كتاب : ثمرات الأوراق
المؤلف : ابن حجة الحموي
ومن اللطائف ما حكاه أبو الفرج في كتاب النساء وابن الكرديوس في الاكتفاء قالا كانت عند أبي العباس السفاح أم سلمة بنت يعقوب بن عبد الله المخزومي وكان قد أحبها حباً شديداً ووقعت في قلبه موقعاً عظيماً فحلف لها أن لا يتخذ عليها سرية ولا يتزوج عليها امرأة فوفى لها بذلك فخلا به خالد بن صفوان يوما وقال له يا أمير المؤمنين فكرت في أمرك وسعة ملكك وأنك قد ملكت امرأة واقتصرت عليها فإذا مرضَتْ مرضْتَ وإذا حاضَتْ حضْتَ وحرمت نفسك التلذذ بالسراري واستطراف الجواري ومعرفة اختلاف حالاتهن وأجناس التمتع بما تشتهي منهن فمنهن يا أمير المؤمنين الطويلة الغيداء والعتيقة الادماء والزهية السمراء والمولدات المغنيات اللواتي يفتن بحلاوتهن ولو رأيت يا أمير المؤمنين السمراء واللعساء من مولدات البصرة والكوفة وذوات الألسن العذبة والقدود المهفهفة والأوساط المختصرة والثدي النواهد المحققة وحسن زيهن وشكلهن رأيت فتنا ومنظراً حسنا وأين أنت يا أمير المؤمنين من بنات الأحرار والنظر إلى ما عندهن من الحياء والتخفر والدلال والتعطر ولم يزل خالد يجيد في الوصف ويكثر في الإطناب بحلاوة لفظه وجودة كلامه فلما فرغ قال له أبو العباس ويحك والله ما سلك مسامعي قط كلام أحسن مما سمعته منك فاعده علي فأعاده عليه أم سلمة وكانت تبرِّه كثيرا وتتحرى مسرته وموافقته في جميع ما أراده فقالت له مالي أراك مغموما يا أمير المؤمنين فهل حدث أمر تكلاهه أو أتاك أمر ارتعت له قال لم يكن شيء من ذلك قالت فما قصتك فجعل يكتم عنها فلم تزل به حتى أخبرها بمقالة خالد قالت فما قلت لابن الفاعلة قال سبحان الله ينصحني وتشتمينه فخرجت من عنده وأرسلت إلى خالد عبيدا وأمرتهم بضربه والتنكيل به قال خالد: وانصرفت إلى منزلي مسرورا بما رأيت من اصغاء أمير المؤمنين إلى كلامي وإعجابه بما ألقيت إليه وأنا لا أشك في الصلة فلم ألبث أن جاء العبيد فلما رأيتهم أقبلوا نحوي أيقنت بالجائزة فوقفوا علي وسألوا عني فعرفتهم نفسي فأهوى إليَّ أحدهم بعمود كان في يده فبادرت إلى الدار وأغلقت الباب ومكثت أياما لا أخرج من منزلي وطلبني أمير المؤمنين طلبا شديدا فلم اشعر ذات يوم إلا بقوم هجموا عليَّ فقالوا أجب أمير المؤمنين فأيقنت بالموت وقلت لم أردم شيخ اضيع من دمي وركبت فلم اصل إلى الدار حتى استقبلني عدة رسل فدخلت على أمير المؤمنين فوجدته جالسا فأومأ إلي بالجلوس فثاب إلى عقلي وفي المجلس باب عليه ستور وقد أرخيت وخلفه حركة فقال لي يا خالد مذ ثلاث لم ارك قلت كنت عليلاً يا أمير المؤمنين قال أنت وصفت في آخر دخلة لي من أمر النساء والجواري ما لم يطرق سمعي قط كلام أحسن منه فأعده عليَّ قلت نعم يا أمير المؤمنين أعلمتك أن العرب إنما اشتقت اسم الضرّة من الضرر وإن أحداً لم يك عنده امرأتان إلا كان في ضرر وتنغيص قال ويحك لم يكن هذا في حديثك قلت نعم يا أمير المؤمنين إن الثلاث من النساء كأسفي القِدْر تغلي عليها أبداً وإن الأربع شر مجموع لصاحبه يمرضنه ويسقمنه ويضعفنه وإن أبكار الأماء رجال ولكن لا خصي لهن قال فقال أبو العباس: برئت من قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منك من هذا شيئاً قط قال خالد بلى والله يا أمير المؤمنين وعرفتك إن بني مخزوم ريحانة قريش وإن عندك ريحانة الرياحين وأنت تطمح بعينك إلى الإماء والسراري قال خالد فقال لي أبو العباس ويحك أتذكبني قلت أفتقتلني يا أمير المؤمنين قال فسمعت ضحكاً من وراء الستر وقائلا يقول صدقت والله يا عماه هذا الذي حدثته ولكنه بدل وغير ونطق على لسانك بما لم تنطق به قال خالد فقمت عنهما وتركتهما يتراودان في أمرهما فما شعرت إلا برسل أم سلمة معهم المال وتخوت ثياب فقالوا لي تقول لك أم سلمة إذا حدثت أمير المؤمنين فحدثه بمثل حديثك هذا انتهى.
