كتاب : نور القبس
المؤلف : المرزباني
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه أستعين
الحمد لله وصلواته على خير خلقه أجمعين وآله وصحبه الطاهرين. وبعد فهذا علقته انتخابا من كتاب الشهاب القبس من المقتبس تأليف الشيخ الحافظ أبي عُبيد الله محمد بن عمران بن موسى المرزباني رحمه الله في أخباره النحاة والقراء والرواة. انتخبه الشيخ الامام نجم الدين بشير بن أبي بكر حامد بن سليمان الجعفري التبريزي المجاور بمكة حرسها الله تعالى وقال: الباعث عليه أمران أولها استفادتي منه ساعة بعد ساعة وثانيهما إفادة أهليه بغرائبه والنوادر التي فيه، فقد سمعت مشيختنا يقولون: لا يوجد من هذا الكتاب نسخة سوى الأصل الذي هو بخط المصنف، وهو ثمانية عشر مجلدا في وقف الوزير نظام الملك في مدرسته بمدينتة السلام حماها الله تعالى، وقال: وقد حذفت الأسانيد والطرق وما لا يتعلق ولم أخل ترجمة منه غير أني أذكر أحاسن ما ذكر، وبالله التوفقيق والعصمة في حُسن الاختار.في الحث على تعلم العلم وتقويم اللسان
قال عليه السلام: أعربوا القارآن والتسوا غرائبه. وقال عُمر الخطاب رضي الله عنه: تعلموا العربية فإنها تُنبت العقل وتزيد في المروة. وقال علي عليه السلام: عليكم السلام: عليكم بالعربية والشعر فإنها يحلان عُقدتين من اللسان العُجبمة والدكنة. وقالت عائشة رضي الله عنها: تعلموا الشعر فإنه يُعرب ألسنتكم.وقال عبد الملك بن مروان: اللحن في الرجل السري كاجدري في الوجه الحسن.
وقال لبنيه: اطلبواالعلم فإن استغنيتم كان لكم جمالا وإن افتقرتم كان لكم مالا. وقال أبو الحراج العقيلي: تعلموا العلم فإنكم إن كنتم ملكوكا فقتم، وإن كنتم أوساطاً سُدتم، وإن أعوزتم عشتم. وكان عُمر بن عبد العزيز يُؤدب أولاده ورعيته على اللحن.
وكتب كاتب لأبي موسى إلى عمر رضي الله عنهما: من أبو موسى . فكتب عمر أن اضربه سوطا واعزله عن عَمَلك! قال رجل للحسن: يا أبو سعيد! فقال له: كسب الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا ابا سعيد! ثم قال: تعلموا الفقه للاديان والطب للابدان والنحو للسان. وقال الضحاك بن رمل: شهدت سليمان بن عبد الملك يعرض الخيل بدابق، فقام إله رجل وقال: أصلح لله الأمير! إن أبينا هلك فوثب أخانا وأخذ مالنا. فقال سليمان: فلا رحم الله! قال سليمان: دعوه! فلو كان تارك اللحن ترك االساعة.
ودخل على عبد العزيز بن مروان رجل يشكو صهراً فقال: إن خَتَني فَعَلَ كذا وكذا. فقال له عبد العزيز: ومن خَتَنَك؟ قال: الختان الذي يختن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ويحك! بم أجابني؟! فقال أيها الامير، إنك لحنت! وهو لا يعرف اللحن، كان ينبغي أن تقوا: من خَنَتُك؟ فاشتغل عبد العزيز حنى صار من أفصح الناس، وكان يُعطي على العربية ويحرم على اللحن. كان الرجلُ يأتيه، فيقول له: ممن أنت؟ فيقول: من بني فلان. فيقول لكاتبه: أعطيه مائتي دينار! ودخل عليه رجل من عبد الدار فقال له: ممن أنت؟ فقال: من بنو عبد الدار. فقال هل: تجدها في جائزتك! فأمر له بمائة درهم.
ودخل أبو عمرو بن العلآء دار القُطن، فرأى على أعدال التجار مكتوباً: لأبو فلان. فقال: ياعجباً أيَلْحَنون ويَرْبَحون؟! وقال الحجاج ليحيى بن يعمر: أسمِعتني ألحن؟ قال: الأمير أفصح الناس! ثم اعاد عليه، فقال: نعم، حرفا واحدا! قال: أين؟ قال: في القرآن قال: ذلك اشنع! فما هو؟ قال: قرأت (قُلْ إِنْ كَانَ أَبَاؤُكُمْ وأَبناؤُكًمْ) إلى قوله (أَحب إِلَيْكُم) قرأت: احب ، بالرفع كأنه لما طال الكلام نسيت ما ابتدأت به. فقال له الحجاج: لاجرم، لا تسمع ذلك مني أبدا! وألحقه بخراسان، وكان بها يزيد بن المُهلب فاستكتبه، فكتب: عن يزيد بن المهلب إلى الحجاج، إنا لقينا العدو، ففعلنا واضطررناهم إلى عُرعرة الجبل. فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولذا الكلام؟ فقيل له: إن ابن يَعمر هناط. قال: ذاك إذا!.
ابتدآءُ امر النَحْو ومن تكلم فيه
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدُؤلي
حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنُتهم، فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضنا به
بعد علي رضي الله عنه. فلما كان زياد وجه إليه أن اعملشيئاً تكون فيه
إماما وينتفع به الناسُ، فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس! فدافع بذلك
حتى مر يوما بكلاء البصرة، وإذا قارى يقرأ (أَنَّ ألله بَرِيء مِنَ
المشرِكِينَ وَرَسُوِله) وفي آخرين، حتى سمع رجلا قال: سقطت عصاتي. فقال:
لا يحل لي بهد هذا أن أترك الناس. فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به
الأمير، فلبغ لي كاتباً حصيفا ذكيا يعقل ما أقول. فأتي بكاتب من عبد القيس
فلم يَرضه، فأتي بآخر من ثقيف، فقال له أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت
فمي بحرف فانقط نقطة على ألاه، إذا ضَممتُ فمي فانقُط نُقطة بين يدي
الحرف، وإذا كسرت فاضجَعلِ النُقطة تحت الحرف، فإذا أتبعتُ ذلك عُنَّةً،
فاجعل النقطة نقطتين. ففعل. فهذا نقطُ أبي الأسود، وعمل الرفع والنصب
والجر. واختلف الناي إليه يتعلمون العربية.
وكان ابرع أصحابه واحفظهم عنه عنبسة، فلما مات وكان ألقنهم عنه ميمُون
الأقْرَنُ أخذ الناس عنه، فلما مات وكن اكثر الناس أخذا عنه عبد الله بن
أبي إسحاق الحضرمي مولى الحضارمة أخذوا عنه، وهو أول من بعج النحو ومد
القياس والعلل. وكان معه أبو عمرو العلآء. قال سماك بن حرب: لا أظنُ فيهم
أحدا أتم فهما ولا أحسن عقلا من أبي إسحاق؛ فنجم من اصحابه عيسى بن عمر
الثقفي، ونجم من أصحاب عيسى الخليل بن أحمد الفراهيدي. قال شعبة: ولا أظن
أنه كان فيهم مثله ولا أكمل منه. وأخذ عن الخليل عمر بن عثمان بن قنبر
مولى بني الحارث بن كعب وهو سيبويه؛ وأخذ عن سيبويه أبو الحسن الأخفش أبو
عثمان المازني، ولا أعلم أن أحد ضبط عنه ظبطه. فأما خلف الأحمر فأخد النحو
عن عيسى بن عُمر، وأخذ اللغة عن أبي عمرو.
وجمع بلال بن أبي بردة بين ابن أبي إسحاق وابي عمرو بالبصرة، وهو يومئذ
والٍ عليها، ولاه خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك. قال
يونس: قال أبو عمرو: فغلبني ابن أبي إسحاق بالهمز يومئذ، فنظرت فيه بعد
ذلك وبالغتُ فيه. وأخذ يونس حبيب عن أبي عمرو، وكان مع ابن أبي إسحاق وأبي
عمرو مَسْلَمَةُ بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري وهو مسلمة النحو، كان
ابن أبي إسحاق خاله؛ وكان معهم حماد بن الزبرقان، وكان يونس يُفضله في
النحو. ومدح الفرزدق يزيد بن عبد الملك بأبيات فيها:
مُسْتَقْبِلِينِ شمال الشامِ تَضِربُنا ... بحاصب كنديف القطن منْثُور
على عَمائمِنا يُلقَى وأَرْحُلنا ... على زَواحِف تُرْجَى مُخُّها رير
قال ابن أبي إسحاق: أخطأت، أنما هي ريرُ، وكذلك قياس النحو في هذا الوضع.
قال يونس: والذي قال جائز حسنٌ. فلما ألُّحو على الفرزدق قال: " زواحف
نُزجيها محاسير " . قال التوزي: يقال: رير ورار وهو المخ الرقيق، وكيح
الجبل أسفله، وقيدٌ رُمح وقاد رمُح.
من اخبار العلماء والنحاة والرواة من اهل البصرة
1 - من أخبار أبي الأسْوَدهو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس - ويقال حُلَيس - بن نُفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.
قال يونس: الدُول في بني حنيفة ساكنة الواو، والديل في عبد القيس ساكنة الياء، والدُؤل مهموز في بني كنانة رهط أبي الأسود. وقال عيسى بن عمر: الدُئلي بكسر الهمز والقياسُ الفتح. - أدرك أبو الأسود حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وُلدتُ عام الفتح. وهاجر الى البصرة على عهد عمر بن الخطاب، واستعمله عليٌّ على البصرة خلافة لعبد الله بن العباس، وكان شيعةً له، وهو شاعر مجيد مكثر، وعنه أخذ يحيى بن يعمر.
قال أبو الأسود: دخلت يوماً على علي بن أبي طالب، فرأيته مطرقاً
يُفكر، فقلت: مالي أراك ياأمير المؤمنين مفكراً؟ فقال: قد سمعت من بعض
مَنْ معي لحناً، وقد هممت أن أصنع كتاباً أجمع فيه كلام العرب. فقلتُ: إن
فعلت ذلك أحييت قوماً وأبقيت العربية في الناس. فألقى إليَّ صحيفة فيها
الكلامُ كلُّه: اسم وفعل وحرف، فالاسم مادلَّ على المسمى، والفعل مادلَّ
على الحركة، والحرف ماجاء لمعنى ليس باسم ولافعلٍ. فاستأذنته في أن أضع في
نحو ماصنع شيئاً أعرضه عليه، فأذن لي؛ فألفت كلاماً وأتيته به، فزاد فيه
ونقص، وكان هذا اصل النحو.
قال ابن الأعرابي: الفصحاء في الإسلام أربعة: أبان بن عثمان والحسن بن
يسار البصري وأبو الأسود الدُؤْلي وقبيصة بن جابر الأسدي. - وكتب عمر بن
الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري وهو على البصرة: أما بعد،
فتفقهوا في الدين، وتفهموا العربية، وأحسنوا عبارة الرؤيا، وليعلم أبو
الأسود أهل البصرة الإعراب، وعلموا أولادكم العوم الدرية، وألقوا الرُكب،
وأنزوا على الخيل نزوا! - الرُكب جمع ركاب - وقيل: إن أبا الأسود أتى ابن
عباس فقال: إني أرى ألسنة العرب قد فسدت، فأردت أن أضع لهم شيئاً يقيمون
به ألسنتهم. قال: لعلك تريد النحو، أما إنه حق، وأستعين بسورة يوسف عليه
السلام. - وقال الشعبي: قاتل الله أبا الأسود! ماكان أعف أطرافه وأحضر
جوابه! كان استعمل عليّ أبا الأسود على البصرة وزياداً على الديوان
والخراج، فبلغ أن زياداً يطعن عليه عند علي، فقال:
رأيت زياداً ينتحيني بشره ... وأعرضُ عنه بادٍ مقاتله
وكلٌّ امرئٍ، والله بالناس عالمٌ ... له عادةٌ قامت عليه شمائله
تعوَّدها فيما مضى من شبابه ... كذلك يدعو كُلَّ أمرٍ أوائله
ويُعجبه صّفحي له وتحملي ... وذو الجهل يجزي الفحش من لايعادله
ولما هلك عليّ عليه السلام قال أبو الأسود:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ ... فلا قرَّت عيون الشامتينا
أفي الشهر الحرام فجعتمونا ... بخير الناس طُراً أجمعينا
قتلتم خير من ركب المطايا ... وخيَّسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
إذا استقبلت وجه أبي حُسين ... رأيت البدر راق الناظرينا
لقد علمت معد حيث كانت ... بأنك خيرها حسباً ودينا
ولما حمل عبيد الله بن زياد ولد الحسين بن علي رضي الله عنه وحرمه إلى
يزيد بن معاوية شيَّعهم جمعٌ من أهل الكوفة، فلما بلغوا النجف وقفوا
لتوديعهم، فأنشأت أم كلثوم بنت عليّ بن أبي طالب:
ماذا تقولون، إنْ قال النبي لكم: ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأنصاري ومحرمتي ... منهم أسارى وقتلى ضُرجوا بدمِ
ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
والشعر لأبي الأسود. - قال: (رَبَّنا ظَلْمنا أنْفسنا وإن لم تغفر لنا
وترحمنا لنكونن من الخاسرين). وقال أبو الأسود:
أترجو أمَّةٌ قتلت حُسيناً ... شفاعة جده يوم الحساب
وأرسل معاوية إلى زياد رسولاً فهما في أمر أراده فقال: سترى عنده أبا
الأسود الدؤلي شيخاً عليه عمامة سوداء، يجلس عن يمينه، لايتقدمه عنده أحدٌ
في الكلام، فقل له: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبرني عن
قولك:
يقول الأرذلون بنو قُشير: ... طوال الدهر لاتنسى عليا
أحِبُّ محمداً حُباً شديداً ... وعبَّاساً وحمزة والوصيا
أُحبهم لحُب الله حتى ... أجيءَ إذا بُعثت على هويّا
هوىً أعطيته منذ استدارت ... رحى الإسلام لم يعدل سويا
وما أنسى الذي لاقى حسينُ ... ولاحسن بأهونهم عليا
بنو عم النبي وأقربوه ... أحب الناس كلهم إليا
فن يك حبهم رشدنا ... ولست بمخطيءٍ إن كان غيا
أشككت في حبهم أرُشد هو أم غيٌّ؟ فلما حضر عند زياد قال لأبي
الأسود ذلك، فقال أبو الأسود: قل له: ماكنت أحب إلا تعلم أني متحقق متيقن
في حبهم أنه رشد، فإن الله عز وجل قال: (وإنا أو إياكم لعلى هُدى أو في
ضلال مبين)، أفيرى الله عز وجل شك في ضلالتهم ولكنه حققه بهذا عليم؟! ولما
وقعت الفتنة بالبصرة في أيام ابن الزبير مر أبو الأسود على مجلس بني قشير
فقال: يابني قشير، على ماذا اجتمع رأيكم في هذه الفتنة؟ قالوا: ولم
تسألنا؟ قال: لأخالفه، فإن الله لايجمعكم على هدى! - وأنشد عمر في هذا
المعنى:
إذا اشتبه الأمران يوماً وأشكلا ... عليَّ ولم أعرف صواباً ولم أدر
سألت أبا بكر خليلي محمداً ... فقلت له: ماتستحب من الأمر
فإن قال قولاً قلت خلافه ... لأن خلاف الحق قول أبي بكر
وقال زياد لأبي الأسود: كيف حبك لعلي؟ قال؛ حبي يزداد له شدة كما يزداد
بغضك له شدة، ويزداد لمعاوية حبا، وأيم الله إني لأريد بما أنا فيه الآخرة
وما عند الله، وإنك لتريد بما أنت فيه الدنيا وزخرفها، وذلك زائل بعد
قليل! فقال له زياد: إنك شيخ قد خزفت، ولولا أني أتقدم إليك لأنكرتني.
فقال أبو الأسود:
غضب الأمير بأن صدقت وربما ... غضب الأمير على البري المسلم
ودخل أبو الأسود على معاوية، فقال له: أصبحت جميلاً ياأبا الأسود، فلو
علقت تميمة تدفع عنك العين! فقال أبو الأسود وعرف أنه يهزأ به:
أفنى الشباب الذي فارقت بهجته ... كر الجديدين من آت ومنطلق
لم يتركا لي في طول اختلافهما ... شيئاً أخاف عليه لذعة الحدق
قد كنت أرتاع للبيضاء أنظرها ... في شعر رأسي وقد أيقنت بالبلق
والآن حين خضبت الرأس فاقني ... ما كنت التذ من عيشي ومن خلقي
وقال زياد لأبي الأسود: لولا أنك قد كبرت لاستعنا بك في بعض أمورنا. فقال:
إن كنت تريدني للصراع فليس عندي، وإن كنت تريد رأيي وعقلي فهو أوفر مما
كان. وأنشأ يقول:
زعم الأمير بأن كبرت وربما ... نال المكارم من يدبُّ على العصا
أأبا المغيرة رُبَّ أمر مبهمٍ ... فرَّجته بالمكر مني والدَّها
مر عبيد الله بن زياد على أبي الأسود وعليه ثياب رثة يكثر لبسها، فقال:
إلا تستبدل بجبتك هذه؟ فقال: رب مملولٍ لايستطاع فراقه! فأرسل إليه عبيد
الله ثمانين ثوبا - وقيل: مائة - ، فقال أبو الأسود:
كساك ولم تستكسه فاشكرن له ... أخُ لك يعطيك الجميل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت شاكراً ... بشكرك من أعطاك والوجه وافر
وقال أبو الأسود لابنه: يابني، إذا كنت في قوم فحدثهم على قدر سنك،
وسائلهم على قدر محلك، ولاترتفع عن الواجب فتستثقل، ولا تنحط عنه فتحتقر!
وإذا أوسع الله عليك فابسط، وإذا أمسك عليك فأمسك، ولاتجاود الله عز وجل،
فالله أجود منك! - وزوّج ابنتيه فقال لإحداهما: يابنية، أكرمي أنف زوجك
وعينيه وأذنيه! يريد: لايشم منك إلا طيبا ولايرى إلا جميلا ولايسمع إلا
حسنا. وقال للأخرى: يابنية، أمسكي عليك الفضلين! يريد: فضل النكاح وفضل
الكلام. - وقال لأولاده: أحسنت إليكم كباراً وصغاراً وقبل أن تولدوا!
قالوا: أحسنت إلينا صغارا وكبارا، فكيف قبل أن نولد؟ قال: طلبت لكم النسيب
كيلا تعيروا.
وقيل له: من أكرم الناس عيشا؟ قال: من حسن عيش غيره في خيره. فمن أسوأ
الناس عيشا؟ قال: من لايعيش في عيشه أحد. - وقال: البلاغة سلاطة اللسان.
وقيل: مارضيته الخاصة وفهمته العامة. وقال: ليس شيءٌ أعز من العلم، وذاك
لأن الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك. وقال:
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لاخير فيمن له أصل بلا أدب ... حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من حسيب أخيٍ عيٍ وطمطمة ... فدم لدى القوم معروق إذا انتسبا
في بيت مكرمة أباؤه نجب ... كانوا رؤوساً فأمسى بعدهم ذنبا
وخامل مقرف الأباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرتبا
أضحى عزيزاً عظيم الشأن مشتهراً ... في خده صعر قد ضل محتجبا
العلم كنز وذخر لانفاد له ... نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثم يسلبه ... عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لاتعدلن به درّا ولاذهبا
وقال:
وإذا وعدت الوعد كنت كغارم ... ديناً أقرّ به وأحضر كاتبا
حتى أنفذه كما وجهته ... وكفى عليَّ له بنفسي طالبا
وإذا منعت منعت منعاً بيتنا ... وأرحت من طول العناء الراغبا
لاأشتري الحمد القليل بقاؤه ... يوما بذم الدهر أجمع واصبا
وقال:
إذا لم يكن للمرء عقل فإنه ... وإن كان ذا مال على الناس هين
وإن كان ذا عقل أجل لعقله ... وأفضل عقل عقل من يتدين
وقال:
وعدد من الرحمان فضلا ونعمة ... عليك إذا ماجاء للخير طالب
وأن أمرا لايرتجى الخير عنده ... يكن هيناً ثقلاً على من يصاحب
أرى دولاً هذا الزمان بأهله ... وبينهم فيه تكون النوائب
فلا تمنعن ذا حاجة جاء طالباً ... فإنك لاتدري متى أنت راغب
وإن قلت في شيء نعم فأتمه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا، واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس: إنك كاذب
إذا كنت تبغي شيمة غير شيمة ... جبلت عليها لم تطعك الضرائب
تخلق أحيانا إذا ما أردتها ... وخلقك من دون التخلق غالب
وقال:
إا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... ففاض ففي صدري لسري متسع
إذا فات شيء فاصطبر لذهابه ... ولاتتبعن الشيء إن فاتك الجزع
ففي اليأس عما فات عزٌ وراحة ... وفيه الغنى والفقر ياضافي الطمع
إذا صاحبا وصل بحبل تجاذبا ... فمل قواه أوهن الحبل فانقطع
ولاتحفرن بئراً تريد أخا بها ... فإنك فيها أنت من دونه تقع
وكلُّ امرئ يبغي على الناس ظالماً ... تصبه على رغم عواقب ما صنع
وذكرت العمائم عنده، فقال: العمامة خير ملبوس: جنة في الحروب وواقية في
الأحداث، مسكنة من الحر ومدفئة من البرد، وقار في الندي وزيادة في القامة،
وهي تعد من تيجان العرب.
وقال لابن قيس الرقيات:
وما خصلة قد تذل الرجال ... بأسوأ وأخزى من المسأله
فإن مت ضراً فلا تسألن ... أخا الجهل من ماله خردله
فترجع من عنده نادماً ... وتقطع من كفك الأنمله
وإن هو أعطاك مجهوده ... فليس بأعطى من المكحله
وقال:
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئك بملئها يوماً ويوما ... تجئ بحماة وقليل ماء
ولاتقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر في القضاء
فإن مقادر الرحمان تجري ... بأرزاق العباد من السماء
مقدرة بقبض أو ببسط ... وعجز المرء من سبب البلاء
وبعض الرزق في دعة وخفض ... وبعض الرزق يكسب بالعناء
بينا أبو الأسود يوماً في طريق إذ لقيته امرأة لها رواء، فقالت: يا أبا
الأسود، هل لك فيّ؟ قال: ومن أنت؟ قالت: فلانة ابنة فلان. فعرفها فتزوجها؛
فلما مضت عليه أيام استكتمها سرا، فأفشته، فنهاها، ثم عادت لمثل مانهاها،
فقال لها: أصنعي طعاما وابعثي إلي إخوتك حتى يأتوك! فلما جاؤوا وأكلوا وقف
أبو الأسود عليهم وقال:
أرأيت امرأ كنت لم أبله ... أتاني فقال: اتخذني خليلا
فخاللته ثم صافيته ... فلم أستفد منه يوماً فتيلا
فعاتبته ثم ناقرته ... عتاباً رفيقاً وقولاً جميلا
فألفيته حين خاللته ... خؤون الأمانة خبا بخيلا
ألست حقيقاً بهجرانه ... وإسماع أذنيه هجراً طويلا
قالوا: بلى والله، من كان كذلك فهو محقوق بهذا. فقال: هي أختكم، خذوا
بيدها! وطلقها.
وخاصمت أمرأة أبي الأسود أبا الأسود في ولدها إلى معاوية - وكان معاوية قد
حج المدينة، وكان أبو الأسود كبيراً عنده يقرب مجلسه ويسأله عن أشياء،
فيقول فيها بعلم - فقالت: أصلح الله أمير المؤمنين، أمتع به! إن الله جل
وعز جعلك خليفة في البلاد، ورقيبا على العباد، يستسقى بك المطر، ويستنبت
بك الشجر، ويؤمن بك الخائف، ويردع بك الحائف، فأنت الخليفة المصطفى،
والأمير المرتضى، فأسأل الله عز وجل النعمة من تغيير، والبركة من غير
تقتير، فقد ألجأني إليك - ياأمير المؤمنين - أمر، ضاق به عني الهم،
ولينصفني من الخصم، وليكن ذلك على يديه، وأنا أعوذ بعد لك من العار
الوبيل، والأمر الجليل، الذي يستتر على الحرائز ذوات البعول. فقال لها
معاوية: من هذا الذي شعرك بشناره؟ فقالت: أمر طلاق كان من بعل غادر،
لاتأخذه من الله مخافة، ولايجد بأحد رأفة. قال: ومن بعلك؟ قالت: هو أبو
الأسود. فالتفت معاوية إليه وقال: أجق ماتقول هذه المرأة؟ قال: إنها
لتقولن من الحق بعضا، وليس يطيق أحدُ عليها تقضا، أما ما ذكرت من طلاقها
فهو حق، وسأخبرك عن ذلك بصدق، أما والله ما طلقتها لريبة ظهرت، ولامن هفوة
حضرت، كرهت شمائلها، فقطعت حبائلها. قال: وأي شمائلها كرهت؟ قال: إنك
مهيجها علي بلسان شديد، وجواب عتيد. قال: لابد لك من مجاوبتها، فأردد
عليها قولها عند محاورتها. قال: هي ياأمير المؤمنين كثيرة الصخب، دائمة
الذرب، مهينة للأهل، مؤذية للبعل، إن ذكر خير دفنته، وإن ذكر شر أذاعته،
تخبر بالباطل، وتطير مع الهازل، ولاتنكل من صخب، ولايزال منها زوجها في
تعب. فقالت: أما والله لولا حضور أمير المؤمنين، ومن حضره من المسلمين،
أرددت عليك بوادر كلامك بنوادر تردع كل سهامك. فقال معاوية: عزمت عليك لما
أجبته! فقالت: ياأمير المؤمنين، هو والله سؤول جهول، ملحاح بخيل، إن
قالفشر قائل، وإن سكت فذو ضغائن، ليث خبيث مأمن ثعلب حين يخاف، شحيح حين
يضاف، إن ألتمس الجود عنده انقطع، لما يعلم من لؤم أبائه، وقصور بنائه،
ضيفه جائع، وجاره ضائع، لايحمي ذمارا، ولايضرم نارا، ولايرى جوارا، أهون
الناس عليه من أكرمه، وأكرمهم عليه من أهانه. فقال معاوية: ما ر أيت أعجب
من هذه المراة! أنصرفي إليَّ رواحا! فلما كان العبثي جاءت، ومعاوية يخطب.
فقال أبو الأسود: اللهم أكفني شرها! قالت: قد كفاك الله شري، وأرجو أن
يعيذك من شر نفسك! فقال معاوية: مارأيت أعجب من هذه المرأة! فقال أبو
الأسود: ياأمير المؤمنين، إنها تقول من الشعر أبياتا، فتجيدها. قال: فتكلف
أنت لها أبياتا، لعلك أن تقهرها بالشعر. فقال أبو الأسود:
مرحبا بالتي تجور علينا ... ثم أهلا بحامل محمول
أغلقت بابها علي وقالت: ... إن خير النساء ذات البعول
شغلت قلبها عليَّ فراغا ... هل سمعتم بفارغ مشغول
فقالت تجيبه:
ليس من قال بالصواب وبالحق ... كمن جار عن منار السبيل
كان حجري فناءه حين يضجي ... ثم ثديي سقاءه بالأصيل
لست أبغي بواحدي ياابن حرب ... بدلا ما رأيته والجليل
وفي رواية أنها قالت: إن هذا يريد أن يغلبتي على ابني، وقد كان بطني له
رعاء، وثديي له سقاء، وحجري له فناء. فقال أبو الأسود: أبهذا تريدين أن
تغلبيني على ابني، فوالله لقد حملته قبل أن تحمليه، ووضعته قبل أن تضعيه.
فقالت: ولاسواء إنك حملته خفا وحملته ثقلا، ووضعته شهوة ووضعته كرها. فقال
معاوية:
ليس من غذاه طفلا صغيرا ... وسقاه من ثديه بالخذول
هي أولى به وأقرب رحما ... من أبيه، وفي قضاء الرسول
أنه ما حنث عليه ورقت ... هي أولى بذا الغلام الجميل
فدفعه معاوية إليها.
اشترى أبو الأسود جارية - يقال لها صلاح - لتخدمه، فطمعت فيه وأقبلت تتطيب
وتتعرض لفراشه، فأنشأ يقول:
أصلاح إني لاأريدك للصبا ... فذري التشكل حولنا وتبدَّلي
إني أريدك للعجين وللرحا ... ولحمل قربتنا وغلي المرجل
إذا تروح ضيف أهلك أو غدا ... فخذي التأهب نحو آخر مقبل
وقال له رجل: إنك والله ظريف لفظ، وظرف علم، ووعاء حلم، غير أنك بخيل.
فقال: وما خير ظرف لايمسك مافيه؟! - وسلّم أعرابي عليه فقال: كلمة مقولة.
قال: أتأذن في الدخول؟ قال: وراءك أوسع عليك! قال: هل عندك شئٌ يؤكل؟ قال:
نعم. قال: أطعمني! قال: عيالي أحق به! قال: مارأيت ألأم منك! قال: نسيت
نفسك! - وكان يقول: ليس السائل الملحف مثل الردّ الجامسّ أي الجامد.
وكان أبو الأسود قد أتخذ دكاناً على باب داره بقدر مجلسه، لايسع غيره وغير
طبق يكون بين يديه يأكل منه، فإذا مرّ به مار فسلم عليه عرض عليه طعامه،
فينظر فلايرى لنفسه موضعاً، فيدعو له وينصرف. فمر به أعرابي وهو يأكل،
فدعاه، فأجابه وأقبل يأكل معه وهو قائم؛ فلما اشتد عليه القيام أخذ الطبق
فوضعه في الأرض وقال له: إن كان لك في الطعام حاجة فانزل وكل! وأقبل
الأعرابي يأكل، وأبو الأسود ينظر إليه ويتغيظ، ثم قال: ماأسمك، يأعرابي؟
قال: لقمان. فقال: لقد أصاب أصلك اسمك! ثم أنشأ يقول:
أنظر الى جلسته ومطه ... ولقمه مبادراً وغطه
ولفه رقاقه ببطه ... كأن جالينوس تحت ابطه
وسأله رجل فمنعه، فقال: ماأصبحت حاتمياً! قال: بلى أصبحت حاتمياً من حيث
لاتدري! أليس حاتم الذي يقول:
أماويَّ إما مانعٌ فمبين ... وأما عطاءٌ لاينهنهه الزجر
وكانت له ناحية من عبد الله بن عامر، فأنكر بعض شأنه ورأى منه جفوة، فقال
أبو الأسود:
ألم تر مابيني وبين ابن عامر ... من الود قد بالت عليه الثعالب
وأصبح ماقد كان بيني وبينه ... كأن لم يكن، والدهرُ فيه العجائب
فقلت: تعلم أن صرمك جاهرا ... ووصلك عنه شقةٌ متقارب
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... ولا بالذي تأتيك مني المثالب
إذا المرء لم يحببك إلا تكرها ... فذلك من أخلاقه ما يغالب
فللنأي خير من دنو على أذى ... ولاخير فيمن خالفته الضرائب
كان أبو الأسود صديقا لحوثرة بن مسلم عامل إصبهان، فخرج إليه، فلم يحفل به
حوثرة، فكتب إليه:
إنك اليوم امرؤ محتقرٌ ... خصَّه الله بلؤم وضعه
يسأل الناس ولا يعطيهم ... هبلته أمه ما أخضعه
لاتؤاخ الدهر خبا راضعاً ... ملهب الشد سريع المنزعه
خفق النعل إذا ماقلته ... واحذرن مخزاته في المجمعه
لايكن برقك برقا خلباً ... إن خير البرق ما الغيث معه
لاتشوبن بحق باطلا ... إن في الحق لذي الدين سعه
أولها:
سل خليلي ماالذي غيَّر لي ... وده والنصح حتى ودعه
لاتهني بعد إذ أكرمتني ... فشديد عادةٌ منتزعه
فلما قرأها أعياه جوابه. فعرضه على جماعة شعراء، فلم يجترؤا على أبي
الأسود، فأجابه عنه عطية بن حمزة بأبيات لم يلتفت إليها، فأجابه أبو
الأسود:
ألم تر أني والتكرم شيمتي ... وكلُّ أمرىٍ جارٍ على ماتعودا
أطهر أثوابي من الغدر والخنا ... وأنجو إذا ماكان خيرا وأنجدا
أعود على المولى إذا زال حلمه ... بحلمي وكان الحلم أبقى وأحمدا
وكنت إذا المولى بدا لي غشه ... تجاوزت عنه وانتظرت به غدا
لتحكمه الأيام أو غيره ... عليَّ ولم أبسط لساناً ولايدا
فحمل إليه حوثرة مائة درهم.
ولما كبر أبو الأسود كان يكثر الركوب، فقيل له: قد كبرت، فلو تودعت ولزمت
منزلك! فقال: صدقتم! ولكن الركوب يشد بضبعي، وأسمع من الخير مالاأسمع في
بيتي، وأستنشق الريح وألقى الإخوان، ولو جلست في منزلي اغتم أهلي واستأنس
بي الصبي واجترأت عليَّ الخادم، وكلمني من أهلي من كان يهاب كلامي، لإلفهم
إياي وجلوسي عندهم.
وله:
أظل كئيباً لو تشوكك شوكة ... وتفرح لو دهدهت من رأس حالق
لشتان مابيني وبينك في الإخا ... صدقتك في نفسي ولست بصادق
أفق عنك لايذهب بك التيه سالماً ... فإنك مخلوق ولست بخالق
وكل أخٍ عند الهوينا ملاطف ... ولكنما الإخوان عند الحقائق
وقال له رجل وكان حسن المتجرد: أشتهي أن يكون متاعي في سرَّتك! فقال:
ياأحمق، إذا يصير جرداني في سبتك! - وقال له رجل: لايبقى إلا الله والعمل
الصالح! إن العمل السوء يبقى حتى يخزي صاحبه.
ولما ولي حارثة بن بدر الغداني سرق كتب إليه أبو الأسود:
أحار بن بدر قد وليت ولاية ... فكن جرذا فيها يخون ويسرق
ولاتحقرن ياحار شيئاً فإنما ... يصيبك من مال العراقين سُرقُ
وإنك تلقى الناس إما مكذب ... يقول بما يهوى وإما مصدق
يقولون أقوالاً ولايبرمونها ... فإن قيل: هاتوا حققوا! لم يحققوا
وباه تميما بالغنى إن للغنى ... لساناً به العي الهيوبة ينطق
وكن حازما في اليوم إن الذي به ... يجئ غد يومٌ على الناس مطبق
ولاتعجزن فالعجز أوطأ مركب ... وماكل من يدعى إلى الخير يرزق
إذا مادعاك القوم عدوك آكلا ... فكل حار أوجع لست ممن يحمق
وشيع أبو الأسود حارثة بن بدر لما ولاه عبيد الله بن زياد سرق، فلما أراد
فراقه قال حارثة:
جزاك إله العرش خير جزائه ... فقد قلت معروفاً وأوصيت كافياً
أشرت بأمر لو أشرت بغيره ... لألفيتني فيه لرأيك عاصياً
ستلقى أخا يصفيك بالود حازما ... ويوليك حفظ العهد إن كان نائياً
وأيسر ماعندي المؤاساة مسمحا ... إذا لم تجد يوماً صديقاً مؤاسياً
فقال أبو الأسود:
إذا نلت الإمارة فاسم فيها ... إلى العلياء بالأمر الوثيق
ولاتك عندها حلواً فتحسى ... ولا مراً فتنشب في الحلوق
فكل إمارة إلا قليلا ... مغيرة الصديق على الصديق
وما استخبأت في رجل خبيئاً ... كدين الصدق أو حسب عتيق
ذوو الأحساب أكرم مخبرات ... وأصبر عند نائبة الحقوق
مرض أبو الأسود فقيل له: اصبر، فهذا أسر الله! قال: هو، أشد له! - مات
رحمه الله في الطاعون الجارف سنة تسع وستين، وسنة خمس وثمانون سنة.
2 - ومن أخبار يحيى بن يعمر العدواني
كان من بني عدوان وعداده في بني ليث؛ روى عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وعائشة، روى عنه قتادة وإسحاق بن سويد وغيرهما من العلماء، وهو من أهل البصرة. - قال عبد الملك بن عمير: أدركت فصحاء العرب ثلاثة: قبيصة بن جابر الأسدي وموسى بن طلحة ويحيى بن يعمر. وقيل: هو أول من نقط المصاحف.قال له الحجاج: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فمن أين لك هذه الفصاحة؟ قال: كان أبي نشأ بتَّوج فأخذت عنه. - وكان الحجاج قد استدعاه من خراسان بسبب كتاب كتبه عن يزيد بن المهلب اعجبته فصاحته فيه، ثم قال له: أسمعتني ألحن؟ قال: نعم، إنك تقصر الممدود وتمد المقصور. - وقيل: تجعل مكان أن إن - فرده إلى خراسان. - وقيل: إنه قال له: يايحيى، أنت الذي تزعم أن ولد علي من فاطمة ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: فقلت: إن آمنتني تكلمت. قال: فأنت آمن، والله لتخرجن من ذلك أو لألقين الأكثر منك شعرا! فقلت: نعم، أقرأ ذلك في كتاب الله عز وجل أن الله يقول، وقوله الحق: (ووهبنا لهُ إسحق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمن وأيوب ويوسف وموسى وهرون وكذلك نجزي المحسنين، وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كلٌ من الصالحين). وعيسى كلمة الله وروحه، ألقاها إلى العذراء البتول، نسبه الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، فجعله من ذرية إبراهيم. قال: مادعاك إلى نشر هذا ذكره؟ قلت: ماأستوجب الله به على العلماء في علمهم، ليبيننه للناس ولايكتمونه. قال: لاتعودن لذكر هذا ونشره! ثم كتب إلى قتيبة: إذا جاءك كتابي هذا فاجعل يحيى بن يعمر على قضائك، والسلام.
سأل يزيد بن المهلب يحيى بن يعمر: هل تشرب النبيذ؟ فقال: ما أدعه صباحي ولامسائي ولافيما بينهما! فقال له: أنت مشغول بنبيذك! وعزله.
فمرّ به الفرزدق ذات يوم، فتعبث به يحيى وذكر بعض شعره، وكان
يحيى أعلم أهل زمانه بالنحو، فقال له الفرزدق: مرة عند الحجاج تلحنه، ومرة
تخبر يزيد بن المهلب بشربك النبيذ، ومرة تتعرض للفرزدق، وما أتى هذا كله
إلا من طول لحيتك! فقال يحيى: ياأبا فراس، لو صلح أن نقطع منها مايزيد في
لحيتك فعلنا! فقال الفرزدق: ياأحمق، لو أن هذا يكون لما تركك كواسج قومك
وعليك منه شئ! فقال: مازحناك، ياأبافراس! قال: نحن جاددناك! إن شئت فزد
حتى نزيد.
مات يحيى رحمه الله في سنة ثلاث وثمانين.
3 - ومن أخبار نصر بن عاصم الليثي
كان ممن أخذ العربية من أبي الأسود وكان فقيها، وقيل أيضاً: إنه أوّل من نقط المصاحف.4 - ومن أخبار سعد الرابية
هو سعد بن شداد اليربوعي، أخذ النحو من أبي الأسود. وإنما قيل له سعد الرابية لأنه كان يعلم النحو في مكان يقال له رابية بني تميم. قال فيه الفرزدق:إني لأبغض سعداً أن أُجاوره ... ولاأحب بني عمرو بن يربوع
قوم إذا غضبوا لم يخشهم أحد ... والجار فيهم ذليل غير ممنوع
وكان مضحكاً لزياد.
