كتاب : كتاب الصناعتين
المؤلف : أبو هلال العسكري
سئل الأعشى عن سلبتها جريالها. فقال: شربتها حمراء، وبلها بيضاء. فبقي حسن لونها في بدني. ومعنى " أعطتك ريحانها العقار " ، أي شربتُها فانتقل طيبها إليك.
وهكذا قوله:
لا ينزلُ الليلُ حيثُ حلّتْ ... فدخرُ شرّابِها نهارُ
من قول قيس بن الخطيم:
قضى الله حين صوّرَها ال ... خالق ألاّ تكنّها السّدفُ
وهذا المعنى منقولٌ من الغزل إلى صفة الخمر فهو خفيّ.
ومن هذا ما نقله من قول أوس بن حجر في صفة الفرس، فجعله في صفة امرأة:
فجرّدها صفراء لا الطّول عابَها ... ولا قصرٌ أزرَى بها فتعطّلا
وقول أبي نواس:
فوق القصيرةِ والطويلة فوقَها ... دونَ السمينِ ودونَهَا المهزُولُ
وإن كان أخذه من قول ابن الأحمر:
نفوتُ القصار والطّوالَ تفتنَها ... فمن يرها لم ينسَها ما تكلَّما
أو من قول ابن عجلان النهدي:
ومخملةٍ باللّحمِ من دون ثوبِها ... تطولُ القصار والطوال تطولُها
فقد أخذه بلفظه، وأحد هذين أخذه من قول أوس، والإحسان فيه له.
ومما أخذه ونقله من معنى إلى معنى قوله:
كميتٌ جسمُها معنا ... وريّاها على سفرِ
وممن أخفى الأخذ أبو تمام في قوله:
جمعتَ عرى أعمالها بعد فرقةٍ ... إليكَ كما ضمّ الأنابيبَ عاملُ
قالوا: هو من قول الحبال الربعي:
أولئك إخوانُ الصّفاءِ رزيتهمُ ... فما الكفُّ إلاَّ إصبعٌ ثمَّ إصبعُ
وهكذا قوله وقد نقله من معنى إلى آخر:
مكارمُ لجّتْ في علوٍّ كأنَّما ... تحاول ثأراً عند بعض الكواكبِ
قالوا هو من قول الأخطل:
عروق لحقِّ السائلينَ كأنَّه ... بعقر التالي طالبٌ بذنوبِ
وهكذا قول بشار:
يا أطيبَ الناس ريقاً غير مختبرٍ ... إلاَّ شهادة أطراف المساويكِ
من قول سليك:
وتبسمُ عن ألمى اللّثاتِ مفلَّجٍ ... خليق الثنايا بالعذوبةِ والبردِ
ومن قول الآخر:
وما ذقتُه إلا بعيني تفرُّساً ... كما شيم في أعلى السّحابة بارقُ
ومما أخذه وزاد فيه عن الأول قوله:
أفناهم الصّبرُ إذ أبقاكمُ الجزعُ
من قول السموءل:
يقرِّبُ حبُّ الموتِ آجالنا لنا ... وتكرَهُه آجالُهُمْ فتطولُ
أورده أبو تمام في نصف بيت واستوفى التطبيق.
ومن هذا الضرب قوله:
علّمني جودكَ السماح فَما ... أبقيتَ شيئاً لديَّ من صلتكْ
من قول ابن الخياط:
لمستُ بكفيِّ كفّه أبتغى الغنَى ... ولم أدرِ أنَّ الجودَ منْ كفّه يعدِي
فلا أنا منهُ ما أفاد ذوو الغنَى ... أفدتُ وأعدانِي فأتلفتُ ما عندي
وممن نقل المعنى من صفة إلى أخرى البحتري فإنه قال في المتوكل:
ولوْ أنّ مشتاقاً تكلَّفَ غيرما ... في وسعِهِ لسعَى إليكَ المنبرُ
أخذه من قولِ العرحى في صفة نساء:
لو كان حيّاً قبلهُنّ ظعائنا ... حيّاً الحطيمُ وجوههن وزمزمُ
إلاَّ أنه غير خاف.
وممن أخذ المعنى فزادَ على السابق إليه زيادةً حسنة أبو نواس في قوله:
يبكي فيذرِى الدّرّ من نرجسٍ ... ويلطمُ الوردَ بعنَّابِ
أخذه من قول الأسود بن يعفر:
يسعَى بها ذو تومتينٍ كأنّما ... قنأتْ أناملُه منَ الفرصادِ
وأخذ بعض المتأخرين بيتَ أبي نواس، فزاد عليه زيادةً عجيبة، فقال:
وأسبلتْ لؤلؤاً من نرجسٍ فسقتْ ... ورداً وعضّتْ على العنّاب بالبردِ
فجاء بما لا يقدرُ أحدٌ أن يزيد عليه.
ومن ذلك أيضاً قوله وقد زاد فيه على الأوّل:
فتمشَّتْ في مفاصلهم ... كتمشّي البرءِ في السّقمِ
أخذه من قول مسلم:
تجرِي محبّتها في قلبِ عاشِقِها ... مجرى المعافاة في أعضاءِ منتكِس
وجميع ذلك مأخوذ من قول بعض ملوك اليمن:
منعَ البقاءَ تقلُّبُ الشّمسِ ... وطلوعُها من حيثُ لا تمسى
يجرِى على كبد السَّماء كما ... يجري حمامُ الموتِ في النّفسِ
ومن ذلك قول مسلم:
أحبّ الريحَ ما هبَّتْ شمالاً ... وأحسُدُها إذا هبَّتْ جنُوبا
راحٌ إذا ما الشيخُ والى بها ... خمساً تردَّى برداءِ الغلامْ
أحسن رصفاً من قول حسان رضى الله عنه:
إنّ شرخَ الشّبابِ والشّعر الأسْ ... ودَ ما لم يعاصَ كانَ جنونَا
وقول أبي تمام:
نقّلْ فؤادك حيثُ شئتَ من الهوَى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوّلِ
أبينُ وأدخل في الأمثال من قول كثير:
إذا ما أرادتْ خلَّهٌ أن تزبلنَا ... أبينَا وقلنَا الحاجبيَّةُ أوَّلْ
وقد زاد أبو تمام أيضاً في قوله:
وأنجدتُم من بعدِ إتهامِ داركُم ... فيادمعُ أنجدني على ساكِني نجدِ
على الأعرابي في قوله:
ومستنجدٍ للحزنِ دمعاً كأنَّهُ ... على الخدِّ ممَّا ليسَ يرقأ حاثرُ
بقوله: " أنجدني على ساكني نجد " ، وقد زاد أيضاً في قوله:
وإنْ يبنِ حياطناً عليه فإنَّما ... أولئك عقّا لأنهُ معاقلُهْ
على زهير في قوله: والسيوف معاقله لما جاء به مت التّجنيس في قوله: عقّالاته، ومعاقله. على أنَّ قوله زهير في معناه لا يلحقه لاحق، وإنما زاد عليه أبو تمام في اللفظ.
وأخذ قول أبي تمام إبراهيم بن العباس، فقال: وأصبح ما كان يحرزهم يبرزهم، وما كان يعقلهم يقتلهم. ونقله إلى موضع آخر، فقال: واستنزلوه من معقل إلى عقال، وبدّلوه آجالا من آمال. وقوله: " آجالا من آمال " مأخوذ من قول مسلم:
موفٍ على مهجٍ في يوم ذي رهجٍ ... كأنَّهُ أجلٌ يسعَى إلى أملِ
ينالُ بالرّفقِ ما يعيا الرّجالُ بهِ ... كالموتِ مستعجلاً يأتِي على مهلِ
وقد أخذ أيضاً قول أبي دهبل:
ما زلتَ في العفو للذّنُوب وإط ... لاقٍ لعانٍ بجرمِه غلقِ
حتَّى تمنّى البراةُ أنَّهمُ ... عندك أسرى في القدّ والحلقِ
فجاء به في بيت واحد وهو قوله:
وتكفّل الأيتامَ عن آبائهمْ ... حتّى وددنا أنّنا أيتامُ
وسبق أيضاً من تقدمه في قوله حتى صار لا يلحقه فيه أحدٌ بعده:
وركبٍ كأطرافِ الأسنَّةِ عرَّسُوا ... على مثلِها واللّيل تسطو غياهبُه
لأمرٍ عليهم أنْ تيمَّ صدوره ... وليس عليهم أن تتمَّ عواقبهْ
سبقاً بيناً بهذه المعاني، وإنما أخذ البيت الأول من قول البعيث:
أطافتْ بركبٍ كالأسنّةِ هجَّد ... بخاشعةِ الأصواءِ غيرٍ صحونُها
والبيت الثاني من بعض الأعراب:
غلامُ وغىً تقحّمَها فأبلَى ... فخان بلاءهُ الزّمنُ الخؤُونُ
وكان على الفتى الإقدامُ فيها ... وليس عليه ما جنتِ المنونُ
وبين القولين بونٌ بعيد.
وزاد أيضاً في قوله:
إذا شبَّ ناراً أقعدتْ كلَّ قائمٍ ... وقامَ لها من خوفهِ كلُّ قاعدِ
على الآخر في قوله:
أتاني وأهلِي بالمدينةِ وقعة ... لآلِ تميمٍ أقعدتْ كلَّ قائم
فقول أبي تمام: " وقام لها من خوفه كلّ قاعد " زيادة حسنة.
وكذلك قوله في ابني عبد الله بن طاهر:
نجمانِ شاءَ اللهُ ألاّ يطلعَا ... إلاَّ ارتداد الطّرفِ حتّى يأفلا
إنَّ الفجيعةَ بالرّياضِ نواضِراً ... لأجلُّ منها بالرَّياضِ ذوابلا
لهفي على تلك المخابل فيهما ... لو أمهلتْ حتّى تكونَ شمائلا
لو ينسآنِ لكانَ هذا غارباً ... للمكرماتِ وكان هذا كاهلا
إنَّ الهلالَ إذا رأيتَ نموَّهُ ... أيقنتَ أنْ سيكونُ بدراً كامِلا
أحسنُ وأجود مما أحذ منه هذه المعاني وهو قول الفرزدق:
وجفنُ سلاحٍ قدْ رزيت فلم أنحْ ... عليه ولم أتعبْ عليه البوَاكِيَا
وفي جوفِه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنَّ المنايا أنسأتْهُ ليالِيا
لا يقع بيتُ الفرزدق مع أبيات أبي تمام موقعا.
وقد أجاد أيضاً في قوله:
وقد علمَ القرنُ المساميكَ أنّه ... سيغرقُ في البحرِ الذي أنتَ حائضُ
وزاد فيه على من أخذه منه وهو لقيط بن يعمر:
إني أخافُ عليها الأزلمَ الجذعَا
بيت أبي تمام أكثر ماءً وأبين معنى.
وأخذ قول الفرزدق:
وما أمرتني النَّفسُ في رحلةٍ لها ... إلى أحدٍ إلاَّ إليكَ ضميرُها
فشرحه فقال:
وما طوّفتُ في الآفاقِ إلاَّ ... ومن جدواكَ راحلتي وزادِي
مقيمُ الظَّنِّ عندكَ والأماني ... وإنْ قلقتْ ركابي في البلادِ
وإلى بيت الفرزدق يشيرُ القائل:
مدحتكَ جهدِي بالّذي أنتَ أهلُه ... فقصّرَ عمّا فيكَ من صالحٍ جهدِي
فما كلُّ ما فيه من الخيرِ قلتُه ... ولا كلُّ ما فيهِ يقولُ الَّذي بعدِي
وكنتُ إذا هيأتُ مدحاً لماجدٍ ... أتاني الَّذي فيه بأدنى الَّذي عندِي
ومن هاهنا أخذ أبو نواس قوله:
إذا نحنُ أثنينا عليكَ بصالحٍ ... فأنتَ مما نثنى وفوقَ الَّذي نثنى
وإن جرتِ الألفاظُ يوماً بمدحةٍ ... لغيركَ إنساناً فأنتَ الَّذي نعنِي
ويشير إلى قول الخنساء:
وما بلغَ المهدونَ في القولِ مدحةً ... وإن أطنبُوا إلاَّ الّذي فيك أفضلُ
وقال البحتري:
فمنْ لؤلؤٍ تجلوهُ عندَ ابتسامِهَا ... ومن لؤلؤٍ عند الحديثِ تساقطُهْ
أحسن لفظاً وسبكا من قول أبي حية:
إذا هنَّ ساقطنَ الحديثَ كأنَّهُ ... سقاطُ حصى المرجانِ من سلكِ ناظمِ
وبيت البحتري أيضاً أتمّ معنى، لأنه تضمّن ما لم يتضمّنه بيت أبي حية من تشييه الثّغر بالدّر.
وقد زاد أيضاً في قوله:
وفرسانِ هيجاء تجيشُ صدورَها ... بأحقادِها حتى يضيقَ ذروعُها
تقتّل من وترٍ أعزَّ نفوسِها ... عليها بأيدٍ ما تكادُ تطيعُها
إذا احتربت يوماً ففاظتْ نفوسُها ... تذكَّرتِ القربَى فغاضتْ دموعُها
شواجر أرماح تقطع بينها ... شواجر أرحام ملوم قطوعها
على من قال:
ونبكي حين نقتُلكُم عليكم ... ونقتُلُكُم كأنَّا لا نُبالِي
وقريبٌ منه قول مهلهل:
لقدْ قتلتُ بني بكرٍ بربِّهِم ... حتى بكيتُ وما يبكى لهم أحدُ
وبيتا البحتري أجودُ من بيتهما بغير خلاف، ومن قول فليح بن زيد الفهري أيضاً:
أتبكين من قتلى وأنت قتلتني ... بحبّك قتلاً بيّناً ليسَ يشكلُ
فأنتِ كذبّاح العصافير دائباً ... وعيناهُ من وجدٍ عليهنَّ تهمُل
وبيته:
كلّ عانٍ يترجَّى فكه ... ولذاتِ الخالِ عانٍ ما يفكُّ
أحسن رصفاً من قول زهير وهو الأصل:
وكلُّ محبٍّ أحدثَ النَّأيُ عنده ... سلوَّ فؤادٍ غيرَ حبِّكِ ما يسلُو
وهكذا قوله:
قومٌ إذا لبسًوا الدّرُوعَ لموقفٍ ... لبستْهُم الأحسابُ فيه دروُعا
أتم وأجود من قول الأول:
ليسوا الدروعَ على القلو ... بِ مظاهرينَ لدفعِ ذلكْ
وقال أعرابي:
إنَّ النّدَى حيثُ ترى الضّغاطا
فأخذه بشّار وشرحه وبيّنه، فقال:
يسقطُ الطّيرُ حيثُ ينتثر ال ... حبُّ وتغشى منازلُ الكرماءِ
ومثله قول الآخر:
يزدحمُ الناسُ على بابه ... والمنهلُ العذبُ كثيرُ الزّحامْ
وأخبرني أبو أحمد قال: أخبرني الصولى، قال: سمعت من ينشد المبرد لسلم الخاسر:
سقتني بعينيْهَا الهوى وسقيتُها ... فدبَّ دبيبَ الخمرِ في كلِّ مفصلِ
فقال له المبرد: قد حسّنه أبو نواس حيث يقول:
ويدخلُ حبُّها في كلِّ قلبٍ ... مداخلَ لا يغلغلُها المدامُ
وقول البحتري: وغابر حبٍّ غارَ بي ثمَّ أنجدَا أجود من قول من تقدّمه، وهو الأصل:
أغار الهوى يا عبد قيس وأنجدَا
وأخذ أيضاً أبو تمام خبر الشماخ من أحيحة بن الجلاح لما أنشده الشماخ:
إذا تنعتني وحملتِ رحلِي ... عرابةَ فاشرقِي بدمِ الوتين
فقال له أحيحة: بئست المجازاةُ جازيتها فنقل أبو تمام هذا الخبر، فقال:
لستُ كشمّاخ المذمّم في ... سوء مكافاته ومجترمهْ
أشرَقها من دم الوتين لقدْ ... ضلَّ كريم الأخلاق عن شيمهْ
ذلك حكمٌ قضى بفيصله ... أحيحةُ بن الجلاحِ في أطُمِهْ
وأخبرنا أبو أحمد قال: قال أبو العيناء: سمعت أبا نواس يقول: والله ما أحسن الشماخ حيث يقول:
إذا بلَّغتني وحملتِ رحِلي ... عرابةَ فاشرَقي بدم الوتين
هلاّ قال كما قال الفرزدق:
علامَ تلفَّتينَ وأنتِ تحتي ... وخيرُ الناس كلّهم أمَامي
متى ترِدى الرّصافةَ تستريحي ... من التّهجيرِ والدبَر الدَّوامي
وكان قول الشماخ عيباً عندي، فلما سمعت قول الفرزدق تبعته، فقلت:
وإذا المطيُّ بنا بلغنَ محمداً ... فظهورهنَّ على الرَّجال حرامُ
قرّبننَا من خير من وطئَ الحصَى ... فلهَا علينا حرمةٌ وذمامِ
وقلت:
أقولُ لناقتي إذْ بلَّغتني ... لقد أصبحت عندي بالثَّمين
فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولا قلتُ اشرَقي بدمِ الوتينِ
حرمتِ على الأزمَّة والولايا ... وأعلاقِ الرّحالةِ والوضينِ
وتبع الشماخ ذو الرمة فقال:
إذا ابنَ أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأسٍ بين وصليك جازرُ
وسمع أبو تمام قول علي بن أبي طالب رضى الله عنه للأشعث بن قيس: إنك إن صبرت جرى عليك قضاء الله وأنت مأجور، وإن جزعت جرى عليك أمر الله وأنت موزور، فإنّك إن لم تسل احتساباً سلوتَ كما تسلو البهائم، فحكاه حكاية حسنة في قوله:
وقال عليّ في التَّعازي لأشعثٍ ... وخافَ عليهِ بعضَ تلكَ المآثمِ
أتصبرُ للبلوَى رجاءً وحسبةً ... فتؤجرَ أمْ تسلُو سلوَّ البهائِم
خلقنَا رجالاً للتجلُّدِ والأسَى ... وتلكَ الغوانِي للبكا والمآتمِ
والبيت الأخير من قول عبد الله بن الزبير لما قتل مصعب: وإنما التسليم والسّلوة لحزماء الرّجال، وإنّ الهلع والجزع لربّات الحجال.
وسمع قول زياد لأبي الأسود: لولا أنك ضعيفٌ لاستعملتك. فقال أبو الأسود: إن كنتَ تريدني للصراع فإني لا أصلح له، وإلا فغير شديد أن آمر وأنهى، فقال أبو تمام:
تعجَّبُ أن رأتْ جسمي نحيفاً ... كأن المجد يدركُ بالصّراعِ
وزاد أبو تمام أيضاً بقوله:
أطالَ يدي على الأيّامِ حتَّى ... جزيتُ صروفَها صاعاً بصاعِ
علي أبي طالب في قوله:
فإن يقتَلا أو يمكن اللهُ منهمُا ... نكلْ لهما صاعاً بصاعِ المكايِلِ
بيت أبي تمام أصفى وأنصع.
وكذلك قوله:
من النَّكباتِ النَّاكباتِ عن الهوى ... فمحبُوبها يمشي ومكروهُها يعدُو
أحسن رصفاً مما أخذه منه. وهو الذي أنشدنيه أبو أحمد، قال: أنشدنا ابن دريد قال: أنشدنا الرياشي عن المعمري حفص بن عمر لبعض المسجونين:
وتعجبنا الرؤيا فجلُّ حديثنا، ... إذا نحنُ أصبحنا، الحديثُ عن الرؤْيا
فإنْ حسنتْ م تأتِ عجلى وأبطأتْ ... وإن قبحت لم تحتبس وأنت عجلى
وأخبرني أبو أحمد، قال أخبرني الصولي، قال حدّثني أبو بكر هرون بن عبد الله المهلبي، قال: كنا في حلقة دعبل، فجرى ذكرُ أبي تمام، فقال دعبل: كان يتتبّع معانىّ فيأخذها، فقال له رجل في مجلسه: ما من ذلك أعزّك الله؟ فقال: قلت:
وإن امرأ أسدَى إلىَّ بشافعٍ ... إليهِ ويرجُو الشُّكرَ منّى لأحمقُ
شفيعك فاشكرْ في الحوائج إنّه ... يصونكَ عن مكرُوهِهَا وهو يخلُقُ
وقال هو، يمدح يعقوب بن أبي ربعي:
إنَّ الأميرَ بلاكَ في أحوالِهِ ... فرآك أهزعَه غداةَ نضالِه
فمتى أقوم بحقّ شكرِكَ إذ جنتْ ... بالغيب كفّك لي ثمارَ نوالِهِ
فلقيتُ بين يديكَ حلوَ عطائِه ... ولقيتَ بينَ يديَّ مرَّ سؤالهِ
وإذا امرؤ أسدَى إليكَ صنيعه ... من جاهِه فكأنَّهَا من مالِهِ
فقال الرجلُ: أحسن والله فقال دعبل: كذبتَ قبّحك الله قال: لئن كان سبق بهذا المعنى فتبعته لما أحسنت، وإن كان أخذه منك لقد أجاد، فصار أولى به منك فغضب دعبل وقام.
وسمع بشارٌ قول المجنون:
ألا إنّما ليلَى عصا خيزرانَةٍ ... إذا غمزُوها بالأكفِّ تلينُ
فقال: والله لو جعلها عصا من زبد أو مخ لما أحسن، ألا قال كما قلت:
وحوراء المدامِعِ من معدّ ... كأنَّ حديثهَا قطعُ الجمانِ
إذا قامتْ لسبْحتِهَا تثنَّتْ ... كأنَّ عظامَها من خيزُرَانِ
ولما قال بشّار:
من راقبَ الناسَ لم يظفرْ بحاجتِه ... وفازَ بالطِّيّباتِ الفانكُ اللّهجُ
تبعه سلم الخاسر، فقال:
من راقبَ النّاسَ ماتَ غمّاً ... وفازَ باللّذّةِ الجسورُ
فلما سمع بشار هذا البيت قال: ذهب ابن الفاعلة ببيتي.
ومن حسن الاتباع أيضاً قول إبراهيم بن العباس حيث كتب: إذا كان للمحسن من الثواب ما يقنعه، وللمسيئ من العقاب ما يقمعه، ازداد المحسن في الإحسان رغبة، وانقاد المسئ للحق رهبة. أخذه من قول عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه أخبرنا به أبو أحمد، قال أخبرنا أبو بكر الجوهري، قال: أخبرنا أبو يعلى المنقري، قال: أخبرنا العلاء بن الفضل بن جرير قال: قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: يجب على الوالي أن يتعهّد أموره، ويتفقّد أعوانه، حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء. ثم لا يترك واحداً منهما بغير جزاء، فإنْ ترك ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
وسمع بعض الكتّاب قول نصيب:
فعاجُوا فأثنَوا بالّذي أنتَ أهلُهُ ... ولو سكتُوا أثنتْ عليكَ الحقائبُ
فكتب: ولو أمسكَ لساني عن شكركَ لنطق على أثرك.
وفي فصل آخر:
ولو جحدتكَ إحسانَك لأكذبتني ... آثارُهُ، ونمّت على شواهده.
وقريبٌ منه قولهم: شهادات الأحوال أعدل من شهادات الرجال، أخذه ابن الرومي فشرحه في قوله:
حالَ انسدادُ فمي عمّا يريبكم ... لكن فمُ الحالِ منِّي غيرُ مسدودِ
حالٌ تصيحُ بما أوليتَ معلنة ... وكلُّ ما تدَّعيهِ غيرُ مردودِ
كلى هجاءٌ وقتلِى لا يحلُّ لكمْ ... فما يداريكم منى سوى الجُودِ
وقريب منه أيضاً قول الشاعر:
أأقاتلُ الحجَّاجَ عن سلطانِهِ ... بيدٍ تقرُّ بأنَّها مولاتُهُ
ماذا أقولُ إذا وقفتُ إزاءَه ... في الصّفِّ واحتجَّتْ له فعلاتهُ
أخذه أبو تمام فقال:
أألبس هجرَ القولِ من لو هجوتُه ... إذاً لهجاني عنه معروفُه عندِي
وممن أحسنَ الاتباعَ أيضاً أحمد بن يوسف وقد سمع قول علي رضى الله عنه: لا تكوننَّ كمن يعجز عن شكرِ ما أوتي، ويلتمس الزيادة فيما بقي فكتب: أحق من أثبت لك العذر في حال شغلك من لم يخل ساعة من برّك في وقت فراغك.
وأخذه أخذاً ظاهراً أحمد بن صبيح فقال: في شكر ما تقدّم من إحسان الأمير شاغلٌ عن استبطاء ما تأخّرَ منه.
وأخذه سعيد بن حميد فقال: لستُ مستقلاً لشكر ما مضى من بلائك، فاستبطئ درك ما أؤمّلُ من مزيدك.
من هذا أيضاً قول أبي نواس:
لا تسدبنَّ إليَّ عارفةً ... حتَّى أقومَ بشكرِ ما سلفَا
وأخبرني أبو أحمد، قال: أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال، قال أبو تمام لابن أبي داود لما غضب عليه: أنت الناس كلّهم، ولا طاقة لي بغضب جميع الناس. فقال ابن أبي دواد: ما أحسن هذا من أين أخذته؟ قال: من قوله أبي نواس:
وليس لله بمستنكرٍ ... أنْ يجمعَ العالم في واحدِ
ومن سمع هذا الكلام يظنه مسروقاً من قول جرير:
إذا غضبتْ عليَّ بنو تميمٍ ... حسبتُ النَّاسَ كلَّهمُ غضَابا
وأخبرنا أبو أحمد قال: أخبرنا الأخفش، قال: أخبرنا المبرد عن الجاحظ قال، سمع قليب المعتزلي أبياتاً للعتبى، وهي:
أفلتْ بطالتُه وراجعَهُ ... حلمٌ وأعقبهُ الهوَى ندمَا
ألقَى عليهِ الدّهرُ كلكلَهُ ... وأعارهُ الإقتارَ والعدما
فإذا ألمَّ به أخَو ثقةٍ ... غضَّ الجفونَ ومجمجَ الكلمَا
فقال لبعض الملوك يستعطفه على رجل من أهله: جعلني الله فداءك، ليس هو اليوم كما كان، إنه وحياتك أفلت بطالته، أي والله، وراجعه حلمه، وأعقبه وحقّك الهوى ندما، أنحى الدهر والله عليه بكلكله، فهو اليوم إذا رأى أخا ثقةٍ غضَّ بصرهن ومجمج كلامه.
وبهذا يعرف أن حلَّ المنظوم، ونظم المحلول أسهل من ابتدائهما، لأنَّ المعاني إذا حلت منظوما أو نظمت منثوراً حاضرةٌ بين يديك تزيد فيها شيئاً فينحلُّ، أو تنقص منها شيئاً فينتظم، وإذا أردتَ ابتداء الكلام وجدت المعاني غائبةً عنك فتحتاج إلى فكرٍ يحضركها.
والمحلول من الشعر على أربعة أضرب، فضرب منها يكون بإدخال لفظة بين ألفاظه. وضرب ينحلّ بتأخير لفظةٍ منه وتقديم أخرى فيحسن محلوله ويستقيم. وضرب منه ينحلّ على هذا الوجه ولا يحسن ولا يستقيم. وضربٌ تكسو ما تحلّه من المعاني ألفاظاً من عندك وهذا أرفع درجاتك.
فأما الضربُ الأول فمثاله ما تقدَّ من صدر كلام قليب المعتزلى وأما الضرب الثاني فمثاله ما ذكره بعض الكتاب من قول البحتري:
نطلبُ الأكثر في الدنيا وقدْ ... نبلغ الحاجةَ فيها بالأقلّ
ثم قال: فإذا نثرت ذلك ولم تزد في ألفاظه شيئاً قلت: نطلب في الدنيا الأكثر، وقد نبلغ منها الحاجة بالأقل.
وقوله:
أطلْ جفوةَ الدُّنيَا وتهوين شأنِهَا ... فما الغافلُ المغرورُ فيها بعاقلِ
يرجِّى الخلودَ معشرٌ ضلَّ سعيهُم ... ودونَ الذي يبتغون غولُ الغوائل
إذا ما حريزُ القومِ باتَ وما لَهُ ... من اللهِ واقٍ فهوَ بادي المقاتلِ
فإذا ما نثرتَ ذلك من غير أن تزيد في ألفاظه شيئاً قلت: أطل تهوين شأن الدنيا وجفوتها، فما المغرور الغافل فيها بعاقل، ويرجو معشر ضلّ رأيهم الخلود، وغول الغوائل دون ما يرجون، وإذا بات حريز القوم ماله واق من الله فهو بادي المقاتل.
وهذا المعنى مأخوذٌ من قول التغلبي:
لعمركَ ما يدرِي الفتى كيفَ يتَّقى ... إذا هوَ لم يجعل لهُ اللهَ واقيَا
وأما الضرب الثالث فهو أن توضعَ ألفاظُ البيت في مواضع، ولا يحسن وضعُها في غيرها، فيختلّ إذا نثر بتأخير لفظ وتقديم آخر، فتحتاج في نثره إلى النقصان منه والزيادة فيه، كقول البحتري:
يسرُّ بعمرانِ الدّيار مضلَّلٌ ... وعمرانُها مستأنفٌ من خرابهَا
ولم أرتضِ الدُّنيا أوانَ مجيئها ... فكيف أرتضائيها أوانَ ذهابهَا
فإذا نثر على الوجه قيل: يسر مضلّل بعمران الدنيا، ومن خرابها عمرانها مستأنف، ولم أرتض أوان مجيئها الدنيا، فكيف أوان ذهابها أرتضائيها. فهذا نثرٌ فاسد، فإذا غيرتَ بعض ألفاظه حسن وهو أن تقول: يسرّ المضلّل بعمران الديار، وإنما تستأنف عمرانها من خرابها، وما ارتضيت الدنيا أوان مجيئها، فكيف أرتضيها أوان ذهابا؟ ونحن نقول: إنّ من النظم ما لا يمكن حلّه أصلا بتأخير لفظة وتقديم أخرى منه حتى يلحق به التغيير والزيادة والنقصان مثل قول الشاعر:
لسانُ الفتَى نصفٌ ونصفٌ فؤادُه ... فلم يبق إلا صورةُ اللّحمِ والدَّمِ
فالمصراع الأول يمكن أن تؤخّر ألفاظه وتقدّم، فيصير نثراً مستقيماً، وهو أن تقول: فؤاد الفتى نصفٌ ولسانه نصف. ولا يمكن في المصراع الثاني ذلك حتى تزيد فيه أو تنقص منه، فتقول: لسان الفتى نصفٌ وفؤاده نصف، وصورته من اللحم والدم فضلٌ لا غناء بها دونهما ولا معوّل عليها إلا معهما.
وزيادة الألفاظ التي تحصل فيه ليست بضائرة، لأنّ بسط الألفاظ في أنواع المنثور سائغ، ألا ترى أنها تحتاج إلى الازدواج، ومن الازدواج ما يكون بتكرير كلمتين لهما معنى واحد، وليس ذلك بقبيح إلاّ إذا اتّفق لفظاهما.
ويسوغ هذا في الشعر أيضاً كقول البحتري:
بودِّي لو يهوى العذولُ ويعشق ... فيعلم أسباب الهوى كيف تعلقُ
فيهوى، ويعشق سواءٌ في المعنى وهو حسن، إلاّ أنّ أكثر ما يحسن فيه إيراد المعنى على غاية ما يمكن من الإيجاز.
ومعنى قوله: " فلم يبق إلا صورة اللّحم والدم " . داخل في قوله: " لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده " . والمصراع الثاني إنما هو تذييلٌ للمصراع الأول، فإذا أردت أن تحلّه حلاًّ مقتصراً بغير لفظه قلت: الإنسان شطران: لسان وجنان.
ومما لا يمكن حلّه بتقديم لفظة منه وتأخير أخرى أيضاً قول أبي نواس:
ألا يا بنَ الذينَ فنُوا وبادُوا ... أمَا واللهِ ما ذهبُوا لتبقَى
فتحل المصراع الأول فتقول: ألا يا بن الذين ماتوا ومضوا، فيحسن. وتقول في المصراع الثاني: لتبقى أما والله ما ماتوا. أو لتبقى ما ماتوا ومضوا، أما والله، فلا يكون ذلك شيئاً، فتحتاج في نثره إلى تغييره وإبدال ألفاظه، فتقول: ألا يا بن الذين ماتوا ومضوا وظعنوا فناء، أما والله ما ظعنوا لتقيم، ولا راموا إلاّ لتريم، ولا ماتوا لتحيا، ولا فنوا لتبقى.
وفي هذه الألفاظ طولٌ، وليس بضائر على ما خبّرتك، فإن أردت اختصاره قلت: أما والله إنّ الموت لم يصبك في أبيك إلاّ ليصيبك فيك.
والضرب الرابع أن تكسو ما تحلّه من المنظوم ألفاظاً من عندك، وهذا أرفع درجاتك.
ثم نرجع إلى السرقات: قال بعضهم للربيع بن خثيم، وقد رأى اجتهاده في العبادة: أتعبت نفسك، قتلت نفسك. فقال: راحتها أطلب. فقال الشاعر:
سأطلبُ بعد الدَّارِ عنكم، لتقربُوا ... وتسكبُ عينايَ الدُّموعَ لتجمُدا
وقال غيره:
تقول سليمَى لو أقمتَ بأرضنَا ... ولم تدرِ أنِّي للمقامِ أطوّفُ
ومثل ذلك أن بعضهم رأى أعرابياً مقبلاً إلى مكة ليصوم فيها شهر رمضان والحرُّ شديد، فقال له: أتجمع على نفسك الصوم وحرّ تهامة؟ فقال: من الحرّ أفرّ وقيل لروح بن قبيصة بن المهلب، وهو واقفٌ في الشمس على باب الخليفة: لقد طال وقوفك في الشمس فقال: الظلّ أريد، فقال أبو تمام:
أآلفةَ النّحيبِ كم افتراقٍ ... أظلَّ فكانَ داعيةَ اجتماعِ
وليستْ فرحةُ الأوباتِ إلاَّ ... لموقوفٍ على ترَحِ الوداعِ
وقال امرؤ القيس:
فبعضَ اللَّوم عاذلتي فإنّي ... ستكفيني التّجاربُ وانتسابي
يقول: لا أنتسب إلا إلى ميت.
وقال لبيد:
فإنْ لم تجدْ من دونِ عدنانَ والداً ... ودونَ معدٍّ فلترعكَ العواذلُ
فأخذه الحسن البصري، فقال نثراً: إنّ امرءاً لم يعد بينه وبين آدم عليه السلام إلا أباً ميتاً لمعرق له في الموت، فأخذه أبو نواس، فقال:
وما الناسُ إلاّ هالكٌ وابن هالكٍ ... وذو نسبٍ في الهالكينَ عريقُ
وقال الله عز وجل: " يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدو " ، فأخذه الشاعر فقال وقصّر عنه:
مازلتَ تحسبُ كلَّ شيءٍ بعدهم ... خيلاً تكرّ عليهمُ ورجالا
وكذا قصَّرتِ الخنساء في قولها:
ولولا كثرةُ الباكِين حولي ... على إخوانِهم لقتلتُ نفسِي
وما يبكونَ مثلَ أخي ولكنْ ... أعزِّى النَّفسَ عنهُ بالتَّأسِّي
عن قول الله تعالى: " ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتُم أنكم في العذاب مشتركون " .
ومن خفّي السرق أن أبا مسلم قال لجلسائه: أي الأعراض الأم؟ فقالوا وأكثروا. فقال: ألأمُها عرضٌ لم يرتع فيه حمدٌ ولا ذم، فأخذه المراغي، فقال:
هجوتُ زهيراً ثم إني مدحتُه ... ومازالتِ الإشرافُ تهجَى وتمدحُ
وأخذ عليُّ بن الجهمِ قول الفرزدق:
ما الباهليُّ بصادقٍ لكَ وعدهُ ... ومتى تعدكَ الباهليّةُ تصدقُ
فقال:
الرُّحَّجيُّونَ لا يوفونَ ما وعدُوا ... والرُّحَّجيَّاتُ لا يخلفنَ ميعادَا
وسمع بعضهم قول العرب: إذا فارق القمر الثريا تمد ولّي الشتاء. فنظمه فقال:
إذا ما فارقَ القمرُ الثريّا ... لثالثةٍ فقدْ ذهبَ الشتاء
وسمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم: " يسعى بذمتهم أدناهم وهم يدٌ على من سواهم حيثما كانوا " ، فقلت:
يسعى بذمَّتهم أدناهُم وهُم ... يدٌ على منْ سواهم حيثُما كانوا
وهذا يدلك على صحَّة ما تقدَّم.
وسمع بعض الكتاب قول أبي تمام:
فإنْ يجد علةً نغمُّ بها ... حتى ترانَا نعادُ من مرضِهْ
فكتب: من نزل منزلتي من طاعتك ومشاركتك كان حقيقاً أن يهنَّأ بالنعمة تحدث عنه، ويعزَّى على النائبة تلمُّ بك. فنقل العيادة إلى المصيبة والتعزية.
وقال بعضهم: الكتابة نقض الشعر.
وقيل للعتابي: بم قدرت على البلاغة؟ فقال: بحلّ معقود الكلام.
وأحسن أبو تمام في قوله:
إليكَ هتكنَا جنحَ ليلِ كأنَّمَا ... قد اكتحلتْ منه البلادُ بإثمدِ
وزاد فيه على أبي نواس، ومنه أخذ، وهو قوله:
أبنْ لِي كيفَ صرتَ إلى حريمي ... وجنحُ الليلِ مكتحلٌ بقارِ
لأنَّ الاكتحالَ يكونُ بالإثمد، ولا يكون بالقار.
وممن أخفى الأخذ ابن أبي عيينة في قوله:
ما كنتَ إلاَّ كلحمِ ميتٍ ... دعا إلى أكلِه اضطرارُ
أخذه من قول الأول:
وإنَّ بقومٍ سوَّدوكَ لفاقةً ... إلى سيِّدٍ لو يظفرون بسيّدِ
ذكر ذلك عن المأمون.
ومما زاد فيه المتأخِّرُ على المتقدّم فحسن معرضه، وسهل مطلعه قول ابن المعتز:
ولاحَ ضوءُ هلالٍ كادَ يفضحنَا ... مثلَ القلامةِ إذ قدَّتْ من الظُّفُرِ
وقال الأول:
كأنَّ ابن ليلتهِ جانِحاً ... فسيطٌ لدَى الأفق من خنصِر
الفسيط: قلامة الظفر.
وما يعرف للمتقدّم معنى شريفٌ إلا نازعه فيه المتأخّر وطلب الشركة فيه معه إلا بيت عنترة:
وترى الذُّبابَ بها يغنِّى وحدَهُ ... هزجاً كفعلِ الشَّاربِ المترَنِّم
غرِداً يحكُّ ذراعَهُ بذراعِهِ ... قدحَ المكبِّ على الزِّنادِ الأجذَمِ
فإنه ما نوزع في هذا المعنى على جودته. وقد رامه بعض المجيدين فافتضح.
وأخذ البحتري قول الشماخ:
وقرَّبتُ مبراةً كأنَّ ضلُوعَها ... من الماسخيَّاتِ القسيّ الموتَّرَا
مبراة من البرة، وهي الحلقة تجعل في أنف الناقة فزاد عليه، فقال:
كالقسىِّ المعطَّفَاتِ بل ال ... أسْهم مبريّةً بلِ الأوتارِ
وهذا ترتيب مصيب من أجل أنه بدأ بالأغلظ، ثم انحطَّ إلى الأدقّ، وقد عيب ترتيب أبي تمام في قوله:
أو كالخلوق أو كالملاب
فبدأ بالأنفس ثم انحطَّ إلى الأخسِّ، كما تقول، هو مثل النَّجم، بل القمر، بل الشمس، فترتفع من الشيء إلى ما هو أعلى منه، وإذا قلت: هو مثل الشمس، بل القمر، بل النجم، لم يحسن.
وقال عروة بن الورد:
تقولُ سليمَى لو أقمتَ بأرضنا ... ولم تدرِ أنّى للمقامِ أطوِّفُ
أخذه أبو تمام وزاد عليه فقال:
ربَّ خفضٍ تحتَ السُّرَى وغناءٍ ... من عناءِ ونضرةٍ من شحوبِ
وقال إبراهيم بن العباس للفضل بن سهل:
لفضلِ بن سهلٍ يدٌ ... تقاصرَ عنْها المثلْ
فبسطتُها للغنَى ... وسطوتُهَا للأجلْ
وباطنُهَا للنَّدَى ... وظاهرُها للقبَلْ
فاتَّبعه ابن الرومي فأحسن الاتّباع، فقال:
أصبحتُ بين خصاصةٍ وتجمّل ... والحرُّ بينهما يموتُ هزيلا
فامددْ إلىَّ يداً تعوَّد بطنُها ... بذلَ النَّوالِ وظهرُها التّقبيلا
وقال بشّار:
الدَّهرُ طلاَّعٌ بأحداثهِ ... ورسلُهُ فيها المقاديرُ
محجوبَة تنفذ أحكامها ... ليس لنا عنْ ذاكَ تأخيرُ
فاتَّبعه ابن الرومي وأحسن الاتِّباع أيضاً، فقال:
يظلُّ عن الحربِ العوانِ بمعزلٍ ... وآثارُهُ فيا وإنْ غابَ شهَّدُ
كما احتجب المقدارُ والحكمُ حكمُه ... على الخلقِ طرّاً ليس عنه معرّدُ
إلا أنّ قول بشار أكثرُ ماءً وطلاوة.
