كتاب : رسالة الغفران
المؤلف : أبو العلاء المعري
ولو فعلن ذلك لبهارتهن الباثَّيات بمأتم أعظم زنيناً، وأشد في
الحندس حنيناً، كما قال العبقسي:
يجاوبن الكلاب بكلّ فجر ... فقد صحلت من النوح الحلوق.
وإذا كان مأتم الممدودات في مائة ممّن يعدهن ويظاهر، وجب أن يكون مأتم
البائيّات في الآفٍ تعلن وتجاهر لأنَّّ الباء طريق ركوب، والمد في القصائد
سبيل منكوب.
وما نظمه على التّاء، فإنه لا يعجز عن الإيتاء.
وتجيء الثّائيتان وكلتاهما كابنة الجون، وتبتدر في حالك اللّون. ولو
صوَّرتا من الآدميات، لزادنا على قينتي ابن خطلٍ في المرئيّات، وإنّ الثاء
لقليلة في شعر العرب إلاّ أنهّمّا تستعينان كلمة كثيِّرٍ:
حبال سلامة أضحت رثاثا ... فسقياً لها جدداً أو رماثا
وبأراجيز رؤبة وما كان نحوها من القوافي المتكلفّة، والأشعار المتعسَّفة،
ولهما فيما نظم ابن دريدٍ، أعوان بالعجل والرَّويد. فأمّا الدّاليات
والرّائيّات وما بني على الحروف الذلل: كاليم والعين واللام وما جرى
مجراهنُّ، فلو اجتمع كلّ حيّزٍ منهن وهو فراد، لضاق عنهنّ الصدرّ
والإيراد، وزدن على ما ذكر أنّه اجتمع في جنازة أحمد بن حنبل من النسّاء
والرجال، ويقال أنّه لم يجتمع في الجاهلية ولا الإسلام جمع أكثر ممّا
اجتمع في موت أحمد، حزر الرّجال بألف ألفٍ، والنسّاء بستمّائة ألفٍ، والله
العالم بيقين الأشياء.
وإن كان حبيب ضيَّع صلواته، فإنّه لضال بفلواته، لا يبلغ فيه كيد العداة،
ما بلغ إهمال غداة. كم ضدٍّ نكص عنه ذا بهر، وليس كذلك صلاة الظّهر، إنّ
تركها فإنّها شاهدة، وفي الشكيَّة له جاهدة. وكم من قصرٍ، يشيد في الجنة
بصلاة العصر، ومسكٍ في الجنة متأرِّج لمصلِّي المغرب ليس بالحرج، وحور
أشئن ببديع الإنشاء، لمن حافظ على صلاة العشاء، وقد جاء في الحديث النهَّي
أن تسمى العتمة. وروي: " لا تخدعوا عن اسم صلاتكم فإنمّا يعتم بحلاب الإبل
" وفي حديثٍ آخر: " إنَّ العتمة اسم بنت الشيطان " .
وإنّ من يعجز عن اداء تلك الرّكعات، ليشتمل على نيَّة عات.
فليت حبيباً قرن بين الصلاتين، فجعلها كهاتين، كما قال القائل: قرن الظّهر
إلى العصر كما تقرن الحقَّة بالحق الذَّكر وإنَّي لأضن بتلك الأوصال أن
يظل جسدها وهو بالموقدة صال، لأنه كان صاحب طريقةٍ مبتدعة، ومعان كاللّؤلؤ
متتبعة، يستخرجها من غامض بحارٍ، ويغض عنها المستغلق من المحار.
وإن ابتدرته مهنة مالك، فقد نبذ في المهالك، فليته كالجعديّ، أو سلك به
مسلك عديّ، أو كان مذهبه مذهب حاتم فقد كان متألّهاً، ومن الخشية
متولهَّاً، وقال:
وإنّي لمجزي بما أنا عامل ... ويضطمني ماويّ بيت مسقَّف
أو ليته لحق يزيد بن مهلهلٍ، قد وفد على النبي صلى الله عليه وسلم، و طرح
عنه ثوب الغبي.
الإفشين
وأمّا المازيار، فحلاّل بالسَّفه سيار، وحسبه ما يتجرعّ من الحميم، ويحتمل من المقال الذميم، وقد خلد له في الكتب ما يوجب، لعنه إلى يوم الدّين، وأنَّي له أن يجعل كأديم ودينٍ ورحم الله ابن أبي داؤد، فلقد شفى الأنفس من الجواد، وكشف حال الأفشين، فعلم انّه آلف شينٍ، مخالف رشادٍ وزين.بابك
وبابك فتح باب الطغّيان، ووجد من شرار الرّعيان، واظن جهاده، عليه التبَّار، أفضل جهادٍ عرف، وذنبه أكبر ذنبٍ اقترف. ولعلهّ يود في الآخرة أنّه ذبح عن كلّ من قتل في عدّانه، مائة مرّة في نهل مدّانه، ثم خلص من العذاب المطبق، واستنفذ عنقه من الربّق.والعجب لأبي مسلم، خبط في الجنان المظلم، وظنّ أنّه على شيء، فكان كالمعتمد على الفيء، حطب لنارٍ أكلته، وقتل في طاعة ولاةٍ قتلته. وليس بأول من دأب لسواه، وأغواه الطمّع فيمن أغواه. وإنمّا سهر لأمّ دفرٍ وتبع سراباً في قفرٍ، فوجد ذنبه غير المغتفر، عند صاحب الدولة أبي جعفر.
وكلّ ساعٍ للفانية لا بدّ له من الندّم، في أوان الفرقة وحين
العدم، فذمنّا يحسب من الضّلال، كما تمنّى القنع أخو الإقلال، وهذه زيادة
في النّضب، وفاز بالسبَّق حائز القصب. نذمهّا على غير جناية، ولم تخبر
أحداً بالعناية، بل أبناؤها في المحن سواء، لا تاعفهم الأهواء، فرب حاملٍ
حزمة عضيدٍ ليس رثده بالنضيد، يعجز ثمنها عن القوت، ويكايد شظف عيشٍ
ممقوت، يلج سلاء في قدمه، ويخصبه الشائك بدمه، وهو أقل أشجاناً من الواثب
على السرير، ينعم برشأ غرير، يجمع له الذهب من غير حلٍّ، بإعنات الأمم
وإسخاط الإلّ، وإذا ملأ بطنه من طعام، وسبح في بحرٍ من الترف عامٍ، فتلك
النعّم ولذاته، تحدث لأجلها أذاته، يختلجه القدر على غفولٍ، وغاية السّفر
إلى قفول. وما يدري العاقل، إذا افتكر، أي الشخصين أفضل: أربيب عقد عليه
إكليل، أم ارقش ظله في المك ظليل؟ كلاهما بلغ آراباً، وأحدهما يأكل
تراباً، الآخر يعل بالراح، ويجتهد له في الأفراح.
وما علمنا النّسك موقياً، ولا في الأسباب الراّفعة مرقياّ، والعالم بقدرٍ
عاملون، أخطأهم ما هم آملون، ما آمن أن تكون الآخرة بإرزاق، فتغدو
الرّاجحة إلى المهراق، على أن السّر مغيب، وكلنا في الملتمس مخيب، والجاهل
وفوق الجاهل، من ادّعى المعرفة بغبّ المناهل، واللّعنة على الكاذبين.
الكيسانية
أمّا الذين يدعون في عليّ، عليه السلام، ما يدعون، فتلك ضلالة قديمة، وديمة من الغواية تتّصل بها ديمة، وقد روي أنّه حرقّ عبد الله ابن سبأ لمّا هاجر بذلك النبإ.واعتقاد الكيسانية في محمد بن الحنفية عجيب، لا يصدق بمثله نجيب، وقد روي أنّ أبا جعفر المنصور رفعت له نارّ في طريق مكّة في اللَّيلة التي مات فيها، فقال: قاتل الله الحميريَّ، لو رأى هذه النّار لظن أنها نار محمد بن الحنفية!.
وعلي له سابقة، ومحاسن كثيرة رائقة، وكذلك جعفر بن محمد ليس شرفه بالثمد.
وقد بلغني أنّ رجلاً بالبصرة يعرف بشاباس، تزعم جماعة كثيرة أنّه رب العزّة، وتجبى إليه الأموال الجمّة، ويحمل إلى السّلطان منها قسماً وافراً، لكون بما طلب ظافراً، وهو إذا كشف، ساقط لاقط، يبذه إلى الفضل الماقط، والماقط الذي يكرى من بلدٍ إلى بلد. وحدِّثت أنّ امرأة بالكوفة يدعى لها مثل ذلك.
ابن الراوندي
وقد سمعت من يخبر أنّ لابن الرّاوندي معاشر تذكر إنّ اللاهّوت سكنه، وأنّه من علمٍ مكنه، ويخترصون له فضائل يشهد الخالق وأهل المعقول، أنّ كذبها غير مصقول، وهو في هذا أحد الكفرة، لا يحسب من الكرام البررة، وقد أنشد له منشد، وغيره التقي المرشد:قسمت بين الورى معيشتهم ... قسمة سكران بيّن الغلط
لو قسم الرّزق هكذا رجل ... قلنا له: قد جننت فاستعط
ولو تمثل هذان البيتان لكانا في الإصر يطولان أرمي مصر، فلو مات الفطن كمداً لما عتب، فأين مهرب العاقل من شقاءٍ رتب؟! أكل ما خدم خادع، أرسلت من الكفر مصادع؟ والمصادع: السهام وما حسنت السوداء الغالبة بسفيهٍ دعواه، إلا وافق جهولاً عواه أي عطفه.
وقد ظهر في الضيعة المعروفة بالنَّيرب المقاربة لسرمين رجل يعرف بأبي جوف، لا يستتر من الجهل بحوف، والحوف أزير من أدمٍ مشقق الأطراف السّافلة تتزر به الحارية وهي صغيرة وكان يدَّعي النّبرة، ويخبر بأخبار مضحكة، وتثبت نيته على ذلك ثبات المحكة، وكان له قطن في بيت فقال: إنّ قطني لا يحترق وأمر ابنه أن يدني سراجاً إليه، أخذ في العطب، وصرخت النّساء، واجتمعت الجيرة، وإنمّا الغرض إطفاء! وحدثّني من شاهد، أنّه كان يكثر الضّحك بغير موجب، ولا عند حدّثٍ معجب، فقيل له: ممّ تضحك؟ فقال كلاماً معناه: إنّ الإنسان ليفرح بهيّنٍ قليل، فكيف من وصل إلى العطاء الجليل؟ وكان بيّن الجنون، ليس خبله بالمكنون، فاتبعه الأغبياء، وكذب ما يقوله الأنبياء، حتى قتله والي حلب، حرسها الله، وذلك بعد مقتل البطريق المعروف بالدَّوقس في بلد أفامية، وكان الذي حثّ على قتله جيش بن محمد بن حمصامة لأنّ خبره رقي إليه، فأرسل إلى سلطان حلب، حرسها الله، يقول: أقتله وإلاّ أنفذت إليه من يقتله؛ وكان السّلطان يتهاون به لأنّه حقير، وربَّ شاةٍ نتج منها الوقير، أي قطيع الغنم.
