كتاب : يتيمة الدهر
المؤلف : الثعالبي
لو أن قلبي وفاه محبته ... أحبه بقلوب العالمين معا
وقال:
كأنما أنجم الثريا لمن ... يرمقها والظلام منطبق
مال بخيل يظل يجمعه ... من كل وجه وليس يفترق
وقال:
يا خليلي من عذيري من الدن ... يا ومن جورها علي وصبري
عجباً أنني أنافس في عم ... ران أيامها وتخرب عمري!
وقال:
هو الفجر قابلنا بابتسام ... لتصرف عنا عبوس الظلام
ولاح فحل كأس الشمو ... ل صرفاً وحرم كأس المنام
ظللنا على شم ورد الخدود ... ومسك النحور ونقل اللثام
نعين الصباح على كشفه ... قناع الظلام بضوء المدام
وقال:
إن خانك الدهر فكن عائذاً ... بالبيض والظلمات والعيسِ
ولا تكن عبد المنى فالمنى ... رؤوس أموال المفاليس
وقال:
حور جعلن وقد رحلن وداعنا ... بمدامع نطقت وهن سكوتُ
فعيونا سبجٌ ونثر دموعها ... در وحمرة خدها ياقوت
وقال:
ما عذرنا في حبسنا الأكوابا ... سقط الندى وصفا الهواء وطابا
ودعا بحي على الصبوح مغرداً ... ديك الصباح فهيج الأطرابا
وكأنما الصبح المنير وقد بدا ... بازٌ أطار من الظلام غرابا
فأدم لذاذة عيشنا بمدامة ... زادت على هرم الزمان شبابا
سفرت فغار حبابها من لحظنا ... فعلا محاسنها وصار نقابا
وقال من قصيدة:
فلأشكرنٌ لدير قنا ليلةً ... أشرقت ظلمتها ببدر مشرقِ
بتنا نوفي اللهو فيها حقه ... بالراح والوتر الفصيح المنطق
والجو يسحب من عليل هوائه ... ثوباً يرش بطله المترقرق
حتى رأينا الليل قوس ظهره ... هرماً واثر فيه شيب المفرق
وكأن ضوء الفجر في باقي الدجى ... سيف حلاه من اللجين المحرق
يا طيبها من ليلة لو لم تكن ... قصرت فريع تجمع بتفرق
وقال، وهو من إحسانه المشهور:
يا شبيه البدر حسناً ... وضياء ومثالا
وشبيه الغصن ليناً ... وقواما واعتدالا
أنت مثل الورد لوناً ... ونسيماً وملالا
زارنا حتى إذا ما ... سرنا بالقرب زالا
وقال:
رب ليل فضحته بضياء ال ... راح حتى تركته كالنهارِ
ذي سماء كخرم ونجومٍ ... مشرقات كنرجسٍ وبهارِ
وهلال يلوح في ساعد الغر ... ب كدملوج فضة أو سوارِ
بستُّ أجلو فيه شموس وجوهٍ ... حملت في الدجا شموس عقار
وقال وقد أمر الأمير بجمع المتكلمين ليتناظروا بحضرته في يوم دجن:
هو يوم كما ترا ... ه مليح الشمائلِ
هاج نوح الحمام في ... ه غناء البلابل
ولركب السحاب في ال ... جو حق كباطل
مثلما فاه في المهن ... د بعض الصياقل
جليت شمسه لرق ... ته في غلائل
وعمود الزمان مع ... تدل غير مائل
حين ساوى حر الهوا ... جر برد الأصائل
وغدا الروض في قلا ... ئده والخلاخل
فمن العجز أن ترى ... فيه طوع العواذل
يا لهذا أبي الهذي ... ل وتوصيل واصل
وملاحاة عاقلٍ ... ومقاساة جاهل
وخصومٍ يكابرو ... ن وضوح الدلائل
أنفٍ كيد الجدال عن ... ك بصيد الأجادل
كل صلب العظام وال ... لحم رطب المفاصل
وهو أهدى من الردى ... في طريق المقاتل
كم غدونا به لطير التلاع السوابل
فانبرى أخرس الجنا ... ح صخوب الجلاجل
وتعامى عن الشوى ... واهتدى للشواكل