ومما لم يسئ الاتّباع فيه قولُه أيضاً:
سكنت سكُوناً كان رهناً بوثبةٍ ... عماسٍ، كذاك اللّيثُ للوثبِ يلبدُ
وإنما أخذَه من قول النابغة:
وقلتُ يا قوم إنَّ اللّيثَ منقبضٌ ... على براثِنِه للوثبَةِ الضَّارى
وكذلك قوله:
كأنَّ أباه حينَ سمَّاه صاعداً ... رأى كيفَ برقى في المعالي ويصعدُ
أخذه من قول البحتري:
سماه أسرتُه العلاء، وإنما ... قصدوا بذلك أنْ يتمَّ غلاهُ
وزاد أبو تمام أيضاً على الأفوه، والنابغة، أبي نواس، ومسلم، في معنى تداولوه، وهو قول الأفوه:
وترى الطّيرَ على آثارِنا ... رأىَ عينٍ ثقةً أن ستُمار
وقول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلَّقَ فوقهُم ... عصائبُ طيرٍ تهتَدي بعصائبِ
جوانح قد أيقنَّ أنَّ قبيله ... إذا ما التقَى الجمعانِ أوَّلُ غالبِ
وقول أبي نواس:
تتأبَّى الطَّير غدوتَه ... ثقةً بالشِّبع من جزرِهْ
وقول مسلم:
قد عوَّدَ الطيرَ عاداتٍ وثقنَ بها ... فهنَّ يتبعنهُ في كلِّ مرتحلِ
فقال أبو تمام:
أقامتْ مع الرَّاياتِ حتى كأنّها ... من الجيشِ إلاَّ أنّها لم تقاتِل
فقوله أقمت مع الرايات زيادة وزاد عليه بعض المحدثين، فقال:
يطمع الطّيرَ فيهم طولُ أكلِهم ... حتى تَكاد على أحيائِهم تقعُ
وقال أبو تمام:
همَّةٌ تنطحُ النجومَ وجدٌّ ... آلفٌ للحضيض فهو حضيضُ
أخذه البحتري فحسّنه وهو قوله:
متحيِّرٌ يغدُو بعزمٍ قائمٍ ... في كلِّ نائبةٍ وجدٍّ قاعدِ
ومما أخذه أيضاً من أبي تمام فقسّمه تقسيما حسناً قوله:
ملكٌ له في كلِّ يومِ كريهةٍ ... إقدام عزٍّ واعتّزامُ مجرِّبِ
هو من قول أبي تمام:
ومجرِّبونَ سقاهمُ من بأسه ... فإذا لُقوا فكأنهم أغمارُ
وقال أبو العتاهية:
كم نعمةٍ لا يستقلُّ بشكرِها ... لله في طيِّ المكارهِ كامنَهْ
أخذه أبو تمام، فقال:
قد ينعمُ اللهُ بالبلوَي وإن عظمَتْ ... ويبتَلى اللهُ بعضَ القومِ بالنِّعمِ
فزاد عليه لأنه أتَى بضدُّ المعنى.
وقال أبو تمام:
رأيتُ رجائي فيكَ وحدك همَّةً ... ولكنَّه في سائر الناسِ مطمَعُ
فأخذه البحتري فاختصره، فقال:
ثنى أملي فاحتازه عنْ معاشرٍ ... يبيتُونَ والآمالُ فيهم مطامعُ
وأخذه ابن الرومي، فقال:
به صدَّقَ اللهُ الأمانِي حديثها ... وقدْ مرَّ دهرٌ والأماني وساوِسُ
وقال أبو تمام:
رافعٌ كفَّه لسبرى فما أح ... سبُهُ جائني لغيرِ اللّطامِ
أخذه البحتريّ فزاد عليه في حسنِ اللفظ والسّبك، فقال:
ووعدٌ ليس يعرفُ من عبوس ... بأوجههمْ أوعدٌ أم وعيدُ
وقال الحنيف بن السّجف:
وفرقتُ بين ابنى هنيم بطعنةٍ ... لها عاندٌ يكسُو السَّليبَ إزارَها
يعنى بالعاند: الدم، فأخذه البحتري فزاد عليه في اللفظ، وقال:
سلبوا وأشرقتٍ الدماءُ عليهم ... محمرَّةً فكأنهم لم يسلبُوا
على أن محمرة حشو.
وقال أبو تمام:
كأنَّما خامرهُ أولقٌ ... أو خالطتْ هامته الخندَريسْ
وقال البحتري:
وتخال ريعان الشّبابِ يروعُهُ ... من حدَّةٍ أو نشوةٍ أو أفكلِ
فزاد عليه.
وقال أبو تمام:
أنضرَتْ أيكتَي عطاياكَ حتى ... عادَ غصني ساقاً وكان قضيبا
فقال البحتري وزاد:
حتى يعودَ الذؤيبُ ليثاً ضيغماً ... والغصنَ ساقاً والقرارة نيقا
ومثل هذا كثير وفيما أوردتْ كفايةٌ إن شاء الله.
الفصل الثاني من الباب السادس في قبح الأخذ
وقبح الأخذ أن تعمد إلى المعنى فتتناوله بلفظه كلّه أو أكثره، أو تخرجه في معرض مستهجن، والمعنى إنما يحسن بالكسوة: أخبرنا بعض أصحابنا قال: قيل للشعبي، إنّا إذا سمعنا الحديث منك نسمعه بخلاف ما نسمعه من غيرك فقال: إني أجده عارياً فأكسوه من غير أن أزيد فيه حرفاً، أي من غير أن أزيد في معناه شيئاً.فما أخذ بلفظه ومعناه وادَّعى لآخذه أو ادّعى له أنه لم يأخذه، ولكن وقع له كما وقع للأول، كما سئل ابن عمرو بن العلاء عن الشاعرين يتفقان على لفظٍ واحد ومعنى. فقال: عقول رجالٍ توافت على ألسنتها، وذلك قول طرفة:
وقوفاً بها صحبِي علىَّ مطيَّهُمْ ... يقولونَ: لا تهلكْ أسىً وتجلَّدِ
وهو قول امرئ القيس:
وقوفاً بها صحبي علىّ مطيَّهم ... يقولون: لا تهلك أسىً وتجمَّلِ
فغيّر طرفة القافية.
وقال الحرث بن وعلة:
الآن لمَّا ابيضَّ مسربتي ... وعضضتُ من نابي على جذمِ
وقال غسان السليطي:
الآن لما ابيضَّ مسربتي ... وعضضتُ من نابي أجذامِي
وقال البعيث:
أترجو كليبٌ أن يجئ حديثُها ... بخيرٍ وقد أعيَا كليباً قديمُها
وقال الفرزدق:
أترجُو ربيعٌ أنْ تجئَ صغارُها ... بخيرٍ وقدْ أعيا ربيعاً كبارُها
ومثل هذا كثيرٌ في أشعارهم جداً.
والأخذ إذا كان كذلك كان معيباً وإن ادعى أن الآخرَ لم يسمعْ قول الأول، بل وقع لهذا كما وقع لذاك، فإنّ صحة ذلك لا يعلمها إلاّ الله عز وجل، والعيبُ لازمٌ للآخر.
روى لنا أن عمر بن أبي ربيعة أنشد ابن عباس رضى الله عنه:
نشطّ غداً دارُ جيراننا
فقال ابن عباس:
وللدّارُ بعدَ غدٍ أبعدُ
فقال عمر: والله ما قلتُ إلاّ كذلك.
وإذا كان القوم في قبيلةٍ واحدة، وفي أرضٍ واحدة، فإنّ خواطرهم تقعُ متقاربة، كما أن أخلاقهم وشمائلهم تكون متضارعة، وأنشدت الصاحب إسماعيل ابن عباد:
كانت سراة الناسِ تحتَ أظلِّه
فسبقني وقال:
فغدت سراةُ الناسِ فوق سراته
وكذلك كنت قلت.
فعلى هذا جائز ما يدّعى لهم، والظاهر ما قلناه، فهذا ضرب.
والضرب الآخر من الأخذ المستهجن أن يأخذ المعنى فيفسده أو يعوصه، أو يخرجه في معرضٍ قبيح وكسوة مسترذلة، وذلك مثل قول أبي كريمة:
قفاه وجهٌ، ثم وجهُ الذي ... قفاه وجهٌ يشبِهُ البدْرا
وإنَّما أخذ هذا من قول أبي نواس:
بأبي أنتَ من مليحٍ بديع ... بذّ حسنَ الوجوهِ حسنُ قَفاكا
وأحسن ابن الرومي فيه فقال:
ما ساءَني إعرَاضه ... عنّى ولكن سرَّنِي
سالفَتاه عوضٌ ... منْ كلِّ شيءٍ حسن
وإليه أشار عبد الصمد بن المعذّل في قوله:
لمّا رأيت البدرَ في ... أفق السّماء وقد تعلَّى
ورأيتُ قرنَ الشّمسِ في ... أفقِ الغروب وقد تدلَّى
شبَّهتُ ذاكَ وهذه ... وأرى شبيههمَا أجلاَّ
وجهُ الحبيبِ إذا بدَا ... وقفا الحبيبِ إذا تولَّى
وأخذه أبو نواس من قول النابغة للنعمان بن المنذر: أيفاخركَ ابن جفنة والللات، لأمسك خيرٌ من يومه، ولقذالك أحسنُ من وجهه، وليساركَ أسمح من يمينه، ولعبيدك أكثر من قومه، ولنفسك أكبر من جنده، وليومك أشرف من دهره، ولوعدك أنجز من رفده، ولهزلك أصوب من جدّه، ولكرسيّك أرفع من سريره، ولفترك أبسطُ من شبره، ولأمك خيرٌ من أبيه.
والنابغة أحذق الجماعة، لأنه ذكر القذال، وهؤلاء قالوا: القفا، ولا يستحسن أن يخاطب الرجل فيقال له: قفاك حاله كذا وكذا.
ومن ذلك قول الحسن بن وهب، وقد سمع قولى أعرابي اجتمع مع عشيق له في بعض الليالي: اجتمعت معها في ظلمة الليل، وكان البدر يرينيها، فلما غاب أرتنيه، فقال:
اراني البدرُ سنَّتَها عشاءً ... فلما أزمعَ البدرُ الأفولا
أرتنيه بسنَّتِها فكانتْ ... من البدرِ المنوِّرِ لي بديلاَ
فأطال الكلام، وجعل المعنى في بيتين، وكرّر السّنة والبدر.
وقال البحتري فأربى على الأعرابيّ وزاد عليه:
أضرَّتْ بضوءِ البدرِ والبدرُ طالعٌ ... وقامتْ مقام البدرِ لما تغيّبا
وسمع بعضهم قول محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً ... علىَّ له في مثلها يجبُ الشّكرُ
فكيف بلوغُ الشكر إلاَّ بفضله ... وإن طالتِ الأيامُ واتَّصَلَ العمرُ
إذا مسَّ بالسَّرَّاء عمَّ سرورها ... وإن مسَّ بالضَّرَّاء أعقبها الأجرُ
وما منهما إلاّ لهُ فيه نعمةٌ ... تضيق بها الأوهامُ والبرُّ والبحرُ
فقال وأساء:
الحمدُ لله إنَّ اللهَ ذو نعمٍ ... لم يحصها عدداً بالشكر من حمدا
شكرِى لهُ عملٌ فيه علىّ لهُ ... شكرٌ يكون لشكر قبلهْ مددا
فهذا مثال قبح الأخذ، فاعلمه.
وأخذ ابن طباطبا قول علي رضى الله عنه: قيمة كل امرئ ما يحسنُه، فقال:
فيا لائمي دعني أغال بقيمتي ... فقيمةُ كلِّ الناس ما يحسنونَهُ
فأخذه بلفظه، وأخرجه بغيضاً متكلَّفاً والجيد قول الآخر:
فقيمة كل امرئ علمه
فهذا وإن كان أخذه ببعض لفظه فإن كلا في بيته أحسنُ موقعاً منه في بيت ابن طباطبا.
وقال قرواش بن حوط:
دونوتُ له بأبيض مشرفّيٍ ... كما يدنُو المصافحُ للعناقِ
أخذه أبو تمام فقصّر عنه، وقال:
حنَّ إلى الموتِ حتى ظنَّ جاهلُه ... بأنَّهُ حنَّ مشتاقا إلى وطنِ
وأحسن تقسيمه البحتري، فقال:
تسرَّعَ حتى قال من شهدَ الوغَى ... لقاءُ أعادٍ أم لقاءُ حبائبِ
وقال ذو الرمة:
وليلٍ كجلبابِ العروسِ ادَّرعتهُ ... بأربعةٍ والشَّخصُ في العينِ واحدُ
أحمُّ علافيٌّ وأبيضُ صارمٌ ... وأعيسُ مهريٌّ وأروعُ ماجدُ
أخذه أبو تمام فقصَّر وقال:
البيدُ والعيسُ والليلُ التّمامُ معاً ... ثلاثةٌ أبداً يقرنَّ في قرنِ
وبيت البحتري في معناه أجود من هذا، إلا أنه لا يلحق بيت ذي الرمة:
اطلبَا ثالثاً سواىَ فإنّي ... رابعُ العيسى والدُّجَى والبيدِ
ومما قصَّر فيه البحتري:
قومٌ ترى أرماحهُمْ يومَ الوغَى ... مشغوفة بمواطنِ الكتمَانِ
أخذه من قول عمرو بن معد يكرب:
والضاربينَ بكلِّ أبيضَ مرهفٍ ... والطّاعنين مجامعَ الأضغانِ
قوله: " مجامع الأضغان أجود من قوله: مواطن الكتمان، لأنهم إنما يطاعنون الأعداء من أجل أضغانهم، فإذا وقع الطّعن في وضع الضغن فذلك غاية المراد.
ومما قصر فيه قوله:
من غادةٍ منعتْ وتمنعُ نيلَهَا ... فلو أنَّها بذلتْ لنا لم تبذُل
أخذه من قول عبد الصمد بن المعذّل:
ظبيٌ كأنَّ بخصرهِ ... من دقَّةٍ ظمأً وجوعاً
ومن البليّةِ أنَّني ... علّقتُ ممنوعاً منوعَا
بيت عبد الصمد أبينُ معنى مع شدةِ الاختصار. وبيت البحتري العويص لا يقام إعرابه إلا بعد نظر طويل.
وقال جابر بن السليك الهمداني:
أرمي بها اللّيلَ قدَّامي فيغشم بي ... إذ الكواكبُ مثلُ الأعين الحولِ
أخذه البحتري فقصّر في النظم عنه فقال:
وخدانِ القلاصِ حولاً إذا قا ... بلنَ حولاً من أنجمِ الأسحارِ
الأول أسلس.
وقال أبو تمام:
فلم يجتمعْ شرقٌ وغربٌ لقاصدٍ ... ه لا المجدُ في كفِّ امرئ والدَّرَاهمُ
وقال البحتري فقصّر:
ليفرْ وفرُك الموفِى وإنْ أع ... وزَ أن يجمعَ النَّدَى ووفورُه
وأخذ أبو تمام قول الشاعر:
فقلتُ لهم لا تعذلوني وانظروا ... إلى النَّازعِ المقصورِ كيف يكونُ
فقال وقصر:
هرمتَ بعديَ والربعُ الذي أفلتْ ... منهُ بدورك معذورٌ على الهرَم
متكلف ردئ الاستعارة.
وقد يتفق المبتدئ للمعنى والآخذ منه في الإساءة، قال ابن أذينة:
كأنما عائبُها دائباً ... زيَّنَها عندي بتزيينِ
فأتى بعبارة غر مرضية ونسجٍ غير حسن، وأخذه أبو نواس فقال:
كأنما أثنوا ولم يعلمُوا ... عليكَ عندي بالَّذي عابُوا
فأتى أيضاً برصفٍ مرذول ونظمٍ مردود.
وقد يستوى الآخذ والمأخوذ منه في الإجادة، في التعبير عن المعنى الواحد. قال أعرابي:
فتمَّ عليها المسكُ والليلُ عاكفُ
وقال البحتري:
وحالونَ كتمانَ الترحُّل في الدجى ... فنمَّ بهنَّ المسكُ حتى تضوَّعا
وقال أيضاً:
فكان العبير بها واشياً ... وجرسُ الحلى عليها رقيبا
وقال النابغة:
فإنَّكَ كاللَّيلِ الذي هو مدرِكي ... وإن خلتُ أنَّ المنتأى عنكَ واسعُ
وقال أبو نواس:
لا ينزلُ الليلُ حيث حلّتْ ... فدهرُ شرَّابَهَا نهارُ
فأحسنا جميعاً في العبارة، وللنابغة قصبة السبق.
ومثل ذلك قول لبيد:
ولا بدَّ يوماً أن تردَّ الودائع
وقال بشار:
وردَّ عليَّ الصِّبا ما استعارا
وقال الفرزدق:
تفاريقُ شيبٍ في الشَّبابِ لوامِعٌ ... وما حسنُ ليلٍ ليسَ فيه نجومُ
وقال أبو نواس:
كأنَّ بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريقُ شيبٍ في سوادِ عذارِ
البيتان متساويان في حسن الرصف، وإن كان أبو نواس أساء في أخذه لفظ الفرزدق، وفي قول الفرزدق أيضاً زيادةٌ، وهي: " وما حسنُ ليلٍ ليس فيه نجومُ " .
وأنشد أبو أحمد، قال: أنشدنا أبو بكر عن عبد الرحمن عن عمه:
حرامٌ على أرماحِنا طعنُ مدبِر ... وتندقُّ قدماً في الصُّدورِ صدورُها
مسلمةٌ أعجازُ خيليَ في الوغَى ... ومكلومةٌ لبَّاتُها ونحورُهَا
أخذه أبو تمام، فقال:
أناسٌ إذا ما استحكم الرَّوعُ كسّرُوا ... صدور العوالي في صدور الكتائب
فأحسنا جميعاً.
ومثله قول الآخر:
يلقى السيوفَ بوجهِه وبنحرِه ... ويقيمُ هامتَه مقامَ المغفرِ
ويقول للطّرفِ اصطبر لشبَا القنَا ... فهدمتُ ركنَ المجدِ إنْ لم تعقرِ
ومثله قول بكر بن النطاح:
يتلقَّى النَّدى بوجه حيّ ... وصدورَ القنَا بوجهٍ وقاحِ
وهذا كلّه مأخوذٌ من قول كعب بن زهير:
لا يقع الطّعنُ إلاَّ في نحورهم ... وما لهمْ عن حياض الموتْ تهليلُ
وهو دون جميع ما تقدّم.
وقد أتيتُ في هذا الباب على كفاية، ولا أعلم أحداً ممن صنّف في سرق الشعر فمثل بين قول المبتدي وقول التّالي، وبين فضل الأول على الآخر، والآخر على الأوّل، غيري، وإنما كانت العلماء قبلي ينبّهون على مواضع السّرق فقط، فقس بما أوردته على ما تركته، فإني لو استقصيته لخرج الكتاب عن المراد، وزاغ عن الإيثار، وبالله التوفيق.
تم الجزء الأول من كتاب الصناعتين، ويتلوه في الجزء الثاني الباب السابع في التشبيه. والحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلامه وهو حسبنا ونعم الوكيل
الباب السابع
التشبيه
فصلان
الفصل الأول من الباب السابع
في حدّ التشبيه وما يستحسن من منثور الكلام ومنظومهالتشبيه: الوصف بأنّ أحد الموصوفين ينوب مناب الآخر بأداة التشبيه، ناب منابه أو لم ينب، وقد جاء في الشعر وسائر الكلام بغير أداة التشبيه. وذلك قولك: زيد شديد كالأسد، فهذا القول الصواب في العرف وداخلٌ في محمود المبالغة، وإن لم يكن زيد في شدّته كالأسد على الحقيقة، على أنه قد روى أن إنساناً قال لبعض الشعراء: زعمت أنك لا تكذب في شعرك، وقد قلت:
ولأنت أجرأ من أسامة
أو يجوزُ أن يكون رجلٌ أشجع من أسد فقال: قد يكون ذلك، فإنّا قد رأينا مجزأة بن ثور فتح مدينةً ولم تر الأسد فعل ذلك، فهذا قول.
ويصحّ تشبيه الشيء بالشيء جملة، وإن شابهه من وجه واحد، مثل قولك: وجهك مثل الشمس، ومثل البدر، وإن لم يكن مثلهما في ضيائهما وعلوّهما ولا عظمهما، وإنما شبّهه بهما لمعنىً يجمعهما وإياه وهو الحسن. وعلى هذا قول الله عز وجلّ: " وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام " ، إنما شبّه المراكب بالجبال من جهة عظمها لا من جهة صلابتها ورسوخها ورزانتها، ولو أشبه الشيء الشيء من جميع جهاته لكان هو هو.
والتشبيه على ثلاثة أوجه: فواحدٌ منها تشبيه شيئين متفقين من جهة اللون، مثل تشبيه الليلة بالليلة، والماء بالماء، والغراب بالغراب، والحرّة بالحرّة. والآخر تشبيه شيئين متفقين يعرف اتفاقهما بدليل، كتشبيه الجوهر بالجوهر، والسواد بالسواد. والثالث تشبيه شيئين مختلفين لمعنى يجمعهما، كتشبيه البيان بالسّحر، والمعنى الذي يجمعهما لطافة التدبير ودقة المسلك. وتشبيه الشدة بالموت، والمعنى الذي يجمعهما كراهية الحال وصعوبة الأمر.
وأجود التشبيه وأبلغه ما يقع على أربعة أوجه: أحدها: إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما يقع عليه، وهو قول الله عزّ وجل: " والذين كفروا أعمالهم كسرابٍ بقيعة يحسبُه الظّمآن ماءً " . فأخرج ما لا يحسّ إلى ما يحسّ، والمعنى الذي يجمعهما بطلان المتوهم من شدّة الحاجة وعظم الفاقة، ولو قال: يحسبه الرأي ماء لم يقع موقع قوله: الظمآن، لأنّ الظمآن أشدّ فاقةً إليه، وأعظم حرصاً عليه.
وهكذا قوله تعالى: " مثل الذين كفروا بربّهم أعمالهم كرمادٍ اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف " . والمعنى الجامع بينهما بعد التّلاقي، وعدم الانتفاع.
وكذلك قوله عزّ وجل: " فمثله كمثل الكلبِ إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث " ، أخرج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه من لهث الكلب. والمعنى أن الكلب لا يطيعك في ترك اللهث على حال، وكذلك الكافر لا يجيبك إلى الإيمان في رفق ولا عنف.
وهكذا قوله تعالى: " والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفّيهِ إلى الماءِ ليبلغَ فاهُ وما هوَ ببالغهِ " . والمعنى الذي يجمع بينهما الحاجةُ إلى المنفعة، والحسرة لما يفوتُ من درك الحاجة.
والوجه الآخر إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة، كقوله تعالى: " وإذ نتقنا الجبل فوقهم كأنّه ظلَّةٌ " ، والمعنى الجامع بين المشبّه والمشبّه به الانتفاع بالصورة.
ومن هذا قوله تعالى: " إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلنا من السّماء ... إلى قوله: كأنْ لم تغنَ بالأمس " ، هو بيان ما جرت به العادة إلى ما لم تجر به. والمعنى الذي يجمع الأمرين الزينة والبهجة، ثم الهلاك، وفيه العبرة لمن اعتبر، والموعظة لمن تذكّر.
ومنه قوله تعالى: " إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحسٍ مستمرّ، تنزع الناسَ كأنهم أعجاز نخل منقعر " ، فاجتمع الأمران في قلع الريح لهما وإهلاكهما والتخوُّف من تعجيل العقوبة.
ومن هذا قوله تعالى: " فكانت وردةً كالدهانِ " والجامع للمعنيين الحمرة ولين الجوهر، وفيه الدّلالة على عظم الشّأن، ونفوذ السلطان.
ومنه قوله تعالى: " اعلموا أنّما الحياة الدّنيا لعبٌ ولهوٌ... إلى قوله عزّ وجل: ثم يكونُ حطاما " ، والجامع بين الأمرين الإعجابُ، ثم سرعةُ الانقلاب، وفيه الاحتقارُ للدّنيا والتّحذير من الاغترار بها.
والوجه الثالث: إخراج ما لا يعرف بالبديهة إلى ما يعرفُ بها، فمن هذا قوله عزّ وجل: " وجنةٍ عرضُها السّموات والأرض " ، قد أخرج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بها، والجامع بين الأمرين العظم، والفائدة فيه التشويق إلى الجنة بحسن الصّفة.
ومثله قوله سبحانه: " كمثل الحمار يحمل أسفارا " ، والجامع بين الأمرين الجهل بالمحمول، والفائدة فيه الترغيب في تحفّظ العلوم، وتركُ الاتكال على الرّواية دون الدّراية.
ومنه قوله تعالى: " كأنَّهم أعجازُ نخلٍ خاوية " ، والجامع بين الأمرين خلوّ الأجساد من الأرواح، والفائدة الحثّ على احتقار ما يؤول به الحال.
وهكذا قوله سبحانه: " كمثل العنكبوت أتّخذت بيتاً " ، فالجامع بين الأمرين ضعف المعتمد، والفائدة التحذير من حمل النفس على التغرير بالعمل على غير أس.
والوجه الرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة على ما له قوةٌ فيها، كقوله عزّ وجلّ: " ولهُ الجوارِ المنشآتُ في البحرِ كالأعلام " ، والجامع بين الأمرين العظم، والفائدة البيانُ عن القدرة في تسخير الأجسام العظام في أعظم ما يكون من الماء. وعلى هذا الوجه يجري أكثر تشبيهات القرآن، وهي الغاية في الجودة، والنهاية في الحسن.
وقد جاء في أشعار المحدثين تشبيه ما يرى العيان بما ينال بالفكر، وهو ردئ، وإن كان بعض الناس يستحسنه لما فيه من اللطافة والدّقة، وهو مثل قول الشاعر:
وكنت أعزّ عزّاً من قنوعٍ ... يعوّضهُ صفُوحٌ من ملولِ
فصرتُ أذلّ من معنىً دقيقٍ ... به فقرٌ إلى فهمٍ جليلِ
وكقول الآخر:
وندمانٍ سقيتُ الرَّاحَ صرفاً ... وأفقُ اللّيلِ مرتفع السُّجُوفِ
صفتْ وصفتْ زجاجتُها عليها ... كمعنىً دقّ في ذهنٍ لطيف
فأخرج ما تقع عليه الحاسّة إلى ما لا تقع عليه، وما يعرف بالعيان إلى ما يعرف بالفكر، ومثله كثيرٌ في أشعارهم.
وأما الطريقة المسلوكة في التشبيه، والنّهج القاصد في التمثيل عند القدماء والمحدثين فتشبيه الجواد بالبحر والمطر، والشجاع بالأسد، والحسن بالشمس والقمر، والسهم الماضي بالسيف، والعالي الرّتبة بالنّجم، والحليم الرزين بالجبل، والحيّ بالبكر، والفائت بالحلم، ثم تشبيه اللئيم بالكلب، والجبان بالصّفرد، والطائش بالفراش، والذّليل بالنّقد والنّعل والفقع والوتد، والقاسي بالحديد والصّخر، والبليد بالجماد، وشهر قومٌ بخصالٍ محمودة، فصاروا فيها أعلاماً فجروا مجرى ما قدّمناه، كالسموءل في الوفاء، وحاتم في السخاء، والأحنف في الحلم، وسحبان في البلاغة، وقسّ في الخطابة، ولقمان في الحكمة. وشهر آخرون بأضداد هذه الخصال، فشبّه بهم في حال الذم كباقل في العيّ، وهبنّقة في الحمق، والكسعىّ في النّدامة، والمنزوف ضرطا في الجبن، ومارد في البخل.
والتشبيه يزيد المعنى وضوحا ويكسبه تأكيداً، ولهذا ما أطبق جميع المتكلمين من العرب والعجم عليه، ولم يستغن أحدٌ منهم عنه.
وقد جاء عن القدماء وأهل الجاهلية من كلّ جيل ما يستدلُّ به على شرفه وفضله وموقعه من البلاغة بكلّ لسان. فمن ذلك ما قال صاحب كليلة ودمنة: الدنيا كالماء الملح كلما ازددت منه شربا ازددت عطشا. وقال صحبةُ الأشرار تورث الشرّ كالريح إذا مرّت على المنتن حملت نتنا، وإذا مرّت على الطيب حملت طيبا. وقال من لا يشكر له كان كمن نثر بذره في السّباخ، ومن أشار على معجب كان كمن سارّ الأصم. وقد نظمت هذا المعنى. فقلت:
ألا إنّما النعمى تجازى بمثلِها ... إذا كان مسدَاها إلى ما جدٍ حرِّ
فأمّا إذا كانت إلى غيرِ ماجدٍ ... فقدْ ذهبت في غر أجرٍ ولا شكرِ
إذا المرءُ ألقَى في السّباخِ بذورهُ ... أضاعَ فلم ترجع بزرع ولا بذرِ
وقال: لا يخفى فضل ذي العلم وإن أخفاه كالمسك يخبأ ويستر، ثم لا يمنع ذلك رائحته أن تفوح. أخذه الصاحب فكتب: فأنت أدام الله عزّك وإن طويت عنّا خبرك، وجعلت وطنك وطرك، فأنباؤك تأتينا، كما وشى بالمسك ريّاه، ونمّ على الصباح محيّاه.
وقال أيضاً: الرجلُ ذو المروءة يكرم على غير مال كالأسد يهاب وإن كان رابضا، والرجل الذي لا مروءة له يهان وإن كان غنيا كالكلب يهون على الناس وإن عسّى وطوّف.
وقال: المودّةُ بين الصالحين سريعٌ اتصالها بطئ انقطاعها كآنية الذهب التي هي بطيئة الإنكسار هينّة الإعادة، والمودة بين الأشرار سريعٌ انقطاعُها بطئٌ اتصالها كآنية الفخّار يكسرها أدنى شيء، ولا وصل لها.
وقال: لا يرّد بأس العدوّ القويّ بمثل التذلّل له، كما أنّ العشبَ إنما يسلمُ من الريح العاصف بلينه لها وانثنائه معها.
وقال: لا يحبّ للمذنب أن يفحص عن أمره لقبح ما ينكشف عنه، كالشيء المنتن كلما أثير ازداد نتنا.
وقال أيضاً: من صنع معروفاً لعاجل الجزاء فهو كملقى الحبّ للطير لا لينفعَها بل ليصيدها به.
وقال أيضاً: المالُ إذا كان له مدد يجتمع منه ولم يصرف في الحقوق أسرع إليه الهلاك من كل وجه، كالماء إذا اجتمع في موضع ولم يكن له طريقٌ إلى النفوذ تفجّر من جوانبه فضاع.
وقال أيضاً: الأدب يذهب عن العاقل السكر ويزيد الأحمق سكراً، كالنهار يزيد البصير بصراً ويزيد الخفّاش سوء بصر.
وقد أحسن في هذا المعنى جعفر بن محمد رضى الله عنهما، فقال: الأدب عند الأحمق كالماء العذب في أصول الحنظل كلما ازداد ريّاً ازداد مرارة.
وقال صاحب كليلة ودمنة: الدنيا كدودة القزّ لا تزداد بالإبريسم على نفسها لفّاً إلاّ ازدادت من الخروج بعداً.
وقال: إذا عثر الكريم لم ينتعش إلا بكريم، كالفيل إذا توحل لم يقلعه إلا الفيلة.
وقال الشاعر في هذا المعنى:
وإذا الكريمُ كبتْ به أيامُه ... لم ينتعش إلاّ بعطفِ كريم
وقال صاحب كليلة أيضاً: يبقى الصالح من الرّجال صالحا حتى يصاحب فاسداً، فإذا صاحبه فصد، مثل مياه الأنهار تكون عذبة حتى تخالط ماء البحر، فإذا خالطته ملحت.
وقال بعض الحكماء: الدنيا كالمنجل استواؤها في اعوجاجها.
والتشبيه بعد ذلك في جميع الكلام يجرى على وجوه: منها تشبيه الشيء بالشيء صورة، مثل قول الله عز وجل: " والقمر قدّرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم " . أخذه ابن الرومي، فقال في ذم الدهر:
تأتي على القمر السّاري نوائبه ... حتى يرَى ناحلاً في شخص عزْجُون
وأين يقع هذا من لفظ القرآن.
ومن ذلك قول امرئ القيس:
كأنّ قلوبَ الطيرِ رطباً ويابساً ... لدى وكرِها العنَّاب والحشقُ البالِي
وقوله أيضاً:
كأنَّ عيونَ الوحش حول خبائنَا ... وأرحلنَا الجزعُ الذي لم يثقَّبِ
وقول عدي بن الرقاع:
تزجِى أغنَّ كأنَّ إبرةً روقهِ ... قلمٌ أصابَ من الدَّواةِ مدادَها
ومنها تشبيه الشيء بالشيء لوناً وحسناً، كقول الله عزّ وجل: " كأنّهنَّ الياقوتُ والمرجان " . وقوله تعالى: " كأنّهنّ بيضٌ مكنون " . وكقول حميد ابن ثور:
والليل قد ظهرَتْ نحيزَتُه ... والشمسً في صفراءَ كالوَرسِ
وكقول الآخر:
قومٌ رباط الخيلِ وسطَ بيوتِهم ... وأسنَّةٌ زرقٌ يخلنَ نجومَا
ومنها تشبيهه به لوناً وسبوغاً، كقول امرئ القيس:
ومشدودةَ السَّكّ موضونةً ... تضاءَلُ في الطّيِّ كالمبردِ
يفيضُ على المرءِ أردانُها ... كفيضِ الأتِىِّ على الجدْجدِ
شبّه الدّرع بالأتّى في بياضها وسبوغِها، لأنها تعمُّ الجسد كما يعمّ الأتىّ الجدجد إذا تفجّر فيه، والأتى: السيل.
ومنها تشبيه به لوناً وصورة، كقول النابغة:
تجلُو بقامتي حمامةِ أيكةٍ ... برداً أسفَّ لثاتُه بالإثمدِ
كالأقحوانِ غداةَ غبّ سمائِهِ ... جفَّتْ أعالِيهِ وأسفله ندِى
شبَّه الثَّغر بالأقحوان لوناً وصورة، لأنَّ ورق الأقحوان صورتُه كصورة الثّغر سوداء، وإذا كان الثّغر نقيّاً كان في لونه سواء.
وكقول امرئ القيس:
جمعت ردينيّاً كأنَّ سنانه ... سنَا لهبٍ لم تتَّصلْ بدخانِ
ومما يتضمَّن معنى اللون وحده قولُ الأعشى:
وسبيئةٍ ممّا تعتّقُ بابلٌ ... كدمِ الذَّبيحِ سلبتُها جريالَها
وقول الشماخ:
إذا ما الليل كان الصبح فيه ... أشق كمفرقِ الرَّأس الدَّهين
وقول زهير:
وقد صار لونُ اللّيل مثلَ الأرندجِ
وقول امرئ القيس:
وليلٍ كموجِ البحرِ مرخٍ سدُولَه ... علىَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلى
وفي هذا معنى الهول أيضاً.
وقول كعب بن زهير:
وليلةِ مشتاقٍ كأنَّ نجومَها ... تفرَّقنَ منها في طيالسةٍ خضرِ
وقول ذي الرمة:
وليلٍ كجلباب العروسِ أَّرَعَتُه ... بأربعةٍ والشّخصُ في العين واحدُ
وقوله أيضاً:
وقدْ لاحَ للسّاري الذي كمَّلَ السُّرَى ... على أخريات اللّيلِ فتقٌ مشهَّرُ
كلونِ الحصانِ الأنبطِ البطنِ قائماً ... تمايلَ عنهُ الجلُّ واللّونُ أشقرُ
ومنها تشبيهه به حركة، وهو قول عنترة:
غرداً يحكُّ ذراعَه بذراعِه ... قدحَ المكبِّ على الزِّنادِ الأجّذم
وقول الأعشى:
غرَّاءٌ فرعاء مصقولٌ عوارضُهَا ... تمشِى الهوينا كما يمشِي الوجى الوجلُ
وقول الآخر:
كأنَّ مشيتَها من بيتِ جارتِها ... مرَّ السّحابةِ لا ريثٌ ولا عجلُ
وقول الآخر:
كأنّ أنوفَ الطّيرِ في عرصاتِهَا ... خراطيمُ أقلامٍ تخطُّ وتعجم
ومنها تشبيهه به معنى، كقول النابغة:
فإنك شمسٌ والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهنَّ كوكبُ
وقوله:
فإنكَ كاللّيلِ الَّذي هوَ مدرِكي ... وإنْ خلتُ أنَّ المنتأى عنكَ واسعٌ
وكقول الآخر:
وكالسَّيفِ إنْ لاينتَه لان متنه ... وحدَّاه إن خاشنتَهُ خشنانِ
وقول مسلم بن الوليد:
وإنّي وإسماعيلَ يومَ وداعِه ... لكالغمدِ يومَ الرَّوعِ فارقَه النّصلُ
وقوله:
فإنْ أغشَ قوماً بعدهُ أو أزرهُم ... فكالوحشِ يدنيهَا من الآنس المحالُ
وقول الآخر:
والدَّهر يقرعُني طوراً وأقرعُه ... كأنه جبلٌ يهوِى إلى جبلِ
وقول الآخر:
كم من فؤادٍ كأنَّه جبلٌ ... أزالَه عن مقرّه النّظرُ
وقد يكون التشبيه بغير أداة التشبيه، وهو كقول امرئ القيس:
له أيطلا ظبيٍ وساقَا نعامةٍ ... وإرخاءٌ سرحانٍ وتقريب تتفُل
هذا إذا لم يحمل على التشبيه فسد الكلام، لأنّ الفرس لا يكون له أيطلا ظبي ولا ساقا نعامة ولا غيره مما ذكره، وإنما المعنى له أيطلان كأيلطي ظبيٍ وساقان كساقي نعامة. وهذا من بديع التشبيه، لأنه شبّه أربعة أشياء بأربعة أشياء في بيت واحد، وكذلك قول المرقش:
النَّشرُ مسكٌ والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفِّ عنمْ
فهذا تشبيه ثلاثة أشياء في بيت واحد.
وضربٌ منه آخر، ومنه قول امرئ القيس:
سموتُ إليها بعد ما نام أهلُها ... سموَّ حبابِ الماءِ حالا على حالِ
فحذف حرف التشبيه.
ثم نورد هاهنا شيئاً من غرائب التشبيهات وبدائعها، ليكون مادة لمن يريدُ العمل برسمنا في هذا الكتاب، فمن بديع التشبيه قول امرئ القيس:
كأنَّ قلوبَ الطّيرَ رطباً ويابساً ... لدى وكرهَا العنّابُ والحشفُ البَالِي
فشبَّه شيئين بشيئين مفصلا: الرطب بالعناب، واليابس بالحشف، فجاء في غاية الجودة.
ومثله قول بشار:
كأنّ مثار النَّقعِ فوق رءوسنا ... وأسيافنَا ليلٌ تهاوَى كواكبُهْ
فشبَّه ظلمة الليل بمثار النَّقعْ، والسيوف بالكواكب.
وبيتُ امرئ القيس أجود، لأنَّ قلوب الطير رطباً ويابساً أشبهُ بالعنَّابِ والحشف من السيوف بالكواكب.
ومثل قول النمري:
ليلٌ من النَّقعِ لا شمسٌ ولا قمرَ ... إلاّ جبينُك والمذروبةُ الشّرُعُ
وقول العتابي:
مدّتْ سنابكُها من فوق أرؤسِهْم ... ليلاً كواكبُه البيض المباتيرُ
ومن بديع التشبيه قول الآخر:
تشرتْ إلىَّ غدائراً من شعرِها ... حذرَ الكواشح والعدوّ الموبق
فكأنَّني وكأنَّهَا وكأنَّهُ ... صبحانِ باتا تحت ليلٍ مطبق
شبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء مفصّلة.
وقال البحتري:
تبسُّمٌ وقطوبٌ في ندىً ووغىً ... كالغيثِ والبرقِ تحتَ العارضِ البردِ
وأتمّ ما في هذا قول الوأواء:
وأسبلتْ لؤلؤاً من نرجسٍ فسقتْ ... ورداً وعضَّتْ على العنَّابِ بالبردِ
فشبّه خمسة أشياء بخمسة أشياء في بيت واحد: الدمع اللؤلؤ، والعين بالنرجس، والخدّ بالورد، والأنامل بالعنّاب، لما فيهنّ من الخضاب، والثّغر بالبرد. ولا أعرف لهذا البيت ثانيا في أشعارهم.
وقول البحتري:
كالسّيفِ في إخذامِه والعيث في ... إرهامِه واللَّيثِ في إقدامِه
فشبّه ثلاثة أشياء بثلاثة أشياء.
وقلت في مثله:
كالسَّيفِ في غمراتِه والبدرِ في ... ظلماتِه والغيثِ في أزمَاتِه
وقال البحتري:
شقائق يحملنَ النَّدَى فكأنّه ... دموعُ التَّصابي في خدُودِ الخرائد
فشبّه شيئين بشيئين.