وبعض الشّيعة يحدّث أنّ سلمان الفرسيّ في نفرّ معه جاؤوا يطلبون
عليّ بن أبي طالبٍ، سلام الله عليه، فلم يجدوه في منزله، فبينما هم كذلك
جاءت بارقة تتبعها راعدة، وإذا عليٌ قد نزل على إجاَّر البيت، في يده سيف
مخضوب بالدّم، فقال: وقع بين فئتين من الملائكة، فصعدت إلى السماء لأصلح
بينهما! والذين يقولون هذه المقالة يعتقدون أن الحسن والحسين ليسا من
ولده، فحاق بهم العذاب الأليم.
أفلا يرى إلى هذه الأمّة كيف افتنت في الضّلالة، كافتنان الرّبيع في إخراج
الأكلاء، والوحش الرّائعة الأطلاء!؟ وللكذب سوق ليست للصدّق، تجعل الأسدّ
من أبناء الفرق.
وأمّا الذي ذكره نم بلوغ السِّنِّ، فإن الله، سبحانه، خلق مقراً وشهداً،
ورغبة في العاجلة وزهداً، وإذا اللّبيب أنعم النّظر، لم ير الحياة إلىّ
تجذبه إلى الضَّير، وتحث جسده على السيَّر؛ فالمقيم كأخي ارتحال، لا تثبت
الأقضية به على حال: صبح يتبسّم وإمساء، لا يلبث معهما النَّساء، كأنّهما
سيدا ضراء والعمر ثلّة في اقتراء، وهما على السّارح يغيران، فيفنيان
السّائمة ويبيران.
وإن كان، مكنَّ الله وطأة الأدب ببقائه، قد أماط الشبيبة فإنما أنفقها في
طلب علومٍ وآداب، صيرَّ طلابها ألزم دابٍ، ولو كان لها على الحيّ تلبث،
كان لها بنفسه النفّيسة تشبث، ولكنها بعض الأعراض، لا تشعر بحياة وانقراض.
وإذا كنّا على ذمِّ هذه المنزلة مجمعين، ولقراقها مزمعين، فلم نأسف على
نأي الخوّانة؟ إن الأشاءة لمن العوانة، والأشاءة النخّلة الصغيرة،
والعوانة النخّلة الطوّيلة ومتى اخلص قرين الغفلة توبةً، فإنّها لا تترك
حوبةّ، تغسل ذنوبه غسل النّاسكة جزيز الفرار، في متدفق سحاب مدرار، كثر
فيه القهل والدَّنس، فأحبَّ رحضه الأنس، وكان قد أخذ عن أثباج غنمٍ بيض،
تفوق ما يرتع من الربيض، فعاد وكأنه كافور الطيّب، أو ما ضحك من كافورٍ
رطيب، والكافور: الطّلع، وقيل هو وعاء الطَّلعة.
فأمّا الغانيات بعد السبّعن، فالأشيب لديهن كالعاسل يباكر العين، وقد حكي
أنّ أبا عمرو بن العلاء كان يخضب، فاشتكى في بعض الأيام، فعاده بعض
أصحابه، فال:تقوم إن شاء الله تعالى من علتّك. فقال: ما آمل بعد ستٍ
وثمانين. وعاد إليه وقد تماثل فقال: لا تحدث بما قلت لك. وهذا من ظريف
ماروي، رغب في تمويهّ بالخضاب، وكتم سنه عن كلّ الأصحاب.
وقد تحدّث بعض طلاّب الأدب انّه، أدام الله تزيين المحافل بحضوره، ذكر
التزويج يريد الخدمة، فسرني ذلك، لأنّه دل على إقامة بالوطن، وفي قربه
الفرحة لذوي الفطن. إذ كان كالشجّرة الوارف ظلالهما في الهواجر، والبارد
هواؤها في ناجر، والطّيب ثمرها للذّائق، والأرج نسيمها للناشق.
وهو يعرف حكاية الخليل عن العرب: إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيّا
الشوابّ؛ ولا خيرة عند التّواب، ولكن النّصف، ممنّ يوصف:
لاتنكحن عجوزاً إن أتيت بها ... واخلع ثيابك عنها ممعناً هرباً
وإن أتوك وقالوا: إنهّا نصف ... فإنّ أطيب نصفيها الذي ذهبا
لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون ولعله تقدر له كصاحبة أبي
الأسود أمّ عمروٍ، ورب خيرٍ تحت الخمر:
كثوب اليماني قد تقادم عهده ... ورقعته ماشئت في العين واليد
أو كما قال الآخر:
ضناك على نيرين أمست لداتها ... بلين بلى الريّطات وهي جديد
وحكي عن أبي حاتمٍ سهل بن محمد أنّه قرأ على الأصمعي شعر حساّن بن ثابت،
فلمّا انتهى إلى قوله:
لم تفتها شمس النّهار بشيء ... غير أن الشباب ليس يدوم
قال الأصمعي: وصفها والله بالكبر، وقد يجوز ما قال، والأشبه أن يكون قال
هذا وهي شابَّة، على سبيل التأسف، أي أن الأشياء لا بقاء لها، كما قال
الآخر:
أنت نعم المتاع، لو كنت تبقى؛ ... غير أن لا بقاء للإنسان
ولو نشط لهذه المأربة، لتنافست فيه العجز والمكتهلات، وعلت خطبة
المنهبلات، لأن العاقلة ذات الإحصاف، تجنب إلى معاشرة حليف الإنصاف. وهل
هو كما قال الأوّل:
يا عز هل لك في شيخ فتى أبداً ... وقد يكون شباب عير فتيان
فليس بأوّل من طلب نجوزاً، فتزوج على السنِّ عجوزاً، كما قال:
إذا ما أعرض الفتيان عنّي ... فمن لي أن تساعفني عجوز
كأنّ مجامع الّلحيين منها ... إذا حسرت عن العرنين كوز؟
ويروي للحادث بن جازَّة، ولم أجده في ديوانه:
وقالوا مانكحت؟ فقلت: خيراً ... عجوزاً من عرينة ذات مال
نكحت كبيرة، وغرمت مالاً، ... كذاك البيع: مرتخص وغال
وأعوذ بالله ممّا قال الآخر:
عجوزاً لو أن الماء يسقى بكفَّها ... لما تركتنا بالمياه نجوز!
وما زالت العرب تحمد الحيزبون والشهلة، ولا تكره مع لشرخ الكهلة. وقد تزوج
النبي صلى الله عليه وسلم، خديجة ابنة خويلدٍ وهو شاب، وهي طاعنة في
السّن. وقالت له أم سلمة ابنة أبي أمية: يا رسول الله، إني امرأة قد كبرت
وما أطيق الغيرة. فقال: أمّا قولك: قد كبرت، فإنا أكبر منك، وأمّا الغيرة،
فإننّي سوف أدعو الله أن يزلها عنك. وقال الشاعر:
فما أنا ابن رهمٍ قد علمتم ... ولا ابن العاملية فاحذروني
ولكني ولدت بنجمٍ شكسٍ ... لشمطاء الذوائب حيزبون
ولا أشك أنّه قد استخدم في مصر أصناف حوارٍ، وهن للمآرب موارٍ، ولولا أنّ
أخا الكبرة يفتقر إلى معينٍ، لكانت الحزامة أن يقتنع بورد ألمعين، فهو
بعرف قول القائل
ما العيش إلا القفل وألمفتاح ... وغرفة تخرقها الرّياح
لا صخب فيها ولا صياح
وحدَّثني ابن القنسري المقرئ، أنّه سمعه يسأل عن غلامٍ للخدمة، وربما كان
استخدام الأحرار، يمنع من القرار، فقد قال أبو عبادة:
أنا من ياسر ويسر ونجح ... لست من عامرٍ ولا عمّار!
ما بأرض العراق يا قوم حرّ ... يفتديني من خدمة الأحرار؟
وأن يخدم نفسه الوحيد، خير من أن يلج بيته العبيد؛ فطالما أحوجوا المالك
إلى ضرب، وأن يتقَّيهم بالعرب.
ورب نازلٍ من أهل الأدب في خان، ليس بالخائن ولا المستخان، بخدمه صبي من
الرّق حرّ، وفي خدمته السرّق والضرّ. وإذا أرسله بالبتك، بنات الدرّهم
ليأتيه بالطبيخة حين يكثر الطبيخ ويتيح، سعره المشتعل متيح، سرق في
السّبيل القطع، وانتهى في الخيانة وتنطع، ثمّ وقف بالبائع، فغبنه غبن
الرّائع، فأخذ صغيرة من بطيخ، لا تلقى النّاظر بمثل الورس اللطيخ. ثم
انصرف بها لاعباً، كأنهّا هدى كاعباً، فلم يزل يتلقف بها في الطريق، حتى
كسرها بين فريق؛ فاختلط حبُّها بالحصباء، وزهد في قربها كلّ الأرباء.
ويجوز أن يحملها في حال السّلامة، ويمضي ليسبح مع الفتيان، فإذا نزل في
الماء اختطفها بعض العرمة من الصبيان، فأكلها وهو يراه، لا يحفل بأديمها
إذ فراه. وقد يرسله بالغضارة يلتمس لبناً، فيقال من سوء الّرأي غبناً،
فإذا حصل فيها الهدبد، عثر فإذا هو على الصحّراء متلبدّ، وصارت الفخارة
خزفاً لا يراد، يلغيه النسّكة والمرادّ، فإن كان صاحبه يذهب مذهب ابن
الروميّ عدّ أن تحطم الغضارة، فناء عيشه ذي الغضارة؛ فدعا بالحرب، وشده عن
فوات الأرب، وما يصنع بذلك المصمقرّ، وقد حان المرتحل إلى المقرِّ؟ وكان
في بلدنا غلامٌ لبعض الجند يزعم، ويصدق فيما يزعم، أنَّه كان مملوكاً لأبي
أسامة جنادة بن محمّد الهرويّ بمصر، وكان يأسف لفراقه، ويعجب من جميل
أخلاقه، ويقول إنّه باعه من أجل العوم، فما أوقع غلاءً في السَّوم.
وإنّما ذكرت ذلك لأنّه، عرَّف الله الوقت بحياته أي طيِّبه، ممّن قد عرف
جناده وجرّبه.
وأمّا أهل بلدي، حرسهم الله، فإذا كان الحظُّ قد أعطاني حسن ظنِّ الغرباء،
فلا يمتنع أن يعطيني تلك المنزلة من الرّهط القرباء. ولكنّهم كطلاّب
الخطبة من الأخرس، وحرِّ ناجرٍ من شهر القرس.
وسيّدي الشّيخ أبو العبّاس الممتَّع: في السّنِّ ولدٌ، وفي المودّة أخٌ،
وفي فضله جدٌّ أو أبٌ. وإنّه في أدبه، لكما قال تعالى: " وما لأحدٍ عنده
من نعمةٍ تُجزى " .
وأمّا إشفاق الشّيخ - عمر الله خلده بالجذل، وأراح سمعه من كلِّ عذل -
فتلك سجية الأنيس، لا يختص بها أخو الجبن عن الشّجاع البئيس. ومن القسوط،
تعرُّض بالقنوط. " قل يا عبادي الَّذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من
رحمة الله " .
كم من أديبٍ شرب وطرب ثمّ تاب وأجاب العتَّاب. فقد يضلُّ الدّليل0في ضوء
القمر، ثمّ يهديه الله بأحد الأمر، وكم استنقذ من اللُّجِّ غريقٌ، فسلم
وله تشريق.