بسكاكينه التي ... ثبتت في الأنامل
عقفت ثم أرهفت ... فهي مثل المناجل
صاعد خلف صاعد ... نازل خلف نازل
فتردى رداء له ... و إلى الليل شامل
ثم انثنى جذلان بي ... ن القنا والقنابل
نحو ربعٍ من المكا ... رم والمجد آهل
فترى الأنس في عبي ... دك عذب المناهل
من عقول قد بلبلته ... هن صفراء بابل
فإذا الليل كف ك ... ل رقيب وعاذل
صرت الفرش تحت قو ... مٍ صرير المحامل
وقال:
وأغيد روته المدامة فانثنى ... كما ينثني من ريه الغصن الغضُّ
دعوت إليها وهو في دعوة الكرى ... وقد أخذت في خلع أسودها الأرض
فقام وفي أعطافه فضل سكرة ... وفي عينه من ورد وجنته بعض
وقال:
ومدامةٍ صفراء في قارورةٍ ... زرقاء تحملها بد بيضاءُ
فالراح شمسٌ والحباب كواكبٌ ... والكف قطب والإناء سماء
وقال:
راحٌ كضوء الشهاب ... سلافة الأعنابِ
والمزج ماء غدير ... صافٍ كماء الشباب
لو لم يكن ماء مزنٍ ... لكان لمع سراب
كأنه جسم درٍ ... عليه درعٌ حباب
يجري خلال حصى أب ... يض كقطر السحاب
كأنه الريق يجري ... على الثنايا العذاب
وقال في مخدة:
بأبي التي كتمت محاسنها ... خوف العيون وليس تنكتمُ
لبست سواداً كي تعاب به ... والبدر ليس يشينه الظلم
وقال من قصيدة في المهلبي الوزير استهلاها:
مهاةً توهمها أم غزالا ... وشمساً تشبهها أم هلالا
منعمةٌ أطلقت لحظها ... فكان لعقل المعنى عقالا
وشمس ترجل في مجلسٍ ... لندمانها وتغنى ارتجالا
ولا تعرف اللحن ألحانها ... إذا ما الخفاف تبعن الثقالا
شدت رملا في مديح الوزير ... فظلنا من السكر نحكي الرمالا
وهل ثملٌ مفكر بعد أن ... تكون له راحتاه ثمالا
ومنها في التهنئة بعيد الفطر:
هنيئاً مريئاً بأجرٍ أقام ... وصومٍ ترحل عنك ارتحالا
وفطر تواصل إقباله ... لن له بالسعود اتصالا
رأى العيد فعلك عيداً له ... وإن كان زاد عليه جمالا
وكبر حين رآك الهلالُ ... كفعلك حين رأيت الهلالا
رأى منك ما منه أبصرته ... هلالاً أضاء ووجهاً تلالا
تولاك فيه إله السماء ... بعزٍّ تعالى ويمنٍ توالى
ولقيت سعداً إذا العيد عاد ... ولقيت رشدا إذا الحول حالا
وإن رمضان أطاح الكؤوس ... فشوال يأذن في أن تشالا
فواصل بيمنٍ كؤوس الشمول ... يميناً مقبلةً أو شمالا
ولا زلت تعن رتبٍ نلتها ... ومن ذا رأى جبلاً قطُّ زالا؟
وقال من قصيدة فيه أيضاً:
أيدت ملك معز دولة هاشم ... فزمانه عرسٌ من الأعراسِ
وتيقن الشعراء أن رجاءهم ... في مأمن بك من وقوع الباس
ما صح علم الكيمياء لغيرهم ... فيمن عرفنا من جميع الناس
تعطيهم الأموال في بدرٍ إذا ... حملوا الكلام إليك في قرطاس
وقد ألم في هذا المعنى بقول بكر بن النطاح لأبي دلف:
يا طالباً للكيمياء ونفعه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظمُ
لو لم يكن في الأرض إلا درهم ... ومدحته لأتاك ذاك الدرهم
ولكنه لطفه وزاد فيه، وقال:
وأخٍ جفا ظلماً، وملّ، وطالما ... فقنا الأنام مودة ونداما
فسلوت عنه وقلت ليس بمنكر ... للدهر أن جعل الكرام لئاما
