الكتاب : الرسالة القشيرية
المؤلف : القشيري
الجزء الأول
مقدمة المؤلفبسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تفرد بجلال ملكوته، وتوحد بجمال جبروته وتعزز بعلو أحديته، وتقدس بسمو صمديته، وتكبر في ذاته عن مضارعة كل نظير، وتنزه في صفائه عن كل تناه وقصور، له الصفات المختصة بحقه، واليات الناطقة بأنه غير مشبه بخلقه.
فسبحانه من عزيز، لا حد يناله، ولا عد يحتاله، ولا أمد يحصره، ولا أحد ينصره، ولا ولد يشفعه، ولا عدد يجمع، ولا مكان يمسكه، ولا زمان يدركه، ولا فهم يقدره، ولا وهم يصوره.
تعالى عن أن يقال: كيف هو؟ أو أين هو؟ أو اكتسب بصنعه الزين، أو دفع بفعله النقص والشين؛ إذ ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ولا يغلبه حي، وهو الخبير القدير.
أحمده على ما يولى ويصنع، وأشكره على ما يزوى ويدفع، وأتوكل عليه وأقنع، وأرضى بما يعطي ويمنع.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة موقن بتوحيده، مستجير بحسن تأييده.
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده المصطفى، وأمينه المجتبي ورسوله المبعوث إلى كافة الورى صلى الله عليه وعلى آله مصابيح الدجى، وعلى أصحابه مفاتيح الهدى، وسمل تسليماً كثيراً.
هذه رسالة كتبها الفقير إلى الله تعالى عبد الكريم بن هوازن القشيري، إلى جماعة الصوفية ببلدان الإسلام، في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
أما بعد: رضي الله عنكم فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه، وفضلهم على الكافة من عباده، بعد رسله وأنبيائه، صلوات الله وسلامه عليهم، وجعل قلوبهم معادن أسراره، واختصهم من بين الأمة بطوالع أنواره.
فهم الغياث للخلق، والدائرون في عموم أحوالهم مع الحق بالحق.
صفاهم من كدورات البشرية، ورقاهم إلى محال المشاهدات بما تجلى لهم من حقائق الأحدية. ووفقهم للقيام بآداب العبودية، وأشهد مجارى أحكام الربوبية.
فقاموا بأداء ما عليهم من واجبات تكليف، وتحققوا بما منه سبحانه لهم من التقليب والتصريف.
ثم رجعوا إلى الله، سبحانه وتعالى، بصدق الافتقار، ونعت الانكسار، ولم يتكلوا على ما حصل منهم من الأعمال، أو صفا لهم من الأحوال. علماً منهم بأنه جل وعلا يفعل ما يريد، ويختار من يشاء من العبيد. لا يحكم عليه خلق. ولا يتوجه عليه مخلوق حق، ثوابه: إبتداء فضل. وعذابه: حكم بعدل. وأمره قضاء فصل. ثم اعلموا، رحمكم الله، أن المحققين من هذه الطائفة انقرض أكثرهم ولم يبق في زماننا من هذه الطائفة إلا أثرهم، كما قيل:
أما الخيام فإنها كخيامهم ... وأرى نساء الحي غير نسائها
حصلت الفترة في هذه الطريقة..، لا، بل إندرست الطريقة بالحقيقة: مضى الشيوخ الذين كان بهم اهتداء، وقل الشباب الذين كان لهم بسيرتهم وسنتهم اقتداء، وزال الورع وطوى بساطه، واشتد الطمع وقوى رباطه.
وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام. ودانوا بترك الإحترام.
وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات وركنوا إلى انباع الشهوات، وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة، والنسوان، وأصحاب السلطان.
ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال، حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحروا من رق الأغلال وتحققوا بحقائق الوصال وأنهم قائمون بالحق، تجري عليهم أحكامه، وهم محو، وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا لوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكامه للبشرية. وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا، بل صرفوا.
ولما طال الابتلاء فيما نحن ف يه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار، غبرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء، أو بجد مخالف لثلبهم مساغاً، إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين لعيها شديدة.
ولما كنت أؤمل من مادة هذه الفترة أن تنحسم، ولعل الله سبحانه يجود بلطفه في التنيه لمن حاد عن السنة المثلى في تضييع آداب هذه الطريقة.
ولما أبى الوقت إلا استصعاباً. وأكثر أهل العصر بهذه الديار إلا تمادياً فيما اعتادوه واغتراراً بما ارتادوه.
أشفقت على القلوب أن تحسب أن هذا الأمر على هذه الجملة بنى قواعده. وعلى هذا النحو سار سلفه.
فعلقت
هذه الرسالة إليكم، أكرمكم الله. وذكرت فيها بعض سير شيوخ هذه الطريقة في
آدابهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، وعقائدهم بقلوبهم، وما أشاروا إليه من
مواجيدهم، وكيفية ترقيهم من بدايتهم إلى نهايتهم؛ لتكون لمريدي هذه
الطريقة قوة، ومنكم لي بتصحيح شهادة، ولي في نشر هذه الشكوى سلوة، ومن
الكريم فضلاً ومثوبة وأستعين بالله سبحانه فيما أذكره؛ وأستكفيه؛ وأستعصمه
من الخط فيه، وأستغفره وأستعينه. وهو بالفضل جدير، وعلى ما يشاء قدير.
الفصل الأول
بيان اعتقاد هذه الطائفة في مسائل الأصول
إعلموا، رحمكم الله، أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم. وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم.
ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد، رحمه الله: " التوحيد إفراد للقدم من الحدث " .
وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل، ولائح الشواهد.
كما قال أبو محمد الجريري، رحمه الله: " أن لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف " يريد بذلك: أن من ركن إلى التقليد، ولم يتأمل دلائل الوحيد؛ سقط عن سنن النجاة؛ ووقع في أسر الهلاك.
ومن تأمل ألفاظهم، وتصفح كلامهم، وجد في مجموع أقويلهم ومتفرقاتها ما يثق - بتأمله - بأن القوم لم يقصروا في التحقيق عن شأو، ولم يعرجوا في الطلب على تقصير.
ونحن نذكر في هذا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول.
ثم نحرر على الترتيب بعدها ما يشتمل على ما يحتاج إليه في الاعتقاد، على وجه الإيجاز والاختصار، إن شاء الله تعالى.
معرفة الله
سمعت: الشيخ أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين السمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن موسى السلامي يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: " الواحد: المعروف قبل الحدود وقبل الحروف " وهذا صريح من الشبلي أن القديم - سبحانه - لا حدَّ لذاته، ولا حروف لكلامه.
سمعت أبا حاتم الصوفي، يقول: سمعت أبا نصر الطوسي يقول: سئل رُويم عن أول فرض افترضه الله عزَّ وجلَّ على خلقه ما هو؟ فقال: المعرفة؛ لقوله جلَّ ذكره: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " . قال ابن عباس: إلا ليعرفون.
وقال الجنيد: إن أول ما يحتاج إليه العبد من الحكمة: معرفة المصنوع صانعه، و المحدث كيف كان إحداثه، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، و صفة القديم من المحدث، ويذل لدعوته، ويعترف بوجوب طاعته؛ فإن من لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه.
أخبرنى محمد بن الحسين، قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازى يقول: سمعت أبا الطيب المراغى يقول: للعقل دلالة، و للحكمة إشارة، وللمعرفة شهادة؛ فالعقل يدل. والحكمة تشير. والمعرفة تشهد: أن صفاء العبادات لاينال بصفاء التوحيد.
وسئل الجنيد عن الوحيد، فقال: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته: أنه الواحد، الذي لم يلد، ولم يولد. بنفي الأضداد، والأنداد، والأشباه، بلا تشبيه. ولا تكييف، ولا تصوير ولا تمثيل " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير " .
أخبرنا محمد بن يحيى الصوفي، قال: أخبرنا عبد الله بن علي التميمي الوصفي، يحكى عن الحسين بن علي الدامغاني، قال: سئل أبو بكر الزاهر اباذي عن المعرفة، فقال: المعرفة: اسم، ومعناه وجود تعظيم في القلب يمنعك عن التعطيل والتشبيه.
صفاته
وقال أبو الحسن البوشنجي، رحمه الله، التوحيد: أن تعلم أنه غير مشبه للذوات، ولا منفيٍّ الصفات.
أخبرنا
الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: سمعت محمد بن محمد بن
غالب. قال: سمعت أبا نصر أحمد بن سعيد الأسفنجاني يقول، قال: الحسين بن
منصور: ألزِم الكلَّ الحدث، لأنَّ القدم له. فالذي بالجسم ظهوره فالعرَض
يلزمه، والذي بالأداة اجتماعه فقواها تمسكه والذي يؤلِّفه وقت يفرقه وقت،
والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه. والذي الوهم يظفر به فالتصوير يرتقي
إليه؛ ومن آواه محل أدركه أين، ومن كان له جنس طالبه مكيِّف.
إنه
سبحانه لا يظله فوق، ولا يقله تحت، ولا يقابله حد ولا يزاحمه عند، ولا
يأخذه خلْف، ولا يحدُّه أمام، ولم يظهره قبل ولم يفنه بعد. ولم يجمعه كلُّ
ولم يوجده كان، ولم يفقده ليس.
وصفه: لا صفة له. وفعله: لا علة له؛
وكونه: لا أمد له تنزَّه عن أ؛وال خلقه. ليس له من خلقه مزاج، ولا في فعله
علاج بانيهم بقدمه، كما باينوه بحدوثهم.
إن قلت: متى، فقد سبق الوقتّ كونه. وإن قلت: هو، فالهاء والواو خلْقه. وإن قلت: أي، فقد تقدَّم المكانّ وجوده.
فالحروف
آياته. ووجوده إثباته ومعرفته توحيده. وتوحيده تمييزه من خلقه. ما تُصوِّر
في الأوهام فهو بخلافه، كيف يحلُّ به ما منه بدأه؟ أو يعود إليه ما هو
أنشأه؟ لا نماقة العيون، ولا تقابله الظنون. قربه كرامته، وبُعده إهانته،
علوُّه من غير توقُّل ومجيئه من غير تنقُّل.
هو: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، القريب البعيد، الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
سمعت
أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الطوسيِّ السرَّاجي يحكى عن يوسف
بن الحسين، قال: قام رجل بين يدي ذي النون المصري، فقال: أخبرني عن
التوحيد: ما هو؟ فقال هو: أن تعلم قدرة الله تعالى في الأشياء بلا مزاج،
وصنعه للأشياء بلا علاج، وعلَّة كل شيء صنعه، ولا علَّة لصنعه. وليس في
السموات العلا، ولا في الأرضين السفلى مدبِّر غير الله، وكل ما تصوّر في
وهمك فالله بخلاف ذلك.
وقال الجنيد: التوحيد: علمك وإقرارك بأن الله فرد في أزليته الثاني معه ولا شيء يفعل فعله.
الإيمان
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الإيمان: تصديق القلوب بما أعلمه الحق من الغيوب.
وقال أبو العباس السياري: عطاؤه على نوعين: كرامة، واستدراج من الغيوب.
وقال أبو العباس السياري: عطاؤه على نوعين: كرامة، واستدراج. فما أبقاه عليه فهو كرامة، وما أزاله عنك فهو استدراج، فقل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى. وأبو العباس السياري كان شيخ وقته.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، رحمه الله، يقول: غمزّ رَجلٌ رِجل أبي العباس السياري: فقال: تغمز رِجلا ما نَقلتها قط في معصية الله عزَّ وجلَّ!! وقال أبو بكر الواسطي: من قال " أنا مؤمن بالله حقاً " قيل له: الحقيقة تشير إلى إشراف، وإطلاع، وإحاطة، فمن فقده بطل دعواه فيها.
يريد بذلك ما قاله أهل السنَّة: إن المؤمن الحقيقي: من كان محكوما له بالجنة فمن لم يعلم ذلك من سرِّ حكمة الله تعالى، فدعواه: بأنه مؤمن حقاً غير صحيحة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسن العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: ينظر إليه، تعالى، المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وقال أبو الحسين النوري: شاهد الحقُّ القلوبَ، فلم ير قلباً أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فأكرمه بالمعراج، تعجيلاً للرؤية والمكالمة.
سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت محمد بن المحبوب - خادم أبي عثمان المغربي - قول: قال لي أبو عثمان المغربي يوماً: يا محمد، لو قال لك أحد: أين معبودك؟ إيش تقول؟ قال: قلت: أقول حيث لم يزل.
قال: فإن قال: أين كان في الأزل؟ إبش تقول؟ قال: قلت: أقول حيث هو الآن، يعني: أنه كما كان ولا مكان فهو الآن كما كان.قال: فارتضى مني ذلك، ونزع قميصه وأعطانيه.
سمعت الإمام أبا بكر بن فورك، رحمه الله تعالى، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي، يقول: كنت أعتقد شيئاً من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلي أصحابنا بمكة: أنى أسلمت الآن إسلاماً جديداً.
سمعت محمد بن
الحسين السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول، وقد سئل عن
الخلق، فقال: قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة.
الأرزاق
وقال الواسطي: لما كان الأرواح والأجساد قامتا بالله، وظهرتا به لا بذواتها، كذلك قامت الخطرات والحركات بالله لابذواتها، إذ الحركات والخطرات فروع الأجساد والأرواح. صرَّح بهذا الكلام أن أكساب العباد مخالوقة لله تعالى، وكما أنه لا خالف للجواهر إلا الله تعالى، فكذلك لا خالق للأَعراض إلا الله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: من ظنَّ أنه ببذل الجهد يصل إلى مطلوبه فمتَنٍ، ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمنٍ.
وقال الواسطني: المقامات أقسام قُسِّمت، ونعوت أجريت، كيف تُستجلب بحركات، أو تنال بسعايات؟.
الكفر
وسئل الواسطي عن الكفر بالله أو الله، فقال: الكفر والإيمان، والدنيا الآخرة: من الله، وإلى الله، وبالله، ولله: من الله إبتداء وإنشاء، وإلى الله مرجعاً وانتهاء، وبالله بقاء وفناء، ولله ملكا وخلقاً.
وقال الجنيد: سئل بعض العلماء عن التوحيد، فقال: هو اليقين.
فقال السائل: بّين لي ما هو؟ فقال: هو: معرفتك،أن حركات الخلق وسكونهم، فعل الله عزَّ وجلَّ، وحده، لا شريك له فإذا فعلت ذلك فقد وحَّدته.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت عبد الواحد بن علي، يقول: سمعت القساسم بن القاسم يقول: سمعت محمد بن موسى الواسطي يقول: سمعت محمد بن الحسين الجوهري يقول: سمعت ذا النون المصري يقول، وقد جاءه رجل فقال: ادع الله لي فقال.
إن كنت قد أُيدت في علم الغيب بصدق التوحيد، فكم من دعوة مجابة قد سبقت لك، وإلا فإن النداء لا يُنقذ الغرقي.
وقال الواسطي: ادَّعى فرعون الربوبية على الكشف، وادَّعت المعتزلة على الستر، نقول: ماشئت فعلت.
وقال أبو الحسين النوري: التوحيد: كلُّ خاطر يشير إلى الله تعالى، بعد أن لا نزاحمه خواطر التشبيه.
وأخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله تعالى، قال: سمعت عبد الواحد بن بكر، يقول: سمعت هلال بن أحمد يقول: سئل أبو علي الروذباري عن التوحيد، فقال: التوحيد: إستقامة القلب بإثبات مفارقة التعطيل، وإنكار التشبيه، والتوحيد في كلمة واحدة: كل ما صوَّره الأوهام والأفكار فالله سبحانه بخلافه، لقوله تعالى: " ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير " .
وقال أبو القاسم النصراباذي: الجنة باقية بإبقائه. وذكرُه لك، ورحمته، ومحبته لك باق ببقائه. فشتان بين ما هو باق ببقائه، وبين ما هو باقٍ بإبقائه.
رحم الذي قاله الشيخ أبو القاسم النصراباذي، هو غاية في التحقيق؛ فإن أهل الحق قالوا صفات ذات القديم سبحانه: باقيات ببقائه تعالى. فنبه على هذه المسألة وبين أن الباقي باقٍ ببقائه. بخلاف ما قاله مخالفو أهل الحق فخالفوا الحق.
أخبرنا محمد بن الحسين؛ قال: سمعت النصراباذي يقول: أنت متردد بين صفات الفعل وصفات الذات، وكلاهما صفته تعالى،على الحقيقة، فإذا هيمَّك في مقام التفرقة قرّنك بصفات فعله، وإذا بلَّغك إلى مقام الجمع قرنك بصفات ذاته. وأبو القاسم النصراباذي كان شيخ وقته.
سمعت الإمام أبا اسحق الاسفرايني، رحمه الله، يقول: لما قدمت من بغداد كنت أدرس في جامع نيسابور مسألة الروح، وأشرح القول في أنها مخلوقة، وكان أبو القاسم النصراباذي قاعداً متباعداً عنا؛ يصغي إلى كلامي، فاجتاز بنا بعد ذلك يوماً - بأيام قلائل، فقال لمحمد الفراء: أشهد أني أسلمت جديداً على يد هذا الرجل، وأشار إليَّ.
سمعت محمد بن الحسين السلمي، يقول: سمعت أبا حسين الفارسي يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول: متى يتصل من لا شبيه له ولا نظير له بمن له شبيه ونظير؟! هيهات، هذا ظن عجيب إلا بما لطف اللطيف من حيث لا درك، ولا وهّم، ولا إحاطة إلا إشارة اليقين وتحقيق الإيمان.
أخبرنا محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، قال: سمعت عبد الواحد ابن بكر يقول: حدثني أحمد بن محمد بن علي البرعي، قال: حدثنا طاهر بن إسماعيل الرازي، قال: قيل ليحيى بن معاذ: أخبرني عن الله عزَّ وجلَّ.
فقال: اله واحد.
فقيل له: كيف هو؟ فقال: ملك قادر.
فقيل: أين هو؟ فقال: هو بالمرصاد.
فقال
السائل: لم أسألك عن هذا!! فقال السائل: لم أسألك عن هذا!! فقال: ما كان
غير هذا كان صفةَ المخلوق. فأما صفته فما أخبرتك عنه وأخبرنا محمد بن
الحسين، قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: كل
ما توهمه متوهم بالجهل أنه كذلك، فالعقل يدل على أنه بخلافه.
وسأل ابن شاهين الجنيدَ عن معنى: مع.
فقال مع، على معنيين: مع الأنبياء بالنصرة والكلاءة، قال الله تعالى: " إنني معكما أسمع وأرى " .
ومع العامة بالعلم والإحاطة، قال تعالى: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " .
فقال ابن شاهين: مثلك يصلح أن يكون دالاَّ للأمة على الله.
العرش
وسئل ذو النون المصري عن قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " .
فقال: أثبتّ ذاته ونفى مكانه، فهو موجود بذاته، والأشياء موجودة بحكمه، كما شاء سبحانه.
وسئل الشبلي عن قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " . فقال: الرحمن لم يزل، والعرش محدث والعرش بالرحمن استوى. وسئل جعفر بن نصير عن قوله تعالى: " الرحمن على العرش استوى " فقال: استوى علمه بكل شيء فليس شيء اقرب إليه من شيء وقال جعفر الصادق: من زعم أن الله في شيء، أو من شيء، أو على شيء، فقد أشرك؛ إذ لو كان على شيء لكان محمولا، ولو كان في شيء لكان محصوراً، ولو كان من شيء لكان محدثاً.
وقال جعفر الصادق أيضاً في قوله:ثم دنا فتدلّى: من توهم أنه بنفسه دنا جعل ثّمَّ مسافة، إنما التدني أنه كلما قرب منه بَعَّده عن أنواع المعارف إذ لا دنوَّ ولا بُعد.
ورأيت بخط الأستاذ أبي عليٍّ أنه قيل لصوفيِّ: أين الله؟ فقال: أسحقك الله!! تطلب مع العين أين؟! أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: سمعت أبا العباس ابن الخشاب البغداي يقول: سمعت أبا القاسم بن موسى يقول: سمعت محمد بن أحمد يقول: سمعت الأنصاري يقول: سمعت الخراز يقول: حقيقة القرب: فقد حِسِّ الأشياء من القلب وهدوء الضمير إلى الله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن علي الحافظ يقول: سمعت أبا معاذ القزويني يقول: سمعت أبا عليٍّ الدلال يقول: سمعت أبا عبد الله بن قهرمان يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: إنتهيت إلى رجل، وقد صرعه الشيطان، فجعلت أؤذن في أذنه، فناداني الشيطان من جوفه: عني أقتله؛ فإنه يقول القرآن مخلوق.
وقال ابن عطاء: إن الله تعالى لما خلق الأحرف جعلها سراً له، فلما خلق آدم عليه السلام بث فيه ذلك السر، ولم يبث ذلك السر في أحد من ملائكته، فجرت الأحرف على لسان آدم عليه السلام بفنون الجريان وفنون اللغات، فجعلها الله صوراً لها صرح ابن عطاء القول بأن الحروف مخلوقة.
وقال سهل بن عبد الله: إن الحروف لسان فعل، لا لسان ذاته؛ لأنها فعل في مفعول.
قال: وهذا أيضاً تصريح بأن الحروف مخلوقة.
وقال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين: التوكل عمل القلب، والوحيد قول القلب، قال: هذا قول أهل الأصول، إن الكلام: هو المعنى الذي قام بالقلب من معنى الأمر والنهي، والخبر، والاستخبار.
قوال الجنيد في جوابات مسائل الشاميين أيضاً: تفرد الحق بعلم الغيوب، فعلم ما كان، وما يكون، ومالا يكون: أن لو كان كيف كان يكون.
وقال الحسين بن منصور: من عرف الحقيقة في التوحيد سقط عنه: لِمَ وكيف.
أخبرنا محمد بن الحسين، قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: قال الجنيد: أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان الوحيد.
وقال الواسطي: ما احدث الله شيئاً أكرم من الروح. صرَّح بأن الروح مخلوقة.
قال الأستاذ الإمام زين الإسلام أبو القاسم، رحمه الله: دلَّت هذه الحكايات على أن عقائد مشايخ الصوفية توافق أقاويل أهل الحق في مسائل الأصول.
وقد اقتصرنا على هذا المقدار خشية خروجنا عما أثرناه من الإيجاز والاختصار.
الحق سبحانه
فصل قال الأستاذ زين الإسلام أبو القاسم، أدام الله عزَّه: وهذه فصول تشتمل على بيان عقائدهم في مسائل التوحيد ذكرناها على وجه الترتيب.
قال شيوخ هذه الطريقة، على ما يدلُ عليه متفرقات كلامهم، ومجموعاتهم، ومصنفاتهم في التوحيد:
إن
الحق، سبحانه وتعالى: موجود، قديم، واحد، حكيم، قادر، عليم، قاهر، رحيم،
مريد، سميع، مجيد، رفيع، متكلم، بصير متكبر، قدير، حيُّ أحد، باق، صمد.
وأنه عالم بِعِلم، قادر بقدرة؛ مريد بإرادة؛ سميع بسمع؛ بصير ببصر؛ متكلم بكلام؛ حيُّ بحياة؛ باقٍ ببقاء.
وله يدان هما صفتان؛ يخلق بهما ما يشاء، سبحانه، على التخصيص.
وله
الوجه. وصفات ذاته مختصة بذاته، لا يقال هي هو، ولا هي غيار له، بل هي
صفات أزلية، ونعوت سرمدية، وأنه إحدىُّ الذات، ليس يشبه شيئاً من
المصنوعات، ولا يشبهه شيء من المخلوفات، ليس بجسم، ولا جوهر ولا عرّض، ولا
صفاته أعراض، ولا يتصوَّر في الأوهام، ولا يتقدَّر في العقول، ولا له جهة
ولا مكان، ولا يجري عليه وقت وزمان، ولا يجوز في وصفه زيادة ولا نقصان،
ولا يخصُّه هيئة وقدُّ، ولا يقطعه نهاية وحدُّ، ولا يحله حادث، ولا يحمله
على الفعل باعث، ولا يجوز عليه لون ولا كوْن، ولا ينصره مدد ولا عون؛ ولا
يخرج عن قدرته مقدور؛ ولا ينفك عن حكمه مفطور؛ ولا يعزب عن علمه معلوم؛
ولا هو على فعله كيف يصنع وما يصنع ملوم؛ لايقال له: أي؛ ولا حيث؛ ولا
كيف؛ ولايُستفتح له وجود: فيقال: متى كان: ولا ينتهي له بقاء: فيقال
إستوفى الأجل والزمان، ولا يقال: لِمَ فعل ما فعل؛ إذ لا علَّة لأفعاله؛
ولا يقال ما هو؛ إذ لا جنس له فيتميز بأمارة عن أشكاله. يُرى لا عن
مماقلة، ويصنع لا عن مباشرة ومزاولة. له الأسماء الحسنى، والصفات العلا،
يَفعل ما يريد، ويذل لحكمه العبيد، لايجري في سلطانه إلا ما يشاء، ولا
يحصل في ملكه غير ما سبق به القضاء، ما علم أنه يكون من الحادثات أراد أن
يكون. وما علم أنه لا يكون. مما جاز أن يكون: أراد أن لا يكون. خالق إكساب
العباد: خيرها وشرِّها. ومبدع ما في العالم من الأعيان والآثار: قُلُّها
وكُثْرها. ومرسل الرسل إلى الأمم من غير وجوب عليه.
ومتعبَّد الأنام
على لسان الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ بما لا سبيل لأحد باللوم
والاعتراض عليه، ومؤيد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بالمعجزات الظاهرة،
والآيات الباهرة، بما أزاح به العذر، وأوضح به اليقين والنكر، وحافظ بيضة
الإسلام بعد وفاته،صلى الله عليه وسلم، بخلفائه الراشدين، ثم حارس الحق
وناصره بما يوضحه من حجج الدين على ألسنة أوليائه، عصم الأمة الحنفية عن
الاجتماع على الضلالة، وحسم مادة الباطل بما نصب من الدلالة، وأنجز ما وعد
من نصرة الدين بقوله: " ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " .
؟؟
أصول المشايخ
فهذه: فصول تشير إلى أصول المشايخ على وجه الإيجاز، وباللّه التوفيق.
في ذكر مشايخ هذه الطريقة وما يدلّ من سيرهم وأقوالهم على تعظيم الشريعة إعلموا، رحمكم اللّه تعلى، أن المسلمين بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: لم يتسمّ أفاضلهم في عصرهم بتسمية علم، سوى صحبة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة.
ولمَّا أدركهم أهل العصر الثاني سمى من صخب الصحابة: التابعين ورأوا في ذلك أشرف سِمة. ثم قيل لمن بعدهم: أتباع التابعين.
ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواص الناس مِمَّن لهم شدة عناية بأمر الدين: الزّهاد والعُباد.
ثم ظهرت البدع، وحصل التداعي بين الفرق، فكل فريق ادَّعوا أن فيهم زهاداً.
فانفرد خواصُّ أهل السُّنة المراعون أنفسهم مع الله تعالى، الحافظون قلوبهم عن طوارق الفعلة باسم التصوف.
واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة.
ونحن نذكر في هذا الباب أسامي جماعة من شيوخ هذه الطريقة، من الطبقة الأولى إلى وقت المتأخرين منهم، ونذكر جُملاً من سِيَرهم، وأقاويلهم، بما يكون فيه تنبيه على أصولهم، وآدابهم إن شاء الله تعالى.
فمنهم:
إبراهيم بن أدهم
أبو إسحق إبراهيم بن أدهم بن منصور من كُورة بلخ، رضي الله تعالى عنه.
كان من أبناء الملوك، فخرج يوماً متصيِّداً، فأثار ثعلباً أو أربناً وهو في طلبه، فهتف به هاتف: يا إبراهيم، ألهذا خُلقتَ، أم بهذا أمُرت؟.
ثم هتف به أيضاً من قربوس سرجه: والله ما لهذا خُلقت، ولا بهذا أُمرت.
فنزل عن دابته.
وصادف
راعياً لأبيه، فأخذ جُبَّةً للراعي من صوف، ولبسها وأعطاه فرسه وما معه،
ثم إنه دخل البادية، ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري.
والفضيل بن عياض، ودخل الشام ومات بها.
وكان يأكل من عمل يده، مثل: الحصاد، وحفظ البساتين، وغير ذلك.
وأنه
رأى في البادية رجلاً علَّمه اسم الله الأعظم فدعا به بعده، فرأى الخضر
عليه السلام، وقال له: إنما علَّمك أخي داود اسم الله الأعظم.
أخبرنا
بذلك الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: حدثنا محمد بن الحسين
بن الخشاب قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد المصري، قال: حدثنا أبو سعيد
الخراز قال: حدثنا إبراهيم بن بشَّار قال: صحبت إبراهيم ابن أدهم، فقلت:
خبّرني عن بدء أمرك فذكر هذا.
وكان إبراهيم بن أدهم كبير الشأن في باب الورع، ويحكى عنه أنه قال: أطب مطعمك، ولا حرج عليك أن لا تقوم الليل ولا نصوم النهار.
وقيل: كان عامة دعائه: " اللهم انقلني من ذلِّ معصيتك إلى عزِّ طاعتك " وقيل لإبراهيم بن أدهم: إن اللحم قد غلا!!.
فقال: أرخصوه أي: لاتشتروه وأنشد في ذلك:
وإذا غلا شيء عليَّ تركته ... فيكون أرخص ما يكون إذا غلا "
أخبرنا
محمد بن الحسين، رحمه الله تعالى، قال: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت
محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن خضرويه يقول: قال إبراهيم بن أدْهم لرجل
في الطواف: أعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها:
تغلق باب النعمة، وتفتح باب الشدَّة.
والثانية: تغلق باب العزِّ، وتفتح باب الذلِّ.
والثالثة: تغلق باب الراحة، وتفتح باب الجهد.
والرابعة: تغلق باب النوم؛ وتفتح باب السهر.
والخامسة: تغلق باب الغنى، وتفتح باب الفقر.
والسادسة: تغلق باب الأمل، وتفتح باب الاستعداد للموت.
وكان إبراهيم بن أدهم يحفظ كَرْماً، فمرَّ به جندي، فقال: أعطنا من هذا العنب فقال: ما أمرني به صاحبُه.
فأخذ يضربه بسوطه، فطأطأ رأسه وقال: إضرب رأساً طالما عصى الله. فأعجز الرجل ومضى.
قال
سهل بن إبراهيم: صحبت إبراهيم بن أدهم، فمرضت، فأنفق عليَّ نفقته فاشتهيت
شهوة، فباع حماره وأنفق عليَّ ثمنه. فلما تماثلت، قلت: ياإبراهيم، أين
الحمار؟ فقال: بعناه، فقلت: فعلى ماذا أركب؟ فقال: يا أخي على عنقي.
فحملني ثلاث منازل.
ومنهم:
ذو النون المصري
أبو الفيض ذو النون المصري وإسمه: ثوبان بن إبراهيم، وقيل الفيض بن إبراهيم، وأبوه كان نوبياً.
تُوفي سنة: خمس وأربعين ومائتين. فائق في هذا الشأن، وأوحد وقته علماً، وورعاً، وحالاً، وأدباً.
سعَوا به إلى المتوكِّل، فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظّه فبكى المتوكِّل وردَّه إلى مصر مكرَّماً، وكان المتوكل إذا ذُكر بين يديه أهل الورع يبكي ويقول: إذا ذكر أهل الورع فجهلاً بذي النون.
وكان رجلاً نحيفاً، تعلوهُ حمرة، ليس بأبيض اللحية.
سمعت أحمد بن محمد يقول: سمعت سعيد بن عثمان يقول: سمعت ذا النون يقول: مدار الكلام على أربع: حبُّ الجليل، وبغض القليل، واتِّباع التنزيل، وخوف التحويل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله؛ يقول: سمعت سعيد بن أحمد ابن جعفر يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول: سمعت سعيد ابن عثمان يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: من علامات المحبِّ لله عزَّ وجلَّ: متابعة حبيب الله، صلى الله عليه وسلم، في أخلاقه، وأفعاله، وأوامره، وسننه.
وسئل ذو النون عن السِّفلة فقال: من لا يعرف الطريق إلى الله، ولا يتعَرَّفه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: حضرت مجلس ذي النون يوماً؛ وجاء، سالم المغربي، فقال له: يا أبا الفيض، ما كان سبب توبتك؟ قال: عجب لا تطيقه. قال: بمعبودك إلا أخبرتني.
فقال ذو النون: أردت الخروج من مصر إلى بعض القرى، فنمت في الطريق في بعض الصحارى، ففتحت عيني، فإذا أنا بقنبرة عمياء سقطت من وكرها على الأرض، فانشقت الأرض، فخرج منها سكرجتان: إحداهما ذهب، والأخرى فضة وفي إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فجعلت تأكل من هذا، وتشرب من هذا.
فقلت: حسبي، قد تبت، ولزمت الباب إلى أن قبلني الله عز وجل.
سمعت
محمد بن الحسين يقول. سمعت على بِّن عمر الحافظ يقول: سمعت ابن رشيف: يقول
سمعت أبا دجانة يقول: سمعت ذا النون يقول: لا تسكن الحكمة معدة مُلئت
طعاماً.
وسئل ذو النون عن التوبة فقال: توبة العوام تكون من الذنوب، وتوبة الخواصِّ تكون من الغفلة.
ومنهم:
أبو علي الفضيل بن عياض
خرساني، من ناحية مرو.
وقيل إنه وُلد بسمرقند، ونشأ بأبيَورد مات بمكة في المحرم سنة: سبع وثمانين ومائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: أخبرنا أبو بكر محمد بن جعفر قال: حدثنا الحسن بن عبد الله العسكري، قال: حدثنا ابن أخي أبي زرعة، قال: حدثنا محمد بن إسحق بن راهويه قال: حدثنا أبو عمار، عن الفضل بن موسى، قال: كان الفضيل شاطراً: يقطع الطريق بين ابيورد وسرخس وكان سبب توبته: أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقي الجدران إليها سمع تالياً يتلو: " ألمي أن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فقال: يارب قد آن.
فرجع.. فآراه الليل إلى خرِبة، فإذا فيها رُفقة، فقال بعضهم: ترتحل، وقال قوم: حتى نصبح، فإن فضيلا على الطريق يقطع علينا.
فتاب الفضيل وأمَّنهم. وجاور الحرم حتى مات.
وقال الفضيل بن عياض: إذا أحبَّ الله عبداً أكثر غمَّه، وإذا أبغض عبداً وسَّع عليه دنياه.
وقال ابن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الحزن.
وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عُرضت علىَّ ولا أحاسب بها لكنت أتقذرها، كما يَتقّذَر أحدكم الجيفة إذا مرَّ بها أن تصيب ثوبه.
وقال الفضيل: لو حلفت أنِّي مُراء أحبُّ إليَّ من أن أحلف أنيِّ لست بمراء.
وقال الفضيل: ترك العمل لأجل الناس هو الرياءُ، والعمل لأجل الناس هو الشرك.
وقال أبو عليِّ الرازي: صحبت الفضيل ثلاثين سنة ما رأيته ضاحكاً، ولا متبسما، إلا يوم مات ابنه علي، فقلت له في ذلك، فقال: إن الله أحبَّ أمراً فأحببت ذلك.
وقال الفضيل: إني لأعصى الله، فأعرف ذلك في خُلق حماري وخادمي.
ومنهم:
معروف بن فيروز الكرخي
أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي كان من المشايخ الكبار، مجاب الدعوة، يستشفي بقبره.
وهو من موالى عليٍّ بن موسى الرضا، رضي الله عنه، مات سنة مائتين: وقيل: سنة إحدى ومائتين. وكان أستاذ السري السقطى، وقد قال له يوما: إذا كانت لك حاجه إلى الله فأقسم عليه بي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: كان معروف الكرخى أبواه نصرانيان، فسلَّموا معروفاً إلى مؤدبهم، وهو صبي،فكان المؤدب يقول له :قل ثالث ثلاث . فيقول:بل هو واحد.فضربه المعلم يوماًضرباًمبرحا،فهرب معروف، فكان أبواه يقولان : ليته يرجع إلينا على أي دين يشاء،فنوافقه عليه .
ثم أنه اسلم على يدي علي بن موسى الرضا..ورجع إلى منزله..ودق الباب .فقيل: من بالباب؟فقال: معروف. فقالوا: على أي دين جئت؟ فقال: على الدين الحنيفي. فأسلم أبواه.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت سريا السقطي يقول: رأيت معروفا الكرخى في النوم كأنه تحت العرش، فيقول الله عز وجل لملائكته: من هذا؟ فيقولون: أنت أعلم يا رب.
فيقول: هذا معروف الكرخى، سكر من حبي، فلا يفيق إلا بلقائي.
وقال معروف: قال لي بعض أصحاب داود الطائي: إياك أن تترك العمل،فإن ذلك الذي يقرّبك إلى رضا مولاك.فقلت: وما ذلك العمل؟ فقال:دوام طاعة ربك،وخدمة المسلمين، والنصيحة لهم.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعي محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت على بن محمد الدلال يقول:سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبي يقول: رأيت معروفًا الكرجي في النوم،بعد موته،فقلت له:ماذا فعل الله بك؟ فقال: غفر لى.
فقلت بزهدك وورعك ؟ فقال:لا، بقبولي موعظة ابن السماك،ولزوم الفقر،ومحبتي للفقراء.
وموعظة ابن السماك:ما قاله معروف: كنت ماراً بالكوفة.فوقفت على رجل يقال له:ابن السماك وهو يعظ الناس.
فقال في خلال كلامه:من أعرض عنا لله بكلتيه أعرض الله عنه جملة..ومن أقبل على الله بقلبه أقبل الله برحمته إليه ، وأقبل بجميع وجوه الخلق إليه، ومن كان مرة و مرة فالله يرحمه وقتاً ما.فوقع كلامه في قلبي، فأقبلت على الله تعالى ، وتركت جميع ما كنت عليه، إلا خدمة مولاي على بن موسى الرضا.
وذكرت
هذا الكلام لمولاي، فقال: يكفيك بهذا موعظة إن اتعظت؟ أخبرني بهذه الحكاية
محمد بن الحسين،قال: سمعت على بن عيسى يقول: سمعت سريا السقطى يقول: سمعت
معروفاً يقول ذلك.
وقيل لمعروف في مرض موته: أوصِ.
فقال: إذا متُّ فتصدُّقوا بقميصي؛ فإني أريد أن أخرج من الدنيا عرياناً كما دخلتها عرياناً.
ومرَّ معروف بسقَّاء يقول: رحم الله من يشرب، وكان صائماً، فتقدمَ فشرب، فقيل له ألم تكون صائماً؟ فقال: بلى، ولكني رجوت دعاءه.
ومنهم:
سري بن المغلس السقطي
أبو الحسن سري بن المغلس السقطي خال الجنيد، وأستاذه.
وكان تلميذ معروف الكرخي؛ كان أوحد زمانه في الورع، وأحوال السنة وعلوم التوحيد: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن علي الطوسي يقول: سمعت أبا عمرو بن علوان يقول: سمعت أبا العباس بن مسروق يقول: بلغني أن السريَّ السقطي كان يتَّجر في السوق، وهو من أصحاب معروف الكرخي، فجاءه معروف يوماً، ومعه صبي يتيم، فقال: اكسِ هذا اليتيم. قال سري: فكسوته، ففرح به معروف، وقال: بغَّض الله إليك الدنيا، وأَراحك مما أَنت فيه.
فقمت من الحانوت وليس شيء أبغض إليَّ من الدنيا.
وكل ما أنا فيه من بركات معروف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: ما رأيت أعبدَ من السري: أتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعاً إلا في علة الموت.
ويحكى عن السري أنه قال: التصوُّف: أسم لثلاث معان: وهو الذي لا يطفىء نورُ معرفته نورَ ورعه.
ولا يتكلَّم بباطن في علم ينقضه عليه ظاهر الكتاب أو السنة.
ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله.
مات السري سنة: سبع وخمسين ومائتين.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدَّقاق يحكى عن الجنيد، رحمه الله، أنه قال: سألني السري يوماً عن المحبَّة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة، وقال قوم: الإيثار، وقال قوم: كذا.. وكذا..، فأخذ السري جلدة ذراعه، ومدها، فلم تمتدَّ، ثم قال: وعزَّته تعالى، لو قلت: إن هذه الجلدة يبستْ على هذا العظم من محبته لصدقت.
ثم غشى عليه، فدار وجهه كأنه قمر مشرق، وكان السريُّ به أُدمة.
ويحكى عن السريِّ أنه قال: منذ ثلاثين سنة أنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله مرّة.
قيل: وكيف ذلك؟ فقال: وقع ببغداد حريق، فاستقبلني رجل، فقال لي: نجا حانوتك.
فقلت: الحمد لله. فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت، حيث أردت لنفسي خيراً مما حصل للمسلمين!!.
أخبرني به عبد الله بن يوسف قال: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا بكر الحربي يقول: سمعت السريَّ يقول ذلك.
ويحكى عن السريِّ أنه قال: أنا أنظر في أنفي في اليوم كذا.. وكذا مرَّة، مخافة أن يكون قد اسودَّ، خوفاً من الله أن يسوِّد صورتي لِما أتعاطاه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسن ابن الخشاب يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول: أعرف طريقاً مختصراً قصداً إلى الجنة: فقلت له: ما هو؟.
فقال: لا تسأل من أحد شيئاً، ولا تأخذ من أحد شيئاً، ولا يكن معك شيء تعطى منه أحداً.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج الطوسي يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت الجنيد ابن محمد يقول: سمعت السري يقول: أشتهي أن أموت ببلد غير بغداد، فقيل له: ولم ذلك؟ فقال: أخاف ألا يقبلني قبري فافتضح.
سمعت عبد الله بن يوسف الاصبهاني يقول: سمعت أبا الحسن بن عبد الله المغوطي الطرسوسي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السريَّ يقول: اللهم مهما عذبتني بشيء فلا تعذبني بذلِّ الحجاب.
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت يوماً على السريِّ السقطي وهو يبكي، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: جائتني البارحة الصبيَّة، فقالت: يا أبتي، هذه ليلة حارَّةٌ، وهذا الكوز أُعلّقه ها هنا.
ثم إني حملتني عيناي فنمت، فرأيت جارية من أحسن الخلق قد نزلت من السماء، فقلت: لمن أنت؟ فقالت: لمن لا يشرب الماء المبرَّج في الكيزان.
فتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته.
قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسَّه، حتى عفا عليه التراب.
ومنهم:
بشر بن الحارث الحافي
أبو نصر بشر بن الحارث الحافي أصله من مرو وسكن بغداد، ومات به، وهو ابن أخت عليٍّ بن خشرم. مات سنة سبع وعشرين ومائتين. وكان كبير الشأن.
وكان سبب توبته: أنه أصاب في الطريق كاغدة مكتوباً فيها أسم الله رجلَ قد وطئتها الأقدامُ، فأخذها واشترى بدورهم كان معه غالية، فطيِّب بها الكاغدة، وجعلها في شق حائط فرأى فيها التأ كأن قائلاً يقول له: يا بشر، طيَّبت اسمى، لأطيبنَّ في الدنيا والآخرة.سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: مرَّ بشر ببعض الناس، فقالوا: هذا الرجل لا ينام الليل كلَّه، ولا يفطر إلا في كل ثلاثة أيام مرة؛ فبكى بشر، فقيل له في ذلك فقال: إني لا أذكر أني سهرت ليلة كاملة، ولا أني صمت يوماً لم أفطر من ليلته، ولكن الله سبحانه وتعالى يلقي في القلوب أكثرً مما يفعله العبد لطفاً منه، سبحانه، وكرماً.. ثم ذكر إبتداء أَمره: كيف كان علي ما ذكرناه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: بلغني أن بشر بن الحارث الحافي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: يا بشر، أتدري لم رفعك الله من بين أقرانك؟ قلت: لا، يا رسول الله.
قال: باتِّباعك لسنَّتي، وخدمتك للصالحين، ونصيحتك لا خوانك، ومحبتك لأصحابي، وأهل بيتي: وهو الذي بلَّغك منازل الأبرار.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت بلالا الخواص يقول: منت في تيه بني إسرائيل، فإذا رجل يماشيني، فتعجبت منه، ثم أُلهمت أنه الخضر عليه السلام، فقلت له: بحقِّ الحقِّ من أنت؟ فقال: أخوك الخضر؛ فقلت له: أُريد أن أسألك، فقال: سل. فقلت: ما تقول في الشافعي رحمه الله؟ فقال: هو من الأوتاد.
فقلت: ما تقول في أحمد بن حنبل رضي الله عنه؟ قال رجل صدِّيق.
قال: فما تقول في بشر بن الحارث الحافي؟ قال: لم يخلق بعده مثله.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: أتى بشر الحافي باب المعافي بن عمران، فدقَّ الحافي عليه الباب، فقيل: من؟ فقال: بشر الحافي.
فقالت لهُ بنيةٌ من داخل الدار: لو اشتريت لك نعلا بدانقين لذهب عنك اسم الحافي.
أخبرني بهذه الحكاية محمد بن عبد الله الشيرازي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثني محمد بن سعيد، قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: سمعت عبد الله المغازلي يقول: سمعت بشراً الحافي يذكر هذه الحكاية.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين الحجاجي يقول: سمعت المحاملي يقول: سمعت الحسن المسوحي يقول: سمعت بشر بن الحارث يحكي هذه الحكاية.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الفضل العطَّار يقول: سمعت أحمد بن علي الدمشقي يقول: قال لي أبو عبد الله بن الجلاء: رأيت ذا النون، وكانت له العبارة، ورأيت سهلاً، وكانت له الإشارة، ورأيت بشر بن الحارث، وكان له الورع.
فقيل له: فإلى من كنت تميل؟ فقال: لبشر بن الحارث أستاذنا.
وقيل: إنه اشتهى الباقلاء سنين، فلم يأكله، فرؤى في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: عَفر لي، وقال: كُلْ يا من لم يأكل، واشرب يا مَنْ لم يشرب.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا عبيد الله ابن عثمان بن يحيى قال: حدثنا أبو عمرو بن السماك قال: حدثنا محمد ابن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن بنت معاوية قال: سمعت أبا بكر بن عفان يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: إني لأشتهي الشِّواء منذ أربعين سنة ما صفا لي ثمنه؟؟ وقيل لبشر: بأيِّ شيء تأكل الخبز؟ فقال أَذكر العافية وأجعلها إداماً.
أخبرنا به محمد بن الحسين، رحمه الله، قال: أخبرنا عبيد الله بن عثمان قال: أخبرنا أبو عمرو بن السماك قال: حدثنا عمر بن سعيد قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: قال رجل لبشر الحكاية المذكورة.
وقال بشر: لا يحتمل الحلالُ السَّرف.
ورؤي بشر في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، وأباح لي نصف الجنة، وقال لي: يا بشر، لو سجدتّ لي على الجمر ما أديتَ شكرً ما جعلت لك في قلوب عبادي.
وقال بشر: لا يجدُ حلاوة الآخرة رجل يُحِبُّ أن يعرفه الناس.
ومنهم:
أبو عبد الله المحاسبي
الحارث بن أسد المحاسبي عديم النظير في زمانه علماً، وورعاً، ومعاملة، وحالاً.
بصرىُّ الأصل، مات ببغداد سنة ثلاث وأربعين ومائتين.
قيل: إنه ورث من أبيه سبعين ألف درهم فلم يأخذ منها شيئاً. قيل، لأن أباه كان يقول بالقدر، فرأى من الورع أن لا يأخذ من ميراثه شيئاً، وقال: صحَّت الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " لا يتوارث أهل ملَّتين شيئاً " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول: سمعت محمد بن مسروق يقول: مات الحارث ابن أسد المحاسبي وهو محتاج إلى جرهم، وخلف أبوه ضِياعاً وعقاراً، فلم يأخذ منه شيئاً.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مدَّ يده إلى طعام فيه شبهة تحرَّك على أصبحه عِرق، فكان يمتنع منه.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: اقتدوا بخمسة من شيوخنا، والباقون سلِّموا لهم حالهم: الحارث بن أسد المحاسبي، والجنيد بن محمد، وأبو محمد رُويم، وأبو العباس ابن عطاء، وعمرو بن عثمان المكيِّ؛ لأنهم جمعوا بين العلم والحقائق.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله علي الطوسي يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: سمعت أبا عثمان البلدي يقول: قال الحارث المحاسبي: من صحح باطنه بالمراقبة والإخلاص زين الله ظاهره بالمجاهدة واتِّباع السنَّة.
ويحكى عن الجنيد أنه قال: مرَّ بي يوماً الحارث المحاسبي، فرأيت فيه أثر الجوع، فقلت: يا عم، تدخل الدار وتتناول شيئاً؟ فقال: نعم.
فدخلت الدار وطلبت شيئاً أقدِّمه إليه، فكان في البيت شيء من طعام حمل إليَّ من عرس قوم، فقدَّمته إليه، فأخذ لقمة وأدارها في فمه مرات، ثم إنه قام وألقاها في الدهليز، ومرَّ.
فلما رأيته بعد ذلك بأيام قلت له في ذلك، فقال: إني كنت جائعاً، وأردت أن أَسرَّك بأكلي وأحفظ قلبك، ولكن بيني وبين الله، سبحانه، علامة: أن لا يسوغني طعاماً فيه شبهة، فلم يمكنّي إبتلاعه، فمن أين كان لك ذلك الطعام؟.
فقلت: إنه حُمل إليَّ من دار قريب لي من العرس، ثم قلت: تدخل اليوم؟ فقال: نعم. فقدمت إليه كِسراً يابسة كانت لنا، فأكل وقال: إذا قدمتَّ إلي فقير شيئاً فقدِّم إليه مثل هذا.
ومنهم:
داود بن نصير الطائي
أبو سليمان داود بن نصير الطائي وكان كبير الشأَن. أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السملي، رحمه الله، قال: أخبرنا أبو عمرو بن مطر قال: حدثنا محمد بن المسيَّب قال: حدثنا ابن خُبيق قال، قال يوسف بن سباط: ورث داود الطائي عشرين ديناراً فأكلها في عشرين سنة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: كان سبب زهد داود الطائي: أنه كان يمرُّ ببغداد، فمرَّ يوماً، فنحّاه المطرقون بين يدي حميد الطوسي، فالتفت داود فرأي حميداً، فقال داود: أُفِّ لدنيا سبقك بها حميد.
ولزم البيت وأخذ في الجهد والعبادة.
وسمعت ببغداد بعض الفقراء يقول: إن سبب زهده أنه سمع نائحة تنوح وتقول:
بأيِّ خديك تبدي البلى ... وأي عينيك إذاً سالا
وقيل: كان سبب زهده: أنه كان يجالس أبا حنيفة، رضي الله عنه، فقال له أبو حنيفة يوماً: يا أبا سليمان: أمَّا الأداة فقد أحكمناها فقال له داود: فأي شيء بقي؟ فقال: العمل به.
قال داود: فنازعتني نفسي إلى العُزلة، فقلت لنفسي: حتى تجالسهم ولا تتكلم في مسألة.
قال: فجالستهم سنة لا أتكلم في مسألة، وكانت المسألة تمرُّ بي، وأنا إلى الكلام فيها أشد نزاعاً من العطشان إلى الماء البارد ولا أتكلَّم به.
ثم صار أمره إلى ما صار.
وقيل: حجم جنيدُ الحجام داود الطائي، فأعطاه ديناراً، فقيل له: هذا إسراف.
فقال: لا عبادة لمن لا مروءة له.
وكان يقول بالليل: الهي همُّك عطَّل عليَّ الهموم الدنيوية، وحلل بين وبين الرقاد.
سمعت محمد بن عبد الله الصوفيِّ يقول: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا سعيد بن عمرو قال: حدثنا عليٌّ بن حرب الموصلي قال: حدثنا إسماعيل ابن زيا الطائيّ قال: قالت دايةُ داود الطائي له.
أما تشتهي الخبز؟ فقال: بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءةُ خمسين آية.
ولما تُوفي داود رآه بعض الصالحين في المنام وهو يعدو فقيل له: مالك؟ فقال: الساعة تخلَّصت من السجن.
فاستيقظ الرجل من منامه، فارتفع الصياح بقول الناس: مات داود الطائي.
وقال له رجل: وسني. فقال له: عسكرُ الموتِ ينتظرونك.
ودخل
بعضهم عليه، فرأى جرَّة ماء انبسطت عليها الشمس، فقال له: ألا تحوِّلها
إلى الظل؟ فقال: حين وضعتها لم يكن شمس، وأنا أستحي أن يراني الله أَمشي
لما فيه حظُّ نفسي.
ودخل عليه بعضهم، فجعل ينظر إليه، فقال: أما علمت
أنهم كانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام؟ أخبرنا عبد الله بن
يوسف الأصفهانيّ قال: أخبرنا أبو اسحق إبراهيم ابن محمد بن يحيى المزكي:
قال: حدثنا قاسم بن أحمد، قال: سمعت ميموناً الغزالي قال: قال أبو الربيع
الواسطي: قلت لداود الطائي: أوصني.
فقال: صُمْ عن الدنيا، واجعل فطرك الموت، وفرَّ من الناس كفرارك من السبع.
ومنهم:
شقيق بن إبراهيم البلخي
أبو علي شقيق بن إبراهيم البلخي من مشايخ خراسان. له لسان في التوكُّل، وكان أستاذ حاتم الأصم.
قيل: كان سبب توبته: أنه كان من أبناء الأغنياء، خرج للتجارة إلى أرض الترك، وهو حدث. فدخل بيتاً للأصنام، فرأَى خادماً للأصنام فيه؛ قد حلق رأسه ولحيته، ولبس ثياباً أُرجوانية. فقال شقيق للخادم: إنَّ لك صانعاً حيًّا، عالماً، قادراً، فاعبده.. ولا تعيد هذه الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع!!.
