كتاب : خزانة الأدب وغاية الأرب
المؤلف : تقي الدين أبي بكر علي بن عبد الله الحموي الأزراري
ثم قال بعده
( والليل تجري الدراري في مجرته ... كالروض تطفو على نهر أزاهره )
( وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره )
ولم يزل يتلاعب بهذه المعاني المخترعة إلى أن قال
( خذ من زمانك ما أعطاك مغتنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره )
( فالعمر كالكأس تستحلى أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره )
( واجسر على فرص اللذات محتقرا ... عظيم ذنبك إن الله غافره )
( فليس يخذل في يوم الحساب فتى ... والناصر ابن رسول الله ناصره )
ويعجبني من مخالصه الموسويات قوله من قصيدة مطلعها
( يا نار أشواقي لا تخمدي ... لعل ضيف الطيف أن يهتدي )
ولم يزل راتعا في رياض غزلها إلى أن قال
( غازلنا من نرجس ذابل ... وافتر عن نور أقاح ندى )
( وقام يلوي صدغه قائلا ... لا تغترر بي فكذا موعدي )
( فقلت يالله مات الوفا ... فقال موسى لم يمت خذ يدي )
وقوله من المخالص الأشرفيات الموسويات في بيت المخلص الذي يستغني بتمكنه وقوته عن ذكر ما قبله
( يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت )
ومن مخالصه الأشرفيات أيضا قوله من قصيدة
( بتنا وقد لف العناق جسومنا ... في بردتين تكرم وتعفف )
( حتى بدا فلق الصباح كجحفل ... راياته رنك المليك الأشرف )
ويعجبني من مخالصه الأشرفيات أيضا قوله من قصيدة
( يذود شبا القنا عن وجنتيها ... كمنع الشوك للورد الجني )
( إذا ما رمت أقطفه بعيني ... يقول حذار من مرعى وبي )
( لسان السيف من أدنى وشاتي ... ومن رقباي طرف السمهري )
( كأن لجفنها في كل قلب ... فعال المشرفي الأشرفي )
ويعجبني من مخالص الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف قوله من قصيدة يمدح بها القاضي فتح الدين بن عبد الله الظاهر تحمس في غزلها وتغزل في تحمسها إلى المخلص مطلعها
( أرح يمينك مما أنت معتقل ... أمضى الأسنة ما فولاذه الكحل )
وما أحلى ما قال بعده
( يا من يريني المنايا واسمها نظر ... من السيوف المواضي واسمها مقل )
( ما بال ألحاظك المرضى تحاربني ... كأنما كل لحظ فارس بطل )
( من دونها كثب من دونها حرس ... من دونها قضب من دونها أسل )
( ومعشر لم تزل في الحرب تبصرهم ... حمر الخدود وما من شأنها الخجل )
( يثني حديث الوغى أعطافهم طربا ... كأن ذكر المنايا بينهم غزل )
( من كل ذي طرة سوداء يلبسها ... وشيبها من غبار النقع منتصل )
( ضاءت بحسنهم تلك الخيام كما ... ضاءت بوجه ابن عبد الظاهر الدول )
وطالعت تقطيف الجزار فأعجبني منه مخلص قصيدة يمدح بها الأمير جمال الدين موسى بن يغمور مطلعها
( نقلت لقلبي ما بجفنيك من كسر ... وعلمت جسمي بالضنى رقة الخصر )
ولم يزل الجزار يتقطف ما تشتهيه النفس من هذا النوع إلى أن قال
( وهيفاء تحكي الظبي جيدا ومقلة ... رنت وانثنت فارتعت بالبيض والسمر )
( جسرت على لثم الشقيق بخدها ... ورشف رضاب لم أزل منه في سكر )
( ولست أخاف السحر من لحظاتها ... لأني بموسى قد أمنت من السحر )
وما أحل ما قال بعد تخلصه بموسى
( فتى إن سطا فرعون فقر وجدته ... يغرقه من جود كفيه في بحر )
( له باليد البيضاء أعظم آية ... إذا اسودت الأيام من نوب الدهر )
ومن مخالص الشيخ جمال الدين بن نباتة التي هي أوقع في القلوب من خالص الوداد وتوريتها أنفس من خلاصة العقود في الأجياد قوله من قصيدة يمدح بها قاضي القضاة تاج الدين السبكي مطلعها
( واحيرتي بظلام الطرة الداجي ... وشقوتي بنعيم الملمس العاجي )
ولم يزل يكرر حلاوة هذا النبات إلى أن قال
( قد أسرج الحسن خديه فدونك ذا ... سراج خد على الأكباد وهاج )
( وألجم العزل فاركض في محبته ... طرف الهوى بعد إلجام وإسراج )
( وقسم الشعر فاجعل في محاسنه ... شذر القلائد واهد الدر للتاج )
ومثله قوله من قصيدة يمدح بها القاضي جمال الدين بن الشهاب محمود مطلعها
( بأبي نافر كثير الدلال ... إن هذا النفار شأن الغزال )
ثم قال بعده
( حبذا منه مقلة لست أدري ... أبهدب تصول أم بنبال )
( صنفت شجونا بغزال جفن ... فقرأنا مصنف الغزالي )
( وهوينا حلو القوام فنادت ... لا عجيب حلاوة العسال )
( من معيني على هوى زاد حتى ... أهملته نصائح العذال )
( لو رأى عاذلي حقيقة أمري ... لرثاني ولا أقول رثى لي )
( في جمال الحبيب مت شجونا ... وبروحي أفدي تراب الجمال )
ومثله قول الشيخ برهان الدين القيراطي من قصيدة يمدح بها الأمير سيف الدين الكريمي مطلعها
( غرامي فيك يا قمري غريمي ... وذكرك في دجى ليلي نديمي )
وقال بعده
( وملني الحميم وصدعني ... ومالي غير دمعي من حميم )
( وكم سأل العواذل عن حديثي ... فقلت لهم على العهد القديم )
( وعم تسألون ولي دموع ... تخبرهم عن النبأ العظيم )
ولم يزل القيراطي يحرر إبريز هذه المعاني إلى أن قال
( فموعده وناظره وجسمي ... سقيم من سقيم في سقيم )
( كريم مال بخلا عن ودادي ... فملت لنحو مخدوم كريم )
المخالص بالتورية على هذا النمط طريقها مخوف وباب مسلكها مقفل لا سيما على من كفه من هذا الفن صفر ورجله حافية وليس له محمل
ومن مخالصي التي ما برحت التورية في أبواب بيوتها خادمه وكم سلكت هذا الطريق المخوف وعادت إلى بيوتها سالمه قولي من قصيدة امتدح بها شرف الدين صدقة ابن الشماع الشهير في دمشق بابن مسعود وكان من أعز الأصحاب وممن رشف معنا في ذلك العصر سلافة الآداب مطلعها
( سهام جفنيك في الحشا رشقة ... رفقا فما مهجة الشيحي درقه )
وبكر هذه القافية أنا أبو عذرتها وأول من حصل له الفتح في تحريك نكتتها وقلت بعد المطلع منها
( أنفقت عمري وصحتي شغفا ... عليك والصبر آخر النفقه )
( غصن خلاف يميس من خفر ... قلوبنا في هواه متفقه )
( قوامه في اعتداله إلف ... سبحان من مده ومن مشقه )
( عيناي بالثغر مع ذوائبه ... في أول الاصطباح مغتبقه )
( أمير حسن بقرطه ظهرت ... له جنود لكن من الحلقه )
( عامر بيت الوصال خربه ... وقال ما أنت هذه الطبقه )
( بدر منير قسا برؤيته ... لكن نرى عند خده شفقه )
( قالوا لبدر التمام منه ضيا ... قلت وعيش الهوى لقد محقه )
( وحمل الصبح من محاسنه ... أثقال نور لكنه فلقه )
( وماس في الروض كل غصن نقا ... غدا إلى الله رافعا ورقه )
( وانظر إلى الظبي كيف يرمقه ... ويأخذ الغنج منه بالسرقه )
( فقيل والظبي ما يقابله ... فقلت والله ما له حدقه )
( قلت له إن جفن مقلته ... يشبه سهما بعجبه رشقه )
( خفت من القتل رحت أملقه ... سابقني مدمعي جرى ملقه )
ولم أزل ناشرا علم التورية إلى أن وصلت إلى المخلص بها فقلت
( طرقت باب الحبيب والرقبا ... علي من خيفة اللقا حنقه )
( قالوا فما تبتغي فقلت لهم ... حتى تخلصت أبتغي صدقه )
قولي حتى تخلصت لا يخفى ما فيه من زيادة الحسن على أهل النظر من أهل الأدب ومثله قولي من قصيدة مصغرة مدحت بها قاضي القضاة شمس الدين النويري مطلعها
( طريفي من لييلات الهجير ... مقيريح الجفين من السهير )
وقلت بعد المطلع
( بعيد غزيلي وجوير قلبي ... دميعي في وجيناتي جويري )
( يديوي تريكي المحيا ... غويب عن عويشقه الحضير )
( عبيسي اللحيظ له وجيه ... ضوي نويره لبني بديري )
( حياء مقيلتيه سبا عقيلي ... ولكن الحديد غدا جميري )
( رويض وجينتيه له عنيدي ... نسيب في النظيم إلى زهير )
( مسيبل الشعير على كفيل ... يذكرنا مويجات البحير )
( بدير في الظهير له نوير ... مثيل شكيله ما في العصير )
( حويجبه القويس له سهيم ... مويض في القليب بلا وتير )
( شفيفته قفيل من عقيق ... مقيفيل على در الثغير )
( عذيره النويزل دار حتى ... تشوق للنزيل وللدوير )
( لثمت خديده فجرى دميعي ... فما أحلى الزهير على النهير )
( دنينير الوجيه له بقلبي ... نقيد ليس يصرف عن صديري )
( أتاه سويئلا يوما دميعي ... فقال أنا جعيدي الشعير )
( شهير وصيله عندي يويم ... ويوم هجيره مثل الشهير )
( تبسم لي سحيرا عن رويض ... فقلت ولي دميع كالمطير )
( نثرت دميعتي بنظيم ثغر ... فما أحلى النظيم مع النثير )
( لفيظك والمقيلة مع نظيمي ... سحير في سحير في سحير )
( شعيرك مذ أضل عويشقيه ... هدينا في الظليمة بالنوير )
ولم أستطرد إلى غالب أبيات هذه القصيدة إلا لغرابة أسلوبها فإنني لم أزل أجذب القلوب إلى تحبيب تصغيرها ومغازلة عيون أغزالها إلى أن أبدر بدر مخلصها في أفق توريته
ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من حماة المحروسة إلى المقر المرحومي الأميني صاحب ديوان الإنشاء الشريف بدمشق المحروسة
( يا نزلا لا حمى الفراديس بالشام ... وأعلاهم على قاسيونا )
( بالنسيم العليل منكم إذا ... هب على الغور والربا عللونا )
( وارحموا سائل الدموع وبالله ... عليكم لا تنهروا السائلينا )
( وإذا ما نهرتم الدمع نهرا ... لا تخوضوع فيه مع الخائضينا )
( حبكم فرضنا وسيف جفاكم ... قد غدا في بعادنا مسنونا )
( والحشا لم تخن عهود وفاكم ... وسلوا من غدا عليها أمينا )
ومثله قولي من قصيدة كتبت بها من طرابلس المحروسة إلى سيدنا قاضي القضاة تقي الدين ابن الخيثمي الحنفي بحماة المحروسة نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه
( فيا ساكني مغنى حماة نعمتم ... صباحا ولو ألغيتم في الورى ذكري )
( فودي ودي مثل ما تعهدونه ... ولكن صبري عنكم عاد كالصبر )
( وقد كنت أخشى هجركم قبل بعدكم ... فلما بعدتم قلت آها على الهجر )
( وإن جلت في ميدان نظمي تشوقا ... تسابقني حمر المدامع بالنثر )
( وشيعي همي كلما رام بعدكم ... يحاربني ناديت يا لأبي بكر )
قد تقدم وتقرر أن مخالص التورية صعب مسلكها على كثير من الناس ولم أبرز بدورها هنا كاملة إلا ليزول عن الطالب ظلمة الالتباس
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة أحد أعيان العصر المقر المجدي فضل الله بن مكانس فسح الله في أجله مخلصا من غزل إلى مديح نبوي وهو
( كم حمد السامعون وصفي ... لغادة قينة وأغيد )
( فعدت عنه تقى وعودي ... لمدح خير الأنام أحمد )
هذا المخلص حلاه المقر المجدي بشعار التورية وخفر المديح النبوي ومخلص الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم )
الشيخ صفي الدين تخلص في بيت واحد ووثب من شطره الأول إلى شطره الثاني على الشرط المعروف وهذا المنوال قد تقرر أنه عليه عقدت خناصر المتأخرين ولكن الشيخ صفي الدين وثب وثبة ضعيفة دلت على ضعف تخلصه فإن بيته بمفرده غير صالح للتجريد
وقد تقدم القول على بيت القسم من قصيدة أنه غير صالح للتجريد أيضا فإنه لم يأت بجواب قسمه إلا في بيت الاستعارة وعلى كل تقدير إن لم يؤت ببيت القسم
وبيت الاستعارة قبل بيت التخلص لم يحصل به فائدة ولا يصير على مخلصه طلاوة الأدب ويصير بينه وبين الأذواق السليمة مباينة وقد تعين أن أورد بيت القسم وبيت الاستعارة هنا ليصيراه لمخلصه الضعيف تكأتين وهما
( لا لقبتني المعالي بابن بجدتها ... يوم الفخار ولا بر التقى قسمي )
( إن لم أحث مطايا العزم مثقلة ... من القوافي تؤم المجد عن أمم )
( من كل معربة الألفاظ معجمة ... يزينها مدح خير العرب والعجم )
وأين الشيخ صفي الدين الحلي من قول كمال الدين بن نبيه وقد تقدم
( يا طالب الرزق إن سدت مذاهبه ... قل يا أبا الفتح يا موسى وقد فتحت )
هذا المخلص لحسن تجريده يستغنى به عن قصيدة
وقد تقرر أن نظام البديعيات التزموا أن يكون كل بيت منها شاهدا على نوعه بمجرده ليس له تعلق بما قبله ولا بما بعده
ومخلص العميان مثل مخلص الشيخ صفي الدين الحلي أيضا فإنه غير صالح للتجريد وما تتم به الفائدة إن لم يأت ناظمه بما قبله وعلى مذهب أصحاب البديعيات ما يصلح أن يكون شاهدا وهو
( يمم بنا البحر إن الركب في ظمإ ... فقلت سيروا فهذا البحر عن أمم )
وقد تقدم قولي إن العميان أتوا في براعة الاستهلال بصريح المدح وهو قولهم فيها
( بطيبة انزل ويمم سيد الأمم ... وانشر له المدح وانثر طيب الكلم )
فإذا حصل التصريح بالمدح في المطلع الذي هو براعة الاستهلال لم يبق لحسن التخلص موقع فإن حسن التخلص من شرطه أن يخلص الشاعر من الغزل إلى المديح لا من المديح إلى المديح وأيضا فإن النبي لم يكن له في المخلص ذكر ولكنه استغنى بذكر البحر فإنه جعله كناية عن كرم النبي
ومخلص الشيخ عز الدين في بديعيته
( حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم )
الشيخ عز الدين صرح بذكر حسن التخلص في أول البيت هنا وجل القصد أن يكون التصريح به في الشطر الثاني مع أنه لم يأت بحسن التخلص على الشروط المقررة فإنه انتقل من معنى إلى معنى آخر من غير تعلق بينهما كأنه استبدأ كلاما آخر
وقد تقدم القول في أول الباب إن هذا النوع إذا نسج على هذا المنوال سمي اقتضابا ولم يكن له حظ في حسن التخلص فإن الشيخ عز الدين قال قبل مخلصه
( وارع النظير من القوم الأولى سلفوا ... من الشباب ومن طفل ومن هرم )
ثم قال بعده
( حسن التخلص من ذنبي العظيم غدا ... بمدح أكرم خلق الله كلهم )
الشيخ عز الدين استبدأ هنا كلاما آخر وليس بين بيت التخلص وبين ما قبله علاقة ولا أدنى مناسبة
وبيت بديعيتي
( ومن غدا قسمه التشبيب في غزل ... حسن التخلص بالمختار من قسمي )
هذا البيت ما يشك متأدب أنه أعمر بيوت البديعيات وهو في غنية عن الإطناب في وصفه
ذكر الاطراد
( محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول ... خير نبي في اطرادهم )الاطراد في اللغة مصدر اطرد الماء وغيره إذا جرى من غير توقف وفي الاصطلاح أن يذكر الشاعر اسم الممدوح واسم من أمكنه من آبائه في بيت واحد على الترتيب ولا يخرج عن طرق السهولة ومتى تكلف أو تعسف في بناء بيته لم يعد اطرادا فإن المقصود من هذا النوع أن يكون كلام الناظم في سهولة جريانه واطراده كجريان الماء في اطراده فمتى جاء كذلك دل على قوة الشاعر وتمكنه وحسن تصرفه
وقد تقدم القول إن الشيخ صفي الدين ما نظم بديعيته حتى جمع عنده سبعين كتابا في هذا الفن يجتني من أوراقها كل ثمرة شهية ورأيته في شرح بديعيته قد أورد لهذا المعنى حدا فيه زيادة على الجماعة فإنهم لم يزيدوا على اسم الممدوح واسم من أمكن من آبائه شيئا والشيخ صفي الدين نقل في شرح بديعيته أن الاطراد عبارة عن اسم الممدوح ولقبه وكنيته وصفته اللائقة به واسم من أمكن من أبيه وجده وقبيلته ليزداد الممدوح تعريفا وشرط أن يكون ذلك في بيت واحد من غير تعسف ولا تكلف ولا انقطاع بألفاظ أجنبية وأورد على ذلك قول بعضهم
( مؤيد الدين أبو جعفر ... محمد بن العلقمي الوزير )
هذا البيت جمع ناظمه فيه بين اللقب والكنية واسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائقة به وهو القدر الذي قرره الشيخ صفي الدين في الحد الذي أورده في شرحه
وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي لأجل المعارضة
ومثله قول بعض المتأخرين في زكي الدين بن أبي الأصبع
( عبد العظيم الذكي ابن أبي ... الأصبع رب القريض والخطب )
هذا البيت اشتمل أيضا على اسم الممدوح واسم أبيه والصفة اللائقة به وهو صالح لمجرد المدح ولكن عقبه الناظم بأبيات مشتملة على صريح الهجو كان الأوجب عدم إيرادها هنا حفظا لمقام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع ولكن جراءة ظرفها ركبت صهوة القلم وأطلقت عنانه فإنه قال بعده
( يزعم أني بالهجو أذكره ... تعصبا منه ساعة الغضب )
( لكنني والطلاق يلزمني ... ما ملت فيه يوما إلى الكذب )
( نكت ابنه وأخته وخالته ... ونكت قدما أخاه وهو صبي )
( ولست فيما أتيت مبتدعا ... قد كان هذا في سالف الحقب )
( ناك أبي أمه وجدته ... وعمتيه لله در أبي )
( ونحن في بيته على دعة ... النيك ما بيننا إلى الركب )
وأما شواهد هذا النوع المشتمل على اسم الممدوح واسم أبيه وجده من غير كنية ولقب وصفة فمنها قول الشاعر
( من يكن رام حاجة بعدت عنه ... وأعيت عليه كل العياء )
( فلها أحمد المرجى بن يحيى بن ... معاذ بن مسلم بن رجاء )
قال الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع لقد أربى هذا الشاعر في هذا النوع على من تقدمه ولو سلم بيته من الفصل بلفظة المرجى لكان غاية لا تدرك وعقيلة لا تملك
انتهى كلام الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( محمد المصطفى الهادي النبي أجل ... المرسلين ابن عبد الله ذي الكرم )
الشيخ صفي الدين أتى في هذا البيت باسم الممدوح والصفات اللائقة به واسم أبيه
وبيت العميان في بديعيتهم
( قد أورث الجد عبد الله شيبة عن ... عمرو بن عبد مناف عن قصيهم )
الذي أقوله إن بيت العميان في غاية التكلف والتعسف ولعمري إن ناظمه خالف أمر مشايخ البديع في المشي على طريق السهولة والانسجام وأيضا فإن النبي هو
الممدوح في هذه القصيدة بكمالها وليس له ذكر في هذا البيت فعلى هذا التقدير هو غير صالح للتجريد مع ما فيه من العقادة
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( محمد بن عبد الله شيبة جده ... ابن عمرو كرام في اطرادهم )
أقول إن بيت العميان في غاية السهولة عند هذا البيت وهذا القدر أليق من إطلاق لسان القلم في الكلام عليه
وبيت بديعيتي
( محمد بن الذبيحين الأمين أبو البتول ... خير نبي في اطرادهم )
هذا البيت أيضا فيه اسم الممدوح وذكر أبيه وهو أحد الذبيحين لأن أباه عبد المطلب كان قد نذر ذبح أحد أولاده إذا صاروا عشرة فلما كملت له العشرة أقرع بينهم فوقعت على عبد الله فوداه بمائة من الإبل وهو أول من ودي بذلك وكانت الدية قبل ذلك عشرا وفي البيت إشارة إلى جده إسماعيل عليه السلام وتفسير هذا الاسم مطيع الله الذبيح وقال أنا ابن الذبيحين وفيه الصفة المعدودة من أسمائه الشريف والصفة اللائقة بمقامه العالي واسم النوع البديعي في القافية مورى به من جنس المديح
والذي يظهر لي أنه أرق من بيت العميان وبيت الشيخ عز الدين وأكثر معاني من بيت الشيخ صفي الدين والله أعلم
ذكر العكس
( عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي )العكس في اللغة رد آخر الشيء على أوله ويقال له التبديل
وفي الاصطلاح تقديم لفظ من الكلام ثم تأخيره ويقع على وجوه كثيرة ولكن المراد هنا ما استعمل منها وكثر استعماله فالمقدم في هذا الباب قوله تعالى ( تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) العكس هنا مميز بعلو طباقه وبشرف القدرة الإلهية التي لا تصدر إلا عن عظمة الخالق جلت قدرته وبلاغة القرآن وإيجازه وفصاحته
وعلى كل تقدير فالعكس نوع رخيص بالنسبة إلى ما فوقه من أنواع البديع الغالية وإن لم يصوب البليغ عكسه بنكتة بديعية تنظمه في سلك أنواع البديع فهو مستمر على عكسه كقول القائل
( زعموا أني خؤون في الهوى ... في الهوى أني خؤون زعموا )
هذا البيت ليس فيه نكتة تزيل عنه العكس وتحليه بشعار البديع ولو أراد الشاعر أن يرتجل مثله ما شاء في مجلس واحد لكان ذلك قدرا يسيرا وأين هذا الناظم من أبي تمام وقد قال له بعض حساده لم لا تقول ما يفهم فقال له على الفور لم لا تفهم ما يقال وأين هو من قول الحكيم الذي قيل له لم تمنع من يسألك فقال لئلا أسأل من يمنعني وأين هو من كلام الحكيم الذي قال إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون
وقيل إنه ورد في الحديث جار الدار أحق بدار الجار
وما أبلغ قول الحسن بن سهل هنا
وقد قيل له لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير
ويروى لأمير المؤمنين هارون الرشيد من النظم في هذا الباب
( لساني كتوم لأسرارهم ... ودمعي بسري نموم مذيع )
( فلولا دموعي كتمت الهوى ... ولولا الهوى لم يكن لي دموع )
وبديع هنا قول الصاحب ابن عباد وقد بالغ في وصف الزجاج والشراب وهو
( رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر )
( فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر )
ومثله
( ألست ترى أطباق ورد وحولها ... من النرجس الغض الطري قدود )
( فتلك خدود ما عليهن أعين ... وتلك عيون ما لهن خدود )
ويعجبني إلى الغاية في هذا الباب قول الأضبط الشاعر
( قد يجمع المال غير آكله ... ويأكل المال غير من جمعه ) ( ويقطع الثوب غير لابسه ... ويلبس الثوب غير من قطعه )
ومثله في الحكمة قول ابن نباتة السعدي
( ألا فاخش ما يرجى وجدك هابط ... ولا ترج ما يخشى وجدك رافع )
( فلا نافع إلا مع النحس ضائر ... ولا ضائر إلا مع السعد نافع )
ومن حكم أبي الطيب المتنبي قوله في هذا الباب
( فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده )
ومثله في الحسن والبلاغة قوله
( إن الليالي للأنام مناهل ... تطوى وتنشر دونها الأعمار )
( فقصارهن مع الهموم طويلة ... وطوالهن مع السرور قصار )
حذف
واستشهدوا على نوع الطباق بقول الشاعر
( رمى الحدثان نسوة آل حرب ... بمقدار سمدن له سمودا )
( فرد شعورهن السود بيضا ... ورد وجوههن البيض سودا )
والعكس هنا أحق من المطابقة وأولى فما فيه من عكس مطابقة عجزه لصدره وتبديل الطباق في العجز والصدر ومن الذي يستظرف هنا إلى الغاية قول الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماة
( أفنيت عمري في دهر مكاسبه ... نطيع أهواءنا فيها وتعصينا )
( تسعا وعشرين مد الهم شقتها ... حتى توهمتها عشرا وتسعينا )
وتلطف الشيخ جمال الدين بن نباتة بقوله هنا
( مسألة الدور غدت ... بيني وبين من أحب )
( لولا مشيبي ما جفت ... لولا جفاها لم أشب )
أنظر ما أليق ما حصر الشيخ جمال الدين مسألة الدور في هذا النوع مع قصر البحر
ويعجبني أيضا قول الشيخ علاء الدين علي بن مقاتل الحموي في مطلع من مطالع أزجاله وهو
( حبي عودني الوصال ... وعوايد وقطع )
( وامتنع لما حلي ... وحلا لما امتنع )
وأنشدني من لفظه لنفسه الكريمة قاضي القضاة عماد الدين أخو شيخي قاضي القضاة علاء الدين بن القضامي تغمدهما الله برحمته ورضوانه مطلعا يناظر مطلع ابن مقاتل بحسنه في هذا الباب وهو
( قلت يوما لمن هويت ... فيه اعدل عملك )
( قال بجوري ترتضي ... وإلا اعمل عدلك )
وزاد الشيخ زكي الدين بن أبي الأصبع هذا النوع أعني عكس الألفاظ صنفا معنويا وهو أن يأتي الشاعر إلى معنى لنفسه أو لغيره فيعكسه
فمثال ما عكس الشاعر من المعاني لغيره
قال الأول
( قد يدرك المتأني بعض حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل )
قال الثاني الذي عكس الأول
( وربما فات بعض الناس أمرهم ... مع التأني وكان الحزم لو عجلوا )
وقد تقدم قول الناس في المثل السائر ما في السويدا رجال فعكست هذا المعنى على أصحابه وقلت
( في سويدا مقيلة الحب نادى ... جفنه وهو يقنص الأسد صيدا )
( لا تقولوا ما في السويدا رجال ... فأنا اليوم من رجال السويدا )
ومن القسم الثاني وهو عكس الشاعر معنى نفسه قول بعضهم
( وإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا )
ومثله قول الشاعر وتلطف ما شاء
( ها قد غدا من ثياب الشعر في كفن ... وقد تعفت معاني وجهه الحسن )
( وكان يعرض عني حين أبصره ... فصرت أعرض عنه حين يبصرني )
وأظرف منه قول الشيخ جمال الدين ابن نباتة
( وصديق قوى يدي بنوال ... وأراه من بعد حاول وهني )
( كان مثل البستان آخذ منه ... صار مثل الحمام يأخذ مني )
انتهى ما أوردته في هذا الباب من عكس الألفاظ والمعاني وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته شاهد في هذا الباب على عكس الألفاظ وهو قوله عن النبي
( أبدى العجائب فالأعمى بنفثته ... غدا بصيرا وفي الحرب البصير عمي )
الشيخ صفي الدين أتى في هذا الباب بالغرض من نظم النوع المذكور ولكن لم يخل بيته من بعض عقادة هذا مع عدم تكلفه بتسمية النوع على الشرط المقرر
وبيت العميان
( فاتبع رجال السرى في البيد واسر له ... سرى الرجال ذوي الألباب والهمم )
بيت العميان لم يخلص من العكس هنا إذ ليس فيه نكتة تلم له مع البديع شملا وليس فيه غير رجال السرى وسرى الرجال
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( خير المقال مقال الخير فاصغ ودع ... عكس الصواب مع التبديل تستقم )
الشيخ عز الدين أتى في هذا النوع بالمقصود من نظم النوع البديعي وتسميته على الشرط المقرر ولكنه أجنبي من مديح النبي وليس له أدنى تعلق ببيت المديح الذي قبله وهو
( تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم )
وأعجب من هذا أنه قال بعد هذا البيت عن النبي
( له الجميل من الرب الجميل على الوجه ... الجميل بترديد من النعم )
وغالب مديحه النبوي في هذه القصيدة على هذا النمط فإنها ما انسجمت معه إلا في مواضع قليلة والظاهر أن ثقل تسمية النوع على الشرط المعلوم كلما أثقل كاهله فر إلى جهة يستند إلى ركنها
وبيت العميان كاد أن يكون أجنبيا من المديح ولكن اتكلوا على عود الضمير على الممدوح وهو النبي
وبيت بديعيتي وهو قولي عن النبي
( عين الكمال كمال العين رؤيته ... يا عكس طرف من الكفار عنه عمي )
أقول إنه في سهولته وانسجامه وحسن تركيبه وبديع تسميته وتمكين قافيته بيت عامر بالمحاسن والله أعلم
ذكر الترديد
( أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي )الترديد هو أن يعلق الشاعر لفظة في بيت واحد ثم يرددها فيه بعينها ويعلقها بمعنى آخر كقوله تعالى ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) واستشهدوا على هذا النوع من النظم بقول أبي نواس
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء )
والذي أقوله إن الترديد والتكرار ليس تحتهما كبير أمر ولا بينهما وبين أنواع البديع قرب ولا نسبة لانحطاط قدرهما عن ذلك ولولا المعارضة ما تعرضت لهما في بديعيتي ولكن ذكر زكي الدين ابن أبي الأصبع بينهما فرقا فيه بعض إشراق وهو أن اللفظة التي تكرر في البيت ولا تفيد معنى زائدا بل الثانية عين الأولى هي التكرار واللفظة التي يرددها الناظم في بيته تفيد معنى غير معنى الأولى هي الترديد وعلى هذا التقدير صار للترديد بعض مزية يتميز بها إلى التكرار ويتحلى بشعارها وعلى هذا الطريق نظم أصحاب البديعيات هذا النوع أعني الترديد
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( له السلام من الله السلام وفي ... دار السلام تراه شافع الأمم )
لفظة السلام متعلقة في كل موضع بغير الآخر لاشتراكها
والعميان لم ينظموا هذا النوع
وبيت الشيخ عز الدين
( له الجميل من الرب الجميل على الوجه ... الجميل بترديد من النعم )
وبيت بديعيتي
( أبدى البديع له الوصف البديع وفي ... نظم البديع حلا ترديده بفمي )
أقول إن حلاوة الترديد بالفم أحلى من قول الشيخ عز الدين بترديد من النعم وأحسن موقعا لكونها في القافية والله أعلم
ذكر التكرار
( كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ابن ... الزائد الكرم ابن الزائد الكرم )المديح للكريم مليح هنا
وقد تقدم قولي إن التكرار هو أن يكرر المتكلم اللفظة الواحدة باللفظ والمعنى والمراد بذلك تأكيد الوصف أو المدح أو الذم أو التهويل أو الوعيد أو الإنكار أو التوبيخ أو الاستبعاد أو الغرض من الأغراض
فأما ما جاء منه للذم فكقول مهلهل بن ربيعة أخي كليب
( يا لبكر أنشروا لي كليبا ... يا لبكر أين أين الفرار )
وأما ما جاء منه للمدح فكقول كثير في عمر بن عبد العزيز
( فأربح بها من صفقة لمبايع ... وأعظم بها وأعظم بها ثم أعظم )
وكقول أبي تمام
( بالصريح الصريح والأروع الأروع ... منهم باللباب اللباب )
وأما ما جاء منه للتهويل فكقوله تعالى ( القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة ) وكقوله ( الحاقة ما الحاقة )
وأما ما جاء منه للإنكار والتوبيخ فهو تكرار قوله تعالى في سورة الرحمن ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) فإن الرحمن جل جلاله ما عدد آلاءه هنا إلا ليبكت بها من أنكرها على سبيل التقريع والتوبيخ كما يبكت منكر أيادي المنعم عليه من الناس بتعديدها له
وأما ما جاء منه للاستبعاد فكقوله تعالى ( هيهات هيهات لما توعدون )
وأما ما جاء منه في النسيب وهو في غاية اللطف فقول بعضهم
( يقلن وقد قيل إني هجعت ... عسى أن يلم بروحي الخيال )
( حقيق حقيق وجدت السلو ... فقلت لهن محال محال )
وألطف منه قول القاضي
( ماذا تقول اللواحي ضل سعيهم ... وما تقول الأعادي زاد معناه )
( هل غير أني أهواه وقد صدقوا ... نعم نعم أنا أهواه وأهواه )
وما أحلى ما قال بعده
( حسب البرية أجرا فضل رؤيته ... فما رئي قط إلا سبح الله )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم ابن ... الطاهر الشيم ابن الطاهر الشيم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( تكرار مدحي هدى في الشامل النعم ابن ... الشامل النعم ابن الشامل النعم )
وبيت بديعيتي
( كررت مدحي حلا في الزائد الكرم ابن ... الزائد الكرم ابن الزائد الكرم )
كاد بيت الشيخ صفي الدين وبيت الشيخ عز الدين وبيت بديعيتي أن يكونوا بيتا واحدا لمناسبة التركيب وإن كان بيت الشيخ صفي الدين مميزا بزيادة واحدة في التكرار فقد جاء موضعها التورية في تسمية النوع كما قيل وأين الثريا من يد المتناول
والذي يظهر أن مكرر بيتي حلاوته ظاهرة على بيت الشيخ عز الدين فإن مكرره ناقص الحلاوة والله تعالى أعلم
ذكر المذهب الكلامي
( ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم )المذهب الكلامي نوع كبير نسبت تسميته إلى الجاحظ وهو في الاصطلاح أن يأتي البليغ على صحة دعواه وإبطال دعوى خصمه بحجة قاطعة عقلية تصح نسبتها إلى علم الكلام إذ علم الكلام عبارة عن إثبات أصول الدين بالبراهين العقلية القاطعة
وقيل إن ابن المعتز قال لا أعلم ذلك في القرآن أعني المذهب الكلامي وليس عدم علمه مانعا علم غيره ولم يستشهد على المذهب الكلامي بأعظم من شواهد القرآن وأوضح الأدلة في شواهد هذا النوع وأبلغها قوله تعالى ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا )
هذا دليل قاطع على وحدانيته جل جلاله وتمام الدليل أن تقول لكنهما لم تفسدا فليس فيهما آلهة غير الله
ومنه قوله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا
وتمام الدليل أن يقال لكنكم ضحكتم كثيرا وبكيتم قليلا فلم تعلموا ما أعلم فهذان قياسان شرطيان من كلام الله وكلام نبيه ومثله قول مالك بن المرجل الأندلسي
