كتاب : الاقتصاد في الاعتقاد
المؤلف : أبو حامد الغزالي
اعلم أن للفرق في هذا مبالغات وتعصبات، فربما انتهى بعض الطوائف إلى
تكفير كل فرقة سوى الفرقة التي يعزى إليها، فإذا أردت أن تعرف سبيل الحق
فيه فاعلم قبل كل شيء أن هذه مسألة فقهية، أعني الحكم بتكفير من قال قولاً
وتعاطى فعلاً، فإنها تارة تكون معلومة بأدلة سمعية وتارة تكون مظنونة
بالاجتهاد، ولا مجال لدليل العقل فيها البتة، ولا يمكن تفهيم هذا إلا بعد
تفهيم قولنا: إن هذا الشخص كافر والكشف عن معناه، وذلك يرجع إلى الإخبار
عن مستقره في الدار الآخرة وأنه في النار على التأبيد، وعن حكمه في الدنيا
وأنه لا يجب القصاص بقتله ولا يمكن من نكاح مسلمة ولا عصمة لدمه وماله،
إلى غير ذلك من الأحكام، وفيه أيضاً إخبار عن قول صادر منه وهو كذب، أو
اعتقاد وهو جهل، ويجوز أن يعرف بأدلة العقل كون القول كذباً وكون الاعتقاد
جهلاً، ولكن كون هذا الكذب والجهل موجباً للتكفير أمر آخر، ومعناه كونه
مسلطاً على سفك دمه وأخذ أمواله، ومعنى كونه مسلطاً على سفك دمه وأخذ
أمواله ومبيحاً لإطلاق القول بأنه مخلد في النار؛ وهذه الأمور شرعية ويجوز
عندنا أن يرد الشرع بأن الكذاب أو الجاهل أو المكذب مخلد في الجنة وغير
مكترث بكفره، وإن ماله ودمه معصوم ويجوز أن يرد بالعكس أيضاً نعم ليس يجور
أن يرد بأن الكذب صدق وأن الجهل علم، وذلك ليس هو المطلوب بهذه المسألة بل
المطلوب أن هذا الجهل والكذب هل جعله الشرع سبباً لإبطال عصمته والحكم
بأنه مخلد في النار ؟ وهو كنظرنا في أن الصبي إذا تكلم بكلمتي الشهادة فهو
كافر بعد أو مسلم ؟ أي هذا اللفظ الذي صدر منه وهو صدق، والاعتقاد الذي
وجد في قلبه وهو حق، هل جعله الشرع سبباً لعصمة دمه وماله أم لا ؟ وهذا
إلى الشرع. فأما وصف قوله بأنه كذب أو اعتقاده بأنه جهل، فليس إلى الشرع،
فإذاً معرفة الكذب والجهل يجوز أن يكون عقلياً وأما معرفة كونه كافر أو
مسلماً فليس إلا شرعياً، بل هو كنظرنا في الفقه في أن هذا الشخص رقيق أو
حر، ومعناه أن السبب الذي جرى هل نصبه الشرع مبطلاً لشهادته وولايته
ومزيلاً لأملاكه ومسقطاً للقصاص عن سيده المستولي عليه، إذا قتله، فيكون
كل ذلك طلباً لأحكام شرعية لا يطلب دليلها إلا من الشرع. ويجوز الفتوى في
ذلك بالقطع مرة وبالظن والاجتهاد أخرى، فإذا تقرر هذا الأصل فقد قررنا في
أصول الفقه وفروعه أن كل حكم شرعي يدعيه مدع فإما أن يعرفه بأصل من أصول
الشرع من إجماع أو نقل أو بقياس على أصل، وكذلك كون الشخص كافراً إما أن
يدرك بأصل أو بقياس على ذلك الأصل، والأصل المقطوع به أن كل من كذب محمداً
صلى الله عليه وسلم فهو كافر أي مخلد في النار بعد الموت، ومستباح الدم
والمال في الحياة، إلى جملة الأحكام. إلا أن التكذيب على مراتب.