فقال: إن كان كما تقول، فهو قادر على أَن يرزقك ببلدك، فلم تعنَّيت إلى هاهنا للتجارة؟ فانتبه شقيق.. وأخذ في طريق الزهد.
وقيل: كان سبب زهده: أنه رأى مملوكاً يلعب ويمرح في زمان قحط، وكان الناس مهتمين به، فقال شقيق: ما هذا النشاط الذي فيك؟ أما ترى ما فيه الناس من الجدب والقحط؟.
فقال ذلك المملوك: وما عليَّ من ذلك، ولمولاي قريةٌ خالصة يدخل له منها ما يحتاج نحن إليه، فانتبه شقيق، وقال: إن كان لمولاه قرية، ومولاه مخلوق فقير، ثم إنه ليس يهتم لرزقه، فكيف ينبغي أن يهتم المسلم لرزقه ومولاه غني؟! سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله ، يقول: سمعت أبا الحسين بن أحمد العطار البلخي يقول: سمعت أحمد بن محمد البخاري يقول: قال حاتم الأصم: كان شقيق بن إبراهيم موسراً، وكان يفتي ويعاشر الفتيان، وكان عليُّ بن عيسى بن ماهان أميرَ بلخ، وكان يحب كلاب الصيد، ففقد كلباً من كلابه، فسعى برجل أنه عنده، وكان الرجل في جوار شقيق، فطلب الرجل، فهرب... فدخل دار شقيق مستجيراً، فمضى شقيق إلى الأمير، وقال: خلوا سبيله، فإن الكلب عنيد أرده إليكم إلى ثلاثة أيام.
فخلوا سبيله، وانصرف شقيق مهتما لما صنع. فلما كان اليوم الثالث كان رجل من أصدقاء شقيق غائباً من بلخ فرجع إليها، فوجد في الطريق كلباً عليه قلادة، فأخذه، وقال: أهديه إلى شقيق، فإنه يشتغل بالتفَّتى.
فحمله إليه، فنظر شقيق فإذا هو كل الأمر، فسرَّ به وحمله إلى الأمير وتخلّص من الضمان فرزقه الله الانتباه، وتاب مما كان فيه. وسلك طريق الزهد.
وحكى أنا حاتماً الأصمَّ قال: كنا مع شقيق في مصاف نحارب الترك في يوم لا نري فيه إلا رءوساً تندر، ورماحاً تنقصف، وسيوفاً تنقطع، فقال لي شقيق: كي ترى نفسك يا حاتم في هذا اليوم؟ تراه مثل ما كنت في الليلة التي زفّت إليك امرأتك؟ فقال: لا والله.
قال: لكنّي والله أرى نفسي في هذا اليوم مثلَ ما كنتُ تلك الليلة.
ثم نام بين الصفَّين ودرقته تحت رأسه حتى سمعت غطيطه.
وقال شقيق: إذا أَردت أن تعرف الرجل فانظر لى ما وعده الله ووعده الناس، فبأيهما يكون قلبه أوثق؟ وقال شقيق: تُعرف تقوى الرجل في ثلاثة أشياء: في أخذِه، ومنعِه، وكلامِه.
ومنهم:
أبو يزيد البسطامي
أبو يزيد بن طيفور بن عيسى البسطامي وكان جدُّه مجوسياً أسلم.
وكانوا ثلاثة إخوة: آدم، وطيفور، وعليّ. وكلهم كانوا زهَّاداً عبَّاداً وأبو يزيد كان أجلَّهم حالاً.
قيل مات سنة: إحدى وستين ومئتين، وقيل: أربع وثلاثين ومائتين؟ سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي، يقول: سمعت الحسن بن عليّ يقول: سئل أبو يزيد: بأي شيء وجدتّ هذه المعرفة؟ فقال: ببطن جائع، وبدن عار.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد
الله يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا يزيد يقول:
عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشدَّ عليَّ من العمل
ومتابعته، ولولا اختلاف العلماء لبقيت، واختلاف العلماء رحمة إلا في تجريد
التوحيد.
وقيل. لم يخرج أبو يزيد من الدنيا حتى استظهر القرآن كلَّه.
حدثنا
أبو حاتم السجستاني قال: أخبرنا أبو نصر السرَّاج، قال: سمعت طيفور
البسطامي يقول: سمعت المعروف بعمِّي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: قال لي
أبو يزيد: قم بنا حتى ننظر إلى هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولاية، وكان
رجلاً مقصوداً مشهوراً بالزهر، فمضينا إليه؛ فلما خرج من بيته، ودخل
المسجد رمى ببصاقه تجاه القبلة، فانصرف أبو يزيد ولم سلم عليه، وقال: هذا
غيرُ مأمون على أدب من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يكون
مأموناً على ما يدَّعيه؟ وبهذا الإسناد قال أبو يزيد: لقد هممت أن أسأل
الله تعالى أن يكفيني مؤنة الأكل ومؤنة النساء، ثم قلت: كيف يجوز لي أن
أسأل هذا ولم يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه؟ فلم أسأله. ثم إن
الله سبحانه وتعالى كفاني مؤنة النساء؛ حتى لا أُبالي استقبلتني امرأة أو
حائط.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسن
ابن علي يقول: سمعت عمي البسطامي يقول: سمعت أبي يقول: سألت أبا يزيد عن
ابتدائه وزهده، فقال: ليس للزهد منزلة. فقلت: لماذا؟ فقال: لأني كنت ثلاثة
أيام في الزهد.
فلما كان اليومُ الرابع خرجت منه: اليوم الأول: زهدت في
الدنيا وما فيه، واليوم الثاني: زهدت في الآخرة وما فيها، واليوم الثالث:
زهدت فيما سوى الله، فلما كان اليوم الرابع لم يبق سوى الله.. فهمْتُ،
فسمعت، هاتفاً يقول: يا أبا يزيد لا تقوى معنا. فقلت. هذا الذي أريده.
فسمعت قائلاً يقول: وَجدتَ، وجدت.
وقيل لأبي يزيد: ما أشد ما لقيتَ في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه.
فقيل له: ما أهون ما لقيَت نفسُك منك؟ فقال: أمَّ هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجبني، فمتعتها الماءَ سنة.
وقال أبو يزيد: منذ ثلاثين سنة أصلِّي، واعتقادي في نفسي عند كل صلاة أصلها: كأني مجوسي أريد أن أقطع زُنّاري.
سمعت
محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت موسى بن
عيسى يقول، قال لي أبي: قال أبو يزيد: لو نظرتم إلى رجل أُعطي من الكرامات
حتى يرتقي في الهواء، فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر
والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة.
وحكى عميِّ البسطامي عن أبيه أنه
قال: ذهب أبو يزيد ليلة إلى الرباط، ليذكر الله، سبحانه، على سور الرباط،
فبقي إلى الصباح لم يذكر، فقلت له في ذلك، فقال: تذكَّرتُ كلمة جرت على
لساني في حال صباي، فاحتشمت أن أذْكره سبحانه وتعالى.
ومنهم:
أبو محمد التستري
سهل بن عبد الله التستري أحد أئمة القوم، لم يكن له في وقته نظير في المعاملات والورع.
وكان صاحب كرامات، لقي ذا النون المصري بمكة سنى خروجه إلى الحج.
تُوفي، كما قيل، سنة: ثلاث وثمانين ومائتين، وقيل: ثلاث وسبعين ومائتين.
وقال سهل: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقولم بالليل، فربما كان يقول لي: يا سهل، إذهب فنمْ فقد شغلتَ قلبي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت أبا الفتح يوسف ابن عمر الزاهر يقول: سمعت عبد الله بن عبد الحميد يقول: سمعت عبيد الله ابن لؤلؤ يقول: سمعت عمر بن واصل البصري يحكي عن سهل بن عبد الله قال: قال لي خالي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك؟ فقلت: كيف أذكره؟ فقال لي: قل بقلبك عند تقلُّبك في ثيابك ثلاث مرات. من غير أن تحرِّك به لسانك: الله معي، الله ناظرٌ إليَّ، الله شاهد عليَّ.
فقلت ذلك ثلاث ليال، ثم أعلمته، فقال لي: قل في كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمت، فقال: قل في كل ليلة إحدى عشرةَ مرَّة، فقلت ذلك، فوقع في قلبي له حلاوة.
فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علَّمتك، ودُم عليه إلى أن ندخل القبر، فإِنه ينفعك في الدنيا والآخرة.
فلم أزل على ذلك سنين، فوجدت لها حلاوة في سرِّي.
ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل، من كان الله معه، وهو ناظر إليه، وشاهدُه، أيعصيه؟ إيَّاك والمعصيةً.
فكنت
أخلو، فبعثوني إلى الكتَّاب، فقلت: إني لأخشى أن يتفرق عليَّ همِّي، ولكن
شارطوا المعلِّم: أني أذهب إليه ساعة، فأَتعلّم، ثم أرجع.
فمضيت
إلىالكتَّاب، وحفظتُ القرآن، وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم
الدهر، وقوتي خبز الشعير، إلى أن بلغت إثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة
وأنا ابن ثلاث عشرة سنة، فسألت أهلي أن يبعثوني إلى البصرة أسأل عنها،
فجئت البصرة وسألت علماءها فلم يشف أحد منهم عني شيئاً!! فخرجت إلى
عبادان، إلى رجل يُعرف بأبي حبيب حمزة بن عبد الله العباداني، فسألته عنها
فأجابني. وأقمت عنده مدَّة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت لي تستر
فجعلت قوتي اقتصاراً على أن يشتري لي بدرهم من الشعير الفرْق فيطحن ويخبز
لي، فأفطر عند السحر كلَّ ليلة على أوقية واحدة بحتاً، بغير ملح ولا إدام
فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة.
ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليل، ثم أفطر
ليلة، ثم خمساً، ثم سبعاً، ثم خمساً وعشرين ليلة. وكنت عليه عشرين سنة. ثم
خرجتُ أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت إبراهيم بن
فراس يقول: سمعت نصر بن أحمد يقول: قال سهل ابن عبد الله: كل فعل يفعله
العبد بغير اقتداء، طاعة كان أو معصية، فهو عيش النفس، وكلُّ فعل يفعله
بالاقتداء فهو عذابُّ على النفس.
ومنهم:
أبو سليمان الداراني
عبد الرحمن بن عطية الداراني وداران قرية من قرى دمشق. مات: سنة خمس عشرة ومائتين.
سمعت محمد الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازيّ يقول: أخبرنا إسحق بن إبراهيم بن أبي حسان يقول: سمعت أحمد ابن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان يقول: مَن أحسن في نهاره كوفىء في ليله، ومن أحسن في ليله كوفىء في نهاره.ومن صدّق في ترك شهوة ذهب الله بها من قلبه، والله تعالى كرم من أن يعذِّب قلباً بشهوة تُركت له.
وبهذا الإسناد قال: إذا سكنت الدنيا القلب ترحَّلت منه الآخرة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين ابن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد بن نصير، يقول: سمعت الجنيد يقول: قال أبو سليمان الداراني: ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً، فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين: الكتاب، والسنَّة.
وقال أبو سليمان: أفضل الأعمال: خلاف هوى النفس.
وقال: لكلِّ شيء عَلَم، وعَلَمُ الخذلان ترك البكاء.
وقال: لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبَعُ البطن.
وقال: كلُّ ما شغلك عن الله تعالى من أهل، أو مال، أو ولد فهو عليك مشئوم.
وقال أبو سليمان: كنت ليلة باردة في المحراب، فأقلقني البرد: فخبَّأت إحدى يدي من البرد، وبقيت الأخرى ممدودة، فغلبتني عيناي فهتف بي هتف: يا أبا سليمان، وقد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها.
فآليت على نفسي أن لا أدعو إلا ويداي خارجتان، حرًّا كان الزمن أو برداً.
وقال أبو سليمان: نمت عن وردي، فذا أنا بحوراء تقول لي: تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام!! أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني، قال: أخبرنا أبو عمرو الجولستي، قال: أخبرنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري قال: دخلت علي أبي سليمان يوماً وهو يبكي. فقلت له ما يبكيك؟ فقال: يا أحمد، ولم لا أبكي، وإذا جنَّ الليل، ونامت العيون، وخلا كلُّ حبيب بحبيبه، وافترض أهل المحبة أقدمهم، وجرت دموعهم على خدودهم، وتقّطرت في محاريبهم، وأشرف الجليل؛ سبحانه وتعالى؛ فنادي: من تلذَّذ بكلامي واستراح إلى ذكرى، وإني المطَّلع عليهم في خلواتهم.. أسمع أنينهم.. وأرى بكاءهم، فلم لا تنادي فيهم يا جبريل: ما هذا البكاء؟! هل رأيتم حبيباً يعذِّب أحباءه؟ أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنّهم الليل تملّقوا لي فإني حلفت: أنهم إذا وردوا عليَّ يوم القيامة لأكشف، لهم عن وجهي الكريم، حتى ينظروا إليَّ وأنظر إليهم.
ومنهم:
أبو عبد الرحمن حاتم بن علوان
ويقال حاتم بن يوسف الأصم، من أكابر مشايخ خراسان.
وكان تلميذ شقيق، وأستاذ أحمد بن خضرويه.
قيل: لم يكن أصمَّ، وإنما تصامم مرَّة فسُمّي به.
سمعت
الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول: جاءت امرأة فسألت حاتماً عن
مسألة، فاتفق أنه خرج منها في تلك الحالة صوت، فخجلت، فقال حاتم: ارفعي
صوتك. فأَرى من نفسه: أنه أصمُّ، فسرَّت المرأة بذلك، وقالت: إنه لم يسمع
الصوت، فغلب عليه اسم الصمم.
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه
الله، قال: سمعت أبا عليّ سعيد بن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: سمعت محمد بن
عبد الله يقول: سمعت خالي محمد بن الليث يقول: سمعت حامداً اللقاف يقول:
سمعت حاتماً الأصمَّ يقول: ما من صباح إلا والشيطان يقول لي: ماذا تأكل؟
وماذا تلبس؟ وأين تسكن؟ فأقول له، آكل الموت، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
وبإسناده قيل له: ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي عافية يوم إلى الليل.
فقيل له: أليست الأيام كلها عافية؟ فقال: إن عافية يومي، أن لا أعصي الله فيه.
وحكي
عن حاتم الأصمَّ، أنه قال: كنت في بعض الغزوات، فأخذني شخص فأضجعني للذبح
فلم يشتغل به قلبي، بل كنت أنظر ماذا يحكم الله تعالى فيَّ.
فبينما هو يطلب السكين من حقِّه أصابه سهم غرْب. فقتله، وطرحه عني فقمتً.
سمعت
بعد الله بن يوسف الأصبحاني يقول: سمعت أبا نصر منصور ابن محمد بن إبراهيم
الفقي يقول: سمعت أبا محمد جعفر بن محمد بن نصير يقول: روي عن حاتم أنه
قال: من دخل في مذهبنا هذا فليجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتاً
أبيض، وهو الجوع.
وموتاً أسود، وهو: إحتمال الأذى من الخلق.
وموتاً أحمر، وهو: العمل الخالص من الشوْب في مخالفة الهوى.
وموتاً أخضر، وهو: طرح الرقاع بعضها على بعض.
ومنهم:
أبو زكريا الرازي الواعظ
أبو زكريا يحيى بن معاذ الرازي الواعظ نسيج وحدّه في وقته، له لسان في الرجاء خصوصاً، وكلام في المعرفة. خرج إلى بلخ، وأَقام بها مدَّة.
ورجع إلى نيسابور ومات بها سنة: ثمان وخمسين ومائتين.
سمعت محمد بن الحسين رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن محمد ابن أحمد بن حمدان الكعبري يقول: سمعت أحمد بن محمد بن السرَّي يقول: سمعت أحمد بن عيسى يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: كيف يكون زاهداً من لا وَرع له؟! تورّع عما ليس لك، ثم ازهد فيما لك.
وبهذا الإسناد قال: جوع التوَّابين تجربة، وجوع الزاهدين سياسة، وجوع الصدِّيقين تكرمة.
وقال يحيى: الفوت أشد من الموت؛ لأن الفوت انقطاع عن الحق، والموت انقطاع عن الخلق.
وقال يحيى: الزهد ثلاثة أشياء، القلَّة، والخلوة، والجوع.
وقال يحيى: لا تربح على نفسك بشيء أجلّ من أن تشغلها في كل وقت بما هو أولى بها.
وقيل: إن يحيى بن معاذ تكلم ببلخ في تفضيل الغنى على الفقر، فأعطي ثلاثين ألف درهم، فقال بعض المشايخ: لا بارك الله له في هذ المال فخرج إلى نيسابور، فوقع عليه اللص وأخذ ذلك المال منه.
أخبرنا عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: أبنأنا أبو القاسم عبد الله ابن الحسين بن بالويه الصوفي قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين بن علويه يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: من خان الله في السرِّ هتك الله ستره في العلانية.
سمعت عبد الله بن يوسف يقول: سمعت أبا الحسين محمد بن عبد العزيز المؤذَّن يقول: سمعت محمد بن محمد الجرجاني يقول: سمعت عليّ بن محمد يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: تزكية الأشرار لك هُجْنة بك، وحبُّهم لك عيب عليك، وهانَ عليك من إحتاج إليك.
ومنهم:
أبو حامد بن خضرويه البلخي
أبو حامد أحمد بن خضرويه البلخي من كبار مشايخ خراسان، صحب أبا تراب التخشبي.
قدم نيسابور، وزار أبا حفص، وخرج إلى بسطام في زيارة أبي يزيد البسطامي وكان كبيراً في الفتوَّة.
وقال أبو حفص: ما رأيت أحداً أكبر همَّة، ولا أصدق حالاً من أحمد بن خضرويه.
وكان أبو يزيد يقول: أستاذنا أحمد.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: كنت جالساً عند أحمد بن خضرويه، وهو في النزع، وكان قد أتي عليه خمس وتسعون سنة.
فسأله بعض أصحابه عن مسألة؛ فدمعت عيناه، وقال: يا بني، بابٌ كنت أدقه منذ خمس وتسعين سنة، وهو ذا يُفتح لي الساعة لا أدري أباب السعادة يُفتح أم بالشقاوت؟ أنَّي لي أوان الجواب؟
قال: وكان
عليه سبمعمائة دينار، وغرماؤه عنده، فنظر إليهم. وقال: اللهم إنك جعلت
الرهون وثيقة لأرباب الأموال، وأنت تأخذ عنهم وثيقَتَهم فأدّعنيِّ.
قال: فدّق داقٌّ الباب وقال: أين غرماء أحمد؟ فقضي عنه.
ثم خرجت روحه، ومات، رحمه الله، سنة أربعين ومائتين.
وقال أحمد بن خضرويه: لا نوم أثقل من الغفلة ولا رق أملك من الشهوة، ولولا ثقل الغفلة عليك لما ظفرت بك الشهوة.
ومنهم:
أبو الحسين بن أبي الحواري
أبو الحسين أحمد بن أبي الحواري من أهل دمشق، صحب أبا سليمان الداراني وغيره، مات سنة: ثلاثين ومائتين. وكان الجنيد يقول: أحمد بن أبي الحواري: ريحانة الشام.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا أحمد الحافظ يقول: سمعت سعيد بن عبد العزيز الحلبي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: من نظر إلى الدنيا نظرة إرادة وحبّ لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه. وبهذا الإسناد يقول: من عمل عملا بلا اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فباطل عمله.
وبهذا الإسناد قال أحمد بن أبي الحواري: أفضل البكاء: بكاء العبد على ما فاته من أوقاته على غير الموافقةَ.
وقال أحمد: ما ابتلي الله عبداً بشيء أشد من الغفلة والقسوة.
ومنهم:
أبو حفص الحداد
أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد من قرية يقال لها كورداباذ على باب مدينة نيسابور، على طريق بخارى.
كان أحد الأئمة والسادة. مات سنة نيِّف وستين ومائتين.
قال أبو حفص: المعاصي يريد الكفر، كما أن الحمَّى يريد الموت.
وقال أبو حفص: إذا رأيت المريد يحب السماع فأعلم أن فيه بقية من البطالة.
وقال: حُسن أدب الظاهر عنوان حسن أدب الباطن.
وقال: الفتوَّة: أداءالإنصاف، وترك مطالبة الإنصاف.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسن محمد بن موسى يقول: سمعت أبا علي الثقفي يقول: كان أبو حفص، يقول: من لم يزن أفعاله وأَحواله في كل وقت بالكتاب والسنَّة، ولم يتهم خواطره، فلا نعُده في ديوان الرجال.
ومنهم:
أبو تراب النخشبي
أبو تراب عسكر بن حصين النخشبي صاحب حاتماً الأصمَّ، وأبا حاتم العَّار المصري.
مات سنة: خمس وأربعين ومائتين.قيل: مات بالبادية نهسته السباع.
وقال ابن الجلاء: صحبت ستمائة شيخ، مالقيت فيهم مثل أربعة: أوَّلهم: أبو تراب النخشبي.
قال أبو تراب: الفقير قُوتُه: ما وجده، ولباسه: ماستره، ومسكنه: حيث نزل.
وقال أبو تراب: إذا صدق العبد في العمل وجد حلاوته قبل أن يعمله، فإذا أخلص فيه وجد حلاوته ولذَّته وقت مباشرة الفعل.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي إسماعيل بن نجيد يقول: كان أبو تراب النخشبي إذا رأى من أصحابه ما يكره زاد في اجتهاده وجدَّد توبته ويقول: بشؤمي دفعوا إلى ما دُفعوا إليه، لأن الله عز وجل يقول: إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغِّيروا ما بأنفسهم قال: وسمعته يقول أيضاً لأصحابه: من لبس منكم مُرَقعة فقد سأل، ومن قعد في خانقاه أو مسجد فقد سأل، ومن قرأ القرآنِ من مصحف، أو كيما يسمع الناس فقد سأل.
قال: وسمعته يقول: كان أبو تراب يقول: بيني وبين الله عهد أن لا أمد يدي إلى حرام إلا قصرت يدي عنه.
ونظر أبو تراب يوماً إلى صوفيِّ من تلامذته قد مدَّ يده إلى قشر بطيخ، قد طوى ثلاثة أيام، فقال له أبو تراب: تمد يدك إلى قشر البطيخ؟ أنت لا يصلح لك التصوف، الزم السوق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت أبا عبد الله القارسي يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف ابن الحسين يقول: سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنت نفسي عليّ شيئاً قط، إلا مرة واحدة: تمنت عليَّ خبزاً وبيضاً، وأنا في سفري، فعدلت عن الطريق إلى قرية، فوثب رجل وتعلق بي وقال: كان هذا مع اللصوص، فبطحوني وضربوني سبعين خشبة. قال: فوقف علينا رجل صوفي، فصرخ وقال: ويحكم هذا أبو تراب النخشبي، فخلوني واعتذروا إليَّ وأدخلني الرجل منزله، وقدَّم إليَّ خبزاً وبيضاَ، فقلت: كلْها بعد سبعين جلدة.
وحكى ابن الجلاء قال: دخل أبو تراب مكة طيِّب النفس، فقلت: أين أكلت أيُّها الأستاذ؟ فقال: أكلة بالبصرة، وأكلة بالنباج، وأكلة هاهنا.
ومنهم:
أبو محمد عبد الله بن خبيق
من زهَّاد المتصوِّفة، صحب يوسف بن أَسباط.
كان كوفيَّ الأصل. ولكنه سكن أَنطاكية.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت أبا الأزهر
الميافارقيني يقول: سمعت فتح بن شخرف يقول: حدثني عبد الله ابن حبيق أول
ما لقيته فقال لي: يا خراساني، إنما هي أربع لا غير: عينك، ولسانك، وقلبك،
وهواك.. فانظر عينك، لا تنظر بها إلى ما لايحل، وأنظر لسانك، لا تقل به
شيئاً يعلم الله تعالى خلافه من قلبك؛ وانظر قلبك، لا يكن فيه غلٌّ ولا
حقد على أحد من المسلمين، وانظر هواك لا تهوي به شيئاً من الشرِّ، فإذا لم
يكن فيك هده الأربع من الخصال، فاجعل الرماد على رأسك؛ فقد شقيت.
وقال ابن خُبيق: لا نعتَمّ إلا من شيء يضرك غداً، ولا تفرح إلا بشيء يسرُّك غداً.
وقال ابن خبيق: وحشة العباد عن الحق، أو حشتْ منهم القلوب، ولو أنهم أنسوا بربِّهم لأنس بهم كل أحد.
وقال: أنفع الخوف ما حجزك عن المعاصي، وأطال منك الحزن على ما فاتك، وألزمك الفكرة في بقية عمرك. وأنفع الرجاء: ما سهَّل عليك العمل.
وقال: طول الاستماع إلى الباطل يطفىء حلاوة الطاعة من القلب.
ومنهم:
أبو علي الأنطاكي
أبو علي أحمد بن عاصم الأنطاكي من أقران بشر بن الحارث، والسريِّ السقطي، والحارث المحاسبيّ.
وكان ابو سليمان الداراني يسميه: جاسوس القلب، لحدة فراسته.
وقال أحمد بن عاصم: إذا طلبت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ لسانك.
وقال أحمد بن عاصم: قال الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " ونحن نستزيد من الفتنة.
ومنهم:
أبو السري منصور بن عمار
من أهل مرو، من قرية يقال لها: يرانقان.
وقيل إنه من بوشنج أقام بالبصرة: وكان من الواعظين الأكابر.
وقال منصور بن عمار: من جزع من مصائب الدنيا تحوَّلت مصيبته في دينه.
وقال منصور بن عمار: أحسن لباس العبد: التواضع، والانكسار، وأحسن لباس العارفين: التقوي، قال الله تعالى: " ولباس التقوى ذلك خير " .
وقيل: إن سبب توبته أنه وجد في الطريق رقعة مكتوباً عليها " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فرفعها، فلم يجد لها موضعاً فأكلها، فرأى في المنام كأن قائلا قال له: فتح الله عليك باب الحكمة؛ باحترامك لتلك الرقعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا العباس القاصّ يقول: سمعت أبا الحسن الشعراني يقول: رأيت منصور بن عمار في المنام، فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال قال لي: أنت منصور بن عمار؟ فقلت: بلى يا رب.
قال: أنت الذي كنتّ تزهدِّ الناس في الدنيا وترغب فيها؟ قلت: قد كان ذلك يا رب، ولكني ما اتخذت مجلساً إلا بدأت بالثناء عليك وثنَّيت بالصلاة على نبيك؛ صلى الله عليه وسلم، وثلَّثت بالنصيحة لعبادك.
فقال: صدق، ضعوا له كرسياً، يمجدني في سمائي بين ملائكتي، كما كان يمجِّدني في أرضي بين عبادي.
ومنهم:
أبو صالح القصار
أبو صالح حمدون بن أحمد بن عمارة القصار نيسابوري، منه انتشر مذهب الملامتية بنيسابور صحب سلمان الباروسي، وأبا تراب النخشبي.
مات: سنة إحدى وسبعين ومائتين.
سئل حمدون: متى يجوز للرجل أن يتكلم على الناس؟ فقال: إن تعين عليه أداء فرض من فرائض الله تعالى في علمه، أو خاف هلاك إنسان في بدعة، وهو يرجو أن ينجيه الله تعالى منها.
وقال: من ظن أن نفسه خير من نفس فرعون، فقد أظهر الكبر.
وقال: مذ علمت أن للسلطان فراسة في الأشرار، ما خرج خوف السلطان من قلبي.
وقال: إذا رأيت سكرناً فتمايل؛ لئلا تبغي عليه، فتبتلي بمثل ذلك.
وقال عبد الله بن منازل: قلت لأبي صالح: أوصني.
فقال: " إن استطعت أن لا تغضب لشيء من الدنيا، فافعل " .
ومات صديق له، وهو عند رأسه، فلما مات أطفأ حمدون السراج. فقالوا له: في مثل هذا الوقت يزاد في السراج الدهنُ.
فقال لهم: إلى هذا الوقت كان الدهن له ومن هذا الوقت صار الجهن للورثة.
وقال حمدون: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درك درجات الرجال.
وقال: لا تفش على أحد ما تحب أن يكون مستوراً منك.
ومنهم:
أبو القاسم الجنيد بن محمد
سيد هذه الطائفة وإمامهم.
أصله من نهاوند. ومنشؤه بالعراق. وأبوه كان يبيع الزجاج؛ فلذلك يقال له: القواريري.
وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة. صحب خاله السري، والحارث المحاسبي ومحمد بن علي القصاب.
مات سنة: سبع وتسعين ومائتين.
سمعت
محمد بن الحسين؛ رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول:
سمعت الفراغاني يقول: سمعت الجنيد؛ وقد سئل: من العارف؟ قال: من نطق عن
سرَّك وأنت ساكت.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول:
سمعت محمد ابن عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت
الجنيد يقول: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، لكن عن الجوع؛ وترك
الدنيا، وقطع المألوفات والمستحسنات.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله
يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول: سمعت محمد
بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري
يقول: سمعت الجنيد يقول لرجل ذكر المعرفة وقال: أهل المعرفة بالله: يصلون
إلى ترك الحركات من باب البرِّ والتقربُّ إلى الله عزَّ وجلَّ.
فقال
الجنيدِّ: إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال، وهو عندي عظيمة، والذي
يسرق ويزني أحسن حالاً من الذي يقول هذا، فإن العارفين بالله تعالى أخذوا
الأعمال عن الله تعالى، وإليه رجعوا فيها، ولو بقيتُ ألف عام لم أنقص من
أعمال البرِّ ذرَّة إلا أن يحال بي دونها.
وقال الجنيد: إن أمكنك أن لا تكون آلة بينك إلا خزفاً، فأفعل.
وقال الجنيد: الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من أقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا
عمر الأنماطي يقول سمعت الجنيد يقول: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة،
ثم أعرض عنه لحظة، كان ما فاته أكثر مما ناله.
وقال الجنيد: من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيَّد بالكتاب والسنَّة.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي
الروذباري يقول عن الجنيد: مذهبنا هذا: مقيَّد بأصول الكتاب والسنَّة.
وقال الجنيد: علمنا هذا مشيّد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أنبأنا
محمد بن الحسين رحمه الله، قال: سمعت أبا الحسين بن فارس يقول: سمعت أبا
الحسين علي بن إبراهيم الحداد يقول: حضرت مجلس القاضي أبي العباس بن شريح،
فتكلَّم في الفروع والأصول بكلام حسن عجبت منه، فلما رأي إعجابي قال:
أتدري من أين هذا؟ قلت: يقول به القاضي.
فقال: هذا ببركة مجالسة أبي القاسم الجنيد.
وقيل للجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة. وأومأ إلى درجة في داره.
سمعت
الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، يحكي ذلك، وسمعته يقول: رؤى في يده
سبحة، فقيل له: أنت مع شرفك تأخذ بيدك سبحة؟! فقال: طريق به وصلت إلى ربي
لا أفارقه.
سمعت الآستاذ أبا عليّ، رحمه الله يقول: كان الجني يدخل كل يوم حانوته، ويسبل الستر، ويصلي أربعمائة ركعة، ثم يعود إلى بيته.
وقال أبو بكر العطوي: كنت عند الجنيد حين مات، فرأيته ختم القرآن.. ثم ابتدأ من البقرة. وقرأ سبعين آية ثم مات رحمه الله.
ومنهم:
أبو عثمان الجبري
أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الجبري المقيم بنيسابور. وكان من الري صحب شاه الكرماني، ويحيى ابن معاذ الرازي ثم ورد نيسابور، مع شاه الكرماني؛ على أبي حفص الحداد وأقام عنده، وتخرَّج به، وزوجه أبو حفص ابنته.
مات سنة ثمان وتسعين ومائتين، وعاش بعد أبي حفص نيفا وثلاثين سنة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عمر بن حمدان يقول: سمعت أبا عثمان يقول: لا يكمل إيمان الرجل حتى يستوي في قلبه أربعة أشياء: المنع، والإعطاء، والعزّ، والذلُّ.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الرحمن بن عبد الله يقول: سمعت بعض أصحاب أبي عثمان قول: سمعت أبا عثمان، يقول: صحبت أبا حفص مدَّة، وأنا شاب، فطردني مرَّة، وقال: لا تجلس عندي.
فقمت، ولم أوَله ظهري، وانصرفت إلى ورائي، ووجهي إلى وجهه.. حتى غبت عن عينيه، وجعلت على نفسي: أن أحفر على بابه حفرة لا أخرج منها إلا بأمره.
فلما رأي ذلك أدناني، وجعلني من خواصِّ أصحابه.
قال: وكان يقول في الدنيا ثلاثة لا رابع لهم: أبو عثمان: بِنيسَابور، والجنيد ببغداد، وأبو عبد الله بن الجلاء بالشام.
وقال أبو عثمان: منذ أربعين سنة ما أقامني الله تعالى في حال فكرهته، ولا نقلني إلى غيره فسخته.
سمعت الشيخ أبا الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت عبد الله ابن محمد الشعراني يقول: سمعت أبا عثمان يقول ذلك.
ولما
تغيَّر على أبي عثمان الحال مزّق ابنه أبو بكر قميصاً على نفسه، ففتح أبو
عثمان عينيه وقال: خلاف السُّنة يا بني في الظاهر، علامة رياء في الباطن.
سمعت
محمد بن الحسين، يقول: سمعت محمد بن أحمد الملامتي يقول: سمعت أبا الحسين
الوَّراق يقول: سمعت أبا عثمان يقول: الصحبة مع الله: بحسن الأدب؛ ودوام
الهيبة، والمراقبة.
والصحبة مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم باتِّباع سنَّته، ولزوم ظاهر العلم.
والصحبة مع أولياء الله تعالى بالاحترام والخدمة.
والصحبة مع الأهل: بحسن الخلق.
والصحبة مع الأخوان: بدوام البشر ما لم يكن إثما.
والصحبة مع الجهَّال: بالدعاء لهم والرحمة عليهم.
سمعت
عبد الله بن يوسف الأصبهاني رحمه الله يقول: سمعت أبا عمرو بن نجيد يقول:
سمعت أبا عثمان يقول: من أمَّر السنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق
بالحكمة، ومن أمَّر الهوي على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة، قال الله
تعالى: ون تطيعوه تهتدوا.
ومنهم:
أبو الحسين النوري
أبو الحسين أحمد بن محمد النوري بغدادي المولد والمنشأ، بغوي الأصل.
صحب السريَّ السقطي، وابن أبي الحواري. وكان من أقران الجنيد رحمه الله.
مات سنة: خمس وتسعين ومائتين. وكان كبير الشأن، حسن المعاملة واللسان.
قال النوري، رحمه الله: التصوُّف: ترك كل حظ للنفس.
وقال النوري: أعزُ الأشياء في زماننا شيئان: عالم يعمل بعلمه، وعارف ينطق عن حقيقة.
سمعت أبا عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن محمد البرذعي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت النوري يقول: من رأيته يدَّعي مع الله حالة تخرجه عن حد العلم الشرعي فلا تقربنَّ منه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت الفرغاتي يقول: سمعت الجنيد يقول: منذ مات النوري لم يخْبِر عن حقيقة الصدق أحد.
وقال أبو أحمد المغازلي: مارأيت أعبد من النوري، قيل: ولا الجنيد. قال: ولا الجنيد.
وقال النوري: كانت المواقع غطاءً على الدرِّ، فصارت اليوم مزابل على جيّف.
وقيل: كان يخرج كلَّ يوم من داره، ويحمل الخبز معه. ثم يتصدَّق به في الطريق، ويدخل مسجداً يصِّلي فيه إلى قريب من الظهر؛ ثم يخرج منه ويفتح باب حانوته، ويصوم.
فكان أهله يتوهَّمون أنه يأكل في السوق، وأهل السوق يتوهَّمون أنه يأكل في بيته.
وبقي على هذا في ابتدائه عشرين سنة.
ومنهم:
أبو عبد الله الجلاء
أبو عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء بغداديُّ الأصل، أقام بالرملة ودمشق. من أكابر مشايخ الشام.
صحب أبا تراب، وذا النون، وأبا عبيد اليُسري؛ وأباه يحيى الجلاَّء.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد العزيز الطبري يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي، يقول: سمعت ابن الجلاَّء يقول: قلت لأبي وأمي: أحبُّ أن تهباني لله عزَّ وجل. فقالا: قد وهبناك لله عز وجلَّ.
فغبت عنهما مدَّة، فلما رجعت كانت ليلة مطيرة، فدققت الباب، فقال لي أبي: من ذا؟ قلت: ولدك أحمد.
فقال: كان لنا ولد، فوهبناه لله تعالى، ونحن من العرب لا نسترجع ما وهبناه. ولم يفتح لي الباب.
وقال ابن الجلاَّء: من استوى عنده المدح والذم، فهو زاهد. ومن حافظ على الفرائض في أول موافيتها فهو عابد، ومن رأى الأفعال كلها من الله، فهو مُوحِّد لا يرى إلا وَاحداً.
ولما مات ابن الجلاَّء نظروا إليه، وهو يضحك: فقال الطبيب: إنه حي.
ثم نظر إلى مجسَّته فقال: إنه ميت. ثم كشف عن وجهه، فقال: لا أدري أهو ميت أم حي!! وكان في داخل جلده عِرق على شكل الله.
وقال ابن الجلاَّء، رحمه الله، كنت أمشي مع أستاذي، فرأيت حدثاً جميلاً فقلت: يا أستاذي، تُرى يعذِّب الله هذه الصورة؟ فقال: أوَ نظرت إليهّّ سترى غبَّه.
قال: فنسيت القرآن بعده بعشرين سنة.
ومنهم:
أبو محمد رويم بن أحمد
بغداديُّ، من أجلَّة المشايخ. مات: سنة ثلاثة وثمانمائة.
وكان مقرئاً، وفقيها على مذهب داود.
قال رويم: من حِكم الحكيم، أن يوسِّع على إخوانه في الأحكام، ويضيِّق على نفسه فيها، فإن للتوسعة عليهم اتباع العلم، والتضييق على نفسه من حكم الورع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الواحد ابن بكر يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: سألت رويما، فقلت: أوصني.
فقال: ما هذا الأمر، إلا ببذل الروح، فإن أمكنك الدخول فيه مع هذا، وإلا فلا تشتغل بترَّهات الصوفية.
وقال رويم: قعودك مع كل طبقة من الناس أسلم من قعودك مع الصوفية، فإن كل الخَلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة على الحقائق وطالب الخلق كلهم أنفسهم بظواهر الشرع، وطالب هؤلاء أنفسَهم بحقيقة الورع، ومداومة الصدق، فمن قعد معهم وخالفهم في شيء مما يتحققون به نزع الله نورَ الإيمان من قلبه.
وقال رويم: اجتزت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك، وأنا عطشان، فاستقيت من دار، ففتحت صبيَّة بابها، ومعها كوز، فلما رأتني قالت: صوفيُّ يشرب بالنهار!! فما أفطرتُ بعد ذلك اليوم قط.
وقال رويم: إذا رزقك الله المقال، والفعال، فأخذ منك المقال وأبقى عليك الفعال فإنها نعمة، وإذا أخذ منك الفعال، وأبقى عليك المقال، فإنها مصيبة، وإذا أخذ منك كليهما فهي نقمة وعقوبة.
ومنهم:
أبو عبد الله البلخي
أبو عبد الله محمد بن الفضل البلخي ساكن سمرقند: بلخي الأصل، أخرج منها، فدخل سمرقند، ومات بها.
وصحب أحمد بن خَضْرويه، وغيره، وكان أبو عثمان الحيري يميل إليه جداً. مات سنة: تسع عشرة وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد ابن محمد القرَّاء، يقول: سمعت أبا بكر بن عثمان يقول: كتب أبو عثمان الحيري إلى محمد بن الفضل يسأله: ما علامة الشقاوة؟ فقال: ثلاثة أشياء: يُرزق العلم ويحرم العمل، ويرزق العمل ويحرم الإخلاص، ويرزق صحبة الصالحين ولا يحترمُ لهم.
وكان أبو عثمان الحيري يقول: محمد بن الفضل سمسار الرجال.
سمعت محمد الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت محمد ابن الفضل يقول: الراحة في السِّجن من أماني النفوس.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول: ذهاب الإسلام من أربعة: لا يعملون بما يعلمون، ويعملون بما لا يعلمون، ولا يتعلمون مالا يعلمون، ويمنعون الناس من التعلم.
وبهذا الإسناد، قال: العجب ممن يقطع المفاوز ليصل إلى بيته، فيرى آثار النبوة، كيف لا يقطع نفسه وهواه، ليصل إلى قلبه فيرى آثار رِّبه عزَّ وجلّ؟ وقال: إذا رأيت المريد يستزيد من الدنيا، فذلك من علامات إدباره.
وسئل عن الزهد، فقال: النظر إلى الدنيا بعين النقص والإعراض عنها تعزُّزاً، وتظرفاً، وتشرفاً.
ومنهم:
أبو بكر الزقاق الكبير
أبو بكر أحمد بن نصر الزقاق الكبير كان من أقران الجنيد. من أكابر مصر.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين بن أحمد يقول: سمعت الكتاني يقول: لما مات الزَّقاق انقطعت حُجَّةِ الفقراء في دخولهم مصر.
وقال الزقاق: من لم يصحبه التقّي في فقر أكل الحرام المحض.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن عبد الله بن عبد العزيز يقول: سمعت الزقَّاق يقول: تهت في تيه بني إسرائيل مقدار خمسة عشر يوماً، فلما وقعتُ على الطريق استقبلني إنسان جندي، فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها على قلبي ثلاثين سنة.
ومنهم:
أبو عبد الله المكي
أبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي لقي أبا عبد الله النباجي، وصحب أبا سعيد الخرَّاز وغيره.
شيخ القوم، وإمام الطائفة في الأصول والطريقة.
مات ببغداد سنة: إحدى وتسعين ومائتين.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن عبد الله ابن شاذان، يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد يقول: سمعت عمرو ابن عثمان المكي يقول:
كل ما
توهمه قلبك، أو رسخ في مجاري فكرتك، أو خطر في معارضات قلبك من حسن، أو
بهاء، أو أنس، أو جمال، أو ضياء، أو شبح، أو نور، أو شخص، أو خيال، فالله
تعالى بعيد من ذلك، ألا تسمع إلى قوله تعالى: " ليس كمثله شيء؛ وهو السميع
البصير " وقال: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد " .
وبهذا
الإسناد قال: العلم قائد، والخوف سائق، والنفس حَرون بين ذلك، جَموح،
خدَّاعة، مراوغة، فأحذرها بسياسة العلم، وسقها بتهديد الخوف يتم لك ما
تريد.
وقال: لا تقع على الواجد عبارة، لأنه سر الله عند المؤمنين.
ومنهم:
سمنون بن حمزة
وكنيته: أبو الحسن، ويقال: أبو القاسم.
صحب السرَّي، وأبا أحمد القلانسي، ومحمد بن علي القصَّار؛ وغيرهم. قيل إنه أنشد:
وليس لي في سواك حظ ... فكيفما شئت فاختبرني
فأخذه الأَسر من ساعته فكان يدور على المكاتب، ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب.
وقيل: إنه أنشد هذه الأبيات، فقال بعض أصحابه لبعض: سمعت البارحة، وكنت في الرُستاق صوت أستاذنا سمنون يدعو الله، ويتضَرَّع إليه، ويسأله الشفاء.
فقال آخر: وأنا أيضاً، كنت سمعت هذا البارحة، وكنت بالموضع الفلاني.
فقال ثالث، ورابع، مثل هذا، فأخبر سمنون، وكان قد امتُحن بعلّة الأسر، وكان يصبر ولا يجزع، فلما سمعهم يقولون هذا؛ ولم يكن هو دعا؛ ولا نطق بشيء من ذلك، علم أن المقصود منه إظهار الجزع تأدُّباً بالعبودية، وستراً لحاله، فأخذ يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمَّكم الكذَّاب.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس محمد ابن الحسن البغدادي يقول: سمعت جعفراً الخلدي يقول: قال لي أبو أحمد المغازلي.
كان ببغداد رجل فرق على الفقراء أربعين ألف درهم، فقال لي سمنون: يا أبا أحمد، ألا ترى ما قد أنفق هذا، وما قد عمله؟ ونحن ما نجد شيئاً!! فامض بنا إلى موضع نصلِّ فيه بكل درهم أنفقه ركعة.
فمضينا إلى المدائن، فصلّينا أربعين ألف صلاة.
وكان سمنون ظريف الخلُق، أكثر كلامه في المحبَّة. وكان كبير الشأن مات قبل الجنيد، كما قيل.
ومنهم:
أبو عبيد البسري
من قدماء المشايخ صحب أبا تراب النخشَبي.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن عليٍّ يقول: سمعت الدُّقي يقول: سمعت ابن الجلاَّء يقول: لقيت ستمائة شيخ فما رأيت مثل أربعة: ذي النون المصري، وأبي، وأبي تراب، وأبي عبيد البُسري.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن محمد البَغوي يقول: سمعت محمد بن معمر يقول: سمعت أبا زرعة الحسني يقول: كان أبو عبيد البسري يوماً على جرجر يدرس قمحاً له. وبينه وبين الحج ثلاثة أيام؛ إذ أتاه رجلان، فقالا: يا أبا عبيد، تنشط للحج؟ فقال: لا.
ثم إلتفت إليّ وقال: شيخك على هذا أقدر منهما. يعني نفسه.
ومنهم:
أبو الفوارس الكرماني
أبو الفوارس شاه بن شجاع الكرماني كان من أولاد الملوك.
صحب أبا تراب النَخْشَبيّ، وأبا عُبيد البُسْري، وأولئك الطبقة.
وكان أحد الفتيان كبير الشأن، مات قبل الثلاثمائة.
وقال شاه: علامة التقوى الورع، وعلامة الورع الوقوف عند الشبهات.
وكان يقول لأصحابه: اجتنبوا الكذب، والخيانة، والغيبة، ثم اصنعوا ما بدالكم.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت جدِّي ابن نجيد يقول: قال شاه الكرماني: من غَضَّ بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتِّباع السنة، وعوّد نفسه أكل الحلال لم تخطىء له فراسة.
ومنهم:
يوسف بن الحسين
شيخ الرَيِّ والجبال في وقته.
وكان نسيج وحَده في إسقاط التصنُّع.
وكان عالما أديباً، صحب ذا النون المصري، وأبا تراب النخشبي، ورافق أبا سعيد الخرَّاز مات سنة: أربع وثلاثمائة.
قال يوسف بن الحسين: لأن ألقي الله تعالى بجميع المعاصي أحبُّ إلى من أن ألقاه بذرَّةٍ من التصنّع.
وقال يوسف بن الحسين: إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص، فاعلم أنه لا يجيء منه شيء.
وكتب إلى الجنيد: لا أذانك لله طعم نفسك فإنك إن ذقتها لم تذق بعدها خيراً أبداً.
وقال يوسف بن الحسين: رأيت آفات الصوفية في صحبة الأحداث، ومعاشرة الأضداد، ورِفق النسوان.
ومنهم:
أبو عبد الله الترمذي
أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي من كبار الشيوخ، وله تصانيف في علوم القوم.
صحب أبا تراب النَّخشبي، وأحمد بن خضرويه؛ وابن الجلاّء، وغيرهم.
سئل محمد بن عليَّ: عن صفة الخَلْق، فقال: ضعف ظاهر، ودعوى عريضة.
وقال محمد بن عليٍّ: ما صَّنفت حرفاً عن تدبير، ولا لينسب إلىَّ شيء منه ولكن كان إذا اشتّد عليَّ وقتي أتسلى به.
ومنهم:
أبو بكر الوراق الترمذي
أبو بكر محمد بن عمر الوراق الترمذي أقام ببلخ.
وصحب أحمد بن خضرويه، وغيره، وله تصانيف في الرياضيات سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن محمد البلخي يقول: سمعت أبا بكر الورَّاق يقول: من أرضي الجوارح بالشهوات غرس في قلبه شجر الندامات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا بكر البلخي يقول: سمعت أبا بكر الورّاق يقول: لو قيل للطمع من أبوك؟ قال: الشك في المقدور.
ولو قيل: ما حرفتك؟ قال: اكتساب الذلِّ.
ولو قيل: ما غايتك؟ قال: الحرمان.
وكان أبو بكر الورّاق يمنع أصحابه عن الأسفار والسياحات ويقول: مفتاح كل بركة الصبر في موضع إرادتك إلى أن تصحَّ لك الإرادة، فإن صَحت لك الإرادة، فقد ظهرت عليك أوائل البركة.
ومنهم:
أبو سعيد الخراز
أبو سعيد أحمد بن عيسى الخراز من أهل بغداد.
صاحب ذا النون المصري، والنباجي، وأبا عبيد البسريَّ، والسري، وبشراً، وغيرهم.. مات سنة: سبع وسبعين ومائتين.
قال أبو سعيد الخرّاز: كل باطن يخالفه ظاهر فهو باطل.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا العباس الصياد يقول: سمعت أبا سعيد الخرّاز يقول: رأيت إبليس في النوم، وهو يمرّ عني ناحية، فقلت له: تعال، مالك؟ فقال: إيش أعمل بكم، وأنتم طرحتم عن نفوسكم ما أخادع به الناس!! فقلت: وما هو؟ قال: الدنيا.
فلما ولى عني، التفت إليّ، وقال: غير أن لي فيكم لطيفة.
فقلت: وما هي؟ قال: صحبة الأحداث.
وقال أبو سعيد الخرَّاز: صحبت الصوفية ما صحبت، فما وقع بيني وبينهم خلاف.
قالوا: لِمَ؟ قال: لأني كنت معهم على نفسي.
ومنهم:
أبو عبد الله المغربي
أبو عبد الله محمد بن إسماعيل المغربي أستاذ إبراهيم بن شيبان، وتلميذ عليّ بن رزين.
عاش مائة وعشرين سنة. ومات سنة: تسع وتسعين ومائتين.
كان عجيب الشأن، لم يأكل مما وصلت إليه يد بني آدم سنين كثيرة، وكان يتناول من أصول الحشيش أشياء تعوّد أكلها.
وقال أبو عبد الله المغربي: أفضل الأعمال عمارة الأوقات بالموافقات.
وقال: أعظم الناس ذلا فقير داهن غنياً، أو تواضع له. وأعظم الخلق عزا غنيّ نذلل للفقراء، وحفظ حرمتهم.
ومنهم:
أبو الحسن الأصبهاني
أبو الحسن علي بن سهل الأصبهاني من أقران الجنيد.
قصده عمرو بن عثمان المكيِّ في ديْن ركبه، فقضاه عنه، وهو ثلاثون ألف درهم.
لقي أبا تراب النخشبي والطبقة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن عبد الله الطبري يقول: سمعت عليَّ بن سهل يقول: المبادرة إلى الطاعة من علامة التوفيق..
والتقاعد عن المخالفات من علامات التيقظ..
وإظهار الدعاوي من رعونات البشري. ومن لم تصح مبادىء إرادته لا يسلم في منتهى عواقبه.
ومنهم:
أبو محمد الجريري
أبو محمد بن محمد بن الحسين الجريري من كبار أصحاب الجنيد. وصحب سهل بن عبد الله. أُقعد بعد الجنيد في مكانه وكان عالماً بعلوم هذه الطائفة. كبير الحال. مات سنة: إحدى عشرة وثلاثمائة.
سمعت أبا عبد الل الشيرازي، يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول: مات الجريري سنه الهبير، فجزت به بعد سنة، فذا هو مستند جالس وركبته إلى صدره، وهومشير إلى الله بأصبعه.
من استولت عليه النفس صار أسيراً في حكم الشهوات، محصوراً في سجن الهوى، وحرّم الله على قلبه الفوائد، فلا يستلذُّ بكلام الحق تعالى؛ ولا يستحيله ون كثر ترداده على لسانه؛ لقوله تعالى: " سأصرف عن آياتي الذين يتكبَّرون في الأرض بغير الحق " .
وقال الحريري:
رؤية الأصول باستعمال الفروع،
وتصحيح الفروع بمعارضة الأصول، ولا سبيل إلى مقام مشاهدة الأصول إلا
بتعظيم ما عظَّم الله من الوسائط والفروع.
ومنهم:
أبو العباس بن عطاء الآدمي
أبو العباس أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء الآدمي من كبار مشايخ الصوفية وعلمائهم، كان الخرّاز يعظِّم شأنه.وهو من أقران الجنيد، وصحب إبراهيم المارستاني. مات سنة: تسع وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا سعيد القرشي يقول: سمعت ابن عطاء يقول: من ألزم نفسه آداب الشريعة نوَّر الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، في أوامره؛ وأفعاله، وأخلاقه.
وقال ابن عطاء: أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربِّه عز وجلّ، وغفلته عن أوامره ونواهيه، وغفلته عن آداب معاملته.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الرحمن ابن أحمد الصوفيَّ يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: كل ما سئلتَ عنه فاطلبه في مفازة العِلم، فإن لم تجده، ففي ميدان الحكمة، فإن لم تجده فزِنه بالتوحيد، فإن لم تجده في هذه المواضع الثلاثة فاضرب به وجه الشيطان.
ومنهم:
أبو إسحق الخواص
أبو إسحق إبراهيم بن أحمد الخواص من أقران الجنيد والنُّوري، وله في التوكل والرياضات حظُّ كبير.