وقد كان الفضيل بن عياضٍ، يسيم في أوبل رياض، ثمّ حسب في
الزُّهَّاد، وجعل من أهل الاجتهاد.
وربّ خليعٍ وهو فتى، تصدَّر لمّا كبر وأفتى، ومغنٍّ بطنبور أو عود، قدر له
تولِّي السُّعود، فرقي منبراً للعظات، من بعد إرسال اللَّحظات.
عمر بن عبد العزيز
ولعلّه قد نظر في طبقات المغِّنين فرأى فيهم عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنسٍ، هكذا ذكر ابن خرداذبة، فإن يك كاذباً فعليه كذبه.والحكاية معروفةٌ أن أبا حنيفة كان يشارب حمَّاد عجرد وينادمه، فنسك أبو حنيفة وأقام حمّادٌ في الغيِّ، فبلغه أن أبا حنيفة يذمُّه ويعيبة، فكتب إليه حمّاد:
إن كان نسكك لا يتمّ ... بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي كيف شئ ... ت مع الأداني والأقاصي
فلطالما زكِّيتني، ... وأنا المقيم على المعاصي
أيّام تعطيني وتأ ... خذ في أباريق الرَّصاص
عمر بن الخطاب
أليس الصّحابة، عليهم رضوان الله، كلّهم كان على ضلالٍ، ثمَّ تداركهم المقتدر ذو الجلال؟ وفي بعض الرّوايات أن عمر بن الخطّاب خرج من بيته يريد مجمعاً كانوا يجتمعون فيها للقمار، فلم يجد فيه أحداً فقال: لأذهبنَّ إلى الخمَّار، لعلِّي أجد عنده خمراً. فلم يجد عنده شيئاً. فقال: لأذهبنّ ولأسلمنَّ.والتوفيق يجيء من الله سبحانه وتعالى بإجبار، وفيما خوطب به النبيُّ صلى الله عليه وسلم: " ووجدك ضالاًّ فهدى " .
وذكر أبو معشر المدني في كتاب المبعث حديثاً معناه أنّ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، ذبح ذبيحةً للأصنام فأخذ شيئاً منها فطبخ له،وحمله زيد بن حارثة ومضيا ليأكلاه في بعض الشِّعاب، فلقيهما زيد بن عمرو ابن نفيل، وكان من المتألِّهين في الجاهليّة، فدعاه النبي صلى لله عليه وسلم، ليأكل من الطعام، فسأله عنه فقال: هو من شيءٍ ذبحناه لآلهتنا. فقال زيد بن عمرو: انّي لا آكل شيءٍ ذُبح للأصنام، وإنِّي على دين إبراهيم صلى الله عليه،فأمر النبيُّ صل الله عليه وسلم، زيد بن حارثة بإلقاء ما معه.
وفي حديث آخر، وقد سمعته بإسنادٍ: أن تميم بن أوسٍ الدَّاريَّ، والدّار قبيلةٌ من لخم كان يهدي إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، في كلَّ سنةٍ روايةً من خمر، فجاء بها في بعض السّنين، وقد حرجت الخمر، فأراقها، وبعض أهل اللّغة يقول: فبعّها.
والمطبوخ وإن أسكر فهو جارٍ مجرى الخمر، على أنَّ كثيراً من الفقهاء قد شربوا الجمهوريَّ والبختج والمنصَّف، وذكر، عند أحمد بن يحيى ثعلبٍ، أحمد بن حنبل وإن كان شرب النّبيذ قطّ؟ والنّبيذ عند الفقهاء غير الخمر، فقال ثعلب: أنا سقيته بيدي في ختانةٍ كانت لخلف بن هشام البزَّاز.
فأمّا الطِّلاء فقد كان عمر بن الخطّاب، عليه السّلام، جزَّأ منه على نصارى الشّام لجنود المسلمين، والمثل السّائر:
هي الخمر تكنى الطِّلاء ... كما الذّئب يُكنى أبا جعدة
وهذا البيت يُروى ناقصاً كما علم، وهو ينسب إلى عبيد ابن الأبرص وربّما وجد في النّسخة من ديوانه، وليس في كلِّ النُّسخ. والذي أذهب إليه أن هذا البيت قيل في الإسلام عدما حُرِّمت الخمر.
وإنّما لذَّة الشّرب فيما يعرض لهم من السكر، ولولا ذلك لكان غيرها من الأشربة أعذب وأدفأ، وقال التغلبيُّ:
علِّلاني بشربةٍ من طلاءٍ ... نعمت النِّيم في شبا الزّمهرير
ويروى لدعبل:
علِّلاني بسماعٍ وطلا، ... ونصيفٍ جائعٍ يبغي القرى
وهذا يدلُّ على أن الطِّلا يسكر ويروي للهذليّ:
إذا ما شئت باكرني غريضٌ ... وزقٌّ فيه نيٌّ أو نضيج
وقال آخر:
لا تسقني الخمر إلاّ نيئة قدمت ... تحت الخام، فشرُّ لاخمر ما طبخا
وإن كان، هيَّأ الله له المحابَّ، قد شرب نيًّا، وقال له الندمان: هنيّاً، فله أسوةٌ بشيخ الأزد محمد بن الحسن إذ قال:
بل ربّ ليلٍ جمعت قطريه لي ... بنت ثمانين عروسٌ تجتلى
ثمّ قال في آخر القصيدة:
فإن أمت فقد تناهت لذّتي ... وكلّث شيءٍ بلغ الحدّ انتهى
وما أختار له أن يأخذ بقول الحكمي:
قالوا كبرت فقلت ما كبرت يدي ... عن أن تسير إلى فمي بالكاس
وهو يعرف البيت:
وما طبخوها، غير أنَّ غلامهم ... سعى ليلةً في كرمها بسراج
وقول عبد الله بن المعتزِّ:
ذكر العلج أنَّهم طبخوها، ... فرضينا ولو بعود خلال
وقدماً طلب النَّدامى مطبوخاً، شبَّاناً في العمر وشيوخاً، ينافقون
بالصِّفة ويوارون، وعن الصّهباء العاتقة يدارون، وأبيات الحسين بن الضّحاك
الخليع التي تنسب إلى أبي نواسٍ معروفةٌ:
وشاطريِّ اللّسان مختلق التّ ... كريه، شاب المجون بالنُّسك
بات بغمَّى يرتاد صالية ال ... نّار ويكني عن ابنة الملك
دسست حمراء كالشّهاب له ... من كفِّ خمّار حانةٍ أفك
يحلف عن طبخها بخالقه، ... وربَّ موسى ومنشىء الفلك
كأنَّما نصب كأسها قمرٌ ... يكرع في بعض أنجم الفلك
ومن النِّفاق أن يظهر الإنسان شرب ما أجاز شربه بعض الفقهاء، ويعمد إلى
ذات الإقهاء، فقد أحسن الحكميُّ في قوله:
فإذا نزعت عن الغواية، فليكن ... لله ذاك النَّزع، لا النّاس
وقد آن لمولاي الشّيخ أن يزهد في شيمة حميد، وينصرف عن مذهب أبي زبيدٍ
وإنَّما عنيت حميداً الأمجيَّ قائل هذه الأبيات:
شربت المدام، فلم أقلع ... وعوتبت فيها فلم أرجع
حميد الّذي أمجٌ داره، ... أخو الخمر ذو الشَّيبة الأصلع
علاه المشيب عى حبِّها، ... وكان كريماً فلم ينزع
وقال آخر:
تعاتبني في الرَّاح أمٌ كبيرةٌ ... وما قولها، فيما أراه، مصيب
تقول، ألا تجفو المدام فعندنا ... من الرّزق تمرٌ مكثبٌ وزبيبُ؟
فقلت: رويداً مالزّبيب مفرّحي، ... وليس لتمرٍ في العظام دبيب
فإنّ حميداً علَّها في شبابه ... ولم يصح منها حين لاح مشيب
وإذا تسامعت المحافل بتوبته، اجتمع عليه الشّبان المقتبلون، والأدباء
المتكلمون، وكلُّ أشيب لم يبق من عمره إلاّ ظمء حمارٍ، كما اجتمع لسمر
أصناف السُّمّار، فيقتبسون من آدابه، ويصغون المسامع لخطابه، وجلس لهم في
بعض المساجد بحلب، حرسها الله، فإنَّها من بعد أبي عبد الله بن خالويه
عطلت من خلخالس وسوار، ونارت من الأدب أشدّ النَّوار.
وإذا كان لك بتفضلُّ الله، أعدَّ معه خنجراً كخنجر ابن الرّوميّ، أو الذي
عناه ابن هرمة في قوله:
لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلاّ قريبة الأجل
لا غنمي في الحياة مدّ لها ... إلاَّ دراك القرى، ولا إبلي
كم ناقةٍ قد وجأت منحرها ... بمستهلِّ الشُّؤبوب، أو جمل
فإذ جلس في منزله، مجلسه الذي يلتقط أهله زهر أسحار، بل لؤلؤ بحار، فيكون
ذلك الخنجر قريباً منه، فإذا قضي أن يمرَّ بباب المسجد الكهل المرقَّب
الذي أراده القائل بقوله:
إذا الكهل المرقَّب غاض ألنا ... إلى سيءّ له في القرو ثان
كأنَّ الذّارع المغلول منها ... سليبٌ من رجال الدَّيبلان
وثب إليه وثبة نمرٍ، إلى متخلِّفة وقير أمرٍ، أو أمر بعض أصحابه بالوثوب
إليه، فوجأه بذلك الخنجر وجأةً فانبعث بمثل الدّم، أو الخالص من العندم،
وقرأ هذه الآية: " إنَّ الحسنات يذهبن السِّيئات، ذلك ذكرى للذّاكرين " .
فإذا مضى صاحبه مستعدياً إلى السّلطان فقال: من فعل ذلك بك؟ فسمّاه له،
قال السّلطان بمشيئة الله: لا حرَّ بوادي عوفٍ، ما أصنع بجنث الأدب وبقيّة
أهله؟ ووطئها تحت قدمه، وحسبها من زعانف أدمه. ما يفعل ذلك مرّةً أو
اثنتين، إلاّ وحمله الذّوارع قد اجتنبت تلك النّاحية، كما اجتنب أبو سفيان
بن حربٍ طريقه من خوف النبي صلى الله عليه وسلم، فقال حسّان:
إذا أخذت حوران من رمل عالجٍ
فقولا لها: ليس الطّريق هنالك
ولا بأس إن كان المعدُّ مشملاً يشتمل عليه في الكمِّ، فإذا ضرب
به ذارع الخمر، ذكر من نظر في كتاب المبتدإ حديث طالوت لمّا أمر ابنته وهي
امرأة داود، صلّى الله عليه، أن تدخله عليه وهو نائمٌ ليقتله. فجعلت له في
فراش داود زق!َ خمرٍ ودسته عليه، وضربه بالسيف وسالت الخمر، فظنَّ أنَّها
الدّم، فأدركه الأسف والنّدم، فأومأ بالسيف ليقتل نفسه ومعه ابنته، فأمسكت
يده، وحدَّثته ما فعلته، فشكرها على ذلك.