( لو يكون الحب وصلا كله ... لم تكن غايته إلا الملل )
( أو يكون الحب هجرا كله ... لم تكن غايته إلا الأجل )
( إنما الوصل كمثل الماء لا ... يستطاب الماء إلا بالعلل )
فالبيتان الأولان قياس شرطي والثالث قياس فقهي فإنه قاس الوصل على الماء
فكما أن الماء لا يستطاب إلا بعد العطش فالوصل مثله لا يستطاب إلا بعد حرارة الهجر
وأما الأقيسة الحملية فقد استنبطوها على صور منها ما يروى أن أبا دلف قصده شاعر تميمي فقال له ممن أنت فقال من تميم
فقال أبو دلف
( تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ... ولو سلكت سبل الهداية ضلت )
فقال له التميمي نعم بتلك الهداية جئت إليك
فأفحمه بدليل حملي ألزمه فيه أن المجيء إليه ضلال
ولعمري إن القياس الشرطي أوضح دلالة في هذا الباب من غيره وأعذب في الذوق وأسهل في التركيب فإنه جملة واقعة بعد لو وجوابها وهذه الجملة على اصطلاحهم مقدمة شرطية متصلة يستدل بها على ما تقدم من الحكم وعلى هذه الطريقة نظمت بيت البديعية وكذلك العميان ويأتي ذلك في موضعه فبيت بديعية الشيخ صفي الدين الحلي
( كم بين من أقسم الله العلي به ... وبين من جاء باسم الله في القسم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي ليس لنور المذهب الكلامي فيه إشراق ولكنه ملحق بالأقيسة الحملية
وبيت العميان قد تقدم أنه من الأقيسة الشرطية وهو قولهم في مديح النبي
( لو لم تحط كفه بالبحر ما شملت ... كل الأنام وأروت قلب كل ظمي )
جملة هذا البيت هي الجملة الواقعة بعد لو وجوابها فإنهم استدلوا بها على ما تقدم من الحكم وهو أن كفه محيط بالبحر وبيان صحة ذلك أنها بلغت أن تشمل كل الأنام وتعمهم بالري وهذا دليل واضح على أنها محيطة بالبحر
وقد تعين أن أقدم بيت بديعيتي هنا على بيت الشيخ عز الدين وأفرط سبحة الترتيب لوجهين أحدهما أن بيتي وبيت العميان أقرا ببهجة هذا النوع في مطلع واحد وهو القياس الشرطي والثاني أن الشيخ عز الدين لم يتمسك في المذهب الكلامي إلا بالقول الضعيف وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ومذهبي في كلامي أن بعثته ... لو لم تكن ما تميزنا على الأمم )
دليل هذا القياس الشرطي في بعثة النبي وأن هذه الأمة تميزت بها على سائر الأمم أوضح من النهار الذي لم يحتج عند ظهوره إلى إقامة دليل
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته قوله
( بمذهب من كلام الله ينسخ شرع ... الأولين ببشرى من كلامهم )
كأن الشيخ عز الدين غفر الله له يقول عن النبي إنه بمذهب من كلام الله أي القرآن ينسخ شرع الأولين وكأنه جعل حجته القاطعة في المذهب الكلامي والله أعلم قوله ببشرى من كلامهم أي من كلام الأولين
ولم أر في هذا البيت للمذهب كلاما ولا للكلام مذهبا غير ما ذكرته وفوق كل ذي علم عليم
ذكر المناسبة
( فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم )المناسبة على ضربين مناسبة في المعاني ومناسبة في الألفاظ
فالمعنوية هي أن يبتدئ المتكلم بمعنى ثم يتمم كلامه بما يناسبه معنى دون لفظ
وهذا النوع أعني المناسبة المعنوية كثير في الكتاب العزيز فمنه قوله تعالى ( أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون )
فانظر إلى قوله سبحانه وتعالى في صدر الآية التي هي للموعظة أولم يهد لهم ولم يقل أولم يروا لأن الموعظة سمعية وقد قال بعدها أفلا يسمعون
وانظر كيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية أولم يروا وقال بعد الموعظة البصرية أفلا يبصرون
ومن أظرف ما أنقله هنا من النقد اللطيف في هذا الباب أن قاضي القضاة عماد الدين ابن القضامي أخا شيخنا قاضي القضاة علاء الدين الحنفي نور الله ضريحه وجعل من الرحيق المختوم غبوقه وصبوحه نظم قصيدة امتدح بها المقر المرحومي السيفي أرغون الأسعردي كافل المملكة الشريفة الحموية وعرضها قبل إنشادها للمدح على أخيه المشار إليه فانتهى منها في المديح إلى بيت يقول فيه
( خبير بتدبير الأمور فمن يرى ... سوى ما يراه فهو في هذه أعمى )
فقال له شيخنا قاضي القضاة علاء الدين يجب أن تقول لأجل المناسبة المعنوية موضع خبير بصير
وقد عدوا من محاسن الأمثلة المعنوية قول أبي الطيب المتنبي
( على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كان النبل في صدره وبل )
فإن بين لفظة السباحة ولفظتي الموج والوبل تناسبا معنويا صار البيت به متلاحما
والذي عقد الناس عليه الخناصر في هذا الباب قول ابن رشيق القيرواني
( أصح وأقوى ما رويناه في الندا ... من الخبر المأثور منذ قديم )
( أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع هذا أحسن شعر سمعته في المناسبة المعنوية فإنه وفي المناسبة حقها وناسب في البيت الأول بين الصحة والقوة والرواية والخبر المأثور وناسب في البيت الثاني بين الأحاديث والرواية والعنعنة هذا مع صحة ترتيب العنعنة من حيث أنها جاءت صاغرا عن كابر وآخرا عن أول كما يقع في سند الأحاديث لأن السيول فرع الحيا أصله وكذلك الحيا فرع البحر أصله ثم نزل البحر منزلة الفرع وجود الممدوح منزلة الأصل للمبالغة في المدح وهذا غاية الغايات في هذا الباب
أقول إنني زاحمت ابن رشيق القيرواني هنا بالمناكب وأبطلت موانع التعقيد لما دخلت معه إلى هذه المطالب وما ذاك إلا أنني امتدحت شيخي المشار إليه أولا مولانا قاضي القضاة ابن القضامي الحنفي بموشح بيت مخلصه تحفة في هذا الباب لأن مناسباته المعنوية رفعت عن محاسنها الحجاب وهو
( رقم السوالف يروي لي بمسنده ... عن رقتي حيهم يا طيب مورده )
( وثغرها قد روى لي قبل ما احتجبت ... عن برق ذاك النقا أيام معهده )
( والريق أمسى عن المبرد ... يروي حديث العذيب مسند )
( عن الصفا عن مذاق الشهد والعسل ... عن ذوق سيدنا قاضي القضاة علي )
وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف محاسن هذا البيت ومناسباته المعنويه فإن برهانه غير محتاج إلى إقامة دليل
وهذا الموشح نظمته بحماه المحروسة في مبادي العمر ورياحين الشبيبة غضة
ولما طلبت إلى الأبواب الشريفة المؤيدية سنة خمس عشرة وثمانمائة ووصلت إلى الديار المصرية في التاريخ المذكور وجدته ملحنا وأهل مصر يلهجون به وبتلحينه كثيرا فتعين علي أن أثبت هنا منه شيئا ليحلو تكريره بمصر وتعرف رتبة قوافيه لأجل بيت المخلص الذي أوردته مثالا على نوع المناسبة المعنوية
فمن غزل الموشح المذكور
( ماست بقامتها يوما بذي سلم ... والشعر كالعلم المنشور للأمم )
( فقلت يا قلب أعلام الهنا نصبت ... ها أنت تخطر بين البان والعلم )
( وأسود الخال مذ تبدى ... في خدها همت فيه وجدا )
( قالت وطلعتها كالشمس في الحمل ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل )
( سألتها برد ما عندي من الكمد ... وقلت نار الجوى قد أضعفت جلدي )
( قالت بريقي أطفئها إذا التهبت ... يا برد ذاك الذي قالت على كبدي )
( وغرقتني بدمع طرفي ... وقالت اسمع كفيت خلفي )
( ألم تخف بللا ناديت يا أملي ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
منه
( بالله يا برق إن أومضت في الثغر ... وحارس اللحظ في شك من الخبر )
( قف بالثنيات واذكرني إذا عذبت ... تلك النهيلات للوراد في السحر )
( وأرسل عليل النسيم خلفي ... فإنه قوة لضعفي )
( عسى تصحح جسما بالفراق بلي ... وربما صحت الأجسام بالعلل )
منه
( إنسان مقلتها لما رأى كلفي ... بسيفه قد أقام الحد في تلفي )
( فمت بالسيف قهرا والحشا نهبت ... لكنني عند موتي مذ قرى شغفي )
( ناديته والدموع طوفان ... وقلت هذا فعال إنسان )
( إلام تعجل في قتلي بلا زلل ... فقال لي خلق الإنسان من عجل )
وقد طال الشرح وخرجنا عما كنا فيه من المناسبة المعنوية وحسن ختامها بما أوردناه من كلام ابن رشيق القيرواني والبيت الذي أوردته من هذا الموشح
وأما المناسبة اللفظية وهي دون رتبة المعنوية فهي الإتيان بكلمات متزنات وهي على ضربين تامة وغير تامة
فالتامة أن تكون الكلمات مع الاتزان مقفاة والناقصة موزونة غير مقفاة
فمن شواهد التامة قوله سبحانه وتعالى ( ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون وإن لك لأجرا غير ممنون ) ومن شواهده التامة في السنة الشريفة قول النبي مما كان يرقي به الحسنين عليهما السلام أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامه ومن كل عين لامه ولم يقل عليه السلام ملمة وهي القياس لمكان المناسبة اللفظية
ومن أمثلة المناسبتين الناقصة والتامة قول أبي تمام حبيب بن أوس
( مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ... قنا الخط إلا أن تلك ذوابل )
فناسب بين مها وقنا مناسبة تامة وبين الوحش والخط وأوانس وذوابل مناسبة غير تامة
قال زكي الدين بن أبي الأصبع هذا البيت من أفضل بيوت المناسبة لما انضم إليه فيها من المحاسن فإن فيه مع المناسبتين التشبيه بغير أداة والمساواة والاستثناء والطباق اللفظي وائتلاف اللفظ مع المعنى والتمكين فأما المناسبة فيه فقد عرفت وأما التشبيه ففي قوله مها وقنا فإن التقدير كمها وكقنا وحذف الأداة ليدل على قرب المشبه من المشبه به وأما الاستثناء البديعي ففي قوله إلا أن هاتا أوانس وقوله إلا أن تلك ذوابل ليثبت للموصوفات التأنيس وينفي عنهن النفار والتوحش وكذلك فعل في الاستثناء الثاني فإنه أثبت لهن اللين ونفى عنهن اليبس والصلابة
وأما المطابقة ففي قوله الوحش وأوانس وهاتا وتلك فإن هاتا للقريب وتلك للبعيد وأما المساواة فلفظ البيت لا يفضل عن معناه ولا يقصر عنه
وأما الائتلاف فلكون ألفاظه من واد واحد متوسطة بين الغرابة والاستعمال وكل لفظة منها لائقة بمعناها لا يكاد يصلح موضعها غيرها
وأما التمكين فاستقرار قافية البيت في موضعها وعدم نفارها عن محلها
انتهى الكلام على المناسبة اللفظية والمعنوية وتقرير التامة والناقصة من اللفظية
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( مؤيد العزم والأبطال في قلق ... مؤمل الصفح والهيجاء في ضرم )
الشيخ صفي الدين لم يحتج في بيته إلى المناسبة المعنوية بل أتى باللفظية
وعجبت منه كيف رضي لنفسه بقول القائل
( إذا كنت ما تدري سوى الوزن وحده ... فقل أنا وزان وما أنا شاعر )
وليته أتى بالمناسبة اللفظية تامة فإنه في عالم الإطلاق غير مقيد بتسمية ومناسبته اللفظية الناقصة ظاهرة فقوله مؤيد العزم في وزن مؤمل الصفح وقوله والأبطال في قلق موازن والهيجاء في ضرم
ولم ينظم العميان هذا النوع وبيت الشيخ عز الدين الموصلي يقول فيه عن النبي
( ألم تر الجود يجري في يديه ألم ... تسمع مناسبة في قوله نعم )
الشيخ عز الدين غفر الله له لم يثبت له مع المناسبة المعنوية واللفظية نسبة ولكنه قال لمن يخاطبه ألم تر الجود يجري من أيادي النبي ألم تسمع مناسبة من لفظ نعم ولفظ الشيخ عز الدين الموضوع في بيته ليس فيه مناسبة لفظية أتى فيها بوزن وقافية ولا مناسبة معنوية ابتدأ فيها بمعنى وتمم كلامه بما يناسبه
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( فعلمه وافر والزهد ناسبه ... وحلمه ظاهر عن كل مجترم )
هذا البيت جمعت فيه ببركة ممدوحه بين المناسبة المعنوية واللفظية التامة المشتملة على الوزن والتقفية
فقولي علمه يناسبه حلمه وزنا وقافية ووافر مثله ظاهر وزنا وقافية والمناسبة المعنوية ابتدأ بها في أول الشطر الثاني من البيت بذكر الحلم ثم تممت كلامي بقولي عن كل مجترم فحصلت المناسبة المعنوية بين الحلم وذكر الاجترام الذي هو الذنب مع تمكين القافية فإنه قيل عن المأمون إنه كان يقول لو علم الناس محبتي للعفو لتقربوا إلي بالجرائم وهذه هي المناسبة المعنوية بعينها ولكن النبي أحق بهذا المدح وأولى بهذه الصفات
ذكر التوشيع
( ووشع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )التوشيع مأخوذ من الوشيعة وهي الطريقة الواحدة في البرد المطلق فكأن الشاعر أهمل البيت إلا آخره فإنه أتى فيه بطريقة تعد من المحاسن وهو عند أهل هذه الصناعة عبارة عن أن يتكلم المتكلم أو الشاعر باسم مثنى في حشو العجز يأتي بعده باسمين مفردين هما عين ذلك المثنى يكون الآخر منهما قافية بيته أو سجعة كلامه كأنهما تفسير له
وقد جاء من ذلك في السنة الشريفة ما لا يلحق بلاغته وهو قوله ( يشيب المرء وتشب معه خصلتان الحرص وطول الأمل ومن أمثلة هذا الباب في النظم قول الشاعر
( أمسي وأصبح من تذكاركم وصبا ... يرثي لي المشفقان الأهل والولد )
( قد خدد الدمع خدي من تذكركم ... واعتادني المضنيان الوجد والكمد )
( وغاب عن مقلتي نومي لغيبتكم ... وخانني المسعدان الصبر والجلد )
( لا غرو للدمع أن تجري غواربه ... وتحته المظلمان القلب والكبد )
( كأنما مهجتي شلو بمسبعة ... ينتابها الضاريان الذئب والأسد )
( لم يبق غير خفي الروح في جسدي ... فدى لك الباقيان الروح والجسد )
هذه الأبيات عامرة بالمحاسن في هذا الباب غير أن أهل النقد الصحيح ما سكتوا عن تقصيره في البيت الأول حيث قال فيه يرثي لي المشفقان الأهل والولد
فإن
شفقة الأهل والولد معروفة والمشفق إذا رثى لشكوى أهله أو الولد إذا رثى لشكوى والده كان ذلك تحصيل الحاصل والمراد هنا أن يقون رثى لي العدو ورق لي الصخر وأشباه ذلك
قال ابن أبي الأصبع وما بشعر قلته هنا من بأس
( بي محنتان ملام في هوى بهما ... يرثي لي القاسيان الحب والحجر )
( لولا الشفيقان من أمنية وأسى ... أودى بي المرديان الشوق والفكر )
رأيت في حاشية على هذين البيتين بخط رفيع رحم الله الشيخ لو قال الشوق والسهر كان أتم وأحسن وبيت الشيخ صفي الدين في هذا الباب غاية فإنه يقول في وصف النبي
( أمي خط أبان الله معجزه ... بطاعة الماضيين السيف والقلم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي رحمه الله
( ومن عطاياه روض وشعه يد ... تغني عن الأجودين البحر والديم )
الشيخ عز الدين أتى بالتوشيع على الوضع ولكنه شن الغارة على ابن الرومي وفك قواعد بيته وهو
( أبو سليمان إن جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان البحر والمطر )
أخذ الأجودين والبحر ورادف المطر بالديم
وهذا ما يليق بأهل الأدب
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( ووسع العدل منه الأرض فاتشحت ... بحلة الأمجدين العهد والذمم )
وأنا على مذهب زكي الدين بن أبي الأصبع في قوله وما بشعر قلته هنا من بأس
انتهى
ذكر التكميل
( آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم )التكميل هو أن يأتي المتكلم أو الشاعر بمعنى تام من مدح أو ذم أو وصف أو غيره من الأغراض الشعرية وفنونها ثم يرى الاقتصار على الوصف بذلك المعنى فقط غير كامل فيأتي بمعنى آخر يزيده تكميلا كمن أراد مدح إنسان بالشجاعة ثم رأى الاقتصار عليها دون مدحه بالكرم غير كامل فيكمله بذكر الكرم أو بالبأس دون الحلم وما أشبه ذلك من الأغراض
وقد جاء منه في الكتاب العزيز قوله تعالى ( فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) فانظر إلى هذه البلاغة فإنه سبحانه وتعالى علم وهو أعلم أنه لو اقتصر على وصفهم بالذلة للمؤمنين لكان مدحا تاما مشتملا على الرياضة والانقياد لإخوانهم ولكن زاده تكميلا ووصفهم بعد ذلتهم لإخوانهم المؤمنين بالعزة على الكافرين وهذا هو التكميل الذي يتطفل البدر على كماله
ومثاله في الشعر قول كعب بن سعيد الغنوي
( حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب )
قوله إذا ما الحلم زين أهله احتراس لولاه لكان المعنى في المدح مدخولا إذ بعض التغاضي قد يكون عن عجز يوهم أنه حلم فإن التجاوز لا يكون حلما محققا إلا عن قدرة وهو الذي قصده الشاعر بقوله إذا ما الحلم زين أهله
فإن الحلم ما يزين
أهله إلا إذا كان عن قدرة وهذا القدر غاية في باب التكميل ثم رأى أن مدحه بالحلم وحده غير كامل فإنه إذا لم يعرف منه إلا الحلم طمع فيه عدوه فقال مع الحلم في عين العدو مهيب قلت ومما يؤيد هذا التقرير قول الشاعر
( وحلم ذي العجز أنت عارفه ... والحلم عن قدرة ضرب من الكرم )
ومن التكميل الحسن قول كثير عزة
( لو أن عزة خاصمت شمس الضحى ... في الحسن عند موفق لقضى لها )
فقوله عند موفق تكميل حسن فإنه لو قال عند محكم لتم المعنى لكن في قوله عند موفق زيادة تكميل بها حسن البيت والسامع يجد لهذه اللفظة من الموقع الحلو في النفس ما ليس للأولى إذ ليس كل محكم موفقا فإن الموفق من الحكام من قضى بالحق لأهله
وقد غلط غالب المؤلفين في هذا الباب وخلطوا التكميل بالتتميم وساقوا في باب التتميم شواهد التكميل فمن ذلك قول عوف السعدي
( إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان )
هذا البيت ساقوه من شواهد التتميم وهو أبلغ شواهد التكميل فإن معنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها وإذا لم يكن المعنى ناقصا فكيف يسمى هذا تتميما وإنما هو تكميل حسن
قال ابن أبي الأصبع وما غلطهم إلا أنهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ وتتميم المعاني فلو سمي مثل هذا تتميما للوزن لكان قريبا ولما ساقوه على أنه من تتميم المعاني وهذا غلط والفرق بين التتميم والتكميل أن التتميم يرد على المعنى الناقص فيتممه والتكميل يرد على المعنى التام فيكمله إذ الكمال أمر زائد على التمام وقد تقدم هذا الكلام على التتميم في موضعه ولكن أردت هنا تفصيل التكميل عن التتميم لتنجلي عن الطالب ظلمة الإشكال بصبح هذا الفرق الدقيق ومن أحسن التكميل قول شاعر الحماسة
( لو قيل للمجد خذ عنهم وخلهم ... بما احتكمت من الدنيا لما حادا )
فقوله بما احتكمت من الدنيا تكميل في غاية الكمال
ويعجبني من هذا الباب قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في بعض مطالعه المقمرة
( نفس عن الحب ما حادت ولا غفلت ... بأي ذنب وقاك الله قد قتلت )
معنى بيت الشيخ جمال الدين أيضا تام بدون قوله وقاك الله ولكن التكميل بوقاك الله قبل قتلت لا يصدر إلا من مثل الشيخ جمال الدين وما أحقه هنا بقول القائل
( قالوا فهل يسمح الدهر الكريم لنا ... بمثله قلت لا والله قد حلفا )
ومثله قولي في مطلع قصيدة
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
معنى البيت تام بدون نسيم العتب ولكن استعارة نسيم العتب هنا بعد ميل الغصن وذكر انعطافه غاية في باب التكميل وفيه مع التكميل المناسبة المعنوية والاستعارة اللطيفة وناهيك بلطف نسيم العتب وفيه التمكين والانسجام ومثله قولي في مطلع قصيدة
( جردت سيف اللحظ عند تهددي ... يا قاتلي فسلبتني بمجرد )
معنى البيت تام بدون قولي يا قاتلي وقولي يا قاتلي بعد تجريد سيف اللحظ أكمل من بدور الكمال وقلت بعد المطلع ولم أخرج عن التكميل
( وأردت أن تسقى بماء حشاشتي ... حاشاك ما يسقى الصقيل من الصدي )
معنى البيت أيضا تام بدون قولي حاشاك ولكنها زادت البيت تكميلا رفعت به قواعده ومثله قولي من قصيدة
( وأفردتموني للغرام لأنكم ... أخذتم كما شاء الهوى بمجامعي )
معنى البيت تام بدون قولي كما شاء الهوى ولكن التكميل بها تكملت به محاسن البيت ومثله قولي من قصيدة
( أذابت القلب في نار الهوى عبثا ... ومذ سلته وقالت إنه قالي )
( قالت سلوت لحاك الله قلت لها ... الله أعلم يا أسما من السالي )
فلفظة عبثا في البيت الأول تكميلها ظاهر ولكن لحى الله من لا ينظر إلى محاسن لحاك الله في البيت الثاني
ومثله قوله من قصيدة
( ورب غصن لأطيار القلوب على ... قوامه في رياض الوجد تغريد )
والمعنى أيضا تام في هذا البيت بدون قولي في رياض الوجد ولكن مناسبة التكميل برياض الوجد بين الغصن والأطيار والتغريد غاية في هذا الباب
وقد طال الشرح ولكن مثل التكميل ما ينقص من قدره ويختصر من أمثلته وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( نفس مؤيدة بالحق تعضدها ... عناية صدرت عن بارئ النسم )
بيت الشيخ صفي الدين لم يظهر لبدور التكميل في أفقه إشراق ومعنى البيت تام ولكن لم يأت فيه الناظم بنكتة تزيده تكميلا
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( تمت محاسنه والله كمله ... فقدره في الورى في غاية العظم )
بيت الشيخ عز الدين أمثل من بيت الشيخ صفي الدين وتكميله ظاهر فإن معنى بيته تام بدون قوله والله كمله ولكن قوله هنا والله كمله في غاية الكمال فإنها اشتملت على تورية التسمية ونكتة النوع وبيت بديعيتي
( آدابه تممت لا نقص يدخلها ... والوجه تكميله في غاية العظم )
معنى هذا البيت أيضا تام بدون قولي لا نقص يدخلها ولكن هذا النقص هو عين التكميل والله أعلم
ذكر التفريق
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )التفريق في اللغة ضد الاجتماع وفي الاصطلاح أن يأتي المتكلم أو الناظم إلى شيئين من نوع واحد فيوقع بينهما تباينا وتفريقا بفرق يفيد زيادة وترجيحا فيما هو بصدده من مدح أو ذم أو نسيب أو غيره من الأغراض الأدبية كقول الشاعر في المديح
( ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء )
ومثله
( من قاس جدواك بالغمام فما ... أنصف في الحكم بين شكلين )
( أنت إذا جدت ضاحك أبدا ... وهو إذا جاد دامع العين )
قال بدر الدين بن النحوية في غير المدح
( حسبت جماله بدرا منيرا ... وأين البدر من ذاك الجمال )
قلت وأحسن منه قول القائل
( قاسوك بالغصن في التثني ... قياس جهل بلا انتصاف )
( هذاك غصن الخلاف يدعى ... وأنت غصن بلا خلاف )
حذف
فالتفريق في الجميع فرقه ظاهر مثل الصبح ولكن هذا النوع ما هو غاية في البديع فما يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه أكثر من ذلك وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي حسن في هذا الباب والتفريق فيه جمع المحاسن في مدح النبي
وبيت العميان في بديعيتهم
( لا يستوي الغيث مع كفيه نائل ذا ... ماء ونائله مال فلا تهم )
العميان غفر الله لهم مسخوا قول الشاعر
( ما نوال الغمام وقت ربيع ... كنوال الأمير يوم سخاء )
( فنوال الأمير بدرة مال ... ونوال الغمام قطرة ماء )
والظاهر أن نوال الغمام وقت الربيع محجب عن العميان ولكن أين هم من موقع التفريق وعظم المباينة بين بدرة المال وقطرة الماء هذا مع ما تجشموه من مشاق التعقيد وثقل التركيب والجميع يخف على النفس بالنسبة إلى قولهم في القافية فلاتهم
نعم ما يحط هذه القافية هنا على هذه الصيغة من شم للأدب رائحة وأين هم من تمكين قافية الشيخ صفي الدين في قوله
( فجود كفيه لم تقلع سحائبه ... عن العباد وجود السحب لم يدم )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( قالوا هو البحر والتفريق بينهما ... إذ ذاك غم وهذا فارج الغمم )
بيت الشيخ عز الدين في هذا الباب عامر بالمحاسن وحشمة المديح النبوي مشرقة على أركانه ونوع التفريق فيه أحلى من ليالي الوصال فإنه مشتمل على تورية التسمية ونكتة النوع البديعي ولطف الانسجام والسهولة وليس في بديعيته بيت يناظره في علو طباقه
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
قد أطلقت لسان القلم في وصف بيت الشيخ عز الدين ولعمري إنه يستحق فوق ذلك فإن التكلف بتسمية النوع مورى به من جنس المديح يثقل كاهل كل فحل
وقد حبست عنان القلم عن الاستطراد إلى وصف هذا البيت فإن في إنصاف أهل الذوق ما يغني عن الإطناب في وصفه
انتهى
ذكر التشطير
( وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم )التشطير هو أن يقسم الشاعر بيته شطرين ثم يصرع كل شطر منهما لكنه يأتي بكل شطر من بيته مخالفا لقافية الآخر كل شطر عن أخيه فمن ذلك قول مسلم بن الوليد
( موف على مهج في يوم ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل )
هذا البيت تصريعه صحيح ولكن تصريع الشطر الثاني قافيته الأولى مرفوعة والثانية مجرورة وهذا عيب في تصريع التشطير وقول أبي تمام في هذا الباب خالص من ذلك وهو
( تدبير معتصم بالله منتقم ... لله مرتعب في الله مرتقب )
وعلى جادته الواضحة مشى الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته وبيته
( بكل منتصر للفتح منتظر ... وكل معتزم بالحق ملتزم )
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وأنا أقول يا ليتني كنت معهم فإنه نوع مبني على قعاقع ليس تحتها طائل ولكن الشروع في معارضة البديعيات أوجب نظمه وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته
( تشطير معتدل بالسيف مشتمل ... في جحفل لهم كالأسد في الأجم )
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى انشقاق القمر في مديح النبي وتقدم قولي في نوع التفريق
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
وقلت بعده في التشطير
( وانشق من أدب له بلا كذب ... شطرين في قسم تشطير ملتزم )
كان الشيخ صفي الدين الحلي يكثر من هذا النوع في غالب قصائده ولعمري إنه استسمن ذا ورم وما خطر لي يوما أنني أدخله إلى بيت من بيوت قصائدي
انتهى
ذكر التشبيه
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )التشبيه ضروب متشعبة وهو والاستعارة يخرجان الأغمض إلى الأوضح ويقربان البعيد وقال الجرجاني التشبيه والتكميل كل منهما بالصورة والصفة وتارة بالحالة وهذه صفة التمثيل
والتشبيه ركن من أركان البلاغة وأركانه أربعة كقولك زيد في الحسن كالقمر فالأول المشبه وهو زيد والثاني المشبه به وهو القمر والثالث المشبه وهو المتكلم والرابع التشبيه وهو الإلحاق المذكور في الشبه وأدوات التشبيه خمسة الكاف وكأن وشبه ومثل والمصدر بتقدير الأداة كقوله تعالى ( وهي تمر مر السحاب ) ومن الشعر كقول حسان
( بزجاجة رقصت بما في قعرها ... رقص القلوص براكب مستعجل )
ومن الشروط اللازمة في التشبيه أن يشبه البليغ الأدون بالأعلى إذا أراد المدح اللهم إلا إذا أراد الهجو فالبلاغة أن يشبه الأعلى بالأدون كقول ابن الرومي سامحه الله في هجو الورد
( كأنه سرم بغل حين سكرجه ... عند البراز وباقي الروث في وسطه )
الظاهر أنه كان جعليا وإلا مثله ما يخالف الإجماع ويبالغ في مثل هذه المغايرة ولعمري إنه في بابه من التشابيه البليغة مع نفور الطباع عن صيغته
ومثله قول أبي العلاء السروي في هجو النرجس وتشبيه أعلاه بدونه
( كراثة ركبت عليها ... صفرة بيض على رقاقه )
وأصحاب المعاني والبيان أطلقوا أعنة الكلام في ميادين حدود التشبيه وتقاريرها وهو عندهم الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى
وقال الرماني التشبيه هو العقد على أن أحد الشيئين يسد مسد الآخر في حال وهذا هو التشبيه العام الذي يدخل تحته التشبيه البليغ وغيره والتشبيه البليغ هو إخراج الأغمض إلى الأوضح مع حسن التأليف
ومنهم من قال التشبيه هو الدلالة على اشتراك شيئين في وصف هو من أوصاف الشيء الواحد
وقال ابن رشيق في العمدة التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة لأنه لو ناسبه مناسبة كلية كان إياه ألا ترى إلى قولهم خد كالورد إنما مرادهم احمرار أوراقه وطراوتها لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه
انتهى حد ابن رشيق
وقيل التشبيه إلحاق أدنى الشيئين بأعلاهما في صفة اشتركا في أصلها واختلفا في كيفيتها قوة وضعفا
قلت وهذا حد مفيد
وأورد ابن أبي الأصبع في كتابه تحرير التحبير للرماني حدا زاد في حسنه على الحد وهو أن التشبيه تشبيهان
الأول منهما تشبيه شيئين متفقين بأنفسهما كتشبيه الجوهر بالجوهر مثل قولك ماء النيل كماء الفرات وتشبيه العرض بالعرض كقولك حمرة الخد كحمرة الورد وتشبيه الجسم بالجسم كقولك الزبرجد مثل الزمرد
والثاني تشبيه شيئين مختلفين بالذات لجمعهما معنى واحدا مشتركا كقولك حاتم كالغمام وعنترة كالضرغام
وتشبيه الاتفاق وهو الأول تشبيه حقيقي وتشبيه الاختلاف وهو الثاني تشبيه مجازي والمراد المبالغة انتهى
ووقوع حسن البيان والمبالغة في التشبيه على وجوه منها إخراج ما لا تقع عليه
الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة وقد عن لي أن أوضح هنا للطالب ما وقع من النظم البديع من تشبيه المحسوس بالمحسوس وتشبيه المعقول بالمعقول وتشبيه المعقول بالمحسوس وتشبيه المحسوس بالمعقول
وهذا القسم الرابع عند أصحاب المعاني والبيان غير جائز ويأتي الكلام عليه في موضعه
وقد تعين تقديم ما وعدت به أولا من تشبيه المحسوس بالمحسوس فإن الذي تقع عليه الحاسة في التشبيه أوضح مما لا تقع عليه الحاسة والشاهد أوضح من الغائب
وقال قدامة أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما حتى يدلى بهما إلى الاتحاد
انتهى
ولم يخطر لي أن أورد هنا من التشبيهات البديعية التي اخترتها أمثلة لهذا النوع إلا ما خف على السمع وعذب في الذوق وارتاحت الأنفس إلى حسن صفاته فإن التشابيه التي تقادم عهدها للعرب رغب المولدون عنها فإنها مع عقادة التركيب لم تسفر عن بديع معنى ما اقل وندر فمن ذلك قول امرئ القيس
( وتعطو برخص غير شثن كأنه ... أساريع ظبي أو مساويك اسحل )
فغاية امرئ القيس هنا أنه شبه أنامل محبوبته بأساريع وهي دواب تكون في الرمل ظهورها ملس وبمساويك اسحل والاسحل شجر له أغصان ناعمة أين هذا من قول الراضي بالله في هذا الباب
( قالوا الرحيل فأنشبت أظفارها ... في خدها وقد اعتلقن خضابا )
( فكأنها بأنامل من فضة ... غرست بأرض بنفسج عنابا )
ومثله قول القائل
( قبلته فبكى وأعرض نافرا ... يذري المدامع من كحيل أدعج )
( فكأن سقط الدمع من أجفانه ... لما بدا في خده المتضرج )
( برد تساقط فوق ورد أحمر ... من نرجس فسقى رياض بنفسج )
أنظر أيها المتأمل إلى هذه التشابيه التي يرشفها السمع مداما وتهيم الأذواق السليمة في محاسنها غراما ومن ذلك قول ابن حاجب النعمان
( ثغر وخد ونهد واحمرار يد ... كالطلع والورد والرمان والبلح )
ومثله قول ابن رشيق
( بفرع ووجه وقد وردف ... كليل وبدر وغصن وحقف )
المراد هنا من حسن التشبيه وبليغه غير كثرة العدد في الصفات فإن قاضي القضاة نجم الدين بن البارزي نور الله ضريحه وصل فيه من العدد إلى سبعة وأوردت ذلك في باب اللف والنشر وأوصله الناس إلى أكثر من ذلك ولكن جل القصد هنا غير كثرة العدد فإن المراد من التشبيه غرابة أسلوبه وسلامة اختراعه كقول القائل