5 - ومن أخبار عنبسة بن معدان الفيل
كان أبرع أصحاب أبي الأسود. وإنما لقب أبوه بالفيل لأنه كان قد أهدى إلى زياد فيل، فكان يجري عليه في كل يوم عشرة دراهم، فجاء معدان وهو من أهل ميسان، فقال: ادفعوه إلى وخذوا مني في كل يوم عشرة دراهم! فدفعه إليه زياد، فكان يدور به في البصرة ويكتسب به فأثرى. - وادعى إلى مهرة بن حيدان.6 - ومن أخبار عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي
كان يقال له أعلم أهل البصرة وأعقلهم، فرع النحو وقاسه، وتكلم في الهمز حتى عمل فيه كتاب مما أملاه. كان يقول: قد آذاني هؤلاء الفترخانيون! والفترخة المبالغة في الشئ والتعمق فيه، وأنشد أعرابي:يصد الفترخانيون عني ... كما صدت عن الشرط الجوالي
إذا اجتمعوا على ألف وباه ... فيالك من قتال أو جدال
اجتمع أبو عمر بن العلاء وعيسى بن عمر وابن أبي أسحاق عند بلال بن أبي بردة، فقال: أنشدوني أنصاف أبيات مكتفية. فأنشد عيسى بن عمر لنمر بن تولب:
فكيف ترى طول السلامة يفعل
وأنشد عبد الله لحميد بن ثور:
وحسبك داءً أن تصح وتسلما
وأنشد أبو عمرو لأبي ذؤيب:
والدهر ليس بمعتب من يجزع
قال عبد الله يوماً عند الحسن: رَعُفْتُ. فقال الحسن: تقول " رعُفتُ " وأنت رأس في العربية؟ قل: رعَفتُ.
توفي ابن أبي اسحاق قبل الثلاثين والمائة رحمه الله.
7 - ومن أخبار أبي عمرو بن العلاء
قال المرزباني: لم يكن أصحابه يعرفون اسمه سنين إجلالاً له، قيل: اسمه كنيته. قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو بن العلاء: مااسمك؟ فقال: أبو عمرو. وقيل: إن أسمه زبان وهو أثبت، وقيل: ريان، وقيل: جزء، وقيل: عتيبة، وقيل: العريان وهو الأكثر عند العلماء، واسم أبي العلاء عمار، قال الفرزدق:مازلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
حتى أتيت فتى ضخما دسيعته ... مُرّض المريرة حراً وابن أحرار
وعمار هو ابن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن جلهمة من بني مازن بن مالك ابن عمرو بن تميم.
وكان لأبي عمرو ثلاثة إخوة: أبو سفيان - واسمه عيينة - وعمر ومعاذ، وأبو عمرو وأسنهم. وكان يقول: نحن من أهل كازون. - وقال أبو عمرو بن العلاء: إني دعي، فلو كنت مدعيا لادعيت الى من هو أشرف ممن أنا منه. - كان أسمر طوالا ضرب البدن حاد النظر فهما عالما مشدود الثنيتين بالذهب.
وقال: إن لأهل الكوفة حذلقة النبط وصلفها، ولأهل البصرة حدة الخوز ونزقها، ولنا دهاء فارس وأحلامها. - قيل: كانت دفاتر أبي عمرو ملأ بيت إلى السقف، ثم انتسك فأحرقها. وكان رأساً في القرآن والحسن حيُّ، وكان من التابعين، لقي أنس بن مالك. ومر الحسن به وحلقته متوافرة والناس عكوف، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو عمر. قالَ: لاإله إلا الله، كاد العلماء أن يكونوا أرباباً! - كان يشتري كلَّ يوم كوزاً بفلس، فيشرب فيه يومه، ثم يتصدق به، ويشتري بفلس ريحاناً فيشمه، ثم يجففه ويخلطه بالأشنان.
وقد قرأ العظيم على عبد الله بن كثير، وعبد الله على مجاهد،
ومجاهد على ابنى عباس، وابن عباس على أبي، وقرأ أبي على النبي صلى الله
عليه وسلم. - قال أبو عمر: كان سعيد بن جبير إذا رآني بمكة قاعداً مع
الشباب ناداني: ياأبا عمرو، قم عن هؤلاء وعليك بالشيوخ! وكان أبي قد هرب
من الحجاج، فلحق بمكة، فلقيت بها عدة ممن قرأ على النبي صلى الله عليه
وسلم. - وقال: الرجز والرجس واحد كالأزد والأسد. وقال: الأسارى من شدَّ،
والأسرى من كان في أيديهم غير مشدودين.
وسأل رجل أبا عمرو حاجة، فوعده بقضائها، فتعذرت عليه بعد أجتهاد، فلقيه
الرجل فقال له: قد غمني أن وعدتني وعدا لم تنجزه! فقال له أبو عمر: فمن
أحق بالغم أنا أو أنت؟ قال الرجل: أنا المدفوع عن حاجتي. قال أبو عمرو: بل
أنا لأني وعدتك وعدا، فأنت بفرح الوعد، وأنا بهم الإنجاز، وبت ليلتك فرحا
مسروراً، وبت ليلتي مفكراً مغموماً، ثم عاق القدر عن بلوغ الوطر، فلقيتني
مدلا، ولقيتك محتشماً، فأنا أولى بالغم منك.
وقال: ماقالت الشعراء في شئ كما قالوا في المشيب، ومابلغوا كنهه. قال
الاصمعي: ولقد أجاد النمري حيث يقول " من البسيط " :
ماكنت أوفي شبابي كنه غرته ... حتى مضى فإذا الدنيا له تبع
وقال أبو عمرو: اتفقوا على أن أشعر الشعراء امرؤ القيس والنابغة وزهير. -
وكان يشبه شعر ثلاثة من شعراء الإسلام بشعر ثلاثة من شعراء الجاهلية:
الفرزدق بزهير وجرير بالأعشى والأخطل بالنابغة. قيل:فهلا شبهوا جريراً
بأمرئ القيس؟ قال: هو بالأعشى أشبه، كانا بازيين يصيدان مابين الكركي إلى
العندليب. وشبه شعر زهير بشعر الفرزدق لمتانتهما واعتسارهما، والأخطل
بالنابغة لقرب مأخذهما وسهولتهما، وهما مع ذلك لو ضربت بهما الحائط ثلمته!
- النابغة وزهير من مضر وامرؤ القيس من اليمن والأعشى من ربيعة. - وقيل
للفرزدق: من أشعر الناس؟ فقال: النابغة إذا رهب، وامرؤ القيس إذا ركب،
وزهير إذا رغب، والأعشى إذا طرب! أو قال: غضب. - وقال أبو عمرو في
ترتيبهم: امرؤ القيس ثم النابغة ثم زهير ثم الأعشى. قال: ثم بعدهم جرير
والفرزدق والأخطل. وقال: افتتح الشعر بأمرئ القيس وخُتم بذي الرمة. -
وقال: أقسام الشعر تؤول إلى أربعة أركان: فمنه افتخار ومنه مديح ومنه هجاء
ومنه نسيب، فأما الافتخار فيسبق الناس إليه جرير في قوله " من الوافر " :
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلَّهم غضابا
وأما المديح فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر " :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وأما الهجاء فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من الوافر " :
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعبا بلغت ولاكلابا
وأما النسيب فبرز فيه جرير على الناس في قوله " من البسيط " :
إن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
وكان يفضل الأخطل ويقول: لو أدرك من الجاهلية يوماً واحداً ما قدّمت عليه
جاهلياً ولاإسلامياً.
وقال: ماتساب اثنان إلا غلب ألأمُهما. وقال: عاجلوا الأضياف بالحاضر فإن
الضيف متعلق القلب بالسرعة. - وقال يونس: قدم إلينا أبو عمرو طبق رطب،
فأكلنا، فرفعت يدي، فقال: كل! فقلت: قد أحسبني. فضحك أبو عمرو وأعجبه ذلك
وقال: هذا من قول الله عز وجلّ: (جزاء من ربك عطاء حسابا)! أي كافياً.
وقيل له: من أبدع الناس بيتا؟ فقال: الذي يقول " من الرمل " :
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
قيل: من أمدح الناس؟ قال: الذي يقول " من الطويل " :
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي
فلا أنا منه ماأفاد ذوو الغنى ... أفدت وأعداني فبذرت ماعندي
قيل: فمن أغزل الناس بيتاً؟ قال: الذي يقول " من الرمل " :
ختم الحُبُّ لها في عنقي ... موضع الخاتم من أهل الذمم
والكل لبشار بن برد. - وقال: أرثى بيت قيل قول عبدة في قيس بن عاصم " من
الطويل " :
فما كان قيس هُلكه هلك واحدٍ ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
وقال: أحسن المراثي ابتداء قول " أوس بن حجر في " فضالة بن كلدة العبسي "
من المنسرح " :
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
إن الذي جمَّع السماحة ... والنجدة والبرَّ والتُقى جُمعا
الألمعي الذي يظن لك ... الظن كأن قد رأى وقد سمعا
قال الصولي: ولاأعرف ابتداء بعد هذه أحسن من أبتداء أبي تمام في مرثيته "
من الطويل " :
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا
وقال: ماقالت العرب بيتاً أبرع من قول أبي ذؤيب " من الكامل " :
والنفس راغبةٌ إذا رغبتها ... وإذا ترد إلى قليل تقنع
وقال: ماقالت أمدح من قول الشاعر " من الطويل " :
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وأنشد أبو عمرو لجابر بن رالان وهو أحسن ماوصف به الماء " من الطويل " :
أيا لهف نفسي كلما التحت لوحة ... على شربة من ماءٍ أحواض مأرب
بقايا نطاف أودع الغيم صفوها ... مصقلة الأرجاء زرق المشارب
ترقرق ماء الحسن فيهن والتوت ... عليهن أنفاس الرياح الغرائب
قال: ولم أسمع في وصف الماء أحسن من قول امرئ القيس " من الطويل " :
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... وجئ بماءٍ غير طرقٍ ولاكدر
بماء سحاب زلَّ عن متن صخرة ... إلى جوف أخرى طيب طعمه خصر
وكان يستحسن قول الشاعر " من الطويل " :
وتهجره إلا اختلاساً بلحظها ... وكم من محب رهبة الناس هاجر
وقال الجرمي: كيف بأبي عمرو لو سمع قول ابن الدمينة " من الطويل " :
بنفسي من لابد أني هاجره ... وأني في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد رماه الناس حتى أتقاهم ... ببغضي إلا ما تجن ضمائره
وقال أبو عمرو: وأحسن ماقيل في الصبر " من الطويل " :
تقول: أراه بعد عُروة لاهياً ... وذلك رزءٌ ماعلمت جليل
فلا تحسبي أني تناسيت عهده ... ولكنَّ صبري يا أميم جميلُ
قال الاصمعي: وأنا أقول: أحسن ماقيل في الصبر قول أبي ذؤيب " من الكامل " :
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني اريب الدهر لاأتضعضع
حتى كأني للحوادث مروة ... بلوى المشقر كل يومٍ تقرع
وسمع أبو عمرو رجلاً ينشد " من الخفيف " :
أصبر النفس عند كل مهم ... إن في الصبر حيلة المحتال
لاتضيقن في الأمور فقد ... يكشف غماؤها بغير احتيال
ربما تجزع النفوس من الأمر ... له فرجة كحل العقال
وكان قد خرج يريد الانتقال وهو مختف من الحجاج فقال: ماالأمر؟ قال: مات
الحجاج. قال: فلم أدر بأيهما أنا أفرح بموت الحجاج أم بقوله فرجة؟ وكنا
نقول: فرجة من الفرج وغيره. قال الأصمعي: بالفتح من الفرج وبالضم فُرجة
الحائط.
دخل أبو عمرو على سليمان بن علي، فسأله عن شئ، فصدقه، فلم يعجب ذلك
سليمان، فخرج أبو عمرو متعجباً من كساد الصدق عندهم ونفاق الكذب، فقال "
من المتقارب " :
أنفت من الُّل عند الملوك ... وإن أكرموني وإن قربوا
إذا ما صدقتهم خفتهم ... ويرضون مني بأن يكذبوا
قال أبو عبيدة: فكنا نرى أن الشعر له. - قال أبو عمرو: وسمعت هاتفاً يقول
في بعض الأدوية " من الطويل " :
وإن أمرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وقال عبد الله بن عتمة الضبي يرثي بسطام بن قيس الشيباني لما قتلته ضبة،
ويصف قسمته الغنائم في أصحابه إذا أصابها " من الطويل " :
لك المرباع منها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول
قال أبو عمرو: المرباع أن يكون له ربع الغنيمة، والصفايا ما اصطفى لنفسه
من الغنيمة، وحكمك يقول: لك أن تحكم في الغنيمة بما أحببت، والنشيطة ما
انتشط دون الحي الذي يطلب فيه فهو له، إن شاء قسم لهم وإن شاء أخذ لنفسه،
والفضول إذا قسم الغنائم على أصحابه ففضلت فضلة لا تنقسم مثل بعير وبعيرين
وثلاثة لايقع فيها قسم فهي له. قال أبو عمرو: فجاء الله بالإسلام بالخمس
فأبطل المغانم كلها.
وقال: كان لبيد مجبراً والأعشى عدلياً، وأنشد قول لبيد " من الرمل " :
من هداه سُبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
وأنشد للأعشى " من المنسرح " :
استأثر الله بالوفاء ... وبالعدل وولَّى الملامة الرجلا
وقال أبو عمرو في قول جميل " من الطويل " :
رمى الله في عيني بثينة بالقذي ... وفي الغر من انيابها بالقوادح
قال: عيناها رقباؤها، وأنيابها ساداتها لاأسنانها التي في فيها، والقوادح
الحجارة.
وقال أبو عمرو: حضرت الفرزدق وهو يجود بنفسه في سنة عشر ومائة، وقدم جرير
من اليمامة، فاجتمع إليه الناس، فما أنشدهم، ولاوجدوه كما عهدوه، فقلت له
في ذلك، فقال: أطفأ موت الفرزدق والله جمرتي وأسال عبرتي وقرب مني منيتي.
ثم شخص إلى اليمامة، فنعي لنا في شهر رمضان من تلك السنة.
وسأل أبو عمرو رؤبة: مالسانح؟ قال: ماولاك ميامنه. قال: مالبارح؟ قال:
مولاك مياسره، والذي يأتيك من أمامك النطيح، والذي يأتيك من خافك القعيد.
وقال أبو عمرو: خرجت مع جرير إلى الشام نريد هشام بن عبد الملك، فلما
قربنا من بساطه طرب جرير، فقال: ياأبا عمرو، أنشدني للمليحي! - يعني كثيرا
- فأنشدته " من الطويل " :
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتني ... بقول يحل العصم سهل الأباطح
توليت عني حين مالي حيلة ... وخليت ما خليت بين الجوانح
فقال جرير: والله، لولا أني شيخ يقبح بمثلي النخير لنخرت نخرة يسمعها
الإمام على سريره! وأتى أبو عمرو ذا الرمة فقال: أنشدني قصيدتك " من
البسيط " :
مابال عينك منها الماء ينسكب
فأنشده إياها إلى قوله " من البسيط " :
تصغي إذا شدها بالكور جانحة ... حتى إذا مااستوى في غرزها تثب
قال له أبو عمرو: قول عمك الراعي أحسن مما قلت وأثبت، وهي " من المتقارب "
:
تراها إذا قام في غرزها ... كمثل السفينة أو أوقر
ولا تعجل المرء قبل البرو ... ك وهي بركبته أبصر
فقال ذو الرمة: الراعي وصف ناقة ملك، وأنا أصف ناقة سوقة. - قال الصولي:
يروى أن أعرابياً سمع ذا الرمة ينشد بيته هذا، فقال: سقط والله الرجل. -
وما أحسن ماأخذ هذا الإصغاء أبو نواس، فقال يصف الناقة في مدحه الخصيب بن
عبد الحميد " من السريع " :
وكأنها مصغ لتسمعه ... بعض الحديث بأذنه وقر
وقال أبو عمرو: قال رؤبة: ما سمعت بأفخر من قول امرئ القيس " من الطويل " :
فلو أ، ماأسعى لأدنى معيشة ... كفاني ولم أطلب قليل من المال
ولكنما أسعى لمجد مؤثلٍ ... وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
ولاأنذل ولاأبعد من قوله " من الوافر " :
لنا غنم نسوقها غزار ... كأن قرون جلتها عصي
فتملا بيتنا أقطا وسمنا ... وحسبك من غني شبع وري
ومن شعر أبي عمرو " من البسيط " :
هبت تلوم وما أحدثت من حدث ... إلا ولوعا تلافاه بتأنيب
أن تحمليني على مالست راكبه ... فقد أردتن كيداً بابن يعقوب
وقال أبو عمرو: ماكذبت في شيء قط غير أني زدت في شعر الأعشى " من البسيط "
:
واستنكرتني وما الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعل
وقال أبو عبيدة: قرأت شعر الأعشى على بشار، فقال: هذا البيت كأنه ليس من
نفس الأعشى، ولايورد خاطره مثله لأنه أنكر إنكارها ما لا يحب أن ينكر مثله
من قولها. فلما قال أبو عمرو هذا علمت أن بشارا أعلم بالشعر وأشد تمييزاً
لألفاظه ومعانيه.
ومما يروى لأبي عمرو " من الطويل " :
ترى المرء يبكيه الذي عاش بعده ... وموت الذي يبكي عليه قريب
يحب الفتى المال الكثير وإنما ... لنفس الفتى مما يحب نصيب
وأنكر أبو عمرو الوقوف على هاء (ماأغنى عني ماليه).
فقيل له: هي من لغة قربش، أما رأيت قول ابن قيس الرقيات " من الكامل " :
إن الحوادث بالمدينة قد ... أوجعتني وقرعن مروتيه
وجببتني جب السنام فلم ... يتركن ريشاً في مناكبيه
قال الأصمعي: يلحن ابن قيس الرقيات في بيت منها في الندبة حين قال " من
الكامل " :
تبكيهم أسماء معولة ... وتقول ليلي: وارزيتيه
كان ينبغي أن يقول: وارزيتاه! كما تقول: واعماه! واأخاه! وكان أبو عمرو
إذا استراب من شئ تمثل بهذين البيتين " من الوافر " :
كما قال الحمار ليهم رامٍ ... به عقب البعير وريش نسر
حديدة صقيل في عود نبع ... لقد جمعت من شتى الأمر
قال أبو عمرو: أصيب حجر مزبور بقنسرين بالعبرانية، فترجم فإذا
فيه " من الوافر " :
إذا جار الأمير وصاحباه ... وقاضي الأمريدهن في القضاء
فويل ثم ويلُ ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
قال: وأصيب حجر مزبور بالطالقان، فترجم فإذا فيه " من البسيط " :
اليأس عما بأيدي الناس نافلة ... والمال يعجز والأخلاق تتسع
لاتجزعن على ما فات مطلبه ... هب قد جظعت فماذا ينفع الجزع
قال: وأصيب على باب مدينة من مدائن سليمان بن داود عليهما السلام حجر
مزبور فإذا فيه " من الهزج " :
لاتصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليماً حين آخاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا ماهو ماشاه
وللشيء من الشيء ... علامات وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
قال: ووجد في زمن سليمان بن عبد الملك بدمشق حجر مكتوب فيه بالأعجمية،
فترجم فإذا فيه: ياابن آدم، لو رأيت يسير مابقي من أجلك، لزهدت في طويل
ماترجو من أملك، ولقصر بك عن حرصك وحيلك، وإنما تلقى ندمك، لو زلت بك
قدمك، وفارقك أهلك وحشمك، وانصرف عنك القريب، وودعك الحبيب، فلا أنت في
عملك زائد، ولا إلى أهلك عائد، فاعمل ليوم القيامة، قبل الحسرة والندامة!
وقال: لقيت أعرابياً فقلت: من أين أنت؟ قال: من عمان. فقلت: صف لي أرضك!
فقال: سيف أفيح، وفضاء صحصح، وجبل صلدح، ورجل أصبح. فقلت: فمالك؟ قال:
النخل. قلت: فأين أنت عن الأبل؟ قال: إن النخل حملها غذاء، وسعفها ضياء،
وجذعها بناء، وكربها صلاء، وليفها رشاء، وخوصها وعاء، وقرؤها إناء. - وقال
رجل لأبي عمرو لم سميت الخيل خيلا وإنما هي الدواب؟ فلم يكن عنده جواب.
فقال أعرابي حضرهم: سميت خيلاً لاختيالها.
أبو عمرو عن أبيه عن أبن عباس أنه قال: إن لكل داخل دهشة فالقوه بالتحية.
- وقال أبو عمرو: جنان الدنيا ثلاثة: نهر الأبلة وغوطة دمشق وسغد سمرقند؛
وحشوش الدنيا ثلاثة: هيت وأردبيل وعمان.
قال محمد بن سلام: ذاكرت معاوية بن أبي عمرو ببيت جرير:من الوافر " :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
وقلت: أين هو من بيت الأخطل " من البسيط " :
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فقال: بيت جرير أسهل وأيسر، وبيت الأخطل أجود وأحكم. - قال الصولي: بيت
الأخطل عند من يفهم الشعر وينقده أحسن وأجود قسمة لأن قوله " شمس العداوة
حتى يستقاد لهم " قسمة حسنة قائمة بنفسها، ثم قال " وأعظم الناس أحلاما
إذا قدروا " فقابل ورتب وقسَّم؛ وبيت جرير: " الستم خير من ركب المطايا "
هو إلى ههنا كالكلام الفارغ، وإنما يستحسن " بطون راح " .
ولد أبو عمرو في أول خلافة عبد الملك بن مروان وهو يحارب مصعب بن الزبير.
وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة وهو ابن تسعين سنة. وكان يقول في مرضه الذي
مات فيه: اللهم إن أنزلت بلاءً فأنزل صبرا، وإن وهبت عافية فهب شكرا! -
وشخص أبو عمرو من البصرة يريد بيت المقدس، فمات بالكوفة.
ودخل يونس بن حبيب على أولاد أبي عمرو معزياً لهم، فقال " من الوافر " :
نعزيكم وأنفسنا بمن لا ... نرى شبها له أخرى الزمان
والله لو قسم علم أبي عمرو رحمه الله وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم
علماء زهاداً، والله لو رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لسره ماهو عليه.
فأجابه معاوية بن أبي عمرو - فإنه كان يلزم مجلسه ويأخذ عنه كثيراً - فقال
مرتجلاً " من الرجز " :
أنت أبونا بعده وعمنا ... وأنت بعد الله مرجو لنا
قد كان قبل الموت وصاك بنا ... فأقض بإقبال علينا حقنا
فليس نشكو ما بقيت فقدنا ... عشت لنا كهفاً وعشت بعدنا
ولزموا مجلس يونس فما منهم إلا عالم. - وقال معاوية بن أبي عمرو: سألت
بلال بن جرير عن لكع، فقال: هو الجحش الصغير في لغتنا، وإلى هذا كان يذهب
الحسن البصري.
وقعد الناس يبكون على أبي عمرو عند موته، فقال: لاتبكوا عليَّ، أنا مامت
لكني قد فنيت! وقيل له: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت كما قال الربيع بن ضبع
الفزاري " من المنسرح " :
أصبحت لاأحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
8 - ومن أخبار سلمة بن عياش العامري
هو مولى بني عامر بن لؤي، وهو من غلمان ابن أبي إسحاق الحضرمي، ولد سنة ثمانين ومات وقد قارب السبعين.قال ولده عبد الله بن سلمة بن عياش: بينا أنا أسير في طرق إصبهان إذا أنا برجل عليه فرو جالس إلى العين في المنزل، فقال لي: ممن الرجل؟ قلت: من أهل البصرة. فقال: أنشدني لأبي نواسكم شيئاً! فإنه لو كشف استه كان أحسن من قوله " من المنسرح " :
وجه جنان سراء بستان ... جمع فيه من كل ألوان
فأنشدته له " من الكامل " :
ممتايه بجماله صلف ... لايستطاع كلامه تيها
للحسن في وجناته بدع ... ما إن يمل الدرس قاريها
لو كانت الأشياء تعقله ... أجللته إجلال باريها
لو تستطيع الأرض لأنقبضت ... حتى يصير جميعه فيها
قال: أنشدني غير هذا! فأنشدته " من البسيط " :
إن السحاب لتستحيي إذا نظرت ... إلى نداك فقاسته بما فيها
حتى تهم بإقلاع فيمنعها ... خوف التسخط من عصيان منشيها
قال: أحسن وأجاد! قلت: من أنت؟ قال: أنا كلثوم بن عمرو العتابي. قلت: ألا تنشدني من شعرك؟ فأنشدني " من الكامل " :
طمع النفوس مطية الفقر ... وليأسها أدنى إلى الوفر
اصبر إذا بدهتك نازلة ... ماعال منقطع إلى الصبر
الصبر أنبل ما أعتصمت به ... ولنعم حشو جوانح الصدر
9 - ومن أخبار مسلمة النحوي
هو أبو محارب مسلمة بن عبد الله بن سعد بن محارب الفهري، وهو ابن أخت عبد الله بن أبي أسحاق الحضرمي، وكان مؤدباً لجعفر بن أبي جعفر المنصور، ومضى معه إلى الموصل، وأقام بها حتى مات، فصار علم أهل الموصل من قبله. - قال مسلمة: إن زياداً أول من أتخذ ديوان زمام وخاتما، امتثالا لما كانت الفرس تفعله. - وقال: قال كسرى: ما قرأت كتاب رجلٍ إلا عرفت عقله.10 - ومن أخبار يزيد بن أبي سعيد النحوي
قال الجاحظ: كان من الفقهاء المذكورين. وقال يحيى بن معين: هو خراساني من أهل مرو وهو ثقة في الحديث. روى عن عكرمة عن أبن عباس أن رسول الله صلىة الله عليه وسلم بعث سرية، فأسروا قوما ولقوا رجلا، فقال: إني لست منهم، أنا عشقت امرأة منهم أدماء قنواء جسيمة. فكلمها ثم أقبل إلينا، فضربنا عنقه. فجاءت المرأة فوقعت عليه، فسمعنا شهقة فنظرنا فإذا هي ميتة. فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بحديثهما، فقال: أما فيكم رجل رحيم؟!11 - ومن أخبار أبي بكر الهذلي
واسمه سلمان أو سلم، وقيل: سليمان بن عبد الله، وأمه بنت حميد بن عبد الرحمان الحميري. وقال ابن أبي خيثمة: اسمه سلمي بن عبد الله، وكذا قال يحيى بن معين.قال أبو بكر: قال لي الزهري: أيعجبك الحديث؟ قلت: نعم. قال: أما أنه يعجب ذكور الرجال ويكرهه مؤنثوهم! وقال: قال لي الشعبي: أتحب الشعر؟ قلت: نعم. قال: إنما يحبه فحول الرجال ويكرهه مؤنثوهم. - وروى أبو بكر عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعر الجاهلية إلا القصيدة الحائية لأمية بن أبي الصلت في أهل بدر، وقصيدة الأعشى في ذكر عامر وعلقمة، فإنه نهى عن إنشادهما.
وقال أبو بكر: كنا مع الحسن في وليمة ومعنا محمد بن سيرين، فجاؤا بجام فضة - أو قال: صحفة فضة - فيها خبيص. فقال محمد: إليك إليك! فقال الحسن: هلم! فأخذ الصحفة فقلب ما فيها من الخبيص على رغيف، ثم رفع الصحفة وقال: كلوا! - قال: وكنا جلوساً عند الحسن البصري إذ جاء الفرزدق، فتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد، الرجل يقول: لاوالله وبلى والله! لايعقد اليمين؟! فقال الفرزدق: لاشئ! فقال الحسن: وما علمك بذلك؟ قال: أوما سمعت ما قلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل " :
ولست بمأخوذ بشئ تقوله ... إذا لم تعمد عاقدات العزائم
قال: فسكت الحسن. ثم لم يلبث أن جاء رجل فقال: إنما نكون في هذه
المغازي فنصيب المرأة ذات الزوج، أفيحل غشيانها ولم يطلقها زوجها؟ فقال:
الفرزدق: نعم! أوما سمعت ماقلت؟ قال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت " من الطويل
" :
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالا لمن يبني بها لم تطلق
قال: فسكت الحسن.
قال: قال لي ابن سيرين: أيُّ بيت قالت العرب أنسب؟ فقلت: لاأدري. فقال:
قول يزيد بن معاوية " من الطويل " :
إذا سرت ميلاً أو تغيبت ساعة ... دعتني دواعي الحب من آل خالد
قال: فذكرت ذلك لمسعر بن كدام، فقال: بل قول كثير " من الطويل " :
وما أنصفت أما النساء فبغضت ... إلينا وأما بالنوال فضنت
قال: ودخلت على محمد بن سيرين، وقد خدرت رجلاه، وقد نقعهما في الماء وهو
يتمثل بقول قيس بن ذريح " من الطويل " :
إذا خدرت رجلي تذكرت من لها ... فناديت لبنى باسمها ودعوت
دعوت التي لو أن نفسي تطيعني ... لألقيت نفسي نحوها فقضيت
فقلت: يا أبا بكر، أتنشد مثلها؟ فقال: يالكع، إنما هو كلام فحسنه حسن
وقبيحه قبيح! وقال: قال لي السفاح: بأي شيء بلغ حسنكم مابلغ؟ قال: قلت:
ياأمير المؤمنين، جمع كتاب الله وهو ابن اثنتي عشرة سنة؛ فلم يجاوز سورة
إلى غيرها حتى يعرف تأويلها وفيما أنزلت، ولم يقلب درهماً في تجارة، ولم
يل لسلطان إمارة، ولم يأمر بشء حتى يدعه. فقال: بهذا بلغ الشيخ.
وقال أبو بكر الهذلي: اجتمعنا عند أبي لعباس السفاح، ولم يكن من أهل
البصرة غيري، وكان من أهل الكوفة محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى والحجاج
بن أرطاة، وحضر الحسن بن زيد. فذكروا أهل البصرة وأهل الكوفة، فقال ابن
أبي ليلى: نحن والله، ياأمير المؤمنين. أكثر منهم خراجاًوأوسع أنهاراً.
فقال السفاح: ذاك إن رضي أبو بكر. قال: قلت: معاذ الله! وكيف يكون ذلك
ولنا السند والهند، وكرمان ومكران، والقرض والفرض، والديار وسعة الانهار؟!
فقال ابن أبي ليلى: نحن أكثر منهم فقها، وأغزر علماً، مقر بذلك أهل البصرة
لأهل الكوفة، كما أقرّ أهل مكة لأهل المدينة. فقال أبو بكر: هم أكثر
أنبياء وأقل أتقياء وأعظم كبرياء، منهم المغيرة الخبيث السريرة وبيان وأبو
بيان، وتنبت فيهم الأنبياء، والله ما أتانا إلا نبي واحد صلى الله عليه
وسلم، والله ما رأيت بلداً قط أكثر نبياً مصلوباً ولا رأساً مضروباً من
أهل الكوفة. فقال الحسن بن زيد: أنتم أصحاب عليّ يوم سرتم إليه لتقتلوه.
فقال أبو بكر: نحن والله أصحاب عليّ يوم سرنا إليه لنقتله، فكف الله
أيدينا وشوكتنا عنه وعن غيره، وسار إليه أهل الكوفة فقتلوه، فأينا أعظم
ذنباً؟! فقال الحجاج بت أرطأة: لقد أخبرني بعض أشياخنا أن أهل البصرة
كانوا يومئذ ثلاثين ألفا، فلما ألتقت حلقتا البطان وتناهد النهدان وأخذت
الرجال أقرانها فما كانوا إلا كرماد في يوم عاصف. فقال أبو بكر: كيف يكون
ذلك وخرجت ربيعة سامعة مطيعة تعين علياً، وخرج الأحنف بن قيس في سعد
والرباب وهم السنام الأعظم والجمهور الأكبر يعين علياً؟! ولكن سل هؤلاء كم
كان عدتنا يوم استعانوا بنا! فلما التقت حلقتا البطان وتناهد النهدان
وأخذت الرجال أقرانها شدخنا منهم في صعيد واحد سبعة آلاف نقتلهم قتل
الحمنانن! - يعني القردان الصغار. فقال أبن ابي ليلى: نحن أشرف منهم
أشرافا، وأذكر منهم أسلافا، مقر بذلك أبو بكر! فقلت: معاذ الله! هل كان في
تميم الكوفة مثل الأحنف ابن قيس في تميم البصرة يقول له الشاعر " من
الوافر " :
إذا الأبصار أبصرت ابن قيس ... ظللن مهابة منه خشوعا
وهل كان في قيس الكوفة مثل قتيبة بن مسلم في قيس البصرة الذي يقول فيه
الشاعر " من الخفيف " :
كل عام يحوي قتيبة نهبا ... ويزيد الأموال مالا جديدا
دوخ السغد بالقنابل حتى ... ترك السغد بالعراء قعودا
باهلي قد عصب التاج حتى ... شبن منه مفارق كن سودا
وهل كان في أزد الكوفة مثل المهلب في أزد البصرة الذي يقول له الشاعر " من
الطويل " :
إذا ما خشينا من أمير ظلامة ... أمرنا أبا غسان يوماً فعسكرا
وهل كان في بني قيس الكوفة مثل الحكم بن المنذر بن الجارود في قيس البصرة
الذي يقول له الشاعر " من الرجز " ؟
أنت الجواد بن الجواد المحمود ... سرادق المجد عليك ممدود
فانقطعوا كلهم، وضحك السفاح حتى ضرب برجله وقال: والله ما رأيت مثل هذه
الغلبة قط.
ولما توفيت أمرأة الهذلي وبلغ ذلك المنصور فأمر الربيع الحاجب أن يأتيه
ويعزيه عنها، ويقول له: إن أمير المؤمنين موجه الليل بجارية نفيسة لها أدب
وظرف وهيئة ومعرفة تسليك عن امرأتك. فلم يزل أبو بكر يتوقع ذلك فلم يره،
وأنسيه المنصور، ثم حج وأبو بكر معه، فقال وهو بالمدينة: إني أحب أن أطوف
الليلة في المدينة، فانظروا لي رجلا يعرف منازل أهل المدينة ومساكنها
ورباعها وطرقها وأخبارها، يكون معي فيعرفني ذلط! فقالوا له: ما تعلم أحداً
أعلم بذلك من أبي بكر. فأمر بالحضور، وخرج المنصور على حمار يطوف معه في
سكك المدينة، ويسأله عن ربع ربع وسكة سكة، فيخبره لمن هو ولمن كان، حتى مر
ببيت عاتكة، فسأل عنه، فقال: ياأمير المؤمنين، هذه بيت عاتكة الذي يقول
فيه الأحوص " من الكامل " :
يابيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكل
وأنشده القصيدة حتى بلغ قوله:
وأراك تفعل ما تقول ومنهم ... مذق الحديث يقول ما لايفعل
فقال له المنصور: ويحك ياأبا بكر وفي الدنيا أحد يعد ولاينجز ويقول
ولايفعا! قال: نعم، ياأمير المؤمنين، إذا نسي. قال: فضحك المنصور وقال:
صدقت! أذكرتني ماكنت وعدتك، لاجرم والله لاتصبح حتى يأتيك ذلك! قال: فلم
يصبح حتى وجه بجارية نفيسة بفرشها وأثاثها ووصلنا بمال.
وقال الهذلي: طلبت اإذن على المنصور، فوعدت بيوم أدخل عليه فيه، فوافيت
ذلك اليوم، فوجدت أبا حنيفة وعمرو بن عبيد قد سبقاني، فقعدنا قليلاً، ثم
خرج الآذان فأذن، وكنت هيأت كلاماً ألقى به أبا جعفر المنصور، وهيأ أبو
حنيفة مثل ذلك. فلما رأيناه أرتج علينا وكان جهدنا أن أقمنا التسليم،
فأومأ برأسه إلينا، فجلست أنا وأبو حنيفة في شق، وجلس عمرو بن عبيد في شق.
فأقبل أبو جعفر ينكت في الأرض وقد طأطأ رأسه، فرفع عمرو رأسه فقال: (بسم
الله الرحمن الرحيم، والفَجر، وَليالٍ عشرٍ، والشفع والوتر، والليل إذا
يسر، هل في ذلك قسم لذي حجر، ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العتناد،
التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالوادي، وفرعون
ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك
سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد)، ياأمير المؤمنين، بالمرصاد لمن عمل مثل
عملهم أن ينزل به مثل مانزل بهم، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإن وراءك
نيرانا تأجج من الجور، ما يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم. فقال: ياأبا عثمان، إنا لنكتب إليهم في الطوامير فآمرهم بالعمل
بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يفعلوا فما عسى أن نصنع؟
فقال: ياأمير المؤمنين، مثل أذن فأرة يجزيك من الطوامير، الله تكتب إليهم
في حاجة نفسك فينفذونها، وتكتب إليهم في حاجة الله فلا تنفذ، إنك والله لو
لم ترض من عمالك إلا بالعدل إذن لتقرب إليك من لانية له فيه! ثم ذكر
سليمان بن مجالد ومعارضته لعمرو. فقال له عمرو: ياابن مجالد، خزنت نصيحتك
عن أمير المؤمنين، ثم أردت أن تحول بينه وبين من أراد نصيحته! ياأمير
المؤمنين، إن هؤلاء اتخذوك سلماً لشهواتهم، فأنت كالآخذ بالقرنين وغيرك
يحلب، فاتق الله ياأمير المؤمنين، فإنك ميت وحدك ومبعوث وحدك ومحاسب وحدك،
لن يغني عنك هؤلاء من الله شيئاً! فأطرق أبو جعفر يفكر في كلامه، ثم دعا
خادماً فسار بشئ، فأتاه بمنديل فيه دنانير، فقال: ياأبا عثمان، بلغني ما
الناس فيه من الشدة، فاصرف هذه حيث شئت! قال: ماكنت لآخذها! قال:
لتأخذنها! قال: لاآخذها! قال: والله لتأخذنها! قال: والله لاآخذها! فقال
له المهدي: أيحلف أمير المؤمنين لتأخذنها وتحلف أنت لاتأخذه؟! فقال عمرو:
ياأبن أخي، أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني! فقال أبو جعفر للمهدي:
اسكت فإن عمك بنا واثق. قال: فسكت وقعد قليلاً، وقمنا، فقلت لأبي حنيفة
عند خروجنا: عدّ أنا نسينا ما أردنا من الكلام، فكيف ذهب عنا أن نجيء بما
جاءؤ به عمرو من كتاب الله؟! أبو بكر الهذلي - اسمه سلمي بن عبد الله بن
سلمي - مات في سنة تسع وخمسين ومائة.
12 - ومن أخبار عيسى بن عمر الثقفي
ومن مولى بني مخزوم، كثير السماع من العرب كثير الرواية عالماً
بالنحو، أخذ عن أبن أبي إسحاق. وقال القحذمي: عيسى بن عمر مولى لخالد بن
الوليد.
وأنكر وديعة فأتي به يوسف بن عمر، فأمر بضربه، فاعترف وقال: أيها الأمير،
إنما كانت أثياباً في أسيفاط قبضها عشاروك! فوكل به حتى أخذها منه.
تؤفي عيسى بن عمر رحمه الله سنة تسع وأربعين، وقيل: خمسين ومائة.