ويكون السّكران إذا ألمَّ بذلك المسجد، ترتر ومزمز، كما في الحديث،
واستنكه، فإن أوجبت الصورة أن يجلد جلد، ولا يقتصر له الشّيخ، أغراه الله،
أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، على أربعين في الحدَّ على مذهب أهل
الحجاز، ولكن يجلده ثمانين على مذهب أهل العراق، فإنَّها أوجع وأفجع.
ويقال إن النبيّ صلى الله عليه وسلم، جلد أربعين، فلمّا صار الأمر إلى عمر
بن الخطَّاب، عليه السّلام، استقلَّها، فشاور علياً، عليه السّلام،
فجعلاها ثمانين.
وإذا صحّت الأخبار المنقولة بأنّ أهل الآخرة يعلمون أخبار أهل العاجلة،
فلعلّ حواريَّه المعدَّات له في الخلد، يسألن عن أخباره من يرد عليهنّ من
الصُّلحاء، فيسمعن مرّةً أنّه بالفسطاط، وتارةً أنّه بالبصرة، ومرّةً أنّه
ببغداد، وخطرةً أنّه بحلب. فإذا شاع أمر التّوبة، ومات ناسكٌ من أهل حلب
أخبرهن بذلك، فسررن وابتهجن، وهنّأهنَّ جاراتهنَّ. ولا ريب أنّه قد سمع
حكاية البيتين الثابتين في كتاب الاعتبار:
أنعم الله بالخيالين عينا ... وبمسراك يا أميم إلينا!
عجباً ما جزعت من وحشة اللَّح ... د ومن ظلمة القبور علينا!
وأعوذ بالله من قومٍ يحثُّهم المشيب على أن يستكثروا من أمّ زنبقٍ، كأنّها
المنجية من بنت طبق،كما قال حاتم:
وقد علم الأقوام لو أنَّ حاتماً ... أراد ثراء المال، كان له وفر
يفكُّ به العاني، ويؤكل طيِّباً ... وليست تعرِّيه القداح ولا اليسر
أماويّ إن يصبح صداي بقفرةٍ ... من الأرض، لا ماءٌ لديَّ ولا خمر
تري أنَّ ما أهلكت لم يك ضرَّني ... وأنَّ يدي ممّا بخلت به صفر
وقال طرفة:
فإن كنت لا تستطيع دفع منيَّتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي
وقال عبد الله بن المعتز:
لا تطل بالكؤوس مطلي وحبسي ... ليس يومي، يا صاحبي، مثل أمسي
لاتسلني وسل مشيبي عنّي، ... مذ عرفت الخمسين أنكرت نفسي
فهذا حثتَّه كثرة سنيه على أن يستكثر من السُّلافة، وما حفظ حقَّ الخلافة،
وإنّ العجب طمعه أن يبلي، كأنّه في العبادة شحب وبلي، ولكنّ القائل قال
لمعاوية بن يزيد:
تلقَّاها يزيدٌ عن أبيه، ... فخذها يا معاوي عن يزيدا!
وقد كان محمّد بن يزيد المبرَّد ينادم البحتريَّ ثمّ ترك.وأنا أضنُّ به،
ميزّ الله من الغيظ قلب عدوِّه، أن يكون كأبي عثمان المازني: عوتب في
الشّراب فقال: إذا صار أكبر ذنوبي تركته.
وأمّا إبراهيم بن المهديّ فقد أساء في تعريضه بالكأس لمحمّد بن حازم، ولكن
من عبث بالبمَّ والزِّير، لم يكن في الدّيانة أخا تعزير. وقد روي أنّ
المعتصم دعا إبراهيم كعادته فغنَّاه البيتين اللذين يقال فيهما: غنّى صوت
ابن شكلة، وبكى إبراهيم، فقال له المتعصم: ما يبكيك؟ فقال: كنت عاهدت الله
إذا بلغت ستين سنةً أن أتوب، وقد بلغتها. فأعفاه المعتصم من الغناء وحضور
الشراب.
والتّوبة إذا لم تكن نصوحاً، لم يلف خلقها منصوحاً. وكان في بلدنا رجلٌ
مغرمٌ بالقهوة، فلمّا كبر رغب في المطبوخ، وكان يحضر مع نداماه وبين يديه
خرداذيُّ فيه مطبخةٌ، وعندهم قدحٌ واحدٌ، فيشرب هو من المطبوخ ويشرب صحابه
من النيء، فإذا جاء القدح إليه ليشرب، غسله من أثر الخمر وشرب فيه، فإذا
فرغ خرداذيُّ المطبوخ رجع فشرب من شراب إخوانه.
وأمّا مخاطبته غيره وهو يعني نفسه، فهو كقولهم في المثل: إيّاك
أعني واسمعي يا جارة. ولا عندد عن الجبلَّة، يريد المتنسِّك أن ينصرف
حبُّه عن العاجلة، وليس يقدر على ذلك، كما لو لا تقدر الظبية أن تصير
لبؤةً، ولا الحصاة أن تتصوَّر لؤلؤةً: يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك
إنَّك كنت من الخاطئين. وقول القائل في الدّعاء: اللّهم اجعل وصعي بازياً،
يكون للسّفه مواذياً.
ولقد علمت ولا أنهاك عن خلق ... أن لا يكون امرؤ إلاّ كما خلقا
وإنَّا لنجد الرّجل موقناً بالآخرة، مصدِّقاً بالقيامة، معترفاً
بالوحدانية وهو يحجأ على النّابح بعظمٍ، وعلى الجارية بعارية نظمٍ، كأنّه
في الأرض مخلدٌ، وإن فني سهلٌ وجلدٌ.
وكثير من الذين يتلون الآية: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله
كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلة مائة حبِّةٍ، والله يضاعف لمن
يشاء، والله واسعٌ عليم " . وهم بها مصدِّقون، ومن خشية إلههم مشفقون،
يضنُّون بالقليل التافه ولا يسمحون للسّائل ولا الوافه، فكيف تكون حال من
ينكر حديث الجزاء، ولا يقبل عن الفانية حسن العزاء؟ وقد مرّ به حديث أبي
طلحة، أو أبي قتادة ومعناه أنهّ خاصم يهوديّاً إلى النبيّ صلّى الله
وسلّم، وكان لأبي طلحة حديقة نخلٍ، وبينه وبين اليهوديّ خلفٌ في نخلةٍ
واحدةٍ. فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم، لليهوديّ: أتسمح له بالنخلة حتى
أضمن لك نخلةً في لجنّة؟ ونعتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنعوت
أشجار الجنّة. فقال اليهوديُّ: لا أبيع عاجلاً بآجل. فقال أبو طلحة: أتضمن
لي يا رسول الله كما ضمنت له حتى أعطه الحديقة؟ فقال: نعم. فرضي أبو طلحة
بذلك. وأخذ اليهوديّ وذهب إلى حديقته، فوجد فيها امرأته وأبناءه وهم
يأكلون من جناها، فجعل يدخل إصبعه في أفواههم فيخرج ما فيها من التمر،
فقالت امرأته: لِمَ تفعل هذا ببنيك؟ فقال: إنّي قد بعت الحديقة. فقالت: إن
كنت بعتها بعاجلٍ فبئس ما فعلت! فقصَّ عليها الخبر، ففرحت بذلك.
ولو قيل لبعض عبَّاد هذا العصر: أعط لبنةً ذات قضَّةٍ، لتعطى في الآجلة
لبنةً من فضَّة، لما أجاب. لو سئل أمةً عوراء، يعوَّض منها في الآخرة
بحوراء، لما فعل. على أنّه من المصدِّقين، فكيف من غذي بالتكذيب، وجحد
وقوع التّعذيب؟ وأمّا فاذوه فلقي طائر الحين، متكفياً من بين جناحين، فلا
إله إلاَّ الله، ما أعدَّ المهراس، ليفضح به الرأس، ولكن لكلِّ أجل كتابٌ،
والشرُّ يبكر وينتاب. منته نفسه التّوبة، فكانت كصاحبة امرىء القيس لمّا
قال لها:
منَّيتنا بغدٍ وبعد غدٍ ... حتى بخلت كأسوإ البخل
أبي الهذيل العلاف
ويحكى عن أبي الهذيل العلاَّف أنّه كان يمرُّ في الأسواق على حمارٍ ويقول: يا قوم احذروا توبة غلامي.وكان له غلامٌ يعد نفسه التّوبة، فسقطت عليه آجرةٌ فقتلته، والدّنيا الغرَّارة ختلته.وأوّل ما سمعت بأخبار الشّيخ، أدام الله تأثيل لفضل ببقائه، من رجلٍ واسطيٍّ يتعرّض لعلم العروض، ذكر أنّه شاهده بنصيبين، وفيها رجلٌ يعرف بأبي الحسين البصري، معلماً لبعض العلويّة، وكان غلامٌ يختلف إليه يعرف بابن الدن، وقد اجتاز الشّيخ ببلدنا والواسطيُّ يومئذٍ فيه. وقد شاهدت عند أبي أحمد عبد السّلام بن الحسين المعروف بالواجكا رحمه الله، فلقد كان من أحرار النّاس كتباً عليها سماعٌ لرجلٍ من أهل حلب، وما أشكُّ أنّه الشّيخ، أيّد الله شخصه بالتّوفيق، وهو أشهر من الأبلق العقوق، لا يفتقر إلى تعريف بالقريض، بل يصدح شرفه بغير التّعريض. قال البكريُّ النَّسابة لرؤبة: من أنت؟ قال: أنا ابن العجَّاج. قال: قصَّرت وعرَّفت. وإنّما هو في الاشتهار، كما سطع من ضوء نهارٍ، وكما قال الطائيُّ:
تحميه لألاؤه أو لو ذعيتَّه، ... من أن يذال بمن أو ممَّن الرّجل؟
وإن تناسخت الأمم في العصور، فهو عليُّ بن منصور الذي مدحه الجعفيُّ، فقال والخالق وفيّ:
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا، فسمّوه عليَّ الحاجبا
حجب طلاب الأدب عن تلك الرّتبة، ونزل بالمشّامخة لا العتبة.
وأمّا العلماء الذين لقيهم، فأولئك مصابيح النّاجية وكواكب الدّاجية،
وإنَّ في النّظر إليهم لشرفاً، فكيف بمن اغترف من كلِّ بحرٍ وجد غرفاً؟
وإنّما أقول ذلك على الاقتصار، ولعلَّه قد نزف بحارهم بالقلم والفهم،
وفتحوا له أغلاق البهم جمع بهمةٍ وهو الأمر الذي لا يهتدى له فأخذ عن
الكتابيّ سور التنّزيل، وفاز بثواب جزيل،فكأنما لقنّه إيّاه الرّسول،
وبدون تلك الدّرجة يبلغ السُّول. أو أخذها عن جبرئيل،فى غير ولا تبديل.
وسهّلوا له ما صعب من جبال العربيّة، فصارت حزونة كتاب سيبويه عنده
كالدِّمات، وغني في اللُّجج عن ركوب الأرماث.