ومثله قول أبي نواس:
يا قمراً أبصرتُ في مأتَم ... يندبُ شجواً بينَ أترابِ
يبكى فيلقى الدُّرَّ من نرجسٍ ... ويلطمُ الوردَ بعنَّابِ
أخذه بعض المتأخرين فقلبه هجاء فقال:
يا قردةً أبصرتُ في مأتم ... تندب شجواً بتخاليطِ
تبكى فتلقى البعرَ من كوَّةٍ ... وتلطمُ الشَّوكَ ببلوطِ
وشبهت الهلال تشبيهاً يتضمن صفته من لدن هو هلال إلى أن يكمل، فقلت:
وكؤوس إذا دجا الليل دارت ... تحت سقف مرصع باللجين
وكأن الهلال مرآة تبر ... ينجلي كل ليلة إصبعين
ومن بديع التشبيه قول سلمة بن عباس:
كأن بني ذالان إذ جاء جمعهم ... فراريج يلقى بينهن سويق
هذا لدقة أصواتهم وعجلة كلامهم، وقوله:
حديث بني قرط إذا ما لقيتهم ... كنزو الدبا في العرفج المتقارب
وقال بعض المدثين وهو ابن نباتة في فرس أبلق أغر:
وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فحاض في أحشائه
وقال آخر:
ليل يجر من الصباح ذلاذلا
ومن مليح التشبيه وبديعه قول ابن المعتز:
والصبح يتلو المشتري فكأنه ... عريان يمشي في الدجى بسراج
وقوله في صفة فرس:
ومحجل غير اليمين كأنه ... متبختر يمشي بكم مسبل
وقال أعرابي:
بغزو كولغ الذئب غاد ورائح ... وسير كصدر السيف لا يتعرج
وقول لبن الرقاع:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وقول الطرماح:
يبدو وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
وقول ذى الرمة في الحرباء:
ودوية جرداء جداء خيمت ... بها هبوات الصيف من كل جانب
كأن يدى حربائها متململاً ... يدا مذنب يستغفر الله تائب
وقوله فيها:
وقد جعل الحرباء يصفر لونه ... وتخضر من حر الهجير غباغبه
ويسبح بالكفين حتى كأنه ... أخو فجرة عالى به الجذع صالبه
أخذه البحتري فقال:
فتراه مطرداً على أعواده ... مثل اطراد كواكب الجوزاء
مستشرفاً للشمس منتصباً لها ... في أخريات الجذع كالحرباء
وقال ذو الرمة:
يصلى بها الحرباء للشمس مائلاً ... على الجذل إلا أنه لا يكبر
إذا حول الظل العشى رأيته ... حنيفا وفي قرن الضحى يتنصر
الحرباء: دويبة كالعظاية تأتي شجرة تعرف بالتنضية فتمسك بيديها غصنين منها، وتقابل بوجهها الشمس، فكيفما دارت الشمس دارت معها، فإذا غربت الشمس نزلت فرعت.. والحرباء، فارسية معربة، وإنما هي خُربا، أي حافظ الشمس، والشمس تسمى بالفارسية خُر، وقد ملح ابن الرومي في ذكرها حيث يقول في قينة:
ما بالها قدْ حسنتْ ورقيبُها ... أبداً قبيحٌ، قبِّح الرقباءُ
ما ذاك إلا أنها شمس الضحى ... أبداً يكون رقيبها الحرباءُ
وقال ابن الرومي أيضاً في مصلوب:
كم بأرض الشآم غادرتَ منهم ... غائراً موفياً على أهل نجدِ
يلعبُ الدَّستبندَ فرداً وإنْ ... كان له شاغلُ عن الدَّستبندِ
وقال ابن المعتز:
وقد علا فوقَ الهلالِ كرته ... كهامةِ الأسودِ شابتْ لحيتهُ
وقال:
ورأسه كمثل فرقٍ قد مطرْ ... وصدغه كالصّولجان المنكسرْ
ومن بديع التشبيه قول الآخر:
بيضاء تسحبُ من قيام فرعَها ... وتغيبُ فيه وهو جثلٌ أسحمُ
فكانها فيه نهار ساطع ... وكأنه ليلٌ عليها مظلمُ
ومن بديعة قول مسلم:
أجدَّكِ ما تدرينَ أنْ ربَّ ليلةٍ ... كأنَّ دجاها من قرونِك تنشرُ
وقول الفرزدق:
والشيبُ ينهض في الشّباب كأنه ... ليلٌ يصيحُ بجانبيه نهارُ
وقلت:
شمس هوتْ وهلالُ الشهر يتبُعها ... كأنها سافرٌ قدّام منتقبِ
تبدو الثريا وأمرُ الليل مجتمعٌ ... كأنها عقربٌ مقطوعةُ الذَّنبِ
وقلت:
تلوحُ الثريا والظلامُ مقطِّبٌ ... فيضحك منها عن أغرَّ مفلَّجِ
تسير وراءً والهلالُ أمامَها ... كما أومأتْ كفٌّ إلى نصف دملجِ
وقال عبد الله بن المعتز:
أهلاً وسهلا بالناي والعودِ ... وكأس ساقٍ كالغصن مقدُودِ
قد انقضت دولة الصيام وقدْ ... بشّرَ سقمُ الهلالِ بالعيدِ
وقال آخر:
تبدو الثريا كفاغرٍ شرهٍ ... يفتحُ فاه لأكل عنقودِ
قال أبو الحرث: جميز فلان كالمشجب من حيث لقيته لا فقال أبو العبر:
لو كنتَ من شيء خلافك لم تكنْ ... لتكونَ إلاّ يشجباً في مشجبِ
يا ليتَ لي من جلد وجهك رقعة ... فأقدَّ منها حافراً للأشهبِ
وقال بعض الحكماء: العقل كالسيف والنظر كالمسنّ. ونظر عبادة إلى سوداء تبكى، فقال: كأنها تنّورُ شنان يكف، فنظمته وقلت:
سوداء تذرفُ دمعها ... مثل الأتونِ إذا وكفْ
وقال ابن المعتز:
وكأنَّ عقربَ صدغِه وقفتْ ... لما دنتْ من نار وجنتهِ
وقلت:
كأنَّ نهوض النجم الأفق أخضرٌ ... تبلجُ ثغرٍ تحت خضرةِ شاربِ
وقال أوس بن حجر:
حتى تلفَّ بدورِكمْ وقصورِكم ... جمعٌ كناصية الحصان الأشقَرِ
وقلت:
بكرنا إليه والظلامُ كأنه ... غرابٌ على عرفِ الصباح يرنّق
وقلت:
إذا التوى الصّدغُ فوق وجنته ... رأيتَ تفاحةً بها عضَّهْ
وقلت:
والغيم يأخذه ريح فتنفشُه ... كالقطنِ يندف في زرقِ الدبابيجِ
وقلت:
وقهوة من يد المغنوج صافيةٍ ... كأنها عصرتْ من خدّ مغنوجِ
وقلت:
قم بنا نذعر الهمومَ بكأسٍ ... والثريَّا لمفرقِ الليل تاجُ
وقد انجرّت المجرَّة فيه ... كسبيبٍ يمدّه نسَّاجُ
وقلت:
وكأنَّ النجومَ والليلُ داجٍ ... نقشُ عاج يلوحُ في سقفِ ساجٍ
وقلت:
كأن السّميريّات فيه عقارب ... تجئ على زرق الزجاج وتذهب
وقلت:
فأذريت دمعا بالدماء مصبَّغاً ... كما يتواهى عقدُ عقدٍ منسّقِ
وقد باشر الليل الصباحَ كأنه ... بقية كحلٍ في حماليقِ أزرقِ
وهذا الجنس كثير، وفيما أوردته كفاية إن شاء الله.
الفصل الثاني
في البيان عن قبح التشبيه وعيوبه
والتشبيه يقبح إذا كان على خلاف ما وصفناه في أول الباب، من إخراج الظاهر فيه إلى الخافي، والمكشوف إلى المستور، والكبير إلى الصغير، كما قال النابغة:تحدِى بهم أدم كأنَّ رحَالها ... علق أريق على متونِ صوارِ
وقال لبيد:
فحمةً ذفراءَ ترتَى بالعُرى ... قردُمانيّاً وتركا كالبصلْ
وقال خفاف بن ندبة:
أبقى لها التعداء عن عتداتها ... ومتونِها كخيوطة الكتانِ
العتدات: القوائم، والمتون: الظهور، يقول: دقت حتى صارت متونها وقوائمها كالخيوط، وهذا بعيد جداً. ومثل هذا محمود غير معيب عند أصحاب الغلو ومن يقول بفضله.
وإذا شبه أيضاً صغيراً بكبير وليس بينهما مقاربة فهو معيب أيضاً، كقول ساعدة ابن جؤبة:
كسَاها رطيبَ الريش فاعتدلتْ لها ... قداحٌ كأعناق الظباء الفوارِقِ
شبه السهام بأعناق الظباء وليس بينهما شبه. ولو وصفها بالدقة لكان أولى.
ومن معيب التشبيه قول بشر:
وجرّ الرامساتُ بها ذويلا ... كأن شمالها بعد الدّبور
رماد بين أظآر ثلاثٍ ... كما وشم النواشرُ وبالنؤور
فشبَّه الشّمال والدبور بالرّماد.
ومن خطأ التشبيه قول الجعدي:
كأن حجاج مقلتها قليبٌ
والحجاج: العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب وليس هذا مما يغور، وإنما تغور العين. ومن التشبيه الكريه المتكلف قول زهير:
فزلَّ عنها ووافى رأس مرقبةٍ ... كمنصبِ العترِ دمَّى رأسَه النُّسُك
ومن التشبيه الردئ اللفظ قول أوس بن حجر:
كأن هِرّاً جنيباً تحت غرضتِها ... والتف ديكٌ برجليها وخنزيرٌ
وأعجب من هذا قول بشار:
وبعض الجود خنزير
ومن بعيد التشبيه قول أعرابي:
وما زلتَ ترجو نيلَ سلمى وودها ... وتبعد حتى أبيض منك المسايح
ملا حاجبيك الشيبُ حتى كأنه ... ظباء جرت، منها سنيحٌ وبارحُ
فشبَّه شعرات بيضاً في حاجبيه بظباء سوانح وبوارح. وقال أبو تمام:
كأنني حين جردت الرجاءَ له ... عضبٌ صببت به ماءً على الزمن
ولا يكاد يرى تشبيه أبرد من هذا.
وكتب آخر إلى أخ له يعتذر من ترك زيارته: قد طلعت في إحدى أثنتي بثرة، فعظمت حتى كأنها الرمانة الصغيرة.
وقال عليّ الأسواري: فلما رأيته اصفرّ وجهي حتى صار كأنه لون الكشُّوث.
وقال له محمد بن الجهم: كم آخذ من الدواء الذي جئت به؟ قال: مقدار بعرة. فجاء بلفظ قذر، ولم يبن عن المراد، لأن البعر يختلف في الكبر والصغر، ولا يعرف أبعرة ظبي أراد أو بعرة شاة أم بعرة جمل.
ومن التشبيه المتنافر قول الجماني يصف ليللاً:
كأنما الطرف يرمى في جوانِبه ... عن العمى وكأن النجم قندبل
اجتماع العمى والقنديل في غاية التنافر.
ومن ردئ التشبيه قول ابن المعتز:
أرى ليلاً من الشعر ... على شمس من الناسِ
الجمع بين الليل والناس ردئ. وقد وقع ها هنا بارداً.
الباب الثامن
ذكر السجع والازدواج
لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجا، ولا تكاد تجد لبليغٍ كلاماً يخلو من الازدواج، ولو استغنى كلام عن الازدواج لكان القرآن، لأنه في نظمه خارج من كلام الخلق، وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلا عما تزاوج في الفواصل منه. كقول الله تعالى: " الحمدُ لله الَّذي خلق السّموات والأرض وجعل الظمات والنور " . وقوله عز وجل: " أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم " . وقوله تعالى: " ولستُم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه " . وقوله تعالى: " يا أيها الناس اعبدوا ربَّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم " . إلى غير ذلك من الآيات.
وأما ما زوج بينه بالفواصل فهو كثير. مثل قوله تعالى: " فإذا فرغت فانصب، وإلى بك فارغب " . وقوله سبحانه: " فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر " . وقوله عز وجل: " والعصر إنَّ الإنسان لفي خسرٍ " . وقوله جل ذكره: " وأنَّه هو أضحك وأبكى وأنَّه هو أمات وأحيا " ، وهذا من المطابقة التي لا تجد في كلام الخلق مثلها حسناً ولا شدة اختصار، على كثرة المطابقة في الكلام. وكذلك جميع ما في القرآن مما يجرى على التسجيع والازدواج مخالف في تمكين المعنى، وصفاء اللفظ، وتضمّن الطّلاوة والماء لما يجرى مجراه من كلام الخلق. ألا ترى قوله عز اسمه: " والعاديات ضبحاً فالمورياتِ قدحاً فالمغيرات صبحاً فأثرن به نقعاً فوسطنَ به جمعاً " . قد بان عن جميع أقسامهم الجارية هذا المجرى، من مثل قول الكاهن: والسماء والأرض، والقرض والفرض، والغمر والبرض. ومثل هذا من السجع مذموم لما فيه من التكلف والتعسف. ولهذا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل، قال له: أندى من لا شرب ولا أكل، ولا صاح، فاستهلّ، فمثل ذلك يطل: أسجعاً كسجع الكهان لأن التكلف في سجعهم فاش، ولو كرهه عليه الصلاة والسلام لكونه سجعا لقال: أسجعاً ، ثم سكت، وكيف يذمه ويكرهه، وإذا سلم من التكلّف، وبرئ من التعسّف لم يكن في جميع صفوف الكلام أحسن منه.
وقد جرى عليه كثير من كلامه عليه السلام، فمن ذلك ما حدثنا به يوسف الإمام بواسط، قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله أبو شهاب عن عوف عن زرارة ابن أوفى عن عبد الله بن سلام، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة انجفلَ الناسُ قبله، فقيل: قدم رسول الله، فجئت في الناس لأنظر إليه. فلما تبينتُ وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أول شيء تكلم به أن قال: أيّها الناسُ، أفشوا السّلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل، والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام " .
وكان صلى الله عليه وسلم ربما غيّر الكلمة عن وجهها للموازنة بين الألفاظ وإتباع الكلمة أخواتها، كقوله صلى الله عليه وسلم: " أعيذه من الهامّة، والسّامّة، وكل عين لامّة " . وغنما أراد ملمّة. وقوله عليه السلام: ارجعنَ مأزورات، غير مأجورات. وإنما أراد موزورات، من الوزر. فقال: مأزورات، لمكان مأجورات، قصداً للتوازن وصحة التسجيع.
فكل هذا يؤذن بفضيلة التسجيع على شرط البراءة من التكلّف والخلو من التعسف. وقد اعتمد في موضع تجنب السجع وهو معرّض له، وكلامه كان يطالبه. فقال: " وما يدريك أنه شهيد، لعله كان يتكلم بما لا يعنيه، ويبخل بما لا ينفعه " . ولو قال: بما لا يغنيه، لكان سجعا. والحكيم العليم بالكلام يتكلم على قدر المقامات، ولعل قوله: " ينفعه " كان أليق بالمقام فعدل إليه.
والسجع على وجوه: فمنها أن يكون الجزآن متوازنين متعادلين، لا يزيد أحدهما على الآخر، مع اتفاق الفواصل على حرف بعينه. وهو كقول الأعرابي: سنة جردت، وحال جهدت، وأيد جمدت، فرحم الله من رحم، فأقرض من لا يظلم. فهذه الأجزاء متساوية لا زيادة فيها ولا نقصان، والفواصل على حرف واحد. ومثله قول آخر من الأعراب، وقد قيل له: من بقى من إخوانك؟ فقال: كلب نابح، وحمار رامح، وأخ فاضح. وقال أعرابي لرجل سأل لئيماً: نزلت بواد غير ممطور، وفناء غير معمور، ورجل غير مسرور، فأقم بندم، أو ارتحل بعدم. ودعا أعرابي، فقال: اللهم هب لي حقّك، وأرض عني خلقك. وقال آخر: شهادات الأحوال، أعدل من شهادات الرجال. ودعا أعرابي، فقال: أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذّلّ إلى لك. وقال أعرابي ذهب بابنه السيل: اللهم إن كنت قد أبليت، فإنك طالما عافيت. وقيل لأعرابي: ما خير العنب؟ قال: ما أخضرّ عوده، وطال عموده، وعظم عنقوده. وقال أعرابي: باكرنا وسمىّ، ثم خلفه ولىّ فالأرض كأنها وشى منشور، عليه لؤلؤ منثور، ثم أتتنا غيوم جراد، بمناجل حصاد، فاحترثت البلاد، وأهلكت العباد، فسبحان من يهلك القوىّ الأكول، بالضعيف المأكول.
فهذه الفصول متوازية لا زيادة في بعض أجزائها على بعض، بل في القليل منها، وقليل ذلك مغتفر لا يعتدّ به. فمن ذلك قوله: " فسبحان من يهلك القويّ الأكول " فيه زيادة على ما بعده وهو حسن.
ومنها أن يكون ألفاظ الجزأين المزدوجين مسجوعة، فيكون الكلام سجعاً في سجع، وهو مثل قول البصير: حتى عاد تعريضك تصريحا، وتمريضك تصحيحا. فالتعريض والتمريض سجع، والتصريح والتصحيح سجع آخر، فهو سجع في سجع، وهذا الجنس إذا سلم من الاستكراه فهو أحسن وجوه السجع. ومثل قول الصاحب: لكنه عمد للشوق فأجرى جياده عرّاً وقرحا، وأورى زناده قدحا فقدحا. وقوله: هل من حق الفضل تهضمه شغفا ببلدتك، وتظلمه كلفا بأهل جلدتك. وقوله: وقد كتبت إلى فلان ما يوجز الطريق إلى تخلية نفسه، وينجز وعد الثقة في فك حبسه، فهذان الوجهان من أعلى مراتب الازدواج والسجع.
والذي هو دونهما: أن تكون الأجزاء متعادلة، وتكون الفواصل على أحرف متقاربة المخارج إذا لم تكون من جنس واحد، كقول بعض الكتّاب: إذا كنت لا تؤتى من نقص كرم، وكنت لا أوتى من ضعف سبب، فكيف أخاف منك خيبة أمل، أو عدول عن اغتفار زلل، أو فتوراً عن لمّ شعث، أو قصوراً عن إصلاح خلل. فهذا الكلام جيّد التوازن ولو كان بدل ضعف سبب كلمة آخرها ميم ليكون مضاهياً لقوله: " نقص كرم لكان أجود، وكذلك القول فيما بعده.
والذي ينبغي أن يستعمل في هذا الباب ولا بدّ منه هو الازدواج، فإن أمكن أن يكون كل فاصلتين على حرف واحد، أو ثلاث، أو أربع لا يتجاوز ذلك كان أحسن، فإن جاوز ذلك نسب إلى التكلف. وإن أمكن أيضاً أن تكون الأجزاء متوازنة كان أجمل، وإن لم يكن ذلك فينبغي أن يكون الجزء الأخير أطول، على أنه قد جاء في كثير من ازدواج الفصحاء ما كان الجزء الأخير منه أقصر، حتى جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه شيء كثير. كقوله للأنصار يفضّلهم على من سواهم: " إنكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطّمع " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " رحم الله من قال خيراً فغنم، أو سكت فسلم " . وكقول أعرابي: فلان صحيح النسب، مستحكم السبب، من أي أقطاره أتيته أتى إليك بحسن مقال، وكرم فعال. وقال آخر من الأعراب: اللهم اجعل خير عملي ما ولى أجلى.
وينبغي أيضاً أن تكون الفواصل على زنة واحدة، وإن لم يمكن أن تكون على حرف واحد، فيقع التعادل والتوازن، كقول بعضهم: اصبر على حرّ اللقاء، ومضض النزال، وشدة المصاع، ومداومة المراس. فلو قال: على حرّ الحرب، ومضض المنازلة، لبطل رونق التوازن، وذهب حسن التعادل.
ومن عيوب الازدواج التجميعي، وهو أن تكون فاصلة الجزء الأول بعيدة المشاكلة لفاصلة الجزء الثاني، مثل ما ذكر قدامة: أن كاتباً كتب: وصل كتابك فوصل به ما يستعبد الحرّ، وإن كان قديم العبودية، ويستغرق الشكر، وإن كان سالف ودك لم يبق منه شيئاً، فالعبودية بعيدة عن مشاكلة منه.
ومن عيوبه التطويل، وهو أن تجئ بالجزء الأول طويلا، فتحتاج إلى إطالة الثاني ضرورة، مثل ما ذكر قدامة: أن كاتباً كتب في تعزية: إذا كان للمحزون في لقاء مثله أكبر الراحة في العاجل ... فأطال هذا الجزء وعلم أن الجزء الثاني ينبغي أن يكون طويلاً مثل الأول وأطول، فقال: وكان الحزن راتباً إذا رجع إلى الحقائق وغير زائل. فأتى باستكراه، وتكلّف عجيب.
وقد أعجب العرب السجع حتى استعملوه في منظوم كلامهم، وصار ذلك الجنس من الكلام منظوما في منظوم، وسجعاً في سجع. وهذا مثل قول امرئ القيس:
سليم الشّظى عبل الشّوى شنج النَّسا
وقوله:
وأوتاده ماذية وعماده ... ردينية فيها أسنة قعضبِ
وقوله:
فتورُ القيام قطيعُ الكم ... يفتر عن ذي غروب خصِر
وسمى أهل الصنعة هذا النوع من الشعر المرصّع، وستراه في موضعه مشروحاً مستقصى إن شاء الله تعالى.
الباب التاسع
شرح البديع
وهو خمسة وثلاثون فصلا
الفصل الأول في الاستعارة والمجاز، الفصل الثاني في التطبيق، الفصل الثالث في التجنيس، الفصل الرابع في المقابلة، والفصل الخامسة في صحة التّقسيم، الفصل السادس في صحة التفسير، الفصل السابع في الإشارة، الفصل الثامن في الأرداف والتوابع، الفصل التاسع في المماثلة، الفصل العاشر في الغلوّ، الفصل الحادي عشر في المبالغة، الفصل الثاني عشر في الكناية والتعريض، الفصل الثالث عشر في العكس والتبديل، الفصل الرابع عشر في التذييل، الفصل الخامس عشر في الترصيع، الفصل السادس عشر في الإيغال، الفصل السابع عشر في التّرشيح، الفصل الثامن عشر في رد الأعجاز على الصدور، الفصل التاسع عشر في التكميل والتتميم، الفصل العشرون في الالتفات، الفصل الحادي والعشرون في الاعتراض، الفصل الثاني والعشرون في الرجوع، الفصل الثالث والعشرون في تجاهل العارف، الفصل الرابع والعشرون في الاستطراد، الفصل الخامس والعشرون جمع المؤتاف والمختلف، الفصل السادس والعشرون في السلب والإيجاب، الفصل السابع والعشرون في الاستثناء، الفصل الثامن والعشرون في المذهب الكلامى، الفصل التاسع والعشرون في التشطير، الفصل الثلاثون في المحاورة، الفصل الحادي والثلاثون في الاستشهاد والاحتجاج، الفصل الثاني والثلاثون في التعطف، الفصل الثالث والثلاثون في المضاعف، الفصل الرابع والثلاثون في التطريز، الفصل الخامس والثلاثون في التطلف.فهذه أنواع البديع التي ادّعى من لا رواية له ولا دراية عنده أن المحدثين ابتكروها وأن القدماء لم يعرفوها، وذلك لما أراد أن يفخّم أمر المحدثين، لأن هذا النوع من الكلام إذا سلم من التكلف، وبرئ من العيوب، كان في غاية الحسن، ونهاية الجودة.
وقد شرحت في هذا الكتاب فنونه، وأوضحت طرقه، وردت على ما أورده المتقدمون ستة أنواع: التشطير، المحاورة، والتطريز، والمضاعف، والاستشهاد، والتلطف. وشذبت على ذلك فضل تشذيب، وهذبته زيادة تهذيب، وبالله أستعين على ما يزلف لديه، ويستدعى الإحسان من عنده. وهو تعالى وليه وموليه إن شاء الله.
الفصل الأول
في الاستعارة والمجاز
الاستعارة: نقل العبارة عن موضع استعمالها في أصل اللغة إلى غيره لغرض، وذلك الغرض إما أن يكون شرح المعنى وفضل الإبانة عنه، أو تأكيده والمبالغة فيه، أو الإشارة إليه بالقليل من اللفظ، أو تحسين المعرض الذي يبرز فيه، وهذه الأوصاف موجودة في الاستعارة المصيبة، ولولا أن الاستعارة المصيبة تتضّمن ما لا تتضمنه الحقيقة، من زيادة فائدة لكانت الحقيقة أولى منها استعمالا.والشاهد على أن للاستعارة المصيبة من الموقع ما ليس للحقيقة أن قول الله تعالى: " يوم يكشف عن ساقٍ " أبلغ وأحسن وأدخل مما قصد له من قوله لو قال: يوم يكشف عن شدة الأمر، وإن كان المعنيان واحداً، ألا ترى أنك تقول لمن تحتاج إلى الجد في أمره: شمّر عن ساقك فيه، واشدد حيازيمك له، فيكون هذا القول منك أوكد في نفسه من قولك: جدّ في أمرك، وقول دريد بن الصمة:
كميشُ الإزارِ خارجٌ نصفُ ساقه ... صبورٌ على العزَّاء طلاَّعُ أنجدِ
وقال الهذليّ:
وكنتُ إذا جارى دعا لمضوفةٍ ... أشمِّر حتى ينصفَ الساقَ مئزرِي
ومن ذلك قوله تعالى: " ولا يظلمون نقيراً " ، " ولا يظلمون فتيلا " ، وهذا أبلغ من قوله سبحانه: " ولا يظلمون شيئاً " ، وإن كان في قوله: ولا يظلمون شيئاً أنفى لقليل الظلم وكثيره في الظاهر. وكذا قوله تعالى: " ما يملكون من قطمير " أبلغ من قوله تعالى: " ما يملكون شيئاً " ، وإن كان هذا أنفى لجميع ما يملك في الظاهر. وتقول العرب: ما رزأته زبالا. والزّبال: ما تحمله النحلة بفيها، يريدون ما نقصته شيئاً. وقال النابغة:
يجمع الجيشَ ذا الألوفِ ويعدو ... ثمَّ لا يرزأ العدوَّ فتيلا
ولو قلت أيضاً: ما يلمك شيئاً البتّة، وما يظلمون شيئاً لما عمل عمل قولك: ما يملكون قطميرا. ولا يظلمون نقيرا، وإن كان في الأول ما يؤكده من قولك: البتة، وأصلا. كذا حكاه لي أبو أحمد عن أبيه عن عسل بن ذكوان. وليس يقتضى هذا أنهم يظلمون دون النّقير، أو يملكون دون القطمير، بل هو نفىٌ لجميع الملك والظلم، لا يشك في ذلك من يسمعه.
وفضل هذه الاستعارة وما شاكلها على الحقيقة أنها تفعل في نفس السامع ما لا تفعل الحقيقة، ومن غير هذا النوع قوله تعالى: " سنفرغ لكمْ أيها الثّقلان " معناه سنقصد، لأنّ القصد لا يكون إلا مع الفراغ ها هنا معنى ليس في القصد وهو التوعد والتهديد. ألا ترى قولك: سأفرغ لك، يتضمن من الإيعاد ما لا يتضّمنه قولك: سأقصد لك. وهكذا قوله تعالى: " وأفئدتهم هواء " ، أي لا تعي شيئاً، لأن المكان إذا كان خالياً فهو هواء حتى يشغله شيء. وقولك: هذا أوجز من قولك: لا تعى شيئاً، فلإيجازه فضل الحقيقة. وكذلك قوله تعالى: " أعثرنا عليهم " ، معناه أطلعنا عليهم. والاستعارة أبلغ، لأنها تتضمن غفلة القوم عنهم حتى اطلعوا عليهم، وأصله أن من عثر بشيء وهو غافل نظر إليه حتى يعرفه، فاستعير عثرت مكان التبيين والإظهار. ومنه قول الناس: ما عرت من فلان على سوء قط، أي ما ظهرت على ذلك منه.
ومنه قوله عز اسمه: " أو منْ كانَ ميتاً فأحييناهُ وجعلنا له نوراً يمشي بهِ في النّاس كمنْ مثله في الظّلمات ليس بخارج منها " ، فاستعمل النور مكان الهدى، لأنه أبين، والظلمة مكان الكفر لأنها أشهر. وكذلك قوله تعالى: " ووضعنا عنكَ وزركَ الذي أنقضَ ظهركَ " ، وأصلُ الوزر ما حمله الإنسان على ظهره. ومن ذلك قوله عز وجل: " ولكنّا حمّلنا أوزاراً من زينة القوم فقذفناها " أي أحمالا من حليهم، فذكر الحمل وأراد الإثم لما في وضع الحمل عن الظهر من فضل الاستراحة، وحسن ذكر إنقاض الظهر وهو صوته لذكر الحمل، لأن حامل الحمل الثقيل جدير بإنقاض الظهر، والأوزار أيضاً: السلاح. ومنه قوله تعالى: " حتّى تضع الحربُ أوزارها " . وقال الشاعر:
وأعددتُ للحرب أوزارها ... رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا
وقوله تعالى: " ولستم بآخذيه إلاَّ أن تغمضوا فيه " ، أي ترخصوا. والاستعارة أبلغ، لأن قولك: أغمض عن الشيء أدعى إلى ترك الاستقصاء فيه من قولك: رخص فيه. وكذلك قوله تعالى: " هنَّ لباسٌ لكمْ وأنتمْ لباسٌ لهنّ " معناه فإنه يماس المرأة وزوجها يماسّها. والاستعارة أبلغ، لأنها أدل على اللصوق وشدة المماسة. ويحتمل أن يقال: إنهما يتجردان ويجتمعان في ثوب واحد ويتضامّان فيكون كل واحد منهما للآخر بمنزلة اللباس، فيجعل ذلك تشبيهاً بغير أداة التشبيه.
ولا بد لكل استعارة ومجاز من حقيقة، وهي أصل الدلالة على المعنى في اللغة، كقول امرئ القيس:
وقد أغتدى والطيرُ في وكنَاتها ... بمنجردٍ قيدِ الأوابدِ هيكلِ
والحقيقة مانع الأوابد من الذهاب والإفلات، والاستعارة أبلغ، لأن القيد من أعلى مراتب المنع عن التصرف، لأنك تشاهد ما في القيد من المنع، فلست تشك فيه.
وكذلك قولهم: هذا ميزان القياس، حقيقته تعديل القياس، والاستعارة أبلغ، لأن الميزان يصورّ لك التعديل حتى تعاينه، وللعيان فضل على ما سواه. وكذلك: العروض ميزان الشعر، حقيقته تقويمه.
ولا بد أيضاً من معنى مشترك بين المستعار والمستعار منه، والمعنى المشترك بين قيد الأوابد ومانع الأوابد هو الحبس وعدم الإفلات، وبين ميزان القياس وتعديله حصول الاستقامة وارتفاع الحيف والميل إلى أحد الجانبين، وهكذا جميع الاستعارات والمجازات.
ومن ذلك قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناهُ هباءً منثوراً " حقيقته عمدنا، وقدما أبلغ، لأنه دلّ فيه على ما كان من إمهاله لهم، حتى كأنه كان غائباً عنهم، ثم قدم فاطلع منهم على غير ما ينبغي فجازاهم بحسبه، والمعنى الجامع بينهما العدل في شدة النكير، لأن العمد إلى إبطال الفاسد عدل. وأما قوله: " هباء منثوراً " فحقيقته أبطلناه حتى لم يحصل منه شيء، والاستعارة أبلغ، لأنه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى.
والشاهد أيضاً على أن الاستعارة أبلغ من الحقيقة أن قوله تعالى: " إنا لمّا طغى الماءُ حملناكمْ في الجارية " حقيقته علا وطما، والاستعارة أبلغ، لأن فيها دلالة القهر، وذلك أن الطغيان علوّ فيه غلبة وقهر. وكذلك قوله تعالى: " بريح صرصرٍ عاتية " حقيقته شديدة، والاستعارة أبلغ، لأن العتو شدّة فيها تمرد. وقوله تعالى: " سمعوا لها شهيقاً وهي تفور. تكادُ تميّز من الغيظ " حقيقة الشهيق هاهنا الصوت الفظيع، وهما لفظتان، والشهيق لفظة واحدة فهو أوجز على ما فيه من زيادة البيان. وتميّز: حقيقتُه تنشق من غير تباين، والاستعارة أبلغ، لأن التميز في الشيء هو أن يكون كلّ نوعٍ منه مبايناً لغيره وصائراً على حدته، وهو أبلغ من الانشقاق، لأن الانشقاق قد يحصل في الشيء من غير تباين، والغيظ حقيقته شدة الغليان، وإنما ذكر الغيظ، لأن مقدار شدته على النفس مدرك محسوس، ولأن الانتقام منا يقع على قدره، ففيه بيان عجيب وزجر شديد لا تقوم مقامه الحقيقة البتة.
وقوله تعالى: " ولمّا سكت عن موسى الغضب " معناه ذهب، وسكت أبلغ، لأن فيه دليلاً على موقع العودة في الغضب إذا تؤمل الحال، ونظر فيما يعود به عبادة العجل من الضرر في الدين، كما أن الساكت يتوقّع كلامه.
وقوله تعالى: " ذرني ومن خلقتُ وحيداً " . وحقيقته ذر بأسي وعذابي، إلا أن الأول أبلغ في التهدد، كما تقول إذا أردت المبالغة والإيعاد: ذرني وإياه، ولو قال: ذر ضربي له وإنكاري عليه لم يسدّ ذلك المسد، ولعله لم يكن حسناً مقبولا. وقوله عز وجل: " فمحونا آية اللّيلِ معناه كشفنا الظلمة، والأول أبلغ، لأنك إذا قلت: محوت الشيء فقد بينت أنك لم تبق له أثراً، وإذا قلت: كشفت الشيء مثل الستر وغيره لم تبن أنك أذهبته حتى لم تبق له أثراً. وقوله سبحانه: " وجعلنا آية النّهارِ مبصرةً " حقيقته مضيئة، والاستعارة أبلغ، لأنها تكشف عن وجه المنفعة، وتظهر موقع النعمة في الإبصار.
وقوله تعالى: " واشتغل الرأس شيباً " حقيقته كثر الشيب في الرأس وظهر، والاستعارة أبلغ، لفضل ضياء النار على ضياء الشيب، فهو إخراج الظاهر إلى ما هو أظهر منه، ولأنه لا يتلافى انتشاره في الرأس، كما لا يتلافى اشتعال النار. وقوله تعالى: " بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه " ، حقيقته بل نورد الحقّ على الباطل فيذهبه. والقذف أبلغ من الإيراد، لأن فيه بيان شدة الوقع وفي شدة الوقع بيان القهر، وفي القهر ها هنا بيان إزالة الباطل على جهة الحجة، لا على جهة الشك والارتياب، والدمغ أشد من الإذهاب، لأن في الدمغ من شدة التأثير وقوة النكاية ما ليس في الإذهاب. وقوله تعالى: " عذاب يوم عقيم " وقوله عز اسمه: " إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم " فالعقيم التي لا تجئ بولد، والولد من أعظم النعم، وأجسم الخيرات، ولهذا قالت العرب: شوهاء ولودٌ، خير من حسناء عقيم. فلما كان ذلك اليوم لم يأت بمنفعة حين جاء، ولم يبق خيراً حين مر سمى عقيما. ويمكن أن يقال: إنما سمى عقيما لأنه لم يبق أحداً من القوم، كما أن العقيم لا يخلف نسلا، وسمى الريح، عقيما لأنها لم تأت بمطر ينتفع به ويبقى له أثر من نبات وغيره، كما أنّ العقيم من النساء لا تأتي بولد يرجى.
وفضل الاستعارة على الحقيقة في هذا أنّ حال العقيم في هذا أظهر قبحاً من مال الريح التي لا تأتي بمطر، لأن العقيم كانت عند العرب أكره وأشنع من ريح لا تأتي بمطر، ولأن العادة في أكثر الرياح ألا تأتي بمطر، وليست العادة في النساء أن يكون أكثرهن عقيما.
وقوله تعالى: " وآيةٌ لهم الّليل نسلخ منه النهار " ، وهذا الوصف إنما هو على ما يتلوح للعين لا على حقيقة المعنى، لأن الليل والنهار اسمان يقعان على هذا الجو عند إظلامه لغروب الشمس وإضاءته لطلوعها، وليسا على الحقيقة شيئين يسلخ أحدهما من الآخر، إلا أنهما في رأي العين كأنهما ذلك، والسلخ يكون في الشيء الملتحم بعضه ببعض، فلما كانت هوادي الصبح عند طلوعه كالملتحمة بأعجاز الليل أجرى عليها اسم السلخ، فكان أفصح من قوله: يخرج، لأن السلخ أدل على الالتحام المتوهّم فيهما من الإخراج.
وقوله تعالى: " فأنشرنا به بلدةً ميتا " ، من قولهم: أنشر الله الموتى فنشروا، وحقيقته أظهرنا به النبات، إلا أن إحياء الميت أعجب، فعبر عن إظهار النبات به فصار أحسن من الحقيقة.
وقوله تعالى: " وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة تكون لكم " ، يعنى الحرب، فنّبه على ما له تخاف الحرب، وهو شوكة السلاح وهي حدّه، فصار أحسن من الحقيقة لإنبائه عن نفس المحذور. ألا ترى أن قولك لصاحبك: لأوردئّك على حدّ السيف، أشدّ موقعا من قولك له: لأحاربنّك.
وقوله تعالى: " وإذا مسّه فذو دعاء عريض " ، أي كثير. والاستعارة أبلغ، لأن معنى العرض في مثل هذا الموضع التمام. قال كثيّر:
أنت ابن فرعي قريشٍ لو تقايسها ... في المجد صار إليك العرضُ والطولُ
أي صار إليك المجد بتمامه، وقد يكون كثير غير تام.
وقوله تعالى: " والصّبحِ إذا تنفّس " ، حقيقته إذا انتشر، وتنفس أبلغ لما فيه من بيان الرّوح عن النفس عن إضاءة الصّبح لأن الليل كرباً وللصبح تفرّجا قال الطرماح:
على أنّ للعينينِ في الصّبح راحةً ... بطرحهما طرفيهما كلَّ مطرحِ
والراحة التي يجدها الإنسان عند التنفس محسوسة.
وقوله تعالى: " مستهمُ البأساءُ والضّرَاءُ وزلزلوا " ، حقيقته أزعجوا، والزلزلة أبلغ، لأنها أشد من الإزعاج ومن كل لفظة يعبر بها عنه أيضاً.
وقوله تعالى: " أفرغ علينا صبراً " ، حقيقته صبّرنا، والاستعارة أبلغ، لأن الإفراغ يدل على العموم معناه ارزقنا صبراً يعمّ جميعنا كإفراغك الماء على الشيء فيعمّه.
وقوله سبحانه: " ضربتْ عليهمُ الذّلّةُ " ، حقيقته حصلت، إلا أن للضرب تبييناً ليس للحصول، وقالوا: ضرب على فلان البعث، أي أوجب وأثبت عليه، والشيء يثبت بالعرب ولا يثبت بالحصول، والضرب أيضاً ينبئ عن الإذلال والنقص، وفي ذلك الزّجر وشدة النقير عن حالهم.
وقوله تعالى: " فنبذوه وراءَ ظهورهم " ، حقيقته غفلوا عنه، والاستعارة أبلغ، لأن فيه إخراج ما لا يرى إلى ما يرى، ولأن ما حصر وراء ظهر الإنسان فهو أحرى بالغفلة عنه مما حصل قدامه.
وقوله تعالى: " أنزل علينا مائدة من السّماء تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا " ، حقيقته ذات سرور، والاستعارة أبلغ، لأن العادة جرت في الأعياد بتوفير السرور عند الصّغير والكبير، فتضمن من معنى السرور ما لا تتضمّنه الحقيقة.
وكذلك قوله عز اسمه: " وإذا رأيت الَّذين يخوضون في آياتنا " . وقوله تعالى: " فدلاّهما بغرور " ، أخرج ما لا يرى من تنقّصهم بآيات القرآن إلى الخوض الذي يرى. وعبّر عن فعل إبليس الذي لا يشاهد بالتدلّى من العلوّ إلى سفل وهو مشاهد. ولما كانوا يتكلمون في آيات القرآن، وينتقصونها بغير بصيرة شبّه ذلك بالخوض، لأن الخائض بطأ على غير بصيرة.
وكذلك قوله تعالى: " ويبغونها عوجاً " ، حقيقته خطأ، لأن الأعوجاج مشاهد والخطأ غير مشاهد. وكذلك قوله سبحانه: " أو آوى إلى ركنٍ شديد " ، أي إلى معين، والاستعارة أبلغ، لأن الركن مشاهد، والمعين لا يشاهد من حيث أنه معين.
وكذلك قوله تعالى: " ولا تجعل يدكَ مغلولة إلى عنقك " ، حقيقته لا تكوننّ ممسكا، والاستعارة أبلغ، لأن الغل مشاهد والإمساك غير مشاهد، فصور له قبح صورة المغلول ليستدل به على قبح الإمساك.
وقوله تعالى: " ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر " ، حقيقته لنرينّهم، والاستعارة أبلغ، لأن حسّ الذائق لإدراك ما يذوقه قوى، وللذوق فضل على غيره من الحواسّ. ألا ترى أنّ الإنسان إذا رأى شيئاً ولم يعرفه شمّه فإن عرفه وإلا ذاقه، لما يعلم أن للذوق فضلاً في تبين الأشياء.