وسئل الأصمعي عن معنى قول ذي الرمة " من الطويل " :
يقاربن حتى يطمع اليافع الصبي ... وتشرع أحشاء القلوب الحوائم
حديث كطعم الشهد حلو صدوره ... وأعجازه الخطبان دون المحارم
فقال: سألت عيسى بن عمر عن ذلك، فقال: هنّ لعفتهن شهد إذا أمن الحرام،
وخطبان إذا خشينه، والخطبان خضر الحنظل. فعرضت هذا على خلف، فقال: أراد أن
صدور حديثه حلوة لشغف اللقاء والتلسيم، وأعجازه مرة لحين الفراق والتوديع،
وما في الحالتين تعرض لمحرم. قال الصولي: فأخذه أبو العميثل فقال " من
الطويل " :
أتيت ابنة السهمي زينب عن عفر ... ونحن حرام مسي عاشرة العشر
فكلمتها ثنتين كالثلج منهما ... وأخرى على لوح أحر من الجمر
فسئل ثعلب وأنا حاضر عن معنى هذين البيتين، فقال: الأولى الباردة كلام
السلام، والأخرى الحارة كلام الوداع، فظننت أن أبا العميثل لم يسبق إلى
هذا المعنى، ولاسبق ثعلب إلى تفسيره حتى سمعت خبر الأصمعي.
13 - ومن أخبار أبي الخطاب الأخفش
اسمه عبد الحميد مولى بني قيس بن ثعلبة، وهو من أصحاب عبد الله بن أبي إسحاق هو ويونس وعيسى، وهو أعلم الناس. وقيل: كان هو وخلف الأحمر يأخذان عن أبي عمرو بن العلاء. وكان يعرف بالأخفش الكبير، وكان لايدع الإعراب. فدخل عليه لصوص فضربوه بالسيوف، فجعل يقول: قد كم الآن قد كم الآن.14 - ومن أخبار حماد بن سلمة
هو أبو سلمة بن أبي صخرة بن دينار مولى بني تميم، وقيل: مولى جعدة ابن هبيرة، وهو ابن أخت حميد الطويل، وكان فقيهاً حافظاً فاضلاً عالماً بالقرآن كثير الحديث إلا أنه ربما حدث بالمناكير، وكان شاعراً مجيداً.قال الأصمعي: وصفني شعبة لحماد بن سلمة فقال: جئني به! فذهبت معه إليه، فقال لي: كيف تنشد بيت الحطيئة " من الطويل " :
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا
ماذا؟ قلت: إلينا. فلوى حماد شفتيه، فقلت له: فكيف تنشد أنت؟ فقال:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا إلبنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
قال الأصمعي: فما رأيت حمادا بعد ذلك إلا هبته! قال يحيى بن معين: حدثنا شيخ قال: كنت عند حماد بن سلمة، فجاءه كتاب أبي حرة يعاتبه في هذه الأحاديث التي حدث بها حماد - يعني في الرؤية - ويأمره بالرجوع عنها. فقال حماد: لاأفعل، سمعتها من قوم ثقات فأنا أحدث بها كما سمعت! - قال يحيى: وكان حماد من خيار المسلمين وأهل السنة، وهو ثقة مأمون عندنا، والأحاديث التي حدث بها في الرؤية نؤمن بها، ومن كذب بها كان عندنا مبتدعا، ولانفسرها نحن برأينا.
مات حماد رحمه الله يوم الثلاثاء في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة، وصلى عليه إسحاق بن محمد. - قال بعضهم: رأيت حماد بن سلمة في النوم، فقلت: مافعل الله بك؟ قال: غفر لي ورحمني وأسكنني الفردوس. قلت: بماذا؟ قال: بقولي: ياذا الطول والإكرام، ياكهيعص، لأسكني الفردوس! فأسكنني الفردوس.
15 - ومن أخبار يونس بن حبيب النحوي
هو أبو عبد الرحمان مولى بني ضبة، وقيل: مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة من كنانة، وقيل: مولى بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة، قيل: إنه من أهل جبل. ولد يونس سنة تسعين، ومات سنة أثنتين وثمانين ومائة وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، وقيل: مات وله مائة وسنتان. ومات هو وابو يوسف القاضي وعلي بن يقطين ومروان بن أبي حفصة الشاعر في يوم واحد.وقال يونس: اشتهي أن أعاتب في الجنة ثلاثة: آدم عليه السلام
فأقول: أبي رضي الله عنك، أدخلك الله الجنة وأباحها لك كلها إلا شجرة
واحدة، فأكلتها وأشقيتنا وأخرجتنا من الجنة! ويوسف عليه السلام فأقول: رضي
الله عنك، تركت أباك وبينك وبينه مسيرة كذا وكذا، فتركته كذا وكذا من
الدهر لم تكتب إليه كتاباً ولم ترسل إليه رسولاً حتى ذهب بصره من الحزن!
وطلحة والزبير فأقول: رضي الله عنكما، بايعتما علياً بالحجاز ثم خلعتماه
وجئتما تقاتلانه من غير حدث أحدث.
سأل رجلُ عن بني المحبل: من هم من العرب؟ فلم يعرف ذلك أحد، فلم يترك
بالحجاز والشأم والكوفة أحداً إلا سأله. فأتى البصرة فلم يعرفهم أحد، فقيل
له: إيت يونس بن حبيب! فأتاه فسأله، فضحك فقال: هؤلاء قوم من كندة عرفوا
بأبيهم، وكان من قضيته أنه قال " من الوافر " :
أكرم جارتي وأصون عرضي ... وأفرغ في مزادتها سقائي
فأتركها وإن كانت عقيما ... كناز البطن من مذخور مائي
فقيل له: المحبل وتجنب الناس جواره.
ومن حكمه ومستحسن ألفاظه، كان يقول: إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر من
تأليف الكلام ونظمه ما لايشعر له غيره؛ الحمية طابع الصحة؛ الكبر وكل عيب،
العزل وكلّ ذنب، الولاية وكل مدح، الشباب وكل صحة، اليسار وكل فضيلة،
الفقر وكل لؤم؛ أعلم الناس بالزمان من لم يتعجب من أحداثه؛ ليس لمعجب رأي
ولا لمتكبر صديق. - وكان يشرب الصبر كثيرا، فقيل له في ذلك، فقال: إنه
يصفي البشرة ويذهب بالبثور وينقي الأعصاب. - وكان يقول: حسن الوجه يجذب
أعنة الأبصار؛ ويقول: ليس لناقص البيان بهاء ولو حك بأنفه عنان السماء.
وسمع يونس رجلاً ينشد " من البسيط " :
استودع العلم قرطاساً فضيعه ... وبئس مستودع العلم القراطيس
فقال: قاتله الله ماأشد صبابته بالعلم وأحسن صيانته للعلم، ثم قال: مالك
من بدنك وحفظك من روحك: فحفظ علمك حفظ روحك وحفظ مالك حفظ بدنك. وأخذ محمد
بن بشير هذا المعنى فقال " من المنسرح " :
قل لبغاة الآداب: ماوقعت ... منها إليكم فلا تضيعونها
وضمنوا علمها الدفاتر ... والحبر بحسن الكتاب أوعوها
وإن دعتكم إلى القراطيس ... والأنقاس نفس فلا تطيعوها
وقال يونس: اختلفنا في أن الشعر ينقض الوضوء أم لا، فرأيت محمد ابن سبرين
قد دخل المسجد، فبعث إليه رجلا فسأله، فأنشأ يقول " من الطويل " :
ألا تلكم عرس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح استه لاستقرت
ثم استقبل القبلة فقال: الله أكبر.
استأذن أبو سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن لرجال قبله ثم
أذن له، فقال: يارسول الله، كدت تأذن لحجارة الجهلتين قبلي. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: إنما مثلك في ذلك، ياأبا سفيان، ما قال الأول:
كل الصيد في جوف الفرلء. - قال خلاد: فحدثت يونس، فقال: والله لقد جود له
رسول الله صلى الله عليه وسلم! أتدري ماهذا؟ خرج رجال فتصيدوا، فاصطاد رجل
منهم حمار وحش، واصطاد الآخرون من بين ظبي وأرنب، فاجتمعت نساؤهم، فجعلت
المرأة تقول: اصطاد زوجي كذا، فيقول صاحب الحمار: كل الصيد في جوف الفراء.
وسئل يونس عن قوله تعالى: (فاليوم ننجيك ببدنك) وقد أغرق الله فرعون ولم
ينجه، فقال: يعني نلقيك بنجوة البحر، وهي شاطئه وكذلك نجوة الوادي شفير
الوادي، وتمثل بقول الشاعر " من البسيط " :
دان مسف فويق الأرض هيدبه ... يكاد يمسكه من قام بالراح
فمن بنجوته كمن بعقوته ... والمستكن كمن يمشي بقرواح
يقول: المستكن كمن يمشي بالفضاء.
قال أبو حنيفة ليونس: ياأبا عبد الرحمان، علمت أن الزمان ليس من الفاكهة؟
قال: لم؟ قال: لقول الله عز وجل: (فيهما فاكهة ونخل ورمان). فقال يونس:
فجبريل وميكائيل إذا ليسا من الملائكة لقوله تعالى: (من كان عدوا لله
وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل). قال: فكيف ذاك؟ قال: إن الله عز وجل إذا
خص الشيء بالفضل أدخله في الجملة ثم أبانه بالاستثناء وأفرد ذكره.
وقال يونس: من أمثال العرب: المرء يعجز لا المحالة، يريد أن العجز يأتي من
قبله. فأما الحيلة فواسعة غير ضيقة، وأنشد " من الكامل " :
أعصيت أمر ذوي النهى ... وأطعت أمر ذوي الجهاله
واحتلت حين عصيتني ... والمرء يعجز لا المحاله
وسئل عن مثل: مجير أم عامر، فقال: خرج فتيان من العرب إلى الصيد فأثاروا
ضبعا، فانفلتت من أيديهم ودخلت خباء بعض الأعراب، فخرج إليهم فقال: والله
لاتصلون إليها وقد استجارت بي! فخلوا بينه وبينها. فلما أنصرفوا عمد إلى
خبز ةلبن وسمن فثرده وقربه إليها، فأكرلت حتى شبعت، وتمددت في جانب
الخباء، وغلب الأعرابي النوم، فلما استثقل وثبت عليه، فقرضت حلقه وبقرت
بطنه وأكلت حشوته وخرجت تسعى، وجاء أخُ للأعرابي، فلما نظر إليها أنشد
يقول " من الطويل " :
ومن يصنع المعروف في غير أهله ... يلاق الذي لاقى مجير أم عامر
أعد لها لما أستجارت ببيته ... قراها من ألبان اللقاح البهازر
فأشبعها حتى إذا ما تمطرت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لبني المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف إلى غير شاكر
وقال: لم يقل لبيد في الإسلام إلا بيتاً واحداً وهو " من البسيط " :
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي ... حتى لبست من الإسلام سربالا
وقال: إن علماء البصرة كانوا يقدمون أمرء القيس، وإن أهل الكوفة كانوا
يقدمون الأعشى، وإن أهل الحجاز والبادية كانوا يقدمون زهيرا والنابغة. -
وكان يفضل الفرزدق على جرير، وكان يقول: ماتهاجى شاعران قط في جاهلية ولا
إسلام إلا غلب أحدهما على صاحبه غيرهما، فإنهما تهاجيا نحوا من ثلاثين
سنة، فلم يغلب أحد منهما على صاحبه. - وقال: لو تمنيت أن أقول الشعر لما
تمنيت أن أقول إلا مثل قول عدي بن زيد " من الخفيف " :
أيها الشامت المعير بالمو ... ت أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام ... أم أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون عزين أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
وقال: أشعر بيت قالت العرب قول دريد بن الصمة في مرثيته أخاه عبد الله "
من الطويل " :س
صبا ماصبا حتى إذا شاب رأسه ... وأحدث حلماً قال للباطل: أبعد
قليل التشكي للمصيبات حافظ ... من اليوم أدبار الأحاديث في غدِ
وقال: أتينا خالد بن صفوان نعزيه في ابنه، فانتهينا إليه وهو يقول " من
الطويل " :
وهون ما ألقى من الوجد أنني ... أجاوره في داره اليوم أو غدا
قال الاصمعي: قلت ليونس: ما - أراد ذو الرمة بقوله " من الطويل " :
وليلٍ كجلباب العروس ادَّرعتهُ ... بأربعةٍ والشخص في العين واحدُ
فقال يونس: لاأحسب الجنَّ تقع على ماوقع عليه وفطن له، قوله: " وليلٍ
كجلباب العروس " يقول: ليلٌ كقميص العروس في الطول لأن العروس تجرُ
أذيالها، " ادرعته " : لبسته، " بأربعة " : يعني نفسه وناقته وسيفه وظله
يعني خيمته، " والشخص في العين واحد " يقول: والإنسان واحدُ.
ودخل المهلَّبُ على الحجاج بعد فراغه من أمر الخوارج، فأجلسه إلى جانبه
وقال: أنت والله كما قال لقيط الإيادي " من البسيط " :
فقلدوا أمركم، لله درُّكم ... ثبت الجنان بأمر الحرب مضطلعا
لامترفاً إن رخاء العيش ساعده ... وليس إن عضَّ مكروه به خشعا
وقال: كنت في حلقة أبي عمرو بن العلاء، فجاءه شبيل بن عزرة
الضُبَعّيُّ، فتزحزح له أبو عمرو ورفعه، فقال لأبي عمرو: ألا تعجبون
لرؤبتكم هذا؟! سألته مم اشتقاق اسمه فلم يعرفه! قال يونس: فما تمالكت أن
قمت فجلست بين يديه، وقلت له: لعلك تظن أن معَّد بن عدنان كان أفصح من
رؤبة! فأنا غلام رؤبة، فما الروبة والروبة والروبة والروبة والرؤبة إحداهن
مهموز! فقام مغضباً، فقال لي أبو عمرو: ماأردت بهذا؟ رجلٌ شريف أتانا في
مجلسنا، فسؤته - أو قال: فأَذَّيته وأبسته - ! قال: هو مثل التهكم! فقلت:
والله ما تمالكت إن ذكر رؤبة أن قلت ما قلت. ثمّ فسّر لنا يونس ذلك فقال:
الروُبة الحاجة، يقال: قمتُ بروبة أهلي، أي بحاجتهم؛ والروبة: ما يلقى في
اللبن الحليب من اللبن الحامض حتى يروب؛ والروبة: جمام الفحل، يقال: أعرني
روبة فحلك؛ والروبة: القطعة من الليل؛ والرؤبة القطعة من الخشب يشعب بها
القعب ويرقع بها العُسُّ وما أشبه ذلك، يقال: رأبت الشئ أرابه رأباً إذا
أصلحته، والعمل الرأب وكلّ شئ أصلحته فقد رأبته، ومنه اشتقاق اسم رئاب،
ومنه قولهم: اللهم أرأب ثأينا، أي أصلح فسادنا! ومن ذلك اشتقاق اسم رؤبة
إن كان مهموزاً. - والروبة: من النوم ومنه " من المقارب " :
فأما تميم تميمُ بنُ مُرٍ ... فألفاهمُ القومُ روبى نياما
ويقال: مازال على روبة واحدة، أي طريقة واحدة؛ قال: روبة البحر: وسطه
ومعظمه، والمهموز منه: رأبت، من القطعة التي يرأب بها القَدَحُ. - قال:
وقلت لرؤبة: مامعنى قوله عليه السلام: لاعدوى ولاطيرة ولا صفر، مالصفر؟
قال: داءٌ يأخذ الإبل، يعدي فيهم يخافون إعداءه.
وقال يونس: إني جالس إذ أقبلت جارية من أحسن الناس، ثم طلع فتىً في نحو
هيئتها؛ فوقف علينا وسلم ودهش وخفي عليه مسلكها، فقلت له: أخذت ههنا!
فاتبعها وهو يقول " من الطويل " :
إذا سلكت قصد السبيل سلكته ... وتعدلُ أحياناً بنا فنحيد
ويروى " فنميل " ، ويروى: " وإن هي جارت جرت حيث تجور " .
وقال الشعبي: وجد في خزائن عادٍ سهم ريشه ريش نسر مكتوب فيه " من الطويل "
:
فليس إلى أكناف صبح بذي اللوى ... لوى الرمل فأعذرن النفوس معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذا الناس ناس والبلاد بلاد
وقال يونس: ماصحَ عندنا ولابلغنا أنّ علياً قال شعرا إلا هذين البيتين "
من البسيط " :
تلكم قريش تمنتني لتقتلني ... فلا وربك مابروا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقتين لايعفو لها أثر
قال ثعلب: يقول أترك فيهم آثاراً لاتذهب.
وقال: الظل من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، والفيء من زوال الشمس إلى
الليل، وأنشد لابن سلاّم " من الطويل " :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... وأقعد في أفيائه بالأصائل
وأنشد " من الطويل " :
فلا ظلٌ من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من برد العشي تطيق
قيل ليونس: قد بلغت سن الشيخوخة، فقال: هذا الذي كنت أتمنى. أخذ هذا
المعنى محمد بن عبد الملك الزيات فقال " من البسيط " :
وعائبٍ عابني بشيبٍ ... لم يعد لما ألمَّ وقته
فقلت: إذ عابني بشيبي ... يا عائب الشيب لا بلغته
16 - ومن أخبار أبي عبد الرحمان الخليل بن أحمد الفراهيدي
لم نجد في نسبه زيادة على أسم أبيه، ويقول البصريون: لايعرف أحدُ سميّ بأحمد بعد النبي صلى الله عليه وسلم قبل أبيه، وهو من الأزد من حي يقال لهم الفراهيد. وسئل: من أي العرب أنت؟ فقال: فرهيدي. ثم سئل، فقال: فرهودي. قال أبو العباس: قوله " فراهيدي " أنتسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، وكان من أنفسهم صحيح النسب معروف الأهل؛ وقوله " فرهودي " انتسب إلى واحد الفراهيد وهو فوهود، والفراهيد صغار الغنم. - وكان من أهل عمان من قرية من قراها. ثم أنتقل إلى البصرة. - وكان من أزهد الناس وأعلاهم نفساً؛ وكان يعيش من بستان له بالخريبة خلفه له أبوه. - وكان يحج سنة ويغزو سنة إلى أن مات.وكان يقول: أشتهي أن أكون عند الله من أرفع الناس وعند الناس من أوسط الناس وعند نفسي من أسفل الناس. وكان يدعو بذلك. - ومر بقوم يتكلمون فيه فقال " من الطويل " :
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن كثرت منه عليَّ الجرائم
وما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله ... وأتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا ... تفضلت إن الفضل بالعز حاكم
وأما الذي دوني فإن قال: صنت عن ... إجابته عرضي وإن لام لائم
وقال: قدمت من عمان ورأيي رأي الصفرية، فجلست إلى أيوب بن أبي تميمة
السختياني، فسمعته يقول: إذا أردت أن تعلم علم أستاذك فجالس غيره! فظننت
أنه يعنيني، فلزمته فنفعني الله به.
قال يونس: قلت للخليل: مابال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنهم
بنو أم واحدة وعليّ بن أبي طالب عليه السلام كأنه ابن علة؟ فقال: من أين
لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني! فقال: على أن تكتم عليَّ مادمت حياً!
قلت: أجل! فقال: تقدمهم إسلاماً وبذهم شرفاً وفاقهم علماً ورجحهم حلماً
وكثرهم زهداً وأنجدهم شجاعة، فحسدوه، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل
منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم.
وقال ابن سلام: لم يكن في العرب أذكى من الخليل بعد الصحابة ولا في العجم
أذكى من أبن المقفع ولا اجمع من حماد بن زيد. - وقد ضربت الشعراء الأمثال
في أشعارهم بالخليل، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي يهجو الأصمعي " من
الوافر " :
أليس من العجائب أنّ قرداً ... أصيمع باهلياً يستطيل
ويزعم أنه قد كان يفتي ... أبا عمرو ويسأله الخليل
وقال خالد النجار يهجو التوزي " من الكامل " :
يا من يزيد تمقتاً ... وتباغضاً في كل لحظه
والله لو كنت الخليل ... لمار روينا عنك لفظة
وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ قال: رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه.
وقيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ قال: رأيت رجلاً علمه اكثر من عقله.
قال المغيرة بن محمد: صدقاً، ادى عقل الخليل إلى أن مات ازهد الناس، وجهل
أبن المقفع إلى ان قتل. وذلك أنه كتب كتاباً لعبد الله بن علي إلى
المنصور، فقال فيه ما كان مستغنياً أن يقوله، كتب: ومتى غدر أمير المؤنين
بعمه عبد الله بن علي فنساؤه طوالق ودوابه حبيس وعبيده أحرار والمسلمون
منه في حل من بيعته. فأشتد ذلك على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة، فكتب
إلى سفيان بن معاوية المهلبي - وهو امير البصرة من قبله - أن اقتل ابن
المقفع! فقتله.
وقال الخليل يمدح كتابي عيسى بن عمر في النحو " من الرمل "
بطل النحو الذي جمعتم ... غير ما احدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... وهما للناس شمس وقمر
وعن عيسى اخذ الخليل النحو، وأخذ عن الخليل جماعة لم يكن فيهم مثل سيبويه،
وهو اعلم الناس بعد الخليل، فألف كتابه الذي سماه الناس قرآن النحو، وعقد
أبوابه بلفظه ولفظ الخليل.
قال النضر بن شميل: كان اصحاب الشعر يمرون بالخليل فيتكلمون النحو، فقال
الخليل: لا بد لهم من اصل. فوضع العروض، فخلا في بيت ووضع بين يديه طستاً،
فجعل يقرعه بعود ويقول: فأعلن مستفعلن فعولن. قال: فسمعه أخوه فخرج الى
المسجد فقال: إن اخي قد أصابه جنون! فأدخلهم على الخليل وهو يضرب الطست،
فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، مال؟ اصابك شئ؟ أتحب أن نعالجك؟ قال: وما اك؟
قالوا: أخوك يزعم انك قد خولطت. فأنشأ يقول:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... او كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
دخل أعرابي مسجد البصرة فطاف على الخلق وسمع ما يقولون حتى صار إلى حلقة
الخليل، فسمعهم يتذاكرون النحو والشعر حتى افضوا إلى دقيق النحو والعروض،
فقام عنهم وقال:
ما زال أحدهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
حتى سمعت كلاماً لست اعرفه ... كأنه زجل الغربان والبوم
رفضت نحوهم والله يعصمني ... من التقحم في تلك الحراثيم
وكان الخليل منفطعاً إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيار صاحب
خراسان، وكان من أكتب الناس وكان بارع الادب وكان كاتباً للبرامكة. فأراد
الخليل ان يهدي له هدية، فعلم أن المال والاناث لا يقعان عنده موقعاً،
فصنف له كتاب العين الي لم يوضع مثله. فوقع عنده موقعاً جسيماً، وحفظ
نصفه. وكانت له بنت عم تحته عاقلة، فأبتاع جارية بارعة الجمال، فبلغها ذلك
فنالتها عليه غيرة، فقالت: لاغظينه! وعمدت إلى الكتاب فأحرقته لعلمها
بإعجابه به. فطلب الليث الكتاب. فطلب نسخة للكتاب، فأعوزته لأن الخليل كان
قد خصه به. فأستدرك النصف من حفظة وجمع على النصف الباقي أدباء زمانه،
فمثلوا على النصف الأول ولم يلحقوا، فالنصف الأخير الذي في أيدي الناس ليس
من تصنيف الخليل.
وهو أول من جمع الحروف في بيت فقال " من البسيط " :
صف خلق خودٍ كمثل الشمس إذ بزغت ... يحظى الضجيع بها نجلاء معطار
وله ثلاثة أبيات على قافية واحدة وهي " من السريع " :
يا ويح قلبي من دواعي الهوى ... إذ رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد أمعنوا ... ودمع عيني كفيض الغروب
بانوا وفيهم طفلةٌ حرةٌ ... تفتر عن مثل أقاحي الغروب
وقال " من المتقارب " :
كفاك لم تخلقا للندى ... ولم يكُ بخلهما بدعه
فكفٌ عن الخير مقبوضةٌ ... كما نقصت مائة سبعه
وكفٌّ ثلاثة آلافها ... وتسعٌ مئيها لها شرعه
وهذا مما أبدع فيه الخليل ولم يسبق إليه أنه وصف انقباض اليدين بحالين من
الحساب مختلفتين في القدر متشاكلين في الصورة وهما ثلاثة وتسعون وتسعمائة
وثلاثة آلاف. - وأنشد المبرد لغيره في معناه " من الوافر " :
وما تسعون تخفرها ثلاث ... يشدُّ بعقدها رجلٌ شديدُ
بكفٍ حزقةٍ جمعت لوجءٍ ... بأنكد من عطائك يا يزيد
وقال الخليل على وزن فَعْلُنْ فَعْلُنْ " من المتدارك " :
يعدو عمرو يستنهي من ... زيدٍ عند الفضل القاضي
فانهوا عمراً إني أخشى ... صول الليث العادي الماضي
ليس المرءُ الحامي أنفاً ... مثل المرءِ الصتْم الراضي
وقال على وزن فَعِلُنْ فَعِلُن " من المتدارك " :
سُئلوا فأبوا فلقد بخلوا ... ولبئس لعمرك ما فعلوا
أبكيت على طلل طرباً ... فشجاك وأحزنك الطلل
وقال: إن لم تعلم الناس ثوابا فعلمهم لتدرس بتعليمهم ما عندك! ولا تجزع
ممن يقرع السؤال فإنه ينبهك على علم ما لم تعلم! وقال: العلوم أقفال
والسؤالات مفاتيحها.
وقال: أخرج من منزلي فألقي رجلاً من أربعة رجال: رجلاً أعلم مني فهو يوم
فائدتي، أو رجلاً مثلي فهو يوم مذاكرتي، أو رجلاً متعلماً فهو يوم ثوابي
وأجري، أو رجلاً دوني في الحقيقة وهو يرى أنه فوقي وهو يحاول أن يتعلم مني
وكأنه يعلمني، فذاك الذي لا أكلمه ولا أنظر إليه. - وقال " من البسيط " :
العلم يذكي عقولاً حين يصحبها ... وقد يزيدها طول التجاريب
وذو التأدب في الجهال مغترب ... يرى ويسمع ألوان الأعاجيب
وقال: الرجال أربعة: فرجلُ يدري ويدري أنه يدري فذاك عالم، فاتبعوه! ورجل
يدري ولا يدري أنه يدري فذاك ناس، فأذكروه! ورجلُ لايدري ويدري أنه لايدري
فذاك جاهل، فعلموه! ورجلٌ لايدري ولايدري أنه لايدري فذاك مائق، فاحذروه!
- وقال " من السريع " :
ما أتسعت أرض إذا كان من ... تبغض في شئ من الأرض
وله " من الطويل " :
ربَّ امري يجري ويدري بأنه ... إذا كان لايدري جهول بما يجري
وتجري ولاتدري بأنك من عمى ... لأنك لاتدري بأنك لاتدري
وقال أبو عثمان الناجم: أنشدنا الناشئ لنفسه في داود بن علي الإصبهاني "
من الطويل " :
أقول كما قال الخليلُ بن أحمد ... وإن شتَّ ما بين النظامين في الشعر
عذلت على مالو علمت بقدره ... بسطت مكان العذل واللوم من عذري
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لاتدري
وقال " من البسيط " :
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
وانظر لنفسك فيما أنت فاعله ... من الأمور وشمر فوق تشميري
وقال: تكلم أربعة أملاك بأربع كلمات كأنها رمية واحدة، قال كسرى: أنا على
رد مالم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقال قيصر: لاأندم على مالم أقل وقد
أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني وإذا لم أتكلم
بها ملكتها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة وإن رفعت عليه ضرته
وإن لم ترفع عليه لم تنفعه. قال الخليل: فطلبت لها نظائر في أشعار العرب
فوجدتها، قال الشاعر " من الخفيف " :
حبس ما لم أقل عليَّ يسيرٌ ... وعسيرٌ ردُّ الكلام المقول
وقال آخر " من الكامل " :
ما لم أقله فلا أشعه ندامةً ... ومتى أقل يكثر عليَّ تندمي
وقال آخر " من الطويل " :
كلامك مملوك إذا لم تفه به ... وتلقاه إن أطلقته لك مالكاً
وقال آخر " من الرجز " :
عجبت للقائل قولاً هذراً ... متى يشع يدن إليه ضررا
وليس بالنافع إما سترا
وقال يزيد بن المهلب للخليل: يا أبا عبد الرحمان، ما تقول في السماح؟
فقال: هو إلى الكرم ارتياح، وفي النعم امتناح، وليس فيه كبير جناح، يغفر
الله عما فوقه، ويأخذ بما هو دونه، وما أحبُّ أن أغرَّ بقولي ورعاً، ولا
أهزُّ طبعا.
وسئل عن قولهم " من المتقارب " :
إذا كنت في حاجة مرسلاً ... فأرسل حكيماً ولا توصه
فقال: الحكيم الذي لايحتاج إلى وصية: الدرهم. - وقال: أكمل ما يكون الرجل
عقلاً وذهناً وهو ابن أربعين سنة، وهي السنُّ التي بعث الله رسوله فيها،
ثم يتغير وينقص إذا صار ابن ثلاث وستين، وهي السنُّ التي قبض صلى الله
عليه وسلم فيها، وأصفى مايكون ذهنه في السحر. - وقال " من الوافر " :
إذا ضيقت أمراً زاد ضيقاً ... وإن هونت صعب الأمر هانا
فلا تجزع لأمر ضاق شيئاً ... فكم صعبٍ تشدد ثم لانا
وقال " من الوافر " :
وما بقيت من اللذات إلا ... محاورة الرجال ذوي العقول
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً ... فقد صاروا أقل من القليل
وقال " من الوافر " :
وما شيءُ أحب إلى لئيم ... إذا سبَّ الكرام من الجواب
متاركة اللئيم بلاى جوابٍ ... أشدُ على اللئيم من السباب
وقال: الزاهد من لايطلب المفقود حتى يفقد الموجود. وقال: الجود بذل
الموجود. وقال: الأيام ثلاثة: معهود ومشهود وموعود، فالمعهود أمس والمشهود
اليوم والموعود غداً. وقال " من الرجز " :
حسبك مما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
وقال " من السريع " :
غرَّ جهولاً أمله ... حتى يوافي أجله
ومن دنا من حتفه ... لم تغن عنه حيله
لايصحب الإنسان من ... دنياه إلا عمله
قال ابن المعتز: يستحسن من شعر الخليل في وصف الدنيا وذمها وترك الحرص
عليها قوله " من الطويل " :
وما هي إلا ليلة ثم يومها ... وحولٌ إلى حولٍ وشهرٍ إلى شهر
مطايا يقربن الجديد من البلى ... ويدنين أشلاء الكرام من القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويبعدن جثمان الشحيح من الوفر
وقال " من الكامل " :
إذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال
وقال " من الكامل " :
عش مابدا لك، قصرك الموت ... لا مزحل عنه ولا فوت
بينا غنى بيت وبهجته ... زال الغنى وتقوض البيت
يا ليت شعري ما يراد بنا ... ولقلما تغني إذا ليت
وقال " من الكامل " :
المرءُ ذو صوت يعيش به ... في الناس ثم سينفذ الصوت
وقال " من الوافر " :
يعيش المرء في أمل ... يردده إلى الأبد
يؤمل ما يؤمل من ... صنوف المال والولد
ولا يدري لعلّ المو ... ت يأتي دون بعد غد
فلا يبقى لوالده ... ولا يبقي على ولد
وقال " من الوافر " :
أتبكي بعد شيب قد علاكا ... ولا ينهاك شيبك عن بكاكا
فهلا إذ بكيت على التصابي ... بكيت على الصبابة في صباكا
وقال: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال. - وقال " من الطويل " :
تكثر من الإخوان ما اسطعت إنهم ... بطون إذا استنجدتهم وظهور
وما بكثير ألف خل لعاقل ... وإن عدوا واحداً لكثير
وقال: إذا أخبرك بعيبك صديق قبل أن يخبرك به عدوٌ فأحسن شكره واقبل نصحه،
فإنك إن قبلته لم ينفعه وإن رددته لم تضر إلا نفسك! ومن أظهر لك عيوباً
وكشف لك عن مكروه قناعاً فقس ما غاب عنك بما ظهر لك من فعله! وأنشد " من
الكامل " :
ليس المسئ إذا تغيب سوءه ... عني بمنزلة المسء المعلن
من كان يظهر ما أحب فإنه ... عندي بمنزلة الأمين المحسن
والله أعلم بالقلوب وإنما ... لك ما بدا لك منهم بالألسن
وكان الخليل قد نظر في النجوم وبالغ وأشرف على مالا يحب، ثم لم يرضها،
فأنشأ يقول " من الخفيف " :
أبلغا عنيّ المنجم أني ... كافرٌ بالذي قضته الكواكب
عالمٌ أنَّ ما يكون وماكا ... ن بحكم من المهيمن واجب
شاهد أنَّ من يفوض أو يجبر ... زارٍ على المقادير كاذب
قالت القدرية: لايكون قدرٌ من الله عملاً مني. والمعنى: لايكون معنيان في
شيء واحد. فكلم الخليل رجلاً منهم فأخذ عوداً فكسره وقال للقدري: أيُّ
شيءٍ كان مني في هذا العود؟ قال: الكسر. قال: فأي شيءٍ كان من العود في
نفسه؟ قال: الانكسار. قال: قد اجتمع المعنيان في شيء واحد الكسر والانكسار.
قال الخليل: بعث إليَّ المهدي، فأتيته وهو جالسٌ في الماء على سريرٍ له
إلى صدره، فسلمت عليه. فقال لي: إني اشتهيت الحديث الساعة، فحدثني! ثم
قال: حدثني عن القمر! فلم أدر عن أيه أحدثه، ثم عرض لي أن قلت: قيل للقمر:
كم أنت ابن ليله؟ قال: رضاع سخيله. قيل: لليلتين؟ قال: حديث أمتين بكذب
ومين. قيل: ابن ثلاث؟ حديث فتيات مختلفات. قيل: ابن أربع؟ قال: عتمة أم
الربع. قيل: ابن خمس؟ قال: سر وأمس. قيل: ابن ست؟ قال: سر وبت. قيل: ابن
سبع؟ قال: عشية جمع. قيل: لثمان؟ قال: قمر إضحيان. قيل: لتسع؟ قال: مثقب
الجزع. قيل: لعشر؟ قال: أبادر الفجر. ثم قلت: يا أمير المؤمنين، قيل: لا
يحفظ هذا الحديث إلا عاقل. قال: فخذه عليَّ! فأعاده كما حدثته. ثم دعا
بثيابه فخرج، وأتينا بمائدة عليها خمسة قوالب كأنها الثلج، فأكل وقال: كل!
فأكلت، فلم أر شيئاً قط أطيب منه. فقال لي: هذا المخ بالطبرزد، وأتي بشراب
شديد الحمرة حسن اللون، فشرب ثم قال: اشرب! فظننت أنه الخمر فقلت: لاأشرب
من هذا. قال: اشرب، لا ام لك! فشربت شيئاً لم أشرب مثله قط فوجدت برده في
عيني. فقال: هذا عصارة الرمان، وتفاح لبنان، وعسل إصبهان، وماء المسرقان،
وثلج ماسبذان، بزعفران. ثم خرجت من عنده بغير شيء.
ولما وليّ سليمان بن حيب المهلبي الأهواز زاره الخليل، فلم يحمد أمره،
فرجع إلى البصرة وكتب إليه " من البسيط " :
أبلغ سليمان أني عنه في سعةٍ ... وفي غنىً غير أني لست ذا مال
سخى بنفسي أتي لاأرى أحدا ... يموت هزلاً ولايبقى على حال
وإن بين الغنى والفقر منزلة ... مخطومة بجديد ليس بالبالي
الرزق عن قدرٍ لاالضعف ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
إن كان ضنَّ سليمان بنائله ... فالله أفضل مسؤول لسؤال
فكتب يعتذر إليه، فلما أتاه الرسول أدخله منزله فأخذ خبزاً يابساً فبله
بماء ثم قال للرسول: أبلغ سليمان أنا لاحاجة لنا فيه مادمنا نجد هذا! -
وقال وهب بن جرير: خرج أبي والخليل والفضل بن المؤتمن العتكي إلى سليمان
بن الحبيب بن المهلب إلى الأهواز، فبدأ بعطاء الإثنين قبل الخليل، فكتب
إليه الخليل بأبيات تمثل بها " من الكامل " :
ورد العفاة المعطشون فأصدروا ... رياً فطاب لهم لديك المكرع
ووردت حوضك ظامئاً متدفقاً ... فرددت دلوي شنها يتقعقع
وأراك تمطر جانباً عن جانب ... وفناء أرضي من سمائك بلقع
أبحسن منزلتي تؤخر حاجتي ... أم ليس عندك لي خير مطمع
ورحل عنه، فوّجه إليه بألف دينار، فردّها وقال: هيهات، أفلتت
قائبة من قوبها! وقال: أبلغ سليمان الأبيات. - وأنشد أبو هفّان للخليل "
من البسيط " :
وزلةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لاتعجبن لخير زلَّ عن يده ... فالكواكب النحس يسقى الأرض أحيانا
وقيل: كان الخليل صديق سليمان بن حبيب، وكثر الزوار، فتشاغل عنهم، فسألوا
الخليل يذكره بأمرهم، فكتب إليه " من الكامل " :
لاتقبلن الشعر ثم تعقه ... وتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعتابهم يبقى على الأيام
لما دخل الخليل البصرة عزم على مناظرة أبي عمرو بن العلاء، فجلس في حلقته،
ثم انصرف ولم ينطق. فقيل له: ماحملك على السكوت عن مناظرته؟ قال: نظرت
فإذا هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع فيفتضح في البلد، فلم أكلمه.
وقيل: أراد بعض آل المهلب أن يشتري أرضاً، فأشير عليه أن لايشتريها. وأشار
عليه الخليل بشرائها، ففعل فرأى مايحب، فقال الخليل يصفها " من البسيط " :
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت ... عن المعاطش واستغنت بسقياها
فاعتم بالطلح والزيتون أسفلها ... وماد بالنخل والرمان أعلاها
وصار يحسده من كان يعذله ... ولائم لام فيها قد تمناها
أبا معاوية اشكر فضل واهبها ... وكلما جثتها فاعمر مصلاها
وعن الخليل أنه قال: كلم ابن عباس عبد الله بن الزبير في محمد بن الحنفية
وقال: ماتريد من رجل كفّ لسانه ويده عنك؟ اتق الله! فإنك قادم على ربك.
فقال له ابن الزبير: تكلمني في رجل سخيف الرأي ضعيف العقل، ليس له بذم
ولادين. فقال ابن عباس: رماه الله بداءٍ لاشفاء له إن كان شرا منك في
الدين والدنيا! فغضب ابن الزبير وقال: أنت أيضاً تتكلم عندي؟! فقام ابن
عباس، وندم ابن الزبير على ماقال، وخرج من عند ابن الزبير من وجهه إلى
الطائف وقال: العجب من حنكيل يتعجب من كلامي عنده، وقد تكلمت غلاماً عند
رسول الله صلى الله عليه وسلم وعند أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله
عنهم، يرونني أحق من نطق، يستمع قولي وتقبل مشورتي، ليحك حنكيل جربه،
ولاينقاص عليَّ انقياص الكثيب! أظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد
المطلب؟! والله لأنملة من أنامل ابن الحنفية أحب إليَّ من أبن الزبير!