( وتحدث الماء الزلال مع الحصى ... فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى )
( فكأن فوق الماء وشيا ظاهرا ... وكأن تحت الماء درا مضمرا )
أقول إن تشبيه هذا الدر المضمر هنا أغلى قيمة من الدر الظاهر في عقود الأجياد ومثله في الغرابة وسلامة الاختراع قول ابن المعتز
( كأنه وكأن الكأس في فمه ... هلال أول شهر غاب في الشفق )
ومن ذلك قوله
( على عقار صفراء تحسبها ... شيبت بمسك في الدن مفتوت )
( للماء فيها كتابة عجب ... كمثل نقش في فص ياقوت )
ومثله قول ابن حجاج وهو بديع
( هذي المجرة والنجوم كأنها ... نهر تدفق في حديقة نرجس )
ومن مخترعات ابن المعتز في تشبيه الهلال قوله
( أنظر إلى حسن هلال بدا ... يهتك من أنواره الحندسا )
( كمنجل قد صيغ من عسجد ... يحصد من زهر الدجى نرجسا )
ومن مخترعاته أيضا في الهلال
( قد انقضت دولة الصيام وقد ... بشر سقم الهلال بالعيد )
( يتلو الثريا كفاغر شره ... يفتح فاه لأكل عنقود )
ومثله قوله فيه
( وجاءني في قميص الليل مستترا ... يستعجل الخطر من خوف ومن حذر )
( ولاح ضوء هلال كاد يفضحنا ... مثل القلامة قد قدت من الظفر )
هذا التشبيه ذكروا أنه من مخترعات ابن المعتز ولكن زاده القاضي الفاضل بهجة ونقله من الأعلى إلى الأدنى فإن رتبة الهلال وعلوها في التشبيه على قلامة الظفر ما برحت مقررة في الخواطر إلى أن نقلها القاضي الفاضل بطريق بديعية اقتضتها الحال وهي قوله مبالغا في وصف قلعة نجم بالعلو
وأما قلعة نجم فهي نجم في سحاب وعقاب في عقاب وهامة لها الغمامة عمامة وأنملة إذا خضبها الأصيل كان الهلال لها قلامة
فخضاب الأصيل لهذه الأنملة حسن أن يكون الهلال لها قلامة وهذي غاية فاضلية لا تدرك وقد وصلوا في تشبيه الهلال إلى السبعين ولكن ما أوردت هنا إلا أبلغ ما وقع في تشبيهه
ويعجبني من التشابيه البليغة في هذا الباب قول ابن طباطبا
( أما والثريا والهلال جلتهما ... لي الشمس إذ ودعت كرها نهارها )
( كأسماء إذ زارت عشاء وغادرت ... دلالا لدينا قرطها وسوارها )
ومثله في الحسن والغرابة قول أبي نواس
( ويمين الجوزاء تبسط باعا ... لعناق الدجى بغير بنان )
( وكأن النجوم أحداق روم ... ركبت في محاجر السودان )
ومثله قول القائل
( كأن نجوم الليل مزهرة لنا ... ثغور بني حام بدت للتثاؤب )
ويعجبني من التشابيه الغريبة قول ابن نباتة السعدي في جواد أدهم أغر محجل
( تختال منه على أغر محجل ... ماء الدياجي قطرة من مائه )
( وكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أحشائه )
ومن التشابيه اللطيفة البديعية قول القاضي التنوخي من قصيدة
( وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نضار )
( كأن المدير لها باليمين ... إذا مال للشرب أو باليسار )
( تدرع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار )
ومثله في اللطف والغرابة قول القائل
( كم وردة تحكي بسبق الورد ... طليعة تسرعت من جند )
( قد ضمها في الغصن قرص البرد ... ضم فم لقبلة من بعد )
ودخل مجير الدين بن تميم إلى حديقة هذه الوردة فزاد بعدها تقريبا بقوله
( سبقت إليك من الحدائق وردة ... وأتتك قبل أوانها تطفيلا )
( طمعت بلثمك إذ رأتك فجمعت ... فمها إليك كطالب تقبيلا )
وظرف من قال في الوردة
( كأنها وجنة الحبيب وقد ... نقطها عاشق بدينار )
ومثله في الظرف قول أيدمر المحيوي في النرجس
( وكأن نرجسه المضاعف خائض ... في الماء لف ثيابه في رأسه )
ويعجبني في تشبيه النرجس قول شهاب الدين أحمد القماح راجح رجاح الديار المصرية في فن الزجل في بعض أزجاله
( وفي الأزاهير قم ترى شي تذهب ... وشي تصيبوا قد زها وتفضض )
( النرجس أحداقو الشهل نعسانه ... إلا أنها من الندى ليس تغمض )
( وحين فتح عينو في وجهي شبهت ... أصفر ولما بدا في الأبيض )
( ما زعفران على نصافي مطبوع ... وإلا فصوص كهرب في بلار يوجد )
( وإلا تخل شمسات لجين مبرودات ... قد سمروا فيها مسامير عسجد )
وتلطف ابن المعتز في تشبيه حباب الراح بقوله
( يجول حباب الماء في جنباتها ... كما جال دمع فوق خد مورد )
ومثله في اللطف قول ديك الجن الحمصي
( موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها )
ومن المستغرب في وصف البنفسج ما نسب إلى ابن المعتز وهو
( ولا زوردية أوفت بزرقتها ... بين الرياض على زرق اليواقيت )
( كأنها فوق طاقات نهضن بها ... أوائل النار في أطراف كبريت )
أوردوا على هذا التشبيه نقدا ولكن ما يحمل البنفسج هنا نقله ومن التشابيه الغريبة قول بعضهم في تشبيه النار
( أنظر إلى النار وهي مضرمة ... وجمرها بالرماد مستور )
( شبه دم من فواخت ذبحت ... وفوقه ريشهن منشور )
ومثله في الغرابة والحسن قول ابن الخلال في تشبيه الشمعة
( وصحيحة بيضاء تطلع في الدجى ... صبحا وتشفي الناظرين بدائها )
( شابت ذوائبها أوان شبابها ... وأسود مفرقها أوان فنائها )
( كالعين في طبقاتها ودموعها ... وسوادها وبياضها وضيائها )
أقول إنها أنور من شمعة الأرجاني وإن مشى غالب الناس على ضوئها
ومن التشابيه الغريبة المنسوبة إلى ابن المعتز أو ابن الرومي تشبيه أرباع الجوز الأخضر وهو
( جاءت بجوز أخضر مكسر مقشر ... كأنما أرباعه مضغة علك كندر )
ومن التشابيه العقم التي لم يسبق صاحبها إليها قول القائل في أحدب
( قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا )
( وكأنه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا )
ومما ينسب إلى إمام هذه الصناعة القاضي الفاضل قوله في نفسه وهو في غاية الظرف
( ما كان يكمل حر ذا ... الإيوان حتى ازداد قبه )
( فكأنني فيه خروف ... شوي ومن فوقي مكبه )
ويعجبني من التشابيه البليغة قول القائل
( أأميم لو شاهدت يوم نزالنا ... والخيل تحت النقع كالأشباح )
( تطفو وترسب في الدماء كأنها ... صور الفوارس في كؤوس الراح )
ومثله في الحسن قول الناشئ
( في كأسها صور تظن لحسنها ... عربا برزن من الحجال وغيدا )
( وإذا المزاج أثارها فتقسمت ... ذهبا ودرا توأما وفريدا )
( فكأنهن لبسن ذاك مجاسدا ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا )
هذا المعنى ولده الناشئ من قول أبي نواس في التصوير
( بنينا على كسرى سماء مدامة ... مكللة حافاتها بنجوم )
( فلو رد في كسرى بن ساسان روحه ... إذا لاصطفاني دون كل نديم )
وألم به ابن قلاقس فيما بعد وسبكه في قالب حسن بقوله
( دارت زجاجتها وفي جنباتها ... كسرى أنوشروان في إيوانه )
( فخلعت عن عطفيه حلة قهوة ... وشربتها فغدوت في سلطانه )
وألم به الشيخ صلاح الدين الصفدي وأجاد إلى الغاية مع حسن التضمين بقوله
( ومشمولة قد هام كسرى بكأسها ... فأضحى ينادي وهو فيها مصور )
( وقفت لشوقي من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط الصبابة أنظر )
وألم به بعده الصاحب فخر الدين بن مكانس رحمه الله تعالى بقوله
( إذا ما أديرت في حشا عسجدية ... بها كل ذي تاج وقصر تصورا )
( فحسبك نبلا في السيادة أن ترى ... نديميك في الكاسات كسرى وقيصرا )
لم أورد هذه الأبيات التي ولدها المتأخرون في معنى التصوير خالية من التشبيه وأداته إلا لفائدة عن لي إيرادها هنا وهي معرفة الموجب لنقش هذه الصورة على ظاهر الكاسات
ذكر الفقيه أبو مروان الكاتب ابن بدرون في شرحه لقصيدة الوزير عبد المجيد بن عبدون أن سابور بن هرمز الملقب بذي الأكتاف لما رجع من قتال بني تميم قصد الروم والدخول إلى القسطنطينية متنكرا واستشار قومه قبل ذلك فحذروه فلم يقبل قولهم وصار إليها فصادف وليمة لقيصر قد اجتمع فيها الخاص والعام فدخل في جملتهم وجلس على بعض موائدهم وكان قيصر قد أحكم تصوير سابور على آنية شرابه فانتهت الكأس في المجلس إلى يد بعض ندماء الملك وكان ذكيا حاذقا ومن الاتفاق العجيب جلوس سابور في مقابلته فصار النديم ينظر إلى الصورة وإلى سابور ويتعجب من تقارب الشبهين فلم يسعه غير القيام إلى الملك والإسرار إليه بما شاهده فقبض في الحال على سابور ولما مثل بين يدي قيصر سأله عن خبره فقال أنا من أساورة سابور هربت منه لأمر خفته
فلم يقبل ذلك منه وقدم إلى السيف فأقر بنفسه وجعل في جلد بقرة
وتمام أمره إلى أن خلص وعاد إلى ملكه يطول شرحه هنا ومن أراد ذلك ينظر من سلوان المطاع في السلوانة الثانية فإنها مشتملة على أنواع من الحكمة
رجع إلى فتح باب ما كنا فيه من تشبيه المحسوس بالمحسوس فمن التشابيه الملوكية التي لا يقع مثلها للسوقة تشبيه سيف الدولة بن حمدان في قوس قزح وهو
( وساق صبيح للصبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض )
( يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منفض لدينا ومنقض )
( وقد نشرت أيدي الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشي على الأرض )
( يطرزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في أخضر أثر مبيض )
( كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبغة والبعض أقصر من بعض )
ومن تشابيه سيف الدولة الغريبة أيضا قوله
( أقبله على جزع ... كشرب الطائر الفزع )
ومن التشابيه اللطيفة ما نسب إلى إبليس فإن القاضي شمس الدين بن خلكان ذكر في تاريخه عند ترجمة ابن دريد أنه قال سهرت ذات ليلة فلما كان آخر الليل غمضت عيني فرأيت رجلا طويلا أصفر اللون كوسجا دخل علي وأخذ بعضادتي الباب فقال أنشدني أحسن ما قلت في الخمر
فقلت ما ترك أبو نواس لأحد دخولا في هذا الباب
فقال أنا أشعر منه
فقلت ومن أنت فقال أنا أبو ناجية من أهل الشام وأنشدني
( وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... أتت بين ثوبي نرجس وشقائق )
( حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق )
ومن بليغ التشبيهات وبديعها قول أبي محمد عبد الله بن قاضي ميلة في قصيدته الفائية التي امتدح بها ثقة الدولة القضاعي صاحب صقلية الروم وسارت له بها الركبان وأثبتها القاضي شمس الدين بن خلكان بكمالها في تاريخه وقد تقدم ذكر مطلعها في حسن الابتداء والتشبيه الموعود بإيراده هنا قوله من القصيدة المذكورة
( وجؤجؤ مزن الرعد يستل ودقه ... ترى برقه كالحية الصل يطرف )
( ذكرت بها ريا وما كنت ناسيا ... فأذكر لكن لوعة تتضعف )
( كأني إذا ما لاح والرعد معول ... وجفن السحاب الجون بالماء يذرف )
( سليم وصوت الرعد راق وودقه ... كنفث الرقى من عظم ما أتلهف )
ومن لطائف التشبيهات البليغة قول القاضي الفاضل من قصيدة
( كأن ضلوعي والزفير وأدمعي ... طلول وريح عاصف وسيول )
ومثله في اللطف قوله
( لو لم يعطل خاطري من سلوة ... ما كان خدي بالمدامع حالي )
( أودعته قلبي فخان وديعتي ... فسواده في خده كالخال )
ومن التشابيه الغريبة البديعة قوله أيضا من قصيدة أخرى
( وقد تهادت سيوف الهند إذ خضبت ... كالشرب حين تهادى بالزجاجات )
ويعجبني من لطائف التشبيه قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( من لقلبي من جور ظبي هواه ... لي شغل عن حاجر والقويق )
( خصره تحت أحمر البند يحكي ... خنصرا فيه خاتم من عقيق )
ومن التشابيه البديعة قول مجير الدين بن تميم
( ونهر إذا ما الشمس حان غروبها ... ولاحت عليه في غلائلها الصفر )
( رأينا الذي أبقت به من شعاعها ... كأنا أرقنا فيه كأسا من الخمر )
ومثله قوله
( وناعورة قد ألبست لحيائها ... من الشمس ثوبا فوق أثوابها الخضر )
( كطاووس بستان تدور وتنجلي ... وتنفض عن أرياشها بلل القطر )
ومن التشابيه البليغة الرافلة في حلل التورية قوله أيضا
( أبدى السنان جراحة في خده ... تحت العذار فعال قلب قاسي )
( وتطلبوا الآسي فما ظفروا به ... معهم وعز وجوده في الناس )
( شبهت سوسنة أبانت وردة ... تحت البنفسج ما لها من آس )
ومثله قوله
( لو كنت حين علوت ظهر مطية ... لم يعتلقها للمطي عيون )
( وتوسطت بحر السراب حسبتني ... من فوقها ألفا وتحتي نون )
ومثله قوله
( شبهت خدك يا حبيبي عندما ... أبدى الجمال به عذارا أشقرا )
( تفاحة حمراء قد كتبوا بها ... خطا رقيقا بالنضار مشعرا )
ويعجبني قوله مع التشبيه البليغ وحسن التضمين الذي ما تضمن مثله ديوان
( غدير دار نرجسه عليه ... ورق نسيمه وصفا وراقا )
( تراه إذا حللت به لورد ... كأن عليه من حدق نطاقا )
ويعجبني من لطائف التشبيه تخيل محيي الدين بن قرناص الحموي بقوله
( لقد عقد الربيع نطاق زهر ... يضم لغصنه خصرا نحيلا )
( ودب مع العشي عذار طل ... على نهر حكى خدا أسيلا )
تشبه النهر هنا بالخد الأسيل ليس له في الحسن مثيل
ومثله قوله
( لما تبدى النهر عند عشية ... والروض يخضع للصبا والشمأل )
( عاينته مثل الحسام وظله ... يحكي الصدا والريح مثل الصيقل )
ومن التشابيه البليغة التي جمعت بحسن التورية بين الصورة والمعنى وشبب
بمحاسنها الرواة في كل مغنى قول الشيخ جمال الدين بن نباتة في وصف قوس البندق بعد تغزله في الرامي
( قد حمد القوم به عقبى السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر )
( لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه )
( في كفه محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال )
ثم قال منها وهي الطردية الموسومة بنظم السلوك في مصائد الملوك ولم يخرج عن تشبيه القوس مع اشتراك التورية
( كأنها حول المياه نون ... أو حاجب بما نشا مقرون )
ويعجبني منها قوله في وصف التم مع حسن التضمين
( تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا )
ومنها يشبه الطيور الواقعة على قسي الرماة
( كأنها وهي لدينا وقع ... لدى محاريب القسي ركع )
ومن التشابيه الغريبة التي لم يسبق الشيخ جمال الدين بن نباتة إليها قوله
( أشكو السقام وتشكو مثله امرأتي ... فنحن في الفرش والأعضاء ترتج )
( نفسان والعظم في نطع يجمعنا ... كأنما نحن في التمثيل شطرنج )
ومثله في الغرابة قوله من قصيدته اللامية التي عارض بها كعب بن زهير في مديح النبي مع التضمين الفائق
( ما يمسك الهدب دمعي حين أذكركم ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل )
ومن لطائف التشبيهات قول بدر الدين حسن الزغاري في وصف زهر الزنبق
( وزهرة من زنبق ... أنوارها وهاجه )
( صفراء في مبيضة ... كالراح في الزجاجة )
ويعجبني من التشبيه البديع قول الشيخ عز الدين الموصلي مع حسن التضمين
( وسامري أعار البدر منه سنا ... سموه نجما وهذا النجم عرار )
( تهتز قامته من تحت عمته ... كأنه علم في رأسه نار )
وأما التشبيه الذي ولده الشيخ برهان الدين القيراطي فإنه من غايات هذا الباب وهو قوله من قصيدة
( والبدر يستر بالغيوم وينجلي ... كتنفس الحسناء في مرآتها )
وقال أبو حفص برد
( والبدر كالمرآة غير صقلها ... عبث الغواني فيه بالأنفاس )
والمضمن الربع الأخير من البيت وهو من شعر أبي بكر محمد بن هاشم
ومن لطيف التشبيه قول الشيخ علاء الدين علي بن أيبك الدمشقي
( منمنم العارض غنى لنا ... أشياء في السمع حلا ذوقها )
( كأنما في فيه قمرية ... تشدو ومن عارضه طوقها )
ومن التشابيه البديعية التي لم تدرك في هذا الباب تشابيه الصاحب فخر الدين بن مكانس في قصيدته المشهورة المشتملة على وصف شجرة السرح
( مالت على النهر إذ جاش الخرير به ... كأنها أذن مالت لإصغاء )
( كأن صمغتها الحمرا بقشرتها الدكناء ... قرص على أعكان سمراء )
ومنها في وصف سواد السفينة على بحر النيل
( نسعى إليها على جرداء جارية ... من آلة كهلال الأفق حدباء )
( سوداء تحكي على الماء المصندل شامة ... على شفة كالشهد لعساء )
وتظرف الشيخ عز الدين الموصلي بقوله في هذا النوع وإن لم يأت ببليغ التشبيه
( قيل صف هذا الذي همت به ... قلت في وصفي مع حسن المسالك )
( هو كالغصن وكالظبي وكالشمس ... وكالبدر وما أشبه ذلك ) لطف التشبيه في قوله وما أشبه ذلك
ومن التشابيه التي لم أسبق إليها قولي من قصيدة
( حين قابلت خده بدموع ... أثرت خلت ثوب خز مختم )
ومثله قولي من قصيدة
( والغصن يحكي النون في ميلانه ... وخياله في الماء كالتنوين )
ومثله قولي من المدائح المؤيدية
( يا حامي الحرمين والأقصى ومن ... لولاه لم يسمر بمكة سامر )
( والله إن الله نحوك ناظر ... هذا وما في العالمين مناظر )
( فرج على الملحون نظم عسكرا ... وأطاعه في النظم بحر وافر )
( فأنبت منه زحافه في وقفه ... يا من بأحوال الوقائع شاعر )
( وجميع هاتيك البغاة بأسرهم ... دارت عليهم من سطاك دوائر )
( وعلى ظهور الخيل ماتوا خيفة ... فكأن هاتيك السروج مقابر )
تالله لقد وقع هذا التشبيه من مولانا السلطان خلد الله ملكه بموقع وأعجبه غاية الإعجاب واستعاده منه مرارا
ومن التشابيه العقم قولي في وصف حمائم البطائق من الرسالة التي عارضت بها الفاضل كم زاحمت النجوم بالمناكب حتى ظفرت بكف خضيب وانحدرت كأنها دمعة سقطت على خد الشفيق لأمر مريب وكم لمع في أصيل الشمس خصاب كفها الوضاح فصارت بسموها وفرط البهجة كمشكاة فيها مصباح
انتهى ما أوردته نظما ونثرا من بليغ التشبيه في باب المحسوس بالمحسوس
وقد تعين أن أورد هنا ما وقع في النظم من التشبيه الذي هو غير بليغ لينفتح هن الطالب وتصفوا مرآة ذوقه فقد عاب الأصمعي بين يدي الرشيد قول النابغة
( نظرت إليك بحاجة لم تقضها ... نظر المريض إلى وجوه العود )
فقال يكره تشبيه المحبوب بالمريض ومثله قول أبي محجن الثقفي في وصف قينة
( ترجع العود أحيانا وتخفضه ... كما يطير ذباب الروضة الغرد )
قد تقدم القول وتقرر أن المولدين ومن تبعهم رغبوا عن تشابيه العرب لأنها مع عقادة التركيب لم تسفر عن كبير أمر
وقال ابن رشيق في العمدة إن طريق العرب خولفت في كثير من الشعر إلى ما هو أليق بالوقت وأمس بأهله فإن القينة الجميلة لم ترض أن تشبه نفسها بالذباب كما قال أبو محجن
ومثل ذلك قول ابن عون الكاتب
( يلاعبها كف المزاج محبة ... لها وليجري الآن بينهما الأنس )
( فتزبد من تيه عليه كأنها ... عزيزة خدر قد تخبطها المس )
بشاعة هذا التشبيه تمجها الأذواق الصحيحة وتنفر منها الطباع السليمة فإن أهل الذوق ما يطيب لهم أن يشربوا شيئا يشبه زبد المصروع
ومن التشابيه الغريبة التي جمعت بين عدم البلاغة وعقادة التركيب قول الشاعر
( فأصبحت بعد خط بهجتها ... كأن قفرا رسومها قلما )
التقدير فأصبحت بعد بهجتها قفرا كان قلما خط رسومها
وعدوا من التشابيه التي هي غير بليغة قول الشاعر في وصف الروض
( كأن شقائق النعمان فيه ... ثياب قد روين من الدماء )
فهذا وإن كان تشبيها مضيئا فإن فيه بشاعة كثرة الدماء التي تعاف الأنفس اللطيفة رؤيتها وثبوت هذا النقد اتصل بالمتأخرين ونقدوه على الحاجري في قوله
( وما اخضر ذاك الخد نبتا وإنما ... لكثرة ما شقت عليه المرائر )
وقالوا ما زاد الحاجري على أن جعل خد محبوبه مسلخا
فالتشبيه أيضا وإن كان مضيئا فإن فيه بشاعة شق المرائر على خد المحبوب
وبعضهم ما اكتفى بشق المرائر على خد محبوبه حتى سفك عليه الدماء بقوله
( وما أحمر ذاك الخد واخضر فوقه ... عذارك إلا من دم ومرائر )
ومثل ذلك ما عابوه على ابن قلاقس في قوله
( أما ترى الصبح يخفى في دجنته ... كأنما هو سقط بين أحشائي )
لا شك أن بهجة الصبح في أواخر الليل أبهج من السقط بين الأحشاء والمشبه أعلى وأغلى من المشبه به وعلى كل تقدير فالسقط بين الأحشاء وسفك الدماء وشق المرائر على خدود الأحباب تنفر منها الأمزجة اللطيفة اللهم إلا أن يكون ذلك ليس له تعلق بشيء من أوصاف المحبوب بل يكون تعلقه بحكاية حال واقعة كقول الشاعر
( نزلنا بنعمان الأراك وللندى ... سقيط به ابتلت علينا المطارف )
( وقفت بها والدمع أكثره دم ... كأني من جفني بنعمان راعف )
هذه الحالة لا ينكر لها جريان الدمع دما فإنها حالة لائقة بجريانه على هذه الصفة لأن هذا الشاعر لما أن نزل بنعمان التي هي منازل أحبابه ووجدها مقفرة منهم لاق بحاله أن يجري الدمع لشدة الأسف دما
( ومثله قول ابن قاضي ميلة من قصيدته التي تقدم ذكرها
( ولما التقينا محرمين وسيرنا ... بلبيك ربا والركائب تعسف )
( نظرت إليها والمطي كأنما ... غواربها منها معاطس رعف )
هذا التشبيه غاية في هذا الباب وجريان الدماء من غوارب المطي لائق بحكاية حاله فإن هذه الحالة فيها لطف الكنايات عن التعسف في شدة السرى
قلت وإن سبكت هذه الحالة في قوالب الهجو ورصعها الشاعر في صفات من هجاه كانت أحسن موقعا وأبلغ موضعا كقول مولانا المقر الأشرف القاضوي الناصري
البارزي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالممالك الإسلامية عظم الله تعالى شأنه في هجو من لا يمكن ذكره هنا من قصيدة
( وقد علت أسنانه صفرة ... تكدر العيش المريء المريع )
( ولحمها من ورم فاسد ... كالرئة المحبوس فيها نجيع )
هذا التشبيه لم أجد له شبيها في هذا الباب إلا تشبيه ابن الرومي في هجو الورد وقد تقدم ذكره فلو جمع المتأمل بين المشبه المهجو وبين المشبه به وشاهد هذا التخييل الغريب عيانا صدق صحة دعواي في ذلك
ومن التشابيه التي هي غير بليغة قول ابن وزير في تشبيه الماء على الرخام
( لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جاري )
( كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار )
وتلطف ابن الدوري في هجاء هذا الشاعر حيث قال
( وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء )
( أقام يجهد أياما قريحته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء )
ذكرت هنا من التشابيه التي هي غير بليغة قول الشيخ صلاح الدين الصفدي في تشبيه القمر في خلال الأغصان لما انثنت
( كأنما الأغصان لما انثنت ... أمام بدر التم في غيهبه )
( بنت مليك خلف شباكها ... تفرجت منه على موكبه )
وقد أورد عليه علامة عصرنا القاضي بدر الدين الدماميني فسح الله تعالى في أجله في كتابه المسمى بنزول الغيث الذي انسجم في شرح لامية العجم نقدا كشف به القناع عن عدم بلاغة هذا التشبيه
فإن الشيخ بدر الدين المشار إليه قال وقوله صحيح إن ظاهر عبارة الشيخ صلاح الدين تشبيه الأغصان في حالة انثنائها أمام البدر
في الدجى ببنت مليك تطل من شباكها للنظر في موكب أبيها
وذلك عن مظان التشبيه بمعزل
ومقصوده أن البدر في حالة ظهوره من خلال الأغصان المتثنية على الصفة المذكورة يشبه بنت مليك على تلك الحالة تمثيلا للهيئة الاجتماعية لكن اللفظ لا يساعده على ذلك المطلوب فإنه جعل الأغصان مبتدأ وأخبر عنه بقوله بنت مليك فلم يتم له المراد
على أن مقطوع الشيخ صلاح الدين مع ما فيه من عدم بلاغة التشبيه مأخوذ من قول محيي الدين بن قرناص الحموي
( وحديقة غناء ينتظم الندى ... بفروعها كالدر في الأسلاك )
( والبدر يشرق من خلال غصونها ... مثل المليح يطل من شباك )
قلت ليس لأهل النقد مدخل في هذا الشباك
انتهى ما أوردته هنا من التشبيه الذي هو غير بليغ في باب المحسوس بالمحسوس وقد تقدم القول على موجب تقديمه في باب التشبيه وتقرر أن مدركات السمع والبصر والذوق والشم واللمس التي هي الحواس الخمس أوضح في الجملة مما لا تقع عليه الحواس انتهى
القسم الثاني وهو تشبيه المعقول بالمعقول أقول إن هذا النوع في هذا الباب ليس له مواقع المحسوسات وقد تكرر قولي في ذلك
وأحسن ما وجدت فيه أعني تشبيه المعقول بالمعقول قول أبي الطيب المتنبي
( كأن الهم مشغوف بقلبي ... فساعة هجرها يجد الوصالا )
وظريف هنا قول القائل من أبيات مع بديع الاستطراد
( لفظ طويل تحت معنى قاصر ... كالعقل في عبد اللطيف الناظر )
القسم الثالث تشبيه المعقول بالمحسوس وهو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة كقوله تعالى ( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا )
فتشبيه أعمال الكفار بالسراب من أبلغ التشابيه وأبدعها
ومثله قوله تعالى ( مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف )
ومن النظم قول أبي علي ابن سينا
( إنما النفس كالزجاجة والعلم ... سراج وحكمة الله زيت )
ويعجبني في هذا الباب أعني تشبيه المعقول بالمحسوس قول ابن منير الطرابلسي
( زعم كمنبلج الصباح وراءه ... عزم كحد السيف صادف مقتلا )
القسم الرابع تشبيه المحسوس بالمعقول قد تقدم أن هذا القسم عند أهل المعاني والبيان غير جائز وما ذاك إلا أن العلوم العقلية مستفادة من الحواس ومنتهية إليها ولذلك قيل من فقد حسا فقد علما
ووجه الصواب في تشبيه المحسوس بالمعقول أن يقدر البليغ المعقول محسوسا ويجعل أصل المحسوس على طريق المبالغة فرعا فيصبح التشبيه حينئذ كقول الشاعر
( وكأن النجوم بين دجاها ... سنن لاح بينهن ابتداع )
فإنه لما شاع وصف السنة بالبياض والإشراق لقول النبي أتيتكم بالحنيفية البيضاء ليلها كنهارها
واشتهرت البدعة وكل ما ليس بحق بالظلمة والسواد كقولهم ليل الشرك أقام هذا الشاعر السنن مقام الأجناس التي لها إشراق وبياض والبدع مقام أجناس السواد والظلمة فصار ذلك عنده كتشبيه محسوس بمحسوس فجاز له التشبيه على هذا التقدير كقول أبي طالب الرقي
( ولقد ذكرتك والظلام كأنه ... يوم النوى وفؤاد من لم يعشق )
فإنه لما كانت الأوقات التي تحدث فيها المكاره توصف بالسواد كقول من يغتاله مكروه اسودت الدنيا في عيني جعل هذا الشاعر يوم النوى أشهر بالسواد من الظلام فشبهه وعرفه به ثم عطف عليه بفؤاد من لم يعشق تظرفا لأن ظريف العشاق يدعي قسوة قلب من لم يعشق والقلب القاسي يوصف بشدة السواد فصار هذا القلب عنده أصلا في السواد على هذا التقدير فقس على ذلك
ومثله قول القائل
( أسفر ضوء الصبح من وجهه ... فقام خال الخد فيه بلال )
( كأنما الخال على خده ... ساعة هجر في ليالي الوصال )
سواد ساعة الهجر وبياض زمان الوصل قد فهم على ما تقرر وتكرر
ومن ذلك قول الشاعر
( كأن انتضاء البدر من تحت غيمه ... نجاة من البأساء بعد وقوع )
ومن البديع الغريب في هذا الباب قول القاضي التنوخي
( أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انساب منطلقا )
( فانهض بنار إلى فحم كأنهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا )
( جاءت ونحن كقلب الصب حين سلا ... بردا فصرنا كقلب الصب إذ عشقا )
ويعجبني هنا قول الصاحب بن عباد وقد أهدى إلى القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني عطرا
( أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدى له أخلاقه )
ومن التشابيه البليغة في هذا الباب قول الشهاب محمود في تشبيه بعض الحصون والمبالغة في علوه
( كأنه وكأن الجو يكنفه ... وهم تكنفه في طيها الفكر )
وغاية الغايات في هذا الباب أعني تشبيه المحسوس بالمعقول قول أبي نواس رحمه الله
( معتقة صاغ المزاج لرأسها ... أكاليل در ما لناظمها سلك )
( جرت حركات الدهر فوق سكونها ... فذابت كذوب التبر أخلصه السبك )
( وأدرك منها الفائزون بقية ... من الروح في جسم أضر به النهك )
( وقد خفيت من لطفها فكأنها ... بقايا يقين كاد يذهبه الشك )
ومثله قوله وأجاد فيه إلى الغاية
( وندمان سقيت الراح صرفا ... وستر الليل منسدل السجوف )
( صفت وصفت زجاجتها عليها ... كمعنى دق في ذهن لطيف )
والذي سارت له به الركبان في هذا الباب قوله
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم )
انتهى ما أوردته من تشبيه المحسوس بالمعقول وتقرير صوابه وإيراد بديعه وغريبه
وقد تقرر وتكرر أن تشبيه المحسوس بالمحسوس هو المقدم في باب التشبيه وعلى أسه شيد أصحاب البديعيات بيوتهم
ولكن بيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته غير صالح للتجرد فإنه متعلق بالبيت المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى فتعين إيراد البيتين هنا لتظهر نتيجة التشبيه
فبيت ائتلاف اللفظ مع المعنى في بديعيته قوله
( كأنما حلق السعدي منتثرا ... على الثرى بين منقض ومنفصم )
وأتبعه بقوله في التشبيه
( حروف خط على طرس مقطعة ... جاءت بها يد غمر غير مفتهم )
قلت الكمال لله كل من البيتين فيه نقص لافتقاره إلى الآخر ولو تجرد أحدهما عن أخيه ما حسن السكوت عليه ولا تمت به فائدة وكيف يصح التشبيه في بيت واحد وجل القصد به أن يكون بمجرده مثالا للنوع المذكور والمشبه في البيت الأول والمشبه به في البيت الثاني والذي أقوله إنني لم أر في البيت الأول المشتمل على ائتلاف اللفظ مع المعنى معنى ولا على بيت التشبيه الذي بعده للبلاغة بهجة لافتقاره إلى الأول والله أعلم
ومن غرائب ما ينقل هنا أن العميان ما نظموا نوع التشبيه في بديعيتهم ونظموا رد العجز على الصدر وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله في مديح النبي
( وقيل للبدر تشبيه إليه نعم ... نجم الثريا له كالنعل في القدم )
بيت الشيخ عز الدين هنا صالح للتجريد بخلاف بيت الشيخ صفي الدين إذ المراد به أن يكون بمجرده شاهدا على نوع التشبيه ولكن معناه مأخوذ من بيت الفاضل في قصيدته الطائية المشهورة والبيت المأخوذ منه هذا المعنى قوله منها
( أما الثريا فنعل تحت أخمصه ... وكل قافية قالت لذلك طا )
من أين لعقادة الشيخ عز الدين أو لغيره أن يقول في الشطر الأول من بيت قافيته طائية
( أما الثريا فنعل تحت أخمصه )
ويقول في الشطر الثاني
( وكل قافية قالت لذلك طا )
انتهى
وبيت بديعيتي جمعت فيه بين شرف المديح النبوي وشرف تشبيه القرآن إذ هو المقدم في هذا الباب على كل تشبيه فإنني قلت في البيت المشتمل على نوع التفريق البديعي
( قالوا هو البدر والتفريق يظهر لي ... في ذاك نقص وهذا كامل الشيم )
ولم أزل أظهر في أفق البلاغة كماله إلى أن قلت في التشبيه
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )
التشبيه بالتلميح
ثم إني قلت بعده في التلميح الذي ما يلمح في صفات النبي أحسن منه( ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم )
التلميح هو في الاصطلاح أن يشير ناظم هذا النوع في بيت أو قرينة سجع إلى قصة معلومة أو نكتة مشهورة أو بيت شعر حفظ لتواتره أو إلى مثل سائر يجريه في كلامه على جهة التمثيل
وأحسنه وأبلغه ما حصل به زيادة في المعنى المقصود
وسماه قوم التمليح بتقديم الميم كأن الناظم أتى في بيته بنكتة زادته ملاحة كقول ابن المعتز
( أترى الجيرة الذين تداعوا ... عند سير الحبيب وقت الزوال )
( علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال )
( مثل صاع العزيز في أرحل القوم ... ولا يعلمون ما في الرحال )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه وإخوته لم يشعروا بذلك
ومن لطائف التلميح قول أبي فراس
( فلا خير في رد الأذى بمذلة ... كما رده يوما بسوأته عمرو )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قصة عمرو بن العاص مع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في يوم صفين حين حمل عليه الإمام ورأى عمرو أن لا مخلص له منه فلم يسعه غير كشف العورة
ومن الحديث على جهة التورية قول بعضهم في مليح اسمه بدر
( يا بدر أهلك جاروا ... وعلموك التجري )
( وقبحوا لك وصلي ... وحسنوا لك هجري )
( فليفعلوا ما أرادوا ... فإنهم أهل بدر )
هذا التلميح فيه إشارة إلى قول النبي لعمر حين سأل قتل حاطب لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
ومن ذلك قول الشاعر
( لعمرو مع الرمضاء والنار تلتظي ... أرق وأحنى منك في ساعة الهجر )
هذا الشاعر أشار بتلميحه في هذا البيت إلى البيت المشهور الذي ما برح الناس يتمثلون به عند من هو موصوف بالقسوة وهو
( المستجير بعمرو عند كرمته ... كالمستجير من الرمضاء بالنار )
ومن ذلك قول بعضهم
( يقولون كافات الشتاء كثيرة ... وما هي إلا واحد غير مفترى )
( إذا كان كاف الكيس فالكل حاصل ... لديك وكل الصيد يوجد في الفرا )
هذا الشاعر أشار في تلميح نيته إلى قول ابن سكرة
( جاء الشتاء وعندي من حوائجه ... سبع إذا القطر عن حاجاتنا حبسا )
( كن وكيس وكانون وكأس طلا ... بعد الكباب وكس ناعم وكسا )
ومن أظرف ما وقع هنا أن امرأة من أهل الحذق والظرافة قيل لها من أنت وكانت ملتفة في كساء فقالت أنا السادس في السابع أشارت في تلميحها اللطيف إلى السادس والسابع من قول ابن سكرة فكأنها قالت أنا الكس الناعم في الكساء
ونظم بعضهم هذا المعنى في بيتين فقال
( رأيتها ملفوفة في كسا ... خوفا من الكاشح والطامع )
قلت لها من أنت يا هذه ... قالت أنا السادس في السابع )
وهذا غاية لا تدرك في باب التلميح
ومن هذا القبيل قول الحريري في المقامات وإني والله لطالما تلقيت الشتاء بكافاته وأعددت له أهبا قبل موافاته ومثله قوله في المقامات أيضا فبت بليلة نابغية
يشير إلى قول النابغة
( فبت كأني ساورتني ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع )
والضيئلة هي الحية الدقيقة
ومن لطائف التلميح قصة الهذلي مع منصور بني العباس فإنه حكي أن المنصور وعد الهذلي بجائزة ونسي فحجا معا ومرا في المدينة النبوية ببيت عاتكة فقال الهذلي يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص
( يا بيت عاتكة التي أتغزل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل )
فأنكر عليه أمير المؤمنين لأنه تكلم من غير أن يسأل
فلما رجع الخليفة نظر في القصيدة إلى آخرها ليعلم ما أراد الهذلي بإنشاد ذلك البيت من غير استدعاء فإذا فيها
( وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل )
فعلم أنه أشار إلى هذا البيت بتلميحه الغريب فتذكر ما وعده به وأنجزه له واعتذر إليه من النسيان
ومثله ما حكي أن أبا العلاء المعري كان يتعصب للمتنبي فحضر يوما مجلس الشريف المرتضى فجرى ذكر أبي الطيب فهضم المرتضى من جانبه فقال أبو العلاء لو لم يكن له من الشعر إلا قوله لك يا منازل في القلوب منازل لكفاه
فغضب المرتضى وأمر به فسحب وأخرج وبعد إخراجه قال المرتضى هل تدرون ما عنى بذكر البيت فقالوا لا والله فقال عنى به قول أبي الطيب في القصيدة
( وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل )
ومن هذا القبيل قصة السري الرفاء مع سيف الدولة بسبب المتنبي أيضا فإن السري الرفاء كان من مداح سيف الدولة وجرى يوما في مجلسه ذكر أبي الطيب فبالغ سيف الدولة في الثناء عليه فقال له السري أشتهي أن الأمير ينتخب لي قصيدة من غرر قصائده لأعارضها له ويتحقق بذلك أنه أركب المتنبي في غير سرجه
فقال له سيف الدولة على الفور عارض لنا قصيدته القافية التي مطلعها
( لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقى ... وللحب ما لم يبق منه وما بقى )
قال السري فكتبت القصيدة واعتبرتها في تلك الليلة فلم أجدها من مختارات أبي الطيب لكن رأيته يقول في آخرها عن ممدوحه
( إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غباري ثم قال له الحق )
فقلت والله ما أشار سيف الدولة إلا إلى هذا البيت وأحجمت عن معارضة القصيدة
وألطف من هذا ما حكاه ابن الجوزي في كتاب الأذكياء فإنه من غرائب التلميح
قال قعد رجل على جسر بغداد فأقبلت امرأة بارعة في الجمال من جهة الرصافة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شاب فقال لها رحم الله علي بن الجهم
فقالت له رحم الله أبا العلاء المعري
وما وقفا بل سارا مغربا ومشرقا
قال الرجل فتبعت المرأة فقلت لها والله إن لم تقولي لي ما أراد بابن الجهم فضحتك قالت أراد به
( عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري )
وأردت أنا بأبي العلاء قوله
( فيا دارها بالخيف إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال )
ورسالة الوزير أبي الوليد بن زيدون المخزومي الأندلسي غالبها مبني على نوع التلميح ولا بد أن أذكر الموجب لإنشائها بحيث يتلمح المتأمل تلميحها
وسبب إنشاء هذه الرسالة البديعة أنه كان بقرطبة امرأة ظريفة متأدبة من بنات خلفاء العرب المنسوبين إلى عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالداخل
في بني عبد الملك بن مروان تسمى ولادة بنت المستكفي بالله ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتحاضرهم وتطارحهم
وكانت ذات جمال بارع وأدب غض ودماثة أخلاق وكان لها ميل إلى ابن زيدون بخلاف غيره من أهل العصر
فمما كتبت إليه وهي راضية عنه
( ترقب إذا جن الظلام زيارتي ... فإني رأيت الليل أكتم للسر )
( وبي منك ما لو كان بالبدر لم ينر ... وبالليل لم يظلم وبالنجم لم يسر )
وكتبت إليه وهي غضبى
( إن ابن زيدون على فضله ... يلهج بي شتما ولا ذنب لي )
( يلحظني شزرا إذا جئته ... كأنما جئت لأخصي علي )
تشير في تلميحها اللطيف إلى غلام كان متهما به
ومن غض شعرها قولها
( أنا والله أصلح للمعالي ... وأمشي مشيتي وأتيه تيها )
( وأمكن عاشقي من صحن خدي ... وأعطي قبلتي من يشتهيها )
ومما ينسب إليها
( لحاظكم تجرحنا في الحشا ... ولحظنا يجرحكم في الخدود )
( جرح بجرح فاجعلوا ذا بذا ... فما الذي أوجب جرح الصدود )
وكان ابن زيدون كثير الشغف بها والميل إليها وأكثر غزل شعره فيها وقد تقدم ذكر ميلها إليه بخلاف أهل عصره من أهل الأدب لحسن أدبه ولطائف شمائله وتقدمه على أهل زمانه
وكان الوزير أبو عامر بن عبدوس كثير الهيمان بها واجتهد في التوصل إليها والاجتماع بها والاقتطاف من ثمار آدابها الغضة والتمتع بجمالها البارع فعجز عن ذلك لكثرة ميلها إلى ابن زيدون وتوصل إلى أن أرسل إليها امرأة من خواصه لتستميلها إليه وتعرفها عظم مقامه وسمو رتبته على غيره وتبالغ في التوصل إلى رغبتها فيه فبلغ ذلك ابن زيدون فأنشأ هذه الرسالة على لسان ولادة تتضمن سب الوزير أبي عامر والتهكم به وبنى غالبها على نوع التلميح وجعلها جوابا عنها فاشتهر ذكر الرسالة في الآفاق وأمسك الوزير ابن عبدوس عن التعرض إلى ولادة
فمن سجعات الرسالة المبنية على التلميح قوله منها على لسان ولادة يخاطب الوزير ابن عبدوس حتى قالت إن باقلا موصوف بالبلاغة إذا قرن بك
هذا التلميح فيه إشارة إلى عمرو بن ثعلبة الأيادي الذي يضرب به المثل في العي فيقال فلان أعيى من باقل
قال أبو عبيدة بلغ من عيه أنه اشترى ظبيا بأحد عشر درهما فلقيه شخص والظبي معه فقال له بكم اشتريته ففتح كفيه وفرق أصابعه وأخرج لسانه يشير إلى أحد عشر فهرب الظبي
ومنها وهبنقة مستوجب لاسم العقل إذا أضيف إليك
هذا التلميح يشير فيه ابن زيدون إلى يزيد ابن ثروان أحد بني قيس ابن ثعلبة الملقب بهبنقة المكنى بأبي الودعات لأنه نظم ودعا في سلك وجعله في عنقه علامة لنفسه لئلا يضيع وهو جاهلي يضرب به المثل في الحمق
قيل إنه كان إذا رعى غنما أو إبلا جعل مختار المراعي للسمان ونحى المهازيل عنها وقال لا أصلح ما أفسد الله
واختصم بنو راسب وبنو طفاوة في شخص يدعونه وأطلعوا هبنقة على أمرهم فقال ألقوه في البحر فإن رسب فهو من بني راسب وإن طفى فهو من بني طفاوة
واشترى أخوه بقرة بأربعة أعنز فركبها فأعجبه عدوها فالتفت إلى أخيه وقال زدهم عنزا
فضرب بها المثل للمعطي بعد إمضاء البيع ثم سار فرأى أرنبا تحت شجرة ففزع منها وهمز البقرة وقال
( الله نجاني ونجا البقرة ... من جاحظ العينين تحت الشجره )
ومنها وطويسا ما نور عنه يمن الطائر إذا قيس عليك
هذا التلميح يشير به إلى عيسى بن عبد الله مولى بني مخزوم وكنيته أبو النعيم كان مخنثا ماجنا ظريفا يسكن المدينة وهو أول من غنى على الدف بالعربية ولكن ضرب في شؤمه المثل
فإنه ولد يوم قبض رسول الله وفطم يوم مات أبو بكر وختن يوم قتل عمر وزوج يوم قتل عثمان وكانت أمه تمشي بالنميمة بين نساء الأنصار
ومن تلميح هذه الرسالة التي هي غاية في هذا الباب قوله منها يشير إلى ابن عبدوس والله لو كساك محرق البردين وحلتك مارية بالقرطين وقلدك عمرو الصمصامة وحملك الحرث على النعامة ما شككت في إياك ولا كنت إلا ذاك
السجعة الأولى تشير في تلميحها إلى عمرو بن المنذر بن ماء السماء كان يسمى من شدة بأسه محرقا وقصة هذه التسمية استوفى أبو الفرج صاحب الأغاني شرحها في كتابه وأما قصة البردين فحكي أن الوفود اجتمعت عند محرق فأخرج من لباسه بردين وقال ليقم أعز العرب قبيلة فليأخذهما
فقام عامر بن أحيمر فأخذهما فائتزر بواحدة وارتدى بالأخرى فقال له محرق أنت أعز العرب قبيلة فقال نعم لأن العز كله في معد والعدد في معد ثم في نزار ثم في مضر ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب فمن أنكر ذلك فليناظرني
فسكت الناس
فقال هذه عشيرتك كما تزعم فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك فقال أنا أبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة وخال عشرة وها أنا في نفسي وشاهد العز شاهدي ثم وضع قدمه على الأرض وقال من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل
فلم يقم إليه أحد فخرج بالبردين وضرب المثل بعزه وببرديه
والسجعة الثانية تشير في تلميحها إلى مارية وقصتها المشهورة بالقرطين
وهي مارية ابنة ظالم بن وهب الكندي زوج الحرث الأكبر الغساني ملك العرب بالشام وهي أم الحرث الأصغر وأمها هند الهنود وكان في قرطيها درتان عجيبتان كبيضتي الحمام ولم ير مثلهما توارثتهما الملوك إلى أن وصلتا إلى عبد الملك بن مروان فوهبهما لابنته فاطمة لما زوجها بعمر بن عبد العزيز فلما ولي عمر الخلافة قال لها إن أحببت المقام عندي فضعي القرطين والحلي في بيت مال المسلمين فأجابته إلى سؤاله فلما مات وولي يزيد بن عبد الملك أرسل إليها يقول لها خذي القرطين والحلى فقالت لا والله ما أوافقه في حال حياته وأخالفه بعد وفاته
والسجعة الثالثة تشير في تلميحها إلى عمر بن معد يكرب الزبيدي الفارس المشهور بكثرة الغارات والوقائع بين العرب في الجاهلية قبل إسلامه وكان يكنى أبا ثور والصمصامة سيفه المشهور
قال عبد الملك بن عمر أهدت بلقيس إلى سليمان
عليه السلام خمسة أسياف وهم ذو الفقار وذو النون ومخذم ورسوب والصمصامة
فأما ذو الفقار فكان لرسول الله أخذه من منبه بن الحجاج يوم بدر
ومخذم ورسوب كانا للحرث بن جبلة الغساني
وذو النون والصمصامة لعمرو بن معد يكرب
وانتقلت الصمصامة إلى سعيد بن العاص ولم تزل إلى أن صعد المهدي البصرة فلما كان بواسط أرسل إلي بني العاص يطلب الصمصامة منهم فقالوا إنه قد صار محتسبا في السبيل فقال خمسون سيفا في السبيل أغنى من سيف واحد وأعطاهم خمسين سيفا وأخذه ثم وصل إلى المتوكل فدفعه إلى بعض مماليكه الأتراك فقتله به
والسجعة الرابعة تشير في تلميحها إلى فرس الحرث بن عباد التغلبي سيد بني وائل سمتها العرب لخفتها وسرعة جريها بالنعامة وضربت بها الأمثال
وكان الحرث يكرر قوله في كل وقت بإنشاده قربا مربط النعامة مني
انتهى
ولولا خوف الإطالة لأوردت من هذه الرسالة غالب تلميحها فإنه نسيج وحدها على هذا المنوال أعني التلميح
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع قوله
( أن ألقها تتلقف كل ما صنعوا ... إذا أتيت بسحر من كلامهم )
بيت الشيخ صفي الدين هنا أيضا متعلق بما قبله والضمير في ألقها عائد على العصا فإنه قال في بيت الاقتباس
( هذي عصاي التي فيها مآرب لي ... وقد أهش بها طورا على غنمي )
وقال بعده في بيت التلميح أن ألقها
البيت
ورأيته يسلك هذا المسلك في غالب بديعيته وهو غير لايق به إذ المراد من كل بيت أن يكون شاهدا على ذلك النوع بمجرده والتلميح في بيته هو الإشارة إلى قصة موسى عليه السلام مع السحرة لما ألقى العصا
وبيت العميان في بديعيتهم
( ويقرع السمع عن حق زواجره ... قرع الرماح ببدر ظهر منهزم )
العميان أشاروا في تلميحهم إلى قصة يوم بدر ولكن ليس على شمائل بيتهم من رونق التلميح لمحة
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( وبان في كتب التاريخ من قدم ... تلميح قصة موسى مع معدهم )
لم ألمح من خلال بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمحة تدلني على نور التلميح لكنه حكى حكاية مضمونها أن كتب التاريخ القديمة بان فيها تلميح قصة موسى عليه السلام مع معد
والله أعلم
وبيت بديعيتي تقدمني في تلميحه أبو تمام بقوله متغزلا في بعض قصائده وقد سفرت محبوبته من جانب الخدر ليلا
( فردت علينا الشمس والليل راغم ... بشمس لهم من جانب الخدر تطلع
( فوالله ما أدري أأحلام نائم ... ألمت بنا أم كان في الركب يوشع )
فلما انتهيت في نظم بديعيتي إلى هذا النوع أعني التلميح رأيت النبي أحق به وأنا أحق به من أبي تمام فإني نظمته في سلك المعجزات النبوية فهامت عيون الأذواق إلى بهجة تلميحه وقد تقدم قولي في بيت التشبيه عن النبي
( والبدر في التم كالعرجون صار له ... فقل لهم يتركوا تشبيه بدرهم )
ثم قلت بعده في التلميح
( ورد شمس الضحى للقوم خاضعة ... وما ليوشع تلميح بركبهم )
أنظر أيها المتأمل إلى انسجام هذا البيت مع الذي قبله وإلى ظهور النقص في بيت أبي تمام بانتقال نور التلميح إلى شرف هذا البيت النبوي
والله أعلم
ذكر تشبيه شيئين بشيئين
( شيآن قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم )هذا النوع أعني تشبيه شيئين بشيئين من المحاسن العزيزة الوقوع بخلاف كبيرة العدد في التشبيه فإن ذلك نوع اللف والنشر أحق به وهو في الاصطلاح أن يقابل الشاعر بين الأربعة ويلتزم أن كل واحد من المشبه يسد مسد المشبه به
ومما حكي عن بشار بن برد أنه قال ما زلت منذ سمعت قول امرئ القيس في وصف العقاب
( كأن قلوب الطير رطبا ويابسا ... لدى وكرها العناب والحشف البالي )
لا يأخذني الهجوع حسدا له إلى أن قلت في وصف الحرب
( كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه )
ومما يعجبني في هذا الباب إلى الغاية قول إبراهيم بن سهل الإشبيلي
( كأن القلب والسلوان ذهن ... يحوم عليه معنى مستحيل )
ومن الغايات التي لا تدرك في هذا الباب وأنا أستغفر الله قولي من قصيدة
( وحمرة الخد أبدت خيط عارضه ... فخلت كأس مدام وهو مشعور )
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته
( تلاعبوا تحت ظل السمر من مرح ... كما تلاعبت الأشبال في الأجم )
بيت الشيخ صفي الدين في هذا النوع عامر بالمحاسن رافل في حلل الانسجام والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته قوله
( شيئان تشبيه شيئين انتبه لهما ... حلم وجهل هما كالبرء والسقم )
نعوذ بالله من آفة الغفلة ممدوح هذا البيت هو النبي وقد تقدمه قوله في مديحه
( هل من مقاربة في السير بعد نوى ... بأطيب التمر بين العرب والعجم )
وقال بعده هذا البيت الداثر
وقد سلمنا أنه قابل فيه حلم النبي بالبرء وأما ذكر الجهل في هذا البيت فهو في غاية الجهل وليس له ما يقابله غير التأديب على قلة أدبه وقد قابل به السقم ولا أعلم ما مراده به
وطالعت شرحه فوجدته قد قرر حد النوع وفر من الكلام على معنى البيت بخلاف أبيات القصيدة
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( شيئان قد أشبها شيئين فيه لنا ... تبسم وعطا كالبرق في الديم )
هذا البيت البديع في لفظه ومعناه ما أشك أن أبا بكر مقدم فيه على الحلي والموصلي فإنه وضعه في محله والنبي أحق به من كل ممدوح وقد جمع فيه بين حسن اللف والنشر وبليغ التشبيه
وأما مراعاة النظير في مديحه بين البرق والديم فليس لها نظير
والله أعلم
ذكر الانسجام
( له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب النغم )المراد من الانسجام أن يأتي لخلوه من العقادة كانسجام الماء في انحداره ويكاد لسهولة تركيبه وعذوبة ألفاظه أن يسيل رقة
ولعمري إن طيور القلوب ما برحت على أفنان هذا النوع واقعة وبمحاسنه الغضة بين الأوراق ساجعة وأهل الطريق الغرامية هم بدور مطالعه وسكان مرابعه فإنهم ما أثقلوا كاهل سهولته بنوع من أنواع البديع اللهم إلا أن يأتي عفوا من غير قصد وعلى هذا أجمع علماء البديع في حد هذا النوع فإنهم قرروا أن يكون بعيدا من التصنع خاليا من الأنواع البديعية إلا أن يأتي في ضمن السهولة من غير قصد
وغالب شعر الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماه سقى الله من غيث الرحمة ثراه ماش على هذا التقرير ويأتي التمثيل به في مكانه إن شاء الله تعالى
الانسجام في النثر
وإن كان الانسجام في النثر يكون غالب فقراته موزونة من غير قصد لقوة انسجامه وأعظم الشواهد على هذا ما جاء في القرآن العظيم من الموزون بغير قصد في بيوت وأشطار بيوت فمن الطويل الذي جاء على أصل الدائرة في القرآن العظيم ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وتفعيله القياسي فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن
كقول الشاعر
( ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ... فقد زادني مسراك وجدا على وجدي )
وجاء في بحر المديد من العروض الثانية المحذوفة قوله تعالى ( واصنع الفلك بأعيننا ) كقول الشاعر
( اعلموا أني لكم حافظ ... شاهدا ما دمت أو غائبا )
ومن مصرعه
( زعم النعمان ملك العرب ... ليس ينجي من عصاه الهرب )
وجاء في بحر البسيط من العروض الأولى المخبونة قوله تعالى ( فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم ) كقول الشاعر
( ما بال عينيك منها الماء ينسكب ... )
وجاء في الوافر من العروض الأولى المقطوفة والضرب المقطوف قوله تعالى ( ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ) كقول الشاعر
( ألا هبي بصحنك فاصبحينا ... ولا تبقي خمور الأندرينا )
وجاء في الكامل من العروض الصحيحة المجزوة والضرب والمجزو المذال قوله تعالى ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) كقول الشاعر
( أبني لا تظلم بمكة لا الصغير ولا الكبير ... )
وجاء في الهزج من عروضه المجزوة وضربها المحذوف قوله تعالى ( فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ) كقول الشاعر
( وما ظهري لباغي الضيم ... بالظهر الذلول )
وجاء في الرجز قوله تعالى ( وذللت قطوفها تذليلا ) كقول الشاعر
( شالوا على جمالهم جمالهم ... وسار حادي عيسهم يغني )
وجاء في الرمل من العروض الثانية المجزوة والضرب الثاني المجزو قوله تعالى ( وجفان كالجواب وقدور راسيات ) كقول الشاعر
( مقفرات دارسات ... مثل آيات الزبور )
ومن مصرعه
( أي شخص كأبان ... عند ضرب وطحان )
وجاء في السريع من العروض الأولى المطوية المكسوفة قوله تعالى ( قال فما خطبك يا سامري ) ومنه ( أو كالذي مر على قرية ) كقول الشاعر
( يا هند يا أخت بني عامر ... لست على هجرك بالصابر )
وجاء من المنسرح من العروض الأولى الوافية قوله تعالى ( إنا خلقنا الإنسان من نطفة ) كقول الشاعر
( زموا المطايا بالواد ما ودعوا ... )
وجاء من الخفيف من العروض التامة الصحيحة قوله تعالى ( أرأيت الذي يكذب بالدين )
كذا أورده صاحب المفتاح ومنه ( لا يكادون يفقهون حديثا )
وهذا من مستخرجات المصنف فسح الله في أجله كقول الشاعر
( ليت ما فات من شبابي يعود ... كيف والشيب كل يوم يزيد )
وجاء من المضارع وهو بحر قليل الاستعمال جدا ومنهم من لم يعده بحرا ولا
جاء فيه شعر معروف
وقيل إنه لم يسمع من العرب
وقال أبو العباس العتابي في كتابه المسمى بنزهة الأبصار في أوزان الأشعار إن الخليل جعله جنسا وأحسبه قاسه وما أدري ما روي في كتب العروض أمصنوع هو أم مسموع من العرب
انتهى كلام العتابي
وتفاعيله في الأصل مفاعيلن فاع لاتن مفاعيلن ومثلها ولكنه ما استعمل إلا مجزوا فبقي مربعا
فمما وقع من مخرومه في الكتاب العزيز قوله تعالى ( يوم التناد يوم تولون مدبرين ) والخرم هنا حذف الأول من مفاعيلن
فعاد فاعيلن فنقل إلى مفعولن فتفاعيل هذه الآية الشريفة مفعول فاعلات مفاعيل فاعلات كقول الشاعر
( قلنا لهم وقالوا ... وكل له مقال )
وجاء في المقتضب من العروض المجزوة المطوية قوله تعالى و ( في قلوبهم مرض ) وتفعيل ذلك فاعلات مستعلن
وجاء فيه من الشعر
( أقبلت فلاح لها ... عارضان كالسبج )
ومن مصرعه
( غننا على الدرج ... بالخفيف والهزج )
وهذا البحر في القلة كبحر المضارع إلا أنه سمع منه أبيات على عهد رسول الله منها
( هل علي ويحكما ... إن عشقت من حرج )
وجاء في المجتث من العروض الصحيحة المجزوة والضرب المجزو قوله تعالى ( نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم ) كقول الشاعر
( البطن منها خميص ... والوجه مثل الهلال )
وجاء في المتقارب من العروض الأولى الوافية قوله تعالى ( وأملي لهم إن كيدي متين ) فعولن فعولن فعولن فعولن كقول الشاعر
( فأما تميم تميم بن مر ... فألفاهم القوم روبى نياما )
ولولا الإطالة لذكرت ما دخل فيما أوردته من الزحاف وقد أوردت هنا خمسة عشر بحرا ولم أذكر المتدارك إذ هو محدث اخترعه المتأخرون ولم تعرفه العرب في الزمن المتقدم وهو خارج عن الخمسة عشر بحرا وقال ابن الحاجب في عروضه
( وخمسة عشر دون ما متدارك ... وما عده منها الخليل فعدلا )
الانسجام في الشعر
انتهى ما أوردته من الانسجام المنثور وأما الانسجام في النظم فقد تقدم وتقرر أن أصحاب المذهب الغرامي هم سكان بيوته العامرة وكناس آرامه التي هي غير نافرةولكن العرب على كل تقدير ملوك هذا الشان وقلائد هذا العقيان
وقد عن لي أن أذكر هنا ما فروا به من وعر التركيب وشرعوه في أبياتهم على سهل الانسجام وأركض في أثر هذه الأبيات بسوابق الفحول فإنها أبيات لها حرمة وذمام وأعرج بعد ذلك على البيوت الغرامية وأتنسم أخبار الهوى العذري من بين تلك الخيام فمن الانسجام الذي وقع للعرب وكاد أن يسيل رقة لسهولته قول امرئ القيس في معلقته
( أغرك مني أن حبك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل )
وقوله من غير المعلقة
( أجارتنا إنا غريبان ههنا ... وكل غريب للغريب نسيب )
ومثله في الانسجام والرقة قول طرفة بن العبد في معلقته
( فإن كنت لا تسطيع دفع منيتي ... فدعني أبادرها بما ملكت يدي )
ومثله قوله منها
( وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على الحر من وقع الحسام المهند )
ومثله قوله منها
( فإن مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا أم معبد )
ومثله قوله منها
( ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود )
( ويأتيك بالأنباء من لم تبع له ... بتاتا ولم تضرب له وقت موعد )
( لعمرك ما الأيام إلا مفازة ... فما اسطعت من معروفها فتزود )
( عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي )
ومثله في لطف الانسجام قول زهير بن أبي سلمى في معلقته
( ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسلم )
( ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله ... على قومه يستغن عنه ويذمم )
( ومن يغترر يحسب عدوا صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا يكرم )
( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم )
( ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم )
( ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم )
( سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولا لا أبا لك يسأم )
وأحسن ختامها في الانسجام بقوله
( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما في غد عمي )
ومثله قول لبيد بن ربيعة من معلقته
( فاقنع بما قسم المليك فإنما ... قسم الخلائق بيننا علامها )
( وإذا الأمانة قسمت في معشر ... أوفى بأعظم حظنا قسامها )
ومن الغايات في باب الانسجام قول عنترة في معلقته
( فإذا شربت فإنني مستهلك ... مالي وعرضي وافر لم يكلم )
( وإذا صحوت فما أقصر عن ندى ... وكما علمت شمايلي وتكرمي )
ومن ذلك قول عمرو بن كلثوم في معلقته
( لنا الدنيا ومن أضحى عليها ... ونبطش حين نبطش قادرينا )
( إذا ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن يقر الخسف فينا )
( إذا بلغ الفطام الطفل منا ... تخر له الجبابر ساجدينا )
( ملأنا البر حتى ضاق عنا ... وظهر البحر نملؤه سفينا )
( ألا لا يجهلن أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا )
ومثله قول الحرث بن حلزة في معلقته وهي المعلقة السابعة
( لا يقيم العزيز في البلد السهل ... ولا ينفع الذليل النجاء )
ومن الانسجامات التي عدها صاحب المرقص والمطرب من المطرب قول زهير
( تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنك معطيه الذي أنت سائله )
ومن الانسجامات المعدودة من المرقص قول النابغة الذبياني
( وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع )
ومن الانسجام المعدود من المطرب قول حسان بن ثابت رضي الله عنه
( أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض في المال )
( أحتال للمال أن أودى فأكسبه ... ولست للعرض إن أودى بمحتال )
وعدوا من الانسجام المرقص قول كعب بن زهير
( ولا تمسك بالعهد الذي وعدت ... إلا كما يمسك الماء الغرابيل )
ومن المطرب قول الشماخ
( إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عراته باليمين )
ويعجبني من لامية العرب قول الشنفري بن مالك
( وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ... وفيها لمن خاف القلى متحول )
ومثله من لامية العجم وإن تأخر عصرها
( إن العلى حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النقل )
( لو أن في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل )
وعدوا من الانسجام المطرب قول مجنون ليلى في قصيدته المشهورة
( وقد خبروني أن تيماء منزل ... لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا )
( فهذي شهور الصيف عنا ستنقضي ... فما للنوى ترمي بليلى المراميا )
( أعد الليالي ليلة بعد ليلة ... وقد عشت دهرا لا أعد اللياليا )
( وأخرج من بين البيوت لعلني ... أحدث عنك النفس يا ليل خاليا )
( ألا أيها الركب اليمانون عرجوا ... علينا فقد أمسى هوانا يمانيا )
( يمينا إذا كانت يمينا فإن تكن ... شمالا ينازعني الهوى من شماليا )
( أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها ... اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا )
( خليلي لا والله لا أملك الذي ... قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا )
( قضاها لغيري وابتلاني بحبها ... فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا )
( ولو أن واش باليمامة داره ... وداري بأعلى حضرموت اهتدى ليا )
( وماذا لهم لا أحسن الله حالهم ... من الحظ في تصريم ليلى حباليا )
( وددت على حبي الحياة لو أنه ... يزاد لها في عمرها من حياتينا )
( على أنني راض بأن أحمل الهوى ... وأخلص منه لا علي ولا ليا )
( إذا ما شكوت الحب قالت كذبتني ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا )
فلا حب حتى يلصق الجلد بالحشا ... وتذهل حتى لا تجيب المناديا )
ومن المرقص في باب الانسجام قول كثير عزة
( ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالأركان من هو ماسح )
( أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطي الأباطح )
وعدوا من المطرب في باب الانسجام قول جرير
( إن العيون التي في طرفها حور ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا )
( يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ... وهن أضعف خلق الله أركانا )
وعدوا من المطرب قول بشار بن برد
( إذا جئته في حاجة سد بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين )
ومن انسجامات نسيبه التي ليس لها مناسب قوله
( هل تعلمين وراء الحب منزلة ... تدني إليك فإن الحب أقصاني )
ومثله قوله
( أنا والله أشتهي سحر عينيك ... وأخشى مصارع العشاق )
ومثله قوله
( وإني امرؤ أحببتكم لمكارم ... سمعت بها والأذن كالعين تعشق )
ويعجبني من لطيف الانسجام قول العباس بن الأحنف
( أفدي الذين أذاقوني مودتهم ... حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا )
( واستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا )
ومثله قوله
( لولا محبتكم لما عاتبتكم ... ولكنتم عندي كبعض الناس )
ومثله قوله
( طاف الهوى في عباد الله كلهم ... حتى إذا مر بي من بينهم وقفا )
ومثله قوله
( وسعى بنا واش فقالوا إنها ... لهي التي تشقى بها وتكابد )
( فجحدتهم ليكون غيرك ظنهم ... إني ليعجبني المحب الجاحد )
تقدم لهذين البيتين نكتة لطيفة تؤيد تأكيد انسجامهما وعذوبة ألفاظهما وهي أنه رفع للرشيد موت العباس وإبراهيم الموصلي المعروف بالنديم والكسائي وهشيمة الخمارة في يوم واحد فأمر المأمون أن يصلى عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال
من الأول
فقالوا إبراهيم الموصلي
فقال أخروه وقدموا العباس بن الأحنف