فالخمر وهي الراح ربتما غدت ... خلاً وكانت قبل ذاك مداما
وقال في معناه أيضاً:
وكم من عدو صار بعد عداوة ... صديقاً مجلاً في المجالس معظما
ولا غرو فالعنقود في عود كرمه ... يرى عنباً من بعد ما كان حصرما
وقال في استهداء نبيذ، وقد عزم على أخذ دواء:
يا سيدا بالعلا والمجد منفردا ... وواحدٍ الأرض لا مستثنياً أحدا
لهاك أوجدت الآمال ما فقدت ... وقربت لمنى الراجين ما بعدا
هذا زمان علاجٍ يتقي ضرر ال ... أخلاط فيه لن الفصل قد وفدا
فلست تبصر إلا شارباً قدحاً ... مراً وإلا نزيف الجسم مفتصدا
وقد عصيت الهوى مذ أمس محتمياً ... لما عدمت لديه الصبر والجلدا
مناكرٌ لطباعي غير أن له ... عقبى تمازج محموداتها الجسدا
وليس لي قهوة أطفى بجمرتها ... عن مهجتي شره الماء الذي بردا
فامنن بدستيجة المشروب يومك ذا ... فقد عزمت على شرب الدواء غدا
وقال في العتاب:
وأخ رخصتُ عليه حتى ملني ... والشيء مملول إذا ما يرخصُ
يا ليته إذ باع ودي باعه ... فيمن يزيد عليه لا من ينقص
ما في زمانك ما يعز وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص
وقال:
يا من جفا في القرب ثم نأى ... فشكا الهوى بالكتب والرسلِ
مهلاً فإنك في فعالك ذي ... مثل الذي قيل في المثل
ترك الزيارة وهي ممكنةٌ ... وأتاك من مصر على جمل!
وقال: في وصف سيف:
متوقد، مترقرق، عجباً له ... نارٌ وماءٌ كيف يجتمعان؟
وكأنما أبواه صرفا دهرنا ... أو كان يرضع درة الحدثان
تجري مضاربه دماً يوم الوغى ... فكأنما حداه مفتصدان
وقال في هجاء شاعر:
لما تبدى الكوفي ينشدنا ... قنا له: طعنة وطاعونا
تجمع يا أحمق العباد لنا ... شعرك في برده وكانونا؟
وقال في مثل ذلك:
لو أن في فمه جمراً وأنشدنا ... شعراً لما ضره من برد إنشاده
ما أخرج من
شعر أبي عثمان سعيد بن هاشم الخالدي
وهو منسوب في بعض النسخ إلى كشاجم لسبب الذي تقدم ذكره، وما وقع عثمان فيه التوارد مع السري أو التسارق.قال أبو عثمان:
ادنُ من الدنّ بي فداك أبي ... واشرب وسق الكبير وانتخبِ
أما ترى الطل كيف يلمع في ... عيون نورٍ تدعو إلى الطرب؟
في كل عين للطل لؤلؤة ... كدمعةٍ في جفون منتحب
والصبح قد جردت صوارمه ... والليل قد هم منه بالهرب
والجو في حلة ممسكةٍ ... قد كتبتها البروق بالذهب
وللسري في مثله:
غيوم تمسك أفق السماء ... وبرق يكتبها بالذهبِ
فهاتها كالعروس محمرة ال ... خدين في معجزْ من الحبب
كادت تكون في الهوا في أرجال ... عنبر لو لم يكن من العنب
من كف راضٍ عن الصدود وقد ... غضبت في حبه على الغضب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئاً من أعجب العجب
نارُ حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودر يدور في اللهب
وقال من قصيدة:
وليس للقر غير صافية ... تدفع ما ليس يدفع الدلقُ
درياق أفعى الشتاء وهو إذا ... سل علينا سيوفه درق
وقال يدعو صديقاً له في يوم شك:
هو يوم شكٍّ يا عل ... ي وشره مذ كان يحذرْ
والجو حلته ممسّ ... كةٌ ومطرفه معنبر