والله غنه لأوفر منه عقلاً وأوفى منه عهداً وأكمل منه رأياً وأفضل ديناً
وأصدق ورعاً! - فمات ابن عباس بالطائف، وصلى عليه ابن الحنفية، كبر عليه
أربعاً وضرب عليه قسطاطاً وقال: دفنتم اليوم خير هذه الأمة. - قال ابن
دريد: رجل بذم: إذا كان ذا قوة، وحنيكل تصغير حنكل: وهو الصغير المجتمع
الخلق، وينقاص: يتهدم، وانقاصت سنه: إذا انكسرت، وأنشد " من الطويل " :
فراق كقيص السن فالصبر إنه ... لكل أناسٍ عبرةٌ وحبور
قال الخليل: مرَّ بنا الفرزدق ونحن صبيان نلعب، وقد انصرف من المهالبة وهو
على بغل، وكان قبيح الوجه، فجعلنا ننظر إليه، فوقف وقال " من الكامل " :
نظروا إليك بأعين محمرة ... نظر التيوس إلى مدى القصاب
فقال له بعضنا: نظرنا إليك أنك مليح، كما ينظر إلى القرد وهو مليح، فصرف
وجه بغلته وانصرف. - قال أبو العيناء: الخليل قال له هذه المقالة وهو صبي،
ولكنه لم يحب أن تحكيه عن نفسه.
ويروى أن سيار بن هاني أبا إبراهيم بن سيار النظام جاء بابنه إبراهيم إلى
الخليل، وقال: أحب أن يكون هذا الصبي بين يديك! فقال الخليل لإبراهيم
كالعابث وفي دار الخليل نخلة: صف لي هذه النخلة! قال: بمدح أم بذم. قال:
بذم! قال: هي صعبة المرتقى خبيثة المجتنى. قال: فصف زجاجتي هذه! - يعني
كأساً في يده. فقال: أبمدح أم بذم؟ قال: بذم! قال: هي سريعة الانكسار
بطيئة الانجبار. فقال الخليل لأبيه: أنا أحتاج أن أتعلم من أبنك هذا.
ومن شعر الخليل " من السريع " :
ما أسمج النسك بسأ ال ... وأقبح البخل بذي المال
وأقبح الثروة ما لم تكن ... عند أخي جودٍ وإفضال
والحرص من شر أداة الفتى ... لاخير في الحرص على حال
من بات محتاجاً إلى أهله ... هان على ابن العم والخال
ما وقع الواقع في ورطة ... أزرى به من رقة الحال
وقال " من البسيط " :
رزقت جوداً ولم أرزق مرؤته ... وما المروءةُ إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقاعدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال
وقال " من الوافر " :
وهذا المال يرزقه رجال ... مناديل إذا اختبروا فسول
ورزق الخلق مجلوب إليهم ... مقادير يقدرها الجليل
كما تسقى سباخ الأرض ريا ... وتصرف عن كرائمها السيول
فلا ذو المال يرزقه بعقل ... ولا بالمال تقتسم العقول
وقال في تفضيل شكر الشاكر على إنعام المنعم " من الطويل " :
وما بلغ الإنعام في النفع غايةً ... من الفضل إلا مبلغ الشكر أفضل
وما بلغت أيدي المنيلين بسطة ... من الطول إلا بسطة الشكر أطول
ولا رجحت بالمرء يوماً صنيعة ... على المرء إلا وهي بالشكر أثقل
وقال " من المجتث " :
إن لم يكن لك لحم ... كفاك خلُّ وزيت
أو لم يكن ذا وهذا ... فكسرة وبييتُ
تظل فيه وتأوى ... حتى يجيئك موتُ
هذا عفاف وأمن ... فلا يغرك ليت
وقال يصف قصر عيسى بن جعفر بالخريبة " من البسيط " :
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لابدَّ من زورة من غير ميعاد
زره فليس له شبه يعادله ... من منزل حاضرٍ إن شئت أو باد
ترفى قراقيره والعيس واقفة ... والنون والضب والملاح والحادي
القراقير: ضرب من السفن، وترفى: أي توقف السفن بها، والمعنى أنه مجمع البر
والبحر. وقال - وقيل: هي لأبي عيينة المهلبي " من المنسرح " :
يا جنة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمةٌ ولا ثمن
ألفتها فاتخذتها وطناً ... إن فؤادي لأهلها وطن
صاهر حيتانها الضباب بها ... فهذه كنة وذا ختن
من سفن كالنعام مقبلةٍ ... ومن نعامٍ كأنها سفن
سأل الأخفش الخليل: لم سميت الطويل طويلاً؟ قال: لأنه تمت أجزاؤه. قال:
فالبسيط؟ قال: لأنه أنبسط عن مدى الطويل. قال: فالمديد؟ قال: لتمدد سباعيه
حول خماسيه. قال: فالوافر؟ قال: لوفارة الأجزاء. وتدا بوتد. قال: فالكامل؟
قال: لأن فيه ثلاثين حركة لم يجتمع في غيره. قال: فالرجز؟ قال: لاضطرابه
كاضطراب قوائم الناقة الرجزاء. قال: فالهزج؟ قال: لأنه يضطرب شبه هزج
الصوت. قال: بعض. قال: لأنه يسرع على اللسان. قال: فالمنسرح؟ قال:
لانسراحه وسهولته. قال: فالخفيف؟ قال: لأنه أخف السباعيات. قال: فالمقتضب؟
قال: لأنه اقتضب من الشعر لقلته. قال: فالمضارع؟ قال: لأنه ضارع المقتضب.
قال: فالمجتث؟ قال: لأنه أجتث، أي قطع من طول دائرته. قال: فالمتقارب؟
قال: لتقارب أجزائه، وإنها خماسية كلها يشبه بعضها بعضاً.
وتردد إلى مجلس الخليل بعضهم فلم يحظ منه بطائل لقصور فهمه، فقال له
الخليل " من الوافر " :
إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
وقال: أنا أول من سمى الأوعية ظروفاً، وإنما قيل للإنسان ظريف لأنه جعل
ظرفاً لأدب ونظافة. - قالت امرأة الخليل له: لاأراك تجلس عندي كثيرا. قال:
ما أصنع عندك؟ أنت تجلين عن دقيقي وأنا أدق عن جليلك! ومات الخليل سنة
ستين ومائة. - قال عليّ بن نصر: رأيت الخليل في النوم فقلت في نفسي: لاأرى
أحداً من أسلافنا في النوم أعقل من الخليل. فقلت ما صنع الله بك؟ قال: غفر
لي ورحمني! ثم قال لي: رأيت ماكنا فيه ما انتفعنا بشئ منه، وكله باطل،
ولكن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، ما رأينا انفع
منهن!
17 - ومن أخبار أبي محرز خلف بن حيان الأحمر
مولى بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، وهو من السغد الذين
سباهم قتيبة بن مسلم الباهلي، فوهبهم سلم بن قتيبة لبلال بن أبي بردة. -
أخذ النحو عن عيسى بن عمر واللغة عن أبي عمرو بن العلاء، ولم ير أحدٌ أعلم
بالشعر والشعراء منه. ومما نسب من شعره إلى تأبط شراً " من المديد " :
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يُطل
القصيدة. - ومر خلف باليزيدي، فقال له: يا أبا محرز، ما معنى قول الشاعر "
من الكامل " ؟
وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الخورنق والسدير
وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الشويهة والبعير
فقال له خلف " من الكامل " :
وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الحريبة والرميح
وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الدوية واللويح
يعرض باليزيدي أنه معلم. - قال الأصمعي: قرأت على خلف شعر جرير، فلما بلغت
قوله " من الطويل " :
ويومٍ كإبهام القطاة محبب ... إليّ هواه غالبُ لي ماطله
رزقنا به الصيد الغرير ولم نكن ... كمن نبله محرومة وحبائله
فيالك يوماً خيره قبل شره ... تغيب واشيه وأقصر عاذله
فقال: ويله! وما ينفعه خير يؤول إلى شر؟ فقلت له: كذا قرأته على أبي عمرو،
فقال لي: صدقت وكذا كان يجب أن يقول؟ قال: الأجود لو قال: " فيالك يوماً
خيره دون شره " ، فاروه هكذا! فقد كانت الرواة قديماً تصلح أشعار القدماء.
فقلت: والله لاأرويه بعدها إلا هكذا. - وقال خلف: ما أحد بيَّن عن حقيقة
الطيف إلا قيس بن الخطيم في قوله " من الكامل " :
ما تمنعي يقظي فقد تؤتينه ... في النوم غير مكدر محسوب
كان المنى بلقائها فلقيتها ... فلهوت من لهو امرئ مكذوب
ولا اتبعه حق الاتباع إلا ذو الرمة في قوله " من الطويل " :
إذا نحن عرسنا بأرض سرى لنا ... هوى لبسته بالقلوب اللوابس
نأت دار ميٍ أن تزار وزورها ... إذا مادجا الإظلام منَّا وساوس
وقرأ أبو نواس على خلف، وأمره أن يرثيه وهو حي، فرثاه أبو نواس، فلما سمعه
خلف قال له: أنت أشعر الناس! وقال له مرة أخرى: يابني لشعرك فوق سنك. -
وجاء رجلٌ إلى خلف فقال: إني قد قلت شعرا أحببت أن أعرضه عليك. قال: هات!
فأنشده " من الكامل " :
رقد النوى حتى إذا انتبه الهوى ... بعث النوى بالبين والترحال
ياللنوى جدُّ النوى قطع النوى ... بالوصل بين ميامن وشمال
فقال له خلف: قولي، واحذر الشاة! فو الله لئن ظفرت بهذا الشعر لتجعله
بعرا، على أني ما ظننت بك هذا كله.
وقال الأصمعي: حج قومٌ بالبصرة وقدموا، فأهدى إليهم خلف هدية فقصروا في
ثوابه، فقال " من الوافر " :
سقى حجاجنا نوءُ الثريا ... على ماكان من لؤم وبخل
همُ شدّوا القباب وأحرزوها ... فلو زادوا لها باباً بقفل
وقد عدوا لنا شيئاً بشئٍ ... مقايضة له مثلا بمثل
فإن أهديت فاكهة وكبشاً ... وعشر دجائج بعثوا بنعل
ومسواكين طولهما ذراع ... وعشرٍ من صغار المقل خشل
فإن أهديت ذاك ليحملوني ... على نعل فدق الله رجلي
أناس مائهون لهم رواءٌ ... تغيم سماؤهم من غير وبل
إذا نسبوا فحي من قريش ... ولكنَّ الفعال فعال عُكْل
وقال ليحيى بن وردان وقد قدم من مكة فلم يهد إليه شيئاً " من البسيط " :
هلا أتيت بقمري أربيه ... أو ساق حرٍ إذا ما شئت غناني
فليس للبر والتقوى حججت ولا ... من خشية الله يايحيى بن وردان
كنت الخبيث إذا شدوا محاملهم ... أيام مكة أنت الفاسق الزاني
قال حبيب القاضي: خرجنا بسحرة نريد بعض الفقهاء ومعنا عباد بن صهيب، فجاء
كلب حتى تشممه، ثم بال عليه، فقال خلف: كان هذا الكلب من قافة بني مدلج،
وضع البول في موضعه!
وقال خلف: كنت أسمع ببشار وما كنت رأيته، فذكروه لي يوماً وذكروا
بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، وأنشدوني شعراً ليس بالمحمود عندي. فقلت:
والله لآتينه ولأطأطئن منه! فأتيته وهو جالس على باب داره، فرأيت أعمى
قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن الله من يبالي بهذا! فوقفت أتأمله
طويلاً، فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلاناً سبعك عند الأمير محمد
بن سليمان ووضع منك. فقال: أفعل؟ قال: نعم! فأطرق، وجلس الرجل عنده وجلست،
وجاء قومٌ فسلموا عليه، فلم يردد عليهم السلام، فجلسوا ينظرون إليه، فندرت
أوداجه فما نشب أن أنشدنا بأعلى صوته وأفخمه " من الكامل " :
نبئت راكب أمه يغتابني ... عند الأمير وهل عليَّ أمير
ناري محرقة وسيبي واسع ... للمعتفين ومجلسي مغمور
ولي المهابة في الأحبة والعدى ... وكأنني أسد به تأمور
غرثت حليلته وأخطأ صيده ... فله على لقم الطريق زئير
فارتعدت والله فرائصي وعظم في عيني جداً وقلت في نفسي: الحمد لله الذي
أنقذني من شرك! وذكر عليّ بن هارون المنجم عن أبيه أن خلفاً قال قصيدة
نحلها عباد بن الممزق، يذكر فيها أبا محمد اليزيدي ويرميه باللواط بأملح
معان وأقرب لفظ، وهي " من الكامل " :
إني ومن وسج المطي له ... حدب الذرى اقرابها رجف
يطرحن باليد السخال إذا ... حث النجاء الركب وازدهفوا
وإذا قطعن مساف مهمهة ... تأتي تعرض دونه شرف
والمحرمون لصوتهم زجل ... بفناء كعبته إذا هتفوا
وافت بهم فرض مزممة ... مثل القسي ضوامر شسف
مني إليه غير ذي كذبٍ ... ما أن رأى قوم ولا عرفوا
في غبر الناس الذين بقوا ... والفرط الماضيين إذ سلفوا
في معرك تلقى الكمي به ... للوجه منبطحاً وينحرف
وإذا أكب القرن أتبعه ... طعناً دوين صلاه ينخسف
لله درك أي ذي دلف ... في الحرب أنت إذا هم وقفوا
لاتخطئ الوجعاء ألته ... ولا تصد إذا هم زحفوا
وله جياد ليس تعوزها الاجلال والمضمار والعلف
جرد يهان لها السويق وألبان اللقاح كأنها ترف
مرد وأطفال تخالهم ... دراً تطابق فوقه الصدف
ومتى يشا يجنب له جذع ... نهد أسيل الخد مشترف
يمشي العرضنة تحت فارسه ... عبل الشوى في مشيه قطف
ربذا إذا عرقت مغابنه ... ذهب السكون وأقبل العنف
في حقوه عرد تقدمه ... صلعاء في يافوخها قنف
جرداءُ تشحذ بالبصاق إذا ... دعيت نزال وهبّ ترتدف
أقعت على قيد الذراع شديد الجلز في يافوخه جوف
خاط ممر متنه ضرم ... لاخانه خور ولا قضف
لو أنّ قناصاً تأمله ... نادى بحر الويل يلتهف
وإذا يمسحه لعادته ... ودنا الطراد فمدعس قطف
وإذا أبس به رباً وثرا ... حتى يكاد لعابه يكف
ياليتني أدري أمنجيتي ... وجناء ناجية بها شدف
من أن تعلقني حبائله ... أو أن يواري هامتي اللحف
ربما أقول لصاحبي خلف ... إيها هديت تحرزن خلف
فلو أنّ بيتك في ذرى علم ... من دون قلّة رأسه شعف
ذلق أعليه وأسفله ... وعلا تنائف بينها قذف
لخشيت جزرك أن يبيتني ... إن لم يكن لي عنك منصرف
وهجا رجلاً كوسجاً يقال له محرز " من الوافر " :
أمحرز ما نظرت إليك إلا ... ذكرت من النساء عجوز لوط
أرى شعراً بخدك غير حلو ... شبيهاً حين يمشط بالخيوط
فما شيء بأشبه من عجوز ... إذا فكرت من شيخ سنوط
وقال يصف حية " من الوافر " :
يرون الموت دونك إن رأوني ... وصل صفا لنابيه ذباب
من المتطويات بكهف طود ... عرام لا يرام له جناب
أبى الحاوون أن يطوا حماه ... ولا تسري بعقونه الذئاب
إذا ما استجرس الأصوات أبدى ... لساناً دونه الموت العباب
يعظل نهاره نوماً سباتاً ... ونزوته طموراً وانسياب
كأن جرادة نشرت عليه ... جناحاً فارتدى منها الحباب
متى مايرم عن عينيه شخصاً ... فليس إلى الحياة له إياب
وقال " من الكامل " :
صب اإله على عبيد حية ... لاتنفع النفاث فيها والرقى
جبلية تسري إذا ما جنها ... ليلٍ وتكمن بالنهار فما ترى
مهروتة الشدقين ينطف نابها ... سماً ترى ما أن يهاب ويتقى
خضرت لها عنق وسائر خلقها ... بض يبين كمثل مصباح الدجى
وكأنما لبست بأعلى لونها ... برداً من الأثواب أنعجة البلى
رقشاه تقتصد الطريق إذا دنا ... منها المساء كأنها ثنيا رشا
قرناء أنساها الزمان فأدركت ... عاداً فليس لنهشه منها شفا
أو حية ذا طفيتين أحله ... آباؤه في شامخ صعب الذرى
فنشا بغار مظلم أرجاؤه ... لا الريح تصرده ولا برد الشتا
لم تغشه شمس وحالف قعره ... فنهاره ومساؤه فيه سوا
لو عض حرفي صخرة لتطايرت ... من نابه فلقا كأفلاق النوى
أو حالكاً أما النهار فكامن ... متطرق فإذا رأى ليلاً سرى
في عينه قبل وفي خيشومه ... فطس وفي أنيابه مثل المدى
يلقى عبيداً ماشياً متفضلاً ... متخلفاً قد ملَّه طول السرى
في ليلة نحس يحار هداتها ... لا لابساً خفاً يقيه ولاحذا
فيحوصه في كعبه بمذرب ... ماضٍ إذا أنحى على عظم فرى
وقال يدعو على رجل بالرتيلي " من الرجز " :
ابعث له من الرتيلي سقما ... مذبوبة تبعث فيه ألما
يظل منه لحمه مقسماً ... دهماء مثل العنكبوت أيما
لم تبق بعلاً لا ولم تبق اينما ... جزاء خطاب بما تأثما
وقال أيضاً في مثله " من الرجز " :
ابعث له يارب ذات أرجل ... في فمها أحجن مثل المنجل
دهماء مثل العنكبوت المحول ... تأخذه من تحته ومن عل
وقال في العقرب " من الرجز " :
يا ربنا ربَّ الشمال والصبا ... ومن سعى بالبيت أو تحصبا
ابعث له تحت الظلام عقربا ... مصفرة تنمي إليه خببا
تسل محجوباً نحيفاً نيربا ... أكلف لو مسسته لأندبا
كأنما تمس منه حربا ... حتى إذا خالطه فضربا
أتاك منه سائلاً محبباً ... فإن نجا فابعث إليه القرطبا
فمرَّ يفري سبسباً فسبسباً ... فصعدا دماغه وصوبا
وأكلا من لحمه وشربا ... جزاء خطاب بما تحوبا
وقال في البرغوث " من الرجز " :
يا عجباً للدهر ذي الإعجاب ... للأحدب البرغوث ذي الأنياب
يلسع لسع العقرب الدباب ... يقفز بين الجلد والثياب
وقال " من الرجز " :
وحية مسكنه الرمال ... كأنه إذا انثنى خلخال
وقال " من الرجز " :
ابعث على الكذاب في برد السحر ... حية غار في منيف مشمخر
وقال " من الرجز " :
وحنش كأنه رشاء ... أسود ما لمسه دواء
وقال في مرض موته " من الرجز " :
يا أيها الليل الطويل ذنبه ... كأن ديناً لك عندي تطلبه
أما لهذا الليل صبح يقربه
وتمثل عند موته بهذا البيت " من البسيط " :
لايبرح المرء يستقري مضاجعه ... حتى يبيت بأقصاهن مضجعا
وقال المبرد: إن خلفاً بقي إلى وفاة الرشيد أو بعد ذلك. وقال عبد الباقي
ابن قانع: توفي خلف سنة خمس وسبعين ومائة. وهذا بعيد مما أورده المبرد لأن
الرشيد توفي سنة ثلاث وتسعين ومائة، والله أعلم.
18 - ومن أخبار أبي محمد اليزيدي
هو يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي، وإنما سمي اليزيدي لصحبته
يزيد بن منصور خال المهدي، وبذلك كبر وارتفع صيته، وكان من غلمان أبي عمرو
بن العلاء. - ثم أدب المأمون وكان ابنه محمد لاصقاً بالمأمون من أهل أنسه،
وكان يدخل إلى المأمون مع الفجر فيصلي به ويدرس عليه المأمون ثلاثين آية،
وكان لايزال يعادله في أسفاره ويفضي إليه بأسراره. - وكان شاعرا فصيحاً
نحوياً، روى عنه أبو عبيد القاسم بن سلام. وله " كتاب نوادر في اللغة "
على مثال كتاب نوادر الأصمعي الذي عمله لجعفر بن يحيى البرمكي، وفي مقدار
عدد ورقه، وله جامع شعر جيد. وأخذ عن الخليل بن أحمد العروض وغيره، وكتب
عن أبي الوليد عبد الملك بن جريج، وتوفي ابن جريج سنة خمسين ومائة. - قال
ابو هفان: أشعر العلماء النبل أربعة: الكميت والطرماح والكساني واليزيدي.
وله من الأولاد محمد وإبراهيم وإسماعيل وعبد الله ويعقوب وإسحاق، وترتيبهم
في السن على هذا النسق: فيعقوب وإسحاق تزهدا وكانا عالمين بالحديث،
والأربعة برعوا في اللغة العربية، ونادم المأمون من هذه الجماعة محمد
وإبراهيم، وكان محمد المتقدم وهو الخارج مع المعتصم حين خرج إلى المبيضة
بمصر، فمات محمد بها ومات الباقون ببغداد.
قال اليزيدي: اجتمعت مع الكسائي عند المهدي فقال: كيف نسبوا إلى البحرين؟
فقالوا: بحراني! ونسبوا إلى الحصنين؟ فقالوا: حصني! ولم يقولوا: حصناني؟
قلت: أصلح الله الأمير، إنهم لو نسبوا إلى البحرين فقالوا بحري لم يعرف
إلى البحرين نسبوه أم إلى البحر، ولما جاؤا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر
يقال له الحصن ينسب إليه غير الحصنين فقالوا حصني. قال أبو محمد اليزيدي:
فسمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع: لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي
أحسن من هذه. قال أبو محمد: قلت: اصلح الله الأمير! إن هذا يزعم أنك لو
سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به. قال: فقد سألته. فقال الكسائي: لما نسبوا
إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا: حصني اجتراء بإحدى النونين من الأخرى،
ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا بحراني. فقلت: أصلح الله الأمير،
كيف ينسب رجلاً من جنان يلزمه أن يقول جني لأن في جنان نونين؟ فإن قال كان
ذلك، فقد سوى بينه وبين المنسوب إلى الجن! فقال المهدي: فتناظرا! قال:
فتناظرنا.
قال: وسأل المأمون اليزيدي عن شيء، فقال: لا وجعلني الله فداءك يا أمير
المؤمنين! فقال: لله درك! ما وضعت واو قط موضعاً أحسن من وضعها في لفظك
هذا! - وشكا اليزيدي إلى المأمون خلَّة أصابته وديناً ارتكبه، فقال:
ماعندنا في هذه الأيام ما إن أعطيناكه بلغت به ماتريد.
فقال: عندك منادمون فيهم ما إن حركته نلت منهم ما أريد، فأطلق لي الحيلة
فيهم! قال: قل مابدا لك! قال: إذا حضروا وحضرت الباب فمر فلانا الخادم أن
يوصل إليك رقعتي، فإذا قرأتها فأرسل إليّ: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن
أختر لتفسك من أحببت ينادمك! فقال: أفعل! فلما علم أبو محمد بجلوس المأمون
واجتماع ندمائه إليه أتى الباب فدفع الرقعة إلى الخادم الذي ذكره للمأمون،
فأوصلها إليه، فقرأها فإذا فيها " من السريع " :
ياخير إخوان وأصحاب ... هذا الطفيلي على الباب
خبر أنذَ القوم في دعوة ... يرنو إليها كلُّ أواب
فصيروني بعض جلاسكم ... أو أخرجوا لي بعض أصحابي
فقرأها المأمون على من حضره، فقالوا: ما ينبغي أن يدخل علينا الطفيلي.
فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فأختر لنفسك من أحببت
نخرجه إليك لتنادمه! فقال: ماأرى لنفسي اختياراً غير عبد الله بن طاهر.
فقال له المأمون: قد وقع اختياره فصر إليه! فقال: ياأمير المؤمنين، فأكون
شريك الطفيلي؟! قال: فما يمكت ردُّ أبي محمد عن أمرين فإن أحببت أن تخرج
وإلا فافد نفسك! فقال: ياأمير المؤمنين، له عليَ عشرة آلاف درهم! قال:
لاأحسب ذلك يقنعه منك ومن مجالستك. قال: فلم يزل يزيده عشرة والمأمون يقول
له: لاأرضى له بذلك! حتى بلغ المائة، فقال له المأمون: فعجلها له! فكتب
بها إلى وكيله ووجه معه رسولاً. فأرسل المأمون إلى أبي محمد: تقبض هذه في
هذا الوقت أصلح لك من منادمته على مثل حاله وأنفع عاقبة.
وقيل: إنه استأذن على المأمون ينادمه، فأخطا في كلام تكلم به،
فانقبض المأمون من ذلك، فعرفه ذلك بعض الناس، فأتاه وهو متكفن متحنط
وأنشده " من الطويل " :
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
فقبل عذره وعفا عنه.
اجتمع اليزيدي وسلم الخاسر عند عيسى بن عمر، فقال سلم لليزيدي: اهجني
وليكن على روي قصيدة امرئ القيس " من المديد " :
ربَّ رام من بني ثعل ... مخرج كفيه من ستره
فقال اليزيدي وكان حيياً عفيفاً: مالك ولهذا؟ قال سلم: كذلك أريد! فقال
اليزيدي: ما أغنانا عن التعرض للنشر فلتسعك العافية! وأراد سلم أن يعرف
عيسى أن لليزيدي مفحم عيي، فقال سلم: إنك لتحتجز بغاية الاحتجاز. فقال
عيسى: سألتك يا أبا محمد إلا فعلت! فأخذ نعله وقلبها وكتب عليعا " من
المديد " :
ربَّ مغموم بعافية ... غمط النعماء من أشره
وامرئ طالت سلامته ... فرماه الدهر من غيره
بسهام غير مشويةٍ ... نقضت منه قوى مرره
وكذاك الدهر منقلب ... بالفتى حالين من عصره
يخلط العسرى بميسرة ... ويسار المرء في عسره
عق سلم أمه سفهاً ... وأبا سلم على كبره
كلُّ يومٍ خلقه رجلٌ ... رامح يسعى على أثره
يولج الغرمول سبته ... كولوج الضب في حجره
فقال سلم: هكذا استدعاء الشر والشقاء، ما كان أغناني عن هذا! فقال عيسى:
لاأبعد الله غيرك! ولاأتعس إلا جدك! قد كان الرجل يستعفيك ويحترز منك أشد
الاحتراز، بقياً على دينه فأبيت إلا ماسمعت.
ومن شعر اليزيدي " من السريع " :
من يلم الدهر ألا ... فالدهر غير معتبه
أو يتعجب لصرو ... ف الدهر أو تقلبه
وكل ذي عجوبة ... جار إلى تعجبه
مضى بذاك مثل ... من ير يوماً ير به
قول حكيم قاله ... في سالفات حقبه
ورأس أمر لامرئ ... خير له من ذنبه
حتف امرئ لسانه ... في جده أو لعبه
بين اللهى مقتله ... ركب في مركبه
ورب ذي مزح أفيتت نفسه في سببه
ليس الفتى كلَّ الفتى ... إلا الفتى في أدبه
وبعض أخلاق الفتى ... خير له من نسبه
يحلم عنك في الرضا ... كحلمه في غضبه
وذو النهى ليست تبا ... عات الهوى من أدبه
لما يرى من أفنه ... فيه ومن تشعبه
وآفة الرأي الهوى ... والحزم في تجنبه
والأصل ينمي فرعه ... والمرء عند حسبه
واظنن بكل كاذب ... ما شئت بعد كذبه
والصدق من أفضل ما ... يؤثر عن مكتسبه
من يقنع الدهر وإن ... قلَّ اثاث نشبه
يعش رحيباً باله ... في ضيقه أو رحبه
ومن يصاحب صاحباً ... ينسب إلى مستصحبه
بزانيات رشده ... أو شانيات رتبه
وربما عرَّ صحا ... حاً جرب بجربه
يعرف من حال الفتى ... في لبسه ومركبه
وفي شمأزيزته ... منك وفي تعتبه
عليك او إصغائه ... إليك أو تحببه
والحر قد تعرفه ... بلينه وقربه
وعزمه وحزمه ... ورأيه وحدبه
والمرء قد يدركه ... يوماً جنود منصبه
بجهله يعرف و ... سيماه في توثبه
وشرة النفس وفي ... إلحاحه وطلبه
رفيق كل مطمع ... بحرصه وتعبه
وقد تعدى طوره ... عن كنهات رتبه
وقال " من الكامل " :
آخ الكريم فإن ... صحبتك اللئام عليك وصمه
والمال أصلحه ... فليس لمقتر في الناس حرمه
وإذا استشرت فلا تشا ... ور غير من جربت حزمه
واحلم إذا جهل الجهو ... ل إذا دعتك الجهل حلمه
ودع المراء لأهله ... واحذر معرته وإثمه
وقال " من الكامل " :
استبق ودَّ أبي المقا ... تل حين تدنو من طعامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر شئ من عظامه
ويصوم كرها ضيفه ... لم ينو أجرا في صيامه
وقال " من الكامل " :
باعد أخاك ببعده ... وإذا دنا شيئاً فزده
كم من أخ لك ياابن بشار وأمك لم تلده
وقال يهجو علماء البصرة والكوفة " من السريع " :
وقل لمن يطلب علماً ألا ... ناد بأعلى شرف ناد
ياضيعة النحو به مغرب ... عنقاء أودت ذات إصعاد
أفسده قوم وأزروا به ... من بين أغتام وأوغاد
ذوي مراء وذوي لكنة ... لئام آباء وأجداد
لهم قياس احدثوه هم ... قياس سوء غير منقاد
فهم من النحوواو عمرواأعمار عادٍفي أبي جاد
أما الكسائي فذاك امرؤ ... في النحو حادٍ غير مزداد
وهو لمن يأتيه جهلاً به ... مثل سراب البيد للصادي
كان أبو عبيدة معمر بن المثنى يتهم بالغلمان، فجاء أبو محمد وحمل غلاما
على عاتقه وقال له: اكتب على السارية التي يجلس إليها أبو عبيدة " من
البسيط " :
صلى الإله على لوط وأسرته ... أبا عبيدة قل بالله 'مينا
وأنت عندي بلا شكٍ تبيتهم ... منذ احتلمت وقد جاوزت سبعينا
فلما دخل أبو عبيدة المسجد وإذا السارية مكتوب في أعلاها البيتان، فحمل
رجلاً على عنقه وقال: امحه! فقال: قد محوته وقد بقيت الطاء. فقال: امحها!
فإنما البلاء في الطاء.
وقال أبو زيد الانصاري يهجو أبا محمد " من الخفيف " :
وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه ... غيلا أني أصون عنه بصاقي
وقال أبو محمد " من الوافر " :
متى ما تسمعي بقتيل عشق ... أصيب فإنني ذاك القتيل
فأخذ المعنى ابنه أبو عبد الله فقال " من الوافر " :
بكيت ولم يهج حزني ... رسومٌ لا ولا طلل
ولكن للنوى أبكي ... وطول العهد ياأمل
أتيتك عائذا بك منك لما ضاقت الحيل
وصيرني هواك وبي ... لحيني يضرب المثل
فإن سلمت بكم نفسي ... فما لاقيته جلل
وإن قتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل
وقال أبو محمد " من السريع " :
قومٌ كرامٌ ماعدا أنهم ... صولتهم منهم على جارهم
وتوفي أبو محمد رحمه الله اثنتين ومائتين وكذا ذو الرئاستين.
آخر الجزء الاول من نور القبس والحمد لله وحده
19 - ومن أخبار أبي عبد الله محمد بن أبي محمد اليزيدي
قال محمد بن العباس اليزيدي: قال جدي محمد " ..... " وأنشدها المأمون " من الكامل " :الجهل بعد الأربعين قبيح ... فزعِ الفؤاد وإن ثناه جموح
وبع السفاهة بالوقار وبالنهى ... ثمن لعمرك إن عقلت ربيح
وأغنم بقايا من شبابك آذنت ... بتصرم والجسم منك صحيح
فلقد حدا بك حاديان إلى البلى ... ودعاك داعٍ بالرحيل فصيح
إلى غير ذلك من النمط، فبعث إليه الرشيد: مالنا وما لهذا الشعر يا محمد؟ فقال " من الكامل " :
يسعى إليك بها غلام أهيف ... من جيبه ريح العبير يفوح
ميسان أما دلّه فمخنثٌ ... غنج وأما وجهه فمليح
وقال " من الوافر " :
صحيحٌ وُدٌّ من أمسى عليلاً ... ليكتب أو يرى لكم رسولا
رآك نشوبه الهجران حتى ... إذا ما أعتل كنت له دليلا
هما موتان موتُ هوى وهجرٍ ... وموت الهجر شرهما سبيلا
وقال غيره في المعنى وأحسن منه " من الطويل " :
يودُّ بأن يمسي سقيماً لعلها ... إذا سمعت عنه بشكوى تراسله
ويهتزُ للمعروف في طلب العلى ... لتحمد يوماً عنه سلمى شمائله
قال محمد: دخلتُ على المأمون، فقال لي: أما ترى عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلا أقله، ما أحسن ما قيل في قدم الشراب؟ فقلت: قولُ الحكمي " من المديد " :
عُتِقت حتى لو أتصلت ... بلسان ناطقٍ وفم
لاتبت في القوم ماثلة ... ثمَّ قصت الأمم
فقال: كان هذا في نفسي. ثمّ نكت في الأرض ورفع رأسه وقال: يا محمد، قد قلت
شعرا في شربنا! ثمّ أنشدني " من البسيط " :
إني وأنت رضيعاً قهوةٍ نطفت ... عن العيان ودقَّت عن مدى الفهم
مابيننا رحمٌ إلا إدارتها ... والكأس حُرمتها أولى من الرحم
وقال محمد بن يزيد: كنتُ بباب المأمون، إذ جاءه محمد بن أبي محمد اليزيدي،
فقال له الحاجب: قد أخذ أمير المؤمنين دواءٍ وأمرني أن لاآذن لأحد. فقال
له: فأمرك ألا تدخل رقعة؟ قال: لا. فدعا بدواةٍ وقرطاس وكتب " من الوافر "
:
هديتي التحية للإمام ... إمامِ العدل والملك الهمام
لأني لو بذلت له حياتي ... وما أحوي لقلا للإمام
اراك من الدواءِ الله نفعاً ... وعافيةً تكون إلى تمام
وأعقبك السلامة منه ربٌّ ... يريك سلامةً في كل عام
ااذن في الدخول بلا كلام ... سوى تقبيل كفك والسلام
فأدخل الحاجب الرقعةَ وخرج مبادراً وأدخله، فقبل يده، ثمّ ضمه إليه، وحمل
معه ثلاثة آلاف دينار. - وقال " من الكامل " :
نعم المحدّث والنديمُ كتابُ ... تلهو به إن ملك الأحباب
لا مفشياً سِراً إذا استودعته ... ولديه ما تحيى به الألباب
لا عيب فيه غير أنَّ ندامهُ ... لا أكلَ فيه وليس ثمَّ شراب
20 - ومن أخبار أبي إسحاق إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي
ّكان ذا حظ وافرٍ من الأدب، وله الكتاب الذي يصول به اليزيديون ويفتخرون وهو " ما أتفق لفظه واختلف معناه " في نحو من سبعمائة ورقةٍ، وله " كتاب مصادر ونوادر من لغات العرب " وكان شاعراً فاضلا.
حضر مجلس المأمون يحيى بن أكتم وإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي، فأقبل يحيى على إبراهيم يمازحه فقال يحيى لإبراهيم: مابال المعلمين ينيكون الصبيان؟ فرفع إبراهيم رأسه، فإذا المأمون يحرش يحيى على العبث به، فغاظ ذلك إبراهيم فقال إبراهيم: أمير المؤمنين أعلم خلقِ الله بهذا، إلا أنَّ أبي أدَّبه. فقام المأمون من مجلسه، ورفعت الملاهي وكلّ ماكان بحضرته، فأقبل يحيى على إبراهيم فقال: أتدري ما أتيت وما تكلمت؟ إني لأحسب أنّ هذا سبب زوال أمركم! قال إبراهيم: فزالت عني سورة النبيذ، وسألت بعض الخدم أن يحضر لي دواةٍ ورقعة، فأحضرها، فكتبت معتذراً " من الطويل " :
أنا المُذنب الخطاء والعفو واسعٌ ... ولو لم يكن ذنبٌ لما عرف العفو
سكرت فأبدت مني الكأس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السُكر والصحو
ولاسيما إذ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلسٍ ما إن يليقُ به اللغو
ولولا حمياً الكأس كان احتمال ما ... بدهت به لاشك فيه هو السرو
تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من لديه يغفر العمد والسهو
فإن تعفُ عني ألفِ خطوي واسعاً ... وإن لايكن عفوٌ فقد قصر الخطو
قال: فأدخلها الحاجب ثمّ خرج إلي فأدخلني، فمدّ المأمون باعيه، فأكببتُ على يديه فقبلتهما، فضمني إليه وأجلسني ثمّ قال: مه يا أبا إسحاق، فإن الشراب بساط يطوي ماعليه.
21 - ومن أخبار أبي عليّ اسماعيل بن أبي محمد اليزيدي
كان راويةً أديباً شاعرا، وابنه أبو الحسن أحمد مثله، ولإسماعيل كتاب في طبقات الشعراء لطيف، ومات أحمد قبل أبيه وأسن إسماعيل وله " من البسيط " :
أتت ثمانون فاستمرت ... بالنقص من قوتي وحزمي
فرقّ جلدي ودقّ عظمي ... واختل بعد التمام جسمي
وقد رماني الزمان منه ... في العين من ركبتي بسهم
فإن أنؤتؤت لا بحمد ... لقوةٍ الساق بل بذم
كأن ما كنت فيه مما ... خلا من العيش ضغث حلم
22 - ومن أخبار أبي جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
قال أحمد بن محمد: كنا بين يدي المأمون فأنشدته مدحاً له، فقال:
لئن كانت حقوق أصحابي تجب عليَّ بطاعتهم بأنفسهم، فإن أحمد بن محمد تجب له
المراعاة والتفقد بنفسه وصحبته ولأبيه وخدمته ولجده وسبقته، وإنه لعريق في
موالاتنا، متصلُ النسب في خدمتنا. فقلت: علمتني والله يا أمير المؤمنين
كيف أقول! ثمّ تنحيّت ورجعت فأنشدته " من الكامل " :
ليَ بالخليفة أعظم السبب ... فيه أمنت بوائق العطب
ملك غذتني كفه فأبي ... قبلي وجدي كان قبل أبي
فاختصني الرحمن منه بما ... أسمو به في العجم والعرب
فقال: نظمت أحمد ما نثرناه.
وقال أحمد: دخلت على المأمون في مجلس غاص بأهله، فأنشدته مديحاً فيه، وكان
يستمع من الشعراء ماكان فيه نسيب أو وصف ضربٍ من الضروب حتى - إذا بلغ إلى
مديحه فأنشد منه المنشد بيتين أو ثلاثة - قال: حسبك ترفعاً! فأنشدته " من
الكامل " :
يامن شكوت إليه ماألقاه ... وبذلت من ودي له أقصاه
فأثابني بخلاف ما أملته ... ولربما حرم الحريص مناه
أترى جميلاً إن شكا ذو صبوة ... فهجرته وغضبت من شكواه
يكفيك صمت أو جواب مؤيس ... إن كنت تكره وصلهُ وهواه
موت المحب سعادة إن كان من ... يهواه يزعم أنّ فيه رضاه
فلما صرت إلى المديح قلت " من الكامل " :
أبقى لنا الله الإمام وزاده ... عزاً إلى العز الذي أعطاه
فالله أكرمنا بأنا معشرٌ ... عتقاءُ من نعم العباد سواه
فسرَّه ذلك وضحك وقال: جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعم بحسن العمل.