ومن البدائع ما يحكى أن السلطان الملك الكامل أصبح متمرضاً فأشار عليه الأطباء باستعمال شراب ليمون شتوي فأمر بعض الخدام بإحضاره فمضى الخادم وأحضر شراب ليمون سائل فقال الطبيب ما طلبت إلاّ شتوياً وهذا سائل ردوه فقال الامير صلاح الدين والله مامن عادة مولانا السلطان ان يرد سائلاً فقال السلطان والله ما أرد سائلا هاتوه أحسنت والله يا صلاح الدين فأكله وكان الشفاء فيه.
ونظير ذلك ما حكي أنه كان بالقاهرة شاب حسن الوجه يسمى بركن الدين وله معلم اسمه إبراهيم كان ربما يتهم به وكان بعض الأدباء يميل إلى هذا الصبي وله فيه غزل حسن قال الناقل فركبت يوماً مع الأمير صلاح الدين فمررنا على باب ذلك الصبي فوجدت ذلك الأديب قريباً من الباب فقلت له أي شيء تصنع ههنا فقال أطوف بالبيت فلعلي أستلم الركن أو أصل إلى مقام إبراهيم فاستحسنت ذلك منه وسألني الأمير صلاح الدين ما معنى ذلك فغالطته في الجواب فأقسم أن لا بد أن أخبره فأخبرته فاستحسن ذلك منه وأمر بإحضاره إلى مجلسه ونال منه راحة.
ذكر ابن الجوزي في كتاب تلقيح فهوم الأدباء عن محمد بن عثمان بن أبي خيثمة السلمي عن أبيه عن جده قال بينما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يطوف ذات ليلة في سكك المدينة إذ سمع امرأة تقول:
هل من سبيلٍ إلى خمرٍ فأشربها ... أم من سبيلٍ إلى نصر بن حجاج
إلى فتىً ماجدِ الأعراق مقتبلٍ ... سهل المحيَّا كريمٍ غير ملجاج
تنميه أعراق صدقٍ حين تنسبه ... أخي وفاءٍ عن المكروب فرّاج
فقال عمر رضي الله تعالى عنه لا أدري معي بالمدينة رجلا تهتف به العواتق في خدورهن عليّ بنصر بن حجاج فلما أصبح أتى بنصر بن حجاج فإذا هو من أحسن الناس وجهاً وأحسنهم شعراً فقال عمر عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذنَّ من شعرك فأخذ من شعره فخرج من عنده وله وجنتان كأنهما شقتا قمر فقال له اعتم فاعتم فافتتن الناس بعينيه فقال له عمر والله لا تساكنني في بلدة أنا فيها فقال يا أمير المؤمنين ما ذنبي قال هو ما أقول لك ثم سيره إلى البصرة وخشيت المرأة التي سمع منها عمر ما سمع أن يبدو من عمر إليها شيء فدست إليه أبياتاً وهي:
قل للإمام الذي تُخشى بوادره ... مالي وللخمر أو نصر بن حجاج
لا تجعل الظّنّ حقاً أن تبِّيته ... إنَّ السبيل سبيل الخائف الراجي
إنَّ الهوى زُمَّ بالتقوى لتحجبه ... حتى يقرَّ بألجام وإسراج
قال فبكى عمر رضي الله تعالى عنه وقال الحمد لله الذي زم الهوى بالتقوى قال وطال مكث نصر بن حجاج بالبصرة فخرجت أمه يوماً بين الأذان والإقامة متعرضة لعمر فإذا هو قد خرج في إزار ورداء وبيده الدرة فقالت يا أمير المؤمنين والله لأقفنَّ أنا وأنت بين يدي الله تعالى وليحاسبنَّك الله أيبيتن عبد الله وعاصم إلى جنبيك وبيني وبين ابني الفيافي والأودية فقال لها: إنَّ ابنيَّ لم تهتف بهما العواتق في خدورهن ثم أرسل عمر إلى البصرة بريداً إلى عتبة فقال عتبة من أراد أن يكتب إلى أمير المؤمنين فليكتب فإن البريد خارج فكتب نصر بن حجاج بسم الله الرحمن الرحيم سلام عليك يا أمير المؤمنين أما بعد فإسمع مني هذه الأبيات:
لعمري لئن سيَّرتني أو حرمتني ... وما نلت من عرضي عليك حرامُ
فأصبحت منفيّاً ملوماً بمنيةٍ ... وبعض أمانّي النساء غرام
ظننت بي الظن الذي ليس بعده ... بقاء ومالي جرمة فالام
فيمنعني ممَّا تقول تكرُّمي ... وآباء صدقٍ سالفون كرام
ويمنعها مّما تقول صلاتها ... وحالٍ لها في قومها وصيام
فهاتان حالانا فهل أنت راجعي ... فقد جُبّ مني كاهلٌ وسنام
قال فلما قرأ عمر رضي الله تعالى عنه هذه الأبيات قال أمّا وليُّ السلطان فلا وأقطعه داراً بالبصرة في سوقها فلما مات عمر ركب راحلته وتوجه المدينة.
قيل دخل بعض العشراء على الأديب جمال الدين بن نباتة فرأى في نواحي منزله نملا كثيراً فأنشد يقول:
مالي أرى منزل المولى الأديب به ... نملٌ تجمّع في أرجائه زمرا
فأجابه ابن نباتة بقوله:
لا تعجبنّ إذن من نمل منزلنا ... فالنمل من شأنها أن تتبع الشعرا
هذا آخر ما أردت إيراده في هذا الذيل مما وقفت عليه من المستطرف والنكات المفتخرة والزند الواري والتالد والطريف وغير ذلك والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.