كتاب : الطرق الحكمية في السياسة الشرعية
المؤلف : محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي ا بن القيم الجوزية
قال أبو محمد بن حزم هذا خبر مستقيم السند نقلته كلهم ثقات
وهذا حديث مداره على الشعبي وقد رواه عنه جماعة واختلف عليه فرواه يحيى بن
سعيد القطان وخالد بن عبد الله الواسطي وعبد الله بن نمير ومالك بن
اسماعيل النهدى وقيس بن الربيع عن الأجلح يحيى بن عبد الله بن حجية الكندي
عن الشعبى عن عبد الله بن الخليل الحضرمي الكوفي عن زيد بن أرقم ومن هذا
الوجه أورده الحاكم
وكذلك رواه سفيان بن عيينة وعلي بن مسهر عن الأجلح وقالا عبد الله بن أبي
الخليل
ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن الشعبى عن أبي الخليل أو ابن أبي الخليل أن
ثلاثة نفر اشتركوا ولم يذكر زيدا ولم يرفعه
ورواه عبد الرزاق عن الثوري عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبى عن عبد
خير الحضرمي
ورواه ابن عيينة وجرير بن عبد الحميد وعب الرحيم بن سليمان عن محمد بن
سالم عن الشعبى عن علي بن ذريح ويقال ذرى الحضرمي عن زيد
ورواه خالد بن عبد الله الواسطي عن أبي إسحاق الشيباني سليمان بن فيروز عن
الشعبي عن رجل من حضرموت عن زيد
وبالجملة فيكفي أن في هذا الحديث أمير المؤمنين وفي الحديث شعبة وإذا كان
شعبة في حديث لم يكن باطلا وكان محفوظا وقد عمل به أهل
الظاهر وهو وجه للشافعية عند تعارض البينة وهو ظاهر بل صريح في
عدم اعتبار القافة فإنها لو كانت معتبرة لم يعدل عنها إلى القرعة
قالوا وأصح ما معكم حديث أسامة بن زيد ولا حجة فيه لأن النسب هناك ثابت
بالفراش فوافقه قول القائف فسر النبي صلى الله عليه و سلم بموافقته قول
القائف لشرعه الذي جاء به من أن الولد للفراش وهذا لا خفاء به فمن أين
يصلح ذلك لإثبات كون القافة طريقا مستقلا بإثبات النسب
قال أصحاب الحديث نحن إنما نحتاج إلى القافة عند التنازع في الولد نفيا
وإثباتا كما إذا ادعاه رجلان أو امرأتان أو اعترف الرجلان بأنهما وطئا
المرأة بشبهة وأن الولد من أحدهما وكل منهما ينفيه عن نفسه وحينئذ فإما أن
نرجح أحدهما بلا مرجح ولا سبيل إليه وإما أن نلغي دعواهما فلا يلحق بواحد
منهما وهو باطل أيضا فإنهما معترفان بسبب اللحوق وليس هنا سبب غيرهما وإما
أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدها وهو أيضا باطل شرعا وعرقا وقياسا
كما تقدم وإما أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات في الولد كما يقدم واصف
اللقطة وهذا أيضا لا اعتبار به ههنا بخلاف اللقطة والفرق بينهما ظاهر فإن
اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد بل هو واقع كثيرا فإن
الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما وأما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها
وعفاصها ووعائها ووكائها فأمر في غاية الندرة فإن العادة جارية بإخفائها
وكتمانها فإلحاق إحدى الصورتين بالأخرى ممتنع
وأما الإلحاق بأمين فمقطوع ببطلانه واستحالته عقلا وحسا فهو
كإلحاق ابن ستين سنة بابن عشرين
وكيف ينكر القافة التي مدارها على الشبه الذي وضعه الله سبحانه بين
الوالدين والولد من يلحق الولد بأمين فأين أحد هذين الحكمين من الآخر في
العقل والشرع والعرف والقياس
وما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام يقطع ببطلان سببه حسا أو عقلا
فحاشا أحكامه سبحانه من ذلك فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه وتعالى ولا أعدل
ولا يحكم حكما يقول العقل ليته حكم بخلافه بل أحكامه كلها مما يشهد العقل
والفطر بحسنها ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها وأنه لا يصلح في موضعها
سواها
وأنت إذا عرضت على العقول كون الولد من أبين لم تجد قبولها له كقبولها
لكون الولد لمن أشبهه الشبه البين فإن هذا موافق لعادة الله وسنته في خلقه
وذلك مخالف لعادته وسنته
وقولهم إنهما استويا في سبب الإلحاق وهو الدعوى فيستويان في الحكم وهو
لحوق النسب
فيقال إن القاعدة أن صحة الدعوى يطلب بيانها من غير جهة المدعي مهما أمكن
وقد أمكن ههنا بيانها بالشبه البين يطلع عليه القائف فكان
اعتبار صحتها بذلك أولى من اعتبار صحتها بمجرد الدعوى فإذا
انتفى السبب الذي يبين صحتها من غير جهة المدعي كالفراش والقافة بغير
إعمال الدعوى فإذا استويا فيها استويا في حكمها فهذا محض الفقه ومقتضى
قواعد الشرع
وأما أن تعمل الدعوى المجردة مع ظهور ما يخالفها من الشبه البين الذي نصبه
الله سبحانه وتعالى علامة لثبوت النسب شرعا وقدرا فهذا مخالف للقياس وأصول
الشرع
وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم البينة على من ادعى
والبينة اسم لما يبين صحة الدعوى والشبه بين صحة الدعوى فإذا كان من جانب
أحد المتلاعنين كان النسب له وإن كان من جهتهما كان النسب لهما
وقولهم لو أثر الشبه والقافة في نتاج الأدمي لأثر في نتاج الحيوان
جوابه من وجوه
أحدها منع الملازمة إذ لم يذكروا عليها دليلا سوى مجرى الدعوى فأين
التلازم شرعا وعقلا بين الناس
الثاني أن الشارع يتشوف إلى ثبوت الأنساب مهما أمكن ولا يحكم بانقطاع
النسب إلا حيث يتعذر إثباته ولهذا ثبت بالفراش وبالدعوى وبالأنساب التي
بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان
الثالث أن إثبات النسب فيه حق لله وحق للولد وحق للأب ويترتب
عليه من أحكام الوصل بين العباد ما به قوام مصالحهم ما يترتب فأثبته الشرع
بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج الحيوان
الرابع أن سبب الوطء وهو إنما يقع غالبا في غاية التستر ويكتم عن العيون
وعن اطلاع القريب والبعيد عليه فلو كلف البينة على سببه لضاعت أنساب بني
آدم وفسدت أحكام الصلات التي بينهم ولهذا ثبت بأيسر شيء من فراش ودعوى
وشبه حتى أثبته أبو حنيفة بمجرد العقد مع القطع بعدم وصول أحدهما إلى
الآخر وأثبته لأمين مع القطع بعدم خروجه منهما احتياطا للنسب ومعلوم أن
الشبه أولى من ذلك بكثير
الخامس أن المقصود من نتاج الحيوان إنما هو المال المجرد فدعواه دعوى مال
محض بخلاف دعوى النسب فأين دعوى المال من دعوى النسب وأين أسباب ثبوت
أحدهما من أسباب ثبوت الآخر
السادس أن المال يباح بالبذل ويعاوض عليه ويقبل النقل وتجوز الرغبة عنه
والنسب بخلاف ذلك
السابع أن الله سبحانه جعل بين أشخاص الآدميين من الفروق في صورهم
وأصواتهم وحلاهم ما يتميز به بعضهم من بعض ولا يقع معه الاشتباه بينهم
بحيث يتساوى الشخصان من كل وجه إلا في غاية الندرة مع أنه لابد من الفرق
وهذا القدر لا يوجد مثله بين أشخاص الحيوان بل التشابه فيه
أكبر والتماثل أغلب فلا يكاد الحس يميز بين نتاج حيوان ونتاج
غيره برد كل منهما إلى أمه وأبيه وإن كان قد يقع ذلك ولكن وقوعه قليل
بالنسبة إلى أشخاص الآدمي فإلحاق أحدهما بالآخر ممتنع
والثامن قولهم إن الاعتماد في القافة على الشبه وهو أمر مدرك بالحس فإن
حصل بالمشاهدة فلا حاجة إلى القائف وإن لم يحصل لم يقبل قول القائف
جوابه أن يقال الأمور المدركة بالحس نوعان
نوع يشترك فيه الخاص والعام كالطول والقصر والبياض والسواد ونحو ذلك فهذا
لا يقبل فيه تفرد المخبر والشاهد بما لا يدركه الناس معه
والثاني ما لا يلزم فيه الاشتراك كرؤية الهلال ومعرفة الأوقات وأخذ كل من
الليل والنهار في الزيادة والنقصان ونحو ذلك مما يختص بمعرفته أهل الخبرة
من تعديل القسمة وكبر الحيوان وصغره والخرص ونحو ذلك فهذا وأمثاله مما
مستنده الحس ولا يجب الاشتراك فيه فيقبل قول الواحد والاثنين
ومن هذا التشابه بل والتماثل بين الآدميين فإن التشابه بين الولد والوالد
يظهر في صورة الطفل وشكله وهيئة أعضائه ظهورا خفيا يختص بمعرفت القائف دون
غيره ولهذا كانت العرب تعرف ذلك لبنى مدلج وتقر لهم به مع أنه لا يختص بهم
ولا يشترط كون القائف منهم قال
إسماعيل بن سعيد سألت أحمد عن القائف هل يقضى بقوله قال يقضى
بقوله إذا علم وأهل الحجاز يعرفون ذلك وشرط بعض الشافعية كونه مدلجيا وهذا
ضعيف جدا لا يلتفت إليه
قال عبد الرحمن بن حاطب كنت جالسا عند عمر فجاءه رجلان في غلام كلاهما
يدعى أنه ابنه فقال عمر رضي الله عنه ادعو لي أخا بني المصطلق فجاء فقال
انظر ابن أيهما تراه فقال قد اشتركا فيه وذكر بقية الخبر وبنو المصطلق بطن
من خزاعة لا نسب لهم في بني مدلج
وكذلك إياس بن معاوية كان غاية في القيافة وهو من مزينة وشريح بن الحارث
القاضي كان قائفا وهو من كندة وقد قال أحمد أهل الحجاز يعرفون ذلك ولم
يخصه ببني مدلج
والمقصود أن أهل القيافة كأهل الخبرة وأهل الخرص والقاسمين وغيرهم ممن
اعتمادهم على الأمور المشاهدة المرئية لهم ولهم فيها علامات يختصون
بمعرفتها من التماثل والاختلاف والقدر والمساحة وأبلغ من ذلك الناس
يجتمعون لرؤية الهلال فيراه من بينهم الواحد والإثنان فيحكم بقوله أو
قولهما دون بقية الجمع
قولهم إنا ندرك التشابه بين الأجانب والاختلاف بين المشتركين في النسب
قلنا نعم لكن الظاهر الأكثر خلاف ذلك وهو الذي أجرى الله سبحانه وتعالى به
العادة وجواز التخلف عن الدليل والعلامة الظاهرة في النادر لا يخرجه عن أن
يكون دليلا عند عدم معارضة ما يقاومه ألا ترى
أن الفراش دليل على النسب والولادة وأنه ابنه ويجوز بل يقع
كثيرا تخلف دلالته وتخليق الولد من غير ماء صاحب الفراش ولا يبطل ذلك كون
الفراش دليلا وكذلك أمارات الخرص والقسمة والتقويم وغيرها قد تتخلف عنها
أحكامها ومدلولاتها ولا يمنع ذلك اعتبارها
وكذلك شهادة الشاهدين وغيرهما وكذلك الأقراء والقرء الواحد في الدلالة على
براءة الرحم فإنها دليل ظاهر مع جواز تخلف دلالته ووقوع ذلك وأمثال ذلك
كثير
قولهم إن الاستلحاق موجب للحوق النسب وقد اشتركا فيه فيشتركان في موجبه
قلنا هذا صحيح إذا لم يتميز أحدهما بأمر خارج عن الدعوى فأما إذا تميز
بأمر آخر كالفراش والشبه كان اللحاق به كما لو تميز بالبينة بل الشبه نفسه
بينة من أقوى البينات فإنها اسم لما يبين الحق ويظهره وظهور الحق ههنا
بالشبه أقوى من ظهوره بشهادة من يجوز عليه الوهم والغلط والكذب وأقوى
بكثير من فراش يقطع بعدم اجتماع الزوجين فيه
قولهم القائف إما شاهد وإما حاكم إلخ
قلنا هذا فيه قولان لمن يقول بالقافة هما روايتان عن أحمد ووجهان لأصحاب
الشافعي مبنيان على أن القائف هل هو حاكم أو شاهد عند
طائفة من أصحابنا وعند آخرين ليسا مبنيين على ذلك بل الخلاف جار
سواء قلنا القائف حاكم أو شاهد كما نعتبر حاكمين في جزاء الصيد
وكذلك إذا قبلنا قوله وحده جاز ذلك وإن جعلناه شاهدا كما نقبل قول القاسم
والخارص والمقوم والطبيب ونحوهم وحده
ومنهم من يبنى الخلاف على كونه شاهدا أو مخبرا فإن جعلناه مخبرا اكتفى
بخبره وحده كالخبر عن الأمور الدينية وإن جعلناه شاهدا لم نكتف بشهادتة
وحده
وهذا أيضا ضعيف فإن الشاهد مخبر والمخبر شاهد وكل من شهد بشيء فقد أخبر به
والشريعة لم تفرق بين ذلك أصلا وإنما هذا على أصل من اشترط في قبول
الشهادة لفظ الشهادة دون مجرد الإخبار
وقد تقدم بيان ضعف ذلك وأنه لا دليل عليه بل الأدلة الكثيرة من الكتاب
والسنة تدل على خلافه
والقضايا التي رويت في القافة عن النبي صلى الله عليه و سلم والصحابة بعده
ليس في قضية واحدة منها أنهم قالوا القائف تلفظ بلفظة أشهد أنه ابنه ولا
يتلفظ بذلك القائف أصلا وإنما وقع الاعتماد على مجرد خبره وهو شهادة منه
وهذا بين لمن تأمله ونصوص أحمد لا تشعر بهذا البناء الذي ذكره بوجه وإنما
المتأخرون يتصرفون في نصوص الأئمة ويبنونها
على مالم يخطر لأصحابها ببال ولا جرى لهم في مقال ويتناقله
بعضهم عن بعض ثم يلزمهم من طرده لوازم لا يقول بها الأئمة فمنهم من يطردها
ويلتزم القول بها ويضيف ذلك إلى الأئمة وهم لا يقولون به فيروج بين الناس
بجاه الأئمة ويفتى ويحكم به والإمام لم يقله قط بل يكون قد نص على خلافه
ونحن نذكر نصوص الإمام أحمد في هذه المسألة
قال جعفر بن محمد النسائي سمعت أبا عبد الله يسأل عن الولد يدعيه الرجلان
قال يدعى له رجلان من القافة فإن ألحقاه بأحدهما فهو له
وقال محمد بن داود المصيصى سئل أبو عبد الله عن جارية بين رجلين وقعا
عليها قال إن ألحقوه بأحدهما فهو له قيل له إن قال أحد القافة هو لهذا
وقال الآخر هو لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان يكونان كشاهدين
وقال الأثرم قيل لأبي عبد الله إن قال أحد القافة هو لهذا وقال الآخر هو
لهذا قال لا يقبل قول واحد حتى يجتمع اثنان فيكونا كشاهدين وإذا شهد اثنان
من القافة أنه لهذا فهو له
واحتج من رجح هذا القول بأنه حكم بالشبه فيعتبر فيه العدد كالحكم بالمثل
في جزاء الصيد
قالوا بل هو أولى لأن درك المثلية في الصيد أظهر بكثير من دركها
ههنا فإذا تابع القائف غيره سكنت النفس واطمأنت إلى قوله
وقال أحمد في رواية أبي طالب في الولد يكون بين الرجلين يدعى القائف فإذا
قال هو منهما فهو منهما نظرا إلى ما يقول القائف وإن جعله لواحد فهو لواحد
وقال في رواية إسماعيل بن سعيد وسئل عن القائف هل يقضى بقوله فقال يقضى
بذلك إذا علم
ومن حجة هذا القول وهو اختيار القاضي وصاحب المستوعب والصحيح من مذهب
الشافعي وقول أهل الظاهر أن النبي صلى الله عليه و سلم سر بقول مجرز
المدلجي وحده
وصح عن عمر أنه استقاف المصطلقي وحده كما تقدم واستقاف ابن عباس ابن كلدة
وحده واستلحق بقوله
وقد نص أحمد على أنه يكتفى بالطبيب البيطار الواحد إذا لم يوجد سواه
والقائف مثله فتخرج له رواية ثالثة كذلك والله أعلم
بل هذا أولى من الطبيب والبيطار لأنهما أكثر وجودا منه فإذا اكتفى بالواحد
منهما مع عدم غيره فالقائف أولى
وأما قولكم إن داود وسليمان لم يحكما بالقافة في قصة الولد الذي
ادعته المرأتان
فيقال قد اختلف القائلون بالقافة هل يعتبر في تداعي المرأتين كما يعتبر في
تداعي الرجلين وفي ذلك وجهان لأصحاب الشافعي
أحدهما لا يعتبر ههنا وإن اعتبر في تداعي الرجلين
قالوا والفرق بينهما أنا يمكننا التوصل إلى معرفة الأم يقينا بخلاف الأب
فانا لا سبيل لنا إلى ذلك فاحتجنا إلى القافة وعلى هذا فلا إشكال
والوجه الآخر وهو الصحيح أن القافة تجرى ههنا كما تجرى بين الرجلين قاله
أحمد في رواية ابن الحكم في يهودية ومسلمة ولدتا فادعت اليهودية ولد
المسلمة قيل له يكون في هذا القافة قال ما أحسنه
والأحاديث المتقدمة التي دلت على أن الولد يأخذ الشبه من الأم تارة ومن
الأب تارة تدل على صحة هذا القول
فإن الحكم بالقافة إنما يتوهم بالشبه وقد تقدم في ذلك حديث عائشة وأم سلمة
وأنس بن مالك وثوبان وعبد الله بن سلام وكون الأم تمكن معرفتها يقينا
بخلاف الأب لا يدل على أن القافة لا تعتبر في حق المرأتين
لأنا إنما نستعملها عند عدم معرفة الأم ولا يلزم من عدم
استعمالها عند تيقن معرفة الأم عدم استعمالها عند الجهل بها كما أنا إنما
نستعملها في حق الرجلين عند عدم تيقن الفراش لا عند تيقنه
وأما كون داود وسليمان لم يعتبراها فإما ألا يكون ذلك شريعة لهما وهو
الظاهر إذ لو كان ذلك شرعا لدعوا القافة للولد
وإما أن تكون القافة مشروعة في تلك الشريعة ولكن في حق الرجلين كما هو أحد
القولين في شريعتنا وحينئذ فلا كلام
وإما أن تكون مشروعة مطلقا ولكن أشكل على نبي الله أمر الشبه بحيث لم يظهر
لهما وأن القائف لا يعلم الحال في كل صورة بل قد يشتبه عليه كثيرا وعلى كل
تقدير فلا حجة في القصة على إبطال حكم القافة في شريعتنا والله أعلم
بل قصة داود وسليمان صريحة في إبطال إلحاق الولد بأمين فإنه لم يحكم به
نبي من النبيين الكريمين صلوات الله عليهما وسلامه بل اتفقا على إلغاء هذا
الحكم فالذي دلت عليه القصة لا يقولون به والذي يقولون به غير ما دلت عليه
القصة
فصل
وأما حديث زيد بن أرقم في قصة علي في الولد الذي ادعاه الثلاثة والإقراع
بينهما فهو حديث مضطرب جدا كما تقدم ذكره
وقد قال علي بن سعيد سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال هذا حديث منكر
لا أدري ما هذا ولا أعرفه صحيحا
وقال له إسحاق بن منصور حديث زيد بن أرقم أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر
واحد قال حديث عمر في القافة أعجب إلي
وذكر البخاري في تاريخه أن عبد الله بن الخليل لا يتابع على هذا الحديث
وهذا يوافق قول أحمد أنه حديث منكر
ويدل عليه أيضا ما رواه قابوس بن ظبيان عن أبيه عن علي رضي الله عنه أن
رجلين وقعا على امرأة في طهر واحد فجاءت بولد فدعا له على القافة وجعله
ابنهما جميعا يرثهما ويرثانه وهذا يدل على أن مذهب علي رضي الله عنه الأخذ
بالقافة دون القرعة
وأيضا فالمعهود من استعمال القرعة إنما هو إذا لم يكن هناك مرجح سواها
ومعلوم أن القافة مرجحة إما شهادة وإما حكما وإما فتيا فلا يصار
إلى القرعة مع وجودها
وأيضا فنفاة القافة لا يأخذون بحديث علي في القرعة ولا بحديثه وحديث عمر
في القافة فلا يقولون بهذا ولا بهذا
فنقول حديث علي إما أن يكون ثابتا أو ليس بثابت فإن لم يثبت فلا إشكال وإن
كان ثابتا فهو واقعة عين تحتمل وجودها
أحدها أنه لا يكون قد وجد في ذلك المكان وفي ذلك الوقت قائف أو يكوف قد
أشكل على القائف ولم يتبين له أو يكون لعدم كون القيافة طريقا شرعيا وإذا
احتملت القصة هذا وهذا وهذا لم يجزم بوقوع أحد الاحتمالات إلا بدليل وقد
تضمنت القصة أمرين مشكلين
أحدهما ثبوت النسب بالقرعة
والثاني إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية للآخر
فمن صحح الحديث ونفى الحكم والتعليل كبعض أهل الظاهر قال به ولم يلتفت إلى
معنى ولا علة ولا حكمة وقال ليس هنا إلا التسليم والانقياد
وأما من سلك طريق التعليل والحكمة فقد يقول إنه إذا تعذرت القافة وأشكل
الأمر عليها كان المصير إلى القرعة أولى من ضياع نسب
الولد وتركه هملا لا نسب له وهو ينظر إلى ناكح أمه وواطئها
فالقرعة ههنا أقرب الطرق إلى إثبات النسب فإنها طريق شرعي وقد سدت الطرق
سواها وإذا كانت صالحة لتعيين الأملاك المطلقة وتعيين الرقيق من الحر
وتعيين الزوجة من الأجنبية فكيف لا تصلح لتعيين صاحب النسب من غيره
والمعلوم أن طرق حفظ الأنساب أوسع من طرق حفظ الأموال والشارع إلى ذلك
أعظم تشوفا فالقرعة شرعت لإخراج المستحق تارة ولتعيينه تارة وههنا أحد
المتداعيين هو أبوه حقيقة فعلمت القرعة في تعيينه كما عملت في تعيين
الزوجة عند اشتباهها بالأجنبية فالقرعة تخرج المستحق شرعا كما تخرجه قدرا
وقد تقدم في تقرير صحتها واعتبارها ما فيه شفاء فلا استبعاد في الإلحاق
بها عند تعينها طريقا بل خلاف ذلك هو المستبعد
الأمر الثاني إلزام من خرجت له القرعة بثلثي الدية لصاحبه ولهذا أيضا وجه
فإن وطء كل واحد من الآخرين كان صالحا لحصول الولد له ويحتمل أن يكون
الولد له في نفس الأمر فلما خرجت القرعة لأحدهم أبطلت ما كان من الواطئين
من حصول الولد له فقد بذر كل منهم بذرا يرجو به أن يكون الزرع له فقد
اشتركوا في البذر فإذا فاز أحدهم بالزرع كان من العدل أن يضمن لصاحبيه
ثلثي القيمة والدية قيمة الولد شرعا
فلزمه ضمان ثلثيها لصاحبيه إذ الثلثان عوض ثلثي الولد الذي
استبد به دونهما مع اشتراكهما في سبب حصوله
وهذا أصح من كثير من الأحكام التي يثبتونها بآرائهم وأقيستهم والمعنى فيه
أظهر
وقد اعتبر الصحابة رضي الله عنهم مثل ذلك في ولد المغرور حيث حكموا بحريته
وألزموا الواطئ فداءه بمثله لما فوت رقه على سيد الأمة هذا مع أنه لم يوجد
من سيدها هناك وطء يكون منه الولد بل الزوج وحده هو الواطئ ولكن لما كان
الولد تابعا لأمه في الرق كان بصدد أن يكون رقيقا لسيدها فلما فاته ذلك
بانعقاد الولد حرا عن أمته ألزموا الواطئ بأن يغرم له نظيره ولم يلزموه
بالدية لأنه إنما فوت عليه رقيقا ولم يفوت عليه حرا وفي قصة علي كان الذي
فوقه الواطئ القارع حرا فلزمته حصة صاحبيه من الدية ولو كان واحد لزمه نصف
الدية
فهذا أحسن وجوه الحديث فإن كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه و سلم
فالقول الصحيح هو القول بموجبه ولا قول سواه وبالله التوفيق
فصل
هذا كله في الحكم بين الناس في الدعاويوأما الحكم بينهم فيما لا يتوقف على الدعوى فهو المسمى بالحسبة والمتولي له والي الحسبة
وقد جرت العادة بإفراد هذا النوع بولاية خاصة كما أفردت ولاية المظالم بولاية خاصة والمتولي لها يسمى والي المظالم وولاية المال قبضا وصرفا بولاية خاصة والمتولي لذلك يسمى وزيرا وناظر البلد والمتولي لإحصاء المال ووجوهه وضبطه وتسمى ولايته ولاية استيفاء والمتولي لاستخراجه وتحصيله ممن هو عليه تسمى ولايته ولاية السر والمتولي لفصل الخصومات وإثبات الحقوق والحكم في الفروج والحكم في الأنكحة والطلاق والنفقات وصحة العقود وبطلانها هو المخصوص باسم الحاكم والقاضي وإن كان هذا الاسم يتناول كل حاكم بين اثنين وقاض بينهما فيدخل أصحاب هذه الولايات جميعهم تحت قوله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل وتحت قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
وقوله فأولئك هم الظالمون
وقوله فأولئك هم الفاسقون
وتحت قوله وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم
وقوله صلى الله عليه و سلم القضاة ثلاث
و قوله من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين
وقوله صلى الله عليه و سلم المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين
الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا
والمقصود أن الحكم بين الناس في النوع الذي لا يتوقف على الدعوى هو
المعروف بولاية الحسبة
وقاعدته وأصله هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي بعث الله به رسله
وأنزل به كتبه ووصف به هذه الأمة وفضلها لأجله على سائر الأمم التي أخرجت
للناس وهذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض كفاية ويصير فرض عين على القادر
الذي لم يقم به غيره من دوي الولاية والسلطان فعليهم من الوجوب ما ليس على
غيرهم فإن مناط الوجوب هو القدرة فيجب على القادر ما لا يجب على العاجز
قال تعالى فاتقوا الله ما استطعتم
وقال النبي صلى الله عليه و سلم إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما
استطعتم
وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكن
المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن والمطلوب منه الصدق مثل صاحب
الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف والنقيب والعريف الذي
وظيفته إخبار ولي الأمر بالأحوال ومنهم من يكون بمنزلة الآمر المطاع
والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب
ومدار الولايات كلها على الصدق في الأخبار والعدل في الإنشاء وهما قريبان
في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم قال تعالى وتمت كلمة
ربك صدقا وعدلا
وقال النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر الأمراء الظلمة من صدقهم بكذبهم
وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ولا يرد على الحوض ومن لم يصدقهم
بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه وسيرد على الحوض
وقال تعالى هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم
فالأفاك الكاذب والأثيم الظالم الفاجر
وقال تعالى لنسفعا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة
وقال صلى الله عليه و سلم عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر
يهدي إلى الجنة وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي
إلى النار
ولهذا يجب على كل ولي أمر أن يستعين في ولايته بأهل الصدق والعدل والأمثل
فالأمثل وإن كان فيه كذب وفجور فإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر
وبأقوام لا خلاق لهم
قال عمر رضي الله عنه من قلد رجلا على عصابة وهو يجد في تلك العصابة من هو
أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين
والغالب أنه لا يوجد الكامل في ذلك فيجب تحري خير الخيرين ودفع شر الشرين
وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس
عباد النار لأن النصارى أقرب إليهم من أولئك وكان يوسف الصديق عليه السلام
نائبا لفرعون مصر وهو وقومه مشركون وفعل من الخير والعدل ما قدر عليه ودعا
إلى الإيمان بحسب الإمكان
فصل
عموم الولايات وخصوصها
إذاعرف هذا فعموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من
الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حد في الشرع فقد يدخل في ولاية القضاء
في بعض الأزمنة والأمكنة ما يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر
وبالعكس
وكذلك الحسبة وولاية المال وجميع هذه الولايات في الأصل ولايات دينية
ومناصب شرعية فمن عدل في ولاية من هذه الولايات وساسها بعلم وعدل وأطاع
الله ورسوله بحسب الإمكان فهو من الأبرار العادلين ومن حكم فيها بجهل وظلم
فهو من الظالمين المعتدين و إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم
فولاية الحرب في هذه الأزمنة في البلاد الشامية والمصرية وما جاورها تختص
بإقامة الحدود من القتل والقطع والجلد ويدخل فيها الحكم في دعاوي التهم
التي ليس فيها شهود ولا إقرار كما تختص ولاية القضاء بما فيه كتاب وشهود
وإقرار من الدعاوي التي تتضمن إثبات الحقوق والحكم بإيصالها إلى أربابها
والنظر في الأبضاع والأموال التي
ليس لها ولي معين والنظر في حال نظار الوقوف وأوصياء اليتامى
وغير ذلك
وفي بلاد أخرى كبلاد الغرب ليس لوالي الحرب مع القاضي حكم في شيء وإنما هو
منفذ لما يأمر به متولى القضاء
وأما ولاية الحسبة فخاصتها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما ليس من
خصائص الولاة والقضاة وأهل الديوان ونحوهم فعلى متولى الحسبة أن يأمر
العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس وأما
القتل فإلى غيره
ويتعاهد الأئمة والمؤذنين فمن فرط منهم فيما يجب عليه من حقوق الأمة وخرج
عن المشروع ألزمه به وإستعان فيما يعجز عنه بوالي الحرب والقاضي
واعتناء ولاة الأمور بإلزام الرعية بإقامة الصلاة أهم من كل شيء فإنها
عماد الدين وأساسه وقاعدته وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى
عماله أن أهم أمركم عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه ومن ضيعها
كان لما سواها أشد إضاعة
ويأمر والي الحسبة بالجمعة والجماعة وأداء الأمانة والصدق والنصح في
الأقوال والأعمال وينهى عن الخيانة وتطفيف المكيال والميزان والغش في
الصناعات والبياعات ويتفقد أحوال المكاييل والموازين
وأحوال الصناع الذين يصنعون الأطعمة والملابس والآلات فيمنعهم
من صناعة المحرم على الإطلاق كآلات الملاهي وثياب الحرير للرجال ويمنع من
اتخاذ أنواع المسكرات ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته ويمنع من
إفساد نقود الناس وتغييرها ويمنع من جعل النقود متجرا فإنه بذلك يدخل على
الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله بل الواجب أن تكون النقود رءوس
أموال يتجر بها ولا يتجر فيها وإذا حرم السلطان سكة أو نقدا منع من
الاختلاط بما أذن في المعاملة به
ومعظم ولايته وقاعدتها الإنكار على هؤلاء الزغلية وأرباب الغش في المطاعم
والمشارب والملابس وغيرها فإن هؤلاء يفسدون مصالح الأمة والضرر بهم عام لا
يمكن الاحتراز منه فعليه ألا يهمل أمرهم وأن ينكل بهم وأمثالهم ولا يرفع
عنهم عقوبته
فإن البلية بهم عظيمة والمضرة بهم شاملة ولا سيما هؤلاء الكيماويين الذين
يغشون النقود والجواهر والعطر والطيب وغيرها يضاهئون بزغلهم وغشهم خلق
الله والله تعالى لم يخلق شيئا فيقدر العباد أن يخلقوا كخلقه
قال تعالى فيما حكى عنه رسوله صلوات الله وسلامه عليه ومن أظلم ممن ذهب
يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا شعيرة
ولهذا كانت المصنوعات كالطبائخ والملابس والمساكن غير مخلوقة إلا بتوسط
الناس وقال تعالى وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك
المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون وقال تعالى أتعبدون ما
تنحتون والله خلقكم وما تعلمون وكانت المخلوقات من المعادن والنبات
والدواب غير مقدور لبني آدم أن يصنعوها لكن يشبهون بها على سبيل الغش وهذا
حقيقة الكيمياء فإنها ذهبت مشبه
ويدخل في المنكرات ما نهى الله ورسوله من العقود المحرمة مثل عقود الربا
صريحا واحتيالا وعقود الميسر كبيوع الغرر وكحبل الحبلة والملامسة
والمنابذة والنجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها وتصرية الدابة
اللبون وسائر أنواع التدليس وكذلك سائر الحيل المحرمة على أكل الربا وهي
ثلاثة أقسام
أحدها ما يكون من واحد كما إذا باعه سلعة بنسيئة ثم اشتراها منه بأقل من
ثمنها نقدا حيل على الربا
ومنها ما تكون ثنائية وهي أن تكون من اثنين مثل أن يجمع إلى القرض بيعا أو
إجارة أو مساقاة أو مزارعة ونحو ذلك وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه و سلم
أنه قال لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما
ليس عندك قال الترمذي حديث صحيح وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه
و سلم أنه قال من باع بيعتين في بيعة فله أوكسها أو الربا
ومنها ما تكون ثلاثية وهي أن يدخلا بينهما محللا للربا فيشتري
السلعة من آكل الربا ثم يبيعها لمعطي الربا إلى أجل ثم يعيدها إلى صاحبها
بنقص دراهم يستعيدها المحلل
وهذه المعاملات منها ما هو حرام بالاتفاق مثل التي يباع فيها المبيع قبل
القبض الشرعي أو بغير الشرط الشرعي أو يقلب فيها الدين على المعسر فإن
المعسر يجب إنظاره ولا تجوز الزيادة عليه بمعاملة ولا غيرها ومتى استحل
المرابي قلب الدين وقال للمدين إما أن تقضي وإما أن تزيد في الدين والمدة
فهو كافر يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل وأخذ ماله فيئا لبيت المال
فعلى والي الحسبة إنكار ذلك جميعه والنهي عنه وعقوبة فاعله ولا يتوقف ذلك
على دعوى ومدعي عليه فإن ذلك من المنكرات التي يجب على ولي الأمر إنكارها
والنهي عنها
فصل
ومن المنكرات تلقى السلع قبل أن تجئ إلى السوق فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتر بدون القيمة ولذلك أثبت له النبي صلى الله عليه و سلم الخيار إذا دخل إلى السوق ولا نزاع في ثبوت الخيار له مع الغبن وأما ثبوته بلا غبن ففيه عن أحمد روايتان
إحداهما يثبت وهو قول الشافعي لظاهر الحديث
والثانية لا يثبت لعدم الغبن ولذلك ثبت الخيار للمشتري المسترسل إذا غبن
وفي الحديث غبن المسترسل ربا وفي تفسيره قولان أحدهما أنه الذي لا يعرف
قيمة السلعة والثاني وهو المنصوص عن أحمد أنه الذي لا يماكس بل يسترسل إلى
البائع ويقول أعطني هذا
وليس لأهل السوق أن يبيعوا المماكس بسعر ويبيعوا المسترسل بغيره وهذا مما
يجب على والي الحسبة إنكاره وهذا بمنزلة تلقي السلع فإن القادم جاهل
بالسعر
ومن هذا تلقى سوقة الحجيج الجلب من الطريق وسبقهم إلى المنازل يشترون
الطعام والعلف ثم يبيعونه كما يريدون فيمنعهم والي الحسبة من التقدم لذلك
حتى يقدم الركب لما في ذلك من مصلحة الركب ومصلح الجالب ومتى اشتروا شيئا
من ذلك منعهم من بيعه بالغبن الفاحش
ومن ذلك نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يبيع حاضر لباد
دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض قيل لابن عباس ما معنى قوله
لا يبيع حاضر لباد قال لا يكون له سمسارا
وهذا النهي لما فيه من ضرر المشتري فإن المقيم إذا وكله القادم في بيع
سلعة يحتاج الناس إليها والقادم لا يعرف السعر أضر ذلك بالمشتري كما أن
النهي عن تلقي الجلب لما فيه من الإضرار بالبائعين
ومن ذلك الاحتكار لما يحتاج الناس إليه
وقد روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله العدوى أن النبي صلى الله عليه
و سلم قال لا يحتكر إلا خاطئ فإن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يجتاج
إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم هو ظالم لعموم الناس
ولهذا كان لولي الأمر أن يكره المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند
ضرورة الناس إليه مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة أوسلاح
لا يحتاج إليه والناس يحتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك فإن من اضطر إلى
طعام غيره أخذه منه بغير اختياره بقيمة المثل ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر
من سعره فأخذه منه بما طلب لم تجب عليه إلا قيمة مثله
وكذلك من اضطر إلى الإستدانة من الغير فأبى أن يعطيه إلا
بربا أو معاملة ربوية فأخذه منه بذلك لم يستحق عليه إلا مقدار
رأس ماله
وكذلك إذا اضطر إلى منافع ماله كالحيوان والقدر والفأس ونحوها وجب عليه
بذلها له مجانا في أحد الوجهين وهو الأصح وبأجرة المثل في الآخر
ولو اضطر إلى طعامه وشرابه فحبسه عنه حتى مات جوعا وعطشا ضمنه بالدية عند
الإمام أحمد واحتج بفعل عمر بن الخطاب وقيل له نذهب إليه فقال أي والله
فصل
وأما التسعير فمنه ما هو ظلم محرم ومنه ما هو عدل جائز
فإذا تضمن ظلم الناس وإكراههم بغير حق على البيع بثمن لا يرضونه أو منعهم
مما أباح الله لهم فهو حرام وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على من
يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ الزيادة
على عوض المثل فهو جائز بل واجب
فأما القسم الأول فمثل ما روى أنس قال غلا السعر على عهد النبي صلى الله
عليه و سلم فقالوا يا رسول الله لو سعرت لنا فقال إن الله هو
القابض والرازق الباسط المسعر وإني لأرجو أن ألقى الله ولا
يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال رواه أبو داود والترمذي
وصححه
فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم وقد ارتفع
السعر إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق فهذا إلى الله فإلزام الناس أن
يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق
وأما الثاني فمثل أن يمتنع أرباب السلع من بيعها مع ضرورة الناس إليها إلا
بزيادة على القيمة المعروفة فهنا يجب عليهم بيعها بقيمة المثل ولا معنى
للتسعير إلا إلزامهم بقيمة المثل فالتسعير ههنا إلزام بالعدل الذي ألزمهم
الله به
فصل
ومن أقبح الظلم إيجار الحانوت على الطريق أو في القرية بأجرة معينة على ألا يبيع أحد غيره فهذا ظلم حرام على المؤجر والمستأجر وهو نوع من أخذ أموال الناس قهرا وأكلها بالباطل وفاعله قد تحجر واسعا فيخاف عليه أن يحجر الله عنه رحمته كنا حجر على الناس فضله ورزقهفصل
ومن ذلك أن يلزم الناس ألا يبيع الطعام أو غيره من الأصناف إلا ناس معروفون فلا تباع تلك السلعة إلا لهم ثم يبيعونها هم بما يريدون فلو باع غيرهم ذلك منع وعوقب فهذا من البغي في الأرض والفساد والظلم
الذي يحبس به قطر السماء وهؤلاء يجب التسعير عليهم وألا يبيعوا
إلا بقيمة المثل ولا يشتروا إلا بقيمة المثل بلا تردد في ذلك عند أحد من
العلماء لأنه إذا منع غيرهم أن يبيع ذلك النوع أو يشتريه فلو سوغ لهم أن
يبيعوا بما شاءوا أو يشتروا بما شاءوا كان ذلك ظلما للناس ظلما للبائعين
الذين يريدون بيع تلك السلع وظلما للمشترين منهم
فالتسعير في مثل واجب بلا نزاع وحقيقته إلزامهم بالعدل ومنعهم من الظلم
وهذا كما أنه لا يجوز الإكراه على البيع بغير حق فيجوز أو يجب الإكراه
عليه بحق مثل بيع المال لقضاء الدين الواجب والنفقة الواجبة ومثل البيع
للمضطر إلى طعام أو لباس ومثل الغراس والبناء الذي في ملك الغير فإن لرب
الأرض أن يأخذه بقيمة المثل ومثل الأخذ بالشفعة فإن للشفيع أن يتملك الشقص
بثمنه قهرا وكذلك السراية في العتق فإنها تخرج الشقص من ملك الشريك قهرا
وتوجب على المعتق المعاوضة عليها قهرا وكل من وجب عليه شيء من الطعام
واللباس والرقيق والمركوب بحج أو كفارة أو نفقة فمتى وجده بثمن المثل وجب
عليه شراؤه وأجبر على ذلك ولم يكن له أن يمتنع حتى يبذل له مجانا أو بدون
ثمن المثل
فصل
ومن ههنا منع غير واحد من العلماء كأبي حنيفة وأصحابه القسامين الذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة أن يشتركوا فإنهم إذا اشتركوا والناس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة قلت وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسلي الموتى والحمالين
لهم من الاشتراك لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم وكذلك اشتراك كل طائفة
يحتاج الناس إلى منافعهم كالشهود والدلالين وغيرهم على أن في شركة الشهود
مبطلا آخر فإن عمل كل واحد منهم متميز عن عمل الآخر لا يمكن الاشتراك فيه
فإن الكتابة متميزة والتحمل متميز والأداء متميز لا يقع في ذلك اشتراك ولا
تعاون فبأي وجه يستحق أحدهما أجرة عمل صاحبه
وهذا بخلاف الاشتراك في سائر الصنائع فإنه يمكن أحد الشريكين أن يعمل بعض
العمل والآخر بعضه ولهذا إذا اختلفت الصنائع لم تصح الشركة على أحد
الوجهين لتعذر اشتراكهما في العمل ومن صححها نظر إلى أنهما يشتركان فيما
تتم به صناعة كل واحد منهما من الحفظ والنظر إذا خرج لحاجة فيقع الاشتراك
فيما يتم به من عمل كل واحد منهما وإن لم يقع في عين العمل
وأما شركة الدلالين ففيها أمر آخر وهو أن الدلال وكيل صاحب السلعة في
بيعها فإذا شارك غيره في بيعها كان توكيلا له فيما وكل فيه فإن قلنا ليس
للوكيل أن يوكل لم تصح الشركة وإن قلنا له أن يوكل صحت
فعلى والي الحسبة أن يعرف هذه الأمور ويراعيها ويراعي مصالح الناس وهيهات
هيهات ذهب ما هنالك
والمقصود أنه إذا منع القسامون ونحوهم من الشركة لما فيها من
التواطؤ على إغلاء الأجرة فمنع البائعين الذين تواطئوا على ألا يبيعوا إلا
بثمن مقدر أولى وأحرى
وكذلك يمنع والي الحسبة المشترين من الاشتراك في شيء لا يشتريه غيرهم لما
في ذلك من ظلم البائع
وأيضا فإذا كانت الطائفة التي تشتري نوعا من السلع أو تبيعها قد تواطئوا
على أن يهضموا ما يشترونه بدون ثمن المثل ويبيعوا ما يبيعونه بأكثر من ثمن
المثل ويقتسموا ما يشتركون فيه من الزيادة كان إقرارهم على ذلك معاونة لهم
على الظلم والعدوان وقد قال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا
على الإثم والعدوان ولا ريب أن هذا أعظم إثما وعدوانا من تلقي السلع وبيع
الحاضر للبادي ومن النجش
فصل
ومن ذلك أن يحتاج الناس إلى صناعة طائفة كالفلاحة والنساجة والبناء وغير
ذلك فلولي الأمر أن يلزمهم بذلك بأجرة مثلهم فإنه لا تتم مصلحة الناس إلا
بذلك
ولهذا قالت طائفة من أصحاب أحمد والشافعي أن تعلم هذه الصناعات فرض على
الكفاية لحاجة الناس إليها وكذلك تجهيز الموتى ودفنهم وكذلك أنواع
الولايات العامة والخاصة التي لا تقوم مصلحة الأمة إلا بها
وكان النبي صلى الله عليه و سلم يتولى أمر ما يليه بنفسه ويولي
فيما بعد عنه كما ولى على مكة عتاب بن أسيد وعلى الطائف عثمان بن أبي
العاص الثقفي وعلى قرى عرينة خالد بن سعيد بن العاص وبعث عليا ومعاذ بن
جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن
وكذلك كان يؤمر على السرايا ويبعث السعاة على الأموال الزكوية فيأخذونها
ممن هي عليه ويدفعونها إلى مستحقيها فيرجع الساعي إلى المدينة وليس معه
إلا سوطه ولا يأتي بشيء من الأموال إذا وجد لها موضعا يضعها فيه
فصل
وكان النبي صلى الله عليه و سلم يستوفي الحساب على عماله يحاسبهم على المستخرج والمصروف كما في الصحيحين عن أبي حميد الساعدي أن النبي صلى الله عليه و سلم استعمل رجلا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقات فلما رجع حاسبه فقال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي صلى الله عليه و سلم ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي أفلا قعد في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى إليه أم لا والذي نفسي بيده لا نستعمل رجلا على العمل مما ولانا الله فيغل منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء وإن كانت بقرة لها خوار وإن كانت شاة تيعر ثم رفع يديه إلى السماء وقال اللهم هل بلغت قالها مرتين أو ثلاثا
والمقصود أن هذه الأعمال متى لم يقم بها إلا شخص واحد صارت فرض معينا عليه
فإذا كان الناس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صارت هذه
الأعمال مستحقة عليهم يجبرهم ولي الأمر عليها بعوض المثل ولا يمكنهم من
مطالبة الناس بزيادة عن عوض المثل ولا يمكن الناس من ظلمهم بأن يعطوهم دون
حقهم كما إذا احتاج الجند المرصدون للجهاد إلى فلاحة أرضهم وألزم من
صناعته الفلاحة أن يقوم بها ألزم الجند بألا يظلموا الفلاح كما يلزم
الفلاح بأن يفلح
ولو اعتمد الجند والأمراء مع الفلاحين ما شرعه الله ورسوله وجاءت به السنة
وفعله الخلفاء الراشدون لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ولفتح الله عليهم
بركات من السماء والأرض وكان الذي يحصل لهم من الغل أضعاف ما يحصلونه
بالظلم والعدوان ولكن يأبى جهلهم وظلمهم إلا أن يرتكبوا الظلم والإثم
فيمنعوا البركة وسعة الرزق فيجتمع لهم عقوبة الآخرة ونزع البركة في الدنيا
فإن قيل وما الذي شرعه الله ورسوله وفعله الصحابة حتى يفعله من وفقه الله
قيل المزارعة العادلة التي يكون المقطع والفلاح فيها على حد سواء من العدل
لا يختص أحدهما عن الآخر بشيء من هذه الرسوم التي ما أنزل
الله بها من سلطان وهي التي خربت البلاد وأفسدت العباد ومنعت
الغيث وأزالت البركات وعرضت أكثر الجند والأمراء لأكل الحرام وإذا نبت
الجسد على الحرام فالنار أولى به
وهذه المزارعة العادلة هي عمل المسلمين على عهد النبي صلى الله عليه و سلم
وعهد خلفائه الراشدين وهي عمل آل أبي بكر وآل عمر وآل عثمان وآل علي
وغيرهم من بيوت المهاجرين وهي قول أكابر الصحابة كابن مسعود وأبي بن كعب
وزيد بن ثابت وغيرهم وهي مذهب فقهاء الحديث كأحمد بن حنبل وإسحاق بن
راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ومحمد بن اسحاق بن خزيمة
وأبي بكر بن المنذر ومحمد بن نصر المروزي وهي مذهب عامة أئمة المسلمين
كالليث بن سعد وابن أبي ليلى وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم
وكان النبي صلى الله عليه و سلم قد عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من
ثمر وزرع حتى مات ولم تزل تلك المعاملة حتى أجلاهم عمر عن خيبر وكان قد
شارطهم أن يعمروها من أموالهم وكان البذر منهم لا من النبي صلى الله عليه
و سلم
ولهذا كان الصحيح من أقوال العلماء أن البذر يجوز أن يكون من العامل كما
مضت به السنة بل قد قالت طائفة من الصحابة لا يكون البذر إلا من العامل
لفعل النبي صلى الله عليه و سلم ولأنهم أجروا البذر مجرى النفع والماء
والصحيح أنه يجوز أن يكون من رب الأرض وأن يكون من العامل وأن
يكون منهما وقد ذكر البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عامل
الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا
والذين منعوا المزارعة منهم من احتج بأن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن
المخابرة ولكن الذي نهى عنه هو الظلم فإنهم كانوا يشترطون لرب الأرض زرع
بقعة بعينها ويشترطون ما على الماذيانات وأقبال الجداول وشيئا من التبن
يختص به صاحب الأرض ويقتسمان الباقي
وهذا الشرط باطل بالنص والإجماع فإن المعاملة مبناها على العدل من
الجانبين وهذه المعاملات من جنس المشاركات لا من باب المعاوضات والمشاركة
العادلة هي أن يكون لكل واحد من الشريكين جزء شائع فإذا جعل لأحدهما شيء
مقدر كان ظلما
فهذا هو الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم كما قال الليث بن سعد
الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه و سلم من ذلك أمر إذا نظر ذو البصيرة
بالحلال والحرام فيه علم أنه لا يجوز وأما ما فعله هو وفعله خلفاؤه
الراشدون والصحابة فهو العدل المحض الذي لا ريب في جوازه
فصل
وقد ظن طائفة من الناس أن هذه المشاركات من باب الإجارة بعوض مجهول فقالوا
القياس يقتضي تحريمها
ثم منهم من حرم المساقاة والمزارعة وأباح المضاربة استحسانا للحاجة لأن
الدراهم لا تؤجر كما قال أبو حنيفة
ومنهم من أباح المساقاة إما مطلقا كقول مالك والشافعي في القديم أو على
النخل والعنب خاصة كالجديد له لأن الشجر لا تمكن إجارته بخلاف الأرض وأباح
ما يحتاج إليه من المزارعة تبعا للمساقاة
ثم منهم من قدر ذلك بالثلث كقول مالك
ومنهم من اعتبر كون الأرض أغلب كقول الشافعي
وأما جمهور السلف والفقهاء فقالوا ليس ذلك من باب الإجارة في شيء بل هو من
باب المشاركات التي مقصود كل منهما مثل مقصود صاحبه بخلاف الإجارة فإن هذا
مقصوده العمل وهذا مقصوده الأجرة ولهذا كان الصحيح أن هذه المشاركات إذا
فسدت وجب فيها نصيب المثل لا أجرة المثل فيجب من الربح والنماء في فاسدها
نظير ما يجب في صحيحها لا أجرة مقدرة فإن لم يكن ربح ولا نماء لم يجب شيء
فإن أجرة المثل
قد تستغرق رأس المال وأضعافه وهذا ممتنع فإن قاعدة الشرع أنه
يجب في الفاسد من العقود نظير ما يجب في الصحيح منها
كما يجب في النكاح الفاسد مهر المثل وهو نظير ما يجب في الصحيح وفي البيع
الفاسد إذا فات ثمن المثل وفي الإجارة الفاسدة أجر المثل فكذلك يجب في
المضاربة الفاسدة ربح المثل وفي المساقاة المزارعة الفاسدة نصيب المثل فإن
الواجب في صحيحها ليس هو أجرة مسماة فتجب في فاسدها أجرة المثل بل هو جزء
شائع من الربح فيجب في الفاسدة نظيره
قال شيخ الإسلام وغيره من الفقهاء والمزارعة أحل من المؤاجرة وأقرب إلى
العدل فإنهما يشتركان في المغرم والمغنم بخلاف المؤاجرة فإن صاحب الأرض
تسلم له الأجرة والمستأجر قد يحصل له زرع وقد لا يحصل
والعلماء مختلفون في جواز هذا وهذا والصحيح جوازهما سواء كانت الأرض
أقطاعا أم غيره
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وما علمت أحدا من علماء الإسلام من الأئمة
الأربعة ولا غيرهم قال إجارة الإقطاع لا تجوز وما زال
المسلمون يؤجرون إقطاعاتهم قرنا بعد قرن ومن الصحابة إلى زمننا
هذا حتى أحدث بعض أهل زماننا فابتدع القول ببطلان إجارة الإقطاع
وشبهته أن المقطع لا يملك المنفعة فيصير كالمستعير لا يجوز أن يكري الأرض
المعارة وهذا القياس خطأ من وجهين
أحدهما أن المستعير لم تكن المنفعة حقا له وإنما تبرع المعير بها وأما
أراضي المسلمين فمنفعتها حق للمسلمين وولي الأمر قاسم بينهم حقوقهم ليس
متبرعا لهم كالمعير والمقطع مستوفى المنفعة بحكم الاستحقاق كما يستوفى
الموقوف عليه منافع الوقف وأولى وإذا جاز للموقوف عليه أن يؤجر الوقف وإن
أمكن أن يموت فتنفسخ الإجارة بموته على الصحيح فلأن يجوز للمقطع أن يؤجر
الإقطاع وإن انفسخت الإجارة بموته أولى
الثاني أن المعير لو أذن في الإجارة جازت الإجارة وولي الأمر يأذن للمقطع
في الإجارة فإنه إنما أقطعهم لينتفعوا بها إما بالمزارعة وإما بالإجارة
ومن منع الانتفاع بها بالإجارة والمزارعة فقد أفسد على المسلمين دينهم
ودنياهم وألزم الجند والأمراء أن يكونوا هم الفلاحين وفي ذلك من الفساد ما
فيه
وأيضا فإن الإقطاع قد يكون دورا وحوانيت لا ينتفع بها المقطع إلا بالإجارة
فإذا لم تصح إجارة الإقطاع تعطلت منافع ذلك بالكلية
وكون الإقطاع معرضا لرجوع الإمام فيه مثل كون الموهوب للولد
معرضا لرجوع الوالد فيه وكون الصداق قبل الدخول معرضا لرجوع نصفه أو كله
إلى الزوج وذلك لا يمنع صحة الإجارة بالأتفاق فليس مع المبطل نص ولا قياس
ولا مصلحة ولا نظير
وإذا أبطلوا المزارعة والإجارة لم يبق بيد الجند إلا أن يستأجروا من
أموالهم من يزرع الأرض ويقوم عليها وهذا لا يكاد يفعله إلا القليل من
الناس لأنه قد يخسر ماله ولا يحصل له شيء بخلاف المشاركة فإنهما يشتركان
في المغنم والمغرم فهي أقرب إلى العدل
وهذه المسألة ذكرت استطرادا وإلا فالمقصود أن الناس إذا احتاجوا إلى أرباب
الصناعات كالفلاحين وغيرهم أجبروا على ذلك بأجرة المثل وذا من التسعير
الواجب فهذا تسعير في الأعمال
وأما التسعير في الأموال فإذا احتاج الناس إلى سلاح للجهاد وآلات فعلى
أربابه أن يبيعوه بعوض المثل ولا يمكنوا من حبسه إلا بما يريدونه من الثمن
والله تعالى قد أوجب الجهاد بالنفس والمال فكيف لا يجب على أرباب السلاح
بذله بقيمته ومن أوجب على العاجز ببدنه أن يخرج من ماله ما يحتاج له الغير
عنه ولم يوجب على المستطيع بماله أن يخرج ما يجاهد به الغير فقوله ظاهر
التناقض وهذا أحد الروايتين عن الإمام أحمد وهو الصواب
فصل
وإما لم يقع التسعير في زمن النبي صلى الله عليه و سلم بالمدينة لأنهم لم يكن عندهم من يطحن ويخبز بكراء ولا من يبيع طحينا وخبزا بل كانوا يشترون الحب ويطحنونه ويخبزونه في بيوتهم وكان من قدم بالحب لا يتلقاء أحد بل يشتريه الناس من الجالبين ولهذا جاء في الحديث الجالب مرزوق المحتكر ملعونوكذلك لم يكن في المدينة حائك بل كان يقدم عليهم بالثياب من الشام واليمن وغيرهما فيشترونها ويلبسونها
فصل
في التسعير
وقد تنازع العلماء في التسعير في مسألتينإحداهما إذا كان للناس سعر غالب فأراد بعضهم أن يبيع بأغلى من ذلك فإنه يمنع من ذلك عند مالك وهل يمنع من النقصان على قولين لهم
واحتج مالك رحمه الله بما رواه في موطئه عن يونس بن سيف عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع
زبيبا له بالسوق فقال له عمر إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع
من سوقنا قال مالك لو أن رجلا أراد فساد السوق فحط عن سعر الناس لرأيت أن
يقال له إما لحقت بسعر الناس وإما رفعت وإما أن يقول للناس كلهم لا تبيعوا
إلا بسعر كذا فليس ذلك بالصواب وذكر حديث عمر بن عبد العزيز في أهل الأبلة
حين حط سعرهم لمنع البحر فكتب خل بينهم وبين ذلك فإنما السعر بيد الله
قال ابن رشد في كتاب البيان أما الجلابون فلا خلاف في أنه لا يسعر عليهم
شيء مما جلبوه وإنما يقال لمن شذ منهم فباع بأغلى مما يبيع به العامة إما
أن تبيع بما تبيع به العامة وإما أن ترفع من السوق كما فعل عمر بن الخطاب
بحاطب بن أبي بلتعة إذ مر به وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال له إما أن
تزيد في السعر وإما أن ترفع من سوقنا لأنه كان يبيع بالدرهم الواحد أقل
مما كان يبيع به أهل السوق
وأما أهل الحوانيت والأسواق الذي يشترون من الجلابين وغيرهم جملة ويبيعون
ذلك على أيديهم مقطعا مثل اللحم والأدم والفواكه فقيل إنهم كالجلابين لا
يسعر لهم شيء من بياعاتهم وإنما يقال لمن شذ منهم وخرج عن الجمهور إما أن
تبيع كما يبيع الناس وإما أن ترفع من السوق وهو قول مالك في هذه الرواية
وممن روى عنه ذلك من السلف عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد
وسالم بن عبد الله
قيل إنهم في هذا بخلاف الجالبين لا يتركون على البيع باختيارهم إذا أغلوا
على الناس ولم يقتنعوا من الربح بما يشبه
وعلى صاحب السوق الموكل بمصلحته أن يعرف ما يشترون به فيجعل لهم من الربح
ما يشبه وينهاهم أن يزيدوا على ذلك ويتفقد السوق أبدا فيمنعهم من الزيادة
على الربح الذي جعل لهم فمن خالف أمره عاقبه وأخرجه من السوق
وهذا قول مالك في رواية أشهب وإليه ذهب ابن حبيب وقال به ابن المسيب ويحيى
بن سعيد والليث وربيعة
ولا يجوز عند أحد من العلماء أن يقول لهم لا تبيعوا إلا بكذا وكذا ربحتم
أو خسرتم من غير أن ينظر إلى ما يشترون به ولا أن يقول لهم فيما قد اشتروه
لا تبيعوا إلا بكذا وكذا مما هو مثل الثمن أو أقل
وإذا ضرب لهم الربح على قدر ما يشترون لم يتركهم أن يغلوا في الشراء إن لم
يزيدوا في الربح على القدر الذي حد لهم فإنهم قد يتساهلون في الشراء إذا
علموا أن الربح لا يفوتهم
وأما الشافعي فإنه عارض في ذلك بما رواه عن الدراوردى عن داود بن صالح
التمار عن القاسم بن محمد عن عمر رضي الله عنه أنه مر
بحاطب بن أبي بلتعة بسوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب
فسأله عن سعرهما فقال له مدين لكل درهم فقال له عمر قد حدثت بعير جاءت من
الطائف تحمل زبيبا وهم يغترون بسعرك فإما أن ترفع في السعر وإما أن تدخل
زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت فلما رجع عمر حاسب نفسه ثم أتى حاطبا في داره
فقال إن الذي قلت لك ليس عزمة مني ولا قضاء إنما هو الشيء أردت به الخير
لأهل البلد فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع
قال الشافعي وهذا الحديث مستقصى وليس بخلاف لما رواه مالك ولكنه روى بعض
الحديث أو رواه عنه من رواه وهذا أتي بأول الحديث وآخره وبه أقول لأن
الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها أو شيئا منها بغير طيب
أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم وهذا ليس منها
وعلى قول مالك فقال أبو الوليد الباجى الذي يؤمر به من حط عنه أن يلحق به
هو السعر الذي عليه جمهور الناس فإذا انفرد منهم الواحد والعدد اليسير بحط
السعر أمروا باللحاق بسعر الناس أو ترك البيع فإن زاد في السعر واحد أو
عدد يسير لم يؤمر الجمهور باللحاق بسعره لأن المراعى حال الجمهور وبه تقوم
المبيعات
وهل يقام من زاد في السوق أي في قدر المبيع بالدراهم كما يقام من نقص منه
قال ابن القصار المالكي اختلف أصحابنا في قول مالك ولكن من حط
سعرا فقال البغداديون أراد من باع خمسة بدرهم والناس يبيعون ثمانية وقال
قوم من البصريين أراد من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة فيفسد على أهل
السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة
قال وعندي أن الأمرين جميعا ممنوعان لأن من باع ثمانية والناس يبيعون خمسة
أفسد على أهل السوق بيعهم وربما أدى إلى الشغب والخصومة فمنع الجميع مصلحة
قال أبو الوليد ولا خلاف أن ذلك حكم أهل السوق
وأما الجانب ففي كتاب محمد لا يمنع الجانب أن يبيع في السوق دون بيع الناس
وقال ابن حبيب ما عدا القمح والشعير بسعر الناس وإلا رفعوا وأما جالب
القمح والشعير فيبيع كيف شاء إلا أن لهم في أنفسهم حكم أهل السوق إن أرخص
بعضهم تركوا وإن أرخص أكثرهم قيل لمن بقى إما أن تبيعوا كبيعهم وإما أن
ترفعوا
قال ابن حبيب وهذا في المكيل والموزون مأكولا كان أو غيره دون مالا يكال
ولا يوزن لأنه لا يمكن تسعيره لعدم التماثل فيه
قال أبو الوليد هذا إذا كان المكيل والموزون متساويا فإذا اختلف لم يؤمر
صاحب الجيد أن يبيعه بسعر الدون
فصل
وأما المسألة الثانية التي تنازعوا فيها من التسعير فهي أن يحد لأهل السوق حدا لا يتجاوزونه مع قيامهم بالواجبفهذا منع منه الجمهور حتى مالك نفسه في المشهور عنه ونقل المنع أيضا عن ابن عمر وسالم والقاسم بن محمد وروى أشهب عن مالك في صاحب السوق يسعر على الجزارين لحم الضأن بكذا ولحم الإبل بكذا وإلا أخرجوا من السوق قال إذا سعر عليهم قدر ما يرى من شرائهم فلا بأس به ولكن أخاف أن يقوموا من السوق
واحتج أصحاب هذا القول بأن في هذا مصلحة للناس بالمنع من إغلاء السعر عليهم ولا يجبر الناس على البيع وإنما يمنعون من البيع بغير السعر الذي يحده ولي الأمر على حسب ما يرى من المصلحة فيه للبائع والمشترى
وأما الجمهور فاحتجوا بما رواه أبو داود وغيره من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال يا رسول الله سعر لنا فقال بل أدعو الله ثم جاءه رجل فقال يا رسول الله سعر لنا فقال بل الله يرفع ويخفض وإني لأرجو أن ألقى الله وليست لأحد عندي مظلمة
قالوا ولأن إجبار الناس على ذلك ظلم لهم
فصل
وأما صفة ذلك عند من جوزه فقال ابن حبيب ينبغي للأمام أن يجمع وجوه أهل
سوق ذلك الشيء ويحضر غيرهم استظهارا على صدقهم فيسألهم كيف يشترون وكيف
يبيعون فينازلهم إلى ما فيه لهم وللعامة سدادا حتى يرضوا به ولا يجبرهم
على التسعير ولكن عن رضى
قال أبو الوليد ووجه هذا أن به يتوصل إلى معرفة مصالح البائعين والمشترين
ويحصل للباعة في ذلك من الربح ما يقوم بهم ولا يكون فيه إجحاف بالناس وإذا
سعر عليهم من غير رضا بما لا ربح لهم فيه أدى ذلك إلى فساد الأسعار وإخفاء
الأقوات وإتلاف أموال الناس
قال شيخنا فهذا الذي تنازعوا فيه وأما إذا امتنع الناس من بيع ما يجب
عليهم بيعه فهنا يؤمرون بالواجب ويعاقبون على تركه وكذلك كل من وجب عليه
أن يبيع بثمن المثل فامتنع
ومن احتج على منع التسعير مطلقا يقول النبي صلى الله عليه و سلم إن الله
هو المسعر القابض الباسط وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطلبني
بمظلمة في دم ولا مال قيل له هذه قضية معينة وليست لفظا عاما وليس فيها
أحدا امتنع من بيع ما الناس يحتاجون إليه ومعلوم أن الشيء إذا قل رغب
الناس في المزايدة فيه فإذا بذله صاحبه كما جرت به العادة ولكن الناس
تزايدوا فيه فهنا لا يسعر عليهم
وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم منع من
الزيادة على ثمن المثل في عتق الحصة من العبد المشترك فقال من أعتق شركا
له في عبد وكان له من المال ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل لا وكس
ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد فلم يمكن المالك أن يساوم
المعتق بالذي يريد فإنه لما وجب عليه أن يملك شريكه المعتق نصيبه الذي لم
يعتقه لتكميل الحرية في العبد قدر عوضه بأن يقوم جميع العبد قيمة عدل
ويعطيه قسطه من القيمة فإن حق الشريك في نصف القيمة لا في قيمة النصف عند
الجمهور
وصار هذا الحديث أصلا في أن ما لا يمكن قسمة عينه فإنه يباع ويقسم ثمنه
إذا طلب أحد الشركاء ذلك ويجبر الممتنع على البيع وحكى بعض المالكية ذلك
إجماعا
وصار أصلا في أن من وجبت عليه المعاوضة أجبر على أن يعاوض بثمن المثل لا
بما يريد من الثمن
وصار أصلا في جواز إخراج الشيء من ملك صاحبه قهرا بثمنه للمصلحة الراجحة
كما في الشفعة
وأصلا في وجوب تكميل العتق بالسراية مهما أمكن
والمقصود أنه إذا كان الشارع يوجب إخراج الشيء عن ملك مالكه بعوض المثل
لمصلحة تكميل العتق ولم يمكن المالك من المطالبة بالزيادة على
القيمة فكيف إذا كانت الحاجة بالناس إلى التملك أعظم وهم إليها
أضر مثل حاجة المضطر إلى الطعام والشراب واللباس وغيره
وهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه و سلم من تقويم الجميع قيمة المثل
هو حقيقة التسعير وكذلك سلط الشريك على انتزاع الشقص المشفوع فيه من يد
المشترى بثمنه الذي ابتاعه به لا بزيادة عليه لأجل مصلحة التكميل لواحد
فكيف بما هو أعظم من ذلك فإذا جوز له انتزاعه منه بالثمن الذي وقع عليه
العقد لا بما شاء المشتري من الثمن لأجل هذه المصلحة الجزئية فكيف إذا
اضطر إلى ما عنده من طعام وشراب ولباس وآلة حرب وكذلك إذا اضطر الحاج إلى
ما عند الناس من آلات السفر وغيرها فعلى ولي الأمر أن يجبرهم على ذلك بمثل
الثمن لا بما يريدونه من الثمن وحديث العتق أصل في ذلك كله
فصل
فإذا قدر أن قوما اضطروا إلى السكنى في بيت إنسان لا يجدون سواه أو النزول في خان مملوك أو استعارة ثياب يستدفئون بها أو رحى للطحن أو دلو لنزع الماء أو قدر أو فأس أو غير ذلك وجب على صاحبه بذله بلا نزاع لكن هل له أن يأخذ عليه أجرا فيه قولان للعلماء وهما وجهان لأصحاب أحمد ومن جوز له أخذ الأجرة حرم عليه أن يطلب زيادة على أجرة المثل
قال شيخنا والصحيح أنه يجب عليه بذل ذلك مجانا كما دل عليه الكتاب والسنة
قال تعالى فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون
الماعون
قال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة هو إعادة القدر والدلو والفأس
ونحوهما
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه و سلم وذكر الخيل قال هي لرجل أجر
ولرجل ستر وعلى رجل وزر فأما الذي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله وأما
الذي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا في
ظهورها
وفي الصحيحين عنه أيضا من الإبل إعارة دلوها وإطرق فحلها وفي الصحيحين عنه
أنه نهى عن عسب الفحل أي عن أخذ الأجرة عليه والناس يحتاجون إليه فأوجب
بذله مجانا ومنع من أخذ الأجرة عليه
وفي الصحيحين عنه أنه قال لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره
ولو احتاج إلى إجراء مائة في أرض غيره من غير ضرر لصاحب الأرض فهل يجبر
على ذلك روايتان عن أحمد والإجبار قول عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي
الله عنهم
وقد قال جماعة من الصحابة والتابعين إن زكاة الحلى عاريته فإذا
لم يعره فلا بد من زكاته وهذا وجه في مذهب أحمد
قلت وهو الراجح وإنه لا يخلو الحلى من زكاة أو عارية
والمنافع التي يجب بذلها نوعان منها ما هو حق المال كما ذكرنا في الخيل
والإبل والحلى ومنها ما يجب لحاجة الناس
وأيضا فإن بذل منافع البدن تجب عند الحاجة كتعليم العلم وإفتاء الناس
وأداء الشهادة والحكم بينهم وأداء الشهادة والجهاد والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر وغير ذلك من منافع الأبدان
وكذلك من أمكنه إنجاء إنسان من مهلكة وجب عليه أن يخلصه فإن ترك ذلك مع
قدرته عليه أثم وضمنه
فلا يمتنع وجوب بذل منافع الأموال للمحتاج وقد قال تعالى ولا يأب الشهداء
إذا ما دعوا وقال ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله
وللفقهاء في أخذ الجعل على الشهادة أربعة أقوال وهي أربعة أوجه في مذهب
أحمد أحدها أنه لا يجوز مطلقا
والثاني أنه يجوز عند الحاجة
والثالث أنه لا يجوز إلا أن يتعين عليه
والرابع أنه يجوز فإن أخذه عند التحمل لم يأخذه عند الأداء
والمقصود أن ما قدره النبي صلى الله عليه و سلم من الثمن في سراية العتق
هو لأجل تكميل الحرية وهو حق الله وما احتاج إليه الناس حاجة عامة فالحق
فيه لله وذلك في الحقوق والحدود
فأما الحقوق فمثل حقوق المساجد ومال الفئ والوقف على أهل الحاجات وأموال
الصدقات والمنافع العامة
وأما الحدود فمثل حد المحاربة والسرقة والزنا وشرب الخمر المسكر
وحاجة المسلمين إلى الطعام واللباس وغير ذلك مصلحة عامة ليس الحق فيها
لواحد بعينه فتقدير الثمن فيها بثمن المثل على من وجب عليه البيع أولى من
تقديره لتكميل الحرية
لكن تكميل الحرية وجب على الشريك المعتق ولو لم يقدر فيها الثمن لتضرر
بطلب الشريك الآخر فإنه يطلب ما شاء وهنا عموم الناس يشترون الطعام
والثياب لأنفسهم وغيرهم فلو مكن من عنده سلع يحتاج الناس إليها
أن يبيع بما شاء كان ضرر الناس أعظم ولهذا قال الفقهاء إذا اضطر
الإنسان إلى طعام الغير وجب عليه بذله له بثمن المثل
وأبعد الأئمة عن إيجاب المعاوضة وتقديرها هو الشافعي ومع هذا فإنه يوجب
على من اضطر الإنسان إلى طعامه أن يبذله له بثمن المثل وتنازع أصحابه في
جواز تسعير الطعام إذا كان بالناس إليه حاجة ولهم فيه وجهان
وقال أصحاب أبي حنيفة لا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس إلا إذا تعلق به
حق ضرر العامة فإذا رفع إلى القاضي أمر المحتكر ببيع ما فضل من قوته وقوت
أهله على اعتبار السعر في ذلك ونهاه عن الاحتكار فإن أبى حبسه وعزره على
مقتضى رأيه زجرا له ودفعا للضرر عن الناس
قالوا فإن تعدى أرباب الطعام وتجاوزوا القيمة تعديا فاحشا وعجز القاضي عن
صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير سعره حينئذ بمشورة أهل الرأي والبصيرة