وقوله تعالى: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً " ، حقيقته منعناهم بآذانهم، من غير صمم يبطل آلة السمع، كالضرب على الكتاب يمنع من قراءته ولا يبطله، والاستعارةُ أبلغ، لإيجازه وإخراج ما لا يرى إلى ما يرى.
وقوله عز اسمه: " وإذا غربت تقرضهُم ذاتَ الشّمال " ليس في جميع القرآن أبلغ ولا أفصح من هذا، وحقيقة القرض ها هنا أن الشمس تمسّهم وقتاً يسيراً ثم تغيب عنهم، والاستعارة أبلغ، لأن القرض أقل في اللفظ من كل ما يستعمل بدله من الألفاظ، وهو دال على سرعة الارتجاع، والفائدة أن الشمس لو طاولتهم بحرّها لصهرتهم، وإنما كانت تمسّهم قليلاً بقدر ما يصلح الهواء الذي هم فيه، لأن الشمس إذا لم تقع في مكان أصلاً فسد.
فهذه جملة مما في كتاب الله عز وجل من الاستعارة، ولا وجه لاستقصاء جميعه، لأن الكتاب يخرج عن حده.
وأما ما جاء في كلام العرب منه، فمثل قولهم: هذا رأس الأمر ووجهه، وهذا الأمر في جنب غيره يسير، ويقولون: هذا جناح الحرب وقلبها. وهؤلاء رؤوس القوم وجماجمهم وعيونهم. وفلان ظهر فلان، ولسان قومه ونابهم وعضدهم وهذا كلام له ظهر وبطن. وفي العرب بالجماجم، والقبائل والأفخاذ، والبطون، وخرج علينا عنق من الناس. وله عندي يد بيضاء، وهذه سرّة الوادي، وبابل عين الأقاليم، وهذا أنف الجبل، وبطن الوادي، ويسمون النبات نوءاً. قال:
وجف أنواءُ السّحاب المرتزق
أي جفّ البقل، ويقولون للمطر: سماء. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قومٍ ... رعيناهُ وإن كانوا غضابا
ويقولون: ضحكت الأرض، إذا أنبتت، لأنها تبدى عن حسن النبات كما يفتر الضاحك عن الثغر، ويقال: ضحكت الطلعة. والنور يضاحك الشمس. قال الأعشى:
يضاحك الشمسَ منها كوكب شرقُ ... مؤزّر بعميم النبتِ مكتهلُ
ويوقولن: ضحك السحاب بالبرق، وحنّ بالرعد، وبكى بالقطر. ويقولون: لقيت من فلان عرق القربة، أي شدة ومشقة. وأصل هذا أنّ حامل القربة يتعب من نقلها حتى يعرق. ويقولون أيضاً: لقيت منه عرق الجبين، والعرب تقول: بأرض فلان شجر قد صاح، وذلك إذا أطال فتبين للناظر بطوله، ودل على نفسه، لأنّ الصائح يدل على نفسه. ويقولون: هذا شجر واعد، إذا أقبل بماء ونضرة، كأنه يعد بالثمر، قال سويد بن أبي كاهل:
لعاعٌ تهاداه الدكادك واعدُ
ومثله قوله الشاعر:
يريد الرمحُ صدر أبي براءٍ ... ويرغبُ عن دماءِ بني عقيل
ومثله قوله تعالى: " جداراً يريدُ أن ينقضَّ " .
وأنشد الفراء:
إنَّ دهراً يلفّ شملي بسلْمى ... لزمانٌ يهمُّ بالإحسانِ
ومما في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضى الله عنهم، ونثر الأعراب، وفصول الكتاب من الاستعارة قوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل معقود بنواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة " .
وقال طفيل:
وللخيل أيامٌ فمن يصطبرْ لها ... ويعرفْ لها أيامَها الخيرَ تعقبِ
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كلّما سمع هيعةُ طار إليها " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " أكثروا من ذكر هادم اللذات " . وقال عليه الصلاة والسلام: " البلاء موكّل بالمنطق " . ورأى عليّاً مع فاطمة رضى الله عنهما في بيت فردّ عليهما الباب وقال: " جدع الحلال أنفَ الغيرة " .
وقال عليّ رضى الله عنه: السفر ميزان القوم. وقوله: فأما وقد اتسع نطاق الإسلام فكل امرئ وما يختار. وقوله لابن عباس رضى الله عنه: أرغب راغبهم، واحلل عقدة الخوف عنهم. وقوله: العلم قفلٌ ومفتاحه المسألة. وقوله: الحلم والأناة توأمان،نتيجتهما علوّ الهمة. وقوله لبعض الخوارج: والله ما عرفته حتى فغر الباطل فمه، فنجمت نجوم قرن الماعزة. وقال في بعض خطبه يصف الدنيا: إن امرأ لم يكن منها في فرحة، إلا أعقبته بعدها ترحة، ولم يلق من سرّائها بطناً، إلا منحته من ضرّائها ظهراً، ولم تظله فيها غيابه رخاء، إلا هبّت عليه مزنة بلاء، ولم يسم منها في جناح أمن، إلا أصبح منها على قوادم خوف.
وقال أبو بكر رضى الله عنه: إن الملك إذا ملك زهده الله في ماله، ورغبه فيما في يدي غيره، وأشرب قلبه الإشفاق فهو يحسد على القليل، ويسخط الكثير، جذل الظاهر، حزين الباطن. فإذا وجبت نفسه، ونضب عمره، وضحا ظلّه، حاسبه الله عز وجل فأشد حسابه، وأقل عفوه.
وكتب خالد بن الوليد رضى الله عنه إلى مرازبة فارس: الحمد لله الذي فضّ خدمتكم وفرّق كلمتكم.
وقالت عائشة رضى الله عنها: كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديمة. وقال الحجاج: دلوني على رجل سمين الأمانة، أعجف الخيانة. وقال عبد الله بن وهب الراسبي لصحابه: لا خير في الرأي الفطير، والكلام العضيب، فلما بايعوه، قال: دعوا الرأي يغبُّ فإن غبوبه يكشف لكم عن محضه. وقيل لأعرابي: إنك لحسن الكدنة، قال: ذاك عنوان نعمة الله عندي. وقال أكثم بن صيفي: الحلم دعامة العقل. وسئل عن البلاغة فقال: دنوّ المأخذ، وقرع الحجة، وقليل من كثير. وقال خالد بن صفوان لرجل: رحم الله أباك، فإنه كان يقرى العين جمالا، والأذن بيانا. وقيل لأعرابية: أين بلغت قدرك، قالت: حين قام خطيبها. وقيل لأعرابية: كم أهلك؟ قالت: أب وأم وثلاثة أولاد، أنا سبيل عيشهم. وقيل لرؤبة: كيف تركت ما وراءك؟ قال: التراب يابس، والمال عابس. وقال المنصور لبعضهم: بلغني أنك بخيل، فقال: ما أجمد في حق، ولا أذوب في باطل. وقال إبراهيم الموصلي: قلت للعباس بن الحسن: إني لأحبك قال: رائد ذاك عندي. وقال بعضهم: الاستطالة لسان الجهالة. وقال يحيى بن خالد: الشكر كفء النعمة. وقال أعرابي: خرجت ي ليلة حندس، ألقت على الأرض أكارعها، فمحت صورة الأبدان، فما كنا نتعارف إلا بالآذان. وقال أعرابي لآخر: يسار النفس خير من يسار المال، ورب شبعان من النّعم، غزئان من الكرم. وغزت نميراً حنيفة فاتبعتهم نمير، فأتوا عليهم، فقيل لرجل: كيف كان القوم؟ فقال: أتبعوهم والله رفدا حقبوا كل جماليّة خيفائة، فما زالوا يحصفون آثار المطي بحوافر الخيل، فلما لقوهم جعلوا المرّان أرشية الموت، فاستقوا بها أرواحهم. وقال آخر: فلان أملس، ليس فيه مستقر لخير، ولا لشر. وقال أحمد بن يوسف وقد شتمه رجل بين يدي المأمون: رأيته يستملى ما يلقاني به من عينيك. وقيل لأعرابي: أي الطعام أطيب؟ قال: الجوع أبصر. ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان يفتح من الرأي أبوابا منسدة، ويغسل من العار وجوها مسودّة. ومدح أعرابي رجلاً فقال: كان والله إذا عرضت له زينة الدنيا هجّنتها زينة الحمد عنده، وإن للصنائع لغارة على أمواله كغارة سيوفه على أعدائه. ومدح أعرابي قوماً فقال: أولئك غرر تضئ من ظلم الأمور المشكلة، قد صغت آذان المجد إليهم. وقال أعرابي يمدح رجلاً: إنه ليعطى عطاء من يعلم أن الله مادته. ومدح أعرابي رجلاً، فقال: لسانه أحلى من الشهد، وقلبه سجن للحقد. ومدح أعرابي رجلاً فقال: إن أسأت إليه أحسن، وكأنه المسيء، إن أجرمت إليه غفر، وكأنه المجرم، اشترى بالمعروف عرضه من الأذى، فهو وإن كانت له الدنيا بأسرها فوهبها، رأى بعد ذلك عليه حقوقاً، لا يستعذب الخنا، ولا يستحسن غير الوفا.
وذم أعرابي رجلاً فقال: يقطع نهاره بالمنى، ويتوسد ذراع الهمّ إذا أمسى. وذم أعرابي رجلاً فقال: إن فلاناً ليقدم على الذنوب إقدام رجل قدم فيها نذراً، أو يرى أنّ في إتيانها عذرا. وقال أعرابي لرجل: لا تدنس شعرك بعرض فلان، فإنه سمين المال، مهزول المعروف، قصير عمر المنى، طويل حيات الفقر. وسأل أعرابي فقيل له: عليك بالصيارف، فقال: هناك قرارة اللؤم. وذكر أعرابي قوماً فقال: أولئك قوم قد سلخت أقفاؤهم بالهجاء، ودبغت جلودهم باللؤم، فلباسهم في الدنيا الملامة، وزادهم في الآخرة الندامة. وذمّ أعرابي قوما فقال: هم أقل دنواً إلى أعدائهم، وأكثر تجرّما على أصدقائهم، يصومون عن المعروف ويفطرون على الفحشاء. وذمّ أعرابي رجلاً فقال: ذاك رجل تعدو إليه مواكب الضلالة، ويرجع من عنده بيدر الآثام، معدم مما يحب، مثر مما يكره.
وقال أعرابي: ما أشدّ جولة الهوى وفطام النفس عن الصّبا، ولقد تصدعت نفسي للعاشقين، لوم العاذلين قرطة في آذانهم، ولو عات الحب نيران في أبدانهم. وقال أعرابي: ما رأيت دمعة ترقرق في عين، وتجري على خد، أحسن من عبرة أمطرتها عينها، فأعشب لها قلبي. وقال أعرابي وذكر قوماً زهاداً فاز قومٌ أدّبتهم الحكمة، وأحكمتهم التجارب، ولم تغررهم السّلامة المنطوية على الهلكة، ورحل عنهم التسويف الذي قطع به الناسُ مسافة آجالهم، فأحسنوا المقال، وشفعوه بالفعال، تركوا النعيم ليتنعموا، لهم عبرات متدافعة، لا تراهم إلا في وجه عند الله وجيها. ووصف أعرابي والياً فقال: كان إذا ولّى طابق من جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو شاهد معهم، غائب عنهم، فالمحسن آمن، والمسيء خالف. ووصف أعرابي داراً فقال: هي والله معتصرة الدموع، جرّت بها الرياح أذيالها، وحلّت بها السحاب أثقالها. وذكر أعرابي رجلاً فقال: كان الفهم منه ذا أذنين، والجواب منه ذا لسانين، لم أر أحداً كان أرتق لخلل الرأي منه، كان والله بعيد مسافة الرأي، يرمى بطرفه حيث أشار الكرم، يتحسّى مرارة الإخوان، ويسيغهم العذب. ووصف أعرابي قومه فقال: كانوا والله إذا اصطفوا تحت القتام سفرت بينهم السهام، بوقوف الحمام، وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت المنايا أفواهها، فكم من يوم عارم قد أحسنوا أدبه، وحرب عبوس قد ضاحكتها أسنتهم، وخطب شين، قد ذللوا مناكبه، إنما كانوا كالبحر الذي لا ينكش غماره، ولا ينهنه تيّاره. وقيل لأعرابي: يزعم فلان أنه كساك ثوبا، فقال: إن المعروف إذا أمرَّ كدّر، وإذا محض امرّ، ومن ضاق قلبه اتسع لسانه.
وذكر أعرابي رجلاً فقال: كلامه منقوض آثار القطا، وهو من ذا رثّ عقال المودة، مسودّ وجه الصداقة، ولئن كان لبنى الآدميين سباخ إنه لمن سباخ بني آدم.
وقيل لأعرابي: لم لا تشرب النبيذ؟ فقال: لا أشرب ما يشرب عقلي.
وقال معاوية: العيال أرضة المال. وقال خالد بن صفوان: إياكم ومجانيق الضعفاء. وقال: لا تضع معروفك عند فاجر، ولا أحمق، ولا لئيم، فإن الفاجر يرى ذلك ضعفاً، والأحمق لا يعرف ما أوتى إليه فيشكره على مقدار عقله، واللئيم سبخة لا ينبت شيئاً ولا يثمر، ولكن إذا رأيت الثرى فازرع المعروف تحصد الشكر، وأنا الضامن.
وأهدت امرأة من العجم إلى هوىً لها في يوم نوروز ورداً وكتبت إليه: هذا اليوم أحدُ فتيان الدهر وشاب أقسامه، والقصف فيه عروس، والورد في البرد كالدر في النّحر، وقد بعثت إليك منه مهراً ليومك، فزوّج السرور من النفس، والطرب من القلب، ولا تستقل براً، فإنا لا نستكثر على قبوله شكراً.
وقال آخر في رجل: ماذا تثير الخبرة من دفائن كرمه. وقال أعرابي لخصمه: أما والله لئن هملجت إلى الباطل، إنك عن الحق لقطوف، ولئن أبطأت عنه لتسرعن إليه، فالعلم أنه إن لم يعد لك الحق عد لك الباطل، والآخرة من ورائك. وقال آخر: الخط مركب البيان. وقال آخر: القلم لسان اليد. وسمعت بعض الأطباء يقول: الماء مطية الطعام.
وقال الحسن بن وهب لكاتبه: لا ترق ماء معروفي بالمن، فإن اعتدادك بالعرف يعقل لسان الشكر.
وأمثال هذا كثير في منثور الكلام وفيما أوردته كفاية إن شاء الله.
فأما الاستعارة من أشعار المتقدمين فمثل قول امرئ القيس:
وليلٍ كموج البحر مرخٍ سدولَه ... علىّ بأنواع الهموم ليبتلِي
فقلت له لما تمطّى بصلبِه ... وأردف أعجازاً وناءَ بكلكلِ
وقال زهير:
صحا القلبُ عن ليلى وأقصر باطله ... وعرِّى أفراسُ الصّبا ورواحُلهْ
وقول امرئ القيس:
فبات عليه سرجُه ولجامه ... وباتَ بعيني قائما غير مرسلِ
أي كن أراه وأحفظه، وعلى هذا مجاز قوله عز وجل: " تجريِ بأعيننَا " . وقال زهير:
إذا سدَّتْ به لهواتُ ثغرٍ ... يشار إليه جانبُه سقيمُ
وقال النابغة:
وصدرٍ أراحَ الليلُ عازبَ همهِ ... تضاعفَ فيه الحزنُ من كلِّ جانبِ
وفي هذا البيت ماء وطلاوة ليس مثله في بيت زهير. وقال عنترة:
جادتْ عليه كلُّ بكرٍ حرَّةٍ ... فتركنَ كلَّ قرارةٍ كالدّرهمِ
وقال مهلهل:
تلقى فوارسَ تغلبَ ابنةِ وائلٍ ... يستطعمونَ الموت كل همَام
وقال زهير:
إذا لقحتْ حربٌ عوانٌ مضرَّةٌ ... ضروسٌ تهرُّ الناسَ أنيابُها عصلُ
أخذه من قول أوس بن حجر:
وإني امرؤ أعددتُ للحربِ بعدَما ... رأيتُ لها ناباً من الشَّرِّ أعصَلا
وقال المسيّب بن علس:
وإنهم قد دعوا دعوةً ... سيتبعها ذنبٌ أهلب
أراد جيشا كثيفا.
وقال الأسود بن يعفر:
فأدِّ حقوقَ قومك واجتنبهم ... ولا يطمح بك العز الفطير
أراد عزّاً ليس بالمحكم كفطير العجين، والفطير من الجلد: ما لم يدبغ.
وقال طفيل الغنوى:
وجعلتُ كورِى فوقَ ناجيةٍ ... يقتاتُ شحم سنامها الرَّحلُ
وقال الحرث بن حلزة:
حتى إذا التفع الظباءُ بأطرا ... ف الظّلالِ وقلنَ في الكنَّس
الالتفاع: ليس اللّفاع وهو اللّحاف. ومثله قول الشّماخ:
إذا الأرطى توسدَ أبرَيهِ ... خدودُ جوازئ بالرملِ عينِ
أبراداه: ظلّ الغداة والعشىّ. توسدته: جعلته بمنزلة الوسادة.
وقال آخر:
ومهمهٍ فيه السرابُ يسبحُ ... يدأب فيه القومُ حتى يطلَحوا
ثم يبيتونَ كأن لم يبرحوا ... كأنما أمسوا بحيث أصبحوا
وقال عمرو بن كلثوم:
ألا أبلغِ النُّعمان عنّى رسالةً ... فمجدُك حوليٌّ ولؤمُك فارحُ
وقال الحطيئة:
ألا يا لقلبٍ عارم النظراتِ
وقال الجعديّ:
فإن يطفُ أصحابُه يرسبُ
وقال أبو ذؤيب:
وإذا المنيةُ أنشبتْ أظفارَها
وقال أبو خراش الهذلي:
أردّ شجاع البطنِ لو تعلمينهُ ... وأوثر غيري من عيالكِ بالطعم
وقال لبيد:
فبتلكَ إذ رقصَ اللوامعُ بالضُّحَى ... واجتاب أرديةَ السرابِ إكامُها
وقال أيضاً:
وغداة ريحٍ قدْ كشفتُ وقرَّةٍ ... إذ أصبحتْ بيد الشَّمالِ زمامُها
وقال أوس بن مغراء:
يشيبُ على لوُّمِ الفعال كبيرُها ... ويغذى بثدى اللؤم منها وليدُها
وقال الأخطل:
وأهجر هجرانا جميلا وينتحى ... لنا من ليالينا العوازِم أولُ
وقال آخر:
قوم إذا الشر أبدى ناجذَبه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
وقال:
هم ساعدُ الدهرِ الَّذي يتَّقى به ... وما خيرُ كفٍّ لا تنوء بساعدِ
وقال آخر:
سأبكيكَ للدُّنيا وللدّين إنني ... رأيتُ يدَ المعروف بعدك شلَّتِ
وقال المقنّع:
أسدّ به ما قد أخلُّوا وضيعوا ... ثغورَ حقوق ما أطاقوا لها سدَّا
وقال آخر:
وذابَ للشمس لعاب فنزلْ
أخذه من قول النابغة:
إذا الشَّمسُ مجَّتْ ريقَها بالكلاكل
وقال آخر:
جاءَ الشّتاء واجثالَّ القبَّرُ ... وطلعت شمسٌ عيها مغفرُ
جعل قطعة السحاب إلى جانب الشمس مغفراً لها، واجثأل:انتفش.
وقال الحطيئة:
وما خلتُ سلمى قبلها ذاتَ رحلةٍ ... إذا قسورىُّ الليل جيبت سرابلُهْ
وقال أيضاً:
ولوا وأعطونا الذي سُئِلوا ... من بعد موتِ ساقطٍ أزره
إنا لنكسوهم وإنْ كرُموا ... ضرباً يطير خلاله شرره
وقال أبو داود:
وقد اغتدى في بياض الصّباح ... وأعجازِ ليلٍ مولّى الذَّنبْ
وقال الأفوه:
عافوا الإتاوةَ واستقتْ أسلافُهم ... حتى ارتووا عللا بأذنبة الردَى
وقال ابن مناذر:
بأشيةٍ أطرافها في الكواكبِ
وقال الأخطل:
حتى إذا افتض ماءٌ المزن عذرَتها ... راحَ الزجاجُ وفي ألوانه صهبُ
وقال غيره:
وجيش يظلّ البلق في حجراتِه ... ترى الأكم فيه سجداً للحوافرِ
وقال ذي الرُّمة:
سقاه الكرى كأنس النعاسِ فرأسُه ... لدينِ الكَرى من آخر الليل ساجِد
قوله: سقاه الكرى جيد. وقوله: لدين الكرى بعيد عندي.
وقال مضرس ابن ربعيّ:
أذود سوامَ الطرف عنك وماله ... على أحدٍ إلاّ عليك طريق
وقال تأبط شراً:
ويسبقُ وفدَ الرِّيح من حيثُ تنتحى ... بمنخرقٍ من شدِّهِ المتدارِكِ
إذا حاصَ عينيه كرى النوم لم يزلْ ... له كالئٌ من قلب شيحانَ فاتكِ
ويجعلُ عينيه ربيئةَ قلبِه ... إلى سلَّةٍ من صارم الغربِ باتكِ
إذا هزَّه في عظم قرن تهللتْ ... نواجذُ أفواه المنايا الضاحكِ
في كل بيت من هذه الأبيات استعارة بديعة، وقد أخذ رؤبة قوله: " ويسبق وفد الريح " فقال:
يسبقُ وفدَ الريح من حيثُ انخرقْ
وقال الراعي:
يدعو أميرَ المؤمنين ودونَهُ ... خرقٌ تجرُّ به الرياحُ ذيولا
وقال أوس:
ليس الحديث ينهَى بينهن ولا ... سرٌّ يحدِّثْنه في الحيِّ منشورُ
ومما جاء في كلام المحدثين قول أبي تمام:
لياليَ نحن في غفلاتِ عيش ... كأنّ الدهرَ عنها في وثاقِ
وأيام لنا ولهم لدانٌ ... عرينا من حواشِيها الرّقاقِ
وقال العباس بن الأحنف، أو الخليع:
قد سحبَ الناسُ أذيال الظُّنون بنا ... وفرّق الناسُ فينا قولهمْ فرقا
فكاذبٌ قد رمى بالظنِّ غيرَكُمُ ... وصادقٌ ليس يدري أنّه صدَقا
وقال مسلم:
شججتُها بلعاب المزن فاغتزلتْ ... نسجين من بين محلولٍ ومعقودِ
وقوله:
كأنهُ أجلٌ يسعى إلى أملِ
وقوله:
يكسو السيوفَ نفوسَ الناكثين به ... ويجعلُ الهامَ تيجانَ القنا الذُّبُلِ
وقوله:
إذا ما نكحنا الحربَ بالبيض والقنا ... جعلنا المنايا عند ذاك طلاقَها
وقوله:
والدهر آخذ ما أعطى مكدِّر ما ... أصفى ومفسدُ ما أهوى له بيدِ
فلا يغرَّنك من دهر عطيتهُ ... فليس يتركُ ما أعطى على أحدٍ
وقوله:
ولم ينطق بأسرارِها الحجلُ
وقوله:
ولما تلاقينا قضى الليلُ نحبهُ ... بوجهٍ كأنّ الشمس من مائهِ مثلُ
وماءٍ كعين الشمس لا تقبلُ القذَى ... إذا درجتْ فيه الصّبا خلتَهُ يعلو
من الضّحَّكِ الغرِّ اللَّواتي إذا التقتْ ... تحدِّثُ عن أسرارها السَّبلُ الهطلُ
صدعنا به حدَّ الشَّمول وقد طغت ... فألبسها حلماً وفي حلمها جهلُ
تساقطٍ يمناهُ النّدى وشماله الر ... ردى وعيون القول منطقه الفصلُ
حبى لا يطيرُ الجهلُ من عذباتها ... إذا هي حلّتْ لم يفتْ حلها ذحلُ
بكفِّ أبي العباس يستمطرُ الغنى ... ويستنزل النُّعمى ويسترعفُ النَّصلُ
متى شئتَ رفّعتَ الستور عن الغنى ... إذا أنت زرتَ الفضل أو أذنَ الفضلُ
وقال أيضاً:
كأنها ولسانُ الماء يقلبها ... عقيقة ضحكتْ في عارضٍ بردِ
دارتْ عليه فزادتْ في شمائله ... لين القضيب ولحظ الشادنِ الغردِ
وقال أيضاً:
فأقسمتْ أنسى الدَّاعياتِ إلى الصِّبا ... وقدْ فاجأتْها العينُ والسِّترُ واقعُ
فغطّتْ بأيديها ثمار نحورِها ... كأيدي الأسارى ثقَّلتها الجوامعُ
وقال أيضاً:
نفضتْ بك الأحلاسُ نفضَ إقامةٍ ... واسترجعتْ نزاعَها الأمصارُ
أجلٌ ينافسه الحمام وحفرةٌ ... نفست عليها وجهك الأحفارُ
فاذهبْ كما ذهبتْ غوادي مزنةٍ ... أثنى عليها السهلُ والأوعارُ
أخذ نفست عليها وجهك الأحفار بعضهم، فقال:
لو علم القبر ما يوارى ... تاه على كلِّ ما يليهِ
وقال:
ويخطئ عذرِي وجهَ جرمِى عندها ... فأجنى إليها الذَّنب من حيث لا أدري
إذا أذنبتْ أعددت عذراً لذنبها ... وإنْ سخطتْ كان اعتذاري من العذرِ
وقال:
يذكّرنيكَ اليأسُ في خطرة المُنى ... وإن كنتُ لم أذكرك إلاّ على ذكرى
وقال:
تجرى الرياحُ بها حسرى مولهةً ... حين تلوذ بأطرافِ الجلاميدِ
وقال أبو الشيص:
خلع الصّبا عن منكبيه مشيب
وقال أبو العتاهية:
أنته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها
وقال أبو نواس:
فاسقنى البكرَ التي اختمرتْ ... بخمار الشَّيبِ في الرَّحم
ثمتَ انصاتَ الشبابُ لها ... بعد أن جازتْ مدَى الهرمِ
فهي لليومِ الَّذي نزلتْ ... وهي تلو الدَّهرِ في القدَمِ
ومنها قوله:
فتمشتْ في مفاصلهم ... كتمشِّي البرءِ في السقمِ
صنَعتْ في البيتِ إذْ مزجتْ ... كصنيع الصُّبح في الظُّلمِ
قوله:: انصات الشباب لها: كأنها صوتت به، فانصات لها أي أجابها.
وقوله:
أعطتكَ ريحانَها العقار ... وحان من ليلك انسفارُ
أي شربتها فتحول طيبها إليك.
وقوله:
لنا روامشُ ينتخبنَ لنا ... تظلّ آذانُنا مطاياها
الرامشة: ورقة آس لها رأسان.
وقال:
حتى تخيرت بنتَ دسكرة ... قد عاجمتْها السنون والحقبُ
وقوله:
حتى إذا ما علا ماءُ الشباب بها ... وأفعمتْ في تمام الجسم والقصَب
وجمِّشتْ بخفيّ اللحظِ فانجشمتْ ... وجرَّت الوعدَ بين الصّدق والكذب
وقوله في السحاب:
وجرّتْ على الرّبا ذنبا
وقال:
فراحَ لا عطّلتْه عافيةٌ ... وباتَ طرفي من طرفه جنُبا
وقال:
دع الألبان يشربها رجال ... رقيقُ العيش بينهم غريبُ
وقوله:
ولا عجيبٌ إن جفتْ دمنةٌ ... عن مستهامٍ نومه قوتُ
وقوله:
فقمتُ والليل يجلُوه الصباح كما ... جلا التبسّم عن غرِّ الثّنياتِ
وقوله:
من قهوةٍ جاءتك قبل مزاجها ... عطلا فألبسها المزاجُ وشَاحا
وقوله منها:
شكَّ البزالُ فؤادَها فكأنما ... أهدتْ إليك بريحها التفَّاحا
صفراء تفترس النفوسَ فلا ترى ... منها بهنّ سوى السّباب جراحَا
عمرتْ بكاتمك الزمانُ حديثَها ... حتى إذا بلغ السآمةَ باحا
وقوله:
جريتُ مع الصِّبا طلق الجموحِ ... وهانَ عليَّ مأثورُ القبيحِ
وجدت ألذّ عاريةِ الليالي ... قران النّعم بالوتَر الفصيحِ
وقوله منها:
تمتعْ من شبابٍ ليسَ يبقى ... وصلْ بعرى الغبوقِ عرى الصَّبوح
وخذْها من مشعشعةٍ كميتٍ ... تنزِّل درَّةَ الرجل الشَّجيحِ
فإني عالم أن سوف ينأى ... مسافةَ بين جثماني وروحِي
وقوله:
فاستنطقِ العودَ قدْ طال السُّكوت به ... لن ينطقَ اللّهوُ حتى ينطقَ العود
وقوله:
صفراء تعنق بين الماء والزبدِ
وقوله:
وقد لاحت الجوزاء وانغمس النَّسرُ
وقوله:
تجرر أذيال الفجور ولا فجرُ
وقوله:
لا ينزل الليل حيث حلّت ... فدهرُ شرَّابها نهارُ
وقوله:
وريّان من ماء الشباب كأنما ... يظمَّأ من صمّ الحشا ويجاعُ
وقوله:
وتنحّ عن طربٍ وعن قصفِ
وقوله:
عين الخليفة بي موكَّلةٌ ... عقد الحذارُ بطرفها طرفي
صحَّتْ علانيتي له وأرى ... دينَ الضَّمير له على حرفِ
وقوله:
سلبُوا قناع الطِّين عنْ رمقٍ ... حيّ الحياة مشارف الحتفِ
فتنفستْ في البيتْ إذ مزجَتْ ... كتنفُّسِ الريحان في الأنف
وقوله:
نتيجةُ مزنةٍ من عودِ كرمٍ ... تضئ الليل مضروب الرِّواقِ
وقوله:
حلبت لأصحابي بها درّة الصّبَا ... بصفراء من ماء الكروم شمولِ
وقوله:
دعا همُّه من صدرِه برحيل
وقوله:
ولما توفى الليل جنحا من الدُّجَى
وقوله:
وقام وزنُ الزمانِ فاعتَدلا
وقوله: فقد أصبح وجه الزمان مقبلا وقوله:
كان الشبابُ مطيّة الجهلِ
وهو من قول النابغة:
فإن مطيَّةَ الجهل الشَّبابُ
وقوله:
وحططتُ عن ظهر الصِّبا رحلي
وقوله:
ومتَّصلٍ بأسباب المعالي ... له في كل مكرمةٍ حميمُ
رفعتُ له النداء بقمْ فخذْها ... فقد أخذتْ مطالَعها النُّجومُ
وقوله:
ألا لا ترى مثلي أمترى اليوم في رسمِ ... تغصُّ به عيني ويلفظُه وهمِي
وقوله: تغص به، أي تمتلئ بالدموع، وبلفظه وهمي أي ينكره.
وقوله:
وكأنما يتلو طرائدها ... نجمٌ تواتَر في قفا نجمِ
وقوله:
شمولاً تخطتْه المنون وقد أتتْ ... سنونٌ لها في دنّها وسنونُ
وقوله:
فتقربتُ بصرف عقَار ... نشأتْ في حجر أمِّ الزّمانِ
وقوله:
ترى العينَ تستعفيك من لمعانها ... وتحسر حتى ما تقلّ جفونها
وقوله:
في مجلس ضحك السرور به ... عن ناجذيهِ وحلَّت الخمرُ
وقول أبي تمام:
وحسنُ منقلب تبدو عواقبه ... جاءت بشاشُته في سوء منقلبِ
وقوله:
رخصت لها المهجاتُ وهي غوالِ
وقوله:
وتنظَّرى خببَ الركاب ينصُّها ... محي القريض إلى مميتِ المالِ
وقوله:
تطلُّ الطلول الدمعَ في كلِّ منزلٍ ... وتمثلُ بالصَّبرْ الديارُ المواثلُ
دوارس لم يجفُ الربيعُ ربوعَها ... ولا مرَّ في أغفالها وهو غافلُ
فقد سحبتْ فيها السحابُ ذيولَها ... وقدْ أخملتْ بالنَّور فيها الخمائلُ
ليالَي أضللت العزاءَ وخزَّلَتْ ... بعقلك أرآمُ الخدور العقائلُ
وقوله:
بسقيم الجفون غير سقيمِ ... ومريب الألحاظ غير مريبِ
وقوله:
غليلي على خالد خالدٌ ... وضيف همومي طويلُ الثَّواءِ
ألا أيّها الموتُ فجعتَنا ... بماءِ الحياةِ وماءِ الحياءِ
أصبنا بكنز الغنى والإما ... م أمسى مصاباً بكنز الفناء
وقوله:
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمر صرفَ الدهرِ نائلُه الغمرُ
وقوله:
سعدتْ غربةُ النوى بسعادِ
وقوله:
إذا سيفهُ أضحى على الهام حاكماً ... غدا العفوُ منه وهو في السّيف حاكمُ
وقوله:
لئن أصبحت ميدانَ السّوافي ... لقد أصبحتُ ميدانَ الهُموم
أظنَّ الدمعَ في خدي سيبقى ... رسوماً من بكائي في الرُّسومِ
وليلٍ بتُّ أكلؤه كأني ... سليمٌ أو سهدت على سليم
اراعِى من كواكبه هجاناً ... سواماً لا تزيغ إلى المسيم
يكاد نداه يتركُه عديماً ... إذا هطلتْ يداه على عديمِ
سفيه الرمح جاهلُه إذا ما ... بدا فضلُ السَّفيه على الحليم
وقوله:
عهدي بهم تستنيرُ الأرضُ إن نزَلوا ... فيها وتجتمِع الدُّنيا إذا اجتمُعوا
ويضحكُ الدّهر منهم عن غطارفةٍ ... كأن أيامهمْ من أنسها جمَع
وقوله:
وضلَّ بك المرتادُ من حيث يهتدي ... وضرتْ بك الأيامُ من حيث تنفَع
وقوله:
تردُ الظنون به على تصدِيقها ... وتحكِّمُ الآمال في الأموال
وقوله:
إذا أحسنَ الأقوامُ أن يتطاولوا ... بلا منَّةٍ أحسنتَ أن تتطوَّلا
تعظمتَ عن ذاك التعظّم منهمُ ... وأوصالك نبلُ القدر أنْ تتنبَّلا
وقوله:
فأطلبْ هدؤاً في التقلقل واستثرْ ... بالعيس من تحت السُّهاد هجودا
وقوله:
أيامنا مصقولةٌ أطرافُها ... بك والليالي كلُّها أسحار
وقال البحتريّ:
بيضاءُ يعطيك القضيبُ قوامَها ... ويريكَ عينيْها الغزالُ الأحورُ
وقوله:
فحاجبُ الشمسِ أحياناً يضاحِكُها ... وريّقُ الغيثِ أحياناً يُباكيها
وقوله:
وللقضيب نصيبٌ من تثنِّيها
وقوله:
أصبابةً برسوم رامةَ بعدما ... عرفت معارفَها الصَّبا والشَّمالُ
وقوله:
صفتْ مثلَ ما تصفو المدامُ خلالَه ... ورَّقتْ كما رقَّ النسيمُ شمائله
وقوله:
نثرتْ وردها عليه الخدود
أخذه آخر فقال:
وحياءٌ نثر الوردَ على الخدِّ الأسيل
وقوله:
سحابٌ خطاني جودُه وهو مسبلٌ ... وبحرٌ عداني فيضُه وهو مفعمُ
وقوله:
أرجنَ عليَّ الليلَ وهو ممسَّكٌ ... وصبحننَا بالصُّبحِ وهو مخلَّقُ
وقوله:
في مقامٍ تخرّ في ضنكِه البي ... ضُ على البيضِ ركَّعاً وسجودا
وقوله:
جاري الجيادَ فطار عنْ أوهامِها ... سبقاً وكادَ يطيرُ عن أوهَامِهِ
وقوله:
فطواهنَّ طيهُنَّ الفيافِي ... واكتسينَ الوجيفَ حتى عرينا
وقوله:
فأضللتُ حلمي والتفتُّ إلى الصّبَا ... سفاهاً وقد جزتُ الشبابَ مراحِلا
وقوله:
وإذا سرايا عطاياه سرتْ أسرتْ
وقوله:
ليلٌ يبيتُ الليلُ فيه غريبا
وقول ابن الرومي:
وما تعترِيهَا آفةٌ بشريَّةٌ ... من النَّومِ إلاَّ أنها تتخثَّرُ
كذلك أنفاسُ الرياح بسحرَةِ ... تطيبُ وأنفاسُ الأنامِ تغيّرُ
وقوله:
يا ربَّ ريقٍ باتَ بدرُ الدُّجَى ... يمجُّه بين ثناياكا
يروى ولا ينهاك عن شربِه ... والخمرُ يروِيك وينهاكا
وقول العتّابي:
وأشعثَ مشتاقٍ رمى في جفونِه ... غريبَ الكَرى بين الفجاجِ السَّباسبِ
أماَ الليالِي شوقه غيرَ زفرةٍ ... تردَّدُ ما بين الحشَى والتَّرائبِ
سحبتُ له ذيل السُّرى وهو لابسٌ ... دجى اللَّيل حتى مجَّ ضوءَ الكواكبِ
ومن فوقِ أكوارِ المطايا لبانةٌ ... أحلَّ لها أكلُ الذرَى والغوارِبِ
إذا ادَّرَعَ الليل انجلَى وكأنَّه ... بقيةٌ هنديّ حسامِ المضَاربِ
بركبٍ ترى كسر الكرى في جفونهم ... وعهدَ الفيافِي في وجوهٍ شواحبِ
وقول أبي العتاهية:
أسرى إليه الرَّدى في حلبَةِ القدَرِ
ومن ردئ الاستعارة قول علقمة الفحل:
وكلُّ قومِ وإنْ عزُّوا وإن كرُموا ... عريفهمْ بأثافِي الدَّهرِ مرجومُ
أثافي الدّهر، بعيدٌ جداً.
وقول ذي الرُّمة:
تيمَّمنَ يا فوخَ الدُّجَى فصدعنَهُ ... وجوز الفلا صدعَ السيوفِ القواطعِ
وقال تأبَّط شرا:
نحزّ رقابِهم حتَّى نزعنَا ... وأنفُ الموتِ منخرُهُ رثيمُ
وقول الحطيئة:
سقْوا جارَك العيمان لمّا جفوتَهُ ... وقلَّص عن بردِ الشَّرابِ مشافرُهْ
وقول الآخر:
فما رقَد الولدَانُ حتى رأيتُه ... على البكرِ يمريه بساقٍ وحافرِ
وقول الآخر:
قد أفنى أناملَه أزمُه ... فأضحَى يعضّ علىّ الوظيفَا
وإذا أريد بذلك الذمُّ والهجاءُ كان أقربَ إلى الصواب.
وأما القبيحُ الذي لا يشلُّ في قباحته، فقول الآخر:
سأمنعها أو سوف أجعلُ أمرَها ... إلى ملكٍ أظلافُه لم تشقّقِ
وقول ذي الرُّمة:
يعزُّ ضعافَ القوم عزةُ نفسِه ... ويقطع أنفَ الكبرياء من الكبرِ
وقول خويلدٍ الهذلي أو غيره:
تخاصِم قوماً لا تلقَّى جوابَهم ... وقد أخذتْ من أنفِ لحيتك اليدُ
أي قبضت بيدك على مقدّم لحيتك كما يفعلُ النادمُ أو المهمومِ، وأنفُ كلّ شيء: مقدمه، وأنوف القوم: سادتهم، والأنف في هذا البيت هجينُ الموقع كما ترى.
وقد وقع في غيره أحسنَ موقعٍ، وهو قول الشاعر:
إذا شمَّ أنفَ الضيفِ ألحق بطَنه ... مراس الأواسي وامتحان الكرَائِم
ويقولون: أنف الريح، وأنف النهار، ورعينَا أنفَ الربيع، أي أوله. قال امرؤ القيس:
قد غَدا يحملُني في أنفهِ ... لاحقُ الإطلين محبُوك ممرّ
وروى بعض الشيوخ الثّقات: في أنفه مضموم الألف، قال: هو من قوله: كأس أنف. وروضة أنف.
وقال أعرابي يصفُ البرق:
إذا شيمَ أنفُ الليل أومضَ وسطه ... سناً كابتسام العامريّة شاغفُ
أراد أول الليل.
ومن بعيد الاستعارة، قول أعرابي:
مازال مجنوناً على استِ الدّهر ... ذا جسدٍ ينمى، وعقلٍ يجرِى
أي ينقص.
وسئل مسلم بن الوليد عن قول أبي نواس:
رسم الكرَى بين الجفون محيل ... عفَّى عليه بكاً عليكَ طويلُ
قال: إن كان قول أبي العذافر:
باض الهوَى في فؤادِي وفرَّخ التذكار
حسناً، كان هذا حسناً.
ومن عجيب هذا الباب قول بعض شعراء عبد القيس:
ولما رأيتُ الدهرَ وعراً سبيله ... وأبدَى لنا ظهراً أجبَّ مسلَّقَا
وجبهة قرد كالشراك ضئيلة ... وصّعر خدَّيه وأنفاً مجدّعا
ومعرفة حصَّاء غير مفاضةٍ ... عليه ولوناً ذا عثا نينَ أنزَعا
وما أعرف متى رأى هذا للدَّهر جبهةً كالشّراك مع هذا الذي عدده، فجاء بما يضحك الثكلى.