قال أحمد: قال لي المأمون وبحضرتنا يحيى بن أكتم: ياأحمد، أريد أبياتاً في
الخضاب لم يتداولها الناس ولم يُقلْ في معناها. قلتُ: الساعة يا أمير
المؤمنين! قال: فاعتزلت ناحية فقلت " من المتقارب " :
إذا ظلم الشيبُ رأس الفتى ... فنازله وهو غضُّ الشباب
فأحسن حالاته ستره ... ليترك أحبابه في ارتياب
فبين مكذبةٍ إن وشى ... إليها به كاشحٌ ذو اغتياب
وبين مصدقهةٍ لم ترع ... بحدة صاحبها في الخضاب
بذلك أوصي بني أربعين ... وخمسين أو نحو هذا الحساب
فان طال عُمرٌ فترك الخضا ... ب أولى بهم لانقضاء التصابي
قال: فاستحسنها المأمون، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، فيها عيب! قال:
ماهو؟ قال: لم يمدح أمير المؤمنين فيها! قال: فقلت: إنما أمرني أن أقول في
الخضاب. ثمّ قلت " من المتقارب " :
لقد أجمع الناس أنّ الإمام ... لقد بان بالفضل في كلّ باب
وما زال مذ ساس أمر العباد ... يوفقُ في حكمه للصواب
فآراؤه كلُّها حازمٌ ... إذا عيَّ بالرأيِ أهل الخطاب
قليل العقوبة للمذنبيين ... وللمحسنيين جزيلُ الثواب
فبلغه الله آماله ... وصير أعداءه في تباب
وأمكنه من بلاد العدو ... ليحكم فيها بحكم الكتاب
وقد كان همَّ بالخروج إلى بلاد الروم.
23 - ومن أخبار أبي العباس الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
كتب إلي أبي صالح عبد الله بن محمد بن يزداد وكان يداعبه، فجرت بينهما جفوة " من السريع " :استحي من نفسك في هجري ... واعرف بنفسي أنت لي قدري
واذكر دخولي لك في كلّ ما ... يجمل أو يقبح من أمري
قد مرّ لي شهرٌ ولم ألقكم ... لا صبر لي أكثر من شهر
قال إبراهيم بن المدُبَّر: اجتمع عندي يوماً الفضل اليزيدي والبحتري وأبو العيناء، فجعل الفضل يلقي على بعض الفتيان نحواً، فقال له أبو العيناء: في أي بابٍ هو من النحو؟ قال: في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله! فغضب الفضل وخرج، ثمّ خرج البحتري من بغداد إلى سُرَّ من رأى وكتب إليّ بشعر وقال " من الخفيف " :
ذكرتنيك روحة للشمول ... أوقدت لوعتي وهاجت غليلي
ليت شعري يا ابن المدبر هل يد ... نيك فرطُ الرجاءِ والتأميل
بعد العهد غير رجع كتاب ... يصف الشوق أو بلاغ رسولي
أيُّ شئٍ ألهاك عن سرَّ من ر ... أى وظلٍّ للعيش فيها ظليل
اقتصاراً على أحاديث فضلٍ ... وهو مستبردٌ كثير الفضول
وهي طويلة وآخرها:
جُلُّ ما عنده الترددُ في الفا ... عل من والديه والمفعول
قال ابن المدبر: فأمرت أن يكتب جواب الكتاب ويوجه إليه بمائة دينار، ودخل
أبو العيناء، فأقرأته الشعر، فقال: أعطني نصف المائة، هجاه والله بكلامي!
فأخذ خمسين، ووجهت إلى البحتري بخمسين وعرفته الخبر، فكتب إليَّ البحتري:
صدق والله، مابنيت إلا عليه!
24 - أخبار رجلٍ من اليزيديين لم يسمَّ
قال هذا اليزيدي: دخلت دار الواثق، فرآني من حيث لا أراه أمشي مسترسلاً،
فلَّما دنوت منه قال: أتخطر في داري؟ فانقدعت حياءً، فقال: كيف تقول: قام
زيدٌ؟ فقلت: قام زيدٌ. فقال: كيف تقول: لم يقم زيدٌ؟ فقلت: لم يقم زيد.
قال: كيف تقول: أقيم زيد؟ قلت: أُقيم زيد. قال: مرفوع إذا فعل وإذا لم
يفعل وإذا فُعل به. فقلت " من الرمل " :
أحدث الواثقُ بالله لأهل النحو كيداً
وهو المانعُ أن يضرب عبد الله زيدا
25 - ومن أخبار سيبويه وهو أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر
ويقال: كنيته أبو الحسن، من موالي بني الحارث بن كعب، ويقال: هو مولى آل الربيع بن زياد الحارثي، وتفسير سيبويه بالفارسية رائحة التفاح، وقيل: إن امرأة كانت ترقصه وهو صغير تقول له ذلك. أخذ النحو عن عيسى بن عمر ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد، واللغة عن أبي الخطاب الأخفش وغيره. قال ابن دريد: هو من أهل أرجان.وقيل: إنه كان يستملُّ على حماد بن سلمة، فقال له حماد يوماً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحدٌ من أصحابي إلا وقد أخذت عليه ليس أبا الدردراء. فقال سيبويه: ليس أبو الدردراء. فقال حماد: لحنت يا سيبويه! فقال سيبويه: لاجرم لأطلبن علماً لاتلحنني فيه أبداً! فطلب النحو ولزم الخليل.
قال المبرد: لم يقرأ أحدٌ كتاب سيبويه عليه وإنما قُرئ بعده على أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش، وكان ممن قرأه على الأخفش صالح بن إسحاق الجرمي. - قال أبو زيد النحوي يفتخر: كلُّ ما حكى سيبويه في كتابه فقال: أخبرني الثقة، فأنا أخبرته. - قال الأخفش: كان الكسائي جاءنا إلى البصرة وسألني أن أقرئه كتاب سيبويه، ففعلت، فوّجه إليَّ خمسين ديناراً. وكان الأخفش أسنَّ من سيبويه، ولم يأخذ عن الخليل.
وقال الفراء: كان سيبويه عضلة من العضل، ولما قال بشار في وصفه السفينة " من الطويل " :
تُلاعب نينان البحور وربما ... رأيت نفوس القوم من جريها تجري
أنكر سيبويه ذلك على بشار وزعم أن العرب لاتجمع النون على نينان، وأتصل ذلك ببشار، فقال: ويحه! أما يقول: حُوت وحيتان وغول وغيلان؟! - وقيل: إن الذي عاب عليه ذلك أبو الحسن الأخفش - وتوعد بشار سيبويه ولدغه بأبيات، فكف سيبويه عن تتبع شعره واحتج ببعضه تقرباً إليه واستكفافاً لشره. وقد كان في نسيب هذه القصيدة " من الطويل " :
على الغزلي مني السلام فربما ... لهوت بها في كلّ مخضرّة زهرِ
يريد بالغزالي الغزل، فعاب عليه سيبويه " الغزالي " وقال: لم يسمع هذا من العرب. واتصل ذلك ببشار فقال: هذا مثلُ النقري والجفلي والمرطي وهو السرعة في المشي. وقال بشار فيه " من الطويل " :
اسيبويه يا ابن الفارسية مالذي ... تحدثت من شتمي وما كنت تنبذُ
أطلت تغنى سادراً بمساءتي ... وأُمك بالمصرين تعطي وتأخذ
فقيل لبشار: تنسبه إلى الفارسية؟ فقال: نسبته إلى أعرف أبويه. قيل: فلم جعلتها فارسية؟ قال: إن بفارس الوضيع والشريف. - وقال أبو محكم: كانت بالبصرة امرأة زانية يقال لها الفارسيَّة، مشهورة بالزنا، فكان أهل البصرة إذا أرادوا أن يزنُّوا إنساناً قالوا: يا ابن الفارسية! وإلى هذا ذهب بشار.
قال ابن سلام: سألت سيبويه عن قوله عز وجل: (لَلَوْلا كانتْ قَرْيَةٌ آمنَتْ فَنَفَعها إيمانَهُا إلا قَوْمَ يُونُس) على أي شيء نصب؟ قال: ألا إذا كانت بمعنى لكنَّ نصبت.
وقيل: كان سبب ميتة سيبويه أنه كان عنده صديق له، فتمسى عنده
وأخذ منه الشراب، فحرص به صاحب المنزل أن يبيت عنده، فأبى فوجّه معه
غلاماً ليوصله إلى منزله، فصار إلى دربه وقد أغلق دونه، فتسور الدرب ومكث
الغلام مكانه، فتردى من أعلى الدرب على رأسه فوقص فسمع وهو يقول " من
الطويل " :
يَسُرُّ الفتى ماكان قدَّم من تقى ... إذا أبصر الداءَ الذي هو قاتله
وقيل: إنه مات من علة وله ثمان وثمانون سنة. - وقيل له في علته التي مات
فيها: ماتشتهي؟ فقال: أشتهي أن أشتهي. وقيل: لما احتضر وضع رأسه في حجر
أخيه، فأغمي عليه، فدمعت عبنُ أخيه فقطرت قطرة من دموعه على خده، فأفاق من
غشيته فرأى أخاه يبكي فقال " من الطويل " :
أخَييَّنِ كنَّا فرَّقَ الدَهْرُ بيننا ... إلى الأمدِ الأقصى فمن يأمن
الدَهْرا
وقال ابن دريد: مات سيبويه بشيراز وقبره بها. وقال عبد الباقي بن قانع:
مات بالبصرة سنة احدى وستين ومائة. قال المرزباني: وهم فيهما جميعاً أعني
في الموضع والتاريخ.
26 - ومن أخبار أبي الحسن الأخفش وهو سعيد بن مسعدة
المجاشعي، مولى بني مجاشع بن دارم، وضع كتباً في النحو، ومات قل استتمامها، ولو بقي وخرج علمه ما تقدمه أحد. وقيل: كان أعلم الناس بالكلام وأحذقهم فيه بالجدل، وكان غلام أبي شمر على مذهبه.قال أبو عثمان المازني: قال لي الأخفش: أتلزم الأصمعي؟ قلت: ما أفارقه. قال: أتتعلم منه النحو؟ قلت: لا، ولكنني أتعلمُ منه المعاني واللغة والشعر. فقال: سلني عن شيء منه! فقلت: عن صعبه أم سهله؟ فقال: سهله. فقلت: مايريد الشاعر بقوله " من الهزج " :
أمن زينب ذي النارُ ... قبيل الصبح ماتخبو
إذا ما خمدت يلقى ... عليها المندلُ الرَطبُ
ولم أعرب البيت ألول كله؟ فقال الأخفش: أمن زينب صاحبة النار؟ فقلت: ليس هذا هكذا عنده، يريد: هذه النار التي تخبو. فقال: هذا أحسن.
قال المبرد: مات الأخفش بعد الفراء، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق " بثلاث سنين " .
قال الأخفش: " .... " احتجت أنّ أركب في حاجة لي، فأردت أن أستعير منه دابته، ودابة لاتقع في الشعر لأن فيه حرفين ساكنين ملتقيين أحدهما الألف والآخر الباء المدغمة، فكتبت إليه " من المتقارب " :
أردت الركوب إلى حاجتي ... فمرُ لي بفاعلة من دببتُ
فكتب إليَّ " من المتقارب " :
بُريذيننا يا أخي غامز ... فكن محسناً فاعلاً من عذرتُ
وقال أبو حاتم السجستاني: كنت عند أبي الحسن الأخفش وعنده التوزي، فقال لي: ياأبا حاتم، ماصنعت في " كتاب المذكر والمؤنث " ؟ قلتُ: قد عملت في ذلك شيئاً. قال: فما تقول في الفردوس؟ قلت: ذَكَر. قال: فإن الله عز وجلّ يقول: (الفرِدوسَ هُم فيهَا خَالِدونَ). قلت: ذهب إلى الجنة فأنث. قال لي التوزي. ياغافل، أما تسمع الناس يقولون: أسألك الفردوس الأعلى!؟ فقلت: يانائم، الأعلى ههنا أفعل وليس بفعلي! قال الأخفش: حدثنا المجالد بن سعيد عن الشعبي قال: قالت كاهنة أشجع في الجاهلية: الرجالُ أربعة والنساء أربع: فطويل نعنع وقصير مدقع ومن لايضر ولا ينفع وأسك أصمع. وإنما أرادت الذكر فأوقعت اللفظ على الرجال والمعنى للذكر؛ وقولها: مُدقعٌ: لاشيء عنده من آلة الجماع، والأسك: الصغير الكمرة، ومن لايضر ولا ينفع: عنينٌ. والنساءُ أربعٌ: فمنهن الحرحة: وهي المساحقة، والشَّفرة: وهي التي شهوتها بين شفريها، والقعرة: التي شهوتها في أقصاه والعنينة.
قال الأخفش: سمعت عيسى بن عمر يقول: الزابن واحد الزبانية، وقال بعضهم: واحدها الزباني والزبنية، والعرب لاتكاد تعرف هذا وتجعله من الجمع الذي لاواحد له مثا أبابيل، وتقول: جاءت إبلي أبابيل أي فرقاً، وهذا يجيءُ في معنى التكثير مثل عبابيد وشعارير. - قال: وكُلّ ماكان من الأسماء الأعجمية تحسن فيه الألف واللام في حال المعرفة فاصرفه مثل راقودٍ وياقوت وطاووس وزن فاعول. - وقال في قوله صلى الله عليه وسلم: لايدخل الجنة قتات! القتات والقساس: النمام.
27 - ومن أخبار النضر بن شُميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم المازنيّ
كنيته أبو الحسن، بصري الأصل، نزل مرورود وهي من بلاد بني مازن؛
وكان راوية عن البصريين، سمع من ابن عونٍ وشعبة بن الحجاج وأشكال هؤلاء،
كان ثقة ثبتاً صاحب عربية، وكان يدعو إلى السُنَّة، ومات بمرورود سنة أربع
وقيل ثلاث ومائتين.
قال النضر: دخلت على المأمون يوماً بمرو وعليَّ أطمار ثيابٍ رثةٍ، فقال:
أتدخل على الخليفة في مثل هذه الاطمار؟ فقلت: إن حرَّ مرو لايدفع إلا بمثل
هذه الأخلاق. قال: ولكنك متقشف! ثمّ تجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني
هشيم بن بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان في ذلك سدادٌ من
عوز. وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال: يانضر، السداد لحن! قلت: هو
في هذا الحديث لحن، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانةً. فقال: مالفرق
بينهما؟ قلت: السداد القصد في الدين والسبيل، والسداد البلغة! - وقال
الجوهري والسداد ما يسد به الشء - فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟ قلت: نعم،
هذا العرجي من ولد عثمان بن عفان حيث يقول " من الوافر " :
أضاعوني وأيَّ فتىً أضاعوا ... ليومِ كريهةٍ وسداد ثغر
فأطرق المأمون ملياً وقال: قبح الله من لاأدب له! ثمّ قال: أنشدني، يانضر،
أخلب بيت للعرب! قلت: قول ابن بيضٍ، يا أمير المؤمنين " من المنسرح " :
تقول لي والعيون هاجعةٌ: ... أقم علينا يوماً فلم أقم
أيَّ الوجوه انتجعت، قلت لها: ... لا لي وجهٌ إلا إلى الحكم
متى يقل حاجباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذ حلَّ أعطني سلمي
فقال المأمون: لله درُّك! فكأنما شُقَ لك عن قلبي؟ ثمّ أنشدني أقنع بيت
قالت العرب! قلت: قول ابن عبدلٍ - وقال الجوهري: قول راعي الإبل - " من
المنسرح " :
إني امرؤ لم أزل وذاك من ... الله أديباً أعلمُ الأُدبا
أقيم بالدار ما أطمأنت بي ... الدارُ وإن كنتُ نازحاً طربا
أطلب ما يطلب الكريم من المال بنفسي وأحسن الطلبا
وأحلُبُ الثرة الصفيَّ ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبَّته في كريمة رغبا
والنذل لايطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا
ولم أجد غرة الخلائق ... إلا الدين مهما اختبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدَّ لعنس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية والرحل ومن لايزال مغتربا
فقال: أحسنت أحسنت أحسنت - ثلاثا - ، هذه أحسن من الأولى! فعندك ضدُّ هذا؟
قلت: نعم، أحسن منه. قال: هات! فأنشدته " من الوافر " :
يدُ المعروف غيمٌ حيث كانت ... تحملها شكور أو كفورُ
قال: أحسنت، فأنشدني أنصف بيت قالته العرب! فقلت: هذا ابن أبي عروة - وقال
الزبير بن بكار: هذا ابن أبي عروبة - " من الكامل " :
إني وإن كان ابن عمي كاشحاً ... لمزاحم من خلفه وورائه
ومفيده نصري وإن كان آمرأً ... متزحزحاً في أرضه وسمائه
وأكون والى سره فأصوته ... حتى يحين عليَّ وقت أدائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعباً قعدت له على سيسائه
وإذا استجاش رفدته ونصرته ... وإذا تصعلك كنت من قرنائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا أتى من وجهه لطريقه ... لم أطلع مما وراء خبائه
وإذا رأيت عليه ثوباً ناعماً ... لم يلفني متمنياً لردائه
ويروى.
واذا ارتدى ثوباً جميلاً لم أقل ... ياليت أنَّ عليَّ حسن ردائه
فلم يكلمني عندها بشء وأخذ القرطاس ومدّ يده إلى دواة وجعل يكتب
شيئاً لاأدري ماهو، ثمّ قال: يانضر، كيف تأمر إذا أردت أن تترب الكتاب؟
قلت: أتربه! قال: فمن الطين؟ قلت: طنه! قال: فهو ماذا؟ قلت: مترب مطين.
قال: هذه أحسن من الأولى. ثمّ ناول الكتاب خادما، فمضى به إلى الفضل بن
سهل، ففتح الكتاب وقال لي: مالسبب الذي وصلك فيه أمير المؤمنين بثلاثين
ألفا؟ فأخبرته. فقال: سبحان الله ألحنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلا، أيها
الوزير، وإنما لحنه هشيم لأنه كان لحانه! فقال: حدثني عن الخليل بن أحمد!
قلت: أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم الناس - وقال ابن مخلد
والجوهري: صرت أنا والخليل إلى أبي ربيعة الأعرابي، فإذا هو على سطحٍ،
فسلمنا فرد علينا السلام وقال لنا: استتوا! فبقينا متحيرين لم ندر ما قال.
فقال أعرابي بحنبه: إنه يقول لكم: ارتفعوا! فاستخرجها الخليل من قول الله
عز وجل: (ثُمَّ اسنوى إلى السَّماءِ وَهيَ دُخانٌ) أي ارتفع. فصعدنا فقال:
هل لكم في خبز فطير ولبن خمير وماء نمير؟ فقلنا: لا! فقال: سلاماً! فبقينا
أيضاً متحيرين لم ندر ماقال لنا. فقال الأعرابي: إنه سألكم متاركة لاخير
بيننا ولاشرَّ! فاستخرجها الخليل من قول الله عز وجل: (وإذا خاطبهمُ
الجاهِلُونَ قالُوا سَلاَما). فقال الفضلُ: هذا أحسن مما حكيت للخليفة!
فزادني من عنده عشرين ألفاً، فانصرفت بخمسين ألفاً.
ومرض النضر، فدخل الناس إليه يعودونه، فقال له رجل: مسح الله مابك! فقال
النضر: لاتقل مسح بك، ولكن مصح! ألم تسمع قول الأعشى " من الرمل " :
وإذا ما الخمر فيها أزبدت ... أفل الإزبادُ فيها فمصحْ
فقال الرجل: لابأس! السين قد تعاقب الصاد فتقوم مقامها. فقال النضر: إن
كان كذا فينبغي أن تقول لمن أسمه سليمان صليمان، وتقول: قال رصول الله!
ثمّ قال النضر: لايكون هذا في السين إلا مع أربعة أحرف، الطآء والخآء
والقاف والغين، فيبدلون السين بهذه، وربما أبدلوها بزاي، كما قالوا: سراط
وصراط وزراط. - قال الصولي: وهذه يقال لها حروف الاستعلاء، تبدل إذا كانت
بعد السين، فأما إذا كانت قبل فلا.
وقال النضر يوماً: أنشدونا من زهد ابي نواس! فأنشده " من الطويل " :
وما الناس إلا هالك وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ
فقال: قاتله الله لكأنه سمع الحسن يقول: إن امرءاً ليس بينه وبين آدم عليه
السلام إلا أب ميت لنعرق في الموت. - وحدث حرب بن ميمون قال: رأيت خاتم
النبي صلى الله عليه وسلم عند النضر وهو فضة أبيض.
ومات النضر رحمه الله سنة أربع ومائتين.
28 - ومن أخبار أبي فيد مؤرِّج بن عمرو السَدُوسيّ
كان يقول: اسمي وكنيتي غريبان، اسمي مؤرج، والعرب تقول: أرجت بين القوم
وأرشت إذا حرَّشت، وأنا أبو فيد والفيد ورد الزعفران زيقال: فاد الرجل
يفيد فيداً إذا مات.
وقال: القنديد الكافور وأنشد " من الطويل " :
ببابل لم تعصر فجاءت سلافة ... تخالط قنديداً ومسكاً مختما
وقال المؤرج " من البسيط " :
روُعت بالبين حتى ما أراع به ... وبالمصائب في أهلي وجيراني
لم يترك الدهر لي إلفاً أضن به ... إلا اصطفاه بنأي أو بهجران
سمع " كتاب الأنواء " لمؤرج بجرجان، وخرج المأمون منه سنة أربع ومائتين،
وخرج المؤرج إلى البصرة، فمات فيها.
29 - ومن أخبار أبي زيد الأنصاري
وهو سعيد بن أوس بن ثالب " بن بشير بن ثابت بن زيد " بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج. وشهد ثابت أحداً والمشاهد بعدها، وهو أحد العشرة الذين بعث عمر رضي الله عنه مع أبي موسى الأشعري إلى البصرة وأحد الستة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله صلة الله عليه وسلم، وله عقب بالبصرة.وكان أبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو وكانا بعده يتقاربان.
وقال المبرد: أبو زيد صاحب لغة وغريب ونحو وكان أكبر من الأصمعي في النحو، وكان أبو عبيدة أعلم من أبي زيد والأصمعي بالأنساب والأيام والأخبار، وكان الأصمعي بحراً في اللغة لايعرف مثله فيها وفي كثرة الرواية.
قال عبَّاس الأزرق: كنت عند شعبة بن الحجاج ذات يوم وقد اجتمع أصحاب الحديث ليحدثهم، فنظر إلى أبي زيد النحوي في أخريات الناس فرفع رأسه ثمّ قال " من البسيط " :
استعجمت دار نعم لاتكلمنا ... والدارُ لو كلمتنا ذات أخبار
أدن، يا أبا زيد، ادنه! فما زالا يتناشدان الشعر، فقال بعض أصحاب الحديث:
ياأبا بسطام، نقطع إليك ظهور الإبل لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فتتركنا وتقبل على إنشاد الشعر! فغضب شعبة وقال: ياهذا، أنا أعلم بأمري،
أنا والله في هذا أسلم مني في ذاك! - قال أبو زيد: قال لي شعبة: سلني عما
شئت من الشعر! قلت له: فما معنى قوله " من الطويل " :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم ... ولم تكثر القتلى بها حين سلَّت
فأطرق ثمّ قال: لاأدري. ومعناه: لم يشيموها أي لم يغمدوها إلا وقد كثرت
القتلى بها.
حضر أعرابي عند أبي زيبد، فقال: أنتم أهل خشونة، ياأهل البادية، ونحن أهل
لين وغزل. فقال الأعرابي: كيف تكونون أغزل منا ومنا من يقول " من البسيط "
:
هيفاءُ مقبلةً عجزاء مدبرةً ... لم تجف طولاً ولا أزرى بها قصر
غراء كالقمر المشهور طلعته ... لابل يرى مثلها لما أستوى القمر
مالان قلبي لناه عن مودتها ... وهل يلين لقول الواعظ الحجر
قال: فكتبنا. قال: وفينا من يقول أيضاً " من البسيط " :
هيفاءُ فيها إذا استقبلتها قصف ... عجزاء خامصة الكشخين معطار
غراء لم يرها مما يحذرها ... بساحة الدار لابعل ولاجار
قال أبو زيد: قلت لأعرابي: أقرأ! فقال: سبح اسم ربك الأعلى، الذي خلق
فسَّوى، والذي منَّ على الحبلى، فأخرج منها نسمة تسعى، حتى إذا شبَّ
واستوى، أدبر وتولى.
ذكر عند أبي زيد تفسير الأصمعي لقول الأعشى " من الكامل " :
وسيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جريالها
وإنه قال: معناه شربتها حمراء وبلتها بيضاء فسلبتها الجريال. فقال أبو
زيد: لم يقل أبو سعيد شيئاً، قد نرى الزنجي يفعل ذلك يشربها حمراء ويبولها
بيضاء، وإنما أراد: أخذت حمرتها في وجنتي فصار لونها في خدي، وهذا مانراه
أبداً عند الامتحان.
كان ديسم العنزي لايزال يحفظ أشياء من هجو حماد عجرد وأبي هشام الباهلي في
بشار بن برد فبلغه ذلك فقال " من الطويل " :
أديسم يا ابن الذئب من نجل زراع ... أتروي هجائي سادراً غير مقصر
قال أبو حاتم: فأنشدت أبا زيد هذا البيت وقلت له: ماتقول؟ فقال: لمن
الشعر؟ قلت لبشار. قال: قاتله الله، ما أعلمه بكلام العرب! ثمّ قال له:
الديسم ولد الذئب من الكلبة، وزارع اسم الكلب ويقال للكلاب: أولاد زارع،
والعسبار ولد الضبع من الذئب، والسمع ولد الذئب من الضبع، وزعمت العرب أن
السمع لايموت حتف أنفه، وإنه لأسرع من الريح.
وقال أبو زيد: مرّ بي رؤبة فاستنشدته، فأنشدني أرجوزته:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
فاجتمع الناس عليه حتى سدوا الطريق، ومرت به عجوز فلم يمكنها أن تتخطى،
فقال " من الرجز " :
تنح للعجوز عن طريقها ... إذ اقبلت رائحة من سوقها
دعها فما النحوي من صديقها
قال أبو زيد: ما سمعت أحداً يقول: فلان من صديقي! قبل رؤبة. - وشهد رؤبة
قوماً يلعبون بالنرد وهو لايدري ماهم فيه، ثمّ حضر الطعام فقال " من الرجز
" :
ياأخوتي جاء الطعام فارفعوا ... خيابة كعابها تقعقع
لم أدر ما ثلاثها والأربع
وقف أعرابيٌّ على أبي زيد، فظن أنه جاء يسأله عن مسألةٍ في النحو، فقال:
سل عما بدا لك! فقال الأعرابي " من الخفيف " :
لست للنحو جئتكم ... لا ولا فيه أرغب
أنا مالي ولأمري ... أبد الدهر يضرب
خل زيداً لشأنه ... حيثما شاء يذهب
واستمع قول عاشق ... قد شجاه التطرب
همه الدهر طفلة ... فهو فيها يشيب
قال أبو زيد: وقفت على قصاب فقلت: بكم البطنان؟ فقال: بمصفعان، يامضرطان!
قال: فغطيت رأسي وفررت لئلا يسمع الناس فيضحكوا مني. - وأنشد أبو زيد " من
المتقارب " :
إذ أنت لم تعف عن صاحب ... أساء وعاقبته إن عثر
بقيت بلا صاحب فاحتمل ... وكن ذا وفاءٍ وإن هو غدر
ولا تسأل الحرَّ عن عورة ... وإن قام يوماً عليها ستر
قال أبو عبد الرحمان السُلمي: خطبنا الحسن بن علي رضي الله عنهما بعد وفاة عليّ رضي الله عنه، فقال: ياأيها الناس، والله قد فقدتم رجلاً ما سبقه أحد كان قبله، ولا يلحقه أحدٌ يكون بعده، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، ماترك صفراء ولا بيضاء إلا ثماني مائة درهم فضلت عن عطائه، أراد أن يشتري بها خادما. ثمّ بكى وبكى الناس، ثمّ قال: وقد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مقتول، " فإنا لله وإنا إليه راجعون " ، لا معقب لحكمه ولاراد لقضائه! قال المازني: دخلت على أبي زيد في مرضه الذي مات فيه، فقال: أشتكي صدري. فقلت: أمرخه بشمع ودهن! فقال: ليس كذا، إنما هو أمرخه، فتعجبت منه في تلك الحال يعلمني. - ومات أبو زيد رحمه الله سنة خمس عشرة - وقيل: أربع عشرة - ومائتين، وله ثلاث - وقيل: اربع، وقيل: خمس - وتسعون سنة.
30 - ومن أخبار أي عبيدة معمر بن المثنى
هو مولى لتيم قريش في قول أبي عبيد القاسم بن سلام، وقال أبو سعيد السُكري: أبو عبيدة مولى بني سلامة من بني تيم بن مرة، وسلامة هذه أم عبد الرحمان، ومنهم من وهم ويقول: آل سلامة مخففاً يوهمون أنه رجل، وعثمان بن عفان قاضي البصرة خاله، ولد سنة اثنتي عشرة ومائة ومات سنة ثمان ومائتين، بلغ ثلاثا وتسعين سنة.قال ثعلب: من أراد أخبار الجاهلية فعليه بكتب أبي عبيدة، ومن أراد أخبار الإسلام فعليه بكتب المدائني. - وهو أولُ من رسم في الجاهليين والإسلاميين من الجوداء والفرسان وغير ذلك كتاباً سماه الناس بالديباج. - كان أبو نواس يتعلم من أبي عبيدة ويصفه ويشنأ الأصمعي ويهجوه، فقيل له: ماتقول في الأصمعي؟ قال: بلبل في قفص. قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علم الناس وفهمه. قيل: فما تقول في أبي عبيدة؟ قال: ذاك أديم طوي على علم.
قال أبو عبيدة: قال لي رجلً من الملحدين: مامعنى قول الله تعالى (قُلْ إنْ كان للرِحمن وَلَدٌ فأنَا أَوَّلُ العَابدين). فقلت: العابد في قول العرب الآنف، ألم تسمع قول الشاعر " من الوافر " :
وأعبد أن أسبَّهم بقومي ... وأترك دارماً وبني رياح
أولئك إن سببت وفاءُ قومي ... وأحذر أن أعاقب بالجناح
وكذا قولُ الفرزدق " من الطويل " :
أولئك أكفائي فجئني بمثلهم ... وأعبدُ أن أهجو عبيداً بدارمِ
وقال أبو حاتم: كان أبو عبيدة صفرياً وكان يكتم ذلك فأنشدني لعمران ابن حطان " من البسيط " :
أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه ... ماالناس بعدك يامرداسُ بالناس
إما تكن ذقت كأساً دار أولها ... على القرون فذاقوا نهلة الكاس
فكل من لم يذقها شاربٌ عجل ... منها بأنفاس وردٍ بعد أنفاس
قد كنت أبكيك حيناً ثمّ قد يئست ... نفسي فما ردَّ عني عبرتي ياسي
قال: وكثيرا ما ينشد أشعارهم ثمّ يتمثل " من الطويل " :
أولئك قومٌ إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
قال: والصفرية أصحاب عبد الله بن صفار أحد بني سعد؛ والإباضية أصحاب عبد الله بن إباض أحد بني سعد؛ والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، وكان صفرياً ثمّ خالفهم في تعذيب الأطفال، فتبرؤا منه واتبعه على رأيه أبو فديك ونجدة بن عامر الحنفي. - قال التوزي: كنت إذا أردت أن أنشط أبا عبيدة سألته عن أخبار الخوارج فأبعج منه ثبج بحرٍ، فجئته يوماً وهو مطرق ينكت في الأرض في صحن المسجد، وقد قربت منه الشمس، فسلمت فلم يُردَّ عليَّ، فتمثلتُ " من الوافر " :
وما للمرء خير في حياةٍ ... إذا ما عُدَّ من سقط المتاع
فنظر إليَّ وقال: ويحك! أتدري لمن البيت؟ فقلت: لقطري. فقال: أسكت، فضَّ الله فاك إلا قلت: أمير المؤمنين أبو نعامة! ثمّ انتبه فقال: أكتمها عليَّ! فقلت: هي بنت الأرض.
قال أبو عبد الله محمد بن زيد الواسطي: كنت في مجلس المبرد فجرى ذكر قول أبي عبيد القاسم بن سلام محتجاً لمذهبه في أن الأسم هو المسمى بقول لبيد - وهو مذهب أبي عبيدة - " من الطويل " :
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما
قال أبو عبيد: " اسم السلام " ههنا هو السلام، كما يقال: هذا وجه
الحق، يراد هذا الحق، " فثمَّ وجه الله " أي الله. فقال المبرد: غلط أبو
عبيد وأخطأ أبو عبيدة، والذي عندنا أنّ لبيداً أراد بقوله " اسم الله "
اسم الله عز وجل، وهذا الذي أختاره ويختاره أصحابنا. فقلت: السلام عندي
ههنا هو اللفظ الموضوع لتقضي الأشياء فتختم بها الرسائل والخطب والكتب
والكلام الذي يستوفي معناه، فليس لها مسمى غيرها وهي مثلُ حسب وقط وقد
الموضوعات لتقضي الأشياء وختم الكلام، فهي اسم لامسمى له غيره. قال: فأعجب
ذلك المبرد واستحسنه وقال لي: لاعدمتك، يا أبا عبد اللهه! فما سرني بهذه
حمر النعم.
وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (وحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً)، فقال: العرب
تجعل الواحد في موضع الجمع، قال عباس بن مرداس " من الوافر " :
فقلنا: أسلموا إنا أخوكم ... فقد برئت من الإجن الصدور
وقال: (ثمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا)، وقال: (يَنظُرُون مِنْ طَرَفٍ خَفِي).
وقال في قوله: (أكادُ أُخْفيِها) أي أظهرها، قال: وأنشدني أبو الخطاب قول
تمرئ القيس بن عابس الكندي " من المتقارب " :
فإن تكتموا الداء لانخفه ... وإن تبعثوا الحرب لانقعد
وقال في قوله تعالى: (وَالَّذين يكنزون الذَّهبَ وَالفِضَّة وَلاَ
يُنْفقونها في سبيل اللهٍ) ولم يقلُ: ينفقونها في سبيل الله، جاء الخبر
لواحد كما قال البرجمي " من الطويل " :
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
وقال أبو قيس بن الأسلت " من المنسرح " :
نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راضٍ والرأي مشترك
وقال آخر " من الخفيف " :
إنّ شرخ الشباب والشعر الأسود ما لم يعاص كان جنوناً
وقال في قوله: (أوَ لَمْ يَرَ الذَّين كَفَرُوا أنَّ السَّمواتِ وَالأرض
كانتا رَتْقاً) ولم يقل: رتقين، قال الأسود بن يعفر " من الكامل " :
إنَّ المنية والحتوف كلاهما ... يوفي المخارم يرقبان سوادي
والرتق الذي ليس فيه ثقب، ففتق الله عز وجل السماء بالمطر وفتق الأرض
بالنبات. وقال في قوله: (خلق الإنسان مِنْ عجل) إنما العجل خلق من
الإنسان، وفي قوله: (ما إنَّ مفاتحه لتنوءُ بالعصبة) وإنما العصبة تنوء أي
تنهض بالمفاتح، والعرب تقول: إنها لتنوء عجيزتها بها، والمعنى: هي تنوء أي
تنهض بعجيزتها. قال الجعدي " من الطويل " :
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وأنشد أبيات المتلمس " من الطويل " :
أحارث إنا لو تساط دماؤنا ... تزايلن حتى لايمس دم دما
وقال: هذا أشد بيت قيل في النفي ومنها:
وما كنت الا مثل قاطع كفه ... بكف له أخرى فأصبح أجذما
يداه أصابت هذه حتف هذه ... فلم تجد الأخرى عليها مقدما
فلما استقاد الكفَّ بالكف لم يكن ... له درك في أن تبينا فأحجما
فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ... مساغاً لنابيه الشجاع لصمما
قال أبو عبيدة: يريد أنه فيما صنع به أخواله بمنزلة من قطع يده الأخرى
فبقي أجذم فأمسك عنهم.
قال أبو عبيدة: كان بالبصرة نخاس في سوق الإبل يقال له ثبيت، فنزل به
أعرابي، فجعل يصلي إلى الصباح ولم يطعم الأعرابي شيئاً، فقال الأعرابي لما
صلى الغداة " من الوافر " :
لخبز يا ثبيت عليه لحم ... أحب إليَّ من صوت القرآن
تبيت تدهده القرآن حولي ... كأنك عند رأسي عقربان
فلو أطعمتني خبزاً ولحما ... حمدنا والطعام له مكان
قال أبو عبيدة: فاستفدنا من الأعرابي عقربان، يقال للذكر عقربان وللأنثى
عقربة. - قيل له: أيما أشعر أبو نواس أو أبي عيينة؟ قال: لاأحكم بين
الشعراء إذا كانوا أحياء.
وقال: إنما سمي قصياً لأنه قصا مع أبيه، وسمي المغيرة عبد مناف لأن أمه
أخدمته منافا صنما كان لهم في الجاهلية، وكان اسمه ايضا القمر؛ وعمرو
هاشما لأنه هشم الثريد، وأول من هشم إسماعيل عليه السلام ثمّ عمرو وعبد
المطلب لما زاره مع عمه المطلب حين جاء به من عند أمه؛ وكان المطلب ابن
عبد مناف يلقب الفيض. اسم الجارود بشر بن عمرو، وهو من سادات عبد القيس،
وإنما سمي الجارود بقوله " من الطويل " :
كما جرد الجارود بكر بن وائل
وهو الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأشج. وكتب إليه المنذر بن
عائذ كتاباً من دارا موضع من البحرين وعرفه بأنه اجتمع برسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد قبل دعوتهم، وأنه عليه السلام أرسل إليهم معه العلاء
بن الحضرمي رسولا. فقدم الجارود على النبي صلى الله عليه وسلم مع العلاء
ورهط من عبد القيس فبايعوه.
وقال: من طرق كثيرة أن أبا هريرة قال: حدا الحادي لرسول الله صلى الله
عليه وسلم بهذه الأبيات " من الرجز " :
طاف الخيالان فهاجا سقما ... خيال تكنى وخيال تكتما
قامت تريك خشية أن تصرما ... ساقاً بخنداة وكعباً أدرما
وتكلم أبو عبيدة يوماً في باب من العلم، ورجل يكسر عينه حياله يوهم أنه
يعلم ما يقول، فقال أبو عبيدة " من الوافر " :
يكلمني ويخلج حاجبيه ... لأحسب عنده علماً دفيناً
وما يدري قبيلاً من دبير ... إذا قسم الذي يدري الظنونا
وكان أبو عبيدة يعشق خرك بن أخي يونس النحوي فقال فيه " من الخفيف " :
ليتني ليتني وليت وليتي ... ليتني قد علوت ظهرك خرك
فقرأنا حقابه وفككنا ... خاتماً كان قبلنا لم يفكك
وقال أبو عبيدة: أعرق العرب في القتل عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير بن
العوام بن خويلد، قتل عمارة وحمزة يوم قديد، قتلهما الإباضية، وقتل محمد
مصعب بن الزبير، وقتل الزبير ابن جرموز، وقتلت بنو كنانة العوام، وقتلت
خزاعة خويلداً.