فقدم وصلى عليه
فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله الخزاعي فقال يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقديم على من حضر فقال بقوله وسعى بنا واش
البيتين ثم قال أتحفظهما فقلت نعم
فقال أليس من قال هذا الشعر أولى بالتقديم فقلت بلى والله يا سيدي
انتهى
وقد تقدم قولي وتكرر إن أصحاب الطريق الغرامية هم موالي رقيق الانسجام وتجار سوقه ولولا نسمات أنفاسهم ما تنسمنا أخبار الحمى وتغزلنا في سفحه وعقيقه
وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضم المتقدمين مع المتأخرين لئلا ينفرط لعقودها نظام وإذا أخرت من تقدم وأوردت له غير الطريق الغرامي كان جل القصد من ذلك معرفة أنواع الانسجام
فمن الانسجام الغرامي قول الشريف الرضي وهو الذي قال في حقه الثعالبي في كتاب اليتيمة هو أشعر الطالبيين قديما وحديثا على كثرة شعرائهم المفلقين
ولو قلت إنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق والقول الموعود بإيراده قوله
( نسرق الدمع في الجيوب حياء ... وبنا ما بنا من الأشواق )
( لا أذم السراء في طلب العز ... ولكن في فرقة العشاق )
( يوم لا غير زفرة من فؤاد ... ذي قروح ورشقة من مآق )
( والثرى منتش يعاقره السير ... دما جاريا بأيدي النياق )
( أمعيني على بلوغ الأماني ... وشفائي من علتي واشتياقي )
( أينعت بيننا المودة حتى ... جللتنا والزهر بالأوراق )
( كم مقام خضنا حشاه إلى اللهو ... جميعا والليل ملقى الرواق )
( ومزجنا خمر الرضابين في الرشف ... برغم المدام تحت العناق )
( قم نبادر رمي الظلام ببين ... بسهام الخطوب في الاتفاق )
( واغتنمها قبل الفراق فما نعلم ... يوما حتى يكون التلاقي )
( نحن غصنان ضمنا عاطف الوجد ... جميعا في الحب ضم النطاق )
( في جبين الزمان منك ومني ... غرة كوكبية الائتلاق )
( كلما كرت الليالي علينا ... شق منا الوفاء جيب الشقاق )
( أيها الرائح المغذ تحمل ... حاجة للمتيم المشتاق )
( أقر مني السلام أهل المصلى ... فبلاغ السلام بعض التلاقي )
( وإذا ما مررت بالخيف فاشهد ... أن قلبي إليه بالأشواق )
( وإذا ما سئت عني فقل نضو ... هوى ما أظنه اليوم باقي )
( وابك عني فطالما كنت من قبل ... أعير الدموع للعشاق )
ومثله قوله من أبيات
( سهمك مدلول على مقتلي ... فمن يرى سهمك يا قاتل )
( ليس لقتلي ثائر يتقي ... وليس في سفك دمي طائل )
( قد رضا المقتول كل الرضا ... واعجبا لم سخط القاتل )
ومثله قوله من أبيات
( نكست لحظ العين حين خطا ... والبين يرمقني ويرمقه )
( أذبت دمعي يوم ودعني ... في صحن خد ذاب رونقه )
( واللثم يركض في سوالفه ... يكاد خيل الدمع يسبقه )
ومثله قوله
( خذي نفسي يا ريح من جانب الحمى ... فلاقي به ليلا نسيم ربي نجد )
( فإن بذاك الحي حبا عهدته ... وبالرغم مني أن يطول به عهدي )
( ولولا تداوي القلب من ألم الجوى ... بذكر تلاقينا قضيت من الوجد )
ومثله قوله من أبيات
( عارضا بي ركب الحجاز أسائله ... متى عهده بسكان سلع )
( واستملا حديث من سكن الجزع ... ولا تكتباه إلا بدمعي )
( عزني أن أرى الديار بطرفي ... فلعلي أرى الديار بسمعي )
ومن الانسجامات التي ينسجم الدمع لرقتها قول تلميذه مهيار الديملي
( ظن غداة البين أن قد سلما ... لما رمى سهما وما أجرى دما )
( فعاد يستقري حشاه فإذا ... فؤاده من بينهم قد عدما )
( يا قاتل الله العيون خلقت ... لو أخطا فكيف صارت أسهما )
( أودعني السقم وولى هازئا ... يقول قم واستشف ماء زمزما )
( ولو أباح ما حمى من ريقه ... لكان أشفى لي من الماء اللما )
( وا بأبي ومن يبيع بأبي ... على الظما ذاك الزلال الشبما )
( كأنما الصهباء في كافورة ... قد مزجت وجل عن كأنما )
ومثله قوله
( أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب ... وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب )
( وأبتغي عندكم قلبا سمحت به ... وكيف يرجع شيء وهو موهوب )
( ما كنت أعلم ما مقدار وصلكم ... حتى هجرت وبعض الهجر تأديب )
ومثله قوله وهو في غاية اللطف
( بطرفك والمسحور يقسم بالسحر ... أعمدا رماني أم أصاب ولا يدري )
( رنا اللحظة الأولى فقلت مجرب ... وكررها أخرى فأحسست بالشر )
ومثله قوله في اللطف
( من عذيري يوم شرفي الحمى ... من هوى جد بقلبي مرحا )
( الصبا إن كان لا بد الصبا ... إنها كانت لقلبي أروحا )
( يا نداماي بسلع هل أرى ... ذلك المغبق والمصطبحا )
( اذكرونا مثل ذكرانا لكم ... رب ذكرى قربت من نزحا )
( وارحموا صبا إذا غنى بكم ... شرب الدمع وعاف القدحا )
منها
( وعرفت الهم مذ فارقتكم ... فكأني ما عرفت الفرحا )
ومثله قوله من قصيدة
( بكر العارض يحدوه النعامن ... فسقاك الري يا دار أماما )
( وتمشت فيك أرواح الصبا ... يتأرجن بأنفاس الخزامى )
( قد قضى حفظ الهوى أن تصبحي ... للمحبين مناخا ومقاما )
( وبجرعاء الحمى قلبي فعج ... بالحمى واقر على قلبي السلاما )
( وترحل فتحدث عجبا ... إن قلبا سار عن جسم أقاما )
( قل لجيران الغضى آها على ... طيب عيش بالغضى لو كان داما )
( حملوا ريح الصبا من نشركم ... قبل أن تحمل شيحا أو ثماما )
( وابعثوا أشباحكم لي في الكرى ... إن أذنتم لجفوني أن تناما )
ومن الغايات في باب الانسجام قول الوأواء الدمشقي
( بالله ربكما عوجا على سكني ... وعاتباه لعل العتب يعطفه )
( وحدثاه وقولا في حديثكما ... ما بال عبدك بالهجران تتلفه )
( فإن تبسم قولا في ملاطفة ... ما ضر لو بوصال منك تسعفه )
( وإن بدا لكما في وجهه غضب ... فغالطاه وقولا ليس نعرفه )
ومثله في اللطف ورقة الانسجام قول الأرجاني
( حيتك غادية الهوى من مربع ... رجعت عهودي فيك أم لم ترجع )
( ما أسأروا في كأس دمعي فضلة ... عنهم فأجعلها نصيب المربع )
( لم يبكني إلا حديث فراقهم ... لما أسر به إلي مودعي )
( هو ذلك الدر الذي ألقيتم ... في مسمعي ألقيته من أدمعي )
ومثله قوله
( عوجا عليها أيها الركب ... لا عار أن يتساعد الصحب )
( قد كان لي قلب ولا ألم ... واليوم لي ألم ولا قلب )
ومثله قوله
( أما الفؤاد فإنهم ذهبوا به ... يوم النوى فبقيت صفر الأضلع )
( فكأننا لما عقدنا للنوى ... حلفا بغير رهائن لم يقنع )
( فرهينتي معهم فؤادي دائما ... والطيف من سلمى رهينتهم معي )
ومثله في اللطف قول الطغرائي
( خبروها أني مرضت فقالت ... أضنى طارفا شكا أم تليدا )
( وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا )
( وأتتني في خفية وهي تشكو ... ألم البعد والمزار البعيدا )
( ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت علي عطفا وجيدا )
وألطف منه بل من النسيم قوله
( بالله يا ريح إن مكنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري )
( وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظفر )
( وباكري ورد عذب من مقبله ... مقابل الطعم بين الطيب والخصر )
( ولا تمسي عذاريه فتفتضحي ... بنفحة المسك بين الورد والصدر )
( وأن قدرت على تشويش طرته ... فشوشيها ولا تبقي ولا تذري )
( ثم اسلكي بين برديه على مهل ... واستبضعي وانثني منه على قدر )
( ونبهيني دون القوم وانتفضي ... علي والليل في شك من السحر )
( لعل نفحة طيب منك نائبة ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر )
وممن برع في الطريق الغرامية وأينع زهر نظمه في حدائق الانسجام بها الشيخ تقي الدين السروجي رحمه الله تعالى
قال الشيخ أثير الدين أبو حيان رحمه الله
كان الشيخ تقي الدين مع زهده وعفته مغرما بحب الجمال وكان يغني بشعره الغرامي في عصره لرقة انسجامه وعذوبة ألفاظه
وقال الشهاب محمود كان الشيخ تفي الدين يكره مكانا يكون فيه امرأة ومن دعاه من أصحابه قال شرطي معروف وهو أن لا يحضر في المجلس امرأة
وكنا يوما في دعوة فأحضر صاحب الدعوة شواء وأمر بإدخاله إلى النساء يقطعنه ويجعلنه في الصحون فلما حضر بعد ذلك تقرف منه وقال كيف يؤكل وقد لمسنه بأيديهن
وذكر أبو حيان أنه لما توفي بالقاهرة رابع رمضان المعظم سنة ثلاث وتسعين وستمائة قال أبو محبوبه والله ما أدفنه إلا في قبر ولدي فإنه كان يهواه في الحياة وما أفرق بينهما في الممات
هذا لما كان يعهده من دينه وعفافه فمن انسجاماته الغرامية
( أنعم بوصلك لي فهذا وقته ... يكفي من الهجران ما قد ذقته )
( أنفقت عمري في هواك وليتني ... أعطي وصولا بالذي أنفقته )
( يا من شغلت بحبه عن غيره ... وسلوت كل الناس حين عشقته )
( كم جال في ميدان حبك فارس ... بالصدق فيك إلى رضاك سبقته )
( أنت الذي جمع المحاسن وجهه ... لكن عليه تصبري فرقته )
( قال الوشاة قد ادعى بك نسبة ... فسررت لما قلت قد صدقته )
( بالله إن سألوك عني قل لهم ... عبدي وملك يدي وما أعتقته )
( أو قيل مشتاق إليك فقل لهم ... أدري بذا وأنا الذي شوقته )
وما ألطف ما قال منها
( يا حسن طيف من خيالك زارني ... من عظم وجدي فيه ما حققته )
( فمضى وفي قلبي عليه حسرة ... لو كان يمكنني الرقاد لحقته )
قلت ما نفثات السحر إذا صدقت عزائمها بأوصل إلى القلوب من هذه النفثات ولا لسلاف ظلم الحبائب مع حلاوة التقبيل عذوبة هذه الرشفات
وعدوا من المرقص الغرامي في باب الانسجام قول ابن الخياط الدمشقي
( أغار إذا آنست في الحي أنه ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه )
ومثله قول ظافر الحداد وقد عدوه من المرقص
( ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادني في الصبح مع من أحبه )
ومثله قول خالد الكاتب وعدوه له من المطرب
( رقدت ولم ترث للساهر ... وليل المحب بلا آخر )
ومثله قول راجح الحلي وعدوه من المرقص
( يا ليل طلت ولم ترق لمغرم ... لم يظلموا إذ لقبوك بكافر )
ومثله قول ابن تقي وهو معدود من المرقص
( باعدته عن أضلع تشتاقه ... كي لا ينام على فراش خافق )
ويعجبني في هذا الباب قول النجيب بن الدباغ وهو معدود من المرقص
( يا رب إن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس )
( ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فليك شمعة في المجلس )
( وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... في الحب فلتك من عيون النرجس )
وعدوا من مرقصات الطريق الغرامية قول القائل
( أستغفر الله إلا من محبتكم ... فإنها حسناتي حين ألقاه )
( فإن يقولوا بأن العشق معصية ... فالعشق أحسن ما يعصى به الله )
ومن مطرب الانسجام الغرامي قول علية بنت المهدي
( وأحسن أيام الهوى يومك الذي ... تروع بالهجران فيه وبالعتب )
( إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضا ... فأين حلاوات الرسائل والكتب )
ومثله من المطرب قول الحسين بن الضحاك
( له عبثات عند كل تحية ... بعينيه تستدعي الحليم إلى الوجد )
( رعى الله عصرا لم نبت فيه ليلة ... خليا ولكن من حبيب على وعد )
ومن الغايات في هذا الباب أعني الانسجام الغرامي ما كان يكثر من الترنم به أبو القاسم القشيري وهو
( لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا )
( أيقنت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا )
ومثله قول خالد الكاتب
( بكى عاذلي من رحمتي فرحمته ... وكم مثله من مسعد ومعين )
( ورقت دموع العين حتى كأنها ... دموع دموعي لا دموع جفوني )
ويعجبني من هذا الباب قول إسحاق بن إبراهيم الموصلي
( على عصر أيام الصبابة والصبا ... ووصل الغواني والتذاذي بالشرب )
( سلام امرئ لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب )
ومن غراميات القاضي الفاضل في باب الانسجام قوله
( ترى لحنيني أو حنين الحمائم ... جرت فحكت دمعي دموع الغمائم )
( وهل من ضلوع أو ربوع ترحلوا ... فكل أراها دارسات المعالم )
( لقد ضعفت ريح الصبا فوصلتها ... فمني لا منها هبوب السمائم )
( دعوا نفس المقروح يحمله الصبا ... وإن كان يهفو بالغصون النواعم )
( تأخرت في حمل السلام عليكم ... لدينا لما قد حملت من سمائم )
( فلا تسمعوا إلا حديثا لناظري ... يعاد بألفاظ الدموع السواجم )
ومثله قوله
( يا طرف مالك ساهد في راقد ... يا قلب مالك راغب في زاهد )
( من يشتري عمري الرخيص جميعه ... من وصلك الغالي بيوم واحد )
( عاتبته فتوردت وجناته ... والقلب صخر لا يلين لقاصد )
( فنظرت من ذي في حرير ناعم ... وضربت من ذا في حديد بارد )
ويعجبني من غراميات البها زهير قوله
( عتبتكم عتب المحب حبيبه ... وقلت بإدلال فقولوا بإصغاء )
( لعلكم قد صدكم عن زيارتي ... مخافة أمواه لدمعي وأنواء )
( فلو صدق الحب الذي تدعونه ... وأخلصتم فيه مشيتم على الماء )
( وإن تك أنفاسي خشيتم لهيبها ... وهالتكم نيران وجد بأحشائي )
( فكونوا رفاعيين في الحب مرة ... وخوضوا لظى نار لشوقي حمراء )
وألطف منه وأسجم قوله
( تعيش أنت وتبقى ... أنا الذي مت عشقا )
( حاشاك يا نور عيني ... تلقي الذي أنا ألقى )
( ولم أجد بين موتي ... وبين هجرك فرقا )
( يا أنعم الناس بالا ... إلى متى فيك أشقى )
( سمعت عنك حديثا ... يا رب لا كان صدقا )
( وما عهدتك إلا ... من أكرم الناس خلقا )
( لك الحياة فإني ... أموت لا شك حقا )
( يا ألف مولاي مهلا ... يا ألف مولاي رفقا )
( قد كان ما كان مني ... والله خير وأبقى )
ومثله قوله
( أنت الحبيب الأول ... ولك الهوى المستقبل )
( عندي لك الود الذي ... هو ما عهدت وأكمل )
( القلب فيك مقيد ... والدمع منك مسلسل )
( يا من يهدد بالصدود ... نعم تقول وتفعل )
( قد صح عذرك في الهوى ... لكنني أتعلل )
( نفدت معاذيري التي ... ألقى بها من يسأل )
( حتام أكذب للورى ... وإلى متى أتحمل )
( قل للعذول لقد أطلت ... لمن تقول وتعذل )
( عاتبت من لا يرعوي ... وعذلت من لا يقبل )
( غضب العذول أخف من ... غضب الحبيب وأسهل )
ومن انسجاماته التي تكاد أن لا تكون موزونة
( إن شكا القلب هجركم ... مهد الحب عذركم )
( لو رأيتم محلكم ... من فؤادي لسركم )
( لو أمرتم بما عسى ... ما تعديت أمركم )
( قصروا مدة الجفا ... طول الله عمركم )
( شرفوني بزورة ... شرف الله قدركم )
( كنت أرجو بأنكم ... شهركم لي ودهركم )
( قد نسيتم وإنما ... أنا لم أنس ذكركم )
( وصبرتم وليتني ... كنت أعطيت صبركم )
( ورأيتم تجلدي ... في هواكم فسركم )
( لو وصلتم محبكم ... ما الذي كان ضركم )
ومن انسجاماته التي هي في غاية الظرف
( يا قلب بعض الناس هل ... للضيف عندك زاويه )
( إني ببابك قد وقفت ... عسى ترد جوابيه )
( يا ملبسي ثوب الضنا ... يهنأك ثوب العافيه )
( لم يبق مني في القميص ... سوى رسوم باليه )
( وحشاشة ما أبقت الأشواق ... منها باقيه )
( يا من إليه المشتكى ... أنت العليم بحاليه )
( وإليك عني يا غرام ... فقد عرفت مكانيه )
( فكأنما لك قد قعدت ... على طريق القافيه )
( من لي بقلب اشتريه ... من القلوب القاسيه )
( مولاي يا قلبي العزيز ... ويا حياتي الغاليه )
( إني لأطلب حاجة ... ليست عليك بخافيه )
( أنعم علي بقبلة ... هبة وإلا عارية )
( وأعيدها لك لا عدمت ... بعينها وكما هيه )
( وإذا أردت زيادة ... خذها ونفسي راضيه )
ومثله قوله في هذا الروي
( قالوا كبرت عن الصبا ... وقطعت تلك الناحية )
( فدع الصبا لرجاله ... واخلع ثياب العاريه )
( ونعم كبرت وإنما ... تلك الشمائل باقيه )
( وتفوح من عطفي أنفاس ... الشباب كما هيه )
( ويميل بي نحو الصبا ... قلب رقيق الحاشيه )
( فيه من الطرب القديم ... بقية في الزاوية )
ومن غراميات الحاجري في هذا الباب
( لك أن تشوقني إلى الأوطان ... وعلي أن أبكي بدمع قان )
( إن الذي رحلوا غداة المنحنى ... ملؤوا القلوب لواعج الأشجان )
( فلا بعثن من النسيم إليهم ... ما حل بالأغصان والغزلان )
( نزلوا برامة قاطنين فلا تسل ... ما حل بالأغصان والغزلان )
وقد تقدم قولي إن الشيخ شرف الدين عبد العزيز الأنصاري شيخ شيوخ حماه سقى الله من غيث الرحمة ثراه هو غيث هذا الانسجام وغريم هذا الغرام
فمن انسجاماته الغرامية الموعود بإيرادها قوله
( حديثي في المحبة ليس يشرح ... فدعني من حديث اللوم واسرح )
( فما لك مطمع ببراح قلبي ... عن الحب الذي أعيا وبرح )
( فكم من لائم أنحى إلى أن ... تأمل من هويت فما تنحنح )
( فيا لله ما أشهى وأبهى ... ويا لله ما أحلى وأملح )
( له طرف يقول الحرب أحرى ... ولي قلب يقول الصلح أصلح )
( سألت سواره المثري فنادى ... فقير وشاحه الله يفتح )
( وماس من القوام بغصن بان ... إذا أنشدت أغزالي ترنح )
( وحياني بألحاظ مراض ... صحيحات فأمرضني وصحح )
( أعاتبه فلا يصغي لعتبي ... ولا أسلو فاتركه وأربح )
ومن غايات انسجامه قوله
( كم شرحت من وجد ... كم سفحت من دمعه )
( كم بعثت من رسل ... دفعة على دفعه )
( بنتم وأعرضتم ... ما أمرها جرعه )
( هل عليكم باس ... في المقال بالرجعة )
( قد حججت مغناكم ... لا تحرموا المتعه )
( ترك سنتي فيكم ... سادتي من البدعه )
( هذه صباباتي ... والوصال في منعه )
( كيف لو تعلمتم ... غير هذه الصنعه )
( يا مليك قلبي خذ ... ما يليه بالشفعه )
( واس بيننا أو لا ... ردنا إلى القرعه )
( لا تحل عني قلبي ... ليس فيه من نجعه )
( قد تركت أرداني ... من مدامعي نقعه )
( ما لناظري كحل ... غير هذه الطلعه )
ومثله قوله
( خبروه تفصيل حالي جمله ... فعساه يرق لي ولعله )
( كم تنحنحت إذ تبدى حذارا ... من رقيبي وكم تكلفت سعله )
( ليس لي عن هدى هواه ضلال ... أكثر اللوم عاذلي أو أقله )
( ركبت في جبلتي نشوة العشق ... وصعب تغيير ما في الجبله )
( سادتي عادوا رضاكم وعودا ... عن جفاكم فما بقي في فضله )
( ذبت شوقا فعالجوني بقرب ... مت عشقا فحنطوني بقبله )
( وأشغلوني عن لائم ما أتاني ... برشاد أتته آفة غفله )
( قلت بالله خلني فتمادى ... وقليل من يترك الشر لله )
ومثله قوله
( صب أخذ الهوى زمامه ... قد صار جمالكم أمامه )
( في حسنكم البديع شغل ... عن علوة لي وعن إمامه )
( من لي بمحجب أراه ... بالفكر ولا أرى خيامه )
( أشدو بتغزلي لديه ... فيه فيحد لي خصامه )
( يزهو ويقول كان ماذا ... لو يترك جاهل كلامه )
( شبهت بطلعتي هلالا ... ما كنت رضيته قلامه )
( والغصن حسبته شبيها ... مني بتعطف وقامه )
( والظبي إذا رنت لحاظي ... لا كيد له ولا كرامه )
( أفديه بمهجتي وإني ... لا حسرة لي ولا ندامه )
( كم دعوة موعد لوصل ... قامت لحضورها القيامة )
( أخبرت بها العذول لكن ... ما قلت له كم الغرامه )
ومثله قوله
( لا تعاتبني فلا عتب علي ... خرج الأمر وعقلي من يدي )
( ليس للنصح قبول يرتجى ... عند شيخ هام وجدا بصبي )
( وأرى لومك يغريني به ... لا تزدني أو فزدني يا أخي )
( أنا في الحب إمام فإذا ... صرت من أبنائه فاخضع لدي )
( لا تسل غيري في شرع الهوى ... وخذ التنزيل فيه عن أبي )
( خلقي أني شحيح بهم ... وبروحي لهم حاتم طي )
( فاختصر في شرح أشواقي فإن ... رمت إسهابا فوكل مقلتي )
( سادتي فارقتكم فاستلبت ... بنوا كم راحتي من راحتي )
( فاجبروا قلبي بشيء منكم ... فلقد أوتيتم من كل شي )
( صادني منكم غرير أغيد ... فيه ما يشغل عن هند ومي )
( قلت قد أضنيت جسمي قال قد ... قلت كي تذهب روحي قال كي )
( قلت أفديك بنفسي قال مه ... ما إليك الأمر فيها بل إلي )
ومثله قوله من أبيات يخاطب العذول
( أراك بخيلا بعوني فهبني ... سكوتك عني إذا لم تعني )
( ذممت الهوى ورجوت السلو ... فأبكيت عيني وأضحكت سني )
( فإن عفت شربي من خمرتي ... فدعني ما بين كأسي ودني )
( وإياك عربدتي فاخشها ... فإني قد أخذ السكر مني )
ويعجبني من انسجامات ابن سنا الملك قوله
( دنوت وقد أبدى الكرى منه ما أبدى ... فقبلته في الثغر تسعين أو إحدى )
( وأبصرت في خديه ماء وخضرة ... فما أملح المرعى وما أعذب الوردا )
( تلهب ماء الخد أو سال جمره ... فيا ماء ما أذكى ويا جمر ما أندى )
( أقول لناه قد أشار بتركه ... لقد زدتني فيما أشرت به زهدا )
( فلم لا نهيت الثغر أن يعذب اللمى ... ولم لا أمرت الصبر أن يكتم النهدا )
( وأقسم ما عندي إليه صبابة ... وكيف وجور الشوق لم يبق لي عندا )
( وفي القلب نيران الخليل توقدت ... وما ذقت منها لا سلاما ولا بردا )
ومثله قوله ويعجبني إلى الغاية
( نعم المشوق وأنعم المعشوق ... فالعيش كالخصر الرقيق رقيق )
( خصر أدير عليه معصم قبلة ... فكأن تقبيلي له تعنيق )
( ونعم لقد طرق الحبيب وماله ... إلا خدود العاشقين طريق )
( فرشوا الخدود طريقه فكأنما ... زفراتهم لقدومه تطريق )
( وافى وصبح جبينه متنفس ... وأتى وجيد رقيبه مخنوق )
( فصنعت فيه صناعة شعرية ... فالصدر يرحب والعناق يضيق )
ومثله قوله وهو في غاية الظرف
( لا أجازي حبيب قلبي بجرمه ... أنا أحنى عليه من قلب أمه )
( ضن عني بريقه فتحيلت ... إلى أن سرقته عند لثمه )
( وإلى اليوم من ثلاثين يوما ... لم تزل من فمي حلاوة طعمه )
( إن قلبي لصدره ورقادي ... ملك أجفانه وروحي لجسمه )
( يكسر الجفن بالفتور ومالي ... عمل وقت كسره غير ضمه )
ومن غراميات الشاب الظريف شمس الدين محمد بن العفيف قوله في باب الانسجام
( عفا الله عن قوم عفا الصبر منهم ... فلو رمت ذكرى غيرهم خانني الفم )
( تجنوا كأن لا ود بيني وبينهم ... قديما وحتى ما كأنهم هم )
( وبالجزع أحباب إذا ما ذكرتهم ... شرقت بدمع في أواخره دم )
( ومشبوب ناري وجنة وجناية ... تعلمه ألحاظه كيف يظلم )
( ألم وما في الركب منا متيم ... وعاد وما في الركب إلا متيم )
( وليس الهوى إلا التفاتة طامح ... يروق لعينيه الجمال المنعم )
( خليلي ما للقلب هاجت شجونه ... وعاوده داء من الشوق مؤلم )
( أظن ديار الحي منا قريبة ... وإلا فمنها نفحة تتنسم )
ومثله قوله
( لا تخف ما فعلت بك الأشواق ... واشرح هواك فكلنا عشاق )
( فعسى يعينك من شكوت له الهوى ... في حمله فالعاشقون رفاق )
( لا تجزعن فلست أول مغرم ... فتكت به الوجنات والأحداق )
( واصبر على هجر الحبيب فربما ... عاد الوصول وللهوى أخلاق )
( كم ليلة أسهرت أحداقي بها ... وجدا وللأفكار بي إحداق )
( يا رب قد بعد الذين أحبهم ... عني وقد ألف الفراق فراق )
( واسود حظي عندهم لما سرى ... فيه بنار صبابتي إحراق )
( عرب رأيت أصح ميثاق لهم ... أن لا يصح لديهم ميثاق )
ومثله قوله
( بتثني قوامك الممشوق ... وبأنوار وجهك المعشوق )
( وبمعنى للحسن مبتكر فيك ... وقلب كقلبي المحروق )
( جد بوصل أو زورة أو بوعد ... أو كلام أو وقفة في الطريق )
( أو بإرسالك السلام مع الريح ... وإلا فبالخيال الطروق )
ويعجبني في هذا المعنى على هذا الطريق قول بعض المواليا
( زر شهر في عام يا من قد غلا في السوم ... أو يوم في شهر أحلى من صدودك )
( وإن عز هذا وهذا يا عزيز القوم ... في الدهر ساعة وإن لم ترتض في النوم )
ومن ألطف انسجامات ابن العفيف قوله أيضا
( لي من هواك بعيده وقريبه ... ولك الجمال بديعه وغريبه )
( يا من أعيذ جماله بجلاله ... حذرا عليه من العيون تصيبه )
( إن لم تكن عيني فإنك نورها ... أو لم تكن قلبي فأنت حبيبه )
( هل حرمة أو رحمة لمتيم ... قد قل فيك نصيره ونصيبه )
( ألف القصائد في هواك تغزلا ... حتى كأن بك النسيب نسيبه )
( لم يبق لي سر أقول تذيعه ... عني ولا قلب أقول تذيبه )
( دع لي فؤادا بالغرام تشبه ... واستبق فودا بالصدود تشيبه )
( كم ليلة قضيتها متسهدا ... والدمع يجرح مقلتي مسكوبه )
( والنجم أقرب من لقاك مناله ... عندي وأبعد من رضاك مغيبه )
ومثله قوله
( رشيق القامة النضره ... لقد أصميت بالنظره )
( وقد سودت حظي منك ... يا أبهى الورى غره )
( سواد الخال والمقله ... مع العارض والطره )
( قديم الهجر هل لفتى ... قديم في الهوى هجره )
( وكم تلقاه بالإيعاد ... والأبعاد والنفره )
( وكم يشكو ولا تطرح ... في قفته كسره )
( رأينا من جفا وجنى ... ولكن زدت في كره )
( فهل تمنح أو تسمح ... بالوصل ولو مره )
( فقد أصبحت لا أملك ... من صبري ولا ذره )
( وقد صيرني هجرك ... في كس أخت من أكره )
ومن انسجاماته الرقيقة قوله
( حتام حظي لديك حرمان ... وكم كذا لوعه وهجران )
( أين ليال مضت ونحن بها ... أحبة في الهوى وجيران )
( وأين ود عهدت صحته ... وأين عهد وأين أيمان )
( قد رضي الدهر والعواذل والحساد ... عنا وأنت غضبان )
( فاسلم ولا تلتفت إلى مهج ... بها جوى قاتل وأشجان )
( ونم خليا وقل كذا وكذا ... من كل من أطلعت تلمسان )
ومثله قوله
( أعز الله أنصار العيون ... وخلد ملك هاتيك الجفون )
( وضاعف بالفتور لها اقتدارا ... وإن تك أضعفت عقلي وديني )
( وأبقى دولة الأعطاف فينا ... وإن جارت على قلبي الطعين )
( واسبغ ظل ذاك الشعر منه ... على قد به هيف الغصون )
( وصان حجاب هاتيك الثنايا ... وإن ثنت الفؤاد إلى الشجون )
( حملت تسهدي والشيب هذا ... على رأسي وذاك على عيون )
ومن غراميات ابن النبيه في باب الانسجام
( تعالى الله ما أحسن ... شقيقا حف بالسوسن )
( خدود لثمها يبري ... من الأسقام لو أمكن )
( فما تجني وحارسها ... بقفل الصدغ قد زرفن )
( غزال ضيق العينين ... ينسيني الرشا الأعين )
( له قلب وأعطاف ... فما أقسى وما ألين )
( ولم أر قبل مبسمه ... صغير الجوهر المثمن )
( أبث هواه من خوف ... لنجم الليل لما جن )
( وما ينفع كتماني ... ودمع العين قد أعلن )
( وقد أسكنته قلبي ... فسار وأحرق المسكن )
ومما كتبه القاضي الفاضل بخطه وهو غاية في باب الانسجام الغرامي وكان كثيرا ما يترنم به قصيدة القاضي المهذب ابن الزبير ووجدت بخط الفاضل غير تامة وقد أثبت هنا منها ما وجد بخط الفاضل من غراميها واختصرت المديح وهو
( بالله يا ريح الشمال ... إذا اشتملت الروح بردا )
( وحملت من نشر الخزامي ... ما اغتدى للند ندا )
( ونسجت ما بين الغصون ... إذا اعتنقن هوى وودا )
( وهززت عند الصبح من ... أعطافها قدا فقدا )
( ونثرت فوق الماء من ... أجيادها للزهر عقدا )
( فملأت صفحة وجهه ... حتى اكتسى آسا ووردا )
( فكأنما ألفت فيه ... منهما صدغا وخدا )
( مري على برد عساه ... يزيد في مسراك بردا )
( نهر كنصل السيف تكسو ... متنه الأزهار غمدا )
( صقلته أنفاس النسيم ... بمرهن فليس يصدا )
( أحبابنا ما بالكم ... فينا من الأعداء أعدى )
( وحياة حبكم بتربة ... وصلكم ما خنت عهدا )
وغاية الغايات في باب الانسجام الغرامي ما كتبه القاضي فتح الدين بن عبد الظاهر إلى والده القاضي محيي الدين وقد توجه صحبة الركاب الشريف الظاهري في مهم شريف فحصل له ضعف بدمشق المحروسة وهو
( إن شئت تبصرني وتبصر حالتي ... قابل إذا هب النسيم قبولا )
( تلقاه مثلي رقة ونحافة ... ولأجل قلبك لا أقول عليلا )
( فهو الرسول إليك مني ليتني ... كنت اتخذت مع الرسول سبيلا )
خطاب مثل هذا الولد لمثل هذا الوالد بقوله ولأجل قلبك لا أقول عليلا فيه ما يفتت الأكباد ويحرك الجماد
سبحان المانح إن من البيان لسحرا
ومن غراميات والده القاضي محيي الدين في باب الانسجام
( لا آخذ الله بندك ... فكم وشى بي عندك )
( وقال عني بأني ... شبهت بالغصن قدك )
( وأنت تعظم عندي ... أن يمسي البدر عبدك )
( ولست والله أرضى ... أن يحكي الورد خدك )
( فقاتل الله طرفي ... فكم به نلت قصدك )
( ولا رعى الله قلبي ... فكم رعى لك عهدك )
( فمن ترى أنا حتى ... جعلت صدري وكدك )
( وما عشقتك وحدك ... بلى عشقتك وحدك )
( وكم أطعتك جهدي ... وكم تجنيت جهدك )
( وبعد هذا وهذا ... وذاك لا ذقت فقدك )
ويعجبني في هذا الباب رشاقة ناصر الدين بن النقيب بقوله
( سلك الشوق بقلبي ... بعدكم صعب المسالك )
( ورمى قلبي بنيران ... ولا نيران مالك )
( هذه بعض صفاتي ... طالع العبد بذلك )
وأظرف ما رأيت في باب الانسجام الغرامي المترجل ما أورده صاحب روضة الجليس ونزهة الأنيس
ذكر أنه كان بأفريقية رجل نبيه شاعر مفلق وكان يهوى غلاما من غلمانها جميلا فاشتد كلفه به وكان الغلام يتجنى عليه ويعرض عنه كثيرا فانفرد بنفسه ليلة جمع فيها بين سلاف الراح وسلاف الذكر فتزايد به الوجد وقام على الفور وقد غلب عليه السكر ومشى إلى أن انتهى إلى باب محبوبه ومعه قبس نار فوضعه عند باب الغلام فلما دارت النار بالباب بادر الناس بإطفائها واعتقلوه
فلما أصبحوا نهضوا به إلى القاضي فأعلموه بفعله
فقال له القاضي لأي شيء أحرقت باب هذا الغلام فقال مرتجلا
( لما تمادى على بعادي ... وأضرم النار في فؤادي )
( ولم أجد من هواه بدا ... ولا معينا على السهاد )
( حملت نفسي على وقوفي ... ببابه حملة الجواد )
( فطار من بعض نار قلبي ... أقل في الوصف من زناد )
( فأحرق الباب دون علمي ... ولم يكن ذاك من مرادي )
فرق القاضي لارتجاله الغرامي وتحمل عنه جناية الباب
وقد انتهت الغاية بنا إلى غراميات العارفين وابن الفارض هو قائد زمامها وقتيل غرامها
فمن قوله في هذا الباب الذي ليس لغيره فيه مدخل ما ألفته من تائيته وجعلته قصيدا غراميا ينتظم بها شمل الانسجام وإذا هب نسيمها العذري تنسمت العشاق منه أخبار الغرام وهو قوله
( نعم بالصبا قلبي صبا لأحبتي ... فيا حبذا ذاك الشذا حين هبت )
( تذكرني العهد القديم لأنها ... حديثة عهد عن أهيل مودتي )
( فلي بين هاتيك الخيام ضنينة ... علي بجمعي سمحة بتشتتي )
( محجبة بين الأسنة والظبا ... إليها انثنت ألبابنا إذ تثنت )
( تتيح المنايا إذ تبيح لنا المنى ... وذاك رخيص منيتي بمنيتي )
( متى أوعدت أولت وإن وعدت لوت ... وإن أقسمت لا تبرى السقم برت )
( وإن عرضت أطرق حياء وهيبة ... وإن أعرضت أشفق فلم أتلفت )
( وقد سخنت عيني عليها كأنها ... بها لم تكن يوما من الدهر قرت )
( فإنسانها ميت ودمعي غسله ... وأكفانه ما أبيض حزنا لفرقتي )
( خرجت بها عني إليها فلم أعد ... إلي ومثلي لا يقول برجعة )
( فوصلي قطعي واقترابي تباعدي ... وودي صدي وابتدائي نهايتي )
( وفيها تلاف الجسم بالسقم صحة ... له وتلاف النفس عين الفتوة )
( ولما تلاقينا عشاء وضمنا ... سواء سبيلي ذي طوى والثنية )
( وضنت وما منت علي بوقفة ... تعادل عندي بالمعرف وقفتي )
( عتبت فلم تعتب كأن لم يكن لقا ... وما كان إلا أن أشرت وأومت )
( وبانت فأما حسن صبري فخانني ... وأما جفوني بالبكاء فوفت )
( أغار عليها أن أهيم بحبها ... وأعرف مقداري فأنكر غيرتي )