وقال الكميت:
ولما رأيتُ الدهرَ يقلبُ بطنَه ... على ظهرِه فعلَ الممعّكِ في الرَّملِ
كما ظعنتْ عنا قضاعةُ ظعنةً ... هي الجدّ مأدومَ النّحيزةِ بالهزلِ
ومن ذلك قول الأخطل:
إكسير هذا الخلقِ يلقَى واحدٌ ... منه على ألفٍ فيكرم خيمه
وقول أبي تمام:
حتى اتقَّتهُ بكيمياءِ السُّودَدِ
فلا ترى شيئاً أبعد من إكسير الخلق، وكيمياء السودد.
وقد أكثر أبو تمام من هذا الجنس اغتراراً بما سبق منه في كلام القدماء مما تقدّم ذكره، فأسرف، فنعى عليه ذلك، وعيب به، وتلك عاقبة الإسراف. فمن ذلك قوله:
يا دهرُ قوِّمْ من أخدعيك فقدْ ... أضججتَ هذا الأنامَ من خرُقكْ
وقوله:
كانوا رداءَ زمانِهم فتصدَّعوا ... فكأنما لبس الزَّمانُ الصُّوفا
وقوله:
نزحتُ به ركىَّ العينِ إني ... رأيتُ الدَّمعَ من خيرِ العتادِ
وقوله:
ولينَ أخادعِ الزَّمنِ الأبىَ
وقوله:
فضربت الشِّتاءَ في أخدَعيه ... ضربةً غادرتْه عوداً ركوبا
وقوله:
تروحُ علينا كلَّ يومٍ وليلةٍ ... خطوبٌ كأنَّ الدّهر منهنَّ يصرعُ
وقوله:
ألا لا يمدُّ الدَّهرُ كفّاً بسيئ ... إلى مجتدى نصرٍ فتقطع للزّندِ
وقوله:
والدَّهر ألأمُ من شرقتَ بلؤمِه ... إلاَّ إذا أشرقته بكريمِ
وقوله:
تحملت ما لو حمِّل الدَّهر شطرُه ... لفكَّر دهراً أيُّ عبأيه أثقلُ
وقوله يصف قصيدة:
تحلُّ بقاعَ المجد حتى كأنَّها ... على كلِّ رأس من يد المجدِ مغفرُ
لها بين أبواب الملوك مزامرٌ ... من الذكر لم تنفخ ولا هي تزمُر
وقوله:
به أسلَم المعروفُ بالشَّام بعدما ... ثوى منذ أودَى خالدٌ وهو مرتدُّ
وقوله:
كأنَّ المجدَ قد خرِفا
وقوله:
إلى ملكٍ في أيكةِ المجدِ لم يزلْ ... على كبد المعروف من نيله بردُ
وقوله:
في غفلةٍ أوقدتْ على كبد النا ... ئل ناراً أخنتْ على كبدهْ
وقوله:
حتى إذا اسودَّ الزمان توضّحوا ... فيه فغودِرَ وهو منهم أبلَقُ
وقوله:
وكم ملكتْ منّا على قبحِ قدّها ... صروفُ النّوى من مرهفٍ حسن القدِّ
وقوله:
إذا الغيثُ غادىَ نسجه خلتَ أنه ... مضتْ حقبةُ حرس له وهو حائك
وقوله يرثى غلاماً:
أنزلتْهُ الأيامُ عن ظهرِها منْ ... بعد إثباتِ رجله في الرّكاب
وقوله:
وكأنَّ فارسَه بصرّف إذْ غدَا ... في متنه ابنا للصباح الأبلقِ
وقوله:
لمَّا مخضتَ الأمانيّ التي احتلبتْ ... عادتْ هموماً وكانت قبلها همَما
وقوله:
كلوا الصَّبرَ مرّاً واشربوه فإنكم ... أثرتُم بعيرَ الظُّلمِ والظلمُ بارِك
وقد جنى أبو تمام على نفسه بالإكثار من هذه الاستعارات، وأطلق لسان عائبه، وأكّد له الحجّة على نفسه، واختياراتُ الناس مختلفة بحسب اختلاف صورَهم وألوانهم.
ومن ردئ الاستعارة أيضاً قولُ بعضهم:
أنا ناقة وليس في ركبتي دماغ
وأنشد أبو العنبس:
ضرامُ الحبِّ عشَّشَ في فؤادي ... وحضَّنَ فوقَه طيرُ البعادِ
وقد نبذَ الهَوى في دنّ قلبي ... فعربدتِ الهمومُ على فؤادِي
ومثله كثير ولا وجه لاستيعابه، لأن قليلهَ دالٌّ على كثيره، وجمله مبينة عن تفسيره إن شاء الله.
الفصل الثاني من الباب التاسع
في المطابقة
قد أجمع الناس أنّ المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضدّه في جزء من أجزاء الرّسالة أو الخطبة أو البيت من بيوت القصيدة، مثل الجمع بين البياض والسواد، واللّيل والنهار، والحرّ والبرد.وخالفهم قدامة بن جعفر الكاتب، فقال: المطابقة إيرادُ لفظتين متشابهتين في البناء والصيغة مختلفتين في المعنى، كقول زياد الأعجم:
ونبئهم يستنصرون بكاهلٍ ... وللّوم فيهم كاهلٌ وسنامُ
وسمى الجنس الأول التكافؤ. وأهل الصنعة يسمُّون النوع الذي سمّاه المطابقة التعطّف. قال: وهو أن يذكر اللفظُ ثم يكرِّره، والمعنى مختلف، وستراه في موضعه إن شاء الله.
والطّباق في اللغة: الجمع بين الشيئين، يقولون: طابق فلان بين ثوبين، ثم استعمل في غير ذلك، فقيل: طابق البعير في سيره، إذا وضع رجله موضع يده، وهو رادعٌ إلى الجمع بين الشيئين. قال الجعديّ:
وخيلٍ تطابق بالدارعِين ... طباقَ الكلابِ يطأنَ الهراسَا
وفي القرآن: " سبع سمواتٍ طباقاً " ، أي بعضهن فوق بعض، كأنه شبّه بالطّبق يجعل فوق الإناء، قال امرؤ القيس:
طبقُ الأرضِ تحرَّى وتدرّ
وكل فقرة من فقر الظهر والعنق طبق، وذلك أن بعضها منضود على بعض.
فمما في كتاب الله عز وجل من الطّباق قوله تعالى: " يولجُ اللّيلَ في النّهارِ ويولجُ النّهارَ في اللّيلِ " .
وقوله تعالى: " ليخرجكمْ من الظّلماتِ إلى النُّور " أي من الكفر إلى الإيمان.
وقوله عزّ وجل: " باطنُهُ فيه الرّحمةُ وظاهرهُ من قبلِهِ العذابُ " .
وقوله سبحانه: " لكيلا تأسوا على ما فاتكمْ ولا تفرحوا بما آتاكمْ " ، وهذا على غاية التساوي والموازنة.
وقوله تعالى: " يخرجُ الحيَّ من الميِّتِ ويخرج الميِّتَ من الحيِّ " .
وقوله جلَّ شأنه: " ولا يملكون لأنفسهمْ ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياةُ ولا نشوراً " .
وقوله عز اسمه: " لا يخلقُون شيئاً وهم يخلقونَ " .
وقوله سبحانه: " فأولئكَ يبدِّلُ اللهُ سيِّئاتِهمْ حسناتٍ " .
وقوله جل ذكره: " وأنَّهُ هو أضحكَ وأبكى، وأنَّه هو أماتَ وأحيا " .
وقد تنازع الناسُ هذا المعنى، قال ابن مطير:
تضحك الأرضُ من بكاءِ السماءِ
وقال آخر:
ضحك المزنُ بها ثمَّ بكَى
وقال آخر:
فله ابتسامٌ في لوامعِ برقِهِ ... وله بكاً من ودقِهِ المتسرِّبِ
وقال آخر:
لا تعجِبي يا سلمُ من رجلٍ ... ضحكَ المشيبُ برأسِه فبَكى
فلم يقرب أحدٌ من لفظ القرآن في اختصاره وصفائه، ورونقه وبهائه، وطلاوته ومائه، وكذلك جميع ما في القرآن من الطّباق.
ومما جاء في كلام النبي صلى الله عليه وسلم من الكلام المطابق قوله للأنصار: " إنّكم لتكثرون عند الفزع، وتقلّون عند الطمع " . وقوله عليه الصلاة والسلام: " خيرُ المال عينٌ ساهرة لعينٍ نائمة " ، يعنى عينَ الماء ينامُ صاحبُها وهي تسقى أرضه. وقوله عليه الصلاة والسلام: " إياكم والمشارَّة فإنها تميت الغرّة وتحي العرّة " .
ومن سائر الكلام قول الحسن: ما رأيتُ يقيناً لا شكّ فيه أشبه بشكّ لا يقين فيه من الموت. وقال أيضاً رضى الله عنه: إنّ من خوّفك حتّى تبلغَ الأمن خيرٌ ممن يؤمنك حتى تلقى الخوف. وقال أبو الدّرداء رضى الله عنه: معروف زماننا منكرُ زمانٍ قد فات، ومنكره معروفُ زمانٍ لم يأتِ. وقال بعضهم: ليتَ حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك. وقال عبد الملك: ما حمدتُ نفسي على محبوبٍ ابتدأتُه بعجز، ولا لمتُها على مكروه ابتدأته بحزم. وقالوا: الغنى في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة. وقال أعرابي لرجل: عن فنا وإن ضحك لك، فإنَّه يضحك منك. فإن لم تتخذه عدواً في علانيتك، فلا تجعله صديقاً في سريرتك. وقال عليّ رضى الله عنه: أعظم الذّنوب ما صغر عندك. وشتم رجل الشّعبيّ، فقال: إن كنتَ كاذباً فغفر الله لك، وإن كنت صادقاً فغفر الله لي. وأوصى بعضهم غلاماً، فقال: إنّ الظنَّ إذا أخلفَ فيك أخلف منك. ونحوه قول الآخر: لا تتّكل على عذرٍ مني فقد اتّكلتُ على كفاية منك. وقال الحسن: أما تستحيون من طول ما لا تستحيون ونحوه قول الأعرابي: فلانٌ يستحى من أن يستحى. وقال: من خاف الله أخاف اللهُ منه كلَّ شيء، ومن خافَ الناسَ أخافهُ الله من كلّ شيء. وقيل لأبي داود وابنته تسوس دابته في ذلك، فقال: كما أكرمتها بهواني، معناه إن كانت تصونني عن سياسة دابَّتي وتتبذَّل مني، فها إني أصونُها وأتبذَّل دونها بالقيام في أمر معاشِها، وإصلاح حالها، فأخذ اللفظ بعضهم فقال في السلطان:
أهينُ لهمْ نفسي لأكرمها بهمْ ... ولن تكرمَ النفسُ التي لا تهينُها
وقال بعضهم لعليل: إن أعلَّك الله في جسمك، فقد أصحَّك من ذنوبك. وقال بعضهم: الكريمُ واسع المغفرة، إذا ضاقتِ المعذرة.
وقال كثيرين هراسة يوماً لابنه: يا بنيّ، إنّ من الناس ناساً ينقصونك إذ ازدتهم، وتهونُ عليهم إذا أكرمتهم، ليس لرضاهم موضعٌ فتقصده، ولا لسخطهم موقع فتحذره، فإذا عرفت أولئك بأعيانهم فأبد لهم وجه المودة، وأمنعهم موضع الخاصة، ليكون ما أبديت لهم من وجه المودة حاجزاً دون شرّهم، وما منعتَهم من موضع الخاصة قاطعاً بحرمتهم.
وقال خالد بن صفوان لرجل يصف له رجلاً: ليس له صديقٌ في السر، ولا عدوٌ في العلانية.
وقال آخر: في العمل ما هو ترك للعمل، ومن تركِ العمل ما هو أكثر العمل.
وقال آخر: إنّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه.
وقال الحسن: كثرة النّظر إلى الباطل تذهب بمعرفة الحق من القلب.
وقال سهل بن هرون: من طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى توفيه رزقه فيها، ومن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه منها.
وكتب رجلٌ إلى محمد بن عبد الله: إنّ من النّعمة على المثنى عليك ألا يخاف الإفراط، ولا يأمن التّقصير، ولا يحذر أن تلحقه نقيصةُ الكذب، ولا ينتهي به المدح إلى غايةٍ إلاّ وجد في فضلك عوناً على تجاوزها.
وفي الحديث: " ما قلّ وكفى خيرٌ مما كثرُ وألهى " . وقال معاوية: ليس بين أن يملك الملكُ جميع رعيته أو يملكه جميعها إلا حزم، أو توان.
وقال بعضهم: إذا شربت النّبيذ فاشربه مع من يفتضح بك، ولا تشربه مع من تفتضح به.
وقال بعضهم: سوداءٌ ولود خيرٌ من حسناء عقيم. وقال ابن السّماك للرشيد: يا أمير المؤمنين، تواضعك في شرفك أشرفُ من شرفك.
وقال ابن المعتز: طلاقُ الدنيا مهرُ الآخرة. وقالوا: غضبُ الجاهل في قوله، وغضب العاقل في فعله.
وشرب أحدهم بحضرة الحسن بن وهب قدحاً وعبس، فقال له: والله ما أنصفتها، تضحك في وجهك، وتعبس في وجهها وقال ظاهر بن الحسين لابنه: التّبذير في المال ذمّه حسب التقتير فيه، فاتّق التبذير، وإياك والتقتير. وقال أعرابي: أتيت بغداد فإذا ثيابُ أحرار على أجساد عبيد، إقبالُ حظهّم إدبارُ حظّ الكرم، شجرٌ فروعه عند أصوله، شغلهم عن المعروف رغبتُهم في المنكر.
وقال أعرابي: الله مخلف ما أتلف الناس، والدهر متلفٌ ما أخلفَ الله، فكم من منيّةٍ علَّتُها طلبُ الحياة، وحياةٍ سببُها التعرّضُ للموت، وهذا مثل قول الشاعر:
تأخرتُ استبقِي الحياةَ فلم أجدْ ... لنفسِي حياةً مثلَ أن أتقدَّما
وقال آخر: كدرُ الجماعة خيرٌ من صفو الفرقة. وقال بعضهم: وكان اعتدادي بذلك اعتداد من لا تنضب عنه نعمة تغمرك، ولا يمرّ عليه عيش يحلو لك.
وقال بعضهم: وكان سروري بذلك سرور من لا تأفل عنه مسرَّة طلعت عليك، ولا تظلم عليه محلة أنارتْ لك.
وقال المنصور: لا تخرجوا من عزّ الطاعة إلى ذلِّ المعصية. ووصف أعرابي غلاما فقال: ساع في الهرب، قطوفٌ في الحاجة.
وكتب سعيد بن حميد في كتاب فتح: ظنّاً كاذباً لله في حتمٌ صادق، وأملاً خائناً لله في قضاءٌ نافذ.
وقال الأفوه الأودى: سهماً تقرّ به العيونُ وإن كان قليلاً خيرٌ مما وجلت به القلوب وإن كان كثيراً. ونحوه قول الشاعر:
ألا كلُّ ما قرَّتْ به العينُ صالحُ
ومن الأشعار في الطّباق قول زهير:
ليثٌ بعثَّرَ يصطادُ الرِّجالَ إذا ... ما اللّيثُ كذّبَ عن أقرانهِ صدقَا
وقول امرئ القيس:
مكر مفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معاً ... كجلمودِ صخر حطّه السَّيلُ من علِ
وقول الطّفيل الغنوى يصف فرسا:
بساهم الوجه لم تقطعْ أباجلُه ... يصانُ وهو ليومِ الرَّوعِ مبذُول
وقول الآخر:
رمى الحدثانُ نسوة آل حربٍ ... بمقدارٍ سمدنَ له سموداً
فردَّ شعورهنَّ السُّود بيضاً ... وردَّ وجوههنَّ البيضَ سودَا
وقال حسين بن مطير:
ومبتلةُ الأردافِ زانتْ عقودَها ... بأحسنَ ممَّا زيَّنتها عقودُها
بصفرِ تراقيها وحمرٍ أكفُّها ... وسودٍ نواصيها وبيض خدُودُها
وقال في وصف السحاب:
ولهٌ بلا حزنٍ ولا بمسرّةٍ ... ضحكٌ يراوحُ بينَهُ وبكاءُ
وقال آخر:
لئن ساءني أن نلتني بمساءَةٍ ... لقد سرَّني أنِّى خطرتُ ببالك
وقال النابغة:
وإن هبطا سهلا أثارَا عجاجةً ... وإن علوَا حزنا تشظَّتْ جنادلُ
وقال مسافع:
أيعدَ بنى أُمِّي أسرُّ بمقبلٍ ... من العيش أو آسى على إثرِ مدبرِ
أولاكَ بنُو خيرٍ وشرٍّ كليهما ... وأبناءُ معروفٍ ألمَّ ومنكَرِ
وقال أوس بن حجر:
أطعنا ربنا وعصاهُ قومٌ ... فذقنَا طعمَ طاعتِنا وذاقُوا
وقال الفرزدق:
لعن الإلهُ بنى كليبِ إنهْم ... لا يعذرون ولا يفونَ لجارِ
يستيقظونَ إلى نهيقِ حمارِهم ... وتنامُ أعينُهمْ عن الأوتارِ
وقال امرؤ القيس:
بماءِ سحابٍ زلَّ عنْ ظهرِ صخرَةٍ ... إلى بطنِ أخرى طيّب طعمه خصرْ
وقال النابغة:
ولا يحسبون الخيرَ لا شرَّ بعدَه ... ولا يحسبون الشّرَّ ضربةَ لازبِ
وقال بيهس بن عبد الحرث، يصف الشيب:
حتى كأنّ قديمه وحديثه ... ليلٌ تلفّحَ مدبراً بنهار
فطابق بين قديم وحديث، وليل ونهار، فأخذه الفرزدق، فقال:
والشّيبُ ينهضُ في الشباب كأنَّه ... ليلٌ يصيحُ بجانبيه نهارُ
طابق بين الشيب والشباب، والليل والنهار، وهذا أحسنُ من قول بيهس سبكا ورصفاً، وفيه نوع آخر من البديع، وهو يصيح بجانبيه نهاره أخذه من قول الشماخ:
ولاقى بصحراء الإهالة ساطعاً ... من الصبح لما صاحَ بالليل نفَّرا
وقال أبو داود قبله:
تصيحُ الرُّدينيّاتُ في حجباتهمْ ... صباحَ العوالي في الثّقافِ المثقّبِ
وقال آخر:
تصيح الرُّدَينيّاتُ فينا وفيهمُ ... صياحَ بنات الماء أصبحنَ جوَّعا
وقال آخر في صفة قوس:
في كفّه معطية منوعُ
وقال آخر:
مرحتْ وصاحَ المروُ من أخفافِها
وقال آخر في صفة ناقة:
خرقاءُ إلاّ أنها صناعُ
وقال آخر:
فجاء ومحمودُ القرَى يستفزُّه ... إليها وداعي الليل بالصّبح يصفرُ
ومما فيه ثلاث تطبيقات قول جرير:
وباسطُ خيرٍ فيكمُ بيمينه ... وقابضُ شرّ عنكمُ بشماليَا
فطابق بباسط وقابض، وخير وشر، ويمين وشمال، ومثله قول الآخر:
فلا الجودُ يفنى المالَ والجدُّ مقبلٌ ... ولا البخل يبقى المالَ والجدُّ مدبرُ
ومثله قول الآخر:
فسرَّى كإعلاني وتلك سجيّتي ... وظلمةُ ليلى مثلُ ضوءِ نهاريَا
ومما فيه طباقان، قول المتلمّس:
وإصلاحُ القليل بزيدُ فيه ... ولا يبقى الكثيرُ على الفسادِ
وقال أوس بن حجر:
فتحدركم عبسٌ إلينا وعامرٌ ... وترفعُنَا بكرٌ إليكم وتغلبُ
إذا ما علوا قالوا أبونَا وأمنا ... وليس لهم عالين أمٌّ ولا أبُ
وقول قيس بن الخطيم:
إذا أنت لم تنفعْ فضرَّ فإنَّما ... يرجَّى الفتى كيما يضرَّ وينفعا
وهذا تطبيق وتكميل، ومثله قول عديّ بن الرّعلاء:
ليس من ماتَ فاستراحَ بميتٍ ... إنّما الميتُ ميّتُ الأحياء
فاستوفى المعنى في قوله: ليس من مات فاستراح بميت، وكمّل في قوله: إنما الميت ميت الأحياء، وقد طابق جماعة من المتقدمين بالشيء وخلافه على التقريب، لا على الحقيقة، وذلك كقول الحطيئة:
وأخذت أطرارَ الكلام فلم تدعْ ... شتماً يضرّ ولا مديحاً ينفعُ
والهجاء ضدّ المديح، فذكر الشتم على وجه التقريب، وهكذا قول الآخر:
يجزون من ظلمِ أهلِ الظلم مغفرةً ... ومن إساءةِ أهلِ السوءِ إحسانا
فجعل ضدّ الظلم المغفرة.
ومن المطابقة في أشعار المحدثين، قول أبي تمام:
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعَا ... وأصبحَ مغنى الجودِ بعدَكَ بلقعَا
وقالوا: هذا أحسن ابتداء في مرثية إسلامية، وقال أبو تمام أيضاً:
وضلَّ بك المرتادُ من حيث يهتدِي ... وضرَّتْ بك الأيامُ من حيثُ تنفعُ
وقدْ كان يدعى لابسُ الصَّبرِ حازماً ... فأصبح يدعَى حازِما حين يجزَعُ
وقال سديف في النِّساء:
وأصحّ مارأتِ العيون جوارِحا ... ولهن أمرضُ ما رأيتَ عيُونا
وقال عمارة بن عقيل:
وأرى الوحشَ في يمينى إذا ما ... كان يوماً عنانُه بشِمَالي
وقال أبو تمام:
فيم الشماتة إعلاناً بأسدِ وغى ... أفناهمُ الصّبرُ إذا أبقاكمُ الجزعُ
فجاء بتطبيقتين في مصراع.
وقال البحتري:
إن إيامه من البيض بيضٌ ... ما رأينَ المفارق السودَ سودَا
وقال النّمري:
ومنازلٌ لكَ بالحِمى ... وبها الخليطُ نزولُ
أيامهنّ قصيرةٌ ... وسرورهنّ طويلُ
وسعودهنّ طوالعٌ ... ونحوسهنّ أفولُ
والمالكية والشَّبا ... ب وقينة وشمُولُ
وقال آخر:
براذينُ ناموا عن المكرما ... ت فأيقظهُمْ قدرٌ لم ينمْ
فيا قبَحهم في الَّذي خوَّلوا ... ويا حسنَهم في زوال النّعم
وقال آخر:
أفاطمَ قد زوّجتِ من غير خبرةٍ ... فتىً من بني العباس ليسَ بطائل
فإن قلت من آل النبيّ فإنه ... وإنْ كانَ حرَّ الأصلِ عبدُ الشمائلِ
ونحوه في معناه، لاقى التطبيق، قول علي بن الجهم في بعض بني هاشم:
إن تكنْ منهم بلا شك فللعود قتارُ
ومثله:
فما خبثٌ من فضَّة بعجيب
ومثله:
لئيم أتاه اللؤمُ من عندِ نفسه ... ولم يأته من عند أمّ ولا أبِ
وقول أبي تمام:
نثرت فريد مدامع لم تنظمِ ... والدمعُ يحملُ بعض ثقل المغرَمِ
وصلتْ نجيعاً بالدموع فخدُّها ... في مثل حاشية الرّداء المعلَمِ
أخذه من قول أبي الشّيص:
وصلت دماً بالدمع حتّى كأنما ... يذاب بعين لؤلؤٌ وعقيق
وقول أبي تمام:
جفوفُ البلى أسرعتْ في الغصنِ الرّطبِ
وقوله:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ... ويبتلى الله بعض القوم بالنّعم
وقول الآخر:
عجلَ الفراقُ بما كرهتُ وطالما ... كانَ الفراقُ بما كرهتُ عجولا
وأرى التي هام الفؤاد بذكرها ... أصبحتُ منها فارغا مشغولا
وقال بكر بن النطّاح:
وكأن إظلامَ الدروع عليهمُ ... ليلٌ وإشراق الوجوه نهارُ
وقول أبي تمام:
أصبحت في روضة الشّباب هشيما ... وعدت ريحُه البليل سموما
شعلة في المفارق استودعتني ... في صميم الفؤاد ثكلاً صميما
غرةٌ مرة ألا إنما كن ... ت أغر أيام كنت بهيما
دقة في الحياة تدعى جلالا ... مثل ما سمّى اللديغ سليما
وقول آخر:
فجلست منها قبلة ... لما رويت بها عطشتُ
وقلت:
إذا معشر في المجد كانوا هوادياً ... فقيسوا به في المجد عادوا تواليا
رأيتُ جمال الدّهر فيك مجددا ... فكن باقيا حتى ترى الدّهر فانيا
وقلت:
قل لمن أدنيه جهدي ... وهو يقصيني جهدهْ
ولمنْ ترضاه مو ... لاك ولا يرضاكَ عبدهْ
أمليح بمليح الش ... كل أن يخلفَ وعدَه
أم جميل بجميل ال ... وجه أن ينقضَ عهدهْ
ما الذي صدَّك عني ... ليت ما صدَّكَ صدَّهْ
وقلت:
فلماذا أبيعُه وبنفسي أشتريهِ
وقلت:
في كلِّ خلقِ خلَّةٌ مذمومةٌ ... وراء كلِّ محبَّبٍ مكروهُ
ومن عيوب التطبيق قول الأخطل:
قلتُ المقامُ وناعبٌ قال النَّوَى ... فعصيتُ قولي والمطاعُ غرابُ
وهذا من غث الكلام وبارده، وقال:
كم جحفلٍ طارتْ قدامِي خيلُهُ ... خلَّفتُهُ يومَ الوغى منتوفا
أعلمتُ نابك وهو رأسٌ أنه ... سيكون بعدَك حافرا ووظيفَا
وقال آخر في القاسم بن عبيد الله:
من كانَ يعلمُ كيفَ رقَّةُ طبعِهِ ... هو مقسم أنَّ الهواءَ ثخينُ
وقال أبو تمام:
فيا ثلجَ الفؤاد وكانَ رضفاً ... ويا شبعي بمقدمه وريّي
وقال:
وإذ الصنعُ كان وحشاً فملّي ... ت برغم الزَّمان صنعاً ربيباً
وقال:
قدْ لانَ أكثرُ ما تريد وبعضُهُ ... خشنٌ وإني بالنجاح لواثقُ
وقوله:
لعمري لقد حرَّرت يومَ لقيتُهُ ... لو أنّ القضاءَ وحدَهُ لم يبرَّدِ
وقوله:
وإن خفرتْ أموالَ قومٍ أكفُّهمْ ... من النيل والجدوى فكفّاه مقطعٌ
وقوله:
يومٌ أفاضَ جوى أغاض تعزّياً ... خاض الهوى بحرَى حجاه المزبدِ
فجعل الحجى في هذا البيت مزبدا، ولا أعرف عاقلا يقول: إن العقل يزيد، وليس المزيد هاهنا نعتاً للبحرين، لأنه قال بحرى حجاه المزبد، فلو جعل المزبد نعتا للبحرين لقال المزبدين، وخوض الهوى بحر التعزى أيضاً من أبعد الاستعارة.
ونحو منه قوله أيضاً:
يا يوم شرَّدَ يوم لهوى لَهوه ... بصبابتي وأذلَّ عزَّ تجلُّدِى
وقوله:
غرضَ الظلامُ أو اعترته وحشةٌ ... فاستأنستْ روعاته بسهادي
بل ذكرةٌ طرقتْ فلما لم أبتْ ... بانت تفكرُ في ضروب رقادي
أغرتْ همومي فاستلبنَ فصولها ... نومي ونمنَ على فضول وسادِي
وهذه الأبيات مع قبح التطبيق الذي في أولها، وهجنة الاستعارة لا يعرف معناها على حقيقته.
الفصل الثالث
في ذكر التجنيس
التجنيس أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كلّ واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها على حسب ما ألّف الأصمعي كتاب الأجناس. فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظا واشتقاق معنى، كقول الشاعر:يوماً خلجت على الخليج نفوسهم ... عصبا وأنت لمثلها مستامَ
خلجت: أي جذبت، والخليج: بحر صغير يجذب الماء من بحر كبير، فهاتان اللفظتان متفقتان في الصيغة واشتقاق المعنى والبناء، ومنه ما يجانسه في تأليف الحروف دون المعنى، كقول الشاعر:
فأرفق به أن لومَ العاشقِ اللّومُ
وشرط بعض الأدباء من هذا الشرط في التجنيس وخالفه في الأمثلة فقال: وممن جنس تجنيسين في بيت زهير، في قوله:
بعزمةِ مأمورٍ مطيعٍ وآمرٍ ... مطاعٍ فلا يلفَى لحزمهِمُ مثلُ
وليس المأمور والآمر والمطيع والمطاع من التجنيس، لأن الاختلاف بين هذه الكلمات لأجل أنّ بعضها فاعل، وبعضها مفعول به، وأصلها إنما هو الأمر والطاعة.
وكتاب الأجناس الذي جعلوه لهذا الباب مثالاً إنما يصف على هذه السبيل، ويكون المطيع مع المستطيع، والآمر مع الأمير تجنيساً. وجعل أيضاً من التجنيس قول الآخر:
ذو الحلم منَّا جاهلٍ دونَ ضيفهِ ... وذو الجهل منا عن أذاهُ حليمُ
ليس بتجنيس، وكذلك قول خداش بن زهير:
ولكن عايشٌ ما عاش حتى ... إذا ما كادهُ الأيام كيدا
وقال الشَّنفري:
وإني لحلوٌ إن أريد حلاوتي ... ومرٌّ إذا النفس العزوف أمّرتِ
وقال العجير السّلولي:
يسرّك مظلوما ويرضيك ظالما ... وكلّ الذي حملتَه فهو حاملُهْ
وقول الآخر:
وساعٍ مع السلطانِ يسعى عليهم ... ومحترس من مثلهِ وهو حارسُ
وقول تأبط شراً:
يرى الوحشه الأنسَ الأنيسَ ويهتدي ... بحيث اهتدتْ أمُّ النجومِ الشَّوابكِ
وقول الآخر:
صبَّتْ عليه ولم تنصبَّ من كثبٍ ... إن الشقاء على الأشقينَ مصبوبُ
ليس في هذه الألفاظ تجنيس، وإنما اختلف هذه الكلم للتصريف.
فمن التجنيس في القرآن قول الله تعالى: " وأسلمتُ مع سليمانَ " .
وقوله عز وجل: " فأقمْ وجهكَ للدّين القيّم " .
وقوله تعالى: " تتقلَّبُ فيه القلوبُ والأبصارُ " .
وقوله سبحانه وتعالى: " والتفّت السّاق بالسّاق إلى ربّك يومئذٍ المساقُ " .
وقوله تعالى: " وجّهتْ وجهي للذي فطر السّموات والأرضَ " .
وقوله عزّ وجل: " فروحٌ وريحانٌ وجنَّةُ نعيم " . الرّوح: الراحة، والريحان الرزق.
وقوله سبحانه: " ثمَّ كلى من كلِّ الثّمرات " .
وقوله تعالى: " أزفت الآزفة " ، الآزفة: اسم ليوم القيامة.
فهذا كقول امرئ القيس:
لقدْ طمح الطّماح
وليس هذا كقولهم: أمر الأمر. هذا ليس بتجنيس.
وفي كلام النبيّ صلى الله وسلم: " عصيّة عصت الله ورسوله، وغفا وغفر الله لها، وأسلم سالمها الله " . وقوله صلى الله عليه وسلم: " الظلم ظلمات يوم القيامة " .
أخذه أبو تمام، فقال:
جلا ظلمات الظلم من وجه أمةٍ ... أضاء لها من كوكب العدلِ آفلهْ
وقيل له صلى الله عليه وسلم: من المسلم؟ فقال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده " .
وقال معاوية لابن عباس رضى الله عنهم: ما بالكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم؟ فقال: كما تصابون في بصائركم يا بني أمية. وقال صدقة بن عامر وقد مات له بنون سبعة فرآهم قد سجّوا: اللّهم إني مسلم مسلم. وقال رجل من قريش لخالد بن صفوان: ما اسمك؟ قال خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: إنّ اسمك لكذب، ما خلّد أحد، وإن أباك لصفوان وهو حجر، وإن جدّك لأهتم وإن الصحيح خيرٌ من الأهتم. قال خالد: من أيّ قريش أنت؟ قال: من بني عبد الدار، قال: فمثلك يشتم تميما في عزّها وحسبها، وقد هشمتك هاشم، وأمّتك أمية، وجمحت بك جمح، وخزمتك مخزوم، وأقصتك قصيّ، فجعلتك عبد دارها وموضع شنارها، تفتح لهم الأبواب إذا دخلوا، وتغلقها إذا خرجوا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يكون ذو الوجهين عند الله وجيها " . وكتب بعض الكتاب: العذر مع التَّعذّر واجب. وقيل لبعضهم: ما بقي من نكاحك؟ قال: ما يقطع حجّتها ولا يبلغ حاجتها. وروى عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال: هاجروا ولا تهجّروا، أي لا تشبّهوا بالمهاجرين من غير إخلاص. وكتب بعض الكتّاب: قد رخصت الضرورة في الإلحاح، وأرجو أن تحسن النظر، كما أحسنتُ الانتظار.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: حكى لي محمد بن يحيى عن عبد الله بن المعتز، قال: قدّم في بعض المجالس إلىّ صديقٌ لنا بخورا، فقال له صاحب المجلس: تبخّر، فإنه ندّ، فلما استعمله لم يستطبه، فقال: هذا ندّ عن النَّدّ.
ومثله ما حكى لنا أبو أحمد عن الصّولي أن إبراهيم بن المهدي زار صديقاً له استدعى زيارته، فوجده سكران، فكتب في رقعة جعلها عند رأسه:
رحنا إليك وقد راحتْ بك الراح
وروى بعضهم أن عبد الله بن إدريس سئل عن النبيذ، فقال: جلّ أمره عن المسئلة، أجمع أهل الحرمين على تحريمه. وذم أعرابي رجلا فقال: إذا سأل ألحف، وإذا سئل سوّف، يحسد على الفضل، ويزهّد في الإفضال.
وكتب العتابي إلى مالك بن طوق: أما بعد فاكتسب أدباً، تحى نسبا، واعلم أن قريباك من قرب منك خيره، وأن ابن عمّك من عمّك نفعه، وأن أحبّ الناس إليك أجداهم بالمنفعة عليك. وقال آخر: اللّهى تفتح اللّها.
وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن إبراهيم الكاغدي، قال: أخبرنا أبو بكر العقدي، قال: أخبرنا أبو جعفر الخراز، قال: دخل فيروز حصين على الحجاج وعنده الغضبان بن القبعثري فقال له الحجاج: زعم الغضبان أن قومه خير من قومك، فقال: أكذاك يا غضبان؟ قال: نعم، فقال فيروز: أصلح الله الأمير اعتبر قومي وقومه بأسمائهم، هذا غضبان، غضب الله عليه، والقبعيري اسم قبيح من بني ثعلبة شرّ السباع، ابن بكر شرّ الإبل، ابن وائل له الويل، وأنا فيروز فيروز به، حصين حصنٌ وحرز، والعنبر ريح طيبة، من بني عمرو، عمارة وخير، من تميم تمّ، فقومي خير من قومه وأنا خير منه.
وأخبرنا أبو أحمد عن أبي بكر عن أبي حاتم عن الأصمعي، قال سمعت الحيّ يتحدّثون أن جريرا، قال: لولا ما شغلني من هذه الكلاب لشبّبت تشبيبا تحنّ منه العجوز إلى شبابها.
ومن أشعار المتقدمين في التجنيس قول امرئ القيس:
لقد طمح الطّماح من بعد أرضهِ ... ليلبسني من دائه ما تلبّسا
وأخذه الكميت فقال:
ونحن طمحنَا لامرئ القيس بعدَما ... رجا الملك بالطّماح نكباً على نكبِ
وقال الفرزدق وذكر واديا:
خفاف أخفّ الله عنه سحابة ... وأوسعه من كلّ سافٍ وحاصبٍ
وقال زهير:
كأنّ عيني وقد سال السليلُ بهم ... وجيرة ما همُ لو أنّهمْ أممُ
وقال الفرزدق:
قد سال في أسلاتنا أو عضَّه ... عضبٌ بضربتِه الملوك تقتَّلُ
وقال النابغة:
وأقطع الخرق بالخرقاء لاهية
وقال غيره:
على صرماء فيها أصرَماها ... وخرّيتُ الفلاة بها مليل
وقال قيس بن عاصم:
ونحن حفزنا الحوفزانَ بطعنةٍ ... سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا
وقال:
وقاظ أسيرا هانئ وكأنما ... مفارق مفروق تغشينَ عندما
وقال أمية بن أبي الصلت:
فما أعتبتْ في النائبات معتّب ... ولكنّها طائت وضلّت حلُومها
وقال أوس بن حجر:
قد قلتُ للركب لولا أنهم عجلوا ... عوجوا عليّ فحيوا الحي أو سيروا
وفيها:
عرٌّ عرائر أبكارٌ نشأنَ معا ... خشنُ الخلائقِ عمّا يتّقى زورُ
وفيها:
لكن بفرتاجَ فالخلصاء أبت بها ... فحنبلٍ فعلى سراءَ مسرورُ
وفيها:
حتى أشب لهن الثور من كثبٍ ... فأرسلوهنَّ لم يدروا بما ثيرُوا
وقال الكميت:
فقل لجذام قد جذمتُم وسيلةً ... إلينا كمختار الرداف على الرَّحلِ
وقال طرفة:
بحسام سيفك أو لسانك وال ... كلمُ الأصيل كأرغب الكلمِ
وقال القحيف:
بخيل من فوارسها اختيال
وقال النعمان بن بشير لمعاوية:
ألم تبتدركم يوم بدر سيوفُنا ... وليلك عمّا نابَ قومكَ نائم
وقال العبسي:
أبلغْ لديك بني سعدٍ مغلغلةً ... أنَّ الذي ينهها قد ماتَ أو دنفَا
وذا كمُ أنّ ذلَّ الجارِ حالفَكمْ ... وأن آنفكم لا يعرف الأنَفا
وقال جليح بن سويد:
أقبلنَ من مصر يبارين البرا
وقال ذو الرُّمة:
كأنَّ البُرى والعاج عيجت متونه ... على عشر نهَّى به السيل أبطحُ
وقال حيان بن ربيعة الطائي:
لقد علم القبائل أنَّ قومي ... لهم حدّ إذا لبس الحديدُ
وقال القطامى:
فلما ردَّها في الشولِ شالت ... بذيَّالٍ يكون لها لفاعا
وقال جرير:
وما زال معقولا عقالٌ عن الندى ... وما زال محبوسا عن الخير حابسُ
وقال امرؤ القيس:
بلاد عريضة وأرض أريضة ... مدافع غيث في فضاءٍ عريِض
وقال آخر:
وطيب ثمارٍ في رياض أريضةٍ
وقال حميد الأرقط:
مرتجز في عارض عريض
ومن أشعار المحدثين قول الشاعر:
وسميته يحيى ليحيى ولم يكنْ ... إلى رد أمر الله فيه سبيلُ
تيممتُ فيه الفألَ حين رزقته ... ولم أدر أنّ الفأل فيه يفيلُ
وقال البحتري:
نسيمُ الروض في ريحٍ شمال ... وصوبُ المزن في راح شمول
وهذا من أحسن ما في هذا الباب، وقال أبو تمام:
سعدتْ غربة النوى بسعادِ ... فهي طوع الإتهامِ والإنجادِ
وهذا من الابتداءات المليحة، وقال فيها:
عاتقٌ معتقٌ من اللّوم إلا ... من معاناة مغرم أو نجاد
مليتكَ الأحساب أيّ حياة ... وحيَا أزمةٍ وحيّة وادِ
لو تراختْ يداك عنها فواقا ... أكلتها الأيام أكلَ الجراد
كادت المكرمات تنهدُّ لولا ... أنها أيِّدتْ بحيّ إيادِ
وقال البحتري:
راحتْ لأربُعك الرياح مريضةً ... وأصابَ مغناك الغمامُ الصَّيِّبُ
وقال مسلم بن الوليد:
لعبت بها حتى محتْ آثارَها ... ريحان رائحتان باكرتان
وقال آخر:
لا تصغِ للّوم إن اللّومَ تضليلُ ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحليلُ
فقد مضى القيظُ واحتثّت رواحلُه ... وطابت الراح لمّا آل أيلول
لم يبقَ في الأرض نبتٌ يشتكى مرهاً ... إلاّ وناظرُه بالطَّلِّ مكحولُ
وقال اليزيديّ للأصمعي:
وما أنت هل أنت إلا امرؤ ... إذا صح أصلك من باهلهْ
وللباهليّ على خبزه ... كتابٌ لآكلِه الآكله
وقال آخر:
قد بلغت الأشدّ لا شدك الل ... ه وجاوزته وأنت مليمُ
وقال مسلم:
يورَى بزندِك أو يسعى بمجدك أو ... يفرى بحدِّك كلٌّ غيرُ محدودِ
وقال:
وليس ببالي حين يحتكُّ جمرُها ... صدودُ صداء واجتناب بني جنبِ
وقال البحتري:
لولا عليُّ بن مرّ لاستمرّ بنا ... خلفٌ من العيش فيه الصّاب والصّبرُ
بردُ الحشا وهجير الروع محتفل ... ومسعرٌ وشهاب الحرب يستعرُ
ألوى إذا شابك الأعداء كرّهُم ... حتى يروح وفي أظفاره الظَّفرُ
جافى المضاجع ما ينفك في لجبٍ ... يكاد يقمَرُ من لألائه القمر
وقال:
حيا الأرض ألقت فوقه الأرض ثقلَها ... وهول الأعادي فوقه الترب هائلُ
ستبكيه عينٌ لا ترى الخير بعدَه ... إذا فاض منها هاملٌ عاد هاملُ
وقال الطائي:
ورمى بثغرته الثّغور فسدَّها ... طلق اليدين مؤمّلا مرهوبا
وأنشدني العتبي:
دنس القميص غليظُه ... من غير لحمته سداه
وشعاره من شعره ... فكأنه من مسك شاه
وجنس أبو تمام أربع تجنيسات في بيت واحد، ولعله لم يسبق إليه وهو قوله:
بحوافرٍ حفرٍ وصلب صلَّبٍ ... وأشاعرٍ شعرٍ وخلق أخلقِ
وقوله أيضاً:
لسلمى سلامان وعمرة عامر ... وهند بني وسعدى بني سعدى
ومما جنس فيه تجنيسين، قوله:
ففصلنَ منه كلّ مجمع مفصلٍ ... وفعلنَ فاقرةً بكل فقار
ومن التجنيس ضرب آخر، وهو أن تأتي بكلمتين متجانستي الحروف، إلا أن في حروفها تقديماً وتأخيراً، كقول أبي تمام:
بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في ... متونهنَّ جلاءُ الشّكِّ والرّيبِ
وقلت في حية:
منقوشة تحكى صدور صحائف ... إبّانَ يبدو من صدور صفائح
وقيل لابنة الخسّ: كيف زينت مع عقلك؟ فقالت: طول السواد، وقرب الوساد.