وقيل لأبي عبيدة: مامعنى قول الأول " من الوافر " :
فأوصى جحدر قدماً بنيه ... بإلقاء القراد على البعير
قال: هذا اللص أمر ولده أن يأخذ القراد فيطرحه على ذنب البعير وهو بارك،
فإذا ثار البعير قاده فانقاد معه، ولو أثاره وهو بارك من غير أن يطرح على
ذنبه القراد لرغا.
وسئل أبو عبيدة عن قوله تعالى: (اَلَم ذلك الكتابُ) وأين ذلك من هذا؟
فقال: إن العرب تجعل الفعل السمقبل مكان الفعل الماضي، قال الشاعر " من
الطويل " :
أقول له والرُمحُ يأطِرُ متنه ... تأملْ خفافاُ إنني أنا ذلكا
ولم يقل: أنا هذا! ويأطر يطعن.
وقال: أعيانا أن نرى زبيرياً سخياً أو مخزومياً متواضعاً أو دارياً أرسح
أو بكريا كامل العقل. - وسئل عن قوله تعالى: (طلْعُها كأنه رؤوسُ
الشَّياطين) وإنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عرف مثله، وهذا لم يعرف.
فقال: إنما كلمهم الله على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس " من
الطويل " :
أيقتلني والمشرفيُّ مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به. قال أبو
عبيدة: واعتقدت من ذلك اليوم أن أضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه،
وعملت كتابي الذي سميته " المجاز " .
قال: وقال لي الفضل بن يحيى: من أشعر المولدين؟ فسميت له جماعة. قال: لا،
ولكن أشعرهم الذي يقول وهو ابن أبي عيينة المهلبي " من البسيط " :
زر وادي القصر نعم القصر والوادي ... لابُدَّ من زورة عن غير ميعاد
زره فليس له شبه يقاربه ... من منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو باد
ترفى قرقيره والعيسُ واقفةٌ ... والنونُ والضَبُّ والملاح والحادي
فقلت: أصلحك الله! وماهذا؟ إنما سرقه من خلف بن خليفة، ووصف مدينة ابن
هبيرة بواسط فقال " من الكامل " :
مُكاؤُها غردٌ يجيبُ الخضر من ورشانها
قرنتْ رؤوس ظبائها ... بالزرق من حيتانها
فقال: ويحك، أفسدته عليّ! قال أبو عبيدة: تغديت مع الفضل بن يحيى، فجئ
بألوان لم أر مثلها، وكان معنا الأصمعي يأكل من كامخ، فقال لي: كلْ من هذا
الكامخ فإنه طيبٌ! فقلت: إنما هربتُ من الكامخ إلى ههنا، فما أصنع به؟ دعْ
مالا يفوتك وأقبل على ما يفوتك. - كان الأصمعيُّ بخيلاً، وكان أبو عبيدة
إذا ذكر الأصمعي أنشد " من الكامل " :
عظُمَ الطعامُ بعينه فكأنهُ ... هو نفسه للآكلين طعامُ
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: أنشدت أبا عبيدة قولَ الفرزدق " من الطويل
" :
جلوسك في الشربِ الكرام بليةٌ ... ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر
وما نظفت كأسٌ ولاطاب ريحها ... ضربت على حافاتها بالمشافر
فقال: ماأعرفهما وأشهد أنهما من شعره.
قال أبو عبيدة: كنتُ أقودُ بشاراً، فمررنا بباهلة فسلم على قوم منهم، فلم
يردوا عليه، فقال: من فيهم؟ قلت: عمرو الظالميُّ. فنفث - وكان إذا أراد أن
يقول الشعر نفث - وقال " من البسيط " :
اُرْفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربيُّ من قوارير
إن جاز آباؤك الأنذالُ في مضر ... جازت فلوس بخارا في الدنانير
قال أبو عبيدة: كان بشارُ عظيم الجسد محدودباً سميناً طويلاً، وكان جاحظ
الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر، وكان أقبح الناس عمى، وكان حمَّاد عجردٍ
يعيره بالقبح، فلمَّا قال حمَّاد فيه " من السريع " :
والله ما الخنزيرُ في نتنه ... بربعه في النتن أو خمسه
بل ريحه أطيب من ريحه ... ومسه ألين من مسه
ووجهه أحسن من وجهه ... ونفسه أفضل من نفسه
وعوده أكرم من عوده ... وجنسه أكرم من جنسه
فقال بشار: ويلي على الزنديق! لقد نفث بما في صدره. قيل: وكيف ذاك، يا أبا
معاذ؟ قال: ماأراد الزنديق إلا قول الله عز وجل: (لقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ
في أحسنِ تَقْويم) فقد أخرج الجحود بها مخرج هجائي. - وكان لبشار أخوان
بشر وبشيرٌ وكانا قصَّابين، وكان بشَّار بهما باراً وكانا يستعيران ثيابه
فيوسخانها، فيبرز بشَّار للناس في ثياب سخام، فيقال له: ماهذا، ياأبا
معاذ؟ فيقول: هذه ثمرة صلة الرحم. - وقال الشعر ولم يبلغ عشر سنين، فبلغ
الحُلُم وهو مخشي معرَّة اللسان بالبصرة. وكان لا يزال قومٌ يشكونه إلى
أبيه فيضربه حتى رقَّ عليه. وكانت أمُّه تخاصمه، فيقول لها أبوه: قولي له
يكف لسانه عن الناس! فلما طال ذلك عليه قال لأبيه: ياأبت، احتج عليهم بقول
الله تعالى: (ليسَ عَلَى الأعْمى حَرَجٌ)! فقال له أبوه حين شكوه إليه هذا
القول، فقالوا: فقه بُرد أضر علينا من شعر بشار.
وسئل أبو عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهديُّ بشاراً عن ذكر النساء،
قال: كان أوّل ذلك اشتهار نساء البصرة وشبانها بشعره حتى قال الفسق من
أشعر هذا الأعمى. وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان
وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلَّما كثُر ذلك وانتهى خبره إلى
المهدي وأنشد لأشعاره، نهاه عن ذلك. قال: فقلت: ما أحسب أن شعر كثير وجميل
وعروة وقيس بن ذريح وأولئك الطبقة أبلغ في هذا الباب! قال: ليس كلُّ من
يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لايخفى عليهن
مايقول ومايريد، وأي حُرّةٍ حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها؟ فكيف
الغزلة التي لاهمة لها إلا الرجال! وأنشدني " من المنسرح " :
قد لامني في خليلتي عُمَرُ ... واللومُ في غير كنهه قذر
قال: أفق! قلت: لا! فقال: بلى ... قد شاع في الناس منكما الخبر
قلت: وإن شاع ما اعتذاري ... مما ليس فيه عندهم عذرُ
ماذا عليهم وما لهم خرسوا ... لو أنهم في عيوبهم نظروا
أعشق وحدي فيؤخذون به ... كالروم تغزو وتهزم الخزرُ
يا عجباً للخلاف يا عجباً ... في في الذي لام في الهوى الحجرُ
حسبي وحسب الذي كلفت به ... مني ومنها الحديث والنظر
أو قبلة في خلال ذاك ومابأس إذا لم تحلل الأزرُ
أو عضةٌ في ذراعها ولها ... فوق ذراعي من عضها أثر
أو لمسة دون مرطها بيدٍ ... والباب قد حال دونه السُتر
والساق براقةٌ خلاخلها ... أو مص ريق وقد علا البهر
واسترخت الكف للغزال وقا ... لت: إيه عني والدمع منحدر
انهض فما أنت كالذي زعموا ... أنت وربي مغازلٌ أشر
قد غابت اليوم عنك حاضنتي ... فالله لي منك فيك ينتصر
يارب خذ لي فقد ترى ضرعي ... من فاسق جاء ما له شُكر
أهوى إلى معضدي فرَّضضَهُ ... ذو قوّة ما يُطاق مقتدر
يلصق بي لحية له خشنت ... ذات سوادٍ كأنها الإبر
حتى علاني وأسرتي غيبٌ ... ويلي عليه لو أنهم حضروا
أقسم بالله ما نجوت بها ... فاذهب فأنت المساور الظفر
كيف بأمي إذا رأت شفتي ... أم كيف إن شاع منك ذا الأثر
قد كنت أخشى الذي ابتليت به ... منك فماذا تقول: ياعبرُ
قلت لها: عند ذاك يا سكني ... لابأس إني مجربٌ خبر
قولي لها بقَّة لها ظفرُ ... إن كان في البق ما له ظُفُرُ
ثم قال لي: مثل هذا الشعر يميل القلوب ويلين صعب! وكان أبو عبيدة يقول:
أبو نواس للمحدثين كامرئ القيس للأوائل، وينشد من شعر أبي نواس " من
الطويل " :
إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفْ ... له عن عدوٍ في ثياب صديق
وما الناس إلا هالك وابن هالك ... وذو نسبٍ في الهالكين عريق
وكان أبو نواس ربما يشغل أهل مجلسه عن الاستماع بالعبث، فشكوه إلى أبي
عبيدة، فقال: اطردوه! فطردوه، فتباعد وكتب رقعة فحذفها في حجره " من
الكامل " :
أمر الأمير بأخذ أولاد الزنا ... فتغيبوا لاتؤخذوا فتعاقبوا
فقال: والله لأقينَّ عرضي منه بأن أردَّه! وكيف أطرد من هذا مقداره؟!
فرَّده. وكان يحبه لظرفه وأدبه.
وقال أبو عبيدة في قوله تعالى: (أَمَتنا اثنتين وأحْييَتنا اثنتين) هو مثل
قوله: (كُنْتُم أمواتاً فأحْيَاكُم ثمَّ يميتكم ثمَّ يحييكم) ههنا موتتان
وحياتان. وقال في قوله: لاَيسمَعُون فيها لغواً إلاَّ سَلاما) قد يستثنى
الشء ليس من الشيء، فليس السلام من اللغو فكأن فيه ضميراً: لايسمعون فيها
لغواً إلا أنهم يسمعون سلاما. وقال أبو جندب الهذلي " من الطويل " :
نجا سالمٌ والنفسُ منه بشدقه ... ولم ينج إلا خفق سيف ومئزرا
فاستثناهما منه وهما من غيره.
وكان أبو عبيدة يسمي بيتي كعب بن سعد الغنوي درَّة الغائص وهما " من
البسيط " :
اعص العواذل وارم الليل عن عرض ... بذي سبيب يقاسي ليله خببا
حتى تمول مالاً أو يقال فتىً ... لاقى التي تشعب الفتيان فانشعبا
قال: لأن الدرة إذا أصابها الغائص، لم يصب مثلها حتى ينفق في طلبها أضعاف
ثمن التي أصيبت. وهذان البيتان قد قتلا خلقاً كثيرا، ينفض أحدهم رأسه
ويتمثل بهما، ثمّ يخرج زعم أن يتمول، فيقتل ألف قبل أن يتمول واحد. وأنشد
أحمد بن يحيى " من الطويل " :
فلو أن مابي باعضى فلق الحصى ... وبالريح لم يسمع لهنَّ هُبوبُ
ولو أنني أستغفر الله كلما ... ذكرتك لم تكتب عليَّ ذنوب
فزعموا أن الرواية كانت " قلق الحصى " فصحفه أبو عبيدة فقال: " فلق الحصى
" ، فصار ذلك رواية.
وقال أبو عبيدة: الشعراء الذين هجوا ومدحوا ودخلوا على الملوك وأخذوا
الجوائز سبعة: ثلاثة إسلاميون وثلاثة جاهليون وواحد مخضرم. فأما
الإسلاميون فجرير والفرزدق والأخطل، وأما الجاهليون فزهير بن أبي سُلمى
والنابغة من بني ذبيان والأعشى من بني قيس، وأما المخضرم الذي أدرك
الجاهلية وقال فيها الشعر وأدرك الإسلام وقال فيه الشعر فالحطيئة.
وسئل أبو عبيدة: هل قال الشعر أحدٌ قبل امرئ القيس؟ فقال: قدم علينا
أربعةٌ وعشرون رجلاً من بني جعفر بن كلاب من أهل البادية، فكنا نأتيهم
فنكتب عنهم، فقالوا: من أبن خذام؟ قلنا: ما سمعنا به! قالوا: والله لقد
سمعنا به! ورجونا أن يكون علمه عندكم لأنكم أهل الأمصار وأصحاب الدواوين،
ولقد بكى في الدمن قبل امرئ القيس وهو الذي يقول له امرؤ القيس " من
الكامل " :
عُوجاً على الطلل المحُيل لعلنا ... نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وهي أبيات، قال: وهم لايعرفون لابن خذام نسباً. وأنشدوا له " من الطويل " :
كأني غداة البين لمَّا تحملوا ... لدى سُمرات الحيّ نلقفُ حنظلِ
قال أبو عبيدة: لم يقل النابغة الذبياني من الشعر حتى بلغ الخمسين. -
وقال: دخل الأعشى بلاد فارس، فأخبر عنه كسرى وقالوا: إنه شاعر العرب!
فأُدخل عليه فاستنشده فأنشده " من الطويل " :
أرقتُ وماهذا السُهاد المؤرقُ ... ومابي من سقمٍ ولابي معشق
فقال كسرى: فسروا لي ما قال! فترجم له، فقال: لئن كان يسهر من
غير سقم، ولاعشق إنه لسارق! قال أبو عبيدة: كان كثير أشعر أهل الإسلام،
وكان يكذب في حُبه وجميل يصدق. وسئل: من أشعر المولدين؟ قال: السيد! وكان
السيد مشتهراً بمدح أهل البيت، وهو الذي يقول " من البسيط " :
إني امرؤٌ حميريٌّ حين تنسبني ... لا من ربيعة آبائي ولا مضر
وقال من قصيدة " من البسيط " :
ثمَّ الولاء الذي أرجو النجاة به ... يوم القيامة للهادي أبي حسنِ
قوله في اللغة والعربية، قال أبو عبيدة: الناقراتُ من السهام المصيبات
القرطاس، والقاصرات التي لاتبلغ، والغاضرات التي تخرج عن الهدف يمنة
ويسرة، والطالعات التي تخرج من فوق الهدف، والحوابي التي تقرب من القرطاس
ولا تصيب، والمقرطسات المصيبات. وقال: أهل العالية يقولون: الحرب خدعة،
وهي لغة رسول الله صلى الله عليه ولغة نجد: خدعة؛ ورجل خدعة إذا كان يخدع
الناس، ورجل هُزأة إذا كان يهزؤ بالناس؛ قال: والمكاشرة أن يضحك إليه وفي
صدره عليه غمر. والطم والرم: الرطب واليابس؛ والغارة الشعواء: الكثيرة.
قال: وأهل الحجاز يقولون: قد أخلق الثوب، وبنو تميم يقولون: قد خلَّق
الثوب، ويقولون أيضاً بالتخفيف خلق وهو كثير في كلامهم، وإنما يخففون في
فعل وفعل ولايخففون في فعل. قال أبو عبيدة: أسماءُ الحلب البرم والفطر
والضب والمصر والضف والنكع، فالمصر بإصبعين والضف بالكف كلها والنكع أن
يجهدها في الحلب، والنكع والنهز ضرب الضرع باليد عند الحلب لتَدُرَّ،
وإنما ذلك في الضأن خاصة، فأما المعز فإنما هو المسح، وأما الكسع فإنما هو
ردُّ الدرة وحقن اللبن وهو في النوق خاصة، يُرش الضرع بالماء ويضربه بيده
ليرتفع، فيكون أقوى للناقة.
قال أبو ربيعة النحوي: كانت العرب تقول: من لم يكن عقله من أكمل مافيه كان
هلاكه بأكمل ما فيه. فحدثت بهذا الحديث الأصمعي فقال: هذا حسن وعندي آخر
يشبهه، كانت العرب تقول: من كانت فيه خصلة هي أكمل من عقله فبالحرى أن
تكون سبب منيته. فحدثت بهذين الحديثين أبا عبيدة فقال: هذان حسنان وعندي
آخر يشبههما، كانت العرب تقول: من لم يكن أغلب خصال الخير عليه عقله كان
في أغلب خصال الخير حتفه. فحدثت بهذه الأحاديث أبا دلف فقال: هذا حسنٌ
كلُّه وعندي آخر يشبهها، كانت العرب تقول: كلُّ شيءٍ إذا كثُر رخص إلا
العقلُ فإنه إذا كثُر غلا.
وقال أبو عبيدة: لم يكن لأبي بكر ولا لعمر ولا لعثمان ولا لعلي قاضٍ ولا
عمالُ شُرط ولا لابن الزبير بالمدينة، وكان أوَّل قاض في المدينة في خلافة
معاوية في إمارة مروان استقضى عبد الله بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب
حتى عزل معاوية مروان عن المدينة واستعمل سعيد بن العاص، واستقضى سعيد أبا
سلمة بن عبد الرحمان.
وقال أبو عبيدة كان رجل من بني هلال يقال له طفيل بن زلال، فكان إذا سمع
بقوم عندهم دعوة أتاهم فأكل من طعامهم، فسمي الطفيليُّ طفيلياً به. - وقال وكان الناس لايركبون الحمير حتى تفارقوا أيام المنصور فركبوها، ولبيس في الأرض مركب إلا وهو كلما كان أكبر كان أحسن إلا الحمير فإنها كلما كانت أكبر كان أقبح. وقال آخر لعنها الله! فارهها يتعب وخسيسها يتعب رجليك.كان أبو عبيدة لما كبُر إذا أراد أن يقوم تمثَّل بقول أبي الطمحان القيني " من الوافر " :
حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتلٌ يدنو لصيد
قريبُ الخطو يحسبُ من رآني ... ولستُ مقيداً أني بقيد
وقال: دخلنا على أبي عبيدة نعوده ونسأله عن سبب علته، فقال: هذا النوشجاني! دخلتُ عليه مسلماً، فجاءني بموزٍ كأنه أيور المساكين، فأكثرتُ منه فكان سبب علتي. ثمّ دخل أبو العتاهية بعد موت أبي عبيدة دار النوشجاني، فوضع بين يديه قنو موز، فقال: ياهذا! أقتلت أبا عبيدة وتريد أن تقتلني؟ لقد استحليت قتل العلماء، والله لاأذوقه! قال الصولي: مات أبو عبيدة سنة تسع ومائتين، وقيل: عشر، وقيل: إحدى عشرة، وقيل: إثنتي عشرة، وله أربع وتسعين سنة. وقيل للأصمعي: مات أبو عبيدى! فقال: اليوم مات الظرف.
31 - ومن أخبار الأصمعي
هو أبو سعيد عبد الله بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع بن
مظهر بن رياح بن عمرو بن عبد شمس بن أعيا بن سعد بن عبد بن غنم بن قتيبة
بن معن بن مالك بن أعصر، وقريبُ لقب واسمه عاصم ويكنى أبا بكر الباهلي.
قال الأصمعي: الأصمع الأملس المحدد وبه سميت الصومعة. قال: ويقال رجل أصمع
إذا كان ذكياً حديد الفؤاد. - قال الأصمعي: لما حضرت جدي عليَّ بن أصمع
الوفاة جمع بنيه وقال: يابنيَّ، عاشروا الناس معاشرة حسنة، فإن عشتم حنوا
إليكم، وإن متم بكوا عليكم! وقيل لأبي عبيدة: إن الأصمعي ينتمي إلى باهلة،
فلو تكلمت فيه أنه يدَّعي إليهم؟ فقال: لا، دعوه يكن منهم! يعني أنه لاشرف
له فيهم لأنه لا أثر لهم في الجاهلية ولامناقب، ألا ترى أنّ النبي صلى
الله عليه وسلم قال لرجل: على أنك إن قتلت رجلاً من باهلة قتلت به مبالغة
في خِسَّة المقتول. وقال الأشعث بن قيس الكندي للنبي صلى الله عليه وسلم:
أتتكافأ دماؤنا، يارسول الله؟ قال: نعم، ولو قتلت رجلاً من باهلة لقتلك
به. - قال الشعبي: كانت العرب في الجاهلية إذا أسرت أسيراً فدته بأسير،
إلا أن يكون باهلياً أو غنوياً زادوا عليه قلوصين. - وأنشد رجل من بني عبد
القيس " من المتقارب " :
أباهلَ ينبحني كلبكم ... وأسدكم ككلاب العرب
ولو قيل للكلب: ياباهليُّ ... عوى الكلب من لؤم هذا النسب
وقال بشَّار " من الوافر " :
إذا أنكرت نسبة باهليٍ ... فكشف عنه ناحية الإزار
على أستاه ساداتهم كتابٌ ... موالي عامرٍ وسما بنارِ
قال أبو هشام لبشار: إن الله قد أعمى عينيك، فما ترى؟ ولكن قل لمن ينظر هل
مما ذكرت شيئاً؟! يعني قوله: " على استاه ساداتهم كتاب " . فقال له بشار:
أنت من سفلتهم وإنما قلت: على استاه ساداتهم " ! قال المرزباني: وأغار
أحمد بن أبي طاهر على بشار في بيته وعلى كلام أبي عبيدة الذي تقده فقال
وأساء " من المنسرح " :
لاتدفع الباهلي عن حسبه ... دعه وما يدعيه من نسبه
سلم لدعواه باهليته ... لعله أن يلَّج في كذبه
إنك إن تبغه فما أحدٌ ... ألأم من قومه ولا حسبه
فإن طغا أو زها عليك بما ... صحَّ له في اللئام من عربه
فارفع حواشي إزاره تر ما ... يلوح من وسمه على ذنبه
وقال أبو العيناء: رأيت أبا قلابة الجزمي في جنازة الأصمعي وهو يقول " من
الخفبف " :
لعن الله أعظما حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظما تبغض النبي وأهل البيت والطيبين والطيبات
وقال رجل للأصمعي: لاتنس وعدي! قال: ما أحسن ما قال الأعشى " من الطويل " :
وإني إذا ما قلت قولاً فعلته ... ولستُ بمخلاف لقولي مبدل
ثمّ أنشد " من الطويل " :
وإني لمنجاز لما قلت، إنني ... ارى وصمة أن يخلف الحُرُّ واعده
قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما رأيت أحداً قط مثل الأصمعي في العلم
بالشعر ولا مقارنا له، ما أنشدته شيئاً قط إلا أنشدني في مثله حتى كأنه
أعده لي، فأنشدته للأعشى " من البسيط " :
عُلِقتُها عَرضاً وعُلِقت رُجلاً ... غيري وعُلق أخرى غيرها الرجلُ
فأنشدني من وقته " من الكامل " :
قتلتك أخت بني لؤيٍ إذ رمت ... وأصاب نبلك إذ رميت سواها
وأعارها الحدثان منك مودةً ... وأعار غيرك وُدَّها وهواها
وقال الأصمعي: ستة لاتخطئهم الكآبة: فقيرٌ حديث عهد بغنى، ومكثرٌ يخاف على
ماله التلف، والحسود، والحقود، وطال مرتبة فوق قدره، وخليط أدباء ولا أدب
له. وقال: من قعد به نسبه نهض به أدبه. وقال: لاترى أحدب إلا خفيف الروح
ولا أعمى إلا ثقيل الروح ولا أحول إلا خبيث الطريقة. وقال: الاستطالة على
من أنعمت عليه هدم لصنيعتك وتكدير لمعروفك. وقال: ثلاثة أشياء يذهبن
الذهن: كثرة النظر في المرآة وكثرة الضحك ودوام النظر إلى البحر، وثلاث
تورث الانقطاع: الإكثار من أكل الباذنجان والزيتون والباقلي.
وقال أبو حاتم: كنا عند الأصمعي، فقال رجلٌ: من القائل " من الوافر " :
فمن يكُ سائلاً عني فإني ... من الفتيان أيامَ الخنان
مضت مائة لعام ولدت فيه ... وعشر بعد ذاك وحجتان
وقد أبقت صروف الدهر مني ... كما أبقت من السيف اليماني
فقال الأصمعي: يقولها النابغة الجعدي. فقال له: أتعرف من أرخ سنه في شعره
غيره؟ فجعل الأصمعي ينشد أشعار من أرخوا سنهم في أشعارهم، فحفظت من ذلك
أنه كان عميرة الكعبي الخزاعي يخط لكلّ من مات من أهله قبراً ويسوق عن كلّ
من تزوج منهم مهراً وهو القائل " من الطويل " :
فنيت وأفناني الزمان وأصبحت ... هنيدةُ قد أنضيت من بعدها عشرا
وقد كنتُ مما أهزم الجيش واحدا ... وأعطي فلا منا عطائي ولا نزرا
وقد عشت دهراً ما يكون عشيرتي ... لها ميتٌ حتى أُخط له قبرا
فأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميتٌ ... فأسلي ولا حيُّ فأصدر لي أمرا
وقال إسحاق بن إبراهيم: ما ولدت النساء مثل الأصمعي في حفظه وذكائه
وفطنته، أنشدته يوماً قولي " من الطويل " :
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعداً غير قائم
فأنشدني لبشار " من المتقارب " :
ألا أيها السائل جاهلا ... ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وقال: إذا كانت في العالم خصال أربع وفي المتعلم خصال أربع اتفق أمرهما
وتم، وإن نقصت من واحد منهما خصلة منها لم يتم أمرهما. فأما اللواتي في
العالم: فالعقل والصبر والرفق والبذل، وأما اللواتي في المتعلم: فالعقل
والحرص والفراغ والحفظ، لأن العالم إذا لم يحسن تدبير المتعلم بعقله خلط
عليه أمره، وإن لم يبذل له علمه لم ينتفع به. وأما المتعلم فإنه إن لم يكن
له عقل لم يفهم، وإن لم يكن له حرص لم يتعلم، وإن لم يفرغ قلبه للعلم لم
يعقل عن معلمه، وإذا ساء حفظه كان ما يكون منهما مثل الكتاب على الماء. -
وقال: إذا أردت أن تعرف عقل الرجل في مجلس واحد فحدّث في خلال حديثك بما
لايكون، فإن رأيته قد أصغى إليه فأعلم أنه أحمق وإن أنكره فهو عاقل.
وقال الأصمعي: تضرعت في الأسباب على باب الرشيد مؤملا الظفر به والوصول
إليه حتى أني صرت لبعض حرسه خدينا، فإني لفي ليلة قد نثرت السعادة
والتوفيق فيها الأرق بين أجفان الرشيد، إذ خرج خادم فقال: أبالحضرة أحدٌ
يحسن الشعر؟ فقلت: الله أكبر، ربَّ قيدٍ مضيق حلَّه التيسير! فقال لي
الخادم: ادخل! فلعلها أن تكون ليلة تعرس في صباحها بالغنى إن فزت بالحظوة
عند أمير المؤمنين. فدخلت فواجهت الرشيد في بهوه والفضل ابن يحيى إلى
جانبه، فوقف بي الخادم بحيث يسمع التسليم، فسلمت، فردّ السلام ثمّ قال:
ياغلام، أرحه قليلاً، يفرخ روعه إن كان وجد للروع في نفسه حساً! فقلت في
نفسي: فرصةٌ يفتك بها الدهر بإدخال شغل على قلبه كرمك، مجيران لمن نظر
إليك من أعتراض أذيةٍ! فقال: ادن! فدنوت، محسنا. فقال: تالله ما رأيت أدعى
منك! فقلت: أنا على الميدان، فأطلق من عناني، ياأمير المؤمنين! فقال: أنصف
القارة من راماها! ثمّ قال: ما المعنى في هذه الكلمة بدياً؟ قلت: فيها
قولان، القارة هي الحرة من الأرض، وزعمت الرواة أن القارة كانت رماة
للتبابعة، والملك إذ ذاك أبو سهمه في كبد قوسه، فقال: أين رماة العرب؟
فقالت العرب: أنصف القارة من راماها. فقال لي الرشيد: أصبت! ثم قال: أتروي
لرؤبة والعجاج شيئاً؟ فقلت: هما مشاهدان لك بالقوافي وإن غُيباً عن بصرك
بالأشخاص. فأخرج من بيد فرشه رقعة، ثمّ قال: أنشدني " من الرجز " :
أرقني طارقُ همٍ أرقا
فمضيت فيها مضيَّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بي أشداقي، فلما صرت إلى
مديحه لبني أمية، ثنيت لساني إلى امتداحه للمنصور في قوله " من الرجز " :
قلتُ لزير لم تصله مريمه
- يقال: هو زير نساء وحدث نساء إذا كان يحب محادثتهن - فلما رآني قد عدلت
عن أرجوزة إلى غيرها قال: أعن حيرة أم عن عمد تركت؟ قلت: عن عمد، تركتُ
كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. فقال لي الفضل: أحسنت بارك
الله عليك! مثلك يؤهل لمثل هذا المجلس! فلما أتيت على آخرها قال لي
الرشيد: أتروي كلمة عديّ بن الرقاع " من الكامل " :
عرف الديار توهماً فاعتادها
قلت: نعم! قال: هاتها! فمضيت فيها حتى إذا أنا صرت إلى صفته
لجمله، قال لي الفضل: ناشدتك الله أن تقطع علينا ما أمتعنا به السهر في
ليلتنا هذه بصفة جملٍ أجرب! فقال له الرشيد: اسكت فالابل هي التي أخرجتك
عن دارك، وعزتك في قرارك، فاستلبت تاج ملكك، ثم ماتت، وعملت جلودك سياطاً
ضربت بها أنت وقومك! فقال الفضل: لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله! فقال
له الرشيد: أخطأت! الحمد على النعم، لو قلت: وأستعين الله لكنت مصيباً!
ثمّ قال لي: امض في أمرك! فأنشدته حتى بلغت إلى قوله " من الكامل " :
تزجي أغن كأن إبرة روقه
فاستوى جالساً، ثمّ قال لي: اتحفظ فيها ذكرا؟ قلت: نعم، ذكرت الرواة أن
الفرزدق قال: كنت في المجلس وجرير إلى جانبي، فلما ابتدأ عدي في قصيدته
قلت لجرير مسراً إليه: لنسخر من هذا الشامي! فلما ذقنا كلامه يئسنا منه،
فلما قال " من الكامل " :
تزجي أغن كأن إبرة روقه
وعدي كالمستريح، فقال جرير: أما تراه يستلب بها مثلا؟ فقال " من الكامل " :
قلم أصاب من الدواة مدادها
ثمّ أنشد عدي كذلك، فقلت لجرير: كان سمعك مخبوءاً في صدره. فقال لي: اسكت،
شغلني سبك عن جيد الكلام! فلما بلغ إلى قوله " من الكامل " :
ولقد أراد الله إذ ولاكها ... من أمةٍ إصلاحها ورشادها
قال الأصمعي: فقال لي: ماتراه قال إذ أنشده الشاعر هذا البيت؟ قلت: قال:
كذاك أراد الله! فقال الرشيد: ماكان في جلالته ليقول هذا، أحسبه قال:
ماشاء الله! قلت: وكذا جاءت الرواية. فلما أتيت على آخرها قال لي: أتدري
لذي الرُّمة شيئاً؟ قلت: الأكثر! قال: فما أراد بقوله " من الطويل " :
ممرٌّ أمرَّت متنه أسديةٌ ... ذراعيةٌ حلاَّلةٌ بالمصانعِ
قلت: ياأمير المؤمنين، وصف حمار وحش أسمنه بقل روضة تواشجت أصوله وتشابكت
فروعه من مطر سحابة كانت بنوء الأسد، ثمّ في الذراع من ذلك. فقال الرشيد:
أرح، فقد وجدناك ممتعا، وعرفناك محسناً. ثمّ قال: أجد ملالة! ونهض، فأخذ
الخادم يصلح عقب النعل في رجله وكانت عربية، فقال الرشيد: عقرتني، ياغلام!
فقال الفضل: قاتل الله الأعاجم! أما أنها لو كانت سندية لما احتجت إلى هذه
الكلفة؟! فقال الرشيد: هذه نعلي ونعل آبائي صلوات الله عليهم، كم نعارض
فلا نترك من جواب ممض ثمّ قال: ياغلام، يؤمر صالح الخادم بنعجيل ثلاثين
ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه، ولايحجب في المستأنف! فقال الفضل:
لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك مثل ما أمر به لك
أمير المؤمنين، وقد أمرت لك به إلا الف درهم، فتلقى الخادم صباحا! قال
الأصمعي: فما صليت من غد إلا وفي منزلي تسعة وخمسون ألف درهم.
وقال: أنشدت الرشيد ليلة " من الكامل " :
بانت أميمة بالطلاق ... فنجوت من ربق الوثاق
بانت فلم يحفل بها ... قلبي ولم تدمع مآقي
ودواءُ مالا تشتهيه النفس تعجيلُ الفراقِ
فجعل الرشيد يعيد: " ودواءُ ما لاتشتهيه النفس تعجيل الفراق " ثمّ قال:
عليَّ برأس هيصم اليماني! فقال لي: يا أصمعي، هذا ماجرَّه الشعر: "
ودواء.... " ! وأنشد البيت.
وقال ابن الأعمش: كنا في مضرب الحسن بن سهل ومعنا الأصمعي، فتحدث فقال:
خرجت فاطمة عليها السلام ناشزا - بالزاي معجمة - تطلب ميراثها من أبي
بكر....! فوثب إليه رجلٌ فخنقه، وارتفع الصوت، وقام المطلب بن فهم وهو
حاجب للحسن بن سهل يحجز بينهما، وسمع الحسن الصوت فدعاه وسأله، فقال: وثب
فلان على الأصمعي في شيء جرى بينهما فخنقه. فقال: يوثب على ضيفي وجليسي
وفي داري؟! ياغلام، السياط! فقال له: يثبت الأصمعي على بنت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيتناولها، فيسوغ ذلك له ولايسوغ لمن يثب عليه ويخنقه؟!
فقال: فما القصة؟ فأخبر بها، فدعا الأصمعي فعنفه وقال: ماهذا من الحديث
الذي يحدث به العوام؟ لاتعودن! وروى الناس هذا الحديث ناشرا - بالراء
المهملة - يعنون: نشرت شعرها. فرواه الأصمعي بالزاي: أي مخالفة لعليّ في
ذلك.
قال الأصمعي: قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ماقيل في السفر! فأنشدته قول عمر
بن أبي ربيعة " من الطويل " :
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
أخا سفرٍ جوابٍ أرض تقاذفت ... به فلوات فهو أشعث أغبر
قليلاً على ظهر المطية ظله ... سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
قال: أنا والله ذاك وكان يحج عاماً ويغزو عاماً.
قال الأصمعي: كنت مع الرشيد منصرفنا من الروم، إذا نحن برجل قد أنحط عليه
صدره وعليه برنس وبيده عكاز، فلما حاذى الرشيد قال " من الكامل " :
ياأول الخلفاء را ... ح بنفسه وغدا وأسرى
حتى أباح حمى العدو ... وحاز ما يحوون قسرا
صدرت ركابك بافتتا ... ح الروم قد اوقرن اجرا
في الله أشعث أغبرا ... وتقودنا شعثاً وغبرا
حلوا إذا يوسرت اباء ... إذا عوسرت مُرَّاً
قال: من الرجل؟ قال: عبدك ابن العلاء، يا أمير المؤمنين! فأمر له بكل بيت
عشرة آلاف درهم. - وقال الأصمعي: سمعت ابن أبي السعلاء يحدو بالرشيد،
فيقول " من الهزج " :
أغيثاً تحمل الناقة ... أم تحملُ هارونا
أم الشمس أم البدرُ ... أمِ الدُنيا أم الدنيا
ألا بل كلما عدد ... تُ قد أصبح مقرونا
على مفرق هارون ... فداه الآدميونا
وقال الأصمعي: كنتُ بين يدي الرشيد في يوم قُرّ، إذ دخل سعيد بن سلم،
فقال: ياسعيد، أنشدني في البرد! فأنشده لمُرة بن محكان السعدي " من البسيط
" :
وليلةٍ من جمادي ذات أندية ... لايبصرُ الكلبُ من ظلمائها الطنبا
لاينبحُ الكلبُ فيها غير واحدةٍ ... حتى يلفَّ على خيشومه الذنبا
فقال: غير هذا. فأنشدته أنا " من البسيط " :
وليلةٍ يصطلي بالفرثِ جازرها ... يختص بالنقري المثرين داعيها
لاينبح الكلب فيها غير واحدة ... حتى الصباح ولاتسري أفاعيها
أطعمت فيها على جهد ومسغبة ... كومَ العشار إذا لم يمس راعيها
فقال: أريد أبلغ من هذا. فأنشدته " من الطويل " :
وليلةٍ قُرٍ يصطلي القوس رَبُها ... وأقدحه اللاتي بها يتنبلُ
فقال: ياأصمعي، حسبك ما بعد هذا شيء! ثمّ أنشدني " من المتقارب " :
إذا نبح الكلبُ في أهله ... فإن قصاراه أن يكشرا
وقال الأصمعي: أتى خادم للرشيد فقال: أجب أمير المؤمنين! قلتُ:
فيم يدعوني؟ قال: لاعلم لي، ولكن سمعته ومن عنده من بني هاشم يتذاكرون
الرُطب، فاختار كلُّ واحد منهم صنفا. قلت: فأي الأصناف اختار أمير
المؤمنين؟ قال: الريثا. قلت: وما أختار عيسى بن جعفر؟ قال: الأزاد. قلت:
امض! فلما دخلتُ وسلمت قال: ههنا، يابصري! ثمّ قال: ايُّ الرطب أطيب
عندكم؟ قلت: ياأمير المؤمنين، أصف لك جميع أجناسه، ثمّ الاختيار إليك!
قال: نعم. قلت: الذي هو عماد المال وأكثر التمران البرني والشهريز، ويعلم
أميرُ المؤمنين لم سمي البرني برنياً والشهريز شهريزا؟ قال: لم؟ قلت: لأن
كسرى مر بالبرني وهو حامل فقال: اين برنيك! وهو بالفارسية: حملٌ جيدٌ، ومر
بالشهريز فقال: اين سُرخ نيز! أي وهذا الأحمر أيضاً، يريد جيد، فعربا برني
وشهريز. فقال: لمن كان هذا التفسير؟ وأعجبه. ثمّ قلت: وعندنا صنف يقال له
البرشوم يرطب قبل أنَّ يبدو صلاح غيره، وينفذ قبل أن يرطب النخل، فهو
لتكبيره وسرعة ذهابه أغلى ثمناً من غيره. وعندنا نخلةٌ يقال لها السُكّر
حُلو طيبٌ هش، ورطبها من أطيب الرطب أعظمه لحاء وأرقه سحاء غير أن نواته
غليظة، والحموضة إليه سريعة وقلما يصبر كنيزه. وعندنا نخلةٌ يقال لها
الأزاد بسرها حُلُوٌ طيبٌ ورطبها ليس بذاك وكنيزها باقٍ صبور وهي تسمى
الحُرة. وعندنا نخلة يقال لها الهلباث، نخلها من أحسن النخل منظراً،
ورطبها من أطيب الرطب وينتهي في آخره وجميع الرطب يرطبُ معاً. وعندنا نخلة
يقال الجيسوان يوكل بلحها وزهوها عدلُ رطب غيرها، فإذا صار إلى حد الإرطاب
تغير طعمها، وحالت عن حالها؛ وعندنا نخلةٌ يقال لها الكريثاء، بسرها حلوٌ
طيبٌ هش ورُطبها عذبٌ رقيقٌ ونواها ضامر لطيف وكنيزها صبور باقٍ، وبسرها
إذا كثُر زهزه يقلى ويطبخ ويدَّخر، ولا يزداد على السنين إلا جودة، ويجلب
إلى سائر البلدان. وأعجب من هذا، ياأمير المؤمنين، أنّ صبياننا يلعبون
بنوى جميع أنواع التمور ويسمون كلَّ نواة درهما إلا نواة الكريثاء، فإنهم
يسمونها ديناراً ويتبايعون بينهم أربعا وعشرين نواةً من نوى الأزاد بنواة
من نوى الكريثاء. فقال هارون: أنا أبو جعفر! وكان إذا أصاب الشيء اكتنى
بجعفر، وأمر لي بمائة ألف وخمسين ألفا.
