أنه كان يتمنطق فلهذا حكى الكلام عن غيره وأمسك ومثل هذا هل يجعل قولا له إذا سئل عن مسألة فحكى فيها جواب غيره ولم يردفه بموافقة ولا مخالفة فيه لأصحابه وجهان
أحدهما نعم لأنه لولا موافقته له لكان قد أجاب السائل بغيره لأنه إنما سأله عن قوله ولم يسأله أن يحكي له مذهب الناس
والثاني لا يجعل بمجرد ذلك قولا له لأنه إنما حكاه فقط ومجرد الحكاية لا يدل على الموافقة وفي لبس المنطقة أثر وكلام ليس هذا موضعه
ولمثل هذا تردد كلامه في القوس الفارسية فقال الأثرم سألت أبا عبد الله عن القوس الفارسية فقال إنما كانت قسي الناس العربية ثم قال إن بعض الناس احتج بحديث عمر رضي الله عنه جعاب وأدم
قلت حديث أبي عمرو بن حماس قال نعم قال أبو عبد الله يقول فلا تكون جعبة إلا للفارسية والنبل فإنما هو قرن
قال الأثرم قلت لأبي عبد الله في تفسير مجاهد قلوبنا في أكنة قال كالجعبة للنبل قال فإن كان يسمى جعبة لنبل فليس ما احتج به الذي قال هذا بشيء
ثم قال ينبغي أن يسأل عن هذا أهل العربية
قال أبو بكر قيل لأبي عبد الله الدراعة يكون لها فرج فقال كان لخالد بن معدان دراعة لها فرج من بين يديها قدر ذراع قيل لأبي عبد الله فيكون لها فرج من خلفها قال ما أدري أما من بين يديها فقد سمعت من خلفها فلم أسمع قال إلا أن في ذلك سعة له عند الركوب ومنفعة
قال وقد احتج بعض الناس في هذا بقوله تعالى وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ثم قال الأثرم قلت لأبي عبد الله واحتج بهذه الآية بعض الناس في القوس الفارسية ثم قلت إن أهل خراسان يزعمون أنه لا منفعة لهم في القوس العربية وإنما النكاية عندهم للفارسية قال كيف وإنما فتحت الدنيا بالعربية قال الأثرم قلت لأبي عبد الله ورأيتهم بالثغر لا يكادون يعدلون بالفارسية قال إنما رأيت الرجل بالشام متنكبا قوسا عربية
وروى الأثرم عن حفص بن عمر حدثنا رجاء بن مرجي حدثني عبد الله ابن بشر عن أبي راشد الحبراني وأبي الحجاج السكسكي عن علي رضي الله عنه قال بينما رسول الله صلى الله عليه و سلم يتوكأ على قوس له عربية إذ رأى رجلا معه قوس فارسية فقال ألقها فهي ملعونة ولكن عليكم بالقسي العربية وبرماح الفنا فبها يؤيد الله الدين وبها يمكن لكم في الأرض
ولأصحابنا في القوس الفارسية ونحوها كلام طويل ليس هذا موضعه
وإنما نبهت بذلك على أن مالم يكن من هدي المسلمين بل هو من هدي العجم أو نحوهم وإن ظهرت فائدته ووضحت منفعته تراهم يترددون فيه ويختلفون لتعارض الدليلين دليل ملازمة الهدي الأول ودليل استعمال هذا الذي فيه منفعة بلا مضرة مع أنه ليس من العبادات ولا توابعها وإنما هو من الأمور الدنيوية
وأنت ترى عامة كلام أحمد إنما يثبت الرخصة بالأثر عن عمر أو بفعل خالد بن معدان ليثبت بذلك أن ذلك كان يفعل على عهد السلف ويقرون عليه فيكون من هدي المسلمين لا من هدي الأعاجم وأهل الكتاب
فهذا هو وجه الحجة لا أن مجرد فعل خالد بن معدان حجة
وأما ما في هذا الباب عن سائر أئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وسائر الفقهاء فأكثر من أن يمكن ذكر عشره
وقد قدمنا في أثناء الأحاديث كلام بعضهم الذي يدل على كلام الباقين وبدون ما ذكرناه يعلم إجماع الأمة على كراهة التشبه بأهل الكتاب والأعاجم في الجملة وإن كانوا قد يختلفون في بعض الفروع إما لاعتقاد بعضهم أنه ليس من هدي الكفار أو لاعتقاد أن فيه دليلا راجحا أو لغير ذلك كما أنهم مجمعون على اتباع الكتاب والسنة وإن كان قد يخالف بعضهم شيئا من ذلك بنوع تأويل والله أعلم
فصل
ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار الأمر بمخالفة الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها وفي لفظ إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ورواه مسلم أيضا عن الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تأكلوا بالشمال فإن الشيطان يأكل بالشمالفإنه علل النهي بالأكل والشرب بالشمال بأن الشيطان يفعل ذلك فعلم أن مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به ونظائره كثيرة