وأمّا انحيازه إلى أبي الحسن، رحمه الله، فقد كان ذلك الرّجل سيَّداً،
ولمن ضعف من أهل الأدب مؤيَّداً، ولمن قوي منهم وادّاً، ودونه لللنوب
محاداً، وكان كما قال القائل:
وإذا رأيت صديقه وشقيقه ... لم تدر أيهما ذوو الأرحام
وكما قال الطّائيّ:
كلُّ شعبٍ كنتم به آل وهب ... فهو عبي وشعب كل أديب
والمثل السّائر: على أهلها تجني براقش. وذكر الصُّوليّ أنّه دخل على
المتَّقي بعدما قتل بنو حمدان محمّد بن رائق، فسأله عن أبيات نهشل بن
حرِّيّ:
ومولىّ عصاني واستبدَّ برأيه ... كما لم يطع بالبفتين قصير
فلما رأى ما غب أمري وأمره ... وناءت بأعجاز الأمور صدور
تمنَّى نئيشاً أن يكون أطاعني ... وقد حدثت بعد الأمور أمور
يقال: فعل كذا نئيشاً، أي بعدما فات، قال الشاعر:
إنّك يا قطين ولت منهم ... لألأم مالك عقباً وريشاً
تناءت منكم عدس بن زيدٍ ... فلم تعرفكم إلا نئيشاً
وما زال الشّبان المحسون من أنفسهم بالنهضة، يبغون ما شرف من المراهص،
وكيف بالسّلامة من الواهص؟ والمثل السّائر: رأي الشّيخ خير من مشهد
الغلام. ورمّا سار الطّالب سورّة، فواجهت من القدر زورةّ، إنّ الغفة من
العيش، لتغني المجتهد عن البري والرّيش، ولكن لا موئل من القضاء المحتوم،
وآهٍ من عمرٍ بالتّلف مختوم:
وسورة علمٍ لن تسَّدد، فأصبحت ... وما يتمارى أنّها سورة الجهل
وأمّا حججه الخمس فهو، إن شاء الله، يستغني في المحشر بالأولى منهن، وينظر
في المتأخرين من أهل العلم، فلا ريب أنّه يجد فيهم من لم يحجج، فيتصدّق
عليهم بالأربع.
وكأنّي به وعماعم الحجيج، يرفعون التّلبية بالعجيج، وهو يفكر في تلبيات
العرب وأنّها جاءت على ثلاثة أنواع: مسجوع لا وزن له، ومنهوك، ومشطورٍ.
فالمسجوع كقولهم:
ليبك ربنّا لَّبيك، ... والخير كله بيديك
والمنهوك على نوعين: أحدهما من الرَّجز، والأخر من المنسرح، فالذي من
الرَّجز كقولهم:
لبيك إن الحمد لك، ... والملك لا شريك لك
إلا شريك هو لك ... تملكه وما ملك
أبو بناتٍ بفدك فهذه من تلبيات الجاهليّة، وفداك يومئذ فيها أصنام،
وكقولهم.
لبيك يا معطي الأمر، ... لبيّك عن بني النّمر
جئناك في العام الزَّمر ... نأمل غيثاً ينهمر
يطرق بالسيّل الخمر.
والذي من المنسوج جنسان: أحدهما في آخره ساكنان، كقولهم:
لبيك ربَّ همدان، ... من شاحطٍ ومن دان
جئناك نبغي الإحسان ... بكلّ حرفٍ مذعان
نطوي إليك الغيطان: ... نأمل فضل الفغران
والآخر لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن بجيلة ... الفخمة الرّجيلة
ونعمت القبيلة ... جاءتك بالوسيله
نؤّمل الفضيله وربّما جاؤوا به على قوافٍ مختلفة، كما رورا في تلبية بكر
بن وائل:
لبيك حقاً حقاً ... تعبّداً ورقاً
جئناك النَّصاحه ... لم نأت للرَّقاحه
والمشطور جنسان: أحدهما عند الخليل من الرّجز، كما روي في تلبية تميم:
لبيك لولا أنّ بكراً دونكا ... يشكرك الناس ويكفرونكا
ما زال منّا عثج يأتونكا والآخر من السريع وهو نوعان: أحدهما يلتقي فيه
ساكنان كما يروون في تلبية همدان:
لبيك مع كل قبيلٍ لبوك ... همدان أبناء الملوك تدعوك
قد تركوا أصنامهم وأنتابوك، ... فاسمع دعاءً في جميع الأملوك
قوهم: لبَوك، أي لزموا أمرك، ومن روى: لبَّوك، فهو سناد مكروه.
والمشطور الذي لا يجتمع فيه ساكنان كقولهم:
لبيك عن سعدٍ وعن بنيها ... وعن نساءٍ خلفها تعنيها
سارت إلى الرّحمة تجتنيها والموزون من التلبية يجب أن يكون كلهّ من الرجز
عند العرب، ولم تأت التلبية بالقصيد. ولعّلهم قد لبّوا به ولم تنقله
الرّواة.
وكأني به لمّا اعتزم على استلام الرّكن، وقد ذكر البيتين اللذّين ذكرهما
المفجع في حدَّ الإعراب:
لو كان حياّ قبلهن ظعائناً، ... حيَّا الحطيم وجوهنَّ وزمزم
لكنَّه عمّا يطيف بركنه ... منهنَّ صمّاء الصدى مستعجم
فيعجب من خروجه من المذكَّر إلى المؤنث. وإذا حمل هذا على إقامة الصفّة
مقام الموصوف لم يبعد.
وكذلك يذكر قول الآخر:
ذكرتك والحجيج له عجيجٌ ... بمكثة والقلوب لها وجيب
فقلت ونحن في بلدٍ حرامٍ ... به لله أخلصت القلوب
أتوب إليك يا ربّاه ممّا ... جنيت فقد تظاهرت الذّنوب
فأمّا من هوى ليلى وحبِّي ... زيارتها، فإنِّي لا أتوب
فيقول: أليس قال البصريون إنَّ هاء النُّدبة لا تثبت في الوصل والهاء في
قوله: يا ربَّاه، مثل تلك الهاء ليس بينهما فرقٌ؟ ولكن يجوز أن يكون
مغزاهم في ذلك المنثور من الكلام، إذ كان المنظوم يحتمل أشياء لا يحتملها
سواه.
ولعلّه قد ذكر هذه الأبيات في الطَّواف:
أطوِّف بالبيت فيمن يطوِّف، ... وأرفع من مئزري المسبل
وأسجد باللّيل حتى الصّباح، ... وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ ... يسخِّر لي ربَّة المحمل
فقال: ما أيسر لفظ هذه الأبيات لولا أنّه حذف أن من خبر عسى! فسبحان الله،
لا تعدم الحسناء ذاماً، وأيُّ الرّجال المهذَّب.
وذكر عند النَّفر وتفرُّق الناس هذين البيتين:
ودّعي القلب يا قريب وجودي ... لمحبٍّ فراقه قد أحمّا
ليس بين الحياة والموت إلاَّ ... أن يرّدوا جمالهم فتزمّا
وقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت ونحن على منى ... تحلُّ بنا، لولا نجاء الرّكائب
ولم أرها إلاَّ ثلاثاً على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
تبدّت لنا كالشّمس تحت غمامةٍ ... بدا حاجب ٌ منها، وضنَّت بحاجب
وميّز بين هذين الوجهين في قوله: تحلُّ بنا، لأنََّه يحتمل أن يكون: تحلّ
فينا، وقد يجوز أن يريد: تحلنا، كما يقال: انزل بنا هاهنا، أي أنزلنا،
ومنه قوله:
كما زلَّت الصّفواء بالمتنزل
وإن كانت الحجج التي أتى بهامع مجاورةٍ، فقد أقام بمكّة حتى صار أعلم بها
من ابن داية بوكره، والكدريِّ بأفاحيصه، والحرباء بتنضبته.
وإن كان سافر إلى اليمن أو غيره، وجعل يحجُّها في كلّ سنة، فذلك أعظم درجة
في الثّواب، وأجدر بالوصول إلى محلِّ الآوَّاب. ولعلّه قد وقف بالمغمِّس
وترحَّم على طفيلٍ الغنوي لقوله:
هل حبل شماء بعد الهجر موصول ... أم أنت عنها بعيد الدّار مشغول؟
إن هي أحوى من الرِّبعي، حاجبه، ... والعين بالإثمد الحاري مكحول
ترعى أسرة مولّيٍ أطاع لها ... بالجزع، حيث عصى أصحابه الفيل
وإنّما أطلقت التّرحُّم على طفيلٍ إذ كان بعض الرّواة يزعم أنَّه أدرك
الإسلام، وروى له مدحٌ في النبي صلّى الله عليه وسلم، ولم أسمعه في
ديوانه، وهو:
وأبيك خيرٍ إنَّ إبل محمّدٍ ... عزلٌ تماوح أن تهبَّ شمال
وإذا رأين لدى الفناء غريبةً ... فاضت لهنَّ من الدّموع سجال
وترى لها حدَّ الشّتاء على الثّرى ... رخماً، وما تحيا لهنّ فصال
وأنشد أبيات ابن أبي الصّلت الثّقفي:
إن آيات ربنا ظاهراتٌ ... ما تمارى فيهنّ إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمَّس حتى ... ظلَّ يحبو، كأنَّه معقور
كلُّ دين يوم القيامة عند الله ... إلاَّ دين الحنفية بور
وما عدم أن تخطر له أبيات نفيلٍ:
ألا حييت عنّا ردينا ... نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت، فلا تريه، ... لدى جنب المغمِّس ما رأينا
إذا لعذرتني ورضيت أمري، ... ولم تأسي على مافات بينا
حمدت الله إذ أبصرت طيراً ... وحصب حجارةً تلقى علينا
وكلُّ القوم يسل عن نفيلٍ ... كأنَّ عليَّ للحبشان دينا!
وليت شعري أقارناً أهلّ أم مفرداً؟ وأرجو أن لا تكون لقيته بمكَّة شهلةٌ
تعرض عليه فتيا ابن عبّاسٍ، حلف ما بها من باسٍ، فتذكَّر قول القائل:
قالت، وقد طفت سبعاً حول كعبتها:
هل لك يا شيخ في فتيا ابن عبّاس؟
هل لك في رخصة الأطراف ناعمةٍ
تمسي ضجيعك حتى مصدر النّاس فأمّا المنتسبون إلى جوهرٍ، فالجوهر بعد إدراك
الحظِّ، يرجع إلى تغيير وتشظٍّ، كم درّةٍ في تاج ملك، لمّا رمي بالمهلك،
فضتَّها من الأسف حظاياه، وهل تثني من الأجل سراياه؟ وأخرى على نحر كعاب،
شطَّت عن الدَّنس والعاب، منيت بالنقابة أو النُّحاز، فجعلتها الوالدة في
منحاز.
وكأنّي به وقد مرَّّ بأنطاكية فذكر قول امرىء القيس:
علون بأنطاكيَّةٍ فوق عقمةٍ، ... كجرمة نحلٍ أو كجنّة يثرب
وخطر له أن النّطك وهو اللّفظ الذي يجب أن يشتق منه أنطاكية لو كانت
عربيّةً، مهملٌ لم يحكه مشهورٌ من الثِّقات. ولمّا مرَّ بملطية أنكر وزنها
وقال: فعلية، مثالٌ لم يذكر، وإذا حملناها على التّصريف وجب أن تكون ياؤها
زائدةً لأن قبلها ثلاثةً من الأصول.