مات بالري سنة: إحدى وتسعين ومائتين.
كان مبطوناً؛ فكان كلما قام توضأ، وعاد إلى المسجد، وصلى ركعتين، فدخل مرَّة الماء فمات. رحمه الله.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الخوّاص يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، نما العالم من أتَّبع العلم واستعمله؛ واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي ابن جعفر يقول: سمعت الأزديَّ يقول: سمعت الخوّاص يقول: دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل؛ والتضرع عند السَحر، ومجالسة الصالحين.
ومنهم:
أبو محمد الخراز
أبو محمد عبد الله بن محمد الخراز من أهل الريِّ. جاور بمكة.
صحب أبا حفص، وأبا عمران الكبير.
وكان من المتورعين. مات قبل العشرة والثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا نصر الطوسي يقول: سمعت الدقي يقول: دخلت على عبد الله الخرَّاز، ولي أربعة أيام لم آكل، فقال: يجوع أحدكم أربعة أيام فيصبح ينادي عليه الجوع.
ثم قال: إيش يكون لو أن كلَّ نفس منفوسة تلفت فيم تؤمِّله عند الله ترى يكون ذلك كثيراً.
وقال أبو محمد عبد الله الخرَّاز: الجوع طعام الزاهين، والذكر طعام العارفين.
ومنهم:
أبو الحسن الحمال
أبو الحسن بنان بن محمد الحمال واسطي الأصل.
أقام بمصر، ومات بها سنة: ست عشرة وثلاثمائة.
كبير الشأن، صاحب الكرامات.
سئل بُنان عن أجلِّ أحوال الصوفية، فقال: الثقة بالمضمون؛ والقيام بالأوامر، ومراعاة السر، والتخلي من الكوفيين.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسن بن أحمد الرازي، يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: ألقي بنان الحمال بين يدي السبع، فجعل السبع يشمه ولا يضره.
فلما أخرج، قيل: ما الذي كان في قلبك حيث شمَّك السبع؟ قالوا: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السبع.
ومنهم:
أبو حمزة البغدادي البزاز
مات قبل الجنيد، وكان من أقرانه. صحب السريَّ، والحسن المسوحي.
وكان عالماً بالقراءات، فقيهاً.
وكان من أولاد عيسى بن أبان، وكان أحمد بن حنبل يقول له في المسائل.
ما تقول فيها يا صوفي؟ قيل: كان يتكلم في مجلسه يوم جمعة فتغير عليه الحل، فسقط عن كرسيه: ومات في الجمعة التالية.
وقيل: مات سنة تسع وثمانين مائتين.
قال أبو حمزة: من علم طريق الحق تعالى سهل عليه سلوكه، ولا دليل على الطريق إلى الله تعالى إلا متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أحواله، وأفعاله وأقواله.
وقال أبو حمزة: من رُزق ثلاثة أشياء، فقد نجا من الآفات: بطن خال من قلب قانع، وفقر دائم معه زهد حاضر، وصبر كامل معه ذكر دائم.
ومنهم:
أبو بكر الواسطي
أبو بكر محمد بن موسى الواسطي خراسني الأصل. من فرغانة. صحب الجنيد والنوري.
عالم كبير الشأن. أقام بمرو، ومات بها بعد العشرين والثلاثمائة.
قال الواسطي: الخوف والرجاء زمامان يمنعان العبد من سوء الأدب.
وقال: الواسطي: إذا أراد الله هوان عبد القاه لى الأنتان والجيف، يريد به صحة الأحداث.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن عبد العزيز
المروزي، يقول: سمعت الواسطي يقول: جعلوا سوء أدبهم إخلاصاً، وشره نفوسهم
انبساطاً؛ ودناءة الهمم جلادة، فعموا عن الطريق، وسلكوا فيه المضيق، فلا
حياة تنموا في شواهدهم، ولا عبادة تزكوا في محاضرتهم، إن نطقوا فبالغصب
وإن خاطبوا فبالكبر، وثب أنفسهم ينبىء عن خبث ضمائرهم، وشرهم في المأكول
يظهر ما في سويداء أسرارهم. قاتلهم الله أنى يؤفكون.
سمعت الأستاذ أبا
علي الدقَّاق، رحمه الله، يقول: سمع بعض المراوزة إنساناً صيدلانياً،
يقول: اجتاز الواسطيُّ يوم جمعة بباب حانوتي، قاصداً إلى الجامع. فانقطع
شسع نعله، فقلت: أيها الشيخ، أتأذن لي أن أصلح نعلك؟ فقال: أصلح.
فأصلحت شسعه، فقال: أتدري لم أنقطع شسع نعلي؟ فقلت: حتى تقول.
قال: لأني ما اغتسلت للجمعة!! فقلت له: ياسيدي، هاهنا حمام تدخله؟ فقال: نعم. فأدخلته الحمَّام فاغتسل.
ومنهم:
أبو الحسن بن الصائغ
واسمه: علي بن محمد بن سهل الدَّينوري.
أقام بمصر، ومت به، وكان من كبار المشايخ.
قال أبو عثمان المغربي: ما رأيت من المشايخ أنور من أبي يعقوب النهرجوري، ولا أكثر هيبة من أبي الحسن بن الصائغ.
مات سنة: ثلاثين وثلاثمائة سئل ابن الصائغ عن الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقال: كيف يستدل بصفات من له مثل ونظير على من لا مثل له ولا نظير؟! وسئل عن صفة المريد، فقال: ما قال الله عز وجل: " وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم " الآية.
وقال: الأحوال كالبروق، فإذا ثبتت فهو حديث النفس وملازمة الطبع.
ومنهم:
أبو إسحق الرقي
أبو إسحق إبراهيم بن داود الرقي من كبار مشايخ الشّام.
من أقران الجنيد، وابن الجلاَّء.
وقد عمر، وعاش إلى سنة: ست وعشرين وثلاثمائة.
وقال إبراهيم الرقي: المعرفة: إثبت الحق على ما هو، خارجا عن كل ما هو موهوم.
وقال: القدرة ظاهرة، والأعين مفتوحة. ولكن أنوار البصائر قد ضعفت.
وقال: أضعفَ الخلق: من ضعف عن ردّ شهواته، وأقوى الخلق: من قوي على ردِّها.
وقال: علامة محبة الله: إيثار طاعته، ومتابعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومنهم:
ممشاد الدينوري
من كبار مشايخهم. مات سنة: تسع وتسعين ومائتين.
قال ممشاد.
أدب المريد في التزام حُرمات المشايخ، وخدمة الإخوان، والخروج عن الأسباب، وحفظ آداب الشرع على نفسه.
وقال ممشاد: ما دخلت قط على أحد من شيوخي، إلا وأنا خال من جميع مالي أنتظر بركات ما يَرد عليّ من رؤيته وكلامه، فإن من دخل على شيخ بحظه انقطع عن بركات رؤيته ومجالسته، وكلامه.
ومنهم: خير النساج صحب أبا حمزة البغداديَّ، ولقي السري، وكان من أقران أبي الحسن النوري إلا أنه عمرَّ عمراً طويلاً. وعاش، كما قيل، مائة وعشرين سنة.
وتاب في مجلسه: الشبلي، والخوَّاص. وكان أستاذ الجماعة.
وقيل: كان اسمه محمد بن إسماعيل، من سامرة، وإنما سُمي خير النسْاج، لأنه خرج إلى الحج، فأخذ رجل على باب الكوفة وقال: أنت عبدي، واسمك خير.
وكان أسود - فلم يخالفه. واستعمله الرجل في نسج الخز، فكان يقول له: يا خير فيقول: لبَّيك.
ثم قال له الرجل بعد سنين: غلطت، لا أنت عبدي ولا أسمك خير فمضى وتركه، وقال: لا أغيرِّ اسماً صماني به رجل مسلم.
وقال: الخوف سوط الله يقوّم به أنفساً قد تعودت سوء الأدب.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الحسن القزويني يقول: سمعت أبا الحسين المالكي، يقول: سألت من حضرَ موت خير النساج عن أمره؟ فقال: لما حضرت صلاةُ المغرب غشى عليه، ثم فتح عينيه، وأومأ في ناحية البيت وقال: قف، عافاك الله، فإنما أنت عبد مأمور وأنا عبدٌ مأمور.
وما أُمرت به لا يفوتك وما أمرت به يفوتني.
ودعا بماء فتوضأ للصلاة، ثم تمدّد. وغمض عينيه، وتشهَّد، ومات فرؤى في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟
فقال لسائله: لا تسألني عن هذا، ولكن استرحت من دنياكم الوضرة!! ومنهم:
أبو حمزة الخراساني
بنيسابور، أصله من محَّلة ملقاباذ. من أقران الجنيد، والخرَّاز وأبي تراب النخشبي. وكان ورعاً، ديِّناً.
قال أبو حمزة: من استشعر ذكر الموت حبب الله إليه كل باق، وبغّض إليه كل فان: وقال: العارف بالله يدافع عيشَه يوماً بيوم، ويأخذ عيشه يوما ليوم.
وقال له رجل: أوصني.
فقال: هيىء زادك للسفر الذي بين يديك.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا الطيب العكي يقول: سمعت أبا الحسن المصري يقول: سمعت أبا حمزة الخراساني، يقول: كنت قد بقيت محرماً في عباء، أسافر كل سنة ألف فرسخ تطلع الشمس علي وتغرب، كلما حللت أحرمت.
توفي سنة: تسعين ومائتين.
ومنهم:
أبو بكر بن جحدر الشبلي
بغداديُّ المولد والمنشأ. واصله من أُسرٌ وشنْة.
صحب الجنيد ومن في عصره، وكان شيخ وقته: حالاً، وظرفاً، وعلماً.
مالكي المذهب. عاش سبعاً وثمانين سنة، ومات سنة: أربع وثلاثين وثلاثمائة. وقبره ببغداد.
ولما تاب الشبلي في مجلس خير النسَّاج أتى دماوند، وقال: كنت وإلى بلدكم، فاجعلوني في حل.
وكانت مجاهداته في بدايته فوق الحدّ.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق؛ رحمه الله، يقول: بلغني أنه اكتحل بكذا. وكذا.. ومن الملح؛ ليعتاد السهر، ولا يأخذه النوم ولو لم يكن من تعظيمه للشرع إلا ما حكاه بكران الدينوري في آخر عمره لكان كثيراً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: كان الشبلي، رحمه الله، يقول في آخر أيامه:
وكم من موضع لو مت فيه ... لكنت به نكالا في العشيرة
وكان الشبلي إذا دخل شهر رمضان جد فوق جدّ من عاصره، ويقول: هذا شهر عظمه ربي، فأنا أوَّل من يعظِّمه.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ يحكي ذلك عنه.
ومنهم:
أبو محمد المرتعش
أبو محمد عبد الله بن محمد المرتعش نيسابوري، من محَّلة الحيرة. وقيل: من ملقاباذ.
صحب أبا حفص، وأبا عثمان، ولقي الجنيد، وكان كبير الشأن.
وكان يقيم في مسجد الشُّونزيّه. مات ببغداد سنة: سمان وعشرين وثلاثمائة.
قال المرتعش: الإرادة: حبس النفس عن مراداتها، والإقبال على أوامر الله تعالى، والرضا بموارد القضاء عليه.
وقيل له: إن فلاناً يمشي على الماء.
فقال: عندي أنَّ من مكَّنه الله تعالى من مخالفة هواه فهو أعظم من المشي في الهواء.
ومنهم:
أبو علي الروذباري
أبو علي أحمد بن محمد الروذباري بغداديُّ، أقام بمصر. ومات بها سنة: اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
صحب الجنيد، والنوري، وابن الجلاء، والطبقة.
أظرف المشايخ وأعلمهم بالطريقة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سئل أبو علي الروذباري عمن يسمع الملاهي ويقول: هي لي حلال، لأني وصلت إلى درجة لا تؤثِّر في اختلاف الأحوال.
فقال: نعم، قد وصل، ولكن إلى سقر!! وسئل عن التصوف، فقال: هذا مذهب كله جدُّ، فلا تخلطوه بشيء من الهزل.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: من علامة الاغترار أن تسيء فيحسن الله إليك، فتترك الأنابة والتوبة، وهما أنك تسامَح في الهفوات، وترى أن ذلك من بسط الحق لك..
وقال: كان أستاذي في التصُّوف: الجنيد. وفي الفقه: أبو العباس ابن شريح، وفي الأدب: ثعلب، وفي الحديث: إبراهيم الحربي.
ومنهم:
أبو محمد عبد الله بن منازل
شيخ الملامتية، وأوحد وقته. صحب حمدون القصّار.
وكان عالماً وكتب الحديث الكثير.
مات بنيسابور سنة: تسع وعشرين، أو ثلاثين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله المعلم يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: لم يضيّع أحد فريضة من الفرائض إلا ابتلاه الله تعالى بتضييع السنن، لم يْبلَ أحد بتصنيع السنن إلا وشك أن يبتلي بالبدع.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت أبا أحمد بن عيسى يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: أفضل أوقاتك: وقت تسلم فيه من هواجس نفسك، ووقت تسلم فيه من سوء ظنِّك.
ومنهم:
أبو علي الثقفي
أبو علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي إمام الوقت. صحب أبا حفص، وحمدون القصَّار.
وبه ظهر التصُّوف بنيسابور: مات سنة: ثمان وعشرين وثلاثمائة.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت أبا علي الثقفي
يقول: لو أني رجلاً جمع العلوم كلها، وصحب طوائف الناس لا يبلغ مبلغ
الرجال إلا بالرياضة: من شيخ، أو إمام، أو مؤدِّب ناصح. ومن لم يأخذ أدبه
من أستاذ يريَه عيوب أعماله، ورعونات نفسه، لايجوز الاقتداء به في تصحيح
المعاملات.
وقال أبو علي رحمه الله: يأتي على هذه الأمة زمان لا تطيب المعيشة فيه المؤمن إلا بعد إستناده إلى منافق.
وقال: أف من أشال الدنيا إذا أقبلت، وأف من حسراتها إذا أدبرت، والعاقل من لا يركن إلى شيء إذا أقبل كان شغلاً، وإذا أدبر كان حسرة.
ومنهم:
أبو الخير الأقطع
مغربيُّ الأصل، سكن تينَات.
وله كرامات، وفراسة حادَّة.
كان كبير الشأن، مات سنة: نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال أبو الخير: ما بَلغ أحد إلى حالة شريفة إلاَّ بملازمة الموافقة، ومعانقة الأدب، وأداء الفرائض، وصحبة الصالحين.
ومنهم:
أبو بكر الكتاني
أبو بكر محمد بن علي الكتاني بغدادي الأصل.
صحب الجنيد، والخراز، والنوري.
وجاور بمكة إلى أن مات سنة: اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: نظر الكتَّاني إلى شيخ أبيض الرأس واللحية يسأل الناس، فقال: هذا رجل أضاع حق الله في صِغره، فضيعَّه الله في كبره.
وقال الكتَّاني الشهوة زمام الشيطان، فمن أخذ بزمامه كان عبده.
ومنهم:؟ أبو يعقوب اسحق بن محمد النهرجوري صحب أبا عمرو المكيَّ، وأبا يعقوب السوسي، والجنيد، وغيرهم.
مات بمكة مجاوراً بها، سنة: ثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا الحسين أحمد بن علي يقول: سمعت النهرجوري، يقول: الدنيا بحر، والآخرة ساحل، والمركب التقوي، والناس سفْرَ.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر الرازيَّ يقول: سمعت النهرجوري يقول رأيت رجلاً في الطواف بفردعين، يقول أعوذ بك منك.
فقلت: ما هذا الدعاء؟ فقال: نظرت يوماً إلى شخص فاستحسنته، وإذا لطمة وقعت على بصري، فألست عيني، فسمعت هاتفاً يقول: لكمة بنظرة.. ولو زدت لزدناك.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن عليٍّ يقول: سمعت النهرجوري يقول: أفضل الأحوال ما قارن العلم.
ومنهم: ؟أبو الحسن علي بن محمد المزين من أهل بغداد، من أصحاب سهل بن عبد الله، والجنيد، والطبقة.
مات بمكة مجاوراً سنة: ثمان وعشرين وثلاثمائة.
وكان ورعاً كبيراً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت المزِّين يقول: الذنب بعد الذنب عقوبة الذنب الأوَّل، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة الأولى.
وسئل المزين عن التوحيد، فقال: أن تعلم أن أوصافه تعالى بائنة لأوصاف خلق، بَاينَهم بصفاته قدْماً كما باينوه بصفاتهم حدثاً.
وقال: من لم يستغن بالله أحوجه الله إلى الخلق، ومن استغنى بالله أحوج الله الخلق إليه.
ومنهم:
أبو علي بن الكاتب
واسمه الحسن بن أحمد. صحب أبا علي الروذباري، وأبا بكر المصري، وغيرهما.
كان كبيراً في حاله.
مات سنة: نيف وأربعين وثلاثمائة.
قال ابن الكاتب: إذا سكن الخوف في القلب لم ينطق اللسان إلا بما يعنيه.
وقال ابن الكاتب: العتزلة تزهوا الله تعالى من حيث العقل فأخطأوا، والصوفية نزَّهوه من حيث العلم فأصابوا.
ومنهم:
مظفر القرمسيني
من أشياخ الجبل. صحب عبد الله الخرَّاز، وغيره.
قال مظفر الفرمسيني: الصوم على ثلاثة أوجه: صوم الروحِ بقصر الأمل، وصوم العقل بخلاف الهوى، وصوم النفس بالإمساك عن الطعام والمحارِم.
وقال مظفر: أخَسُّ الإرفاق: أرفاق النسوان، على أيِّ وجه كان.
وقال: الجوع إذا ساعدته القَشاعة فهو مزرعة الفِكرة، وينبوع الحكمة، وحياة الفطنة، ومصباحُ القلب.
وقال: أفضل أعمال العبيد: حفظُ أوقاتهم الحاضرة، وهو أن لا يقصروا في أمر، ولا يتجاوزوا عن حدِّ.
وقال: من لم يأخذ الأدب عن حكيم لم يتأدَّب به مريد.
ومنهم:
أبو بكر الأبهري
أبو بكر عبد الله بن طاهر الأبهري
من أقران الشبليِّ. من مشايخ الجبل.
عالم وَرع، صحب يوسف بن الحسين، وغيره.
مات بقرب من الثلاثين والثلاثمائة.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت
أبا بكر بن طاهر يقول: من حُكم الفقير أن لا يكون له رغبة، فإن كان ولابد،
فلا تجاوز رغبتَه كفايتُه يعني المحتاج إليه.
وبهذا الإسناد قال: إذا أحببت أخاً في الله، فاقلل مخالطته في الدنيا.
ومنهم:
أبو الحسين بن بنان
ينتمي إلى أبي سعيد الخرَّاز. من كبار مشايخ مصر.
قال ابن بُنان: كل صوفيِّ كان همٌّ الرزق قائماً في قلبه فلزومُ العمل أقرب إليه.
وعلامة سكون القلب إلى الله: أن يكون بما في يد الله أوثقُ منه بما في يده.
وقال: اجتنبوا دناءة الأخلاق كما تجتنبون الحرام.
ومنهم:
أبو إسحق القرمسيني
أبو اسحق إبراهيم بن شيبان القرمسيني شيخ وقته. وصحب أبا عبد الله المغربيَّ، والخوَّاص، وغيرهما.
سمعت محمد بن الحسين، يقول: سمعت أبا يزيد المروزي الفقيه يقول سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: من أراد أن يتعطَّل أو يتبطل فليلزم الرُّخص.
وبهذا الإسناد قال: عِلم الفناء والبقاء يدور على إخلاص الوحدانية، وصحةِ العبودية وما كان غير هذا، فهو المغاليط والزندقة.
وقال إبرهيم: السِّفلة من يعي الله عزّ وجلَّ.
ومنهم:
أبو بكر بن يزدانيار
أبو بكر الحسين بن علي بن يزدانيار من أرمينية. له طريقة يختص بها في التصوف.
وكان عالماً ورعاً، وكان ينكر على بعض العارفين في إطلاقات وألفاظ لهم.
قال ابن يزدانيار: إيَّاك أن تطمع في الانس بالله وأنت تحب الأنس بالناس.
وإيَّاك أن تطمع في حبِّ الله وأنت تحب الفضول.
وإيَّاك أن تطمع في المنزلة عند الله وأنت تحب المنزلة عند الناس.
ومنهم:
أبو سعيد بن الأعرابي
واسمه: أحمد بن محمد بن زياد البصريِّ.
جاور الحرم، ومات به سنة: إحدى وأربعين وثلاثمائة.
صحب الجنيد، وعمرو بن عثمان المكيِّ، والنوري، وغيرهم.
قال ابن الأعرابي: أخْسَر الأخسرين من أبدي للناس صالح أعماله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد.
ومنهم:
أبو عمرو الزجاجي النيسابوري
أبو عمرو محمد بن إبراهيم الزجاجي النيسابوري جاور بمكة سنين كثيرة ومات بها.
صحب الجنيد، وأبا عثمان، والنوريَّ، والخوَّاص، ورويماً.
مات سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي أبا عمرو بن نجيد يقول: سئل أبو عمرو الزجاجي: ما بالك تتغير عند التكبيرة الأولى في الفرائض؟ فقال: لأني أخشى أن أفتتح فريضتي بخلاف الصدق، فمن يقول: الله أكبر، وفي قلبه شيء أكبر منه، أو قد كبرَّ شيئاً سواءه على مرور الأوقات، وفقد كذّب نفسه على لسانه.
وقال: من تكلم عن حالٍ لم يصل إليها كان كلامه فتنة لمن يسمعه، ودعوى تتولد في قلبه، وحرَمه الله الوصول إلى تلك الحال.
وقد جاور بمكة سنين كثيرة لم يتطهرَّ في الحرم، بل كان يخرج إلى الحلِّ ويتطهرَّ فيه.
ومنهم:
أبو محمد بن نصير
أبو محمد جعفر بن محمد بن نصير بغدادي المنشأ والمولد.
صحب الجنيد، وانتمى إليه، وصحب النوري، ورويما، وسمنون، والطبقة. مات ببغداد سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
قال جعفر: لا يجد العبد لذّة المعاملة مع الله مع لذة النفس، لأن أهل الحقائق قطعوا العلائق التي تقطعهم عن الحق، قبلأن تقطعهم العلائق.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت جعفراً يقول: إن ما بين العبد وبين الوجود أن تسكن التقوى قلبه، فإذا سكنت التقوى قلبه نزلت عليه بركات العلم، وزالت عنه رغبة الدنيا.
ومنهم:
أبو العباس السياري
واسمه: القاسم بن القاسم.
من مرو صحب الواسطي، وانتمي إليه في علوم هذه الطائفة.
وكان عالماً.
مات سنة: اثنتين وأربعين وثلاثمائة.
سئل أبو العباس السيَّاري: بماذا يروض المريد نفسه؟ فقال: بالصبر على فعل الأوامر، واجتناب النواهي، وصحبة الصالحين، وخدمة الفقراء.
وقال: ما التذَّ عاقل بمشاهدة الحق قد، لأن مشاهدة الحق فناء، ليس فيها لذة.
ومنهم:
أبو بكر الدينوري
أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالدقيّ.
أقام بالشام وعاش أكثر من مائة سنة.
مات بدمشق بعد الخمسين والثلاثمائة.
صحب أبن الجلاَّء، والزقَّاق.
قال أبو بكر الدقيّ.
المعدة
موضع يجمعُ الأطعمة، فإذا طرحتَ فيها الحلال صدرت الأعضاء بالأعمال
الصالحة، وإذا طرحت فيها الشبهة اشتب عليك الطريق إلى الله تعالى - وإذا
طرحت فيها التبعات كان بينك وبين أمر الله حجاب.
ومنهم:
أبو محمد الرازي
أبو محمد عبد الله بن محمد الرازي مولده ومنشؤه بنيسابور.
صحب أبو عثمان الحيريَّ، والجنيد، ويوسف بن الحسين، ورويماً، وسمنوناً، وغيرهم.
مات سنة: ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول وقد سئل: ما بال الناس يعرفون عيوبهم ولا يرجعون إلى الصواب؟ فقال: لأنهم اشتغلوا بالمباهاة بالعلم، ولم يشتغلوا باستعماله، واشتغلوا بالظواهر ولم يشتغلوا بآداب البواطن، فأعمى الله قلوبهم، وقيد جوارحهم عن العبادات.
ومنهم:
أبو عمرو إسماعيل بن نجيد
صحب أبا عثمان، ولي الجُنيد.
وكان كبير الشأن.
آخر من مات من أصحاب أبي عثمان. توفي بمكة سنة: ست وستين وثلاثمائة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت جدِّي أبا عمرو بن نجيد يقول: كل حال لا يكون عن نتيجة علم؛ فإن ضررَه على صاحبه أكثر من نفعه.
قال: وسمعته يقول: من ضيع في وقت من أوقاته فريضة افترضها الله عليه حرِمَ لذَّة تلك الفريضة، ولو بعد حين.
قال: وسئل عن التصوف، فقال: الصبر تحت الأمر والنهي.
قال، وقال: آفة العبد رضاه من نفسه بما هو فيه.
ومهنهم:
أبو الحسن البوشنجي
أبو الحسن علي بن أحمد بن سهل البوشنجي أحد فتيان خُراسان.
لقي أبا عثمان، وابن عطاء، والجريري، وأبا عمر والدَّمشقيَّ.
مات سنة: ثمان وأربعين وثلاثمائة.
وسئل البوشنجي عن المروءة فقال: هي ترك استعمال ما هو محرَّم مع الكرام الكاتبين.
وقال له إنسان: ادع الله لي.
فقال: أعاذك الله من فتنتك.
وقال: أوَّل الإيمان منوط بآخره.
ومنهم:
أبو عبد الله الشيرازي
أبو عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي صحب رويماً، والجريري، وابن عطاء، وغيرهم.
مات سنة: إحدى وسبعين وثلاثمائة.
وهو شيخ الشيوخ وواحد وقته.
قال ابن خفيف: الإدارة استدامةُ الكدِّ؛ وترك الراحة.
وقال: ليس شيء أضر على المريد من مسامحة النفس في ركوب الرحل وقبول التأويلات.
وسئل عن القرب، فقال: قُربك منه بملازمة الموافقات، وقُربه منك بدوام التوفيق.
سمعت أبا عبد الله الصوفيَّ، يقول: سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول: ربَّما كنت أقرأ في ابتداء أمري في ركعة واحدة عشرة آلاف مرةًّ قل هو الله أحد وربما كنت أقرأ في ركعة واحدة القرآن كله، وربما كنت أصلي من الغداة إلى العصر ألف ركعة.
سمعت أبا عبد الله بن باكويه الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا أحمد الصغير يقول: دخل يوماً من الأيام فقير، فقال الشيخ أبي عبد الله أبن خفيف.
بي وسوس!! فقال الشيخ: عهدي بالصوفيَّة يسخرون من الشيطان، والآن الشيطان يسخر منهم.
وسمعته يقول: سمعت أبا العباس الكرخي يقول: سمعت أبا عبد الله ابن خفيف يقول: ضعفت عن القيام في النوافل، فجعلت بدل كل ركعة من أورادي ركعتين قاعداً، للخبر: صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم.
ومنهم:
أبو الحسين الشيرازي
أبو الحسين بندار بن الحسين الشيرازي كان عالماً بالأصول، كبيراً في الحال.
صحب الشبلي.
مات بأرَّجان سنة: ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
قال بُندار بن الحسين: لا تخاصم لنفسك، فإنها ليست لك، دعها لمالكها يفعل بها ما يريد.
وقال بُندار: صحبة أهل البدع تورث الإعراض عن الحق.
وقال بُندار: اترك ما تهوى لما تأمل.
ومنهم:
أبو بكر الطمستاني
صحب إبراهيم الدَّباغ، وغيره.
وكان أوحد وقته علماً، وحالاً مات بنيسابور بعد سنة: أربعين وثلاثمائة قال أبو بكر الطمِّستاني: النعمة العظمة الخروج من النفس، والنفس أعظم حجاب بينك وبين الله سمعت أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: سمعت منصور ابن عبد الله الأصبهانيِّ، يقول: سمعت أبا بكر الطمِّستاني يقول:
إذا هَم القلب عوقب في الوقت.
وقال:
" الطريق واضح، والكتاب والسنَّة قائم بين أظهرنا وفضل الصحابة معلوم؛
لسبقهم إلى الهجرة، ولصحبتهم؛ فمن صحب منا الكتاب والسنة وتغرَّب عن نفسه
والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله، فهو الصادق المصيب " .
ومنهم:
أبو العباس الدينوري
أبو العباس أحمد بن محمد الدينوري صحب يوسف بن الحسين، وابن عطاء، والجريريَّ.
وكان عالماً فاضلاً؛ ورد نيسابور وأقام بها مدّضة، وكان يعظ الناس، ويتكلم على لسان المعرفة، ثم ذهب إلى سمرقند، ومات بها بعد الأربعين وثلاثمائة.
قال أبو العباس الدَّينوري: أدْنى الذكر أن تنسى مادونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر.
وقال أبو العباس: لسان الظاهر لا يغيَّر حكم الباطن.
وقال أبو العباس الدينوري: أدنى الذكر أن تنسى ما دونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر.
وقال أبو العباس: لسان الظاهر لا يغيَّر حكم الباطن.
وقال أبو العباس الدينوري: نقضوا أركان التصوف، وهدموا سبيلها، وغيروا معانيها بأسامي أحدثوها: سمُّو الطمع زيادة، وسوء الأدب إخلاصاً والخروج عن الحق شطحاً والتلذذ بالمذموم طيبة، واتباع الهوي ابتلاء والرجوع إلى الدنيا وصلا،وسوء الخلق صولة، والبخل جلادة والسؤال عملاً وبذاءة اللسان ملامة. وما هذا كان طريق القوم.
ومنهم:
أبو عثمان المغربي
أبو عثمان سعيد بن سلام المغربي واحد عصره، لم يوصف مثله قبله.
صحب ابن الكاتب، وحبيباً المغربيَّ، وأبا عمرو الزجاجيَّ، ولقي النهرجوري وابن الصائغ وغيرهم.
مات بنيسابور سنة: ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
وأوصى بأن يُصلى عليه الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى.
سمعت الأستاذ أبو بكر بن فورك يقول: كنت عند أبي عثمان المغربي حين قرب أجله، وعليّ القوال الصغير يقول شيئاً، فلما تغير عليه الحال أشرنا على عليّ بالسكوت، ففتح الشيخ أبو عثمان عينيه، وقال: لم لا يقول عليّ شيئاً؟ فقلت لبعض الحاضرين: سلوه، علام يسمع المستمع، فإني أحتشمه في تلك الحالة فسألوه، فقال: إنما يسمع من حيث يسمع.
وكان في الرياضة كبير الشأن.
وقال أبو عثمان: التقوى، هي: الوقوف مع الحدود، لا يُقصر فيها ولا يتعدَّاها.
وقال: من آثر صحبة الآغنياء على مجالسة الفقراء ابتلاه الله بموت القلب.
ومنهم:
أبو القاسم النصراباذي
أبو القاسم إبراهيم بن محمد النصراباذي شيخ خراسان في وقته.
صحب الشبليَّ، وأبا علي الروذباريَّ، والمرتعش.
جاور بمكة سنة: ست وستين وثلاثمائة. ومات بها سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وكان عالماً بالحديث، كثير الرواية.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: إذا بدا لك شيء من بوادي الحق، فلا نلتفت معها إلى جنَّة، ولا إلى نار، فإذا رجعت عن تلك الحال فعظِّم ما عظمه الله.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: قيل للنصراباذي: إن بعض الناس يجالس النسوان، ويقول: أنا معصوم في رؤيتهن.
فقال: ما دامت الأشباح باقية فإن الأمر والهي باق، والتحليل والتحريم مخاطب به؛ ولن يجترىء على الشبهات إلا من تعرض للمحرمات.
وسمعت محمد بن الحسين، رحمة الله، يقول: قال النصراباذي: أصل التصوف: ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع وتعظيم حرمات المشايخ، ورؤية أعذار الخلق، والمداومة على الأوراد، وترك ارتكاب الرخص والتأويلات.
ومنهم:
أبو الحسن الحصري البقري
أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري البقري سكن بغداد.
عجيب الحال واللسان، شيخ وقته.
ينتمي إلى الشبليِّ.
مات ببغداد سنة: إحدى وسبعين وثلاثمائة.
قال الحصري: الناس يقولون: الحصري لا يقول بالنوافل، وعلى أوراد من حال الشباب لو تركت ركعة لعوقبت.
وقال: من ادَّعى في شيء من الحقيقةُ كذَّبته شواهد كشف البراهين.
ومنهم:
أبو عبد الله الروذباري
أبو عبد الله بن أحمد بن عطاء الروذباري ابن أخت الشيخ أبي علي الروذباري.
شيخ الشم في وقته مات بصور سنة: تسع وستين وثلاثمائة.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت على بن سعيد المصيصي، يقول: سمعت أحمد بن عطاء الروذباري يقول:
كنت
راكباً جملاً، فغاصت رجلاً الجمل في الرمل، فقلت: جل الله، فقال الجمل: جل
الله. وكان أبو عبد الله الروذباري إذا دعا أَصحابه معه إلى دعوة في دور
السوقة، ومن ليس من أهل التصوف لا يُخْبر الفقراء بذلك، وكان يطعمهم
شيئاً، فإذا فرغوا أخبرهم، ومضى بهم فكانوا قد أكلوا في الوقت فلا يمكنهم
أن يمدوا أيديهم إلى طعام الدعوة إلا بالتعزز.
وإنما كان يفعل ذلك، لئلا تسوء ظنُون الناس بهذه الطائفة فيأثموا بسببهم.
وقيل:
كان أبو عبد الله الروذباري يمشي على أثر الفقراء يوماً، وكذا كانت عادته
أن يمشي على أثرهم، وكانوا يمضون إلى دعوة فقال إنسان بقَّال: هؤلاء
المستحلون وبسط لسانه فيهم، وقال في اثناء كلامه: إن واحداً منهم قد
استقرض منيِّ مائة درهم. ولم يردها عليَّ ولست أدري أين أطلبه؟ فلما دخلوا
دار الدعوة، قال أبو عبد الله الروذباري لصاحب الدار وكان من محِّبي هذه
الطائفة.
إثنتي بمائة درهم إن أردت سكون قلبي.
فأتاه بها في الوقت
فقال لبعض أصحابه: أحمل هذه المائة إلى البقَّال الفلانيِّ، وقل له: هذه
المائة التي استقرضها منك بعض أصحابنا، وقد وقع له في التأخير بها عذر،
وقد بعثها الآن.. فأقبل عذهر!! فمضى الرجل، وفعل، فلما رجعوا من الدعوة
اجتازوا بحانوت البقَّال، فأخذ البقال في مدحهم يقول: هؤلاء هم الثقاةُ
الأمناء الصلحاء، وما أشبه ذلك.
وقال أبو عبد الله الروذباري: أقبح من كل قبيح صوفي شحيح.
قال أبو القاسم الأستاذ الإمام جمال الإسلام، رضي الله عنه هذا هو ذكر جماعة من شيوخ هذه الطائفة.
وكان
الغرض من ذكرهم في هذا الموضع التنبيه على أنهم مجمعون على تعظيم الشريعة؛
متصفون بسلوك طرق الرياضة، مقيمون على متابعة السنة، غير مخلين بشيء من
آداب الديانة، متفقون على أن من خلا من المعاملات والمجاهدات ولم يبن أمره
على أساس الورع والتقوى كان مفترياً على الله سبحانه وتعالى، فيما يدعيه،
متفونا، هلك في نفسه، وأهلك من أغتر به ممن ركن إلى أباطيله.
ولو
تقصينا، وتتبعنا ما ورد عنهم: من ألفاظهم، وحكاياتهم، ووصف سيرهم مما يدل
على أحوالهم، لطال به التاب، وحصل منه الملال: وفي هذا القدر الذي لوحنا
به في تحصيل المقصود غنية، وبالله التوفيق.
فأما المشايخ الذين
أدركناهم، وعاصرناهم، وإن لم يتفق لنا لقياهم، مثل: الاستاذ الشهيد، لسان
وقته، وأوحد عصره، أبي عليِّ الحسن بن علي الدقاق، والشيخ، نسيج وحده في
وقته، أبي عبد الرحمن السلمي، وابي الحسن علي بن جَهضم مجاور الحرم والشيخ
أبي العباس القصار بطبرستان. وأحمد الأسود بالدينور؛ وابي القاسم الصيرفي
بنيسابور، وابي سهل الخشاب الكبير بها. ومنصور بن خلف المغربي، وأبي سعيد
الماليني، وأبي طاهر الخوزندي، قدس الله أرواحهم، وغيرهم، فلو اشتغلنا
بذكرهم، وتفصيل أحوالهم، لخرجنا عن المقصود في الإيجاز وغير ملْتَبَس من
أحوالهم حسن سيرتهم في معاملاتهم.
وسنورد من حكاياتهم طرفاً في مواضع من هذه الرسالة إن شاء الله تعالى.
باب
تفسير ألفاظ تدور بين هذه الطائفة
وبيان ما يشكل منها أعلم أنَّ من المعلوم: أن كلَّ طائفة من العلماء لهم ألفاظ يستعملونها - فيما بينهم - انفردوا بها عمن سواهم، تواطئوا عليها؛ لأغراض لهم فيها: من تقريب الفهم على المخاطبين بها، أو تسهيل على أهل تلك الصنعة في الوقوف على معانيهم، بإطلاقها. وهذا الطائفة يستعملون ألفاظاً فيما بينهم، قصدوا بها الكشف عن معانيهم لأنفسهم، والإجمال والستر على من باينهم في طريقتهم؛ لتكون معاني ألفاظهم مستبهمة على الأجانب، غيرة منهم على أسرارهم أن تشيع في غير أهلها، إذ ليست حقائقهم مجموعة بنوع تكلف، واستخلص لحقائقها اسرار قوم.
ونحن نريد بشرح هذه الألفاظ: تسهيل الفهم على من يريد الوقوف على معانيهم من سالكي طرقهم، ومتبعي سنَّنهم.
فمن ذلك:
الوقت
حقيقة الوقت عند أهل التحقيق: حادث متوهِّم علق حصوله على حادث متحقق فالحادث المتحقق، وقت للحادث المتوهم، تقول: آتيك رأس الشهر، فالإتيان متوهم، ورأس الشهر حادث متحقق. فرأس الشهر وقت الإتيان.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول:
الوقت:
ما أنت فيه، إن كنت بالدنيا فوقتك الدنيا، وإن كنت بالعقبى فوقتك العقبى
وإن كنت بالسُّرور فوقتك السرور وإن كنت بالحزن فوقتك الحزن.
يريد بهذا: أن الوقت ما كان هو الغالب على الإنسان.
وقد يعنون بالوقت: ما هو فيه من الزمان، فإن قوماً قالوا: الوقت ما بين الزمانين، يعني الماضي والمستقبل.
ويقولون: الصوفي ابن وقته، يريدون بذلك: أنه مشتغل بما هو أولى به من العبادات في الحال، قائم بما هو مطلوب به في الحين.
وقيل: الفقير لا يهمه ماضي وقته وآتيه، بل يهمه وقته الذي هو فيه.
ولهذا قيل: الاشتغال بفوات وقت ماض. تضبيع وقت ثان.
وقد يريدون بالوقت: ما يصادفهم من تصريف الحقِّ لهم، دون ما يختارونه لأنفسهم.
ويقولون: فلان بحكم الوقت. أي: أنه مستسلم لما يبدو له من الغيب من غير أختيار له.
وهذا
فيما ليس لله تعالى عليهم فيه أمر أو اقتضاء بحق شرع، إذ التضييع لما أمرت
به: وإحالة الأمر فيه على التقدير وتركُ المبالاة بما يحصل منك من
التقصير: خروج عن الدين.
ومن كلامهم: الوقت سيف. أي: كما أنَّ السيف قاطع فالوقت بما يمضيه الحق ويجريه غالب.
وقيل: السيف لين مسه، قاطع حده، فمن لاينهُ سلم، ومن خاشنه اصطلم. كذلك الوقت: من استسلم لحكمه نجا، ومن عارضه انتكس وتردي.
وأنشدوا في ذلك:
وكالسيف إن لاينته لان مسه ... وحدَّاه إن خاشنته خشنان
ومن ساعده الوقت: فالوقت له وقت.
ومن ناكده الوقت: فالوقت عليه مقت.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: الوقت مبرد يستحقك ولا يمحقك.
يعني:
لو محاك وأفتاك لتخلصت حين فنيت. لكنه يأخذ منك ولا يمحوك بالكلية - وكان
ينشد في هذا المعنى: كل يوم يمر يأخذ بعضي يورث القلب حسرة ثم يمضي وكان
ينشد أيضاَ:
كأهل النار إن نضجت جلود ... يورث القلب حسرة ثم يمض
وكان ينشد أيضاً:
كأهل النار إن نضجت جلود ... أعيدت للشقاء لهم جلود
وفي معناه:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميِّت ميت الأحياء
والكيِّس: من كان بحكم وقته؛ إن كان وقته الصحو فقيامه بالشريعة، ون كان وقته المحو، فالغالب عليه أحكام الحقيقة.
ومن ذلك:
المقام
والمقام: ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب؛ ممام يتوصَّل إليه بنوع تصُّرفَ، ويتحقق به بضرب تطلُّب، ومقاساة تكلف.
فمقام كل أحد: موضع إقامته عند ذلك، وما هو مشتغل بالرياضة له.
وشرطه: أن لا يرتقي من مقام إلى مقام آخر، ما لم يستوف أحكام ذلك المقام، فإن من لا قناعة له لا تصح له التوكل ومن لا توكل له لا يصح له التسليم، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد.
والمقام: هو الإقامة، كالمُدخل بمعنى الإدخال، والمخرج بمعنى الإخراج.
ولا يصحُّ لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام، ليصحَّ بناء أمره على قاعدة صحيحة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: لما دخل الواسطي نيسابور، سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعات، ورؤية التقصير فيها.
فقال: أمركم بالمجوسيَّة المحضة، هلا أمركم بالغيْبة عنها، برؤية منشئها ومجريها؟ وإنما أراد الواسطي بهذا: صيانتهم عن محل الإعجاب.
لا تعريجاً في أوطان التقصير، أو تجويزاً للإخلال بأدب من الآداب.
ومن ذلك:
الحال
والحال عند القوم: معنى يَرِد على القلب، من غير تعمد منهم، ولا اجتلاب، ولا أكتساب لهم، من: طرب، أو حزن، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو انزعاج أو هبة، أو احتياج.
فالأحوال: مواهب، والمقامات. مكاسب.
والأحوال تأتي من عين الجواد، والمقامات تحصل ببذل المجهود.
وصاحب المقام ممكن في مقامه، وصاحب الحال مُترقَّ عن حاله.
وسئل ذو النون المصري، عن العارف، فقال: كان ها هنا، فذهب.
وقال بعض المشايخ: الأحوال كالبروق: فإن بقي فحديث نفس.
وقالوا: الأحوال كأسمها، يعني أنها: كما تحلُّ بالقلب نزول في الوقت.
وأنشدوا:
لو لم تَحُلْ ما سميت حالا ... وكل ما حال فقد زالا
انظر إلى الفيء إذا ما انتهى ... يأخذ في النقص إذا طالا
وأشار
قوم إلى بقاء الأحوال، ودوامها. وقالوا: إنها إذا لم تدم ولم تتوَال فهي
لوائح وبواده، ولم يصل صاحبها بعد إلى الأحوال فإذا دامت تلك الصفة فعند
ذلك تسمَّى: حالاً.
وهذا أبو عثمان الحيري يقول: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهْتُه.
أشار إلى دوام الرِّضا، والرضا من جملة الأحوال.
فالواجب في هذا: أن يقال: إن من أشار إلى بقاء الأحوال فصحيح ما قال، فقد يصير المعنى شِرْباً لأحد فيربّي فيه.
ولك
لصاحب هذه الحال أحوال: هي طوارق لا تدوم فوق أحواله التي صارت شرباً له؛
فإذا دامت هذه الطوارق له، كما دامت الأحوال المتقدمة، ارتقى إلى أحوال
أخر، فوق هذه وألطف من هذه، فأبداً يكون في الترقي.
سمعت الآستاذ أبا
عليّ الدقاق، رحمه الله، يقول في معنى قول صلى الله عليه وسلم: إنه ليغَان
على قلبي حتى أستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة: أنه كان صلى الله
عليه وسلم أبداً في الترقي من أحواله فإذا ارتقى من حالة إلى حالة أعلى
مما كان فيها، فربما حصل له ملاحظة إلى ما ارتقى عنها، فكان يعدُّها
غيْناً بالإضافة إلى ما حصل فيها، فأبداً كانت أ؛واله في التزايد.
ومقدورات
الحق سبحانه، من الآلطاف: لا نهاية لها؛ فإذا كان حق الحق تعالى، العز،
وكان الوصول إليه بالتحقيق محالاً، فالعبد أبداً في ارتقاء أحواله.
فلا معنى يوصل إليه، إلا وفي مقدوره سبحانه ما هو فوقه، يقدر أن يوصله إليه. وعلى هذا يحمل قولهم: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وسئل الجنيد عن هذا، فأنشد:
طوارق أنوار تلوح إذا بدت ... فتظهر كتماناً وتخبر عن جمع
ومن ذلك:
القبض والبسط
وهما: حالتان، بعد ترقيِّ العبد عز حالة الخوف والرجاء.
فالقبض للعارف: بمنزلة الخوف للمستأنف.
والبسط للعارف: بمنزلة الرجاء للمستأنف.
ومن الفصل بين القبض والخوف، والبسط والرجاء: أن الخوف ما يكون من شيء في المستقبل، إما أن يخاف فوقت محبوب أو هجوم محذور.
وكذلك الرجاء: إنما يكون بتأميل محبوب في المستقبل، أو بتطلع زوال محذور وكفاية مكروه في المستأنف.
وأما القبض: فلمعنى حاصل في الوقت، وكذلك البسط، فصاحب الخوف والرجاء: تعلق قلبه في حالتيه بآجله. وصاحب القبض والبسط أخذ وقته بوارد غلب عليه في عاجله.
ثم تتفاوت نعوتهم في القبض والبسط على حسب تفاوتهم في أحوالهم: فمن واردٍ يوجب قبضاً، ولكن يبقى مساغ للأشياء الأخر، لأنه غير مستوف ومن مقبوض لا مساغ لغير وارده فيه، لأنه مأخوذ عنه بالكلية بوارده.
كما قال بعضهم: أنا ردْم، أي: لا مساغ فيّ.
وكذلك المبسوط: قد يكون فيه بسط يسع الخلق، فلا يستوحش من أكثر الأشياء، ويكون مبسوطاً لا يؤثر فيه شيء بحال من الأحوال.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: دخل بعضهم على أبي بكر القحطي؛ وكان له ابن يتعاطى ما يتعاطاه الشباب، وكان ممر هذا الداخل على هذا الابن، فإذا هو مع أقرانه في اشتغاله ببطالته.
فرق قلبه، وتألم للقحطي، وقال: مسكين هذ الشيخ، كيف ابتلي بمقاساة هذا الإبن؟ فلما دخل على القحطي، وجده كأنه لا خبر له بما يجري عليه من الملاهي، فتعَّجب منه، وقال فديت، من لا تؤثر فيه الجبال الرواسي.
فقال القحطي: إنا قد حررنا عن رق الأشياء في الأزل.
ومن أدنى موجبات القبض: أن يرد على قلبه وارد موجبه إشارى إلى عتاب ورمز باستحقاق تأديب، فيحصل في القلب لا محالة، قبض.
وقد يكون موجب بعض الواردات إشارة إلى تقريب، أو إقبال بنوع لطف وترحيب، فيحصل للقلب بسط.
وفي الجملة: قبض كل أ؛د حسب بسطه، وبسطه على حسب قبضه.
وقد يكون قبض يشكل على صاحبه سببه: يجد في قلبه قبضاً لا يدري موجبه ولا سببه، فسبيل صاحب هذا القبض التسليم، حتى يمضي ذلك الوقت، لأنه لو تكلف نفيه، أو استقبل الوقت قبل هجومه عليه باختياره زاد في قبضه.
ولعله يعد ذلك منه: سوء أدب.
وإذا استسلم لحكم الوقت، فمن قريب يزول القبض، فإن الحق سبحانه قال: والله يقبض وببسط.
وقد يكون بسط يرد بغتة، ويصادف صاحبه فلتة لا يعرف له سبباً، يهز صاحبه ويستفزه، فسبيل صاحبه السكون، ومراعاة الأدب، فإن في هذا الوقت له خطراً عظيما فليحذر صاحبه مكراً خفياً.
كذا قال بعضهم: فتح عليَّ باب من البسط، فزللت زلة فحجبت عن مقامي.
ولهذا قالوا: قف على البساط، وإيَّاك والانبساط.
وقد
عدّ أهل التحقيق حالتي القبض والبسط: من جملة ما استعاذوا منه، لأنهما
بالإضافة إلى ما فوقهما من استهلاك العبد واندراجه في الحقيقة: فقر وضر.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر
بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: الخوف من الله يقبضني، والرجاء منه:
يبسطني. والحقيقة: تجمعني، والحق: يفرقني، إذا قبضني بالخوف أفناني عني،
وذا بسطني بالرجاء ردني علي وإذا جمعني بالحقيقة أحضرني وإذا فرقني بالحق
أشهدني غيري، فغطاني عنه، فهو تعالى في ذلك كله محركي غير ممسكي، وموحشي
غير مؤنسي، فأنا بحضوري أذوق طعم وجودي، فليته أفناني عني فمتعني، أو
غيبني عني فروحني.
ومن ذلك:
الهيبة والأنس
وهما: فوق القبض والبسط.
فكما أن القبض: فوق رتبة الخوف.
والبسط: فوق منزلة الرجاء.
فالهيبة: أعلى من القبض والأنس أنم من البسط، وحق الهيبة الغيبة، فكل هائب غائب.
ثم الهائيون: يتفاوتون في الهيبة على حسب تباينهم في الغيبة فمنهم.. ومنهم وحق الأنس: صحو بحق، فكل مستأنس: صاح ثم يتباينون حسب تباينهم في الشرب.
ولهذا قالوا: أدنى محل الأنس: أنه لو طرح في لظى لم يتكدر عليه أنسه قال الجنيد، رحمه الله: كنت أسمع السريَّ يقول: يبلغ العبد إلى حد لو ضرب وجهه بالسيف لم يشعر.
وكان في قلبي منه شيء، حتى بان لي أن الأمرَ كذلك.
وحكي أبي عن مقاتل العكي أنه قال: دخلت على الشبلي؛ وهو ينتف الشَّعر من حاجبه بمنقاش، فقلت: يا سيدي، أنت تفعل هذا بنفسك! ويعود ألمه إلى قلبي!!! فقال: وبلك، الحقيقة ظاهرة لي ولست أطيقها: فهوذا، فأنا أدخل الألم على نفسي؛ لعلي أحس به، فيستتر عني، فلست أجد الألم، وليس يستتر عني، وليس لي به طاقة: وحال الهيبة والأنس، وإن جلتا، فأهل الحقيقة يعدونهما: نقصاً لتضمنهما تغير العبد فإن أهل التمكين سمت أحوالهم عن التغير. وهم محوفي وجود العين، فلاهيبة لهم ولا أنس، ولا علم ولا حس.
والحكاية معروفة عن أبي سعيد الخرَّاز، أنه قال: نهت في البادية مرة، فكنت أقول:
أتيه فلا أدري من التيه من أنا ... سوى ما يقول الناس في وفي جنسي
أتيه على جن البلاد وإنسها ... فن لم أجد شخصاً أتيه على نفسي
قال فسمعت هاتفاً يهتف بي، ويقول:
فلو كنت من أهل الوجود حقيقة ... لغبت عن الأكوان والعرش والكرسي
وإنما يرتقي العبد عن هذه الحالة بالوجود.
ومن ذلك:
التواجد والوجد والوجود
فالتواجد: استدعاء الوجد بضرب اختيار، وليس لصاحبه كمال الوجد؛ إذ لو كان لكان واجداً، وباب التفاعل أكثره على إظهار الصفة، وليست كذلك.
قال الشاعر:
إذا تخازرت، وما بين من خزر ... ثم كسرت العين من غير ما عور
فقوم قالوا: التواجد غير مسلم لصاحبه، لما يتضمن من التكلف ويبعد عن التحقيق.
وقوم قالوا: إنه مسلمَّ للفقراء المجرّدين، الذين ترصَّدوا لوجدان هذه المعاني، وأصلهم. خبرُ الرسول صلى الله عليه وسلم:أبكوا، فإن لم تبكوا، فتباكوا، والحكاية المعروفة لأبي محمد الجريري، رحمه الله، أَنه قال: كنت عند الجنيد، وهناك ابن مسروق وغيره، وثمَّ قوال، فقام ابن مسروق وغيره.. والجنيد ساكن، فقلت: يا سيدي، مالك في السمَّاع شيء!! قال الجنيد: وترى الجبال تحسبها جامدة، وهي تمر مرَّ السحاب ثم قال: وأنت يا أبا محمد، مالك في السِّماع شيء؟ فقلت: يا سيدي، أنا إذا حضرت موضعاً فيه سماع وهناك مُحتشم أمسكت على نفسي وجدي، فإذا خلوت أرسلت وجدي، فتواجدْت.
فأطلق في هذه الحكاية التواجد، ولم ينكر عليه الجنيد.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق، رحمه الله، يقول: لما راعي أبو محمد، أدب الأكابر في حال السماع، حفظ الله عليه وقته، ببركات الأدب، حتى يقول: أمسكت على نفسي وجدي فإذا خلوت أرسلت وجدي فتواجد؛ لأنه لا يمكن إرسال الوجد، إذا شئت، بعد ذهاب الوقت وغلباته.