وقريب من هذا مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم لأن كمال الدين بالهجرة فكان من آمن ولم يهاجر من الأعراب ونحوهم ناقصا قال الله سبحانه وتعالى الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
ومثل ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل
وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم العشاء فإنها في كتاب الله العشاء فإنها تعتم بحلاب الإبل
ورواه البخاري عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم المغرب قال والأعراب تقول هي العشاء
فقد كره موافقة الأعراب في اسم المغرب والعشاء بالعشاء والعتمة
وهذه الكراهة عند بعض علمائنا تقتضي كراهة هذا الاسم مطلقا وعند بعضهم إنما تقتضي كراهة الإكثار منه حتى يغلب على الاسم الآخر وهو المشهور عندنا
وعلى التقديرين ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك كما نهى عن موافقة الأعاجم
فصل
واعلم أن بين التشبه بالكفار والشياطين وبين التشبه بالأعراب والأعاجم فرقا يجب اعتباره وإجمالا يحتاج إلى تفسير
وذلك أن نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله
وعند عباده المؤمنين بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء قال الله فيهم الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم وقال تعالى فيهم سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وإلى أهل إيمان وبر قال الله فيهم ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربان عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم
وقد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين
فهذا كتاب الله يحمد بعض الأعراب ويذم بعضهم وكذلك فعل بأهل الأمصار فقال سبحانه وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم
فبين سبحانه أن المنافقين في الأعراب وذوي القرى وعامة السورة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول
وكذلك العجم وهم من سوى العرب من الفرس والروم والترك والبربر والحبشة وغيرهم ينقسمون إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر كانقسام الأعراب
قال الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير
وقال النبي صلى الله عليه و سلم في الحديث الصحيح إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي وفاجر شقي أنتم بنو آدم وآدم من تراب
وفي حديث آخر رويناه بإسناد صحيح من حديث سعد الجريري عن أبي نضرة حدثني أو قال حدثنا من شهد خطبة النبي صلى الله عليه و سلم بمنى في وسط أيام التشريق وهو على بعير فقال يا أيها الناس ألا إن ربكم عز و جل واحد ألا وإن أباكم واحد ألا لافضل لعربي على عجمي ألا لا فضل لأسود على أحمر إلا بالتقوى ألا قد بلغت قالوا نعم قال ليبلغ الشاهد الغائب وروى هذا الحديث عن أبي نضرة عن جابر
وفي الصحيحين عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال إن بني فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالحو المؤمنين
فأخبر صلى الله عليه و سلم عن بطن قريب النسب أنهم ليسوا بمجرد النسب أولياءه إنما وليه الله وصالحو المؤمنين من جميع الأصناف
ومثل ذلك كثير بين في الكتاب والسنة أن العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها كالمؤمنين والكافرين والبر والفاجر والعالم والجاهل
ثم قد جاء الكتاب والسنة بمدح بعض الأعاجم قال تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم
وفي الصحيحين عن سالم أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه و سلم فأنزلت عليه سورة الجمعة وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال قائل من هم يا رسول الله فلم يراجعه حتى سأل ثلاثا
وفينا سلمان الفارسي فوضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على سلمان الفارسي ثم قال لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء
وفي صحيح مسلم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجل من فارس أو قال من أبناء فارس حتى يتناوله
وفي رواية لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس
وقد روى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله تعالى وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس
ومصداق ذلك ما وجد في التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون أفضل من أكثر العرب
وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه و سلم من الإيمان والعلم باطنا وظاهرا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيا أو عجميا أو أسود أو أبيض ولا بكونه قرويا أو بدويا
وإنما وجه النهي عن مشابهة الأعراب والأعاجم مع ما ذكرناه من الفضل فيهم وعدم العبرة بالنسب والمكان مبني على أصل
وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان
في العلم والدين ورقة القلوب مالا يقتضيه سكنى البادية كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى هذا هو الأصل وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى ولذلك جعل الله الرسل من أهل القرى فقال تعالى وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور حتى في النسب ولهذا قال الله سبحانه الأعراب اشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ذكر هذا بعد قوله إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وطبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم
فلما ذكر الله المنافقين الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في التخلف عن الجهاد في غزوة تبوك وذمهم وهؤلاء كانوا من أهل المدينة قال سبحانه الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله فإن الخير كله أصله وفصله منحصر في العلم والإيمان كما قال سبحانه يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات وقال تعالى وقال الذين أوتوا العلم والإيمان وضد الإيمان إما الكفر الظاهر أو النفاق الباطن ونقيض العلم عدمه
فقال سبحانه عن الأعراب إنهم أشد كفرا ونفاقا من أهل المدينة وأحرى منهم أن لا يعلموا حدود الكتاب والسنة والحدود هي حدود الأسماء
المذكورة فيما أنزل الله من الكتاب والحكمة مثل حدود الصلاة والزكاة والصوم والحج والمؤمن والكافر والزاني والسارق والشارب وغير ذلك حتى يعرف من الذي يستحق ذلك الاسم الشرعي ممن لا يستحقه وما تستحقه مسميات تلك الأسماء من الأحكام
ولهذا روى أبو داود وغيره من حديث الثوري حدثني أبو موسى عن وهب بن منبه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه و سلم قال سفيان مرة ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه و سلم قال من سكن البادية جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن أتى السلطان افتتن
ورواه أبو داود أيضا من حديث الحسن بن الحكم النخعي عن عدي بن ثابت عن شيخ من الأنصار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم بمعناه وقال ومن لزم السلطان افتتن وزاد وما ازداد عبد من السلطان دنوا إلا ازداد من الله عز و جل بعدا
ولهذا كانوا يقولون لمن يستغلظونه إنك لأعرابي جاف إنك لجلف جاف يشيرون إلى غلظ عقله وخلقه
ثم لفظ الأعراب هو في الأصل اسم لبادية العرب فإن كل أمة لها حاضرة وبادية فبادية العرب الأعراب ويقال إن بادية الروم الأرمن ونحوهم وبادية الفرس الأكراد ونحوهم وبادية الترك التتار ونحوهم
وهذا والله أعلم هو الأصل وإن كان قد يقع فيه زيادة ونقصان
والتحقيق أن سكان البوادي لهم حكم الأعراب سواء دخلوا في لفظ الأعراب أم لم يدخلوا فهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة مثلا
ويقتضي أن ما انفرد به أهل البادية عن جميع جنس الحاضرة أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه
فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروها أو مفضيا إلى المكروه وعلى هذا القول في العرب والعجم
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة اعتقاد أن جنس العرب أفضل من جنس العجم عبرانيهم وسريانيهم رومهم وفرسهم وغيرهم وأن قريشا أفضل العرب وأن بني هاشم أفضل قريش وأن رسول الله صلى الله عليه و سلم أفضل بني هاشم فهو أفضل الخلق نفسا وافضلهم نسبا
وليس فضل العرب ثم قريش ثم بني هاشم بمجرد كون النبي صلى الله عليه و سلم منهم وإن كان هذا من الفضل بل هم في أنفسهم أفضل وبذلك ثبت لرسول الله صلى الله عليه و سلم أنه أفضل نفسا ونسبا وإلا لزم الدور
ولهذا ذكر أبو محمد حرب بن إسماعيل بن خلف الكرماني صاحب الإمام أحمد في وصفه للسنة التي قال فيها هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها فمن خالف شيئا من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق وهو مذهب أحمد وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد وعبد الله بن الزبير الحميدي وسعيد بن منصور وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم
فكان من قولهم أن الإيمان قول وعمل ونية وساق كلاما طويلا إلى أن قال ونعرف للعرب حقها وفضلها وسابقتها ونحبهم لحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم حب العرب إيمان وبغضهم نفاق ولا نقول بقول الشعوبية وأراذل الموالي الذين لا يحبون العرب ولا يقرون بفضلهم فإن قولهم بدعة وخلاف
ويروون هذا الكلام عن أحمد نفسه في رسالة أحمد بن سعيد الأصطخري عنه إن صحت وهو قوله وقول عامة أهل العلم
وذهبت فرقة من الناس إلى أن لا فضل لجنس العرب على جنس العجم وهؤلاء يسمون الشعوبية لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل كما قيل القبائل للعرب والشعوب للعجم
ومن الناس من قد يفضل بعض أنواع العجم على العرب
والغالب أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عن نوع نفاق إما في الاعتقاد وإما في العمل المنبعث عن هوى النفس مع شبهات اقتضت ذلك ولهذا جاء في الحديث حب العرب إيمان وبغضهم نفاق مع أن الكلام في هذه المسائل لا يكاد يخلو عن هوى للنفس ونصيب للشيطان من الطرفين وهذا محرم في جميع المسائل
فإن الله قد أمر المؤمنين بالاعتصام بحبل الله جميعا ونهاهم عن التفرق والاختلاف وأمر بإصلاح ذات البين وقال النبي صلى الله عليه و سلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر وقال صلى الله عليه و سلم لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله وهذان حديثان صحيحان وفي الباب من نصوص الكتاب والسنة مالا يحصى
والدليل على فضل جنس العرب ثم جنس قريش ثم جنس بني هاشم ما رواه الترمذي من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إن قريشا جلسوا فتذاكروا أحسابهم بينهم فجعلوا مثلك كمثل
نخلة في كبوة من الأرض فقال النبي صلى الله عليه و سلم إن الله خلق الخلق فجعلني من خير فرقهم ثم خير القبائل فجعلني في خير قبيلة ثم خير البيوت فجعلني في خير بيوتهم فأنا خيرهم نفسا وخيرهم بيتا قال الترمذي هذا حديث حسن وعبد الله بن الحارث هو ابن نوفل
الكبا بالكسر والقصر والكبة الكناسة والتراب الذي يكنس من البيت وفي الحديث الكبوة وهي مثل الكبة
والمعنى أن النخلة طيبة في نفسها وإن كان أصلها ليس بذاك فأخبر صلى الله عليه و سلم أنه خير الناس نفسا ونسبا
وروى الترمذي أيضا من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله ابن الحارث عن المطلب بن أبي وداعة قال جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فكأنه سمع شيئا فقام النبي صلى الله عليه و سلم على المنبر فقال من أنا فقالوا أنت رسول الله صلى الله عليك وسلم قال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ثم قال إن الله خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم جعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة ثم جعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا وخيرهم نفسا قال الترمذي هذا حديث حسن كذا وجدته في الكتاب وصوابه فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا
وقد روى أحمد هذا الحديث في المسند من حديث الثوري عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن المطلب بن أبي وداعة قال قال العباس رضي الله عنه بلغه صلى الله عليه و سلم بعض ما يقول الناس قال فصعد المنبر فقال من أنا قالوا أنت رسول الله فقال أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب إن الله خلق الخلق فجعلني من خير خلقه وجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتا فأنا خيركم بيتا وخيركم نفسا
أخبر صلى الله عليه و سلم أنه ما انقسم الخلق فريقين إلا كان هو في خير الفريقين
وكذلك جاء حديث بهذا اللفظ
وقوله في الحديث خلق الخلق فجعلني في خيرهم ثم خيرهم فجعلهم فرقتين فجعلني في خير فرقة يحتمل شيئين
أحدهما أن الخلق هم الثقلان أو هم جميع ما خلق في الأرض وبنو آدم خيرهم وإن قيل بعموم الخلق حتى يدخل فيه الملائكة فكان فيه تفضيل جنس بني آدم على جنس الملائكة وله وجه صحيح
ثم جعل بني آدم فرقتين والفرقتان العرب والعجم ثم جعل العرب قبائل فكانت قريش أفضل قبائل العرب ثم جعل قريشا بيوتا فكانت بنو هاشم أفضل البيوت
ويحتمل أنه أراد بالخلق بني آدم فكان في خيرهم أي ولد إبراهيم أو في العرب ثم جعل بني إبراهيم فرقتين بني إسماعيل وبني إسحاق أو جعل العرب عدنان وقحطان فجعلني في بني إسماعيل أو بني عدنان ثم جعل بني إسماعيل أو بني عدنان قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة وهم قريش
وعلى كل تقدير فالحديث صريح في تفضيل العرب على غيرهم
وقد بين صلى الله عليه و سلم أن هذا التفضيل يوجب المحبة لبني هاشم ثم لقريش ثم للعرب
فروى الترمذي من حديث أبي عوانة عن يزيد بن أبي زياد أيضا عن عبد الله بن الحرث حدثني المطلب بن أبي ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب أن العباس بن عبد المطلب دخل على رسول الله صلى الله عليه و سلم مغضبا وأنا عنده فقال ما أغضبك فقال يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة وإذا لقونا لقونا بغير ذلك قال فغضب رسول الله
صلى الله عليه و سلم حتى احمر وجهه ثم قال والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله ثم قال أيها الناس من آذى عمي فقد آذاني فإنما عم الرجل صنو أبيه قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ورواه أحمد في المسند مثل هذا من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن يزيد هذا ورواه أيضا من حديث جرير عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث بن عبد المطلب بن ربيعة قال دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله إنا لنخرج فنرى قريشا تتحدث فإذا رأونا سكتوا فغضب رسول الله صلى الله عليه و سلم ودر عرق بين عينيه ثم قال والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي
فقد كان عند يزيد بن أبي زياد عن عبد الله بن الحرث هذان الحديثان
أحدهما في فضل القبيل الذي منه رسول الله صلى الله عليه و سلم
والثاني في محبتهم وكلاهما رواه عنه إسماعيل بن أبي خالد
وما فيه من كون عبد الله بن الحرث يروي الأول تارة عن العباس وتارة عن المطلب بن أبي وداعة ويروي الثاني عن عبد المطلب بن ربيعة وهو ابن الحرث بن عبد المطلب وهو من الصحابة قد يظن أن هذا اضطراب في الأسماء من جهة يزيد وليس هذا موضع الكلام فيه فإن الحجة قائمة بالحديث على كل تقدير لا سيما وله شواهد تؤيد معناه
ومثله أيضا في المسألة ما رواه أحمد ومسلم والترمذي من حديث الأوزاعي عن شداد بن عمار عن واثلة بن الأسقع قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم هكذا رواه الوليد وأبو المغيرة عن الأوزاعي
ورواه أحمد والترمذي من حديث محمد بن مصعب عن الأوزاعي ولفظه
إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة الحديث وقال الترمذي هذا حديث صحيح
وهذا يقتضي أن إسماعيل وذريته صفوة ولد إبراهيم فيقتضي أنهم أفضل من ولد إسحق ومعلوم أن ولد إسحق الذين هم بنو إسرائيل أفضل العجم لما فيهم من النبوة والكتاب فمتى ثبت الفضل على هؤلاء فعلى غيرهم بطريق الأولى وهذا جيد إلا أن يقال الحديث يقتضي أن إسماعيل هو المصطفى من ولد إبراهيم وأن بني كنانة هم المصطفون من ولد إسماعيل وليس فيه ما يقتضي أن ولد إسماعيل أيضا مصطفون على غيرهم إذ كان أبوهم مصطفى وبعضهم مصطفى على بعض
فيقال لو لم يكن هذا مقصودا في الحديث لم يكن لذكر اصطفاء إسماعيل فائدة إذ كان لم يدل على اصطفائه ذريته إذ يكون على هذا التقدير لا فرق بين ذكر إسماعيل وذكر إسحق
ثم هذا منضما إلى بقية الأحاديث دليل على أن المعنى في جميعها واحد
واعلم أن الأحاديث في فضل قريش ثم في فضل بني هاشم فيها كثرة وليس هذا موضعها وهي تدل أيضا على ذلك إذ نسبة قريش إلى العرب كنسبة العرب إلى الناس وهكذا جاءت الشريعة كما سنومئ إلى بعضه
فإن الله تعالى خص العرب ولسانهم بأحكام تميزوا بها ثم خص قريشا على سائر العرب بما جعل فيهم من خلافة النبوة وغير ذلك من الخصائص ثم خص بني هاشم بتحريم الصدقة واستحقاق قسط من الفيء إلى غير ذلك من الخصائص فأعطى الله سبحانه كل درجة من الفضل بحسبها والله عليم حكيم الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس و الله أعلم حيث يجعل رسالته
وقد قال الناس في قوله تعالى وإنه لذكر لك ولقومك وفي
قوله لقد جاءكم رسول من أنفسكم أشياء ليس هذا موضعها
ومن الأحاديث التي تذكر في هذا المعنى ما رويناه من طرق معروفة إلى محمد بن إسحق الصنعاني
حدثنا عبد الله بن بكر السهمي حدثنا يزيد بن عوانة عن محمد بن ذكوان خال حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إنا لقعود بفناء النبي صلى الله عليه و سلم إذ مرت بنا امرأة فقال بعض القوم هذه ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال أبو سفيان مثل محمد في بني هاشم مثل الريحانة في وسط النتن فانطلقت المرأة فأخبرت النبي صلى الله عليه و سلم فجاء النبي صلى الله عليه و سلم يعرف في وجهه الغضب فقال ما بال أقوال تبلغني عن أقوام إن الله خلق السموات سبعا فاختار العليا منها وأسكنها من شاء من خلقه ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار من خيار من خيار فمن أحب العرب فبحبي أحبهم ومن أبغض العرب فببغضي أبغضهم
وأيضا في المسألة ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد عن قابوس ابن أبي ظبيان عن أبيه عن سلمان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يا سلمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هداني الله قال تبغض العرب فتبغضني قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد
فقد جعل النبي صلى الله عليه و سلم بغض العرب سببا لفراق الدين وجعل بغضهم مقتضيا لبغضه
ويشبه أن يكون النبي صلى الله عليه و سلم خاطب بهذا سلمان وهو سابق الفرس ذو الفضائل المأثورة تنبيها لغيره من سائر الفرس لما أعلمه الله من أن
الشيطان قد يدعو النفوس إلى شيء من هذا كما أنه صلى الله عليه و سلم لما قال يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا يا عباس عم رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئا سلوني من مالي ما شئتم كان في هذا تنبيه لمن انتسب لهؤلاء الثلاثة أن لا يغتروا بالنسب ويتركوا الكلم الطيب والعمل الصالح
وهذا دليل على أن بغض جنس العرب ومعاداتهم كفر أو سبب للكفر
ومقتضاه أنهم أفضل من غيرهم وأن محبتهم سبب قوة الإيمان لأنه لو كان تحريم بغضهم كتحريم بغض سائر الطوائف لم يكن سببا لفراق الدين ولا لبغض الرسول بل كان يكون نوع عدوان فلما جعله سببا لفراق الدين وبغض الرسول دل على أن بغضهم أعظم من بغض غيرهم وذلك دليل على أنهم أفضل لأن الحب والبغض يتبع الفضل فمن كان بغضه أعظم دل على أنه أفضل ودل حينئذ على أن محبته دين لأجل ما فيه من زيادة الفضل ولأن ذلك ضد البغض ومن كان بغضه سببا للعذاب لخصوصه كان حبه سببا للثواب وذلك دليل على الفضل