وهذا على أصل أبي حنيفة ظاهر حيث لا يرى الحجر على الحر
ومن باع منهم بما قدره الإمام صح لأنه غير مكره عليه
قالوا وهل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه على الخلاف
المعروف في بيع مال المدين وقيل يبيع ههنا بالاتفاق لأن أبا
حنيفة يرى الحجر لدفع الضرر العام والسعر لما غلا على عهد النبي صلى الله
عليه و سلم وطلبوا منه التسعير فامتنع لم يذكر أنه كان هناك من عنده طعام
امتنع من بيعه بل عامة من كان يبيع الطعام إنما هم جالبون يبيعونه إذا
هبطوا السوق
ولكن نهى النبي صلى الله عليه و سلم أن يبيع حاضر لباد أي أن يكون له
سمسارا وقال دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فنهى الحاضر العالم بالسعر
أن يتوكل للبادي الجالب للسلعة لأنه إذا توكل له مع خبرته بحاجة الناس
أغلى الثمن على المشتري فنهاه عن التوكل له مع أن جنس الوكالة مباح لما في
ذلك من زيادة السعر على الناس ونهى عن تلقي الجلب
وجعل للبائع إذا هبط السوق الخيار ولهذا كان أكثر الفقهاء على أنه نهى عن
ذلك لما فيه من ضر البائع هنا فإذا لم يكن قد عرف السعر وتلقاه المتلقي
قبل إتيانه إلى السوق اشتراه المشتري بدون ثمن المثل فغبنه فأثبت النبي
صلى الله عليه و سلم لهذا البائع الخيار
ثم فيه عن أحمد روايتان كما تقدم إحداهما أن الخيار يثبت له مطلقا سواء
غبن أو لم يغبن وهو ظاهر مذهب الشافعي
والثانية أنه إنما يثبت له عند الغبن وهي ظاهر المذهب
وقالت طائفة بل نهى عن ذلك لما فيه من ضرر المشترى إذا تلقاه المتلقي
فاشترى منه ثم باعه وفي الجملة فقد نهى النبي صلى الله عليه و سلم عن
البيع والشراء الذي جنسه حلال حتى يعلم البائع بالسعر وهو ثمن المثل ويعلم
المشتري بالسلعة
وصاحب القياس الفاسد يقول للمشتري أن يشتري حيث شاء وقد اشترى من البائع
كما يقول فله أن يتوكل للبائع الحاضر وغير الحاضر ولكن الشارع راعى
المصلحة العام فإن الجالب إذا لم يعرف السعر كان جاهلا بثمن المثل فيكون
المشتري غارا له
وألحق مالك وأحمد بذلك كل مسترسل فإنه يمنزلة الجالب الجاهل بالسعر
فتبين أنه يجب على الإنسان ألا يبيع مثل هؤلاء إلا بالسعر المعروف وهو ثمن
المثل وإن لم يكونوا محتاجين إلى الابتياع منه لكن لكونهم جاهلين بالقيمة
أو غير مماكسين والبيع يعتبر فيه الرضا والرضا يتبع العلم ومن لم يعلم أنه
غبن فقد يرضى وقد لا يرضى فإذا علم أنه غبن ورضى فلا بأس بذلك
وفي السنن أن رجلا كانت له شجرة في أرض غيره وكان
صاحب الأرض يتضرر بدخول صاحب الشجرة فشكا ذلك إلى النبي صلى
الله عليه و سلم فأمره أن يقبل بدلها أو يتبرع له بها فلم يفعل فأذن لصاحب
الأرض أن يقلعها وقال لصاحب الشجرة إنما أنت مضار
وصاحب القياس الفاسد يقول لا يجب عليه أن يبيع شجرته ولا يتبرع بها ولا
يجوز لصاحب الأرض أن يقلعها لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه وإجبار على
المعاوضة عليه
وصاحب الشرع أوجب عليه إذا لم يتبرع بها أن يبيعها لما في ذلك من مصلحة
صاحب الأرض بخلاصه من تأذيه بدخول صاحب الشجرة ومصلحة صاحب الشجرة بأخذ
القيمة وإن كان عليه في ذلك ضرر يسير فضرر صاحب الأرض ببقائها في بستانه
أعظم فإن الشارع الحكيم يدفع أعظم الضررين بأيسرهما فهذا هو الفقه والقياس
والمصلحة وإن أباه من أباه
والمقصود ان هذا دليل على وجوب البيع عند حاجة المشتري وأين حاجة هذا من
حاجة عموم الناس إلى الطعام وغيره
والحكم في المعاوضة على المنافع إذا احتاج الناس إليها كمنافع الدور
والطحن والخبز وغير ذلك حكم المعاوضة على الأعيان
وجماع الأمر أن مصلحة الناس إذا لم تتم إلا بالتسعير سعر عليهم
تسعير عدل لا وكس ولا شطط وإذا اندفعت حاجتهم وقامت مصلحتهم
بدونه لم يفعل وبالله التوفيق
فصل
والمقصود أن هذه أحكام شرعية لها طرق شرعية لا تتم مصلحة الأمة إلا بها
ولا تتوقف على مدع ومدعى عليه بل لو توقفت على ذلك فسدت مصالح الأمة واختل
النظام بل يحكم فيها متولى ذلك بالأمارات والعلامات الظاهرة والقرائن
البينة
ولما كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتم إلا بالعقوبات الشرعية
فإن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن فإقامة الحدود واجبة على ولاة
الأمور
والعقوبة تكون على فعل محرم أو ترك واجب
والعقوبات كما تقدم منها ما هو مقدر ومنها ما هو غير مقدر وتختلف مقاديرها
وأجناسها وصفاتها باختلاف أحوال الجرائم وكبرها وصغرها وبحسب حال المذنب
في نفسه
والتعزير منه ما يكون بالتوبيخ وبالزجر وبالكلام ومنه ما يكون بالحبس ومنه
ما يكون بالنفي ومنه ما يكون بالضرب
وإذا كان على ترك واجب كأداء الديون والأمانات والصلاة والزكاة
فإنه يضرب مرة بعد مرة ويفرق الضرب عليه يوما بعد يوم حتى يؤدي الواجب
وإن كان ذلك على جرم ماض فعل منه مقدار الحاجة
وليس لأقله حد وقد تقدم الخلاف في أكثره وأنه يسوغ بالقتل إذا لم تندفع
المفسدة إلا به مثل قتل المفرق لجماعة المسلمين والداعي إلى غير كتاب الله
وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر
منهما وقال من جاءكم وأمركم على رجل واحد يري أن يفرق جماعتكم فاضربوا
عنقه بالسيف كائنا من كان وأمر بقتل رجل تعمد عليه الكذب وقال لقوم أرسلني
إليكم رسول الله صلى الله عليه و سلم أن أحكم في نسائكم وأموالكم وسأله
ابن الديلمي عمن لم ينته عن شرب الخمر فقال من لم ينته عنها فاقتلوه وأمر
بقتل شاربها بعد الثالثة أو الرابعة وأمر بقتل الذي يتزوج امرأة أبيه وأمر
بقتل الذي اتهم بجاريته حتى تبين له أنه خصي وأبعد الأئمة من التعزيز
بالبقتل أبو حنيفه ومع ذلك فيجوز التعزيز للمصلحه كقتل المكثر من اللواط
وقتل القاتل بالمثقل
ومالك يرى تعزير الجاسوس المسلم بالقتل ووافقه بعض أصحاب أحمد
ويرى أيضا هو وجماعة من أصحاب أحمد والشافعي قتل الداعية إلى البدعة
وعزر أيضا صلى الله عليه و سلم بالهجر وعزر بالنفي كما أمر بإخراج
المخنثين من المدينة ونفيهم وكذلك الصحابة من بعده كما فعل عمر رضي الله
عنه بالأمر بهجر صبيغ ونفي نصر بن حجاج
فصل
وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحد قولي الشافعي وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وعن أصحابه بذلك في مواضعمنها إباحته صلى الله عليه و سلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده
ومثل أمره صلى الله عليه و سلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها
ومثل أمره لعبد الله بإن عمر أن يحرق الثوبين المعصفرين
ومثل أمره صلى الله عليه و سلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الأنسية ثم استأذنوه في غسلها فأذن لهم فدل ذلك على جواز الأمرين لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر
ومثل هدمه مسجد الضرار
ومثل تحريق متاع الغال
ومثل حرمان السلب الذي اساء على نائبه
ومثل إضعاف الغرم على سارق مالا قطع فيه من الثمر والكثر
ومثل إضعافه الغرم على كاتم الضالة ومثل أخذه شطر مال مانع الزكاة عزمة من
عزمات الرب تبارك وتعالى
ومثل أمره لابس خاتم الذهب بطرحه فلم يعرض له أحد
ومثل تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم
ومثل قطع نخيل اليهود إغاظة لهم
ومثل تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر
ومثل تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية
وهذه قضايا صحيحة معروفة وليس يسهل دعوى نسخها
ومن قال إن العقوبات المالية منسوخة وأطلق ذلك فقد غلط على مذاهب الأئمة
نقلا واستدلالا فأكثر هذه المسائل سائغ في مذهب أحمد
وغيره وكثير منها سائغ عند مالك وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر
الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه و سلم مبطل أيضا لدعوى نسخها والمدعون
للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم إلا أن يقول أحدهم
مذهب أصحابنا عدم جوازها فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد وإذا ارتفع
عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع وهذا غلط أيضا فإن الأمة لم تجمع
على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا
على نص ناسخ
قال ابن رشد في كتاب البيان له ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق
المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في
ذلك فقد قال مالك في المدونة أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في
الأرض أدبا لصاحبه وكره ذلك في رواية ابن القاسم ورأى أن يتصدق به ومنع من
ذلك في رواية أشهب وقال لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا
وذكر ابن الماجشون عن مالك في الذي غش اللبن مثل الذي تقدم في رواية أشهب
قال ابن حبيب فقلت لمطرف وابن الماجشون فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو
نقص من الوزن قالا يعاقب بالضرب والحبس والإخراج
من السوق وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا
يهراق ولا ينهب
قال ابن حبيب ولا يرده الإمام عليه وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن ألا
يغش به ويكسر الخبز إذا كسد ثم يسلمه لصاحبه ويباع عليه العسل والسمن
واللبن الذي يغشه ممن يأكله ويبين له غشه وهكذا العمل في كل ما غش من
التجارات وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم
وروى عن مالك أن المستحسن عنده أن يتصدق به إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه
عليه ونفع المساكين بإعطائهم إياه ولا يهراق
وقيل لمالك فالزعفران والمسك أتراه مثله قال ما أشبهه بذلك إذا كان هو
الذي غشه فهو كاللبن
قال ابن القاسم هذا في الشيء الخفيف ثمنه فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك
وعلى صاحبه العقوبة لأنه تذهب في ذلك أموال عظام تزيد في الصدقة بكثير
قال ابن رشد قال بعض الشيوخ وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا
لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره
وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا
وذلك إذا كان هو الذي غشه فأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو
وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك
والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به وكذلك ما وجب أن
يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول
مالك لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال وذلك أمر كان في أول الإسلام
ومن ذلك ما روى عن النبي صلى الله عليه و سلم في مانع الزكاة إنا آخذوها
وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا
وروى عنه في حريسة النخل أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال
وما روى عنه أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه
ومثل هذا كثير نسخ ذلك كله والإجماع على أنه لا يجب وعادت العقوبات في
الأبدان فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا والقياس أنه لا يتصدق
من ذلك بقليل ولا كثير أنتهى كلامه
وقد عرفت أنه ليس من ادعى النسخ نص ولا إجماع
والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر ثم جعل قول ابن القاسم أولى ونسخ
النصوص بلا ناسخ فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب بل هو
إجماع الصحابة فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا ولم ينكره منهم
منكر وعمر يفعله بحضرتهم وهم يقرونه ويساعدونه عليه ويصوبونه في فعله
والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا منسوخ ومتروك العمل به
وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار وأفتى ابن
عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته
ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه يؤدب فاعل
ذلك بالإخراج من السوق
وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال هذا اضطراب في جوابه
وتناقض في قوله لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها
للمساكين قال وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله
وفي تفسير ابن مزين قال عيسى قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا إنه
يقام من السوق فإنه أشق عليه يريد من أدبه بالضرب والحبس
فصل
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله عليه واجبات الشريعة التي هي حق الله
تعالى ثلاثة أقسام عبادات كالصلاة والزكاة والصيام وعقوبات إما مقدرة وإما
مفوضة وكفارات
وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني وإلى مالي وإلى مركب منهما
فالعبادات البدنية كالصلاة والصيام والمالية كالزكاة والمركبة كالحج
والكفارات المالية كالإطعام والبدنية كالصيام والمركبة كالهدي يذبح ويقسم
والعقوبات البدنية كالقتل والقطع والمالية كإتلاف أوعية الخمر والمركبة
كجلد السارق من غير حرز وتضعيف العزم عليه وكقتل الكفار وأخذ أموالهم
والعقوبات البدنية تارة تكون جزءا على ما مضى كقطع السارق وتارة تكون دفعا
عن الفساد المستقبل وتارة تكون مركبة كقتل القاتل
وكذلك المالية فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر وهي تنقسم كالبدنية إلى
إتلاف وإلى تغيير وإلى تمليك الغير
فالأول المنكرات من الأعيان والصور يجوز إتلاف محلها تبعا لها
مثل الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها
فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها وكذلك آلات الملاهي
كالطنبور يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء وهو مذهب مالك وأشهر الروايتين عن
أحمد
قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن رجل كسر عودا كان مع أمة لأنسان فهل
يغرمه أو يصلحه قال لا أرى عليه بأسا أن يكسره ولا يغرمه ولا يصلحه قيل له
فطاعتها قال ليس لها طاعة في هذا
وقال أبو داود سمعت أحمد يسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا
فأخذ الشطرنج فرمى به قال قد أحسن قيل فليس عليه شيء قال لا قيل له وكذلك
إن كسر عودا أو طنبورا قال نعم
وقال عبد الله سمعت أبي في رجل يرى مثل الطنبور أو العود أو الطبل أو ما
أشبه هذا ما يصنع به قال إذا كان مكشوفا فاكسره
وقال يوسف بن موسى وأحمد بن الحسن إن أبا عبد الله سئل عن الرجل يرى
الطنبور والمنكر أيكسره قال لا بأس
وقال أبو الصقر سألت أبا عبد الله عن رجل رأى عودا أو طنبورا
فكسره ما عليه قال قد أحسن وليس عليه في كسره شيء
وقال جعفر بن محمد سألت أبا عبد الله عمن كسر الطنبور والعود فلم ير عليه
شيئا
وقال إسحاق بن إبراهيم سئل أحمد عن الرجل يرى الطنبور أو طبلا مغطى أيكسره
قال إذا تبين أنه طنبور أوطبل كسره
وقال أيضا سألت أبا عبدالله عن رجل يكسر الطنبور أو الطبل عليه في ذلك شيء
قال يكسر هذا كله وليس يلزمه شيء
وقال المروذي سألت أبا عبد الله عن كسر الطنبور الصغير يكون مع الصبي قال
يكسر أيضا قلت أمر في السوق فأرى الطنبور يباع أأكسره قال ما أراك تقوى إن
قويت أي فافعل قلت أدعى لغسل الميت فأسمع صوت الطبل قال إن قدرت على كسره
وإلا فاخرج
وقال في رواية إسحاق بن منصور في الرجل يرى الطنبور والطبل والقنينة قال
إذا كان طنبور أو طبل وفي القنينة مسكر اكسره
وفي مسائل صالح قال أبي يقتل الخنزير ويفسد الخمر ويكسر الصليب
وهذا قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن وإسحاق بن راهويه وأهل الظاهر
وطائفة من أهل الحديث وجماعة من السلف وهو قول قضاة العدل
قال أبو حصين كسر رجل طنبورا فخاصمه إلى شريح فلم يضمنه شيئا
وقال أصحاب الشافعي يضمن ما بينه وبين الحد المبطل للصورة وما دون ذلك
فغير مضمون لأنه مستحق الإزالة وما فوقه فقابل للتمول لتأتي الانتفاع به
المنكر إنما هو الهيئة المخصوصة فيزول بزوالها
ولهذا أوجبنا الضمان في الصائل بما زاد على قدر الحاجة في الدفع وكذا
الحكم في البغاة في اتباع مدبرهم والإجهاز على جريحهم والميتة في حال
المخمصة لا يزاد على قدر الحاجة في ذلك كله
قال أصحاب القول الأول قد أخبر الله سبحانه عن كليمه موسى عليه السلام أنه
أحرق العجل الذي عبد من دون الله ونسفه في اليم وكان من ذهب وفضة وذلك محق
له بالكلية
وقال عن خليله إبراهيم عليه السلام فجعلهم جذاذ وهو الفتات وذلك نص في
الاستئصال
وروى الإمام أحمد في مسنده والطبراني في المعجم من حديث الفرج
بن فضالة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنه قال قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم إن الله بعثني رحمة للعالمين وهدى للعالمين
وأمرني ربي بمحق المعازف والمزامير والأوثان والصلب وأمر الجاهلية لفظ
الطبراني
والفرج حمصي قال أحمد في رواية هو ثقة وقال يحيى ليس به بأس وتكلم فيه
آخرون وعلي بن يزيد دمشقي ضعفه غير واحد
وقال أبو مسهر وهو بلدية لا أعلم به إلا خيرا وهو أعرف به والمحق نهاية
الإتلاف
وأيضا فالقياس يقتضي ذلك لأن محل الضمان هو ما قبل المعاوضة وما نحن فيه
لا يقبلها البتة فلا يكون مضمونا وإنما قلنا لا يقبل المعاوضة لأن النبي
صلى الله عليه و سلم قال إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام
وهذا نص وقال إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه والملاهي محرمات بالنص فحرم
بيعها
وأما قبول ما فوق الحد المبطل للصورة لجعله آنية فلا يثبت به وجوب الضمان
لسقوط حرمته حيث صار جزء من المحرم أو ظرفا له كما أمر به النبي صلى الله
عليه و سلم من كسر دنان الخمر وشق ظروفها فلا ريب أن للمجاورة تأثيرا في
الامتهان والإكرام
وقد قال تعالى وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله
يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا
مثلهم وسئل النبي صلى الله عليه و سلم عن القوم يكونون بين المشركين
يؤاكلونهم ويشاربونهم فقال هم منهم هذا لفظه أو معناه
فإذا كان هذا في المجاورة المنفصلة فكيف بالمجاورة التي صارت جزءا من
أجزاء المحرم أو لصيقة به وتأثير الجوار ثابت عقلا وشرعا وعرفا
والمقصود أن إتلاف المال على وجه التعزير والعقوبة ليس بمنسوخ وقد قال أبو
الهياج الأسدي قال لي علي بن أبي طالب ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول
الله صلى الله عليه و سلم ألا أدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا
سويته رواه مسلم
وهذا يدل على طمس الصور في أي شيء كانت وهدم القبور المشرفة وإن كانت من
حجارة أو آجر أو لبن
قال المروذي قلت لأحمد الرجل يكترى البيت فيرى فيه تصاوير ترى أن يحكها
قال نعم وحجته هذا الحديث الصحيح
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
و سلم لما رأى الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تدخل
الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه و
سلم كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب إلا قصه
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا فيكسر
الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية
فهؤلاء رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم إبراهيم وموسى وعيسى وخاتم
المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم كلهم على محق المحرم وإتلافه بالكلية
وكذلك الصحابة رضي الله عنهم فلا التفات إلى من خالف ذلك
وقد قال المروذي قلت لأبي عبد الله دفع إلى اجريق فضة لأبيعه أترى أن
أكسره أو أبيعه قال اكسره
وقال قيل لأبي عبد الله أن رجلا دعا قوما فجئ بطست فضة وأبريق فضة فكسره
فأعجب أبا عبد الله كسره
وقال بعثني أبو عبد الله إلى رجل بشيء فدخلت عليه فأتى بمكحلة رأسها مفضض
فقطعتها فأعجبه ذلك وتبسم
ووجه ذلك أن الصياغة محرمة فلا قيمة لها ولا حرمة
وأيضا فتعطيل هذه الهيئة مطلوب فهو بذلك محسن وما على المحسنين من سبيل
فصل
وكذلك لا ضمان في تحريق الكتب المضلة وإتلافهاقال المروذي قلت لأحمد استعرت كتابا فيه أشياء رديئة ترى أن أخرقه أو أحرقه قال نعم فاحرقه وقد رأى النبي صلى الله عليه و سلم بيد عمر كتابا اكتتبه من التوراة وأعجبه موافقته للقرآن فتمعر وجه النبي صلى الله عليه و سلم حتى ذهب به عمر إلى التنور فألقاه فيه
فكيف لو رأى النبي صلى الله عليه و سلم ما صنف بعده من الكتب التي يعارض بها ما في القرآن والسنة والله المستعان
وقد أمر النبي صلى الله عليه و سلم من كتب عنه شيئا غير القرآن أن يمحوه ثم أذن في كتابة سنته ولم يأذن في غير ذلك
وكل هذه الكتب المتضمنة لمخالفة السنة غير مأذون فيها بل مأذون
في محقها وإتلافها وما على الأمة أضر منها وقد حرق الصحابة
جميعا المصاحف المخالفة لمصحف عثمان لما خافوا على الأمة من الاختلاف فكيف
لو رأوا هذه الكتب التي أوقعت الخلاف والتفرق بين الأمة
وقال الخلال أخبرني محمد بن أبي هارون أن أبا الحارث حدثهم قال قال أبو
عبد الله أهلكهم وضع الكتب تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم
وأقبلوا على الكلام