ولكنه لما كان صادقاً في مراعاة حرمة الشيوخ، حفظ الله تعالى عليه وقته، حتى أرسل وجده عند الخلوة.
فالتواجد: ابتداء الوجد على الوصف الذي جرى ذكره، وبعد هذا.
والوجد: ما يصادف قلبك، ويرد عليك بلا تعمد وتكلف.
ولهذا قال المشايخ: الوجد: المصادفة والمواجيد: ثمرات الأورد.
فكل من ازدادت وظائفه ازدادت من الله لطائفة.
سمعت
الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الواردات: من حيث الأوراد: فمن
لا ورد له بظاهره لا ورد له في سرائره، وكل وجد فيه من صاحبه شيء، فليس
يوجد.
وكما أن ما يتكلفه العبد من معاملات ظاهرة يوجب له حلاوة الطاعات، فما ينازله العبد من أحكام باطنه يوجب له المواجيد.
فالحلاوات ثمرات المعاملات والمواجيد: نتائج المنازلات.
أما الوجود: فهو بعد الارتقاء عن الوجد.
ولا يكون وجود الحق، إلا بعد خمور البشرية، لأنه لا يكون للبشرية بقاء عند ظهور سلطان الحقيقة.
وهذا معنى قول أبي الحسين النوري: أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد: أي: إذا وجدت ربيَّ فقدت قلبي، وإذا وجدت قلبي فقدت ربي.
وهذا معنى قول الجنيد: علم التوحيد: مباين لوجوده، ووجوده مباين لعلمه.
وفي هذا المعنى أنشدوا:
وجودي أن أغيب عن الوجود ... بما يبدو عليَّ من الشهود
فالتواجد: بداية. والوجود: نهاية والوجد واسطة بين البداية والنهاية.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: التواجد يوجب استغراق العبد.
والوجود يوجب استهلاك العبد.
فهو كمن شهد البحر، ثم ركب البحر، ثم غرق في البحر.
وترتيب هذا الأمر: قصود، ثم ورود، ثم شهود، ثم جمود، ثم خمود.
وبمقدار الوجود يحصل الخمود، وصاحب الوجود له: صحو، ومحو.
فحال صحوة: بقاؤه بالحق، وحال محوه، فناؤه بالحق.
وهاتان الحالاتان أبداً متعاقبتان عليه: فإذا غلب عليه الصَّحو بالحق، فيه يصول، وبه يقول.
قال عليه السلام، فيما أخبر عن الحق: فبي يسمع، وبي يبصر.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: وقف رجل
على حلقة الشبلي، فسأله: هل تظهر آثار صحة الوجود على الواجدين؟؟ فقال:
نعم: نور يزهر مقارناً لنيران الاشتياق، فتلوح على الهياكل آثارها كما قال
ابن المعتز:
وأمطر الكأس ماء من أبارقها ... فأنبت الدر في أرض من الذهب
وسبح القوم لما أن رأوا عجباً ... نوراً من الماء في نار من العنب
سلاقة ورثتها عاد عن إرم ... كانت ذخيرة كسرى عن أب فأب
وقيل
لأبي بكر الدقيَّ: إن جهماً الدقيَّ أخذ شجرة بيده في حال السماع في
ثورانه، فقلعها من أصلها: فاجتمعا في دعوة، وكان الدقي كفَّ بصرهُ، فقام
الدقي يدور في حال هيجانه فقال الدقي: إذا قرب منيِّ أرونيه.
وكان الدقي ضعيفاً، فمر به، فلما قرب منه، قالوا له: هذا هو.
فأخذ الدقي ساق جهم فوقفه، فلم يمكنه أن يتحرك.
فقال
جهم: أيها، الشيخ، التوبة.. التوبة!! فخلاه: قال الأستاذ الإمام، أدام
الله جماله: فكان ثوران جهم في حق، وإمساك الدقي بساقه بحق، ولما علم جهم
أن حال الدقي فوق حاله رجع إلى الإنصاف واستسلم وكذا من كان بحق لا يستعطي
عليه شيء. فأما إذا كان الغالب عليه المحو فلا علم، ولا عقل، ولا فهم؛
ولاحس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يذكر بإسناده أن
أبا عقال المغربي: أقام بمكة أربع سنين لم يأكل، ولم يشرب، إلى أن مات.
ودخل بعض الفقراء على أبي عقال، فقال له: سلام عليكم.
فقال له أبو عقال: وعليكم السلام فقال الرجل: أنا فلان فقال أبو عقال: أنت فلان، كيف أنت؟ وكيف حالك؟: وغاب عن حالته.
وقال هذا الرجل، فقلت له: سلام عليكم.
فقال: عليكم السلام وكأنه لم يرني قط.
ففعلت مثل هذا غير مرة، فعلمت أن الرجل غائب، فتركته، وخرجت من عنده.
سمعت
محمد بن الحسين، يقول: سمعت عمر بن محمد بن أحمد يقول: سمعت امرأة أبي عبد
الله النروغندي تقول: لما كانت أيام المجاعة، والناس يموتون من الجوع، دخل
أبو عبد الله التروغندي بيته، فرأي في بيته مقدار منوين حنطة، فقال: الناس
يموتون من الجوع، وفي بيتي حنطة!! فخولط في عقله، فما كان يفيق إلا في
أوقات الصلاة يصلي الفريضة ثم يعود إلى حالته، فلم يزلَ كذلك إلى أن مات.
دلَّت
هذه الحكاية على أن هذا الرجل كان محفوظاً عليه آداب الشريعة عند غلبات
أحكام الحقيقة وهذا هو صفة أهل الحقيقة، ثم كان سبب غيبته عن تمييزه:
شفقته على المسلمين وهذا أقوى سمة لتحققه في حاله.
ومن ذلك:
الجمع والفرق
لفظ الجمع والتفرقة يجري في كلامهم كثيراً.
وكان الأستاذ أبو علي الدقاق يقول: الفرق: ما نسب إليك.
والجمع: ما سلب عنك.
ومعناه: أن ما يكون كسباً للعبد، من إقامة العبودية، وما يليق بأحوال البشرية، فهو: فرق.
وما يكون من قبل الحق، من إبداء معان، وإسداء لطف وإحسان فهو: جمع هذا أدنى أحوالهم في الجمع والفرق، لأنه من شهود الأفعال. فمن أشهده الحق - سبحانه - أفعاله عن طاعاته ومخالفاته فهو: عبد بوصف التفرقة، ومن أشهده الحق - سبحانه - ما يوليه: من أفعال نفسه سبحانه، فهو: عبد بشاهد الجمع.
فإثبات الخلق من باب التفرقة، وإثبات الحق من نعت الجمع.
ولا بد للعبد من الجمع والفرق، فإن من لاتفرته له لا عبودية له، ومن لا جمع له لا معرفة له، فقوله: إياك نعبد إشارة إلى الفرق. وقوله: وإياك نستعين إشارة إلى الجمع.
وإذا ما خاطب العبد الحق سبحانه، بلسان نجواه: إما سائلاً، أو داعياً، أو مثنياً، أو شاكراً، أو متنصلاً، أو مبتهلاً؛ قام في محل التفرقة.
وإذا أصغى بسره إلى ما يناجيه به مولاه، واستمع بقلبه ما يخاطبه به، فيما ناداه، أو ناجاه، أو عرفه، أو لوح لقلبه وأراده، فو بشاهد الجمع.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: أنشد قوال بين يدي الأستاذ أبي سهل الصعلوكي، رحمه الله: جعلت تنزهي نظري إليك.
وكان أبو القاسم النصراباذي، رحمه الله، حاضراً، فقال الأستاذ أبو سهل: جعلت، بنصب التاء. وقال النصراباذي: بل جعلت بضم التاء: فقال الأستاذ أبو سهل: أليس عين الجمع أتم؟ فسكت النصراباذي.
وسمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي أيضاً يحكي هذه الحكاية على هذا الوجه.
ومعنى: هذا أن من قال جعلت بضم التاء يكون إخباراً عن حال نفسه، فكأن العبد يقول هذا من عنده. وإذا قال جعلت بالفتح فكأنه يتبرأ من أن يكون ذلك يتكلفه، بل يخاطب مولاه فيقول: أنت الذي خصصتني بهذا، لا أنا بتكلفي.
فالأول على خطر الدعوى، والثاني بوصف التبري من الحول، والاقرار بالفضل والطول: والفرق بين من يقول بجهدي أعبدك. وبين من يقول: بفضلك ولطفك أشهدك.
ومن ذلك: جمع الجمع وجمع الجمع: فوق هذا.
يختلف الناس في هذه الجملة على حسب تباين أحوالهم، وتفوت درجاتهم: فمن أثبت نفسه، وأثبت الخلق، ولكن شاهد الكل قائماً بالحق، فهذا هو: جمع.
وإذا كان مختطفاً عن شهود الخلق، مصطلماً عن نفسه، مأخوذاً بالكلية عن الإحساس بكلِّ غير، بما ظهر، واستولى من سلطان الحقيقة، فذاك جمع الجمع.
فالتفرقة: شهود الأغيار لله عزَّ وجلَّ.
والجمع: شهود الأغيار بالله.
وجمع الجمع: الاستهلاك بالكلية، وفناء الإحساس بما سوي الله عز وجل عند غلبات الحقيقة.
وبعد هذا حالة عزيزة يسميها القوم: الفرق الثاني وهوأن يرد للعبد إلى الصحو عند أوقت أداء الفرائض، ليجري عليه القيام بالفرائض في أوقاتها، فيكون رجوعاً لله بالله تعالى لا للعبد بالعبد: فالعبد يطالع نفسه، في هذه الحالة، في تصريف الحق سبحانه، يشهد مبدىء ذاته وعينه بقدرته، ومجرى أفعاله وأحواله عليه، بعلمه ومشيئته.
وأشار بعضهم بلفظ الجمع والفرق إلى تصريف الحق جميع الخلق.
فجمع الكل في التقليب والتصريف: من حيث إنه منشىء ذواتهم ومجري صفاتهم، ثم فرقهم في التنويع: ففريقاً أسعدهم، وفريقاً أبعدهم وأشقاهم، وفريقا هداهم، وفريقاً أضلهم وأعماهم، وفريقاً حجبهم عنه، وفريقاً جذبهم إليه، وفريقاً آنسهم بوصله، وفريقاً آيسهم من رحمته. وفريقاً أكرمهم بتوفيقه، وفريقاً اصطلمهم عند رومهم لتحقيقه، وفريقاً أصحاهم، وفريقاً محاهم وفريقاً قربهم. وفريقاً غيبهم وفريقاً أدناهم وأحضرهم، ثم أسقاهم فأسكرهم. وفريقاً أشقاهم وأخرهم ثم أقصاهم وهجرهم.
وأنواع أفعاله لا يحيط بها حصر، ولا يأتي على تفيلها شرح ولا ذكر وأنشدوا للجنيد، رحمه الله؛ في معنى الجمع والتفرقة:
وتحققتك في سري فناجاك لساني
فاجتمعنا لمعاني وافترقنا لمعاني
إن يكن غيبك التعظيم عن لحظ عياني
فقد صيرك الوجد من الأحشاء داني
وأنشدوا:
إذا ما بدا لي تعاظمته ... فأصدر في حال من لم يرد
جمعت وفرقت عني به ... ففرد التواصل مثنى العدد
ومن ذلك:
الفناء واليقاء
أشار القوم بالفناء: إلى سقوط الأوصاف المذمومة.
وأشاروا بالبقاء: إلى قيام الأوصاف المحمودة به.
وإذا كان العبد لا يخلو عن أحد هذين القسمين، فمن المعلوم: أنه إذا لم يكن أحدُ القسمين كان القسمَ الآخر لا محالة، فمن فنى عن أوصافه المذمومة ظهرت عليه الصفات المحمودة، ومن غلبت عليه الخصال المذمومة استترت عنه الصفات المحمودة.
وأعلم أن الذي يتصف به العبد: أفعال، وأخلاق، وأحوال.
فالأفعال: تصرفاته باختياره.
والأخلاق: جبلةَّ فيه، ولكن تتغَّير بمعالجته على مستمرِّ العادة.
والأحوال: ترد على العبد على وجه الابتداء، لكن صفاؤها بعد زكاء الأعمال.
فهي كالأخلاق من هذا الوجه، لأن العبد إذا نازل الأخلاق بقلبه فينفي بجهده سفسافها، مَنّ الله عليه بتحسين أخلاقه، فكذلك إذا واظب على تزكية أعماله، ببذل وُسعه من الله عليه بتصفية أحواله بل فمن ترك مذمومَ أفعاله بلسان الشريعة يقال: أنه فنى عن شهواته.
فإذا فنى عن شهواته بقي بنيتَّه وإخلاصه في عبوديته.
ومن زَهد في دنياه بقلبه، يقال. فنى عن رغبته: فإذا فني عن رغبته فيها بقي بصدق إنابته.
ومن عالج أخلاقه فنفى عن قلبه الحسد والحقد، والبخل، والشخ والغضب، والكبر، وأمثال هذا من رعونات النفس، يقال: فنى عن سوء الخلق.
فإذا فنى عن سوء الخلق بقي بالفتوة والصدق.
ومن شاهد جريان القدرة في تصاريف الأكام، يقال: فنى عن حسبان الحدثان من الخلق. فذا فنى عن توهم الآثار من الأغيار بقي بصفات الحقِّ.
ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عيناً ولا أثراً؛ ولا رسماً، ولا طللاً؛ يقال: إنه فنى عن الخلق وبقي بالحقِّ.
ففناء العبد عن أفعاله الذميمة، وأحواله الخسيسة: بعدم هذه الأفعال.
وفناؤ عن نفسه، وعن الخلق: بزوال إحساسه بنفسه وبهم.
فإذا فنى عن الأفعال، والأخلاق، والأحوال، فلا يجوز أن يكون ما فنى عنه من ذلك موجوداً.
وإذا قيل: فنى عن نفسه؛ وعن الخلق، فنفسه موجودة، والخلق موجودون. ولكنه لا علم له بهم ولا به، ولا إحساس، ولا خبر، فتكون نفسه موجودة، والخلق موجودين ولكنه غافل عن نفسه وعن الخلق أجمعين، غير محس بنفسه وبالخلق.
وقد ترى الرجل يدخل على ذى سلطان؛ أو محتشم، فيُذهل عن نفسه، وعن أهل مجلسه هيبة، وربما يذهل عن ذلك المحتشم، حتى إذا سئل بعد خروجه من عنده، عن أهل مجلسه وهيآت ذلك الصدر، وهيآت نفسه، لم يمكنه الإخبار عن شيء.
قال الله تعالى: فلما رأينه أكبرنه، وقطعن أيديهن.
لم يجدن عند لقاء يوسف عليه السلام، على الوهلة ألم قطع الأيدي، وهن أضعف الناس، وقلن: ما هذا بشراً - ولقد كان بشراً - .
وقلن: إن هذا إلا ملك كريم - ولم يكن ملكاً - .
فهذا تغافل مخلوق عن أحواله عند لقاء مخلوق، فماظنك بمن تكاشف بشود الحق سبحانه؟! فلو تغافل عن إحساس بنفسه وأبناء جنسه، فأي أعجوبة فيه؟! فمن فنى عن جهله بقي بعلمه.. ومن فنى عن شهوته بقي بإنابته..
ومن فنى عن رغبته بقي بزهادته.. ومن فنى عن منيته بقي بإرادته تعالى.
وكذلك القول في جميع صفاته: فإذا فنى العبد عن صفته بما جرى ذكره، يرتقي عن ذلك بفنائه عن رؤية فنائه وإلى هذا أشار قائلهم:
فقوم تاه في أرض بفقر ... وقوم تاه في ميدان حبه
فأفَنوا ثم أفنوا ثم أفنوا ... وأبقوا بالبقاء من قرب ربه
فالأول أفناه عن نفسه وصفاته ببقائه بصفات الحق.
ثم فناؤه عن صفات الحق بشهودة الحق.
ثمن فناؤه عن شهود فنائه باستهلاكه في وجود الحق.
ومن ذلك:
الغيبة والحضور
فالغيبة: غيبة القلب عن علم ما يجري من أحوال الخلق، لاشتغال الحسن بما ورد عليه، ثم قد يغيب عن إحساسه بنفسه وغيره، بوارد من تذكر ثواب، أوتفكر عقاب.
كما روي أن: الربيع بن خيثم كان يذهب إلى ابن مسعود، رضي الله عنه، فمر بحانوت حدَّاد، فرأي الحديدة المحماة في الكير، فغشى عليه.. ولم يفق إلى الغد.
فلما أفاق، سئل عن ذلك، فقال: تذكرتكون أهل النار في النار: فهذه غيبة زادت على حدها، حتى صارت غشية.
وروي عن علي بن الحسين: أنه كان في سجوده، فوق حريق في داره، فلم ينصرف عن صلاته، فسئل عن حاله، فقال: ألهتني النار الكبرى عن هذه النار.
وربما
تكون الغيبة عن إحساسه بمعنى يكاشف به من الحق سبحانه ثم إنهم مختلفون في
ذلك على حسب أحوالهم. ومن المشهور: أن ابتداء حال أبي حفص النيسابوري
الحداد في ترك الحرفة، أنه كان على حانوته، فقرأ قارىء آية من القرآن،
فورد على قلب أبي حفص وارد تغافل عن إحساسه، فأدخل يده في النار، وأخرج
الحديدة المحماة بيده، فرأى تلميذاً له ذلك، فقال: يا أستاذ، ما هذا؟ فنظر
أبو حفص إلى ما ظهر عليه، فترك الحرفة؛ وقام من حانوته.
وكان الجنيد قاعداً؛ وعند امرأته؛ فدخل عليه الشبلي؛ فأرادت امرأته أ، تستتر؛ فقال لها الجنيد: لا خبر للشبليِّ عنك؛ فاقعدي.
فلم يزل يكلمه الجنيد؛ حتى بكى الشبلي؛ فلما أخذ الشبلي في البكاء قال الجنيد لامرأته: استتري، فقد أفاق الشبلي من غيبته.
سمعت
أبا نصر المؤذن بنيسابور؛ وكان رجلاً صالحاً، قال: كنت أقرأ القرآن في
مجلس الأستاذ أبي عليِّ الدَّقاق بنيسابور؛ وقت كونه هناك وكان يتكلم في
الحج كثيراً، فأثرَّ في قلبي كلامه، فخرجت إلى الحج تلك السنة؛ وتركت
الحانوت والحرفة؛ وكان الأستاذ أبو علي رحمه الله؛ خرج إلى الحج أيضاًفي
تلك السنة. وكنت مدّضة كونه بنيسابور أخدمه. وأواظب على القراءة في مجلسه.
فرأيته يوماً في البدية: تطهر.. ونسي قمقمة كانت بيده.. فحملتها. فلما عاد
إلى رحله وضعتها عنده فقال: جزاك الله خيراً. حيث حملت هذا.
ثمنظر إلي
طويلاً كأنه لم يرَن قط: وقال: رأيتك مرة. فمن أنت؟ فقلت: المستغاث
بالله!! صحبتك مدة.. وخرجت عن مسكني ومالي بسببك، وتقطعت في المفازة بك.
والساعة تقول رأيتك مرة!! وأما الحضور: فقد يكون حاضراً بالحق؛ لأنه إذا
غاب عن الخلق حضر بالحق، على معنى أنه يكون كأنه حاضر، وذلك لاستيلاء ذكر
الحق على قلبه، فهو حاضر بقلبه بين يدي ربه تعالى؛ فعلى حسب غيبته عن الحق
يكون حضوره بالحق، فإن غاب بالكلية كان الحضور على حسب الغيبة.
فإذا
قيل: فلان. حاضر، فمعناه أنه حاضر بقلبه لربه، غير غافل عنه، ولا ساه،
مستديم لذكره. ثم يكون مكاشفاً في حضوره على حسب رتبته بمعان يخصه الحق
سبحانه وتعالى بها.
وقد قال لرجوع العبد إلى إحساسه بأحوال نفسه، وأحوال الخلق:إنه حضر أي رجع عن غيبته، فذا يكون حضوراً بخلق؛ والأول حضوراً بحق.
وقد تختلف أحوالهم في الغيبة. فمنهم من لا تمتد غيبته، ومنهم من تدوم غيبته.
وقد
حكى أن ذا النون المصري بعث إنساناً من أصحابه إلى أبي يزيد، لينقل إليه
صفة أبي يزيد... فلما جاء الرجل إلى بسطام. سأل عن دار أبي يزيد. فدخل
عليه فقال له أبو يزيد: ما تريد؟ فقال: أريد أبا يزيد.
فقال: من أبو يزيد؟ وأين أبو يزيد؟ أنا في طلب أبي يزيد.
فخرج الرحل، وقال: هذا مجنون.
ورجع الرجل إلى ذي النون. فأخبره بما شهده. فبكى ذو النون وقال: أخي أبو يزيد ذهب في الذاهبين إلى الله.
ومن ذلك:
الصحو والسكر
فالصحو: رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة.
والسكر: غيبة بوارد قوي.
والسكر زيادة على الغيبة من وجه، وذلك أن صاحب السكر قد يكون مبسوطاً إذا لم يكن مستوفى في حال سكره، وقد يسقط إخطار الأشياء عن قلبه في حال سكره، وتلك حال المتساكر، الذي لم يستوفه الوارد، فيكون للأحساس فيه مساغ، وقد يقوى سكره حتى يزيد على الغيبة، فربما يكون صاحب السكر أشد غيبة من صاحب الغيبة ذا قوي سكره، وربما يكون صاحب الغيبة أتمَّ في الغيبة من صاحب السكر، إذا كان متساكراً غير مستوف.
والغيبة قد تكون للعباد، بما يغلب على قلوبهم من موجب الرغبة والرهبة ومقتعنيات الخوف والرجاء.
والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجيد.
فإذا كوشف العبد بنعت الجمال حصل السكر، وطاب الروح، وهام القلب، وفي معناه أنشدوا:
خصوك من لفظي هو الوصل كله ... وسكر من لحظي يبيح لك الشربا
فماملَّ ساقيها وما مل شارب ... عقار لحاظ كأسه يسكر اللبة
وأنشدوا:
فأسكر القوم دور كأس ... وكان سكري من المدير
وأنشدوا:
لي سكرتان، وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
وأنشدوا:
سكران: سكر هوى وسكر مدامة ... فمتى يفيق فتى به سكران
وأعلم أن الصحو على حسب السكر، فمن كان سكره بحق، كان صحوه بحق.
ومن كان سكره بحز مشوباً؛ كان صحوه بحظ مصحوباً.
ومن كان محقاً في حاله كان محفوظاً في سكره.
والسكر والصحو يشير إلى طرف من التفرقة.
وإذا ظهر من سلطان الحقيقة علم فصفة العبد الثبور، والقهر.
وفي معناه أنشدوا:
إذا طلع الصبح لنجم راح ... تساوى فيه سكران وصاح
وال تعالى: فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً، وخر موسى صعفاً.
هذا مع رسالته وجلالة قدره خر صعقاً، وهذا مع صلابته، وقوته، ردكاً متكسراً.
والعبد في حال سكره بشاهد الحال.
وفي صحوه بشاهد العلم.
إلا أنه في حال سكره محفوظ لا بتكلفه: وفي حال صحوه متحفظ بتصرفه.
والصحو والسكر بعد الذوق والشرب.
ومن ذلك:
الذوق والشرب
ومن جملة ما يجري في كلامهم: الذوق، والشرب.
ويعبرون بذلك عما يجدونهمن ثمرات التجلي، ونتائج الكشوفات. وبواده الواردات.
وأول ذلك: الذوق، ثم الشرب، ثم الرىُّ.
فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني؟ ووفاء منازلاتهم يوجب لهم الشرب.
ودوام مواصلاتهم يقتضي لهم الرىَّ.
فصاحب الذوق متساكر، وصاحب الشرب سكران، وصاحب الريِّ صاح.
ومن قوي حبه تسرمد شربه، فإذا دامت به تلك الصفة لم يورثه الشرب سكراً، فكان صاحياً بالحق، فانياً عن كل حظ: لم يتأثر بما يرد عليه، ولايتغير عما هو به.
ومن صفا سره، لم يتكدر عليه الشرب. ومن صار الشراب له غذاء لم يصبر عنه، ولم يبق بدونه.
وأنشدوا:
وإنما الكأس رضاع بيننا ... فإذا لم نذقها لم تعش
وأنشدوا:
عجبت لمن يقول ذكرت ربي ... فهل أنسى فأذكر ما نسيت؟
شربت الحبَّ كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب ولا رويتُ
ويقال: كتب يحيى بن معاذ إلى أبي يزيد البسطامي: ها هنا من شرب من كأس المحبة لم يظمأ بعده.
فكتب إليه أبو يزيد: عجبت من ضعف حالك!! هاهنا من يحتسي بحار الكون وهو فاغرفاه يستزيد.
وأعلم أن كاسات القرب تبدو من الغيب، ولا تدار إلا على أسرار معتقة، وأرواح عن رقق الأشياء محررة.
ومن ذلك:
المحو والإثبات
المحو: رفع أوصاف العادة: والإثبت: إنامة أحكام العبادة.
فمن نفى عن أحواله الخصال الذميمة، وتى بدلها بالأفعال والأحوال الحميدة، فهو صاحب محو وإثبات.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قال بعض المشايخ لواحد: إيش تمحو؟ وإيش نثبت؟ فسكت الرجل!! فقال: أما علمت أن الوقت محو وإثبات، وإذ من لامحو له، ولا إثبات، فهو معطل مهمل.
وينقسم إلى محو الزلة عن الظواهر، ومحو الغفلة عن الضمائر، ومحو العلة عن السرائر، ففي محو الزلة: إثبات المعاملات؛ وفي محو الغفلة: إثبات المنازلات.
وفي محول العلة إثبات المواصلات.
وفي محو وإثبات بشرط العبودية.
وأما حقيقة المحو والإثبات، فصادران عن القدرة. فالمحو: ماستره الحق ونفاده والإثبات ما أظهره الحق وأبداه.
والمحو والإثبات مقصوران على المشيئة. قال الله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت.
قيل: يمحو عن قلوب العارفين ذكر غير الله تعالى، ويثبت على ألسنة المريدين ذكر الله، ومحو الحق لكل أحد وإثباتهُ على ما يليق بحاله.
ومن محاه الحق سبحانه على مشاهدة، وأثبته بحق حقه.
ومن محاه الحق عن إثباته به ردَّه إلى شهود الأغيار؛ وأتيته في أودية التفرقة.
وقال رجل للشبليَّ رحمه الله: مال أراك قلقاً، أليس هو معك، وأنت معه؟ فقال الشبلي: لو كنت أنا معه كنت أنا، ولكني محو فيما هو.
والمحق فوق المحو؛ لأن المحو يبقى أثراً، والمحقُ لا يبقى أثراً.
وغاية همة القوم أن يمحقم الحق عن شاهدهم، ثم لا يردَّهم إليهم بعدما محقهم عنهم.
ومن ذلك:
الستر والتجلِّي
العوام في غطاء الستر، والخواص في دوام التجلي.
وفي الخبر: إن الله إذا تجلى لشيء خشع له.
فصاحب الستر، بوصف شهوده، وصاحب التجلي أبداً، ينعت خشوعه.
والستر للعوام عقوبة، وللخواص رحمة، إذ لولا أنه يستر عليهم ما يكاشفهم به، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة: ولكنه كما يظهر لهم، يستر عليهم.
سمعت منصور المغربيَّ يقول: وافي بعض الفقراء حياً من أحياء العرب، فأضافه شاب، فبينا الشاب في خدمة هذا الفقير إذ غشى عليه، فسأل الفقير عن حاله، فقالوا:
له بنت عم، وقد علقها، فمشت في خيمتها، فرأى الشاب غبار ذيلها، فغشى عليه.
فمضى
الفقير إلى باب الخيمة، وقال: إن للغريب فيكم حرمة وذماماً، وقد جئتُ
مستشفعاً إليك في أمر هذا الشاب، فتعطفي عليه فيما هو به من هواك.
فقالت:
سبحان الله، أنت سليم القلب، إنه لا يطيق شهود غبارَ ذيلي، فكيف يطيق
صحبتي؟ وعوامُّ هذه الطائفة عيشهم في التجليِّ، وبلاؤهم في الستر.
وأما الخواص، فهم بين طيش وعيش، لأنهم إذا تجلى لهم طاشوا، وإذا ستر عليهم ردوا إلى الحز فعاشوا.
وقيل:
إنما قال الحق تعالى لموسى عليه السلام: وما تلك بيمينك يا موسى ليستر
عليه ببعض ما يعلله به بعض ما أثر في من المكاشفة بفجأة السماع.
وقال صلى الله عليه وسلم: إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة.
والاستغفار:
طلب الستر، لأن الغفر: هو الستر، ومنه غفر الثوب، والمغفر، وغيره: فكأنه
أخبر أنه يطلب الستر على قلبه عند سطوات الحقيقة، إذ للخلق لابقاء لهم مع
وجود الحق. وفي الخبر: لو كشف عن وجهه لأحرقت سبحات وجهه ما أدرك بصره.
ومن ذلك:
المحاضرة والمكاشفة والمشاهدة
المحاضرة ابتداءاً، ثم المكاشفة، ثم المشاهدة.
فالمحاضرة: حضور القلب. وقد يكون بتواتر البرهان، وهو بعدُ وراء الستر، وإن كان حاضراً باستيلاًء سلطان الذكر.
ثم بعده. المكاشفة: وهو حضوره بنعت البيان غيرمفتقر في هذه الحالة إلى تأمُّل الدليل، وتطلب السبيل، ولا مستجير من دواعي الريب. ولا محجوب من نعت الغيب.
ثم المشاهدة: وهي حضور الحق من غير بقائ تهمة.
فإذا أصحت سماء السِّر عن غيوم الستر، فشمس الشود مشرقة عن برج الشرف. وحق المشاهدة ما قاله الجنيد، رحمه الله: وجود الحق مع فقدانك: فصاحب المحاضرة مربوط بأياته، وصاحب المكاشفة مبسوط بصفاته: وصاحب المشاهدة ملقى بذاته، وصاحبُ المحاضرة يهديه عقله، وصاحب المكاشفة يدنيه علمه، وصاحب المشاهدة تمحوه معرفته.
ولم يزد في بيان تحقيق المشاهدة أحد على ما قاله عمرو بن عثمان المكي رحمه الله.
ومعنى ما قاله: أنه تتوالى أنوار التجليِّ على قلبه من غير أن يتخللها ستر وانقطاع كما لو قُدر اتصال البروق، فكما أن الليلة الظلماء بتوالى البروق فيها، وإتصالها، إذ قدرت تصير في ضوء النهار، فكذلك القلب إذا دام به دوام التجلي مَتع نهاره فلا ليل.
وأنشدوا:
ليلى بوجهك مشرق ... وظلامه في الناس ساري
والناس في سدف الظلام ... ونحن في ضوء النهار
وقال النوري: لايصح للعبد المشاهدة وقد بقى له عِرق قائم.
وقال: إذا طلع الصباح استغنى عن المصباح: وتوهَّم قوم أن المشاهدة تشير إلى طرف من التفرقة، لأن باب المفاعلة في العربية بين اثنين. وهذا وهم من صاحبه. فإن في ظهور الحق سبحانه، ثبور الخلق وباب المفاعلة جملتها لا تقضي مشاركة الأثنين نحو: سافر، وطارق النعل، وأمثاله.
وأنشدوا:
فلما استبان الصبح أدرك ضوؤه ... بأنواره أنوار ضوء الكواكب
يجرعهم كأساً لو ابتلى به اللظى ... بتجريعة طارت كأسرع ذاهب
كأس، أي كأس؟؟ تصطلمهم عنهم، وتفتيم، وتختطفهم منهم، ولا تبقيهم.
كأس.. لا تبقي لا تذر، تمحوهم بالكلية، ولا تبقى شظية من آثار البشرية.
كما قال قائلهم: ؟ساروا فلم يبق لارسم ولا أثر ومن ذلك: ؟اللوائح، والطوالع، واللوامع قال الأستاذ رضي الله عنه: هذه الألفاظ متقارية المعنى، لا يكاد يحصل بينها كبير فرق. وهي من صفات أصحاب البدايات الصاعدين في الترقي بالقلب، فلم يدم لهم بعد ضياء شموس المعارف.
لكن الحق سبحانه وتعالى، يؤتى رزق قلوبهم في كل حين، كما قال: ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً، فكلمَّا أظلم عليهم سماءُ القلوب بسحاب الحظوظ سنح لهم فيها لوائح الكشف وتلألأ لوامعُ القرب وهم في زمان سترهم يرقبون فجأة اللوائح.
فهم كما قال القائل:
يا أيها البرق الذي يلمع ... من أي أكناف السما تسطع
فتكون أول: لوائح، ثم لوامع، ثم طوالع:
افترقنا حولاً فلما التقينا ... كان تسليمه علىّ وداعاً
وأنشدوا:
يا ذا الذي زار ومازارا ... كأنه مقتبس نارا
مر بباب الدار مستعجلاً ... ماضره لو دخل الدارا؟
واللوامع: أظهر من اللوائح: ليس زوالها بتلك السرعة، فقد تبقى اللوامع وقتين، وثلاثة.
ولكن كما قالوا:
والعين باكية لم تَشْبع النظرا
وكما قالوا:
لم تَرد ماء وجهه العينُ إلا ... شرقت قبل ريها برقيب
فإذا لمعَ قطعك عنك، وجمعك به، لكن لم يسفر نور نهاره حتى كر عليه عساكر الليل، فهؤلاء بين روح ونوح؛ لأنهم بين كشف وستر.
كما قالوا:
فالليل يشملنا بفاضل برده ... والصبح يلحفنا رداءً مذهباً
والطوالع:
أبقى وقتاً، وأقوي سلطاناً، وأدوم مكثاً، وأذهب للظلمة وأنفى للتهمة.
لكنها موقوفة على خطر الأفول، ليست برفيعة الأوج، ولا بدائمة المكث ثم
أوقات حصولها وشيكة الارتحال، وأحوال أفولها طويلة الأذيال.
وهذه
المعاني، التي هي: اللوائح واللوامع والطوالع، تختلف في القضايا، فمنها ما
إذا مات لم يبق عنها أثر، كالشوارق إذا أفلت، فكأنَّ الليل كان دائماً.
ومنها
ما يبقى عنه أثر، فإن زال رقمه بقي ألمه، وإن غربت أنواره بقيت آثاره
فصاحبه بعد سكون غلباته يعيش في ضياء بركاته، فإلى أن يلوح ثانياً ثيرجى
وقته على انتظار عوده، ويعيش بما وجد في كونه.
ومن ذلك:
البداوه والهجوم
البواده: ما يفجأ قلبك من الغيب على سبيل الوهلة، إما موجب فرح، وإما موجب ترح.
والهجوم: ما يرج على القلب بقوةَّ الوقت، من غير تصنع منك.
ويختلف في الأنواع على حسب قوَّة الوارد وضعفه.
فمنهم من تغيره البواده، وتصرفه الهواجم.
ومنهم من يكون فوق ما يفجؤه حالاً وقوة. أولئك سادات الوقت كما قيل:
لانهتدي نوب الزمان إليهم ... ولهم على الخطب الجليل لجام
ومن ذلك:
التلوين والتمكين
التلوين: صفة ارباب الأحوال.
التمكين: صفة أهل الحقائق.
فما دام العبد في الطريق فهو صاحب تلوين، لأنه يرتقي من حال إلى حال، وينتقل من وصف إلى وصف ويخرج من مرحل ويحصل في مَربع، فإذا وصل تمكن.
وأنشدوا:
مازلت أنزل في ودادك منزلاً ... تتحير الألباب دون نزوله
وصاحب التلوين أبداً في الزيادة وصاحب، التمكين وَصل ثم انَّصل.
وأمارة أنه اتَّصل: أنه بالكلية عن كليته بطل.
وقال بعض المشايخ: انتهى سفر الطالبين إلى الظفر بنفوسهم، فإذا ظفروا بنفوسهم فقد وصلوا.
وقال الأستاذ رحمه الله: يريد انخناس أحكام البشرية، واستيلاء سلطان الحقيقة، فإذا دام للعبد هذه الحالة فهو صاحب تمكين.
كان الشيخ أبو عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: كان موسى عليه السلام صاحب تلوين، فرجع من سماع الكلام واحتاج إلى ستر وجهه، لأنه أثر فيه الحال. ونبينا صلى الله عليه وسلم، كان صاحب تمكين، فرجع كما ذهب، لأنه لم يؤثر فيه ما شاهده تلك الليلة.
وكان يستشهد على هذا بقصَّة يوسف عليه السلام: أن النسوة اللاتي رأين يوسف عليه السلام قطَّعن أيديهن لما ورد عليهن من شهود يوسف عليه السلام على وجه الفجأة وامرأة العزيز كانت أتمَّ في بلاء يوسف منهن، ثم لم تتغير عليها شعرة ذلك اليوم، لأنها كانت صاحبة تمكين في حديث يوسف عليه السلام.
قال الأستاذ: واعلم أن التغير بما يرد على العبد يكون لأحد أمرين: إمَّا لقوة الوارد، أو لضعَف صاحبه.
والسكون من صاحبه لأحد أمرين: إمَّا لقوته، أو لضعف الوارد عليه.
سمعت الآستاذ أبا عليَّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: أصول القوم في جوار دوام التمكين نتخرج على وجهين: أحدهما: مالا سبيل إليه، لأنه قال صلى الله عليه وسلم: لو بقيتم على ماكنتم عليه عند لصافحتكم الملائكة ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: لي وقت لا يسعني فيه غير ربيَّ عزَّ وجل أخبر عن وقت مخصوص.
والوجه الثاني: أنه يصح دوام الأحوال، لأن أهل الحقائق ارتقوا عن وصف التأثر بالطوارق، والذي في الخبر أنه قال: لصافحتكم الملائكة فلم يعلق الأمر فيه على أمر مستحيل، ومصافحة الملائكة دون ما أثبت لأهل البداية من قوله على الله عليه وسلم: إن الملائكة لتضع اجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع.
وما قال: لي وقت.. فإنما قال على حسب فهم السامع. وفي جميع أحواله كان قائماً بالحقيقة.
والأولى
أن يقال: إن العبد ما دام في الترقيِّ فصاحب تلوين يصحُّ في نعته الزيادة
في الأحوال، والنقصانُ منها، فإذا وصل إلى الحق بانخناس أحكام البشرية
مكنَّه الحق سبحانه، بأن لا يرده إلى معلولات النفس، فهو متمكن في حاله،
على حسب محله واستحقاقه.
ثم يُتْحفُه - الحقُ سبحانه، في كل نفس، فلا
حدَّ لمقدوراته، فهو في الزيادات متلون، بل ملوُّن. وفي اصل حاله متمكن؛
فأبداً يتمكن في حالة أعلى مما كان فيها قبله، ثم يرتقي عنها إلى ما فوق
ذلك إذ لا غاية لمقدورات الحق سبحانه في كل جنس.
فأما المصطلم عن
شاهده، المستوفى إحساسه بالكلية، فللبشرية لا محالة حد وذا بطل عن جملته
ونفسه وحسه، وكذلك عن المكونات باسرها، ثم دامت به هذه الغيبة، فهو محو،
فلا تمكين له إذاً، ولا تلوين، ولا مقام، ولا حال.
وما دام بهذا الوصف:
فلا تشريف، ولا تكليف. اللهَّم إلا أن يردّ بما يجري عليه من غير شيء منه،
فذلك متصرف في ظنون الخلق، مصرَّف في التحقيق.
قال الله تعالى: وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وبالله التوفيق.
ومن ذلك:
القرب والبعد
أوَّل رتبة في القرب: القربُ من طاعته، والانصاف في دوام الأوقات بعبادته. وأمَّا البعد، فهو التدنس بمخالفته، والتجافي عن طاعته. فأوَّل البعد بعد عن التوفيق، ثم بعد عن التحقيق، بل البعد عن التوفيق هو البعد عن التحقيق، قال صلى الله عليه وسلم، مخبراً عن الحق سبحانه: ما تقرب إلى المتقربون بمثل أداء ما افترضته عليهم، ولا يزال البعد يتقرب إلىَّ بالنواقل. حتى يحبني وأحبه فإذا أحببته، كنت له سمعاً وبصراً، فبي يبصر، وبي يسمع. الخبر...
فقُرْب العبد أولاً قرب بإِيمانه وتصديقه. ثم قرب بإحسنه وتحقيقه.
وقرب الحق سبحانه، ما يخصه اليوم به من العرفان، وفي الآخرة ما يكرِّمه به من الشهود والعيان، وفيما بين ذلك من وجوه اللطف والامتنان.
ولا يكونُ تقرُب العبد من الحق إلا ببعده عن الخلق. وهذه من صفات القلوب دون أحكام الظواهر والكون.
وقرب الحق سبحانه، بالعلم، والقدرة عام للكافة. وباللطف والنصرة خاص بالمؤمنين، ثم بخصائص التأنيس مختص بالأولياء. قال الله تعالى: ونحن أقرب إليه من حبل الوريد، وقال تعالى: ونحن أقرب إليه منكم، وقال تعالى: وهو معكم أينَما كنتم وقال: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم.
ومن تحقق بقرب الحق، سبحانه وتعالى، فأدْونه دوام مراقبته إيَّاه، لأنَّ عليه رقيبَ التقوى، ثم رقيب الحفظ والوفاء ثم رقيب الحياء.
وأنشدوا:
كأن رقيباً منك يرعى خواطري ... وآخرَ يرعى ناظري ولساني
فما رمقت عيناي بعدك منظراً ... يسوؤك إلا قلت قد رقاني
ولابدرت من في دونك لفظة ... لغيرك إلا قلت قد سمعاني
ولا خطرت في السر بعدك خطرة ... لغيرك إلا عرَّجاً بعناني
وإخوان صدق قد سئمت حديثهم ... وأمسكت عنهم ناظري ولساني
وما الزهد أسلى عنهم غير أنني ... وجدتك مشهوداً بكل مكان
وكان بعض المشايخ يخص واحداً من تلامذت بإقباله عليه، فقال أصحابه له في ذلك، فدفع إلى كل يخص واحداً من تلامذته بإقباله عليه، فقال أصحابه له في ذلك، فدفع إلى كل واحد منهم طيراً، وقال اذبحوه بحيث لا يراه أحد.
فمضى كل واحد وذبح الطير بمكان خال.. وجاء هذا الانسان والطير معه غير مذبوح؛ فسأله الشيخ، فقال: أمرتني أن أذبحه بحيث لايراه أحد، ولم يكن موضع إلا والحق سبحانه يراه. فقال الشيخ، لهذا أقدِّم هذا عليكم؛ إذ الغالب عليكم حديثُ الخلق، وهذا غير غافل عن الحق.
ورؤية القرب حجاب عن القرب، فمن شاهد لنفسه محلاً، أو نَفساً، فهو ممكور به.
ولهذا قالوا: أوحشك الله من قربه: أي من شهودك لقربه، فإن الاستئناس بقربه من سمات العزة به، إذ الحق سبحانه وراء كل أنس.
ون مواضع الحقيقة توجب الدهش والمحو.
وفي قريب من هذا قالوا:
محنتي فيك أنني ... ما أبالي بمحنتي
قربك مثلُ بعدكم ... فمتى وقت راحتي
وكان الأستأذ أبو عليِّ الدقاق، رحمه الله، كثيراً ما ينشد:
ودادكم هجر، وحبكم قلى ... وقربكم بعد وسلمكم حرب
ورأى
أبو الحسين النوري بعض أصحاب أبي حمزة، فقال: أنت من أصحاب أبي حمزة الذي
يشير إلى القرب؟ إذا لقيته، فقل له: إن أبا الحسين النوري يقرئك السلام،
ويقول لك: قرب القرب فيما نحن فيه بعد البعد.
فأما القرب بالذات،
فتعالى الله الملك الحق عنه، فإنه متقدس عن الحدود؛ والأقطار، والنهاية،
والمقدار وما اتصل به مخلوق، ولا انفصل عنه حادث مسبوق به، جلت صمديته عن
قبول الوصل والفصل.
فقرب هو في نعته محال: وهو تاني الذوات.
وقرب هو واجب في نعته وهو قرب بالعلم والرؤية.
وقرب هو جائز في وصفه، يخص به من يشاء من عباده، هو قرب الفضل باللطف.
ومن ذلك:
الشريعة والحقيقة
الشريعة: أمر بالتزام العبودية.
والحقيقة: مشاهدة الربوبية.
فكل شريعة غير مؤيدة مؤيدة بالحقيقة فغير مقبول.
فالشريعة جاءت غير مقيدة بالشريعة فغير مقبول.
فالشريعة جاءت بتكليف الخالق، والحقيقة إنباء عن تصريف الحق.
فالشريعة أن تعبده، والحقيقة أن تشهده.
والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قضى وقدر، وأخفى وأظهر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: قوله: إياك نعبد حفظ للشريعة وإياك نستعين إقرار بالحقيقة.
واعلم أن الشريعة حقيقة من حيث إنها وجبت بأمره.
والحقيقة - أيضاً - شريعة، من حيث إن المعرف به، سبحانه، أيضاً، وجبت بأمره.
ومن ذلك:
النَفَس
النفس
: ترويح القلوب بلطائف الغيوب. وصاحب الأنفاس أرق وأصفى من صاحب الأحوال. فكان الوقت مبتدئاً، وصاحب الأنفاس منتهياً، وصاحب الأحوال بينهما.فالأحوال وسائط، والأنفاس نهاية الترقيّ.
فالأوقات لأصحاب القلوب، والأحوال لأرباب الأرواح، والأنفاس لأهل السّرائر: وقالوا: أفضل العبادات عد الأنفاس مع الله سبحانه وتعالى.
وقالول: خلق الله القلب وجعلها معادن المعرفة، وخلق الأسرار وراءها. وجعلها محلا للتوحيد، فكل نفس حصل من غير دلالة المعرفة وإشارة التوحيد على بساط الاضطرار فهو ميت، وصاحبه مسئول عنه.
سمعت الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق، رحمه الله، يقول: العارف لا يسلم له النفس، لأنه لا مسامحة تجري معه، والمحب لا بدله من نفس، إذ لو لا أن يكون له نفس لتلاشى، لعدم طاقته.
ومن ذلك:
الخواطر
والخواطر خطاب يَرد على الضمائر، وهو قد يكون بإلقاء ملك، وقد يكون بإلقاء شيطان، ويكون أحاديث النفس، ويكون من قبل الحق سبحانه.
فإذا كان من الملك فهو الإلهام.
وإذا كان من قبل النفس، قيل له: الهواجس.
وإذا كان من قبل الشيطان فهو: الوسواس.
وإذا كان من قبل الله سبحانه، وإلقائه في القلب، فهو: خاطر حق.
وجملة ذلك من قبيل الكلام.
فإذا كان من قبل الملك، فنما يعمل صدقهُ بموافقة العلم، ولهذا قالوا: كل خاطر لايشهد له ظاهر فهو باطل.
وإذا كان من قبل الشيطان فأكثره يدعو إلى المعاصي.
وذا كان من قبل الشيكان فأكثره يدعو إلى المعاصي.
وإذا كان من قبل النفس فأكثره، يدعو إلى اتباع شهوة أو استشعار كبر، أو ما هو من خصائص وصاف النفس.
واتفق المشايخ على أن من كان أكله من الحرام لم يفرق بين الإلهام والوسواس.
وسمعت الشيخ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من كان قوته معلوماً لم يفرق بين الإلهام والوسواس، وأن من سكنت عنه هواجس نفسه بصدق مجاهدته نطق بيان قلبه بحكم مكابدته.
وأجمع الشيوخ على أن النفس لا تصدق، وأن القلب لا يكذب.
وقال بعض المشايخ: إن نفسك لا تصدق وقلبك لا يكذب، ولو أجتهدت كل الجهد أن تخاطبك روحكم لم تخاطبك.
وفرق الجنيد بين هواجس النفس ووساوس الشيطان بأن النفس إذا طالبتك بشيء ألحت.. فلا تزال تعاودك، ولو بعد حين، حتى تصل إلى مرادها، ويحصل مقصودها، اللهم إلا أن يدوم صدق المجاهدة، ثم إنها تعاودك وتعاودك.
وأما الشيطان إذا دعاك إلى زلة، فخالفته بترك ذلك، يوسوس بزلة أخرى، لأن جميع المخالفات له سواء، وإنما يريد أن يكون داعياً أبداً إلى زلة ما، ولا غرض له في تخصيص واحد دون واحد.
وقد قيل: كل خاطر يكون من المسلك فربما يوافقه صاحبه، وربما يخالفه.
فأما خاطر يكون من الحق سبحانه، فلا يحصل خلاف من العبد له.
وتكلم الشيوخ في الخاطر الثاني، إذا كان الخاطران من الحق سبحانه، هل هو أقوى من الأول؟
فقال الجنيد: الخاطر الأول أقوى، لأنه إذا بقي رجع صاحبه إلى التأمل. وهذا بشرط العلم، فترك الأول يضعف الثاني.
وقال ابن عطاء الله: الثاني أقوى، لأنه إزاداد قوة بالأول.
وقال أبو عبيد الله بن خفيف من المتأخرين: هما سواء، لأن كليهما من الحق، فلا مزية لأحدهما على الآخر.
والأول لا يبقى في حال وجود الثاني، لأن الآثار لا يجوز عليها البقاء.
ومن ذلك:
علم اليقين وعين القين وحق اليقين
هذه عبارات عن علوم جلية.
فاليقين: هو العلم الذي لا يتداخل صاحبه ريب على مطلق العرف.
ولا يطلق في وصف الحق سبحانه؛ لعدم التوقيف.
فعلم اليقين: هو اليقين، وكذلك عين اليقين: نفس اليقين، وحق اليقين: نفس اليقين.
فعلم اليقين، على موجب اصطلاحهم ما كان بشرط البرهان.
وعين اليقين ما كان بحكم البيان.
وحق اليقين ما كان بنعت العيان.
فعلم اليقين لأرباب العقول وعين اليقين لأصحاب العلوم. وحق اليقين لأصحاب المعارف.
والكلام في الإفصاح عن هذا بحال تحقيقه يعود إلى ما ذكرناه.
فاقتصرنا على هذا القدر، على جهى التنبيه.
ومن ذلك:
الوارد
ويجري في كلامهم ذكر الواردات كثيراً.
والوارد: ما يرد على القلوب من الخواطر المحمودة، مما لا يكون بتعمد العبد، وكذلك ما لا يكون من قبيل الخواطر، فهو أيضاً: وارد.
ثم قد يكون وارد من الحق، ووارد من العلم.
فالواردات أعم من الخواطر؛ لأن الخواطر تختص بنوع الخطاب، أو ما يتضمن معناه.
والواردات تكون: وارد سرور، ووارد حزن، ووارد قبض؛ ووارد بسط، إلى غير ذلك من المعاني.
ومن ذلك لفظ:
الشاهد
كثيراً ما يجري في كلامهم لفظ: الشاهد: فلان بشاهد العلم، وفلان بشاهد الوجد، وفلان بشاهد الحال.
ويريدون بلفظ الشاهد: ما يكون حاضر قلب الإنسان، وهو ما كان الغالب عليه ذكره، حتى كأنه يراه ويبصره، وإن كان غائباً عنه. فكل ما يستولي على قلب صاحبه ذكره فهو شاهده فإن كان الغالب عليه العلم، فهو بشاهد العلم.
وإن كان الغالب عليه الوجد، فهو بشاهد الوجد.
ومعنى الشاهد: الحاضر، فكل ما هو حاضر قلبك فهو شاهدك. وسئل الشبلي عن المشاهدة، فقال: من ين لنا مشاهدة الحق؟ الحق لنا شاهد.
أشار بشاهد الحق إلى المستولى على قلبه؛ والغالب عليه من ذكر الحق والحاضر في قلبه دائماً من ذكر الحق.
ومن حصل له مع مخلوق تعلق بالقلب، يقال: إنه شاهده، يعني: أنه حاضر قلبه، فإن المحبة توجب دوام ذكر المحبوب، واستيلائه عليه.
وبعضهم تكلف في مراعاة هذا الاشتقاق فقال: إنما سمى الشاهد من الشهادة، فكأنه إذا طالع شخصاً بوصف الجمال: فإن كانت بشريته ساقطة عنه، ولم يشغل شهود ذلك الشخص عما هو به من الحال، ولا أثرت فيه صحبته بوجه، فهو شاهد له على فناء نفسه.
ومن أثر فيه ذلك، فهو شاهد عليه في بقاء نفسه.
وقيامه بأحكام بشريته إما شهد له، أو شاهد عليه.
وعلى هذا حمل قوله صلى الله عليه وسلم: رأيت ربي ليلة المعراج في أحسن صورة أي أحسن صورة رأيتها تلك الليلة لم تشغلني عن رؤيته تعالى، بل رأيت المصور في الصورة، والمنشىء في الإنشاء، ويريد بذلك رؤية العلم، لا إدراك البصر.
ومن ذلك:
النفس
نفس الشيء في اللغة: وجودُه.
وعند القوم: ليس المراد من اطلاق لفظ النفس الوجودَ، ولا القالب الموضوع. إنما أرادوا بالنفس: ما كان معلولاً من أوصاف العبد مذموماً من أخلاقه وأفعاله.
ثم إن المعلولات من أوصاف العبد على ضربين: أحدهما: ما يكون كسباً له؛ كمعاصية ومخالفته.
والثاني: أخلاقه الدنيئة، فهي في أنفسها مذمومة، فإذا عالجها العبد ونازلها، تنتفي عنه بالمجاهدة تلك الأخلاق على مستمر المادة.
والقسم الأوَّل من أحكام النفس: ما نهي عنه نهي تحريم، و نهي تنزيه.
وأما القسم الثاني، من قسمي النفس: فسفساف الأخلاق، والدنيء منها.
وهذا حُّه على الجملة. ثم تفصيلها: فالكبر، والغضب، والحقد، والحسد، وسوء الخلق، وقلَّة الاحتمال، وغير ذلك من الأخلاق المذمومة.
وأشد أحكام النفس وأصعبها: توهمها أن شيئاً منها حسن، أو أن لها استحقاق قدر، ولهذا عُدَّ ذلكمن الشرك الخفيِّ.
ومعالجة
الأخلاق في ترك النفس، وكسرها، أتم من مقاساة الجوع والعطش والسهر، وغير
ذلك من المجاهدات التي تتضمن سقوط القوة، وإن كان ذلك أيضاً من جملة ترك
النفس، ويحتمل أن تكون النفس: لطيفة مودعة في هذا القالب، هي محل الأخلاق
المعلومة.
كما أن الروح: لطيفة، مودعةفي هذا القالب هي محل الأخلاق المحمودة.
وتكون الجملة مسخراً بعضها لبعض: والجميع إنسان واحد.
وكون
الروح، والنفس، من الأجسام اللطيفة في الصورة، ككون الملائكة والشياطين
بصفة اللطافة. وكما يصح أن يكون البصر محلَّ الرؤية، والأذن محل السمع،
والأنف محل الشم، والفم محلَّ الذوْق، والسميع، والبصير والشامُّ، والذائق
إنما هي الجملة. التي هي الإنسان فكذلك محل الأوصاف الحميدة: القلب والروح
ومحل الأوصاف المذمومة: النفس.
والنفس جزء من هذه الجملة، والقلب جزء من هذه الجملة، والحكم الاسم راجع إلى الجملة.
ومن ذلك:
الروح
الأرواح مختلف فيها عند أهل التحقيق من أهل السنة: فمنهم من يقول: إنها الحياة.
ومنهم من يقول: إنها أعيان مودعة في هذه القوالب.
لطيفة: أجرى الله العادة بخلق الحياة في القالب، ما دامت الارواح في الأبدان، فالإنسان حي بالحياة، ولكن الارواح مودعة في القوالب؛ ولها ترق في حال النوم، ومفارقة للبدن، ثم رجوع إليه.
وأن الإنسان: هو الروح، والجسد؛ لأن الله سبحانه وتعالى؛ سخر هذه الجملة بعضها لبعض. والحشر يكون للجملة. والمثاب والمعاقب الجملة.
والأرواح مخلوقة. ومن قال بقدمها فهو مخطىء خطأ عظيماً.
والأخبار تدل على أنها أعيان لطيفة.
ومن ذلك:
السر
ُّيحتمل أنها لطيفة مودعة في القالب، كالأرواح.
وأصولهم تقتضي أنها محل المشاهدة، كما أن الأرواح محل للمحبة، والقلوبَ محل للمعارف.
وقالوا: السر: مالك عليه إشراف، وسر السرِّ: مالا اطلاع عليه لغير الحق.
وعند القوم: على موجب مواضعاتهم ومقتضى اصولهم: السر ألطف من الروح، والروح أشرف من القلب.
ويقولون: الأسرارُ معتقه عن رقّ الأغيار من الآثار والأطلال.
ويطلق لفظ السرِّ على ما يكون مصوناً مكتوماً بين العبد والحق سبحانه، في الأحوال. وعليه يحمل قول من قال: أسرارنا بكر لم يفتضَّها وهم واهم.
ويقولون: صدور الأحرار قبورُ الاسرار.
وقالوا: لو عرف زرِّي سري لطرحته.
فهذا طرف من تفسير إطلاقتهم، وبيان عباراتهم فيما انفردوا به من ألفاظ ذكرناها على شروط الإيجاز.
ونذكر الآن أبواباً في شرح المقامات التي هي مدارج أرباب السلوك.
ثمَّ بعدها أبواباً في تفصيل الأحوال على الجد الذي يسهله الله تعالى، بفضله إن شاء الله تعالى.
شرح المقامات
باب التوبة
قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون لعلكم تفلحوه " .
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن فورك، رحمه الله، قال: أخبرنا أحمد بن محمود بن خرَّاز قال: حدثنا محمد بن فضل بن جابر، قال حدثنا سعيد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن زكريا، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يقول: " التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا أحبَّ الله عبداًلم يضرّه ذنب " ، ثم تلا: " إن الله يحب التوَّابين ويحب المتطهرين " ، قيل: يا رسول الله، وما علامة التوبة؟ قال " الندامة " .
أخبرنا عليُّ بن أحمد بن عبدان الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: أخبرنا الحكم بن موسى، قال: حدَّثنا غسَّان بن عبيد عن أبي عاتكة طريف بن سليمان، عن أنس بن مالك. أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: " ما من شيء أحب إلى الله من شاب تائب " .
فالتوبة أوَّل منزل من منازل السالكين.
وأوَّلُ مقام من مقامات الطالبين.
وحقيقة التوبة في لغة العرب: الرجوع، يقال: تاب أي رجع.
فالتوبة الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الندم توبة " .
فأرباب الأصول من أهل السنةَّ قالوا: شرط التوبة، حتى تصح، ثلاثة أشياء: الندم على ما عمل من المخالفات.
وترك الزَّلة في الحال.
والعزمُ على أن لايعود إلى مثل ما عمل من المعاصي.
فهذه الأركان لابد منها، حتى تصحَّ توبته.
قال
هؤلاء: وما في الخبر أن " الندم توبة " إنما نصَّ على معظمه كما قال صلى
الله عليه وسلم: " الحج عرفه " ، أي معظم أركانه عرفه، أي الوقوف بها، لا
أنه لا ركن في الحج سوى الوقوف بعرفات، ولكن معظم أركانه الوقوف بها.
وكذلك قوله " الندم توبة " أي معظم أركانها الندم.
ومن
أهل التحقيق من قال: يكفي الندم في تحقيق ذلك؛ لأن الندم يستتبع الركنين
الآخرين فإنه يستحيل تقدير أن يكون نادماً على ما هو مصر على مثله؛ أو
عازم على الإتيان بمثله.
وهذا معنى التوبة على جهة التحديد والإجمال.
فامَّا
على جهة الشرح والإبانة، فن للتوبة أسباباً وترتيباً وأقساماً فأول ذلك:
انتباه القلب عن رقدة الغفلة، ورؤية العبد ما هو عليه من سوء الحالة.
ويصل
إلى هذه الجملة بالتوفيق للاصغاء إلى ما يخطر بباله من زواجر الحق،
سبحانه. يسمع قلبه، فإنه جاء في الخبر " واعظُ الله في قلب كل امرىء مسلم
" .
وفي الخبر: " إن في البدن لمضغة إذا صلحَت صلح جميع البدن وإذا فسدت فسد جميع البدن، ألا وهي: القلب " .
فذا
فكر بقلبه في سوء ما يصنعه، وأبصر ما هو عليه من قبيح الأفعال، سنح في
قلبه إرادة التوبة، والإقلاعُ عن قبيح المعاملات فيمدُّه الحق، سبحانه
بتصحيح العزيمة، والأخذ في جميل الروجعي، والتأهب لأسباب التوبة: فأوَّل
ذلك: هجران إخوان السوء؛ فإنهم هم الذين يحملونه على ردّ هذا القصد
ويشوشون عليه صحة هذا العزم.
ولا يتم ذلك: إلا بالمواظبة على المشاهدة
التي تزيد رغبته في التوبة وتوفَر دواعيه على إتمام ما عزم عليه. مما
يقوِّي خوفه ورجاءه: فعند ذلك تنحل من قلبه عقدة الإصرار على ما هو عليه
من قبيح الأفعال، فيقف عن تعاطي المحظورت، ويكبح لجام نفسه عن متابعة
الشهوات فيفارق الزلةَّ في الحال، ويبرم العزيمة على أن لا يعود إلى مثلها
في الاستقبال.
فإن مضى على موجب قصده، ونفذ بمقتضى عزمه فهو الموفق صدقا.
وإن
نقض التوبة مرَّة أو مرات، وتحمله إرادته على تجديدها فقد يكون مثل هذا
أيضاً كثيراً، فلا ينبغي قطع الرجاء عن توبة أمثال هؤلاء، فإن لكل أجل
كتاباً.
حكي عن أبي سليمان الداراني، أنه قال: أختلفت إلى مجلس قاض،
فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء.. فعدت ثانياً؛ فبقي
أثر كلامه في قلبي، حتى رجعت إلى منزلي.
فكسرب آلات المخالفات ولزمت الطريق.
فحكى
هذه الحكاية لحيي بن معاذ فقال: عصوراً اصطاد كركيَّاً!! أراد بالعصفور.
ذلك القاصَّ، وبالكركيِّ، أبا سليمان الداراني ويحكى عن أبي حفص الحدَّاد
أنه قال: تركت العمل كذا، وكذا مرة، فعدت إليه، ثم تركني العمل، فلم أعد
بعد إليه.
وقيل: إن أبا عمرو بن نجيد، في ابتداء أمره، أختلفت إلى مجلس أبي عثمان، فأثرت في قلبه كلامه، فتاب.
ثم
إنه وقعت له فترة، فكان يهرب من أبي عثمان إذا رآه، ويتأخر عن مجلسه
فاستقبله أبو عثمان يوماً فحاج أبو عمرو عن طريقه، وسلك طريقاً أخرى،
فتبعه أبو عثمان فما زال به يقفو أثره، حتى لحقه، فقال له: يا بُني، لا
تصحب من لا يحبك إلا معصوماً، إنما ينفعك أبو عثمان في مثل هذه الحالة.
قال: فتاب أبو عمرو بن نجيد، وعاد لى الإرادة، ونفذ فيها.
سمعت الشيخ
أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: تاب بعض المريدين، ثم وقعت له فترة،
فكان يفكر وقتاً: لو عاد إلى توبته كيف حكمه؟ فهتف به هاتف: يا فلان،
أطعتنا فشكرناك، ثم تركتنا فأمهلناك، وإن عدت إلينا قبلناك.
فعاد الفتى إلى الإرادة، ونفذ فيها.
فإذا
ترك المعاصي، وحل عن قلبه عقدة الإصرار، وعزم أن لا يعود إلى مثله، فعند
ذلك يخلق إلى قلبه صادق الندم. فيتأسف على ما عمله، ويأخذ في التحسر على
ما صنعه من أحواله، وارتكبه من قبيح أعماله، فتتم توبته، وتصدق مجاهدته،
واستبدل بمخالطته العزلة، وبصحبته مع أخوان السوء التوحش عنهم، والخلوة
دونهم ويصل ليله بنهار في التلهف، ويعتنق في عموم أ؛واله بصدق التأسف،
يمحو بصوب عبرته آثار عثرته، ويأسو بحسن توبته كلوم حوبته ويعرف من بين
أمثاله بذبوله، ويستدل صحة حاله بنحوله.
ولن يتم له شيء من ذلك إلا
بعد فراغه من إرضاء خصومه، والخروج عما لزمه من مظالمه، فإن أول منزلة من
التوبة إرضاء الخصوم بما أمكنه، فإن اتسع ذات يده لإيصال حقوقهم إليهم، أو
سمحت أنفسهم بإحلاله والبراءة عنه، وإلا فالعزم بقلبه على أن يخرج عن
حقوقهم عند الإمكان والرجوعُ إلى الله سبحانه بصدق الابتهال والدعاء لهم.
وللتائبين
صفات وأحوال: هي من خصالهم، يعدُّ ذلك من جملة التوبة، لكونها من صفاتهم،
لا لأنها من شرط صحتها، وإلى ذلك تشير أقاويل الشيوخ في معنى التوبة: سمعت
الأستاذ أبا عليّ الدِّقاق، رحمه الله تعالى، يقول: التوبة على ثلاثة
اقسام: أوَّلها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة.
فجعل التوبة بداية، والأوبة نهاية، والإنابة واسطنهما.
فكلُّ ما تاب لخوف العقوبة فهو صاحب إنابة.
ومن تاب مراعاة للأمر لا للرغبة في الثواب أو رهبة من العقاب فهو صاحب أوبة.
ويقال أيضاً: التوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: " وتوبوا إلى الله جميعاً أيه المؤمنون " .
والإنابة: صفة الأولياء والمقرَّبين، قال الله تعالى: " وجاء بقلب منيب " .
والأوبة: صفة الأنبياء والمرسلين، قال الله تعالى: " نعم العبد إنه أوَّاب " .
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت
جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد يقول: التوبة على ثلاثة معان: أولها:
الندم، والثاني العزم على ترك المعاودة إلى ما نهى الله عنه، والثالث
السعي في أداء المظالم.
وقال سهل بن عبد الله: التوبة: ترك التسويف.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي، يقول: سمعت أبا
عبد الله القرشي يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت الحارث يقول: ما قلت قط،
اللهم إني إسألك التوبة، ولكني أقول: أسألك شهوة التوبة.
أخبرنا أبو
عبد الله الشيرازي، رحمه الله قال: سمعت أبا عبد الله بن مصلح، بالأهواز
يقول. سمعت ابن زيري يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على السرّي يوماً
فرأيته متغيراً، فقلت له: مالك؟ فقال: دخل علي شاب فسألني عن التوبة، فقلت
له: أن لا تنسى ذنبك!! فعارضني، وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك.
فقلت: إن الأمر عندي ما قاله الشاب.
فقال: لِم؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الوفاء؛ فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء فسكت.
سمعت
أبا حاتم السجستاني، رحمه الله، يقول: سمعت أبا نصر السراج الصوفي يقول:
سئل سهل بن عبد الله عن التوبة، فقال: أن لا تنسى ذنبك وسئل الجنيد عن
التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك.
قال أبو نصر السراج: أشار سهل إلى أحوال
المريدين والمتعرضين، تارة لهم، وتارة عليهم، فأما الجنيد فإنه أشار إلى
توبة المحققين فإنهم لا يذكرون ذنوبهم بما غلب على قلوبهم من عظمة الله
تعالى، ودوام ذكره.
قال: وهو مثل ما سئل رويم عن التوبة، فقال: هي التوبة من التوبة.
وسئل ذا النُّون المصري عن التوبة: فقال: توبة العوامِّ من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة.
وقال أبو الحسين النوري: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله عز وجل.
سمعت
محمد بن أحمد بن محمد الصوفي يقول: سمعت عبد الله بن علي ابن محمد التميمي
يقول: شتان ما بين تائب يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب
يتوب من رؤية الحسنات.
وقال الواسطي: التوبة النصوح لا تبقي على صاحبها أثراً من المعصية سراً ولا جهراً ومن كانت توبته نصوحاً لا يبالي كيف أمسى أو أصبح.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم بن الفضل الهاشمي
يقول: سمعت محمد بن الرومي يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: إلهي، لا أقول
تبت، ولا أعود لما أعرف من خلقي، ولا أضمن ترك الذنوب لما أعرف من ضعفي،
ثم إنيِّ أقول: لا أعود لعلي أن أموت قبل أن أعود.
وقال ذو النون: الاستغفار من غير إقلاع توبة الكاذبين.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت ابن يزدانيار يقول، وقد
سئل عن العبد إذا خرج إلى الله على أيِّ أصل يخرج؟ فقال: على أن لا يعود
إلى ما منه خرج، ولا يراعي غير من إليه خرج، ويحفظ سرَّه عن ملاحظة ما
تبرأ منه.
فقيل له: هذا حكم من خرج عن وجود، فكيف حكم من خرج عن عدم؟ فقال: وجودُ الحلاوة في المستأنف عوضاً عن المرارة في السالف.
وسئل البوشنجي عن التوبة فقال: إذا ذكرتَ الذنب ثم لا تجد حلاوته عند ذكره، فهو التوبة.
وقال
ذو النون: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى لا يكون لك
قرار.. ثم تضيق عليك نفسك، كما أخبر الله تعالى في كتابه بقوله: " وضاقت
عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا "
.
وقال ابن عطاء: التوبة: توبتان: توبة الإقامة، وتوبة الاستجابة.
فتوبة الإنابة: أن يتوب العبد خوفاً من عقوبته.
وتوبة الاستجابة: أن يتوب حياء من كرمه: وقيل لأبي حفص: لم يبغض التائب الدنيا؟ قال: لأنها دار باشر فيها الذنوب.
فقيل له: فهي ايضاً دار أكرمه الله فيها بالتوبة؟ فقال: إنه الذنب على يقين، ومن قبول توبته على خطر.
وقال
الواسطي: طرب داوود عليه السلام، وما هو فيه من حلاوة الطاعة أوقعه في
أنفاس متصاعدة، وهو في الحالة الثانية أتم منه في وقت ما ستر عليه من أمره.
وقال بعضهم: توبة الكذابين على أطراف ألسنتهم يعني قوله: " أستغفر الله " .
وسئل أبو حفص عن التوبة، فقال: ليس للعبد في التوبة شيء!! لأن التوبة إليه، لا منه.
وقيل:
أوحى الله سبحانه، إلى آدم ورثت ذريتك التعب والنصب، وورثتهم التوبة، من
دعاني منهم يدعونك لبِّيته كتلبيتك، يا آدم أحشر التائبين، من القبور
مستبشرين ضاحكين، ودعاؤهم مستجاب.
وقال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب والمعاصي، فلو تبت هل يتوب علي؟ فقالت: لا بل لو تاب عليك لتبت.
وإعلم
أن الله تعالى قال: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومن قارف الزلة
فهو من خطئه على يقين، فإذا تاب، فإنه من القبول على شكل، لاسيما إذا كان
من شرطه وحقه أن يكون مستحقاً لمحبة الحق وإلى أن يبلغ العاصي محلاً يجد
في أوصافه أمارة محبة الله إيه مسافة بعيدة، فالواجب إذن على العبد إذا
علم أنه أرتكب ما تجب منه التوبة دوام الإنكسار، وملازمة التنصل
والاستغفار. كما قالوا: " استشعار الوجل إلى الأجل " ، وقال عزَّ من قائل:
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " .
وكان من سنته صلى
الله عليه وسلم: دوام الاستغفار، وقال صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان
على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة " .
سمعت أبا عبد الله
الصوفي يقول: سمعت الحسين بن علي يقول: سمعت محمد بن أحمد يقول: سمعت عبد
الله بن سهل يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: زلة واحدة بعد التوبة أقبح من
سبعين قبلها: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا عبد الله الرازي يقول:
سمعت أبا عثمان يقول في قوله عز وجل: " إن إلينا إيابهم " قال: رجوعهم،
وإن تمادى يهم الجولان في المخالفات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي
يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمرو الأنماطي يقول: ركب علي بن
عيسى الوزير في موكب عظيم فجعل الغرباء يقولون: من هذا؟ من هذا؟ فقالت
امرأة قائمة على الطريق: إلى متى تقولون من هذا؟ من هذا؟! هذا عبد سقط من
عين الله فابتلاه الله بما ترون. فسمع على بن عيسى ذلك، فرجع إلى منزله
واستغنى عن الوزارة، وذهب إلى مكة وجاور بها.
باب المجاهدة
قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا، لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين " .
أخبرنا أبو الحسين علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: أخبرنا العباس بن الفضل الإسقاطي، قال: أخبرنا ابن كاسب قال أخبرنا ابن عيبنة، عن علي بن زيد، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن أفضل الجهاد " ، فقال: " كلمة عدل عند سلطان جائر " فدمعت عينا أبي سعيد.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من زين ظاهره بالمجاهدة حسن الله سرائره بالمشاهدة، قال الله تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا " .
وأعلم أن من لم يكن في بدايته صاحب مجاهدة لم يجد من هذه الطريقة شمة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا عثمان المغربي يقول: من ظن أن يفتح له شيء من هذه الطريقة، أو يكشف له عن شيء منها إلا بلزوم المجاهدة فهو في غلط.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: من لم يكن له في بدايته قومة، لم يكن له في نهايته جلسة.
وسمعته أيضاً يقول: قولهم الحركة بركة: حركات الظواهر توجب بركات السرائر.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت الحسين بن
علويه يقول: قال أبو يزيد البسطامي: كنت ثنتي عشرة سنة حدَّاد نفسي وخمس
سنين كنت مراة قلبي، وسنة أنظر فيما بينهما، فإذا في وسطي زَنَّار ظاهر،
فعملت في قطعة ثنتي عشرة سنة.
ثم نظرت، فإذا في باطني زنار فعملت في
قطعة خمس سنين أنظر كيف أقطعه فكشف لي، فنظرت إلى الخلق فرأيتهم موتى
فكبرت عليهم أربع تكبيرات.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول:
سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفراً يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت
السري يقول: يا معشر الشباب، جدوا قبل أن تبلغوا مبلغي فتضعفوا وتقصروا
كما ضعفت وقصرتُ: وكان في ذلك الوقت لا يلحقه الشباب العبادة.
وسمعته
يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت عبد العزيز النجراني يقول: سمعت
الحسن القزاز يقول: بني هذا الأمر على ثلاثة أشياء: أن لا تأكل إلا عند
الفاقة، ولا تنام إلا عند الغلبة، ولا تتكلم إلا عند الضرورة.
وسمعته
يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد بن
خضروية يقول: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: لن ينال الرجل درجة الصالحين،
حتى يجوز ست عقبات: أولها: أن يغلق باب النعمة، ويفتح باب الشدة.
والثاني: أن يغلق باب العز، ويفتح باب الذلِّ.
والثالث: أن يغلق باب الراحة؛ ويفتح باب الجهد.
والرابع: أن يغلق باب النوم، ويفتح باب السهر.
والخامس: أن يغلق باب الغنى، ويفتح باب الفقرِ.
والسادس: أن يغلق باب، الأمل ويفتح باب الاستعداد للموت.
سمعت
الشيخأبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد
يقول: من كرمت عليه نفسه هان عليه دينه!! وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد
الله يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام
أنا جائع، فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
وأعلم أن أصل المجاهدة وملاكها: فطم النفس عن المألوفات، وحملها على خلاف هواها في عموم الأوقات.
وللنفس
صفتان ما نعتان لها من الخير: أنهماك في الشهوات، وامتناع عن الطاعات فإذا
جمحت عند ركوب الهوى وحب كبحها بلجام التقوى، وإذا حرنت عند القيام
بالموافقات يجب سوقها على خلاف الهوى، وإذا ثارت عند غضبها، فمن الواجب
مراعاة حالها، فما من منازلة أحسن عاقبه من غضب يكسب سلطانه بخلق حسن،
وتخمد نيرانه برفق، فإذا استحلت شراب الرعونة فضاقت، إلا عن إظهار مناقبها
والتزين لمن ينظر إليها ويلاحظها، فمن والواجب كسر ذلك عليها، وإحلالها
بعقوبة الذل بما يذكرها من حقارة قدرها، وخساسة أصلها، وقذارة فعلها.
وجهد
العوام في توفية الأعمال وقصد الخواص إلى تصفية الأحوال فإن مقاساة الجوع
والسهر سهل يسير، ومعالجة الأخلاق والتنقي من سفاسفها صعب شديد.
ومن غوامض آفات النفس: ركونها إلى استحلاء المدح، فإن من تحسى منه جرعة حمل السموات والأرضين على شفرة من أشفاره.
وأمارة ذلك: أنه إذا انقطع عنه ذلك الشرب آل حاله إلى الكسل والفشل.
وكان
بعض المشايخ يصلي في مسجده في الصف الأول سنين كثيرة، فعاقه يوماً عن
الابتكار إلى المسجد عائق، فصلى في الصف الأخير، فلم ير بعد ذلك مدة، فسئل
عن السبب، فقال: كنت أقضي صلاة كذا، وكذا سنة صليتها وعندي أني مخلص فيها
لله، فداخلني يوم تأخري عن المسجد من شهود الناس إياي في الصف الأخير نوع
خجل، فعلمت أن نشاطي طول عمري إنما كان رويتهم فقضيت صلواتي.
ويحكي عن
أبي محمد المرتعش، أنه قال: حججت كذا، وكذا حجة على التجريد، فبان لي أن
جميع ذلك كان مشوباً بحظي؛ وذلك: أن والدتي سألتني يوماً أن أستقي لها
جرَّة ماء فثقل ذلك على نفسي، فعلمت أن مطاوعة نفسي في الحجات كانت لحظ،
وشوب لنفسي، إذ لو كانت نفسي فانية لم يصعب عليها ما هو حق في الشرع.
وكانت
امرأة قد طعنت في السن، فسئلت عن حالها، فقالت: كانت في حال الشباب أجد من
نفسي نشاطاً وأحوالاً؛ أظنها قوة الحال، فلما كبرت زالت عني، فعلمت أن ذلك
كان قوة الشباب، فتوهمتها أحوالاً.
سمعت الشيخ أبا عليِّ الدقاق يقول: ما سمع هذه الحكاية أحد من الشيوخ إلا رقَّ لهذه العجوز، وقال: إنها كانت منصفه.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت يوف بن
الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: ما أعز الله عبداً بعز هو أعز له
من أن يدله على ذلك نفسه، وما أذل الله عبداً بذل هو أذل له من أن يحجبه
عن ذلك نفسه.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت إبراهيم الخواص يقول: ما هالني شيء إلا ركبته.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت محمد بن الفضل يقول، الراحة: هو الخلاص من أماني النفس.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا علي
الروذباري يقول: دخلت الآفة على الخلق من ثلاثة: سقم الطبيعة، وملازمة
العادة، وفساد الصحبة.
فسألته: ما سقم الطبيعة؟ فقال: أكل الحرام.
فقلت، ما ملازمة العادة؟ فقال: النظر، والاستمتاع بالحرام، والغيبة.
قلت: فما فساد الصحبة؟ قال: كلما هاجت في النفس الشهوة تبعتها.
وسمعته يقول: سمعت النّصراباذي يقول: سجنك نفسك. إذا خرجت منها وقعت في راحة أبدية.
وسمعته
يقول: سمعت محمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الورَّاق يقول: كان أجل
أحكامنا في مبادىء أمرنا في مسجد أبي عثمان الحيري الإيثار بما يفتح
علينا، وأن لا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا، بل
نعتذر إليه، ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته
والإحسان إليه حتى يزول.
وقال أبو حفص: النفس ظُلمْة كلها، وسراجها سرها، ونور سراجها التوفيقُ، فمن لم يصحبه في سرِّه توفيق من ربه كان ظلمة كلَّه.
قال
الأستاذ الإمام القشيري: معنى قوله " سراجها سرها " يريد: سرَّ العبد الذي
بينه وبين الله تعالى، وهو محل إخلاصه، وبه يعترف العبد أن الحادثات بالله
لا بنفسه ولا من نفسه؛ ليكون متبرئاً من حوْله وقوته على استدامة أوقاته،
ثم بالتوفيق يعتصم من شرور نفسه، فإن من لم يدركه التوفيق لم ينفعه علمه
بنفسه، ولا بربه، ولهذا قال الشيوخ: من لم يكن له سر فهو مُصر.
وقال أبو عثمان: لا يرى أحد عيب نفسه وهو مستحسن من نفسه شيئاً، وإنما يرى عيوب نفسه من يتهمها في جميع الأحوال.
وقال أبو حفص: ما أسرع هلاك من لا يعرف عيبه، فإن المعاصي يريد الكفر.
وقال أبو سليمان: ما استحسنت من نفسي عملاً فاحتسبت به.
وقال
السري: إياكم وجيران الأغنياء، وقرَّاء الأسواق، وعلماء الأمراء: وقال ذو
النون المصري: إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء: الأول: ضعف النية
بعمل الآخرة.
والثاني: صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم.
والثالث: غلبهم طول الأمل مع قرب الأجل.
والرابع: آثروا رضا المخلوقين على رضا الخالق.
والخامس: اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وراء ظهورهم.
والسادس: جعلوا قليل زلاَّت السلف حجة لأنفسهم، ودفنوا كثير مناقبهم.
باب الخلوة والعزلة
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا عبد العزيز بن معاوية قال: حدّثنا القعني قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن ابيه، عن بعجة بن عبد الله بن بدر الجهني، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من خير معايش الناس كلِّهم رجلاً آخذاً بعنان فرسه في سبيل الله، إن سمع فزعة أو هيعة كان على متن فرسه يبتغي الموت أو القتل في مظانه، أو رجلاً في غنيمة له في رأس شعفة من هذه الشعاف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، ويعبُد ربَّه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير " .
قال الأستاذ: الخلوة: صفة أهل الصفوة. والعزلة: من أمارات الوصلة.
ولا بد للمريد - في ابتداء حاله - من العزلة عن أبناء جنسه، ثم في نهايته - من الخلوة؛ لتحققه بأنسه.
ومنَ حقِّ العبد - إذا آثر العزلة - أن يعتقد باعتزاله عن الخلق سلامة الناس من شره ولا يقصد سلامته من شر الخلق، فإن الأول من القسمين: نتيجة استصغار نفسه، والثاني شهود مزيته على الخلق. ومن استصغر نفسه فهو متواضع، ومن رأى لنفسه مزلة على أحد، فهو متكبر.
ورؤي بعض الرهبان، فقيل له: إنك راهب.
فقال: لا، بل أن حارس كلب؛ إن نفسي كلب يعقر الخلق أخرجتها من بينهم، ليسلموا منها.
ومرَّ
إنسان ببعض الصالحين؛ فجمع ذلك الشيخ ثيابه منه، فقال له الرجلَّ: لم تجمع
عني ثيابك، ليست ثيابي نجسة؟ فقال الشيخ: وهمتَ في ظنك، ثيابي هي النجسة.
جمعتها عنك؛ لئلا تنجس ثيابك، لا لكي لا تنجس ثيابي.
ومن آداب العزلة: العارفُ؟ قالوا: كائن بائن، يعني: كائن مع الخلق، بائن عنهم بالسر.
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقَّاق، رحمه الله، يقول: إلبس مع الناس ما يلبسون، وتناول مما يأكلون، وانفرد عنهم بالسر.
وسمعته
يقول: جاءني إنسان، وقال: جئتك من مسافة بعيدة فقلت: ليس هذا الحديث من
حيث قطع المسافة ومقاساة الأسفار فارق نفسك ولو بخطوة، فقد حصل مقصودك.
يحكى عن أبي يزيد قال: رأيت ربيَّ عز وجلَّ في المنام، فقلت: كيف أجدك؟ فقال: فارقْ نفسك وتعال.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول سمعت أبا عثمان المغربي
يقول: من أختار الخلوة على الصحبة ينبغي أن يكون خالياً من جميع الأذكار
إلا ذكر ربه، وخالياً من جميع الإرادات إلا رضا ربَّه، وخالياً من مطالبة
النفس من جميع الأسباب، فإن لم يكن بهذه الصفة، فإن خلوته توقعه في فتنة
أو بلية.
وقيل: الإنفراد في الخلوة أجمع لدواعي السلوة.
وقال يحيى
بن معاذ: أنظر: أنسك بالخلوة، أو أنسك معه في الخلوة، فن كان أنسك بالخلوة
ذهب أنسك إذا خرجت منها، وإن كان أنسك به في الخلوة استوت لك الأماكن في
الصحاري والبراري.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت منصور بن عبد الله
يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: جاء رجل إلى زيارة أبي بكر الورَّاق، فلما
أراد أن يرجع، قال له: أوصني. فقال وجدت خير الدنيا والآخرة في الكثرة
والقلة، وشرَّهما في الكثرة والاختلاط.
وسمعته يقول: سمعت منصور بن عبد
الله يقول: سمعت الجريري وقد سئل عن العزلة، فقال: هي الدخول بين الزحام
وتمنع سرك أن لا يزاحموك، وتعزل نفسك عن الآثام، ويكون شرك مربوطاً بالحق.
وقيل؛ من آثر العزلة حصل العزلة.
وقال سهل: لا تصح الخلوة إلا بأكل الحلال، ولا يصح أكل الحلال إلا بأداء حق الله.
وقال
ذو النون المصري: لم أر شيئاً أبعث على الإخلاص من الخلوة: وقال أبو عبد
الله الرملي: فيمكن خدنك الخلوة، وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة فإما أن
تموت؛ وإما أن تصل الله سبحانه.
وقال ذو النون: ليس من احتجب عن الخلق بالخلوة، كمن احتجب عنهم بالله.
سمعت
أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت جعفر بن نصير
يقول: سمعت الجنيد يقول: مكابدة العزلة أيسرُ من مداراة الخلطة.
وقال مكحول: إن كان في مخالطة الناس خير فإن في العزلة السلامة.
وقال يحيى بن معاذ: الوحدة جليس الصديقين.
سمعت الشيخ أبا علي الدقاق يقول: سمعت الشبلي يقول: الإفلاس.. الإفلاس يا ناس.
فقيل له: يا أبا بكر، ما علامة الإفلاس؟ قال: من علامة الإفلاس الاستئناس بالناس.
وقال يحيى بن أبي كثير: من خالط الناس داراهم، ومن داراهم راياهم.
وقال
شعيب بن حرب. دخلت على مالك بن مسعود بالكوفة، وهو في دار وحده، فقلت له:
أما تستوحش وحدك؟ فقال: ما كنت أرى أن أحداً يستوحش مع الله.
سمعت
الشيخأبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عمر
والأنماطي يقول، سمعت الجنيد يقول: من أراد أن يسلم له دينه، ويستريح بدنه
وقلبه، فليعتزل الناس، فإن هذا زمان وحشة، والعاقل من اختار فيه الوحدة.
وسمعته
يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: قال أبو يعقوب السوسي: الإنفراد لا يقوى
عليه إلا الأقوياء، ولأمثالنا: الاجتماع أوفر وأنفع، يعمل بعضهم على رؤية
بعض.
وسمعته يقول: سمعت أبا عثمان سعيد بن أبي سعيد يقول: سمعت أبا
العباس الدامغاني يقول: أوصاني الشبلي، فقال: الزم الوحدة، وامح اسمك عن
القوم، واستقبل الجبار حتى تموت.
وجاء رجل إلى شعيب بن حرب، فقال له: ما جاء بك؟ فقال أكون معك.
قال:
يا أخي، إن العباة لا تكون بالشركة، ومن لم يستأنس بالله لم يستأنس بشيء.
حكي أن بعضهم قيل له: ما أعجب ما لقيت في سياحتك؟ فقال لهم: لقيتي الخضر،
فطلب مني الصحبة: فخشيت أن يفسد علي توكلي.
وقيل لبعضهم: هاهنا أحد تستأنس به؟ فقال: نعم... ومد يده إلى مصحف ووضعه في حدره، وقال: هذا.
وفي معناه أنشدوا:
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي ... وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وقال رجل لذي النون المصري.
متى تصح لي العزلة؟ فقال: إذا قويت على عزلة نفسك.
وقيل لابن المبارك: ما دواء القلب؟ فقال: قلة الملاقاة للناس.
وقيل:
إذا أراد الله أن يَنقل العبد من ذلك المعصية إلى عز الطاعة آنسه بالوحدة
وأغناه بالقناعة وبصره بعيوب نفسه، فمن أعطى ذلك فقد أعطى خير الدنيا
والآخرة.
؟باب التقوى قال الله تعالى: " إنَّ أكرمكم عند الله أنقاكم " .
وأخبرنا
أبو الحسين علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال:
أخبرنا محمد بن الفضل بن جابر قال: حدثنا ابن عبد الأعلى القرشي، قال:
حدثنا يعقوب العمي، عن ليث، عن مجاهد، عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبيَّ الله، أوصني.
فقال: " عليك بتقوى الله؛ فإنه جِماع كلِّ خير، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية المسلم، وعليك بذكر الله، فإنه نور لك " .
وأخبرنا
علي بن أحمد بن عبدان، قال أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا عباس بن
المفضَّل الإسقاطي؛ قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو هرمز نافع بن
هرمز، قال: سمعت أنساً رضي الله عنه؛ يقول: " قيل يا نبي الله من آل محمد؟
قال: كل تقي " .
فالتقوى جماع الخيرات.
وحقيقة الإتقاء التحرز بطاعة الله عن عقوبته؛ يقال: اتقى فلان بترسه.
وأصل التقوى: انقاء الشرك؛ ثم بعده: اتقاء المعاصي والسيئات، ثم بعده انقاء الشبهات؛ ثم يدع بعده الفضلات.
كذلك
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول، سمعته يقول: ولكلِّ قسم من
ذلك باب. وجاء في تفسير قوله عزَّ وجل: " اتقوا الله حق تقاته " إن معناه:
أن يطاع فلا يعصي؛ ويُذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر.
سمعت الشيخ أبا
عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت أحمد بن
عاصم يقول: سمعت سهل بن عبدالله يقول: لا معين إلا الله، ولا دليل إلا
رسول الله، ولا زاد إلا التقوي، ولا عمل إلا الصبر عليه.
وسمعته يقول:
سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الكتاني يقول: قسمت الدنيا على البلوى
وقسمت الآخرة على التقوي: وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازيِّ يقول: سمعت
الجريري يقول: من لم يُحْكم بينه وبين الله التقوى والمراقبة لم يصل إلى
الكشف المشاهدة.
وقال النصراباذي: التقوي: أن يتقي العبد ما سوى الله عزَّ وجلَّ.
وقال سهل: من أراد أن تصح له التقوى فليترك الذنوب كّلها.
وقال النصراباذي: من لزم التقوى اشتقاق إلى مفارقة الدنيا، لأن الله سبحانه يقول: " وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وقال بعضهم: من تحقق في التقوى هون الله على قلبه الإعراض عن الدنيا.
وقال أبو عبد الله الروذباري: التقوي: مجانبة ما يبعدك عن الله.
وقال ذو النون المصري: التقي: من لايدنس ظاهره بالمعارضات، ولا باطنه بالعلالات ويكون واقفاً مع الله موقف الاتفاق.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه ال(له، يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت ابن
عطاء يقول: للتقوى ظاهر وباطن، فظاهره: محافظة الحدود. وباطنه: النية
والإخلاص.
وقال ذو النون:
ولا عيش إلا مع رجال قلوبهم ... تحن إلى التقوى وترتاح للذكر
سكون إلى روح اليقين وطيبه ... كما سكن الطفل الرضيع إلى الحجر
وقيل: يستدل على تقوى الرجل بثلاث: حسن التوكل فيما لم ينل، وحسن الرضا فيما قد نال، وحسن الصبر على ما قد فات.
وقال طلق بن حبيب: التقوى: عمل بطاعة الله على نور من الله، مخافة عقاب الله.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت محمداً الفراء يحكي عن أبي حفص: أنه قال: التقوى بالحلال المحض، لا غير.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا الحسين الزنجاني يقول: من كان رأس ماله التقوى كلَّت الألسنُ عن وصف ربحه.
وقال
الواسطي: التقوي: أن يتقي من تقواه يعني: من رؤية تقواه والمتقي مثل ابن
سيرين؛ اشترى اربعين حباً سمنا، فأخرج غلامه فأرة من حب فسأله: من أي حب
أخرجتها؟ فقال لا أدري! فصبها كلها على الأرض.
ومثل ابن يزيد:
اشترى بهمذان حب القرطم، ففضل منه شيء، فلما رجع إلى بسطام رأى فيه نملتين، فرجع إلى همذان فوضع النملتين.
ويحكى أن أبا حنيفة كان لا يجلس في ظل شجرة غريمة. ويقول: قد جاء في الخبر: " كلُّ قرض جر نفعاً فهو رباً " .
وقيل: إن أبا يزيل غسل ثوبه في الصحراء مع صاحب له.
فقال له صاحبه: تعلق الثوب في جدار الكرم.
فقال لا، لا تغرز الوتد في جدار الناس.
فقال: نعلقه في الشجر.
فقال: لا، إنه يكسر الأغصان.
فقال: نبسطه على الأذْخِر.
فقال: لا؛ إنه علق الدواب، لا نستره عنها.
قولي ظهره إلى الشمس والقميص على ظهره، حتى جف جانب، ثم قلبه حتى جف الجانب الآخر.
وقيل:
إن أبا يزيد دخل يوماً الجامع، فغرز عصاه في الأرض فسقطت، ووقعت على عصا
شيخ بجنبه ركز عصاه في الأرض، فألقتها. فانحنى الشيخ وأخذ عصاه، فمضى أبو
يزيد إلى بيت الشيخ واستحله، وقال: كان السبب في انحنائك تفريطي في غرز
عصاي، حيث حتجب إلى أن تنحني.
ورؤى عتبة الغلام بمكان يتصبب عرقاً في الشتاء، فقيل له في ذلك.
فقال: إنه مكان عصيت فيه ربي!! فسئل عنه فقال: كشطت من هذا الجدار قطعت طين، غسل بها ضيف لي يده، ولم أستحل من صاحبه.
وقال
إبراهيم بن أدهم: بت ليلة تحت الصخرة ببيت المقدس؛ فلما كان بعض الليل نزل
ملكان، فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم.
فقال: ذاك الذي حط بالله سبحانه درجة من درجاته.
فقال: لم؟ قال: لأنه اشترى بالبصرة تمراً، فوقعت تمرة على تمرة من تمر البقال، فلم يردها على صاحبها.
قال إبراهيم: فمضيت إلى البصرة، واشتريت التمر من ذلك الرجل، وأوقعت تمرة على تمرة، ورجعت إلى بيت المقدس، وبت في الصخرة.
فلما كان بعض الليل، إذ أنا بملكين نزلا من السماء.
فقال أحدهما لصاحبه: من هاهنا؟ فقال الآخر: إبراهيم بن أدهم: فقال: ذلك الذي رد الله مكانه، ورُفعت درجته.
وقيل:
التقوى على وجوه: للعامة: تقوى الشرك، وللخاصة: تقوى المعاصي، وللأولياء:
تقوى التوصل بالأفعال، وللأنبياء تقوى نسبة الأفعال؛ إذ تقواهم منه إليه.
وعن أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، قال: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادة الناس في الآخرة الأتقياء.
أخبرنا
علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أبو الحسين البصري قال: أخبرنا بشر بن
موسى، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك، عن يحيى ابن أيوب، عن عبيد
الله بن رحو، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة؛ عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: " من نظر إلى محاسن امرأة فغض بصره في أول مرة، أحدث
الله له عبادة يجد حلاوتها في قلبه " .
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت
أبا العباس محمد بن الحسين، يقول: سمعت محمد بن عبد الله الفرغاني يقول:
كان الجنيد جالساً مع رويم، والجريري، وابن عطاء، فقال الجنيد: ما نجا من
نجا إلا بصد اللجا، قال الله تعالى: " وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا
ضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. الآية " .
وقال رويم، رحمه الله: ما نجا ما نجا إلا بصدق التقي، قال تعالى: " وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم.. " .
وقال الجريري: ما نجا من نجا إلا بمراعاة الوفاء، قال الله تعالى: " والذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " .
وقال ابن عطاء: ما نجا من نجا إلا بتحقيق الحياء من الله قال الله تعالى: " ألم يعلم بأن الله يرى " .
وقال الأستاذ الإمام: ما نجا من نجا إلا بالحكم والقضاء، قال الله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " الآية.
وقال أيضاً: ما نجا من نجا إلا بما سبق له من الاجتباء، قال الله تعالى: " واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم " .
باب الورع
أخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال:حدثنا محمد بن سليمان الزاهد قال أخبرنا محمد بن الحسين بن قتيبة، قال: حدثنا أحمد بن إبي طاهر الخرساني. قال: حدثنا يحيى بن العيزار قال: حدثنا محمد بن يوسف الفريابيِّ، عن سفيان، عن الأجلح، عن عبد الله بن بريدة، عن أبى الأسود الدؤلي، عن أبى ذرِّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه " .
قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه: أما
الورع، فإنه: ترك الشبهات. كذلك قال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة،
وترك مالا يعنيك هو ترك الفضلات.
وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "
كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام " . وقال
صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " كن ورعاً تكن أعبد الناس " .
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، يقول سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت
جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السرى يقول: كان أهل الورع في
أوقاتهم أربعة: حذيفة المرتعش، ويوسف بن أسباط، وإبراهيم بن أدهم، وسليمان
الخواص، فنظروا في الورع فلما ضاقت عليهم الأمور فزعوا إلىالتقلل.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت الشبلي يقول: الورع أن تتورَّع عن كلِّ ما سوى الله تعالى.
وسمعته
يقول: أخبرنا أبو جعفر الرازيُّ قال: حدثَّنا العباس بن حمزة قال: حدثنا
أحمد بن أبي الحواري قال: حدثنا اسحق بن خلف؛ قال: الورع، المنطق: أشد منه
في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة ك أشد منه في الذهب والفضة، لأنك
تبدلهما في طلب الرئاسة.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع: أول الزهد، كما أن القناعة: طرف من الرضا.
وقال أبو عثمان: ثواب الورع خفَّة الحساب.
وقال يحيى بن معاذ: الورع: الوقوف على حدِّ العلم من غير تأويل.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسين بن أحمد بن جعفر يقول: سمعت محمد بن
داود الدينوري يقول. سمعت عبد الله بن الجَّلاء يقول: أعرف من أقام بمكة
ثلاثين سنة لم يشرب من ماء زمزم إلا ما استقاه بركوته، ورشائه، ولم يتناول
من طعام جاب من مصر.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت علي
بن موسى التاهرتي يقةل: وقع من عبد الله بن مروان فلس في بئر قذرة، فاكترى
عليه بثلاثة عشر ديناراً حتى أخرجه، فقيل له في ذلك، فقال: كان عليه اسم
الله تعالى.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: سمعت بن علوية
يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الورع على وجهين: ورع في الظاهر؛ وهو: أن
لايتحرك إلا لله تعالى.
وورع في الباطن، وهو: أن لايدخل قلبك سوى الله
تعالى: وقال يحيى بن معاذ: من لم ينظر في الدقيق من الورع لم يصل إلى
الجليل من العطاء.
وقيل: من دق في الدين نظره جل في القيامة خطره.
وقال ابن الجلاء: من لم يصحبه التقي في فقره أكل الحرام النص.
وقال يونس بن عبيد: الورع: الخروج عن كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة.
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع: ماحاك في نفسك تركته، وقال معروف الكرخي: احفظ لسانك من المدح كما تحفظه من الذِّم.
وقال بشر بن الحارث: أشد الأعمال ثلاثة: الجود في القلَّة، والورع في الخلوة، وكلمة الحقِّ عند من يخاف منه ويرجى.
وقيل:
جاءت أخت بشر الحافي إلى أحمد بن حنبل وقالت: إنا نغزل على سطوحنا،فتمر
بنا مشاعل الظاهرية، ويقع الشعاع علينا، أفيجوز لنا الغزل في شعاعها؟.
فقال أحمد: من أنت؟ عافاك الله تعالى.
فقالت: أخت بشر الحافي.
فبكي أحمد وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لاتغزلي في شعاعها.
وقال
علي العطار: مررت بالبصرة في بعض الشوراع، فإذا مشايخ قعود وصبيان يلعبون،
فقلت: أما تستحون من هؤلاء المشايخ؟! فقال صبي من بينهم: هؤلاء المشايخ قل
ورعهم فقلت هيبتهم.
وقيل: إن مالك بن دينار مكث بالبصرة أربعين سنة،
فلم يصح له أن يأكل شيئاً من تمر البصرة، ولامن رطبها، حتى مات ولم يذقه.
وكان إذا انقضى وقت الرطب قال: يا أهل البصرة، هذا بطني ما نقص منه شيء
ولا زاد فيكم.
وقيل لإبراهيم بن أدهم: ألا تشرب من ماء زمزم؟ فقال لو كان لي دلو لشربت منه.
سمعت الأستاذ أبا الدقَّاق يقول: كان الحارث المحاسبي إذا مدَّ يده إلى طعام فيه شبهة ضرب على رأس إصبعه عرق فيعلم إنه غير حلال.
وقال:
إن بشراً الحافيَّ دعي إلى دعوة، فوضع بين يديه طعام، فجهد أن يمد يده
إليه، فلم تمتد. ففعل ذلك ثلاث مرات. فقال رجل يعرف ذلك منه: إن يده لا
تمتد إلى طعام فيه شبهة، ما كان أعنى صاحب هذه الدعوة أن يدعو هذا الشيخ؟!
أخبرنا
أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي، قال: سمعت عبد الله بن علي ابن يحيى التميمي
قال سمعت أحمد بن محمد بن سالم بالبصرة يقول: سئل سهل ابن عبد الله عن
الحلال الصافي، فقال: هو الذي لا يعصي الله تعالى فيه.
وقال سهل: الحلال الصافي: الذي لا ينسى الله تعالى فيه.
ودخل
الحسن البصري مكة، فرأى غلاماً من أولاد علي بن أبي طالب، رضي الله عنه،
قد أسند ظهر إلى الكعبة يعظ الناس، فوثب عليه الحسن وقال له: ما ملاك
الدين؟ فقال: الورع. فقال له: فما آفة الدين؟ فقال: الطمع. فتعجب الحسن
منه.
وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع للسالم خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وأوحى الله سبحانه، إلى موسى، عليه الصلاة والسلام: لم يتقرب إلى المتقربون بمثل الورع والزهد.
وقال: أبو هريرة: جلساء الله تعالى غداً: أهل الورع والزهد.
وقال:
سهل بن عبد الله: من لم يصحبه الورع أكل رأس الفيل ولم يشبع!! وقيل: حمل
إلى عمر بن عبد العزيز مسك من الغنائم، فنبض علي مشامه.
وقال: إنما ينتفع من هذا بربحه، وأناأكره أن أجد ريحه دون المسلمين.
وسئل
أبو عثمان الحيري عن الورع، فقال: كان أبو صالح حمدون عند صديق له، وهو في
النزع، فمات الرجل، فنفث أبو صالح في السراج، فقيل له في ذلك، فقال: إلى
الآن كان الدهن له في المسرجة، ومن الآن صار للورثة. اطلبوا دهنا غيره.
وقال
كهمس: أذنبتُ ذنباً أبكي عليه منذ أربعين سنة؛ وذلك: أنه زارني أخُ لي؛
فاشتريت لأجله بدانفق سمكة مشوية، فلما فرغ أخذت قطعة طين من جدار جار لي
حتى غسل بها يده ولم أستحله.
وقيل: كان رجل يكتب رقعة، وهو في بيت
بكراء، فأراد أن يُترب الكتاب من جدار البيت، فخرط بباله أن البيت
بالكراء.. ثم إنه خطر بباله أنه لا خطر لهذا، فترب الكتاب، فسمع هاتفاً
يقول: سيعلم المستخف بالتراب ما يلقاه غداً من طول الحساب!! ورهن أحمد بن
حنبل، رحمه الله تعالى، سٍطلاً له عند بقال بمكة، حرسها الله تعالى، فلما
أراد فكاكه أخرج البقال إليه سطلين، وقال: خذ أيهما هو لك.
فقال أحمد أشكل عليَّ سطلي، فهو لك، والدراهم لك.
فقال البقال: سطلك هذا، وأنا أردت أن أجربك.
فقال: لا آخذه. ومضى. وترك السطل عنده.
وقيل: سيب ابن المبارك دابة قيمتها كثيرة، وصلى صلاة الظهر، فرتعت الدابة في زرع قرية سلطانية، فترك ابن المبارك الدابة ولم يركبها.
وقيل: رجع ابن المبارك من مرو إلى الشام في قلم استعاره فلم يرده على صاحبه.
واستأجر
النخعي دابة، فسقط سوطه من يده، فنزل، وربط الدابة، رجع فأخذ السوط، فقيل
له: لو حولت الدابة إلى الموضع الذي سقط فيه السوط فأخذته كان أسهل لك
فقال: إنما استأجرتها لأمضي هكذا.. لا هكذا!! وقال أبو بكر الدقاق: تهت في
تيه بني إسرائيل خمسة عشر يوماً.. فلما وافيت الطريق، استقبلني جندي
فسقاني شربة من ماء، فعادت قسوتها على قلبي وتألمت ثلاثين سنة.
وقيل: خاطت رابعة العدوية شقاً في قميصها في ضوء مشعلة سلطان، ففقدت قلبها زماناً، حتى تذكرت، فشقت قميصها، فوجدت قلبها.
وروِّي سفيان الثوري في المنام، وله جناحان يطير بهما في الجنة من شجرة إلى شجرة.
فقيل: بم نلت هذا؟: فقال: بالورع.
ووقف حسان بن أبي سنان على أصحاب الحسن، فقال: أي شيء أشد عليكم؟ فقالوا: الورع.
فقال: ولا شيء أخف علي منه.
فقالوا: فكيف؟ فقال: لم أرو من نهركم منذ أربعين سنة.
وكان
حسان بن أبي سنان لا ينام مضطجعاً، ولا يأكل سميناً ولا يشرب ماء بارداً
ستين سنة، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟. فقال:
خيراً، إلا أني محبوس عن الجنة بإبرة استعرتها فلم أردها.
وكان لعبد
الواحد بن زيد غلام خدمه سنين، وتعبَّد أربعين سنة: وكان في أبتداء أمره
كيالاً، فلما مات رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: خيراً،
غير أني محبوس عن الجنة، وقد أخرج علي من غبار القفيز الذي اكتلته أربعين
قفيزاً.
ومر عيسى ابن مريم؛ عليهما السلامِ بمقبرة، فنادى رجلاً منها،
فأحياه الله تعالى: فقال: من أنت؟ فقال كنت حمالاً أنقل للناس، فنقلت
لإنسان يوماً حطباً، فكسرت منه خلالاً تخللت به فأنا مطالب به منذ متُّ.