وقد جاء ذلك مصرحا به في حديث آخر رواه أبو طاهر السلفي في فضل العرب من حديث أبي بكر بن أبي داود حدثنا عيسى بن حماد زغبة حدثنا علي بن الحسن الشامي حدثنا خليد بن دعلج عن يونس بن عبيد عن الحسن عن جابر ابن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم حب أبي بكر وعمر من الإيمان وبغضهما من الكفر وحب العرب من الإيمان وبغضهم من الكفر
وقد احتج حرب الكرماني وغيره بهذا الحديث وذكروا لفظه حب العرب إيمان وبغضهم نفاق وكفر
وهذا الإسناد وحده فيه نظر لكن لعله روي من وجه آخر وإنما كتبته لموافقته معنى حديث سلمان فإنه قد صرح في حديث سلمان بأن بغضهم نوع
كفر ومقتضى ذلك أن حبهم نوع من إيمان فكان هذا موافقا له
ولذلك قد رويت أحاديث النكرة ظاهرة عليها مثل ما رواه الترمذي من حديث حصين بن عمر عن مخارق بن عبد الله عن طارق بن شهاب عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي عن مخارق وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي
قلت هذا الحديث معناه قريب من معنى حديث سلمان فان الغش للنوع لا يكون مع محبتهم بل لا يكون إلا مع استخفاف بهم أو مع بغض لهم فليس معناه بعيدا
لكن حصين هذا الذي رواه قد أنكر أكثر الحفاظ أحاديثه قال يحيى بن معين ليس بشيء وقال ابن المديني ليس بالقوي روى عن مخارق عن طارق أحاديث منكرة وقال البخاري وأبو زرعة منكر الحديث وقال يعقوب بن شيبة ضعيف جدا ومنهم من يجاوز به الضعف إلى الكذب وقال ابن عدي عامة أحاديثه معاضيل ينفرد عن كل من روى عنه
قلت ولذلك لم يحدث أحمد ابنه عبد الله بهذا الحديث في الحديث المسند فانه قد كان كتبه عن محمد بن بشر عن عبد الله بن عبد الله بن الأسود عن حصين كما رواه الترمذي فلم يحدثه به وإنما رواه عبد الله عنه في المسند وجادة قال وجدت في كتاب أبي حدثنا محمد بن بشر وذكره
وكان أحمد رحمه الله على ما تدل عليه طريقته في المسند إذا رأى أن الحديث موضوع أو قريب من الموضوع لم يحدث به ولذلك ضرب على أحاديث الرجال فلم يحدث بها في المسند لأن النبي صلى الله عليه و سلم قال من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين
وكذلك روى عبد الله بن أحمد في مسند أبيه حدثنا إسماعيل أبو معمر حدثنا إسماعيل بن عياش عن زيد بن جبيرة عن داود بن الحصين عن عبيد الله ابن أبي نافع عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يبغض العرب إلا منافق وزيد بن جبيرة عندهم منكر الحديث وهو مدني ورواية إسماعيل بن عياش عن غير الشاميين مضطربة
وكذلك روى أبو جعفر محمد بن عبد الله الحافظ الكوفي المعروف بمطين حدثنا العلاء بن عمرو الحنفي حدثنا يحيى بن زيد الأشعري حدثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم أحب العرب لثلاث لأنه عربي والقرآن عربي ولسان أهل الجنة عربي قال الحافظ السلفي هذا حديث حسن
فما أدري أراد حسن إسناده على طريقة المحدثين أو حسن متنه على الاصطلاح العام وأبو الفرج بن الجوزي ذكر هذا الحديث في الموضوعات وقال قال الثعلبي لا أصل له وقال ابن حبان يحيى بن زيد يروي المقلوبات عن الاثبات فبطل الاحتجاج به والله أعلم
وأيضا في المسألة ما روى أبو بكر البزار حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أحمد حدثنا عبد الجبار بن العباس وكان رجلا من أهل الكوفة يميل إلى الشيعة وهو صحيح الحديث مستقيمه وهذا والله أعلم كلام البزار عن أبي إسحاق عن أوس بن ضمعج قال قال سلمان نفضلكم يا معاشر العرب لتفضيل رسول الله صلى الله عليه و سلم إياكم لا ننكح نساءكم ولا نؤمكم في الصلاة
وهذا إسناد جيد وأبو أحمد هو والله أعلم محمد بن عبد الله الزبيري من أعيان العلماء الثقات وقد أثنى على شيخه والجوهري وأبو إسحاق السبيعي أشهر من أن يثنى عليهما وأوس بن ضمعج ثقة روى له مسلم