وأمّا صديقه الذي جدب عند السَّبر، فهو يعرف المثل: أعرض عن ذي قبر، إذا
حجز دون الشّخص ترابٌ، فقد تقضَّت الآراب، من ليم في حال حياته، استحقَّ
المعذرة في مماته، ولعله نطق بما نطق في معنى انبساطٍ، لا وهو بالكلم
ساطٍ، ومن غفر ذنب حيٍّ وهو يلحق به الأذاة، فكيف لا يغفر له بعد الميتة
وقد عدم منه الشَّذاة؟ وسلامٌ على رمسٍ من مخالسٍ، يعدل بألف تسليمةٍ في
المجالس، وهو يعرف ما قالوه في معنى البيت:
وآتي صاحبي حيث ودَّعا
أي أزور قبره.
وأمّا الذي أنكره من البديه، فمولاي الشّيخ مكرَّرٌ في الأدب تكرير الحسن
والحسين في آل هاشم، والوشم المرجَّع بكفِّ الواشم، وهل يعجب لسعجةٍ من
قمريّ،أو قطرةٍ تسبق من السّحاب المريّ؟ ولو باده خزامى عالجٍ بالرائحة
لجاز أن يرعف غضيضها، أو البروق الوامضة لما امتنع أن يعجل وميضها. وفي
النّاس من يكون طبعه المماظَّة، فيؤذي الجليس، ويكثر التّدليس وهو يعلم
أنّه فاضل، لا ينضله في الرّمي مناضل.
والبديه ينقسم أفانين، ويصرّف للنّفر أظانين.فمنه القبل، ولعلّه فيه أجرى
من سبل، أو هو السَّبل. والمراد بسبل الفرس الأنثى المعروفة، والسَّبل:
المطر.
وبديه التّمليط، ولا تجود الرّاسية بالسَّليط.
وبديه الإعنات، وذلك الموقظ من السِّنات، وهو يختلف كاختلاف الأشكال، ولا
ينهض به ذو الوكال.
وأمّا أبو عبد الله بن خالويه وإحضاره للبحث النُّسخ، فإنّه ما عجز ولا
أفسخ أي نسي ولكن الحازم يريد استظهاراً، ويزيد على الشّهادة الثانية
ظهاراً:
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ، ... نكدن، ولا أميَّة في البلاد
أين كأبي عبد الله؟ لقد عدمه الشّام! فكان كمكَّة إذ فقد هشام، عنيت هشام
بن المغيرة، لأنَّ الشاعر رثاه فقال:
أصبح بطن مكَّة مقشعرّاً ... كأنَّ الأرض ليس بها هشام
يظلُّ كأنّه أثناء سوطٍ ... وفوق جفانه شحمٌ ركام
فللكبراء أكلٌ كيف شاءوا ... وللصُّغراء حملٌ واقتثام
وأبو الطيب اللّغوي اسمه عبد الواحد بن عليٍّ، له كتابٌ في الإتباع صغير
على حروف المعجم في أيدي البغداديين، وله كتابٌ يعرف بكتاب الإبدال، قد
نحا به نحو كتاب يعقوب في القلب، وكتابٌ يعرف بشجر الدرِّ، سلك به مسلك
أبي عمر في المداخل، وكتابٌ في الفرق قد أكثر فيه وأسهب. ولا شكَّ أنَّه
قد ضاع كثيرٌ من كتبه وتصنيفاته، لأنّ الرّوم قتلوه وأباه في فتح حلب.
وكان ابن خلويه يلقبِّه قرموطة الكبرثل، يريد دحروجة الجمل، لأنّه كان
قصيراً.
وحدّثني الثقه أنّه كان في مجلس أبي عبد الله بن خالويه وقد جاءه
رسول سيف الدّولة يأمره بالحضور ويقول له: قد جاء رجلٌ لغويُّ، يعني أبا
الطّيب هذا، قال المحدِّث: فقمت من عنده ومضيت إلىالمتنبي فحكيت له
الحكاية، فقال: السّاعة يسلء الرّجل عن شوط براحٍ، والعلَّوض، ونحو ذلك،
يعني أنّه يعنته.
وكان أبو الطيب اللّغوي بينه وبين أبي العبّاس بن كاتب البكتمريّ مودّةٌ
ومؤانسةٌ، وله يقول:
يا عبد إنّك عند القلب جنتَّه ... حبّاً، وإّنَك عند الطَّرف ناظره
أزمعت سيراً، فقل ما أنت قائله ... واذكر لراعي الهوى، ما أنت ذاكره
لا أشتكي سهراً طالت مسافته ... اللّيل يعلم أنّي الدّهر ساهره
قوله: يا عبد، يريد: يا عبد الواحد، كما قال عديُّ بن زيد في الأبيات
الصادية التي مضت:
غيبَّت عنّ؟ي عبد في ساعه الشَّرّ ... وجنِّبت أوان العويص
يريد عبد هندٍ.
وقد كان أبو الطيب يتعاطى شيئاً من النَّظم.
وقد علم الله أنّي لا في العير ولا في النّفير، ومن للجارمة بالتّكفير؟
كلَّما رغبت في الخمول، قدِّر لي غير المأمول، كان حقُّ الشّيخ إذ أقام في
معرَّة النّعمان سنةً ان لا يسمع لي بذكرٍ، ولا أخطر له على فكر، والآن
فقد غمر إفضاله، وأظلَّني دوح أدبه لا ضاله، وجاءتني منه فرائد لو تمثِّلت
لواحدة منها تومةً، لم تكن بالصحف مكتومةً، ولاستغنى بثمنها القبيل، وعمر
إليها السّبيل؛ ينظر منها النّاظر لى جوهرةٍ، مثل الزّهرة، كما قال
الرّاجز:
ذهب لمّا أن رآها تزمره ... وقال: يا قوم، رأيت منكرة
شذرة واد إذ رأيت الزُّهرة وبعضهم يروي: ترمله، مكان: تزمره، وهي أكثر
الرّوايتين على ما فيها من الإكفاء.
وهو، أدام الله عزَّ الأدب بحياته، كريم الطّبع والكريم يخدع، ومن سمع جاز
أن يخال، والجندل لا ينتج الرِّخال.
وأمَّا ما ذكره من ميله في مصر إلى بعض اللّذات، فهو يعرف الحديث: أريحوا
القلوب تع الذِّكر. وقال أحيحة بن الجلاح:
صحوت عن الصِّبا واللهو غول ... ونفس المرء آونة ملول
وكان ينبغي أن يكون في هذا الوقت يضبط ما معه من الأدب بدرس من يدرس عليه،
إذ كانت السِّنُّ لابدَّ لها من تأثير، وأن ترمي بقلَّةٍ كلَّ كثيرٍ،
ولكنَّ قطرته الفاردة تغرَّق، ونفسه إذا برد يحرِّق، وقال رجلٌ من قريش:
لله درّي حين أدركني البلى ... على أيِّما تأتي الحوادث أندم؟؟؟؟!
ألم أجتل البيضاء يبرق حجلها ... لها بشرٌ صافٍ ووجهٌ مقسَّم؟
ولم أصطبح قبل العواذل شربةً ... مشعشعةً، كأنَّ عاتقها الدّم
ولعلّه قد قضى الأرب من ذلك كلَّه، والأشياء لها أواخر، وإنَّما العاجلة
سرابٌ ساخر، وقد عاشر ملوكاً ووزراء، فلا منقصة ولا إزراء، وقد سمع نبأ
النّعمان الأكبر، إذ فارق ملكه فراق المعبر، وتعوَّض من الحرير المسوح،
ورغب في أن يسوح،وإيّاه عنى العباديُّ في قوله:
وتذكَّر ربَّ الخورنق إذ فكَّ ... ر يوماً وللهدى تفكير
سرَّه ملكه وثرة ما يم ... لك والبحر معرضاً والسّدير
فارعوى جهله فقال: وما غب ... طة حيٍّ إلى الممات يصير؟
والسُّكر محرَّمٌ في كلِّ الملل، ويقال:إنّ الهند لا يملِّكون عليهم رجلاً
يشرب مسكراً، لأنّهم يرونه منكراً، ويقولون: يجوز أن يحدث في المملكة نبأٌ
الملك سكران، فإذا الملك المتبع هكران.
لعنت القهوة، فكم تهبط بها رهوةٌ؛ لا خيرة في الخمر، توطىء على
مثل الجمر. من اصطبح فيهجاً،فقد سلك إلى الدّهية منهجاً. من اغتبق أمَّ
ليلى، فقد سحب في الباطل ذيلاً. من غري بأمَّ زنبق، فقد سمح بالعقل
الموبق. من حمل بالرّاحة راحاً، فقد أسرع للرّشد سراحاً. من رضي بصحبة
العقار فقد خلع ثوب الوقار. من أدمن قرقفاً، فليس على الواضحة موقفاً. من
سدك بالخرطوم، رجع إلى حال المفطوم. المواظبة على العانِّي، تمنع بلوغ
الأماني. الخيبة لسبيئةٍ، تخرج من سرٍّ كلَّ خبيئةٍ. لا فائدة في الكميت،
جعل حيَّها مثل الميت. من بلي بالصَّرخديّ، لم يكن من الفاضحة بالمفديّ.
ما أخون عهود السُّلاف، تنفض مرير الأحلاف. أمّا السُّلافة، فسلٌّ وآفة.
كم شابٍّ في بني كلابٍ، مات غبطةً،وما بلغ من الدّنيا غبطة؟! رماه بسحافٍ
قاتلٍ، إدمان المعتقَّة ذات المخاتل. من بكر إلى الشَّمول، فرأيه ينظر
بطرف مسمول. أقلُّ عنتاً من كرينة، ليثٌ زأر في العرينة. كم بربطٍ، عصف
بجعد وسبط! كم مزهرٍ، أوقع هاجداً في السَّهر! وهو يعرف أبيات المتنخِّل:
ممّا أقضِّي ومحار الفتى ... للضبع والشيبة والمقتل
إن يمس نشوان بمصروفةٍ ... منها بنيءٍ، وعلى مرجل
لا تقه الموت وقيّاته ... خطَّ له ذلك في المحبل
وينبغي أن يزِّهده في الصّهباء الصّافية، أن نداماه الأكرمين أصبحوا في
الأجداث العافية، كم جلس مع فتيانٍ، أتى عليهم الزّمن كلَّ الإتيان، فكان
كما قال الجعديُّ:
تذكّرت والذّكرى تهيج لي الهوى
ومن حاجة المحزون أن يتذكّرا
نداماي عند المنذر بن محرِّقٍ
فأصبح منهم ظاهر الأرض مقفرا وهو يعرف الأبيات التي أوّلها:
خليليَّ هبَّا طال ما قد رقدتما، ... أجدّكما لا تقضيان كراكما؟
وهل يعجز أن يكون كما قال الآخر:
أمّا الطّلاء فإنّى لست ذائقها ... حتى ألاقي بعد الموت جبَّارا
كأنّه كان نديمه على الطِّلاء، فلمّا رماه التّلف من غير بلاء، حرَّم عليه
شربها، حتى تسكنه الرّاكدة تربها.
وسرَّتني فيئة الدّنانير إليه، فتلك أعوانٌ، تشتبه منها الألوان، ولها على
النّاس حقوقٌ، تبرُّ إن خيف عقوق.