وقال أخبرني محمد بن أحمد بن واصل المقرى قال سمعت أبا عبد الله وسئل عن
الرأي فرفع صوته وقال لا يثبت شيء من الرأي عليكم بالقرآن والحديث والآثار
وقال في رواية ابن مشيش إن أبا عبد الله سأله رجل فقال أكتب الرأي فقال ما
تصنع بالرأي عليك بالسنن فتعلمها وعليك بالأحاديث المعروفة
وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي يقول هذه الكتب بدعة وضعها
وقال إسحاق بن منصور سمعت أبا عبد الله يقول لا يعجبني شيء من وضع الكتب
من وضع شيئا من الكتب فهو مبتدع
وقال المروذى حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي حدثنا حماد بن زيد قال قال لي
ابن عون يا حماد هذه الكتب تضل
وقال الميموني ذاكرت أبا عبد الله خطأ الناس في العلم فقال وأي
الناس لا يخطئ ولا سيما من وضع الكتب فهو أكثر خطأ
وقال إسحاق سمعت أبا عبد الله وسأله قوم من أردبيل عن رجل يقال له عبد
الرحيم وضع كتابا فقال أبو عبد الله هل أحد من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه و سلم فعل ذا أو أحد من التابعين وأغلظ وشدد في أمره وقال انهوا
الناس عنه وعليكم بالحديث
وقال في رواية أبي الحارث ما كتبت من هذه الكتب الموضوعة شيئا قط
وقال محمد بن زيد المستملي سأل أحمد رجل فقال أكتب كتب الرأي قال لا تفعل
عليك بالحديث والآثار فقال له السائل إن ابن المبارك قد كتبها فقال له
أحمد ابن المبارك لم ينزل من السماء إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق
وقال عبد الله بن أحمد سمعت أبي وذكر وضع الكتب فقال أكرهها هذا أبو فلان
وضع كتابا فجاءه أبو فلان فوضع كتابا وجاء فلان فوضع كتابا فلا انقضاء له
كلما جاء رجل وضع كتابا وهذه الكتب وضعها بدعة كلما جاء رجل وضع كتابا
وترك حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ليس إلا الأتباع والسنن
وحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه وعاب وضع الكتب وكرهه كراهة
شديدة
وقال المروذى في موضع آخر قال أبو عبد الله يضعون البدع في
كتبهم إنما أحذر عنها أشد التحذير قلت إنهم يحتجون بمالك أنه وضع كتابا
فقال أبو عبد الله هذا ابن عون والتيمي ويونس وأيوب هل وضعوا كتابا هل كان
في الدنيا مثل هؤلاء وكان ابن سيرين وأصحابه لا يكتبون الحديث فكيف الرأي
وكلام أحمد في هذا كثير جدا قد ذكره الخلال في كتاب العلم
ومسألة وضع الكتب فيها تفصيل ليس هذا موضعه وإنما كره أحمد ذلك ومنع منه
لما فيه من الاشتغال به والإعراض عن القرآن والسنة فإذا كانت الكتب متضمنة
لنصر القرآن والسنة الذب عنهما إبطال الآراء والمذاهب المخالفة لهما فلا
بأس بها وقد تكون واجبة ومستحبة ومباحة بحسب اقتضاء الحال والله أعلم
والمقصود أن هذه الكتب المشتلمة على الكذب والبدعة يجب إتلافها وإعدامها
وهي أولى بذلك من إتلاف آلات اللهو والمعازف وإتلاف آنية الخمر فإن ضررها
أعظم من ضرر هذه ولا ضمان فيها كما لا ضمان في كسر أواني الخمر وشق زقاقها
قال المروذي قلت لأبي عبد الله لو رأيت مسكرا في قنينة أو قربة تكسر أو
تصب قال تكسر
وقال أبو طالب قلت نمر على المسكر القليل أو الكثير أكسره
قال نعم تكسره
قال محمد بن حرب قلت لأبي عبد الله ألقى رجلا ومعه قربة مغطاة قال بريبة
قلت نعم قال تكسرها
وقال في رواية ابن منصور في الرجل يرى الطنبور والطبل مغطى والقنينة إذا
كان يعني أنه يتبين أنه طنبور أو طبل أو فيها مسكر كسره
وقد روى عبد الله بن أبي الهذيل قال كان عبد الله بن مسعود يحلف بالله أن
التي أمر بها رسول الله صلى الله عليه و سلم حين حرمت الخمر أن تكسر
دنانها وأن تكفأ لمن التمر والزبيب رواه الدارقطنى في السنن بإسناد صحيح
وعن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال يا نبي الله إني اشتريت خمر الأيتام في
حجرى قال أهرق الخمر واكسر الدنان رواه الترمذي من حديث ليث بن ابي سليم
عن يحيى بن عباد عنه
وفي مسند أحمد من حديث أبي طعمة قال سمعت عبد الله بن عمر يقول لقيت رسول
الله صلى الله عليه و سلم بالمربد فإذا بزقاق على المربد فيها خمر فدعا
رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدية وما عرفت المدية إلا يومئذ
فأمر بالزقاق فشقت ثم قال لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها
ومبتاعها وحاملها الحديث
وفي المسند أيضا عن ضمرة بن حبيب قال قال عبد الله بن عمر أمرني رسول الله
صلى الله عليه و سلم أن آتيه بمدية فأتيته بها فأرسل بها فأرهقت ثم
أعطانيها وقال اغد علي بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها
زقاق خمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ماكان من تلك الزقاق
بحضرته ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن
يعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت
فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة
وأبي بن كعب شرابا من فضيخ وتمر فأتاهم آت فقال إن الخمر قد حرمت فقال أبو
طلحة قم يا أنس إلى هذه الجرة فاكسرها فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفله
حتى تكسرت
وفي سنن النسائي وأبي داود عن أبي هريرة قال علمت أن رسول الله صلى الله
عليه و سلم كان يصوم في بعض الأيام التي كان يصومها فتحينت فطره بنبيذ
صنعته في دن فلما كان المساء جئته أحملها إليه فذكر الحديث ثم قال فرفعتها
إليه فإذا هو ينش فقال خذ هذه فاضرب بها الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن
بالله ولا باليوم الآخر
فصل
وقال ابن أبي عمر قال ابن القاسم سئل مالك رحمه الله عن فاسق يأوي إليه
أهل الفسق والخمر ما يصنع به قال يخرج من منزله وتكرى عليه الدار والبيوت
قال فقلت ألا تباع قال لا لعله يتوب فيرجع إلى منزله قال ابن القاسم يتقدم
إليه مرة أو مرتين أو ثلاثا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه
قال ابن رشد قد قال مالك في الواضحة إنها تباع عليه خلاف قوله في هذه
الرواية قال وقوله فيها أصح لما ذكره من أنه قد يتوب ويرجع إلى منزله ولو
لم تكن الدار له وكان فيها بكراء أخرج منها وأكريت عليه ولم يفسخ كراؤه
فيها قاله في كراء الدور المدونة
وقد روى يحيى بن يحيى أنه قال أرى أن يحرق بيت الخمار قال وقد أخبرني بعض
أصحابنا أن مالكا كان يستحب أن يحرق بيت المسلم الخمار الذي يبيع الخمر
قيل فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين قال إذا تقدم إليه فلم بيته فأرى أن
يحرق عليه بيبه بالنار
قال وحدثني الليث أن عمر بن الخطاب حرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع
الخمر وقاله له أنت فويسق ولست برويشد
فصل
ومن ذلك أن ولي الأمر يجب عليه أن يمنع اختلاط الرجال بالنساء في الأسواق والفرج ومجامع الرجالقال مالك رحمه الله ورضي عنه أرى للأمام أن يتقدم إلى الصياغ في قعود النساء إليهم وأرى ألا يترك المرأة الشابة تجلس إلى الصياغ فأما المرأة المتجالة والخادم الدون التي لا تتهم على القعود ولا يتهم من تقعد عنده فإني لا أرى بذلك بأسا انتهى
فالإمام مسئول عن ذلك والفتنة به عظيمة قال صلى الله عليه و سلم ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وفي حديث آخر باعدوا بين الرجال والنساء
وفي حديث آخر أنه قال للنساء لكن حافات الطريق
ويجب عليه منع النساء من الخروج متزينات متجملات ومنعهن من الثياب التي يكن بها كاسيات عاريات كالثياب الواسعة والرقاق ومنعهن من حديث الرجال في الطرقات ومنع الرجال من ذلك
وإن رأى ولي الأمر أن يفسد على المرأة إذا تجملت وتزينت وخرجت ثيابها بحبر ونحوه فقد رخص في ذلك
بعض الفقهاء وأصاب وهذا من أدنى عقوبتهن المالية
وله أن يحبس المرأة إذا أكثرت الخروج من منزلها ولا سيما إذا خرجت متجملة
بل إقرار النساء على ذلك إعانة لهن على الإثم والمعصية والله سائل ولي
الأمر عن ذلك
وقد منع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه النساء من المشي في
طريق الرجال والاختلاط بهم في الطريق
فعلى ولي الأمر أن يقتدى به في ذلك
وقال الخلال في جامعه أخبرني محمد بن يحيى الكحال أنه قال لأبي عبد الله
أرى الرجل السوء مع المرأة قال صح به وقد أخبرني النبي صلى الله عليه و
سلم أن المرأة إذا تطيبت وخرجت من بيتها فهي زانية
ويمنع المرأة إذا أصابت بخورا أن تشهد عشاء الآخرة في المسجد فقد قال
النبي صلى الله عليه و سلم المرأة إذا خرجت استشرفها الشيطان
ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر وهو من أعظم
أسباب نزول العقوبات العامة كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة
واختلاط الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا وهو من أسباب الموت
العام والطواعين المتصلة
ولما اختلط البغايا بعسكر موسى وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله
عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفا والقصة مشهورة في
كتب التفاسير
فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن
بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات ولو علم أولياء الأمر ما في ذلك من
فساد الدنيا والرعية قبل الدين لكانوا أشد شيء منعا لذلك
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا ظهر الزنا في قرية أذن الله
بهلاكها
وقال ابن أبي الدنيا حدثنا إبراهيم بن الأشعث حدثنا عبد الرحمن بن زيد
العمى عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه و سلم ما طفف قوم كيلا ولا بخسوا ميزانا إلا منعهم الله عز و جل
القطر ولا ظهر في قوم الزنا إلا ظهر فيهم الموت ولا ظهر في قوم عمل قوم
لوط إلا ظهر فيهم الخسف وما ترك قوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا
لم ترفع أعمالهم ولم يسمع دعاؤهم
فصل
وعليه أن يمنع اللاعبين بالحمام على رءوس الناس فإنهم يتوسلون بذلك إلى
الإشراف عليهم والتطلع على عوراتهم وقد روى أبو داود
في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
و سلم أنه رأى رجلا يتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانة
وقال إبراهيم النخعى من لعب بالحمائم الطيارة لم يمت حتى يذوق ألم الفقر
وقال الحسن شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو يخطب يأمر بذبح الحمام
وقتل الكلاب ذكره البخاري
وقال خالد الحذاء عن بعض التابعين قال كان تلاعب آل فرعون بالحمام
وكان شريح لا يجيز شهادة صاحب حمام ولا حمام
وقال ابن المبارك عن سفيان سمعنا أن اللعب بالجلاهق واللعب بالحمام من عمل
قوم لوط
وذكر البيهقى عن أسامة بن زيد قال شهدت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر
بالحمائم الطيارة فيذبحن ويترك المقصصات
فصل
واختلف الفقهاء هل يمنع الرجل من اتخاذ الحمام في الأبرجة إذا أفسدت بذر الناس وزرعهمفقال ابن حبيب عن مطرف في النحل يتخذها الرجل في القرية ويتخذ
الكوى للعصافير تأوى إليها وكذلك الحمام في إيذائها وإفسادها
الزرع يمنع من اتخاذ ما يضر الناس في زرعهم لأن هذا طائر لا يمكن الاحتراز
منه
وقال ابن كنانة في المجموعة لا يمنع أحد من اتخاذ برج الحمام وإن تأذى به
جيرانه وكذلك العصافير والدجاج وعلى أهل الزرع والحوائط أن يحرسوها
بالنهار
قلت قول مطرف أصح وأفقه لأن حراسة الزرع والحوائط من الطيور أمر متعسر جدا
بخلاف حراستها من البهائم وقياس البهائم على الطير لا يصح
وقال أصبغ عن ابن القاسم هي كالماشية وإن ضرت
والقياس أن صاحبها يضمن ما أتلفت من الزرع مطلقا لأنه باتخاذها صار متسببا
في إتلاف زروع الناس بخلاف المواشي فإنه يمكن صونها وضبطها فإذا أتلفت
بغير اختياره وأفسدت فلا ضمان عليه لأن التقصير من أصحاب الحوائط وأما
الطيور فلا يمكن أصحاب الحوائط التحفظ منها
فإن قيل فما تقولون في السنور إذا أكلت الطيور وأكفأت القدور قيل على
مقتنيها ضمان ما تتلفه من ذلك ليلا ونهارا ذكره أصحاب أحمد
وهو أصح الوجهين للشافعية لأنها في معنى الكلب العقور فوجب
إلحاقها به ولأن من شأنها أن تضبط وتربط فإرسالها تفريط وإن لم يكن ذلك من
عادتها بل فعلته نادرا فلا ضمان ذكره في المغني وهو أصح الوجهين للشافعية
فإن قيل فهل تسوغون قتلها لذلك
قلنا نعم إذا كان ذلك عادة لها
وقال ابن عقيل وبعض الشافعية إنما تقتل حال مباشرتها للجناية فأما في حال
سكونها وعدم صولها فلا
والصحيح خلاف ذلك وأنها تقتل وإن كانت ساكنة كما يقتل من طبعه الفساد
والأذى في حال سكونه ولا تنتظر مباشرته
وقد روى أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله
عليه و سلم أنه قال يقتل المحرم السبع العادي قال الترمذى هذا حديث حسن
والهرة سبع
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه و سلم خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم
الحدأة والفأرة والحية والغراب الأبقع والكلب العقور وفي لفظ العقرب بدل
الحية ولم يشترط في قتلهن أن يكون حال المباشرة
فصل
المرض المعدي كالجذام إذا استضر الناس بأهله
قال ابن وهب في المبتلى يكون له في منزله سهم له حظ في شرب فأراد من معه
في المنزل إخراجه منه وزعموا أن استقاءه من مائهم الذي يشربونه مضر بهم
فطلبوا إخراجه من المنزل
قال ابن وهب إذا كان له مال أن يشترى لنفسه من يقوم بأمره ويخرج في حوائجه
ويلزم هو بيته فلا يخرج وإن لم يكن له مال خرج من المنزل إذا لم يكن فيه
شيء وينفق عليه من بيت المال
وقال عيسى في قوم ابتلوا بالجذام وهم في قرية موردهم واحد ومسجدهم واحد
فيأتون المسجد فيصلون فيه ويجلسون فيه معهم ويردون الماء ويتوضأون فيتأذى
بذلك أهل القرية وأرادوا منعهم من ذلك كله قال أما المسجد فلا يمنعون
الصلاة فيه ولا من الجلوس ألا ترى إلى قول عمر بن الخطاب للمرأة المبتلاة
لما رآها تطوف بالبيت مع الناس لو جلست في بيتك لكان خيرا لك ولم يعزم
عليها بالنهي عن الطواف ودخول البيت وأما استقاؤهم من مائهم وورودهم
المورد للوضوء وغير ذلك فيمنعون ويجعلون لأنفسهم صحيحا يستقى لهم الماء في
آنية ثم يفرغها في آنيتهم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا
ضرار
وذلك ضرر بالأصحاء فأرى أن يحال بينهم وبين ذلك ألا ترى أنه
يفرق بينه وبين زوجته ويحال بينه وبين وطء جواريه للضرر فهذا منه
وقال ابن حبيب عن مطرف في الجذامي وأما الواحد والنفر اليسير فلا يخرجون
من الحاضرة ولا من قرية ولا من سوق ولا من مسجد جامع لأن عمر لم يعزم على
المرأة وهي تطوف بالبيت وكذلك معيقب الدوسي قد جعله عمر رضي الله عنه على
بيت المال وكان عمر يجالسه ويواكله ويقول له كل مما يليك فإذا كثروا رأيت
أن يتخذوا لأنفسهم موضعا كما صنع بمرضى مكة ولا يمنعون من الأسواق
لتجارتهم وشراء حوائجهم أو الطواف للسؤال إذا لم يكن إمام يرزقهم من الفئ
ولا يمنعون من الجمعة ويمنعون من غير ذلك
وروى سحنون أنهم لا يجمعون مع الناس الجمعة
وأما مرضى القرى فلا يخرجون منها وإن كثروا ولكن يمنعون من أذى الناس
وقال أصبغ ليس على مرضى الحواضر الخروج منها إلى ناحية أخرى ولكن إن كفاهم
الإمام المؤنة منعوا من مخالطة الناس بلزوم بيوتهم والتنحي عنهم
وقال ابن حبيب يحكم عليهم يتنحيهم ناحية إذا كثروا وهو الذي
عليه فقهاء الأمصار
قلت يشهد لهذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري من حديث سعيد بن ميناء عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لا عدوى ولا هامة ولا
صفر وفر من المجذوم فرارك من الأسد أو قال من الأسود
وروى مسلم في صحيحه من حديث يعلى بن عطاء عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال
كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه و سلم إنا قد
بايعناك فارجع
وفي مسند أبي داود الطيالسي حدثنا ابن أبي الزناد عن محمد بن عبد الله
القرشي عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال لا تديموا
النظر إليهم يعني المجذومين ومحمد هذا هو محمد بن عبد الله بن عمرو بن
عثمان
ولا تعارض بين هذ وبين ما رواه مفضل بن فضالة عن حبيب بن الشهيد عن ابن
المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذ بيد مجذوم فوضعها
معه في قصعته وقال كل باسم الله وتوكلا على الله
فإن هذا يدل على جواز الأمرين وهذا في حق طائفة وهذا في حق
طائفة
فمن قوى توكله واعتماده ويقينه من الأمة أخذ بهذا الحديث ومن ضعف عن ذلك
أخذ بالحديث الآخر وهذه سنة وهذه سنة وبالله التوفيق
فإذا أراد أهل الدار أن يؤاكلوا المجذومين ويشاربونهم ويضاجعونهم فلهم ذلك
وإن أرادوا مجانبتهم ومباعدتهم فلهم ذلك
وفي قوله صلى الله عليه و سلم لا تديموا النظر إلى المجذومين فائدة طبية
عظيمة وهي أن الطبيعة نقالة فإذا أدام النظر إلى المجذوم وخيف عليه أن
يصيبه ذلك بنقل الطبيعة
وقد جرب الناس أن المجامع إذا نظر إلى شيء عند الجماع وأدام النظر إليه
انتقل من صفته إلى الولد وحكى بعض رؤساء الأطباء أنه أجلس ابن أخ له للكحل
فكان ينظر في أعين الرمد فيرمد فقال له أترك الكحل فتركه فلم يعرض له رمد
قال لأن الطبيعة نقالة
وذكر البيهقى وغيره أن رسول الله صلى الله عليه و سلم تزوج
امراة من غفار فدخل عليها فأمرها فنزعت ثيابها فرأى بياضا عند
ثدييها فانحاز النبي صلى الله عليه و سلم عن الفراش فلما أصبح قال الحقي
بأهلك وحمل لها صداقها
فصل
القرعة
ومن طرق الأحكام الحكم بالقرعة قال تعالى ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون قال قتادة كانت مريم ابنة إمامهم وسيدهم فتشاح عليها بنو إسرائيل فاقترعوا عليها بسهامهم أيهم يكفلها فقرع زكريا وكان زوج أختها فضمها إليهوروى نحوه عن مجاهد وقال ابن عباس لما وضعت مريم في المسجد اقترع عليها أهل المصلى وهم يكتبون الوحي فاقترعوا بأقلامهم أيهم يكفلها وهذا متفق عليه بين أهل التفسير
وقال تعالى وإن يونس لمن المرسلين إذ أبق إلى الفلك المشحون
فساهم فكان من المدحضين يقول تعالى فقارع فكان من المغلوبين
فهذان نبيان كريمان استعملا القرعة وقد احتج الأئمة الأربعة بشرع من قبلنا
إن صح ذلك عنهم
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
و سلم لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا
عليه لاستهموا
وفي الصحيحين أيضا عن عائشة أن النبي صلى الله عليه و سلم كان إذا أراد
سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه
وفي صحيح مسلم عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم
يكن له مال غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فجزأهم أثلاثا ثم
أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له قولا شديدا
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم عرض على
قوم اليمين فسارعوا إليه فأمر أن يسهم بينهم في
اليمين أيهم يحلف وفي سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه و
سلم قال إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها فليستهما عليها
وفي رواية أحمد إذا أكره اثنان على اليمين أو استحباها وفيه أيضا أن رجلين
اختصما في متاع إلى النبي صلى الله عليه و سلم وليس لواحد منهما بينة فقال
استهما على اليمين ما كان أحبا ذلك أو كرها
وفي الصحيحين عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أم سلمة قالت أتى رسول
الله صلى الله عليه و سلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة
إلا دعواهما فقال إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض فاقضي له على نحو مما أسمع فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا
يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار
ورواه أبو داود في السنن وفيه فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما حقي لك
فقال لهما النبي صلى الله عليه و سلم أما إذا فعلتما ما فعلتما فاقتسما
وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا
فهذه السنة كما ترى قد جاءت بالقرعة كما جاء بها الكتاب وفعلها أصحاب رسول
الله صلى الله عليه و سلم بعده
قال البخاري في صحيحه ويذكر أن قوما اختلفوا في الأذان فأقرع
بينهم سعد وقد صنف أبو بكر الخلال مصنفا في القرعة وهو في جامعه فذكر
مقاصده
قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم وجعفر بن محمد القرعة جائزة
وقال يعقوب بن بختان سئل أبو عبد الله عن القرعة ومن قال إنها قمار قال إن
كان ممن سمع الحديث فهذا كلام رجل له خبر يزعم أن حكم رسول الله صلى الله
عليه و سلم قمار
وقال المروذي قلت لأبي عبد الله إن ابن أكثم يقول إن القرعة قمار قال هذا
قول ردئ خبيث
ثم قال كيف وقد يحكمون هم بالقرعة في وقت إذا قسمت الدار ولم يرضوا قالوا
يقرع بينهم وهو يقول لو أن رجلا له أربع نسوة فطلق إحداهن وتزوج الخامسة
ولم يدر أيتهن التي طلق قال يورثهن جميعا ويأمرهن أن يعتددن جميعا
وقد ورث من لا ميراث لها وقد أمر أن تعتد من لا عدة عليها والقرعة تصيب
الحق فعلها النبي صلى الله عليه و سلم
وقال أبو الحارث كتبت إلى أبي عبد الله أسأله فقلت إن بعض