وكنت بها صبا فلما تركت ما ... أريد أرادتني لها وأحبت )
( بها قيس لبنى هام بل كل عاشق ... كمجنون ليلى أو كثير عزة )
( بدت فرأيت الحزم في نقض توبتي ... وقام بها عند النهى عذر محنتي )
( فموتي بها وجدا حياة هنيئة ... وإن لم أمت في الحب عشت بغصتي )
( تجمعت الأهواء فيها فلا ترى ... بها غير صب لا يرى غير صبوتي )
( وعندي عيدي كل يوم أرى به ... جمال محياها بعين قريرة )
( وكل الليالي ليلة القدر إن دنت ... كما كل أيام اللقا يوم جمعة )
( وأي بلاد الله حلت بها فما ... أراها وفي عيني حلت غير مكة )
( وما سكنته فهو بيت مقدس ... بقرة عيني فيه أحشاي قرت )
( ومسجد الأقصى مساحب بردها ... وطيبي ثرى أرض عليها تمشت )
( مواطن أفراحي ومربى مآربي ... وأطوار أوطاري ومأمن خيفتي )
( مغان بها لم يدخل الدهر بيننا ... ولا كادنا صرف الزمان بفرقة )
( ولا صحبتنا النائبات بنبوة ... ولا حدثتنا الحادثات بنكبة )
( ولا اختص وقت دون وقت بطيبة ... بها كل أوقاتي مواسم لذتي )
( فإن رضيت عني فعمري كله ... زمان الصبا طيبا وعصر الشبيبة )
( وإن قربت داري فعامي كله ... ربيع اعتدال في رياض أريضة )
( بها مثل ما أمسيت أصبحت مغرما ... وما أصبحت فيه من الحسن أمست )
( فلو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل محبة )
( وقد جمعت أحشاي كل صبابة ... بها وجوى ينبيك عن كل صبوة )
( وكنت أرى أن التعشق منحة ... لقلبي فما إن كان إلا لمحنتي )
( ألا في سبيل الحب حالي وما عسى ... بكم أن ألاقي لو دريتم أحبتي )
( أخذتم فؤادي وهو بعضي عندكم ... فما ضركم لو كان بعضي جملتي )
( وهي جسدي مما وهي جلدي لدى ... تحمله يبلى وتبقى بليتي )
( ومنذ عفار سمي وهمت وهمت في ... وجودي فلم تظفر بكوني فكرتي )
( وبالي أبلى من ثياب تجلدي ... بل الذات في الإعدام نيطت بلذتي )
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
( وقالوا جرت حمرا دموعك قلت عن ... أمور جرت في كثرة الشوق قلت )
( نحرت لضيف السهد في جفني الكرى ... قرى فجرى دمعي دما فوق وجنتي )
( فطوفان نوح عند نوحي كأدمعي ... وإيقاد نيران الخليل كلوعتي )
( ولولا زفيري أغرقتني أدمعي ... ولولا دموعي أحرقتني زفرتي )
( وحزني ما يعقوب بث أقله ... وكل بلا أيوب بعض بليتي )
( وكل أذى في الحب منك إذا بدا ... جعلت له شكري مكان شكيتي )
( نعم وتباريح الصبابة إن عدت ... علي من النعماء في الحب عدت )
( وعنوان ما بي ما أبثك بعضه ... وما تحته إظهاره فوق قدرتي )
( وأسكت عجزا عن أمور كثيرة ... بنطقي إن تحصى ولو قلت قلت )
( وعن مذهبي في الحب ما لي مذهب ... وإن ملت يوما عنه فارقت ملتي )
( هو الحب إن لم تقض لم تقض مأربا ... من الوصل فاختر ذاك أو خل خلتي )
( ودع عنك دعوى الحب واختر لغيره ... فؤادك وادفع عنه غيك بالتي )
( وجانب جناب الوصل هيهات لم يكن ... وها أنت حي إن تكن صادقا مت )
( وقالوا تلاف ما بقي منك قلت لا ... أراني إلا للتلاف تلفتي )
( غرامي أقم صبري انصرم دمعي انسجم ... عدوي انتقم دهري احتكم حاسدي اشمت )
( ويا نار أحشائي أقيمي من الجوى ... حنايا ضلوعي فهي غير قويمة )
( ويا جسدي المضنى تسل عن الشقا ... ويا كبدي من لي بأن تتفتتي )
( ويا كلما أبقى الضنى مني ارتحل ... فما لك مأوى في عظام رميمة )
( وماذا عسى عني أناجي توهما ... بياء الندا أونست منك بوحشتي )
( فنفسي لم تجزع بإتلافها أسى ... ولو جزعت كانت بغيري تأست )
( فيا سقمي لا تبق لي رمقا فقد ... أبيت لبقيا العز ذل البقية )
ومن غرامياته التي خلبت القلوب وعرف العارفون بها طريق التوصل إلى معرفة المحبوب قوله من قصيدة
( أهفو إلى كل قلب بالغرام له ... شغل وكل لسان بالهوى لهج )
( وكل سمع عن اللاحي به صمم ... وكل جفن إلى الإغفاء لم يعج )
( لا كان وجد به الآماق جامدة ... ولا غرام به الأشواق لم تهج )
( عذب بما شئت غير البعد عنك تجد ... أوفى محب بما يرضيك مبتهج )
( وخذ بقية ما أبقيت من رمق ... لا خير في الحب إن أبقى على المهج )
( من لي بإتلاف روحي في هوى رشإ ... حلو الشمائل بالأرواح ممتزج )
( من مات فيه غراما عاش مرتقيا ... ما بين أهل الهوى في أرفع الدرج )
وما أحلى ما قال منها
( قل للذي لامني فيه وعنفني ... دعني وشأني وعد عن نصحك السمج )
( فاللوم لؤم ولم يمدح به أحد ... فهل رأيت محبا بالغرام هجي )
منها
( لم أدر ما غربة الأوطان وهو معي ... وخاطري أين كنا غير منزعج )
( فالدار داري وحبي حاضر ومتى ... بدا فمنعرج الجرعاء منعرجي )
منها
( ليهن ركب سروا ليلا وأنت بهم ... فسيرهم في صباح منك منبلج )
( فليصنع الركب ما شاؤوا لأنفسهم ... هم أهل بدر فلا يخشون من حرج )
وما ألطف ما قال منها
( أهلا بما لم أكن أهلا لموقعه ... قول المبشر بعد اليأس بالفرج )
( لك النشارة فاخلع ما عليك فقد ... ذكرت ثم على ما فيك من عوج )
ومثله في الرقة والانسجام قوله من قصيدة
( ابق لي مقلة لعلي يوما ... قبل موتي أرى بها من رآكا )
( أين مني ما رمت هيهات بل أين ... لعيني باللحظ لثم ثراكا )
( وبشيري لو جاء منك بعطف ... ووجودي في قبضتي قلت هاكا )
( قد كفى ما جرى دما من جفون ... لي قرحي فهل جرى ما كفاكا )
( فأجر من قلاك فيك معنى ... قبل أن يعرف الهوى يهواكا )
( بانكساري بذلتي بخضوعي ... بافتقاري بفاقتي لغناكا )
( لا تكلني إلى قوي جلد خان ... فإني أصبحت من ضعفاكا )
( كنت تجفو وكان لي بعض صبر ... أحسن الله في اصطباري عزاكا )
( كم صدود عساك ترحم شكواي ... ولو باستماع قولي عساكا )
( شنع المرجفون عنك بهجري ... وأشاعوا أني سلوت هواكا )
( ما بأحشائهم عشقت فأسلو ... عنك يوما دع يهجروا حاشاكا )
( كيف أسلو ومقلتي كلما لاح ... بريق تلتفت للقاكا )
( كل من في حماك يهواك لكن ... أنا وحدي بكل من في حماكا )
( ومن كاساته الغرامية التي سكر العشاق بقديمها وحديثها قوله
( أدر ذكر من أهوى ولو بملام ... فإن أحاديث الحبيب مدامي )
( فلي ذكرها يحلو على كل صيغة ... ولو مزجوه عذلي بخصام )
( كأن عذولي بالوصال مبشري ... وإن كنت لم أطمع برد سلام )
وما أبدع وأرق ما قال منها
( يشف عن الأسرار جسمي من الضنا ... فنوجي بها معنى نحول عظامي )
( طريح جوى حب جريح جوارح ... قريح جفون بالدوام دوامي )
( صحيح عليل فاطلبوني من الضنى ... ففيها كما شاء النحول مقامي )
منها
( فلي كل عضو فيه كل حشا بها ... إذا نظرت أغراض كل سهام )
( ولو بسطت جسمي رأت كل جوهر ... به كل قلب فيه كل غرام )
ومن غرامياته التي يتحرك الجماد لرقتها قوله من قصيدة
( ما لي سوى روحي وباذل نفسه ... في حب من يهواه ليس بمسرف )
( فلئن رضيت بها لقد أسعفتني ... يا خيبة المسعى إذا لم تسعف )
وما أسجم ما قال منها
( يا أهل ودي أنتم أملي ومن ... ناداكم يا أهل ودي قد كفي )
( عودوا لما كنتم عليه من الوفا ... كرما فإني ذلك الخل الوفي )
( وحياتكم وحياتكم قسما وفي ... عمري بغير حياتكم لم أحلف )
( لو أن روحي في يدي ووهبتها ... لمبشري بوصالكم لم أنصف )
( لا تحسبوني في الهوى متصنعا ... كلفي بكم خلق بغير تكلف )
( أخفيت حبكم فأخفاني أسى ... حتى لعمري كدت عني أختفي )
( وكتمته عني فلو أبديته ... لوجدته أخفى من اللطف الخفي )
وما أحلى ما خاطب العذول منها بقوله
( دع عنك تعنيفي وذق طعم الهوى ... فإذا عشقت فبعد ذلك عنف )
وما أعذب ما قال منها
( يا ما أميلح كلما يرضي ... ورضابه يا ما أحيلاه بفي )
ولقد أحسن الله خاتمته فيها بقوله
( ما للنوى ذنب ومن أهوى معي ... إن غاب عن إنسان عيني فهو في )
ولقد أقام القواعد الغرامية بقوله من قصيدة
( تعرض قوم للغرام وأعرضوا ... بجانبهم عن صحة فيه واعتلوا )
( رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم ... وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا )
( فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم ... وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا )
وعن مذهبي لما استحبوا العمى على الهدى حسدا من عند أنفسهم ضلوا وما أحلى ما قال بعده
( أحبة قلبي والمحبة شافعي ... لديكم إذا شئتم بها اتصل الحبل )
( عسى عطفة منكم علي بنظرة ... فقد تعبت بيني وبينكم الرسل )
( أحباي أنتم أحسن الدهر أم أسا ... فكونوا كما شئتم أنا ذلك الخل )
( إذا كان حظي الهجر منكم ولم يكن ... بعاد فذاك الهجر عندي هو الوصل )
وما ألطف ما قال منها
( وماذا عسى عني يقال سوى غدا ... بنعم له شغل نعم لي بها شغل )
( أخذتم فؤادي وهو بعضي وما الذي ... يضركم لو كان عندكم الكل )
وما أظرف ما قال منها
( تبا له قومي إذ رأوني متيما ... وقالوا بمن هذا الفتى مسه الخبل )
( وقال نساء الحي عنا بذكر من ... جفانا وبعد العز لذ له الذل )
( إذا أنعمت نعم علي بنظرة ... فلا أسعدت سعدى ولا أجملت جمل )
وما أرق ما قال منها
( خفيت ضني حتى لقد ضل عائدي ... وكيف يرى العواد من لا له ظل )
( وما عثرت عيني على أثري ولم ... تدع لي رسما في الهوى الأعين النجل )
( ولي همة تعلو إذا ما ذكرتها ... وروح بذكراها إذا رخصت تغلو )
( فنافس ببذل النفس فيها أخا الهوى ... فإن قبلتها منك يا حبذا البذل )
( فمن لم يجد في حب نعم بنفسه ... وإن جاد بالدنيا إليه انتهى البخل )
ومن الغراميات التي تهيج الأشواق ولواعج الغرام وتنتظم بها عقود الانسجام قول أحد المشايخ العارفين الشيخ عفيف الدين التلمساني
( لذ بالغرام ولذة الأشواق ... واختر فناءك في الجمال الباقي )
( واخلع سلوك فهو ثوب مخلق ... والبس جديد مكارم الأخلاق )
( وتوق من نار الصدود بشربة ... من ماء دمعك فهو نعم الواقي )
( وإذا دعاك إلى الصبا نفس الصبا ... فأجب رسول نسيمه الخفاق )
( وإذا شربت الصرف من خمر الهوى ... إياك تغفل عن جمال الساقي )
( والق الأحبة إن أردت وصالهم ... متلذذا بالذل والإملاق )
( أوليس من أحلى المطامع في الهوى ... عز الحبيب وذلة العشاق )
ويطربني من رقائق انسجاماته الغرامية قوله
( تعلم في مرافقة النديم ... مطاوعة الأراكة للنسيم )
( وعاشره بأخلاق فإني ... وحقك عبد رق للنديم )
( أعاطيه أحاديثي وكأسي ... فأسكر بالحديث وبالقديم )
( ولي عند الأحبة قلب صب ... صحيح الود في جسد سقيم )
( أقام وسافر السلوان عنه ... فلا اجتمع المسافر بالمقيم )
وقد أوردت هنا ما أمكن من جهد الطاقة في باب الانسجام الغرامي وبديع بيوته وقد تقدم قولي أني أخرت فيه المتقدم وقدمت المتأخر عصرا لئلا ينفرط سلكه وتذهب لذته فإن الانسجام يدخل في الأبواب الغرامية وفي غيرها ولكنه يوجد فيها أكثر لعذوبتها وارتياح الخواطر إليها لا سيما غراميات العارفين مثل الشيخ شرف الدين بن الفارض وغيره
ومما يستظرف في باب الانسجام من الطرائق الغرامية الغريبة قول عبد المحسن الصوري
( وأخ مسه نزولي بقرح ... مثل ما مسني من الجوع قرح )
( بت ضيفا له كما حكم الدهر ... وفي حكمه على الحر قبح )
( فابتداني يقول وهو من السكرة ... بالهم طافح ليس يصحو )
( لم تغربت قلت قال رسول الله ... والقول منه نصح ونجح )
( سافروا تغنموا فقال وقد قال ... تمام الحديث صوموا تصحوا )
ومن الانسجام المطرب قول مروان بن أبي حفصة
( مسحت ربيعة وجه معن سابقا ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب )
ومن الانسجام المرقص قول أبي نواس
( فتمشت في مفاصلهم ... كتمشي البرء في السقم )
ومثله قوله
( دع عنك لومي فإن اللوم إغراء ... وداوني بالتي كانت هي الداء )
( صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ... لو مسها حجر مسته سراء )
( من كف ذات حر في زي ذي ذكر ... لها محبان لوطي وزناء )
( قامت بإبريقها والليل معتكر ... فلاح من وجهها في البيت لألاء )
( وأرسلت من فم الإبريق صافية ... كأنما أخذها للعقل إغفاء )
( رقت عن الماء حتى ما يلائمها ... لطافة وخفى عن شكلها الماء )
ومن الانسجام المطرب قول محمد بن صالح الحسني
( وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهنا لمعانه )
( يبدو كحاشية الرداء وصوته ... صعب الذرا متمنع أردانه )
( فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه )
وعدوا من الانسجام المطرب قول عبد الرحمن العطوي في رثاء أحمد بن أبي دؤاد
( وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلاب قوم تقصف )
( وليس فتيق المسك ما تجدونه ... ولكنه ذاك الثناء المخلف )
وعدوا من الانسجام المرقص قول العكوك في أبي دلف
( إنما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره )
( فإذا ولى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره )
ومن الانسجام المرقص قول بكر بن النطاح
( من كان مرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا )
ومن الانسجام المطرب قول أبي تمام
( ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله )
ومثله قوله
( ظبي تقنصته لما نصبت له ... في آخر الليل أشراكا من الحلم )
ومن الانسجام المرقص قول ديك الجن
( بها غير مغذول فداوي خمارها ... وصل بعشيات الغبوق ابتكارها )
( موردة من كف ظبي كأنما ... تناولها من خده فأدارها )
ومن الانسجام المطرب قول دعبل
( إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن )
ومن الانسجام المرقص قول أبي علي البصير
( لعمر أبيك ما نسب المعلى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم )
وعدوا من الانسجام المطرب قول يزيد بن خالد المهلبي
( ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها ... كفى المرء نبلا أن تعد معايبه )
ومن الانسجام المرقص قول البحتري
( تخفي الزجاجة لونها فكأنها ... في الكف قائمة بغير إناء )
ومثله قوله
( متعتب في غير ما متعتب ... إن لم يجد جرما علي تجرما )
( ألف الصدود فلو يمر خياله ... بالصب في سنة الكرى ما سلما )
ومن الانسجام المرقص قول ابن الرومي
( فالموت إن نظرت وإن هي أعرضت ... وقع السهام ونزعهن أليم )
ومثله قوله يخاطب بني طاهر
( علوتم علينا علو النجوم ... فجودوا علينا بأنوائها )
وعدوا من المطرب قول أبي العتاهية
( أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرر أذيالها )
( فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها )
ومثله في المطرب قول سلم الخاسر
( لا تسأل المرء عن خلائقه ... في وجهه شاهد من الخبر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن المعتز
( أهلا بفطر قد أنار هلاله ... فالآن فاغد إلى المدام وبكر )
( فانظر إليه كزورق من فضة ... قد أثقلته حمولة من عنبر )
وعدوا من مرقصات المتنبي قوله
( وأصبح شعري منهما في مكانة ... وفي عنق الحسناء قد يحسن العقد )
ومثله قوله
( والهجر أقتل لي مما أراقبه ... أنا الغريق فما خوفي من البلل )
ومثله قوله
( فإن تفق الأنام وأنت منهم ... فإن المسك بعض دم الغزال )
ومن الانسجام المرقص قول أبي نصر بن نباتة
( لم يبق جودك لي شيئا أؤمله ... تركتني أصحب الدنيا بلا أمل )
ومن الانسجام قول الوأواء الدمشقي
( وأمطرت لؤلؤا من نرجس فسقت ... وردا وعضت على العناب بالبرد )
ومثله قوله
( متى أرعى رياض الحسن منه ... وعيني قد تضمنها غدير )
ومن الانسجام المرقص قول أبي العباس الضبي
( زعم البنفسج أنه كعذاره ... حسنا فسلوا من قفاه لسانه )
ومن الانسجام المرقص قول أبي الحسن اللحام
( يا سائلي عن خالد عهدي به ... رطب العجان وكفه كالجلمد )
( كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي )
وعدوا من الانسجام المطرب قول أبي نصر العتبي
( الله يعلم أني لست ذا بخل ... ولست ملتمسا في البخل لي عللا )
لكن طاقة مثلي غير خافية ... والذر يعذر في القدر الذي حملا )
وعدوا من الانسجام المرقص المطرب قول أبي الفرج بن هند
( عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال )
( هذا غزال ولا عجيب ... تولد المسك في الغزال )
ومثله قول الأمير شمس المعالي قابوس
( وفي السماء نجوم ما لها عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الحجاج
( كأن أيري شمع في رخاوته ... فكلما لمسته راحتي لانا )
ومثله قوله
( فأصبح الدهر به هيضة ... فنحن غرقى في خرا الدهر )
وعدوا من المرقص قول أبي العلاء المعري
( والخل كالماء يبدي لي ضمائره ... مع الصفاء ويخفيها مع الكدر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول المنازي الذي لا يوجد في معناه مثله
( وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم )
( نزلنا دوحه فحنا علينا ... حنو المرضعات على الفطيم )
( وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم )
( يصد الشمس أني واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم )
( تروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الشحناء العسقلاني
( ومهفهف علق السقام بطرفه ... وسرى فخيم في معاقد خصره ) ( مزقت أثواب الظلام بثغره ... ثم انثنيت أحوكها من شعره )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الخياط الدمشقي وهو من شعراء المائة السادسة
( ومحتجب بين الأسنة معرض ... وفي القلب من إعراضه مثل حجبه )
( أغار إذا آنست في الحي أنة ... حذارا وخوفا أن تكون لحبه )
وهذا الانسجام غرامي وعدوا من الانسجام المرقص قول القاضي الأرجاني
( وما ينزل الغيث إلا لأن ... يقبل بين يديك الثرى )
ومثله قول ابن الهبارية
( ولولا نداه خفت نار ذكائه ... عليه ولكن الندى مانع الوقد )
وعدوا من المرقص قول أبي عبد الله النقاش البغدادي
( إذا وجد الشيخ من نفسه ... نشاطا فذلك موت خفي )
( ألست ترى أن ضوء السراج ... له لهب عندما ينطفي )
ومن الانسجام المرقص قول ابن المفضل البغدادي
( خطرت فكاد الورق يسجع فوقها ... إن الحمام لمغرم بالبان )
( من معشر نشروا على هام الربا ... للطارقين ذوائب النيران )
ومثله قول سبط التعاويذي
( بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان )
ومن الانسجام المرقص قول القاضي الفاضل في وكيله الشريف الكحال
( رجل توكل لي وكحلني ... فأصبت في عيني وفي عيني )
ومثله قوله فيه
( عادى بني العباس حتى أنه ... خلع السواد من العيون بكحله )
ومثله قول ابن الساعاتي
( والطير يقرأ والغدير صحيفة ... والريح تكتب والغمام ينقط )
ومثله قوله في النهر
( صدأ الظلام يزيد رونق حسنه ... أرأيت سيفا قط يصقل بالصدا )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الملك بن مازة البخاري وقد دخل عليه مملوك وفي يده قوس
( نهاني لما بدا عقرب ... على خده أن أروم السفر )
( فقلت وفي يده قوسه ... أسير ففي القوس حل القمر )
ومثله قول ابن أردخل التكريتي
( ألفي القوام عني أمالوه ... فقلبي مكسور تلك الإماله )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن عنين
( دمشق فبي شوق إليها مبرح ... وإن لج واش أو ألح عذول )
( بلاد بها الحصباء در وتربها ... عبير وأنفاس الشمال شمول )
( تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل )
ومن الانسجام المرقص قول الحاجري
( إني لأعذر في الأراك حمامه الشادي ... كذلك تفعل العشاق )
( حكم الغرام الحاجري بأسرها ... فغدت وفي أعناقها الأطواق )
وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب بهاء الدين زهير
( فيا ظبي هلا كان منك التفاتة ... ويا غصن هلا كان منك تعطف )
( ويا حرم الحسن الذي هو آمن ... وألبابنا من حوله تتخطف )
( عسى عطفة بالوصل يا واو صدغه ... علي فإني أعرف الواو تعطف )
وعدوا من المرقص قول محيي الدين بن زيلاق
( ومن عجبي أن يحرسوك بخادم ... وخدام هذا الحسن من ذاك أكثر )
( عذارك ريحان وثغرك جوهر ... وخدك كافور وخالك عنبر )
ومثله قول ابن عربي الموصلي في المرقص
( أنا صب وماء عيني صب ... وأسير من الضنى في قيود )
( وشهودي على الهوى أدمع العين ... ولكنني قذفت شهودي )
ومثله قول ابن الحلاوي الموصلي
( كتبت فلولا أن هذا محلل ... وذاك حرام قست لفظك بالسحر )
( فوالله ما أدري أزهر خميلة ... بطرسك أم در يلوح على نحر )
( فإن كان زهرا فهو صنع سحابة ... وإن كان درا فهو من لجة البحر )
ومثله قول ابن ظهير الأزبكي
( طرفي وقلبي ذا يسيل دما وذا ... دون الورى أنت العليم بقرحه )
( وهما بحبك شاهدان وإنما ... تعديل كل منهما في جرحه )
( والقلب منزلك القديم فإن تجد ... فيه سواك من الأنام فنحه )
أنظر هذه القافية ما أحلاها وأمكنها
ومثله قوله
( غارت مناطقة وأنجد ردفه ... يا بعد شقة غوره من نجده )
ومن الانسجام المرقص قول تاج الدين بن الحواري
( فوالله ما أخرت عنك مدائحي ... لأمر سوى أني عجزت عن الشكر )
( وقد رضت فكري مرة بعد مرة ... فما ساغ أن أهدي إلى مثلكم شعري )
( فإن لم يكن درا فتلك نقيصة ... وإن كان درا كيف يهدى إلى البحر )
ويعجبني من الانسجام المرقص قول النجم القمراوي
( وحاكمت النسيم على مرور ... بعطفيه فمال مع النسيم )
ومثله قول عبد الكردي
( إذا ما اشتقت يوما أن أراكم ... وحال البعد بينكم وبيني )
( بعثت لكم سوادا في بياض ... لأبصركم بشيء مثل عيني )
وعدوا من الانسجام المطرب قول المهذب بن الخيمي الحلي وقد كتب إلى والده
( جننت فعوذني بكتبك أن لي ... شياطين شوق لا يفارقن مضجعي )
( إذا استرقت أسرار وجدي تمردا ... بعثت إليها في الدجا شهب أدمعي )
ومن الانسجام المرقص قول ابن عبد ربه
( يا ذا الذي خط العذار بخده ... خطين هاجا لوعة وبلابلا )
( ما كنت أقطع أن لحظك صارم ... حتى رأيت من العذار حمائلا )
ومن أغرب ما رأيت من الانسجام المرقص قول جعفر بن عثمان المصحفي
( خفيت على شرابها فكأنما ... يجدون ريا في إناء فارغ )
ومن الانسجام المرقص قول إدريس بن السمان
( ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح )
( خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح )
ومثله قول المعتمد بن عباد
( سميدع يهب الآلاف مبتدئا ... وبعد ذلك يلفى وهو معتذر )
( له يد كل جبار يقبلها ... لولا نداها لقلنا إنها الحجر )
ويعجبني قول الفضل بن شرف في المرقص
( لم يبق للجور في أيامكم أثر ... إلا الذي في عيون الغيد من حور )
ومثله قوله
( تقلدتني الليالي وهي مدبرة ... كأنني صارم في كف منهزم )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن رشيق صاحب العمدة في المعز بن باديس سلطان أفريقية وقد غاب يوم العيد وكان يوما ماطرا
( تجهم العيد وانهلت بوادره ... وكان يعهد منك البشر والضحكا )
( كأنه جاء يطوي الأرض من بعد ... شوقا إليك فلما لم يجدك بكى )
وعدوا من الانسجام المرقص قول عبد الله بن محمد العطار
( وكأس ترينا آية الصبح والدجا ... فأولها شمس وآخرها بدر )
( مقطبة ما لم يزرها مزاجها ... فإن زارها جاء التبسم والبشر )
( فواعجبا للدهر لم يخل مهجة ... من العشق حتى الماء يعشقه الخمر )
ومثله قول القاضي الجليس بن الجناب المصري
( ومن عجب أن الصوارم في الوغى ... تحيض بأيدي القوم وهي ذكور )
( وأعجب من ذا أنها في أكفهم ... تأجج نارا والأكف بحور )
وظريف من الانسجام المرقص قول ابن مكنسة
( والسكر في وجنته وطرفه ... يفتح وردا ويغض نرجسا )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ظافر الحداد
( ونفر صبح الشيب ليل شبيبتي ... كذا عادتي في الصبح مع من أحبه )
ومثله قول أبي إسحاق بن خفاجة
( ونمت بأسرار الرياض خميلة ... بها الزهر ثغر والنسيم لسان )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن اللبانة
( بروحي وأهلي جيرة ما استعنتهم ... على الدهر إلا وانثنيت معانا )
( أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى ... فلم أستطع من أرضهم طيرانا )
وعدوا أيضا من الانسجام المرقص قول ابن الرقاق
( وأغيد طاف بالكؤوس ضحى ... وحثها والصباح قد وضحا )
( والروض أهدى لنا شقائقه ... وآسه العنبري قد نفحا )
( قلنا وأين الأقاح قال لنا ... أودعته ثغر من سقى القدحا )
( فظل ساقي المدام يجحد ما ... قال فلا تبسم افتضحا )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن سنا الملك
( لا تخش مني فإني كالنسيم ضنى ... وما النسيم بمخشي على الغصن )
وعدوا من الانسجام المرقص قول ابن الدباغ وقد تقدم
( يا رب إن قدرته لمقبل ... غيري فللمسواك أو للأكؤس )
( ولئن قضيت لنا بصحبة ثالث ... يا رب فلتك شمعة في المجلس )
( وإذا قضيت لنا بعين مراقب ... يا رب فلتك من عيون النرجس )
ومثله قوله
( وأشكو إلى ليل الغدائر غدرها ... وأملي عليه وهو في الأرض يكتب )
هذه الأبيات تقدمت في باب الانسجام الغرامي ولكن لم يظهر من مكررها غير الحلاوة
وعدوا من الانسجام المرقص قول كمال الدين بن النبيه
( وكوكب الصبح نجاب على يده ... مخلق تملأ الدنيا بشائره )
وعدوا من الانسجام المرقص قول الصاحب جمال الدين بن مطروح
( إذا ما اشتهى الخلخال أخبار قرطها ... فيا طيب ما تملي عليه الضفائر )
وعدوا من الانسجام المرقص قول البرهان بن الفقيه نصر الله
( أقتطف السوداء من لمتي ... أخذا مع البيضاء إذ تسرف )
( فتخلف البيضاء أمثالها ... وتغضب السوداء فما تخلف )
( حماقة السودان من ههنا ... يعرفها من لم يكن يعرف )
وعدوا من الانسجام المرقص قول أمين الدين التلمساني
( ساروا فيا وحشة الوادي لبعدهم ... منهم ولا سيما الأغصان والكثب )
ومن الانسجامات المرجزة التي لو أدركها الشريف تطفل على نسيم أبياتها واعترف أن ما للصادح والباغم تغريد صادحاتها أرجوزة الشيخ جمال الدين بن نباتة الموسومة بنظم السلوك في مصايد الملوك التي امتدح بها الملك الأفضل بن الملك المؤيد صاحب حماة وكان قد لقب قبل الأفضل بالمنصور وهي
( أثنى شذا الروض على فضل السحب ... واشتملت بالوشي أرداف الكتب )
( ما بين نور مسفر اللثام ... وزهر يضحك في الأكمام )
( إن كانت الأرض لها ذخائر ... فهي لعمري هذه الأزاهر )
( قد بسطتها راحة الغمائم ... بسط الدنانير على الدراهم )
( أحسن بوجه الزمن الوسيم ... تعرف فيه نضرة النعيم )
( وحبذا وادي حماة الرحب ... حيث زها العيش به والعشب )
( أرض الهناء والسناء والمرح ... والأمن واليمن ورايات الفرح )
( ذات النواعير سقات الترب ... وأمهات عصفه والأب )
( تعلمت نوح الحمام الهتف ... أيام كانت ذات فرع أهيف )
( فكلها من الحنين قلب ... فكيف لا والما عليها صب )
( لله ذاك السفح والوادي الغرد ... والماء معسول الرضاب مضطرد )
( يصبو بها الرائي فكيف السامع ... ويحمد العاصي فكيف الطائع )
( إذا نظرت للربا والنهر ... فارو عن الربيع أو عن جعفر )
( محاسنا تلهى العيون والفكر ... ربيع روضات وشحرور صفر )
( أمام كل منزل بستان ... وبين كل قرية ميدان )
( أما رأيت الورق في الأوراق ... جاذبة القلوب بالأطواق )
( فبادر اللذة يا فلان ... واغنم متى أمكنك الزمان )
( ولا تقل مشتى ولا مصيف ... فكل أوقات الهنا خريف )
( كل زمان يتقضى بالجدل ... زمان عيش كلما دار اعتدل )
( أحسن ما أذكر من أوقاته ... وخير ما أنعت من لذاته )
( بروزنا للصيد فيه والقنص ... وحوزنا من مره أحلى الفرص )
( وأخذنا الوحش من المسارب ... وفعلنا في الطير فوق الواجب )
( لما دنا زمان رمي البندق ... سرنا على وجه السرور المشرق )
( في عصبة عادلة في الحكم ... وغلمة مثل بدور التم )
( من كل مبعوث إلى الأطيار ... تظله غمامة الغبار )
( قد حمد القوم به عقب السفر ... عند اقتران القوس منه بالقمر )
( لولا حذار القوس من يديه ... لغنت الورق على عطفيه )
( في كفه محنية الأوصال ... قاطعة الأعمار كالهلال )
( زهراء خضراء الإهاب معجبه ... مما ثوت بين الرياض المعشبه )
( فاغرة الأفواه للأطيار ... طالبة لهن بالأوتار )
( كأنها بين المياه نون ... أو حاجب بما تشا مقرون )
( لها بنات بالمنى معذوقه ... من طينة واحدة مخلوقه )
( سامعة لما تشير الأم ... مع أنها مثل الحجار صم )
( كأنها والطير منها هارب ... خلف الشياطين شهاب ثاقب )
( واها لها شبه كرات تخطف ... شاهدة بالعزم وهي تقذف )
( حتى نزلنا بمكان مونق ... إخوان صدق أحدقوا بالملق )
( فيا له في الحسن من محل ... مراد جد ومراد هزل )
( للطير في مياهه مواقع ... كأنها من حولها فواقع )
( فلم نزل في منزل كريم ... نروي حديث الرمي عن قديم )
( حتى طوى الأفق رداء الورس ... والتهم المغرب قرص الشمس )
( وابتدر القوم إلى المراصد ... من ساهر ليل التمام ساهد )
( كالليث يسطو كفه بأرقم ... والبدر يرمي في الدجا بأسهم )
( بينا الطيور في مداها ساهره ... إذا هم من عينه بالساهره )
( وأقبلت مواكب الطيور ... على طروس الجو كالسطور )
( فحبذا السطور في المهارق ... منظومة الأحرف بالبنادق )
( من كل تم حق أن نسمي ... ضياءه المشرق بدر التم )
( تخاله من تحت عنق قد سجا ... طرة صبح تحت أذيال الدجا )
( وكل ذي حسن من الوسامه ... تخاله في أفقه غمامه )
( تتبعه أوزة دكناء ... من دونها لقلقة غراء )
( تقدمها أنيسة ملونه ... تابعة من كل وصف أحسنه )
( يجنى بها الأكل خير ما جنى ... وأحسن المأكول ما تلونا )
( وربما مر لديها حبرج ... كأنه على نضار يدرج )
( وانقض من بعض الجبال نسر ... له بأبراج النجوم وكر )
( مغير الخلق شديد الأيدي ... يبني على الكسر حروف الصيد )
( تحث مسراه عقاب كاسبه ... خافضة لحظ الطيور ناصبه )
( إذا مضت جملتها المعترضه ... تواصلت خيوطها المنقرضه )
( بكل كركي عجيب السير ... كأنه طيف خيال الطير )
( يحث غرنوقا شهي المجتلى ... مقدما على الغرانيق العلا )
( وأبيض كالغيم يسمى مرزما ... كم بات مثل نورة مبتسما )
( يحثه سبيطر قوي ... معجزة في الطير موسوي )
( كم حاش ثعبانا وكم حواه ... كأنه في يده عصاه )
( هذا وكم ذي نظر ممتاز ... ينعت في الواجب بالعناز )
( أسود إلا لمعة في الصدر ... كأنها نور الهدى في الكفر )
( فلم تزل قسينا الضواري ... تصيبها بأعين الأوتار )
( حتى غدت دامية النحور ... ساقطة منها على الخبير )
( كأنها وهي لدينا وقع ... لدى محاريب القسي ركع )
( وأصبحت أطيارنا قد حصلت ... ولم تسل بأي ذنب قتلت )