الرتبة
الأولى: تكذيب اليهود والنصارى وأهل الملل كلهم من المجوس وعبدة الأوثان
وغيرهم، فتكفيرهم منصوص عليه في الكتاب ومجمع عليه بين الأمة، وهو الأصل
وما عداه كالملحق به.
الرتبة الثانية: تكذيب البراهمة المنكرين لأصل
النبوات، والدهرية المنكرين لصانع العالم. وهذا ملحق بالمنصوص بطريق
الأولى، لأن هؤلاء كذبوه وكذبوا غيره من الأنبياء، أعني البراهمة، فكانوا
بالتكفير أولى من النصارى واليهود، والدهرية أولى بالتكفير من البراهمة
لأنهم أضافوا إلى تكذيب الأنبياء إنكار المرسل ومن ضرورة إنكار النبوة،
ويلتحق بهذه الرتبة كل من قال قولاً لا تثبت النبوة في أصلها أو نبوة
نبينا محمد على الخصوص إلا بعد بطلان قوله.
الرتبة الثالثة: الذين
يصدقون بالصانع والنبوة ويصدقون النبي، ولكن يعتقدون أموراً تخالف نصوص
الشرع ولكن يقولون أن النبي محق، وما قصد بما ذكره إلا صلاح الخلق ولكن لم
يقدر على التصريح بالحق لكلال أفهام الخلق عن دركه، وهؤلاء هم الفلاسفة.
ويجب القطع بتكفيرهم في ثلاثة مسائل وهي: إنكارهم لحشر الأجساد والتعذيب
بالنار، والتنعيم في الجنة بالحور بالعين والمأكول والمشروب والملبوس.
والأخرى: قولهم إن الله لا يعلم الجزئيات وتفصيل الحوادث وإنما يعلم
الكليات، وإنما الجزئيات تعلمها الملائكة السماوية. والثالثة: قولهم إن
العالم قديم وإن الله تعالى متقدم على العالم بالرتبة مثل تقدم العلة على
المعلول، وإلا فلم تر في الوجود إلا متساويين. وهؤلاء إذا أوردوا عليهم
آيات القرآن زعموا أن اللذات العقلية تقصر الأفهام عن دركها، فمثل لهم ذلك
باللذات الحسية وهذا كفر صريح، والقول به إبطال لفائدة الشرائع وسد لباب
الاهتداء بنور القرآن واستبعاد للرشد من قول الرسل، فإنه إذا جاز عليهم
الكذب لأجل المصالح بطلت الثقة بأقوالهم فما من قول يصدر عنهم إلا ويتصور
أن يكون كذباً، وإنما قالوا ذلك لمصلحة. فإن قيل: فلم قلتم مع ذلك بأنهم
كفرة ؟ قلنا لأنه عرف قطعاً من الشرع أن من كذب رسول الله فهو كافر وهؤلاء
مكذبون ثم معالمون للكذب بمعاذير فاسدة وذلك لا يخرج الكلام عن كونه كذباً.
الرتبة
الرابعة: المعتزلة والمشبهة والفرق كلها سوى الفلاسفة، وهم الذين يصدقون
ولا يجوزون الكذب لمصلحة وغير مصلحة، ولا يشتغلون بالتعليل لمصلحة الكذب
بل بالتأويل ولكنهم مخطئون في التأويل، فهؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد.
والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً.
فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله
إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من
الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد
عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وهذه الفرق منقسمون إلى مسرفين
وغلاة، وإلى مقتصدين بالإضافة إليهم، ثم المجتهد يرى تكفيرهم وقد يكون ظنه
في بعض المسائل وعلى بعض الفرق أظهر. وتفصيل آحاد تلك المسائل يطول ثم
يثير الفتن والأحقاد، فإن أكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع
تكفير المكذب للرسول، وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلاً ولم يثبت لنا أن الخطأ في
التأويل موجب للتكفير، فلا بد من دليل عليه، وثبت أن العصمة مستفادة من
قول لا إله إلا الله قطعاً، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع. وهذا القدر كاف في
التنبيه على أن إسراف من بالغ في التكفير ليس عن برهان فإن البرهان إما
أصل أو قياس على أصل، والأصل هو التكذيب الصريح ومن ليس بمكذب فليس في
معنى الكذب أصلاً فيبقى تحت عموم العصمة بكلمة الشهادة.
الرتبة الخامسة: من ترك التكذيب الصريح ولكن ينكر أصلاً من أصول الشرعيات المعلومة بالتواتر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كقول القائل: الصلوات الخمس غير واجبة، فإذا قرئ عليه القرآن والأخبار قال: لست أعلم صدر هذا من رسول الله، فلعله غلط وتحريف. وكمن يقول: أنا معترف بوجوب الحج ولكن لا أدري أين مكة وأين الكعبة، ولا أدري أن البلد الذي تستقبله الناس ويحجونه هل هي البلد التي حجها النبي عليه السلام ووصفها القرآن. فهذا أيضاً ينبغي أن يحكم بكفره لأنه مكذب ولكنه محترز عن التصريح، وإلا فالمتواترات تشترك في دركها العوام والخواص وليس بطلان ما يقوله كبطلان مذهب المعتزلة فإن ذلك يختص لدركه اؤلوا البصائر من النظار إلا أن يكون هذا الشخص قريب العهد بالاسلام ولم يتواتر عنده بعد هذه الأمور فيمهله إلى أن يتواتر عنده، ولسنا نكفره لأنه أنكر أمراً معلوماً بالتواتر، وإنه لو أنكر غزوة من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم المتواترة أو أنكر نكاحه حفصة بنت عمر، أو أنكر وجود أبي بكر وخلافته لم يلزم تكفيره لأنه ليس تكذيباً في أصل من أصول الدين مما يجب التصديق به بخلاف الحج والصلاة وأركان الإسلام، ولسنا نكفره بمخالفة الاجماع، فإن لنا نظرة في تكفير النظام المنكر لأصل الاجماع، لأن الشبه كثيرة في كون الاجماع حجة قاطعة وإنما الاجماع عبارة عن التطابق على رأي نظري وهذا الذي نحن فيه تطابق على الأخبار غير محسوس، وتطابق العدد الكبير على الأخبار غير محسوس على سبيل التواتر الموجب للعلم الضروري، وتطابق أهل الحق والعقد على رأي واحد نظري لا يوجب العلم إلا من جهة الشرع ولذلك لا يجوز أن يستدل على حدوث العالم بتواتر الأخبار من النظار الذين حكموا به، بل لا تواتر إلا في المحسوسات.
الرتبة
السادسة: أن لا يصرح بالتكذيب ولا يكذب أيضاً أمراً معلوماً على القطع
بالتواتر من أصول الدين ولكن منكر ما علم صحته إلا الاجماع، فأما التواتر
فلا يشهد له كالنظام مثلاً، إذ أنكر كون الاجماع حجة قاطعة في أصله. وقال:
ليس يدل على استحالة الخطأ على أهل الاجماع دليل عقلي قطعي ولا شرعي
متواتر لا يحتمل التأويل، فكلما تستشهد به من الأخبار والآيات له تأويل
بزعمه، وهو في قوله خارق لإجماع التابعين؛ فإنا نعلم إجماعهم على أن ما
أجمع عليه الصحابة حق مقطوع به لا يمكن خلافه فقد أنكر الإجماع وخرق
الإجماع وهذا في محل الاجتهاد، ولي فيه نظر، إذ الاشكالات كثيرة في وجه
كون الاجماع حجة فيكاد يكون ذلك الممهد للعذر ولكن لو فتح هذا الباب انجر
إلى أمور شنيعة وهو أن قائلاً لو قال: يجوز أن يبعث رسول بعد نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم، فيبعد التوقف في تكفيره ومستند استحالة ذلك عند البحث
تستمد من الاجماع لا محالة فإن العقل لا يحيله وما نقل فيه من قوله: لا
نبي بعدي ومن قوله تعالى: خاتم النبيين فلا يعجز هذا القائل عن تأويله
فيقول: خاتم النبيين أراد به أولي العزم من الرسل، فإن قالوا النبيين عام،
فلا يبعد تخصيص العام. وقوله لا نبي بعدي لم يرد به الرسول، وفرق بين
النبي والرسول والنبي أعلى رتبة من الرسول إلى غير ذلك من أنواع الهذيان.