الناس ينكر القرعة ويقول هي قمار اليوم ويقول هي منسوخة فقال
أبو عبد الله من ادعى أنها منسوخة فقد كذب وقال الزور القرعة سنة رسول
الله صلى الله عليه و سلم أقرع في ثلاثة مواضع أقرع بين الأعبد الستة
وأقرع بين نسائه لما أراد السفر وأقرع بين رجلين تدارءا في دابة وهي في
القرآن في موضعين قلت يريد أنه أقرع بنفسه ثلاثة مواضع وإلا فأحاديث
القرعة أكثر وقد تقدم ذكرها
قال وهم يقولون إذا اقتسموا الدار والأرضين أقرع بين القوم فأيهم أصابته
القرعة كان له ما أصاب من ذلك يجبر عليه
وقال الأثرم إن أبا عبد الله ذكر القرعة واحتج بها وبينها وقال إن قوما
يقولون القرعة قمار
ثم قال أبو عبد الله هؤلاء قوم جهلوا فيها عن النبي صلى الله عليه و سلم
خمس سنن قال الأثرم وذكرت له أنا حديث الزبير في الكفن فقال حديث أبي
الزناد فقلت نعم قال ابو عبد الله قال أبو الزناد يتكلمون في القرعة وقد
ذكرها الله تعالى في موضعين من كتابه
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال في قوله تعالى فساهم فكان من
المدحضين أي أقرع فوقعت القرعة عليه قال وسمعت أبا عبد الله يقول القرعة
حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم وقضاؤه فمن رد القرعة فقد رد على رسول
الله صلى الله عليه و سلم قضاءه وفعله ثم قال سبحان الله لمن قد علم بقضاء
النبي صلى الله عليه و سلم ويفتى بخلافه قال الله تعالى وما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقال أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
قال حنبل وقال عبد الله بن الزبير الحميدي من قال بغير القرعة فقد خالف
رسول الله صلى الله عليه و سلم في سنته التي قضى بها وقضى بها أصحابه بعده
وقال في رواية الميموني في القرعة خمسة سنن حديث أم سلمة إن قوما أتوا
النبي صلى الله عليه و سلم في مواريث وأشياء درست بينهم فأقرع بينهم وحديث
ابي هريرة حين تداريا في دابة فأقرع بينهما وحديث الأعبد الستة وحديث أقرع
بين نسائه وحديث علي وقد ذكر أبو عبد الله من فعلها بعد النبي صلى الله
عليه و سلم فذكر ابن الزبير وابن المسيب ثم تعجب من أصحاب الرأي وما يردون
من ذلك
قال الميموني وقال لي أبو عبيد القاسم بن سلام وذاكرني أمر القرعة فقال
أرى أنها من أمر النبوة وذكر قوله تعالى إذا يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم
وقوله فساهم
وقال أحمد في رواية الفضل بن عبد الصمد القرعة في كتاب الله
والذين يقولون القرعة قمار قوم جهال ثم ذكر أنها في السنة وكذلك قال في
رواية ابنه صالح أقرع النبي صلى الله عليه و سلم في خمسة مواضع وهي في
القرآن في موضعين
وقال أحمد في رواية المروذى حدثنا سليمان بن داود الهاشمي حدثنا عبد
الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال أخبرني أبي الزبير أنه لما كان
يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى كادت أن تشرف على القتلى قال فكره النبي صلى
الله عليه و سلم أن تراهم فقال المرأة المرأة قال الزبير فتوهمت أنها أمي
صفية قال فخرجت أسعى فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى قال فلهزت في صدري
وكانت امرأة جلدة وقالت إليك عني لا أم لك قال فقلت إن رسول الله صلى الله
عليه و سلم عزم عليك فرجعت وأخرجت ثوبين معها فقالت هذان ثوبان جئت بهما
لأخي حمزة فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما قال فجئت بالثوبين ليكفن فيهما
حمزة فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة قال
فوجدنا عضاضة أن نكفن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له قلنا لحمزة ثوب
وللأنصاري ثوب فقد دناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفنا
كل واحد في الثوب الذي طار له
وقال في رواية صالح وحديث الأجلح عن الشعبي عن أبي الخليل عن زيد بن أرقم
وهو مختلف فيه
فصل
في كيفية القرعة
قال الخلال حدثنا أبو النضر أنه سمع أبا عبد الله يحب من القرعة ما قيل عن سعيد بن المسيب أن يأخذ خواتيمهم فيضعها في كمه فمن خرج أولا فهو القارعوقال أبو داود قلت لأبي عبد الله في القرعة يكتبون رقاعا قال إن شاءوا رقاعا وإن شاءوا خواتيمهم
وقال ابن منصور قلت لأحمد كيف يقرع قال بالخاتم وبالشيء وقال إسحاق بن راهويه في القرعة يؤخذ عود شبه القدح فيكتب عليه عبد وعلى الآخر حر وكذلك قال في رواية مهنا
وقال بكر بن محمد عن أبيه سألت أبا عبد الله كيف تكون القرعة قال يلقى خاتما يروى عن سعيد بن جبير وإن جعل شيئا في طين أو يكون علامة قدر ما يعرف صاحبه إذا كان له فهو جائز
وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله كيف القرعة فقال سعيد بن جبير يقول بالخواتيم أقرع بين اثنين في ثوب فأخرج خاتم هذا وخاتم هذا قال ثم يخرجون الخواتيم ثم تدفع إلى رجل فيخرج منها واحدا قلت لأبي عبد الله فإن مالكا يقول تكتب رقاع وتجعل في طين قال
وهذا أيضا قيل لأبي عبد الله فإن الناس يقولون القرعة هكذا وقال
الرجل بأصابعه الثلاثة فضمها ثم فتحها فأنكر ذلك أبو عبد الله وقال ليس هو
هكذا
وقال مهنا قلت لأبي عبد الله كيف القرعة أهو أن يخرج هذا ويخرج هذا وأشرت
بيدي بأصابعي قال نعم
فصل
في مواضع القرعة
قال إسحاق لأبي عبد الله تذهب إلى حديث عمران بن حصين في الأعبد قال نعم قال قيل في العتق في المرض وصية فكأنه أوصى أن يعتق كل عبد على انفراده فإذا تعذر عتق جميعه عتق منه ما أمكن عتقه كما لو كان ماله كله عبدا واحدا فأعتقه عتق منه ما حمل الثلثقيل هذا هو القياس الفاسد الذي ردت به السنة الصحيحة الصريحة
والفرق بين الموضعين أن في مسألة العبد الواحد لا يمكن غير جريان العتق في بعضه وأما في الأعبد فتكميل الحرية في بعضهم بقدر الثلث ممكن فكان أولى من تشقيصها في كل واحد فإن المريض قصد تكميل الحرية في الجميع ولكن منع لحق الورثة فكان تكميلها في البعض موافقا لمقصود
المعتق ومقصود الشارع أما المعتق فإنه أراد تخليص جملة الرقبة
وأما الشارع فإنه متشوف إلى تكميل الحرية دون تشقيصها وتكميلها في الجميع
ضرر بالوارث وتكميلها في الثلث مصلحة للمعتق والوارث والعبد ولا يجوز
العدول عنه
فالقياس الصحيح وأصول الشرع مع الحديث الصحيح وخلافه خلاف النص والقياس
معا
فإن قيل فقد صار سدس كل عبد من الأعبد الستة مستحق الاعتاق فإبطاله إبطال
لعتق مستحق
قيل ليس كذلك وإنما العتق المستحق عتق ثلث الأعبد وهو الذي ملكه إياه
الشارع صلى الله عليه و سلم فصار كما لو أوصى بعتق ثلثهم فإنه هو الذي
يملكه وما لا يملكه تصرفه فيه لغو وباطل والوارث إذا لم يجز إعتاق الجميع
كان تصرف المعتق فيما زاد على الثلث بمنزلة عدمه وإذا كان إنما أعتق الثلث
حكما أخرجنا الثلث بالقرعة فأي قياس أصح من هذا وأبين
فإن قيل مدار الحديث على الحسن وهو يرويه عن عمران بن حصين وقد قال أحمد
في رواية الميموني لا يثبت لقاء الحسن لعمران بن حصين وقال مهنا سألت أحمد
عن حديث الحسن قال حدثني عمران بن حصين قال ليس بصحيح بينهما هياج بن
عمران بن الفضيل التميمي البرجمي عن عمران بن حصين
وقال عبد الله بن أحمد وجدت في كتاب أبي بخطه حدثنا معاذ
ابن معاذ عن شعيب عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبي قلابة
عن أبي المهلب عن عمران بن حصين حديث القرعة
وقال المروذى ذكر أبو عبد الله حديث أبي المهلب فقال قد روى الحسن عن
عمران ولم يسمعه وقال يقولون إنه أخذه من كتاب أبي المهلب
قيل هذا لا يضر الحديث شيئا فإن أبا المهلب قد رواه عن عمران بن حصين وأبو
بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب قالا حدثنا إسماعيل وهو ابن علية عن أيوب عن
أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن رجلا أعتق فذكره وقال مسلم
حدثنا محمد بن منهال الضرير وأحمد بن عبدة قالا حدثنا يزيد بن زريع عن
عمران بن حصين بمثل حديث ابن علية وحماد حدثنا هشام بن حسان عن محمد ابن
سيرين عن عمران بن حصين بمثل حديث ابن علية وحماد
فهؤلاء ثلاثة عن عمران بن حصين محمد بن سيرين وأبو المهلب والحسن البصري
وغاية الحسن أن يكون سمعه من واحد منهما قال عبد الله بن أحمد قال أبي
حدثت أنه كان في كتاب همام عن قتادة عن الحسن قال حدثنا عمرو بن معاوية
أبو المهلب حديث القرعة وقال الخلال أخبرنا العباس بن محمد بن أحمد بن عبد
الكريم حدثنا جعفر الطيالسي قال قال يحيى عن الحسن حدثنا عمران بن حصين
فإن لم يكن الحسن قد سمعه منه كان بمنزلة قوله حدث أهل بلدنا ولشهرة
الحديث عندهم قال حدثنا
وقد وقع نظير هذا في حديث الدجال وقول الذي يقتله أنت الدجال
الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثه
وقول أحمد عن حديث الحسن عن عمران لا يصح إنما أراد قول الحسن حدثني عمران
فإن مهنا بن يحيى إنما سأله عن ذلك فقال سألت أحمد عن حديث الحسن قال
حدثني عمران بن حصين قال ليس بصحيح على أن الحديث قد صح من غير طريق عمران
قال الخلال أنبأنا أبو بكر المروذى حدثنا وهب بن بقية حدثنا خالد الطحاوي
عن خالد يعنى الحذاء عن أبي قلابة عن أبي زيد أن رجلا من الأنصار أعتق ستة
مملوكين له عند موته وليس له مال غيرهم فجزأهم رسول الله صلى الله عليه و
سلم أجزاء فأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة
قال المروذى قال أحمد ما ظننا أن أحدا حدث بهذا إلا هشيم قال أبو عبد الله
أبو زيد هذا رجل من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم وقال
كتبناه عن هشيم وقال إليه أذهب قال أحمد حدثنا شريح بن نعمان حدثنا هشيم
قال حدثنا خالد قال حدثنا أبو قلابة عن أبي زيد الأنصاري عن النبي صلى
الله عليه و سلم بمثله
فصل
ومن مواضع القرعة إذا أعتق عبدا من عبيده أو طلق امرأة من نسائه لا يدري أيتهن هي فقال أحمد في رواية الميموني إن مات قبل أن يقرع بينهن يقوم وليه في هذا مقامه يقرع بينهن فأيتهن وقعت عليها القرعة لزمتهوقال أبو بكر بن محمد عن أبيه سألت أبا عبد الله عن رجل أعتق أحد غلاميه في صحته ثم مات المولى ولم يدر الورثة أيهما أعتق قال يقرع بينهما
وقال حنبل سمعت أبا عبد الله قال في القرعة إذا قال أحد غلامي حر ثم مات قبل أن يعلم يقرع بينهما فأيها وقعت عليه القرعة عتق كذا فعل النبي صلى الله عليه و سلم في الذي أعتق ستة أعبد له
وقال مهنا سألت أحمد عن رجل قال لامرأتين له إحداكما طالق أو لعبدين له أحدكما حر قال قد اختلفوا فيه قلت ترى أن يقرع بينهما قال نعم قلت وتجيز القرعة في الطلاق قال نعم
وقال في رواية الميموني فيمن له أربع نسوة طلق واحدة منهن ولم يدر يقرع بينهن وكذلك في الأعبد فإن أقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة ثم ذكر التي طلق رجعت هذه ويقع الطلاق على التي ذكر
فإن تزوجت فذاك شيء قد مر وإن كان الحاكم قد أقرع بينهن لم ترجع
إليه
وقال أبو الحارث عن أحمد في رجل له أربع نسوة طلق إحداهن ولم تكن له نية
في واحدة بعينها يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي المطلقة وكذلك إن
قصد إلى واحدة بعينها ثم نسيها قال والقرعة سنة رسول الله صلى الله عليه و
سلم وقد جاء بها القرآن
وقال أبو حنيفة والشافعي لا يقرع بينهن ولكن إذا كان الطلاق لواحدة لا
بعينها ولا نواها فإنه يختار صرف الطلاق إلى أيتهن شاء وإن كان الطلاق
لواحدة بعينها ونسيها فإنه يتوقف فيها حتى يتذكر ولا يقرع ولا يختار صرف
الطلاق إلى واحدة منهما
وقال مالك يقع الطلاق على الجميع
والقول بالقرعة مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وكيع سمعت عبد الله
قال سألت أبا جعفر عن رجل له أربع نسوة فطلق إحداهن لا يدري أيتهن طلق
فقال علي يقرع بينهن
فالأقوال التي قبل بها في هذه المسألة لا تخرج عن أربعة ثلاثة قيل بها
وواحد لا يعلم به قائل
أحدهما أنه يعين في المبهمة ويقف في حق المنسية عن الجميع فينفق عليهن
ويكسوهن ويعتزلهن إلى أن يفرق بينهما الموت أو يتذكر وهذا
في غاية الحج والإضرار به وبالزوجات فينفيه قوله تعالى وما جعل
عليكم في الدين من حرج وقوله صلى الله عليه و سلم لا ضرر ولا ضرار فأي حرج
وضرر وإضرار أكثر من ذلك
الثاني أن يطلق عليه الجميع مع الجزم بأنه إنما طلق واحدة لا الجميع
فإيقاع الطلاق بالجميع مع القطع بأنه لم يطلق الجميع ترده أصول الشرع
وأدلته
الثالث أنه لا يقع الطلاق بواحدة منهن لأن النكاح ثابت بيقين وكل واحدة
منهن مشكوك فيها هل هي المطلقة أم لا فلا تطلق بالشك ولا يمكن إيقاع
الطلاق بواحدة غير معينة وليس البعض أولى بأن يوقع عليها الطلاق من البعض
والقرعة قد تخرج غير المطلقة فإنها كما يجوز أن تقع على المطلقة يجوز أن
تقع على غيرها فإذا أخطأت المطلقة وأصابت غيرها أفضى ذلك إلى تحريم من هي
زوجة وحل من هي أجنبية
وإذا بطلت هذه الأقسام كلها تعين هذا التقدير وهو بقاء النكاح في حق كل
واحده منهن حتى يتبين أنها المطلقة وإذا كان النكاح باقيا فيها فأحكامه
مترتبة عليه وأما بقاء النكاح وتحريم الوطء دائما فلا وجه له
فهذا القول والقول بوقوع الطلاق على الجميع متقابلان وأدلتهما
تكاد أن تتكافأ ولا احتياط في إيقاع الطلاق بالجميع فإنه يتضمن
تحريم الفرج على الزوج وإباحة بالشك لغيره
قال المقرعون قد جعل الله سبحانه القرعة طريق إلى الحكم الشرعي في كتابه
وفعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأمر بها وحكم بها علي بن أبي طالب
في هذه المسألة بعينها وكل قول غير القول بها فإن أصول الشرع وقواعده ترده
أما وقوع الطلاق على الجميع مع العلم بأنه إنما أوقعه على واحدة فتطليق
لغير المطلقة وهو نظير ما لو طلق طلقة واحدة أو ثلاثا حيث يجوز أن يجعل
ثلاثا فإنه يجوز أن يكون قد استوفى عدد الطلاق وفي مسألتنا هو جازم بأنه
لم يستوف عدد المطلقات بل كل واحدة منهن قد شك هل طلقها أم لا وغايته أنه
قد تيقن تحريما في واحدة لا بعينها فكيف يحرم عليه غيرها
فإن قيل قد اشتبهت المحللة بالمحرمة فحرمتا معا كما لو اشتبهت أخته
بأجنبية وميتة بمذكاة
قيل ههنا معنا أصل يرجع إليه وهو التحريم الأصلي وقد وقع الشك في سبب الحل
فلا يرفع التحريم الأصلي إلا بالنكاح ثم وقع في عين غير معينة ومعنا أصل
الحل المستصحب فلا يمكن تعميم التحريم ولا إلغاؤها بالكلية ولم يبق طريق
إلى تعيين محله إلا بالقرعة فتعينت طريقا
قالوا وأيضا فإن الطلاق قد وقع على واحدة منهن معينة لامتناع
وقوعه في غير معين فلم يملك المطلق صرفه إلى أيتهن شاء لكن التعيين غير
معلوم لنا وهو معلوم عند الله ليس لنا طريق إلى معرفته فتعينت القرعة
يوضحه أن التعيين من المطلق ليس إنشاء للطلاق في المعينة فإنه لو كان
إنشاء لم يكن المتقدم طلاقا ولكان الجميع حلالا له ولما أمر بأن ينشئ
الطلاق ولا افتقر إلى لفظ يقع به وإذا لم يكن إنشاء فهو إخبار منه بأن هذه
المعينة هي التي أوقعت عليها الطلاق وهذا خبر غير مطابق بل هو خلاف الواقع
وحاصله أن التعيين إما أن يكون إنشاء الطلاق أو إخبارا ولا يصلح لواحد
منهما
فإن قيل بل هو إنشاء عندنا في المبهمة وأما المنسية فهو واقع من حين طلق
قيل لا يصح جعله إنشاء للطلاق لأن الطلاق إما أن يكون قد وقع بإحداهن أولا
فإن لم يقع لم يلزمه أن ينشئه وإن قد وقع استحال إنشاؤه أيضا لأنه تحصيل
للحاصل
فإن قيل فهذا يلزمكم أيضا لأنكم تقولون إن الطلاق يقع من حين الإقراع قيل
بل الطلاق عندنا في الموضعين واقع من حين الإيقاع
قال الإمام أحمد في روية أبي طالب في رجل له أربع نسوة فطلق
إحداهن وتزوج أخرى ومات ولم يدر أي الأربع طلق فلهذه الأخيرة ربع الثمن ثم
يقرع بين الأربع فأيتهن قرعت أخرجت وورث البواقي
قال القاضي فقد حكم بصحة نكاح لخامسة قبل تعيين المطلقة قال وهذا يدل على
وقوع الطلاق من حين الإيقاع ولو كان من حق التعيين لم يصح نكاح الخامسة
فإن قيل هذا بعينه يرد عليكم في التعيين بالقرعة والجواب حينئذ واحد
قيل الفرق بين التعيينين ظاهر فإن تعيين المكلف تابع لاختياره وإرادته
وتعين القرعة إلى الله عز و جل والعبد يفعل القرعة وهو ينتظر ما يعينه له
القضاء والقدر شاء أم أبى
وهذا هو سر المسألة وفقهها فإن التعيين إذا لم يكن لنا سبيل إليه بالمشرع
فوض إلى القضاء والقدر وصار الحكم به شرعا قدريا شرعيا في فعل القرعة
وقدريا فيما تخرج به وذلك إلى الله لا إلى المكلف
فلا أحسن من هذا ولا أبلغ في موافقته شرع الله وقدره
وأيضا فإنه لو طلق واحدة منهن ثم أشكلت عليه لم يكن له أن يعين
المطلقة باختياره فهكذا إذا طلق واحدة لا بعينها
فإن قيل الفرق ظاهر وهو أن الطلاق ههنا قد وقع على واحدة بعينها فإذا
أشكلت لم يجز أن يعين من تلقاء نفسه لأنه لا يأمن أن يعين غير التي وقع
عليها الطلاق ويستديم نكاح التي طلقها وليس كذلك في مسألتنا فإن الطلاق
وقع على إحداهن غير معينة فليس في تعيينه إيقاع للطلاق على من لم يقع بها
وصرفه عمن وقع بها
قيل إحداهما محرمة عليه في المسيس ولا يدري عنها فإذا لم تملك التعيين بلا
سبب في إحدى الصورتين لم يملكه في الأخرى وهذا أيضا سر المسألة وفقهها فإن
التعيين بالقرعة تعيين بسبب قد نصبه الله ورسوله سببا للتعيين عند عدم
غيره والتعيين بالاختيار تعيين بلا سبب إذ هذا فرض المسألة حيث انتفت
أسباب التعيين وعلاماته
ولا يخفى أن التعيين بالسبب الذي نصبه الشرع له أولى من التعيين الذي لا
سبب له
فإن قيل المنسية والمشتبهة يجوز أن تذكر وتعلم عينها بزوال الاشتباه فلهذا
لم يملك صرف الطلاق فيها إلى من أراد بخلاف المبهمة فإنه لا يرجى ذلك فيها
قيل وكذلك المنسية والمشكلة إذا عدم أسباب العلم بتعيينها فإنه
يصير في إبقائها إضرارا به وبها ووقف للأحكام وجعل المرأة معلقة باقي
عمرها لا ذات زوج ولا مطلقة وهذا لا عهد لنا به في الشريعة
فصل
ومما يدل على صحة تعيين المطلقة بالقرعة حديث عمران بن حصين في عتق الأعبد
الستة فإن تصرفه في الجميع لما كان باطلا جعل كأنه أعتق ثلثا منهم غير
معين فعينه النبي صلى الله عليه و سلم بالقرعة والطلاق كالعتاق في هذا لأن
كل واحد منهما إزالة ملك مبني على التغليب والسراية فإذا اشتبه المملوك في
كل منهما بغيره لم يجعل التعيين إلى اختيار المالك
فإن قيل العتاق أصله الملك فلما دخلت القرعة في أصله وهو الملك في حال
القسمة وطرحت القرعة على السهام دخلت لتمييز الملك من الحرية وليس كذلك
الطلاق لأن أصله النكاح والنكاح لا تدخله القرعة فكذلك الطلاق
قيل ومن سلم لكم أن القرعة لا تدخل في النكاح بل الصحيح من الروايتين
دخولها فيه فيما إذا زوجها الوليان ولم يعلم السابق منهما فإنا نقرع
بينهما فمن خرجت عليه القرعة حكم له بالنكاح وأنه هو
الأول هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور وحنبل
ونقل أبو الحارث ومهنا لا يقرع في ذلك
وعلى هذا فلا يلزم إذا لم تدخل القرعة في الحكم ألا تدخل في رفعه فإن حد
الزنا لا يثبت بشهادة النساء ويسقط بشهادتهن وهو ما إذا شهد عليها بالزنا
فذكرت أنها عذراء وشهد بذلك النساء وكذلك لو قال وقد رأى طائرا إن كان هذا
غرابا ففلانة طالق وإن لم يكن غرابا ففلان حر ولم يعلم ما هو فإنه يقرع
بين المرأة والعبد عندكم أيضا فيحكم بما خرجت به القرعة
فإن قلتم هنا لم تدخل القرعة في الطلاق بانفراده بل دخلت للتمييز بينه
وبين العتق والقرعة تدخل في العتق بدليل حديث الأعبد الستة
قيل إذا دخلت للتمييز بين الطلاق والعتاق دخلت للتمييز بين المطلقة وغيرها
وكل ما قدر من المانع في أحد الموضعين يجري في الآخر سواء بسواء وأيضا
فإذا كانت القرعة تخرج المعتق من غيره فإخراجه للمطلقة أولى وأحرى فإن
إخراج منفعة البضع عن ملكه أسهل من إخراج عين الرقبة وإبقاء الرق في العين
أبدا أسهل من إبقاء بعض المنافع وهي منفعة البضع فإذا صلحت القرعة لذلك
فهي لما دونه أقبل وهذا في غاية الظهور
وأيضا فاشتباه المطلقة بغيرها لا يمنع استعمال القرعة
ودليله مسألة الطائر وقوله إن كان غرابا فنسائي طوالق وإن لم يكن فعبيدي
أحرارا
فإن قلتم قد يستعمل الشيء في حكم ولا يستعمل في آخر كالشاهد واليمين
والرجل والمرأتين يقبل في الأموال دون الحدود والقصاص
يوضحه أنه لو ادعى سرقة وأقام شاهدا وحلف معه غرمناه المال ولم نقطعه فكذا
ههنا استعملنا القرعة في الرق والحرية دون الطلاق للحاجة
قيل الحاجة في إخراج المطلقة من غيرها كالحاجة في إخراج المعتق من غيره
سواء وإذا دخلت للتمييز بين الفرج المملوك بملك اليمين وغيره صح دخولها
للتمييز بين الفرج المملوك بعقد النكاح وغيره ولا فرق ولا يشبه ذلك مسألة
القطع والغرم في أنه يثبت أحدهما بما لا يثبت به الآخر لأنهما يختلفان في
الأحكام وفيما يثبت به كل واحد منهما والعتق والطلاق يتفقان في الأحكام
وهو أن كل واحد منهما مبني على التغليب والسراية ويثبت بما يثبت به الآخر
وأيضا فإن الحقوق إذا تساوت على وجه لا يمكن التمييز بينها إلا بالقرعة
صح استعمالها فيها كما قلتم في الشريكين إذا كان بينهما مال
فأراد قسمته فإن الحاكم يجزئه ويقرع بينهما وكذلك إذا أراد أن يسافر بإحدى
نسائه وكذلك إذا تساوى المدعيان في الحضور عند الحاكم وكذلك الأولياء في