ومن التجنيس نوع آخر يخالف ما تقدم بزيادة حرف أو نقصانه، وهو مثل قوله الله عز وجل: " وهم ينهونَ عنهُ وينأونَ عنهُ " . وقوله تعالى: " كعرض السّماء والأرض " . وقوله جل ذكره: " واللّيلِ وما وسق، والقمرِ إذا اتّسق " . وقوله سبحانه: " ذلكم بما كنتم تفرحونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ، وبما كنتم تمرحون " .
وكتب عبد الحميد: الناس أخياف مختلفون، وأطوار متباينون، منهم علق مضنَّة لا يباع، ومنهم غلّ مظنة لا يبتاع.
ورفع رجل هاشمي يسمى عبد الصمد صوته في مجلس المأمون عند مناظرة، فقال المأمون:
لا ترفعنّ صوتك يا عبد الصمد ... إن الصواب في الأسدّ لا الأشدّ
وكتب كافي الكفاة رحمه الله: فأنت أدام الله عزّك، وأن طويت عنّا خبرك، وجعلت وطنك وطرك، فأنباؤك تأتينا، كما وشى بالمسك ريّاه، ودلّ على الصّبح محياه.
وقال عليّ رضى الله عنه: كل شيء يعز حين ينزر، والعلم يعز حين يغزر وقال بعضهم: عليك بالصبر، فإنه سببُ النصر، ولا تخض الغمر، حتى تعرف الغور. وقال آخر: راش سهامه بالعقوق، ولوى ماله عن الحقوق.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ إلى يوم القيامة " . ودعا علي بن عبد العزيز المافروخي صاعد بن مخلد في يوم مطيرن فتخلف عنه واعتذر إليه. فكتب إليه عليّ: ما شقّ طريق هدى إلى صديق. وإنما جعلت المماطر، لليوم الماطر. فركب إليه. ومن المنظوم قول الأعشى:
رب حيٍّ أشقاهم آخر الده ... ر حيٍّ سقاهمُ بسجالِ
وقوله:
بليونٍ المعزابةِ المعزالِ
وقول أوس بن حجر:
أقول فأما المنكراتِ فأتَّقى ... وأما الشَّذا عنّى الملَّم فأشذبُ
وقال امرؤ القيس:
بسامٍ ساهمِ الوجهُ حسَّان
وقال ابن مقبل:
يمشين هيل النَّقا مالت جوانُبه ... ينهال حيناً وينهاهُ الثَّرى حينَا
وقال زهير:
هم يضربون حبيبكَ البيض إذا لحقُوا ... لا ينكلُون إذا ما استلحمُوا وحمُوا
وقال:
في متناه متناه كوكبه
وقال الحطيئة:
وإن كانت النّعماء فيهم جزوا بها ... وإن أنعموا لا كدَّروها ولا كدُّوا
وقال آخر:
مطاعين في الهيجا مطاعيمُ في القرى
وقال أبو ذؤيب:
إذا ما الخلاجيمُ العلاجيمُ نكّلوا ... وطال عليهم حميُها وسعارُها
وقال آخر:
على الهامِ منها قيضُ بيض مفلَّقِ
وقال:
كفّاه مخلفةٌ ومتلفة ... وعطاؤه متخرق جزل
ومن شعر المحدثين قول البحتري:
من كل ساجى الطرف أغيدَ أجيدٍ ... ومهفهف الكشحينِ أحوى أحورِ
وقوله:
فقف مسعداً فيهن إنْ كنتَ عاذراً ... وسر مبعداً عنهنَّ إن كنتَ عاذلا
وقوله:
سنان أمير المؤمنين وسيفُه ... وسيبُ أمير المؤمنين ونائله
وقوله:
هل لما فاتَ من تلافٍ تلافِ ... أو لشاكٍ من الصَّبابة شافِ
وقول أبي تمام:
يمدّونَ من أيدٍ عواصٍ عواصمٍ ... تصول بأسيافٍ قواضٍ قواضبِ
إذا الخيلُ جابتْ قسطل الحرب صدَّعُوا ... صدورَ العوالي في صدور الكتائب
وقوله:
ولم أر كالمعروف تدعى حقُوقه ... مغارمَ في الأقوام وهي مغانمُ
وقول الآخر:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجرْ
أمضى وأنفذُ في القلو ... ب من الحناجر في الحناجرْ
وقلت:
عذيريَ من دهر موار مواربٍ ... له حسنات كلّهنّ ذنوبُ
وقلت:
آفة السر من جفو ... ن دوام دوامعُ
كيف يخفى معَ الدمو ... ع الهوامِي الهوامعُ
وقلت أيضاً:
خليفة شهم كلما اسمحت محت ... معالم جدب لم يطق محوها المطرُ
ومما عيب من التجنيس قول أبي تمام:
أهيسُ أليسُ لجاءٌ إلى همم ... تغرِّق الأسدَ في آذيها الليسا
ومما عيب من التجنيس الأول قول أبي تمام:
خان الصَّفا أخٌ خان الزمانَ أخا ... عنه فلم تتخون جسمه الكمدُ
وقوله:
قرّتْ بقرّانَ عينُ الدين وانشترت ... بالأشترين عيون الشّرك فاصطلما
فهذا مع غثاثة لفظه وسوء التجنيس فيه يشتمل على عيب آخر، وهو أن انشتار العين لا يوجب الاصطلام، وقوله:
إن من عقّ والديه لملعو ... ن ومنْ عقَّ منزلا بالعقيقِ
وقوله:
خشنتِ عليه أختَ بني خشينِ
وهذا في غاية الهجانة والشناعة.
وقد جاء في أشعار المتقدمين من هذا الجنس نبذ يسير منه قول امرئ القيس:
وسنّ كسَّنيقٍ سناءَ وسنَّماً ... ذعرت بمدلاج الهجير نهوضِ
ولم يعرف الأصمعي وأبو عمرو معنى هذا البيت، وقال الأعشى:
وقد غدوت إلى الحانوت يتبُعني ... شاوٍ مشلٌّ شلول شلشلٌ شولُ
تبعه مسلم بن الوليد، فقال:
سلّتْ وسلتْ ثم سلَّ سليُلها ... فأتى سليلُ سليلها مسلولا
وقال أبو الغمر يصف السحاب:
نسجته الجنوبُ وهي صناعٌ ... فترّقى كأنه حبشيُّ
وقرى كل قرية كل يقرو ... ها قرىَ لا يجف منه قريُّ
وهذا مستهجن لا يجوز لمتأخر أن يجعله حجة في إتيان مثله، لأن هذا وأمثاله شاذ معيب، والعيب من كل أحد معيب، وإنما الاقتداء في الصواب لا في الخطأ.
وقد قال بعض المتأخرين ما هو أقبح من جميع ما مر في قوله وليس من التجنيس:
ولا الضِّعف حتى يتبعَ الضَّعف ضعفهُ ... ولا ضعفَ ضعفِ الضِّعفِ بل مثله ألفُ
وقوله:
فقلقلتُ بالهمّ الَّذي قلقلَ الحشا ... قلاقلَ عيسٍ كلُّهنّ قلاقلُ
وقيل لأبي القمقام: ألا تخرج إلى الغزاة بالمصّيصة؟ فقال: أمصَّنى الله إذا بظر أمي ومن التجنيس المعيب قول بعض المحدثين، أنشده ابن المعتز:
أكابد منكم أليمَ الألم ... وقد انحلَ الجسمَ بعد الجسمْ
وقول الآخر:
كم رأسِ رأسِ بكى من غير مقلته ... دماً وتحسبُه بالقاع مبتسِما
وقول إبراهيم أبو الفرج البندنيجي في عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
هي الجآذرُ إلاّ أنّها حُور ... كأنها صور لكنّها صور
نور الحِجال ولكن من معايبها ... إذا طلبت هواها أنها نورُ
غيداءُ لو بلّ طرفُ البابلّي بها ... لارتدَّ وهو بغير السِّحر مسحورُ
إن الرواحَ جلا روحَ العراق لنا ... أصلاً وقد فصلتْ من مكَّة العيرُ
تشكو العقوقَ وقد عقَّ العقيق لها ... وأرض عروة من بطحان فالنِّيرُ
يحتثُّها كلُّ زول دأبُه دأب ... من طول شوق وهجٍّيراه تهجيرُ
مقوّرة الآلِ من خوض الفلاة إذا ... ما اعتمَّ بالآل في أرجائها القورُ
هذا البيت قريب من قول أبي تمام:
أحطت بالحزم حيزُوماً أخا همم ... كشَّافَ طخياء لا ضيقا ولا حرجا
وقال المخزومي في طاهر بن الحسين:
ولو رأى هرمٌ معشار نائله ... لقيل في هرم قد جنّ أو هرِما
الفصل الرابع
في المقابلة
المقابلة: إيراد الكلام، ثم مقابلته مثله في المعنى واللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة. فأما ما كان منها في المعنى فهو مقابلة الفعل بالفعل، مثاله قول الله تعالى: " فتلكَ بيوتهُمْ خاوية بما ظلمُوا " ، فحواء بيوتهم وخرابها بالعذاب مقابلة لظلمهم.ونحو قوله تعالى: " ومكَرُوا مكراً ومكرنا مكراً " ، فالمكر من الله تعالى العذابُ، جعله الله عز وجل مقابلة لمكرهم بأنبيائه وأهل طاعته.
وقوله سبحانه: " نسوا الله فنسيهمْ " .
وقوله تعالى: " إنَّ الله لا يغيّرُ ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم " .
ومن ذلك قول تأبط شرا:
أهزُّ به في ندوَة الحيِّ عطفهَ ... كما هزَّ عطفى بالهجان الأواركُ
وقول الآخر:
ومنْ لو أراه صادياً لسقيتُه ... ومن لو رآني صادياً لسقاني
ومنْ لو أراه عانياً لفديتُه ... ومنْ لو رآني عانياً لفداني
فهذا مقابلة باللفظ والمعنى.
وأما ما كان منها بالألفاظ، فمثل قول عدي بن الرّقاع:
ولقد ثنيتُ يد الفتاةِ وسادةً ... لي جاعلاً إحدى يديّ وسادَها
وقال عمرو بن كلثوم:
ورثناهنَّ عن آباءِ صدقٍ ... ونورِثُها إذا متنا بنينَا
ومن النثر قول بعضهم: فإنّ أهل الرأى والنّصح لا يساويهم ذو الأفن والغشّ، وليس من جمع إلى الكفاية الأمانة، كمن أضافَ إلى العجز الخيانة. فجعل بإزاء الرأي الأفن وبإزاء الأمانة الخيانة، فهذا على وجه المخالفة.
وقيل للرشيد: إن عبد الملك بن صالح يعدّ كلامه، فأنكر ذلك الرشيد، وقال: إذا دخل فقولوا له: ولد لأمير المؤمنين في هذه الليلة ابن ومات له ابن، ففعلوا. فقال: سرّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءك، ولا ساءك فيما سرك، وجعلها واحدة بواحدة، ثواب الشاكر، وأجرَ الصابر، فعرفوا أنّ بلاغته طبع.
وكتب جعفر بن محمد بن الأشعث إلى يحيى بن خالد يستعفيه من عمل: شكري لك على ما أريد الخروج منه شكر من نال الدخول فيه.
وكتب بعض الكتاب إلى رجل: فلو أن الأقدار إذ رمت بك في المراتب إلى أعلاها بلغت بك من أفعال السودد منتهاها لوازنت مساعيك مراقيك، وعادلت النعمة عليك النعمة فيك، ولكنك قابلت رفيع المراتب بوضيع الشّيم، فعاد علوّك بالاتفاق إلى حال دونك بالاستحقاق، وصار جناحك في الانهياص إلى مثل ما عليه قدرك في الانخفاض، ولا عجب أن القدر أذنب فيك فأناب، وغلط بك فعاد إلى الصواب، فأكثر هذه الألفاظ مقابلة وقال الجعدي:
فتىً كان فيه ما يسرُّ صديقَه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
وقال آخر:
وإذا حديث ساءني لم أكتئبْ ... وإذا حديثٌ سرني لم أشِر
وهذا في غاية التقابل.
ومن مقابلة المعاني بعضها لبعض، وهو من النوع الذي تقدم في أول الفصل قول الآخر:
وذي أخوةٍ قطَّعت أقرانَ بينهم ... كما تركوني واحداً لا أخاً ليا
وقول الآخر:
أسرناهم وأنعمنا عليهم ... وأسقينا دماءهُم الترابا
فما صبروا لبأس عند حرب ... ولا أدّوا لحسن يد ثوابا
فجعل بإزاء الحرب أن لم يصبروا، وبإزاء النعمة أن لم يثيبوا، فقابل على وجه المخالفة. وقال آخر:
جزى الله عنا ذات بعلٍ تصدقتْ ... على عزبٍ حتى يكونَ له أهلُ
فإنا سنجزيها بمثل فعالِها ... إذا ما تزوجنا وليس لها بعلُ
فجعل حاجته وهو عزب بحاجتها وهي عزب، ووصاله إياها في حال عزبتها، كوصالها إياه في حال عزبته، فقابل من جهة الموافقة.
ومن سوء المقابلة قول امرئ القيس:
فلو أنها نفس تموت سوّيةً ... ولكنها نفس تساقط أنفُسا
ليس سوية بموافق لتساقط ولا مخالف له، ولهذا غيّره أهلُ المعرفة فجعلوه جميعة، لأنه بمقابلة تساقط أليق.
وفساد المقابلة أن تذكر معنى تقتضى الحال ذكرها بموافقة أو مخالفة، فيؤتى بما لا يوافق ولا يخالف، مثل أن يقال: فلان شديد البأس، نقى الثغر، أو جواد الكف، أبيض الثوب. أو تقول: ما صاحبت خيراً، ولا فاسقا، وما جائني أحمر، ولا أسمر. ووجه الكلام أن تقول: ما جاءني أحمر ولا أسود، وما صاحبت خيّراً ولا شريراً، وفلان شديد البأس، عظيم النكاية، وجواد الكفّ، كثير العرف. وما يجرى مع ذلك، لأن السمرة لا تخالف السواد غاية المخالفة، ونقاء الثغر لا يخالف شدة البأس ولا يوافقه، فاعلم ذلك وقس عليه.
ومما يقرب من هذا قول أبي عدي القرشي:
يا بنَ خيرَ الأخيار من عبد شمس ... أنت زينُ الورى وغيثُ الجنودِ
فوضع زين الورى مع غيث الجنود في غاية السماجة.
وقريب منه قول الآخر:
خودٌ تكامل فيها الدلُّ والشنبُ
ومثله قول أبي تمام:
وزيرُ حق ووالي شرطة ورحى ... ديوان ملك وشيعيٌّ ومحتسبُ
ومن مختار المقابلة وكان ينبغي تقديمه فلم يتفق ما كتب الحسن بن وهب: لا ترض لي بيسير البرّ، فإني لم أرض لك بيسير الشكر، ودع عنّي مؤونة التقاضي كما وضعت عنك مؤونة الإلحاح، وأحضر من ذكرى في قلبك ما هو أكفى من قعودي بصدرك، فإني أحق من فعلت به، كما أنك أحق من فعله بي، وحقق الظن، فليس وراءك مذهب، ولا عنك مقصّر.
الفصل الخامس
في صحة التقسيم
التقسيم الصحيح: أن تقسّم الكلام قسمة مستوية تحتوى على جميع أنواعه، ولا يخرج منها جنس من أجناسه، فمن ذلك قول الله تعالى: " هو الذي يريكمُ البرق خوفاً وطمعاً " ، وهذا أحسن تقسيم، لأنّ الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع، ليس فيهم ثالث.ومن القسمة الصحيحة قول أعرابي لبعضهم: النعم ثلاث، نعمة في حال كونها، ونعمة ترجى مستقبلة، ونعمة تأتي غير محتسبة، فأبقى الله عليك ما أنت فيه، وحقق ظنك فيما ترتجيه، وتفضل عليك بما لم تحتسبه، فليس في أقسام النعم التي يقع الانتفاع بها قسم رابع سوى هذه الأقسام.
ووقف أعرابي على مجلس الحسن، فقال: رحم الله عبداً أعطى من سعة، أو آسى من كفاف، أو آثر من قلّة. فقال الحسن، ما ترك لأحد عذراً، فانصرف الأعرابي بخير كثير.
وقول إبراهيم بن العباس: وقسم الله تعالى عدوه أقساماً ثلاثة، روحاً معجّلة إلى عذاب الله، وجثة منصوبة لأولياء الله، ورأساً منقولا إلى دار خلافة الله ليس لهذه الأقسام رابع أيضاً، فهي في نهاية الصحة.
ومن المنظوم قول نصيب:
فقال فريق القوم. لا، وفريقهم ... نعم، وفريق لا يمنُ الله ما ندري
فليس في أقسام الإجابة عن المطلوب إذا سئل عنه غير هذه الأقسام.
قال الشماخ:
متى ما تقع أرساغُه مطمئنةً ... على حجرٍ يرفضّ أو يتدحرج
والوطء الشديد إذا صادف الموطوء رخواً ارفضّ منه، أو صلبا تدجرح عنه.
وقول الآخر:
يا اسم صبراً على ما كان من حدثٍ ... إنّ الحوادثَ ملقّى ومنتظرُ
وليس في الحوادث إلا ما لقى أو انتظر لقيه.
وقول الآخر:
والعيشُ شحٌّ وإشفاقٌ وتأميلُ
وكان عمر رضى الله عنه يتعجب من صحة هذه القسمة. وقول زهير:
فإنَّ الحقَّ مقطعُهُ ثلاثٌ ... يمين أو نفارٌ أو جلاء
فذلكمُ مقاطعُ كلِّ حق ... ثلاثٌ كلّهنّ لكمْ شفاء
وكان يعجب أيضاً بهذا البيت ويقول: لو أدركت زهيراً لولَّيتُه القضاء لمعرفته.
ومن عيوب القسمة قول بعض العرب:
سقاه سقيتين الله سقياً ... طهوراً والغمامَ يرى الغماما
فقال سقيتين ثم قال: سقياً طهوراً، ولم يذكر الأخرى، وقيل: أراد في الدنيا وفي الآخرة، وهذا مردود، لأن الكلام لا يدل عليه. وقول عبيد الله بن سليم:
فهبطت غيثا ما يفزَّع وحشهُ ... من بين مسرب ناوئ وكنُوس
فقسم قسمة رديئة، لأنه جعل الوحش بين سمين وداخل في كناسة. وكان ينبغي أن يقول: من بين سمين وهزيل، أو بين كانس وظاهر، ويجوز أن يكون السمين كانساً وراتعاً والكانس سميناً وهزيلا، وما أعرف لهذا شبها إلا قول كيسان حين سأل فقال: علقمة بن عبدة، جاهلي أو من بني تميم؟ ومثله ما كتب بعضهم: فمن بين جريح مضرج بدمائه، وهارب بلتفت إلى ورائه، فالجريح قد يكون هارباً، الهارب قد يكون جريحا، ولو قال: فمن قتيل لصح المعنى.
ومثله قول قيس بن الخطيم:
وسلوا ضريح الكاهنين ومالكاً ... كم فيهما من دارع ونجيبِ
ليس النجيب من الدارع في شيء وقريب منه قول الأخطل:
إذا التقتِ الأبطالُ أبصرت لونَه ... مضيئاً وأعناقُ الكماةِ خضوعُ
كان ينبغي أن يقول: وألوان الكماة كاسفة، ومضيئة مع خضوع ردئ جداً.
ومن القسمة الرديئة قول جرير:
صارتْ حنيفة أثلاثاً فثلثُهم ... من العبيد وثلثٌ من موالينا
فأنشده ورجلٌ من حنيفة حاضر، فقيل له: من أي قسم أنت. فقال: من الثلث الملغى ذكره.
ومن هذا الجنس ما ذكره قدامة أن ابن ميادة كتب إلى عامل من عماله هرب من صارفه: إنك لا تخلو في هربك من صارفك أن تكون قدّمت إليه إساءة خفته معها، أو خشيت في عملك خيانة رهبت يكشفه إياك عنها، فإن كنت أسأت
فأول راضٍ سنةَ من يسيرها
وإن كنت خفت خيانة فلا بد من مطالبتك بها.
فكتب العامل تحت هذا التوقيع: في الأقسام ما لم يدخل فيما ذكرته، وهو أني خفت ظلمه إياي بالبعد عنك، وتكثيره عليّ الباطل عندك، فوجدت الهرب إلى حيث يمكنني فيه دفع ما يتخرّصه أنفسي للظّنه عني، وبعدي عمّن لا يؤمن ظلمه أولى بالاحتياط لنفسي.
ومن القسمة الرديئة أيضاً قول ابن القرِّية: الناس ثلاثة، عاقل، وأحمق، وفاجر، فالفاجر يجوز أن يكون أحمق، ويجوز أن يكون عاقلا، والعاقل يجوز أن يكون فاجرا، وكذلك الأحمق.
وإذا دخل أحد القسمين في الآخر فسدت القسمة، كقول أمية بن أبي الصلت:
لله نعمتنا تبارك ربُّنا ... ربُّ الأنام ورب من يتأبد
داخل في الأنام من يتأبد.
وكذلك قول الآخر:
أبادرُ إهلاكَ مستهلك ... لمالي وإن عبثَ العابثُ
فعبث العابث داخل في إهلاك المستهلك.
وكذلك قول الآخر:
فما برحت تومي إليك بطرفها ... وتومض أحيانا إذا طرفها غفل
فتومى وتومض واحد.
وقول جميل:
لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ ... حبّ وصلتك أو أتتك رسائلي
فإتيان الرسائل داخل في الوصل.
ومن ذلك أيضاً ما كتب بعضهم: ففكرت مرة في عزلك، ومرة في صرفك وتقليد غيرك.
وفي فصل آخر كتب هذا الرجل إلى عامل: فتارة تسرق الأموال وتختزلها، وتارة تقتطعها وتحتجبها. فمعنى الجزأين واحد.
الفصل السادس
في صحة التفسير
وهو أن يورد معاني فيحتاج إلى شرح أحوالها، فإذا شرحت تأتي في الشرح بتلك المعاني من غير عدول عنها أو زيادة تزاد فيها، كقول الله تعالى: " ومن رحمتِهِ جعَل لكمُ اللّيلَ والنّهارَ لتسكنُوا فيه ولتبتغُوا من فضله " . فجعل السكون للّيل، وابتغاء الفضل للنهار، فهو في غاية الحسن، ونهاية التمام.ومن النثر ما كتب بعضهم: إن لله عز وجل نعما لو تعاون خلقُه على شكر واحدة منها لأفنوا أعمارهم قبل قضاء الحقّ فيها، ولى ذنوبٌ لو فرّقت بين خلقه جميعاً لكان كلّ واحد منهم عظيم الثقل منها، ولكنه يستر بكرمه، ويعودُ بفضله، ويؤخر العقوبة انتظاراً لمراجعة من عبده، ولا يخلى المطيع والعاصي من إحسانه وبرّه.
فذكر جملتين، وهما نعم الله تعالى وذنوب عبده، ثم فسر كل واحدة منهما مرتين تفسيراً صحيحاً. قوله: يستر بكرمه راجع إلى الذنوب، وقوله: يعود بفضله راجع إلى النعم، فاستوفى. ثم قال: ويؤخر العقوبة فهذا أيضاً راجع إلى الذنوب، وقوله: " ولا يخلى المطيع والعاصي من إحسانه وبره " راجع إلى النّعم، فهو تفسير صحيح في تفسير صحيح.
ومن ذلك قول بعض أهل الزمان وقد كتب إليه بعض الأشراف كتاباً وسأله أن يصلح ما يجد فيه من سقم، فكتب إليه: فأمّا ما رسمه من سدّ ثلمه، وجبر كسره، ولمّ شعثه، فأيّ ثلم يوجد في أديم السماء، وأيّ كسر يلفى في حاجب ذكاء، وأيّ شعث يرى ي الزّهرة الزهراء ففسر الثلاثة، ولم يغادر منها واحدا. ومثاله من المنظوم قول الفرزدق:
لقد جئت قوماً لو لجأت إليهمُ ... طريد دمٍ أو حاملا ثقلَ مغرمَ
لألفيت فيهم معطيا أو مطاعنا ... وراءك شزرا بالوشيج المقوّمِ
ففسر قوله: " حاملاً ثقل مغرم " ، بقوله: " تلقى فيهم من يعطيك " وقوله: طريد دم بقوله: " تلقى فيهم من يطاعن دونك " .
وقال ابن مطير في السحاب:
ولهٌ بلا حزنٍ ولا بمسرَّةٍ ... ضحكٌ يراوح بينه وبكاء
وقول المقنّع:
لا تضجرنّ ولا يدخلكَ معجزةٌ ... فالنُّجحُ يهلكُ بين العجزِ والضَّجرِ
وضربٌ منه قول صالح بن جناح اللخمي:
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنَّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوجُ
ولى فرسٌ للحلم بالحلم ملجمٌ ... ولى فرسٌ للجهل بالجهل مسرجُ
فمن رامَ تقويمي فإني مقوّم ... ومن رام تعويجي فإني معوّجُ
وقول سهل بن هرون:
فواحسرتا حتَّى متى القلب موجعٌ ... بفقد حبيب أو تعذُّر إفضالِ
فراقُ حبيب مثله يورِث الأسى ... وخلة حر لا يقومُ لا مالي
وقال آخر:
شبهُ الغيثِ فيه والليث والبد ... ر فسمحٌ ومحرب وجميل
وقلت:
كيف أسلُو وأنتَ حقف وغصنٌ ... وغزال لحظاً وردفاً وقدّا
وقال آخر:
فألقتْ قناعا دونَه الشمس واتقت ... بأحسن موصولين كفّ ومعصم
ومن عيوب هذا الباب ما أنشده قدامة:
فيأيها الحيران في ظلمةِ الدجى ... ومن خاف أن يلقاه بغىٌ من العدا
تعال إليه تلق من نورِ وجهه ... ضياءً ومن كفيه بحراً من الندى
وكان يجب أن يأتي بإزاء بغى العدا بالنّصرة أو بالعصمة أو بالوزر أو ما يجانس ذلك مما يحتمى به الإنسان، كما وضع بإزاء الظلمة الضياء. فأما إذا وضع بإزاء ما يتخوّف من بغى العدا بحراً من الندى فليس ذلك تفسيراً لذلك.
ومن فساد التفسير ما كتب بعضهم: من كان لأمير المؤمنين كما أنت له من الذَّبِّ عن ثغوره والمسارعة إلى ما يهيب به إليه من صغر أمره وكبيره كان جديراً بنصح أمير المؤمنين في أعماله، والاجتهاد في تثمير أمواله، فليس الذي قدّم من الحال التي عليها هذا العامل من الذّب عن الثغور والمسارعة في الخطوب ما سبيله أن يفسّر بالنصح في الأعمال وتثمير الأموال. ولعلّه لو أضاف إلى ذكر الذّب عن الثغور ذكر الحياطة في الأمور لكان بهذا المضاف يجوز أن يفسّر بالنصح في العمال والتثمير للأموال.
الفصل السابع
في الإشارة
الإشارة أن يكون اللفظ القليل مشاراً به إلى معان كثيرة، بإيماء إليها ولمحة تدل عليها، وذلك كقوله تعالى: " إذ يغشى السّدرة ما يغشى " . وقول الناس: لو رأيت عليّا بين الصفين، فيه حذف وإشارة إلى معان كثيرة.وأخبرنا أبو أحمد، قال أخبرنا أبو بكر الصولي، قال أخبرنا الحزنبل، قال: لما ولّى المهتدي بالله وزارته سليمان بن وهب قام إليه رجل من ذي حرمته، فقال: أعز الله الوزير خادمك المؤمّل لدولتك، السعيد بأيامك، المنطوي القلب على مودتك، المبسوط اللسان بمدحتك، المرتهن الشكر بنعمتك، وإنما أنا كما قال القيسي: مازلتُ أمتطي النهار إليك، وأستدلّ بفضلك عليك، حتى إذا أجنّنى الليل، فقبض البصر، ومحا الأثر، قام بدني، وسافر أملى، واجتهاد عذر، وإذا بلغتك فقط. فقال سليمان: لا بأس عليك فإني عارف بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك، ولست أؤخر عن يومي هذا توليتك بما يحسنُ عليك أثره، ويطيب لك خيره إن شاء الله. فقوله: " وإذا بلغتك فقط " إشارة إلى معان كثيرة يطول شرحها.
وكتب آخر إلى آخر: أتعيّرني وأنا أنا والله لأزرن عليك الفضاء، ولأبغّضنك لذيذ الحياة، ولأحبّبنّ إليك كريه الممات، ما أظنك تربع على ظلعك، وتقيس شبرك بفترك، حتى تذوق وبال أمرك، فتعتذر حين لا تقبل المعذرة، وتستقيل حين لا تقال العثرة. فقول: وأنا أنا إشارة إلى معان كثيرة، وتهديد شديد، وإبعاد كثير.
ومن المنظوم قول امرئ القيس:
فإنْ تهلكْ شنوءة أو تبدّلْ ... فسيرى إنَّ في غسان خالا
بعزِّهم عززت وإن يذلّوا ... فذلهم أنالكِ ما أنالا
فقولوه: " إنّ في غسان خالا وأنا لك ما أنالا إشارة إلى معان كثيرة.
وضرب منه قوله:
على سابحٍ يعطيك قبل سؤاله ... أفانين جرى غير كزّ ولا وانِ
فقوله: أفانين جرى مشار به إلى معان لو عدت لكثرت، وضم إلى ذلك جميع أوصاف الجودة في قوله: يعطيك قبل سؤاله.
وأنشدنا أبو أحمد لبعضهم:
لم آت مطَّلباً إلا لمطلب ... وهمة بلغتْ بي أفضلَ الرتبِ
أعملتِ عيسى إلى البيت العتيق على ... ما كان من دأب فيها ومن نصبِ
حتى إذا ما انقضى حجّى ثنيتُ لها ... فضلَ الزمام فأمَّتْ سيدَ العربِ
هذا رجائي وهذى مصر معرضة ... وأنتَ أنتَ وقد ناديتُ من كثبِ
فقوله: أنت أنت مشارٌ به إلى نعوت من المدح كثيرة.
ومن هذا قول أبي نواس:
أنت الخصيبُ وهذا مصر
الفصل الثامن
في الأرداف والتوابع
الأرداف والتوابع: أن يريد المتكلم الدلالة على معنى فيترك اللفظ الدالّ عليه، الخاص به، ويأتي بلفظ هو ردفه وتابعٌ له، فيجعله عبارة عن المعنى الذي أراده، وذلك مثل قول الله تعالى: " فيهنَّ قاصراتُ الطّرفِ " ، وقصور الطرف في الأصل موضوعة للعفاف على جهة التوابع والأرداف، وذلك أن المرأة إذا عفّت قصرت طرفها على زوجها، فكان قصور الطرف ردفا للعفاف، والعفاف ردف وتابع لقصور الطرف.وكذلك قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياةٌ " ، وذلك أنّ الناس يتكافّون عن الحرب من أجل القصاص فيحيون فكأن حياتهم ردف للقصاص الذي يتكافّون عن القتل من أجله، ونحوه قول الشاعر:
وفي العتاب حياة بينَ أقوامِ
ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الفرع، فقال: حق، وإن تتركه حتى يكون ابن مخاض أو ابن لبون خير من أن تكفئ إناءك، وتولّه ناقتك، وتدعه يلصق لحمه بوبره.
الفرع: أول شيء تنتجه الناقة، وكانوا يذبحونه لله عز وجل. فقال: هو حق، إلا أنه ينبغي أن يترك حتى يكون ابن مخاض أو ابن لبون فيصير للحمه طعم، وقال هو خير من أن تكفئ إناءك " فهذه من الإرداف أراد أنك إذا ذبحته حين تضعه أمّه بقيت الأم بلا ولد ترضعه فانقطع لبنها، فردف ذلك أن يخلو إناؤك من اللبن، فكأنك قد كفأته. ومثله قول امرئ القيس:
وأفلهنّ علباءٌ جريضا ... ولو أدركنهُ صفر الوطابُ
أي لو أدركنه يعني الخيل قتلنه، واستقن إبله فصفرت وطابه، ومن ذلك قول الأعشى:
ربَّ رفدٍ هرقنُه ذلك اليو ... م وأسرَى من معشر أقيالٍ
الرّفد: القدح العظيم الضخم، يقول: استقت الإبل فخلا الرّفد، فكأنك قد هرقته.
ومن الأرداف قول المرأة لمن سألته: أشكو إليك قلة الجرذان، وذلك أن قلّة جرذان البيت ردف لعدم خيره، ويقولون: فلان عظيم الرماد، يريدون أنه كثير الإطعام للأضياف، لأن كثرة الإطعام يردف كثرة الطبخ، ومن المنظوم قول التغلبيّ:
وكل أناسٍ قاربوا قيدَ فحلهمْ ... ونحنُ خلعنا قيدهُ فهو ساربُ
أراد أن يذكر عزّ قومه، فذكر تسريح الفحل في المرعى، والتوسيع له فيه، لأن هذه الحال تابعة للعزّة رادفة للمنعة، وذلك أن الأعداء لعزهم لا يقدمون عليهم فيحتاجون إلى تقييد فحلهم، مخافة أن يساق فيتبعه السّرح، ومن ذلك قول الآخر:
ومهما فيّ من عيبٍ فإني ... جبان الكلب مهزولُ الفصيل
يعني أن كلبه يضرب إذا نبح على الأضياف، فيدرف ذلك جبنه عن نبحهم، وأن اللبن الذي يسمن به الفصيل يجعل للأضياف فيردف ذلك هزال الفصيل.
وقول الآخر:
وكل أناسٍ سوف تدخلُ بينهُمْ ... دويهيةٌ تصفرُّ منها الأناملُ
يعني الموت، فعبر عنه باصفرار الأنامل، لأنها تصفر من الميت، فكان اصفرارُها ردف، وقول امرئ القيس:
وتضحى فتيت المسك فوق فراشِها ... نئوم الضحا لم تنتطق عن تفضلِ
أراد أنها مكفّية، ونئومة الضحا وترك الانتطاق للخدمة يردفان الكافية، فعبر بهما عنها وأراد أنها من أهل الترفّه والنعمة فتستعمل المسك الكثير فينتثر في فراشها، وهذه الحال لتردف الترف والنعمة، وقول عمر بن أبي ربيعة:
بعيدة مهوى القرطِ أما لنوفل ... أبوها وأما عبدُ شمس وهاشم
فأراد أن يصف طول عنقها فأتى بما دلّ عليه من طول مهوى القرط، وبعد مهوى القرط ردف لطول العنق. وقول الخنساء:
ومخرَّقٍ عنه القيمص تخالهُ ... بين البيوتِ من الحياءِ سقيما
أرادتْ وصفَه بالجود فجلعته مخرّق القميص، لأن العفاة يجذبونه، فتمزيق قميصه ردف لجوده. وقول الشاعر:
طويلُ نجادِ السيف لا متضائل ... ولا رهلٌ لبَّاتهُ وبآدله
أراد وصفه بطول القامة، فذكر طول نجاده، لأن طوله ردف لطول القامة. وقد أدخل بعض من صنّف في هذا أمثلة باب الأرداف في باب المماثلة، وأمثلة باب المماثلة في باب الأرداف، فأفسد البابين جميعاً، فلخصت ذلك وميزّته وجعلت كلاًّ في موضعه، وفيه دقّة وإشكال.
الفصل التاسع
في المماثلة
المماثلة: أن يريد المتكلم العبارة عن معنى، فيأتي بلفظة تكون موضوعة لمعنى آخر، إلا أنه ينبئ إذا أورده عن المعنى الذي أراده، كقولهم: فلان نقى الثوب، يريدون به أنه لا عيب فيه. وليس موضوع نقاء الثوب البراء من العيوب، وإنما استعمل فيه تمثيلاً. وقول امرئ القيس:ثيابٌ بني عوف طهارى نقيةٌ ... وأوجههم عند المشاهد غرَّانُ
وكذلك قولهم: فلان طاهر الجيب، يريدون أنه ليس بخائن ولا غادر.
وقولهم: فلان طيب الحجرة، أي عفيف. قال النابغة:
رقاقُ النعال طيبٌ حجزاتهمْ ... يحيّونَ بالريحان يومَ السباسبِ
وقال الأصمعي: إذا قالت العرب: الثوب والإزار، فإنهم يريدون البدن، وأنشد:
ألا أبلغْ أبا حفصٍ رسولا ... فدىً لك من أخي ثقةٍ إزارِي
وقالوا في قول ليلى:
رموها بأثواب خفافٍ فلا ترى ... لها شبهاً إلا النعام المنفَّرا
أرى رموها بأجسامهم وهي خفاف عليها. ووضع الثوب موضعاً آخر في قول الشاعر:
فتلكَ ثيابُ إبراهيم فينا ... بواقٍ ما دنسنَ ولا بلينا
ويقولون: فلان أوسع بني أبيه ثوبا، أي أكثرهم معروفاً، وفلان غمر الرداء، إذا كان كثير المعروف، قال كثير:
غمرُ الرداء إذا تبسمَ ضاحكا ... علقتْ لضحكته رقابُ المال
وكذلك قولهم: فلان رحب الذراع، وفلان دنس الثوب، إذا كان غادراً فاجراً، قال الشاعر:
ولكنني أنفى عن الذم والدي ... وبعضهم للذم في ثوبِهِ دسمُ
ويقولن: دم فلان في ثوب فلان، أي هو صاحبه. قال أبو ذؤيب:
تبرَّأ من دمّ القتيل وبزّه ... وقد علقتْ دمَّ القتيل إزارُها
هذيل تؤنث الإزار، أي علّقت دم القتيل هي، ورواه أبو عمرو الشيباني وبزّه، بالرفع، أيوبزه إزارها وقد علقت دمه، ويقولون للفرس: إنه لطرب العنان، وللبعير: قد سفه جديله، والجديل: الزمام. وقال ذو الرمة:
وأشقر موشيّ القميص نصبتُه ... على خضر مقلات سفيه جديلها
وفي القرآن: " كالّتي نقضت غزلها من بعدِ قوّةٍ أنكاثاً " ، فمّثل العمل ثم إحباطه بالنّقض بعد الفتل.
وكذلك قوله تعالى: " ولا تتّخدوا أيمانكم دخلاً بينكم فتزلَّ قدمٌ بعد ثبوتها " .
وقوله عز وجل: " هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ " .
وقوله سبحانه: " ولا تجعل يدك مغلولةً غل عنقكَ ولا تبسطهَا كلَّ البسطِ " فمّثل البخيل الممتنع من البذل بالمغلول، لمعنى يجمعها، وهو أنّ البخيل لا يمدّ يده بالعطية فشبّهه بالمغلول. ويقولون: عركت هذه الكلمة بجنبي، إذا أغضيت عنها، وفلان قد طوى كشحه عن فلان، إذا ترك مودّته وصحبته. ويقولون: كبا زند العدوّ، وصلف زنده، وأفل نجمُه، وذهبت ريحه، وأطفئت جمرته، وأخلف نوؤه، وأخلقت جدّته، وانكسرت شوكته، وكلّ حدّه، وانقطع بطانُه، وتضعضع ركنه، وضعف عقده، وذلت عضده، وفتّ في عضده، ورق جانبه، ولانتْ عريكته، يقال ذلك فيه إذا ولّى أمره، تمثيلاً وتشبيها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إياكم وخضراء الدمن " ، أراد المرأة الحسناء في منبت السوء، فأتى بغير اللفظ الموضوع لها تمثيلا. وقال بعضهم: كنا في رفقة فضللنا الطريق، فاسترشدنا عجوزاً فقالت: استبطن الوادي، وكن سيلا حتى تبلغ.