والماء عوديّ القمي ... ص وطيلسان الأرض أخضر
ولنا فضيلاتٌ تكو ... ن ليومنا قوتاً مقدرْ
ومدامةٌ صفراء أد ... رك عمرها كسرى وقيصر
وحديثنا ما قد علم ... ت وشعرنا ما أنت أبصر
فانشط لنا لنحثَّ من ... كاساتنا ما كان أكبر
أو لا فإنك جاهل ... إن قلت إنك سوف تعذر
وقال، وهو مما ينسب إلى الوزير المهلبي:
فديتك ما شبت من كبرٍ ... وهذي سني وهذا الحساب
ولكن هجرت فحلَّ المشيب ... ولو قد وصلْت لعاد الشباب
وقال:
بليت بأحسن الثقلي ... ن إقبالاً ومنصرفا
فمثل الخشف ملتفتاً ... ومثل الغصن منعطفا
يسوفني بنائله ... وقد أهدى لي الأسفا
وآخذ وصله عِدةً ... ويأخذ مهجتي سلفا
وقال، وهو مما ينسب أيضا إلى المهلبي الوزير:
دموعي فيك أنواء غزار ... وقلبي ما يقر له قرارُ
وكل فتى علاه ثوب سقمٍ ... فذاك الثوب مني مستعار
وقال:
وقفتني ما بين هم وبوس ... وثنت بعد ضحكة بعبوسِ
ورأتني مشطت عاجاً بعاجٍ ... وهي الآبِنوسُ بالآبنوس
وللسري في معناه:
رأت شيباً يضاحكها فصدت ... وكان جزاؤه منها العبوسا
وقالت إذ رأت للمشط فيه سواداً ... لا يشاكله نفيسا
تلقَّ العاج منك بمشط عاج ... ودع للآبنوس الآبنوس
وأنشدني أبو سعيد ين دوست للصاحب في مثل ذلك:
هات مشطاً إلى وليك عاجا ... فهو أدنى إلى مشيب الرؤوس
وإذا ما مشطت عاجاً بعاج ... فامشط الآبنوس بالآبنوس
ما أخرج من سائر غرر أبي عثمان وملحه فمنها قوله:
كأن الرعود خلال البرو ... ق والريح يكثر تحريضها
زنوجٌ إذا خفقت بينها ... دبادبها جردت بيضها
صدت مجانبة نوارُ ... ونأى بجانبها ازورارُ
ورأت ثيابي قد غدتْ ... وكأنها دِمَنٌ قفار
ويا هذه إن رحت في ... خلقٍ فما في ذاك عار
هذه المدام هي الحيا ... ة قميصها خزفٌ وقار
وقوله:
شعر عبد السلام فيه رديء ... ومحالٌ وساقط وبديع
فهو مثل الزمان فيه مصيف ... وخريف وشتوة وربيع
وقوله:
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسي ... كأنه أنا مقياسا بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوى ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي
وقوله:
يا نديمي أطلق الفج ... ر فما للكأس حبسُ
قهوة تعطيكها قب ... ل طلوع الشمس شمس
وهي كالمريخ لكن ... هي سعد وهو نحس
وقوله:
يا قضيباً يميس تحت هلال ... وهلالاً يرنو بعيني غزالِ
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنو السنا وبعد المنال
سرقه من قول ابن الرومي:
يا شبيه البدر في ال ... حس وفي بعد المنال
وقوله في جارية سوداء يقال شغف:
إذا تغنت بعودها شغفٌ جاء سرور يفوق كل منى
واحدة الحذق لا نظير لها ... كالمسك لوناً وبهجة وغنا
وقوله فيها:
تركتنا بطيبها إذ تغنت ... شغف بين أنة ونحيب
طِبَّة بالغناء فهي لأسقا ... م الندامى لطافة كالطبيب
ألفتها القلوب لما رأتها ... صاغها الله من سواد القلوب
وإنما سرقه من قول ابن الرومي:
أكسبها الحب أنها صبغت ... صبغة حب القلوب والحدق
ونقص أبو عثمان من المعنى إذ ذكر الحدق.