النكاح إذا تساووا في الدرجة وتشاحوا في العقد أقرع بينهم وكذلك إذا قتل
جماعة في حالة واحدة وتشاح الأولياء في المقتص أقرع بينهم فمن قرع قتل له
وأخذت الدية للباقين
فإن قلتم التراضي على القسمة من غير قرعة جائز وكذلك بين النساء إذا أراد
السفر ولا كذلك ههنا لأن التراضي على فسخ النكاح ونقله من محل لا يجوز
قلنا ليست القرعة في الطلاق نقلا له عمن يستحقه إلى غيره بل هي كاشفة عمن
توجه الطلاق إليها ووقع عليها
فصل
قال المعينون بالاختيار قد حصل التحريم في واحدة لا بعينها فكان له تعيينها باختياره كما لو أسلم الحربي وتحته خمس نسوة أو أختان اختارقال أصحاب القرعة هذا القياس مبطل أولا بالمنسية فإن المحرمة منهن بعد النسيان غير معينة وليس له تعيينها
وهذا الجواب غير قوي فإن التحريم ههنا وقع في معينة ثم أشكلت بل
الجواب الصحيح أن يقال تطلق عليه الأخت والخامسة بمجرد الإسلام بل إذا عين
الممسكات أو المفارقات حصلت الفرقة من حين التعيين ووجبت العدة من حينئذ
وسر المسألة أن الشارع خيره بين من يمسك ومن يفارق نظرا له وتوسعة عليه
ولو أمره بالقرعة ههنا فربما أخرجت القرعة عن نكاحه من يحبها وأبقت عليه
من يبغضها ودخوله في الإسلام يقتضي ترغيبه فيه وتحبيبه إليه فكان من محاسن
الإسلام رد ذلك إلى اختياره وشهوته بخلاف ما إذا طلق هو من تلقاء نفسه
واحدة منهن
على أن القياس الذي احتجوا به فاسد أيضا فإنه ينكسر بما إذا اختلطت زوجته
بأجنبية أو ميتة بمذكاة فإنه ليس له تعيين المحرمة
قلنا نحن لم نستدل بدليل يرد علينا فيه هذا بخلاف من استدل بمن ينكسر عليه
بذلك
فإن قيل والتحريم ههنا كان معين ثم اشتبه
قيل لما اشتبه وزال دليل تعينه صار كالمبهم وهذا حجة مالك عليكم حيث حرم
الجميع لإبهام المحرمة فيهن
قال أصحاب التعيين التحريم ههنا حكم تعلق بفرد لا بعينه من جملة
فكان المرجع في تعيينه إلى المكلف كما لو باع قفيزا من صبرة
وقال أصحاب القرعة الإبهام إنما يصح في البيع حيث تتساوى الأجزاء ويقوم كل
جزء منها مقام الآخر في التعيين فلا تفيد القرعة ههنا قدرا زائدا على
التعيين وليس كذلك الطلاق فإن محله لا تتساوى أفراده ولا الغرض منه فهو
بمسألة المسافر بإحدى الزوجات أشبه به منه بمسألة القفيز من الصبرة ألا
ترى أن التهمة تلحق في التعيين ههنا وفي مسألة القسمة وفي مسألة الطلاق
ولا تلحق في التعيين في مسألة القفيز من الصبرة المتساوية وهذا فقه
المسألة أن الموضع الذي تلحق فيه التهمة شرعت فيه القرعة نفيا لها وما لا
تلحق فيه لا فائدة فيها
على أن القياس منتفض بما إ ذا أعتق عبدا مبهما من عبيده أو أراد السفر
بإحدى نسائه
قال أصحاب التعيين لما كان له تعيين المطلقة في الابتداء كان له تعيينها
في ثاني الحال باختياره
قال أصحاب القرعة هذا قياس فاسد فإنه في الابتداء لم يتعلق بالتعيين حق
لغير المطلقة وبعد الإيقاع قد تعلق به حقهن فإن كل واحدة منهن قد تدعي أن
الطلاق وقع عليها لتملك به بضعها أو واقع على
غيرها لتستبقي به نفقتها وكسوتها فلم يملك هو تعيينه للتهمة
بخلاف الابتداء
قال المبطلون للقرعة رأينا القرعة قمار وميسر وقد حرمه الله في سورة
المائدة وهي من آخر القرآن نزولا وإنما كانت مشروعة قبل ذلك
وقال أصحاب القرعة قد شرع الله ورسوله القرعة وأخبر بها عن أنبيائه ورسله
مقررا لحكمها غير ذام لها وفعلها رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه
من بعده وقد صانهم الله سبحانه عن القمار بكل طريق فلم يشرع لعباده القمار
قط ولا جاء به نبي أصلا فالقرعة شرعه ودينه وسنة أنبيائه ورسله
وقال المانعون من القرعة قد اشتبهت المحللة بالمحرمة على وجه لا تبيحه
الضرورة فلم يكن له إخراجها بالقرعة كما لو اشتبهت أخته بأجنبية أو ميتة
بمذكاة
وقال أصحاب القرعة الفرق أننا ههنا نستصحب أصل التحريم ولا نزيله بالشك
بخلاف مسألتنا فإن التحريم الأصلي قد زال بالنكاح وشككنا في وقوع التحريم
الطارئ بأن واحدة منهن وقع فلا يصح إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى
قال المانعون قد تخرج القرعة غير المطلقة فإنها ليس لها من
العلم والتمييز ما تخرج به المطلقة بعينها
وقال المقرعون هذا أولا اعتراض على السنة فهو مردود
وأيضا فإن التعيين بها أولى من التعيين بالاعتراض والتشهى أو جعل المرأة
معلقة إلى الموت أو إيقاع الطلاق باربع لأجل إيقاعه بواحدة منهن
وأيضا فإن القرعة مزيلة للتهمة
وأيضا فإنها تفويض إلى الله ليعين بقضائه وقدره ما ليس لنا سبيل إلى
تعيينه والله أعلم
فإن قيل فما تقولون فيما نقله أبو طالب عن أحمد في رجل زوج ابنته رجلا وله
بنات فمات ولم يدر أيتهن هي فقال يقرع بينهن وهذا يدل على أنه يقرع عند
اختلاط أخته بأجنبية
قيل قد جعل القاضي أبو يعلى ذلك رواية عن الإمام أحمد وقال وظاهر هذا أن
الزوجة إذا اختلطت بأجانب أقرع بينهن لأنه أجاز القرعة بينها وبين أخواتها
إذا اختلطت بهن
قلت هذا وهم من القاضي فإن أحمد لم يقرع للحل وإنما أقرع للميراث والعدة
ونحن نذكر نصوصه بألفاظها
قال الخلال في الجامع باب الرجل يكون له أربع بنات فزوج إحداهن
فمات الأب ومات الزوج ولا يدري أيتهن هي الزوجة أنبأنا أبو النضر أن أبا
عبد الله قال قال سعيد بن المسيب في رجل له أربع بنات فزوج إحداهن لا يدرى
أيتهن هي إنه يقرع بينهن أخبرني زهير بن صالح حدثنا أبي حدثنا يزيد بن
هارون أنبأنا حماد بن سلمة عن قتادة أن رجلا زوج ابنته من رجل فمات الأب
والزوج ولا يدري الشهود أي بناته هي فسألت سعيد بن المسيب فقال يقرع بينهن
فأيتهن أصابتها القرعة ورثت واعتدت
وقال حماد سألت حماد بن أبي سليمان فقال يرثن جميعا ويعتددن جميعا
وقال صالح قال أبي قد ورث من ليس لها ميراث وأوجب العدة على من ليس عليها
عدة والذي يقرع في حال يكون قد أصاب وفي حال يكون قد أخطأ وذاك لا شك أنه
قد ورث من ليس لها ميراث
قال الخلال أنبأنا يحيى بن جعفر قال قال عبد الوهاب سألت سعيدا عن رجل زوج
إحدى بناته وسماها ومات الأب والزوج ولا يدرى أيتهن هي فحدثنا عن قتادة عن
الحسن وسعيد بن المسيب
أنهما قالا يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فلها الصداق ولها
الميراث وعليها العدة
أخبرني محمد بن علي حدثنا الأثرم حدثنا عارم حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة
عن سعيد بن المسيب أنه قال في رجل زوج إحدى بناته رجلا فمات ومات الزوج
ولم تدر البينة أيتهن هي قال يقرع بينهن فإذا قرعت واحدة ورثت واعتدت
وحدثنا أبو بكر حدثنا عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب
والحسن قالا يقرع بينهن
قال حنبل وحدثني أبو عبد الله حدثنا يزيد بن هارون حدثنا حماد بن سلمة عن
قتادة أن رجلا زوج أبنته من رجل فمات الزوج ومات الأب ولم يدر الشهود أي
بناته هي فسألت سعيد بن المسيب رحمه الله قال يقرع بينهن وأيتهن أصابت
القرعة ورثت واعتدت
قال حماد بن سلمة فسألت حماد بن أبي سليمان عن ذلك فقال يرثن ويعتددن
جميعا
قال حنبل فسألت أبا عبد الله عن ذلك فقال يقرع بينهن على قول سعيد بن
المسيب
وقال حنبل قال عفان حدثنا همام قال سئل قتادة عن رجل خطب
إلى رجل ابنة له وله بنات فأنكحه ومات الخاطب ولم يدر الأب
أيتهن خطب فقال سعيد يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فلها الصداق
والميراث وعليها العدة
قال حنبل سمعت أبا عبد الله يقول أذهب إلى هذا وكذلك رواية أبي طالب التي
ذكرها القابسي
قال الخلال أخبرني أحمد بن محمد بن مطر أن أبا طالب حدثه أنه سأل أبا عبد
الله عن رجل زوج ابنته رجلا وله بنات فماتا ولم تدر البينة أيتهن هي قال
يقرع بينهن فإذا قرعت واحدة ورثت قلت حماد يقول يرثن جميعا قال يقرع بينهن
وقال القرعة أبين إذا أقرع فأعطى واحدة لعلها أن تكون صاحبته ولا يدري هو
في شك فإذا أعطاهن فقد علم أنه أعطى من ليس له حق
فنصوص أحمد وما نقله عن سعيد والحسن إنما فيه القرعة بينهن في الميراث وهي
قرعة على مال وليس فيه القرعة عند اختلاط الزوجة بغيرها
لكن في رواية حنبل ما يدل على جريان القرعة في الحياة وبعد الموت فإنه قال
يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي امرأته وإن مات الزوج فهي التي ترثه
أيضا فهذه أصرح من رواية أبي طالب
ولكن أكثر الروايات عن أحمد إنما هي في القرعة على الميراث كما
ذكر من ألفاظه على أنه لا يمتنع أن يقال بالقرعة في هذه المسألة على ظاهر
رواية حنبل فإن أكثر ما فيه تعيين الزوجة بالقرعة والتمييز بينها وبين من
ليست بزوجة وهذا حقيقة الإقراع في مسألة المطلقة فإن القرعة تميز الزوجة
من غيرها وكذلك لو زوجها الوليان من رجلين وجهل السابق منهما فإنه يقرع
على أصح الروايتين وذلك لتمييز الزوج من غيره فما الفرق بين تمييز الزوج
بالقرعة وتمييز الزوجة بها بالإقراع ههنا ليس بعيدا من الأصول
ويدل عليه أنا نوجب عليها العدة بهذه القرعة والعدة من أحكام النكاح ولا
سيما فالعدة الواجبة ههنا عدة من غير مدخول بها فهي من نكاح محض وكذلك
الميراث فإنه لولا ثبوت النكاح لما ورثت
وقول أحمد في رواية حنبل يقرع بينهن فأيتهن أصابتها القرعة فهي امرأته
صريح في ثبوت الزوجية بالقرعة ثم قال وإن مات الزوج فهي التي ترثه وهذا
صريح في أنه يقرع بينهن في حال حياة الزوج والزوجة وإن مات بعد القرعة
ورثته بحكم النكاح ولا إشكال في ذلك بحمد الله فإذا أقرع بينهن فأصابت
القرعة إحداهن كان رضا الزوج بها ورضا وليها ورضاها تصحيحا للنكاح
ولا يقال يجوز أن تكون القرعة أصابت غيرها فيكون جامعا بين
الأختين لأن المجهول كالمعدوم ولأنا نأمره أن يطلق غير التي أصابتها
القرعة فيقول ومن عدا هؤلاء فهي طالق احتياطا فهذا خير من توريث الجميع
وحرمان الجميع وأن يوقف الأمر فيهن أبدا حتى يتبين الحال وينكشف وقد لا
يتبين إلى يوم القيامة
وبالجملة فالقرعة طريق شرعي شرعه الله ورسوله للتمييز عند الاشتباه فسلوكه
أولى من غيره من الطرق
وقد قال أبو حنيفة إذا طلق امرأة من نسائه لا بعينها فإنه لا يحال بينه
وبينهن وله أن يطأ أيتهن شاء فإذا وطئ انصرف الطلاق إلى الأخرى واختاره
ابن أبي هريرة من الشافعية فجعلوا الوطء تعيينا
معلوم أن التعيين بالقرعة أولى من التعيين بالوطء فإن القرعة تخرج من قدر
الله إخراجه بها ولا يتهم بها والوطء تابع لإرادته وشهوته ويجوز أن يشتهي
غير من كان في نفسه إرادة طلاقها فهو منهم فالتعيين بالطريق الشرعي أول من
التعيين بالتشهي والإرادة
ومما يوضحه أن أبا حنيفة قد قال فيما إذا أعتق إحدى أمتيه ثم وطئ إحداهما
أن الوطء لا يعين المعتقة من غيرها
وقال أصحابه الفرق بينهما أن الطلاق يوجب التحريم وذلك ينفي
النكاح فلما وطئ إحداهما دل على أنه مختار أن تكون زوجته فإنه
لا يطأ من ليست زوجته وأما العتق فإنه وإن أوجب تحريم الوطء فلا ينافي ملك
اليمين كأخته من الرضاع
فقال المنازعون لهم الطلاق لا يوجب التحريم عندكم فإن الرجعة مباحة وإنما
الموجب للتحريم انقضاء العدة واستيفاء العدد وقد صرح أصحابكم بذلك على أن
النكاح وإن نافاه التحريم فالملك ينافيه التحريم فهما متساويان في أن
الوطء لا يجوز إلا في ملك وهو متحقق لملك الموطوءة
فصل
ومن مواضع القرعة
ما إذا طلق إحدى نسائه ومات قبل البيان فإن الورثة يقرعون بينهن فمن وقعت عليه القرعة لم ترث نص عليه في رواية حنبل وأبي طالب وابن منصور ومهناوقال أبو حنيفة يقسم الميراث بين الجميع
وقال الشافعي يوقف ميراث الزوجات حتى يصطلحن عليه
ولوازم القولين تدل على صحة القول بالقرعة فإن لازم القول الأول توريث من يعلم أنها أجنبية فإنها مطلقة في حال الصحة ثلاثا فكيف ترث
ولازم القول الثاني وقف المال وتعريضه للفساد والهلاك وعدم
الانتفاع به وإن كان حيوانا فربما كانت مئونته تزيد على أضعاف قيمته وهذا
لا مصلحة فيه ألبتة
وأيضا فإنهن إذا علمن أن المال يهلك إن لم يصطلحن عليه كان ذلك إلجاء لهن
إلى إعطاء غير المستحقة فالقرعة تخلص من ذلك كله ومن المعلوم أن المستحقة
للميراث إحداهما دون الأخرى فوجب أن يقرع بينهما كما يقرع بين العبيد إذا
أعتقهم في المرض وبين الزوجات إذا أراد السفر بإحداهن والحاكم إنما نصب
لفصل الأحكام لا لوقفها وجعلها معلقة فتوريث الجميع على ما فيه أقرب
للمصلحة من حبس المال وتعريضه للتلف مع حاجة مستحقيه إليه
وأيضا فإنا عهدنا من الشارع أنه لم يوقف حكومة قط على اصطلاح المتخاصمين
بل يشير عليهما بالصلح فإن لم يصطلحا فصل الخصومة وبهذا تقوم مصلحة الناس
قال المورثون للجميع قد تساويا في سبب الاستحقاق لأن حجة كل واحدة منهما
كحجة الأخرى فوجب أن يتساويا في الإرث كما لو أقامت كل واحدة منهما البينة
بالزوجية
وقال المقرعون المستحقة منهما هي الزوجة والمطلقة غير مستحقة فكيف يقال
إنهما استويتا في سبب الاستحقاق على أنهما إذا أقامتا بينتين تعارضتا
وسقطتا وصارتا كمن لا بينة لواحدة منهما
وقال المورثون قد استحق من ماله ميراث زوجته وليست إحداهما بأن
تكون هي المستحقة أولى من الأخرى فيقسم الإرث بينهما كرجلين ادعيا دابة في
يد غيرهما وأقاما بينتين فإنها تقسم بينهما
وقال المقرعون هذه هي الشبهة التي تقدمت والجواب واحد
وقال المورثون لأصحاب القرعة قد تناقضتم فإنكم تقرعون بإخراج المطلقة فإذا
أخرجتموها بالقرعة أوجبتم عليها عدة الوفاة إذا كانت أطول من عدة الطلاق
فإن كانت مطلقة فكيف تعتد عدة الوفاة وإذا اعتدت عدة الوفاة فكيف لا ترث
قال أصحاب القرعة يجب على المطلقة منهما عدة الطلاق على الزوجة عدة الوفاة
ولكن لما أشكلت المطلقة من الزوجة أوجبنا على كل واحدة منهما أن تعتد
بأقصى الأجلين ويدخل فيه الأدنى احتياطا للعدة
فصل
ولو طلق إحداهما لا بعينها ثم ماتت إحداهما لم يتعين الطلاق في الباقية وأقرع بين الميتة والحيةقال أبو حنيفة يتعين الطلاق في الباقية
وقال الشافعي لا يتعين فيها وله تعيينه في الميتة
وقال الحنفية هو مخير في التعيين ولم يبق من يصح إيقاع الطلاق
عليها إلا الحية ومن خير بين أمرين ففاته أحدهما تعين الآخر
وقال المقرعون قد أقمنا الدليل على أنه لا يملك التعيين باختياره وإنما
نملك الإقراع ولم يفت محله فإنه يخرج المطلقة فيتبين وقوع الطلاق من حين
التطليق لا من حين الإقراع كما تقدم تقريره
وقالت الحنفية لا يصح أن يبتدئ في الميتة الطلاق فلا يصح أن يعينه فيها
بالقرعة كالأجنبية
وقال أصحاب القرعة نحن لا نعين الطلاق فيها ابتداء وإنما نبين بالقرعة
أنها كانت مطلقة في حال الحياة
وقالت الحنفية ماتت غير مطلقة بدليل أنه يجوز أن تخرج القرعة عندكم على
الحية فتكون هي المطلقة دون الميتة وإذا لم تكن مطلقة قبل الموت لم يثبت
حكم الطلاق فيها بعد الموت كما لا يثبت الطلاق المبتدأ
وقال المقرعون إذا وقعت القرعة تبينا أنها هي المطلقة في حال الحياة
فصل
فإن قيل فما تقولون فيما خرجت القرعة على امرأة ثم ذكر بعد ذلك أن المطلقة
غيرها
قبل تعود إليه من حين وقعت عليها القرعة ويقع الطلاق بالمذكورة فإن القرعة
إنما كانت لأجل الاشتباه وقد زال بالتذكر إلا أن تكون
التي وقعت عليها القرعة قد تزوجت أو كانت القرعة بحكم الحاكم
فإنها لا تعود إليه نص عليه الإمام أحمد
قال الخلال أخبرني الميموني أنه ناظر أبا عبد الله في مسألة الذي له أربع
نسوة فطلق واحدة منهن ثم لم يدر قال يقرع بينهن كذلك في الأعبد قلت فإن
أقرع بينهن فوقعت القرعة على الواحدة ثم ذكر التي طلق قال ترجع إليه والتي
ذكر أنه طلق يقع الطلاق عليها قلت فإن تزوجت قال هو إنما دخل في القرعة
لأنه اشتبه عليه فإذا تزوجت فذا شيء قد مر فقال له رجل فإن كان الحاكم
أقرع بينهن قال لا أحب أن ترجع إليه لأن الحاكم في ذا أخبر منه فرأيته
يغلظ أمر الحاكم إذا دخل في الإقراع بينهن
وقد توقف في الجواب في رواية أبي الحارث فإنه قال سألت أبا عبد الله قلت
فإن طلق واحدة من أربع وأقرع بينهن فوقعت القرعة على واحدة وفرق بينه
وبينها ثم ذكر وتيقن بعد ما فرق الحاكم بينهما أن التي طلق في ذلك الوقت
هي غير التي وقعت عليها القرعة قال اعفني من هذه قلت فما ترى العمل فيها
قال دعها ولم يجب فيها بشيء
قلت أما إذا تزوجت فلا يقبل قوله إن المطلقة كانت غيرها لما فيه من إبطال
حق الزوج
فإن قيل فلو أقام بينة أن المطلقة غيرها
قيل لا ترد إليه أيضا فإن القرعة تصيب طريقا إلى وقوع الطلاق
فيمن أصابتها ولو كانت غير المطلقة في نفس الأمر فالقرعة فرقت بينهما
وتأكدت الفرقة بتزويجها
فإن قيل فهذا ينتقض بما إذا ذكر قبل أن تنكح
قيل أما إذا انقضت عدتها وملكت نفسها ففي قبول قوله عليها نظر فإن صدقته
أن المطلقة كانت غيرها فقد أقرت له بالزوجية ولا منازع له وأما إذا ذكر
وهي في العدة فإن كان الطلاق رجعيا فلا إشكال فإنه يملك رجعتها بغير رضاها
فيقبل قوله إن المطلقة غيرها وإن كان الطلاق بائنا فله عليها حق حبس العدة
وهي محبوسة لأجله والفراش قائم حتى ولو أتت بولد في مدة الإمكان لحقه فإذا
ذكر أن المطلقة غيرها كان القول قوله كما لو شهدت بينة بأنه طلقها ثم رجع
الشهود ولكن لما كانت البينة غير متهمة ردت إليه مطلقا بخلاف قوله إن
المطلقة غيرها فإن متهم فيه وكذلك لا ترد إليه بعد نكاحها ولا بعد حكم
الحاكم
والقياس أنها لا ترد إليه بعد انقضاء عدتها وملكها نفسها إلا أن تصدقه
ولهذا لو قال بعد انقضاء عدتها كنت راجعتك قبل انقضاء العدة لم تقبل منه
إلا ببينة أو تصديقها ولو قال ذلك والعدة باقية قبل منه لأنه يملك إنشاء
الرجعة
وأما إذا كانت القرعة بحكم الحاكم فإن حكمه يجري مجرى التفريق بينهما فلا
يقبل قوله إن المطلقة غيرها
فصل
فإن قيل فما تقولون فيما رواه مهنا قال سألت أبا عبد الله عن رجل له امرأتان مسلمة ونصرانية فقال في مرضه إحداكما طالق ثلاثا ثم أسلمت النصرانية ثم مات في ذلك المرض قبل أن تنقضي عدة واحدة منهما وقد كان دخل بهما جميعا فقال أرى أن يقرع بينهما قلت له يكون للنصرانية من الميراث ما للمسلمة قال نعم فقلت إنهم يقولون للنصرانية ربع الميراث وللمسلمة ثلاثة أرباعه فقال لم فقلت لأنها أسلمت رغبة في الميراث قلت ويكون الميراث بينهما سواء قال نعمفقد نص على القرعة بينهما ونص على قسمة الميراث بينهما على السواء فما فائدة القرعة
ولا يقال القرعة لأجل العدة حيث تعتد المطلقة عدة الطلاق فإنكم صرحتم بأن كل واحدة منهما تعتد بأقصى الأجلين ويدخل فيه أدناهما كما صرح به القاضي وعلى هذا لا تبقى للقرعة فائدة أصلا فإنهما يشتركان في الميراث ويتساويان في العدة
قيل الإقراع لم يكن لأجل الميراث فإنه قد صرح بأنه بينهما وهذا على أصله فإن المبتوتة ترث ما دامت في العدة وغاية الأمر أن يكون قد عين النصرانية بالطلاق ثم أسلمت في عدتها قبل الموت فإنها ترث
ولو طلقهما جميعا ثم أسلمت ورثتا جميعا وأما القرعة فلإخراج
المطلقة ليتبين أنه مات وإحداهما زوجته والأخرى غير زوجته فإذا وقعت
القرعة على إحداهما تبين أنها أجنبية وإنما ثبت لها الميراث لكون الطلاق
في المرض والعدة تابعة للميراث وما عدا ذلك فهي فيه أجنبية حتى لو لم ينفق
عليها من حين الطلاق إلى حين الموت لم يرجع في تركته بالنفقة
فإن قيل فهو غير متهم في حرمان النصرانية لأنه يعلم أنها لا ترث قيل
التهمة قائمة لأنها يجوز أن تسلم قبل موته
وأما قول من قال للنصرانية ربع الميراث وللمسلمة ثلاثة أرباعه فلا يعرف من
القائل بهذا ولا وجه لهذا القول وتعليله بكونها أسلمت رغبة في الميراث
أغرب منه والله أعلم
فصل
فإن قيل فما تقولون فيما رواه جابر بن زيد عن ابن عباس في رجل له ثلاث
نسوة فطلق واحدة منهن ولم يدر أيتهن ثم مات قال ينالهن من الطلاق ما
ينالهن من الميراث وما معنى ذلك
قيل قد سئل عنه أبو عبد الله فقال معناه يقع الطلاق عليهن
ويرثن جميعا وقال إسحاق بن منصور قلت لأحمد حديث عمرو بن هرم
ينالهن من الطلاق ما ينالهن من الميراث قال أليس يرثن جميعا قلت بلى قال
وكذلك يقع عليهن الطلاق
وهذا لا يدل على أن ذلك قول أحمد ولا مذهبه وإنما ذكره تفسيرا لا مذهبا
وهذا قد يحتج به مالك ومن قال بقوله في وقوع الطلاق على الجميع
قلت ويحتمل كلامه معنى آخر وهو أن يكون المراد وقوع الطلاق على واحدة منهن
تعين بالقرعة أو بغيرها كما يحرم الميراث واحدة منهن فيكون ما ينالهن من
حكم الطلاق مثل الذي ينالهن من حكم الميراث وهذا إن شاء الله أظهر فإن
لفظه لا يدل على أنهن يرثن جميعا ولا يمكن أن يقال ذلك إلا إذا كان الطلاق
رجعيا أو كان في المرض على أحد الأقوال فكيف يطلق ابن عباس الجميع بطلاق
واحدة ويورث مطلقة بائنة طلقت في الصحة مع زوجات وإذا فسر كلامه بما ذكرنا
لم يكن فيه إشكال والله أعلم
فصل
قال حرب قلت لأحمد رجل له مماليك عدة فقال أحدهم حر ولم يبين قال هذه مسألة مشتبهةقلت قد نص في رواية الجماعة على أنه يخرج بالقرعة نص على ذلك
في رواية الميموني وبكر بن محمد عن أبيه وحنبل والمروذى وأبي
طالب وإسحاق بن إبراهيم ومهنا
وقوله في رواية حرب هذه مسألة مشتبهة توقف منه فيحتمل أن يريد بالاشتباه
أنها مشتبهة الحكم هل تعين باختياره أو بالقرعة ولكن مذهبه المتواتر عنه
أنه يعين بالقرعة