فهذا وأمثاله لا يمكن أن ندعي استحالته من حيث مجرد اللفظ فإنا في تأويل
ظواهر التشبيه قضينا باحتمالات أبعد من هذه ولم يكن ذلك مبطلاً للنصوص،
ولكن الرد على هذا القائل أن الأمة فهمت بالإجماع من هذا اللفظ ومن قرائن
أحواله أنه أفهم عدم نبي بعده أبداً وعدم رسول الله أبداً وأنه ليس فيه
تأويل ولا تخصيص فمنكر هذا لا يكون إلا منكر الإجماع، وعند هذا يتفرع
مسائل متقاربة مشتبكة يفتقر كل واحد منها إلى نظر، والمجتهد في جميع ذلك
يحكم بموجب ظنه يقيناً وإثباتاً والغرض الآن تحرير معاقد الأصول التي ياتي
عليها التكفير وقد نرجع إلى هذه المراتب السلتة ولا يعترض فرع إلا ويندرج
تحت رتبة من هذه الرتب، فالمقصود التأصيل دون التفصيل. فإن قيل: السجود
بين يدي الصنم كفر، وهو فعل مجرد لا يدخل تحت هذه الروابط، فهل هو أصل آخر
؟ قلنا: لا، فإن الكفر في اعتقاده تعظيم الصنم، وذلك تكذيب لرسول الله صلى
الله عليه وسلم والقرآن ولكن يعرف اعتقاده تعظيم الصنم تارة بتصريح لفظه،
وتارةً بالإشارة إن كان أخرساً، وتارة بفعل يدل عليه دلالة قاطعة كالسجود
حيث لا يحتمل أن يكون السجود لله وإنما الصنم بين يديه كالحائط وهو غافل
عنه أو غير معتقد تعظيمه، وذلك يعرف بالقرائن. وهذا كنظرنا أن الكافر إذا
صلى بجماعتنا هل يحكم باسلامه، أي هل يستدل على اعتقاد التصديق ؟ فليس هذا
إذن نظراً خارجاً عما ذكرناه. ولنقتصر على هذا القدر في تعريف مدارك
التكفير وإنما أوردناه من حيث أن الفقهاء لم يتعرضوا له والمتكلمون لم
ينظروا فيه نظراً فقهياً، إذ لم يكن ذلك من فنهم، ولم ينبه بعضهم بها لقرب
المسألة من الفقهيات، لأن النظر في الأسباب الموجبة للتكفير من حيث أنها
أكاذيب وجهالات نظر عقلي، ولكن النظر من حيث أن تلك الجهالات مقتضية بطلان
العصمة وإنما الخلود في النار نظر فقهي وهو المطلوب.
ولنختم الكتاب
بهذا، فقد أظهرنا الاقتصاد في الاعتقاد وحذفنا الحشو والفضول المستغنى
عنه، الخارج من أمهات العقائد، وقواعدها، واقتصرنا من أدلة ما أوردناه على
الجلي الواضح الذي لا تقصر أكثر الأفهام عن دركه، فنسأل الله تعالى ألا
يجعله وبالاً علينا، وأن يضعه في ميزان الصالحات إذا ردت إلينا أعمالنا،
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وعلى آله وسلم
تسليماً كثيراً آمين.