( مستتبعا وجه العشا وجه السحر ... وكل وجه منهما وجه أغر )
( يا لك من صيد مقر العين ... مرضي الصحاب وهو ذو الوجهين )
( لم نرض ما وفى من الأماني ... حتى شفعناه بصيد ثاني )
( صيد الملوك الصيد بالكواسر ... والخيل في وجه الصباح السافر )
( ذاك الذي تصبو له الجوارح ... فهي إلى طلابه طوامح )
( واثقة بالرزق حيث كانا ... تغدو خماصا وتجي بطانا )
( سرنا على اسم الله والمناجح ... نعوم في الأقطار بالسوابح )
( خيل تحاذي الصيد حيث مالا ... كأنها أضحت له ظلالا )
( تسعى بها قوائم لا تتبع ... وكيف لا وهي الرياح الأربع )
( تحفنا من فوقها غلمان ... كأنهم لدوحنا أغصان )
( ترك تريك في سماء الملبس ... كواكبا طالعة في الأطلس )
( منظومة الأوساط بالسلاح ... من كل سهم زجل الجناح )
( وكل عضب ذرب المقاطع ... يحرف الهام عن المواضع )
( على يد السائر منهم زاده ... من كل باز قرم فؤاده )
( قد كتبت في صدره حروف ... تقرا بما تقرى به الضيوف )
( وكل شاهين شهي المرتمى ... كبارق طار وصوب قد همى )
( بينا تراه ذاهبا لصيده ... معتصما بأيده وكيده )
( حتى تراه عائدا من أفقه ... ملتزما طائره في عنقه )
( أفلح من كان على يسراه ... حتى غدت حاسده يمناه )
( تلك يد لا تعرف الإعسارا ... لأجل هذا سميت يسارا )
( وكل صقر مسبل الجناح ... مواصل الغدو والرواح )
( ذي مقلة لها ضرام واقد ... يكاد يشوي ما يصيد الصائد )
( كأنما المخلب منه منجل ... لحصد أعمار الطيور مرسل )
( يا حبذا طيور جد ولعب ... تهوي إلى الأرض وللأفق تشب )
( من سنقر عالي المدى والشان ... معظم الأخبار والعيان )
( يصعد خلف الرزق ليس يمهله ... كأنه من السما يستعجله )
( ومن عقاب بأسها مروع ... كأنها للطير جن يصرع )
( كم جلبت لطائر من وهن ... وكم وكم قد أهلكت من قرن )
( وحبذا كواسر الكواهي ... عديمة الأنظار والأشباه )
( مخصوصة بالطرد القويم ... حدباء ظهر الذنب الرقيم )
( ذاك لعمري حدب للرائي ... يعدل ملك القلعة الحدباء )
( هذا وقد تجهزت أعداد ... يجمعها الكلاب والفهاد )
( من كل فهد عنتري الحمله ... إذا رأى شخص مهاة عبله )
( مبارك الإقبال والإعراض ... مستقبل الحال بناب ماض )
( كأنه من حسدة اكتسابه ... قد أحرق الأنجم في إهابه )
( له على مسايل الجفون ... خط كخط الألفات الجون )
( ما أبصر المبصر خطا مثله ... وكيف لا والخط لابن مقله )
( وكل منسوب إلى سلوق ... أهرت وثاب الخطا ممشوق )
( طاوي الفؤاد ناشر الأظافر ... يا عجبا منه لطاو ناشر )
( يعض بالبيض ويخطو بالقنا ... ويسبق الوهم لإدراك المنى )
( كالقوس إلا أنه كالسهم ... والغيم يجلو عن شهاب الرجم )
( إذا تراءى بقر الوحش اندفع ... كأنه المريخ في الثور طلع )
( قاصرة عن يده عيناه ... مشروطة برجله أذناه )
( يشفعه كل عزيز عاري ... مغالب الصيد على الأوكار )
( واها لها من أكلب طوارد ... معربة عن مضمر المصايد )
( قد بالغت من طمع في كسبها ... ففتشت عن أنفس لم تخبها )
( حتى إذا تمت بها الأمور ... حفت بنا لصيدها الطيور )
( ما بين روضات مددنا نحوها ... وحول آفاق ملكنا جوها )
( واستقبلت أطيارها البزاة ... معلمة كأنها الغزاة )
( فلم تزل تسطو سطا الحجاج ... على الكراكي إلى الدراج )
( حتى غدت تلك البزاة صرعى ... مجموعة على التراب جمعا )
( على الربا من دمها خلوق ... كأن كل نبتها شقيق )
( ثم عطفنا للوحوش السانحة ... واستبقت تلك الضواري الطامحه )
( كلاب صيد بينها سناقر ... تفعل في الوحش بها الفواقر )
( تخشى بها العقر على نفوسها ... فالطير لا شك على رؤوسها )
( وللكلاب حولها مغار ... يكاد أن تقدح منه النار )
( من نمر لسانه يلوب ... تقول هذا كوسج مخضوب )
( يعانق الظبي عناق الوامق ... ما كان أغنى الظبي عن معانق )
( والفهد يشتد على الآجال ... شد وصي السوء في الأموال )
( لا يهمل القصد ولا يخون ... كأن كل جسمه عيون )
( وللزعاريات خلف الأرنب ... حقائق تبطل كيد الثعلب )
( كم برحت بالهارب المكدود ... وطوحت بصاحب الأخدود )
( وربما مرت ظباء ومها ... للنبل في أكل حشاها مشتهى )
( قد نسجت ملاءة من عنبر ... تخاط من قرونها بالإبر )
( فابتدرت أجنحة السهام ... صائبة الأغراض والمرامي )
( تجرح كل سانح نفور ... كأنه بعض شهود الزور )
( كأن أقطار الفلاة مجزره ... أو روضة من الدماء مزهره )
( كأن صرعى وحشها كفار ... الموت عقبى أمرها والنار )
( للمرء فيها منظر أحبه ... يملأ من لحم وشحم قلبه )
( لله ذاك المنظر المهنا ... أي معاد عن ذراه عدنا )
( قد ملئت من ظفر أيدينا ... وقد شكرنا فضل ما حبينا )
( نسير حول الملك المنصور ... كالشهب حول القمر المنير )
( محمد ناصر دين أحمد ... الملك ابن الملك المؤيد )
( يا حبذا من والد ومن ولد ... وحبذا من شبل ملك وأسد )
( فرع زها بأصله أيوب ... فأثمرت بحبه القلوب )
( قال الأنام حظه جلي ... قلت نعم وجده علي )
( ذاك الذي سام العلا صبيا ... وجاءها من مهده مهديا )
( محكم السطوة سحاح الديم ... يأخذ بالسيف ويعطي بالقلم )
( لو لمس الصخر لفاض نهرا ... أو صحب النجم لعاد بدرا )
( لا ظلم يلفى في حماه العالي ... إلا على العداة والأموال )
( أما ترى الدينار منه خائفا ... أصفر من كف الهبات ناشفا )
( كالبدر في سنائه وتمه ... والطود في وقاره وحلمه )
( مرأى يشف عن فخار أصل ... ونسخة قد قوبلت بالأصل )
( ما ضر من خيم في جنابه ... أن لا تكون الشهب من أطنابه )
( جناب عز جاره لا ينكب ... وباب نجح للغنى مجرب )
( غنيت في ظلاله عن الورى ... غنى نزيل المدن عن قصد القرى )
( ورحت من نعماه بالتواتر ... أروي أحاديث عطا عن جابر )
( يزداد لفظي بهجة ورونقا ... كأنه الخمر إذا تعتقا )
( إن لم أرم ذاك الحمى العالي فمن ... ينصرني على تصاريف الزمن )
( يا ناصر الدين دعاء مادح ... ما بين روضات السطور صادح )
( حسبك مثلي في الأنام شاعرا ... وحسب شعري قوة وناصرا )
ومن الأراجيز المرتجلة التي سارت الركبان ببلاغة ارتجالها ولطف انسجامها أرجوزة الشيخ زين الدين عمر بن المظفر الوردي سقى الله ثراه التي ارتجلها بدمشق المحروسة عند الامتحان المفحم
فقد ذكر الشيخ الإمام العلامة إمام المحدثين أبو الفداء إسماعيل بن كثير أن الشيخ زين الدين المشار إليه قدم دمشق المحروسة في أيام القاضي نجم الدين بن صصري تغمده الله برحمته ورضوانه فأجلسه في الصفة المعروفة بالشباك في جملة الشهود وكان يومئذ زري الحال فاستخف به الشهود
فحضر يوما كتابة مشترى ملك فقال بعضهم أعطوا المعري يكتبه على سبيل الاستهزاء
فقال الشيخ ارسموا لي أكتبه نظما أو نثرا
فزاد استهزاؤهم به فقالوا بل نظما
فأخذ الطرس وكتب ارتجالا ما صورته
( باسم إله الخلق هذا ما اشترى ... محمد بن يونس بن سنقرا )
( من مالك بن أحمد بن الأزرق ... كلاهما قد عرفا من جلق )
( فباعه قطعة أرض واقعة ... بكورة الغوطة وهي جامعه )
( لشجر مختلف الأجناس ... والأرض في البيع مع الغراس )
( وذرع هذي الأرض بالذراع ... عشرون في الطول بلا نزاع )
( وذرعها في العرض أيضا عشره ... وهو ذراع باليد المعتبره )
( وحدها من قبلة ملك التقي ... وحائز الرومي حد المشرق )
( ومن شمال ملك أولاد علي ... والغرب ملك عامر بن جهبل )
( وهذه تعرف من قديم ... بأنها قطعة بنت الرومي )
( بيعت صحيحا لازما شرعيا ... ثم شراء قاطعا مرعيا )
( بثمن مبلغه من فضه ... وازنة جيدة مبيضه )
( جارية للناس في المعامله ... ألفان منها النصف ألف كاملة )
( قبضها البائع منه وافيه ... فعادت الذمة منها خاليه )
( وسلم الأرض إلى من اشترى ... فقبض القطعة منه وجرى )
( بينهما بالبدن التفرق ... طوعا فما لأحد تعلق )
( ثم ضمان الدرك المشهور ... فيه على بائعه المذكور )
( وأشهدا عليهما بذاك في ... رابع عشر رمضان الأشرف )
( من عام سبعمائة وعشره ... من بعد خمسة تليها الهجره )
( والحمد لله وصلى ربي ... على النبي وآله والصحب )
( يشهد بالمضمون من هذا عمر ... ابن المظفر المعري إذ حضر )
فلما فرغ الشيخ من نظمه وتأمل الجماعة ارتجاله وسرعة بديهته اتفق أنه لم يكن فيهم من يحسن النظم فقالوا وقد اعترفوا بفضل الشيخ وعجزوا عن رسم الشهادة لعل الشيخ يسد عن أحد منا برسم شهادته
فكتب عن شخص منهم إلى جانبه يدعى ابن رسول
( وقد حضر العقد الصحيح أحمد ... ابن رسول وبذاك يشهد )
ومما استعذب من انسجامات الشيخ برهان الدين القيراطي قوله من قصيدة تائية
( أخذت بابل عنه ... بعض تلك النفثات )
( فهو غصن في انعطاف ... وغزال في التفات )
( حسنات الخد منه ... قد أطالت حسراتي )
( كلما ساء فعالا ... قلت إن الحسنات )
( ولسوء الحظ صارت ... حسناتي سيئاتي )
( أعشق الشامات منه ... وهي أسباب مماتي )
ويعجبني قوله منها
( بأبي لحظ غزال ... قائل في الخلوات )
( إن للموت بأقداح ... جفوني سكرات )
( قلت قد مت غراما ... قال لي مت بحياتي )
ومنها
( قلت إذ حرك عودا ... عازفا بالنغمات )
( أنت مفتاح سروري ... يا سعيد الحركات )
ومن انسجاماتي الغرامية الموجزة التي تقدمني فيها الشيخ جمال الدين بن نباتة والشيخ زين الدين بن الوردي قصيدتي الدالية التي كتبت بها قديما من حماة المحروسة إلى
القاضي فخر الدين بن مكانس وولده القاضي مجد الدين تغمدهما الله برحمته وهي
( ما لمعت بارقة من نجد ... إلا وهزتني وعود وجدي )
( ولا سرت سحابة مغدقة ... إلا وكان مثلها في خدي )
( فيا رعى الله زمانا بالحمى ... فإن لي فيه بقايا عهد )
( ويا ربى مصر مراضع الحيا ... يرضعك الغيث بذاك المهد )
( كم ليلة قضيتها وأنجم الجوزاء ... فوق صدرها كالعقد )
( والأرض قد حاكت برود وشيها ... يحار في صفاتها ابن برد )
( وكوثر النيل يروق منظرا ... حتى كأني في جنان الخلد )
( وهند ما تخطر في برودها ... إلا أمالت عذبات الرند )
( مضرية لكن يماني لحظها ... منتسب في فتكه للهند )
( آه له من سيف لحظ باتر ... زاد على عشاقه في الحد )
( عبد مناف جدها وإنما ... قلبي لها قد صار عبدود )
( يا لأمير النحل قرص وجهها ... يشهد أن ريقها من شهد )
( وثغرها يقول في نظامه ... يا يتم أبكار اللآلي بعدي )
( وشعرها الطائل قد قلنا له ... أنت لنا نابغة يا جعدي )
( وريقها قال النباتي أنا ... وخدها قال أنا ابن الوردي )
( والغصن حاكى قدها قالت له ... ما أنت يا غصن الرياد قدي )
( يا قدها وردفها لولاكما ... ما اشتقت بانات الكثيب الفرد )
( سألتها لم صرفت عن ناظري ... وكلفت قلبي بطول النقد )
( قالت تركت الفخر من بين الورى ... وقد قعدت عن طلاب المجد )
لعمري إن الشرح قد طال في نوع الانسجام ولكن ما استطردت بخيوله إلا إلى كل مهيع بديع وغريب
فبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على نوع الانسجام يقول فيه عن النبي
( فذكره قد أتى في هل أتى وسبا ... وفضله ظاهر في نون والقلم )
انسجام الشيخ صفي الدين في بيته ظاهر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( بان انسجام كلام منزل عجب ... يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم )
بيت الشيخ عز الدين لم يكن له تعلق بما قبله من المديح النبوي والذي يظهر لي منه أنه أشار به إلى القرآن بأنه كلام منزل وانسجامه عجب يهدي ويخبرنا عن سالف الأمم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( له انسجام دموعي في مدائحه ... بالله شنف بها يا طيب الكلم )
ولقد عجبت من الشيخ عز الدين كيف عقد بيت انسجامه مع سهولة هذا النوع وقرب مأخذه ولطف تسميته وقبولها للاشتراك انتهى
ذكر التفصيل
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي )التفصيل بصاد مهملة نوع رخيص بالنسبة إلى فن البديع والمغالاة في نظمه
وقد نبهت قبله على عدة أنواع سافلة ولكن المعارضة أوجبت الشروع في نظمه كالتصدير وعتاب المرء نفسه وتشابه الأطراف وما أشبه ذلك
والتفصيل هو أن يأتي الشاعر بشطر بيت له متقدم صدرا كان أو عجزا ليفصل به كلامه بعد حسن التصريف في التوطئة الملايمة
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وغالب علماء البديع لم يذكروه في مصنفاتهم غير أن الشيخ صفي الدين الحلي أورده في بديعيته فدعت المعارضة إلى نظمه
وبيته في بديعيته
( صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الظلم )
فصدر هذا البيت ذكر أنه تقدم له في قصيدة قافية امتدح بها النبي مطلعها
( فيروزج الصبح أم ياقوتة الشفق ... بدت فهيجت الورقاء في الورق )
والبيت الذي أتى بصدره منها وأثبته في بديعيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو
( صلى عليه إله العرش ما طلعت ... شمس النهار ولاحت أنجم الغسق )
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( تفصيل مدحك تجميل لذي أدب ... أوصاله كفت البلوى من الرقم )
فصدر بيت الشيخ عز الدين كان عجزا في قصيدة تقدمت له بائية مطلعها
( لو أن وجه رضائي غير منتقب ... ما سر قلبي بلوغي غاية الأرب )
الذي جعل صدره عجزا وأبقاه على حاله في بديعيته لأجل نوع التفصيل
( كسوتني حللا بين الأنام بها ... تفصيل مدحك تجميل لذي أدب )
هذا البيت كان تفصيل حلله كاملا في موضعه
ولما نقل الشيخ عز الدين عجزه وجعله صدرا في بديعيته ظهر في تفصيله نقص بقوله مع العقادة في العجز كفت البلوى من الرقم
فإن الرقم بفتح الراء وكسر القاف الداهية
قلت والداهية إذا دخلت بيتا تركته خرابا
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... في غير تفصيل مدح صحت يا ندمي )
فصدر هذا البيت تقدم لي في قصيدة فائية مطلعها
( قد مال غصن النقا عن صبه هيفا ... يا ليته بنسيم العتب لو عطفا )
والبيت الذي نقلت صدره منها وأثبته في بديعيتي وأبقيته على حاله لأجل نوع التفصيل هو
( وإن ذكرت زمانا ضاع من عمري ... ولم أهاجر إليه صحت يا أسفا )
وهذه القصيدة من غرر قصائدي بل من غرر القصائد منها
( مزاج خمرة فيه جاء معتدلا ... فراح منه مزاج الراح منحرفا )
( ومذ غدا جسمه ماء برقته ... علمت والله أن القلب منه صفا )
( منه الغزالة غارت عينها حسدا ... والبدر قد لازم التسهيد والكلفا )
( والظبي قال أنا أحكي لواحظه ... فصح عندي أن الظبي قد خرفا )
ومنها
( مذ صار لي قبلة محراب حاجبه ... صيرت عابد طرفي فيه معتكفا )
( ولام فيه عذول قلت من كلفي ... قلبي رأى منه قدا في الهوى ألفا )
( ما ضره لو عفا عني وأظهر لي ... عطفا وعاين ربع الصبر كيف عفا )
( أراد مني وكف الدمع قلت له ... حسيبك الله يا بدر الدجى وكفى )
لم أستطرد إلى ذكر هذه الأبيات هنا إلا لأن نوع التفصيل لم يحتمل إطلاق عنان القلم في الكلام عليه إلى أكثر من ذلك
ذكر النوادر
( نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا فأتتنا وهي في شمم )هذا النوع أعني النوادر سماه قوم الإغراب والطرفة وهو أن يأتي الشاعر بمعنى يستغرب لقلة استعماله لا لأنه لم يسمع بمثله وهذا مما اختاره قدامة دون غيره ولكن غالب علماء البديع اختاروا غير رأي قدامة في هذا النوع فإنهم قالوا لا يكون المعنى غريبا إلا إذا لم يسمع بمثله
وأورد زكي الدين ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير لنوع النوادر حدا أقرب إليه من اختيار قدامة وأبلغ وأوقع في النفوس وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور ليس بغريب في بابه فيغرب فيه بزيادة لم تقع لغيره ليصير بها ذلك المعنى المشهور غريبا وينفرد به دون كل من نطق به وبيان ذلك أن تشبيه الحسان بالشمس والبدر مبذول معروف قد ذهبت طلاوته لكثرة ابتذاله وكان سابق المتقدمين وقبلة المتأخرين القاضي الفاضل أنفت نفسه من المثابرة على هذا الابتذال وكثرة تشبيه الحسان بالبدور فقال
( تراءى ومرآة السماء صقيلة ... فأثر فيها وجهه صورة البدر )
سبحان المانح حاصل كلامه تشبيه محسوبه بالبدر ولكن زيادة هذه النادرة اللطيفة لا تخفى إلا على أكمه لا يعرف القمر وعلى هذا المنوال نسجت بيت بديعيتي
ويعجبني في باب النوادر قول القائل
( عرض المشيب بعارضيه فأعرضوا ... وتقوضت خيم الشباب فقوضوا )
( ولقد سمعت وما سمعت بمثله ... بين غراب البين فيه أبيض ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كأنما قلب معن ملء فيه فلم ... يقل لسائله يوما سوى نعم )
هذا البيت ذكر الشيخ صفي الدين في شرحه أن النادرة فيه قلب معن بنعم قلت قلب معن بنعم لم يعد من نوع النوادر بل من أنواع الجناس المسمى بالقلب والعكس وجناس القلب وغيره من أنواع الجناس ليس فيه غير خدمة الألفاظ فإنه نوع لفظي والذي قرره قدامة وغيره فى هذا النوع أن الغرابة تكون في المعنى بحيث يعد ذلك المعنى من النوادر
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته هو
( نوادر من جناني كالجنان زهت ... أم هل بدت واضحات الحسن من إرم )
قلت إن بيت الشيخ صفي الدين الحلي مع ما فيه من النقد والمؤاخذة معدود من النوادر بالنسبة إلى هذا البيت وما أشبهه بالبيت الذي أخبر عنه الحريري في مقاماته وقال إنه أخرج من التابوت وأوهن من بيت العنكبوت وما ذاك إلا أنني كررت النظر في أركان هذا البيت فلم أجد فيه مقرا لنادرة من النوادر التي تقدم تقريرها فلم يسعني غير النظر في شرحه فوجدته قال إن جناني ظهر منه محاسن مدهشة أم بدت محاسن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد ويحكى أنها جنة بناها عاد قلت وما أحق اختراع الخراع بهذه العبارة وهي بشهادة الله عبارته بنصها والذي أعده من النوادر إبراز الشيخ عز الدين مثل هذا البيت في بديعيته ورضاه به وتنزيل مثل هذه العبارة عليه انتهى
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( نوادر المدح في أوصافه نشقت ... منها الصبا فأتتنا وهي في شمم )
النادرة في معنى هذا البيت عرفها ضائع لمن شمه من أهل الأدب وما ذاك إلا أن
النسيم أكثر الشعراء من استعماله في تحمل الرسائل
وغاية ما أغربوا فيه أنه ينشق منه عرف الأحبة إذا هب من نحوهم والنادرة التي أغربت بها هذا المعنى أن نسيم الصبا لما نشقت عرف مديح النبي وتعرفت به تزايد شممها والشمم للنسيم نادرة بل نكتة لم أسبق إليها فإن النسيم أحق باشتراك هذه التورية من غيره لأن الشمم لائق به وهذا الذي أشار إليه ابن أبي الأصبع في أن الشاعر يعمد إلى معنى مبذول معروف ليس بغريب في بابه فيغربه بزيادة لم تقع لغيره ويصير بها ذلك المعنى المعروف غريبا ومثل ذلك حتى يزداد نوع النوادر إيضاحا قول أبي نواس
( هبت لنا ريح شمالية ... متت إلى القلب بأسباب )
( أدت رسالات الهوى بيننا ... عرفتها من بين أصحابي ) قوله عرفتها من بين أصحابي نادرة لم يسبق إليها وقد جاراه مجير الدين الخياط في بديع هذا النوع ونادرة هذ المعنى لولا الحياء لقلت إنه أحرز قصبات السبق عليه بقوله
( يا نسيم الصبا الولوع بوجدي ... حبذا أنت لو مررت بهند )
( ولقد رابني شذاك فبالله ... متى عهده بأطلال نجد )
بين ولقد رابني شذاك في بيت مجير الدين وبين عرفتها من بين أصحابي معرك ذوقي ما يدركه إلا من صفت مرآت ذوقه في علم الأدب ولعمري إن النادرتين يتجمل بهما هذا النوع ومثله قول القائل ويعجبني إلى الغاية
( ويد الشمال عشية مذ أرعشت ... دلت على ضعف النسيم بخطها )
( كتبت سقيما في صحيفة جدول ... فيد الغمامة صححته بنقطها )
النوادر في هذين البيتين لم يحتج برهانها إلى إقامة دليل وقد فهمت الزيادات في غرابة المعاني المبتذلة
ومثله ولم يخرج عما نحن فيه من لطف النسيم ونوادر النوع قول القائل
( هبت صبا من قاسيون فسكنت ... بهبوبها وصب الفؤاد البالي )
( خاضت مياه النيرين عشية ... وأتتك وهي بليلة الأذيال )
ويعجبني في هذا الباب قول ناصر الدين بن المشد
( مسكية الأنفاس تملي الصبا ... عنها حديثا قط لم يملل )
( جننت لما أن سرى عرفها ... وما نرى من جن بالمندل )
وألطف منه وأكثر نوادر قول بدر الدين حسن الغزي الشهير بالزغاري
( سرت من بعيد الدار لي نسمة الصبا ... وقد أصبحت حسرى من السير ضائعه )
( ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ... ومن تعب أنفاسها متتابعه )
ومن العجائب في هذا النوع
( حبذا ليلة رأيت دجاها ... زاهيا عطفه بحلة فجر )
( بشرت باللقاء وهي غراب ... ونفى الفجر حسنها وهي قمري )
ومن النوادر اللطيفة في هذا الباب قول علاء الدين الجويني صاحب الديوان ببغداد من دو بيت
( مذ صار مبيتنا بضوء القمر ... والحب نديمنا وصوت الوتر )
( نادى بفراقنا نسيم سحرا ... ما أبرد ما جاءت نسيم السحر )
ومن نادر ما اتفق لي قولي من قصيدة رائية
( ومذ سرت نسمات الثغر باردة ... بدا بأعضاء ذاك الجفن تكسير )
قد تقدم تقرير حد ابن أبي الأصبع في نوع النوادر وتكرر وهو أن يعمد الشاعر إلى معنى مشهور كثير الاستعمال فيغرب فيه بزيادة نكتة لم تقع لغيره ليصير المعنى المستعمل بها غريبا وقد فهم ما أوردته هنا من تلاعب الشعراء بالنسيم وما أظهروا فيه من النوادر التي تركت رخيصه غاليا وتكسير الجفن أيضا ونسبة التكسير إليه أكثر أهل الأدب استعماله في تغزلهم ونسيبهم ولكن استعارة النسمات الباردة للثغر وهبوبها على أعضاء ذاك الجفن السقيم حتى ظهر فيه التكسير نادرة النوادر في هذا النوع والله أعلم
ذكر المبالغة
( بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم )المبالغة نوع معدود من محاسن هذا الفن عند الجمهور واستدلوا على ذلك بقول من قال أحسن الشعر أكذبه وبقول النابغة الذيباني أشعر الناس من استجيد كذبه وضحك من رديئه واستدلوا أيضا برد النابغة المذكور على مثل حسان بن ثابت في قوله
( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما )
والرد الذي رده النابغة على هذا البيت في ثلاثة مواضع الأول منها أنه قال له قلت لنا الجفنات والجفنات تدل على قليل فلا فخر لك ولا مبالغة إذا كان في ساحتك ثلاث جفان أو اربع والثاني أنك قلت يلمعن واللمعة بياض قليل ليس فيه كبير شان والثالث أنك قلت في السيوف يقطرن والقطرة تكون للقليل فلا تدل على فرط نجدة ولا مبالغة
وترشيح جانب المبالغة مذهب ابن رشيق في العمدة ومنهم من لم يعد المبالغة من حسنات الكلام ومشى في ذلك على مذهب حسان بن ثابت رضي الله عنه فإنه قال
( وإنما الشعر عقل المرء يعرضه ... على الأنام فإن كيسا وإن حمقا )
( وإن أشعر بيت أنت قائله ... بيت يقال إذا أنشدته صدقا )
وعند أهل هذا المذهب أن المبالغة لم تسفر عن غير التهويل على السامع ولم يفر الناظم إلى التخييم عليها إلا لعجزه وقصور همته عن اختراع المعاني المبتكرة لأنها في صناعة الشعر كالاستراحة من الشاعر إذا أعياه إيراد المعاني الغريبة فيشغل الأسماع بما هو محال وتهويل وقالوا ربما أنها أحالت المعاني فأخرجتها عن حد الكلام الممكن إلى حد الامتناع والمبالغة تعاب في بابها إذا خرجت عن حد الإمكان إلى الاستحالة ويأتي الكلام على حدها في موضعه والذي أقوله إن المبالغة من محاسن أنواع البديع ولم يستطرد في حلبات سبقها إلا فحول هذه الصناعة ولولا سمو رتبتها ما وردت في القرآن العظيم والسنة النبوية ولو سلمنا إلى من يهضم جانبها ولم يعدها من حسنات الكلام بطلت بلاغة الاستعارة وانحطت رتبة التشبيه
وتسمية المبالغة منسوبة إلى قدامة ومنهم من سمى هذا النوع التبليغ وسماه ابن المعتز الإفراط في الصفة وهذه التسمية طابقت المسمى ولكن أكثر الناس رغبوا في تسمية قدامة لخفتها
وهذا النوع أعني المبالغة شركه قوم مع الإغراق والغلو لعدم معرفة الفرق وهو مثل الصبح ظاهر
والمبالغة في الاصطلاح هي إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة
والإغراق وصف الشيء الممكن البعيد وقوعه عادة
والغلو وصفه بما يستحيل وقوعه
ويأتي الكلام على كل واحد من الثلاثة في موضعه وقد تقرر أولا أن المبالغة نوعها مبني على وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه
وحد قدامة المبالغة فقال هي أن يذكر المتكلم حالا من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد في معنى ما ذكره ما يكون أبلغ من معنى قصده كقول عمير بن كريم التغلبي
( ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث مالا )
وقال إن هذا البيت من أحسن المبالغة عند الحذاق فإن الشاعر بلغ فيه إلى أقصى ما يمكن من وصف الشيء وتوصل إلى أكثر ما يقدر عليه فتعاطاه
ولخص بعضهم عبارة الحد الذي حده قدامة وقال المعنى إذا زاد على التمام سمي مبالغة
وقال ابن رشيق في العمدة المبالغة بلوغ الشاعر أقصى ما يمكن في وصف الشيء
قلت وعلى هذا التقرير فجل القصد في المبالغة الإمكان والخروج عن المستحيل والمذهب الصحيح فيها أنها ضرب من المحاسن إذا بعدت عن الإغراق والغلو وإن كان الإغراق والغلو ضربين من المحاسن ونوعين من أنواع البديع فقد شرط علماؤه أن النوع لا يتجاوز حده بحيث يزول الالتباس ويعجبني من أمثلة المبالغة في المديح قول القائل
( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه )
فالمعنى تم للناظم لما انتهى في بيته إلى قوله دجى الليل ولكن زاد بما هو أبلغ وأبدع وأغرب في قوله حتى نظم الجزع ثاقبة
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في وصف جواد
( وأصرع أي الوحش قفيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب )
قال زكي الدين بن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أبلغ شعر سمعته في باب المبالغة قول شاعر الحماسة إذ بالغ في مدح ممدوحه بقوله
( رهنت يدي بالعجز عن شكر بره ... وما فوق شكري للشكور مزيد )
( ولو كان مما يستطاع استطعته ... ولكن ما لا يستطاع شديد )
فانظر ما أحلى احتراسه عن ذلك بقوله وما فوق شكري للشكور مزيد وانظر كيف أظهر عذره في عجزه مع قدرته بأن قال في البيت الثاني ولو كان مما يستطاع استطعته ثم أخرج بقية البيت للمبالغة مخرج المثل السائر حيث قال ولكن ما لا يستطاع شديد ومن هنا قال أبو نواس
( لا تسدين إلي عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا )
ومن معجز المبالغة في القرآن العظيم قوله تعالى ( سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار ) فجعل كل واحد منهم أشد
مبالغة في معناه وأتم صفة وجاء من المبالغة في السنة النبوية قوله مخبرا عن ربه كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به وقوله في بقية هذا الحديث والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ففي الحديث الشريف مبالغتان إحداهما كون الحق سبحانه وتعالى أضاف الصيام إلى نفسه دون سائر الأعمال لقصد المبالغة في تعظيمه وشرفه وأخبر أنه عز و جل يتولى مجازاة الصائم بنفسه مبالغة في تعظيم الجزاء وشرفه ونحن نعلم أن الأعمال كلها لله سبحانه وتعالى ولعبده باعتبارين أما كونها للعبد فلأنه يثاب عليها وأما كونها لله فلأنها عملت لوجهه الكريم ومن أجله فتخصيص الصائم بالإضافة للرب سبحانه وتخصيص ثوابه بما خصص به إنما كان للمبالغة في تعظيمه والمبالغة الثانية إخبار النبي بعد تقديم القسم لتأكيد الخبر بأن خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك ففضل تغير فم الصائم بالإمساك عن الطعام والشراب على ريح المسك الذي هو أعطر الطيب على مقتضى ما يفهم من ريح المسك وأتى بصيغة أفعل للمبالغة فجمع هذا الكلام بين قسمي المبالغة المجازي والحقيقي ولذلك ورد أن دم الشهيد كريح المسك للمبالغة
وهذا النوع أعني المبالغة ممكن الناظم منه في المدائح النبوية والصفات المحمدية فإن المادح إذا بالغ في وصفه كانت تلك المبالغة ممكنة قريبة من معجزاته وعظمه عند ربه فمن ذلك قولي من قصيدة نبوية أقول فيها عن النبي
( إذا ما سرى فردا لفرط جلاله ... يقول الورى قد سار جيش عرمرم )
فالمبالغة تمت لما انتهيت إلى قولي سار جيش وزدت بعد ذلك بما هو أبلغ منه وأعظم لقولي عرمرم
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ... والشهب أحلك ألوانا من الدهم )
المبالغة تمت للشيخ صفي الدين في الشطر الأول بقوله كم قد جلت جنح ليل النقع طلعته ولكن زاد بما هو أبلغ منها حيث قال والشهب أحلك ألوانا من الدهم
وبيت العميان في بديعيتهم
( يمم نبيا تباري الريح أنمله ... والمزن من كل هامي الودق مرتكم )
المجمع عليه أن المبالغة في الأوصاف المحمدية ممكنة عقلا وعادة ولكن الأبلغ في مبالغة العميان أن الريح والمزن كان يحب كل منهما أن يتطفل على أنامل النبي في المباراة لعلو رتبته وعظم مقامه
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته
( امدح وجز كل حد في مبالغة ... حقا ولا تطر تقبل غير متهم )
هذا البيت لم ينتظم في سلك ما قبله من أبيات المديح النبوي ولا بينه وبين المبالغة أدنى وصلة ولم يظهر لي في بيته غفر الله له إلا وصيته للمادح أنه إذا مدح يتجاوز كل حد وأنه لا يطري فيقبل وما أحقه هنا بقول القائل
( تمنيتهم بالرقمتين ودارهم ... بوادي الغضى يا بعد ما أتمناه )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى ... والشهب قد رمدت من عثير الدهم )
فالمبالغة تمت في شطر البيت الأول بقولي بالغ وقل كم جلا بالنور ليل وغى والزيادة بما هو أبلغ منها قولي والشهب قد رمدت من عثير الدهم وتسمية النوع هنا هي ديباجة المبالغتين على هذه الصيغة والله أعلم
ذكر الإغراق
( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )قد تقرر في نوع المبالغة أنها إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة وهذا النوع أعني الإغراق فوق المبالغة ولكنه دون الغلو وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة وقل من فرق بينهما وغالب الناس عندهم المبالغة والإغراق والغلو نوع واحد وهنا لم يعمل بقول الحريري سامح أخاك إذا خلط
وكل من الإغراق والغلو لا يعد من المحاسن إلا إذا اقترن بما يقربه إلى القبول كقد للاحتمال ولولا للامتناع وكاد للمقاربة وما أشبه ذلك من أنواع التقريب
وما وقع شيء من الإغراق والغلو في الكتاب العزيز ولا في الكلام الفصيح إلا مقرونا بما يخرجه من باب الاستحالة ويدخله في باب الإمكان مثل كاد ولو وما يجري مجراهما كقوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ) إذ لا يستحيل في العقل أن البرق يخطف الأبصار لكنه يمتنع عادة وما زاد وجه الإغراق هنا جمالا إلا تقريبه بكاد واقتران هذه الجملة بها هو الذي صرفها إلى الحقيقة فقلبت من الامتناع إلى الإمكان