وقال الأصمعي: مارأيت الرشيدُ يوماً مبتذلاً ولا شارباً ألا يوما واحداً
فإني دخلت عليه ووجنتاه حمراوان، ودخل عليه أبو حفص الشطرنجي الأعمى، فقال
للرشيد: أيكم سبق إلى بيت من الشعر يوافق ما في نفسي فله ألف دينار! فوقع
في نفسي أنه يريد جارية الناطفي وكان يميل إليها، وفطن أبو حفص فبدرني
بحدةِ العميان فقال " من الخفيف " :
مجلسٌ ينسبُ السُرورُ إليه ... لمحبٍ ريحانه ذكراك
فقال له: قد قاربت وأحسنت، لك ألفُ دينار! فبدأت أعمل بيتاً وتهيبته،
فسبقني أبو حفص فقال " من الخفيف " :
كلما دارت الزجاجةُ ... زادتهُ اشتياقاً وحرقةً فبكاك
فقال له: أحسنت ولك ألف دينار! فلما رأيت ذلك قلت " من الخفيف " :
لم ينلك الرجاءُ إن تحضريني ... وتجافت أمنيتي عن سواك
فقال الرشيد: أحسنت، ياأصمعي، ولك ألف دينار! ثمّ أطرق ورفع رأسه فقال:
وقد قلت بيتاً، أنا فيه أشعر منكما " من الخفيف " :
فتمنيتُ أن يغشيني اللهُ ... نعاساً لعلّ عيني تراك
فقلت: ياأمير المؤمنين، أنت أشعر فخذ جوائزنا! فقال: جوائزكما لكما،
فانصرفا! وقال: خرجت مع الرشيد حاجاً، فإني لفي خيمتي إذ أقبل أعرابي ومعه
أمة سوداء، فقال لي: ياشيخ، اكتب لي كتاب عتق هذه الجارية! فأردت أسبر
عقله فقلت: تملي عليّ وأنا أكتب. قال: اكتب: بسم الله الرحمان الرحيم، هذا
ما أعتق فلان بن فلان أمته ميمونة السوداء، أعتقها لوجه الله تعالى وجواز
العقبة. ياميمونة، إنه لاسبيل لي عليك إلا سبيل الولاء، ولا منَّة لي
عليك، بل المنة لله عليَّ وعليك! وانصرف وانصرفت، فحدثت الرشيد، فأمر بعتق
مائة نسمةٍ على مثل ماأملاه الأعرابي.
وقال: أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي من القصيدة الطويلة " من الطويل
" :
فتىً تمَّ فيه ما يسرُّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
فتىً كملتْ أعراقه غير أنه ... جوادٌ فما يبقى من المال باقيا
أشمُّ طُوالُ الساعدين شمردلٌ ... إذا لم يرح للمجد أصبح غاديا
قال الرشيد: ولم لم يروحه في المجد كما أغداه؟! ألا قال: إذا راح للمعروف
أصبح غاديا! فقلت: أنت والله، ياأمير المؤمنين، في هذا أعلم منه بالشعر!
قال الأصمعي: كنت عند الرشيد فقدم إليه فالوذ، فقال: ياأصمعي، أتعرف قريش
هذا؟ فقلت: قومك، ياأمير المؤمنين، يعرفونه. كان ابن جدعان عمله، وفيه
يقول الشاعر " من الوافر " :
منادٍ فوق دارته يبنادي ... لبابُ البّرُ يلبكُ بالشهاد
وأما الأعرابُ فإن مزرداً أخا الشماخ كان نهماً جشعا، وكانت أمه توثر
إخوته عليه، وإنها غابت عن بيتها يوماً، فوثب على ما في بيتها فأكله وقال
" من الطويل " :
ولما غدت أمي تزور بناتها ... أغرت على العكم الذي كان يمنع
خلطتُ بصاعي حنطةٍ صاع عجوة ... إلى صاع سمنٍ فوقه يتريَّعُ
ودبَّلتُ أمثال الأثافي كأنها ... رؤوس نقادٍ مزقت لاتجمعُ
وقلت لبطني أيسري اليوم إنه ... حمى أمنا مما تفيدُ وتجمع
فإن كنتُ مصفوراً فهذا دواؤه ... وإن كنت غرثاناً فذا يوم تشبعُ
فقال: لله درك، هاتوا حتى نأكل ونشبع إن شاء الله! قال: وكنا عند الرشيد
فجاؤا بطفشيل فقال: ياأصمعي، أهذا اسمٌ عربيً؟ فقلت له: حدثني الشرقي بن
القطامي أن بني اسرائيل كانوا في التيه، فقال حبر لهم يقال له شيلا: سخن
لنا أخلاط حبوب! فعمل الطفشيل، وهو بالعبرانية تفشيل، فأعربته العربُ
فصيرت التاء طاء، وكذلك أنطاكية بالعبرانية أنتاكية فقالت العرب بالطاء.
فوهب لي الرشيد ألف دينار.
قال: وقال لي الرشيد: أما ترى قبح أسماء سكك بغداد مثل قطيعة الكلاب ونهر
الدجاج وأشباه ذلك؟ فهل للعرب مواضع قبيحة الأسماء؟ قلت: نعم، قد قال
الراجز " من الخفيف " :
ماترى لمح بارق ... سقيت ماؤه بيه
فشروري فقروري ... فحنونا فلحسيه
فقال: لله درك! فما رأيت مثلك خلقت لهذا الشأن وحدك.
قال: وقال لي الرشيد ذات ليلة: ياأصمعيُّ، ألا ترى الدعيَّ بن الدعيّ
اليهودي بن اليهودي عبد بني حنيفة مروان بن أبي حفصة يقول لمعن بن زائدة،
وإنما هو عبد من عبيدي " من الوافر " :
أقمنا باليمامة إذ يئسنا ... مقاماً لانريدُ به زيالا
وقلنا: أين نذهب بعد معن ... وقد ذهب النَّوال فما نوالا
وكان الناس كلهم لمعن ... إلى أن زار حفرته عيالا
فجعلني وحشمي عيالاً لمعن، وقال: إن النوال قد ذهب فما يصنع بنا؟ فقلت:
ياأمير المؤمنين، عبد من عبيدك، أنت أولى بأدبه وهو بالباب. قال: عليَّ
به! فأدخل، فقال: السياط! فأخذ الخدم يضربونه فضرب أكثر من ثلاثمائة سوط
وهو يقول: ياأمير المؤمنين، استبقني واذكر قولي فيك وفي أبيك! قال:
وماقلت؟ فأنشده قصيدته التي يقول فيها " من الكامل " :
هل تطمسون من السماء نجومها ... أو تمحقون من السماء هلالها
أم تدفعون مقالةً عن ربكم ... جبريل بلغها النبيّ فقالها
شهدت من الأنفال آخر آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها
فدعوا الأسود خوادارً في غيلها ... لا تولغنَّ دماءكم أشبالها
فأمر له بثلاثين ألف درهم وخلاه. فلما خرج قال لي: ياأصمعي، من هذه؟ قلت:
لاأدري. قال: هذه مواسة بنت أمير المؤمنين، قمُ فقبل رأسها! فقلت: أفلت من
واحدة ووقعت في أخرى! إن فعلت أدركنه الغيرة فقتلني. فقمت فوضعت كمي على
رأسها وفمي على كمي، فقال: والله لو أخطأتها لقتلتك! أعطوه عشرة آلاف
درهم! وقال: كنت عند الرشيد، فأُتي بجارية ليبتاعها، فأعجبته، فقال
لمولاها: بكم الجارية؟ قال: بمائة ألف درهم! فقال: ادفع المال إليه،
ياغلام! فلما وليَّ قال: رُدُّوا الجارية! فرّدت فقال: أبكر أم ثيب؟ قالت:
بل ثيب! قال: رُدُّوها على مولاها! ثم أنشأ يقول " من الكامل " :
قالوا: أردت صغيرةً فأجبتهم ... أشهى المطي إليَّ ما لم يركب
كم بين حبَّة لؤلؤ مثقوبة ... لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب
فقالت الجارية: ياأمير المؤمنين، أتاّن لي في الجواب؟ قال: نعم. فأنشأت
تقول " من الكامل " :
إن المطية لايلذ ركوبها ... حتى تذلل بالزمام وتركب
والحب ليس بنافع أربابه ... ما لم يؤلف في النظام ويثقب
فضحك وقال: ياغلام، ادفع ثمنها لمولاها! وأمر لها بمائة ألف درهم في خاصة
نفسها. - وقال: حججت سنة حج هارون وكانت سنة قحطة، فرأيت على قارعة الطريق
جارية حسنة الوجه قد أخرجت كفا كأنها لسان ظبي وهي تقول " من الخفيف " :
طحطحتنا قوارع الأعوام ... وبرانا تقلب الأيام
واتيناكم نمد أكفا ... نبتغي بذلكم ونيل الطعام
فاطلبوا الأجر والمعونة فينا ... أيها الزائرون بيت الحرام
قال: فجئت بها إلى هارون فملأ صحفة لها دنانير وزودها طعاماً.
قال: وقال لي الرشيد: أتعرف للعرب اعتذاراً وندما؟ دع أمر النابغة فإنه
يحتج ويعتذر. فقلت: ما أعرف إلا بشر بن أبي خازم الأسدي، فإنه هجا أوس بن
حارثة بن لام فأسره بعد ذلك وأراد قتله، فقالت له أمه وكانت ذات رأي: اذكر
مدحه أباك! فعفا عنه، فقال بشر " من الطويل " :
إني على ماكان مني لنادمٌ ... وإني إلى أوس بن لام لتائب
وإني إلى أوس ليقبل توبتي ... ويعرف ودي ما حييت لراغب
فهب لي حياتي والحياة لقائم ... بشكرك فيها خيرُ ماأنت واهب
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادقٌ ... كتاب هجاه فيك إذ أنا كاذب
قال: وكان في البصرة فتى ظريف يغشاه فتيان البصرة يتحدثون عنده، وكان في
كوخ من قصب، فشربوا يوما عنده، فقال بعضهم: ألا نبني لك داراً؟ فقال
أحدهم: عليّ الآجر! وقال الآخر: علي الجص! وقال الآخر: عليَّ البناء! قال:
فصير كوخه قصرا في ساعة بالقول، فلما طال ذلك عليه قال " من الوافر " :
لنا كوخ يهدم كل يوم ... ويبنى ثم يصبح جذم خص
إذا مادارت الأقداح قالوا ... غدا يبنى بآجر وجص
وكيف يشيد البنيان قوم ... يزجون الشتاء بغير قمص
قال: فحدثت به الرشيد، فضحك وقال: ولكنا نبني لك قصرا. ثم أمر لي بألفي
دينار.
وقال: سمعت الرشيد يقول: قلب العاشق عليه مع معشوقه، فقلت: هذا والله،
ياأمير المؤمنين، أحسن من قول عروة بن حزام العذري لعفراء " من الطوبل " :
أراني تعروني لذكراك روعة ... لها بين جلدي والهظام دبيب
وأصرف عن {ايي الذي كنت أرتئي ... ويعزب عني ذكره ويغيب
ويضمر قلبي غدرها ويعينها ... عليَّ فما لي في الفؤاد نصيب
فقال الرشيد: من قال هذا وهما فإني أقوله علما. ولله درك، يا أصمعي! فإني
أجد عندك ما يضل عن العلماء. - قال الصولي: أخذه العباس بن ألحنف بل غيره
فقال " من الطويل " :
يهيم بحران الجزيبرة قلبه ... وفيها غزال فاتر اللحظ ساحره
يؤازره قلبي عليَّ وليس لي ... يدان بمن قلبي عليَّ يؤازره
فأخذه سهل بن هارون فقال " من البسيط " :
أعان طرفي على جسمي وأعضائي ... بنظرة وقفت جسمي على دائي
وكنت غراً بما تجني عليَّ يدي ... لا علم لي أنَّ بعضي بعض أعدائي
وقال البحتري " من البسيط " :
ولستُ أعجبُ من عصيان قلبك لي ... يوماً إذا كان قلبي فيك يعصيني
وأشار ابن الأحنف إلى هذا فقال " من السريع " :
قلبي إلى ماضرني داع ... يُكثرُ أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدُوّي بين أضلاعي
قال: وكان الرشيد يتمثل بهذين البيتين " من المنسرح " :
أكني بغير أسمها وقد علم الله ... خفيات كلّ مكتتم
مخافة الكاشح المفتش أن ... يُظهر فينا عوائر الكلم
قال: وقدمت من سفر على الرشيد، فاستبطأني، فقلت: ماألاقتني أرضٌ
حتى رأيت أمير المؤمنين. فلَّما خرج الناس قال: مامعنى أقتني؟ قلت ما
الصقتني بها ولا قبلتني. فقال: هذا حسنٌ ولكن لاتكلمني بين يدي الناس إلا
بما أفهمهُ حتى أجد جوابه، فإذا خلوت فقل ماشئت، فإني أسألك عمَّا
لاأعلمُ، وإنه يقبح بالسلطان أن يسمع ما لايدري، فإما أن يسكت فيعلم الناس
أنه مالاقهم، أو يجيب بغير الجواب فيتحقق عندهم ذلك. فقلت: قد والله
أفادني أمير المؤمنين من الأدب أكثر مما أفدته.
وقال: قال لي المأمون أيام الرشيد: لمن هذا البيت " من البسيط " :
ما كنت إلا كلحم ميت ... دعا إلى أكله اضطرار
قلت: لابن أبي عيينة المهلبي عبد الله. فقال: كلامٌ شريفٌ! ثم قال لي كأنه
من قول الشاعر " من الطويل " :
وإن بقومٍ سوَّدوك لفاقةً ... إلى سيدٍ لو يظفرون بسيد
فقلت: والله جاء به الأمير وعجبتُ من فهمه مع صغر سنه.
وقيل: إن تاجراً قدم بغداد بعدل خمر سودٍ فبارت عليه، فقال عبد الله ابن
مسلم بن جندب الهذلي " من الكامل " :
قلْ للمليحة في الخمار الأسود ... ماذا صنعت براهبٍ متعبد
قد كان شمَّر للصلاة ثيابه ... حتى وقفت له بباب المسجد
فلمَّا قالها بضاعته.
وقال: لمَّا مات محمد بن سليمان بن علي الهاشمي دخلت على أخيه جعفر بن
سليمان، وقد حزن عليه حزناً شديداً ولم يطعم ثلاثاً، فأنشدته لابن أراكة
الثقفي " من الطويل " :
لعمري لئن أتبعت عينك مامضى ... من الدهر أو ساق الحمام إلى القبر
لتستنفذن ماء الشؤون بأسره ... ولو كنت تمريهن من ثبج البحر
وقلت لعبد الله إذ حنَّ باكياً ... تعزَّ وماء العين منحدرٌ يجري
تبين فإن كان البُكا ردَّ هالكاً ... على أحدٍ فاجهد بكاك على عمرو
ولا تبك ميتاً بعد ميتٍ أجنَّه ... عليٌّ وعبَّاسٌ وآل أبي بكر
قال: فأمر فجيء بالطعام وأكل من ساعته.
وقال: لما أوقع الرشيد بالبرامكة " من المتقارب " :
إذا ذُكر الشرك في مجلسٍ ... أضاءت وجوهُ بني بَرْمَكِ
وإن تُلْيت عندهمُ سُورةُ ... أتوا بالأحاديث عن مزدك
وقال الفضل بن الربيع " من الكامل " :
انظر إلى ابن الفاعلين وكبره ... حتى كأن أباه عبدُ مناف
لاذنب لي فيه ولكن للذي ... وضع اللئام مواضع الأشراف
قال: وسألني الخليل بن أحمد عن قول السمؤل " من الخفيف " :
ينفع الطيب القليل من الرز ... قِ ولاينفع الكثير الخبيت
ما معنى قوله الخبيث؟ فقلت: اليهود تُبدل الثاء تاء، وإنما أراد الخبيث.
قال: فلم لم يقل الكتير؟ فسكت.
قال: وأنشدت قاضي المدينة محمد بن عمران الطلحي قول أبي الشمقمق " من
السريع " :
يا أيها السائلُ عن منزلي ... نزلتُ في الخان على نفسي
آكل من مالي ومن كسرتي ... حتى لقد أوجعني ضرسي
يغدو عليَّ الخبزُ من خابزٍ ... لايقبل الرهن ولا ينسي
فقال: إن هذه الملح إنما تعجب عقلاء الرجال، اكتبها! فقلت: أصلحك الله!
إنما يروي هذه الأحداث. فقال: ويحك الأشراف تعجبهم الملاحة! وقال إسحاق بن
إبراهيم: قال لي الأصمعي ونحن نريد الرقة مع الرشيد: كم حملت معك من كتبك؟
قلت: خففَّت فحملت ثمانية عشر صندوقا. فقال لي: أو هذا تخفيف؟ هذا نهاية
التثقيل! - وأنشد إسحاق بن إبراهيم الأصمعي قوله في غضب المأمون عليه " من
البسيط " :
يا سرحة الماء قد سُدَّت مواردهُ ... أما إليك طريقٌ غير مسدود
لحائم حامٍ حتى لا حيام به ... مُحَلاٍّ عن طريق الماء مطرود
فقال الأصمعي: أحسنت في الشعر غير أن هذه الحاءات، لو كانت اجتمعت في آية
الكرسي لعابتها! - وأنشد الأصمعي " من الوافر " :
وقالوا: يا جميلُ أتى أخوها ... فقلت: أتى الحبيب أخو الحبيب
أحبك والقريبُ بنا بعيدٌ ... لأن ناسبت بتنة من قريب
وقال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو " من الطويل " :
أرى كُلَّ وادٍ أوطنتها وإن خلت ... لها حججٌ يندى بمسك ترابها
حلفت بأني لو أرى تبعاً لها ... ذئاب الغضا حُبَّت إليَّ ذئابها
وقال إسحاق بن إبراهيم: قرأت على الأصمعي شعر امرئ القيس، فلمَّا بلغت إلى
قوله " من الطويل " :
أمن أجل أعربيةٍ حَلَّ أهلها ... بروض الشرى عيناك تبتدران
فقال لي: أتعرف في هذا البيت خبئاً باطناً غير ظاهر؟ قلتُ: لا. فسكت عني،
فقلت: إن كان فيه شيءٌ فأفدنيه! قال: نعم، أما يدلك هذا البيتُ على أنه
لفظ ملكٍ مستهين ذي قدرة على مايرد؟ - قال الأصمعي: ليس في وصف الدرّ شيءٌ
أحسن من قول رؤبة " من الرجز " :
كأن خلفيها إذا ما درَّاً ... جروا هراش حرشاً فهرا
قال الأصمعي: أنشد رجلٌ بشاراً وأنا حاضرٌ قول الشاعر " من الطويل " :
وقد جعل الأعداء ينتقصوننا ... وتطمع فينا ألسنٌ وعيونُ
ألا إنما ليلى عصا خيزرانةٍ ... إذا غمزوها بالأكف تلينُ
فقال بشار: والله لو جعلها عصا مخٍ أو عصا زبدٍ، لما كان إلا مخطئاً مع
ذكر العصا! ألا قال كما قلتُ " من الوافر " :
وحوراء المدامع من معدٍ ... كأن حديثها قطعُ الجنان
إذا قامت لسحبتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
ينسيك المنى نظرٌ إليها ... ويصرفُ وجهها وجه الزمان
قال: وأنشدنا لنفسه يفخر بالعمى " من الطويل " :
عميتُ جنيناً والذكاءُ من العمى ... فجئتُ عجيب الظن للعلم موئلاً
وغاض ضياء العين للعقل رافداً ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصَّلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه ... بقولٍ إذا ما أحزن الشعر أسهلا
وكان يقول: الحمد لله الذي ذهب ببصري! فقيل له: لم، يا أبا معاذ؟ فقال:
لاأرى من أبغضُ.
وقال الأصمعي: كان بخلاء العرب أربعة كلهم شاعر: الحطيئة وحميد الأرقط
السعدي وأبو ألسود الدُؤلي وخالد بن صفوان التميمي. فأما الحطيئة فإنه كان
يرعى غنماً له وفي يده عصا، فصاح به رجلٌ يستضيفه: ياراعي الغنم! ففطن أنه
ضيفٌ فقال: هذه عجراء من سلم! قال: إني ضيف. قال: للضيفان أعددتها. وأما
حميد ألرقط فإن ضيفاً دخل إليه ليلاً فقال لامرأته: لك الويل والثبور،
قومي إلى المشئوم، فأصلحي له! لإاصلحت له، فجعل الرجل يأكل ويقول: مافعل
الحجاج؟ فلما فرغ قال حميد " من الطويل " :
يخرُّ على الاطناب من فرحٍ بنا ... هجفٌ لمخزون التحية باذلُ
يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجَّاجُ بالناس فاعلُ
فقلت: لعمري ما لهذا طرقتني ... فكلُ ودعِ الأخبار ما أنت آكل
تدبّل كفاه ويحدر حلقه ... إلى الصدر ما ضُمَّت إليه الأنامل
أتانا ولم يعدله سحبان وائلٍ ... بياناً وعلماً بالدهر هو قائلُ
فما زال عنه اللقمُ حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
وأما أبو الأسود فإنه كان له دكان وكان لايسع إلا موضع طبق، فمرَّ به
أعربيٌ على فرس، فدعاه إلى طبقه، فدنا، فأكل فقال له: عندنا ما تحب، فتعال
إذا شئت! وعمد أبو الأسود إلى شنةٍ يابسة فجعل فيها حصى وجعلها تحت ركبته،
فلما مرّ به الأعرابيُّ قال له: ادن! فدنا، فقعقع أبو الأسود الشنة، فنفر
الفرس بالأعرابي، فدق ترقوته. وأما خالد بن صفوان فإنه مرض، فوصف له
الطبيب فروجاً، فقال: وما الفروج؟! ثمّ ألحّ عليه الطبيب، فاشترى فروجا
فأكل بعضه، ودخل عليه رجلٌ من قريش، فخاف أن يأكل معه فقال خالد مبتدئاً:
نتغدَّى بنصف هذا الفروج، ونتعشَّى بباقيه، ثمّ قال " من الطويل " :
تداري زماناً عارماً بصرُوُفه ... ومن لايداري عيشه ليس يعقلُ
فخرج القرشي وهو يقول " من الطويل " :
تعلمت ترنيق المعيشة بعدما ... كبرتُ وأعداني على البخل خالد
وأنشد للعباس بن الأحنف " من البسيط " :
أتأذنون لصبٍ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لايضمر السُوء إن طال الجلوس به ... عفُّ الضمير ولكن فاسقُ النظر
وتذاكروا عنده شعر العباس بن الأحنف، فتسخَّطه وقال: والله ما يؤتى من
جودة المعنى ولكنه سخيف اللفظ، ألا ترى قوله " من السريع " :
اليوم مثلُ الحول حتى أرى ... وجهك والساعات كالشهر
إنَّ الذي أضمر عند الذي ... أظهر كالقطرة في البحر
لو شقَّ عن قلبي قُري وسطه ... ذكرك والتوحيدُ في سطرِ
ثمّ قال " من السريع " :
يا من تمادى قلبه في الهوى ... سال بك السيلُ وما تدري
أبعد أن قد صرت أحدوثة ... في الناس مثل الحسن البصري
لعمري أنّ الحسن البصري مشهورٌ ولكن ليس هذا موضع ذكره! - وأنشد لأبي
العتاهية " من الرمل " :
أنت ما استغنيت عن صا ... حِبك الدهر أخوه
فإذا احتجت إليه ... ساعةً مجكَ فوهُ
أهنأ المعروف مالم ... تبتذلْ فيه الوُجوه
وقال: ماوصف أحدٌ الثغر إلا احتاج إلى قول بشر بن أبي خازم " من الوافر " :
يفلجنَ الشفاه عن أقحوانٍ ... جلاهُ غِبٍ ساريةٍ قطارُ
ولا وصف أحد اللون بأحسن من بيتي عمر بن أبي ربيعة المخزومي " من الخفيف "
:
وهيَ مكنونةٌ تَحيّر منها ... في أديم الخدين ماء الشباب
شفَّ منها محققٌ جنديٌّ ... فهيَ كالشمس من خلال السحاب
قال: ولاوصف أحدٌ عيني امرأة إلا احتاج إلى قول عدي بن الرقاع " من الكامل
" :
لولا الحياء وأن رأسي قد بدا ... فيه المشيب لزرتُ أمَّ القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحورُ من جآذرِ جاسم
وسنان أقصدهُ النُعاس فرنقتْ ... في عينه سنةٌ وليس بنائم
ولا وصف أحدٌ نجيباً إلا احتاج إلى قول حميد بن ثور " من الطويل " :
محلى بأطواق عتاقٍ يبينها ... على الضُرّ راعي الضأن لو يتقوفُ
ولا وصف أحد ظليماً إلا أحتاج إلى قول علقمة بن عبدة " من البسيط " :
هَيقٌ كأن جناحيه وجؤجوهُ ... بيتٌ أطافت به خرقاءُ مهجومُ
ولا أعتذر أحدٌ إلا احتاج إلى قول النابغة " من الطويل " :
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسعُ
ولم يبتدئ أحدٌ من الشعراء مرثية أحسن من أبتداء أوس بن حجر " من المنسرح
" :
أيتها النفس أجملي جزعاً ... إنَّ الذي تحذرين قد وقعا
إنَّ الذي جمَّع السماحةَ والنجدة والحزم والتقُى جُمعا
الألمعي الذي يظنُّ لك الظَّنَّ كأن قد رأى وقد سمعا
وأصدق ما قالته العربُ قولُ الحطيئة " من البسيط " :
من يفعل الخير لايعدم جوازيهُ ... لايذهب العرف بين الله والناس
قال: وهو بيتٌ أوّله مثلٌ وآخره مثلٌ. وأحسن ماقيل في الكبر قولُ حميد بن
ثور " من الطويل " :
أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصحَّ وتسلما
وألام بيتٍ قاله رجلٌ ينشد وهو يسمع - وقال هذا لقلة حنينه إلى ألافه " من
البسيط " :
تلقى بكلُ بلادٍ إن أقمت بها ... أهلاً بأهل وجيراناً بجيران
وأحسن ماقيل في صفة امرأة عجزاء خميصة قولُ الأعشى " من البسيط " :
صفرُ الوشاحين ملء الدرع بهنكةٌ ... إذا تأتي يكادُ الخصر ينخزل
وأحسن من هذا قولُ أبي وجزة السعدي " من الكامل " :
أدماءُ في وضح يكادُ رداؤها ... يغري ويصنعُ ما أحبَّ إزارها
وأشعر أبيات وصف بها الفرس قولُ النابغة " من المنسرح " :
وغارةٍ تسعرُ المقانب قد ... سارعت فيها بصلدم صتم
فعمٍ أسيلٍ عراضِ أوظفة الرجلين خاظي البضيعِ ملتئم
في مرفقيه تحانف وله ... بركة زورٍ كجبأةِ الخزم
وهو طويلُ الجران مدَّ بلحييه ... فلم يأزما على كزم
خيط على زفرةٍ فتمَّ ولم ... يرجع إلى دقةٍ ولا هضم
وأحسن ما قيل في صفة الدروع " من الطويل " :
وبيضٍ من النسج القديم كأنها ... نهاءٌ نقيعٌ ماؤه متدافعُ
تصفقها هوجُ الجنوب إذا جرت ... وتعقبها الأمطار فالماء راجع
ولا شعر أشبه بالسنة من قول عديّ بن زيد " من الطويل " :
عن المرء لاتسأل وسلْ عن قرينهِ ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
ولم يقل شعر قكٌ مثل هذه الثلاثة المعاني في رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهي قول كعب بن زهير " من البسيط " :
تحمله الناقةُ الأدماءُ معتجراً ... بالبرد كالبدر جلَّي ليلةَ الظُلمِ
وفي عطافيه أو أثناء ريطته ... ما يعلم الله من دينٍ ومن كرم
وأجود بيتٍ في الغيث بيت الهذُليّ " من الطويل " :
لتُلقحه ريحُ الجنوب وتقبل ... الشمالُ نتاجاً والصبا حالبٌ يمري
قال: وقال الكميت " من المتقارب " :
مرته الجنوب فلما ... أكفهرَّ حلَّت عزاليه الشمألُ
قال: وأحسن ما قيل في وصف جيشٍ قولُ العجَّاج " من الرجز " :
كأنما زهاؤه لمن جهر ... ليلٌ ورزُّ وغره إذا وغر
سارٍ سرى من قبل العين فجرّ ... عيطّ السحاب والمرابيعَ الكُبَرْ
وأحسن ما قيل في وصف الإبل قولُ عمر بن لجاءٍ " من الرجز " :
أنعتها إني من نعاتها ... مندحَّةَ السُراتِ وادقاتها
أي عظيمة الجوف منبسطته دانيةٌ من الأرض،
مكفوفة الأخفاف محمراتها ... سابغةَ الأذناب ذيَّالاتها
يريد: أخفافها ليست بمنكسرة كأنها مكفوفةٌ بكفافٍ،
طَوَتْ ليومِ الخمس أسقياتها ... غابر ما فيها على بُلاَّتها
أي طَوَتِ البقية على البلات، واطو باقي سقاءك على بلله! أي وفيه بلل لا
تطوه على يبسٍ فينكسر وهذا مثلٌ،
وافقت الشمسَ بجمجماتها ... تمشي إلى رواءٍ عاطناتها
تجبس العانس في ريطاتها ... بالأجرع السهل إلى جاراتها
التجبُّس التميدُ والتميس، يقول: تمشي إلى الرواء التي رويت قبلها كما
تمشي هذه المرأة العانس،
كأنما نُطَّت إلى ضَرَّاتها ... مِن نخر الطلح مجوفاتها
قال: ولا أعرف للعرب من صفة القطا كقول المَرذَار " من الطويل " :
بلادٌ مروراةٌ يحارُ بها القطا ... ترى الرأل في حافاتها يتحدقُ
يظلّ بها فرخُ القطاةِ كأنه ... يتيمُ جفا عنه مواليه مُطرّقُ
مروراة كلّ أرض لاتنبت مثل العزاز، والرأل فرخ النعام. - قال: وأجودُ ما
قال الشعراء قول القيس في الطيب " من الطويل " :
ألم ترياني كلما جئت طارقاً ... وجدتُ بها طيباً وإن لم تطيَّبِ
قال: ولم أسمع وصف الطعنة بمثل هذا " تشهق " و " تهرُّ " كقول أوس بن حجر
" من المتقارب " :
وفي صدره مثل جيب العرو ... سِ تشهقُ حيناً وحيناً تهرّ
" جيب العروس " أراد: الصبغ بالدم، و " تشهق " أراد: إذا ردّ صاحبها نفسه
تصعَّد الدمُ، فسمعت لها شهيقاً، وإذا تنفس أسرع الدمُ إلى موضعها فاحتبس
على فمِ الجُرح، فسمعت له مثلَ الهرير. وقال: ثمّ بعد ذلك قولُ زياد
الأعجم في مرثية المغيرة بن المهلب " من الكامل " :
ومُدَّجج كره الكماة نزالهُ ... شاكي السلاح مسايفٍ أو رامح
سبقت يداك له الحتوف بطعنة ... شهقتْ لمنفذها أصولُ جوانح
قال: وأحسن ما قيل في وصف عمود الصبح قول ذي الرُمَّة " من الطويل " :
كأن عمودُ الصبح جيدٌ ولبَّةٌ ... وراء الدُجى من حُرّة اللون حاسِرُ
شبَّه بياض الصبح في الحمرة بعنق امرأة ولبتها، وقوله " وراء الدُجى " أي
بعد ما ذهب الدجى. - قال: وأحسن ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي:
ألا أيها الغائرُ المستشيطُ ... علامَ تغار إذا لم تغرْ
فما خير عرس إذا خفتها ... وما خير بيتٍ إذا لم يُزرْ
تغارُ على الناس أن ينظروا ... وهل يفتن الصالحات النظرْ
فإني سأخلي لها بيتها ... فتحفظ في نفسها أو تذرْ
إن الله لم يُعطه زُدَّها ... فلن يعطي الوُدَّ سوطٌ ممر
يكاد يقطع أضلاعه ... إذا ما رأى زائراً أو نفر
فمن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضرَّه والمطيَّ السفر
قال: وكان الأصمعي كثيراً يردد هذين البيتين في العشق " من الطويل " :
سقى اللهُ أياماً لنا لسنَ رُّجعا ... وسقيا لعصر العامرية من عصر
ليالي أعطيت البطالة مقودي ... تمرُّ الليالي والشهورُ ولا أدري
قال: وسأل رجلُ من أشراف البصرة عن معنى قول زهير وقال: أوجزوا
التفسير " من الطويل " :
ومن يعص أطراف الزجاج فإنه ... يطيع العوالي ركبت كل لهذم
فذهبوا في التفسير كلَّ مذهب، فسأل الأصمعي فقال: مثل قولهم: من عصى السوط
أطاع السيف. - قال المبرد: كانت العرب إذا جاءت تطلب صلحاً فعلامتهم أن
يؤخروا صدور رماحهم فيقدموا زجاجها، فإن لم يقبلوا الصلح قلبوا الأسنة
للحرب. - وسئل عن قول امرئ القيس " من الطويل " :
وهل ينعمن إلا سعيدٌ مخلَّدٌ ... قليلُ الهموم ما يبيت بأوجال
قال: هذا مثل قولهم: استراح من لاعقل له! وقال ابو حاتم: سألت الأصمعي عن
قول المتلمس " من الطويل " :
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرعُ العصا ... وما علم الإنسان إلا ليعلما
فقال: أراد به: إنما يقبل التذكرة والوعظ ذو العقل، وكان ذلك أن عامر بن
الظرب العدواني حاكم العرب كان قد اضطرب حكمه لطول عمره، فقال لولده: إذا
رأيتموني أحكم بصواب فأمسكوا! وإذا رأيتموني قد اضطربت فحركوا عصا في
أيديكم! وقال: إلا ترى إلى قول الآخر " من الكامل " :
وزعمتم أن لاحلوم لنا ... إن العصا قرعت لذي الحلم
قال المازني: سألت الأصمعي عن بيت الأعشى " من البسيط " :
وما طلابك شيئاً لست مدركه ... إن كان عنك غراب الجهل قد وقعا
وأنشدته أنا لأبي حية النميري " من المتقارب " :
زمان عليَّ غرابٌ غدافٌ ... فطيَّره الدهرُ عني فطارا
فقال الأصمعي: أراد أن جهل شبابه الذي شعره أسود فيه كريش الغراب، قد طار
عنه بشيبه. وأنشدني " من المتقارب " :
زمان عليّ غرابٌ غدافٌ ... فطيَّره القدر السابق
وصار على وكره عقعق ... من البلق ذو شيبةٍ ناغقُ
وسئل عن بيت ابن مقبل " من المتقارب " :
لعمر أبيك لقد شاقني ... خيالٌ حزنتُ له إذ حزن
فقال: هذا مثلُ قول مزاحم العقيلي " من الطويل " :
بكت دراهم من نأيهم فتسرعت ... دموعي فأي الباكيين ألومُ
أمستعبراً يبكي على الهون والبلى ... أم اخر يبكي شجوه ويهيم
وليس ثمَّ حزن ولا ههنا بكاء. - قال: وأنشد عنده أبيات دعبل " من الكامل "
:
أين الشبابُ وأيَّةً سلكا ... لا أين يُطلب ضلَّ بلْ هلكا
لا تعجبي يا سلمَ من رجلٍ ... ضحك المشيبُ برأسه فبكى
قد كان يضحك في شبيبته ... فأتى المشيبُ فقلَّما ضحكا
يا سلم ما بالشيبِ منقصةٌ ... لاسوقةً يبقي ولا ملكا
قصر الغواية عن هوى قمرٍ ... وجد السبيلَ إليه مشتركا
لاتأخذا بظلامتي أحداً ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
فعجب الناسُ من قوله: " ضحك المشيب برأسه فبكى " ، فقال: إنما أخذ قوله من
قول الحسين بن مطير الأسدي حيث يقول " من الخفيف " :
أين أهلُ القباب بالدهناء ... أين جيراننا على الأحساء
جاورونا والأرضُ ملبسةٌ نو ... رَ الأقاحي تجادُ بالأنواء
كلَّ يومٍ بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماء
قال: وقد أخذه أيضاً مسلم بن الوليد صريعُ الغواني حيث يقول " من السريع "
:
مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ ... ورأسه يضحكُ فيه المشيب
وقال الأصمعي: أولُ الإبل الذود إلى العشرة، فإذا بلغت الخمسة عشر إلى
عشرين فهي الصرمة، فإذا بلغت ثلاثين أو أربعين فهي صُبَّة، فإذا بلغت
خمسين إلى الستين فهي هجمة، فإذا بلغت سبعين إلى الثمانين فهي العكرة،
فإذا بلغت مائة فهي هنيدة بلا ألف ولا لام، فإذا بلغت السبع مائة إلى الأف
فهي العرج، والبرك إبل الحيّ. - وقال: إنما سُميّ مُضَرُ مضرَ لشدة بياضه،
ومنه المضيرة لبياضها.
وقال: في الحمار عشرة أمثال: الجحش لمَّا بذَّك الأعيارُ؛ وأنكحت الفراء
فسترى؛ وكلُّ الصيد في جوف الفراء؛ ومن ينك الفراء ينك نياكاً؛ والعير
أوقى لدمه؛ وأصبر من عير أبي سيارة، وذلك أنه دفع بالناس أربعين سنة
بعرفات؛ وأخرب من جوف حمار؛ والعيرُ يضرط والمكواة في النار؛ وإن ذهب عيرٌ
فعيرُ في الرباط. وقال المتلمس في أذلَّ من الحمار والوتد " من البسيط " :
ولا يقيم بدار ليس يعرفها ... إلا الأذلاَّنِ عير الأهل والوتدُ
وقال الرياشي: ألقى الأصمعي علينا قول بعض الشعراء " من الطويل " :
أحِبُّ من النسوان كُلَّ قصيرةٍ ... لها نسبٌ في الصالحين قصيرُ
ثمّ قال: سلوا! فسألنا فلم نجد أحداً يقف عليه، فقال: أما قوله: " أحب من
النسوان كلَّ قصيرة " فكأنه قال: أُحب أن أتزوج امرأة، إذا سألتُ عنها
قيل: حسبك بها فضلاً وديناً وعقلاً وجمالاً، فقد كُفيت أن أسأل عن حالها،
فإذا سألتُ عن أبيها قيل: به رجلاً صالحاً ديّناً: وأنشد الأصمعي " من
الطويل " :
أحبُ من النسوان كلَّ طويلةٍ ... لها نسبٌ في الصالحين طويلُ
وقال: هذه المرأة ليست في شهرة تلك الأولى، هذه أحتاج أني أسأل الناس عنها
وعن جمالها ودينها وأسأل عن آبائها حتى أعرف من هم مثل معرفتي تلك.
قال: وقد جاء في الحديث: نهى عن جداد النخل بالليل أي صرامه قال: والحال
الحمأةُ، وفي الحديث: إن جبريل عليه السلام لمَّا دعا فرعون عند الغرق أخذ
من حال البحر فأدخله في فيه.
وسأل حضري بدوياً: هل عندكم مايرعى؟ فقال البدوي هازئاً به: نعم عندنا
مقمل ومدبٌ وباقل وحانط وثامر ووراس! وإنما عني بهذا كله الرمث، وذلك أن
الرمث أول ما يتفطر بالنبت يقال: قد أقمل، فإذا زاد على التفطر شيئاً قيل:
قد أدبي، ثمّ هو الباقل، ثمّ هو الحانط أي المدرك، وكلُّ مدركٍ يقال له:
حانط ويقال: حنط ابنك فزوجه! وهو يحنط حنوطا، والثامر الذي قد خرج ثمره،
والوارس الذي قد أصفر وكاد يتحاتُ ويتساقط، وقد أورس الشجر إذا دخلته
صفرة. - قال: وكلُّ نبتٌ مالحٍ فهو الحمض نحو الرمث والعضاه والطرفاء
والخذراف، فأما الرُغْل والقلام والبرم والطحماء والدرماء والنجيل
والسعدان فالخلة، والخلة خبز الإبل والحمض لحمها.
وسئل عن قول عليّ عليه السلام: أشكو إليك عجري وبجري، فقال: همومي
وأحزاني. - وقال في قوله: دمُ عفراء أفضل من دم سوداء عند الله، العفراء
البيضاء وهي المبيضة البطن من الشحم والسمن، والسوداء التي بطنها أسود
فليس فيه شحم.
قال: وكان شيخٌ من الكتاب يجالسنا عند أبي عمرو بن العلاء فنظر إلى رجلٍ
قد جاء خطُّه، فقال: قد ضاع خطُّك وارتفع! أي ظهر وجاد، ومنه قول الشاعر "
من الطويل " :
تضوَّع مسكاً بطنُ نعمان أن مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطراتِ
يُخمرن أطراف البنان من التقى ... ويرقدن جنح الليل معتجرات
قال: والعارض في قول جرير " من الوافر " :
أتذكر يوم تصقلُ عارضيها ... بعودٍ بشامةٍ سُقي البشام
هو السن الذي يلي الناب. قال: ويقالُ لأعمال مكة والمدينة العروض،
والأعراض القرى واحدتها عرضٌ؛ والعرض بسكون الراء المال الذي ليس بنقد،
وبتحريك الراء المال كله؛ وعلق فلان فلانة عرضاً أي من غير تعمد. - وقال:
النهار فرخ الحباري، والبقرة العيال الكثير، يقال: جاء فلان يجرُ بقرة أي
عيالاً. - ومرَّ فلان يتساوك أي مرّ يتثنى في عطفيه، ومن ثمَّ سميَّ
المسواك مسواكا لتردده في جانبي الفم. - وتقول العرب عند الوجع: حس!
معناه: وه! وحسسته قتلته، قال الله تعالى: (إذ تحُسُّونهم بإذنه). -
والتزوير إصلاح الكلام، ومنه قول عمر يوم سقيفة بني ساعدة: كنت زوَّرت في
صدري مقالةً أقوم بها بين يدي أبي بكر، فجاء أبو بكر فما ترك شيئاً مما
كنتُ زورته إلا تكلم به. - قال: واسم دجلة دغليثا، فأعربوها فقالوا: دجلة.
- وعمل العراق من هيت إلى الصين والهند والسند، ثمّ هكذا إلى الريّ
وخراسان إلى الديلم والجبال كلها وطبرستان. وقال: إصبهان سُرَّة العراق
فتحها أبو موسى؛ والجزيرة ما بين دجلة والفرات والموصل.
قال الأصمعي: كان أبو فرعون الساسي سائلا بالبصرة، وكنتُ أسمع أبا عمرو بن
العلاء يذكر فصاحته ويقول: إنه أفصح أهل البلد، وكان مياسير أهل البصرة
يعرضون عليه الكفاية، فيأبى إلا المسألة. قال الأصمعي: فمكثتُ حولاً أطلبه
لاأقدر عليه لشغله مع أهل البصرة بالشراب وغيره، فغدوت يوماً مع الأخفش
الأكبر أبي الخطاب، نأتي قوماً من الأعراب اقتحمتهم السنة، فبيننا نحن في
بعض سكك البصرة إذا نحن بشيخٍ قصير عظيم الهامة كث اللحية وفي يده زبيل
وهو يقول " من الرجز " :
لقد غدوتُ خلقَ الثيابِ ... معلقَ الزبيل والجراب
طبَّا يدقُّ حلق الأبواب ... أسمعُ ذات الخدر والحجاب
ثمّ أتى باباً فقرع حلقته ثم قال: أنيلونا، نالتكم الشفاعة! فخرجت إليه
عجوز شهيرة فقالت: بورك فيك، ياسائل، ارجع، فما لك عندنا نائل! فأنشأ يقول
" من الرجز " :
ربَّ عجوز خبَّة زبون ... سريعة الرد على المسكين
تظن أن بوركا يكفيني ... إذا غدوت باسطاً يميني
عدمت كل عجلة تؤذيني
قال: فقال الأخفش: ألا تسمع لهذا الشويخ ما أفصحه وأسرع إجابته؟! قال:
فقلت: إن كان أبو فرعون حيَّاً فهو ذا! ومانحن يومنا بلاقٍ أحداً من
الأعراب أفصح منه ولاأظرف، فصيَّر شُغلنا اليوم به! فقال: ذلك إليك!
فأتيتهُ فقلت: ياشيخُ، هل لك في فليسات وطعام؟ فقال: أي بأبي، وأين ذلك؟
قال: قلت: عندي! قال: فصيّر مدرجتك لي وادياً حتى أكون له سبيلاً! فانطلقت
به إلى المنزل، فقلت: أسألك عن أشياء. فقال: ياشيخ، ألا أرى سؤالك نقداً
وطعامك نسيئةًظ! فقلت: أي جارية، هاتي ماحضر! قال: وهذه رفع حشمة قبل ورود
مودةٍ! فجاءت الجارية بخوانٍ وأرغفة، فانثنى على جوانبها فأكلها، فلمَّا
نظرت إليه الجارية يلتقم الرُعفان أقبلت بجميع ما في سندانتها من خبز فرمت
به بين يديه ثمّ قالت: كل! اصطحبت بارداً! فلمَّا نظر إلى كثرة الرُعفان
جثا على ركبتيه ثمّ أنشأ يقول " من الرجز " :
إني على ما كان من هزالي ... وخفَّةِ اللحم على أوصالي
أثلِم حرفَ القرص من حيالي ... ثلمَ المحاقِ جانب الهلال
فأهوت الجارية إلى الخوان فرفعت ثمّ قالت: أي مولاي، إنما أمر اللهُ عزّ
وجلّ بالتسمية على الطعام، فأما بالارتجاز فلا! فالتفت إليَّ فقال: ياشيخ،
وللمنزل ربٌّ سواك أما إنه قد قيل في الامثال: لاتحمدن أمةً عام اشترائها
ولا فتاةً عام هدائها؟! والله لولا أنها عرفتك بديدنك ما سبقتك إلى أمرٍ
لا تريده، فها هي هذه قد ملكت خوانها فأين فليساتك التي وعدتنيها؟ قال
الأصمعي: فالتفت إليَّ الأخفش فقال: أبا سعيد، أنت كما قال الشاعر " من
الكامل " :
سقط العشاء به على سرحان
والرأي لك إن قبلت النجاء، فأخرجه راشداً لاعليك ولا لك! فقال: لله أنت
جربَّةٌ جمعتم والله لو كنتم باهليين مازدتم! أما والله لآتين غداً شيخاً
لكم قد وصف بالحذق باللؤم والتعليم له فأمتدحتكم عنده، لعلَّ الله أن
ينفعكم بي، إذ ضرَّني بكم. قال الأخفش: فما شككتُ أنه يعني سعيد ابن مسلم!
فقلت: ياأعرابيُّ، ومن شيخنا يرحمك الله؟ قال: أصيمعي ههنا ذكر لي، بلغني
أنّ أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب عليه السلام قطع يد جده في شنٍ سرقه،
فلذلك سميَّ الأصمعي. فقلت: ياأبا الخطاب، نجني من هذا، ولك الإقرارُ
بالتصريف ما عشت! قال الأخفش: فقلت له: ياأعرابيُّ، قُم فقد أغناك الله!
فقال: وبمن؟ قلت: بي! قال: كلاّ والله إنَّ لوجهك لحراقيف تُدلُّ على أنك
وهذا الشيخ رضيعاً لبان! ثمّ تناول زبيله، فأقبلتُ أقول: اللهمَّ أخرجه
عنَّا في عافيةٍ! فخرج وهو يقول " من الرجز " :
ياربَّ جبسٍ، قد غدا في شانه ... لا يسقطُ الخردلُ من بنانهِ
ولايريمُ الدَهْرَ من مكانه ... أشجع من ليثٍ على دُكانِهِ
لايطمعُ السائلُ في رُغفانهِ ... لم يُعطني الفلس على هوانهِ
يا ربّ فالَعَنْه بترجمانه
وانصرف.
قال: وقال خلف بن خليفة الأقطع يمدح يزيد بن عمر بن هبيرة ويصف قصره الذي
بناه - وقال الفضل بن الربيع: هو لابن أبي عُيينة المهلبي في قصر عيسى بن
جعفر بالخُريبة " من البسيط " :
زُرْ وادي القصر نعمَ القصرُ والوادي ... لابُدَّ من زورةٍ عن غير ميعاد
زرهُ فليس له شبهٌ يعادله ... من منزل حاضرٍ إن شئت أو بادِ
تُرفى قراقيره والعيسُ واقفةٌ ... والنونُ والضَبُّ والملاحُ والحادي
قال: أخذه من الذي يقول " من الكامل " :
مُكَّاؤُها غَرِدٌ ... يُجيبُ الخضر من ورشانها
قرنتْ رؤوسُ ظبائها ... بالزرق من حيتانها
وقال: دخلت البادية فإذا أنا بأعرابية على قبرٍ وهي تنشد " من البسيط " :
هل أخبر القبر سائليه ... أو قرَّ عيناً بزائريه
أو هل تراه أحاط علماً ... بالجسد المستكن فيه
لو يعلم القبر من يراري ... تاه على كلٍ مايليه
ياموت لو تقبل افتداءٍ ... لكنتُ بالنفس أفتديه
أنعى يزيداً لمعتفيه ... أنعى يزيداً لمعتريه
ياجبلاً كان ذا امتناع ... وركن عزٍ لآمليه
يانخلة طلعها نضيدٌ ... يقربُ من كفِ مجتنبيه
تحلو نعم عنده سماحاً ... ولم تطب قطُّ لابفيه
ويا مريضاً على فراشٍ ... تؤذيه أيدي ممرضيه
ويا صبوراً على بلاء ... كان به اللهُ يبتليه
يا موت ماذا أردت مني ... حققَّت ما كنتُ أتقيه
دهري رماني بفقد إلفي ... أذم دهري وأشتكيه
آمنك الله كلَّ روعٍ ... وكلَّ ما كنت تتقيه
قال: فدنوت منها. فقلت: من صاحب هذا القبر؟ قالت: والله لو علمت مكان أحدٍ
ماتكلمتُ! قلت: فإن رأيت أن تعيدي الأبيات؟ قالت: سبحان الله، أوبلغ منك
الجهل ما أرى؟ أقول لك: لو علمت مكان أحدٍ ما تكلمت! ثمّ تقول: أعيدي
الأبيات!؟ قلت: فإني قد حفظتها، أنشدك؟ قالت: نعم! فأنشدتها، قالت: لعلك
الأصمعي الذي يبلغنا خبره؟ فقلت: نعم! ثمّ انصرفت.
وقال: دخلتُ على الرشيد في الليل، فتذاكرنا أحوال القمر، فقلت: العربُ
تقول إذا كان ابن ليلة: رضاعُ سخيله حِلَّ أهلها برميله. قيل: ماأنت ابن
ليلتين؟ قال: حديثُ أمتين بكذب ومين. قيل: ماأنت ابن ثلاث؟ قال: قليلُ
اللباث. قيل: فما أنت ابن أربع؟ قال: عتمةُ أمّ ربع غير جائع ولا مرضع.
قيل: فابن خمس؟ قال: عشاءُ خلفات قعس - ويقال: حديثٌ وأنس. ويقال: سِر
وأمس. قيل: ماأنت ابن ست؟ قال: سِر وبت - وقيل: تحدَّث وبت. قيل: فابن
سبع؟ قال: دلجة ضبع - وقيل: أنسُ ذي الجمع. وقيل: حديثُ جمع. وقيل: يضفر
في النسع. وقيل: يلتقطُ في الجزع. وقيل: الودع. وقيل: عشيَّة أهل جمع. قيل
له: ماأنت ابن ثمان؟ قال قمرٌ إضحيان. قيل: ماأنت ابن تسع؟ قال: يثقبُ
فيَّ الجزع ويقطع الشسع. قيل: فما أنت ابن عشر؟ قال: ثلثُ الشهر - وقيل:
مخانقُ الفجر. وقيل: أوديك إلى الفجر. وقيل: أبادرُ الفجر. وقيل: ماأنت
ابن إحدى عشره؟ قال: أطلع عشاء وأرى بُكره - وقيل: أغيبُ بسحره. قيل:
ماأنت ابن إثنتي عشرة؟ قال: مؤنق للبشر بالبدو والحضر. قيل: ماأنت ابن
ثلاث عشرة؟ قال: قمرُ باهرٌ لكل ذي ناظر. قيل: ماأنت ابن أربع عشرة؟ قيل:
مقتبل الشباب أضيءُ مدجنات السحاب. قيل: ما ابن ست عشرة؟ قال: نقص الخلق
بالغرب والشرق. قيل: ماأنت ابن سبع عشرة؟ قال: أمكنتُ المقتفره - قال
ثعلبٌ: المقتفرةُ الذي يتبعُ الآثار، ومقفراته موضعه الذي يقصده. قيل:
ماأنت ابن ثماني عشرة؟ قال: انبسط أهل العشرة. قيل: ماأنت ابن تسع عشرة؟
قال: بطيءُ الطلوع بين الخشوع. قيل: ماأنت ابن عشرين؟ قال: أطلع بسحره
وأنتظر بالبهمه - قال ثعلب: وسط الليل. قيل: ماأنت ابن إحدى وعشرين؟ قال:
كالقبس يرى بالغس. قيل: ماأنت ابن اثنتين وعشرين؟ قال: بطيء السُرى إلا
ريث ماأرى. قيل: ماأنت ابن ثلاثٍ وعشرين؟ قال: أطلعُ في قتمه ولاأجلو
الظلمه في قتمه - أي في غبار. قيل: ما أنت ابن أربع وعشرين؟ قال: لاقمر
ولا هلال. قيل: ماأنت ابن خمس وعشرين؟ قال: دنا الأجل وانقطع الأمل. قيل:
ماأنت ابن ستٍ وعشرين؟ دنا فلا يرى مني إلا شفا - أي بقية. قيل: ماأنت ابن
سبع وعشرين؟ قال: أطلعُ بُكره ولا أرى ظهرا. قيل: ماأنت ابن ثمان وعشرين؟
قال: ضئيل لاصغير فلا يراني إلا البصير. قيل: ماأنت ابن تسع وعشرين؟ قال:
أسبق شعاع الشمس. قيل: ماأنت ابن ثلاثين؟ قال: هلالٌ مستبين.
وقال: كنتُ بالبادية فنظرت إلى أعرابي في يوم شديد البرد، وقد حفر لنفسه
حفرة في الأرض ودفن نفسه فيها وهو يقول " من الطويل " :
يا ربُّ هذا القُرُّ أصبح كالحاً ... وأنت بعدمي عالمٌ لاتعلمُ
فإن كنت يوماً ما جهنمَّ مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
قال الرياشي: كنا عند الأصمعي فجاءه رجلُ سكران وكان جارٌ له ندافاً، فقال
له: امدحني بالجوار! فقال له " من الكامل " :
حيَّاك ربُّك واصطحبت عصيدةً ... وإدامها زبد فزبد واندف
فقبَّل رجله وقال: جزاك الله خيراً! قال: ودخلتُ الحمَّام فوجدت رجلاً
وسيماً فقلت: مانسبك؟ قال: لاأدري. قلت: ماأسمك؟ قال: عمرويه؟ قلت:
فالصنعة؟ قال: حائك. فناولته ليفة وقلت: ادلك بهذا ظهري! وقلت " من الرمل
" :
إنما أنت لحاك الله ... يا عمرويه جيفه
كنتُ أرجوك فعند اليأس ... ناولتك ليفه
لو كما تنقص تزدا ... د إذن كنت خليفه
وقال: كنتُ أنشد هذا البيت ولا أرى له ثانيا " من الوافر " :
أرى للكأس حقاً لاأراه ... لغير الكأس إلا للنديم
فسمعت بعض أصحاب الحمَّامات يوقد ويقول " من الوافر " :
هو القطبُ الذي دارت عليه ... رحا اللذات في الدهر القديم
قال: جاؤنا بقثاء كأنه أُيور المراهقين وموزٍ كأذرع الأبكار. - قال: وقرأ
رجلٌ: (إنَّا أرْسَلْنا نُوحا) فأرتج عليه، فقال له نبطيُّ: خلفه إن لم
يذهب نوح فأرسل غيره. - وقال: كلُّ ما عمل من الدروع بالعراق فهو الفارسي،
وما عمل بالشام فهو السلوقي. - وكان إذا استثقل إنساناً أنشد " من البسيطط:
من يشتري ستةً مني بواحدةٍ ... أمَّن يبادلُ جيراناً بجيران
وسُئل: لمَ سمَّتَ العرب أولادها كلباً وذئباً وعبيدها ميموناً ومباركاً؟
قال: سمَّت أولادها لأعدائها وسمَّت عبيدها لأنفسها. - وقال: ماعرفتُ معنى
قول الله تعالى: (حَصَبُ جَهَنَّمَ) حتى سمعت أعرابية تقول: حصبتُ
التنَّور - أي أوقدته. - وقال: دهاة العرب أربعة: معاوية وعمرو ابن العاص
والسائب بن ألقرع والمغيرة بن شعبة، وكلُّهم وُلد بالطائف. - وقال: قلتُ
لأعرابي: خيرُ الغداء بواكره، فكيف في العشاء؟ قال: سوافره! يعني من قبل
مغيب الشمس.
وقال: دخلت على الرشيد بعقبٍ علَّة، فقال: كيف أنت؟ فقلت: شفاني الله
برؤية أمير المؤمنين، ولقد بتُّ بليلة النابغة! فقال: إنَّا لله، هو والله
قوله " من الطويل " :
فبتُّ كأني ساورتني ضئيلةٌ ... من الرقش في أنيابها السُمُّ ناقعُ
فعجبت من ذكائه وفطنته.
قال الرشيد يوماً: أنشدونا أحسن ماقيل في العقاب! فعذر القومُ ولم يأتوا
بشيء، فقال الأصمعي: من أحسنه " من البسيط " :
باتت يؤرقها في وكرها سغب ... وناهضٌ يخلسُ الأقواتَ من فيها
ثمّ استمرَّ بها عزمٌ فحدَّرها ... كأنما الريحُ هبَّتْ من خوافيها
ماكان إلا كرجع الطرف إذ رجعت ... ملأى تمطقُ ممَّا في أسافيها
ثمّ قال: وهذا امرؤ القيس يقول " من الطويل " :
كأن قلوبَ الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العُنَّابُ والحشفُ البالي
فقال الرشيد: لله درك، مامن شيء إلا وجدتُ عندك فيه شيئاً.
وقال: دخل العباس بن ألحنف على الرشيد وعنده الأصمعي، فقال: أنشدنا من
ملحك الغريبة! فأنشده " من الهزج " :
إذا ماشئت أن تصنع ... شيئاً يعجبُ الناسا
فصور ههنا فوزاً ... وصور ثمَّ عبَّاسا
ودع بينهما شبرا ... وإن زدتَّ فلاباسا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى رأسيهما راسا
فكذبها وكذبة ... بما قاست وما قاسى
فلمَّا خرج قال الأصمعي: مسترقٌ من العرب والعجم! فقال لي: ماكان من
العرب؟ فقلت: رجلٌ يقال له عمر هوي جارية يقال لها قمر، فقال " من الهزج "
:
إذا ما شئت أن تصنع ... شيئاً يعجب البشرا
فصور ههنا قمراً ... وصور ههنا عُمرا
فإن لم يدنو حتى ... ترى بشريهما بشرا
فكذبها بما ذكرت ... وكذبه بما ذكرا
قال: فما كان من العجم؟ قلت: رجلٌ يقال له فلق هوي جارية يقال لها روق،
فقال " من الهزج " :
إذا ماشئت أن تصنع ... شيئاً يعجبُ الخلقا
فصور ههنا روقاً ... وصور ههنا فلقا
فإن لم يدنوا حتى ... ترى خلقيهما خلقا
فكذبها بما لاقت ... وكذبه بما يلقَّى
قال: فبينا نحن كذلك إذ دخل الحاجب، فقال: عبَّاسٌ بالباب! فقال:
ايذن له! فدخل، فقال: ياعبَّاسُ، تسرقُ معاني الشعر وتدَّعيه. فقال:
ماسبقني إليه أحدٌ. فقال: هذا الأصمعي يحكيه عن العرب والعجم، ثمّ قال:
ياغلام، ادفع الجائزة إلى الأصمعي! فلَّما خرجنا قال العبَّاس: كذبتني
وأبطلت جائزتي! فقلت: أتذكر يوم كذا؟ ثمّ أنشأتُ أقول " من البسيط " :
إذا وترت أمرءاً فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لايحصدُ به عنبا
قال: وكان الأصمعي يكثر من إنشاد " من الطويل " :
فإن تجمع الأيام بيني وبينها ... بذي الرمثِ صيفاً مثل صيفي ومربعي
شددتُ بأعناق النوى بعد هذه ... مرائر إن جاذبتها لم تقطع
وذكر بإسناده عن أبي هلال الراسبي عن النبي صلى الله عليه وسل: سيَّدُ
إدام أهل الجنة اللحم وسيّد ريحان أهل الجنة الفاغية. قال الأصمعي:
الفاغية نور الحناء.
وقال: قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه " من الهزج " :
لاتصحب أخا الجهل ... وإياكَ وإياهُ
فكم من جاهلٍ آذى ... حليماً حين آخاهُ
يُقاسُ المرءُ بالمرء ... إذا ماهو ماشاهُ
وللشيْ على الشيء ... مقاييسٌ وأشباهُ
وقال عليّ عليه السلام على المنبر: ماأصبتُ من دنياكم هذه - أو قال: من
فنئكم - غير هذه القارورة - يريد قارورة الغالية - أهداها إليَّ دُهقانٌ -
قال: فرفع الدال - من دهاقين الشأم ورمُاَّنا أهدي إليّ من رُمَّان خلوان.
قال: ولقي عمر بن الخطاب رجلاً بطرف الحرة فقال له: ما أسمك؟ قال: طارق.
قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب. قال: ممن؟ قال: من الحرقة. قال: فأين منزلك؟
قال: بحرة النار. قال: بأيّها؟ قال: بذات لظى. قال: أدرك أهلك، فقد
أحترقوا! فرجع إلى أهله فوجدهم قد أحترقوا. - وقال: أتيتُ بعض الأعراب وقد
مات سيَّدٌ لهم وإذا بعضهم يقول " من الكامل " :
فلئن بكيناهُ فحُقَّ له البكا ... ولئن تركناهُ فللكبرِ
فلمثله جرت العيون دماً ... ولمثله جمدت فما تجري
قال وكان بالبصرة أعرابيّ من بني تميم يُطفل على الناس، فعاتبته على ذلك،
فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولاوضع الطعامُ إلا ليؤكل، وما
قدمت هدية فأتوقع رسولاً، وما أكره أن أكون ثقيلاً على من أراه شحيحاً
بخيلاً وأتقحم عليه مستأنساً وأضحك إن رأيته عابساً وآكل برغمه وأدعه
بغمه، فما أعدَّ للَّهوات طعام أطيبُ من طعام لاتنفق عليه درهماً ولا تعني
إليه خادماً! ثمّ أنشد " من الخفيف " :
كلُّ يومٍ أدورُ في عرصة الحيّ ... أشمُّ القُتارَ شمَّ الذئاب
فإذا ما رأيتُ آثار عُرسٍ ... وختانٍ أو مجمع الأصحاب
لم أرَوَّعْ دون التقحُّم لا أر ... هبُ دفعاً ونُكرةَ البَوَّاب
ًمستهيناً بما هجمتُ عليه غير مستأذنٍ ولاهيَّابِ
فتراني ألفُ بالرغم منه ... كُلَّ ما قدَّموه لفَ العقاب
ذاك أدنى من التكلف والغر ... م وغيظ البقال والقصاب
ولد الأصمعي سنة اثنتين - وقيل: ثلاثٍ - وعشرين ومائة، ومات سنة ثلاث عشرة
- وقيل: أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: ست عشرة - ومائتين.
وقال أبو العالية يرثيه " من البسيط " :
لله درُّ بنات الدهر إذ فجعت ... بالأصمعي لقد أبقت لنا أسفا
عش مابدا لك في الدنيا ترى ... في الناس منه ولامن علمه خلفا
آخر أخبار الأصمعي وبه تمام الجزء الثاني
في أبتداء أمر البصرة ونزول المسلمين فيها
كان في أول هذا الكتاب سئل قتادة: لمَ سُميت البصرة بها؟ فقال:
قالت العرب: أنزلونا أرضاً بَصْرةً! أي غليظة. وفي أخرى أنه قال: أتدرون
من مصر البصرة؟ قيل: لا! قال: رجل من بني شيبان يُسمى المثنى بن حارثة
وإنه كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني نزلتُ أرضاً بصرة. فكتب
إليه: إذا أتاك كتابي هذا فأثبت حتى يأتيك أمري! فبعث عُتبة بن غزوان
معلماً وأميراً، فغزا الأبُلَّة، وقال له حين وجهَّه: سِرْ! فإذا بلغت
أقصى أرض العرب وأدنى أرض البيضاء. - وقال ابن دريد: الشيحُ والقيصوم أناخ
فنزل، وذلك عند البيضاء. - وقال ابن دريد: البيضاء بالبصرة دارُ عبيد الله
بن زياد. - وخطَّأ أبو حاتم تعليل قتادة وقال: لو كان كما ذكره لكانت
النسبة إليها بصرياً كنمري، وإنما سُميت بها للحجارة البيض التي في
المِرْبد. - ووصف عُتبة بن غزوان لعمر رضي الله عنه أرض البصرة فقال: فيها
حجارةٌ بيضٌ خُشن. فقال عمر: هي البصرة.
قال الأصمعي: يقال إنَّ البصرة من أرض الهند، ويقال لها المؤتفكة
والخُريبة وتَدْمُرُ والبصيرة. وقال: سواد البصرة الأهواز وفارس وميسان
ودستميسان، وسواد الكوفة كسكر إلى الزاب إلى عمل حُلْوان إلى القادسية.
وعن إياس بن معاوية: مثلت الدنيا على طائر، فالبصرة ومصر الجناحان والشأم
الرأس والجزيرة الجؤُجؤ واليمن الذنب.
بعث أبو موسى وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم الأحنف بن قيس وهو أضغرهم
سناً، فقام ذوو الأسنان فتكلموا، فكان عامة كلامهم الثناء على أمرائهم
وحوائج أنفسهم. ثمّ قام ألحنف فقال: ياأمير المؤمنين، إن إخواننا من أهل
الكوفة نزلوا منازل كسرى في العيون العذاب والجنان الخصبة في مثل عين
الجمل الفاسقة، يأتيهم ماأتاهم من ثمارهم غضاً غريضاً لم ينخضد؛ وإن
إخواننا من أهل مصر نزلوا منازل الفراعنة والأمم الخالية؛ وإن إخواننا من
أهل الشأم نزلوا منازل بني جفنة وقيصر والروم؛ وإنَّا معاشر أهل البصرة
نزلنا في سبخة نشاشة زعقة هشاشة لايجف ثراها ولا ينبتُ مرعاها، طرف لها
بالفلاة وآخر في البحر الأجاج، يُجرُّ إليها مايجر في مثل مريءٍ النعامة؛
فإن رأى أمير المؤمنين أن يرفع خسيسنا وينعش كيستنا ويزيد في أرزاق عيالنا
وأن يصغر درهمنا ويكبر قفيزنا وأن يأمر لنا بنهر يُحفر. ففعل عمر ذلك
وقال: ليس فيكم مثل هذا، كلُّ منكم إنما تكلم في حوائج نفسه، وهذا تكلم في
أمر الرعية وعامة الناس، فهو سيّد مسوَّدٌ! ثمّ أمر زياداً بحفر نهر
الأبُلة، فحفره. فلمَّا بلغ الفتق تيَّمن زياد بمعقل بن يسار لصحبته من
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففتقه معقل فنسب إليه، فسلّم زياد ألف درهم
إلى صاحب يدفعها إلى من يشيع أنه نهر زياد، فكلُّ من كلمه فيه لايقول إلا
نهر معقل، فردّ الألف.
في فضل البصرة، روى أبو ذز قال: أُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
طبقٌ من تمرٍ أو رطب، فجعل يأكل منه البَرْنيَّ والقريثاء، ثم قال:
اللهمَّ إنك تعلم أني أُحبها فأنبتها في أحب البلاد إليك واجعل عندها آية
بينة! - قال الحسن: فوالله ما أعلمها في بلدٍ أكثر منهما بالبصرة، وقد جعل
الله عندها آية بينة المَدَّ والجزر.
وقال محمد بن سلام الجُمَحي: كان بالبصرة أربعة كلُّ واحد منهم عالمُ
زمانه، لايعلمُ في الأمصار مثله: الأحنف بن قيس في حلمه وعفافه ومنزلته،
والحسن في زهده وفصاحته وسخائه وموقعه من قلوب الناس، والمهلَّب بن أبي
صُفرة في شجاعته ونجدته، وسوار بن عبد الله القاضي في عفافه وتحريه للحق.
وقال أبو العيناء محمد بن القاسم اليمامي: يقال: لايعرف بلدٌ أقربُ برَّا
من بحر وحضرا من بدوٍ وقانصَ وحش وصائد سمك ونجدا من عور من البصرة، واسطة
الأرض وفرضة التُجار ومغيض الأمطار ومسكن الأحرار، عجب أولها رُطب وأوسطها
قصب وآخرها العطب - والعطب القطن - ، لهم الراسخات في الوحل، المطعمات في
المحل، الملَّقحات بالفحل، تعلَّةُ الصبي والشبخ وتحفة مريم عليها السلام.
- نجز ماكان في أول الكتاب من أخبار البصرة.
32 - ومن أخبار قُطرُب النحوي
هو ابو عليّ محمد بن المستنير، أحد من اختلف إلى سيبويه وتعلم
منه، ولم يقرأ كتابه عليه، وكان يدلج إليه، وإذا خرج رآه على بابه غدوةً
وعشية، فقال له: ماأنت إلا قُطرب ايل! فلُقب به. - قال ابن دريد: قطرب
وقطروب ذكر الغيلان. قال: ولغة أزدية يسمون الكلاب الصغار القطارب. وقال
ثعلبٌ: القطرب دويبةٌ كثيرة الحركة وهو الصرار.
قال: يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ أحدكم جيفة ليل قطرب نهار!
أي لايقوم بالليل لخير ولاصلاة ويتحرك بالنهار كهذه الدويبة.
قال: ولقطرب كتب كثيرة في اللغة والنحو والعروض ومعاني الشعر وغريب الحديث
وكتاب في القرآن لم يسبقه إلى مثله أحدٌ.
وكان لقطرب ابنٌ مع أبي دلف، فحضر يوماً معه بعض الحروب، فجاءه سهم في
رأسه، فحمل مغشياً عليه، فجمع له المتطببين وأمرهم بإخراج السهم من رأسه،
فقالوا: إن أخرج السهم ولم يخالطه الدماغ عاش، وإن كان قد خالطه لم يعش.
ففتح ابن قطرب عينه وقال: انزعةه! فلو كان في رأسي دماغٌ ماحضرتُ هذا
الموضع. فقال أبو دلف من قصيدة " من الكامل " :
وليشكرن أبو عليٍ قطربٌ ... مني يدا بيضاء غير عُقامِ
ردي عليه فتاهُ بعد ثوائه ... رهناً لكل مهنَّدٍ قصام
في حيث لاتجدي عليه دفاترٌ ... موسومةٌ برواقش الأقلام
لا النحو ينفعه ولا إتقانه ... علم العروض ومذهب النظاَّم
ومن شعر قطرب " من البسيط " :
إن كنتَ لستَ معي فالذكرُ منك معي ... قلبي يراك إذا ماغبتَ عن بصري
فالعينُ تُبصرُ من تهوى وتفقده ... وناظرُ القلبِ لايخلو من الذكر
ويروى لقطرب في مرثية محمد بن منصور - وقيل لكُثير في عمر بن عبد العزيز
وقيل لبعض الأعراب " من الكامل " :
لهفي عليك للهفةٍ من خائفِ ... كنتَ المُجير لها وليس مجير
أمَّا القبور فإنهنّ أوانسٌ ... بجوار قبرك والديارُ قبور
عَمَّتْ صنائعه فعَمَّ مُصابه ... فالناسُ فيه كلُّهم مأجورُ
والناسُ مأتمُهمُ عليه واحدٌ ... في كلّ دارٍ رنَّةٌ وزفيرُ
عمّت مصيبنهُ فصارت أسوةً ... للناس كلهم فليس صبور
يُثني عليك لسانُ من لم توله ... خيرا لأنك بالثناء جدير
ردَّت صنائعه عليه حياته ... فكأنه من نشرها منشور
وقال في أعلام النبي صلى الله عليه وسل " من الطويل " :
حمدتُ إلهي وامتدحت نبيَّهُ ... نبيَّ الهُدى الهادي وإياه أحمدُ
توحَّد فيه بالصنيعة إنه ... بكلّ جميلٍ بادئٌ متوحدُ
إليكَ رسولَ الله منَّا تحيَّةٌ ... وصلى عليك العابدُ المتهجدُ
فأنت رسول الله هادٍ ومهتدٍ ... نبيُّ هُدى للأنبياءِ مؤيدُ
وقد قال حسّان وفي الشعر شاهدٌ ... تجددهُ الأيامُ يُروى ويُنشدُ
أغرُّ عليه للنبوة خاتمٌ ... من الله مشهورٌ يلوحُ ويشهدُ
وأعطاه من لفظ اسمه ليُجلَّهُ ... فذو العرٍش محمود وهذا محمَّد
فقلتُ شبيهاً بالذي قال إنني ... به مؤمنٌ حقّاً لربي موُحدُ
وضمَّ الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذنُ: أشهدُ
فلا يُقبل التوحيدُ إلا بذكره ... ليقرنهُ عند النداء المُوحدُ
وماجاء يدعونا بغير دلالةٍ ... ولكن بآيات تدلُّ وتشهدُ
سمعنا له منها بخمسين آية ... سأذكرُ عنه بعضها وأجددُ
فمنها كلامُ الذئب للرجل الذي ... رأى الذئب في أعناقه يتردَّدُ
عجبتُ لأخذي منك شاةً رزقتها ... وهذا رسول الله يؤذى ويجحدُ
فخلَّى عن الشاة التي كان ضمَّها ... وأقبلَ للإسلام يسعى ويحفدُ
دعا شجرا حتى يجامع مثله ... فجاء يشقُ الأرض والأرض فدفَدُ
فضمَّهما حتى رأى الناسُ فعله ... وردَّ التي جاءت إلى حيث يعهد
ومن ذاك جذعٌ حن شوقاً إلى الرضا ... فما زال ساعات يميلً ويسند
وقد سمعوا صوتاً من الجذع بيتنا ... فيا عجباً ممَّن يشكُ ويُلحدُ
ومن دون هذا حُجَّةٌ ودلالةٌ ... كأن الذي يعدوهما يتعمدُ
ومن ذاك شاةٌ خلوة الضرع مسَّها ... فدرَّت بغزرٍ حافلٍ يتزَّبدُ
فقام إليها الحالبان فأترعا ... أوانيها والضرعُ ريَّانُ أبرْدُ
يدٌ مسَّت الأطباءُ وبوركت ... مؤيدةً بالله وهو المؤيَّد
مطهرةً التركيب من كل آفةٍ ... مباركةَ الأفعال ما مثلها يدُ
وسار إلى البيت المُدَّس ليلة ... مسيرةَ شهرٍ واردٌ ليس يُطرد
يخبرُ بالعير التي في طريقه ... ليوُقن أهل الشِرك ذاك فيسعد
مسيرة شهرٍ من تهامة ذاهباً ... إليه وشهرٍ راجعاً حين يجهد
ومنا ذراعٌ مسَّها فتكلمت ... تحذره من أكلها وتؤكد
وكانت ذراعاً قُدمت في طعامه ... وقد سمَّها قومٌ لأحمدَ حُسَّدُ
وكان الذي قالت له: لاتمسنيَّ ... ففيَّ سُمومٌ حَرُّها ليس يَبْردُ
فأمسك عنها والنبيُّ مؤيدٌ ... يُوفقهُ ربٌّ رحيمٌ ويُرشدُ
ومن ذاك عينٌ جاد فيها بتفلةٍ ... فأبصر من كانت له حيث يقصدُ
وسالت على الخدين منها غشاوةٌ ... فعاد بها في جفنه يتوقدُ
وما كان يرجو أن تعود بصيرةً ... وقد ذهبت حيناً وكان يُقَّودُ
ولكن رسول الله أصلحها له ... وتصلحُ في الله الأمورُ وتفسدُ
وقد رام هذا الفعل من عين أعور ... مسيلمة الكذاب يبغي ويحسدُ
فلم تبره العين التي كان يشتكي ... ولم تسلم الأخرى التي كان يحمد
فأعماه لمّلأ أن دنا لعلاجه ... ليفرق بين الحق والبُطل أحمدُ
وشاءٌ لعبد القيس مرَّ بأذنها ... فلاحت شهابُ منه تبقى وتخلد
وصار على أولادها منه ميسم ... يلوحُ على آذائها حين تُولدُ
يُخبر عمَّا لم يجيء بمجيئه ... وما قال فيه اليوم جاء به الغد
ومضمر أمر قال ما في ضميره ... دلائل منه بالنبوة تشهد
ومن ذاك أخبارٌ عن الغيب قالها ... يُعاينُ منه الصدق فيها ويُوجدُ
فسودده بالله إذ كان وحيه ... إليه وهل فوق النبوة سُودد
وكان يسمي في قريشٍ أمينها ... فلم يأته الأصنام إذ ذاك تعبدُ
فأظهر بالإسلام دعوة صادقٍ ... فضَّل له سهمٌ إليها مُسَدّدُ
ففاضت عيون البئر من كل جانبٍ ... بماءٍ فراتٍ نابعٍ يتوَّلدُ
فأسقتهم حتى رووا وركابهم ... وقد زوَّدوا منه الذي يُتزوَّدُ
وكان أراد الشأم في بعض أمره ... فأقبل سيلً ينشرُ الأرض مُزْبدُ
فقحَّمَ في سيلٍ بعاقٍ يعُمُّه ... فصار طريقاً يابساً يتخدَّدُ
ويسمعُ من أصواتها في طريقه ... تمجدهُ أنّ النبيَّ مُمجَّدُ
وليس رأى إلا الحجارة حوله ... ويسمع صوتاً بالسلام يُردَّدُ
وفي مزود إحدى وعشرون تمرةً ... به جاءت الآثار تروى وتسند
وقد ضمَّها قدَّامه في ردائه ... وأقبل يدعو ربَّه ويمجدُ
فزادت ولاتحصى زيادات ربنا ... ولايبلغ الغايات منها المعدد
ثلاثة آلافٍ قضوا منه شبعهم ... وما أفضلوا حتى احتشى منه مزود
وجهز منه مزنة فوق رأسه ... رآها بحيرا الراهب المتعبدُ
تُظلله من كل حر يصبه ... تقيمُ عليه ما أقام فيركدُ