وكتب أحمد بن يوسف إلى عبد الله بن طاهر عن المأمون بعزله عن ديار مصر، وتسليم العمل إلى إسحاق بن إبراهيم: أما بعد فإن أمير المؤمنين قد رأى تولية إسحاق بن إبراهيم ما تتولاه من أعمال المعاون بديار مصر، وإنما هو عملك نقل منك إليك. فسلمه من يدك إلى يدك والسلام. واغتاب رجل رجلاً عند سلم بن قتيبة، فقال له سلم: اسكت، فوالله لقد تلمّظت مضغة طالما لفظها الكرام.
ومن المنظوم قول طرفة:
أبينى، أفي يمني يديكِ جعلتٍني ... فأفرحَ أم صيّرتني في شمالك
أي أبيني منزلتي عندك أوضيعة هي أم رفيعة، فذكر اليمين وجعلها بدلا من الرفعة، والشمال وجعلها عوضاً من الضّعة. وأخذه الرّماح بن ميّادة، فقال:
ألم تكُ في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلنِّ بعدها في شمالكا
ولو أنّني أذنبتُ ما كنتُ هالكاً ... على خصلةٍ من صالحات خصالكا
وقال آخر:
تركتُ الرّكابَ لأربابِها ... وأكرهتُ نفسي على ابن الصّعقْ
جعلت يدي وشاحاً له ... وبعض الفوارس لا تعتنق
فقوله: جعلت يدي وشاحاً تمثيل. وقول زهير:
ومن يعصِ أطرافَ الزجاجِ فإنه ... يطيع العوالي ركبتْ كل لهذمِ
أراد أن يقول: من أبي الصلح رضى بالحرب، فعدل عن لفظه، وأتى بالتمثيل، فجعل الزّج للصلح، لأنه مستقبل في الصلح، والسنان للحرب لأن الحرب به يكون، وهذا مثل قولهم: من عصى الصوت أطاع السيف، ومنه قول امرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناك إلاَّ لتضربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مقتلِ
فقال: بسهميك، وأراد العينين. وقال العباس بن مرداس:
كانوا أمامَ المؤمنين دريّةً ... والشمس يومئذٍ عليهم أشمسُ
أراد تلألؤ البيض في الشمس، فكأن على كل رأس شمساً، وقال قدامة: من أمثلة هذا الباب قول الشاعر:
أوردتهُمْ وصدورُ العيس مسنفةٌ ... والصّبح بالكوكب الدُّريّ منحور
وقال: قد أشار إلى الفجر إشارة إلى طريقه بغير لفظه. وليس في هذا البيت إشارة إلى الفجر، بل قد صرّح بذكر الصبح، وقال: هو منحور بالكوكب، أي صار في نحره، ووضعُ هذا البيت في باب الاستعارة أولى منه في باب المماثلة.
ومما عيب من هذا الباب قول أبي تمام:
أنتَ دلوٌ وذو السَّماح أبو ... موسى قليبٌ وأنت دلوُ القليبِ
أيها الدّلو لا عدمُتك دلواً ... من جياد الدِّلاءِ صلب الصّلِيبِ
الفصل العاشر
في الغلو
الغلو تجاوز حد المعنى والارتفاع فيه إلى غاية لا يكاد يبلغها، كقول الله تعالى: " وبلغت القلوب الحناجرَ " . وقال تأبط شرا:ويومٍ كيومِ العيكتينِ وعطفةٍ ... عطفت وقد مسّ القلوبَ الحناجر
وقال الله تعالى: " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " ، بمعنى لتكاد تزول منه. ويقال إنها في مصحف ابن مسعود مثبتة، وقد جاءت في القرآن مثبتة وغير مثبتة. قال الله تعالى: " وإن يكادُ الَّذينَ كفروا ليزلقونكَ بأبصارِهم " .
وقال الشاعر:
يتقارضونَ إذا التقوا في موطنِ ... نظراً يزيلُ مواطئ الأقدامِ
وكاد إنما هي للمقاربة، وهي أيضاً مع إثباتها توسع، لأن القلوب لا تقارب البلوغ إلى الحناجر وأصحابها أحياء.
وقوله تعالى: " ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجملُ في سمّ الخياط " ، وهذا إنما هو على البعيد، ومعناه لا يدخل الجمل في سمّ الخياط ولا يدخل هؤلاء الجنة.
ومثله قول الشاعر:
إذا زال عنكم أسودُ العينِ كنتمُ ... كراماً وأنتم ما أقام ألائمُ
وقول الآخر:
فرجِّى الخير وانتظرِي إيابي ... إذا ما القارظُ العنزيُّ آبا
وقال النابغة:
فإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبتً أو شابَ الغرابَ
ومثال الغلو من النثر قول امرأة من العجم كانت لا تظهر إذا طلعت الشمس فقيل لها في ذلك، فقالت: أخاف أن تكسفني. وقال أعرابي: لنا تمرة فطساء جرداء، تضع التمرة في فيك، فتجد حلاوتها في كعبك. وقيل لأعرابيّ: ما حضر فرسك؟ قال يحضر ما وجد أرضا. ووصف أعرابي فرسه، فقال: إن الوابل ليصيب عجزه، فلا يبلغ إلى معرفته حتى أبلغ حاجتي. وذمّ أعرابي رجلاً، فقال: يكاد يعدى لؤمُه من تسمّى باسمه.
وكتب بعضهم يصف رجلاً، فقال: أما بعد، فإنك قد كتبت تسأل عن فلان، كأنك قد هممت بالقدوم عليه، أو حدَّثت نفسك بالوفود إليه، فلا تفعل، فإنّ حسن الظن به لا يقع إلا بخذلان الله تعالى، وإنّ الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا بسوء التوكل على الله تعالى، والرجاء لما في يديه لا ينبغي إلا بعد اليأس من رحمة الله تعالى، لا يرى إلا أن الإقتار الذي نهى الله عنه هو التبذير الذي يعاقب عليه، والاقتصاد الذي أمر به هو الإسراف الذي يغضب منه، وأن الصنيعة مرفوعة، والصلة موضوعة، والهمة مكروهة، والثقة منسوخة، والتوسع ضلالة، والجود فسوق، والسخاء من همزات الشياطين، وأن مواساة الرجل أخاه من الذنوب على نفسه، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، ومن آثر على نفسه فقد ضل ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبينا، كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية الذين قطع الله دابرهم، ومحا معالمهم، ونهى المسلمين عن اتباع آثارهم وحظر عليهم أن يختاروا مثل اختيارهم، يظنُّ أن الرّجفة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء كان فيهم، ولم تهلك عاداً بالريح العقيم إلا لتوسّع كان فيهم، فهو يخشى العقاب على الإنفاق، ويرجو الثواب على الإمساك، ويعذر نفسه في العقوق، ويلوى ما له عن الحقوق، خيفة أن ينزل به قوارع العالمين. ويأمرها بالبخل خشية أن يصيبه ما أصلب القرون الأولين، فأقم رحمك الله على مكانك، واصطبر على عسرتك، عسى الله أن يبدّلنا وإياك خيراً منه زكاةً وأقرب رحما.
وقال سكينة بنت الحسين رضى الله عنهما وقد أثقلت ابنتها بالدر: ما ألبستُها إياه إلا تلفضحه، ونحوه قول الشاعر:
جارية أطيبُ من طيبها ... والطيّب فيه المسك والعنبر
ووجهها أحسن من حليها ... والحلي فيه الدرُّ والجوهر
وقال ابن مطير:
مخصَّرةُ الأوساطِ زانتْ عقودَها ... بأحسنَ مما زينتْها عقودُها
وقيل لأعرابي: فلان يدّعي الفضل على فلان، فقال: والله لئن كان أطول من مسيره ما بلغ فضله، ولو وقع في ضحضاح معروفه غرق. وقال أعرابي: الناس يأكلون أماناتهم لقما، وفلان يحسوها حسواً، ولو نازعت فيه الخنازير لقضى به لها لقرب شبهه منها، وما ميراثه عن آدم إلا أنه سمى آدميا. وذكر أعرابي رجلا، فقال: كيف يدرك بثاره وفي صدره حشو مرفقة من البلغم، وهو المرء لو دقّ بوجهه الحجارة لرضّها، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا الصولي، قال: حدثنا الحسن بن الحسين الأزدي قال: حدثنا ابن أبي السرى، عن رزين العروضي، قال: لقيت أبا الحرث جميزاً ومعه غلام لمحمد بن يحيى البرمكي متعلق به، فقلت له: ما لهذا متعلق بك؟ فقال: لأني دخلت أمس على مولاه وبين يديه خوان من نصف خشخاشة، فتنفست فطار الخوان في أنفي فهذا يستعدى عليّ، فقلت له: أما تستحي مما تقول؟ فقال: الطلاق له لازم لو أن عصفوراً نقر حبّة من طعام بيدره ما رضى حتى يؤتى بالعصفور مشوياً بين رغيفين، والرغيفان من عند العصفور قلت: قبحك الله ما أعظم تعدّيك فقال: عليّ المشيُ إلى بيت الله الحرام إن لم يكن صعود السماء على سلم من زبد حتى يأخذ بنات نعش أيسر عليه من أن يطعمك رغيفاً في اليوم.
ومن المنظوم قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دبّ محولٌ ... من الذّرِّ فوق الإتب منها لأثَّرا
وقول الأعشى:
فتىً لو ينادي الشمس ألقت قناعها ... أو القمرَ الساري لألقي المقالِدا
ينادي: أي يجالس، وقول أبي الطمحان:
أضاءتْ لهم أحسابهم ووجوههمْ ... دجَى الليل حتى نظَّم الجزعَ ثاقبه
ومثله:
وجوهٌ لو أن المدلجينَ اعتشوا بها ... صدعنَ الدجى حتى ترى الليلَ ينجلِي
وقول الآخر:
من البيض الوجوه بني سنان ... لو أنك تستضئ بهم أضاءوا
وقول النابغة الجعدي:
بلغنا السماءَ مجدُنا وسناؤنا ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وقول النّمري
تظلّ تحفرُ عنه إن ضربتَ به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقول الطّرماح:
تميمٌ بطرق اللؤم أهدى من القطَا ... ولو سلكت سبلَ المكارم ضلت
ولو أنّ برغوثاً على ظهرِ قملةٍ ... يكرُّ على صفّي تميم لولّتِ
ولو أنّ أم العنكبوتِ بنتْ لها ... مظلّتها يوم الندى لاستظلتِ
ولو جمعتْ يوماً تميمٌ جموعَها ... على ذرَّةٍ معقولة لاستقلتِ
ولو أن يربوعاً يزفَّقُ مسكه ... إذنْ نهلتْ منه تميم وعلَّتِ
يزقق: أي يجعل منه زقاقا.
وقال الآخر:
وتبكى السمواتُ إذا ما دعا ... وتستغيثُ الأرض من سجدَته
لما اشتهى يوماً لحومَ القطا ... صرَّعها في الجوّ من نكهته
ومثله في الإفراط قول الخثعمي:
يدلى يديه إلى القليب فيستقى ... في سرجه بدل الرشاء المحصد
وكما أفرطوا في صفة الطّول كذلك أفرطوا في صفة القصر، قال بعضهم:
فأقسم لو خرّتْ من استكَ بيضةٌ ... لما انكسرتْ من قريب بعضك من بعضِ
وقال آخر في صفة كثير عزة وكان قصيرا:
قصيرُ القميص فاحش عند بيتِه ... يعضُّ القراد باسته وهو قائمُ
وقال بعض المحدثين:
وقصيرٌ لا تعملُ الشْ ... شمسُ طلاًّ لقامتِه
يعثرُ الناس في الطري ... قُ به من دمامته
وقال أبو عثمان الناجم:
ألا يا بيدقَ الشطرَن ... جِ في القيمة والقامة
وقال أبو نواس يصف قدرا:
يغصّ بحيزوم الجرادة صدرُها ... وينضج ما فيها بعود خلال
وتغلى بذكرِ النار من غير حرّها ... وتنزلها عفواً بغير جعال
هي القدر قدر الشيخ بكر بن وائل ... ربيع اليتامى عام كل هزالِ
وقال آخر في خلاف ذلك:
بقدر كأنّ الليل شحمة قعرها ... ترى الفيل فيها طافياً لم يقّطع
ومن الإفراط قول المؤمل:
من رأى مثل حبّتي ... تشبه البدر إذْ بدا
تدخلُ اليوم ثم تد ... خلُ أرادفها غدا
ومثله قول الآخر:
أتت في البيت وعرن ... يتك في في الدار يطوف
ومثله قول الآخر:
لقد مرّ عبد الله في السوقِ راكبا ... له حاجة من أنفه ومطَّرَقُ
وعنَّت له في جانب السوق مخطةٌ ... توهمتُ أن السوقَ منها سيغرق
فأقذر به أنفا وأقذر بربِّه ... على وجهه منه كنيفٌ معلّقُ
ومثله في الإفراط قول آخر في إمام بطئ القراءة:
إنْ قرأَ العاديات في رجبٍ ... لم تفنَ آياتها إلى رجبِ
بل هو لا يستطيع في سنةٍ ... بختم تبت يدا أبي لهب
وقال ابن مقبل:
يقلقل من ضغم اللجام لهاتَه ... تقلقل عودِ المرخ في الجعبة الصِّفرِ
وقال إبراهيم بن العباس:
يا أخا لم أر في الدهر خلاًّ ... مثله أسرعَ هجرٍ ووصلا
كنت لي في صدر يومي صديقا ... فعلَى عهدك أمسيتَ أم لا
وقال ابن الرومي:
يا ثقيلاً على القلوب خفيفاً ... في الموازين دون وزن النَّقير
طر مخيفا أو قع مقيتاً فطو ... راً كسفاةٍ وتارةً كثبير
وقبول النفوس إياك عندي ... آية فيك للّطيف الخبيرِ
إن قوماً أصبحت تنفق فيهم ... لعلَى غايةٍ من التسخير
ومن الناس من يكره الإفراط الشديد ويعيبه، وإذا تحرز المبالغ واستظهر فأورد شرطا، أو جاء بكاد وما يجرى مجراها يسلم من العيب، وذلك مثل قول الأول:
لو كنتَ من شيءٍ سوى بشرٍ ... كنت المنوّر ليلة البدرِ
وقول العرجي:
لو كان حيّاً قبلهنّ ظعائناً ... حيا الحطيمُ وجوههنّ وزمزمُ
وقول الأسدي:
فلو قاتل الموت امرؤ عن حميمِه ... لقاتلت جهدي سكرةَ الموت عن معنِ
فتىً لا يقول الموت من وقعةٍ به ... لك ابنك خذه ليس من حاجتي دعني
وقول الآخر:
لو كان يخفَى على الرَّحمنِ خافيةٌ ... من خلقِه خفيت عنهُ بنو أسدِ
قوم أقامَ بدارِ الذلّ أو لهمْ ... كما أقامت عليه جذمة الوتدِ
وقول البحتري:
ولو أن مشتاقاً تكلَّف غيرما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
ومن عيوب هذا الباب أن يخرج فيه إلى المحال، ويشوبه بسوء الاستعارة، وقبيح العبارة، كقول أبي نواس في الخمر:
توهمتُها في كأسها فكأنما ... توهمت شيئاً ليس يدرَكُ بالعقلِ
وصفراءَ أبقَى الدهرُ مكنونَ رُوحها ... وقد ماتَ من مخبورها جوهر الكل
فما يرتقى التكييف منها إلى مدى ... تحدّ به إلاّ ومن قبله قبل
فجعلها لا تدرك بالعقل وجعلها لا أول لها، وقوله: جوهر الكل والتكييف في غاية التكلف، ونهاية التعسف. ومثل هذا من الكلام مردود، لا يشتغل بالاحتجاج عنه له، والتحسين لأمره، وهو بترك التداول أولى، إلا على وجه التعجب منه ومن قائله. ومن الغلو الغث قول المتنبي:
فتىً ألف جزءٍ رأيهُ في زمانه ... أقلّ جزء بعضه الرأي أجمع
وقوله:
تتقاصرُ الأفهامُ عن إدراكه ... مثل الذي الأفلاك فيه والدّنا
سئل عمل فيه الأفلاك والدنا، فقال: علم الله، ونيته لا تدل عليه، فأفرط وعمّى، وجمع دنيا على قول أهل الأدوار والتناسخ.
الفصل الحادي عشر
في المبالغة
المبالغة أن تبلغ أقصى غاياته، وأبعد نهاياته، ولا تقتصر في العبارة عن على أدنى منازله وأقرب مراتبه، ومثاله من القرآن قول الله تعالى: " يوم تذهل كل مرضعةٍ عمّا أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى النّاس سكارَى وما هم بسكارَى " . ولو قال: تذهل كل امرأة عن ولدها لكان بيانا حسناً وبلاغة كاملة، وإنما خص المرضعة للمبالغة، لأن المرضعة أشفق على ولدها لمعرفتها بحاجته إليها، وأشغف به لقربه منها ولزومها له، لا يفارقها ليلاً ولا نهارا، وعلى حسب القرب تكون المحبة والإلف، ولهذا قال امرؤ القيس:فمثلك قبلى قد طرقتُ ومرضع ... فألهيتُها عن ذي تمائمَ محولِ
لما أراد المبالغة في وصف محبّة المرأة له، قال: إني ألهيتها عن ولدها الذي ترضعه لمعرفته بشغفها به، وشفقتها عليه في حال إرضاعها إياه.
وقول تعالى: " كسراب بقيعة يحسبُهُ الظّمآن ماءً " . لو قال يحسبه الرائي لكان جيدا، ولكن لما أراد المبالغة ذكر الظمآن، لأن حاجته إلى الماء أشد، وهو على الماء أحرص، وقد ذكرناه قبل. ومثل ذلك قول دريد بن الصّمة:
متَى ما تدعُ قومك أدعُ قومِي ... وحولي من بني جشم فئامُ
فوارس بهمة حشدٌ إذا ما ... بدا حضر الحييّة والحذامُ
فالمبالغة الشديدة في قوله: الحيية. ومن المبالغة نوع آخر، وهو أن يذكر المتكلم حالاً لو وقف عليها أجزأته في غرضه منها، فيجاوز ذلك حتى يزيد في المعنى زيادة تؤكده، ويلحق به لاحقة تؤيده. كقول عمير بن الأهتم التغلبي:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا
فإكرامهم الجار ما دام فيهم مكرمة، وإتباعهم إياه الكرامة حيث مال من المبالغة. وقول الحكم الخضري:
وأقبحُ من قردٍ وأبخل بالقِرى ... من الكلب أمسى وهو غرثانُ أعجفُ
فالكلب بخيل على ما ظفر به، وهو أشد بخلاً إذا كان جائعاً أعجف. ومن ها هنا أخذ حماد عجرد قوله في بشار:
ويا أقبح من قردٍ ... إذا ما عمىَ القردُ
وقول رواس بن تميم:
وإنّا لنعطي النّصف منّا وإننا ... لنأخذه من كل أبلخ ظالم
المبالغة في قوله أبلخ.
وقول أوس بن غلفاء الهجيمي:
وهم تركوك أسلحَ من حبارَى ... رأت صقراً، وأشردَ من نعام
فقوله: رأيت صفرا من المبالغة.
وكتبت في فصل إلى بعض أهل الأدب: قربك أحبُّ إلىّ من الحياة في ظل اليسر والسعة، ومن طول البقاء في كنف الخفض والدّعة، ومن إقبال الحبيب مع إدبار الرقيب، ومن شمول الخصب بعد عموم الجدب، وأقرّ لعيني من الظّفر بالبغية بعد إشرافي على الخيبة، وأسرّ لنفسي من الأمن بعد الخوف، والإنصاف بعد الحيف. وأسأل الله أن يطيل بقاءك، ويديم نعماءك، ويرزقني عدلك ووفاءك، ويكفيني نبوّك وجفاءك.
فقولي: " الحياة في ظل اليسر والسعة " . و " البقاء في كنف الخفض والدعة " .
وقولي: " إقبال الحبيب مع إدبار الرقيب " وقولي: " الخصب بعد عموم الجدب " ، وما بعده إلى آخر الفصول مبالغات.
ومن عيوب هذا الباب قول بعض المتأخرين:
فلا غيضتْ بحارُك يا جموماً ... على عللَ الغرائب والدّخالِ
أراد أن يقول: إنك كثيرُ الجود على كثرة سؤالك فلا نقصت، فعبر عنه بهذه العبارة الغثّة، والجموم: البئر الكثيرة الماء، وقوله:
ليس قولي في شمس فعلك كالشم ... س ولكنْ في الشّمس كالإشراقِي
على أن حقيقة معنى هذا البيت لا يوقف عليها.
ومن ردئ المبالغة قول أبي تمام:
ما زال يهذى بالمكارم والعلا ... حتى ظننَّا أنه محمومُ
أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللّهج بذكر الجود، فقال: ما زال يهذي فجاء بلفظ مذموم، والجيد في معناه قول الآخر:
ما كان يعطِي مثلها في مثله ... إلا كريمُ الخيم أو مجنونُ
قسم قسمين: ممدوحاً ومذموما، ليخرج الممدوح من المذموم إلى الممدوح المحمود.
ومن جيد المبالغة قول عمرو بن حاتم:
خليليّ أمسى حبُّ خرقاء قاتِلي ... ففي الحبِّ مني وقدةٌ وصدوعُ
ولو جاورتنا العام خرقاء لم نبلْ ... على جدبنا ألاَّ يصوبَ ربيعُ
قوله: على جدبنا مبالغة جيدة.
الفصل الثاني عشر
في الكتابة والتعريض
وهو أن يكنى عن الشيء ويعرّض به ولا يصرح، على حسب ما عملوا باللّحن والتّورية عن الشيء. كما فعل العنبري إذ بعث إلى قومه بصرّة شوك وصرّة رمل وحنظلة، يريد: جاءتكم بنو حنظلة في عدد كثير ككثرة الرمل والشوك.وفي كتاب الله تعالى عز وجل: " أو جاء أحدٌ منكم من الغائط أو مستم النساء " ، فالغائط كناية عن الحاجة، وملامسة النساء كناية عن الجماع.
وقوله تعالى: " وفرش مرفوعة " كناية عن النساء.
ومن مليح ما جاء في هذا الباب قول أبي العيناء، وقيل له: ما تقول في ابني وهب؟ قال: " وما يستوي البحران هذا عذبٌ فراتٌ سائغٌ شرابه وهذا ملحٌ أجاج " سليمان أفضل، قيل: وكيف؟ قال: " أفمن يمشي مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي سويّاً على صراط مستقيم " .
ومن التعريض الجيد ما كتب به عمرو بن مسعدة إلى المأمون: أما بعد، فقد استشفع بي فلان إلى أمير المؤمنين، ليتطوّل عليه في إلحاقه بنظرائه من المرتزقين فيما يرتزقون، فأعلمته أن أمير المؤمنين لم يجعلني في مراتب المستشفع بهم، وفي ابتدائه بذلك تعدّى طاعته والسلام. فوقع في كتابه: قد عرفنا تصريحك له، وتعريضك بنفسك، وأجبناك إليهما، وأوقفناك عليهما.
ومن المنظوم قول بشّار:
وإذا ما التقى ابن نهيا وبكر ... زاد في ذا شبرٌ وفي ذاك شبرْ
أراد أنهما يتبادلان، وقال آخر في ابن حجام:
أبوك أب ما زال للناس موجعا ... لأعناقهم نقراً كما ينقر الصّقرُ
إذا عوّج الكتّاب يوماً سطورهم ... فليس بمعوجّ له أبداً سطرُ
وقال بعض المتقدمين:
وقد جعل الوسميّ ينبت بيننا ... وبين بني دودان نبعاً وشوحطَا
النّبع والشّوحط، كأنه كنّى بهما عن القسى والسهام، ومثله قول الآخر:
وفي البقل ما لم يدفع الله شرّه ... شياطين ينزو بعضهنَّ على بعض
وقول رؤبة:
يا بنَ هشامٍ أهلكَ النّاسَ اللبنْ ... فكلّهم يعدو بقوس وقرنْ
وهذه كتابات عن القتال والوقائع بينهم أيام الربيع، وهو وقت الغزو عندهم.
وكتب كافي الكفاة: إن فلانا طرق بيته وهو الخيف، لا خوف على من دخله، ولا يد على من نزله، فصادف فتياناً يعاطون كريمته الكؤوس تارة، والفؤوس مرة، فمن ذي معول يهدم، ومن ذي مغولٍ يثلم. فبائع الرقيق يكتب من بينهم بالغليظ، فوثبت العفيفة خفيفة ذفيفة، تحكم يمناها في أخادعه، وتتقى بيسراها وقع أصابعه، والحاضرون يحرّضونها على القتال، ويدعونها إلى النزال، والشيخ يناديهم:
تجمعتمُ من كل أوبٍ وبلدة ... على واحد لازلتمُ قرنَ واحد
ثم علم أن الحرب خدعة، ولكل امرئ فرصة، فتلقّاها بالأثافي طلاقاً بتّاً وفراقاً بتلا. وأخذ ينشد:
إني أبيٌّ ذو محافظةٍ ... وابن أبيٍّ أبيِّ من أبيين
ولكن بعد ماذا، بعد ما ضمّوا الخصر، وأموا الحصر، وأدمنوا العصر، وافتتحوا القصر.
وكان ما كان مما لست أذكرُه ... فظنّ شرّاً ولا تسأل عن الخبر
فأكثر هذا الكلام كنايات.
ومما عيب من هذا الباب ما أخبرنا به أبو أحمد، قال: قال أبو الحسن بن طباطبا الأصبهاني يصف غلاماً:
منعّم الجسم يحكى الماء وقتُه ... وقلبه قسوة يحكى أبا أوس
أي قلبه حجر، أراد والد أوس بن حجر، فأبعد التناول. فكتب إليه أبو مسلم قال: وأنشدنيها أبو مسلم، ولم ينسبها إلى نفسه:
أبا حسنٍ حاولت إيرادَ قافيةٍ ... مصلّبة المعنى فجاءتك واهية
وقلت أبا أوس تريد كنايةً ... عن الحجر القاسي فأوردتَ داهية
فإن جاز هذا فاكسرن غير صاغر ... فمى بأبي القرم الهمام معاوية
وإلا أقمنا بيننا لك جدَّهُ ... فتصبح ممنونا بصفّين ثانية
أراد: فاكسرن فمى بصخر، وإلا أقمنا بيننا لك حربا وهو جد معاوية، وقال أبو نواس في جلد عميرة:
إذا أنت أنكحتَ الكريمة كفئها ... فانكِحْ حسيناً راحةً بنتَ ساعدِ
وقلْ بالرّفا ما نلت من وصل حرَّة ... لها راحةٌ حفَّتْ بخمسِ ولائدِ
ومن شنيع الكناية، قول بعض المتأخرين:
إني على شغفي بما في خمرِها ... لأعفُّ عما في سراويلاتِها
وسمعت بعض الشيوخ يقول: الفجور أحسن من عفاف يعبّر عنه بهذا اللفظ. قال: وقريب من ذلك قول الآخر:
وما نلتُ منها محرماً غير أنني ... إذا هي بالتْ بلتُ حيثُ تبُول
الفصل الثالث عشر
في العكس
العكس العكس: أن تعكس الكلام فتجعل في الجزء الأخير منه ما جعلته في الجزء الأول، وبضعهم يسميه التبديل، وهو مثل الله عز وجل: " يخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج الميّتَ من الحيّ " .وقوله تعالى: " ما يفتح اللهُ للنَّاسِ من رحمةٍ فلا ممسك لها وما يمسكْ فلا مرسل له " .
وكقول القائل: اشكر لمن أنعم عليك، وأنعم على من شكرك. وقول الآخر: اللهم أغنن بالفقر إليك، ولا تفقرني بالاستغناء عنك. وقول بعض النساء لولدها: رزقك الله حظاً يخدمك به ذوو العقول، ولا رزقك عقلا تخدم به ذوي الحظوظ. وقال بعضهم لرجل كان يتعهده: أسالُ الله الذي رحمني بك، أن يرحمك بي. وقال بعض القدماء: ما أقلًّ منفعة المعرفة مع غلبة الشهوة وما أكثر قلة المعرفة مع ملك النفس وقال بعضهم: كن من احتيالك على عدوك، أخوف من احتيال عدوك عليك. وقال آخر: ليس معي من فضيلة العلم إلا أني أعلم أني لا أعلم وفي معناه قول الشاعر:
جهلت ولم تعلم بأنك جاهلٌ ... فمن لي بأن تدري بأنَّكَ لا تدري
وعزّي رجل أخاه على ولد، فقال: عوّضك الله منه ما عوّضه منك يعني الجنّة. وقال بعضهم: إني أكره للرّجل أن يكون مقدار لسانه فاضلاً عن مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا عن مقدار لسانه. وقال عمر بن الخطاب رضوان الله عنه: إذا أنا لم أعلم ما لم أر فلا علمت ما رأيت. وقيل للحسن بن سهل وكان يكثر العطاء: ليس في السّرف خير، فقال: ليس في الخير سرف. فعكس اللفظ واستوفى المعنى.
وقال بعضهم: كان الناس ورقاً لا شوك فيه، فصاروا شوكاً لا ورق فيه.
ومثاله من المنظوم قول عدي بن الرقاع:
ولقد ثنيتُ يدَ الفتاة وسادةً ... لي جاعلاً إحدى يديّ وسادَها
وقال بعض المحدثين:
لساني كتوم لأسراركم ... ودمعي نمُوم لسرى مذيعُ
فلولا دموعي كتمتُ الهوى ... ولولا الهوى لم تكن لي دموعُ
وقال آخر:
تلك الثنايا من عقدها نظمت ... أو نظّمَ العقد من ثناياها
والعكس أيضاً م وجه آخر، وهو أن يذكر المعنى ثم يعكسه إيراد خلاف، كقول الصاحب: وتسمى شمس المعالي وهو كسوفها
الفصل الرابع عشر
في التذييل
وللتذييل في الكلام موقع جليل، ومكان شريف خطير، لأن المعنى يزداد به انشراحا والمقصد اتضاحا. وقال بعض البلغاء: للبلاغة ثلاثة مواضع، الإشارة، والتذييل، والمساواة. وقد شرحنا الإشارة والمساواة فيما تقدم، فأما التذييل فهو إعادة الألفاظ المترادفة على المعنى بعينه، حتى يظهر لمن لم يفهمه، ويتوكد عند من فهمه، وهو ضدّ الإشارة والتعرض، وينبغي أن يستعمل في المواطن الجامعة، والمواقف الحافلة، لأن تلك المواطن تجمع البطئ الفهم، والبعيد الذهن، والثاقب القريحة، والجيد الخاطر، فإذا تكررت الألفاظ على المعنى الواحد توكد عند الذهن اللّقن، وصح للكليل البليد.ومثاله من القرآن قول الله عز وجل: " ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلاَّ الكفور " ، ومعناه وهل يجازى بمثل هذا الجزاء إلا الكفور.
وقوله تعالى: " وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلد أفإن متَّ فهم الخالدون " . و " إن كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ " جميعاً تذييل.
ومثاله من النثر قول بعضهم: قبول السّعاية شر من السعاية، لأنَّ السعاية إخبار ودلالة، والقبول إنفاذ وإجازة، وهل الدّال المخبر، مثل المجيز المنفذ، فإذا كان كذلك فالحزم أن يمقت الساعي على سعايته إن كان صادقاً للؤمه في هتك العورة، وإضاعة الحرمة، وأن يجمع له إلى المقت العقوبة إن كان كاذبا، لجمعه على إضاعة الحرمة، وهتك العورة ومبارزة الرحمن بقول الزور واختلاق البهتان. فقوله: " وهل الدال المخبر مثل المجيز المنفذ " تذييل ما تقدم من الكلام.
وكتب رجل إلى أخ له: أما بعد، فقد أصبح لنا من فضل الله تعالى ما لا نحصيه، ولسنا نستحي من كثرة ما نعصيه، وقد أعيانا شكره، وأعجزنا حمده، فما ندري ما نشكر: أجميل ما نشر، أم قبيح ما ستر، أم عظيم ما أبلى، أم كثير ما عفا، فاستزد الله من حسن بلائه بشكره على جميع آلائه. فقوله: فما ندري ما نشكر تذييل لقوله قد أعيانا شكره.
وكتب سليمان بن وهب لبعضهم: بلغني حسن محضرك، فغير بديع من فضلك، ولا غريب عندي من برّك، بل قليل اتّصل بكثير، وصغير لحق بكبير، حتى اجتمع في قلب قد وطّن لموتك، وعنق قد ذلّلت لطاعتك، ونفس قد طبعت على مرضاتك، وليس أكثر سؤلها، وأعظم إربها، إلا طول مدتك، وبقاء نعمتك، قوله: فغير بديع من فضلك ولا غريب عندي من برك تذييل لقوله: بل قليل اتصل بكثير، وصغير لحق بكبير " فأكد ما تقدم.
ومن المنظوم قول الحطيئة:
قوم هم الأنفُ والأذنابُ غيرُهم ... ومن يقيس بأنف الناقة الدنيا
فاستوفى المعنى في النّصف الأول، وذيّل بالنصف الثاني.
وقول الآخر:
فدعوا نزالِ فكنتُ أولَ نازل ... وعلامَ أركبُه إذا لم أنزلِ
وقول طرفة:
لعمرُك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطّول المرخَى وثنياه باليد
فالنصف الآخر تشبيه وتذييل.
وقول أبي نواس:
عرم الزمان على الذين عهدتهم ... بك قاطنين وللزمن عرام
قوله: " وللزمان عرام " تذييل.
الفصل الخامس عشر
في الترصيع
وهو أن يكون حشو البيت مسجوعا، وأصله من قولهم: رصّعت العقد، إذا فصّلته. ومثاله قول امرئ القيس:سليمُ الشَّظى عبلُ الشّوَى شنج النَّسا ... له حجبات مشرفاتٌ على الفال
وقوله:
وأوتاده ماذيّة وعمادُه ... ردينية فيها أسنَّةُ قعضبِ
وقوله:
فتور القيام قطيع الكلا ... مِ تفترُّ عن ذي غروبٍ خصر
وضرب منه قوله:
مخشّ مجشٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً ... كتيس ظباء الحلّب العدوان
وضرب منه، قوله في صفة الكلب:
ألصّ الضّروس حبيُّ الضُّلوع ... تبوعٌ طلوبٌ نشيطٌ أشرْ
فقوله: الضّروس مع الضلوع، سجع، وإن لم يكن القاطع على حرف واحد، وقد أحكمنا هذا في السجع والازدواج.
وقال زهير:
كبداء مقبلةً عجزاء مدبرةً ... قوداء فيها إذا استعرضتَها خضعُ
وقال أوس:
جشّاً حناجِرها علما مشافِرُها ... تستنّ أولادها في قرقرٍ ضاحي
وقال طرفة:
بطئ عن الجلَّى سريع إلى الخَنا ... ذلولٍ بأجماع الرجال ملهَّدِ
وقال النمري:
من صوب ساريةٍ علَّتْ بغادية ... تنهلُّ حتى يكاد الصبح ينجاب
وقال تأبط شراً:
بل منْ لعذَّالةٍ خذّالةٍ أشبٍ ... حرّقت باللّوم جلدي أي تحراقِ
وقال أيضاً:
حمال ألوية شهد أنديهٍ ... هبَّاط أوديةٍ جوّال آفاقِ
وقال النمر:
طويل الذِّراع قصير الكرَاع ... يواشك بالسَّبسبِ الأغبرِ
وقال الأفوه الأودي:
سودٌ غدائرها بلجٌ محاجرها ... كأن أطرافَها لمّا اجتلى الطّنفُ
وقال العجير
حمّ الذري مرسلة منها العرى
وقال سليك:
إذا أسهلت خبّتْ وإن أحزنتْ مشت
وقال بشامة بن الغدير:
هوانُ الحياة وخزي الممات ... وكلاَّ أراه طعاماً وبيلا
وقال الراعي:
سود معاصمُها خضر معاقمها ... قد مسّها من عقيد القار تنصيل
وقالت ليلى الأخيلية:
وقد كان مرهوبَ السنان وبيّن ال ... لِسان ومجذامَ السُّرى غير فاتر
وقال ذو الرمة:
كحلاء في برجٍ صفراء في نعج ... كأنها فضة قد مسها ذهبُ
وقال عامر بن الطفيل:
إني وإنْ كنتُ ابن فارس عامرٍ ... وفي السرِّ منها والصريح المهذَّب
فما سوّدتني عامرٌ عن وراثةٍ ... أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب
ولكنّني أحمى حماها وأتقى ... أذاها وأرمى منْ رماها بمقنَب
المقنب: جماعة الخيل.
ومثل هذا إذا اتفق في موضع من القصيدة أو موضعين كان حسنا، فإذا كثر وتوالى دلّ على التكلّف، وقد ارتكب قوم من القدماء الموالاة بين أبيات كثيرة من هذا الجنس فظهر فيها أثر التكلّف، وبان عليها سمة التعسف، وسلم بعضها ولم يسلم بعض، فمن ذلك ما روى أنه للخنساء:
حامى الحقيقة محمودُ الخليقة مه ... ديّ الطريقة نفاعٌ وضرَّارُ
هذا البيت جيد، ثم قالت:
فعَّال ساميةٍ ورّادُ طامِية ... للمجد نامية تعنيه أسفارُ
هذا البيت ردئ لتبرئ بعض ألفاظه من بعض، ثم قالت:
جواب قاصيةٍ جزَّاز ناصيةٍ ... عقَّاد ألوية للخيل جرَّار
آخر هذا البيت لا يجرى مع ما قبله، وإذا قسته بأوله وجدته فاتراً وبارداً، ثم قالت:
حلوٌ حلاوته فصلٌ مقالته ... فاشٍ حمالته للعظم جبَّارُ
وهذا مثل ما قبله، وقول أبي صخر الهذلي:
وتلك هيكلةٌ خود مبتَّلة ... صفراء رعبلةٌ في منصب سنم
هذا البيت صالح، وبعده:
عذبٌ مقبّلها جذْل مخلخلها ... كالدّعص أسفلها مخصورة القدم
كأن قول: مخصورة القدم ناب عن موضعه غير واقع في موقعه، وبعده:
سود ذوائبها بيض ترائبها ... محض ضرائبها صيغت على الكرم
وهذا البيت أيضاً قلق القافية، وبعده:
سمحٌ خلائقها درمٌ مرافقها ... يروى معانقها من بارد شبم
هذا البيت ردئ لبعد ما بين الخلائق، والمرافق، وما بين الدّرم، والسمح، ولولا أن السجع اضطره لما قال: سمح وليس لعظم مرفقها حجم. وهذا مثل قول القائل لو قال: خلق فلان حسن وشعره جعد. ليس هذا من تأليف البلغاء ونظم الفصحاء. وقول أبي المثلم:
آبى الهضيمة ناءٍ بالعظيمة مت ... لاف الكريمة جلدٌ غير ثنيان
حامى الحقيقة نسّال الوديقة مع ... تاق الوسيقة لا نكس ولا وان
البيت الثاني أجود من الأول، وقوله:
ربّاء مرقبةٍ منّاع مغلبةٍ ... وهاب سلهبةٍ قطاعُ أقران
وهذا البيت أيضاً صالح، وبعده:
هبَّاط أودية حمّال ألوية ... شهاد أنديةِ سرحان فتيان
قوله: سرحان فتيان ناب قلق، وبعده:
يعطيك ما لا تكاد النفس ترسلُه ... من التلاد وهوب غير منّانِ
التارك القرن مصفرّاً أنامله ... كأن في ريطتيه نضح إرقان
هذا البيت جيّد وقد سمن سائر العيوب إذ لم يتكلّف فيه السجع ولم يتوخ الموازنة.
ومن جيد الباب قول ابن الرومي:
حوراء في وطفٍ قنواء في ذلفٍ ... لفّاء في هيفٍ عجزاء في قبب
ومن معيب هذا الباب أيضاً قول بعض المتأخرين:
عجب الوشاة من اللّحاة وقولهم ... دع ما نراك ضعفتَ عن إخفائه
هذا ردئ لتعمية معناه.
الفصل السادس عشر
في الإيغال
وهو أن يستوفى معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه، ثم يأتي بالمقطع فيزيد معنى آخر يزيد به وضوحا وشرحا وتوكيدا وحسنا، وأصل الكلمة من قولهم: أوغل في الأمر إذا أبعد الذهاب فيه.وأخبرنا أبو أحمد قال أخبرنا الصولي عن المبرّد عن التّوّزي، قال: قلت للأصمعي: من أشعر الناس؟ فقال: من يأتي بالمعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيراً، أو الكبر فيجعله بلفظه خسيسا، أو ينقضى كلامه قبل القافية، فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى. قال: قلت: نحو من؟ قال: قول ذي الرّمة حيث يقول:
قف العيسَ في أطلال مية فاسألِ ... رسوماً كأخلاق الرّداء المسلسلِ
فتم كلامه بالرداء قبل المسلسل، ثم قال المسلسل، فزاد شيئاً بالمسلسل. ثم قال:
أظن الذي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبذير الجمان المفصّلِ
فتم كلامه، بالجمان، ثم قال: المفصل، فزاد شيئاً. قلت: ونحو من؟ قال: الأعشى حيث يقول:
كناطحٍ صخرةً يوما ليفلقَها ... فلم يضرْها وأوهى قرنَهُ الوعلُ
فتم كلامه بيضرها، فلما احتاج إلى القافية قال: وأوهى قرنه الوعل، فزاد معنى. قلت: وكيف صار الوعل مفضّلا على كل ما ينطح؟ قال: لأنه ينحطّ من قلة الجبل عل قرنيه فلا يضيره.