وقال:
يا راقداً عارياً من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعين جفنها دامي
لا خلص الله قلبي من يدي رشأٍ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
وقوله:
يا حسنناً نحن في لهوٍ وليلتنا ... بزهر أنجمها ترمي العفاريتٌ
وقد تضايق في السكر العناق بنا ... كما تضايق في النظم اليواقيت
وقوله:
متبرم بعتابه ... مستعذب لعذابهِ
هجر العميد تعمداً ... فغدا وراح لما به
وكساه ثوب مشيبه ... في عنفوان شبابه
فتراه يؤذن في أوا ... ن مجيئه بذهابه
وقوله:
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سقيها
لست تدري لرقةٍ وصفاءٍ ... هي في كأسها أم الكأس فيها
وقوله:
ظالم لي وليته ال ... دهر يبقى ويظلم
وصله جنةٌ ول ... كن جفاه جهنم
ورضاه وسخطه ال ... دهر عرس ومأتم
وقوله:
إن شهر الصيام إذ جاء في فص ... ل ربيعٍ أودى بحسن وطيب
فكأن الورد المضعف في الصو ... م حبيب ٌ يمشي بجنبِ رقيب
وقوله:
وليلة ليلاء في ال ... لون كلون المفرقِ
كأنما نجومها ... في مغربٍ ومشرق
دراهم منثورةٌ على بساط أزرق
وقوله في معنى متداول:
بنفسي حبيب بان صبري لبينه ... وأودعني الأحزان ساعة ودعا
وأنحلني بالهجر حتى لو أنني ... قذى بين جفني أرمدٍ ما توجعا
وقوله من قصيدة:
صغير صرفت إليه الهوى ... وهل خاتم في سوى خنصرِ
فإن شئت فاعذر ولا تلْحُني ... وإن شئت فالح ولا تعذر
وقوله:
همته خمرٌ وما خور ... وهمه عود وطنبورُ
وليس دنياه ولا دينه ... إلا مهىً مثل الدمى حور
ذيل الصبا في الغير مجرور ... والعمر باللذات معمور
وليلة الهيكل كم أنفدت ... فيها دنان ودنانير
أقبلن كالروض تغشاه من ... در وياقوت أزاهير
على خصور أرهفت دقة ... ففي الزنانير زنانير
فما درينا أوجوه الدمى ... أحسن أم تلك التصاوير
وعندنا صفراء من قامرت ... بالسكر منا فهو مقمور
سلاف أعناب فعنقودها ... من قبل أن يعصر معصور
زاد على المصباح إشراقها ... فهو ظلمٌ وهي النور
حتى إذا ما انحل جيب الدجى ... فينا وجيب الصبح مزرور
جرّت هناة لي أجملتها ... فهل لها عندك تفسير؟
وقوله من أبيات:
ريقته خمرٌ، وأنفاسه ... مسكٌ، وذاك الثغر كافور
أخرج رضوان من داره ... مخافة تفتتن الحور
يلومه الناس على تيهه ... والبدر إن تاه فمعذور
وقوله:
مكحلٌ بالدعج ... منقب بالغنجِ
معصفر التفاح في ... خد مليح الضرج
خمشه الشعر وما ... ذاك لطول الحجج
وإنما عارضه ... شنفه بالسبج
وقوله:
يا حسن دير سعيد إذ حللت به ... والأرض والروض في وشي وديباجِ
فما ترى غصناً إلا وزهرته ... تجلوه في جبة منها ودواج
وللحمائم ألحان تذكرنا ... أحبابنا بين أرمال وأهزاج
وللنسيم على الغدران رفرفةٌ ... يزورها فتلقاه بأموج
والخمر تجلى على خطابها فترى ... عرائس الكرم قد زفت لأزواج
وكلنا من أكاليل البهار على ... رؤوسنا كأن شروان في التاج
ونحن في فلك اللهو المحيط بنا ... كأننا في سماء ذات أبراج
ولست أنسى ندامى وسط هيكله ... حتى الصباح غزالاً طرفه ساجي
أهز عطفي قضيب البان معتنقاً ... منه وألثم عيني لعبة العاج
وقولتي والتفاتي عند منصرفي ... والشوق يزعج قلبي أي إزعاج
يا دير يا ليت داري في فنائك أو ... يا ليت أنك لي في درب دراج
وقوله:
قمر بدير الموصل الأعلى ... أنا عبده وهواه لي مولى
لثم الصليب فقلت من حسدٍ ... قبل الحبيب فمي بها أولى
جدْ لي بإحداهن كي يحيا بها ... قلبي فحبته على المقلى
فاحمر من خجل وكم قطفت ... عيني شقائق وجنة خجلى
وثكلت صبري عند فرقته ... فعرفت كيف تحرق الثكلى
وقوله من قصيدة في المهلبي الوزير وقد عزم على الرجوع إلى وطنه:
إنا لنرحل والأهواء أجمعها ... لديك مستوطنات ليس ترتحلُ
لهن من خلقك الروض الأريض ومن ... نداك يغمرهن العارض الهطل
لكن كل فقير يستفيد غنىً ... دعاه شوقٌ إلى أوطانه عجل
وكل غازٍ إذا جلت غنيمته ... فإن آثر شيءٍ عنده القف
وقوله:
وكنت أرى في النوم هجرك ساعةً ... فأجفو لذيذ النوم حولاً تطيرا
وتأمرني بالصبر والقلب كلما ... تقاضيته صبراً تقاضيت معسرا
فلما رأيت الغدر من شأنك اغتدى ... غدير التصافي بيننا متكدرا
فواله ما أهواك إلا تكلفا ... ولا أشتكي الهجران إلا تخمرا
وقوله في إنسان قصير ضئيل تزوج طويلة ضخمة:
يا من أحل به الرزية ... وأعاد نعمته بليهْ
حظي الردى بك إذ غدت ... لك بنت عمار حظيه
قل لي وكيف تنيكها ... مع دل قامتك القميّه؟
أنت البعوضة قلةً ... وكأنها جمل الضحية
نبئتها قالت وقد ... بصرت بأيرك كالشظية!