ومن شواهد تقريب نوع الإغراق بلو قول زهير
( لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا )
فاقتران هذه الجملة أيضا بامتناع قعود القوم فوق الشمس المستفاد بلو هو الذي أظهر بهجة شمسها في باب الإغراق
ومما استشهدوا به على هذا النوع بغير أداة التقريب قول امرىء القيس
( تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي )
وبين المكانين بعد تام فإن أذرعات من الشام والنار التي تنورها من أذرعات كانت بيثرب مدينة النبي وقد أثبتوا هذا الشاهد في باب الإغراق لأنهم قالوا لا يمتنع عقلا أن ترى النار من بعد هذه المسافة وأن لا يكون ثم حائل من جبل أو غيره من عظم جرم النار ولكن ذلك ممتنع عادة هذا إن جعلنا تنورتها نظرت إلى نارها حقيقة وأما إن جعلناه بمعنى توهمت نارها وتخيلتها في فكري فلا يكون في البيت إغراق
ومثله قول أبي الطيب المتنبي في صباه
( روح تردد في مثل الخلال إذا ... أطارت الريح عنه الثوب لم يبن )
( كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني )
وقالوا هنا لا يمتنع عقلا أن ينحل الشخص حتى يصير مثل الخلال ولا يستدل عليه إلا بالكلام إذ الشيء الدقيق إذا كان بعيدا لا يرى بخلاف الصوت ولكن صيرورة الشخص في النحول إلى مثل هذه الحال ممتنع عادة ولعمري إن الشيخ شرف الدين بن الفارض ضم خصر هذا المعنى الرقيق ورشحه بنفائس العقود حيث قال
( كأني هلال الشك لولا تأوهي ... خفيت فلم تهد العيون لرؤيتي )
قلت إذا قابلنا نحول المتنبي بهلال الشك الذي أبرزه ابن الفارض لم تبعد المقارنة لكن من قابل قول المتنبي انني رجل لولا مخاطبتي بقول الشيخ شرف الدين ابن الفارض في بيته كأني هلال الشك لولا تأوهي لا بد أن يقابله الله على ذلك وأين لطف لولا تأوهي من ثقل لولا مخاطبتي فالفرق بين خطاب الرجل وتأوه هلال الشك لا يخفى على حذاق أهل الأدب
ومنه قول بعضهم
( قد سمعتم أنينه من بعيد ... فاطلبوا الشخص حيث كان الأنين )
قلت ما برح طائر فكري يحوم على ورد هذا المعنى الذي حصلت فيه المواردة على أن الشخص لا يرى لشدة نحوله إلا بأنين أو تأوه وأريد أن أرشحه بنكتة إلى أن قلت من قصيدتي التي عارضت بها كعب بن زهير وامتدحت بها النبي
( وفوق طرس مشيبي أرخوا تلفي ... وذلك الطرس فوق الرأس محمول )
( وقد تجاوز جسمي حد كل ضنى ... وها أنا اليوم في الأوهام تخييل )
وقد تقدم وتقرر أن أداة المقاربة ما استعملت في الإغراق إلا لتنقله من الامتناع إلى الإمكان وهذا الذي أوردته بغير أداة المقاربة هنا إن كان يبعد عادة لا يبعد عقلا
ومما استشهدوا به على نوع الإغراق بلو التي يمكن الإغراق بها عقلا ويمتنع عادة قول القائل
( ولو أن ما بي من جوى وصبابة ... على جمل لم يبق في النار كافر )
يريد أنه لو كان ما به من الحب بجمل لنحل حتى يدخل في سم الخياط وذلك لا يستحيل عقلا إذ القدرة قابلة لذلك لكنه ممتنع عادة وهذا غاية في الإغراق
وأورد الشيخ شهاب الدين ابن جعفر المغربي الأندلسي في شرحه الذي كتبه على بديعية صاحبه شمس الدين محمد بن جابر الأندلسي على هذا البيت حكاية لطيفة وهي أن إبليس تعرض لبعض الأولياء فلم ينل منه غرضا فقال له الولي من أشد عليك العابد الجاهل أو العالم المسرف على نفسه فقال العالم المسرف وأما العابد الجاهل فهو في قبضتي أدخل عليه في دينه من حيث شئت وأنا أريك ذلك فانطلق به إلى أعبد الجهال في ذلك الزمان فطرق عليه الباب فخرج إليهما فقال له إبليس جئت أستفتيك هل الله قادر على أن يدخل الجمل في سم الخياط أو لا فتوقف وتحير وغلق الباب فقال إبليس للولي ها هو قد كفر بالشك في قدرة الله تعالى ثم انطلق به إلى عالم مسرف على نفسه وطرق عليه الباب وكان في القائلة فقال الرجل العالم من هذا الشيطان الذي يضرب بابي في القائلة وقد قال عليه الصلاة و السلام
قيلوا فإن الشياطين لا تقيل فقال إبليس ها هو قد عرفني قبل رؤيتي فلما خرج قال له إبليس هل في قدرة الله تعالى أن يدخل الجمل في سم الخياط فقال له أتشك في قدرة الله تعالى على أن يوسع سم الخياط حتى يدخل فيه الجمل أو يرقق الجمل حتى يصير كالخيط فيدخل في سم الخياط فانصرفا وقال إبليس لرفيقه معرفة هذا بالله تمحو ذنوبه وحاله خير من حال العابد الجاهل بالله انتهى
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على نوع الإغراق
( فى معرك لا تثير الخيل عثيره ... مما تروي المواضي تربه بدم )
بيت الشيخ صفي الدين الحلي على هذا النوع أبرزه بغير أداة التقريب وهو بيت عامر قريب من العقل بعيد من الوقوع عادة على شرط الإغراق لكنه غير صالح للتجريد وقد تقرر وتكرر أن بيوت البديعيات شواهد على الأنواع فلا ينبغي أن يكون البيت متعلقا بما قبله ولا بما بعده
وبيت بديعية العميان يقولون فيه عن النبي وقد أتوا فيه بأداة التقريب حيث قالوا
( لو قابل الشهب ليلا في مطالعها ... خرت حياء وأبدت بر محترم )
( لو شا إغراق وجه الأرض أجمعه ... ندى يديه لأحياها ولم يضم )
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( لو شاء إغراق من ناواه مد له ... في البر بحرا بموج فيه ملتطم )
على كل تقدير مقام النبي صالح للمغالاة بالإغراق في مديحه والله أعلم
ذكر الغلو
( بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصبحهم )وقد تقدم القول على المبالغة وتقرر أنها في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن القريب وقوعه عادة وتقرر أن الإغراق فوقها في الرتبة وهو في الاصطلاح إفراط وصف الشيء بالممكن البعيد وقوعه عادة
والغلو فوقهما فإنه الإفراط في وصف الشيء بالمستحيل وقوعه عقلا وعادة وهو ينقسم إلى قسمين مقبول وغير مقبول
فالمقبول لا بد أن يقربه الناظم إلى القبول بأداة التقريب اللهم إلا أن يكون الغلو في مديح النبي فلا غلو
ويجب على ناظم الغلو أن يسبكه في قوالب التخيلات الحسنة التي يدعو العقل إلى قبولها في أول وهلة كقوله تعالى ( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) فإن إضاءة الزيت من غير مس نار مستحيلة عقلا ولكن لفظة يكاد قربته فصار مقبولا ومنه قول أبي العلاء المعري
( تكاد قسيه من غير رام ... تمكن في قلوبهم النبالا )
( تكاد سيوفه من غير سل ... تجد إلى رقابهم انسلالا )
ويعجبني هنا قول ابن حمديس الصقلي في وصف فرس
( ويكاد يخرج سرعة من ظله ... لو كان يرغب في فراق رفيق )
ومنه قول الفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين
( يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم ) ومن الغلو المقبول بغير أداة التقريب قول أبي الطيب المتنبي في ممدوحه
( عقدت سنابكها عليه عثيرا ... فلو ابتغى عنقا عليه أمكنا )
معنى هذا البيت أن سنابك الخيل وهي أطراف الحوافر عقدت على هذا الممدوح عثيرا وهو الغبار حتى لو أراد أنه يمشي عليه عنقا لأمكن والعنق هو المشي السريع وانعقاد الغبار في الهواء حتى يمكن المشي عليه مستحيل عقلا وعادة إلا أنه تخيل حسن مقبول
وقد وقع للقاضي الأرجاني جمع فيه بين الشيئين الموجبين للقبول والتقريب وهما ما جرى بهما مجرى كاد والتخيل الحسن وذلك قوله
( يخيل لي أن سمر الشهب في الدجا ... وشدت بأهدابي إليهن أجفاني )
فقوله يخيل لي هو الجاري مجرى كاد فإنه جعل الأمر توهما لا حقيقة وأما التخيل الحسن فهو ما ذكر من تسمير الشهب ود أجفانه إليها بأهدابه وجعل الأهداب بمنزلة الحبال ولا يخفى ما في هذا من التخييل الحسن
وأما الغلو الذي هو غير مقبول فكقول أبي نواس
( فلما شربناها ودب دبيبها ... إلى موضع الأسرار قلت لها قفي )
( مخافة أن يسطو علي شعاعها ... فيطلع ندماني على سري الخفي )
قالوا إن سطوة شعاع الخمر عليه بحيث يصير جسمه شفافا يظهر لنديمه ما في باطنه لا يمكن عقلا ولا عادة
ومنه قول بعضهم
( أسكر بالأمس إن عزمت على ... الشرب غدا إن ذا من العجب )
فسكره بالأمس بسبب عزمه على الشرب غدا مما لا يمكن عقلا ولا عادة أيضا ومنه قول أبي نواس
( وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق )
وهذا الذي قاله أبو نواس أيضا أمر مستحيل فإن قيام العرض الموجود وهو الخوف بالمعدوم وهي النطف التي لم تخلق لا يمكن عقلا ولا عادة ومن ألطف ما يحكى هنا أن العتابي الشاعر لقي أبا نواس فقال له أما تستحي من الله بقولك وأخفت أهل الشرك البيت فقال له أبو نواس وأنت أيضا ما استحيت من الله بقولك
( ما زلت في غمرات الموت مطرحا ... يضيق عني وسيع الرأي من حيل )
( فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي )
فقال العتابي قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك ولكنك أعددت لكل سؤال جوابا
ومنه قول بعضهم
( قد كان لي فيما مضى خاتم ... واليوم لو شئت تمنطقت به )
( وذبت حتى صرت لو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه )
ومثل هذا أيضا لا يقبله العقل ولا عليه رونق القبول
قلت ومراتب الغلو تتفاوت إلى أن تؤول بقائلها إلى الكفر فمن ذلك قول ابن دريد
( مارست من لو هوت الأفلاك من ... جوانب الجو عليه ما شكا )
قيل إنه لأجل هذا البيت والادعاء العظيم الذي ادعى فيه ابتلي بمرض كان فيه يخاف من الذباب أن يقع عليه
ومنه قوله
( ولو حمى المقدار عنه مهجة ... لرامها أو تستبيح ما حمى )
( تغدو المنايا طائعات أمره ... ترضى الذي يرضى وتأبى ما أبى )
ومثله قول أبي الطيب
( كأني دحوت الأرض من خبرتي بها ... وكأن بنى الإسكندر السد من عزمي )
هذا أيضا من الغلو الذي يؤدي إلى سخافة العقل مع ما فيه من قبح التركيب وبعده عن البلاغة
وأقبح من هذا كله قول عضد الدولة
( ليس شرب الراح إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر )
( غانيات سالبات للنهى ... ناغمات من تضاعيف الوتر )
( مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر )
( عضد الدولة بان ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر )
روي أنه لم يفلح بعد هذا القول وكان لا ينطق إلا بقوله تعالى ( ما أغنى عني ماليه هلك عني سلطانيه )
ولولا الإطالة وهو نظم غير مقبول لأوردت كثيرا من نظم الذين كانوا يتساهلون في هذا النوع كأبي نواس وابن هانىء الأندلسي والمتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهم من المتأخرين كابن نبيه ومن جرى مجراه وكنت من المبادىء أستقبح قول الشيخ صفي الدين الحلي وأستقل أدبه بقوله في موشحه الذي أوله دارت على الدوح سلاف القطر وذلك قوله في ممدوحه
( لو قابل الأعمى غدا بصيرا ... ولو رأى ميتا غدا منشورا )
( ولو يشا كان الظلام نورا ... ولو أتاه الليل مستجيرا )
( آمنه من سطوات الفجر ... )
وبيته في بديعيته على هذا النوع أعني الغلو قوله
( عزيز جار لو الليل استجار به ... من الصباح لعاش الناس في الظلم )
قلت هذا الغلو هنا مقبول في مديح النبي غير لائق بممدوحه الذي أشار إليه في موشحه بقوله
( ولو أتاه الليل مستجيرا ... آمنه من سطوات الفجر )
فقد تقرر أن الناظم إذا قصد الغلو في مديح النبي فلا غلو
وبيت العميان في بديعيتهم يقولون فيه عن النبي
( تكاد تشهد أن الله أرسله ... إلى الورى نطف الأبناء في الرحم )
فنسبة الشهادة إلى النطف وهي في الأرحام لا تمكن عقلا وما استحال عقلا استحال عادة وهذا الغلو هنا مقبول في مديح النبي وقد زاد الناظم تقريبه بكاد ولكن ذكر الأرحام والنطف في المدائح النبوية ما يخلو من قلة أدب
وبيت الشيخ عز الدين في بديعيته يقول فيه عن النبي
( في مدحه نفحات لا غلو بها ... يكاد يحيي شذاها بالي الرمم )
نفحات هذا البيت عطرت الوجود بالمديح النبوي وغلوها فيه ملحوظ بعين القبول وتقريبها بكاد أحرز قصبات السبق ولا أقول كاد وهذا البيت عندي مقدم على بيت الشيخ صفي الدين وبيت العميان لالتزامه بتسمية النوع البديعي مورى به من جنس المديح مع انسجامه ورقته
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( بلا غلو إلى السبع الطباق سرى ... وعاد والليل لم يجفل بصبحهم )
هذا الغلو يرخص عنده بانتظامه في سلك المدائح النبوية كل غلو فإنه لو كان في غير النبي استحال عقلا وعادة ونعوذ بالله من نسبته إلى غيره فإنها تؤدي إلى الكفر المحض وحصره في النبي متفق عليه عقلا ونقلا وقولي عند نظم هذا النوع بلا غلو ويعلم طالب هذا العلم طريق سلوك الأدب وهذا البيت من خلاصات المدائح النبوية فنرجو الله أن تشملنا بركة ممدوحه والله أعلم
ذكر ائتلاف المعنى مع المعنى
( سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم )هذا النوع وهو ائتلاف المعنى مع المعنى ضربان فالأول في الاصطلاح هو أن يشتمل الكلام على معنى معه أمران أحدهما ملائم والآخر بخلافه فيقرنه بالملائم واستشهدوا عليه بقول أبي الطيب المتنبي
( فالعرب منه مع الكدري طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل )
وقالوا إن تقوية المعنى الأول مناسبة القطا الكدري مع العرب لأنه يلائمهم بنزوله في السهل من الأرض وينفر من العمران ويستأنس بالمهمه ولا يقرب العمران إلا إذا زاد به العطش وقل الماء في البر ومناسبة الحجل مع الروم أنها تسكن الجبال وتنزل في المواضع المعروفة بالشجر
والضرب الثاني هو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين له فيقرن بهما ما لاقترانه مزية واستشهدوا على هذا الضرب الثاني بقول أبي الطيب المتنبي أيضا
( وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم )
( تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاح وثغرك باسم )
وقالوا إن عجز كل من البيتين يلائم كلا من الصدرين وما اختار ذلك الترتيب إلا
لأمرين أحدهما أن قوله كأنك في جفن الردى وهو نائم تمثيل السلامة في مقام العطب ولهذا قرر له الوقوف والبقاء في موضع يقطع على صاحبه فيه بالهلاك أنسب من جعله مقررا لثباته في حال هزيمة الأبطال والثاني أن في تأخير التتميم بقوله ووجهك وضاح وثغرك باسم عن وصف الممدوح بوقوفه ذلك الموقف وبمرور أبطاله كلمى بين يديه ما يفوت بالتقديم ولعمري إن الضرب الثاني من ائتلاف المعنى مع المعنى أبدع من الضرب الأول وأوقع في القلوب وأقرب إلى مواقع الذوق وعليه نظمت بيت بديعيتي ويأتي الكلام عليه في موضعه ولكن هنا نكتة تزيد بديع الضرب الثاني إيضاحا وترشح قصد المتنبي في ترتيبه الذي تقدم عليه الكلام
حكي أن سيف الدولة بن حمدان ممدوح المتنبي قال عند إنشاده إياه هذين البيتين يا أبا الطيب قد انتقدنا عليك كما انتقد على امرىء القيس في قوله
( كأني لم أركب جوادا لغارة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال )
( ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال )
فقال المتنبي أيها الأمير إن صح أن البزاز أعلم بالثوب من حائكة فقد صح ما انتقد على امرىء القيس وعلي فإن امرأ القيس أحب أن يقرن الشجاعة باللذة في بيت واحد وهو الأول وقد وقع مثل هذا في الكتاب العزيز وهو قوله تعالى ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) فإنه تعالى لم يراع فيه مناسبة الري بالشبع والاستظلال باللبس في تحصيل نوع المنفعة بل راعى مناسبة اللبس للشبع في حاجة الإنسان إليه وعدم استغنائه عنه ومناسبة الاستظلال للري في كونهما تابعين اللبس والشبع
قلت وأما جواب المتنبي عن قول امرىء القيس
( كأني لم أركب جوادا لغارة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال ) فهو الافتنان بعينه وهو نوع من أنواع البديع العالية وقد تقدم وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع قوله
( من مفرد بغرار السيف منتثر ... ومروج بسنان الرمح منتظم )
قد كثر تكرار القول بأن المراد من بيت البديعية أن يكون شاهدا على نوعه وإن لم يكن صالحا للتجريد لم يصح الاستشهاد به على ذلك النوع وبيت الشيخ صفي الدين الحلي هنا غير صالح للتجريد وعدم صلاحه للتجريد هو الذي عقده وحجب إيضاح معناه عن مواقع الذوق
والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( ذو معنيين بصحب والعدا ائتلفا ... للخلف ما أشهب البازي كالرخم )
قلت إن هذين المعنيين لشدة العقادة أتعبت الفكر فيهما على أن يتضح لي منهما معنى فعجزت عن ذلك والله أعلم وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( سهل شديد له بالمعنيين بدا ... تألف في العطا والدين للعظم )
وقد تقدم قولي إن بيت بديعيتي منظوم في سلك الضرب الثاني لكونه أبدع وأوقع في الذوق من الضرب الأول وهو أن يشتمل الكلام على معنى وملائمين فيقرن بهما ما يلائم ويظهر باقترانه مزية فسهولة النبي قرنتها بالعطاء وناهيك بهذه الملاءمة وشدته قرنتها بالدين لعظمه فأكرم بها ملاءمة وشرف قران وقد ورد نص الكتاب بذلك في قوله تعالى ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) وقولي في القافية للعظم بعد ثبوت الشدة للدين في غاية التمكين والله أعلم
ذكر نفي الشيء بإيجابه
( لا ينتفى الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم )نفي الشيء بإيجابه هو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو الذي أثبته كقوله تعالى ( ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع ) فإن ظاهر الكلام نفي الذي يطاع من الشفعاء والمراد نفي الشفيع مطلقا وكقوله تعالى ( لا يسألون الناس إلحافا ) فإن ظاهر الكلام نفي الإلحاف في المسألة والباطن نفي المسألة بتة وعليه إجماع المفسرين
وذكر ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير أنه منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما وهذا هو الحد الذي قرره ابن رشيق في العمدة فإنه قال نفي الشيء بإيجابه إذا تأملته وجدت باطنه نفيا وظاهره إيجابا واستشهد عليه بقول زهير
( بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي ومعروفي بها غير منكر )
فأثبت لها في الظاهر وصيدا ومراده في الباطن أن ليس لها وصيد فيسد
وألطف ما رأيت من شواهد هذا النوع أعني نفي الشيء بإيجابه قول مسلم بن الوليد
( لا يعبق الطيب خديه ومفرقه ... ولا يمسح عينيه من الكحل )
فإن ظاهر الكلام نفي عبق الطيب ومسح الكحل والمراد نفي الطيب والكحل مطلقا
ومثله قول أبي الطيب المتنبي
( أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها ... مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب )
( ولا برزن من الحمام مائلة ... أوراكهن صقيلات العراقيب )
فظاهر الكلام عدم بروزهن من الحمام على تلك الهيئات والمراد في باطن الكلام عدم الحمام مطلقا فإنهن عربيات كظباء الفلاة ولهذا قال ذو الرمة ( بالله يا ظبيات قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر )
والقصد أن حسنهن لم يفتقر إلى تصنع ولا إلى نظرية بدخول الحمام
وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته على هذا النوع أعني نفي الشيء بإيجابه يقول فيه عن النبي
( لا يهدم المن منه عمر مكرمة ... ولا يسوء أذاه نفس متهم )
فظاهر الكلام في بيت الشيخ صفي الدين الحلي أن النبي لا يتبع المكرمة بمن وحاشاه من ذلك ولا يصدر منه لنفس متهم إساءة والمراد في الباطن نفي المن والإساءة مطلقا فإن مقام النبي في الكرم والحلم فوق ذلك
والعميان لم ينظموا هذا النوع في بديعيتهم وبيت الشيخ عز الدين غفر الله له يقول فيه عن النبي
( لم ينف ذما بإيجاب المديح فتى ... إلا وعاقدت فيه الدهر بالسلم )
هذا البيت ليس له تعلق بهذا النوع فإن مشايخ البديع تواردوا في حده على عبارة واحدة لم تختلف بحرف بل الجميع قالوا نفي الشيء بإيجابه هو أن يثبت المتكلم شيئا في ظاهر كلامه وينفي ما هو من سببه مجازا والمنفي في باطن الكلام حقيقة هو
الذي أثبته وأوردوا على ذلك ما تقدم من شواهد القرآن العظيم والشواهد الشعرية التي زادت النوع إيضاحا ولم يتضح لي في بيت الشيخ عز الدين غفر الله له لمعة استضيء بها في ظلمة هذه العقادة إلى تقرير هذا النوع في البيت المذكور فلم يسعني غير النظر في شرحه فوجدته قد قال ما نفي الذم بإيجاب المديح كريم إلا وكان النبي قد عاقد الدهر بالسلم على ذلك المعنى قبل الذي فعل هذا الفعل المحمود فإنه هو الأصل في الأسباب الخيرية جميعها فما علمت ما مراده في النظم ولا في الشرح ولا أين استقر نفي الشيء بإيجابه والله أعلم
وبيت بديعيتي أقول فيه عن النبي
( لا ينتفي الخير من إيجابه أبدا ... ولا يشين العطا بالمن والسأم )
الذي أقوله إن محاسن هذا البيت ببركة ممدوحه تغني عن التطويل في شرحه وسهولة مأخذ النوع منه لم تفتقر إلى زيادة إيضاح وما أحقه هنا بقول القائل
( وقد ظهرت فلا تخفى على أحد ... إلا على أكمه لا يعرف القمرا )
ذكر الإيغال
( للجود في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بود غير منصرم )هذا النوع مأخوذ من إيغال السير فإنه يقال أوغل في المسير إذا بلغ غاية قصده بسرعة ولهذا قلت للجود في السير إيغال إليه ومعنى ذلك أن المتكلم أو الشاعر إذا انتهى إلى آخر القرينة أو البيت استخرج سجعة أو قافية يريد معنى زائدا أو كلا منهما فكأن المتكلم أو الشاعر قد تجاوز حد المعنى الذي هو آخذ فيه وبلغ مراده فيه إلى زيادة عن الحد
وهذا النوع مما فرعه قدامة وفسره بأن قال هو أن يستكمل الشاعر معنى بيته بتمامه قبل أن يأتي بقافيته فإذا أراد الإتيان بها ليكون الكلام شعرا أفاد بها معنى زائدا على معنى البيت كقول ذي الرمة
( قف العيس في اثار مية واسأل ... رسوما كأخلاق الرداء المسلسل )
فتم كلامه قبل القافية فلما احتاج إليها أفاد بها معنى زائدا وكذلك صنع في البيت الذي بعده حيث قال
( أظن التي يجدي عليك سؤالها ... دموعا كتبديد الجمان المفصل )
فإنه تم كلامه بقوله كتبديد الجمان واحتاج إلى القافية فأتى بما يفيد معنى زائدا ولو لم يأت بها لم يحصل انتهى
والفرق بين الإيغال والتتميم أن التتميم يأتي إلى المحتاج فيتممه كقول الشاعر وقد تقدم
( أناس إذا لم يقبل الحق منهم ... ويعطوه غاروا بالسيوف القواضب )
فإن المعنى بدون قوله ويعطوه ناقص والإيغال لا يرد إلا على المعنى التام فيزيده كمالا ويفيد فيه معنى زائدا غير أن بين الإيغال والتكميل تجاذبا يكاد أن ينتظم كل منهما في سلك الآخر ولكن رأيت الناس قد سلموا إلى قدامة ما اختاره وفرعه هنا فمشيت مع الناس واستشهدوا على الإيغال بقوله تعالى ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) فإن الكلام تم بقوله تعالى ( ومن أحسن من الله حكما ) ثم احتاج الكلام إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى فلما أتى بها أفاد معنى زائدا قلت ولعمري لو طلب التكميل حقه من هذا الشاهد لم يمنعه الذوق السليم ومثله قوله تعالى ( ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) فإن المعنى تم بقوله تعالى ( ولا تسمع الصم الدعاء ) ثم أراد وهو أعلم إتمام الكلام بالفاصلة فقال ( إذا ولوا مدبرين )
وقد حكي عن الأصمعي أنه سئل من أشعر الناس فقال الذي يأتي إلى المعنى الخسيس فيجعله بلفظه كثيرا وينقضي كلامه قبل القافية فإن احتاج إليها أفاد معنى زائدا فقيل له نحو من فقال نحو الفاتح لأبواب المعاني وهو امرؤ القيس حيث قال
( كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم يثقب ) ومثله قول زهير
( كأن فتات العهن في كل منزل ... نزلن به حب الفنا لم يحطم )
فكلام امرىء القيس انتهى إلى وله الجزع وزيادة المعنى في قوله الذي لم يثقب ولا يخفى على حذاق الأدب ما فيها من المحاسن ومعنى قول زهير انتهى في
كلامه إلى قوله حب الفنا وزيادة المعنى في قوله لم يحطم فيها نكتة بديعية غريبة وأنا أذكرها هنا تنبيها على ما قرره الأصمعي وما ذاك إلا أن زهيرا شبه ما تفتت من العهن بحب الفنا والفنا شجر ثمره حب أحمر وفيه نقط سود وقال الفراء هو عنب الثعلب فلما قال زهير بعد تمام معنى بيته لم يحطم أراد أن يكون حب الفنا صحيحا لأنه إذا كسر ظهر له لون غير الحمرة
وقال ابن أبي الأصبع في كتابه المسمى بتحرير التحبير ولقد أحسن ابن المعتز في إيغاله بقوله لابن طباطبا العلوي
( فأنتم بنو بنته دوننا ... ونحن بنو عمه المسلم )
فإنه تحيل على المساواة بأن قال ونحن بنو عمه المسلم والكلام تم قبل الإتيان بالقافية فلما أتى بها أفادت معنى إذ لا طريق له إلى التفضيل بزيادة في حسن الجد
والذي وقع اتفاق البديعيين عليه أن أعظم ما وقع في هذا الباب وأبلغ قول الخنساء أخت صخر
( وإن صخرا لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار )
فإن معنى جملة البيت كامل دون القافية فوجودها زيادة لم تكن له قبلها وهذه المرأة لم ترض لأخيها أن يأتم به جهال الناس حتى جعلته يأتم به أئمة الناس وهذا تتميم ولم ترض تشبيهه بالعلم وهو الجبل المرتفع المعروف بالهداية حتى جعلت في رأسه نارا
ويعجبني من أمثلة هذا النوع في شعر المتأخرين قول الباخرزي من قصيدة
( أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي ) ومثله قول الآخر
( تعجبت من ضنى جسمي فقلت لها ... على هواك فقالت عندي الخبر ) وبيت الشيخ صفي الدين الحلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( كأن مرآه بدر غير مستتر ... وطيب رياه مسك غير مكتتم )
الإيغال مع الشيخ صفي الدين في غير مستتر وغير مكتتم والعميان ما نظموا هذا النوع في بديعيتهم
وبيت الشيخ عز الدين الموصلي في بديعيته يقول فيه عن النبي
( أضحت أعاديه في الأقطار طائرة ... وأوغلت في الهوى خوفا مع العصم )
قال الشيخ عز الدين غفر الله له في شرحه إن الإيغال الذي أفاد في بيته معنى زائدا بعد تمامه قوله خوفا مع العصم وذكر أن العصم هي الجوارح من الطيور التي تفرخ في العوالي والله أعلم
وبيت بديعيتي أشير فيه إلى النبي بقولي
( للجود في السير إيغال إليه وكم ... حبا الأنام بود غير منصرم )
فمعنى بيتي انتهى إلى قولي عنه حبا الأنام بود ولما قلت بعد ذلك غير منصرم إشارة إلى ود النبي ظهر لي من زيادة المعنى ما أقام قواعد بيتي وملأ الدنيا بهجة بمحاسن الصفات النبوية والله أعلم
ذكر التهذيب والتأديب
( تهذيب تأديبه قد زاده عظما ... في مهده وهو طفل غير منفطم )نوع التهذيب والتأديب ما قرروا له شاهدا يخصه لأنه وصف يعم كل كلام منقح محرر وهو عبارة عن ترداد النظر في الكلام بعد عمله والشروع في تهذيبه وتنقيحه نظما كان أو نثرا وتغيير ما يجب تغييره وحذف ما ينبغي حذفه وإصلاح ما يتعين إصلاحه وكشف ما يشكل من غريبه وإعرابه وتحرير ما يدق من معانيه وإطراح ما يتجافى عن مضاجع الرقة من غليظ ألفاظه لتشرق شموس التهذيب في سماء بلاغته وترشف الأسماع على الطرب رقيق سلافته فإن الكلام إذا كان موصوفا بالمهذب منعوتا بالمنقح علت رتبته وإن كانت معانيه غير مبتكرة وكل كلام قيل فيه لو كان موضع هذه الكلمة غيرها أولو تقدم هذا المتأخر وتأخر هذا المتقدم أو لو تمم هذا النقص بكذا أو لو تكمل هذا الوصف بكذا أو لو حذفت هذه اللفظة أو لو اتضح هذا المقصد وسهل هذا المطلب لكان الكلام أحسن والمعنى أبين كان ذلك الكلام غير منتظم في سلك نوع التهذيب والتأديب
وكان زهير بن أبي سلمى معروفا بالتنقيح والتهذيب وله قصائد تعرف بالحوليات قيل إنه كان ينظم القصيدة في أربعة أشهر ويهذبها وينقحها في أربعة أشهر ويعرضها على علماء قبيلته في أربعة أشهر ويروى أنه كان يعمل القصيدة في شهر وينقحها ويهذبها في أحد عشر شهرا ولا جرم أنه قلما يسقط منه شيء ولهذا كان الإمام عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جلالته في العلم وتقدمه في النقد يقدمه على سائر الفحول من طبقته وما أحسن ما أشار أبو تمام إلى التهذيب بقوله
( خذها ابنة الفكر المهذب في الدجى ... والليل أسود رقعة الجلباب )
فإنه خص تهذيب الفكر بالدجى لكون الليل تهدأ فيه الأصوات وتسكن الحركات فيكون الفكر فيه مجتمعا ومرآة التهذيب فيه صقيلة لخلو الخاطر وصفاء القريحة لا سيما وسط الليل والنفس قد أخذت حظها من الراحة بعد نيل قسطها من النوم وخف عليها ثقل الغذاء وصح ذهنها وصار صدرها منشرحا وقلبها بالتأليف منبسطا وما قدموا وسط الليل في التأليف على السحر مع ما فيه من رقة الهواء وخفة الغذاء وأخذ النفس سهمها من الراحة إلا لما يكون فيه من انتباه أكثر الحيوان الناطق وارتفاع معظم الأصوات وجرس الحركات وتقشع الظلماء بطلائع الأضواء وبدون ذلك ينقسم الفكر ويشتغل القلب ووسط الليل خال مما ذكرناه ولهذا خص أبو تمام تهذيب الفكر بالدجى عادلا عن الطرفين لما فيهما من الشواغل المذكورة
وحكت الثقات عن أبي عبادة البحتري الشاعر قال كنت في حداثتي أروم الشعر وكنت أرجع فيه إلى طبع سليم ولم أكن وقفت له على تسهيل مأخذ ووجوه اقتضاب حتى قصدت أبا تمام وانقطعت إليه واتكلت في تعريفه عليه فكان أول ما قال لي يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم واعلم أن العادة في الأوقات إذا قصد الإنسان تأليف شيء أو حفظه أن يختار وقت السحر وذلك أن النفس تكون قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم وخف عنها ثقل الغذاء وصفا من أكثر الأبخرة والأدخنة جسم الهواء وسكنت الغماغم ورقت النسائم وتغنت الحمائم
وإذا شرعت في التأليف تغن بالشعر فإن الغناء مضماره الذي يجري فيه واجتهد في إيضاح معانيه فإن أردت التشبيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر فيه من بيان الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق والتعلل باستنشاق النسائم وغناء الحمائم والبروق اللامعة والنجوم الطالعة والتبرم من العذال والوقوف على الأطلال
وإذا أخذت في مدح سيد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأرهب من عزائمه ورغب في مكارمه واحذر المجهول من المعاني وإياك أن تشين شعرك بالعبارة الردية والألفاظ الوحشية وناسب بين الألفاظ والمعاني في تأليف الكلام وكن كأنك خياط تقدر الثياب على مقادير الأجسام وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