وكتب بعض الكتاب: نبوُّ الطرف من الوزير دليل على تغير الحال عنده، ولا صبر على الجفاء ممّن عود الله من البرّ، وقد استدللت بإزالة الوزير إياي عن المحل الذي كان يحلنيه بتطوّله على ما سؤت له ظنا بنفسي، وما أخاف عتبا لأني لم أجن ذنبا، فإن رأى الوزيرُ أن يقوّمني لنفسي، ويدلّني على ما يراد مني فعل. تم كلامه عند قوله له يقومني ثم جاء بالمقطع وهو قوله: لنفسي فزاد معنى.
وممن زاد توكيدا امرؤ القيس حيث يقول:
كأنّ عيونَ الوحش حول خبائنا ... وأرحلِنا الجزع الذي لم يثقَّب
قوله: لم يثقب يزيد التشبيه توكيداً، لأن عيون الوحش غير مثقبة.
وزهير حيث يقول:
كأنّ فتاتَ العهن في كلِّ منزلٍ ... نزلنَ به حبّ الفنا لم يحطّم
القنا إذا كسر ابيض. والفنا: شجر الثعلب. ومن الزيادة قول امرئ القيس:
إذا ما جرى شأوين وابتلَّ عطفه ... تقول هزيزُ الريح مرّت بأثأب
فالتشبيه قد تم عند قوله هزيز الريح وزاد بقوله مرت بأثأب: لأنه أخبر به عن شدة حفيف الفرس، وللريح في أغصان الأثاب حفيف شديد. والأثأب: شجر.
وقول أبي نواس:
ذاك الوزير الذي طالت علاوته ... كأنه ناظر في السّيف بالطّول
فقوله بالطول أنفى للشبهة.
وقول راشد الكاتب:
كأنه ويد الحسناء تغمزه ... سير الإداوة لما مسّه البلل
فقوله: لما مسه البلل تأكيد، ويدخل أكثر هذا الباب في التتميم، وإنما يسمى إيغالا إذا وقع في الفواصل والمقاطع.
الفصل السابع عشر
في التوشيح
سمى هذا النوع التوشيح، وهذه التسمية غير لازمة بهذا المعنى، ولو سمى تبيينا لكان أقرب، وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه، وأوله يخبر بآخره، وصدره يشهد بعجزه، حتى لو سمعت شعراً، أو عرفت رواية، ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه قبل بلوغ السماع إليه، وخير الشّعر ما تسابق صدوره وأعجازه، ومعانيه وألفاظه، فتراه سلساً في النظام، جارياً على اللسان، لا يتنافى ولا يتنافر، كأنه سبيكة مفرغة، أو وشى منمنم، أو عقد منظم من جوهر متشاكل، متمكّن القوافي غير قلقة، وثابتة غير مرحة، ألفاظه متطابقة، وقوافيه متوافقة، ومعانيه متعادلة، كلّ شيء منه موضوع في موضعه، وواقع في موقعه، فإذا نقض بناؤه، وحلَّ نظامه، وجعل نثراً، لم يذهب حسنه، ولم تبطل جودته في معناه ولفظه، فيصلح نقضه لبناء مستأنف، وجوهره لنظام مستقبل.فمما في كتاب الله عز وجل من هذا النوع قوله تعالى: " وما كان النّاس إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا ولولا كلمةٌ سبقت من ربّك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون " ، فإذا وقفت على قوله تعالى: فيما، عرف فيه السامع أن بعده يختلفون، لما تقدم من الدلالة عليه.
وهكذا قوله تعالى: " قل الله أسرع مكراً إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون " ذا وقف على يكتبون، عرف أن بعده ما يمكرون، لما تقدم من ذكر المكر.
وضرب منه آخر، وهو أن يعرف السامع مقطع الكلام، وإن لم يجد ذكره فيما تقدم، وهو كقوله تعالى: " ثمَّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون " ، فإذا وقف على قوله: لننظر مع ما تقدم من قوله تعالى: " جعلناكم خلائف في الأرض " ، علم أن بعده تعملون لأن المعنى يقتضيه.
ومن الضرب الأول قوله تعالى: " ومنهم من خسفنَا به الأرضَ ومنهمْ من أغرقنَا وما كان الله ليظلمهمْ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون " .
وهكذا قوله تعالى: " كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً وإنّ أوهنَ البيوت لبيتُ العنكبوت " ، إذا وقف على أوهن البيوت، يعرف أن بعده بيت العنكبوت.
ومن أمثلة ذلك قول الراعي:
وإن وزنَ الحصَى فوزنتُ قومي ... وجدتُ حصى ضريبتهم رزينا
إذا سمع الإنسان أول هذا البيت وقد تقدمت عنده قافية القصيدة استخرج لفظ قافيته، لأنه عرف أن قوله وزن الحصى سيأتي بعده رزين لعلتين: إحداهما أن قافية القصيدة توحيه، والأخرى أن نظام البيت يقتضيه، لأن الذي يفاخر برجاجة الحصى ينبغي أن يصفه بالرزانة.
وقول نصيب:
وقد أيقنتُ أن ستبينُ ليلى ... وتحجبُ عنك لو نفع اليقينُ
وأنشد أبو أحمد قول مضرس بن ربعي:
تمنيت أن ألقى سليما ومالكاً ... على ساعةٍ تنسِى الحليم الأمانيا
ومن عجيب هذا الباب قول البحتري:
فليس الذي حلّلته بمحلّلٍ ... وليس الذي حرَّمتهِ بحرام
وذلك أن من سمع النصف الأول عرف الأخير بكماله، ونحوه قول الآخر:
فأما الذي يحصيهم فمكثّر ... وأما الذي يطريهم فمقلِّل
وقول الآخر:
هي الدرّ منثوراً إذا ما تكلمت ... وكالدّر منظوماً إذا لم تكلّم
وقول الآخر:
ضعائف يقتلن الرجالَ بلا دمٍ ... ويا عجباً للقاتلات الضعائف
وقول الآخر:
وقد لان أيامُ الحمى ثم لم يكدْ ... من العيش شيء بعد ذاك يلينُ
يقولون ما أبلاكَ والمال عامرٌ ... عليك وضاحى الجلد منك كنينُ
فقلت لهم: لا تعذلوني وانظروا ... إلى النازع المقصور كيف يكون
إذا قلت: ضاحي الجلد منك، فليس شيئ سوى الكنين، وكذلك إذا قلت:إلى النازع المقصور كيف، فليس شيء سوى يكون.
ومما عيب من هذا الضرب قول أبي تمام:
صارت المكرمات بزلاً وكانت ... أدخلتْ بينها بنات مخاضِ
وقول بعض المتأخرين:
فقلقلت بالهمِّ الذي قلقلَ الحشا ... قلاقَل عيسٍ كلّهنَّ قلاقلُ
وإنما أخذه من قول أبي تمام فأفسده:
طلبتك من نسل الجديل وشدقمِ ... كومُ عقائل من عقائلَ كومٍ
الفصل الثامن عشر
في رد الأعجاز على الصدور
فأول ما ينبغي أن تعلمه أنك إذا قدمت ألفاظاً تقتضي جوابا فالمرضىُّ أن تأتي بتلك الألفاظ بالجواب، ولا تنتقل عنها إلى غيرها مما هو في معناها، كقول الله تعالى: " وجزاءُ سيِّئةٍ سيِّئةٌ مثلها " . وكتب بعض الكتاب في خلاف ذلك: من اقترف ذنباً عامداً، أو اكتسب جرماً قاصدا لزمه ما جناه، وحاق به ما توخّاه. والأحسن أن يقول: لزمه ما اقترف، وحاق به ما اكتسب. وهذا يدلك على أن لردِّ الأعجاز على الصدور موقعا جليلاً من البلاغة، وله في المنظوم خاصة محلا خطيرا.وهو ينقسم أقساما، منها ما يوافق آخر كلمة في البيت آخر كلمة في النصف الأول، مثل قول الأول:
تلقى إذا ما الأمر كان عرمرمَا ... في جيش رأى لا يفلُّ عرمرمُ
وقال عنترة:
فأحبتها إنّ المنيةَ منهل ... لا بد أن أسقى بذاك المنهلِ
وقال جرير:
زعم الفرزدق أن سيقتلُ مربعاً ... أبشِرْ بطولِ سلامة يا مربَعُ
وقال المخبل:
وينفس فيما أورثتني أوائلي ... ويرغب عما أورثته أوائلُه
ومنها ما يوافق أول كلمة منها آخر كلمة في النصف الأخير، كقول الشاعر:
سريع إلى ابن العم يلطم وجهَه ... وليس إلى داعي الوغى بسريع
وقول ابن الأسلت:
أسعى على جلِّ بني مالك ... كلُّ امرئٍ في شأنه ساعِ
ومنه ما يكون في حشو الكلام في فاصلته، كقول الله تعالى: " انظر كيفَ فضّلنا بعضهم على بعضٍ وللآخرة أكبر درجاتٍ وأكبر تفضيلاً " . وقوله تعالى: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذابٍ وقد خاب من افترى " . وكقول امرئ القيس:
إذا المرءُ لم يخزن عليه لسانَه ... فليس على شيء سواه بخزَّان
وقول الآخر:
كذلك خيُمهم ولكل قوم ... إذا مستهمُ الضراءُ خيمُ
وقول زهير:
ولأنت تفرِي ما خلقتَ وبع ... ضُ القوم يخلقُ ثم لا يفرِي
وقال جرير:
سقَى الرمل جونٌ مستهلٌّ ربابه ... وماذاك إلاَّ حبُّ منْ حلَّ بالرمل
أخذه من قول النَّمريّ:
لعمرك ما أسقى البلاد لحبها ... ولكنما أسقيك حارِ بن تولَب
وقول ابن مقبل:
يا حرّ من يعتذر من أنْ يلمّ به ... ريب المنونِ فإني لست أعتذرُ
وقول الحطيئة:
إذا نزل الشتاءُ بدار قومٍ ... تجنّب جارَ بيتهمُ الشتاءُ
وقول الآخر:
رأت نضوَ أسفار أميمةُ واقفا ... على نضو أسفار فجنّ جنونُها
وقول عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع شيئاً فدعهُ ... وجاوزه إلى ما تستطيعُ
وقول الآخر:
أصدُّ بأيدي العيس عن قصد دارها ... وقلبي إليها بالمودّة قاصدُ
ومن الضرب الأول قول زهير:
السترُ دونَ الفاحشات ولا ... يلقاك دون الخير من ستر
وقول الحطيئة:
تدرّون إن شدّ العصاب عليكم ... ونأبى إذا شدّ العصاب فلا ندِر
وقول أبي تمام:
أسائلُه ما بالُه حكَم البلَى ... عليه وإلا فاتركُوني أسائُله
وقوله:
تجشَّم حملَ الفاحات وقلّما ... أقيمت صدور المجد إلاَّ تجشُّما
وقول الآخر:
مفيد إن تزُور وأنت مقوٍ ... تكن من فضل نعمته مفيدا
وقول الآخر:
واستبدتْ مرةً واحدةً ... إنما العاجزُ من لا يستبدْ
ومنها ما يقع في حشو النصفين، كقول النمر:
يودّ الفتى طول السلامة والغنى ... فكيف ترى طول السّلامة تفعل
وقلت:
ألا لا يذم الدهرَ من كان عاجزا ... ولا يعدِل الأقدارَ منْ كان وانيا
فمن لم تبلّغه المعالي نفسُه ... فغير جدير أن ينال المعاليا
وقفتُ على يحيى رجائي وإنما ... وقفتُ على صوب الربيع رجائيا
إذا ما الليالي أدركت ما سعتْ له ... تمطيت جدواه ففتّ اللياليا
ومما عيب من هذا الباب قول ذي نواس البجلي:
يتيّمنى برق المباسم بالضّحى ... ولا بارقٌ إلاّ الكريم يتيمِّهُ
وقال منصور بن الفرج:
زرناك شوقاً ولو أن النوى نشرتْ ... بسطَ النوى بيننا بعداً لزرناك
وهذا أيضاً داخل في سوء الاستعارة، وقوله أيضاً:
إذا احتجب الغيث احتبى في نديِّه ... فيضرب أغياثاً له أن تحجَّبا
وهذا البيت على غاية الغثاثة.
الفصل التاسع عشر
في التتميم والتكميل
وهو أن توفى المعنى حظه من الجودة، وتعطيه نصيبه من الصحة، ثم لا تغادر معنى يكون فيه تمامه إلا تورده، أو لفظاً يكون فيه توكيده إلا تذكره، كقول الله تعالى: " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمنٌ فلنحيينَّه حياةً طيبةً " . فبقوله تعالى: وهو مؤمن تمَّ المعنى.ونحو قوله سبحانه: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " في قوله " استقاموا " تم المعنى وقد دخل تحته جميع الطاعات من جوامع الكلم ونحو قوله تعالى: " فاستقيموا إليه " .
ومن النثر قول أعرابية لرجل: كبت الله كلَّ عدو لك إلا نفسك. فبقولها: نفسك تم الدعاء، لأن نفس الإنسان تجرى مجرى العدو له، يعنى إنها تورطه وتدعوه إلى ما يوبقه.
ومثله قول الآخر: احرس أخاك إلا من نفسه. وقريب منه قول الآخر: من لك بأخيك كله.
ومن المنظوم قول عمرو بن براق:
فلا تأمننَّ الدهر حرّاً ظلمته ... فما ليل مظلوم كريم بنائم
فقوله: كريم تتميم، لأن اللئيم بغضى على العار، وينام على الثار، ولا يكون منه دون المظالم تكبر. وقول عمرو بن الأيهم:
بها نلنا الغرائب من سوانا ... وأحرزنا الغرائب أن تُنالا
فالذي أكمل جودة المعنى قوله: " وأحرزنا الغرائب أن تنالا " .
وقول الآخر:
رجال إذا لم يقبلِ الحق منهمُ ... ويعطوه عادوا بالسيوف القواضِبِ
وقول طرفة:
فسقى ديارَك غير مفسدها ... صوبُ الربيع وديمةٌ تهمى
فقوله: غير مفسدها إتمام المعنى، وتحرز من الوقوع فيما وقع فيه ذو الرمة في قوله:
ألا يا سلمى يا دار ميّ على البلَى ... ولا زال منهلاًّ بجرعائك القطرُ
فهذا بالدعاء عليها أشبه منه بالدعاء لها، لأن القطر إذا انهل فيها دائما فسدت، ومن العجب أن ذا الرّمة كان يستحسن قول الأعرابية وقد سألها عن الغيث، فقال: غيثاً ما شئنا، وهو يقول خلاف ما يستحسن.
ومن التتميم قول الراعي:
لا خيرَ في طول الإقامة لامرئ ... إلاّ إذا ما لم يجدْ متحوّلا
ونحوه قول الآخر:
إذا كنت في دار يهينُك أهلُها ... ولم تك مكبولا بها فتحوَّل
وقول الآخر:
ومقام العزيز في بلد ال ... ذُّلّ إذا أمكن الرحيلُ محالُ
فقوله: إذا أمكن الرحيل تتميم، وقول النّمر:
لقد أصبح البيضُ الغواني كأنما ... يرينَ إذا ما كنتَ فيهنّ أجربا
وكنت إذا لاقيتهُنّ ببلدة ... يقلنّ على النّكراء أهلاً ومرحباً
فقوله: على النكراء تتميم، ولو كانت بينه وبينهن معرفة لم ينكر له منهن أهل ومرحب.
وقول الآخر:
وهل علمتَ بيتَنا إلاَّ ولَهْ ... شربة من غيره وأكلَهْ
فقوله: من غيره تتميم، لأن لكل بيت شربة وأكلة من أهله.
وقول الشماخ:
جماليَّةٌ لو يجعلُ السَيف عرضَها ... على حده لاستكبرتْ أن تضوَّرا
فقوله: على حده تتميم عجيب.
ويدخل في هذا الباب قول الآخر:
وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يطالبه ... فاسصحبَ الصبرَ إلا فاز بالظفرِ
وقول الخنساء:
وإنّ صخراً لتأتمُّ الهداةُ به ... كأنه علمٌ في رأسه نارُ
فقولها: في رأسه نار تتميم عجيب، قالوا: لم يستوف أحد هذا المعنى استيفاءها، وهو مأخوذ من قول الأعشى:
وتدفنُ منه الصالحاتُ وإن يسئ ... يكنْ ما أساءَ النارَ في رأس كبكَبا
إلا أنها أخرجته في معرض أحسن من معرض الأعشى، فشهر واستفاض، وخمل معها بيت الأعشى ورذل، وهذا دليل على صحة ما قلنا من أنّ مدار البلاغة على تسحين اللفظ، وتجميل الصورة. وقول الآخر:
ألا ليتَ النهارَ يعودُ ليلاً ... فإنّ الصبحَ يأتي بالهموم
حوائجَ لا نطيقُ لها قضاءً ... ولا ردّاً، وروعات الغريم
فقوله: ولا ردا تتميم.
الفصل العشرون
في الالتفات
الالتفات في ضربين، فواحد أن يفرغ المتكلم من المعنى، فإذا ظننت أنه يريد أن يجاوزه يلتفت إليه فيذكره بغير ما تقدم ذكره به. أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال قال الصمعي: أتعرف التفاتات جرير؟ قلت: لا، فما هي؟ قال:أتنسى إذ تودّعُنا سليمَى ... بعود بشامةٍ سقِى البشام
ألا تراه مقبلا على شعره. ثم التفت إلى البشام فدعا له. وقوله:
طربَ الحمام بذي الأرك فشاقني ... لا زلتَ في عللٍ وأيكٍ ناضرِ
فالتفت إلى الحمام فدعا له.
ومنه قول الآخر:
لقد قتلتُ بني بكر بربِّهم ... حتى بكيتُ وما يبكى لهم أحد
فقوله: وما يبكى لهم أحد التفات، وقول حسان:
إنّ التي ناولتني فرددتُها ... قتلتْ قتِلْتَ فهاتها لم تقتلِ
فقوله: قتلت التفات.
والضرب الآخر أن يكون الشاعر آخذاً في معنى وكأنه يعترضه شكّ أو ظن أن راداً يردّ قوله، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قدمه، فإما أن يؤكده، أو يذكر سببه، أو يزيل الشك عنه، ومثاله قول المعطّل الهذلي:
تبين صلاةُ الحرب منّا ومنهم ... إذا ما التقينا والمسالمُ بادِن
فقوله: والمسالم بادن رجوع من المعنى الذي قدّمه، حتى بيّن أن علامة صلاة الحرب من غيرهم أن المسالم بادن، والمحارب ضامر.
قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر:
وأجمل إذا ما كنت لا بدَّ مانعا ... وقد يمنعُ الشيءَ الفتى وهو مجملُ
وقول طرفة:
وتصد عنك مخيلةَ الرجل الش ... نوف موضحةٌ عن العظمِ
بحسام سيفك أو لسانك وال ... كِلم الأصيل كأرغب الكلمِ
فكأنه ظن معترضا، يقول له: كيف يكون مجرى اللسان والسيف واحداً، فقال: والكلم الأصيل كأرغب الكلم، وإنما أخذه من امرئ القيس:
وجرح اللسان كجرحِ اليدِ
وأخذه آخر فقال:
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر
ومن الالتفات قول جدير بن ربعان:
معازيل في الهيجاء ليسوا بزادةٍ ... مجازيع عند البأس والحرُّ يصبرُ
فقوله: والحر يصبر التفات.
وقول الرّماح بن ميادة:
فلا صرمُه يبدو وفي اليأس راحة ... ولا ودّة يصفو لنا فنكارمُه
كأنه يقول: وفي اليأس راحة، والتفت إلى المعنى لتقديره أن معارضاً يقول له: وما تصنع بصرمه؟ فيقول: لأنه يؤدّى إلى اليأس، وفي اليأس راحة.
الفصل الحادي والعشرون
في الاعتراض
الاعتراض، وهو اعترضا كلام في كلام لم يتم، ثم يرجع إليه فيتمه، كقول النابغة الجعدي:ألا زعمت بنو سعد بأني ... ألا كذبوا كبير السنّ فانِي
وقول كثير:
لو أنّ الباخلين وأنتِ منهم ... رأوك تعلّمُوا منك المطالا
وقول الآخر:
فظلتْ بيوم دعْ أخاك بمثله ... على مشرع يُروى ولما يصرَّدِ
وقول الآخر:
إن الثمانين وبلِّغتها ... قد أحوجتْ سمعي إلى ترجمان
وكتب آخر: فإنك والله يدفع عنك علق مضنّة، ينفس ويتنافس به، فيكون خلفا مما سواه، ولا يكون في غيره منه، فإن رأيت أن تسمع العذر وتقبله، فلو لم تكن شواهده واضحة، وأنواره لائحة، لكان في الحق أن تهب ذنبي لجزعي، وإذلالي لإشفاقي، ولا تجمع عليّ لوعة لك، وروعة منك فعلت. فقوله: فإنك والله يدفع عنك اعتراض مليح.
وقول البحتري:
ولقد علمتُ وللشباب جهالةٌ ... أن الصّبا بعد الشباب تصابي
وقلت:
أأسحبُ أذيال الوفاء ولم يكن ... وحاشاك من فعل الدنيّة وافيا
الفصل الثاني والعشرون
في الرجوع
الرجوع، وهو أن يذكر شيئاً ثم يرجع عنه، كقول القائل: ليس معك من العقل شيء، بلى بمقدار ما يوجب الحجة عليك. وقال آخر: قليل العلم كثير، بل ليس من العلم قليل، وكقول الشاعر:أليس قليلاً نظرةٌ إن نظرتُها ... إليك وكلاًّ ليس منك قليلُ
أخذه ابن هرمة، فقال:
ليت حظي كلحظة العين منها ... وكثير منها القليل المهغَّا
وقال غيره:
إنّ ما قلَّ منك يكثُر عندِي ... وكثيرٌ ممَّنْ تحبُّ القليلُ
وقال دريد بن الصمة:
عير الفوارس معروف بشكتهِ ... كافٍ إذا لم يكن في كربِهِ كافِي
وقد قتلتُ به عبساً وإخوتَها ... حتى شفيتُ وهل قلبي به شافي
وقول آخر:
نبّثتُ فاضحَ قومه يغتابني ... عند الأميرِ وهلْ عليّ أمير
وقول آخر:
وما بي انتصارٌ إن غدار الدهر ظالمي ... عليّ، بلى إن كان من عندك النصرُ
وقال آخر:
إذا شئتَ أن تلقى القناعةَ فاستخِرْ ... جذامَ بن عمرو إن أجاب جذامُ
ومن مذموم هذا الباب قول أبي تمام:
رضيتُ وهل أرضى إذا كان مسخطي ... من الأمر ما فيه رضَا من لهُ الأمرُ
الفصل الثالث والعشرون
في تجاهل العارف، ومزج الشك باليقين
تجاهل العارف ومزج الشك باليقين: هو إخراج ما يعرفه صحته مخرج ما يشكّ فيه ليزيد بذلك تأكيداً، ومثاله من المنثور ما كتبته إلى بعض أهل الأدب: سمعت بورود كتابك، فاستفزّني الفرح قبل رؤيته، وهزّ عطفي المرح أمام مشاهدته، فما أدري أسمعت بورود كتاب، أم ظفرت برجوع شباب، ولم أدر ما رأيت: أخط مسطور؟ م روض ممطور وكلام منثور؟ أم وشى منشور؟ ولم أدر ما أبصرت في أثنائه: أأبيات شعر، أم عقود در؟ ولم أدر ما حملته: أغيث حلَّ بوادي ظمآن، أم عوث سيق إلى لهفان.ونوع منه ما كتب به كافي الكفاة:
كتبتُ إليك والأحشاء تهفو ... وقلبي ما يقرُّ له قرَار
عن سلامة، إن كان في عدم السالمين من اتَّصل سهاده، وطار رقاده، ففؤاده يجف، ودمعه يكف، ونهاره للفكر، وليله للسهر.
ومن المنظوم قول بعض العرب:
بالله يا ظبيات القاعِ قلنَ لنا ... ليلايَ منكنّ أم ليلى من البشَر
وقول آخر:
أأنت ديارُ الحيِّ أيتُها الرُّبَا ال ... أنيقةُ أم دار المهى والنَّعائم
وسربُ ظباء الوحشِ هذا الَّذي ... أرى بربعِك أم سِرب الظَّباء النواعمِ
وأدمعنا الّلاتي عفاك انسجامُها ... وأبلاكِ أم صوبُ الغمام السّواجمِ
وأيامنا فيك اللّواتي تصرَّمت ... مع الوصل أم أضغاث أحلام نائمِ
وقال ذو الرمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ ... وبين النّقا أأنتِ أم أمُّ سالم
وقال بعض المتأخرين:
أريقكِ أم ماءُ الغمامة أم خمرُ
وقلت:
أغرَّة إسمعيلَ أم سنَّةُ البدرِ ... وفيض ندى كفَّيهِ أم باكرُ القطْرِ
وقلت أيضاً:
أثغرٌ ما أرى أم أقحوانُ ... وقدٌّ ما بدا أم خيزرانُ
وطرفٌ ما تقلِّبُ أم حسامٌ ... ولفظٌ ما تساقطُ أم جمانُ
وشوقٌ ما أكابدُ أم حريقٌ ... وليلٌ ما أقاسي أم زمانُ
وقال ابن المعتز:
كم ليلةٍ عانقت فيها بدرَها ... حتّى الصباح موسَّداً كفَّيهِ
وسكرتُ لا أدري أمنْ خمرِ الهوى ... أم كأسِه أم فيه أم عينيهِ
وقال أعرابي:
أيا شبه ليلى ما لليلى مريضةٌ ... وأنت صحيحٌ إنّ ذا المحالُ
أقول لظبي مرَّ بي وهو راتع ... أأنتَ أخو ليلى؟ فقال: يقال!
الفصل الرابع والعشرون
في الاستطراد
وهو أن يأخذ المتكلّم في معنى، فبينا يمرُّ فيه يأخذ في معنى آخر، وقد جعل الأو سبباً إليه، كقول الله عز وجل: " ومن آياته أنَّكَ ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزَّت وربت. " ، فبينا يدلّ الله سبحانه على نفسه بإنزال الغيث واهتزاز الأرض بعد خشوعها قال: " إنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى " فأخبر عن قدرته على إعادة الموتى بعد إقنائها وإحيائها بعد إرجائها، وقد جعل ما تقدّم من ذكر الغيث والنبات دليلاً عليه، ولم يكن في تقدير السامع لأوّل الكلام، إلا أنّه يريد الدلالة على نفسه بذكر المطر، دون الدلالة على الإعادة، فاستوفى المعنيين جميعاً.
ومثاله من المنظوم قول حسان:
إن كنتِ كاذبةً الّذي حدّثتني ... فنجوتِ منجَى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل عنهم ... ونجا برأس طمَّرةٍ ولجام
وذلك أن الحارث بن هشام فرَّ يوم بدر عن أخيه أبي جهل، وقال يعتذر:
اللهُ يعلمُ ما تركتُ قتالهم ... حتى علوْا فرسِي بأشقَر مزبدِ
وعلمت أنِّي إن أقاتل واحداً ... أقتلْ ولا يضررْ عدوِّ مشهدِي
وشمعتُ ريح الموت من تلقائهم ... في مأزق والخيل لم تتبدَّدِ
فصددتُ عنهم والأحبَّةُ فيهمُ ... طعماُ لهم بعقاب يوم مرصد
وهذا أول من اعتذر من هزيمة رويت عن العرب.
ومن الاستطراد قول السموءل:
وإنا أناسٌ لا نرى القتل سبةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ
فقوله: إذا ما رأته عامر وسلول استطراد.
وقال الآخر:
إذا ما اتقى الله الفتى وأطاعه ... فليس به بأسٌ وإن كان من عكلِ
وقول زهير:
إن البخيل ملوم حيث كان ول ... كنَّ الجوادَ على علاّنه هرِم
ومن ظريف الاستطراد قول مسلم:
أجدكِ ما تدرين أنْ ربَّ ليلةٍ ... كأنَّ دجاها من قرونك ينشرُ
لهوت بها حتى تجلَّت بغرَّةٍ ... كغرَّة يحيى حين يذكرُ جعفرُ
وقال أبو تمام:
وسابحٍ هطلِ التَّعداء هتَّانِ ... على الجراء أمينٍ غيرِ خوّان
أظمَى الفصوص ولم تظمأ عرائكه ... فخلِّ عينيك في ظمآن ريّان
فلو تراه مشيحاً والحصى زيمٌ ... تحت السّنابك من مثنى ووحدان
أيقنت إن لم تثبَّت أن حافره ... من صخر تدمُرَ أو من وجه عثمان
فبينا يصف قوائم الفرس خرج إلى هجاء عثمان، وهو من قول الأعرابي: لو صكَّ بوجهه الحجارة لرضَّها، ولو خلا بالكعبة لسرقها.
ومثله قول ابن المعتز:
لو كنت من شيءٍ خلافك لم تكنْ ... لتكون إلا مشجباً في مشجبِ
يا ليتَ لي من جلدِ وجهك رقعةً ... فأقدَّ منها حافراً للأشهبِ
وقول البحتري في القرس:
وما إن يعاف قذىً ولو أرودتَه ... يوماً خلائق حمدويه الأحول
وقال مسلم:
أحبيت من حبها الباخلي ... ن حتى ومقتُ ابن سلمٍ سعيدا
إذا سيل عرفاً كسا وجهَه ... ثياباً من البخل زرقاً وسودَا
يغار على المالِ فعلَ الجوادِ ... وتأبى خلائقُه أن يجُودا
وقال بشار:
خليليَّ من كعبٍ أعينا أخاكما ... على دهرِه إن الكريم معين
فلا تبخلا بخل ابن قزعةَ إنه ... مخافة أن يرجَى نداه حزين
إذا جئته في الخلق أغلقَ بابه ... فلم تلقه إلاّ وأنت كمين
وقوله:
فما ذرّ قرن الشمس حتى كأننا ... من الغيّ نحكى أحمد بن هشام
وقريب منه قول البحتري:
إذا عطفته الريح قلت التفاتةٌ ... لعلوةَ في جاديِّها المتعصفرِ
وهذا الباب يقرب من باب حسن الخروج، وقد استقصيناه في آخر الكتاب.
ومن الاستطراد ما قلته:
انظر إلى قطر السماء ووبلها ... ودنوّ نائلها وبعد مجلّها
وشمول ما نشرته من معروفها ... فانبثّ في حزن البلاد وسهلها
بل ما يروعك من وفور عطائها ... وعلوّ موضعها ولذّة ظلها
انظر بني زيد فإن محلَّهم ... من فوقِها وعطاؤهم من قبلها
ومن الاستطراد ضرب آخر، وهو أن يجئ بكلام يظن أنه يبدأ فيه بزهد وهو يريد غير ذلك، كقول الشاعر:
يا من تشاغل بالطّللْ ... أقِصرْ فقد قرُب الأجل
واصلْ غبوقك بالصَّبُو ... حِ وعدِّ عن وصف الملَلْ
الفصل الخامس والعشرون
في جمع المؤتلف والمختلف
وهو أن يجمع في كلام قصير أشياء كثيرة مختلفة أو متفقة، كقول الله تعالى: " فأرسلنا عليهمُ الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آياتٍ مفصّلاتٍ " .
وقوله عزّ اسمه: " إنَّ الله يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكر والبغي " .
ومثاله من النثر ما كتب به الشيخ أبو أحمد: فلو عاش حتى يرى ما منينا به من وعد حقير، نقير، نذل، رذل، غثّ، رثّ، لئيم، زنيم، أشحّ من كلب، وأذلّ من نقد، وأجهل من بغل، سريع إلى الشر، بطئ عن الخير، مغلول عن الحمد، مكتوف عن البذل، جواد يشتم الأعراض، سخى بضرب الأبشار، لجوج حقود، خرق، نزق، عسر، نكد، شكس، شرس، دعيّ، زنيم، يعتزى إلى أنباط سقّاط، أهل لؤم أعراق، ورقة أخلاق، وينتمي إلى أخبث البقاع ترابا، وأمرّها شرابا، وأكمدها ثيابا، فهو كما قال الله تعالى: " والّذي خبثَ لا يخرجُ إلاَّ نكداً " . ثم كما قال الشاعر:
نبطئ آباؤه لم يلدْه ... ذو صلاح ولم يلد ذا صلاحِ
معشرٌ أشبهوا القرود ولكنْ ... خالفوها في خفَّةِ الأرواح
ومن المنظوم قول امرئ القيس:
سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا ... ونائل ذا إذا صحا وإذا سكرْ
وقوله وقد جمع فيه جميع أوصاف الدمع من كثرته وقلته:
فدمعهما سكبٌ وسحٌّ وديمة ... ورشٌّ وتو كافٌ وتنهملانِ
وما جمع من أنواع المكروه في بيت كما جمع ابن أحمر:
نقائذ برسامٍ وحمّى وحصبةٍ ... وجوعٍ وطاعونٍ وفقرٍ ومغرمِ
وقال سويد بن خذاق:
أبي القلب أن يأتي السّديرَ وأهله ... وإن قيل عيش بالسّدير غزير
بها البقّ والحمّى وأسدُ خفيةٍ ... وعمرو بن هند يعتدِى ويجورُ
وقال أبو داود:
حديد القلب والناظ ... ر والعرقوب والكعبْ
عريض الصدر والجبه ... ةِ والصّهوةِ والجنبِ
جواد الشّدّ والتّقرِي ... بِ والإحضار والعقب
وقال دريد:
سليمُ الشَّظى عبل الشّوى شنجُ النَّسا ... طوال القرا نهدٌ أسيلُ المقلد
وقال ابن مطير:
بسودٍ نواصيها وحمر أكفها ... وصفر تراقيها وبيض خدودها
وقال أوس بن حجر:
يشيعها في كل هضبٍ ورملة ... قوائم عوج مجمرات مقاذِف
توائم ألاَّفٍ توالٍ لواحق ... سواهٍ لواهٍ مزبداتٍ خوانف
مزبدات: خفاف خوانف: تهوى بأيديها في ضيُعها.
ومن أشعار المحدثين قول أبي تمام:
غدا الشيبُ مختطا بفوديَّ خطةً ... سبيلُ الرَّدى منها إلى النفس مهيعُ
هو الزور يجفَى والمعاشر يجتوى ... وذو الإلف يقلى والجديد يرقَّعُ
وقوله:
كالغصن في القدّ والغزالة في ال ... بهجة وابن الغزال في غيده
وقوله:
رب خفضٍ تحت السّرى وغناء ... من ناء ونضرةٍ من شحوب
وقول ابن المعتز:
والله ما أدري بكنه صفاتِه ... ملك القلوب فأوبقتْ في أسرِهْ
أبوجههِ أم شعره أم ثغره ... أم نحره أو ردفه أم خصرهْ
وقول أبي تمام:
في مطلب أو مهرب أو رغبة ... أو رهبة أو موكب أو فيلقِ
وقول البحتري:
بحلٍّ وعقدٍ وحزمٍ وفصل ... ونبلٍ وبذلٍ وبأس وجودِ
وقلت:
حليفُ علاء ومجد وفخرٍ ... وبأس وجود وخيرٍ وخيرِ
وقال أبو تمام:
يروعك أن تلقاه في صدر فيلقٍ ... وفي نحر أعداء وفي قلب موكب
وقتل:
وما هو إلا المزن يصفو ظلالُه ... ويعلو مبواه ويبكرُ هاطله
وقلت:
أنتَ الربيع الغضُّ رقّ نسيمُه ... واخضر روضتُه وطاب غمامُه
وقلت:
فتىً لم نزنه بالقوافِي وإنَّما ... حططنا إليه كي يزين القوافِيا
من الغرّ لاحوا أشمسا ومضوا طبيً ... وصالوا أسوداً واستهلّوا سواريا
وقلت:
يسبيك منه مفلّج ومضرّج ... ومقوّم ومعوَّج ومهفهفُ
الفصل السادس والعشرون
في السلب والإيجاب
وهو أن تبنى الكلام على نفي الشيء من جهة، وإثباته من جهة أخرى، أو الأمر به في جهة، والنهي عنه في جهة وما يجرى مجرى ذلك، كقول الله تعالى: " ولا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهُما وقل لهما قولاً كريماً " .وقوله تعالى: " فلا تخشوا الناس واخشوني " .
وقوله تعالى: " مثل الَّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمارِ يحمل أسفاراً " .
ومثاله من النثر قول رجل ليزيد بن المهلب: قد عظم قدرك من أن يستعان بك، أو يستعان عليك، ولست تفعل شيئاً من المعروف، إلا وأنت أكبر منه، وهو أصغر منك، وليس العجب من أن تفعل، وإنما العجب من ألاَّ تفعل. وقول الشّعبيّ للحجاج: لا تعجب من المخطئ كيف أخطأ، واعجب من المصيب كيف أصاب.
وأخبرنا أبو أحمد، قال: حدثنا ابن الأنباري، قال: حدثنا أبي عن بعض أصحابه عن العتبي، قال: قيل لبعض العلماء: إن صاحبنا مات وترك عشرة آلاف، فقال: أما العشرة آلاف فلا تترك صاحبكم.
وقال بعض الأوائل: ليس معي من فضيلة العلم إلا أني أعلم أني لا أعلم.
ومن المنظوم قول امرئ القيس:
هضيم الحشا لا يملأ الكف خصرها ... ويملأ منها كل حجلٍ ودملج
وقال السموءل:
وننكرِ إن شئنا على الناس قولَهم ... ولا ينكرون القول حيث نقول
وقال:
لا يعجبان بقول الناس عن عرضٍ ... ويعجبان بما قالا وما سمعا
وقال آخر:
خفيف الحاذ نسّال الفيافي ... وعبد للصحابة غير عبدِ
وقال الأعشى:
صرمتُ ولم أصرمكم وكصارمٍ ... أخٌ قد طوى كشحاً وآب ليذهبا
وقال آخر:
حتى نجا من خوفه وما نجا
ومن شعر المحدثين قول البحتريّ:
فابقَ عمر الزّمان حتى نؤدى ... شكر إحسانك الذي لا يؤدي
وقال أبو تمام:
إلى سالم الأخلاق من كل عائبٍ ... وليس له مال على الجود سالم
وقال آخر:
أبلغ أخانا تولى الله صحبته ... أني وإن كنتُ لا ألقاهُ ألقاهُ
الله يعلمُ أني لستُ أذكره ... وكيف يذكره من ليس ينساهُ
وقال آخر:
هي الدرُّ منثوراً إذا ما تكلمت ... وكالدرِّ منظوما إذا لم تكلّم
تعبَّدُ أحرار القلوب بدلّها ... وتملأ عين الناظر المتوسّم
وقال آخر:
ثقي بجميلِ الصَّبرْ مني على الدهر ... ولا تثقي بالصّبر مني على الغدرِ
ولستُ بنظّارٍ إلى جانب الغني ... إذا كانتِ العلياءُ في جانب الفقرِ
وقال أبو تمام:
خليليّ من بعد الجَوى والأسى قفا ... ولا تقفا فيض الدموع السواجم
وقلت:
أفي هذه الأيام زدت ولم تزدْ ... سناءً تعالى فيه قدرك عن قدري
وقلت:
أخو عزائم لا تفنى عجائبها ... والدَّهر ما بينها تفنى عجائبه
تقضى مآربه من كل فائدةٍ ... لكنْ من المجد ما تقضَى مآربه
الفصل السابع والعشرون
في الاستثناء
والاستثناء على ضربين، فالضرب الأول هو أن تأتي معنى تريد توكيده والزيادة فيه فتستثنى بغيره، فتكون الزيادة التي قصدتها، والتوكيد الذي توخيته في استثنائك، كما أخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرني أبو عمر الزاهد، قال: قال أبو العباس: قال ابن سلام، لجندل بن جابر الفزاري:فتىً كملتْ أخلاقه غير أنّه ... جوادٌ فما يبقِي من المال باقيا
فتى كان فيه ما يسرُّ صديقه ... على أنّ فيه ما يسوءُ الأعاديا
فقال هذا استثناء، فتبين هذا الاستثناء لهم، كما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم ... بهنَّ فلول من قراع الكتائبِ
ومثله قول أبي تمام:
تنصَّلَ ربُّها من غير جرمٍ ... إليك سوى النصيحةِ في الوداد
وقلت:
ولا عيب فيه غير أن ذوي الندى ... خساسٌ إذا قيسوا به ولثامُ
والضرب الآخر استقصاء المعنى والتحرز من دخول النقصان فيه، مثل قول طرفة:
فسقَى دباركِ غيرَ مفسدِها ... صوب الربيع وديمةٌ تهمى
وقول الآخر:
فلا تبعدنْ إلا من السوء إنني ... إليك وإن شطَّتْ بك الدارُ نازعُ
وقال الربيع بن ضبع:
فنبتُ ولا يفنى صنيعي ومنطقي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فانِ
وقال أعرابي يصف قوسا:
خرقاء إلاَّ أنها صناعُ
وقال آخر في الخيل:
منها الدّجوجيّ ومنها الأرمكُ ... كالليل إلاّ أنها تحرَّكُ