وتكلم أبو سعيد الخراز في الورع.. فمر به عباس بن المهتدي، فقال:
يا أبا سعيد، أما تستحي، تجلس تحت سقف أبي الدوانيق، وتشرب من بركة زبيدة، وتتعامل بالدراهم المزيفة، وتتكلم في الورع؟!
باب الزهد
أخبرنا حمزة بن يوسف السهمي الجرجاني، قال: أخبرنا ابو الحسن عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري ببغداد، قال: حدثنا جعفر بن مجاشع قال: حدثنا زيد بن إسماعيل قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا الحكم ابن هشام، عن يحيى بن سعيد، عن افروة، عن أبي خلاد - وكانت له صحية - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيتم الرجل قد أوتي زهداً في الدنيا، ومنطقاً، فاقتربوا منه، فإنه يلقن الحكمة " .
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم، رحمه الله: اختلف الناس في الزهد، فمنهم من قال: الزهد في الحرام، لأن الحلال مباح من قبل الله تعالى، فإذا أنعم الله على عبده بمال من حلال، وتعبده بالشكر عليه، فتركه له باختياره. لا يقدم على إمساكه له بحق إذنه.
ومنهم من قال: الزهد في الحرام واجب، وفي الحلال فضيلة، فإن إقلال المال - والعبد صابر في حاله، راض بما قسم الله تعالى له، قانع بما يعطيه - أم من توسعه وتبسطه في الدنيا فإن الله تعالى زهد الخلق في الدنيا بقوله: " قل متاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى " : وغير ذلك من الآيات الواردة في ذم الدنيا والتزهيد فيها.
ومنهم من قال: إذا أنفق العبد ماله في الطاعة وعلم من حاله الصبر، وترك التعرض لما نهاه الشرع عنه في حال العسر، فحينئذ يكون زهده في المال الحلال أثم.
ومنهم من قال: ينبغي للعبد أن لا يختار الحلال بتكلفه، ولا طلب الفضول مما لا يحتاج إلريه ويراعي القسمة. فإن رزقه الله، سبحانه وتعالى مالاً من حلال شكره، وإن وقفه الله تعالى، على حد الكفاف لم تكلف في طلب ما هو فضول المال، فالصبر أحسن بصاحب الفقر. والشكر أليق بصاحب المال الحلال.
معنى الزهد وتكلموا في معنى الزهد: فكل نطق عن وقته، وأشار إلى حدِّه.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: حدثنا أحمد ابن إسماعيل الأزدي قال: حدثنا عمران بن موسى الإسفنجي قال: حدثنا الدورقي قال: حدثنا وكيع قال: قال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا: قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا بلبس العباء.
وسمعته يقول: سمعت سعيد بن أحمد يقول: سمعت عباس بن عصام يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري السقطي يقول: إن الله سبحانه، سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأجرها من قلوب أهل وداده؛ لأنه لم يرضها لهم.
وقيل: الزهد من قوله سبحانه وتعالى: " لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم " .
قالزاهد لا يفرح بموجود من الدنيا، ولا يتأسف على مفقود منها.
وقال أبو عثمان: الزهد: أن تترك الدنيا ثم لاتبالي بمن أخذها.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق يقول: الزهد: أن تترك الدنيا كما هي، لاتقول أبني بها رباطاً أو أعمر مسجداً.
وقال يحيى بن معاذ: الزهد: يورث السخاء بالملك، والحب يورث السخاء بالروح، وقال ابن الجلاء: الزهد: هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال، لتصغر في عينك فيسهل عليك الإعراض عنها.
وقال ابن خفيف: علامة الزهد: وجود الراحة في الخروج عن الملك.
وقال أيضاً: الزهد: سلو القلب عن الأسباب، وفض الأيدي من الأملاك.
وقيل الزهد: عزوف النفس عن الدنيا بلا تكلف.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت النصراباذي يقول: الزاهد: غريب في الدنيا، والعارف غريب في الأخرة.
وقيل: من صدق في زهده أتته الدنيا راغمة.
ولهذا قيل: لو سقطت قلنسوة من السماء لما وقعت إلا على رأس من لا يريدها.
وقال الجنيد: الزهد خلو القلب عمَّا خلت منه اليد.
وقال أبو سليمان الداراني: الصوف علم من أعلم الزهد؛ فلا ينبغي للزاهد أن يلبس صوفاً بثلاثة دراهم، وفي قلبه رغبة خمسة دراهم.
وقد اختلف السلف في الزهد.
فقال سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل، وعيسى بن يونس، وغيرهم: الزهد في الدنيا: إنما هو قصر الأمل.
وهذا الذي قالوه يحمل على أنه من أمارات الزهد، والأسباب الباعثة عليه والمعاني الموجبة له.
وقال عبد الله بن المبارك: الزهد: هو الثقة بالله تعالى مع حب الفقر.
وبه قال شقيق البلخي، ويوسف بن أسباط وهذا أيضاً من أمارات الزهد، فإنه لا يقوى العبد على الزهد، إلا بالثقة بالله تعالى.
وقال عبد الواحد بن زيد: الزهد: ترك الدينار والدرهم.
وقال أبو سليمان الدارني: الزهد: ترك ما يشغل عن الله سبحانه وتعالى.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن علي يقول: سمعت إبراهيم بن
فاتك يقول: سمعت الجنيد يقول، وقد سأله رويم عن الزهد، فقال: هو استصغار
الدنيا، ومحو آثارها من القلب.
وقال سري: لا يطيب عيش الزاهد إذا اشتغل عن نفسه، ولا يطيب عيش العارف إذا اشتغل بنفسه.
وسئل الجنيد عن الزهد، فقال: خلوُّ اليد من الملك، والقلب من التتبع.
وسئل الشبلي عن الزهد فقال: أن نزهد فيما سوى الله تعالى.
وقال يحيى بن معاذ: لا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاثُ خصال: عمل بلا علاقة، وقول بلا طمع، وعز بلا رياسة.
وقال أبو حفص: الزهد لا يكون إلا في الحلال، ولا حلال في الدنيا، فلا زهد.
وقال أبو عثمان: إن الله تعالى يعطي الزاهد فوق ما يريد، ويعطي الراغب دون ما يريد، ويعطي المستقيم موافقة ما يريد.
وقال يحيى بن معاذ: الزاهد يسعطك الخل والخردل، والعارف يشمك المسك والعنبر.
وقال الحسن البصري: الزهد في الدنيا أن تبغض أهلها وتبغض ما فيها:.
وقيل لبعضهم: ما الزهد في الدنيا؟ قال: ترك ما فيها على ما فيها.
وقال رجل لذي النون المصري: متى أزهد في الدنيا؟ فقال: إذا زهدتَ في نفسك.
وقال
محمد بن الفضل: إيثار الزهاد عند الاستغناء، وإيثار الفتيان عند الحاجة،
قال الله تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " .
وقال
الكتاني: الشيء الذي لم يخالف فيه كوفي ولا مدني ولا عراقي، ولا شامي:
الزهد في الدنيا، وسخاوة النفس، والنصيحة للخلق، يعني أن هذه الأشياء لا
يقول أحد إنها غير محمودة.
وقال رجل ليحيى بن معاذ: متى أدخل حانوت
التوكل، وألبس رداء الزاهدين؟ فقال: إذا صرت من رياضتك في السر إلى حد لو
قطع الله عنك الرزق ثلاثة أيام لم تضعف في نفسك.
فأما ما لم تبلغ هذه
الدرجة فجلوسك على بساط الزاهدين جهل، ثم لا آمن عليك أن تفتضح بينهم!!
وقال بشكر الحافي: الزهد: ملك لا يسكن إلا في قلب مخلي.
سمعت محمد بن
الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت بن محمد بن
الأشعث البيكندي يقول: من تكلم في الزهد، ووعظ الناس، ثم رغب في مالهم،
رفع الله تعالى حب الآخرة من قلبه.
وقيل: إذا زهد العبد في النيا وكل الله تعالى به ملكاً يغرس الحكمة في قلبه.
وقيل: لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ فقال: لزهدها فيَّ.
وقال أ؛مد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام، وهو: زهد العوام: والثاني: ترك الفضول من حلال، وهو: زهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل العبد عن الله تعالى، وهو: زهد العارفين.
سمعت الأستاذ أبا علي الدَّقاق، يقول: قيل لبعضهم: لم زهدت في الدنيا؟ قال: لما زهدت في أكثرها أنفت من الرغبة في أقلها.
وقال
يحيى بن معاذ: الدنيا كالعروس المجلوة، ومن يطلبها ما شطتها والزاهد فيها
يسخم وجهها، وينتف شعرها، ويحرق ثوبها والعارف مشتغل بالله تعالى، لا
يلتفت إليها.
سمعت أبا عبد الله الصوفي يقول: سمعت: أبا الطيب السامري
يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت السري يقول: مارست كل شيء من أمر الزهد،
فنلت منه ما أريد، إلا الزهد في الناس؛ فإني لم أبلغه، ولم أطقه.
وقيل. ما خرج الزاهدون إلا إلى أنفسهم، لأنهم تركوا النعيم الفاني للنعيم الباقي.
وقال النصراباذي: الزاهد حقن دماء الزاهدين،وسفك دماء العارفين.
وقال حاتم الأصم. الزاهد يذيب كيسه قبل نفسه، والمتزاهد يذيب نفسه قبل كيسه.
سمعت
محمد بن عبد الله يقول: حدثنا علي بن الحسين الموصلي قال: حدثنا أحمد بن
الحسين قال: حدثنا محمد بن الحسن قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: سمعت
الفضيل بن عياض يقول: جعل الله الشر كله في بيت، وجعل مفتاحه حب الدنيا،
وجعل الخير كله في بيت، وجعل مفتاحه الزهد.
باب الصمت
أخبرنا
عبد الله بن يوسف الأصبهاني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان
قال: حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر،
عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله
واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً
أو ليصمت " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدا، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد
قال: حدثنا بشر بن موسى الأسدي قال: حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني، عن بن
المبارك، عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن
القاسم، عن أبي أمامة، عن قبة بنع عامر قال: قلت: يارسول الله، ما النجاة؟
قال: " احفظ عليك لسانك، وليسعك بيتك، وأبك على خطيئتك " .
قال الأستاذ، رحمه الل: الصمت سلامة، وهو الأصل. وعليه ندامة إذا ورد عنه الزجر فالواجب: أن يعتبر فيه الشرع، والأمر والنهي.
والسكوت في وقته: صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس.
والصمت: من آداب الحضرة، قال الله تعالى: " وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون " .
وقال تعالى - خبراً عن الجن بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم - : " فلما حضروه قالوا أنصتوا.. " .
وقال تعالى: " وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً " .
وكم ببن عبد يسكت تصاوناً عن الكذب والغيبة. وبين عبد يسكت لاستيلاء سلطان الهيبة عليه. وفي معناه أنشدوا:
أفكر ما أقول إذا افترقنا ... وأحكم دائباً حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا ... فانطق، حين أنطق، بالمحال
وأنشدوا:
فياليل كم من حاجة له مهمة ... إذا جئتكم لم أدر ياليل ماهيا
وأنشدوا:
وكم حديث لك حتى إذا ... مكنت من لقياك أنسيته
وأنشدوا:
رأيتك الكلام يزين الفتى ... والصمتُخير لمن قد صمت
فكم من حروف تجر الحتوف ... ومن ناطق ود أن لو سكت
والسكوت على قسمين: سكوت بالظاهر، وسكوت بالقلب والضمائر.
فالمتوكل: يسكت قلبه عن تقاضي الأرزاق.
والعارف: يسكت قلبه مقابلة للحكم بنعت الوفاق.
فهذا بجميل صنعه واثق، وهذا بجميع حكمه قانع.
وفي معناه قالوا:
تجري عليك صروفه ... وهموم سرك مطرقة
وربما
يكون سبب السكوت حيرة البديهة؛ فإنه إذا ورد كشف عن وصف البغتة خرست
العبارات عند ذلك، فلا بيان، ولا نطق. وطمست الشواهد هنالك، فلا علم، ولا
حس.
وقال الله تعالى: " يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا لا علم لنا " .
فأما
إيثار أرباب المجاهدة السكوت: فلما علموا ما في الكلام من الآفات؛ ثم ما
فيه من حظ النفس، وإظهار صفات المدح، والميل إلى أن يتميز بين أشكاله بحسن
النطق، وغير هذا من آفات في الخلق، وذلك يتميز بين نعت أرباب الرياضات،
وهوأحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق.
وقيل: إن داود الطائي،
لما أراد أن يعقد في بيته اعتقد أن يحضر مجالس أبي حنيفة، رحمه الله، إذ
كان تلميذاً له، ويقعد بين أقرانه من العلماء، ولا يتكلم في مسألة، فلما
قوَّي نفسه على ممارسة هذه الخصلة سنة كاملة، قعد في بيته عند ذلك وآثر
العزلة.
وكان عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، إذا كتب كتاباً واستحسن لفظه مزق الكتاب وغيره.
سمعت
الشيخ أبا عب الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: أخبرنا عبد الله بن محمد
الرازي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن إسحق السراج قال: سمعت أحمد بن
الفتح يقول: سمعت بشر بن الحارث يقول: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك
الصمت فتكلم.
وقال سهل بن عبد الله: لا يصح لأحد الصمت حتى يلزم نفسه للخلوة، ولا تصح له التوبة حتى يلزم نفسه الصمت.
وقال
أبو بكر الفارسي: من لم يكن الصمت وطنه فوفي الفضول ون كان صامتاً..
والصمت ليس بمخصوص على اللسان، لكنه على القلب والجوارح كلها.
وقال بعضهم: من لم يستغنم السكوت فإذا نطق نطق بلغو.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت ممشاد الدينوري يقول: الحكماء ورثوا الحكمة بالصمت والتفكر.
وسئل أبو بكر الفارسي عن صمت السر فقال: ترك الاشتغال بالماضي والمستقبل.
وقال أبو بكر الفارسي: إذا كان العبد ناطقاً فيما يعنيه، وفيما لابد منه، فهو في حد الصمت.
روي عن معاذ بن جبل، رضي الله عنه، أنه قال: كلم الناس قليلاً، وكلم ربك كثيراً؛ لعل قلبك يرى الله تعالى.
وقيل لذي النون المصري: من أصون الناس لقلبه؟. قال: أهلكم للسانه.
وقال ابن مسعود: ما من شيء يطول السجن أحق من اللسان.
وقال علي بن بكار: جعل الله تعالى لكل شيء بابين، وجعل للسان أربعة أبواب: فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان.
وقيل: إن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، كان يمسك في فيه حجراً كذا كذا سنة؛ ليقل كلامه.
وقيل:
إن أبا حمزة البغدادي، رحمه الله، كان حسن الكلام، فهتف به هاتف، فقال له:
تكلمت فأحسنت، بقي أن تسكت فتحسن؟ فما تكلمَّ بعد ذلك حتى مات قريباً من
هذه الحالة على رأس اسبوع، أو أقلَّ، أو أكثر.
وربما يكون السكوت يقع على المتكلم تأديباً له، لأنه أساء أدبه في شيء.
كان الشبلي إذا قعد في حلقته، ولا يسألونه، يقول: " ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون " .
وربماَّ يقع السكوت على المتكلم، لأن في القوم من هو أولى منه بالكلام.
سمعت
أبن السماك يقول: كان بين شاه الكرماني، ويحيى بن معاذ صداقة، فجمعهما
بلد، فكان شاه لا يحضر مجلسه، فقيل له في ذلك: فقال: الصواب هذا. فما
زالوا به حتى حضر يوماً مجلسه، وقعد ناحية لا يشعر به يحيى بن معاذ، فلما
أخذ يحيى في الكلام سكت، ثم قال: ها هنا من هو أولى بالكلام مني، وارتج
عليه فقال شاة: قلت لكم الصواب أن لا أحضرُ مجلسه.
وربمَّا يقع السكوت
على المتكلم لمعنى في الحاضرين، وهو أنه يكون هناك من ليس بأهل لسماع ذلك
الكلام فيصون الله تعالى لسان المتكلم غيرة وصيانة لذلك الكلام عن غير
أهله.
وربما كان سبب السكوت الذي يقع على المتكلم: أن بعض الحاضرين كان
معلومُ الله تعالى من حاله أنه يسمع ذلك الكلام، فيكون فتنة له، إما
لتوهمه أنه وقته ولا يكون، أو لأنه يحملِّ نفسه مالا يطيق فيرحمه الله،
عزَّ وجلَّ، بأن يحفظ سمعه عن ذلك الكلام، إما صيانة له، أو عصمة عن غلطة.
وقال مشايخ هذه الطريقة.
ربما يكون السبب فيه حضور من ليس بأهل لسماعه من الجن، إذ لا تخلو مجالس القوم من حضور جماعة من الجن.
سمعت
الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: اعتللت مرة بمرو فاشتقت أن أرجع
إلى نيسابور. فريت في المنام. كأن قائلاً يقول لي: لا يمكنك أن تخرج من
هذا البلد، فإن جماعة من الجن قد استحلوا كلامك، ويحضرون مجلسك، فلأجلهم
تجلس هاهنا.
وقال بعض الحكماء: إنما خلق للإنسان لسان واحد، وعينان، وأذنان، ليسمع ويبصر أكثر مما يقول.
ودعي
إبراهيم بن أدهم إلى دعوة؛ فلما جلس أخذوا في الغيبة، فقال: فقال: عندنا
يؤكل اللحم بعد الخبز، وأنتم ابتدأتم بأكل اللحم؟ أشار إلى قوله تعالى: "
أيجب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً، فكرهتموه " .
وقال بعضهم: الصمت، لسان الحْلم.
وقال بعضهم: تعلمَّ الصمت، كما تتعلم الكلام؛ فإن كان الكلام يهديك، فإن الصمت يقيك.
وقيل: عفة اللسان صمته.
وقيل:
مثل اللسان مثل السبع إن لم تُوثقه عدا عليك: وسئل أبو حفص: أيُّ الحالين
للوليِّ أفضل؟ الصمت، أو النطق؟ فقال: لو علم الناطق ما آفة النطق لصمت إن
استطاع عمرَ نوح، ولو علم الصامت ما آفة الصمت لسأل الله تعالى، ضعفي عمر
نوح حتى ينطق.
وقيل: صمت العوامِّ بألسنتهم، وصمت العارفين بقلوبهم، وصمت المحبين بالتحفظ من خواطر اسرارهم.
وقيل لبعضهم: تكلمَّ فقال: ليس لي لسان فأتكلمَّ.
فقيل له: اسمع، فقال: ليس فيَّ مكان فأسمع.
وقال بعضهم: مكثت ثلاثين سنة لا يسمع قلبي إلا من لساني.
وقال
بعضه: لو أسكت لسانك لم تنج من كلام قلبك، ولو صرت رميماً لم تتخلص من
حديث نفسك، ولو جهدت كلَّ الجهد لم تكلمك روحك، لأنها كاتمة للسر.
وقيل: لسان الجاهل مفتاح حتفه.
وقيل:
المحب: إذا سكت هلك، والعارف إذا سكت ملك سمعت محمد بن الحسين، يقول سمعت
عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردوية
الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: من عد كلامه من عمله قل كلامه إلا
فيما يعنيه.
باب الخوف
قال الله تعالى: " يدعون ربهم خوفا وطعما " .
أخبرنا
أبو بكر محمد بن دلوية الدقاق قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثنا عامر بن
أبى الفرات قال:حدثنا المسعودي، عن محمد بن عبد الرحمن، عن عيسى بن طلحة،
عن أبي هريره قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يدخل النار من
بكى من خشية الله تعالى، حتى يلج اللبن في الضرع. ولا يجتمع غبار في سبيل
الله ودخان جهنم في منخري عبد أبداً.
حدثنا أبو نعيم أحمد بن محمد بن
إبراهيم المهرجاني قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن الحسن بن الشرفي، قال:
حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان بن الشرفي، قال:
حدثنا عبد الله بن هاشم قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال: حدثنا شعبة
قال: حدثنا قتادة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو
تعلمون ما أعلملضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً " .
قلت الخوف: معنى متعلقة في المستقبل، لأنه نما يخاف أن يحلَّ به مكروه، أو يفوته محبوب. ولا يكون إلا لشيء يحصل في المستقبل.
فأمَّا ما يكون في الحال موجوداً، فالخوف لا يتعلق به.
والخوف من الله تعالى، هو: أن يخاف أن يعاقبه الله تعالى إمَّا في الدنيا، وإما في الآخرة.
وقد فرض الله، سبحانه، على العباد أن يخافوه، فقال تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف علي مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته. قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: الخوف على مراتب: الخوف، والخشية، والهيبة.
فالخوف من شرط الإيمان وقضيته: قال الله تعالى: " وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والخشية
من شرط العلم، قال الله تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء "
والهيبة من شرط المعرفة، قال الله تعالى: " ويحذركم الله نفسه " .
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله؛ يقول: سمعت محمد ابن علي الحيري
يقول: سمعت محفوظاً يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف سوْط الله يقوّم به
الشاردين عن بابه.
وقال أبو القاسم الحكيم: الخوف على ضربين: رهبة، وخشية.
فصاحب الرهبة يلتجىء إلى الهرب ذا خاف، وصاحب الخشية يلتجىء إلى الرب.
قال رحمه الله: ورهب، وهرب؛ يصح أنا يقال: أنهما واحد معنى، مثل: جذب، وجبذ.
فإذا هرب أنجذب في مقتضى هواه، كالرهبان الذين اتبعوا أهوائهم فإذا كبحهم لجام العلم وقاموا بحق الشرع، فهو الخشية.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت أبا عثمان
يقول: سمعت أبا حفص يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير
والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت
محمد بن الحسين. يقول: سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر
الدمشقي يقول: الخوف، سراج القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله. يقول: الخوف ألاَّ تعلل نفسك بعسى وسوف.
سمعت
محمد بن الحسين. يقول:سمعت أبا القاسم الدمشقي يقول: سمعت أبا عمر الدمشقي
يقول: الخائف، من يخاف من نفسه أكثر مما يخاف من الشيطان.
وقال ابن الجلاء: الخائف، من تؤمنه المخوفات.
وقيل: ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخف أن يعذب عليه.
وقيل
للفضيل، مالنا لا نرى خائفاً؟ فقال: لو كنتم خائفين لرأيتم الخائفين، إن
الخائف لايراه إلا الخائفون، وإن الثكلى، هي التي تحب أن ترى الثكلى.
وقال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لدخل الجنة.
وقال شاء الكرماني: علامة الخوف: الحزن الدائم.
وقال أبو القاسم الحكيم: من خاف من شيء هرب منه، ومن خاف من الله عزَّ وجل هرب إليه.
وسئل
ذو النون المصرين رحمه الله، متى يتيسر على العبد سبيل الخوف؟ فقال: إذا
أنزل نفسه منزلة السقيم، يحتمى من كل شيء؛ مخافة طول السقام.
وقالبشر الحافي: الخوف من الله ملك لايسكن إلا في قلب متق.
وقال أبو عثمان الحيري: عيب الخائف في خوفه السكون إلى خوفه لأنه أمر خفى.
وقال الواسطي: الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد.
وهذا اللفظ فيه إشكال ومعناه: أن الخائف متطلع لوقت ثان. وأبناء الوقت لاتطلع لهم في المستقبل، وحسنات الابرار سيئات المقربين.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن النهاوندي يقول: سمعت ابن
فانك يقول: سمعت النوري يقول: " الخائف يهرب من ربه إلى ربه " .
وقال
بعضهم: علامة الخوف، التحير والوقوف على باب الغيب: سمعت ابا عبد الله
الصوفي يقول: سمعت على بن إبراهيم العكبري يقول: سمعت الجنيد وقد سئل عن
الخوف، فقال: هو توقع العقوبة مع مجاري الأنفاس.
سمعت الشيخ أبا عبد
الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت الحسين ابن أحمد الصفار يقول: سمعت
محمد بن المسيب يقول: سمعت هاشم بن خالد يقول:سمعت أبا سليمان الدارانى
يقول: ما فارق الخوف قلبا إلا خرب.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن يقول: سمعت أبا عثمان يقول: صدق الخوف، هو الورع عن الآثام ظاهراً وباطناً.
وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق.
وقال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف، وعلامة الخوف قصر الأمل.
وقال
رجل لبشر الحافي: أراك تخاف الموت!! فقال: القدوم على الله، عز وجل شديد
سمعت الأستاذ أبا على الدقاق، يقول: دخلت على الإمام أبى بكر ابن فورك
عائداً، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له: إن شاء الله تعالى يعافيك ويشفيك.
فقال
لي: تراني أخاف من الموت؟ إنما أخاف مما وراء الموت!! أخبرنا عن بن أحمد
الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا محمد بن عثمان قال: حدثنا
القاسم بن محمد قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن مالك بن مغول، عن عبد الرحمن
بن سعيد بن موهب، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله: الذين
يؤتون ما آتوا: وقلوبهم وجلة، أو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر؟ قال: لا:
ولكن الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه.
وقال ابن المبارك: رحمه الله: الذي يهيج الخوف حتى يسكن في القلب دوامُ المراقبة في السرِّر والعلانية.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول سمعت أبا القاسم بن أبي
موسى يقول: سمعت محمد بن أحمد: قال: حدثنا علي الرازي قال: سمعت ابن
المبارك: رحمه الله يقول ذلك.
وسمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا بكر
الرازي يقول: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: إذا سكن الخوف القلب أحرق مواضع
الشهوات منه، وطرد رغبة الدنيا عنه.
وقيل، الخوف، قوَّة العلم بمجاري الأحكام.
وقيل: الخوف، حركة القلب من جلال الربِّ.
وقال أبو سليمان الداراني، ينبغي للقلب أن لا يكون الغالب عليه إلا الخوف، فنه إذا غلب الرجاء على القلب فسد القلب.
ثم قال: يا أحمد، بالخوف ارتفعوا، فإن ضيعوه نزلوا.
وقال الواسطي، الخوف؛ والرجاء، زمامان على النفوس، لئلا، تخرج إلى رعوناتها.
وقال الواسطي: إذا ظهر الحق على السرائر، لا يبقي فيها فضلة لرجاء ولا لخوف.
قال
الأستاذ أبو القاسم: وهذا فيه إشكال. ومعناه: إذا اصطلت شواهد الحق،
تعالى، الأسرار ملكتها، فلا يبقى فيها مساغ لذكر حدثان، والخوف والرجاء من
آثار بقاء الإحساس بأحكام البشرية.
وقال الحسين بن منصور: من خاف من
شيء سوى الله عزَّ وجل أو رجا سواه أغلق عليه ابواب كل شيءن وسلط عليه
المخافة؛ وحجبه بسبعين حجاباً أيسرها الشك، وإن مما أوجب شدة خوفهم، فكرهم
في العواقب، وخشية تغير أحوالهم، قال الله تعالى: " وبدالهم من الله ما لم
يكونوا يحتسبون " وقال الله تعالى: " قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً؟
الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " .
فكم منمغبوط في أ؛واله أنعكست عليه الحال، ومني بمقارنة قبيع الآفعال، فبدل بالأنس وحشة، وبالحضور غيبة..
سمعت الأستاذ أبا عليّ الدقاق، رحمه الله، ينشد كثيراً:
أحسن ظنك بالأيام إذ حسنت ... ولم تخف سوء ما يأتي به القدر
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
سمعت منصو بن خلف المغربي يقول:
كان
رجلان اصحطبا في الإراجة برهة من الزمان.. ثم إن أ؛دهما سافر، وفارق
صاحبه.. وني عليه مدة من الزمان ولم يسمع منه خبراً.. فبينا هذا الآخر كان
في غزاة يقاتل عسكر الروم إذ خرج على المسلمين رجل مقنع في السلاح، يطلب
المبارزة.. فخرج إليه من أبطال المسلمين واحد، فقتله الرومي.. ثم خرج آخر
فقتله.. ثم ثالث فقتله، فخرج إليه هذا الصوفي.. وتطاردا، فحسر الرومي عن
وجهه، فإذا هو صاحبه الذي صحبه في الإرادة والعبادة سنين.
فقال هذا له: إيش الخبر؟ فقال: نه ارتد.. وخالط القوم.. وولد له أولاد.. واجتمع له مال.
فقال له: لا أذكر منه حرفاً.
فقال له هذا الصوفي: لا تفعل، وارجع، فقال: لا أفعل، فلي فيهم جاه ومال، فانصرف أنت عني، وإلا لأفعلن بك ما فعلت بأولئك.
فقال له الصوفي: أعلم أنك قتلت ثلاثة من المسلمين، وليس عليك أنفه في الانصراف، فانصرف أنت وأنا أمهلك.
فرجع الرجل مولياً: فتبعه هذا الصوفي، وطعنه، فقتله.
فبعد تلك المجاهدات، ومقاساة تلك الرياضات، قتل على النصرانية.
وقيل:
لما ظهر على إبليس ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان
زماناً طويلاً، فأوحى الله تعالى، إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟
فقالا: يا ربنا، لا نأمن مكرك.
فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري.
ويحكي
عن السري السقطي أنه قال: ني لأنظر إلى أنفي في اليوم كذا مرة؛ مخافة أن
يكون قد أسود، لما أخافه من العقوبة!! وقال أبو حفص: منذ أربعين سنة
اعتقادي في نفسي، أن الله؛ تعالى: ينظر إلي نظر السخط، وأعمالي تدل على
ذلك.
وقال حاتم الأصم: لا تغتر بموضع صالح؛ فلا مكان أصلح من الجنة،
فلقي آدم، عليه السلام فيها ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العبادة؛ فإن إبليس
بعد طول تعبده لقي ما لقي!! ولا تغتر بكثرة العلم؛ فإن بلعام كان يحسن أسم
الله الأعظم؛ فأنظر ماذا لقي!! ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر
قدراً من المصطفى؛ صلى الله عليه وسلم؛ ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه.
وخرج ابن المبارك يوماً على أصحابه فقال: إني قد أجترأت الباحرة على الله عز وجل: سألته الجنة.
وقيل:
خرج عيسى عليه السلام، ومعه صالح من صالحي بني إسرائيل فتبعهما رجل خاطىء
مشهور بالفسق فيهم، فقعد منتبذاً عنهما منكسراً، فدعا الله سبحانه وقال
اللهم اغفر لي.
ودعا هذا الصالح وقال: اللهم لا تجمع غداً بيني وبين ذلك العاصي.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام: أني قد استجبت دعاءهما جميعاً، رددت ذلك الصالح، وغفرت لذلك المجرم.
وقال ذو النون المصري: قلت لعليم. لم سميت مجنوناً؟ قال: لما طال حبسي عنه صرت مجنوناً لخوف فراقه في الآخرة.
وفي معناه أنشدوا:
لو أن مابي على صخر لأنحله ... فكيف يحمله خلق من الطين؟
وقال بعضهم، ما رأيت رجلاً أعظم رجاء لهذه الأمة، ولا أشد خوفاً على نفسه، من ابن سيرين.
وقيل، مرض سفيان الثوري، فعُرض دليله على الطبيب؛ فقال: هذا رجل قطع الخوف كبده.
ثم جاء وجسَّ عِرقه، ثم قال: ما علمت أنَّ في الحنيفية مثله.
وسئل الشبلي: لم تصفر الشمس عند الغروب؟ فقال: لأنها عُزلت عن مكان التمام: فاصغَّرت لخوف المقام.
وكذا المؤمن إذا قارب خروجه من الدنيا اصفر لونه، لأنه بعث من خرج ووجهه يشرق.
ويحكى
عن أحمد بن حنبل، رحمه الله تعالى، أنه قال: سألت ربي، عز وجلَّ، أن يفتح
علي باباً من الخوف، ففتح، فخفت على عقلي، فقلت، يا ربِّ، أعطني على قدر
ما أطيق، فسكنَّ ذلك عني.
باب الرجاء
قال الله تعالى: " من كان يرجو لقاء الله، فإن أجل الله لآت " .
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، قال: حدثن عمرو بن مسلم الثقفي قال: حدثنا الحسن بن خالد قال: حدثنا العلاء بن زيد، قال: دخلت على مالك بن دينار، فرأيت عنده شهر بن حوشب فلما خرجنا من عنده، قلت لشهر: يرحمك الله تعالى، زوِّدني، زودك الله تعالى.
فقال:
نعم، حدثتني عمتي أم الدرداء، عن أبي الدرداء، عن نبي الله، صلى الله عليه
وسلم، عن جبريل عليه السلام، قال: " قال ربكم عزوجل: عبيد، ما عبدتني
ورجوتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان منك، ولو استقبلتني بملء
الأرض خطايا وذنوباً، استقبلتك بمثلها مغفرة، فأغفر لك ولا أبالي " .
أخبرنا
علي بن أحمد قال: أخبرنا أحمد بن عبيد قال: حدثنا بشر بن موسى، قال: حدثنا
خلف بن الوليد، قال: حدثنا مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا أبو سفيان
طريف، عن عبد الله بن الحارث، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: " يقول الله تعالى يوم القيامة: أخرجوا من النار من كان في
قلبه مثقال حبة شعير من إيمان ثم يقول: أخرجوا من النار من كان في قلبه
مثقال حبة خردل من إيمان، ثم يقول: وعزتي وجلالي لا أجعل من آمن بي ساعة
من ليل أو نهار كمن لم يؤمن بي " .
الرَّجاء: تعلق القلب بمحبوب سيحصل في المستقبل.
وكما أن الخوف يقع في مستقبل الزمان، فكذلك الرجاء يحصل لما يؤمل في الاستقبال والرجاء عيش القلوب، واستقلالها.
والفرق
بين الرجاء، وبين التمني، أن التمني: يورث صاحبه الكسل، ولا يسلك طريق
الجهد والجد، وبعكسه صاحب الرجاء، فالرجاء محمود، والنمن معلول.
وتكلموا في الرجاء، فقال شاه الكرماني: علامة الرجاء: حسن الطاعة.
وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: وقال ابن خبيق: الرجاء ثلاثة: رجل عمل حسنة: فهو يرجو قبولها.
ورجل عمل سيئة: ثم تاب: فهو يرجو المغفرة.
والثالث الرجل الكاذب: يتمادى في الذنوب: ويقول أرجو المغفرة.
ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالباً على رجائه.
وقيل الرجاء: ثقة الجود من الكريم الودود.
وقيل: الرجاء رؤية الجلال بعين الجمال.
وقيل: هو قرب القلب من ملاطفة الرب.
وقيل: سرور الفؤاد بحسن المعاد.
وقيل: هو النظر إلى سعة رحمة الله تعالى.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي: رحمه الله: يقول: سمعت منصور ابن عبد الله
يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: الخوف، والرجاء، هما كجناحي الطائر،
إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقض أحدهما وقع فيه النقص: وإذا
ذهبا صار الطائر في حد الموت.
وسمعته يقول: سمعت النصراباذي يقول: سمعت
ابن أبي حاتم يقول سمعت علي بن شهمرذان يقول: قال أحمد بن عاصم الانطاكي،
وسئل ما علامة الرجاء في العبد؟ قال: أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم
الشكر، راجياً لتمام النعمة من الله تعالى في الدنيا، وتمام عفوه في
الآخرة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الرجاء: استبشار بوجود فضله.
وقال ارتياح القلوب لرؤية كرم المرجو المحبوب.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي
يقول: من حمل نفسه على الرجاء تعطل، ومن حمل نفسه على الخوف قنط ولكن من
هذه مرة، ومن هذه مرة.
وسمعته يقول: حدثنا أبو العباس البغدادي قال:
حدثنا الحسن بن صفوان قال: حدثنا ابن ابي الدنيا، قال: حدثت عن بكر بن
سليم الصواف، قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها، فقلنا.
يا أبا عبد الله، كيف تجدك؟ فقال: ما أدري ما أقول لكم؛ غير أنكم ستعاينون
من عفو الله تعالى، ما لم يكن في حساب، ثم ما برحنا حتى أغمضناه.
وقال
يحيى بن معاذ: يكاد رجائي لك مع الذنوب، يغلب رجائي لك مع الأعمال؛ لأني
أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف!!
وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف.
وكلموا ذا النون المصري، وهو في النزع، فقال لا تشغلوني؟ فقد تعجبت من كثرة لطف الله تعالى معي.
وقال يحيى بن معاذ: إلهي، أحلى العطايا في قلبي رجاؤك، وأعذب الكلام على لساني ثناؤك، وأحبُّ الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك.
وفي
بعض التفاسير: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أصحابه، من باب
بني شيبة، فرآهم يضحكون فقال: أتضحكون؟ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً
ولبكيتم كثيراً " ثم مرَّ، ثم رجع القهقرى، وقال: نزل عليَّ جبريل، عليه
السلام، وأتى بقوله تعالى: " نبىء عبادي ني أنا الغفور الرحيم " .
أخبرنا
أبو الحسن علي بن أحمد الأهوازي قال: حدثنا أبو الحسن الصفار قال: حدثنا
عباس بن تميم قال: حدثنا يحيى بن أيوب قال: حدثنا مسلم بن سالم قال: حدثنا
خارجة بن مصعب، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن عائشة، قالت: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله تعالى ليضحك من يأس العباد
وقنوطهم وقرب الرحمة منهم، فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله، أويضحك ربنا عز
وجل؟ فقال: " والذي نفسي بيده إنه ليضحك، فقالت: لا يعدمنا خيراً إذا ضحك
" .
وأعلم أن الضحك في وصفه من صفات فعله، وهو إظهار فضله، كما يقال:
ضحكت الأرض بالنَّبات وضحكه من قنوطهم إظهار تحقيق فضله الذي هو ضعف
انتظارهم له.
وقيل: ن مجوسياً استضاف إبراهيم الخليل، عليه السلام،
فقال له: إن أسلمت أضفتك فقال المجوسي: إذا أسلمت فأي مِنَّة تكون لك
عليَّ؟ فمرَّ المجوسي، فأوحى الله تعالى إلى إبراهيم، عليه السلام: يا
إبراهيم، لم تطعمه إلا بتغييره دينه؟! ونحن منذ سبعين سنة نطعمه على كفره،
فلوأضفته ليلة ماذا عليك؟ فمرَّ إبراهيم، عليه السلام، خلف المجوسيِّ،
وأضافه، فقال له المجوسيُّ: أي شيء كان السبب في الذي بدالك؟ فذكر له ذلك،
فقال له المجوسي: أهكذا يعاملني؟ ثم قال: أعْرض عليَّ الإسلام فأسلم: سمعت
الشيخ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: رى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي،
رحمه الله، أبا سهل الزَّجاج في النوم، وكان يقول بوعيد الأبد، فقال له:
كيف حالك؟ فقال وجدنا الأمر أسهل مما توهمنا.
سمعت أبا بكر بن أشكيب
يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف،
فقلت له. يا أستاذ، بم نلت هذا؟، فقال: بحسن ظنيِّ برِّبي.
ورؤى مالك بن دينار في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك.
قال: قدمت على ربي، عزَّ وجلَّ، بذنوب كثيرة محاها عنّي عن حسن ظني به تعالى.
وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " يقول الله عز وجل، أنا عند ظنِّ
عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني
في ملأ، ذكرته في ملأ هو خير منه، وإن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه
ذراعاً، وإن اقترب إليَّ ذراعاً اقتربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته
هرولة " .
أخبرنا بذلك أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الأسفرايني قال:
أخبرنا يعقوب بن إسحق قال: حدثنا علي بن حرب قال: حدثنا أبو معاوية ومحمد
أبن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي
صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك.
وقيل: كان ابن المبارك يقاتل علْجاً مرة فدخل وقت صلاة العلاج، فاستمهله، فأمهله.
فلما
سجد للشمس: أراد ابن المبارك أن يضربه بسيفه، فسمع من الهواء قائلا يقول:
" وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " ، فأمسك. فلما سلم المجوسي، قال
له: لِمَ أمسكت عما هممت َبه؟ فذكر له ما سمع، فقال له المجوسي: نعم الرب
رب يعاتب وليه في عدوِّه. فأسلم وحسن إسلامه.
وقيل: إنما أوقعهم في الذنب حين سمى نفسه عفواً.
وقيل:
لو قال لا أغفر الذنوب، لُم يذنب مسلم قط، - كما أنه لم قال: " إن الله لا
يغفر أن يشرك به " " لم يُشرك مسلم قطّ " ، ولكن لما قال: " ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء " طمعوا في مغفرته.
ويحكي عن إبراهيم بن أدهم رضي الله
عنه أنه قال: كنت أنتظر مدة من الزمن أن يخلو المطاف لي، فكانت ليلة
ظلماء، فيها مطر شديد، فخلا المطاب؛ فدخلت للطواف، وكنت أقول فيه: اللهم
أعصمني، اللهم أعصمني، فسمعت هاتفاً يقول لي: يا ابن أدهم، أنت تسألني
العصمة، وكل الناس يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم فمن أرحم.
وقيل: رأى
أبو العباس بن شربح، في منامه في مرض موته، كأن القيامة قد قامت، وإذا
الجبار، سبحانه، يقول: أين العلماء؟. قال: فجاءوه. ثم قال: ماذا عملتم
فيما علمتم؟ قال فقلنا: يا رب، قصرنا، وأسأنا.
قال: فأعاد السؤال، كأنه لم يرض به، وأراد جواباً آخر.
فقلت: أما أنا، فليس في صحيفتي الشرك، وقد وعدت أن تغفر ما دون.
فقال: إذهبوا فقد غفرت لكم، ومات بعد ذلك بثلاث ليال.
وقيل:
كان رجل شرِّيب، جمع قوماً من ندمائه، ودفع إلى غلام أربعة دراهم، وأمره
أن يشتري بها شيئاً من الفواكه للمجلس، فمر الغلام بباب مجلس منصور بن
عمَّار وهو يسأل لفقير شيئاً، ويقول: من دفع أربعة دراهم دعوت له أربع
دعوات.
قال: فدفع له الغلام الدراهم، فقال منصور: ما الذي تريد أن أدعو
لك به؟ فقال: لي سيد أريد أن أتخلص منه! فدعا لي منصور بذلك، وقال: ما
الأخرى، فقال: أن يخلف الله، تعالى: عليَّ دراهمي.
فدعا لي بذلك. ثم
قال: وما الأخرى: فقال: أن يتوب الله على سيدي فدعاقال: وما الأخرى؟ فقال:
أن يغفر الله لي ولسيدي، ولك، وللقوم فدعا، منصور بذلك.
فرجع الغلام
إلى سيده، فقال له: لم أبطأت؟ فقصَّ عليه القصة فقال له: وبم دعا؟ فقال:
سالت لنفسي العتق فقال: اذهب، فأنت حر وما الثاني؟ فقال: أن يخلف الله
عليَّ الدراهم، فقال: لك أربعة آلاف درهم. فقال: وما الثالث؟ فقال: أن
يتوب الله عليك فقال: تبت إلى الله تعالى، فقال: وما الرابع؟فقال: أن يغفر
الله تعالى لك ولي وللقوم وللذكر، فقال: هذا الواحد ليس إلي، فلما بات،
رأى في المنام كأن قائلاً يقول له: أنت فعلت ما كان إليك تراني لاأفعل ما
إلي!! قد غفرت لك، وللغلام ولمنصور بن عمار، وللقوم الحاضرين.
وقيل: حج رباح القيسي حجات كثيرة، فقال يوماً - وقد وقف تحت الميزاب.
إلهي وهبت من حجاتي كذا وكذا للرسول صلى الله عليه وسلم وعشرة منها لأصحابه العشرة، وثنتين لوالدي، والباقي للمسلمين.
ولم يحبس منها شيئاً لنفسه: فسمع هاتفاً يقول: هوذا يتسخى علينا؛ لأغفرن لك. ولأبويك، ولمن شهد شهادة الحق.
وروي
عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي أنه قال: رأيت جنازة يحملها ثلاثة من
الرجال وامرأة، قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة، فصلينا عليها،
ودفناها، فقلت للمرأة، من كان هذا منك؟ فقالت: ابني قلت: أو لم يكن لك
جيران؟ قالت: نعم، ولكنهم سغروا أمره.
فقلت: وإيش كان هذا؟ فقالت: مخنثاً؟ قال: فرحمتها: وذهبت بها إلى منزلي، وأعطيتها دراهم، وحنطة، وثياباً.
ونمت
تلك الليلة، فرأيت كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر، وعليه ثياب بيض
فجعل يتشكر لي، فقلت من أنت؟ فقال: المخنث، الذي دفنتموني اليوم، رحمني
ربي باحتقار الناس إياي.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله،
يقول: مر أبو عمر البيكندي يوماً بسكة، فرأى قوماً أرادوا إخراج شاب من
المحلة، لفساده، وامرأة تبكي، قيل إنها أمه، فرحمها أبو عمر فتشفع له
إليهم وقال: هبوه مني هذه المرة، فإن عاد إلى فساده فشأنكم فوهبوه منه،
فمضى أبوعمرو، فلما كان بعد أيام، اجتاز بتلك السكة، فسمع بكاء العجوز من
وراء ذلك الباب، فقال في نفسه: لعل الشاب عاد إلى فساده، فنفي من المحلة.
فدق عليها الباب، وسألها عن حال الشاب؛ فخرجت العجوز وقالت له: إنه مات.
فسألها
عن حاله، فقالت، لما قرب أجل، قال: لا تخبري الجيران بموتي، فلقد آذيتهم،
وإنهم يشتمون في، ولا يحضرون جنازتي، وإذا دفنتني، فهذا خاتم لي مكتوب
عليه " بسم الله " فادفنيه معي، فإذا فرغت من دفني فتشفعي لي إلى ربي عزَّ
وجل.
قالت: ففعلت وصيته. فلما انصرفت عن رأس قبره، سمعت صوته يقول: انصرفي يا أماه؛ قدمت على رب كريم.
وقيل: أوحى الله، تعالى، إلى داود، عليه السلام: قل لهم: " إني لم أخلقهم لأربح عليهم، وإنما خلقتهم، ليربحوا علي " .
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان يقول: سمعت أبا بكر
الحربي يقول: سمعت إبراهيم الأطروش يقول: كنا قعوداً ببغداد، مع معروف
الكرخي؛ على الدجلة، إذ مر بنا قوم أحداث في زورق، يضربون بالدف ويشربون،
ويلعبون، فقلنا لمروف: أما تراهم كيف يعصون الله تعالى؟ أدع الله عليهم:
فرفع يده وقال: إلهي كما فرحتهم في الدنيا ففرحهم في الآخرة.
فقالوا: إنما سألناك أن تدعو عليهم!! فقال: إذا فرحهم في الآخرة فقد تاب عليهم.
سمعت
أبا الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد المزكي؛ قال: حدثنا أبو زكريا
يحيى بن محمد الاديب، قال: حدثنا الفضل بن صدقة قال: حدثنا أبو عبد الله
الحسين بن عبد الله بن سعيد، قال:
كان يحيى بن أكثم القاضي صديقاً
لي، وكان بودني ووده، فمات معي، فكنت أشتهي أن أراه في المنام، فأقول له:
ما فعل الله تعالى بك، فرأيته ليلة في المنام فقلت ما فعل الله تعالى بك؟
قال: غفر لي، إلا أنه وبخني، ثم قال لي: يا يحيى، خلطت علي في دار الدنيا.
فقلت:
أي ربي، إتكلت على حديث حدثنيه أبو معاوية الضرير، عن الأعمش، عن أبي
صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنك قلت، "
إني لأستحيي أن أعذب ذا شيبة بالنار " فقال: قد عفوت عنك يا يحيى وصدق
نبيي، إلا أنك خلطت علي في دار الدنيا.
باب الحزن
قال الله تعالى: " وقالوا الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد، قال: أخبرنا علي بن جيش قال: حدثنا أحمد بن عيسى قال: حدثنا ابن وهب قال: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سمعت عطاء بن يسار قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء يصيب العبد المؤمن، من وصب، أو نصب، أو حزن، أو ألم يهمه إلا كفر الله تعالى عنه من سيئاته " .
الحزن: حال يقبض القلب عن التفرق في أودية الغفلة.
والحزن من أوصاف أهل السلوك.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله تعالى، يقول: صاحب الحزن يقطع من طريق الله في شهر مالا يقطعه من فقد حزنه سنين، وفي الخبر: " إن الله يحبُّ كل قلب حزين " .
وفي التوراة: " إذا أحب الله عبداً جعل في قلبه نائحة، وإذا بغض عبداً جعل في قلبه مزماراً " .
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متواصل الأحزان دائم الفكر.
وقال بشر بن الحارث.
الحزن ملك، فإذا سكن في موضع لم يرض أن يساكنه أحد.
وقيل: القلب إذا لم يكن فيه حُزن خرب، كما أنَّ الدار إذا لم يكن فيها ساكن تخرب.
وقال أبو سعيد القرشي: بكاء الحزن يعمى، وبكاء الشوق يعشي البصر ولا يعمي: قال الله تعالى: " وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم " .
وقال ابن خفيف: الحزن: حصر النفس عن النهوض في الطرب.
وسمعت رابعة العدوية رجلاً يقول: واحزناه! فقالت: قل: واقلة حزناه، لو كنت محزوناً لم يتهيأ لكن أن تتنفس.
وقال سفيان بن عيينه: لو أن محزوناً بكى في أمَّة لرحم الله تعالى تلك الأمَّة ببكائه.
وكان داود الطائي الغالب عليه الحزن، وكان يقول بالليل: إلهي، همك عطل على الهموم، وحال بيني وبين الرقاد.
وكان يقول: " كيف يتسلى من الحزن من تتجدد عليه المصائب في كل وقت؟ " .
وقيل: الحزن: يمنع من الطعام، والخوف: يمنع من الذنوب.
وسئل بعضهم: بم يستدل على حزن الرجل؟ فقال: بكثرة أنينه.
وقال سري السقطي: وددت أن حزن كل الناس ألقي علي.
وتكلم الناس في الحزن، فكلهم قالوا: إنما يحمد حزن الآخرة، وأما حزن الدنيا فغير محمود، إلا أبا عثمان الحيري، فإنه قال: الحزن بكل وجه فضيلة، وزيادة للمؤمن، ما لم يكن بسبب معصية، لأنه إن لم يوجب تخصيصاً فإنه يوجب تمحيصاً.
وعن بعض المشايخ أنه كان إذا سافر واحد من أصحابه يقول له: إن رأيت محزوناً، فاقرئه مني السلام.
سمعت الأستاذ أبا عليَّ الدقاق يقول: كان بعضهم يقول للمشس عند غروبها، هل طلعت اليوم على محزون؟ وكان الحسن البصري لا يراه أحد إلا ظن أنه حديث عهد بمصيبة.
وقال وكيع لما مات الفضيل، ذهب الحزن اليوم من الأرض.
قال بعض السلف، أكثر ما يجده المؤمن في صحيفته من الحسنات لهم. الحزن.
سمعت أبا عبد الله الشيرازي يقول: سمعت علي بن بكران يقول: سمعت محمد بن علي المروزي يقول، سمعت أحمد بن أبي روح يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الفضيل بن عياض يقول: كان السلف يقولون: إن على كل شيء زكاة وزكاة العقل طول الحزن.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد الفراء يقول: سمعت أبا الحسين الوراق يقول، سألت أبا عثمان الحيري يوماص عن الحزن فقال: الحزين لا يتفرغ إلى سؤال الحزن، فاجتهد في طلب الحزن، ثم سل.
؟باب الجوع وترك الشهوة قال الله تعالى: " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع " .
ثم قال في اخر الآية: " وبشر الصابرين " فبشرهم بجميل الثواب على الصبر على مقاساة الجوع.
وقال تعالى: " ويؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة " .
أخبرنا
علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمج بن عبيد الصفَّار قال: حدثنا عبد
الله بن أيوب قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي قال: حدثنا أبو هاشم صاحب
الزعفراني قال: حدثنا محمد بن عبد الله، عن أنس بنمالك أنه حدثه قال: "
جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بكسرة خبز لرسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقال: ما هذه الكسرة يا فاطمة؟ " .
قالت: قرص خبزته، ولم تطب نفسي حتى أتيتك بهذه الكسرة.
فقال: أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام.
وفي بعض الروايات: جاءت فاطمة، رضي الله عنها، بقرص شعير.
ولهذا
كان الجوع من صفات القوم، وهو أحد أركان المجاهدة، فإن أرباب السلوك
تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل، ووجدوا ينابيع الحكمة في
الجوع، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك.
سمعت محمد بن أحمد بن الصوفيَّ
يقول: سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول: سمعت ابن سالم يقول: أدب الجوع
أن لا ينقص من عادته إلا مثل أذن السنور.
وقيل: كان سهل بن عبد الله لا
يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يوماً؛ فإذا دخل شهر رمضان كان لا يأكل
حتى يرى الهلال، وكان يفطر كل ليلة على الماء القراح.
وقال يحيى بن معاذ: لو أن لجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره.
أخبرنا
محمد بن عبد الله بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن الحسين الأرجاني قال:
حدثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد الأصطخري بمكة - حرسها الله تعالى - قال:
قال سهل بن عبد الله: لما خلق الله تعالى الدنيا جعل في الشبع: المعصية
والجهل، وجعل في الجوع: العلم والحكمة.
وقال يحيى بن معاذ: الجوع للمريدين رياضة، وللتائبين تجربة، وللزهاد سياسة، وللعارفين مكرُمة.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدَّقاق، رحمه الله، يقول: دخل بعضهم على بعض الشيوخ، فرآه يبكي، فقال له: مالك تبكي؟ فقال: إني جائع.