قال عمرو بن العاص لمعاوية: رأيت في النّوم أن القيامة قد قامت وجيء بك
وقد ألجمك العرق. فقال معاوية: هل رأيت ثمَّ من دنانير مصر شيئاً؟ وهذه لا
ريب من دنانير مضر لم تجيء من عند السُّوق، ولكن من عند الملوك، ولم تكن
مهر هلوك، فالحمد لله الذي سلَّمها إلى هذا الوقت ولم تكن كذهبٍ مخزونٍ،
صار إلى الخمّارة مع الموزون، كما قال:
وخمَّارةٍ من بناتٍ المجوس ... ترى الزِّقَّ في بيتها شائلا
وزنَّا لها ذهباً جامداً، ... فكالت لنا ذهباً سائلا
ولا ألغز عنها هذا البيت:
دنانيرنا من قرن ثورٍ، ولم تكن ... من الذهب المضروب بين الصّفائح
لو رآها المرقِّش لعلم أنّها أحسن من وجوه حبائبه، لمَّا غدا الظّاعن
بربائبه، فقال:
النَّشر مسكٌ، والوجوه دنا ... نيرٌ، وأطراف الأكفِّ عنم
وإنها لأحسن من الوجوه التي ذكرها الجعدي، وزعم أن حسنها بديّ، فقال:
في فتوٍ شمّ العرانين أمثا ... ل الدّنانير شفن بالمثقال
أخذت من جوائز كرامٍ صيدٍ، تارةً بالخدمة وتارة بالقصيد، ولم تكن في
العيدية مرهناتٍ، ولا عند الغرض موهناتٍ، كما قال ردَّادٌ الكلابيُّ:
يطوي ابن سلمى بها عن راكبٍ بعراً ... عيديَّة، أرهنت فيها الدّنانير
وهي عند البله والكيس، أجود من الخاتم الذي ذكره ابن فيسٍ، فقال:
إن ختمت جاز طين خاتمها، ... كما تجوز العبديّة العتق
أراد بالعبدية دنانير نسبها إلى عبد الملك بن مروان، ويقال إنّه أول من
ضرب الدّنانير في الإسلام.
وجلتّ عن نقد الصّيرفي، وهي الرّواجح لدى الميزان الوفّي، حاش الله أن
تكون كما قال الفرزدق:
تنفى يداها الحصى في كلّ هاجرةٍ ... نفي الدّنانير تنقاد الصّياريف
وهذا البيت ينشد على وجهين: الدّنانير والدّارهيم.
ولا هي من دنانير أيلة، باع بها البائع نخيله، وإنمّا ذكروا دنانير أيلة
لأنهّا كانت في حيّز الرّوم فتأتيها الدَّنانر من الشام، قال:
وما هبرزي من دنانير أيلةٍ ... بايدي الوشاة مشرقاً يتأكَّل
الوشاة: النقاشون الذين يشونه ولو رآها الضبيّ محرزٌ، لشهد أنهّا حين
تبرز، أجلُّ من تلك القسمات وإن كانت في أوجه ذي سماتٍ، قال:
كأن دنانيراً عى قسماتهم، ... وإن كان قد شفّ الوجوه لقاء
ومعاذ الله أن نقرن بحوذان وادٍ، سقته روائح وغوادٍ، حتى إذا القيظ وهج،
تمزّق ما لبس وانهج، قال الشاعر:
وربَّ وادٍ سقاه كوكب أمر ... فيه الأوابد والأدم اليعافير
هبطته غادياً والشّمس شارقة ... كأن حوذانه فيه الدّنانير
ولو أخذ مثلها النّادم على بيع كميته، لأسكنت البهجة في خلده وبيته، ولم
يأسف أن عوض حماراً من فرس، ولوجد على الشّكوى ذا خرسٍ، ولم يقل:
ندمت على بيع الكميت، وأنمّا ... حياة الفتى هم له وخسار
وامّا أتاني بالدنّانير سائمي، ... أصاخت وهشت للبياع نوار
وقالت: أتم البيع واشتر غيره، ... فحولك في المشتى بنون صغار
فأنفقت فيهم ما أخذت، ولم يزل ... لدي شراب راهن وقتار
إلى أن تداعى الجند بالغزو وانجلت ... غوم شتاء سحبهن غزا
وأعوزني مهر يكون مكانه ... كأن ليس ين العالمين مهار
وسار على الخل المغذَّة صحبتي ... وسرت وتحتي للشقاء حمار
ولله المنّة كما نجّاها بالقدر من بكورٍ، ليس من بكره بالمشكور، يحمل معه
دنانير، ولا يصحب من القوم صنانير، أي بخلاء فيقيم بهم في الدَّسكرة
أيامّاً، أيقاظاً في السكر أو نياماً، فتفني الذَّهب أقداح، كأنّها جزور
الميسر وهي القداح قال الجعدي:
ود سكرةٍ صوت أبوابها ... كصوت المواتح في الحوأب
سبقت إليها صياح الدّيوك ... وصوت نواقي لم تضرب
وقال آخر:
وقبضةٍ من دنانير غدوت بها ... للدّسكري وحولي فتية مح
ولم يزل ثمّ يسقينا ويأخذها ... حتى استقلَّ بما في الصّرَّة القدح
ولو كان الشيخ أدرك من تقدم من الملوك، لكن كلّ واخد منها كالذي قال فيه
القائل
وأصفر من ضرب دار الملوك ... يلوح على وجهه جعفر
يزيد على مائة واحداً، ... إذا ناله معشرٌ أيسروا
ودنانيره، بإذن الله، مقدَّسات، ما هنَّ بالحرج ملدسات
والحزامة من سومه وشيمه، فلا يدفع إلى مقارض شيئاً من عيمه أي مختاراته
وفي الكتاب العزيز: " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم
من إن تأمنه بدينار لا يؤدَّه إليك " وهذا قيل لرسول الله صلى الله عليه
وسلم: وقد كان في زمانه من تخرج، يتضمخ بالنسك ويتأرخ، فأما اليوم فلو أمن
كتابي على نميٍَّ، لأسرعت إليه الظنَّن إسراع رميّ والرَّمي ههنا سحاب
سريع الإقشاع، من قول الهذلي:
أولئك و دعوت أتاك منهم ... رجال مثل أرمية الحميم
وما عنيت بالكتابي، من نسب إلى توارةٍ وإنجيل، دون من نسب إلى القرآن
البجيل.
على أنّه لا بدّ من أمانةٍ مفترقة في البلاد، تكون للخيّر من التّلاد،
وإنّها في الآخرة لأشرف، وأرحض لما يقترف، فليشفق على الصّبابة، إشفاق
الندَّس ذي اللَّبابة، فكل واحدٍ منها دينار أعزةٍ، يبعث الرّابي على
الهزّة، كما قال سحيم:
تريك غداة البين كفاً ومعصماً ... ووجهاّ كدينار الأعزَّة صافيا
ولو نظر إليه قيس بن الخطيم لما شبّه به وجه كنوده، وجعله من أنصر جنوده،
ولم يسمح أن يقول:
صرمت اليوم حبلك من كنودا ... لتبدل وصلها وصلاً جديدا
عشيَّة طالعت فأرتك قصراً ... محاسن فخمة منها وجيدا
ووجهاً خلته لمّا بدا لي ... غداة البين ديناراً نقيدا
ولمثله قصد ربيعة بن المكدَّم، لمّا أيقن بحتفٍ مقدَّم، فقال:
شديّ علىَّ العصب أنَّ سيّار ... فقد رزيت فارساً كالدّينار
أو ملكه مالك بن دينار مع زهده، وبلوغه في الورع أقصى جهده، لجاز أن يحجأ
به على دينار أبيه، وقد يكذب قائل في التشبيه.
وكلّ هبرزيٍ من هذه الصُّفر المباركة، أبلغ في قضاء الحاجة من
دينارٍ الذي اختاره للمأربة قائل هذا البيت:
هل أنت باعث دينارٍ لحاجتنا ... أو عبد ربٍ أخا عون بن مخراق
وهذا البيت يتداوله النحويوّن، وزعم بعض المتأخرين من أهل العلم أنّه
مصنوع، وما أجدره بذلك! فأمّا قول الفرزدق:
رأيت ابن دينارٍ يزيد رمى به ... إلى الشام يوم العنز، والله قاتله
لو كان دينار هذا المذكور كأحد هذه الدّنانير، لأرب به أن ينسب إليه يزيد.
وأين هي من دنانير النّخَّة التي قال في واحدها القائل:
عميّ الذي منع الدّينار ضاحيّةّ، ... دينار نخَّة جرمٍ وهو مشهود
ودينار النَّخَّة دينار كان يأخذه المصدَّق إذا فرغ من الجباية.
وكل نقيشٍ من هذه الرّاجعة بعد اليأس، أنقع لغليل الصَّديان، من دينار
الذي دعاه لسقيه راكب فلاةٍ، وهو على كور علاةٍ فقال:
أقول لدينارٍ وهنَ شوائل، ... بنا كنعامٍ طالبات رئال
لكّ الويل أدركني بشربة آجن ... من الماء، ما مشروبها بزلال
فما كاد دينار يغيث بنطفة ... حشاشة نفسٍ آذنت بزوال
ولا هو كدينار الأخطل الذي ذكره في قوله: ؟كمت ثلاثة أحوال بطينتها حتى
اشتراها عبادي بدينار
لو وقع إلى عبادي لما مذل ... به لخمَّار، ولو حسب في الضمَّار
ولا كالدّينار في البيت الذي أنشده أبو عمرو الزّاهد:
وفي الكتاب أسطر محكوكه، ... لا حظَّ في الدّينار للكاروكه
زعم أن الكاروكة القوادة.
والعجب لها تفر من بنان السّارق، فرار دنانير الشَّارق، وصفها أبو الطيب
فقال:
وألقى الشّرق منها في ثيابي ... دنانيراً تفر من البنان
لو رآها كثيرَّ عزة لآلى أوكد أليةٍ، أنّها أحسن من الهرقليَّة، التي شبه
بمنفردها نفسه فقال:
يروق عيون النّاظرين كأنّه ... هرقلي وزنٍ، أحمر التبّر، راجح
وإن كانت زائدة على الثمانين، ... فقد أوفت على عدَّة أصحاب
موسى الذين جاء فيهم: " واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا " وعلى
عدّة الاستغفار المذكور في قوله: " إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر
الله لهم " ، وعلى عدّة أذرع السّلسلة في قوله تعالى: " في سلسلة ذرعها
سبعون ذراعاً فاسلكوه " .
ولو كان الإنسان في قليب عمقه ثمانون قامةً، جاز أن تستنقذه هذه المصفرَّة
من غير مرضٍ، والزّائلة بما يعترض من الجرض وإنّما ذكرت ذلك لقول الأعشى:
ولو كنت في جبٍ ثمانين قامةً ... ورقيِّت أسباب السّماء بسَّلم
ولو كانت سنو زهير مثلها لما وصف نفه بالسآمة، ولكانت له أنهض قامة
والقامة الأعوان، كأنّها جمع قائم. قال الرّاجز:
وقامني ربيعة بن كعب ... حسبك ما عندهم وحسبي
ولو أدركه عروة بن حزام وهو يقول:
يكلفّني عمّي ثمانين ناقة ... وما لي يا عفراء غير ثمان
لجاز أن يرقّ له فيغيثه من هذه الثّمانين ببعضها أو يسمح له بكلّها، لأنّه
كريم طبع، وعوده في النُّوب عود نبعٍ؛ ولو صارت في يد عروة هذه الثمانون،
لبلغ بها الأمنية لأنّ النّاقة في ذلك الزّمان كانت ربّما اشتريت بعشرةٍ
دراهم.