ويحتمل وهو أظهر إن شاء الله أن يريد بالاشتباه أنه يحتمل أن يكون إخبارا
عن كون أحدهم حرا وأن يكون إنشاء للحرية في أحدهم والحكم مختلف فإن قوله
أحدهم حر إن كان إنشاء فهو عتق لغير معين وإن كان إخبارا فهو خبر عن عتق
واحد معين فهذا واجه اشتباهها
وبعد فإن مات ولم يبين مراده أخرج بالقرعة
فصل
قال مهنا سألت أبا عبد الله عن رجل قال أول غلام لي يطلع فهو حر فطلع
غلامان له أو طلع عبيده كلهم قال قد اختلفوا في هذا قلت أخرني ما تقول أنت
فيه قال يقرع بينهم فأيهم خرجت قرعته أعتق
قال وسألت أبا عبد الله عن رجل قال وله أربع نسوة أول امرأة تطلع فهي طالق
فطلعن كلهن قال قد اختلفوا في هذا أيضا قلت
أخبرني فيه بشيء فقال قال بعضهم يقسم بينهن تطليقة قلت أخبرني
فيه بقولك فقال يقرع بينهن فأيتهن خرجت عليها القرعة طلقت
قلت لفظ الأول يراد به ما يتقدم على غيره ويراد به مالا يتقدم عليه غيره
وعلى المعنى الأول لا يكون أولا إلا إذا تبعه غيره وتأخر عنه وعلى المعنى
الثاني يكون أولا وإن لم يتأخر عنه غيره فيصح على هذا أن يقول من لم يتزوج
إلا امرأة واحدة أو لم يولد له إلا ولد واحد هذه أول امراة تزوجتها وهذا
أول مولود ولد لي
وعلى هذا إذا قال أول مولود تلدينه فهو حر فولدت ولدا ثم لم تلد بعده شيئا
عتق ذلك الولد ولو قال أول مملوك أشتريه فهو حر عتق العبد المشترى وإن لم
يشتر بعده غيره وإذا قال أول غلام يطلع لي فهو حر أو أول أمرأة تطلع فهي
طالق فطلع منهم جماعة فكل منهم صالح لأن يكون أول وليس اختصاص أحدهم بذلك
أولى من الآخر فيخرج أحدهم بالقرعة فإنه لو طلع منهم واحد معين لكان هو
الحر والمطلقة فإذا طلع جماعة فالذي يستحق العتق والطلاق منهم واحد وهو
غير معين فيخرج بالقرعة
فإن قيل إذا تساووا في الطلوع لم يكن فيهم أول ولهذا يقال لم يجئ أحدهم
أول من الآخر فلم يوجد الشرط فلا يقع المعلق به وإن كان الجميع قد اشتركوا
في الأولية وجب أن يشتركوا في وقوع العتق والطلاق
قيل إن نوى وقوع العتق والطلاق بالجميع إذا اشتركوا في ذلك وقع
بالجميع وإنما كلامنا فيما إذا نوى وقوع العتق والطلاق في واحد موصوف
بالأولية فإذا اشترك جماعة في الصفة وجب إخراج أحدهم بالقرعة فإن النية
تخصص العام وتقيد المطلق فغاية الأمر أن يقال قد اشترك جماعة في الشرط
ولكنه خصص بنيته واحدا
فإن قيل فما تقولون فيما لو طلق ولم تكن له نية
قيل لو أطلق فإنما يقع العتق والطلاق بواحد لا بالجميع لأنه قال أول غلام
يطلع وأول امرأة تطلع وهذا يقتضي أن يكون فردا من جملة لا مجموع الجملة
فكأنه قال غلام من غلماني وامرأة من نسائي يكون أول مستحق العتق والطلاق
وكل واحد منهم قد اتصف بهذه الصفة وهو إنما أوقع ذلك في واحد فيخرج
بالقرعة
ومن لا يقول بهذا فإما أن يقول يعين بتعيينه وقد تقدم فساد ذلك وأن
التعيين بما جعله الشارع طريقا للتعيين أولى من التعيين بالتشهي والاختيار
وإما أن يقال يعتق الجميع ويطلق وهذا أيضا لا يصح فإنه إنما أوقع العتق
والطلاق في واحد لا في الجميع وكلامه صريح في ذلك
وإما أن يقال لا يعتق واحد ولا تطلق امرأة ولا يصح أيضا لوجود الوصف فإنه
لو انفرد بالطلوع أو انفردت به لوقع المعلق به ومشاركة غيره
لا تخرجه عن الاتصاف بالأولوية فقد اشترك جماعة في الوصف
والمراد واحد منهم فيخرج بالقرعة
فإن قيل فما تقولون فيما لو قال أول من تلدينه فهو حر فولدت اثنين لا يدري
أيهما هو الأول
قيل يقرع بينهما فيما نص عليه في رواية ابن منصور قال يقرع بينهما فمن
أصابته القرعة عتق وهذا نظير أن يطلع أحدهما قبل الآخر ثم يشكل في مسألة
التعليق بالطلوع
فإن قيل فلو ولدتها معا بأن تضع مثل الكيس وفيه ولدان أو أكثر
قيل يخرج أحدهما بالقرعة على قياس قوله في مسألة أول غلام يطلع لي فهو حر
فطلعا معا
قلت في المغنى ويحتمل أن يعتقا جميعا لأن الأولية وجدت فيهما جميعا فثبتت
الحرية فيهما كما لو قال في السابقة من سبق فله عشرة فسبق اثنان اشتركا في
العشرة
وقال إبراهيم النخعى يعتق أيهما شاء
وقال أبو حنيفة لا يعتق واحد منهما لأنه لا أول فيهما لأن كل واحد منهما
مساو للآخر ومن شرط الأولية سبق الأول قال ولنا
أن هذين لم يسبقهما غيرهما فكانا أول كالواحد وليس من شرط سبق
الأول أن يأتي بعده ثان بدليل ما لو ملك واحد ولم يملك بعده شيئا وإذا
كانت الصفة موجودة فيهما فإما أن يعتقا جميعا أو يعتق أحدهما وتعينه
القرعة على ما ذكرنا من قبل قال وكذلك الحكم فيما لو قال أول ولد تلدينه
فهو حر فولدت اثنين وخرجا معا فالحكم فيهما كذلك
فصل
فإن ولدت الأول ميتا والثاني حيا قال في المغني ذكر الشريف أنه يعتق الحي منهما وبه قال أبو حنيفةوقال أبو يوسف ومحمد الشافعي لا يعتق واحد منهما قال وهو الصحيح إن شاء الله لأن شرط العتق إنما وجد في الميت وليس بمحل للعتق فانحلت اليمين به قال وإنما قلنا إن شرط العتق وجد فيه لأنه أول ولد بدليل أنه لو قال لأمته إذا ولدت فأنت حرة فولدت ولدا ميتا عتقت
ووجه الأول أن العتق مستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما لو قال إن ضربت فلانا فعبدي حر فضربه حيا عتق وإن ضربه ميتا لم يعتق ولأنه معلوم من طريق العادة أنه قصد عقد يمينه على ولد يصح العتق فيه وهو أن يكون حيا فتصير الحياة مشروطة فيه وكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر
وقال صاحب المحرر إذا قال إذا ولدت ولدا أو أول ولد تلدينه فهو
حر فولدت ميتا ثم حيا أو قال آخر ولد تلدينه حر فولدت حيا ثم ميتا ثم لم
تلد بعده شيئا فهل يعتق الحي على روايتين وإن قال أول ما تلده أمتى حر
فولدت ولدين وأشكل السابق عتق أحدهما بالقرعة فإن بان للناس أن الذي أعتقه
أخطأته القرعة عتق وهل يرق الآخر على وجهين
قلت مسألة الأول والآخر مبنية على أصلين
أحدهما أنه هل يسقط حكم الميت ويصير وجوده كعدمه لامتناع نفوذ العتق فيه
أو يعتبر حكمه كحكم الحي
الثاني هل من شرط الأول أن يأتي بعده غيره أو يكفي فيه كونه سابقا مبتدءا
به وإن لم يلحقه غيره
وأما مسألة تعليق الحرية على مطلق الولادة ففيها إشكال ظاهر
فإن صورتها إن يقول إذا ولدت ولدا فهو حر فإذا ولدت ميتا ثم حيا فإما أن
نعتبر حكم الميت أو لا نعتبره فإن لم نعتبره عتق الحي لأنه هو المولود إن
اعتبرناه وحكمنا بعتقه فكذلك ينبغي أن يحكم بعتق الحي لوجود الصفة فيه
فإن قيل إذا لا تقتضي التكرار وقد انحلت اليمين بوجود الأول وقد تعلق به
الحكم فلا يعتق الثاني
قيل هذا مأخذ هذا القول لكن قوله إذا ولدت ولدا نكرة في سياق
الشرط فيعم كل ولد وهو قد جعل سبب العتق الولادة فيعم الحكم من وجهين
أحدهما عموم المعنى والسبب والثاني عموم اللفظ بوقوع النكرة عامة
وهذا غير اقتضاء النكرة التكرار بل العموم المستفاد من وقوع النكرة في
سياق الشرط بمنزلة العموم في أي و من في قوله أي ولد ولدته أو من ولدته
فهو حر فهذا لفظ عام وهذا عام فما الفرق بين العمومين
فإن قيل العموم ههنا في نفس أداة الشرط والعموم في قوله إذا ولدت ولدا في
المفعول الذي هو متعلق فعل الشرط لا في أداته
قيل أداة الشرط في من وأي هي نفس المفعول هو الذي متعلق الفعل ولهذا نحكم
على محل من بالنصب على المفعولية ويظهر في أي فالعموم الذي في الأداة لنفس
المفعول المولود وهو بعينه في قوله إذا ولدت ولدا اللهم إلا أن يريد
التخصيص بواحد ولا يريد العموم فيبقى من باب تخصيص العام بالنية
فصل
وقوله في مسألة ما إذا أشكل السابق إنه بان أن الذي أعتقه أخطأته القرعة
عتق أي حكم بعتقه من حين مباشرته لا أنه ينشئ فيه العتق من حين الذكر فإن
عتقه مستند إلى سببه وهو سابق على الذكر
وقوله هل يرق الآخر على وجهين مأخذهما أن القرعة كاشفة أو منشئة
فإن قيل إنها منشئة للعتق لم يرتفع بعد إنشائه العتق عنه وإن قيل إنها
كاشفة رق الآخر لأنا تبينا خطأها في الكشف ولا يلزم من إعمالها عند
استبهام الأمر وخفائه إعمالها عند تبينه وظهوره يوضحه أن التبين والظهور
لو كان في أول الأمر اختص العتق بمن يؤثر به فكذلك في أثناء الحال
وسر المسألة أن استمرار حكم القرعة مشروط باستمرار الإشكال فإذا زال
الإشكال زال شرط استمرارها وهذا أقيس
لكن يقال قد حكم بعتقه بالطريق التي نصبها الشارع طريقا إلى العتق وإن جاز
أن يخطئ في نفس الأمر فقد أعتق بأمر حكم الشارع أن يعتق به فكيف يرتفع
عتقه
وعلى هذا فلا يبعد أن يقال باستمرار عتقه وأن من أخطأته القرعة
يبقى على رقه لأن مباشرته بالعتق قد زال حكمها بالنسيان والجهل والقرعة
نسخت حكم المباشرة وأبطلته حتى كأنه لم يكن وانتقل الحكم إلى القرعة فلا
يجوز إبطاله فهذا لا يبعد أن يقال والله أعلم
فصل
قال الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يكون له امرأتان وهو يريد أن يخرج بإحداهما قال يقرع بينهما فتخرج إحداهما بالقرعة أو تخرج إحداهما برضا الأخرى ولا يريد القرعة قال إذا خرج بها فقد رضيت وإلا أقرع بينهماهذا يدل على أن الإقراع بينهما إنما هو عند التشاح فأما إذا رضيت إحداهما بخروج ضرتها فله أن يخرج بها من غير قرعة وإن كرهت وقالت لا أخرج إلا بقرعة فليس لها ذلك ويخرج بها بغير رضاها فإنه يملك الخروج بها وإنما وقف الأمر على القرعة عند مشاحة الضرة لها
فصل
قال حرب سألت أحمد عن القرعة في الشراء والبيع قلت القوم يشترون الشيء فيقترعون عليه قال لا بأس وكذلك قال في رواية ابن بختان
ومعنى هذا أنهم يشترون الشيء ثم يجزئونه أجزاء ويقترعون على تلك
الأنصباء فمن خرج له نصيب أخذه
فصل
قال أبو داود رأيت رجلين تشاحا في الأذان عند أحمد فقال يجتمع أهل المسجد فينظر من يختارون فقال لا ولكن يقترعان فمن اصابته القرعة أذن كذلك فعل سعد بن أبي وقاصقلت وهذا صريح في أن التقديم بالقرعة مقدم على التقديم بتعيين الجيران
فإن قيل فهل تقولون في الإمامة مثل ذلك
قيل لا بل يقدم فيها من يختار الجيران فإن القرعة تصيب من يكرهونه ويركه أن يؤم قوما أكثرهم له كارهون
قال أبو طالب نازعنى ابن عمي في الأذان فتحاكمنا إلى ابي عبد الله رحمه الله فقال إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم تشاحوا في الأذان يوم القادسية فأقرع بينهم سعد رضي الله عنه فأنا أذهب إلى القرعة أقرعا
قلت وفي المسألة قول آخر وهو أن تقسم نوب الأذان بينهم
قال الخلال أخبرنا الحسن بن عبد الوهاب قال وجدت في كتابي
عن طلق بن عمار عن قيس بن الربيع عن عاصم بن سليمان عن أبي
عثمان النهدي عن ابن عمر أن نفرا ثلاثة اختصموا إليه في الأذان فقضى
لأحدهم بالفجر وقضى للثاني بالظهر والعصر وقضى للثالث بالمغرب والعشاء
فصل
قال مهنا سألت أحمد عن رجل تزوج امرأة على عبد من عبيده فقال جائز فقلت له
عشرة أعبد فقال أعطيها من أحسنهم فقال أبو عبد الله ليس له ذلك ولكن
يعطيها من أوسطهم فقلت له ترى أن يقرع بينهم فقال نعم فقلت تستقيم القرعة
في هذا فقال نعم يقرع بين العبيد
قلت ههنا ثلاث مسائل إحداها أن يوصى له بعبد من عبيده الثانية أن يعتق
عبدا من عبيدة الثالثة أن يصدقها عبدا من عبيده
ففي الوصية يعطيه الورثة ما شاءوا لأنه فوض الأمر إليهم وجعل الاختيار لهم
في التعيين
وفي مسألة العتق يخرج أحدهم بالقرعة
وفي مسألة المهر روايتان إحداهما يعطى الوسط والثانية يعطى واحدا بالقرعة
وإن أوصى أن يعتق عنه عبد من عبيده فقال أحمد في رواية ابن
منصور في رجل أوصى فقال أعتقوا أحد عبدي هذين يعتق أحدهما ولكن
إن تشاحا في العتق يقرع بينهما
فصل
قال أبو النضر سألت أبا عبد الله عن عبد في يد رجل لا يدعيه أقام الرجل
البينة أن فلانا باع هذا العبد مني بكذا وكذا وهو يملكه وأقام الآخر
البينة على أن فلانا تصدق بهذا العبد علي وهو يملكه وأقام الآخر البينة
على أن فلانا وهب هذا العبد لي وهو يملكه ولم يوقتوا وقتا والبينة عدول
كلهم
قال أرى البينة ههنا تكاذبت يكذب شهود كل رجل شهود الآخر فأجعله في أيديهم
ثم أقرع بينهم فمن وقع له العبد أخذه وحلف
قلت تحلفه بالله لقد باعني هذا العبد وهو يملكه أو أن هذا العبد لي
قال هو واحد إن شاء الله
قلت إلى أي شيء ذهبت في هذا
قال إلى حديث أبي هريرة حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن همام حدثنا أبو
هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا أكره الرجلان
على اليمين أو استحباها فليستهما عليها
قلت هذه هي المسألة التي ذكرها الخرقى في مختصره قال ولو كانت الدابة
في يد غيرهما واعترف أنه لا يملكها وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا
أقرع بينهما فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه
قال في المغنى إذا أنكرهما من الدابة في يده فالقول قوله مع يمينه بغير
خلاف وإن اعترف أنه لا يملكها وقال لا أعرف صاحبها عينا أو قال هي لأحدهما
كما لا أعرفه عينا أقرع بينهما
فمن قرع صاحبه حلف أنها له وسلمت إليه لما روى أبو هريرة أن رجلين تداعيا
عينا لم يكن لواحد منهما بينة فأمرهما النبي صلى الله عليه و سلم أن
يستهما على اليمين أحبا أم كرها رواه أبو داود ولأنهما تساويا في الدعوى
ولا بينة لواحد منهما ولا يد والقرعة تميز عند التساوي كما لو أعتق عبيدا
لا مال له غيرهم في مرض موته
وأما إن كانت لأحدهما بينة فإنه يحكم له بغير خلاف وإن كانت لكل واحد
منهما بينة فعنه روايتان ذكرهما أبو الخطاب إحداهما تسقط البينتان ويقرع
بينهما كما لو لم تكن بينة
وهذا الذي ذكره القاضي هو ظاهر كلام الخرقى لأنه ذكر القرعة ولم يفرق بين
أن يكون معهما بينة أو لم يكن
وروى هذا عن ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهما وهو قول إسحاق وأبي عبيد
وهو رواية عن مالك وقديم قولي الشافعي وذلك لما روى
ابن المسيب أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
في أمر وجاء كل واحد منهما بشهود عدول على عدة واحدة فأسهم النبي صلى الله
عليه و سلم بينهما رواه الشافعي في مسنده ولأن البينتين حجتان تعارضتا من
غير ترجيح لأحدهما على الأخرى فسقطتا كالخبرين
والرواية الثانية تستعمل البينتان وفي كيفية استعمالهما روايتان
إحداهما تقسم العين بينهما وهو قول الحارث العكلى وقتادة وابن شبرمة وحماد
وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لما روى أبو موسى أن رجلين اختصما إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم في بعير وأقام كل واحد منهما البينة أنها له
فقضى رسول الله صلى الله عليه و سلم بينهما نصفين ولأنهما تساويا دعواهما
فتساويا في قسمته
والرواية الثانية تقدم إحداهما بالقرعة وهو قول للشافعي
وله قول رابع يوقف الأمر حتى يتبين وهو قول أبي ثور لأنه اشتبه الأمر فوجب
التوقف كالحاكم إذا لم يتضح له الحكم في قضية
ولنا الخبران وإن تعارض الحجتين لا يوجب التوقف كالخبرين بل إذا تعذر
الترجيح أسقطناهما ورجعنا إلى دليل غيرهما
قلت قال الشافعي في كتابه هذه المسألة فيها قولان أحدهما يقرع بينهما
فأيهما خرج سهمه حلف لقد شهد شهوده بحق ثم يقضى له وكان
ابن المسيب يرى ذلك ويرويه عن النبي صلى الله عليه و سلم
والكوفيون يروونه عن علي رضي الله عنه وحديث سعيد بن المسيب اختصم رجلان
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في أمر فجاء كل واحد منهما بشهداء عدول
على عدة واحدة فأسهم بينهما رسول الله صلى الله عليه و سلم وقال اللهم أنت
تقضي بينهما فقضى للذي خرج له السهم رواه أبو داود في المراسيل ويقويه ما
رواه ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة وسليمان بن يسار أن رجلين اختصما
إلى النبي صلى الله عليه و سلم فأتى كل واحد منهما بشهود وكانوا سواء
فأسهم بينهما رسول الله صلى الله عليه و سلم فهذا مرسل قد روى من وجهين
مختلفين وهو من مراسيل ابن المسيب وتشهد له الأصول التي ذكرناها في القرعة
والمصير إليه متعين
وأما ما أشار إليه عن علي فهو ما رواه أبو عوانة عن سماك عن الحسن قال أتى
علي ببغل يباع في السوق فقال رجل هذا بغلي لم أبع ولم أهب ونزع على ما قال
بخمسة يشهدون وجاء آخر يدعيه وزعم أنه بغله وجاء بشاهدين فقال علي إن فيه
قضاء وصلحا أما الصلح فيباع البغل فيقسم على سبعة أسهم لهذا خمسة ولهذا
اثنان فإن أبيتم إلا القضاء بالحق فإنه يحلف أحد الخصمين أنه بغله ما باعه
ولا وهبه فإن تشاححتما أيكما يحلف أقرعت بينكما على الحلف فأيكما قرع حلف
فقضى بهذا وأتى بشاهد رواه البيهقى
فرأى الصلح بينهم على قسمة الثمن على عدد الشهود للفصل بينهما
بالقرعة
ويشهد له ما رواه البيهقي من حديث أبان عن قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن
أبي هريرة قال إذا جاء هذا بشاهد وهذا بشاهد أقرع بينهم عن النبي صلى الله
عليه و سلم
ويشهد له أيضا ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث ابن عروبة عن
قتادة عن خلاس عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم في
رجلين اختصما إليه في متاع ليس لواحد منهما بينة فقال استهما على اليمين
قال الشافعي والقول الآخر أنه يقسم بينهما نصفين لتساوي حجتهما
قلت ويشهد لهذا ما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث هدبة حدثنا
همام عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى أن رجلين ادعيا
بعيرا فبعث كل منهما شاهدين فقسمه رسول الله صلى الله أبي عليه وسلم
بينهما ولكن للحديث علل
منها أن هماما قال عن قتادة فبعث كل منهما شاهدين
وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى
أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم
في بعير ليس لواحد منهما بينة فقضى به رسول الله صلى الله عليه
و سلم بينهما نصفين
وهكذا رواه يزيد بن زريع ومحمد بن بكر وعبد الرحيم بن سليمان عن سعيد
وكذلك روى عن سعيد بن بشر عن قتادة
وقد رواه أيضا همام عن قتادة كذلك فهذان وجهان عن همام في إرساله واتصاله
والمشهور عنه اتصاله وشذ عنه عبد الصمد فأرسله فهذان أيضا وجهان عن همام
في إرساله واتصاله
ورواه شعبة فأرسله قال أحمد في مسنده حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن
قتادة عن سعيد عن أبيه أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه و سلم في
دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين وكأن رواية شعبة أنه ليس
لواحد منهما أولى بالصواب لأن سعيد بن أبي عروبة قد تابعه عن قتادة على
هذا اللفظ رواه عنه روح وسعيد بن عامر ويزيد بن زريع وغيرهم
وكذلك رواه سعيد بن بشر عن قتادة فهؤلاء ثلاثة حفاظ أحدهم أمير المؤمنين
في الحديث شعبة وسعيد بن أبي عروبة وسعيد بن بشر اتفقوا عن قتادة في أنه
ليس لواحد منهما بينة
فقد اضطرب حديث أبو موسى كما ترى
أما حديث أبي هريرة فلم يختلف فيه كما تقدم
والذي دلت عليه السنة أن المدعيين إذا كانت أيديهما عليه سواء أو تساوت
بينتاهما قسم بينهما نصفين كما في حديث سماك عن تميم بن طرفة أن رجلين
اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في بعير كل واحد منهما آخذ
برأسه فجاء كل واحد منهما بشاهدين فجعله بينهما نصفين
وقال أبو عوانة عن سماك عن تميم بن طرفة أنبئت أن رجلين اختصما إلى النبي
صلى الله عليه و سلم في بعير ونزع كل واحد منهما بشاهدين فجعله بينهما
نصفين وهذا هو بعينه حديث أبي بردة عن أبي موسى
قال الترمذى في كتاب العلل سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث سعيد بن
أبي بردة عن أبيه في هذا الباب فقال مرجع هذا الحديث إلى سماك بن حرب عن
تميم
قال البخاري وروى حماد بن سلمة أن سماكا قال أنا حدثت أبا بردة بهذا
الحديث
قال البيهقى وإرسال شعبة له عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه في
رواية غندر كالدلالة على ذلك
قلت لكن في حديث شعبة ليس لواحد منهما بينة وفي حديث سماك أن كل
واحد منهما نزع بشاهدين وفي لفظ فجاء كل واحد منهما بشاهدين
وقد بينا في رواية شعبة كأنها أولى بالصواب لما قدمنا من الأدلة على ذلك
قال البيهقى ويبعد أن يكونا قضيتين فلعله لما تعارضت البينتان وسقطتا قيل
ليس لواحد منهما بينة وقسمت بينهما بحكم اليد
وقال الشافعي تميم مجهول وسعيد بن المسيب يروى عن النبي صلى الله عليه و
سلم ما وصفنا يعنى أنه أقرع بينهما كما تقدم حديثه قال وسعيد قال
والحديثان إذا اختلفا فالحجة في أقوى الحديثين وسعيد من أصح الناس مرسلا
والقرعة أشبه هذا قوله في القديم
ثم قال في الجديد هذا مما أستخير الله فيه وأنا فيه واقف ثم قال لا يعطى
واحد منهما شيئا ويقف حتى يصطلحا
قلت وقوله في القديم أصح وأولى لما تقدم من قوة القرعة وأدلتها وأن في وقف
المال حتى يصطلحا تأخير الخصومة وتعطيل المال وتعريضه للتلف
ولكثرة الورثة فالقرعة أولى الطرق للسلوك وأقربها إلى فصل
النزاع وما احتج به الشافعي في القديم على صحتها من أصح الأدلة
ولهذا قال هي أشبه
وبالجملة فمن تأمل ما ذكرنا في القرعة تبين له أن القول بها أولى من وقف
المال أبدا حتى يصطلح المدعون وبالله التوفيق
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين
وإمام المرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين