كتاب : نضرة الاغريض في نصرة القريض
المؤلف : المظفر بن الفضل
ومن فضيلة الشِّعرِ أنّ العُلَماءَ بالأدبِ لا يستطيعونَ نظْمَ البيتِ الفَذِّ منه، مع عدَمِ الطبيعةِ في نظمِهِ والمِنْحَةِ من اللهِ تَعالى في تأليفِه لقولِه تعالى: (وما علّمناهُ الشّعرَ وما ينْبغي له)، فعَزى تعليمَهُ إليهُ سُبحانَه وجعلَه من جُملةِ هِباتِه للمخلوقِ وزينتِه التي يكسوها من يشاءُ، كما قال تعالى: (يَزيدُ في الخَلْقِ ما يشاءُ). ولولا أن تكون هذه المَزيّةُ، والفضيلةُ السَّنِيَّةُ، مَوْهِبةً من اللهِ تعالى لما تعسَّرَتْ على العُلماءِ مع معرفَتِهم بأدواتِها وقبضِهم على أزِمّةِ آلاتِها، وتسهّلَتْ على الخِلْوِ من الأدبِ، والنِّضْوِ في مسارح ذلكَ الصَّبَبِ حتى يقولَ ما لا يعرفُ تعليلَهُ، وينظمَ ما يجهلُ فروعَهُ وأصولَهُ.
ومن فضيلةِ الشعرِ أنّ الكلامَ المنثورَ، وإنْ راقَتْ ديباجتُهُ ورَقّتْ بهجَتُهُ، وحسُنَتْ ألفاظُهُ، وعَذُبَتْ مناهلُهُ، إذا أنشدَه الحادي، وأوردَه الشادي، ومدّ به صوتَهُ المطرِبُ، ورفَعَ به عقيرتَهُ المنشدُ، لا يُحرّكُ رزيناً، ولا يُسلي حزيناً، ولا يُظهِرُ من القلوبِ كميناً، ولا يخَوِّنُ من الدّمْعِ أميناً. فإذا حُوِّلَ بعينِهِ نظماً، ووُسِمَ بالوزنِ وَسْماً، ولَجَ الأسماعَ بغيرِ امتناع، ومَلَكَ القلوبَ كما تُملَكُ الإماء في الحروب، وقبضَ على الجوارحِ قبْضَ الجبائِرِ على الجرائِحِ، فكمْ من نَفْسٍ استعادَتْ بهِ نفسَها، وكمْ من مُهْجَةٍ ذهبَ بها واختلَسها، وكم من كريمٍ أحياهُ ومن لئيمٍ أرداه، وكم من فقيرٍ أغناهُ، وكم من غنيٍّ أخلاه، فضيلةٌ لم تكنْ إلا لهُ أبداً. والشِّعرُ معدِنُ تفضيلٍ وإعجازٍ يُشَجِّعُ الجبانَ الوَكِل، فلا فرار عندَهُ ولا نَكَل. ويسمَحُ البخيلُ وإنْ برِمَ، ويسْتَصبي الشّيْخَ وإنْ هرِم. فمُعْجزاتُه باديةٌ، وآياتُه رائحةٌ غاديةٌ.
وأما من ذهبَ الى ذَمِّه وتنَقُّصِه لسوءِ فهمِه، فإنّما هو مُتَمسِّكٌ بشُبَهٍ لم يعْرِفْ تأويلَها، مُسْتَنِدٌ الى حُجَجٍ لم يعلمْ تعليلَها، خابِطٌ في عشواءَ مُظلِمَةٍ، مُتورِّطٌ في خوْضِ وعْثاءَ مُؤلمة.
والذي تمسّكَ به الذامُّ قولُه عليه السّلام: (لأنْ يمتلئَ جوفُ أحدِكم قَيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ لهُ من أنْ يمتلئَ شِعْراً). القَيْحُ: المِدّة لا يُخالطُها دَمٌ، ويَرِيَه: من الوَرْي والاسم الوَرى بالتحريكِ، ومنهُ الدُّعاء: سلّطَ اللهُ تعالى عليهِ الوَرى وحُمّى خَيْبَرى. يُقالُ ورَى القَيْحُ جوفَهُ يَرِيَهُ وَرْياً إذا أكلَهُ.
قال عبدُ بن الحَسْحاس:
وراهُنَّ رَبّي مثْلَ ما قدْ ورَيْنَني ... وأحْمى على أكبادِهِنّ المكاوِيا
وهذا حديثٌ يشهدُ لنفسِه بأنهُ صلى الله عليه وسلم قصدَ به زماناً مُعَيَّناً، وخصّ به قوماً مُعَيّنينَ، ولم يُجِزْه على الإطلاق؛ دليلُ ذلك ما مدحَ الشّعرَ به وأعظمَهُ بسببه، وكونُه عليه السلام سمِعَ الشِّعْرَ في الرّجزِ والقصيد، واستَنْشدَهُ وتمثّلَ به مكسورَ الوزنِ، وفي رِواية: صحيحَ الوزنِ، وأمرَ شراءَه بهجاء مَنْ هجاهُ، وحثّ عليه ودعا إليه. ولهُ شعراءٌ معروفونَ من الأنصار وغيرهِم، ولم يبْقَ أحدٌ من صحابتهِ إلا وقال الشِّعْرَ قليلاً أو كثيراً، وأنشدَ واسْتنشدَ وتمثّل به واحتجّ، وكاتَبَ وراسلَ. وإذا ثبَتَ أنه لقومٍ مخصوصين، وبطَلَ أنه للعمومِ والإطلاقِ، كانَ في تأوُّلهِ ضرْبٌ من التّكَلُّفِ.
ولا بأسَ بذكرِ شيءٍ مما قد تأوّلهُ بهِ العلماءُ. فمن ذلك ما رواهُ الكلبيُّ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: (لأن يمتلئَ جوفُ أحدِكم قيْحاً حتى يَرِيَهُ خيرٌ له من أن يمتلئَ شِعراً هُجيتُ به)، وفي حديث عائشةَ رضيَ الله تعالى عنها من مهاجاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
قُلنا: هذا حديثٌ لا يَصِحُّ من وجوهٍ: منها: أنّ الكلبيّ قد طعَنَ عليهِ أصحابُ الحديثِ، وقولُه غيرُ موثوقٍ به عندَهم.
ومنها أنّ حِفْظَ البيت الواحد مما هُجِيَ النّبيُّ صلى الله عليه وسلم به، يَري قَيْحُهُ ولا يَتوارى قُبْحُه فضلاً أن يمتلئَ الجوفُ به.
ومنها أنّهُ لو أراد بهِ هِجاءَ نفسِه الشريفةِ لصرّحَ بكُفْرِ المُتَلفِّظ به فضلاً عن المتحفِّظِ له المالئِ بطنَه به؛ إذ لا خِلافَ بينَ المسلمين أنّ مَنْ سَبّ رسولَ الله فقد كفَر، والسبُّ جزء من الهَجْو. وإذا بطَلَ ذلك كان المرادُ به ذمَّ من جعلَ دأبَهُ تحفُّظَ الأشعارِ الرقيقةِ، والأهاجي الدقيقةِ حتى شغلَهُ ذلك عن معرفة ما يجبُ عليه من أمر دينه وإصلاحِ دنياه.
وقيل: إنّما عنَى شُعراءَ أعداء اللهِ وأعداءِ رسولِه الذين هجَوْا وثلّموا أعراضَ أصحابِه، ورَثَوْا قتلَى المُشركين ببَدْرٍ وغيرِه، وأبّنوهُم وذَكروا فضلَهم. ولما كان حفظُ ذلك من الأوضارِ الدنيئة، قابلَهُ صلى الله عليه وسلم بالقَيْحِ الذي تعافُه النفسُ وتنفرُ منهُ الطبيعةُ مُبالغةً في قَذارتِه.
وقال أحمدُ بنُ حنبل رحِمَه اللهُ تعالى: إنّما يُكْرَه من الشِّعرِ الهجاءُ والرقيقُ الذي يُتَشبَّبُ فيهبالنساء فتَهيجُ له قلوبُ الفتيان. فأما سوى ذلك فما أنفَعهُ.
وقال النضْرُ: كيفَ تمتلئُ أجوافُنا - يعني بالشِّعرِ - وفيها القرآنُ والفِقْهُ والحديثُ وغيرُ ذلك. وإنما كان هذا في الجاهلية، فأما اليومَ فلا، وتمسَّكَ الذامُّ للشِّعرِ والشُعراء بقوله تعالى: (والشعراءُ يتّبِعُهم الغاوُونَ، ألَمْ ترَ أنّهم في كلِّ وادٍ يَهيمون وأنهم يقولون ما لا يَفعلونَ). والجوابُ عن ذلك أنّ المتمسِّكَ بذلكَ المُحْتَجّ به لا عِلْمَ له بمعاني القرآن المجيد، فإن هذه الآية مختصةٌ بشعراء الجاهلية.
ورُوي عن عِكرمة أنه قال: معنى هذه الآية أنّ شاعرَيْن تَهاجَيا بالجاهلية، فكان مع كلّ واحدٍ منهما فريقٌ من الناس يتّبعُهُ، ويحفظُ عنه ما يختَرِعهُ.
ورُوي عن الحسنِ في قوله تعالى: (ألمْ تَرَ أنهم في كلّ وادٍ يهيمون) أنه قال: قد رأينا أودِيَتَهم التي كان يهيمونَ فيها مرّةً في مديحٍ ومرّةً في هجاء.
ورُويَ عن ابن مجاهدٍ أنه قال: إنّما يَهيمونَ في كلّ فنٍّ يَفْتَنّونَ فيه من فنونِ الشعرِ.
وقيل في قوله تعالى: (وأنّهم يقولونَ ما لا يَفعلون)، أي يدّعونَ على أنفسهم أنهم قتَلوا وما قتَلوا، وزَنَوْا وما فعلوا، وما شابَه ذلك... وأقوالُ المفسّرينَ في ذلك كثيرةٌ شهيرة، ولا نزاعَ في اختصاصِ الآية بشعراء الجاهلية حتى نُبسِّطَ القولَ في ذلك. ثم مِنْ جهْلِ المحتجّ على الشُعراء بهذهِ الآية كونهُ لم يعلمْ بمَنْ استُثْني فيها، وتَلا أوَّلها ونسِيَ آخرَها وهو قولُه تعالى: (إلا الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ وذكَروا اللهَ كثيراً وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا). الذين آمنوا هُمُ المُخضرمونَ كانوا جاهليةً وأدركَهُم الإسلامُ فحسُنَ إيمانُهم، ثمّ وصفَهم تعالى بعمَلِ الصالحات لما أجابوا مُنادي الرسولِ واتّبَعوا سُنّتَهُ القويمةَ ووقفوا عندَ أوامرهِ ونواهيهِ، وأثنى عليهم بكثرة ذكرِهم لله تعالى، وذَكَر حُلومَهُم الرزينةَ بقوله: (وانتصَروا من بعدِ ما ظُلِموا). فإنّهم لما هجَتْهُمْ قُريشٌ وهيّجَتْهُم، وبدأتْهُم بالأذى وأحفظَتْهم، استأذنوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فأذِن لهم في الانتصارِ منهم، فكيفَ تركَ ذكْرَ هؤلاءِ وما قد وصفَهُم اللهُ تعالى به، واحتجّ بذكرِ شعراء الجاهلية، لوْلا العدولُ عن الحقّ والحَيرَة في تلكَ الطُرق.
وتمسّك الذّامُّ للشِّعر والشُعراء بقول مَنْ قال: الشعرُ أخبثُ طُعمة تؤْكَل، وأفحشُ صِناعةٍ تفعمَل، وأرجسُ قِدْحٍ يُلْمَس، وأبخسُ ثوبٍ يُلبَس، لأن قولَ شاعرِه زُورٌ وثناءهُ غُرورٌ، ولفظهُ فُجور، وهو مُستثْقَلٌ مهجور، إنْ بعُدَ خِيفَ شَذاهُ، وإن قرُبَ لم يُومَنْ أذاه، وإنما غايةُ الشاعر إذا اسحنفرَ في مَيدانِه، وأطلقَ عِنانَ لسانِه، وتبوّعَ في القولِ بجُهدِه، وتدرّع في الوصفِ بجدِّه، واحتفلَ لبلوغِ شأوهِ عندَ من يجتديهِ، وترامَى الى أقصى بُغْيَتِه عندَ من يعتريه ويعتفيه، أن يُفرِّقَ في وصفِ جمَلٍ ويُطنِبَ في مساءلة طَلَل، ويبكي على رسْمٍ داثرٍ، ويقِفَ ويستوقفَ على رُمادٍ ثائر، ويرحِّل النوقَ والجمالَ، ويصفَ قطْعَ المفاوزِ وتعسُّفَ الرمالِ، ويذكرَ ورودَ المياهِ الأواجنِ، ومصاحبةَ الغِلانِ والسَّعالى في تلك المخارمِ. وأيُّ عقْلٍ أقلُّ، ورأيٍ أجوَرُ وأضلُّ، من عقلِ رجُل انتصبَ لسماعِ ذلك، ورأي شاعرٍ أتعبَ نفسَه وكدّ حِسّهُ في وصفِ بقَرٍ وسؤالِ حجرٍ.
ثم إنّ الشاعرَ إذا نظمَ قِطعةً، واختطفَ معنىً، استصغرَ من الشعراء الصّدْرَ الأوّل، واستحقرَ من العلماءِ الخليل والمفَضَّل، وليس عنده سوى لُمَع قد أخذها من بطون الكُتبِ وصحّفها من مُتونِ الصُّحُف، ولم يتدرّجْ الى معرفة أدبٍ بطولِ صُحْبَة ولا بقديمِ رياضةٍ، وإذا لم تَطُلِ الصُحبةُ لم تُعرَفِ المظَنّةُ، وللعِلمِ سرٌّ، مَنْ قصّر عن مكانِه لم يُعَدَّ من إخوانِه.
وكم من شاعرٍ قد ابتُلي به مَنْ أنعمَ عليه وأحسنَ إليه، فقابلَ الإحسانَ بالإساءةِ، والإنعامَ بالانتقام، وحُسْنِ الصنيع بقُبحِ التضييع، حتى أذاقَه بعدَ حلاوةِ مدائحهِ ومرارةَ هجائه، وجرّعهُ غُصَص ثَلبه ومضضَ ذمّه، ناقِضاً لما أبرَم، هادِماً لما شيّدَ، ومكذِّباً نفسه فيما قدّم، لا تصْرِفُه عنهُ أنَفَةٌ، ولا يرْدَعُهُ حياءٌ، ولا يقذُعُه دينٌ، ولا يزَعُهُ تُقَى.
وكم من كريمِ الطرفينِ، عالي الجدَّيْن، صريح النسب، صحيحِ الحسَب، عظيم الرُتَب، شريفِ الأم والأب، قد قذَفَه بهَجْو، زَنيمٌ في نسبهِ، لئيمٌ في ادّعاءِ أبٍ غيرِ أبيه، وضيعٌ قدْرُه، حقيرٌ أمرُه.
وكم من حُرّةٍ كريمةٍ وعفيفةٍ مأمونةٍ، ومخَدَّرةٍ مصونةٍ، قد هتَك الهجوُ خِدرَها، وكشفَ عنها سِتْرَها، فشمِلَها العارُ، وحلّ بها الشَّنار؛ فهي لا تطيقُ لذلك دِفاعاً ولا تجدُ منه امتناعاً. وأيّ مصيبةٍ أعظمُ ورزِيّةٍ آلمُ من شاعرٍ رمَى حُرمةَ مُحسنٍ إليه بقَذْعِه، ووسمَ جهةَ مُنعمٍ عليه بقذفِه، فلزمَهُ عارُ هجائهِ لزومَ طوْقِ الحمامةِ، الى يومِ القيامة، وإنما يُكرَمُ الشاعرُ مخافةً من شرِّه، وحَذَراً من بذيء لسانِه وقلِّ دينِه وعدمِ مُروءَتِه. وقد قال عليه السلام: (إنّ شرّ الناسِ من أُكرِمَ مخافةً من شرِّه).
ومتى أنشدَكَ شاعرٌ هِجاءً قد مزّق به عِرْضَ مُسلمٍ أو عَرَضَ عليكَ سبّاً قد قذَفَ به حُرمةَ بريءٍ مُستسْلِمٍ، فإنما قصدَ بذلك أن يُريَك حُمّتَه، ويذيقَكَ سِمامَهُ، ويعرِّفَكَ كيف يفوِّقُ سِهامَهُ، ويخوِّفَك ميسَمَهُ، ويحذِّرَكَ مِكواتَهُ.
فكم من كريمٍ جعلَهُ الشعرُ بخيلاً، وصريحٍ في قومهِ تركَه دخيلاً، وشُجاعٍ صيرهُ جباناً، وأمين غادرَه خَوّاناً. ألا ترى الى أبي نواسٍ وإحسنِ بني برْمَكٍ إليه، وإقبالِه بالمدائِحِ عليهم، وإقبالِهم بالصِّاتِ عليه؛ فمن جملةِ قوله فيهم:
سَلامٌ على الدُنيا إذا لم يكُنْ بها ... بَنو برْمَكٍ من رائِحينَ وغادِ
وقد عرفَ الناسُ كافةً اشتهارَ بني برمَكٍ بالجودِ واختصاصَهم ببذلِ الموجودِ، فلم يستحي أبو نواس من إحسانِهم إليهِ وتكذيبِ الناس له حتى وسمَهُمْ بالبُخلِ، ودعاهُم بالشح، خارقاً للإجماعِ فيهم، وجاحداً لاصطناعِهم له، حتى قال من جُملة هجائِه فيهم:
بني برْمَكٍ باللّؤْمِ والبُخْلِ أنتُمُ ... حقيقونَ لكِنْ قد يُقالُ مُحالُ
وقد يهجو جعفراً:
ولو جاءَ غيرُ البُخْلِ من عندِ جَعْفَرٍ ... لما أنزلوهُ منه إلاّ على حُمْقِ
أرى جعفراً يزدادُ لؤماً ودقّةً ... إذا زادَهُ الرحمنُ في سَعَةِ الرِّزْقِ
وكذلك صنع أبو نواس مع الخَصيب فإنّه بعد قوله فيه:
إذا لم تزُرْ أرضَ الخصيبِ رِكابُنا ... فأيُّ فتىً بعدَ الخصيبِ تزورُ
يقول:
خُبْزُ الخصيبِ مُعلَّقٌ بالكَوْكَبِ ... يُحْمى بكلِّ مثقّفٍ ومشَطَّبِ
وهذا أبو الطّيِّبِ وفدَ على كافورٍ الإخشيديّ مُستَميحاً، وقدِمَ عليه يوسِعُه ثناءً ومديحاً، فمِنْ جُملةِ قوله فيه:
قواصِدَ كافورٍ تَوارِكَ غيرِه ... ومَنْ قصَدَ البحْرَ استقلّ السواقِيا
فلما واصلَهُ كافورٌ بصلاتِهِ وأسرفَ في بذْلِ أموالِه لهُ وأعطياتِهِ، كرّ راجعاً عليه بذَمِّه، نافثاً في فَمِ عِرضِهِ قواتِلَ سمِّه. وقد قال عليه السلام: (حرامٌ على النفسِ الخَبيثَةِ أنْ تخرجَ من دارِ الدُنيا حتى تُسيءَ الى مَنْ أحسنَ إليها). ولما سُئِلَ أبو الطيبِ عن موجِبِ ذمِّه كافوراً زعمَ أنه منعَهُ من قصدِ المُلوكِ، وإراقةِ ماءِ محيّاه لدى الغني والصُّعلوك، وضمِنَ له على نفسهِ العوَضَ عمّا خيّلتْهُ المطامعُ في ذلكَ الغرَض. ولم يقدرْ على الاحتجاجِ بتقصيرٍ صدرَ من كافور، فهل هذا ذنبٌ استحقّ بهِ أن يقولَ بعدَ ذلك المدح فيه:
من علّمَ الأسودَ المَخْصيَّ مَكرُمَةً ... أقَوْمُهُ البيضُ أمْ آباؤهُ الصِّيدُ
ولو عدَدْنا مَنْ فعلَ ذلك من الشُعراء، ومن قابَلَ منهم الإحسانَ بالذّمِّ والهجاءِ، لصنَّفْنا في ذلك كُتُباً، وأوردْنا منه طريفاً عجَباً.
هذا زُبدَةُ من مَخَّضَ وِطابَهُ في ذمِّ الشعرِ والشُعراء، ونبذِه ونبْذِهمْ من الجَفوةِ بالعَرا والعراء. وسنذكُرُ الجوابَ عن ذلك مختصراً إن شاءَ اللهُ تعالى.
الجوابُ وبالله التوفيق: اعْلَمْ أيّها الذامُّ، أصلحكَ اللهُ تعالى، أنّ الحقّ غيرُ ما توخّيْتَ، والصِّدقَ غيرُ ما آخيْتَ، ومَنْ نازَعَ في أمرٍ ولم ينافِرْ الى حاكمٍ غيرِ نفسِه، لم يظْفَرْ بمحجّةٍ حُجَجِه وكشْفِ لَبْسِه، ومن سوّلَ لهُ الشيطانُ في خلواتِه أمْراً فرضيَ بهِ، وأطْباهُ هواهُ لغرَضٍ فقادَه الجهلُ إليه، لم يزَلْ في مضَلّةٍ عن الحقِّ وحَيْرةٍ مظلمةٍ في تلك الطُرُق؛ والعُجْبُ بالرأي آفةُ العقلِ، والقلوبُ مع الأهواءِ سريعةُ التقلُّبِ؛ سيّما إذا لم يكنْ لَها قائدٌ من الإنصافِ بصير، ولا معينٌ من الإرشادِ نصير. ولم يكُنْ لأوَدِها مثقِّفٌ ولا مُقوِّمٌ، ولا في مُجْهِلها هادٍ ولا معلِّم، ومن رضيَ شيئاً شَنِئَ ضدّهُ، واحتجّ لباطلِه جُهْدَه، وتسخّطَ ما خالَفَه، وأنكرَ منه ما عرَفَه، وكان لِما انهدَم منه مُشيِّداً، ولما شرَدَ من محاسنِهِ مقيّداً، وعمّا عرضَ عن مساوئِهِ حَيوداً مُعْرِضاً.
وليسَ من العدلِ ما أنتَ عليهِ، ولا من الإنصافِ ما ذهبتَ إليه، والعِلمُ غير ما توهّمتَ، والأدبُ ليسَ كما زعمتَ. وإنّما العِلمُ مَنيعُ الحِمى، صعْبُ المُرتَقى، لا يُنالُ بالمُنى، ولا يُدرَك بالهُوَيْنا، ولن يَحْظى به إلا مَنْ أحبّهُ لنفسِه ونفاستِه، وطلبَهُ لذاتِه ولَذاذتِه، وتعشُّقَه لعَيْنِه ومزيّتِه، وكانَ مُؤْنِسَهُ في الوحشَةِ، وثانيه عندَ الوَحْدةِ، يتكثّرُ به لدى القِلّةِ، ويعتزُّ بهِ في حالِ الذِلّةِ. ولن يُعطيكَ بعضَهُ حتى تُعطِيَهُ جملتَك، ولا يُصحِبُ إليكَ حتى تُلقيَ نفسكَ عليه، وربّما كان مع ذلك عزيزاً عليك مرامُه، بعيداً من يَدِكَ منالُه. ألا تراهُ لمّا دخلَ فيه مَنْ ليسَ هو منه، واقتنعَ باسمِه دونَ عَيْنِه وجسمِه، كيفَ ذهبَ بهاؤه، وغاضَ رونقُه، واستحالَتْ نضارتُه، وتعطّلَتْ سُنَنُه وطُمِسَ سَنَنُه، واستُخِفَّ بقدرِهِ واستُهينَ بأمرِه، ونُبِذَتْ رسومُه، وأقْوَتْ رُبوعُه، ونُقِضَتْ شروطُه، واستُحْدِثَتْ فيه البِدَعُ، وظهرتْ فيه الشُنَعُ، كقولِ الأول:
لمّا ادّعى العِلْمَ أقوامٌ سواسيةٌ ... مثل البهائمِ قدْ حُمِّلْنَ أسفارا
غاضَتْ بشاشَتُهُ واغتاضَ حاملُهُ ... وصوِّعَ الروضُ منه واكتسى عارا
ويجبُ، أيها الذامُّ أن تعلمَ أنّ الشعرَ كلامٌ، وفي الكلام الجيِّدُ والرديءُ، وما يُكتسَب به الثوابُ، وما يُجتَلَبُ به العقابُ، وما تُبتاعُ به الجنان، وما تُشْتَرى به النيرانُ. فكيفَ يُطلَقُ الذّمُّ على الجميع، ويُؤْخَذ الرفيعُ بالوضيعِ، ويُلحِقُ بالشعرِ كلِّه كراهيةً تختصُّ ببعضِه. وقد قال عليهِ السّلام: (الشّعرُ كلامٌ، حسنُهُ كحَسَنِ الكلامِ، وقبيحُه كقبيحِ الكلام).
واعْلَمْ أنّ الشُعراءَ بشَرٌ وفي البشر الصالِحُ والطالِحُ، والعاقِلُ والجاهلُ، والمحمودُ والمذموم. وليس من العقل والعدْلِ أن نجِدَ في رجلٍ خَلّةً مذمومةً فنَذُمَّ من أجلِها كلَّ من تسمّى باسمِه، وكلَّ منْ انتسبَ الى أصلهِ وجِذْمِه، وكلَّ داخلٍ في صناعتِه، وكلَّ معدودٍ من جماعتِه. وهل يَحسُنُ باللبيبِ العاقلِ أن يَرى كاتِباً لحّاناً، رديئاً خطُّه، مُخطِئاً شكلُه ونَقْطُه، فيَذُمَّ من أجلِه كلَّ كاتبٍ، ويُبْعِدَ لبُغضِه كلَّ ضابطٍ وحاسِب؟ هل يُعَدُّ فاعلُ ذلك في جملةٍ المكلّفين؟ كلاّ واللهِ ولا في زُمرةِ المحَصِّلين.
وكذلك كلُّ صِناعةٍ إذا برّز واحدٌ فيها وأجادَ، فما يستحقُّ جميعُ أهلِها المدْحَ، كما أنه إذا قصّر واحدٌ فيها وأخطأ لا يُلْحَقُ بكلّ أهلِها الذّمُّ، وإنما من العدلِ والإنصافِ، وشِيَمِ الكُرَماءِ الأشرافِ، أنْ يُعْطى كلُّ شيءٍ قِسطَه، ويوفَّى كلُّ ذي قسمٍ حقَّهُ، فيُلْحَقُ المدحُ بأربابِه والذمُّ بأصحابه، كما قال سبحانه وتعالى فيمن يستحقُّ المدحَ: (نِعْمَ العبدُ إنّهُ أوّابٌ). وقال تعالى فيمن يستحقّ الذّمَّ: (عُتُلٍّ بعد ذلك زَنيم) ولا يفجَرُّ الإنسانُ مع هَواهُ، الى غايةٍ تهوي به في رَداه.
واعلَمْ أيُّها الذامُّ أنّ الشِّعرَ صِناعةٌ عزيزة شريفةٌ يخْلُدُ ذكرُها خُلودَ الدّهرِ، ويَبْقى فخرها بقاءَ الأبدِ. ومن لم يجْرِ في مَيْدانِ النّظْمِ، ولم يبرِّز في رِهانِ الحِذْقِ والفَهْمِ، ولم تَرُضْ قَريحتَهُ رياضةُ القَريض، ولم يدْعَكْ خاطرَهُ تنافُرُ القوافي دعْكَ الأديمِ، وتأبى عليه المعاني إباءَ الصّعْبِ الجَموحِ، وتعْتاصُ عليه الألفاظ العذبةُ الحلوةُ اعتياصَ البطيءِ الطليحِ، ويصعُبُ عليه ردُّ الشواردِ من مقاصدِه، ويمتنعُ عليه الخروجُ من النّمَطِ الموضوعِ والحدِّ المحدود الى غيرِه من التّفنُّنِ في الصّفاتِ والتشبيهاتِ، لم يعلمْ بحقائقِ الشِّعْرِ ودقائقِ المعاني، ولم يعرفْ هل يستحقُّ قائلُهُ المدحَ أو الذمَّ، اللهمّ إلا إن كان مُقلِّداً لا مُنتقِداً.
وأما صفةُ العربِ للديارِ والآثارِ، ووقوفُهم على الرسومِ والأطلالِ، وتشبيهُ النّساءِ بالظِّباءِ والآجالِ، الى غيرِ ذلك من صفاتِ المخارمِ والفِجاجِ، والتهويمِ والإدلاجِ، فإنهم في ذلك مَعْذورونَ غيرُ ملومينَ، لأنهمْ جَرَوْا فيه على سُنن السّلَفِ ورسمِ من تقدّم منهم. ولم يصِفوا وينْعَتوا ويشبّهوا ويمْدَحوا ويذمّوا إلا ما هو تِجاهَ أعينهِم لا يُعاينون غيرَهُ، ولا يُعانون سِواه، ولكلِّ قوْمٍ سُنّةٌ بها يَستنّونَ، ووتيرةٌ عليها يَحومون وإليها يَرْمون. فمن أضاعَ ذلك منهم كان خارِجاً عن مذهبِه، مخالِفاً لطبيعتِه، ساقِطاً من وراءِ حدّه.
كما أنّ المولَّدَ من الشُعراء إذا ترَكَ صفاتِ القدودِ القويمةِ والخدودِ الوسيمةِ والألحاظِ الرطبة، والألفاظ العذبة، والتشبيهِ بالوردِ والندِّ والكثيب، والغصنِ الرطيب وما أشبهَ ذلك، وتعاطى صفات الديار، والآثارِ والمذانبِ والآبارِ، والسانيةِ والغرْبِ، والرِّشاءِ والعِناج والكَرَبِ، وغير ذلك، كان خارجاً عن حالِه، مُخالِفاً لمَذْهَبِه ورجالِه، مُستَهْجَناً فيما يورِدُهُ من ذلك، متكلِّفاً لما يُلفِّقُهُ منه. ولكلّ قومٍ مذهبٌ يليقُ بهم ويُسْتَحْسَن منهم.
وأوّل مَنْ شرَع ذلك واستنّه للعربِ فاتبعوهُ، وفتَح لهم بابَهُ فاقتحموهُ ووَلَجوهُ، امرؤ القيس بن حُجْرٍ، فاستحسنَتِ الأعرابُ صفاتِه وتشبيهاتِه، وسلكوا سبيلَه، وتقبّلوا مذْهبَه وقِيلَهُ.
فاعرفْ أيّها الذامُّ ذلك، وإياكَ أن تتعرَّضَ لذمِّ فضيلةٍ جليلةٍ قد مُدِحَتْ على لسانِ سيّدِ البَشَر، وأشرَفِ مُضَرَ، أو تنالَ من أديبٍ ذي خصيصةٍ لا تُرتَقى درَجَتُها ولا تُتقَى فِراسَتُها، فكم من رفيعٍ اتّضعَ، وعزيزٍ ذَلّ وخضَعَ، بتعدِّيه على الأدباءِ وتنقُّصِهِ منازلَ الفُضَلاء، ومن بُنيانٍ انهدم، وسُلطانٍ عُدِمَ، وقِرانٍ عبَرَ، وشَرْعٍ نُسِخَ، وعَقْدٍ مُحْكَم فُسِخَ، ومعالِمُ الشِّعرِ قائمةٌ لا تُلوى، وأعلامُه منشورةٌ لا تُطوى، ورياضُهُ مونِقَةٌ غيرُ خاويةٍ، وأغصانُه مورِقةٌ غيرُ ذاويةٍ، يُحلِّمُ السفيهَ، ويُجمِلُ النبيهَ، ويُريقُ الدماءَ ويحقُنُها، ويذيلُ الأعراضَ ويحصِّنُها، يقرِّبُ المآربَ الشاسعةَ ويُنئيها، ويبعدُ المطالبَ الواسعةَ ويدنيها، وينفعُ ويضرُّ، ويسوء ويسرُّ، ويعزِلُ ويولّي، ويُفقِر ويُغني:
فمن ذا رأى في الوَرى خَصْلةً ... تقرِّبُ نأياً وتُنْئِي قريبا
تُميتُ وتُحيي بأقوالِها ... وتُفقِرُ خصماً وتُغني حَبيبا
وأما قولُنا في أول الفصل: وهل تعاطيه أصلَحُ أم رفضُه أوفر وأرجحُ، فالجواب: كيفَ يكون ترْك الفضائلِ خيراً من تعاطيها، واجتنابُ المناقِبِ أصلحَ من مواصلَةِ مَعالِيها، وما علِمْنا أنّ أحداً من البشَرِ استطاعَ نظمَ الشِّعرِ وكان فيه مُجيداً، وتركَ ذلك، ولم يكنْ يشتهرُ به وينتسبُ إليه، إلا أن يكونَ فيه مُقَصّراً، وعن السوابقِ سُكَيتاً آخِراً، فيجوزُ أن يتركَهُ لعجزِه عنه، ونفوذِ جيّدِه منه. كما نُقِلَ عن المأمونِ لمّا قيلَ له: هلاّ نظمتَ شِعراً، فقال: يأْباني جيّدُه وآبى رَديئَه، وله مع هذا أشعارٌ كثيرة مشهورة.
ولو عدّدْنا مَنْ تعاطى نظْمَ الشِّعرِ من الخُلفاءِ، والملوكِ والأمراءِ والوزراءِ، والقُضاةِ والزُهّادِ، والقوادِ والعلماء والأشْرافِ، لأفرَدْنا له كِتاباً يجِلُّ رقمُهُ ويثقُلُ حجمُه. حتى إنّ جماعةً من ملوكِ بني بُوَيْه رَشَوْا جماعةً من الشُّعراءِ حتى نظَموا لهم أشعاراً فنَسبوها الى أنفسهِم، ودوّنوها على ألسنتِهم؛ لِما في ذلك من المنزلةِ الرفيعةِ، والخَلّةِ الجميلةِ، والمَنْقَبَةِ الجليلةِ، والفضيلةِ النبيلة. ولولا ذلك لما تحلّوْا بحُلِيّه ولا تزَيّنوا بجلابيبِه.
وقد رُويَ عن جماعةٍ من الصّحابةِ أشعارٌ كثيرةٌ حتى دوّنوا لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه ديواناً، ورَوَوْا فيه أشعاراً حِساناً. فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال اللهُ تعالى فيه: (وما علّمناهُ الشِّعرَ وما ينْبَغي له) ليكونَ ذلك أبلغَ في الحُجّةِ على من زعَم أنه كاهِنٌ، ومرةً ساحِرٌ، ومرة (شاعرٌ نتربّصُ به ريْبَ المنون)، (وقالوا أساطيرُ الأوّلينَ اكتَتبَها)، وقالوا (أضغاثُ أحلامٍ بل افتراهُ بل هو شاعِرٌ). فمنعَهُ الله تعالى من الشعر تكْرِمَةً له لمّا كان الشّعرُ ديْدَنَ أهلِ عصرِه الذي بُعِثَ فيه، وحُظِرَ عليه ذلك دَلالةً على صِدقِه وشهادةً على بُطلانِ قوْلِ المُبْطلينَ في حقِّه، وتنزيهاً له من افترائِهم عليه، وزيادةً في الحجّةِ له. وأنزلَ عليه القرآنَ المجيدَ الذي (لا يأتيه الباطلُ من بين يَدَيْهِ ولا مِن خَلْفِه) الذي لو اجتمَعَتِ الإنْسُ والجنُّ على أن يأتُوا بمثلِه، ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً ما أتَوْا. فأقبل صلى الله عليه وسلم يتحدّاهُم فريقاً فريقاً بأن يأتُوا بمثلِه، فلا يَقْدِرونَ عليه. ولو كان شعْراً وطالبَهم بمثلِه لسهُلَ عليهم، وكان موجوداً لديهم. وما كان منْعه صلى الله عليه وسلم من الشعر إلا فضيلةً ومصلحةً وإكراماً وتطهيراً. وليس على الشعرِ بذلك نقيصةٌ ولا عارٌ، ولو كان كلُّ ما منَعَهُ الله تعالى منه حتى لا يرتابَ المُبطلونَ نقيصةً لذلك الفنِّ لكانَتِ الكتابةُ نقيصةً لمّا جعلَهُ اللهُ أمِّياً لا يكتبُ ولا يقرأ؛ ليكونَ أوْكَدَ سبباً، وأعلى شأناً، وأشهرَ مكاناً، ولذلك قال الله عزّ وجلّ تعالى: (وما كنتَ تتْلو من قبْلِه من كتابٍ ولا تخُطُّه بيَمينِكَ إذاً لارتابَ المُبْطلونَ). فإن كان منْعُه من الشِّعرِ مذمةً ونقيصةً للشعرِ والشُعراءِ، فمنْعُهُ من الكتابةِ مذمّةٌ ونقيصةٌ للكتابةِ والكتّابِ، ومعاذَ اللهِ أن يقولَ ذلك عاقلٌ، والله تعالى يقول: (اقرأْ وربُّكَ الأكْرَم الذي علّمَ بالقلَم) وقال تعالى: (كِراماً كاتِبين) يعني الملائكةَ.
وقد جعلَ اللهُ تعالى أهلَ بيتِ رسولِه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإخوانه كُتّاباً وحُسّاباً، كما جعلَ منهم شُعراء ورُجّازاً. وكان من أزواجِه صلى الله عليه وسلم مَنْ يكتبُ ويقرأ؛ وهنّ حَفْصَةُ بنتُ عُمر، وعائشةُ بنتُ أبي بكر، وأمُّ سَلَمة، رحِمَهُم الله تعالى جميعاً.
ورَوَوْا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يومَ الأحزابِ ينقلُ الترابَ ويقول:
اللهمَّ لولا أنتَ ما اهْتَدَيْنا ... ولا تصَدّقْنا ولا صلَّيْنا
ورووْا عنه عليه السلام أنه كان يومَ حُنَيْن على بغلتِه البيضاءَ وهو يقول:
أنا النّبيُّ لا كَذِبْ ... أنا ابنُ عبدِ المطّلِبْ
ورووْا أنه صلى الله عليه وسلم أصابَ إصْبَعَهُ الشريفةَ حجَرٌ فدَمِيَتْ، فقال:
هل أنتِ إلا إصبَعٌ دمِيتِ ... وفي سبيلِ اللهِ ما لَقيتِ
وأقول: إنّ هذه الأخبارَ إذا صحّتْ فإنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثّل بها ولا يُقيمُ وزْنَها تصديقاً وتسليماً لِما أخبرَ الله تعالى به وهو أصدقُ قيلاً. فإنهُ يمكنُ أنهُ قد كان يقول: اللهمّ ما اهتدَيْنا لولا أنتَ ولا صلّيْنا ولا تصدّقْنا، ويقول: أنا النبيّ لا كَذِبا، أنا ابنُ عبدِ المُطّلِب، ويقول: هل أنتِ إلا إصبعٌ دمِيَتْ، وفي سبيل الله ما لقِيَتْ. أو ما يقاربُ هذا، وإنْ كانت هذه الأخبارُ غيرَ متَّفَقٍ عليها، فقد سقط التعليلُ.
وقيل: دخل أبو علي المَنْقَريُّ على المأمونِ وكان متّكئاً على فُرُشِه، قال له المأمون: بلغَني أنكَ أمِّيٌّ، وأنك لا تقيمُ الشِّعرَ، وأنّكَ تَلْحَنُ، فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللّحنُ فربما سبَقَ لساني بشيء منه، وأما الأمّيّةُ وكسرُ الشعرِ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكتبُ ولا يُقيمُ الشِّعرَ. فاستوى المأمون جالساً وقد ظهرَ الغضبُ على وجهه وقال: ويلَك. سألتُك عن ثلاثةِ عيوبٍ فيكَ فزدْتَني رابعاً؛ وهو جهلُك وحمقُك، يا جاهل! إنّ ذلك كان في النّبي صلى الله عليه وسلم فضيلةً، وهو فيكَ وفي أمثالِك نقيصةٌ ورذيلةٌ، وإنما مُنِع النبي من ذلك لنفي الظِّنةِ عنهُ، لا لِعيبٍ في الشِّعر والكتابةِ، ولا لنَقْصٍ لحِقَهما. فلما سمِعَ المنقريُّ ذلك قال: صدقتَ يا أميرَ المؤمنين، رُبَّ ظنٍّ عثَرَ على وهْنٍ.
وقيل: من شرفِ ولَدِ فاطمةَ بنتِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ عظُمَ بيتُه وشرُفَ محتِدفه إلا ويودّ أنه فاطميٌّ. وكذلك أقول أنا: إنّ ما مِنْ أحدٍ وإنْ غلا قدرُه وعلا ذكرُه إلا ويودُّ أنه يحسِنُ قولَ الشِّعر، ويستطيعُ نظمَه، ليتجمّلَ به ويتزيّنَ بنسبه.
وقال بعضُ النّاس: فما تقولُ في قوله صلى الله عليه وسلم: (امرؤ القيسِ حاملُ لواءِ الشُّعراءِ يقودُهم الى النار)، وهلْ هذا مدْحٌ للشعرِ أم ذمّ؟ قلت: إذا تأملتَ المقصدَ وحقّقْتَ المُرادَ وجدتَ المعنى ينساقُ الى مدحِ الشعرِ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أرادَ حاملَ لواءِ شعراءِ الجاهلية والكفارِ، الذي هجَوا رسول الله وهجوا المُسلمين واستحقّوا النار بكُفْرِهم لا بشعرِهم، ولا خِلافَ ولا نِزاعَ بين العُلماءِ في ذلك. ولو أراد العمومَ لدخلَ تحت ذلك أصحابُه المقطوعُ لهم بالجنّةِ، وأولياؤه المؤمنونَ به، والمهاجرونَ والأنصارُ والتابعون. ومعاذَ الله أنْ يذهبَ الى ذلكَ مسلِمٌ أو يقول به عاقلٌ أو عالِم. وإنما كان مقصِدُه صلى الله عليه وسلم تفخيمَ حال امرئ القيسِ وتعظيم أمرِه وتقديمَ شِعرِه على أكفائِهِ ونُظرائِه، وأنهُ استحقّ عليهم التقديمَ والتفضيلَ بجَوْدَةِ شعرِه، وحُسْنِ معانيهِ وواقعِ تشبيهاتِه، فجعلَهُ لذلك عميدَهُم وسيِّدَهم والمتقدِّمَ عليهم وقائدَهُم. ولم يكنْ يستحقّ بكفرِه إلا النارَ وبحسنِ شِعره إلا التقدّمَ على الشُعراءِ، فكانت هذه الصّفةُ بهِ خليقةً، وسمَتُها به حقيقةً.
فقدْ ظهرَ لك مدحُ الشِّعرِ في مَطاوي هذا الذمِّ. ومثْلُ ذلكَ ما حكاهُ الأصمعيُّ أنّ أعرابياً أتى ابنَ عمٍّ لهُ، فسألهُ في مهْرٍ لزِمَهُ فلم يعْطِهِ شيئاً وردّهُ خائباً، فأتى رجلاً من المجوسِ وشكى إليهِ ما كان من ابن عمّه، فأعطاهُ المجوسيُّ ما التمسَه، وأطلقَ لهُ ما كان ابنُ عمه عنه حبَسَه، فأنشأ قائلاً:
كفاني المجوسيُّ مَهْرَ الرّبابِ ... فِدىً للمجوسيِّ خالٌ وعمّْ
شُهِدْتُ عليكَ بطيبِ المُشاشِ ... وأنّكَ أنتَ الجَوادُ الخِضَمّْ
وأنّكَ سيّدُ أهلِ الجحيمِ ... إذا ما تردّيْتَ فيمَنْ ظَلَمْ
تُجاورُ فرعونَ في قعْرِه ... وهامانَ والمكتَني بالحَكَمْ
لا ريبَ في أن الأعرابيَّ لم يُرِدِ الغضَّ والوضْعَ من المجوسيّ مع إحسانِه إليه عندَ حرمانِ ابن عمّه له، سيما وقد فدُ بطرفَيْه: خالِه وعمهِ، ولكنّه أرادَ تفخيمَ أمرِ المجوسيّ فجعله سيّدَ أهلِ الجحيمِ ومجاوِراً لفرعونَ وهامانَ وأبي جَهْل بن هشام، إذ لم يكن المجوسيُّ يستحقُّ إلا النّارَ، ولو كان مستَحقّاً للجنةِ لجعلَهُ مع أبرارها وأشرافِها، والمعنى ظاهر.
وقيلَ لمّا سمِعَ حسّانُ قولَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في حقِّ امرئ القيس قال: وَدِدْتُ أنه قال ذلك فيَّ وأنا المُدَهْدَهُ في النار، حِرْصاً على بلوغِ الغاية القُصوى التي أوجبَتْ تفضيلَ امرئ القيس على سائر نُظرائِه، وتقديمَه على جميع أكفائِه. وسأل بعضُ الناس عن قولِ الرضيِّ الموسويّ:
ما لكَ ترْضى أن يُقالَ شاعرٌ ... بُعْداً لها من عدَدِ الفَضائِلِ
قُلنا: الرضيُّ كان طالِبَ منزلةٍ عظيمةٍ، ومحدِّثاً نفسَه بأمورٍ جسيمة:
مُنىً إنْ تَكُنْ حقاً تكن أحسنَ المنى ... وإلا فقدْ قضّى بها زمناً رغْدا
فكلّ فضيلةٍ نبيلةٍ ومَنقَبة جليلةٍ عندَ بُغْيَتِه مُستَصْغَرةٌ، وكلُّ درجةٍ رفيعةٍ، وحوزةٍ منيعةٍ، عندَ طلبتِه نازلةٌ سهلةٌ، فمرادُه أن يقول: كيفَ ترضى لنفسِكَ أن يُقالَ عنك: هذا شاعِرٌ، مقتصراً على هذه السّمةِ، ومقتنعاً بهذه المنزلة، وواقِفاً على هذه الغاية، وتترك الجِدَّ والاجتهادَ في إدراكِ الرتبة التي أنت مؤمِّلُها، وتحصيلِ الأمنيّةِ التي أنتَ طالبُها. ثم قال: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائِلِ، أي بُعْداً لهذه الفِعْلَةِ مما يعدَّدُ في الفضائلِ التي خُصصتَ بها، حثّاً لنفسِه وتحريضاً لها في طلَبِ أمْرٍ هو من الشِّعْرِ أعْلى محَلاًّ، وأغلى حِليّآً، وأوفى شرَفاً، وأوفرُ قيمةً، وأعزُّ موضِعاً، ولم يقصِدْ أنّ الشِّعرَ خَصلةٌ مرذولةٌ وخَلّةٌ مذمومةٌ. وكيف يذهبُ الى ذلك أو يدّعيهِ أو يقولُه، وبالشِّعرِ شُهِرَ اسمُهُ وأضاءَ نجمُهُ، وتوفّرَ من الأدبِ قِسْمُه، وأغرضَ في الفَخْرِ سهْمُه، وأفنى فيه عمرَهُ، وقضّى بمصاحَبتهِ دهرَهُ، ولو ادّعى أنّ الشِّعرَ خَلّةٌ رذيلةٌ ومنزلةٌ وضيعةٌ، لم يُلْتفَتْ إلى زعمِه، ولا اتّسَقَ له أن يحُجَّ بذلك حُجّةَ خصمِه، ولا قولُه فيه مقبول ولا مُسلّم إليه.
وقد تقدّم من قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم في مدحِه ووصفِه وأقوالِ صحابتِه ما يدْحَضُ كلَّ حجةٍ، ويوضحُ في الفُلْجِ كلَّ محَجّةٍ. ومما يدُلّ على أن الرضيَّ كان يحدِّثُ نفسَهُ بما تُسْتَصْغَرُ معه المراتبُ الجليلةُ، والفضائلُ النبيلةُ، ما كاتَبَهُ به أبو إسحاق الصابئ الكاتب، إمّا مُستهزِئاً بهِ لاهياً، أو صادِقاً في مدحِه متناهياً، وهو:
أبا حسَنٍ لي في الرّجالِ فِراسةٌ ... تعوّدْتُ منها أن تقولَ فتَصْدُقا
وقد خبّرَتْني عنكَ أنّك ماجِدٌ ... ستَرقَى من العَلياءِ أبعَدَ مُرْتَقى
فوفّيْتُك التعظيمَ قبلَ أوانِه ... وقُلتُ: أطالَ اللهُ للسيِّدِ البَقا
وأضمرتُ منهُ لفظةٍ لم أبُحْ بها ... إلى أن أرى إظْهارَها ليَ مُطْلَقا
يعني: السلامُ عليكَ يا أميرَ المؤمنين.
فإنْ عِشْتُ أو إنْ مِتُّ فاذكرْ بِشارَتي ... وأوْجِبْ بها حَقّاً عليكَ مُحَقِّقا
وكنْ ليَ في الأولادِ والأهْل حافِظاً ... إذا ما اطمأنّ الجَنْبُ في مَضْجَعِ النّقا
لا ريبَ عندي أنّ أبا إسحاقَ لاهٍ في قولهِ، وأنّ باطنَهُ فيه ضدُّ ظاهرِه، وإنما أتاهُ بما يوافِقُ غرَضَهُ وتحدّثُه به نفسُه؛ ليحرِّكَ بمجونهِ ساكنَ منْجَنونهِ، كما قيلَ في المثلِ حرِّكْ لَها حُوارَها تحِنّ. وأعجبُ من هذا قبولُه لقولِه، وإجابتُه له بقصيدةٍ، منها:
لَئِنْ برَقَتْ مني مَخائِلُ عارِضٍ ... لعَيْنَيْكَ تقضي أنْ يجودَ ويُغدِقا
فليسَ بساقٍ قبلَ رَبْعِكَ مَربعاً ... وليسَ براقٍ قبلَ جوِّكَ مُرْتَقى
وإنْ صدّقَتْ منه الليالي مَخيلةً ... فكُنْ بجديدِ الماءِ أوّلَ من سَقى
وإنْ تَرَ ليْثاً لابداً لفريسةٍ ... يُراصِدُ غِرّاتِ المقاديرِ مُطْرِقا
فما ذاكَ إلا أنْ يوفِّرَ طُعْمَها ... عليكَ إذا جلّى إليها وحقّقا
فإنْ راشَني دهْرٌ أكنْ لكَ بازِياً ... يسُرُّكَ محصوراً ويُرضيكَ مُطلَقا
أشاطِرُكَ العِزَّ الذي أستَفيدُه ... بصَفْقَةِ راضٍ إنْ غَنِيتَ وأمْلَقا
فتَذهبُ بالشّطرِ الذي كلُّهُ غِنىً ... وأذهبُ بالشطرِ الذي كلُّه شَقا
فغَيْري إذا ما طارَ غادرَ صَحْبَهُ ... دُوَيْنَ المعالي واقعينَ وحلّقا
لعلّ الليالي أنْ يبلِّغْنَ مُنْيَةً ... ويقْرَعَنْ لي باباً من الحظِّ مُغْلَقا
نَظارِ ولا تَسْتَبْطِ عزْمي فلَنْ تَرَى ... عَلوقاً إذا ما لَمْ تَجِدْ مُتَعلَّقا
وإن قعَدَتْ بي السِّنُّ عنها فإنهُ ... سينهضُ بي مَجْدي إليها مُحَقِّقا
فمَنْ في نفسِه مثلُ هذا كيفَ يَرى الاقتناعَ بمرتَبةِ الشعرِ ولا يقول: بُعْداً لها من عدَدِ الفضائل.
وفي هذا الجواب كفايةٌ، فقدْ أخذَ الفصلُ بحقِّهِ، واللهُ تعالى الموفِّقُ لسلوكِ طُرُقِه، إن شاءَ اللهُ تعالى.
الفصل الخامس
فيما يجب أنْ يتوخاهُ الشّاعرُ ويتجنَّبَهويطّرحَه ويتطلّبَه
يجب على الشّاعر أن يتجنّبَ سَفْسافَ الكلامِ، وسخيفَ الألفاظ، ونازلَ المعاني المسترَدَةِ، ووحشيَّ اللغةِ المتكلَّفَة، ولا يستعملُ التشبيهاتِ الكاذبةَ، ولا الإشاراتِ المجهولةَ، ولا الأوصافَ البعيدةَ، ولا العباراتِ الغثّةَ، ولا يختصر في موضع البَسْطِ، ولا يبسُطُ في موضع الاختصار. فإذا أراد أن يبني قصيدةً أو ينظم قطعةً صوّرَ المعنى في قلبه، ومثّلَهُ في نفسه كلاماً منثوراً، ثم أعدّ له ألفاظاً تُطابقه، واختار له من القوافي ما يوافقه، وجعله على وزنٍ يسْلسُ القولُ عليه، وينقاد المعنى إليه. فإذا نظم بيتاً تأمّلَهُ تأمُّلَ غيرِ راضٍ عن نفسه، ولا مغالطٍ لفهمه وحسِّهِ، وانتقدَه انتقاد متعنِّتٍ فيه، فإنْ وافق الصحّةَ، وجرى على منهاجِ الاستحسانِ، وإلا فالواجب عليه إسقاطُه. وإنِ اتّفقَ له بيتان على قافيةٍ واحدة، اختار الأوقعَ منهما وأبطلَ الآخرَ.
ويجبُ على الشاعر أنه لا يُظْهِرَ له شعراً إلا بعد ثِقتِه بجودتِه وسلامتِه من العيوب التي نبّه عليها العُلماءُ وأمروا بالتحرُّزِ منها. ولا يسلكُ سبيلَ الأعرابِ فيما نَهَيْنا عنه في صدر الكتاب.
وأمّا ارتكابُ الضروراتِ غير المحظوراتِ فيجوزُ استعمالُها وإن كانت عند المحققينَ عيباً، وقائلُها عندهم مسيئاً، إلا أنّ اجتنابَها مع جَوازها أحسنُ. ولا ينبغي الاقتداءُ بمن أساءَ من الشُعراءِ القدماءِ بل بمن أحسنَ منهم وأجاد. ولا يحذو إلا حذْوَ الشِّعر الجيّد، والنظم المختار، والطريقة الحسنة، والسُنّة الهادية، واللّفظ الرشيق، الحُلو اللطيف السّهلِ، الآخذِ بمجامع القلوب، المستولي على قُوَى النفوس، الواصلِ الى الأفهام من غير حجاب، الهاجمِ على العقول بلا مِطْرَقٍ ولا بوّاب، المُشاكلِ للأرواح لفظاً ورقّةً، وللسّحرِ حلاوةً ودقّةً.
ويجبُ على الشاعر أن يتنكّبَ سرِقةَ الأشعارِ ويتجنّبَ الإغارةَ على المعاني، فإذا حاولَ النظرَ الى شيءٍ من ذلك جعل خاطرَهُ كوادٍ مُطمئِنٍ قد مدّتْهُ سيولٌ جاريةٌ من شِعابٍ مختلفة، أو كمَنْ ركّبَ طيباً من أخلاطٍ متغايرةٍ من الطيبِ، فلا يُعرَفُ أرَجُ ما ركّبَهُ من أي طيبٍ هو.
ومما يُحكى في مثلِ ذلك أنّ خالدَ بنَ عبد الله القَسْري قال: حفّظني أبي ألفَ خطبةٍ ثم قال لي: تناسَها فتناسَيْتُها فغاضَتْ ثم فاضَتْ، فواللهِ ما أردتُ بعد ذلك شيئاً من الكلامِ إلا سهُلَ عليّ وعْرُه ولانَ لخاطري صعبُه.
وينبغي للشّاعرِ أنه إذا نظمَ شِعراً يردِّده برفيعٍ من صوته، فإنّ الغِناءَ فيه يكشفُ عيوبَه، ويبيّنُ متكلَّفَ ألفاظِه؛ ألا ترى الى قولِ حسّان بن ثابت:
تغنَّ في كلِّ شِعْرٍ أنتَ قائلُهُ ... إنّ الغِناءَ لهذا الشِّعْرِ مِضْمارُ
وينبغي للشاعر أن يتأمّل مصراعَ كل بيْتٍ حتى يُشاكل ما قبلَه ويطابقَ ما تقدّمه، فقد عاب العلماء على خَلْقٍ من الشُعراء القدماء مثلَ ذلك، كقول الأعشى:
أغَرُّ أبيضُ يُسْتَسْقى الغَمامُ بهِ ... لو قارعَ الناسَ عن أحسابِهمْ قَرَعاً
فالمِصْراعُ الثاني غيرُ مُشاكِلٍ للأوّل، وإنْ كان كلُّ واحدٍ منهما قائماً بنفسِه، وهذا معنىً ينبغي مراعاتُه والوقوفُ عندَه. ومثله قول امرئ القيس:
كأنّي لم أرْكَبْ جَواداً للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعِباً ذاتَ خَلْخالِ
ولم أسْبأِ الزّق الرّويَّ ولم أقلْ ... لخَيْليَ كُرّي كرّةً عندَ إجْفالِ
قال محمد بنُ أحمد بن طباطبا العلَوي: هذان بيتان حسنان، ولو وُضِعَ مصراعُ كلِّ واحدٍ منهما في موضع الآخر كان أشكلَ وأدخل في استواء النسج، فكأنْ يُقال:
كأني لم أركبْ جواداً ولم أقُلْ ... لخيليَ كُرّي كَرّةً بعدَ إجفالِ
ولم أسبأِ الزِّقَّ الرّويَّ للذّةٍ ... ولم أتبطّنْ كاعباً ذاتَ خَلخالِ
وينبغي للشاعر أن يتجنّب الحشوَ الذي يفسُدُ به البيت، كقول الأعشى لمّا مدح قيْساً:
ونُبّئْتُ قيْساً ولم آتِه ... وقد زعَموا، سادَ أهلَ اليَمَنْ
فقال له قيس: يا ويلكَ تقول وقد زعَموا. وهذه كلمةٌ لا تُستعمَل إلا عندَ الشكِّ في صِدْق القائل! فجعلها حَشْوةً أفسدَ بها معنى البيت. فلو قال:
ونُبّئْتُ قيساً ولمْ آتِه ... على نأيِهِ سادَ أهلَ اليمَنْ
لخلَص من ذلك.
وينبغي للشاعر أن يتعفّفَ في شعرِه ولا يستَبْهِرَ بالفواحشِ، ولا يتهكّمَ في الهجاء، فإنّ العلماء ذمّوا من اعتمد ذلك، ومن كان يتعهّرُ ولا يتستّرُ مثل امرئ القيس في قوله:
ومثلِك حُبْلى قد طرَقْتُ ومُرضع ... فألْهَيتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
وينبغي للشاعر أن يستعمل لفظةً لإقامة وزنِ البيت وهي مُفسِدة بمعناها له، وإذا حكَم عليه البيتُ بذلك فالأوْلى إسقاطُه. ألا ترى ذا الرُمّة وقوله:
حَراجيجُ ما تنفكُّ إلا مُناخةً ... على الخَسْفِ أو ترمي بها بلداً قَفْرا
كيف أدخلَ إلا بعد ما تنفك لإقامة وزن البيت فأفسدَه. لأنّ مايزالُ وماينفك في كلامِهم جَحْدٌ وإلا تحقيقٌ، فكيف يجتمعان! ولهذا لو قُلت: مازالَ زيدٌ إلا قائماً، لم يجُزْ.
وينبغي للشاعر أنه إذا رأى الشِّعرَ قد اعتاصَ عليه ومنعَ جانبَه منه أنْ يتركَهُ في تلك الحال ولا يكُدَّ قريحتَه فيه، ولا يكلِّفَ خاطرَهُ اقتحامَ مهاويه. فقلّما يجيءُ الشعر على تلك الحال كما يؤْثِرُ الشاعرُ، ولعلّ في تركِه له حدوثَ معنىً لم يكنْ في الخاطر من قبْلُ، وقد وقعَ لجماعةٍ من الشعراءِ مثلُ ذلك كثيراً.
قيلَ: لما وفدَ ذو الرُمّة على بلال جعلَ يتردّدُ إليه ويحاولُ أن يبتدئَ قصيدةً فيه والشّعرُ يعتاصُ عليه فلا يقدرُ أن يصل إليه، فقال له عجوزٌ كان يُكثر الغُدوَّ والرَّواحَ عليها. وكان جميلاً: قد طالَ تَردادُك يا فتى، أفإلى زوجةٍ سعِدتَ بها، أم الى خُصومةٍ شَقيتَ من أجْلِها، فالتفت ذو الرُمّة الى راويتِهِ وقال: جاء والله ما أريد، ثمّ أنشأ قائلاً:
تقولُ عجوزٌ مَدْرَجي مُتروِّحاً ... على بابِها من عِنْدِ أهلي وغادِيا
الى زوجةٍ بالمصرِ أمْ لخُصومَةٍ ... أراكَ لها بالبصرةِ العامَ ثاوِيا
ومرّ في القصيدة، فكأنّ العجوزَ اقتدَحَتْ بكلامِها زَنْدَ خاطرِه.
والفصيحُ في اللغة أن يُقال: فلانةٌ زوجُ فلان ولا يقالُ زوجةُ فلان. وقال ابن مناذر قلت:
يَقدحُ الدهرُ في شماريخِ رضوى
ومكثتُ حوْلاً لا أقدرُ على إتمامِه فسمعتُ قائِلاً يقول: هَبّود، فقلت: وما هَبّود؟ قيلَ جبلٌ، فقلت:
ويحطُّ الصّخورَ من هبّود
وفي مثلِ هذه الحكاية ما حدّثَ به أبو الحسن عليُّ بنُ نصْرٍ الكاتب قال: حدّثني زعيمُ المُلك قال: قال لي أبو الحسن الجهرميّ: لمّا عملتُ قطْعَتي التي أصِفُ الدّيكَ فيها، وأوّلها:
يا رُبَّ أفرَقَ قُبْرُ سِ ... يٍّ ليسَ بالجَزِعِ الفَروقِ
علِقَ الدُجى بذيولِهِ ... لمّا تطلّسَ بالبُروقِ
فالنّارُ لونُ لِباسِه ... وسِواهُ منها في حَريق
حُذيَ النُّضار وزيدَ تحْ ... سيناً فتُوِّجَ بالعقيقِ
فتخالُهُ خاضَ الأصي ... لَ وبلَّ فرْعاً بالشُروقِ
يمشي بمِهْمازَيْنِ إم ... ما للنّجاةِ أو اللُّحوقِ
سكِرَتْ لحاظُ الناظري ... ه بكأسِ مَفْرقِه الرّحيقِ
بقيتُ أياماً أفكّرُ في بسْطِ رجلِه إذا وطِئَ الأرضَ ورفعِها متمَهِّلاً أن يضعَها على الأرض، ومازلْتُ أقبِضُ يديَ وأبسطُها متطلّباً المعنى، فقالتْ لي امرأة كانت تراني: أيُّ شيءٍ بك، كأنك تقارعُ أحداً؟ فقلت لها: رفّهتِني وخرجتِ إليّ بغَرضي ثمّ قلت:
مُتشابِهُ الخطَواتِ ينْ ... قُلُهنّ بالمَهْلِ الرفيقِ
رِجْلٌ تُريكَ يدَ المُقا ... رعِ في مُصافحةِ الطريقِ
وينبغي للشاعر أن يُقارِبَ بين الألفاظِ ولا يُباعِدَ بينها، فهو عيبٌ، كما قيل: إنّ الكُمَيْت أنشد نُصَيْباً قولَه:
وقد رأينا بها حُوراً منَعَّمةً ... بِيضاً تكاملَ فيها الدّلُ والشنبُ
فعقدَ نُصَيْبٌ خِنصَرَهُ فقال له الكُمَيْت: ما هذا؟ قال: أعُدُّ غلطَك، هلاّ قُلتَ كما قال ذو الرّمّة:
لَمْياءُ في شفَتَيْها حوّةٌ لعَسٌ ... وفي اللِّثاثِ وفي أنيابِها شنَبُ
وأقول: إنّ الذي أنكرَه نُصَيبٌ في موضِع الإنكار، وهو عيٌ قبيحٌ؛ لأن الكلامَ لم يجرِ على نظمٍ متسِقٍ، ولا وقعَ الى جانبِ الكلمةِ ما يشاكلُها. وأول ما يحتاجُ إليه الشّعرُ أن يُنظَمَ على نسَقٍ وأن يوضَعَ على رسمِ الُشاكلة.
وقيل: إنّ عمّ عُبَيْد الراعي النُمَيْريّ قال للراعي: أيُّنا أشعرُ أنا أم أنتَ؟ فقال الراعي: أنا أشعرُ يا عمُّ منكَ، فغضِبَ وقال: بمَ وكيفَ؟ قال: لأني أقولُ البيتَ وأخاهُ، وأنتَ تقول البيتَ وابنَ أخيه.
وينبغي للشاعرِ أن يتجنّب الألفاظَ التي تَشْتَبهُ على سامعيها وقارئيها ولا ينزِلَ في الخطابِ من عُلوّ الى مهْبِطٍ؛ لأنّ الأجدرَ أن يرتقيَ من انحطاطٍ الى عُلوّ.
فأما الألفاظُ التي تشتبِهُ فمثالُها ما جرى لأرطأةَ بن سُهيّة المُريّ، وكان قد بلغَ مائة وثلاثين سنةً، فدخل على عبد الملك فقال له: ما بقيَ من شِعرِك يا بنَ سُهيّة؟ فقال: واللهِ ما أشربُ ولا أطربُ ولا أغضبُ، ولا يجيءُ الشّعرُ إلا على مثلِ إحدى هذه الخِلال، وإني لأقول:
رأيتُ المرءَ تأكلُهُ الليالي ... كأكْلِ الأرضِ ساقطةَ الحديدِ
وما تَبْغي المنيّةُ حين تأتي ... على نفْسِ ابنِ آدمَ من مَزيدِ
وأعلمُ أنها ستَكُرُّ حتى ... تُوفِّي نَذْرَها بأبي الوليدِ
وكان أرطأةُ يُكنى أبا الوليد، وعبدُ الملكِ يُكنى أبو الوليد، فارتاعَ عبدُ الملك واشتدّ ذلك عليه وتغيّر لونُ وجهِه ظناً بأنه يعْنِيه، فقال له أرطأة: إني لم أعْنِكَ وإنما عَنَيْتُ نفسي، وشهِدَ عندَهُ جماعةٌ أنّ كُنيتَه أبو الوليد فأمسكَ عنه، ولولا ذلك لأوقَعَ به وأهلَكَه.
والروايةُ الصحيحةُ أن عبدَ الملكِ بلغَتْهُ الأبياتُ فأنكرَها وأعظمَه وقال: ما هذا الجِلْفُ وذِكْري، وأمرَ بإحضارِه ليوقِعَ بهِ فشهِدوا عندَهُ بكُنيَتِه وأنه لم يقصِدْهُ بذلك. فلما أُحضِرَ وهو خائفٌ وجِلٌ، آمنَهُ وأطلقَه، فعادَ وجماعةٌ من أعدائه قد أرْجَفوا عليه بالنَّكال والوَبالِ فأنشأ قائلاً:
إذا ما طَلعْنا من ثَنيّةِ لَفْلَفٍ ... فبَشِّرْ رِجالاً يكرهونَ إيابي
وخبّرْهُمُ أنّي رجِعْتُ بغبْطَةٍ ... أحدِّدُ أظفاري وأصرفُ نابي
وأنّي ابنُ حرْبٍ لا تزالُ تهِرُّني ... كِلابُ عدوٍ أو تهِرُّ كِلابي
وقريٌ من هذه الحكاية ما حدّث به المصوِّر العَنزيّ وكان راويةَ العربِ قال: دخلتُ على زيادٍ فقال: أنشِدْنا، فقلت: من شِعْرِ مَنْ؟ قال: من شعرِ الأعشى، قال: فأُرْتِجَ عليّ ولم يحضرْني إلاّ قولُه:
رحَلَتْ سُميّةُ غُدْوَةً أجْمالَها ... غَضْبى عليكَ فما تقولُ بَدا لَها
فقطّبَ زيادٌ وغضبَ وعرَفْتُ ما وقعتُ فيه فخرجتُ منهزِماً. فلمّا أجاز الناسَ لم أسْتَجرِ أن أرجِعَ إليه، لأنّ أمّ زيادٍ كان اسمُها سُميّة.
ودخل ذو الرّمّة على عبد الملك فقال له: أنشدني أجودَ شِعرِكَ فأنشدَه:
ما بالُ عينِكَ منها الماءُ ينسكِبُ ... كأنهُ من كُلَى مَفْريّةٍ سَرِبُ
وكانت عيْنا عبد الملك تسيلان ماءً، قال: فغضِبَ عليه وأمرَ به، فأُخْرِجَ مهاناً وقد عرَفَ موضعَ خطئه. فلمّا كان من الغد دخل في زُمرةِ الناس وأنشد:
ما بالُ عينيَ منها الماءُ ينسكبُ
حتى أتى على آخرِها فأجازَهُ ومن الاتفاق العجيبِ أنّ عبدَ الملك كان قد أعطى عمروَ بن سعيد الأشْدَق أمانَهُ وخدَعُه وكاذَبَه حتى حصلَ وقتلَه. واتّفقَ أنّ إبراهيمَ بن مُتمِّم بن نُوَيْرة وفدَ على بني عمرو بنِ سعيدٍ الأشدَق فقالوا لعبدِ الملك: ما رأيْنا بدويّاً يشبهُ إبراهيمَ بنَ متمِّم عقْلاً وفضْلاً، فقال عبدُ الملك: أدخِلوه، فلمّا دخل عليه رأى منه ما رآه القوم، فقال له: أنشِدْنا بعضَ مراثي أبيك متمم في عمّك مالكٍ فأنشدَه:
نِعْمَ الفوارسُ يومَ نُشْبَةَ غادَروا ... تحتَ التُرابِ قتيلكَ ابنَ الأزْوَرِ
فلمّا انتهى الى قولِه:
أدَعَوْتَهُ باللهِ ثمّ قتَلْتَهُ ... لوْ هو دعاكَ بمثلِها لم يغْدِرِ
فظنّ عبدُ الملك أنّ بني عمرو بن سعيدٍ قد وضعوهُ على ذلك، فغضِبَ حتى انتفخَ سَحْرُهُ غيْظاً، ونظرَ الى بنيهِ مقطِّباً فعرفوا ما عنده، فأقسموا له بالطلاقِ وأكّدوا الأيْمانَ وأنذروا الحجّ وحرّموا الأموالَ والعبيدَ والإماءَ إنْ كانوا علِموا بقولِه، أو اطّلعوا عليه، أو شاوروه فيه، أو جرى منهم في هذا قولٌ أو فِعْل، فأمسكَ مُعْرِضاً وأخرجَ ابنَ متمِّم خائباً. فلما انصرفوا جمعوا له من بينهم شيئاً وردّوه الى بلادِه خوْفاً على نفسِه من عبدِ الملك.
فيجبُ على الشاعر التحرّز في مثل هذه الشُبَهِ والإعراضُ عنها.
ومن الألفاظِ التي بدّلها قارئُوها ما حدّثني به والدي رحمَهُ الله تعالى قال: مدحَ حيدرُ بنُ محمدِ بن عُبَيدِ اللهِ العلَويّ الحُسَيْنيّ يوسفَ بنَ أيوبٍ بقصيدة، فأخذَها بعضُ أعدائِه وهي بخطِّه، ومن جُملتِها: فلا يَغْرُر الباغي أناتُك. وكشَطَ نُقطَتَيْ التاء كشْطاً خفِياً لا يكادُ يظهرُ ولا يُدرَك، ونقَطَ التاء نقْطَ الباء، وأضاف الى نُقطةِ النون أخرى فصارتِ الكلمةُ أتابكَ، وأتى بالقصيدةِ الى عزّ الدين مسعودٍ أتابك، وقال له: هذا حيدَرٌ ولدُ وزيركَ قد مدحَ عدوَّكُم وقد هجاك وسمّاك باغياً. فلما رأى ذلك لم يشُكَّ فيه ولا أمكنَ أن يُزيلَهُ من قلبِه مُعتذِرٌ، وأُخِذَ حيْدَرٌ وأودِعَ السجنَ، فما زال محبوساً حتى أشرف على التلفِ. هذا بتصحيفِ كلِمة واحدة فمِن مثلِ هذا ينبغي التحفّظ.
وأما النّزولُ في الخطاب من مرتَبةٍ شريفةٍ الى منزلةٍ سخيفةٍ، فكقول أبي الطّيّب:
ترَعْرَعَ المَلِكُ الأستاذُ مُكْتَهِلاً ... قبْلَ اكتهالِ، أديباً قبلَ تأديبِ
لم يَحْسُنْ في حُكم صناعةِ الشعر أنْ يخاطبَهُ بالأستاذِ بعدَ المَلِكِ فإنّ ذلك نقصٌ في الأدب، وقُبحٌ في المعرفة. ألا ترى أن الكلمةَ الدنيّة لا يليقُ أن تقترنَ بكلمةٍ شريفةٍ، وكذاك الكلمةُ الشريفةُ لا يليقُ أن يُذْكَرَ معها إلا ما هو من قبيلِها، وغير ذلك يقدحُ في الصناعةِ عندَ أهلِ المعرفةِ.
قد عرّفْتُك أنّ اللفظةَ الواحدةَ تُفْسِدُ البيتَ جميعَهُ، ألا ترى قولَ أبي الطيّب أيضاً:
ولا فضْلَ فيها للشجاعةِ والنّدى ... وصبْرِ الفَتى لولا لِقاءُ شَعوبِ
لفظةُ الندى أفْسَدَتِ المعنى؛ لأنّ مقْصدَهُ أن يقول: إنّ الدنيا لا فضلَ فيها للشجاعةِ والصبر لولا الموتُ، لأنّ الشُجاع إذا علمَ أنه مخلّدٌ لا ينالُه تلَفٌ ولا إذا ألْقى نفسَهُ في المهالِكِ يمَسُّه ضررٌ، لم يكنْ لشجاعتِه فضلٌ، وإنّما الفضلُ له في الشجاعةِ والصبر مع علمِه أنّ ذلك يؤدي الى تلَفِ النفس، وفقْدِ نعيمِ الدُنيا. وأما النّدى فمخالِفٌ لذلك، لأنّ الإنسانَ إذا علمَ أنّهُ يموتُ هان عليه بذلُ مالِه. ألا ترى المرءَ إذا عوتِبَ على الإسرافِ في البَذْلِ كيفَ يتعتذرُ ويقول: إنّما أبذُلُ ما لا أبْقى له، ولا أنا على ثِقةٍ من التمتّعِ به، كقول الأول:
أبْذُلُ ما لسْتُ بباقٍ لهُ ... ولا بهِ أسطيعُ نيْلَ البَقا
وقول الآخر:
نفسي التي تملِكُ الأشياءَ ذاهِبةٌ ... فلَسْتُ آسى على شيءٍ إذا ذهَبا
فقد بانَ لك أن لفظةَ الندى أفسدتِ المعنى.
وقريبٌ من هذا المعنى أنّ الشاعرَ يصفُ نفسَه بما يرفعُها ثم يُعْقبُ ذلك بقولٍ يحُطُّ منها ويَضَعُها، وهو عيبٌ يُسقِطُ فضيلةَ الشاعرِ ويوهنُ تقدُّمَه. ولهذا قدحَ العلماءُ في امرئ القيس وعابوهُ ولامُوهُ في كتبهم وعاتبوه حيث يقول:
فلوْ أنّ ما أسْعَى لأدْنى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلُبْ، قليلٌ من المالِ
ولكنّما أسعى لمَجْدٍ مؤَثَّلٍ ... وقد يُدرِكُ المجدَ المؤثَّلَ أمْثالي
فهذا شعرُ ملكٍ يفتخرُ بملكِه ويصفُ ما يحاولُ من بَهيّ عِزِّه مع جلالةِ شأنِهِ وعظيمِ خطَرهِ، فكيفَ حسُنَ بهِ أن ينزلَ عن هذا المركب الجليلِ الى محَلٍّ مُستَرذلٍ، ويرتديَ برداءٍ مُبتذَلٍ فيقول:
لنا غنَمٌ نُسَوِّقُها غِزارٌ ... كأنّ قُرونَ جِلَّتِها عِصيُّ
فتَمْلأُ بيتَنا أقِطاً وسَمْناً ... وحسبُك من غِنىً شِبَعٌ ورِيُّ
هذا شِعْرُ أعرابي مُتلفِّعٍ بكسائه لا تتجاوزُ هِمتُه، ما حوَتْهُ خيمتُهُ.
وقد هجا الحطيئةُ الزِّبْرقانَ بدون هذا حيث يقول:
دعِ المكارِمَ لا تنهَضْ لبُغْيَتِها ... واقْعُدْ فإنّك أنتَ الطّاعمُ الكاسي
فاسْتعدى الزبرقانُ عمرَ بنَ الخطّاب على الحطيئة فحبسَه حتى تابَ وأنابَ.
وينبغي للشاعر أن يتحرّزَ كلَّ التحرّزِ من لفظٍ يتطيّرُ بهِ سامعُهُ خصوصاً إذا ابتدأ به، وافتتَحَ الكلامَ بسببه. فكم من شاعرٍ قد حُرِمَ بطريقه الإفادة، ونُزعَتْ عنهُ جلابيبُ السّعادةِ. من ذلك ما رَوَوْهُ عن الأخطلِ لمّا دخلَ على عبدِ الملكِ فأنشدَهُ قصيدةً أولُها:
خَفَّ القطينُ فراحوا منكَ أوْ بكَروا
فقال عبدُ الملك: بلْ منك يا بنَ اللخناء أخرِجُوه، فأُخْرِجَ فلمّا كان من الغدِ دخل عليه وأنشدَُ:
خفّ القَطينُ فراحوا اليومَ أو بكِروا
ومرّ في القصيدةِ الى آخرِها.
وقيل: دخل إسحاقُ بنُ إبراهيم على المُعتصمِ وهو جالسٌ في قصرِ بناهُ بالمَيدانِ لم يُرَ أحسنُ منه وعندَهُأهلُ بيتِه وأكابرُ النّاسِ للهناءِ، فاستأذنَهُ في إيرادِ قصيدةٍ يهنّئُهُ فيها بالموضِع، فأذِنَ له، فابتدأ وأنشد:
يا دارَ هندٍ ما الذي عفّاكِ ... بعْدَ الجميعِ وما الذي أبْلاكِ
إنْ كان أهلُكِ ودّعوكِ وأصْبَحوا ... فِرَقاً وأصبَح دارِساً مغْناكِ
فلقدْ نراكِ ونحنُ فيك بغِبْطَةٍ ... لوْ دامَ ما كُنّا عليهِ نراكِ
فتطيّرَ المعتصمُ من قوله ونفرَ حتى ارْبَدّ وجهُهُ ووقعَ على النّاسِ كآبةٌ، فخرج من ذلك المجلس وما عاد إليه ولا أحَدٌ من الحاضرين. قلت هذا عجَبٌ من إسحاقَ، ولولا غفلةٌ أدركتْهُ من قِبَلِ اللهِ تعالى فرانَتْ على عقلِه حتى قال ما قاله، إمّا للعِظة أو التأديب، لكان له من المعرفةِ والفهمِ والتجربةِ بخدمةِ الخُلفاءِ، والانتقادِ على الشُعراء، ما يزَعُهُ عن النُطْقِ بمثلِ هذا كلاّ بلْ رانَ على قلوبِهم.
وحدّثَ إبراهيمُ بنُ شِكْلَة بحديثٍ يُحِقُّ أنّ الألفاظَ الرديئةَ قد تجري على اللسانِ، بغير حُكم الإنسان، مع النَهْي عنها والتحذير منها، قال: دخلتُ على الأمين محمدٍ والأمورُ عليهِ مختلّةٌ فقال: يا عمُّ، هلاّ جلستَ معَنا لنتسلّى بألفاظِك وتخفِّفَ بها همَّنا، قال: فجلستُ وتغدّيْنا ودعا بالشرابِ واستحضَرَ جاريتَهُ دِبسيّةَ وأمَه بالغناء فغنّتْ:
كُلَيْبٌ لعَمْري كانَ أكثرَ ناصراً ... وأيْسَرَ جُرْماً منكَ ضُرِّجَ بالدّمِ
فاغتاظَ الأمين من قولِها وقال: ما هذا؟ فقالت: يا مولايَ هذا الذي كنتَ تقترحهُ عليّ قديماً. قال غنّي غيرَه فغنّتْ:
هُمْ قتَلَوهُ كي يكونوا مكانَه ... كما فعلَتْ يوماً بكِسْرى مَرازِبُهْ
فتطيّر من غنائِها، وأخذَ العودَ وضربَ به رأسها وقال: انهضي إلى لعنةِ الله. قال إبراهيمُ: فقلت يا سيدي إنما قصدَتْ لعادتِكَ من الأغاني فإنْ رأيتَ أن ترجِعَ. وسكّنتُ غضبَهُ، فأمرَ برجوعِها وجيءَ بعودٍ فغنّتْ:
أرى الأثْل من وادي العقيق مُجاوري ... ففيمَ وقَدْ غالَتْ يزيدَ غوائِلُهْ
فأمر بسحبِها، فسُحِبَتْ وأُخرِجَتْ وأقسمَ أنه لا يسمعُ يومَه غناءً ولا يشرب شَراباً. فما مضَتْ إلا ثلاثةُ أيامٍ حتى اجتُزَّ رأسُه وضُرِّجَ بدمائِه.
ودخلَ أبو مقاتل على الدّاعي في يوم المهرجان وابتدأ في الهناء بهِ فقال:
لا تَقُلْ بُشْرَى ولكنْ بُشْرَيان ... غُرّةُ الدّاعي ويومُ المَهْرَجانِ
فلمّا قال لا تَقُلْ بُشْرَى نهضَ من مجلسِهِ متَطيّراً وقطعَ الإنشاد مُبدِّلاً لمجلسِهِ مُغيِّراً.
ودخلَ أبو نواس على الفضلِ بنِ يحيى البرمكي وأنشدَه:
أرَبْعَ البِلى إنّ الخشوعَ لبادِ ... عليكَ وإني لمْ أخُنْكَ وِدادي
فانزَعَج الفضلُ مُتطيراً بذلك وعادَ يكرِّرُ يمحو اللهُ ما يشاءُ، فلما انتهى الى قوله:
سلامٌ على الدنيا إذا ما فُقِدتُمُ ... بني بَرمكٍ من حاضرينَ وبادِ
استحكَمَ تطيُّرهُ ونهضَ فدخلَ دارَ الحُرَمِ ولم يبقَ أحدٌ في مجلسِه إلا واستقبحَ ذلك من اختيارِ أبي نواس.
ودخل أبو عُبادة البُحتري على أبي سعيدٍ الثّغْريّ فأنشده:
لكَ الويلُ من ليلٍ بِطاءٍ أواخرُهُ
فقال أبو سعيد: بَلْ الويلُ والحرَبُ لك لا أمَّ لك. وللهِ العجَبُ كيف فات البُحتريَّ ذلك، واستحسنَ أن يقابلَ ممدوحاً ويفتتحَ كلامَهُ له بقولِه لكَ الويلُ، وما الذي أعجبه من هذا الافتتاحِ لولا غفلةٌ أدركتهُ!؟ وقيل: لما أنشدَ أبو الطيّب عضُدَ الدولةِ قصيدَهُ الذي أولُه:
أوْهِ بَديلٌ من قولَتي وَاها
قال له عضدُ الدولة: أوّه وكيَّه، ويلَكَ ما هذا الكلام.
وإنّما ينَبَّهُ على مساوئِ الشاعرِ المتقدّمِ ليتجنّبَ المتأخِّر ما أُخِذَ عليه وأخطأ فيه. وليسَ الغرضُ بذلك الغَضَّ من نُبلِه، ولا الاستنقاصَ بفضلِهِ.
والشاعرُ إذا أوقعَ الكلامَ مواقعَهُ، ووضعَ المعانيَ مَواضعَها اكتسى شعرُهُ البهاءَ، وكسَبَهُ حُسْنُ تأتّيهِ الثناءَ. وإذا أجادَ في نظمِهِ، وأساءَ في تأتّيهِ وقلّةِ حَزْمِه، غطّتِ الإساءةُ على الإحسان، واستحقَ بعد الإكرامِ محلّ الهوانِ.
ومن غلْطاتِ الشعراءِ أنّ أبا النّجْمِ العِجْليّ دخلَ على هِشام بنِ عبدِ الملك، وكان أحولَ فأنشدَهُ أُأَرجوزتَهُ اللاميّةَ التي يقولُ في أوّلِها:
الحمدُ للهِ الوَهوبِ المُجْزِلِ
حتى بلغ قولَه:
والشمسُ قد صارَتْ كعينِ الأحْوَلِ
غضب هشام وأمرَ به فضُربَ وسُجِن.
ووفدَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ العَبْليّ على هشامٍ أيضاً ومدحَه، فأجازَهُ بمئتَيْ دينارٍ، ثمّ خرجَ من عندِه فمرّ بالوليدِ بن يزيد وهو وليُّ عهدِ هشام فقال له:
يا بنَ الخليفةِ للخلي ... فةِ والخليفةُ عن قليل
فبلغ قولُه هشاماً فغضبَ وأرسلَ خلْفَهُ، فرُدَّ من الطريق فلمّا حضرَ قال له: ويلكَ! مدَحْتَني في كلمتِكَ التي أولُها:
لَيْلَتي من كَنودَ بالغَوْر عُودي ... بصفاءِ الهوى من امِّ أسيدِ
وقلتَ فيها لي:
ووقاكَ الُتوفَ من وارِثٍ وا ... لٍ وأبقاكَ صالحاً رَبُّ هودِ
ثم مررتَ بالويدِ فنَعَيْتَني إليه! قبحكَ الله، وأمرَ بهِ فضُربَ مئتَيْ سوْطٍ مكانَ كلِّ دينارٍ سوْطاً. ثم أقامَ عبدُ اللهِ العَبْليّ حتى هلَكَ هشامٌ وقُتِلَ الوليدُ وقام مروانُ بنُ محمدٍ فمدحَهُ ومدحَ وليَّيْ عهدِه عبدَ الله وعُبَيْدَ الله فقال:
لا حُرِماها ولا بها خَلَصا ... حتى يكونَ البَدا بكَ الهَرَمُ
فضحِكَ مروانُ وقال: يا عبدَ الله لقد أدّبَك أبو الوليد، يعني هِشاماً. ولمحَ ذلك بعضُ المُحدَثين فقال:
ووليُّ عهدِكَ لا يزالُ أميرا
ومن بوادرِ اللسانِ التي يجبُ تجنُّبُها على كل شاعرٍ بل كل إنسان، ما اعتمدَهُ الأخطلُ مع الجحّاف بن حكيم السُلمي؛ فقيل إنّ الأخطلَ دخلَ على عبدِ الملكِ بن مروانَ والجحّافُ عندَه وكان قد اعتزلَ حرْبَ بني تغلبَ، فلما رآه الأخطلُ أنشدَ محرِّضاً للجحّافِ أو مستهزئاً به:
ألا سائِلِ الجَحّافَ هلْ هوَ ثائِرٌ ... بقَتْلى أُصيبَتْ من سُلَيْمٍ وعامِر
فقبضَ الجحّاف على لحيتِه وقال:
نعَمْ سوفَ نَبْكيهِمْ بكلِّ مُهَنَّدٍ ... ونَنْعى عُمَيْراً بالرّماحِ الشّواجِرِ
يعني عُمَيْر بن الحُبابِ السُلمي. ثم قال: ما ظنَنْتُ يا بنَ النصرانية أنّكَ تجترئُ عليّ ولو رأيْتَني مأسوراً، وأوعدَهُ وتهدَّدَهُ وخرجَ يجرُّ مُطْرَفَهُ غضباً، فقالَ عبدُ الملكِ للأخطل: ما أراكَ إلا قد جررتَ على قومِكَ شرّاً، فما فارقَ الأخطل موضعَهُ حتى حُمَّ، فقال له عبدُ الملك: أنا جارُكَ منهُ، فقال: إنْ أجَرْتَني وأنا يقظان فمن يُجيرُني وأنا نائِمٌ؟ فضحك عبد الملكِ منه. ومن هذا أخذَ السّلمي قولَه:
وعلى عَدوِّكَ يا بنَ عمِّ محمّدٍ ... رَصَدانِ: ضَوْءُ الصُبْحِ والإظلامُ
فإذا تنبّهَ رُعْتَهُ، وإذا هَدا ... سلّتْ عليهِ سُيوفَك الأحلامُ
وخرج الجحّافُ الى قومِه وقال لهم: إنّ عبدَ الملك قد ولاّني بلادَ بني تغلبَ. وزوّرَ كتاباً، وحَشا جُرباً تراباً، وزعم أنه مالٌ، ورحلَ بهم متأهّبينَ فلما أشرفَ على بلادِ بني تغلب خَبَّرهُم بحقيقةِ الأمرِ وأنشدَهُم بيتَ الأخطلِ وقال: إنّما غضبتُ لكم فاثأروا بقومِكم. فشدّوا على بني تغلب بالبِشْرِ ليْلاً وهم غارّونَ غافلون آمنون، فقتلَ منهم مقتلةً عظيمةً وهرَبَ الأخطلُ من ليلتِه مُستَغيثاً بعبدِ الملكِ فلما دخلَ عليه أنشدَهُ:
لقدْ أوقَعَ الجحّافُ بالبِشْر وَقْعَةً ... الى اللهِ منها المُشْتَكى والمُعَوَّلُ
فإلاّ تُغَيّرُها قُرَيْشٌ بمُلكِها ... يكُنْ عن قُرَيشٍ مُستمازٌ ومَزْحَلُ
فقال له عبدُ الملك: الى أين يا بنَ اللّخْناء؟ فقال: الى النار يا أميرَ المؤمنين، فقال: واللهِ لو قلتَ غيرَها قطعتُ لسانَك. ثم إنّ الجحّافَ لَقي الأخطلَ بعد ذلك فقال:
أبا مالِكٍ هل لُمْتَني إذا حَضَضْتَني ... على القتلِ أمْ هل لامني لكَ لائِمُ
فهذا ما استجلَبَهُ الأخطلُ على قومِه وجناهُ عليهم بكلمةٍ ما كان أغناهُ عنها وأقدرَهُ على تركِها. ومَنْ كان عندَه من القوّةِ أن يُحرِّضَ بما حرّضَ به ما كان يليقُ أن يكونَ عندَه من الخَوَرِ ما يوجبُ قولَه: لقد أوقعَ الجحّاف... البيت.
ولما أنشدَ جريرٌ عبدَ الملكِ قولَه:
أتَصْحو أمْ فؤادُكَ غيرُ صاحِ
قال له: بلْ فؤادُك يا بنَ اللّخْناء. فلمّا بلغَ قولَه:
تشكّتْ أمُّ حَرْزَةَ ثم قالتْ ... رأيتُ المورِدينَ ذَوي لِقاحِ
قال له: لا أروى اللهُ عَيْمتَها ثم أخرجَهُ خائباً، وكان سبَبُه ما بدأ به.
وينبغي للشاعرِ ألا يُسيءَ أدَبَهُ في خطابِ الممدوحِ ويتجنّبَ ما تسبقُ إليهِ الظّنّةُ في مثلِ قول أبي نواس:
سأشكو الى الفضلِ بنِ يحيى بن خالدٍ ... هَواها لعلّ الفضلَ يجمعُ بيْنَنا
فقال له الفضل: ويلك أما وجدتَ غيري يجمعُ بينكما؟، فقال: يا مولايَ إنّما و جمْعُ تفَضُّلٍ لا جمْعُ توصُّلٍ. ولَعمري إنّ له وجهاً يعلَّلُ به، ولقد كان عن التُهمةِ فيه غنيّاً. وتبعَهُ فيه أبو الطيبِ فجعلَ مكانَ الجمعِ الشفاعةَ. والجمعُ قد يكون بصلاتِ الممدوح، والشفاعة فلا تُؤَوّل بذلكَ، ففسدَ عليه المعنى بلفظة الشفاعة.
ومدح جرير بشرَ بنَ مروانَ بقصيدةٍ منها:
يا بشْرُ حُقَّ لوجهِكَ التبشيرُ ... هلاّ غضِبْتَ لَنا وأنتَ أميرُ
قد كانَ حقُّكَ أنْ تقول لبارِقٍ ... يا آلَ بارِقَ فيمَ سُبَّ جريرُ؟
فقال له بِشرٌ: قبّحَكَ اللهُ يا بنَ المَراغَة، أما وجدتَ رسولاً غيري؟! وقد أخذَ بلال على ذي الرُمّة كلمةً هي دونَ هذا المأخذِ لمّا أنشدَه:
سمِعتُ: الناسُ ينْتَجِعون غيْثاً ... فقلتُ لصَيْدَحَ: انْتَجِعي بلالا
تُناخي عندَ خيْر فتى يمانٍ ... إذا النكباءُ ناوَحَتِ الشِّمالا
صيدحُ اسمُ ناقتِه. فقال بلال: يا غلام مُرْ لَها بالقتِّ والنّوَى يريدُ أنّ ذا الرُمّة لا يُحسنُ المدحَ. وأقول: إنّهُ لم ينصِفْ ذا الرُمّة في ذلك؛ لأن الكلامَ يُحتَملُ أنّهُ أراد: فقلتُ لصاحبِ صَيْدَح، ويريدُ نفسَه، كما قال الحارثي:
وقفتُ على الديارِ فكلّمَتْني ... فما ملَكَتْ مدامِعَها القَلوصُ
يريدُ صاحبَ القَلوص وعنى نفسَهُ قال الله تعالى: (واسألِ القريةَ) أي أهلَ القرية. وإذا كان هذا التأويلُ ممكناً فلا نقْصَ على ذي الرمّة بإنكارِ بلالٍ.
ولقائلٍ أن يقول: فهلاّ اعتذرَ ذو الرُمّة عن نفسِه وقد قابله بلال بردّه؟ والجوابُ عن ذلك أنّ الحاكي لم يقُلْ: إنّ ذا الرُمّة ما اعتذرَ عن نفسِه ولا منع من ذلك، وإنّما كان قصدُهُ حكايةَ قولِ بلال. ويجوزُ أن يكونَ ذو الرُمّةِ قد اعتذرَ الى بلالٍ بذلك أو بغَيْرِه وافلجَ بحُجتِه. ويمكنُ أنه لم يفهمْ مقصدَ بلال بالقتّ والنّوى حتى يُجيبَ عنه، لأنه بدويٌ لا يعرفُ لحْنَ كلامِ الحضريين. والمقصودُ أنه لم يكن جاهلاً مقدارَ ما ذكرناه، ولا هو ببعيدٍ عنه. وأما قولُه: سمعتُ الناسُ برفعِ سينِ الناس فإنه رُفِعَ على الحكاية، أي سمعتُ قائلاً يقول: الناسُ ينتجعونَ، كما قال الآخر:
وجَدْنا في كتابِ تميمٍ ... أحَقُّ الخيلِ بالركضِ المعارُ
أحقُ مُبتدأ والمُعارُ خبرُه، بعينٍ غير مُعجمَة، وهو أنّ الفرسَ ينفلِتُ فيذهبُ يميناً وشمالاً من مرحِه وأرَنِه، يقال: عارَ الفارسُ وأعارَهُ صاحبُه فهو مُعارٌ. والناس يظنون المُعارَ من العارِية وهو خطأ.
ورواهُ بعضُ أهل الأدبِ بخط أبي عليّ الفارسي: المُغار بغين مُعجمةٍ، وهو من أغَرْتُ الحبْلَ فتلتُهُ فهو مُغارٌ. يعني أنّ الفرسَ إذا ضمَرَ واندمَجَ في شحمِه وذهبَتِ البِطْنَةُ عنه كان حقيقاً بالمسابقةِ به. وما رأيتُ العلماءَ باللغةِ اعتمدوا على هذا المعنى، والصحيحُ ما رَوَوْهُ أولاً.
وممّا ينبغي أنْ يتجنّبه الشاعرُ من سوءِ الأدب في خطابِه، ويعطفَ عليهِ جيّدَ البحثِ والتنقيبِ حتى يهتديَ الى صوْبِ صوابِه ما غلِطَ فيه الشُعراءُ وعابَهُ عليهم العُلماء، كقولِ بعضِهم وقد مدحَ زُبيدةَ وهي تسمعُ من أبياتٍ:
أزُبَيْدة ابنةُ جعفرٍ ... طوبى لزائرِك المثابْ
تُعطينَ من رِجْلَيْكِ ما ... تُعطي الأكفُّ من الرِّغابْ
فهمّ الخدمُ والحشمُ بضربه، فقالتْ: دعُوهُ فإنّه لم يُردْ إلا خيراً، ولكنهُ أخطأ الصّوابَ، وضلّ عن المنهجِ، لأنه سمعَ قولَهم في الشعر: شمالُكِ أندى من يمينِ غيرِك، وظهرُكِ أحسنُ من وجهِ سواك، فظنّ أن الذي ذهبَ إليه من ذلك القبيل، أعطوهُ ما أمّلَ ونبّهوهُ على ما أهمل. فعجبَ الناسُ من حِلمها وضياءِ حِسِّها وفهمِها، وليسَ كلُّ ممدوحٍ حليماً، ولا كلُّ سامعٍ عليماً. وقريبٌ من هذا ما رَثَى به أبو الطيّب والدةَ سيفِ الدولة بقوله:
رِواقُ العِزِّ فوقَكِ مُسْبَطِرٌ ... ومُلْكُ عليٍّ ابنِكِ في كمالِ
ولولا غَفْلةٌ ذهبتْ بعقلِ أبي الطيّب ورانَتْ على حِسّه وفهمِه لما خاطبَ ملِكاً في أمّه بذلك ولا جعلَ شيئاً مُسبطِرّاً فوقَها. وهذا كقوله أيضاً:
لو استطعتُ ركبتُ الناسَ كلَّهمُ ... الى سعيدِ بنِ عبدِ الله بُعْرانا
أوَ ما علمَ أبو الطيب أن زوجةَ سعيدٍ وأمَّه من جُملةِ الناس، فكيفَ ذهبَ عنهُ ذلك حتى اعتمدَه، وشافه الممدوح بهِ وأنشدَه؟! وللهِ درّ المتوكّل الليثيّ حيث يقول:
الشِّعْرُ لُبُّ المَرْءِ يعرِضُهُ ... والقولُ مثلُ مواقِعِ النَّبْلِ
منها المُقصِّرُ عن رَمِيّتِه ... ونواقِرٌ يَذْهَبْنَ بالخَصْلِ
أخذ ذلك من قولِهم: الشرُ كالنَّبْلِ في جَفيرك إذا رمَيْتَ به الغرضَ. فمنهُ طالِعٌ وواقِعٌ، وعاضدٌ وقاصرٌ. فالطالعُ الذي يعلو الغَرَضَ، لم يَزغْ عنه يميناً ولا شمالاً وهو مستحَبٌّ. والواقعُ الذي يقعُ بالغرضِ. والعاضدُ الذي يقعُ عن يمين الغرَض أو شمالِه، وهو شرُّها. والقاصرُ الذي يقصّرُ دونَ الغرض فلا يبلغه. وقوله: ونواقِرٌ يذهبنَ بالخَصْلِ، أي صوائب، يُقال: نقرَ السّهمُ فهو ناقِرٌ إذا أصابَ، والنَواقِر: الدواهي.
وينبغي للشاعر أن يجتنبَ التناقضَ في شعره، فإنّه من أوْفَى عيوبِ الشرِ الدالّة على جهلِه بالمعاني ووضْعِ الكلام مواضِعَهُ. وقد عيبَ على جماعةٍ من الشعراء القدماءِ ذلك، وهو أنّ الشاعرَ يبتَدئُ بشيءٍ ويقرره ثم يعطِفُ عليه، إمّا في باقي البيتِ أو في الذي يليه، فينقضُ ما بناهُ، ويأتي بما يخالفُ معناهُ فمن ذلك ما ناقضَ فيه على سبيلِ المُضافِ عبدُ الرحمن القَسُّ حيث يقول:
وإنّي إذا ما المَوْتُ حلّ بنفسِها ... يُزالُ بنفسي قبلَ ذاكَ فأُقْبَرُ
جمعَ بين قبلُ وبعدُ وهما من المُضاف، لأنه لا قَبْلَ إلا لبَعْدٍ ولا بعدَ إلا لقَبْلٍ. فإنّ قولَه: إذا حلّ الموتُ بها، وفي هذا الكلام معنى الشرط وقد وضعَهُ ليكونَ له جواباً يأتي به، وجوابُه: يُزالُ بنفسي قبلَ ذاك، وهذا تناقضٌ مِثالهُ قولُ القائل: إذا ماتَ زيدٌ ماتَ عمروٌ قبلَهُ، فجعلَ ما هو قبلُ بعْداً وهذا معنىً يغلطُ فيه خلْقٌ كثيرٌ ولا يُحقّقونه.
ومثلُه في التناقُض على سبيلِ الإيجابِ والسّلْبِ قولُه أيضاً:
أرى هجْرَها والقتلَ مِثْلَيْنِ فاقْصُروا ... ملامَكُمُ فالقتلُ أعْفى وأيْسَرُ
فأوجبَ أنّ الهجرَ والقتلَ مِثلانِ، ثم سلبَهما ذلك بقوله: إنّ القتلَ أعفى وأيسَر، فكأنّه قال: إنّ القتلَ مثلُ الهجر وليس هو مِثله. ومن ذلك قولُ ابن نوفل:
لأعلاجٍ ثمانيةٍ وشَيْخٍ ... كبير السّنِّ ذي بصَرٍ ضَريرِ
ضرير: فعيل من الضُرّ، ولا يُستعملُ في الأكثرِ إلا لمَنْ لا بصَرَ له؛ فكأنّه يقول: إنّ لهُ بصَراً ولا بصَرَ له؛ فهو بصيرٌ أعمى، وهذا تناقضٌ ظاهر. وقال مسلمُ بنُ الوليد:
عاصَى الشبابَ فراحَ غيْرَ مفنَّدِ ... وأقامَ بينَ عزيمةٍ وتجَلُّدِ
قال له الحَكَميّ: كيفَ يكونُ الإنسان رائحاً مُقيماً، والرّواحُ لا يكونُ إلا بانتقالٍ منْ مكانٍ الى مكان، ثم قلتَ وأقام بين عزيمةٍ وتجلُّدِ، فجعلتهُ مُنتقِلاً مُقيماً. وهذا تناقض وله عندي حُجّةٌ ليسَ هذا موضعَ ذكرِها. وقال محمودُ بنُ مروانَ ابن أبي الجَنوب:
لي حيلةٌ فيمَنْ ينُ ... مُّ وليسَ في الكذّابِ حِيلَهْ
من كانَ يخلُقُ ما يُري ... دُ فَحيلَتي فيهِ قَليلهْ
ناقضَ لأنه قال: وليسَ في الكذّابِ حيلة، ثم قال: فحيلتي فيه قليلة. وهذا ظاهرٌ بيّنٌ.
وينبغي للشاعرِ أنْ يتجنبَ التّثْليمَ، وهو أنْ يجيءَ بالأسماءِ ناقصةً لإقامةِ الوزن، كقولِ علقمةَ بنِ عَبَدة الفَحْل:
كأنّ إبْريقَهُمْ ظَبْيٌ على شرَفٍ ... مُفَدّمٌ بِسَبا الكَتّانِ مَلْثومُ
أرادَ بسبائِبِ الكتانِ فحذفَ. وكقول لبيد:
درَسَ المَنا بمُتالِعٍ فأبانِ
أرادَ المنازلَ فحذفَ. وقال إسحاقُ بنُ خلفٍ البصري:
ولُبْسُ العَجاجةِ والخافقاتُ ... تريكَ المَنا برؤوسِ الأسَلْ
أراد المنايا فحذفَ. وقال الآخر: وهذا يُسمّى التّغييرُ؛ وهو إحالةُ الاسمِ عن صورتِه:
ونسْجِ سُلَيْمٍ كلَّ قضّاءَ ذائِلِ
أراد: ونسج سُليمان، فحذفَ النون. وقال الآخر:
من نسْجِ داودَ أبي سَلاّم
فجعلَ سليمانَ سَلاّماً وهو تغييرٌ قبيحٌ.
وينبغي للشّاعِرِ أن يتجنّبَ التذنيب وهو ضِدُّ التثليم، وذاك أن يأتي بألفاظٍ تُقصِّرُ عن إقامةِ الوزن فيزيدُها حروفاً ليفتِمّ عروضَ البيت كقولِ الشاعر:
لا كعَبْدِ المليكِ أو كيزيدٍ ... أو سُليمانَ بعْدُ أو كهِشامِ
أرادَ أن يقول: كعبدِ الملكِ، يعني ابنَ مروان، فجعلَه كعبدِ المليكِ لإقامةِ الوزنِ. والمليكُ والمَلِكُ اسمان للهِ تعالى، وليس إذا سُمّي إنسانٌ بالتعبّدِ لأحدِهما وجبَ أن يُدعى بالآخر كما أنّ من سُمِّيَ بعبدِ الرحمنِ لا يجبُ أن يُدعَى بعبدِ الرحيم.
وينبغي للشّاعرِ أنْ يتجنّب الإخلالَ، وهو أن يتركَ من اللفظِ ما يتمُّ به المعنى، كقولِ عُبَيْدِ اللهِ بن عبد الله بن عُتْبَةَ بن مسعود:
أعاذِلَ عاجِلُ ما أشْتَهي ... أحَب من الأكثرِ الرائِثِ
أرادَ أن يقول: عاجلُ ما أشتهي مع القِلّةِ أحبُّ إليّ من الأكثر المبطئ، فتركَ مع القلّةِ وبهِ يتمّ المعنى. وقال عُرْوَةُ بنُ الورد:
عجِبْتُ لهُمْ إذ يقتلونَ نُفوسَهُم ... ومقتلُهُمْ يومَ الوَغى كانَ أعْذَرا
أراد: عجبْتُ لهم إذ يقتلون نفوسَهم في السِّلْم ومقتلُهم يومَ الوَغى أعذرُ، فتركَ في السلم وبه يتِمُّ المعنى.
وينبغي للشاعِرِ أن يتجنب الزيادة كما يجبُ أن يتجنّبَ الإخلالَ وهو أن يأتي في الكلامِ بما لا حاجةَ له إليه فيفسد ما قصدَهُ من المعنى بتلك الزيادة كما قال الشاعر:
فَما نُطْفَةٌ من ماءِ نهْضٍ عَذيبةٌ ... تمنّعُ من أيدي الرُقاةِ يرومُها
بأطيبَ من فيها لو انّكَ ذُقْتَهُ ... إذا ليلةٌ أسْجَتْ وغارَتْ نجومُها
قولُه: لو أنّك ذُقتَه، زيادة أفسدَ بها المعنى، لأنه أوْهمَ أنك إذا لم تذُقْهُ لم يكن طيّباً. ولو قال: بأطيبَ من فيها وإنّي لَصادِقٌ، لكان أوكدَ في الإخبارِ وأصحّ في الانتقادِ.
وينبغي للشاعرِ أن يتجنّب فسادَ التفسير وهو أن يقَرِّرَ معنىً ثمّ يحاولَ تفسيرَ ما قرّره، فلا يأتي بما يطابقُ ما قدّمَه فيُفسِدَ تفسيرَه ويُغايرَ تقريرَه، كما قال الشاعر:
فيا أيُّها الحيْرانُ في ظُلَمِ الدُجى ... ومَنْ خافَ أن يَلْقاهُ بغْيٌ من العِدَى
تعالَ إليهِ تلْقَ من نورِ وجهِه ... ضِياءً ومن كفّيْهِ بحْراً من النّدى
لمّا قابلَ الظّلَم في البيت الأول بالضياءِ في البيت الثاني كان مُصيباً مُجيداً، ووجبَ عليه أن يقابلَ الخوفَ من بغْي العِدى بالانتصارِ عليهم والإذالةِ لهمُ، فتركَ ذلك وفسّرهُ بغير ا قرّرَهُ فقال: ومن كفّيْهِ بحْراً من النّدى. وكان ينبغي أن يكون ذلك في جوابِ الشكوى من الفقر. ولو قال: ومن كفَّيْهِ نَصراً مؤيَّداً أو ما يقاربُ هذا، كان مُصيباً، فاعْرِفْهُ وقِسْهُ.
وينبغي للشاعر أن يتجنّب تكلُّفَ القوافي واستِدعاءَها مع إبائِها وامتناعِها، فإنه يشغَلُ معنى البيت بقافيةٍ قد أتى بها متكلَّفةً صعبةً، فهو عيبٌ قد نصّ العلماءُ عليه؛ ألا ترى الى قول أبي تمام:
كالظّبْيَةِ الأدماءِ صافَتْ فارْتَعَتْ ... زَهْرَ العَرارِ الغضِّ والجَثْجاثا
فبنى البيتَ جميعَه لطلب هذه القافيةِ، وشغلَ المعنى بها، وليس في وصف الظبيةِ بأنّها ترعى الجثجاثَ زيادةُ حُسْنٍ على رعْيِها القَيْصومَ والشيحَ.
وتبع أبو الطيّب أبا تمّام في ذلك فقال:
جَلَلاً كما بي فلْيَكُ التّبريحُ ... أغِذاءُ ذا الرَّشأ الأغنِّ الشّيحُ
هذا بيْتٌ فيه عدةُ عُيوب: منها حذْفُ النونِ في فليَكُن وقد تقدّم ذكرُه، ومنها حذفُ النون مع الإدغام، ومنه عباعُدُ ما بين الجملة الصّدريّة منه والجُملة العجُزيّة حتى لا مُلاءَمَةَ بينهما؛ لأنه بدأ بذكرِ تباريحِهِ وأشجانِهِ، ثم تركَ ذلك وعدلَ الى السؤالِ عن غذاءِ الرشأ، وما تقدّمَ من شكوى تباريحه لا يليقُ بالسؤالِ عن غذاءِ الرشأ. ولو قال إنّ الذي أشكوهُ من التباريحِ في حُبِّ رشأٍ ليسَ من مراعيهِ الشيحُ لجازَ، ولكنهُ كما تَرى. وبعدُ فليتَ شعري! هل هذا الرشأُ الأغنُّ الذي أرادَ في النيّةِ أنه يُشبِهُ حَبيبَهُ إذا ارتَعى القَيْصومَ والبريرَ والكَباثَ وغيرَ ذلك من مراعي الظِّباءِ، يزولُ عنه الشبهُ لحبيبهِ لاختلافِ مراعيهِ التي يغتذى بها؟ فإنْ كان الأمرُ كذلك فحُسْنُه وشَبَهُهُ في الشيحِ لا غير، ولولا تكلّف القافيةِ لما دعتْهُ الضرورةُ الى تعسُّفٍ أفسدَ المعنى به. وقد استَوْفَيْنا في الرسالة العلوية أقسامَ ما في هذا البيت. وقال عبدُ اللهِ العبْليُّ:
ووقاكَ الحُتوفَ من وارِثٍ وا ... لٍ وأبقاكَ صالِحاً ربُّ هُودِ
لولا القافيةُ لأمكنَ أن يقول: ربُّ نوحٍ أو ربُّ لوطٍ، إذْ ليس النِّسبةُ الى الله تعالى بأنّه ربُّ هودٍ بأجودَ من النسبةِ إليه تعالى أنه ربُّ إبراهيم وإسماعيل. ولكنّ القافيةَ الى ذلك ساقَتْهُ، ومن غُصَصِ الاضطرارِ سقَتْهُ.
وقد يجيءُ من القوافي ما يكون رُقَى العقاربِ أحلى منه. فمن ذلك قولُ أحمدَ بنِ جَحدرٍ الخُراساني:
وما شَبْرَقَتْ من تَنوفيّةٍ ... بها منْ وحَى الجِنِّ زِيزَيْزَمُ
وقال محمد التَيْميّ:
أخطأْتَ وجه الحَقِّ في التّطَخْطُخِ ... لَتَمْطَخَنّ برشاءٍ مِمْطَخِ
وقال ابن مناذر:
ومن عاداكَ لاقى المَرْمَريسا
وقال أبو تمّام:
ورَمَوْهُ بالصّيْلَمِ الخَنْفَقيقُ
لو أن الخَنفَقيقَ في بحرٍ لكدّرتْهُ.
وقد يجيء من القوافي ما يقعُ موقِعاً لو اجتهدَ الشاعرُ أن يسدّ غيرُه مسدَّهُ لأعْياهُ ذلك وعنّاهُ، وتعذّرَ عليه نقضُ ما أسّسَهُ فيه وبناه. وعلى مثلِه يجبُ أن ينَقِّبَ الشاعر. فمن ذلك قولُ عُروَةَ بنِ أُذينَةَ اللّيْثيّ:
منَعَتْ تحيّتَها فقلتُ لصاحبي ... ما كان أكثرَها لنا وأقلَّها
فدَنا وقال: لعلّها معْذورةٌ ... في بعضِ ما منَعَتْ فقلتُ: لعلّها
فقولُه في القافية لعلها لا يقعُ موقِعَه شيءٌ مثلُها. وقال أبو نواس:
أنتَ تبقَى والفناءُ لَنا ... فإذا أفْنَيْتَنا فكُنِ
قولُه فكُنِ لا يقعُ في حرفِ النونِ قافيةٌ موقعها.
وقالت عُليّةُ ابنةُ المهديّ:
ومُغتربٍ بالمَرْجِ يبكي بشَجْوِه ... وقد بان عنهُ المُسعِدونَ على الحُبِّ
إذا ما أتاهُ الرّكبُ من نحو أرضِه ... تنسّمَ يسْتَشْفي برائحةِ القُرْبِ
كان للركبِ من هذا المكان موضِعٌ حسَنٌ ولكنها رأتْ القُربَ أحقَّ به؛ لأن الركبَ لولا القربُ لم يُسْتَشْفَ برائحتِه، فإذا أمكنَ استعمالُ الأصلِ لم يبْقَ للفرعِ النائبِ عنهُ موضعٌ وإن سدّ مسدّاً حسَناً. وقال ابن المعتزّ يصفُ اليَمام:
حتى عرَفْنَ البُرْجَ بالآياتِ ... يلوحُ للناظرِ من هَيْهاتِ
هيهات في هذا الموضع قافيةٌ لا يقَعُ غيرُها موقعَها فهي عاليةٌ على مَنْ رامَها، غاليةٌ على اسْتامَها. ولابنِ المعتزّ في وصفِ فرسيْنِ تباريا في السرعةِ يقول:
وكمْ قد غدَوْتُ على سابِحٍ ... جَوادِ المِحَثّةِ وثّابها
تُباريهِ جرْداءُ خيْفانَةٌ ... إذا كادَ يسبِقُ كِدْنا بِها
وقال المعتمدُ محمد بن عبّاد المغربي وكتبَ بها الى أبيه:
مولايَ أشكو إليكَ داءً ... أصبحَ قلبي به قريحا
سُخْطُكَ قد زادَني سَقاماً ... فابْعَثْ إليّ الرِّضا مَسيحا
فقولُه مسيحاً من القوافي التي لا يسدّ غيرُها مَسدُّها. ومن ذلك قولُ مهيار:
وقالوا: يكونُ البيْنُ والمرءُ رابطٌ ... حشاهُ بفضْلِ الحزمِ؟ قلتُ: يكونُ
وقال الصَّنَوْبَري:
وافَتْ منيّتهُ الستينَ وا أسَفا ... إذ لمْ يكنْ عُمْرُهُ سِتينَ سِتينا
وقال آخر:
عهْدي بظلِّكَ والشّبابُ نزيلُه ... أيّامَ ربعكَ للحسانِ عُكاظُ
القافيةُ ظائيةٌ لا يسدُّ موضعَها غيرُ عكاظ، وهو اسمُ سوقٍ للعرب بناحيةِ مكةَ كانوا يجتمعون بها كلّ سنة. وأمثالُ ذلك في الشعرِ القديمِ والحديثِ كثير.
وينبغي للشاعرِ ألا يخالفَ الشعراءَ المتقدمينَ في عوائدهم إذا شبّهوا، ومقاصِدِهم إذا أيْقَظوا ونبّهوا، فإنّ ذلك ممّا يُعابُ به، ويُعدُّ من ذنوبِه. ألا ترى العلماء كيفَ عابوا على المرّارِ قوله:
وخالٍ على خدَّيْكَ يبدو كأنّهُ ... سَنا البَدرِ في دعْجاءَ بادٍ دُجونُها
والمعلومُ أنّ الخالَ أسودُ، والخدَّ أبيضُ، فعكسَ المرّارُ وجعل الخالَ كسَنا البدرِ نوراً، والخدَّ كالليلِ سواداً، وهذا غير ما جرَتْ به عادةُ الشُعراء في وصفِ الخال. والمعروفُ كقوْلِ العباسِ بن الأحنف:
يُقطِّعُ قلبي حُسْنُ خالٍ بخَدِّها ... إذا سفَرَتْ عنه تنغّمَ بالسِّحر
لَخالٌ بذاكَ الخدِّ أحسنُ منظراً ... من النُّكتةِ السوداءِ في وضَحِ البدر
وكقولِ عبدِ الملك الحارثي في وصفِه:
كأنّ نُقطَةٌ بمِسْكٍ ... لائحةٌ في بياضِ عاجِ
وكقول الصّنوبريّ:
والخالُ في الخَدّ إذ أُشَبِّهُهُ ... زهْرةُ مِسْكٍ على ثَإى تِبْرِ
وكقول الآخر:
كأنّهُ من سبَجٍ فاحِمٍ ... مركَّبٍ في لُؤلؤ رطْبِ
ومثْلُ هذا المعنى في الشِّعرِ كثير. ولما أتى المرّارُ بما خرَقَ فيه الإجماع وخالفَ العَيانَ والسَّماع، عدّه أهلُ الأدب عيباً عليه وخطأ منه.
وممّنْ خالَفَ عوائدَ الشُعراء في مقاصدِهم الحكَمُ الخُضْري بقوله:
كانت بنو غالبٍ لأمّتِها ... كالغيْثِ في كل ساعةٍ يكِفُ
وليس المعهودُ من الغيْثِ أن يكفَ في كلّ ساعةٍ، ولا وصَفَ الشعراءُ الغيثَ بالوكْف في كلّ ساعة ولا كلّ شهرٍ، وإنّما شبّهوا الممدوحَ بالغَيْث لعمومِ إفْضالِه، وأنّه لا يشُحُّ بنوالِه، كما يعُمّ الغيثُ بتهطالِه، ولا ينْحَلُّ بريِّقِ سَلْسالِه. ومعانيهم في هذا كثيرة.
وممّنْ خالفَ عوائدَ الشعراء في تشبيهاتِهم أحمدُ بن أبي فنَنٍ حيث يقول:
لا تَميلنّ فإنّي ... خائفٌ أن يتقصَّفْ
وإنّما يُشَبّهُ المحبوبُ بالقضيبِ اللّدْنِ والخُوطِ الرّطْبِ، ولا يوصَفُ بأنّه يتقصّف. وابنُ أبي فنَن تبعَ في قولهِ قيْسَ بنَ الخَطيم. وقد سبَقَ القول أن الشاعرَ ينبغي أن يقتدي بمن أحسَنَ من الشُعراء وأجاد، لا بمَنْ أساءَ وخالف القانونَ المُعتادَ. قال ابنُ الخطيم:
كأنّها عودُ بانةٍ قَصِفُ
وقال ابنُ الرومي في ذمِّ ابن أبي فنَن على قولِه يتقصّف:
أيها القائلُ إنّي ... خائفٌ أن يتقَصّفْ
ليسَ هذا الوصفُ إلاّ ... وصْفَ مصْلوبٍ مُجَفَّفْ
وقال أبو نُواس في مثل قوله:
غُلامٌ فوقَ ما أصِفُ ... كأنّ قوامَهُ ألِفُ
إذا ما مالَ يرْعَبُني ... أخافُ عليهِ ينْقَصِفُ
ولمّا قال أبو الطيّب:
دون التّعانُقِ ناحِلَيْن كشَكْلَتيْ ... نصْبٍ أدقَّهُما وضَمّ الشّاكلُ
عِيبَ ذلك عليه لأنه خالفَ مذهبَ الشعراءِ فيه وجعلَ نفسَهُ ومحبوبَهُ في النّحولِ سَواءً، والعادةُ أن يوصَفَ العاشِقُ بالنحولِ دونَ المعشوقِ، كقولِ ديك الجنّ:
كِلانا غُصُنٌ شَطْبُ ... فَذا بالٍ وذا رَطْبُ
إذا ما هبّتِ الريحُ ... ومالَ المِرْطُ والإتْبُ
أبانَتْ منهُ ما طابَ ... ومني ما بَرَى الحُبُّ
وأما تشبيهُ نفسِه وحبيبهِ بشكلَتَيْ نصْبٍ ولابُدّ من خلَلٍ وافتراقٍ بينهما، وعادةُ الشُعراءِ في شِدّةِ الالتزامِ وتضايُقِ العِناق غيرُ ذلك، كما قال ابنُ الجهْم وابنُ المُعتزّ وغيرُهما، وقد استوفَيْنا الكلامَ والإنشادَ عليه في الرسالة العلويّة، وبلَغْنا فيه الغايةَ. ونصَبَ ناحلَيْن على الحالِ كأنّه قال: كمْ وقفةٍ وقفنا دونَ التعانُق ناحلَيْن.
وينبغي للشّاعرِ أن يُحسنَ الاستعارةَ ويتجنّبَ فيها المآخذَ التي أُنكِرَتْ على سواه، فالسعيدُ مَنْ وُعِظَ بغيرِه، فمن ذلك قولُ أبي نُواس:
لمّا بَدا ثعلبُ الصّدودِ لَنا ... أرْسَلْتُ كلْبَ الوصالِ في طَلَبِهْ
وقال أبو العُذافِرُ العَمّي:
باضَ الهَوى في فؤادي ... وفرّخَ التّذْكارُ
وقال الآخر:
ضِرامُ الحبِّ عشّشَ في فؤادي ... وحضّنَ فوقه طيْرُ البعادِ
وأنْبَذَ للهوى في دنّ قلبي ... فعَربدتِ الهمومُ على فؤادي
هذه استعاراتٌ كمَن لبسَ ثيابَ حِدادٍ في عُرْسٍ. وقال أبو تمام:
لا تسْقِني ماءَ المَلامِ فإنّني ... صبٌّ قد استعذَبْتُ ماءَ بُكائي
ماءُ المَلامِ من الاستعاراتِ القبيحة. وقال أيضاً:
لم تُسْقَ بعدَ الهوى ماءً على ظمأٍ ... كماءِ كافيةٍ يَسقيكَهُ فهِمُ
وقال أيضاً:
فضَربْتَ الزّمانَ في أخْدَعَيْهِ ... ضرْبَةً غادَرَتْهُ عَوْداً رَكوبا
ولأبي الطيّب في هذا الباب أشعارٌ تُعَدّ من العجَبِ العُجاب، منها قوله:
مسَرّةٌ في قلوبِ الطِّيبِ مفْرِقُها ... وحسْرةٌ في قلوبِ البيضِ واليَلَبِ
جعلَ للطيبِ والبيضِ واليَلبِ قلوباً تُسَرُّ وتتحسّرُ. وقوله:
وقد ذُقْتُ حلواءَ البَنين على الصِّبا ... فلا تحْسَبَنّي قلتُ ما قلتُ عن جهْلِ
وقولُه:
فكأنّه حسِبَ الأسنّةَ حُلْوَةً ... أو ظنّها البَرْنيَّ والآزاذا
وقولُه:
تستغرِقُ الكَفُّ فوْدَيْهِ ومنكبَهُ ... فتكتسي منهُ ريحَ الجوْرَبِ العرِقِ
وقولُه:
خَلوقيّةٌ في خَلوقِيّها ... سُوَيْداءُ من عِنَبِ الثّعلَبِ
وله من هذا أشعار كثيرة.
وقريبٌ من هذه الأشعار حكايةٌ أخبَرَني بها عبدُ الرحمن الدَقّاق بقراءَتي عليهِ في سنة ثلاثَ عشرةَ وستمائة قال: أنبأني ابنُ خيرون عن الجوهري عن المَرزُبانيّ قال: أخبرَني الصّوليُّ قال: حدّثَني يموتُ بنُ المُزَرَّع قال: كان لمحمّد بن الحسن الحِصْنيّ ولدٌ فقال له يوماً: إني قد قلتُ شعراً، فقال الحصنيّ: أنشِدْنيهِ يا بنيَ لئِلا يلعبَ بكَ شيطانُ الشِّعر، قال: فإنْ أجدتُ أتَهَبُ لي جاريةً أو غُلاماً؟ فقال: بل أجمعُهُما لك، فأنشدَه:
إنّ الديارَ بميَّفا ... هيّجْنَ حُزناً قد عَفا
أبْكَيْنَني لشقاوَتي ... وجعلنَ رأسي كالقَفا
فقال الحِصنيّ: والله يا بني ما تستحقُّ بهذا جاريةً ولا غُلاماً، ولكنْ أمُّك مني طالِقٌ ثلاثاً إذا ولدَتْ مثلَك.
وينبغي للشاعر أن يتجنّبَ الإغارةَ وقد قدّمنا في أقسامِ السّرِقاتِ المذمومةِ ذِكْرَها وهي: ادعاءُ اللفظِ والمعنى من غير أن يُفكِّرَ الشّاعرُ أن يتعنّى، فما ذُمَّ شاعرٌ في السّرقاتِ بأقبحَ منها، ومثال ذلك قال والِبةُ بن الحُباب:
يا شقيقَ النّفْسِ من أسَدِ ... نِمْتَ عن ليلي ولمْ أكَدِ
أخذَهُ أبو نُواس فقال:
يا شقيقَ النفسِ من حكَمِ ... نِمْتَ عن ليلي ولمْ أنَمِ
وقول والبةَ أبلغُ لأنّه قال: لم أكَدِ ومن لم ينَمْ قد يكادُ ينام. ومعظمُ شِعر أبي الطيّب من هذا القِسْم، فمن ذلك قوله:
كفَلَ الثناءُ له برَدِّ حياتِه ... لمّا انطوى فكأنّهُ منْشورُ
أخذَهُ من أبي القوافي الأسديّ حيثُ يقول:
ردّتْ صنائِعُهُ عليهِ حياتَهُ ... لمّا انطَوى فكأنّه منشورُ
وقال المتنبي:
وإنّي لتُغْنِيني عن الماءِ نُغْبَةٌ ... وأصبرُ عنه مثلما تَصبِرُ الرُّبْدُ
أخذَه من مروانَ بنِ أبي حفصة حيثُ يقول:
وإنّي لتُغنيني عن الماءِ نُغْبَةٌ ... وأصبرُ عنه مثلَ صبْرِ الأباعِرِ
وأرفعُ نفسي عن صِغارِ مطامِعٍ ... إذا أعوزتني مُرغباتُ الأكابرِ
وقال المتنبي:
ومن نكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أن يرَى ... عدّواً لهُ ما مِنْ صداقَتِهِ بُدُّ
أخذهُ من إسحاق الموصلي حيث يقول:
ومنْ نكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أن يرى ... عدوّاً فيَهْوى ان يُقالَ خليلُ
وقال المتنبي:
كأنّ بناتِ نعْشٍ في دُجاها ... خَرائِدُ سافراتٌ في حِدادِ
أخذَه من أبي العبّاس الناشئ حيثُ يقول:
كأنّ مُحجّلاتِ الدُّهْمِ فيهِ ... خرائدُ سافراتٌ في حِدادِ
وقال المتنبي:
كالشّمسِ في كَبدِ السّماءِ وضوؤها ... يَغْشى البِلادَ مَشارِقاً ومَغارِبا
أخذَه من ابن الروميّ حيث يقول:
كالشمسِ في كبِدِ السّماءِ محلُّها ... وشُعاعُها في سائرِ الآفاقِ
ولو استقصَيْنا أقسامَ سَرقاتِه في هذا القِسْم خاصةً لأفْرَدْنا لها كتاباً.
ومن حقّ الشاعر أنه إذا أخذ معنىً قد سُبقَ إليه أن يغيّر ألفاظَه ويصنعَه أجودَ من صَنعةِ السابق إليه، أو يزيدَ فيه عليه حتى يستحقّه. فأما إذا أتى بلفظِهِ ومعناهُ فذاكَ عيْبٌ قبيحٌ عندَ الشُعراء المقصّرينَ فضلاً عن المُجيدين.
وينبغي للشّاعرِ أن يوفّقَ بين التشبيهِ والمُشبّهِ به ويراعي ذلك، بحيثُ لا يأتي الكلام متنافراً والمعاني متباعدةً، فإنّه إذا أنعم النظرَ في تأليفِ شِعرِه، وتنسيقِ أبياتِه، ووقفَ على حُسْنِ تجاوُرِه أو قُبْحِه فلاءم بينها، ونظمَ معانيها، ووصل الكلامَ فيها، كان مُجيداً، مع الشعراء المجيدينَ معدوداً. ألا ترى ابنَ هرْمَة وقولَه:
وإني وترْكي نَدَى الأكرمينَ ... وقَدْحي بكفّي زِناداً شِحاحا
كتارِكَةٍ بيضَها بالعَراءِ ... ومُلْبِسةٍ بيْضَ أخرى جَناحا
والفرزدقَ وقولَه:
وإنّك إذْ تهجو تميماً وترْتَشي ... سَرابيلَ قيْسٍ أو سُحوقَ العمائِمِ
كمُهْريق ماءٍ بالفاةِ وغرَّهُ ... سَرابٌ أذاعتْهُ رياحُ السّمائمِ
قال ابنُ طَباطِبا العلوي: لو أنّ ثاني بيْتَي ابن هرْمة عِوَضٌ عن ثاني بيْتَي الفرزدق، وثاني بيْتَي الفرزدق عوض عن ثاني بيتي ابن هرمة لصحّ التشبيهُ لهما واتّسقَتْ معاني شِعْرَيْهما، وإلا فالتشبيهُ في الشّعرين غيرُ واقعٍ موقِعَهُ وهذا نقدٌ من ابن طباطبا في أعلى درجاتِ الحُسنِ والإدراك.
وينبغي للشاعر ألا يصِفَ ممدوحَه في فنٍّ من فنونِ كرَمِه وعلمِه وبراعتِه وشجاعتِه وشرفِ محْتِدِه وأصالةِ بيتِه وجميع ما يُضَمّنُه شعرَهُ من مدحه، إلا ويطلبُ فيه الغايةَ ولا يقتنعُ فيه بدونِ النهاية. فإنّ الشّاعِرَ إذا أتى بمعنىً قد قصّر فيه لا يعذِرُهُ ناقدُهُ ولا يقول: عملُهُ على قدرِ ممدوحِه. ولمّا أنشدَ كُثيّرٌ عبدَ الملكِ مدحَتَه التي يقول فيها:
على ابنِ أبي العاصي دِلاصٌ حَصينةٌ ... أجادَ المُسَدّي سَرْدَها وأذالَها
يَؤودُ ضَعيفَ القومِ حمْلُ قتيرِها ... ويستَضْلِعُ القرْمُ الأشَمُّ احتمالَها
قال له عبد الملك: ألا قُلتَ كما قال الأعشى لقَيْس بن معْديكَرب:
وإذا تجيءُ كتيبةٌ ملمومَةٌ ... خرْساءُ يخْشى الذائِدونَ نهالَها
كُنتَ المُقدَّمَ غيرَ لابِس جُنّةٍ ... بالسّيْفِ تضْرِبُ مُعلِماً أبْطالَها
فقال كثيّر: إنما وصفَ الأعشى صاحبَهُ بالطّيشِ والخُرْقِ والتغرير، ووصفتُك بالحزْمِ وحصافةِ الرأي والعملِ على الحياطة، فرضيَ عبدُ الملكِ بقوله. وقولُ الأعشى في صناعة الشعرِ وحُكْمِ الشّجاعةِ والبسالةِ، أبلغُ وأحسن. وكثيّر مقصّر عن ذلك الوصف ولكنّه عُذْرٌ دفَعَ به خصمَه، وتمّم به نقصَهُ. وهذا كعُذرِه الى محمد بن عليٍّ الباقر رحمهما الله تعالى حين قال له يا كثيّر، أتزْعُمُ أنّك من شيعتنا ومُحبّينا وتمدحُ آلَ مروان؟ قال: يا مولايَ إنّما أسخَرُ منهم وأستهزئُ بهم، وأجعلُهم حيّاتٍ وعقارِبَ وليوثاً، والليوثُ كلابٌ، وآخذُ أموالَهم وملابسَهم، كقولي لعبدِ العزيزِ بنِ مروان حينَ عتَبْتُ عليهِ فنفرَ بعضَ النفور:
وكنتُ عتبتُ معْتِبَةً فلجّتْ ... بيَ الغُلَواءُ عن سَنَنِ العِتابِ
وما زالتْ رُقاكَ تسُلُّ ضِغْني ... وتُخرِجُ من مكانِها ضِبابي
ويَرْقيني لكَ الراقونَ حتّى ... أجابكَ حيّةٌ تحت الحجابِ
فجعلتُه راقياً للحيّات. وقلت لعبد الملك:
تَرى ابنَ أبي العاصي وقد صُفّ دونَه ... ثمانونَ ألفاً قدْ تَوافَتْ كُمولُها
يُقلِّبُ عينَيْ حيّةٍ بمَحارَةٍ ... أضافَ إليها السارياتِ سبيلُها
يصُدُّ ويُغْضي وهْوَ ليْثُ خفيّةٍ ... إذا أمكَنَتْهُ عدْوَةٌ لا يُقيلُها
فلما سمِع رحمَهُ اللهُ ذلك منه قال: يا كُثيّر، من أرادَ الآخرةَ لم يرغبْ في حُطام الدنيا. وهذا دليلٌ على أنه لم يقبلْ عُذْرَ كثيّر، وهو كعُذرِ ابن الرُقيّاتِ في قوله:
وبعضُ القوْلِ يذهَبُ في الرياحِ
والحكايةُ معروفة.
وينبغي للشّاعرِ أن يُقرِّبَ مأخذَهُ ولا يُبعّد مُلتَمَسَه ولا يقصِدَ الإغرابَ فإنه إذا دقّ أغلقَ، وإذا استعملَ وحشيَّ اللغةِ نفرَتْ عنهُ مسامعُ الرّواةِ، وأن يوردَ المعنى باللفظِ المعتادِ في مِثلِه، وأن تكون استعاراتُه وتشبيهاتُه لائقةً بما استُعيرَتْ له وشُبِّهَتْ به، غيْرَ نافرةٍ عن معانيها. فإنّ الشِّعرَ لا تروقُ نضارتُهُ وتشرقُ بهجتُهُ وترقُّ حواشيه، وتورقُ أغصانُه، ويعجبُ أقاحيه، إلا إئا كان بهذه الصِّفَة، وإذا اتفق مع ذلك معنىً لطيفٌ أو حكمةٌ غريبةٌ أو أدبٌ حسَنٌ، فهو زيادةٌ في بهاءِ الشعرِ، وإنْ لمْ يتفقْ فقد قامَ الشعرُ بنفسِه واستغنى عمّا سواه. وإذا سلكَ الشاعرُ غيرَ هذا المذهبِ المُذْهَب، وكان لسانُه ولفظُه مُقصّرَيْن عن إدراكِ هذا المطلبِ، حتى يعتمدَ على دقيقِ المعاني بألفاظٍ متعسّفةٍ، ونسجٍ مُضطَربٍ، وإن اتّفقَ في ضمنِ ذلك شيءٌ من سليمِ الرّصْفِ، وقويمِ النّظْمِ، قُلنا له: قد جِئْتَ بحكمةٍ، فإن شئتَ دعَوْناكَ حكيماً ولا ندعوكَ شاعراً ولا بليغاً؛ لأنك ذهبتَ غيرَ مذْهَبِ الشُعراءِ البُلغاءِ. وهذه طريقةٌ لم يذهبْ إليها من شكرَهُ العلماءُ من أهلِ هذه الصناعة.
وينبغي للشاعرِ ألا يُعاديَ أهلَ العلم ولا يتخذَهم خصوماً فإنهم قادرونَ على أن يجعلوا إحسانَهُ إساءةً، وبلاغتَهُ عِيّاً، وفصاحتَهُ حصْراً، ويُحيلوا معناهُ، وينتقضوا ما بَناه. فكم من أديبٍ أسقطَ أهلُ العلمِ حُكْمَ أدبِه، وأخملُوا من ذكره ما تنبّلَ به. ولو عدَدْناهُم لأفردْنا لهم كتاباً. ولله عمّارٌ الكلبي حيثُ يقول:
ماذا لقيتُ منَ المستَعْربينَ ومنْ ... قياسِ نحوهمُ هذا الذي ابْتدَعوا
إن قُلتُ قافيةً بِكراً يكونُ بها ... بيْتٌ خِلافَ الذي قاسوه أو ذرَعوا
قالوا: لحَنْتَ وهذا ليسَ مُنتَصِباً ... وذاك خفْضٌ وهذا ليسَ يرتَفِعُ
وحرّضوا بينَ عبدِ الله من حُمُقٍ ... وبينَ زيْدٍ فطالَ الضّرْبُ والوَجَعُ
كمْ بيْنَ قومٍ قد احْتالوا لمنطقِهِمْ ... وبينَ قوْمٍ على إعرابِهم طُبِعوا
ما كُلّ قوليَ مشروحاً لكُمْ فخُذوا ... ما تعرِفونَ وما لمْ تعرِفوا فدَعوا
لأنّ أرضيَ أرضٌ لا تُشَبُّ بها ... نارُ المجوس ولا تُبْنى بها البِيَعُ
ولعلّ أهلَ العلمِ يأتونَ الى المعاني المُستحيلةِ والألفاظِ المُخْتلّةِ فيقوّمونَ أودَها بعلَلِهم ويُصلحونَ فاسدَها بمعرفَتِهم، ومَنْ هذه سبيلُه فما يحْسُنُ أن يُغضَبَ ولا يُقْشَبَ؛ فرُبَّ داهيةٍ وقع على مَنْ هو أدْهى منه.
وفي حديث يزيد الرّقاشيّ لأبي العبّاس السّفّاحِ رضيَ اللهُ عنه أعجوبةٌ إنْ كان ما أوردَهُ صحيحاً غيرَ موضوعٍ، قال: نزلَ رجلٌ من العربِ بامرأةٍ من بني عامرٍ فأكرمَتْ مثواهُ وأحسنَتْ قِراه، فلمّا أرادَ الرحيلَ أنشد:
لعَمْرُكَ ما تَبْلى سَرابيلُ عامِرٍ ... من اللؤمِ ما دامتْ عليها جُلودُها
فقالت المرأةُ لجاريتِها: قولي لهُ: ألمْ نُحْسِنْ إليكَ وتفعلْ كذا وكذا، فهلْ رأيتَ منا تقصيراً؟ فقال: لا واللهِ، قالت: فما حملَكَ على إنشادِ البيت؟ قال: جرى على لساني فأبْداهُ. فخرَجتْ إليه جاريةٌ من بعض الأخبيةِ فحدّثتْهُ حتى أنِسَ واطمأنّ ثم قالتْ: ممّنْ أنتَ يا بنَ عمّ؟ قال: من بني تميم، قالتْ: أفتَعْرِفُ الذي يقول:
تَميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهْدى من القَطا ... ولو سلَكَتْ سُبْلَ المكارِمِ شلّتِ
أرى الليلَ يجلوهُ النهارُ ولا أرى ... خِلالَ المخازي عنْ تميمٍ تجلّتِ
تَميمٌ كجَحْشِ السَّوْدِ يرضَعُ أمَّهُ ... ويُتْبِعُها رَهْزاً إذا هي زلّتِ
ولوْ أنّ برغوثاً يُزقَّقُ مَسْكُهُ ... إذا نهِلَتْ منهُ تميمٌ وعلّتِ
ولو أنّ برغوثاً على ظهْرِ نملَةٍ ... يكُرُّ على صَفَّيْ تميمٍ لولّتِ
ولو جمَعَتْ عُلْيا تميمٍ جُموعَها ... على ذرّةٍ معقولةٍ لاسْتَقلّتِ
ولو أنّ أمَّ العنكبوتِ بنَتْ لهُمْ ... مِظلَّتَها يومَ النّدى لاسْتَظَلّتِ
ذبَحْنا فسمّيْنا فحلّ ذبيحُنا ... وما ذبَحَتْ يوماً تميمٌ فسمّتِ
فقال: لستُ من تميم، قالت: ما أقبحَ الكذِبَ بأهلِه فممّن أنت؟ قال: من بني ضَبّة. فأنشدتْهُ هجاءً فيهم، فقال: لا واللهِ ما أنا من بني ضَبّة. ولم يزلْ ينتقلُ من قبيلةٍ الى أخرى وهي تُنشِدُه الهجاءَ فيهم حتى لم يتركْ قبيلةً إلا وانتسبَ إليها وسمعَ هجوها حتى استقالَ وقد أحلّتْهُ دار الهوان وقال: أنا رجلٌ من بني فُلان. والحكايةُ معروفة.
وقريبٌ منها ما رُوي عن المفضلِ الضّبّي، قيل: وردَ عليه أعرابيٌّ على ناقةٍ رثّةِ الأداةِ فسلّم وحسرَ عن وجهٍ كالدينارِ المُشوفِ فقال له المُفضّلُ: ممّن الفتى؟ فقال: طائيّ، فقال المفضَّلُ، وكان حليماً قلّما عجِلَ: طيا يا كلمةٌ فاستمرتِ فقال له الأعرابيّ بلسانٍ ذلقِ السِّنان:
إنّ على سائِلنا أن نسألَهْ ... والعِبءُ لا يُعْرَفُ حتى تَحْمِلَهْ
نسَبْتَنا فانتسِبْ لنا. فقال المفضّل: أحدُ بني ضَبّة. فقال الأعرابي: وإني لأخاطِبُ ضَبيّاً مذِ اليوم، واللهِ لأحسِبُه ذَنْباً عُجِّلَتْ لي عُقوبتُه، أتعرفُ الذي يقول:
إذا لَقيتَ رجلاً من ضَبّهْ ... فبُكْهُ عمْداً على سواء السّبَّهْ
يا أخا بني ضَبّة، كيف عِلمُك بقومِكَ؟ فقال المُفضّل: إني بهِمْ لعالِمٌ، فقال: أيُّ نساءِ قومِك التي تقول:
بِخَلوةِ ليلةٍ وبياضِ يومٍ ... من ابْنِ الوائليِّ شِفاءُ قلبي
بمَحْنِيةٍ أوَسِّدُهُ شمالي ... وأكْفِتُ باليمينِ ذُيولَ إتْبي
وأُلصِقُ بالحَشا مني حشاهُ ... ويَسهُلُ من قِيادي كلُّ صعْبِ
وأُلمِسُ كفَّهُ جثِماً تعالى ... على ركْبٍ كجثّةِ ظهْرِ قعْبِ
فيجمعُ منكبَيَّ إليه حتّى ... ينالَ غدائري بعَفيرِ تُرْبِ
أقولُ له فِداكَ أبي وأمّي ... حياتُكَ من جميعِ الناسِ حسْبي
ثمّ قال: أيُّ عماتِك هذه يا أخا بني ضَبّة؟ وأنشأ يقول:
عَثراتُ اللسانِ لا تُسْتَقالُ ... وبأيدي الرجالِ تَخْزَى الرجالُ
فاجعَلِ العقلَ للّسانِ عِقالاً ... فشِرادُ اللِّسانِ داءٌ عُضالُ
واستفِدْ من فوارِطِ الجهْلِ وانظُر ... كيفَ ترْدَى بالألسُنِ الجُهّالِ
إنّ زمَّ الكلامِ مُبْقٍ على العِرْ ... ضِ وبالقولِ يُستَثارُ المَقالُ
فلما سمِعَ المفضَّلُ ذلك استحالَ لونُه ورشحَ جبينُهُ عرَقاً. ثم انصرَفَ الأعرابيُّ، فقال المفضّل: واللهِ لقد ذكر شيئاً ما كنتُ أظنّ على وجهِ الأرضِ أحداً يعرِفُهُ، فالحمدُ للهِ إذْ لم أستَزِدْهُ.
قولُ المفضّل: طيا يا كلمةٌ فاستمرّتِ، من بيتٍ وهو:
وما طيّئٌ إلا نَبيطٌ تجمّعوا ... وقالوا طيا يا كلمةٌ فاستمرَّتِ
وقريبٌ من هذه الحكاية ما رَواهُ لي مؤدّبي الشيخُ أبو محمّد بن أبي البرَكات بن البقال المُقرئُ المؤدّب قِراةً عليه في سنة اثنتين وستمائة، قال: حدّثنا أبو محمد سلمانُ بن مسعود بن الحسين القصّاب بجامعِ المنصور قال: حدّثنا أبو الغنائمِ محمد بن علي النرسيّ الكوفيُّ قال: حدّثنا الشريفُ أبو عبدِ اللهِ محمدُ بنُ علي بن الحسن العَلَوي الحسَنيّ قال: حدّثنا أبو الحسن محمدُ بن زيْدٍ بن مسلم قال: حدَّثنا عليُّ بنُ عبدِ الله قال: حدّثنا حرَميّ قال: حدثنا عبدُ الله قال: حدّثنا إسماعيلُ بنُ مهران قال: حدّثني أحمدُ بن أبي نصر عن أبان بن عثنام عن أبان بنِ تغلبَ عن عِكْرمة عن ابن عبّاس قال: حدّثَني عليُّ بن أبي طالب رضيَ الله عنه قال: لمّا أُمِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يعرضَ نفسَهُ على قبائل العربِ خرجَ وأنا معه وأبو بكر، وكان رجلاً نسّابةً، فسلّم فردّوا السلام، فقال: ممّن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمِن هامتِها أو من لَهازِمِها؟ قالوا: بل من هامتِها العُظْمى، قال: فأيُّ هامتِها العُظمى؟ قالوا: ذُهلٌ الأكبرُ، قال: أفَمنكُم عوْفٌ الذي كان يُقال: لا حُرَّ بوادي عوْفٍ؟ قالوا: لا، قال أفمنكُم بسطامٌ أبو اللواء ومنتهَى الأحياءِ؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحَوْفَزانُ قاتِلُ الملوكِ وسالبُها أنفسَها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكُم المُزدَلِفُ صاحبُ العِمامةِ الفَرْدَةِ؟ قالوا: لا، قال: أفأنْتُم أخوالُ الملوكِ من كِندة؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم أصهارُ الملوكِ من لخْمٍ؟ قالوا: لا، قال: فلستُم ذُهْلاً الأكبر، أنتم ذُهْلٌ الأصغر فقام إليه غُلامٌ من بني شيبان يُقال له دَغْفَل حين بقَلَ فقال:
إنّ على سائِلِنا أنْ نسأَلَهْ ... والعِبءُ لا يُعرَفُ حتّى تحْمِلَهْ
يا هذا، إنّك سألتَنا فلمْ نكْتُمْكَ شيئاً فممّن الرجل؟ قال: من قُريش، فقال: بَخٍ بخٍ، أهلُ الشرفِ والرياسةِ، فمن أيِّ قُريشٍ أنتَ؟ قال من بن تَيْم بنِ مُرّة، قال: أمكنتَ واللهِ الرامي من سواءِ الثُّغرةِ، أفمنكُم قُصيُّ بنُ كلاب الذي به جمعَ اللهُ القبائلَ من فِهْرٍ فكان يُدعى مُجَمِّعاً؟ قال: لا، قال: أفمنكُم هاشم
... الذي هشَم الثّريدَ لقومِه ... ورجال مكة مُسْنِتون عِجافُ
قال: لا، قال: فزمنكُم شَيْبةُ الحَمْدِ مُطْعِمُ طَيْرِ السماءِ الذي كأنّ وجهَهُ قمرُ السماء يُضيءُ ليلَ الظلامِ الدّاجي؟ قال: لا، قال: أفَمِنَ المُفيضينَ بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهلِ النّدوةِ أنت؟ قال: لا، قال أفمِنْ أهلِ الحجابةِ أنت؟ قال: لا، قال أفمن أهْلِ السِّقايةِ أنت؟ قال: لا، قال: واجتذَبَ أبو بكر رضي الله عنه زمامَ ناقتِهِ ورجَعَ الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال دَغْفَلٌ:
صادَفَ درْءُ السّيْلِ درْءاً يدفعُهْ ... يهْضِمُهُ بدَفْعِهِ أو يصدَعُهْ
أمَا واللهِ لو ثبَتَّ لأخبرتُكَ أنكَ من زَمَعاتِ قُريشٍ، أوَ ما أنا بدَغْفَل. فتبسّم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليّ: فقلتُ يا أبا بكر، لقد وقعت من الأعرابي على باقِعَةٍ، قال: أجَلْ! إنّ فوقَ كلِّ طامّةٍ طامّةً والبلاءُ موكّلٌ بالمنطق. وتمامُ الحكايةِ معروفٌ. والأمر كما قال أبو بكر رضيَ اللهُ عنه: إنّ فوقَ كلِّ طامّةٍ طامّةً.
ومن مِثلِ ذلك، شَكا الكُمَيْتُ في قوله:
أنِصْفُ امرئٍ من نصفِ حيٍّ يَسبُّني ... لَعمري لقد لاقَيْتُ خَطباً من الخَطْبِ
هنيئاً لكلْبٍ انّ كلباً تسُبُّني ... وإنيَ لمْ أرْدُدْ جواباً على كلْبِ
لقد بلغَتْ كلبٌ بسَبّيَ حُظْوَةً ... كفَتْها قديماتِ الفضائحِ والوَصْبِ
يعني أنّ أهلَ الدّناءةِ والضَّعَةِ لا يُقارَضونَ بالقريض مع القدرة والسَّعَةِ، والحلمُ أوْلى ما استعملَه أولو الحزْمِ، والعفوُ لا يكونُ من العالِم إلا في اللُّبابِ الصّفوِ
شِيَمٌ بها اختصّ الوزيرُ محمّدٌ ... وسَما بها قدْراً على الوُزراءِ
فضَلَ الصدورَ صَباحةً وفَصاحةً ... وسماحةً رجَحَتْ على الكُرَماءِ
وتبوّأ العلياءَ طِفلاً ناشئاً ... حتّى عَلا فيها على الجوْزاءِ
فالكرمُ من طرائقِه، والشرفُ من خلائقِه، والحِلْمُ من طبائعِهِ، ونحنُ معاشِرَ الأدباءِ من صنائعِه؛ أياديهِ إلَيْنا باديةٌ، وغوادِيهِ علينا رائحةٌ وغاديةٌ، ورَحا آمالِنا لا تدورُ إلا على قُطْبِه، وعلى كلِّ حالٍ نأخذُ من مالِه ومن أدبِه، كم اقتبستُ أدباً من أنوارِ علومِه، والتمستُ أرَباً من نَوّارِ رياضِ حُلومِه، واكتسبت عَرْفاً من أرَجِ ذكْرِهِ، وكسبتُ عُرْفاً من لُجَجِ بحرِه. وإني لمّا لجأْتُ الى ظلِّهِ الوارفِ الظليلِ، واعتصمتُ بطَوْدِ عزِّهِ من الحادِثِ الصّعْبِ الجليلِ، وعُدِدْتُ من زُمْرةِ غاشيتِه، وسَعِدتُ بالانتماءِ الى جُملةِ حاشيتِه، طرَفَ عنّي طرْفَ الحوادِثِ، وكفّ عني كفَّ الكوارِثِ، وملأ قلبي أمْناً، فلم أقْرَعْ بعدَ نظرِهِ إليّ سِنّاً، فشُكْرُ صنائعِهِ لديّ واجبٌ، وسابِغُ مدارعِهِ عليّ من النوائِبِ حاجب:
كم مِنّةٍ وصنيعةٍ ... عندي لمولانا الوزيرِ
شُكري لَها شُكْرُ الرّيا ... ضِ الحُوِّ للمُزْنِ المَطيرِ
لا زالتْ دولَتُه مخلَّدةً، ونعمتُهُ مؤبدةً، ورِفْعَتُهُ ممهّدةً، وكلمتُه مسدّدةً، وسلطانُه مُطاعاً، وزمانُهُ نفعاً وانتفاعاً، فلقد أحْيا ميِّتَ الأدبِ بآدابِهِ، وجعلَ الإحسانَ من دَيْدَنِهِ ودابِهِ:
فكلّ ما عنديَ من عندِه ... العِلْمُ والإنعامُ والجاهُ
أبى عليَّ الدّهرُ فاضطرّهُ ... الى مُراعاتي وألْجاهُ
وحيث انتهى بِنا الكلامُ الى هذه الغايةِ وأتَيْنا فيما اشْتَرَطْناهُ بالكفايةِ والزيادةِ على الكفايةِ، فقد وجَبَ أن نختِمَ الكتابَ، ونَقْصُرَ الإسهابَ، واللهُ الموفِّقُ للصّواب، إنْ شاءَ اللهُ تعالى.