فقال: ومثل يكبي من الجوع؟! فقال: أسكت، أما علمت أن مراده من جوعي أن أبكي.
سمعت
أبا عبد الله الشيرازي، رحمه الله، يقول: حدَّثنا محمد بن بشر قال:
حدَّثنا الحسين بن منصور قال: حدَّثنا دود بن معاذ قال: سمعت مخلداً يقول:
كان الحجاج بن فرافصة معنا بالشام، فمكث خمسين ليلة لا يشرب الماء، ولا
يشبع من شيء يأكله.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر الغزالي يقول: سمعت محمد
بن علي يقول: سمعت أبا عبد الله أحمد بن يحيى الجلاء يقول: دخل أو تراب
النخشي من بادية البصرة مكة - حرسها الله تعالى - فسألناه عن أكله، فقال:
خرجت من البصرة.. وأكلت بنباج. ثم بذات عرق.. ومن ذات عرق إليكم فقطع
البادية بأكلتين.
وسمعته يقول: حدثنا علي بن النحاس المصري قال: حدثنا
هارون بن محمد الدقاق قال: حدثنا أبو عبد الرحمن بن الدرقش قال: حدثنا
أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت عبد العزيز بن عمير يقول: نجوَّع صنف من
الطير أربعين صباحاً، ثم طاروا في الهواء، فرجعوا بعد أيام، فكان يفوح
منهم رائحة المسك.
وكان سهل بن عبد الله إذا جاع قوي، وإذا أكل شيئاً ضعف.
وقال أبو عثمان المغربي: الرَّباني لا يأكل في أربعين يوماً، والصمداني في ثمانين يوماً.
وسمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت محمد ابن العلوي يقول:
سمعت علي بن إبراهيم القاضي بدمشق، يقول سمعت محمد بن علي بن خلف يقول:
سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: مفتاح
الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع.
سمعت محمد بن عبد الله بن عبيد
الله يقول: سمعت علي بن الحسين الأرجاني يقول: سمعت أبا محمد الإصطخري
يقول: سمعت سهل بن عبد الله، وقيل له: الرجل يأكل في اليوم أكلة، فقال أكل
الصديقين. قال: فأكلتين. قال: أكل المؤمنين. قال: فثلاثة: قال: قل لأهلك
يبنون لك معلفاً.
وسمعته يقول: حدثنا عبد العزيز بن الفضل قال: حدثنا
أبو بكر السائح قال: سمعت يحيى بن معاذ يقول: الجوع نور، والشبع نار،
والشهوة مثل الحطب يتولد منه الاحتراق، ولا تطفأ ناره حتى يحرق صاحبه.
سمعت
أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج العلومي يقول: دخل يوماً
رجل من الصوفية على شيخ، فقدم إليه طعاماً.. ثم قال له: منذ كم يوم لم
تأكل؟.
فقال: منذ خمسة ايام. فقال جوعك جوع بخل!! عليك ثياب وأنت تجوع؟! ليس هذا جوع فقر!.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن أحمد بن سعيد الرازي يقول: سمعت العباس
بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: قال أبو سليمان الداراني:
لأن أترك من عشائي لقمة أحب إلي من أن أقوم الليل إلى آخره.
وسمعته
يقول سمعت أبا القاسم جعفر بن أحمد الرازي يقول: اشتهى أبو الخير
العسقلاني السمك سنين، ثم ظهر له ذلك من موضع حلال، فلما مد يده إليه
ليأكل أخذت شوكة من عظامه أصبعه، فذهبت في ذلك يده، فقال: يا رب، هذا لمن
مد يده بشهوة لى حلال، فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟ سمعت الأستاذ أبا
بكر بن فورك يقول: شغل العيال نتيجة متابعة الشهوة بالحلال. فما ظنك بقضية
شهوة الحرام؟.
سمعت رستم الشيرازي الصوفي يقول: كان أبو عبدالله بن
خفيف في دعوة فمدَّ واحد من أصحابه يده إلى الطعام قبل الشيخ، هذا كان به
من فأراد بعض أصحاب الشيخ أن ينكروا عليه لسوء أدبه، حيث مدَّ يده إلى
الطعام قبل الشيخ، فوضع شيئاً بين يدي هذا الفقير، فعلم الفقير أنه أنكر
عليه لسوء أدبه، فاعتقد أن لا يأكل خمسة عشر يوماً، عقوبة لنفسه، وتأديباً
لها، وإظهاراً لتوبته من سوء أدبه وكان قد أصابته فاقة قبل ذلك.
سمعت
محمد بن عبد الله الصوفي يقول: حدثنا أبو الفرج الورثاني قال: حدثنا عبد
الله بن محمد بن جعفر، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث قال: حدثنا
سليمان بن داود قال: حدثنا جعفر بن سليمان قال: سمعت مالك ابن دينار يقول:
من غلب شهوات الدنيا فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله.
وسمعته يقول: سمعت
منصور بن عبد الله الأصبهاني يقول: سمعت أبا علي الروذباري يقول: إذا قال
الصوفي بعد خمسة أيام أنا جائع فالزموه السوق، وأمروه بالكسب.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول، حاكياً عن بعض المشايخ أنه قال: ن أهل النار غلبت شهوتهم حميتهم، فلذلك افتضحوا.
وسمعته يقول: قيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: أشتهي ولكن أحتمي.
قال: وقيل لبعضهم: ألا تشتهي؟ فقال: اشتهي أن لا أشتهي وهذا تم.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: أخبرنا أحمد بن منصور قال: أخبرنا ابن
مخلد قال: حدثنا أبو الحسين الحسن بن عمرو بن الجهم قال: سمعت أبا نصر
التمار، يقول: أتاتي بشر ليلة، فقلت: الحمد الله الذي جاء بك: جاءنا قطن
من خراسان فغزلته البنت، وباعته، واشترت لنا لحماً، فتفطر عندنا.
فقال:
لو أكلت عند أحد أكلت عندكم ثم قال: إني لأشتهي الباذنجان منذ سنين، ولم
يتفق لي أكله!! فقلت: إن فيها الباذنجان من الحلال. فقال: حتى يصفو لي حب
الباذنجان.
سمعت عبد الله بن باكويه الصوفي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا
أ؛مد الصغير يقول: أمرني أبو عبد الله بن خفيف أن أقدم إليه كل ليلة عشر
حبات زبيب، لإفطاره، فليلة اشفقت عليه، فحملت إليه خمس عشرة حبة، فنظر إلي
وقال: من أمرك بهذا؟ وأكل عشر حبات، وترك الباقي.
سمعت محمد بن عبد
الله بن عبيد الله يقول: سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن عبد الله بن
الفرغاني يقول: سمعت أبا الحسين الرازي يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول:
سمعت أبا تراب النخشبي يقول: ما تمنعت نفسي من الشهوات، إلا مرة واحدة،
تمنت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلتُ إلى قرية، فقام واحد وتعلق بي
وقال: هذا كان مع اللصوص. فضربوني سبعين درة. ثم عرفني رجل منهم، فقال:
هذا أبو تراب النخشبي!! فاعتذروا إلي، فحملني رجل إلى منزله، إكراماً لي،
وشفقة علي.. وقدم لي خبزاً وبيضاَ، فقلت لنفسي: كلي بعد سبعين درة!
باب الخشوع والتواضع
قال الله تعالى: " قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون " .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، قال: أخبرنا أبو الفضل سفيان بن محمد الجوهري، قال حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا يحيى بن حماد قال: حدثنا شعبة، عن أبان بن ثعلب، عن فضل الفقيمي، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس، عن عبد الله ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر، ولا يدخل النار من قلبه مثقال ذرَّة من إيمان، فقال رجل يا رسول الله، إن الرجل يحب أن يكون ثوبة حسناً. فقال: إن الله تعالى جميل يحب الجمال، الكبر من بطر الحق، وغمص الناس " .
وأخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن
عبيد البصري، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن جابر قال حدثنا أبو إبراهيم
قال: حدثنا علي ابن مسهر، عن مسلم الأعور، عن أنس بن مالك، قال: " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشيع الجنائز، ويركب الحمار،
ويجيب دعوة العبد، وكان يوم قريظة ولانضير على حمار مخطوم بحبل من ليف.
عليهإكاف من ليف " .
الخشوع: الانقياد للحق.
والتواضع: هو الاستسلام للحق، وترك الاعتراض على الحكم.
وقال حذيفة: أول ما تفقدون من دينكم: الخشوع.
وسئل بعضم عن الخشوع، فقال: الخشوع: قيام القلب بين يدي الحق، سبحانه، بهم مجموع.
وقال: من علامات الخشوع للعبد: أنه إذا أغضب أو خولف، أو رد عليه أن يستقبل ذلك بالقبول.
وقال بعضهم: خشوع القلب: قيد العيون عن النظر.
وقال
محمد بن علي الترمذي: الخاشع من خمدت نيران شهوته، وسكن دخان صدره، وأشرق
نور التعظيم في قلبه، فماتت شهوته، وحيي قلبه؛ فخشعت جوارحه.
وقال الحسن البصري: الخشوع: الخوف الدائم اللازم للقلب.
وسئل الجنيد عن الخشوع، فقال: تذلل القلوب لعلام الغيوب.
قال
الله تعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً " سمعت الأستاذ
أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول ما معناه: متواضعين، متخاشعين.
وسمعته يقول: هم الذين لا يستحسنون شِسع نعالهم إذا مشوا.
واتفقوا على أن الخشوع محله القلب.
ورأى
بعضهم رجلاً منقبض الظاهر، منكسر الشاهد، قد زوى منكبيه، فقال له: يا
فلان، الخشوع هاهنا، وأشار إلى صدره، لا هاهنا وأشار إلى منكبيه.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً يعبث في صلاته بلحيه، فقال: " لو خشع قلب هذه لخشعت جوارحه " .
وقيل، شرط الخشوع، في الصلاة أن لا يعرف من على يمينه ومن على شماله.
قال الأستاذ الإمام: ويحتمل أن يقال: الخشوع، إطراق السريرة بشرط الأدب بمشهد الحق سبحانه وتعالى.
ويقال: الخشوع، ذبول يرد على القلب عنداطلاع الرب.
ويقال: الخشوع، ذوبان القلب وانخناسه عند سلطان الحقيقة.
ويقال: الخشوع، مقدمات غلبات الهيبة.
ويقال: الخشوع: قشعريرة ترد على القلب بغتة عند مفاجأة كشف الحقيقة.
وقال الفضيل بن عياض: كان يكره أن يرى على الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه.
وقال أبو سليمان الداراني: لو أجتمع الناس على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي لما قدروا عليه.
وقيل: من لم يتضع عند نفسه لم يتضع عند غيره.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يسجد إلى على التراب.
أخبرنا
علي بن أحمد الأهوازي قال: حدَّثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدَّثنا
إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن يزيد الفرائض، قال:
حدثنا محمد بن كثير، وهو المصيصي، عن هارون بن حيان، عن حصيف، عن سعيد بن
جبير، عن أبن عباس، رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر " .
وقال
مجاهد، رحمه الله: لما أغرف الله سبحانه، قوم نوح شمخت الجبال، وتواضع
الجودي، فجعله الله سبحانه، قراراً لسفينة نوح عليه السلام.
وكان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يسرع في المشي، ويقول: إنه أسرع للحاجة، وأبعد من الزهو.
وكان
عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، يكتب ليلة شيئاً، وعند ضيف، فكاد
السراج. ينطفىء، فقال الضيف: أقوم إلى المصباح فأصلحه، فقال: لا: ليس من
الكرم استخدام الضيف.
قال: فأنبِّه الغلام.
قال: لا، هي أول نومة نامها.
فقالم إلى البطة، وجعل الدهن في المصباح، فقال الضيف: قمت بنفسك يا أمير المؤمنين!! فقال له عمر: ذهبتُ وأنا عمر، ورجعت وأناعمر.
وروي
أبو سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان
يعلف البغير، ويقم البيت، ويخصف النعل، ويرقع الثوب، ويحلب الشاة، ويأكل
مع الخادم، ويطحن معه إذا أعيا، وكان لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعته من
السوق إلى أهله، وكان يصافح الغني والفقير، ويسَّلم مبتدئاً، ولا يحتقر ما
دعي إليه، ولو إلى حشف التمر، وكان هين المؤنة، لين الخلق؛ كريم الطبيعة
جميل المعاشرة، طلق الوجه، بساماً من غير ضحك، محزوناً من غير عبوسة؛
متواضعاً من غير مذلة؛ جواداً من غير سرف، رقيق القلب؛ رحيماً بكل مسلم،
لم يتجشأ قط من شبع؛ ولم يمد يده إلى طمع " .
سمعت الشيخ أبا عبد
الرحمن السلمي؛ رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن محمد الرازي يقول: سمعت
محمد بن نصر الصائغ يقول: سمعت مردويه الصائغ يقول: سمعت الفضيل بن عياض
يقول: قراء الرحمن، عز وجل، أصحاب خشوع وتوضاع، وقراء القضاة أصحاب عجب
وتكبر.
وقال الفضيل بنعياض: من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
وسئل الفضيل عن التواضع، فقال: تخضع للحق، وتنقاد له وتقبله ممن قاله.
وقال
الفضيل: أوحى الله؛ سبحانه وتعالى؛ إلى الجبال: أني مكلم على واحد منكم
نبياً. فتطاولت الجبال؛ وتواضع طورسينا؛ فكلم الله سبحانه علية موسى، عليه
السلام، لتواضعه.
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد بن
علي بن جعفر، يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك، يقول: سئل الجنيد عن التواضع؛
فقال: خفض الجناح للخلق؛ ولين الجانب لهم.
وقال وهب: مكتوب في بعض ما
أنزل الله تعالى من الكتب: " إني أخرجت الذر من صلب آدم، فلم أجد قلباً
أشدَّ تواضعاً من قلب موسى عليه السلام، فلذلك اصطفيته وكلمَّته " .
وقال ابن المبارك: التكبير على الأغنياء، والتواضع للفقراء من التواضع.
وقيل لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعاً؟ فقال: إذا لم ير لنفسه مقاماً ولا حالاً؛ ولا يرى أن في الخلق من هو شر منه.
وقيل: التواضع نعمة لا يحسد عليها، والكبر محنة لا يرْحم عليها، والعزُّ في التواضع فمن طلبه في الكبر لم يجده.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله يقول:
سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: الشرف في التواضع، والعزُّ في التقوى،
والحرية في القناعة.
وسمعته أياَ يقول: سمعت الحسن الساوي يقول: سمعت
ابن الأعرابي يقول: بلغني أنَّ سفيان الثوري قال: أعز الخلق خمسة أنفس:
عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سُنى.
وقال
يحيى بن معاذ: التواضع حسن في كلِّ أحد لكنه في الآغنياء أحسن، والتكبر
سمج في كل أحد لكنه في الفقراء أسمج!! وقال ابن عطاء: التواضع: قبول
الحقِّ ممن كان.
وقيل: ركب زيد بن ثابت، فدنا ابن عباس ليأخذ بركابه،
فقال ل مَه يا ابن عمِّ رسول الله. فقال هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا.
فأخذ زيد بن ثابت يد ابن عباس فقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل رسول
الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عروة بن الزبير: رأيت عمر بن الخطاب،
رضي الله عنه، وعلى عاتقه قربة ماء، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا ينبغي لك
هذا!! فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلتْ في نفسي نخوة فأحببتُ
أن أكسرها. ومضى بالقربة إلى حجرة امرأة من الأنصار فأفرغها في إنائها.
سمعت
أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السراج الطوسي يقول: رؤي أبو
هريرة، وهو أمير المدينة، وعلى ظهره حزمة حطب، وهو يقول: طرقوا للأمير.
وقال عبد الله الرازي: التواضع ترك التمييز في الخدمة.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن أحمد بن هارون يقول: سمت
محمد بن العباس الدمشقي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا
سليمان الداراني يقول: من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة.
وقال يحيى بن معاذ: التكبر على من تكبر عليك بمالة تواضع.
وقال الشبلي رحمه الله: دلي عطِّل ذل اليهود.
وجاءه رجل، فقال له الشبلي: ما أنت؟ فقال: يا سيدي النقطة التي تحت الباء.
فقال له: أنت شاهدي، ما لم تجعل لنفسك مقاماً.
وقال ابن عباس، رشي الله عنهما، من التواضع أن يشرب الرجل من سؤر أخيه.
وقال بشر: سلموا على أبناء الدنيا بترك السلام عليهم.
وقال
شعيب بن حرب: بينا أنا في الطواف إذ لكزني إنسان بمرفقه، فالتفت إليه،
فإذا هو الفضيل بن عيضا، فقال: يا أبا صالح، إن كنت تظن أنه شهد الموسم شر
مني ومنك فبئس ما ظننت!! وقال بعضهم: رأيت في الطواف إنساناً بين يديه
شاكريه يمنعون الناس لأجله عن الطواف.. ثم رأيته بعد ذلك بمدة على جسر
بغداد يسأل الناس شيئاً. فتعجبت منه، فقال لي: أنا تكبرت في موضع يتواضع
الناس هناك، فابتلاني الله، سبحانه، بالتذلل في موضع يترفع فيه الناس.
وبلغ
عمر بن عبد العزيز أن ابناً له اشترى فصاً بألف درهم فكتب إليه عمر: "
بلغني أنك اشتريت فصا بألف درهم، فإذا أتاك كتابي هذا فبع الخاتم، وأشبع
ألف بطن واتخِّذ خاتماً من درهمين، واجعل واكتب عليه " رحم الله أمرءاً
عرف قدر نفسه " .
وقيل: عرض على بعض الأسراء مملوك بألف درهم، فلما
أحضر الثمنَ استكثره فبدا له في شرائه فردَّ الثمن إلى الخزانة! فقال
العبد: يا مولاي، اشترني، فإن فيَّ بكل درهم من هذه الدراهم خصلة تساوي
أكثر من ألف درهم، فقال: وما هي؟ فقال: أقلها وأدناها مالو اشتريتني
وقدمتني على جمع مماليكن لا أغلظ في نفسي، وأعلم أني أنا عبدك. فاشتراه.
وحكي
عن رجاء بن حيوة أنه قال: قوَّمت ثياب عمر بن عبد العزيز وهو يخطب بإثني
عشر درهماً؛ وكانت: قباء، وعمامة، وقميصاً، وسرويل، وخفين، وقلنسوة.
وقيل:
مشى عبد الله بن محمد بن واسع مشياً لا يحمد فقال له أبوه: وتدري بكم
اشتريتُ أمك بثلاثمائة درهم، وأبوك لا أكثر الله في المسلمين مثله أباً،
وأنت تمشي هذه المشية!! سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أحمد بن الفراء
يقول: سمعت عبد الله بن منازل يقول: سمعت حمدون القصار يقول: التواضع: أن
لا ترى لأحد إلى نفسك حاجة، لا في الدين، ولا في الدنيا.
وقال إبراهيم
بن أدهم: ما سررت في إسلامي إلا ثلاث مرات: مرة كنت في سفينة، وفيها رجل
مضحك كان يقول: كنا نأخذ العلج في بلاد الترك هكذا وكان يأخذ بشعر رأسي،
ويهزني، فيسرني ذلك؛ لأنه لم يكن في السفينة أحدٌ أحقر في عينه مني.
والأخرى: كنت عليلاً في مسجد، فدخل المؤذن، وقال: أخرج. فلم أطق، فأخذ برجلي وجرني إلى خارج المسجد.
والثالثة: كنت بالشام، وعليَّ فرو، فنظرت فيه فلم أميز بين شعره وبين القمل، لكثرته، فسرني ذلك.
وفي حكاية أخرى عنه قال: ما سررت بشيء كسروري أني كنت يوماً جالساً فجاء إنسان وبال علي.
وقيل:
تشاجر أبو ذر وبلال، رضي الله عنهما، فعير أبو ذكر بلالاً بالسواد. فشكاه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابا ذر، إنه بقي في قلبك
منكبر الجاهلية شيء.
فالقى أبو ذرِّ نفسه.. وحلف أن لا يرفع رأسه حتى يطأ بلال خده بقدمه. فلم يرفع حتى فعل بلال ذلك.
ومر
الحسن بن علي، رضي الله عنهما، بصبيان معهم كسر خبز، فاستضافوه، فنزل،
وأكل معهم. ثم حملهم إلى منزله، وأطعمهم، وكساهم، وقال: اليد لهم، لأنهم
لم يجدوا غير ما أطعموني،ونحن نجد أكثر منه.
وقيل: قسم عمر بن الخطاب،
رضي الله عنه، الحلل بين الصحابة من غنيمة، فبعض إلى معاذ حلة يمانية،
فباعها واشترى ستة أعبد، وأعتقهم. فبلغ عمر ذلك، فكان يقسم الحلل بعده؛
فبعث إليه حلة دون تلك، فعاتبه معاذ، فقال له عمر: لا معاتبة، لأنك بعت
الأولى.
فقال معاذ: وما عليك. ادفع إلي نصيبي، وقد حلفت لأضربن بها رأسك.
فقال عمر: هذا رأسي بين يديك، وقد يرفُق الشيخ بالشيخ.
باب مخالفة النفس
وذكر عيوبها قال الله تعالى: " وأما من خاف مقام ربه وهى ونهى النفس عن الهوى؛ فإن الجنة هي المأوى " .
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن عبيد قال: أخبرنا تمام قال: حدثنا محمد بن معاوية النيسابوري قال: حدثنا علي بن أبي علي بن عتبة بن أبي لهب، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أخوف ما أخاف علي أمتي: باع الهنى، وطول الأمل، فأما انباع الهوى فيصد عن الحق، وأما طول الأمل فينسي الآخرة " .
ثم اعلم أن مخالفة النفس رأس العبادة. وقد سئل الشايخ عن الإسلام، قالوا: ذبح النفس بسيوف المخالفة.
واعلم أن من نجمت طوارق نفسه أفلت شوارق أنسه.
وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة:الفكرة، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال ذو النون المصري: مفتاح العبادة للفكر، وعلامة الإصابة: مخالفة النفس والهوى، ومخالفتهما ترك شهواتهما.
وقال
ابن عطاء: النفس مجبلة على سوء الأدب، والعبد مأمور بملازمة الأدب، فالنفس
تجري بطبعها في ميدان المخالفة، والعبد يردها بجهده عن سوء المطالبة، فمن
أطلق عنانها فهو شريكها معها في فسادها.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن
السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت أبا عبد الحمن
الأنماطي يقول: سمعت الجنيد يقول: النفس الأمارة بالسوء: هي الداعية إلى
المهالك، المعينة للأعداء، المتبعة للهوى، المتهمة بأصناف الأسواء.
وقال
أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال،
ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أيامه كان مغروراً ومن نظر إليها باستحسان
شيء منها فقد أهلكها.
وكيف يصح لعاقل: الرضا عن نفسه، والكريم ابن
الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم الخليل،
يقول: " وما أبرىء نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء " .
سمعت محمد بن
الحسين يقول: سمعت إبراهيم بن مقسم ببغداد يقول: سمعت ابن عطاء يقول: قال
الجنيد: أوقت ليلة، فقمت إلى وردي، فلم أجد ما كنت أجده من الحلاوة
والتلذذ بمناجاتي لربي، فتحير، فأردت القيام بما لم اقدر عليه، فقعدت، فلم
أطق القعود، ففتحت الباب، وخرجت، فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على
الطريق. فلما أحس بي، رفع رأسه، وقال: يا أبا القاسم، إلى الساعة فقلت: يا
سيدي من غير موعد؟ فقال: بلى قد سألت محرك القلوب أن يحرك إلى قلبك.
فقلت: فقد فعل فما حاجتك؟ فقال: متى يصير داء النفس دواءها؟ فقلت: إذا خالفت النفس هواها صار داؤها دواءها.
فأقبل
على نفسه، وقال: اسمعي، قد أجبتك بهذا الجواب سبع مرات فأبيت أن تسمعيه
إلا من الجنيد، فقد سمعت، وانصرفت عني ولم أعرفه. ولم أقف عليه بعد.
وقال أبو بكر الطمستاني: النعمة العظمى: الخروج من النفس؛ لأنه أعظم حجاب بينك وبين الله عز وجل.
وقال سهل بن عبد الله: ما عبد الله بشيء مثل مخالفة النفس والهوى.
سمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا
عمر الأنماطي يقول: سمعت ابن عطاء، وقد سئل عن أقرب شيء إلى مقت الله
تعالى، فقال:رؤية النفس وأحوالها، وأشدُّ من مطالعة الأعواض على أفعالها.
وسمعته
يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت إبراهيم
الخوَّاص يقول: كنت في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته. فدنوت منه،
فأخذت منه واحدة، فشققتها، فوجدتها حامضة، فمضيت، وتركت الرمان، فرأيت
رجلا مطروحاً. قد اجتمع عليه الزنابير، فقلت:اللام عليك، فقال: وعليك
السلام يا إبراهيم، فقلت له: وكيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله تعالى،لا
يخفى عليه شيء. فقلت: أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو سألته أن يحميك
ويقيك الأذى من هذه الزنابير؟ فقال: وأنا أرى لك حالا مع الله تعالى، فلو
سألته أن يقيك شهوة الرمان!! فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة،
ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا. فتركته، ومضيت.
وحكي عن إبراهيم بن
شيبان أنه قال: ما بت تحت سقف، ولا في موضع عليه غلق أربعين سنة، وكنت
أشتهي في أوقات أن أتناول شبعة عدس، فلم، يتفق.. فكنت وقتاً بالشام، فحمل
إلي غضارة فيها عدس، فتناولت منه، وخرجت... فرأيت قوارير معلقة فيها شيء
شبه نموذجات .. فظننته خلا.. فقال لي بعض الناس: إيش تنظر هذه نموذجات
الخمر؛ وهذه الدنان خمر.
فقلت في نفسي: لزمني فرض.، فدخلت حانوت
الخمار، ولم أزل أصب تلك الدنان وهو يتوهم أني أصبها بأمر السلطان.. فلما
علم، حملني إلى ابن طولون.. فأمر بضري مائتي خشبة.. وطرحني في السجن..
فبقيت فيه مدَّة، حتى دخل أبو عبد الله المغربي أستاذي ذلك البلد؛ فشفع
لي، فلما وقع بصره علي، قال: إيش فعلت؟ فقلت: شعبة عدس ومائتي خشبة فقال
لي: نجوت مجاناً.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول:
سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت جعفر بن نصير يقول: سمعت الجنيد
يقول: سمعت السري السقطي يقول:
إن نفسي تطالبني، منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة، أن أغمس جزرة في دبس فما أطعتها.
وسمعته يقول: سمعت جدي يقول: رضاه من نفسه بما هو فيه.
وسمعته
يقول: سمعت محمد بن عبد الله الرازي يقول: سمعت الحسين ابن علي القرمسيني
يقول: وجه عصام بن يوسف البلخي شيئاً إلى حاتم الأصمِّ، فقبله منه.
فقيل له: لم قبلته؟.
فقال: وجدت في أخذه ذليِّ وعزه، وفي رده عزي وذله؛ فاختر عزه على عزي وذلي على ذله.
وقيل لبعضهم: إني أريد ن أحج على التجريد.
فقال له: جرد أولاً قلبك عن السهو، ونفسك عن اللهو؛ ولسانك عن اللغو، ثم اسلك حيث شئت.
وقال
أبو سليمان الداراني: من أ؛سن في ليله كوفىء في نهاره، ومن أحسن في نهاره
كوفىء في ليله، ومن صدق في ترك شهوة كفى مؤنتها، والله أكرم من أن يعذب
قلباً ترك شهوة لأجله.
وأوحى الله سبحانه إلى داود عليه السلام: يا
داود، حذر، وأنذر أصحابك أكل الشهوات؛ فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا
عقولها عني محجوبة.
ورؤى رجل جالساً في الهواء، فقيل له: بم نلت هذا؟ فقال: تركت الهوى فسخر لي الهواء.
وقيل: لو عرض للمؤمن ألف شهوة لأخرجها بالخوف، ولو عرض للفاخر شهوة واحدة لأخرجته من الخوف.
وقيل: لا تضع زمامك في يد الهوى، فإنه يقودك إلى الظلمة.
وقال يوسف بن أسباط: لا يمحو الشهوات من القلب إلا خوف مزعج أو شوق مقلق.
وقال الخواص: من ترك شهوة، فلم يجد عوضها في قلبه، فهو كاذب في تركها.
وقال
جعفر بن نصير: دفع إلى الجنيد درهماً وقال: اشتر لي به التين الوزيري،
فاشتريته له، فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فمه، ثم ألقاها، وبكى، وقال:
إحمله.
فقلت له في ذلك، فقال: هتف في قلبي أما تستحي؟ شهوة تركتها من أجلي ثم تعود إليها.
وأنشدوا:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريع كل هوى صريع هوان
واعلم ن للنفس أخلاقاً ذميمة، فمن ذلك: الحسد.
باب الحسد
قال الله تعالى: " قل أعوذ برب الفلق، من شر ما خلق " .
ثم قال: " ومن شر حاسد إذا حسد " .
فختم السورة التي جعلها عوذة بذكر الحسد.
أخبرنا أبو الحسين الأهوازي، قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: حدثنا اسماعيل بن الفضل قال: حدثنا يحيى بن مخلد، قال: حدثنا معاً في ابن عمران، عن الحارث بن شهاب، عن معبد، عن ابن مسعود قال: ن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث هنَّ أصل كل خطيئة فاتقوهن واحذروهن: إياكم والكبر، فإن إبليس حمله الكبر على أن لا يسجد لآدم.
وإياكم والحرص، فإن آدم حمله الحرص على أن أكل من الشجرة.
وإياكم والحسد، فإن ابني آدم إنما قتل أحدهما صاحبه حسداً.
وقال بعضهم: الحاسد جاحد، لأنه لا يرضى بقضاء الواحد.
وقيل: الحسود لا يسود.
وقيل في قوله تعالى: " قل نما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن " ، قيل ما بطن: الحسد. وفي بعض الكتب: الحاسد عدو نعمتي.
وقيل: أثر الحسد يتبين فيك قبل أن يتبين في عدوك.
وقال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك.
فقال: تركتُ الحسد فبقيت.
وقال ابن المبارك: الحمد لله الذي لم يجعل في قلب أميري ما جعله في قلب حاسدي.
وفي بعض الآثار إن في السماء الخامسة ملسكاً يمر به عمل عبد، له ضوء كضوء الشمس، فيقول له الملك: قف فأنا ملك الحسد. اضرب به وجه صاحبه، فإنه حاسد.
وقال معاوية: كل إنسان أقدر على أن أرضيه، إلا الحاسد، فإنه لا يرضيه إلا زوال النعمة.
ويقال: الحاسد ظالم غشوم، لا يبقي ولا يذر.
وقال عمر بن عبد العزيز: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد: غم دائم ونفس متتابع.
وقيل: من علامات الحاسد أن يتعلق إذا شهد، ويغتاب إذا غاب، ويشمت بالمصيبة إذا نزلت.
وقال معاوية: ليس في خلال الشرخلة أعدل من الحسد، تقتل الحاسد قبل المحسود.
وقيل: أوحي الله، سبحانه، إلى سليمان بن داود، عليهما السلام: أوصيك بسبعة أشياء: لا تغتابن صالح عبادي، ولا تحسدن أحداً من عبادي. فقال سليمان: يا رب، حسبي.
وقيل رأى موسى عليه السلام، رجلاً عند العرش فغبطه، فقال: ما صفته؟ فقيل: كان لا يحسد الناس على ما آناهم الله من فضله.
وقيل: الحاسد إذا رأى نعمة بهت، وإذا رأى عثرة شمت.
وقيل: إذا أردتَ أن تسلم من الحاسد، فلبس عليه أمرك.
وقيل: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه.
وقيل:
إياك أن تتعنى في مودة من يحسدك، فإنه لا يقبل إحسانك وقيل. إذا أراد الله
تعالى أن يسلط على عبد عدواً لا يرحمه سلط عليه حاسده: وأنشدوا:
وحسبك من حادث بامري ... ترى حاسديه له راحمينا
وأنشدوا:
كلُّ العداوة قد ترجى إمانتها ... إلا عداوة من عاداك من حسد
وقال ابن المعتز:
قل للحسود إذا تنفس: طعنة ... يا ظالماً وكأنه مظلوم
وأنشدوا:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ ... طويت أتاح لها لسان حسود
ومن الأخلاق المذمومة للنفس: اعتياد الغيبة.
باب الغيبة
قال الله سبحانه: " ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً " الآية.
أخبرنا أبو سعيد محمد بن إبراهيم الإسماعيلي، قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل، قال: حدثنا علي بن الحسن قال: حدثنا إسحق بن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند، قال حدثنا محمد بن أبي حميد، عن موسى بن وردان، عن أبي هريرة: أن رجلاً قام، وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك جالس، فقال بعض القوم: ما أعجز فلاناً، فقال صلى الله عليه وسلم: " أكلتم أخاكم واغتبتموه " .
وأوحى الله، سبحانه، إلى موسى عليه السلام: " من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار " .
وقال عوف: دخلت على ابن سيرين، فتناولت الحجاج، فقال ابن سيرين: إن الله، تعالى، حكم عدل؛ فكما يأخذ من الحجاج يأخذ للحجاج، وإنك إذا لقيت الله عز وجلَّ غداً كان أصغر ذنب أصبته أشدَّ عليك من أعظم ذبن أصابه الحجَّاج.
وقيل: دعى إبراهيم بن أدهم إلى دعوة، فحضر، فذكروا رجلاً لم يأتهم، فقالوا: إنه ثقيل؟؟ فقال إبراهيم: إنما فعل بي هذا نفسي، حيث حضرت موضعاً يغتاب فيه الناس، فخرج، ولم يأكل ثلاثة أيام.
وقيل: مثل الذي يغتاب الناس، كمثل من نصب منجنيقاً، يرمي به حسناتِه شرقاً وغرباً؛ يغتاب واحداً خراسانياً، وآخر تركياً، فيفرق حسناته، ويقوم لا شيء معه؟؟ وقيل: يؤتى العبد يوم كتابه، فلا يرى فيه حسنة، فيقول: أين صلاتي، وصيامي، وطاعتي؟؟؟ فيقال: ذهب عملك كله.
وقيل: من اغتيب بغيبة غفر الله له نصف ذنوبه.
وقال سفيان بن الحسين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فنلت من إنسان.
فقال لي: هل غزوت في هذا العام الترك والروم؟ فقلت: لا.
فقال: سلم منك الترك والروم، وما سلم منك أخوك المسلم؟ وقيل: يعطى الرجل كتابه. فيرى فيه حسنات لم يعملها. فيقال له: ذا بما اغتابك الناس وأنت لم تشعر.
وسئل سفيان الثوري عن قوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يبغض أهل البيت اللحميين " . فقال: هم الذين يغتابون الناس: يأكلون لحومهم.
وذكرت الغيبة عند عبد الله بن المبارك، فقال: لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت والدي؛ لأنهما أحق بحسناتي: وقال يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تسره فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه: وقيل للحسن البصري: إن فلاناً اغتابك: فبعث إليه طبق حلواء وقال: بلغني أنك أهديت إلى حسناتك، فكافأتك: أخبرنا علي بن أحمد الأهوازي قال: أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال: أخبرنا أحمد بن عمرو القطوني قال: حدثنا سهل بن عثمان العسكري قال: حدثنا الربيع بن بدر، عن أبان، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له " .
سمعت حمزة بن يوسف السهمي يقول: سمعت أبا طاهر محمد بن أسيد الرقي يقول، سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول، قال الجنيد: كنت جالساً في مسجد الشونزية أنتظر جنازة أصلي عليها، وأهل بغداد، على طبقاتهم، جلوس ينتظرون الجنازة، فرأيت فقيراً عليه أثر النسك يسأل الناس، فقلت في نفسي؛ لو عمل هذا عملاً يصون به نفسه كان أجمل به.
فلما انصرفت إلى منزلي، وكان لي شيء من الورد بالليل، حتى البكاء والصلاة وغير ذلك، فثقل على جميع أورادي. فسهرت وأنا قاعد، فغلبتني عيناني.. فرأيت ذلك الفقير.. جاءو به على خوان ممدود. وقالوا لي: كل لحمه؛ فقد اغتبته!. وكشف لي عن الحال، فقلت: ما اغتبته! إنما قلت في نفسي شيئاً، فقيل لي:
ماأنت ممن يرضى منك
بمثله، إذهب فاستحله، فأصبحت ولم أزل أتردد حتى رأيته في موضع يلتقط من
الماء، عند تزايد الماء، أورانا من البقل ما تساقط من غسل البقل، فسلمت
عليه، فقال يا أبا القاسم، تعود؟ فقلت: لا.
فقال: غفر الله لنا ولك.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمى، رحمه الله، يقول: سمعت أبا طاهر الإسفرايني
يقول: سمعت أيا جعفر البلخي يقول: كان عندنا شابمن أهل بلخ، وكان يجتهد؛
ويتعبَّد؛ إلا أنه كان أبداً يغتاب الناس ويقول:فلان كذا، وفلان كذا،
وفلان كذا،.. فرأيته يوماً عند المخنثين الغسالين، خرج من عندهم.
فقلت:
يا فلان، ما حالك؟ فقال: تلك الوقيعة في الناس أوقعتني إلى هذا، ابتليتُ
بمخنث من هؤلاء، وأنا أخدمهم من أجله، وتلك الأحوال كلها ذهبت، فادع الله
أن يرحمني.
باب القناعة
قال الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أثنى وهو مؤمن فلنحييه حياة طيبة " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: حدَّثنا أبو عمرو محمد بن جعفر بن مطر، قال: حدثنا محمد بن موسى الحلواني، قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الغفاري، عن المنكدر بن محمد عن أبيه، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " القناعة كنزُ لا يفنى " .
أخبرنا أبو الحسن الأهوازي، قال: حدثنا أحمد بن عبيد البصري، قال: حدثنا عبد الله بن أيوب المقري قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني؛ قال: حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن أبي رجاء؛ عن برد بن سنان، عن مكحول، عن وائلة بن الأسقع؛ عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس؛ وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً وأحسن من جاورك تكن مسلماً، وأقل الضحك، فن كثرة الضحك تميت القلب " .
وقيل: الفقراء أموات، إلا من أحياه الله تعالى بعزَّ القناعة.
وقال بشر الحافي: القناعة: ملك لا يسكن إلا في قلب مؤمن.
سمعت محمد بن الحسين يقول سمعت عبد الله بن محمد الشعراني يقول: سمعت اسحق بن إبراهيم بن أبي حسان الأنماطي يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت أبا سليمان الداراني يقول: القناعة من الرضا بمنزلة الورع من الزهد، هذا أول الرضا وهذا أو الزُّهد.
وقيل القناعة: السكون عد عدم المألوفات.
وقال أبو بكر المراغي: العاقل من دبرَّ أمر الدنيا بالقناعة والتسويف وأمر الآخرة بالحرص والتعجيل، وأمر الدين بالعلم والاجتهاد.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: القناعة: ترك التشوف إلى المفقود، والاستغناء بالموجود.
وقيل في معنى قوله تعالى: " ليرزقنهم الله رزقاً حسناً " يعني: القناعة.
وقال محمد بن علي الترمذي: القناعةُ: رضا النفس بما قسم لها من الرزق.
ويقال: القناعة: الاكتفاء بالموجوج، وزوال الطمع فيما ليس بحاصل.
وقال وهب: إن العزَّ والغنى خرجاً يجولان، يطلبان رفيقاً؛ فلقيا القناعة، فاستقرَّا.
وقيل: من كانت قناعته سمينة طابت له كل مَرقه ومن رجع إلى الله تعالى على كل حال رزق الله القناعة.
وقيل: مر أبو حازم بقصاب معه لحم سمين، فقال: خذ يا أبا حازم فإنه سمين. فقال: ليس معي درهم.
فقال: أنا أنظرك. فقال: نفسي أحسن نظرة لي منك.
وقيل لبعضهم: من أقناع الناس؟ فقال: أكثرهم لناس معونة، وأقلهم عليهم مؤونة.
وفي الزبور: القانع غنى وإن كان جائعاً.
وقيل: وضع الله تعالى خمسة أشياء في خمسة مواضع: العز في الطاعة، والذل في المعصية، والهيبة في قيام الليل، والحكمة في البطن الخالي، والغنى في القناعة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت نصر ابن محمد يقول: سمعت سليمان بن أبي سليمان يقول: سمعت أبا القاسم بن أبي نزار يقول: سمعت إبراهيم المارستاني يقول: انتقم من حرّصك بالقناعة، كما تنتقم من عدوِّك بالقصاص.
وقال ذو النون المصري: من قنع استراح من أهل زمانه، واستطال على أقرنه.
وقيل: من قنع استراح من الشغل. واستطال على الكل.
وقال الكتاني: من باع الحرص بالقناعة ظفر بالعزِّ والمروءة.
وقيل: من تبعت عيناه ما في أيدي الناس طال حزنه.
وأنشدوا:
وأحسنُ بالفتى من يوما عار ... ينال به الغني كرم وجوع
وقيل: رأى رجل حكيماً يأكل ما تساقط من البقال على راس ماء فقال:
لو خدمت السلطان لم تحتج إلى أكل هذا.
فقال الحكيم: وأنت لو قنعت بهذا لم تحتج إلى خدمة السلطان.
وقيل: " العقاب عزيز في مطاره، لا يسمو إليه طرف صياج. ولا طعمه، فإذا طمع في جيفة علقت في حبالة، نزل من مطاره، فتعلق في حباله " .
وقيل: لما نطق موسى عليه السلام، بذكر الطمع فقال: " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " .
قال الخضر له: " هذا فراق بيني وبينك " .
وقيل:
لما قال ذلك موسى عليه السلام وقف بين يدي موسى والخضر، عليهما السلام ظبي
وكانا جائعين، الجانب الذي يلي موسى عليه السلام غير مشوي، والجانب الذي
يلي الخضر مشوي.
وقيل في قوله تعالى: " إن الأبرار لفي نعيم " : هو القناعة في الدنيا، " وإن الفجار لفي جحيم " ، هو: الحرص في الدنيا.
وقيل في قوله تعالى: " فكُّ رقبة " أي: فكرها من ذل الطمع.
وقيل
في قوله تعالى: " إنما يردي الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت " يعني:
البخل، والطمع. " ويطهركم تطهيراً " يعني: بالسخاء والايثار.
وقيل في قوله تعالى: " هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي " أي: مقاماً في القناعة انفرد به من أشكالي، وأكون راضياً فيه بقضائك.
وقيل في قوله تعالى: " لأعذبنه عذاباً شديداً " يعني: لآسلبنه القناعة، ولأبتلينه بالطمع، يعني: أسأل الله تعالى، أن يفعل به ذلك.
وقيل
لأبي يريد: بم وصلت إلى ما وصلت؟ فقال: جمعت أسباب الدنيا، فربطتها بحبل
القناعة، ووضعتها في منجنيق الصدق، ورميت بها في بحر اليأس فاسترحت.
سمعت
محمد بن عبد الله الصوفي يقول: سمعت محمد بن فرحان بسامرة يقول: سمعت خالي
عبد الوهاب يقول: كنت جالساً عند الجنيد، أيام التبسم، وحوله جماعة كثيرون
من العجم والمولدين.
فجاءه إنسان بخمسمائة دينار، ووضعها بين يديه، وقال: تفرِّقها على هؤلاء الفقراء.
فقال:
ألك غيرها؟ فقال نعم، لي دنانير كثيرة. فقال: أتريد غير ما تملك؟ فقال:
نعم: فقال له الجنيد، خذها، فإنك أحو إليها منَّا. ولم يقبلها.
باب التوكل
قال الله عز وجل: " ومن يتوكل على الله فهو حسيه " .
وقال: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " .
وقال: " وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " .
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر بن أحمد الأصبهاني قال: حدثنا يونسف بن حبيب بن عبد القاهر قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا بن سلمة، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش؛ عن عبد الله بن مسعود؛ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أريت الأمم بالموسم، فرأيت أمتي قد ملئوا السهل والجبل، فأعجبني كثرتهم وهيئتهم، فقيل لي: أرضيت؟ فقلت: نعم. قال: ومع هؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، لا يكتوون، ولا يتطيرون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون. فقام عكاشة بن محصن الأسدي، فقال: يا رسول الله، أدع أن يجعلني منهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ اجعله منهم.
فقال آخر، فقال: أدع الله أن يجعلني منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: " سبقك بها عكاشة " .
سمعت عبد الله بن يوسف الأصبهاني يقول: سمعت أبا نصر السراج يقول: سمعت أبا بكر الوجيهي يقول: قال أبو علي الروذباري قلت: لعمرو بن سنان: أحك عن سهل بن عبد الله حكاية،فقال إنه قال: علامة المتوكل ثلاث لا يسأل، ولا يرد، ولا يحبس.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله يقول: سمعت منصور ابن عبد الله يقول: سمعت أبا عبد الله الشرازي يقول: سمعت أبا موسى الديبلي يقول: قيل لأبي يزيد؛ ما التوكل؟ فقال لي: ما تقول أنت؟ فقلت: إن أصحابنا يقولون: لو أن السباع والأفاعي عن يمينك ويسارك ما تحرك لذلك سرك.
فقال أب يزيد: نعم؛ هذا قريب؛ ولكن لو أن أهل الجنة في الجنة ينتعمون وأهل النار في النار يعذبون: ثم وقع لك تمييز عليهما خرجت من جملة التوكل.
وقال سهل بن عبد الله: أول مقام في التوكل: نيكون العبد بين يدين الله عزَّ وجل كالميت بين يدي الغاسل، يقلبه كيف شاء؛ لا يكون له حركة ولا تدبير.
وقال حمدون: التوكل: هو الاعتصام بالله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول:سمعت أبا بكر محمد بن أحمد البلخي يقول: سمعت محمد بن حامد يقول: سمعت أحمد خضرويه يقول: قال رجل لحاتم الأصمَّ: من أين تأكل؟
فقال: " ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون " .
واعلن
أن التوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعدما
تحقق العبد أن التقدير من قبل الله تعالى؛ فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن
اتفق شيء فبتيسيره.
أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال: حدثنا أحمد بن
عبيد البصري قال: حدثنا غيلان بن عبد الصمد قال: حدثنا إسماعيل بن مسعود
الجحدري قال: حدثنا خالد بن يحيى قال: حدثنا عمي المغيرة بن أبي قرة، عن
أنس بن مالك قال: " جاء رجل على ناقة له، يا رسول الله، أدَعها وأتوكل؟.
فقال: اعقلها وتوكلَّ " .
وقال إبراهيم الخواص:من صحَّ توكله في نفسه، صحَّ توكله في غيره.
وقال بشر الجافي: يقول أحدهم: توكلت على الله، ويكذب على الله تعالى، لو توكلَّ على الله لرضي بما يفعله الله به.
وسئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلاً؟ فقال: إذا رضي بالله تعالى وكيلاً.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن علي بن
الحسين يقول: سمعت عبد الله بن محمد بن الصامت يقول: سمعت إبراهيم الخواص
يقول: بينما أنا أسير في البادية، وإذا بهاتف يهتف، فالتفت إليه، فإذا
أعرابي يسير فقال لي: يا إبراهيم: التوكل عندنا: أقم عندنا حتى يصح توكلك،
ألم تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة يحملك؟، إقطع رجاءك عن البلدان،
وتوكل.
وسمعته يقول سمعت محمد بن أحمد الفلاسي يقول: سمعت ابن عطاء،
وقد سئل عن حقيقة التوكل، فقال: أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب مع شدة
فاقتك إليها، ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق مع وقوفك عليها.
سمعت
أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: شرط التوكل ما قاله
أبو تراب النخشبي، وهو: طرح البدن في العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية،
والطمأنينة إلى الكفاية، فإن أعطى شكر وإن منع صبر.
وكما قال ذو النون:
التوكل: ترك تدبير النفس، والإنخلاع منالحول والقوة، وإنما يقوي العبد على
التوكل إذا علم أن الله سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
سمعت محمد بن
الحسين يقول: سمت أبا الفرج الورثاني يقول: سمعت أحمد بن محمد القرمسيني
يقول: سمعت الكتانيِّ يقول: سمعت أبا جعفر ابن أبيالفرج يقول: رأيت رجلاًُ
يعرف بجمل عائشة مع الشطار يضرب بالسياط، فقلت له: أيّ وقت يكون ألم الضرب
عليكم أسهل؟ فقال: إذا كان منُ ضربنا لأجله يرانا.
وسمعته يقول: سمعت
عبد الله بن محمد يقول: قال الحسين بن منصور لإبراهيم الخواص: ماذا صنعت
في هذه الأسفار، وقطع هذه المفوز؟ قال بقيت في التوكل أصحح نفسي عليه.
فقال الحسين: أفنيت عُمرك في عمران باطنك، فأين الفناء في التوحيد.
سمعت
أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر السرَّاج يقول: التوكل: ما قاله
أبو بكر الدقاق، وهو: رد العيش إلى يوم واحد، واسقاط همِّ غد.
قال: وهو: كما قال سهل بن عبد الله، التوكل: الاسترسال مع الله تعالى، على ما يريد.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد ابن جعفر بن
محمد يقول سمعت أبا بكر البرذعي يقول: سمعت أبا يعقوب النهرجوري يقول:
الوكل على الله تعالى بكمال الحقيقة، ما وقع لإبراهيم، عليه السلام، في
الوقت الذي قال لجبريل، عليه السلام: أما إليك فلا، لأنه غابت نفسه بالله
تعالى، فلم يرمع الله غير الله عزَّ وجلَّ.
وسمعت يقول: سمعت سعيد بن
أحمد بن محمد يقول سمعت محمد بن أحمد بن سهل يقول، سمعت سعيد بن عثمان
الخياط يقول، سمعت ذا النون المصري، وسال رجل فقال، ما التوكل. فقال: خلع
الأرباب وقطع الأسباب.
فقال السائل: زدني.
فقال: إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية.
وسمعته
يقول: سمعت عبد الله بن محمد المعلم يقول. سمعت عبد الله ابن المبارك
يقول: سمعت حمدون القصار، وسئل عن التوكل، فقال: إن كان لك عشرة آلاف
درهم، وعليك دانق دين، لم تأمن أن تموت ويبقى ذلك في عنقك، ولو كان عليك
عشرة آلاف درهم دين،ومن غير أن تترك لهاوفاء، لا تيأس من الله تعالى أن
يقضيه عنك.
وسئل أبو عبد الله القرشي عن التوكل فقال: التعلق بالله تعالى في كل حال.
فقال السائل: زدني. فقال: ترك كل سبب يوصّل إلى سبب حتى يكون الحق هو المتولىِّ لذلك.
وقال
سهل بن عبد الله: التوكل حال النبي صلى الله عليه وسلم، والكسبُّ سنته؛
فمن بقي على حاله، فلا يتركن سنتَّه: وقال أبو سعيد الخراز: التوكل:
اضطراب بلا سكون، وسكون بلا اضطراب.
وقيل: التوكل: أن يستوي عندك الإكثار والتقلل.
وقال ابن مسروق: التوكُّل: الاستسلام لجريان القضاء والأحكام.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت عبد الله الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الحيري
يقول: التوكل: الاكتفاء بالله، تعالى، مع الاعتماد عليه.
وسمعته: يقول: سمعت محمد بن غالب يحكي عن الحسين بن منصور قال: المتوكل المحق لا يأكل شيئاً وفي البلد من هو أحق به منه.
وسمعته
يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت منصور بن أحمد الحربي يقول حكي لنا
ابن أبي شيخ قال: سمعت عمر بن سنان يقول: اجتاز بنا إبراهيم الخواص، فقلنا
له: حدثنا بأجب ما رأيته في أسفارك، فقال: لقيني الخضر عليه السلام،
فسألني الصحبة، فخشيت أن يُفسد عليَّ توكلي بسكوني إليه. ففارقته.
وسئل سهل بن عبد الله عن التوكل، فقال: هو قلب عاش مع الله تعالى بلا علاقة.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقَّاق، رحمه الله، يقول: للمتوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض.
فالمتوكل يسكن إلى وعده، وصاحب التسليم يكتفي بعلمه وصاحب التفويض يرضي بحكمه.
وسمعته يقول: التوكل: بداية، والتسليم: واسطة، والتفويض نهاية.
وسئل الدقاق عن التوكل، فقال: الأكل بلا طمع.
وقال يحيى بن معاذ: لبس الصوف حانوت، والكلام في الزهد حرفة، وصحبة القوافل تعرض، وهذه كلها علاقات.
وجاء رجل إلى الشبلي يشكو إليه كثرة العيال، فقال: ارجع إلى بيتك، فمن ليس رزقه على الله، تعالى، فاطرده عنك.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت عبد الله بن علي
يقول: سمعت أحمد بن عطاء يقول: قرأت على محمد بن الحسين؛ قال سهل بن عبد
الله: من طعن في الحركة فقد طعن في السنة، ومن طعن في التوكل فقد طعن في
الإيمان.
وسمعته يقول: سمعت أحمد بن علي بن جعفر يقول: سمعت جعفراً
الخلدي يقول: قال إبراهيم الخواص: كنت في طريق مكة، فرأيت شخصاً وحشياً..
فقلت: جنى أم نسي؟ فقال: جنى. فقلت إلى أين؟ فقال: إلى مكة. فقلت: بلازاد؟
فقال. فينا أيضاً من يسفر على التوكل فقلت: إيش الوكل؟ فقال: الأخذ من
الله تعالى.
وسمته يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت الفرغاني
يقول: كان إبراهيم الخواص مجرداً في التوكل، يدقق فيه، وكان لا يفارقه
إبرة وخيوط وكورة. ومقراض فقيل له: يا أبا اسحاق، لم تحمل هذا وأنت تمتنع
من كل شيء؟ فقال: مثل هذا لا ينقض التوكل، لأن الله، سبحانه، علينا فرائض،
والفقير لا يكون عليه غلا ثوب واحد؛ فربَّما يتَّخرق ثوبه، فإن لم يكن معه
إبرة وخيوط تبدو عورته، فتفسد عليه صلاته، وإذا لم يكن معه ركوة تفسد عليه
طهارته، فإذا رأيتَ الفقير بلا ركوة ولا إبرة، ولا خيوط، فاتهمه في صلاته.
وسمعت
الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله؛ يقول: التوكل: صفة المؤمنين،
والتسليم: صفة الأولياء، والتفويض: صفة الموحدِّين، فالتوكل: صفة
العوامِّ، والتسليم: صفة الخواص: والتفويض صفة خواص الخواص.
وسمعته يقول؛ التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم عليه السلام، والتفويض: صفة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول سمعت محمد بن عبد
الله الفرغاني يقول: سمعت أبا جعفر الحدَّاد يقول: مكثت بضع عشرة سنة
أعتقد التوكل وأنا أعمل في السوق، وآخذ كل يوم أجرتي؛ ولا أنتفع منها
بشربة ماء، لا بدخلة حمام ولكن كنت أجيء بأجرتي إلى الفقراء في الشونزية
وأكون مستمراً على حالي.
وسمعته يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عبد الله
بن شاذان يقول: سمعت الخواصَّ يقول: سمعت الحسين أخا سنان يقول: حججت اربع
عشرة حجة، حافياً، على التوكل، فكان يدخل في رجلي شوكة فأذكر أني قد
اعتقدت على نفسي التوكل، فأحكها في الأرض وأمشي.
وسمعته يقول: سمعت
محمد بن عبد الله الواعظ يقول: سمعت خيراً لنساج يقول: سمعت أب حمزة يقول:
إني لأستحي من الله تعالى أن أدخل مادية وأنا شبعان، وقد اعتقدت التوكل،
لئلا يكون سعي على الشبع زاداً أتزود به.. وسئل حمدون التوكل. فقال:
تلك
درجة لم أبلغها بعد، وكيف يتكلم في التوكل من لم يصح له حال الإيمان؟
وقيل: المتوكل كالطفل، لا يعرف شيئاً يأوي إليه إلا ثدي أمه، كذلك المتوكل
لا يهتدي إلى إلى ربه تعالى.
وعن بعضهم قال؟ كنت في البادية فتقدمت
القافلة فرأيت قدامي واحداً. فتسارعت حتى أدركته، فإذا هي امرأة بيدها
عكاز، تمشي على التؤدة.. فظننت أنها أعيت، فأدخلت يدي في جيبي، فأخرجت
عشرين درهما، فقلت: خذيها وامكثي حتى تلحقك القافلة فتكتري بها. ثم ائتيني
الليلة حتى أصلح أمرك.
فقالت: بيدها هكذا في الهواء، فإذا في كفها دنانير، فقالت: أنت أخذت الدراهممن الجيب، وأنا أخذت الدنانير من الغيب.
ورأى
أبو سليمان الداراني رجلاً بمكة، لا يتناول شيئاً إلا شربة من ماء زمزم،
فمضى عليه أيام، فقال له سليمان يوماً: أرأيت لو غارت زمزم إيش كنت تشرب؟
فقام، وقبل رأسه، وقال: جزاك الله خيراً، حيث أرشدتني، فإني كنت أعبد زمزم
منذ أيام. ومضى.
وقال إبراهيم الخواص: رأيت في طريق الشام شاباً حدثاً،
حسن المراعاة، فقال لي: هل لك في الصحبة؟ فقلت: إني أجوع. فقال: إن جعتَ
جعت معك.
فبقينا أربعة أيام، ففتح علينا بشيء، فقلت: هلم. فقال: اعتقدت
أني لا آخذ بواسطة فقلت: يا غلام دققت. فقال: يا إبراهيم، لا تتبهرج، فإن
الناقد بصير، مالك والتوكل؟ ثم قال: أل التوكل: أن ترد عليك موارد الفاقات
فلا تسمو نفسك إلا إلى من إليه الكفايات.
وقيل: التوكل: نفي الشكوك، والتفويض إلى ملك الملوك.
وقيل:
دخل جماعة على الجنيد رحمه الله، فقالوا: أين نطلب الرزق؟ فقال:إن علمتم
في أي موضوع هو، فقالوا: ندخل البيت فنتوكل؟ فقال: التجربة شك.
قالوا: فما الحيلة؟ فقال: ترك الحيلة.
وقال
أبو سليمان الداراني لأحمد بن الحواري: يا أحمد، إن طرق الآخرة كثيرة،
وشيخك عارف بكثير منها إلا هذا التوكل المبارك، فإني ما شممت منه رائحة.
وقيل: التوكل: الثقة بما في يد الله تعالى، واليأس عما في أيدي الناس وقيل التوكل: فراغ السر عن التفكر في التقاضي في طلب الرزق.
وسئل
الحارث المحاسبي، رحمه الله، عن المتوكل: هل يلحقه طمع؟ فقال: يلحقه من
طريق الطباع خطرات، ولا تضره شيئاً، ويقويه على إسقاط الطمع اليأس مما في
أيدي الناس.
وقيل: جاع النوري في البادية، فهتف به هاتف: أيما أحبُّ إليك: سبب أو كفاية.
فقال: الكفاية ليس فوقها نهاية، فبقي سبعة عشر يوماً لم يأكل.
وقال أبو علي الروذباري: إذا قال الفقير بعد خمسة أيام: أنا جائع، فالزموه السوق، ومروه بالعمل والكسب.
وقيل: نظر أبو تراب النخشبي إلى صوفي مد يده إلى قشر بطيخ ليأكله بعد ثلاثة أيام.
فقال له: لا يصلح لك التصوف إلزم السوق.
وقال
أبو يعقوب الأقطع البصري: جعت مرة بالحرم عشرة أيام فوجدت ضعفاً. فحدثتني
نفسي، فخرجت إلى الوادي، لعلي أَجد شيئاً يسكن ضعفي.. فرأيت سلجمة
مطروحة.. فأخذتها.. فوجدت في قلبي منها وحشة. وكأن قائلاً يقول لي: جعت
عشرة أيام وآخره يكون حظك سلجمة متغيرة. فرميت بها ودخلت المسجد فقعدت،
فإذا أنا برجل أعجمي، جلس بين يدي ووضع قمطرة، وقال: هذه لك.
فقلت: كيف
خصصتني بها؟ فقال: أعلم أنا كنا في البحر منذ عشر أيام. وأشرفت السفينة
على الغرق:: فنذر كل واحد منا: إن خلصنا الله، تعالى، أن يتصدق بشيء،
ونذرت أنا: إن خلصني الله تعالى أن أتصدق بهذه على أول من يقع بصري عليه
من المجاورين وأنت أولُ من لقيته.
فقلت: افتحها ففتحها، فإذا فيها: كعك سميد مصري، ولوز مقشور، وسكر كعاب فقبضت قبضته من ذا، وقبضة من ذا، وقبضة من ذا.
وقلت ردَّ الباقي إلى صبيانك، هو هدية مني لكم، وقد قبلتها.
ثم قلت في نفسي: رزقك يسير إليك من عشرة أيام وأنت تطلبه من الوادي..
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول:
كنت عند ممشاد الدينوري، فجرى حيث الدَّين، فقال: كان علي دين. فاشتغل
قلبي. فرأيت في النوم كأن قائلاً يقول: يا بخيل، أخذت علينا هذا المقدار،
خذ؛ عليك الأخذ، وعلينا العطاء فما حاسبت بعد ذلك بقالاً، ولا قصاباً، ولا
غيرهم.
ويحكى عن بنان الحمال، قال: كنت في طريق مكة حرسها الله أجيء
من مصر، ومعي زاد، فجاءتني امرأة، وقالت لي: يا بنان، أنت حمال تحمل على
ظهرك الزاد، وتتوهم أنه لا يرزقك؟؟. قال فرميت بزادي. ثم أتي على ثلاث لم
آكل فوجدت خلخالا في الطريق.. فقلت في نفسي: أحمله حتى يجيء صاحبه، فربما
يعطيني شيئاً فأرده عليه فإذا أنا بتلك المرأة، فقالت لي: أنت تاجر؟؟
تقول: حتى يجيء صاحبه فآخذ منه شيئاً؟ ثم رمت إليه شيئاً من الدراهم،
وقالت: أنفقها فاكتفيت بها إلى قريب من مكة.
ويحكى عن بنان أنه أحتاج إلى جارية تخدمه، فانبسط إلى إخوانه فجمعوا له ثمنها، وقالوا: هو ذا، يجيء النفر فتشتري ما يوافقك.
فلما ورد النفر، اجتمع رأيهم على واحدة، وقالوا: إنها تصلح له.
فقالوا
لصاحبها: بكم هذه؟ فقال: إنها ليست للبيع: فالحوا عليه، فقال: إنها لبنان
الحمال، أهدتها إليه امرأة من سمرقند فحملت إلى بنان، وذكرت له القصة.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت محمد بن الحسين المخزومي يقول: حدثنا أحمد بن
محمد بن صالح قال: حدثنا محمد بن عبدون، قال: حدثنا الحسن الخياط قال: كنت
عند بشر الحافيِّ، فجاء نفر فسلموا عليه، فقال: من أين أنتم.
قالوا: نحن من الشام جئنا لنسلم عليك، ونريد الحج.
فقال:
شكر الله تعالى لكم فقالوا: تخرج معنا. فقال: بثلاث شرائط لا تحمل معنا
شيئاً، ولا نسأل أحدً شيئاً، وإن أعطانا أحد شيئاً لا نقبله؟ قالوا: أما
أن لا نحمل، فنعم. وأما أن لا نسأل، فنعم، وأما أن لا نقبل إن أعطينا،
فهذا لا نستطيعه.
فقال: خرجتم متوكلين على زاد الحجيج: ثم قال: يا حسن، الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل، وإن أعطى لا يأخذ، فذاك من جملة الروحانيين.
وفقير لا يسأل، وإن أعطي قبل، فذاك مما يوضع له موائد في حظائر القدس.
وفقير يسأل، وإن أعطي قبل قدر الكفاية، فكفارته صدقة.
وقيل لحبيب العجمي: لم تركت التجارة؟ فقال: وجدت الكفيل ثقة.
وقيل: كان في الزمن الأول رجل في سفر ومعه قرص، فقال: إن أكلت مت.
فوكل الله تعالى به ملكاً، وقال: إن أكله فارزقه، وإن لم يأكله فلا تطه غيره، فلم يزل القرص معه حتى مات، ولم يأكل، وبقي عنده القرص.
وقيل:
من وقع في ميدان التفويض يزف إليه المراد كما نزف العروس إلى أهلها،
والفرق بين التضييع والتفويض: أن التضييع في حق الله تعالى، وذلك
مذموم،والتفويض في حقك، وهو محمود.
وقال عبد الله بن المبارك: من أخذ فلساً من حرام. فليس بمتوكل.
سمعت
محمد بن عبد الله الصوفي، رحمه الله، يقول سمعت نصر بن أبي نصر العطار
يقول: سمعت علياً بن محمد المصري يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: دخلت
البادية مرة بغير زاد، فأصابتني فاقة، فرأيت المرحلة من بعيد، فسررت بأني
وصلت. ثم فكرت في نفسي: أني سكنت واتكلت على غيره، فآليت أن لا أدخل
المرحلة إلا أن أحمل إليها فحفرت لنفسي في الرمل حفرة. وداريت جسدي فيها
إلى صدري، فسمعوا صوتاً في نصف الليل عالياً يقول: يا أهل المرحلة، إن
الله تعالى ولياً، حبس نفسه في هذا الرمل؛ فألحقوه.
فجاءني جماعة فاخرجوني وحملوني إلى القرية.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت محمد بن الحسين
المخزومي يقول: سمعت ابن المالكي يقول: قال أبو حمزة الخراساني: حججت سنة
من السنين، فبينما أنا أمشي في الطريق، إذ وقعت في بئر فنازعتني نفسي أن
أستغيث، فقلت: لا والله، لا استغيث فما استتمت هذا الخاطر حتى مر برأس
البئر رجلان: فقال أحدهما للآخر: تعالي حتى نسد رأس هذه البئر، لئلا يقع
فيها أحد.. فأتوا: بصب وباربة، وطمو رأس البئر، فهممت أن أصيح ثم قلت في
نفسي: أصيح إلى من هو أقرب منهما!!. وسكنت، فبينما أنا بعد ساعة، إذ أنا
بشيء جاء.. وكشف عن رأس البئر، وأدلى رجله، وكأنه يقول لي: تعلق بي، في
همهمة له كنت أعرف ذلك منه، فتعلقت به.. فأخرجني، فإذا هو سبع، فمر. وهتف
بي هاتف: يا أبا حمزة، أليس هذا أحسن!! نجيناك من التلف بالتلف فمشيت وأنا
أقول:
أهابك أن أبدي إليك الذي أخفي ... وسري يبدي ما يقول له طرفي
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوي ... وأغنيتني بالفهم منك عن الكشف
وتلطف في أمري. فأبديت شاهدي ... إلى غائبي واللطف يدرك باللطف
اراك وبي من هيبتي لك وحشة ... فتؤنسني باللطف منك وبالعطف
وتحيي محباً أنت في الحب حتفه ... وذا عجب كون الحياة مع الحتف
سمعت محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا سعدان التاهرتي يقول: سمعت حذيفة المرعشي يقول: وكان قد خدم إبراهيم بن أدهم، وصحبه، فقيل له: ما أعجب ما رأيت منه؟ فقال: بقينا في طريق مكة أياماً لم نجد طعاماً، ثم دخلنا الكوفة، فأوينا إلى مسجد خراب، فنظر إلى إبراهيم بن أدهم، وقال: يا حذيفة، أرى بك أثر الجوع!! فقلت: هو ما رأة الشيخ. فقال عليَّ بدواة، وقرطاس.
فجئت به، فكتب: " بسم الله الرحمن الرحيم، أنت المقصود إليه بكل حال " ، والمشار إليه بكل معنى:
أنا حامد أنا شاكر أنا ذاكر ... أنا جائع أنا نائع أنا عاري
هي ستة وأنا الضمين لنصفها ... فكن الضمين لنصفها يا باري
مدحي لغيرك لهب نار خضتها ... فأجر عبيدك من دخول النار
والنار عندي كالسؤال فهل ترى ... أن لاتكلفني دخول النار
ثم دفع إلى الرقعة: قال: أخرج، ولا تعلق قلبك بغير الله تعالى، وادفع الرقعة إلى أول من يلقاك.
قال: فخرجت.. فأول من لقيني رجل كان على بغلة، فدفعتها إليه، فأخذها وبكى، وقال: ما فعل صاحب هذه الرقعة؟ فقلت: هو في المسجد الفلاني.
فدفع إلي صرة فيها ستمائة دينار.
ثم لقيت رجلاً آخر، فقلت له: من صاحب هذه البغلة؟ فقال لي: هو نصراني فجئت إلى إبراهيم بن أدهم، وأخبرته بالقصة، فقال: لا تمسها، فإنه يجيء الساعة.
فلما كان بعد ساعة، وافى النصراني؛ وأكب على رأس إبراهيم بن أدهم وأسلم.
باب الشكر
قال الله عز وجل: " لئن شكرتم لأزيدنكم " .
وحدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان الأهوازي قال: أخبرنا أبو الحسن الصفار، قال حدثنا الإسقاطي قال: حدثنا منجاب قال: حدثنا يحيى ابن يعلى، عن أبي خباب، عن عطاء، قال: دخلت على عائشة، رضي الله عنها، مع عبيد بن عمير، فقلت: أخبرينا بأعجب ما رأيت من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
فبكت، وقالت: وأي شأنه لم يكن عجباً؟..إنه أتاني في ليلة.. فدخل معى في فراشي، أو قالت: في لحافي: حتى مس جلدي، ثم قال: يا بنت أبي بكر، ذريني أتبعد لربيِّ.
قالت: قلت: إني أحب قربك فأذنت له فقام إلى قربة من ماء. فتوضأ وأكثر صب الماء.. ثم قام يصلي. فبكى، حتى سالت دموعه على صدره.. ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى. فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة.
فقلت له: يا رسول الله، ما يبكيك، وقدغفر الله لك ماتقدم من ذنبك وماتأخر؟! فقال: أفلا أكون عبداً شكوراً؟ ولم لا أفعل: وقد أنزل الله علي: " إن في خلق السموات والأرض. الآية " .
قال الأستاذ: حقيقة الشكر عند أهل التحقيق: الاعتراف بنعمة المنعم على وجه الخضوع، وعلى هذا القول: يوصف الحق سبحانه، بأنه: شكور، توسعاً ومعناه: أنه يجازي العباد على الشكر، فسمي جزاء الشكر شكراً؛ كما قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " .
وقيل: شكره تعالى: إعطاؤه الكثير من الثواب على العمل اليسير؛ من قولهم: دابة شكور: إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف.
ويحتمل أن يقال. حقيقة الشكر: الثناء على المحسن يذكر إحسانه فشكر العبد لله تعالى: ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه، وشكر الحق، سبحانه، للعبد: ثناؤه عليه بذكر إحسانه له، ثم إن إحسان العبد: طاعته لله تعالى، وإحسان الحق: إنعامه على العبد بالتوفيق للشكر له، وشكر نعبد على الحقيقة، إنما هو: نطق اللسن، وإقرار القلب بإنعام الرب، والشكر ينقسم إلى: شكر باللسان: وهو اعترافه بالنعم بنعت الاستكانة.
وشكر بالبدن والأركان: وهو اتصاف بالوفاء والخدمة.
وشكر بالقلب وهو اعتكاف على بساط الشهود بإدامة حفظ الحرمة.
ويقال: شكر هو شكر العالمين، يكون من جملة أقوالهم.
وشكر: هو شكر العارفين، يكون باستقامتهم له في عموم أحوالهم.
وقال أبو بكر الوراق: شكر النعمة مشاهدة المنة، وحفظ الحرمة.
قال حمدون القصار شكر النعمة: أ، ترى نفسك فيه طفيلياً.
وقال الجنيد: الشكر فيه علة، لأنه طالب لنفسه المزيد، فهو واقف مع الله، سبحانه، على حظ نفسه.
وقال أبو عثمان: الشكر: معرفة العجز عن الشكر.
ويقال:
الشكر على الشكر أتم من الشكر، وذلك بأن ترى شكرك بتوفيقه، ويكون ذلك
التوفيق من أجل النعم عليك، فتشكره على الشكر ثم تشكره على شكر الشكر، إلا
ما لا يتناهي.
وقيل: الشكر: إضافة النعم إلى موليها بنعت الاستكانة.
وقال الجنيد: الشكر: أن لا ترى نفسك أهلاً للنعمة.
وقال رويم: الشكر: استفراغ الطاقة.
وقيل: الشاكر: الذي يشكر على الموجود، والشكور: الذي يشكر على المفقود.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على الرفد، والشكور: الذي يشكر على الرد.
ويقال الشاكر: الذي يشكر على النفع، والشكور: الذي يشكر على المنع.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر على العطاء، والشكور: الذي يشكر على البلاء.
ويقال: الشاكر: الذي يشكر عند البذل، والشكور: الذي يشكر عند المطل.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت الأستاذ أبا سهل
الصعلوكي يقول: سمعت المرتعش يقول: سمعت الجنيد يقول: كنت بين يدي السريِّ
ألعب، وأنا ابن سبع سنين، وبين يديه جماعة يتكلمون في الشكر، فقال لي: يا
غلام، ما الشكر؟ فقلت: ألا تعصي الله بنعمة.
فقال: يوشك أن يكون حظك من الله لسانك.
قال الجنيد، رحمه الله، فلا أزال أبي على هذه الكلمة التي قالها السري.
وقال الشبلي: الشكر: رؤية المنعم، لا رؤية النعمة.
وقيل الشكر: قيد الموجود، وصيد المفقود.
وقال أبو عثمان: شكر العامة على المطعم والمبس، وشكر الخواص على ما يرد على قلوبهم من المعاني.
وقيل:
قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ وقيل:
قال داود، عليه السلام، إلهي، كيف أشكرك، وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى
الله إليه: الآن قد شكرتني.
وقيل: قال موسى عليه السلام في مناجاته:
إلهي، خلقت آدم بيدك، وفعلت.. وفعلت. فكيف شكرك؟ فقال: علم أن ذلك مني،
فكانت معرفته بذلك شكره لي.
وقيل: كان لبعضهم صديق، فحبسه السلطان،
فأرسل إليه، فقال له صاحبه: أشكر الله تعالى؛ فضرب الرجل؛ فكتب إليه،
فقال: اشكر الله تعالى، فجيء بمجوسي مبطون، وقيد، وجعلت حلقة من قيده على
رجل هذا، وحلقة على رجل المجوسي، فكان يقوم المجوسي بالليل مرات وهذا
يحتاج أن يقوم على رأسه حتى يفرغ، فكتب إلى صاحبه، فقال: أشكر الله تعالى،
فقال: إلى متى تقول، وأي بلاء فوق هذا؟ فقال له صاحبه: لو وضع الزنار الذي
في وسطه في وسطك، كما وُضع القيد الذي في رجله في رجلك، ماذا كنت تصنع؟
وقيل: دخل رجل على سهل بن عبد الله، فقال له: إن اللص دخل داري، وأخذ
متاعي!! فقال له أشكر الله تعالى، لو دخل اللص قلبك - وهو الشيطان - وأفسد
التوحيد، ماذا كنت تصنع! وقيل: شكر العينين: أن تستر عيباً تراه بصاحبك.
وشكر الأذنين: أن تستر عيباً تسمعه فيه.
وقيل: الشكر: التلذذ بثنائه على ما لم يستوجبه عن عطائه.
سمعت
السلمي يقول: سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت الحسن بن يحيى يقول: سمعت
جعفراً يقول سمعت الجنيد يقول: كان السري إذا أراد أن ينفعني يسألني؛ فقال
لي يوماً: يا أبا القاسم، ما الشكر! فقلت له: أن لا يستعان بشيء من نعم
الله، تعالى، على معاصية.
فقال: من أين لك هذا! فقلت: من مجالستك.
وقيل:
التزم الحسن بن علي الركن وقال: إلهي. نعمتني فلم تجدني شاكراً.!
وابتليتني فلم تجدني صابراً، فلا أنت سلبت النعمة بتركي الشكر ولا أدمت
الشدة بتركي الصبر. إلهي ما يكون من الكريم إلا الكرم.
وقيل: إذا قصرت يدك عن المكافة فليطل لسانك بالشكر.
وقيل: اربعة لا ثمرة لأعمالهم: مسارة الأصم، ووضاع النعمة عند من لا يشكر، والباذر في السبخة، والمسرج في الشمس.
وقيل:
لما بُشر إدريس، عليه السلام؛ بالمغفرة سأل الحياة، فقيل له فيه، فقال
لأشكره فإني كنت أعمل قبله للمغفرة، فبسط الملك جناحه وحمله عليه إلى
السماء.
وقيل، مر بعض الأنبياء عليهم السلام بحجر صغير يخرج منه
الماء الكثير، فتعجب منه، فانطقه الله معه، فقال: مذ سمعت الله، تعالى
يقول، " ناراً وقودها الناس والحجارة " وأنا أبكي من خوفه قال؛ فدعا ذلك
النبي أن يجير الله ذلك الحجر؛ فأوحي الله تعالى إليه أني قد أجرته من
النار، فمر ذلك النبي، فلما عاد وجد الماء يتفجر منه مثل ذلك؛ فعجب منه
فانطق الله ذلك الحجر معه، فقال له لم تبكي، وقد غفر الله لك؟ فقال: ذلك
كان بكاء الحزن والخوف، وهذا بكاء الشكر والسرور.
وقيل: قدم وفد على
عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وكان فيهم شاب. فأخذ يخطب، فقال عمر:
الكبر. الكبر. فقال له الشاب: يا أمير المؤمنين، لو كان الأمر بالسنِّ،
لكان في المسلمين من هو أسنُّ منك!!. فقال: تكلمَّ فقال: لسنا وفد الرغبة،
ولا وفد الرهبة. أما الرغبة فقد أوصلها إلينا فضلك وأما الرهبة فقد أمنتا
منها عدلك. فقال له: فمن أنتم؟ فقال: وقد الشكر، جئناك نشكرك ونتصرف.
وأنشدوا:
ومن الرزية أن شكري صامت ... عما فعلت وأن برك ناطق
أرى الصنيعة منك ثم أسرها ... إني إذن ليد الكريم لسارق
وقيل: أوحى الله تعالى لى موسى عليه السلام: أرحم عبادي: ألمبتلي، والمعافى.
فقال: ما بال المعافى؟ فقال: لقلة شكرهم على عافيتي إياهم.
وقيل: الحمد على الأنفاس، والشكر على نعم الحواس.
وقيل الحمد: ابتداء منه، والشكر: اقتداء منك.
وفي الخبر للصحيح: " لو من يدعى إلى الجنة الحامدون لله على كل حال " .
وقيل: الحمد: على ما دفع، والشكر: على ما صنع.
وحكي
عن بعضهم أنه قال: رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن،
فسألته عن حاله، فقال: إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي؛ وهي كذلك
كانت تهواني؛ فانفق أنها زوجت مني، فليلة زفافها قلنا: تعال: حتى تحيي هذه
الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة، ولم يتفرغ أحدنا
لصاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فمنذ سبعين؛ أو ثمانين سنة،
نحن على تلك الصفة كل ليلة: أليس كذلك يا فلانة، فقالت العجوز: كما يقول
الشيخ.
باب اليقين
قال الله تعالى: " والذين يؤمنون بما أنزل إليك، وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون " .
حدثنا الاستاذ الإمام أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمود بن خرزاذ الأهوازي بها قال: حدثنا أحمد بن سهل بن ايوب قال: حدثنا خالد، يعني ابن زيد قال. حدثنا سفيان الثوري، وشريك بن عبد الله وسفيان بن عيينة، عن سليمان التيمي، عن خيثمة، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا ترضين احداً بسخط الله تعالى، ولا تحمدن أحداً على فضل الله عز وجل، ولا تذمن أحداً على ما لم يؤتك الله تعالى، فإن رزق الله لا يسوقه غليك حرص حريص ولا يرده عنك كراهة كاره، وإن الله تعالى - بعدته وقسطه - ، جعل الروح والفرح في الرضا واليقين، وجعل الهم والحزن في الشك والسخط " .
أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي قال: حدثنا عياش بن حمزة قال: حدثنا أحمد بن أبي الحواري، قال: قال أبو عبد الله الأنطاكي: إن أقل اليقين إذا وصل إلى القلب يملأ القلب نوراً، وينفي عنه كل ريب، ويمتلىء القلب به شكراً، ومن الله تعالى خوفاً.
ويحكى عن أبي جعفر الحداد قال:رآني أبو تراب النخشبي، وأنا في البادية جالس على بركة ماء، ولي ستة عشر يوماً لم آكل ولم أشرب فقال لي: ما جلوسك؟ فقلت: أنا بين العلم والقين أنتظر ما يَغلب فأكون معه، يعني " إن غلب على العلم شربت، وإن غلب اليقين مررت " فقال لي: سيكون لك شأن.
وقال أبو عثمان الحيري اليقين: قلة الاهتمام لغد.
وقال سهل بن عبد الله: اليقين: من زيادة الإيمان ومن تحقيقه.
وقال سهل أيضاً: اليقين: شعبة من الإيمان، وهو دون التصديق.
وقال بعضهم: اليقين: هو العلم المستودع في القلوب. يشير هذا القائل إلى إنه غير مكتسب.
وقال سهل: ابتداء اليقين: المكاشفة، ولذلك قال بعض السلف: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً، ثم المعاينة والمشاهدة.
وقال أبو عبد الله بن خفيف: اليقين تحقق الأسرار بأحكام المغيبات.
وقال
أبو بكر بن طاهر: العلم: بمعارضة الشكوك، واليقين: لاشك فيه. أشار إلى
العلم السكبي وما يجري مجرى البديهي، وكذلك علوم القوم في الابتداء كسبى،
وفي الانتهاء بديهي.
سمعت محمد بن الحسين يقول: قال بعضهم: أول
المقامات. المعرفة، ثم اليقين، ثم التصديق، ثم الإخلاص، ثم الشهادة، ثم
الطاعة. والإيمان اسم يجمع هذا كله. أشار هذا القائل إلى أن أول الواجبات،
هو المعرفة الله سبحانه والمعرفة لا تحصل ألا بتقديم شرائطها.وهو النظر
الصائب، ثم إذا توالت الأدلة، وحصل البيان، صار بتوالي الأنوار، وحصول
الاستبصار، كالمستغني عن تأمل البرهان وهو حال اليقين، ثم تصديق الحق،
سبحانه، فيما أخبر عند إصغائه إلى إجابة الداعي فيما يخبر من أفعاله،
سبحانه في المستأنف؛ لأن التصديق إنما يكون في الإخبار، ثم الإخلاص فيما
يتعقبه من أداء الأوامر، ثم بعد ذلك إظهار الإجابة بجميل الشهادة، ثم اداء
الطاعات بالتوحيد فيما أمر به، والتجرد عما زجر عنه.
وإلى هذا المعنى أشار الإمام أبو بكر محمد بن فورك، فيما سمته، يقول ذكر اللسان فضيلة يفيض بها القلب.
وقال سهل بن عبد الله: حرام على قلب أن يشم رائحة اليقين وفيه سكون إلى غير الله تعالى.
وقال ذو النون المصري: اليقين داع إلى قصر الأمل، وقصر الأمل يدعو إلى الزهد، والزهد يورث الحكمة، والحكمة تورث النظر في العواقب.
وسمعت
محمد بن الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سمعت ذا
النون المصري يقول: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة المخالطة الناس في العشرة،
وترك المدح لهم في العطية، والتنزه عن ذمهم عند المنع.
وثلاثة من أعلام يقين اليقين: النظر إلى الله تعالى في كلِّ شيء، والرجوع إليه في كلِّ أمر ولا الاستعانة به في كل حال.
وقال الجنيد، رحمه الله اليقين: و استقرار العلم الذي لاينقلب ولايحول ولا يتغير في القلب.
وقال ابن عطاء: على قدر قربهم من التقوى أدركوا ما أدركوا من اليقين.
وأصل التقوى: مباينة النهي، ومباينة النهي مباينة النفس، فعلى قدر مفارقتهم النفس وصلوا إلى اليقين.
وقال بعضهم: اليقين: هو المكاشفة، والمكاشفة على ثلاثة أوجه: مكاشفة الإخبار،ومكاشفة بإظهار القدرة، ومكاشفة بحقائق الإيمان.
وأعلم
أن المكاشفة في كلامه، عبارة، عن ظهور الشيء للقلب بستيلاء ذكره من غير
بقاء للريب، وربما أرادوا بالمكاشفة ما يقرب مما يراه الرائي بين اليقظة
والنوم. وكثيراً ما يعبر هؤلاء عن هذه الحالة بالثبات.
سمعت الإمام أبا
بكر بن فورك يقول: سألت أبا عثمان المغربي، فقلت: ما هذا الذي تقول؟ قال
الأشخاص أراهم كذا.. وكذا، فقلت: تراهم معاينة أو مكاشفة؟ فقال: مكاشفة.
وقال امر بن عبد قيس: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً.
وقيل: اليقين: رؤية العيان بقوة الإيمان.
وقيل: اليقين: زوال المعارضات.
وقال الجنيد، رحمه الله، اليقين: ارتفاع الريب في مشهد الغيب.
سمعت
الأستاذ أبا علي الدقاق، يقول: في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في عيسى
ابن مريم عليه السلام: " لو ازداد يقيناً لمشيء في الهواء كما مشيت فيه " .
قال
رحمه الله: أنه أشار بهذا إلى حال نفسه، صلى الله عليه وسلم، ليلة
المعراج؛ لأن في الطائف المعراج أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: " رأيت
البراق قد بقي ومشيت " .
سمعت محمد الحسين، رحمه الله، يقول: سمعت أحمد
بن علي بن جعفر يقول: سمعت إبراهيم بن فانك يقول: سمعت الجنيد يقول: سمعت
السريَّ يقول، وقد سئل عن اليقين، فقال: اليقين: سكونك عند جولان الموارد
في صدرك، لتبينك أن حركتك فيها لا تنفك ولا ترد عنك مقضياً.
وسمعته
يقول: سمعت عبد الله بن علي يقول: سمعت أبا جعفر الأصبهاني يقول: سمعت علي
بن سهل يقول: الحضور أفضل من اليقين، لأن الحضور وطنات،واليقين خطرات.
كأنه
جعل اليقين ابتداء الحضور، والحضور دوام ذلك، فكأنه جوَّز حصول اليقين
خالياً من الحضور، وأحال جواز الحضور بلا يقين؛ ولهذا قال النوري: اليقين:
المشاهدة، يعني أن في المشاهدة يقيناً لا شك فيه؛ لأنه لا يشاهده، تعالى
من لايثق بما منه.
وقال أبو بكر الوراق: اليقين: ملاك القلب،وبه كمال الإيمان، وباليقين عرف الله تعالى، وبالفعل عقل عن الله تعالى.
وقال الجنيد: قد مشى رجال باليقين على الماء، ومات بالعطش أفضل منهم يقيناً.
سمعت
الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت الحسين بن يحيى يقول: سمعت جعفراً
يقول: قال إبراهيم الخواص: لقيت غلاماً في التيه، كأنه سبيكة فضة، فقلت:
إلى أين يا غلام؟ فقال: إلى مكة: فقلت: بلا زاد، ولا راحلة، ولا نفقة!
فقال لي: يا ضعيف اليقين، الذي يقدر على حفظ السموات والأرضين لا يقدر أن
يوصلني إلى مكة بلا علاقة قال: فلما دخلت مكة إذا أنا به في الطواف وهو
يقول:
يا عين سحى أبداً ... يا نفس موتي كمداً
ولا تحبي أحدً ... إلا الجليل الصمدا
فلما
رآني قال لي: يا شيخ، أنت بعد على ذلك الضعف من اليقين؟! وسمعته يقول سمعت
منصور بن عبد الله يقول: سمعت النهرجوري يقول: إذا استكمل العبد حقائق
اليقين صار البلاء عنده نعمة، والرخاء مصيبة.
وقال أبو بكر الوراق: القين على ثلاثة أوجه: يقين خبر، ويقين دلالة، ويقين مشاهدة.
وقال
أبو تراب النخشبي: رأيت غلاماً في البادية يمشي بلا زاد، فقلت: إن لم يكن
معه يقين فقد هلك. فقلت: يا غلام، في مثل هذا الموضع بلا زاد؟ فقال: يا
شيخ ارفع رأسك هل ترى غير الله عزَّ وجلَّ؟ فقلت: الآن إذهب حيث شئت.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا نصر الأصبهاني يقول: سمعت محمد بن عيسى
يقول: قال أبو سعيد الخراز: العلم ما استعملك، واليقين: ما حملك.
وسمعته
يقول: سمعت أبا بكر الرازيَّ يقول: سمعت أبا عثمان الآدمي يقول: سمعت
إبراهيم الخواص يقول: طلبت المعاش لأكل الحلال! فأصطدت السمك، فيوماً وقعت
في الشبكة سمكة، فأخرجتها، وطرحت الشبكة في الماء فوقعت أخرى فيها فرميت
بها ثم عدت، فهتف بي هاتف: لم تجد معاشاً إلا أن تأتي من يذكرنا
فتقتلهم..! قال: فكسرتُ القبصة، وتركت الاصطياد.
باب الصبر
قال الله، عزَّ وجلَّ: " واصبر وما صبرك إلا بالله " .
وأخبرنا عليُّ بن أحمد الأهوازي، قال: أخبرنا أحمدبن عبيد البصري، قال: حدثنا أحمد بن علي الخراز قال: حدثنا أسيد بن زيد قال: حدثنا مسعود بن سعد، عن الزيات، عن أبي هريرة، عن عائشة، رضي الله عنها، رفعته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الصبر عند الصدمة الأولى " .
وأخبرنا علي بن أحمد قال: أخبرنا بن عبيد قال: حدثنا أحمد بن عمر، قال: حدثنا محمد بن مرداس قال: حدثنا يوسف بن عطية، عن عطاء بن أبي ميمونة، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الصبر عند الصدمة الأولى " .
ثم الصبر على أقسام: صبر على ما هو كسب للعبد، وصبر على ما ليس بكسب له.
فالصبر على المكتسب، على قسمين: صبر على ما أمر الله تعالى به، وصبر على من نهى عنه.
وأما الصبر على ما ليس بمكتسب للعبد: فصبره على مقاساة ما يتصل به من حكم الله فيما يناله فيه مشقة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت السحين بن يحيى يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول: سمعت الجنيد يقول: المسير من الدنيا إلى الآخرة سهل هين على المؤمن، وهجران الخلق في جنب الله تعالى شديد، والمسير من النفس إلى الله تعالى صعب شديد، والصبر مع الله أشد.
وسئل الجنيد عن الصبر، فقال: هو تجرع المرارة من غير تعبيس.
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بنزلة الرأس في الجسد.
وقال أبو القاسم الحكيم: قوله تعالى: " واصبر " أمر بالعبادة، وقوله: " وما صبرك إلا بالله " عبودية، فمن ترقىَّ من درجة لك إلى درجة بك؛ فقد انتقل من درجة العبادة إلى درجة العبودية.
قال صلى الله عليه وسلم: " بك أحيا وبك أموت " .
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، يقول: سمت أبا جعفر الرازي يقول: سمعت عياشاً يقول: سمعت أحمد يقول: سألت أبا سليمان عن الصبر، فقال: والله ما نصبر على ما نحب، فكيف على ما نكره؟ وقال ذو النون: الصبر: التباعد عن المخالفات، والسكونُ عند تجرع قصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة.
وقال ابن عطاء: الصبر: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقيل: هو الفناء في البلوى بلا ظهور شكوى.
وقال أبو عثمان: الصبار: الذي عوَّد نفسه الهجوم على المكاره.
وقيل: الصبر: المقام مع البلاء بحسن الصحية، كالمقام مع العافية.
وقال
أبو عثمان: أحسن الجزاء على عبادة: الجزاء على الصبر، ولا جزاء فوقه، قال
الله عزَّ وجلَّ: " ولنجزين الذين صبرواأجرهم بأحسن ما كانون يعملون " .
وقال عمرو بن عثمان: الصبر. هو الثبات مع الله سبحانه وتعالى، وتلقي بلائه بالرحب والدعة.
وقال الخوَّاص: هو الثبات على أحكام الكتاب والسنة.
وقال يحيى بن معاذ: صبر المحبين أشدُّ من صبر الزاهدين، واعجباً، كيف يصبرون؟ وأنشدوا:
الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلا عليك فإنه لايحمد
وقال رويم: الصبر: ترك الشكوى.
وقال ذون النون: الصبر: هو الاستعانة بالله تعالى.
سمعت الأستاذ أبا عليِّ الدقاق، رحمه الله، يقول: الصبر كأسمه.
وأنشدني الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، قال: أنشدني أبو بكر الرازي قال: أنشدني ابن عطاء لنفسه:
سأصبر، كي ترضى، وأتلف حسرة ... وحسبي أن ترضى ويتلفني صبري
وقال أبو عبد الله بن خفيف: الصبر على ثلاثة أقسام، متصبر، وصابر،وصبار.
وقال عليُّ بن أبي طالب، رضي الله عنه: الصبر مطية لا تكبو.
سمعت
محمد بن الحسين يقول: سمعت علي بن عبد الله البصري يقول: وقف رجل على
الشبليَّ فقال: أي صبر أشد على الصابرين؟ فقال: الصبر في الله عزَّ وجلَّ،
فقال: لا، فقال: الصبر لله، قال: لا. قال: الصبر مع الله، قال: لا. قال:
فاي شيء؟ قال: الصبر عن الله.
قال: فصرخ الشبلي صرخة طادت روحه أن تتلف.
وسمعته
يقول: سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا محمد الجريري يقول:
الصبر: أن لايفرق بين حال النعمة والمحنة، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبر:
هو السكون، مع البلاء مع وجدان أثقال المحنة.
وأنشد بعضهم:
صبرت ولم أطلع هواك على صبري ... وأخفيت ما بي منك عن موضع الصبر
مخافة أن يشكو ضميري صبابتي ... إلى دمعتي سرَّاً فتجري ولا أدري
سمت
الأستاذ أبا علي الدقاق، رحمه الله، يقول: فاز الصابرون بعزِّ الدارين؛
لأنهم نالوا من الله تعالى معيته: قال الله تعالى: " إن الله مع الصابرين
" .
وقيل في معنى قوله تعالى: " اصبروا وصابروا ورابطوا " الصبر: دون المصابرة، والمصابرة: دون المرابطة.
وقيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله تعالى، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله، ورابطوا بأسراركم على الشوق إلى الله.
وقيل: أصبروا في الله، وصابروا بالله، ورابطوا مع الله.
وقيل: أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: تخلق بأخلاقي، وإنَّ من أخلاقي أنني أنا الصبور.
قويل: يجرَّع الصبر، فإن قتلك قتلك شهيداً، وإن أحياك أحياك عزيزاً.
وقيل: الصبر لله: عناء، والصبر بالله: بقاء، والصبر في الله: بلاء. والصبر مع الله وفاء، والصبر عن الله: جفاء.
وأنشدوا:
والصبر عنك فمذموم عواقبه ... والصبر في سائر الأشياء محمود
وأنشدوا:
وكيف الصبر عمن حل منى ... بمنزلة اليمين من الشمال
إذا لعب الرجال بكلِّ شيء ... رأيت الحب يلعب بالرجال
وقيل: الصبر على الطلب عنوان الظفر، والصبر في المحن علامة الفرج.
سمعت
منصور بن خلف المغربي، رحمه الله، يقول: جُرِّد واحد للسياط، فلما ردَّ
إلى السجن دعا ببعض أصحابه فتفل على يده، وألقى من فمه دقاق الفضة على يده
فسئل، فقال: كان في فمي درهمان، وكان على حاشية الحلقة لي عين، فلم أرد أن
أصيح لرؤيته إياي.. فكنت أعض على الدرهمين.. فتكسروا في فمي.
وقيل: حالك التي أنت فيها رباطك، وما دون الله تعالى أعداؤك، فأحسن المرابطة في رباط حالك.
وقيل:
المصابرة: هي الصبر على الصبر، حتى يستغرق الصبر في الصبر فيعجز الصبر عن
الصبر، كما قيل: صابر الصبر فاستغاث به فصاح المحب بالصبر صبراً وقيل: حبس
الشبلي وقتاً في المارستان، فدخل عليه جماعة؛ فقال: من أنتم؟ فقالوا:
أحباؤك جاءوك زائرين.
فأخذ يرميهم بالحجر، وأخذوا يهربون.
فقال: يا كذابون، لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي.
وفي بعض الأخبار. بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي.
وقال الله تعلى: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .
وقال
بعضهم: كنت بمكة.. فرأيت فقيراً طاف بالبيت، وأخرج من جيبه رقعة، ونظر
فيها، ومر، فلما كان بالغد، فعل مثل ذلك، فترقبته أياماً وهو يفعل مثل
ذلك، فيوماً من الأيام طاف ونظر في الرقعة، وتباعد قليلا، وسقط ميتاً،
فأخرجت الرقعة من جيبه، فإذا فيها: " واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا " .
وقيل:
رؤي حدث يضرب وجه شيخ بنعله، فقيل له: ألا تستحي!؟ تضرب حر وجه شيخ بمثل
هذا؟: فقيل: جرمه عظيم. فقيل: وما ذاك؟ فقال: هذا الشيخ يدّعي أنه يهواني،
ومنذ ثلاث ما رآني.
وقال بعضهم: دخلت بلاد الهند، فرأيت رجلا بفرد
عينيسمى فلانا الصبور فسألت عن حاله، فقيل: هذا في عنفوان شبابه سافر صديق
له، فخرج في وداعه، فدمعت إحدى عينيه ولم تبك الأخرى، فقال لعينه التي لم
تدمع: لِمَ لم تدمعي على فراق صاحبي؟ لأحرمنك النظر إلى الدنيا وغمض عينه،
فمنذ ستين سنة لم يفتح عينه.
وقيل في قوله تعلى: " فاصبر صبراً جميلا " : الصبر الجميل: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يدري من هو.
وقال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لو كان الصبر والشكر بعيرين، لم أبال أيهما ركبت.
وكان ابن شبرمة، رحمه الله، إذا نزل به بلاء قال:سحابة ثم تنقشع.
وفي الخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
أبرنا
الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن
طاهر الصوفي قال: حدثنا محمد بن التيجاني قال: حدثنا محمد أبن إسماعيل
البخاري قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدَّثنا سويد بن حاتم قال:حدثنا
عبد الله بن عبيد، عن عمير، عن أبيه، عن جده، قال: سئل رسول الله صلى الله
عليه وسلم عن الإيمان، فقال: " الصبر والسماحة " .
وسئل السري عن الصبر، فجعل يتكلم فيه، فدب على رجله عقرب، وهي تضربه بابرتها ضربات كثيرة، وهو ساكن: فقيل له: لِمَ لم تنحها؟.
فقال: استحييت من الله تعالى أن أتكلم في الصبر، ولم أصبر.
وفي بعض الأخبار: الفقراء الصبر هم جلساء الله تعالى يوم القيامة.
وأوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: أنزلت بعبي بلائي، فدعاني، فماطلته بالإجابة، فشكاني، فقلت: يا عبدي، كيف أرحمك من شيء به أرحمك.
وقال ابن عيينة في معنى قوله تعالى: " وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا " ،قال: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رؤساء.
سمعت
الأستاذ أبا عليٍّ الدقاق يقول: أن الصبر حده أن لا تعترض على التقدير؛
فأما إظهار البلاء على غير وجه الشكوى فلا ينافي الصبر، قال الله تعالى في
قصة أيوب: " إنا وجدناه صابراً نعم العبد إنه أوًّاب " مع ما أخبر عنه
تعالى أنه قال " مسنى الضر " .
وسمعته يقول: استخرج الله منه هذه المقالة: يعني قوله: " مسني الضر " ؛ لتكون متنفسا لضعفاء هذه الأمة.
وقال
بعضهم: إنا وجدناه صابراً، ولم يقل صبوراً لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر،
بل كان في بعض أحواله يستلذ البلاء، ويستعذبه، فلم يكفني حال الاستلذاذ
صابراً؛ فلذلك لم يقل: صبوراً.
سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول:
حقيقة الصبر: الخروج من البلاء على حسب الدخول فيه، مثل أيوب عليه السلام
فإنه قال في آخر بلائه: " مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " فحفظ أدب الخطاب
حيث عرض يقول: " وأنت أرحم الراحمين " ولم يصرح بقوله ارحمني.
واعلم أن الصبر على ضربين: صبر العابدين، وصبر المحبين.
فصبر العابدين، أحسنه: أن يكون محفوظاً، وصبر المحبين أحسنه: أن يكون مرفوضاً. وفي معناه أنشدوا:
تبين يوم البين أن اعتزامه ... على الصبر من إحدى الظنون الكواذب
وفي
هذا المعنى سمعت الأستاذ أبا علي، رحمه الله، يقول: أصبح يعقوب، عليه
السلام، وقد وعد الصبر من نفسه فقال: " فصبر جميل أي: فشأني صبر جميل، ثم
لم يمس حتى قال: يا أسفاً على يوسف " .
باب المراقبة
قال الله تعالى: " وكان الله على كل شيء رقيباً " .
أخبرنا
أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن اسحق، قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب
بن اسحق، قال: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم، قال: حدثنا خالد بن يزيد قال:
حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم؛ عن جرير بن عبد الله
البجلي، قال: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل،
فقال: يا محمد، ما الايمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته " وكتبه، ورسله،
والقدر: خيره وشره، وحلوه ومره. قال: صدقت. قال: فتعجبنا من تصديقه النبي
صلى الله عليه وسلم وهو يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني ما الاسلام؟ قال:
الاسلام أن تقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت. قال:
صدقت. قال فأخبرني ما الاحسان؟ قال: الاحسان: " أن تعبد الله كأنك تراه
فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال صدقت.. " الحديث.
قال الشيخ: هذا الذي
قاله صلى الله عليه وسلم: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى حال
المراقبة، لأن المراقبة، علم العبد باطلاع الرب سبحانه عليه، فاستدامته
لهذا العلم مراقبة لربه، وهذا أصل كل خير له.ولا يكاد يصل إلى هذه المرتبة
إلا بعد فراغه من المحاسبة، فإذا حاسب نفسه على ما سلف له، وأصلح حاله في
الوقت، ولازم طريق الحق، وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب، وحفظ
مع الله تعالى الأنفاس، وراقب الله تعالى في عموم أحواله، فيعلم أنه
سبحانه؛ عليه رقيب، ومن قلبه قرب، يعلم أحواله، ويرى أفعاله، ويسمع
أقواله، ومن تغفل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة، فكيف عن حقائق
القربة.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا
بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى
التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة.
سمعت الأستاذ أبا علي
الدقاق. رحمه الله، يقول: كان لبعض الأمراء وزير، وكان بين يديه يوماً،
فالتفت إلى بعض الغلمان الذين كانوا وقوفاً، لا لريبة، ولكن لحركة أو صوت
أحس به منهم، فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف
الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم، فجعل ينظر إليه كذلك، فبعد ذلك
اليوم كان هذا الوزير يدخل على هذا الأمير، وهو أبداً ينظر إلى جانب، حتى
توهم الأمير أن ذلك خلقه؛ وحول فيه. فهذه مراقبة مخلوق لمخلوف، فكيف
مراقبة العبد لسيده؟ سمعت بعض الفقراء يقول: كان أمير له غلام يقبل عليه
أكثر من إقباله على غيره من غلمانه؛ ولم يكن أكثرهم قيمة، ولا أحسنهم
صورة، فقالوا له في ذلك، فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة
على غيره. فيوماً من الأيام كان راكباً، ومعه الحشم، وبالبعد منهم جبل
عليه ثلج، فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق رأسه، فركض الغلام فرسه، ولم
يعلم القوم لماذا ركض!. فلم يلبث إلا يسيراً حتى جاء ومعه شيء من الثلج.
فقال له الأمير: ما أدراك أني أردت الثلج؟ فقال الغلام: لأنك نظرت إليه،
ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غيره قصد صحصح فقال الأمير: إنما أخصه
بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلاً، وشغله مراعاة لحظائي، ومراقبة أحوالي.
وقال بعضهم: من راقب الله تعالى في خواطره، عصمه الله في جوارحه.
وسئل أبو الحسين بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيباً.
وقيل:
كان ابن عمر؛ رضي الله عنه، في سفر، فرأى غلاماً يرعى غنماً، فقال له:
تبيع من هذه الغنم واحدة؟ فقال: إنها ليست لي فقال: قل لصاحبها إن الذئب
أخذ منها واحدة، فقال العبد: فأين الله!! فكان ابن عمر يقول بعد ذلك إلى
مدة: قال ذلك العبد: فأين الله.
وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف فوت حظه من ربه عز وجلا لا غير.
وكان
بعض المشايخ له تلامذة.. فكان يخص واحداً منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل
على غيره، فقالوا له في ذلك، فقال: أين لكن ذلك.. فدفع إلى كل واحد من
تلامذته طائراً، وقال له: إذبحه بحيث لا يراه أحد، ودفع إلى هذا أيضا،
فمضوا.. ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طائره، وجاء هذا بالطائر حياً فقال:
هلا ذبحته؟ فقال: أمرتني أن اذبحه بحيث لا يراه أحد، فقال: لهذا أخصه
بإقبالي عليه.
وقال ذو النون المصري: علامة المراقبة: إيثار ما آثر الله تعالى، وتعظيم ما عظم الله تعالى، وتصغير ما صغر الله تعالى.
سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول: سألت جعفر بن نصير عن المراقبة، فقال: مراعاة السر، لملاحظة نظر الحق سبحانه مع كل خطرة.
وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى، ويكون العلم على ظاهرك قائماً.
وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البغدادي يقول: سمعت المرتعش يقول: المراقبة: مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة.
وسئل ابن عطاء: ما أفضل الطاعات؟ فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات.
وقال إبراهيم الخواص: المراعاة تورث المراقبة، والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى.
سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، رحمه الله، يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة: المحاسبة، والمراقبة، وسياسة عمله بالعلم.
وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول سمعت أبا عثمان: يقول: قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظاً لقلبك ولنفسك،ولا يغرنك إجتماعهم عليك، فنهم يراقبون ظاهرك، والله يراقب باطنك.
وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعتأبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: قال لي بعض مشايخي عليك بمراعاة سرك والمراقبة. قال: فبينا أنا يوماً أسير في البادية، إذ أنا بخشخشة خلفي، فهالني ذلك.. وأردت أن ألتفت فلم ألتفت.. فرأيت شيئاً واقفاً على كتفي.. فانصرف، وأنا مراع لسري.. ثم التفت، فإذا أنا بسبع عظيم.
وقال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات. وهو: أن لا يطالع العبد غير حده، ولا يراقب غير ربه، ولا يقارن غير وقته.
انتهى الجزء الأول ويليه الجزء الثاني وأوله باب الرضا.