الفرزدق
وفي بعض أخبار الفرزدق، أنّ رجلاً من ملوك بني أمية أعطاه مائة من إيل الصّدقة، فباعها بألفٍ وخمسمائة درهم، بعدما عني به، وزيد في الثمن. وقد مرّت به الحكاية التي يذكرها أصحاب التاريخ، أن الجمل كان يباع في زمن أبي جعفر المنصور بدرهمٍ، وأنّه صادر قوماً من أصحابه، وكانت لهم نعج، فباعوها ثماني نعاجٍ بدرهم. هذا ممّا وجد بخط المرزبانيّ في تاريخ ابن شجرة. وهي أنصر من الثمّانين التي ذكرها العلوي البصري في قوله:عبرت إليهم في ثمانين فارساً، ... فأدركت منهم بغيتي ومراديا
ولولا خشية الغلوِّ لقلت: ومن ثمانين ألفاً ذكرها السِّنبسيُّ في قوله:
ثمانون ألفاً، ولم أحصهم، ... وقد بلغت رجمها أو تزيد
وكيف لهمَّام بن غالبٍ أن ترميه الحوادث بهذه الثمانين، كما رمته بسنيه في قوله:
رمتني بالثِّمانين اللّيالي، ... وسهم الدّهر أقتل سهم رام
ولو ملكها راعي ثمانين الذي يقال فيه، أحمق من أعي ضأنٍ ثمانين،
لجعلت له عقلاً صافياً، وثوباً من الدّّعة ضافياً.
والمثل السّائر: وجدان الدّعة والرَّقين، يذهب أفن أفين، ويروى: يغطِّي
أفن ألأفين. وليس للرِّقة، شرف هذه الأشكال المشرقة، وللذهب على الفضَّة
صرف، والمكارم لها عرف.
وهو يعرف حكاية الحطيئة مع سعيد بن العاص لمَّا قال له: أيُّ النّاس أشعر؟
قال: الذي يقول، وهو أبو دؤادٍ الإياديُّ:
لا أعدُّ الإقتار عدماً ولكن ... فقد من قد رزئته الإعدام
قال: ثمّ من؟ قال: الذي يقول وهو حسان بن ثابت:
ربَّ علمٍ أضاعه الما ... ل وجهلٍ غطِّى عليه النّعيم
قال: ثمّ: قال: الذي يقول وهو أعشى قيس:
بيضاء ضحوتها وصف ... راء العشيّة كالعراره
قال: ثمّ من؟ قال: ثمّ حسبك بي إذا وضعت رجلاً على رجل، ثم عويت في آثار
القوافي، كما يعوي الفصيل في آثار الإبل.
وقال الشاعر:
وجدت بني الجعراء قوماً أذلَّةً ... ومن لا يهنهم يمس وغداً مهضَّما
وأحمق من راعي ثمانين ترتعي ... يجنب السَّتار بقل روضٍ موسَّما
وتلك الثمانون، ألقي فيها الرَّيع إلى أن يصير قيراطها قنطاراً، ولا فتئ
كلُّها معطاراً أي هو قريب من عطر، لا يعدم في صيامٍ ولا فطر، أوفر حظَّاً
في المحمدة من التي ذكرها الحرَّاني السّلمي، أبو المحلمَّ عوف بن المحلم
في قوله:
إنَّ الثّمانين، وبلِّغتها، ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وبدَّلتني بالشَّطاط الخنا ... وكنت كالصَّعدة تحت السَّنان
لأن التي ذكرها تضعف، وهذه تنعش وتسعف، وتلك تجعل الرّجل بعد كونه
كالقناة، كأنّه قوس في أيدي الحناة، وهذه تقيم الأود، وتسر الأسود. والبيت
المنسوب إلى أبي العتريف معروف:
حبشي له ثمانون عيباً ... كسبته مهابة وجالا
ولعّله قد اجتاز في أرض الموصل، بالقرية التي تعرف بثمانين وهي قريبة من
الجبل المعروف بالجوديِّ، فإن كانت ثمانون القرية وطن أناسٍ، فهذه تجري
مجرى الوطن في الإيناس، كما قال:
الفقر في أوطاننا غربة، ... والمال في الغربة أوطان
لله درّ الذّهب من خليلٍ، فإنّه يفيء بظلٍّ ظليلٍ؛ وإن دفن لم يبال، ما هو
كغيره بالٍ؛ أعطي نفيس المقدار، فما همَّ شرفه بانحدار؛ والدر إذا كسر
ذهبت قيمته، ولم يحفظ إن تنحطم كريمته، وربَّ ذهب في سوار، غبر زماناً غير
متوار، ثمّ جعل في خلخال، تختال بلبسه ذات الخال، ثمّ نقل إلى جامٍ أو
كاسٍ، وهو بحسنه كاسٍ، ما تغيَّر لبشار النّيران، ولا غدر بوفيّ الجيران.
ولعّل هذه الثمّانين، قد أدرك ذهبها قارون، وموسى المرسل وأخاه هارون،
وليس للهلكة به اتّصال، ولا من العزة له انفصال، يعظمَّ في أرض السند،
وبلاد الهند.
وأمّا ابنة الأخت، أدام الله لها الصيانة، فإنّها أدلَّت على الخال إذ كان
أحد الوالدين، فهمَّت أن تأكل بيدين، وما هي بأختٍ للّرجل الذي قال فيه
القائل:
ووراء الثأر منَّي ابن أختٍ ... مصع، عقدته ما تحل
ولا تجعلها أختاً للهجرس لأنّه طالب خاله بثأرٍ، فلم يقبح ما فعل من
الآثار، ولكن تشبه أن تكون أختاً لابن مضرسٍ حين فاتتها الأخوة من الهجر،
وهو المعروف بالخنوت واسمه توبة، وكان له أخ يقال له طارق رهط خاله، فرأى
أن يقتل خاله، وقال:
بكت جزعاً أميّ رميله أن رأت
دماً من أخيها في المهنَّد باديا
فقلت لها: لا تجزعي إنَّ طارقاً
حميمى الذي كان الخليل المصافيا
وما كنت، لو أعطت ألفي نجيبةٍ
وأولادها لغواً تساق، وراعيا
لأرضى بوترٍ منهم دون أن أرى
دماً من بني عوفٍ على السيف جاريا
وما كان في عوفٍ دم لو أصبته
ليوفيني من طارقٍ غير خاليا وهو القائل:
لتبك النسّاء المعولات لطارقٍ
ويبكين مرداساً قتيل قنان
قتيلان لا تبكي المخاض عليهما،
إذا شبعت من قرملٍ وأفان
ويجوز أن يكون قد رشح إلى هذه المرأة شيء من آداب الخؤولة، فليتق
معرَّة بيانها، أكثر من اتقّائه خلسة بنانها. فهو يعلم أنَّ الشعر ورثه
زهير بن أبي سلمى من خاله بشامة بن الغدير ولم يكن مزينة شعر يذكر، وحضره
زهير عند الوفاة فأراد أن يعطيه شيئاً من ماله، فال بشامة: أما بكفيك أنّي
ورَّثتك غرائب القصيد؟ وربمّا كان في نساء حلب، حرسها الله، شواعر، فلا
يأمن أن تكون هذه منهنّ، فطالما كنَّ أجود غرائز من رجالهنّ، وحدّث رجل
ضرير من أهل آمد يحفظ القرآن، يأنس بأشياء من العلم، انّه كان وهو شاب له
امرأة مقينة تزين النساء في الأعراس، وكان ينجم في القرع، وكان يعتمد حفظ
تلك الأشعار ويدرسها في بيته، ولا غريزة له في معرفة الأوزان، فيكر البيت.
فتقول له امرأته الماشطة: ويلي !ما هذا جيد! فيلاجها ويزعم أنّها مخطئة.
فإذا أصبح مضى فسأل من يعرف ذلك، فأخبره أنّ الصواب معها، وعرفَّه كيف يجب
أن يكون، فإذا لقنه عنه، عاد في اللّيلة الثانية، فذكره وقد أصلح، فتقول
الماشطة: هذا الساعة جيد.
وكان لي كريَّ من أهل البادية عرف بعلوان وله امرأة تزعم أنّها من طيّ،
فكان لا يعرف موزون الأبيات من غيره، وكانت المرأة تحس بذلك. وكانت تتأسف
على طفلٍ مات لها يقال له رجب، وكانت تنشد هذا البيت:
إذا كنت من جرَّا حبيبك موجعاً
فلا بدَّ يوماً من فراق حبيب فقالت يوماً:
إذا كنت من جرَّا رجيب موجعاً
فعلمت أنّ الوزن مختلّ، فقالت:
إذا كنت من جرَّاً رجيبن موجعا
فحركت التنوين وأنكرت تحريكه بالطبع. فقالت:
إذا كنت من جرَّا رجيبك موجعاً
فأضافته إلى الكاف فاستقام الوزن واللّفظ.
وفي الكتاب العزيز " يا أيُّها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوّاً
لكم فاحذروهم، وإنّ تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " .
مذهب الحلول
َّوأمّا أبو بكر الشبلي، رحمه الله، فلا ريب أنّه من أهل الفضل، وأرجو أن يكون سالماً من مذهب الحلولَّية.
وأنشدني له منشد:
باح مجنون عامرٍ بهواه
وكتمت الهوى، قفزت بوجدي
وإذا كان في القيامة نودي
أين أهل الهوى؟ تقدمت وحدي هكذا أنشدته: نودي بسكون الياء، ولا أحب ذلك وإن كان جائزاً، وإنّما يوجد في أشعار الضَّعفة من المحدثين.
فإن صحَّ أن هذين البيتين له، فلا يمتنع أن يعترض عليه قائل فيقول: من زعم أنّه صافٍ، فما يجب أن يأتي بغير الإنصاف، وادّعاؤه الانفراد من العالم لا يسلمَّه إليه البشر، إن كان هواه للمخلوقين أو الخالق ولا يقين، فله في الأمم نظراء كثير.
وأنا أعتذر إلى مولاي الشيخ الجليل من تأخير الإجابة، فإن عوائق الزّمن منعت من إملاء السوداء، كأنّها سوداء التي عناها القائل:
نبئِّت سوداء تنآني وأتبعها
لقد تباعد شكلانا وما اقتربا
وجدتها في شبابي غير مطلبةٍ،
فكيف والرّأس جون، تسعف الطلبا وأنا مستطيع بغيري، فإذا غاب الكاتب، فلا إملاء. ولا ينكر الإطالة عليّ، فإنّ الخالص من النّضار العين، طالما اشتري بأضعافه في الزِّنة من اللجين، فكيف إذا كان الثمن من النميات يوجدن في الطّرق مرميّات؟ وعلى حضرته الجيلة سلام يتبع قرومه إفاله، وتلحق بعوذه أطفاله.