من ليس تشبعه الهري ... سة كيف تشبعه القلية؟
فلو اطلعت عليهما ... عند ارتكابها البليه
لذكرت في شخصيهما ال ... عنقاء قد خطفتْ صبيه!
وقوله:
قل لمن يشتهي المديح ولكن ... دون معروفه مطال ولي
سوف أهجوك بعد مدح وتحري ... ك وعتب، وآخر الداء كي
وقوله:
بغداد قد صار خيرها شرا ... صيرها الله مثل سامراً
اطلب وفتش واحرص فليس ترى ... في أهلها حرة ولا حراً
وقوله في قصيدة:
نيل المطالب بالهندية البتر ... لا بالأماني والتأميل للقدرِ
فإن عفا طلل أو باد ساكنه ... فلا تقف فيه بين البث والفكر
في شمك المسك شغل عن مذاقته ... وفي سنا الشمس ما يغني عن القمر
لو لم اكن مشبهاً للناس في خلقي ... لقلت إني من جيل سوى البشر
أو لم يكن ماء علمي قاهراً فكري ... لأحرفتني في نيرانها فكري
تزيدني قسوة الأيام طيب ثناً ... كأنني المسك بين الفهر والحجر
ألفتُ من حادثات الدهر أكبرها ... فما أعوج على أطفالها الأُخَر
لا شيء أعجب عندي في تباينه ... إذا تأملته من هذه الصور
أرى ثياباً وفي أثنائها بقر ... بلا قورن، وذا عيب على البقر!
قالت رقدت فقلت الهم أرقدني ... والهم يمنع أحياناً من السهر
كم قد وقعت وقوع الطير في شركٍ ... فضعضعت منتي منه قوى المرر
أصفو وأكدر أحياناً لمختبري ... وليس مستحسناً صفو بلا كدر
إني لأسير في الآفاق من مثلٍ ... فرد وأملأُ للآفاق من قمر
إذا تشككت فيما أنت مبصره ... فلا تقل إنني في الناس ذو بصر
وكيف يفرح إنسان بمقلته ... إذا نضاها فلم تصدقه في النظر!
لقد فرحت بما عاينت من عدمٍ ... خوف القبيحين من كبر ومن بطر
ولست أبكي لشيب قد منيت به ... يبكي على الشيب من يأسي على العمر
كن من صديقك لا من غيره حذراً ... إن كان ينجيك منه شدة الحذر
ما أطمئن إلى خلقٍ فأخبره ... إلا تكشف لي عن لؤم مختبر
وقد نظرت إلى الدنيا بمقلتها ... فاستصغرتها جفوني غاية الصغر
وما شكرت زماني وهو يصعدني ... فكيف أشكره في حال منحدر
لا عار يلحقني إني بلا نشبٍ ... وأي عار على عين بلا حور
فإن بلغت الذي أهوى فعن قدرٍ ... وإن حرمت الذي أهوى فعن عذر
أبو بكر محمد بن حمدان بن حمدان
المعروف بالخباز البلدي
هو من بلدة يقال لها بلد ، من بلاد الجزيرة التي فيها الموصل، وأبو بكر من حسناتها.
ومن عجيب شأنه أنه كان أمياً، وشعره كله ملح وتحف، وغرر وطرف ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مثل سائر، وهو القائل:
بالغت في شتمي وفي ذمي ... وما خشيت الشاعر الأمي
جربت في نفسك سماً فما ... أحمدت تجريبك للسم
وكان حافظاً للقرآن مقتبساً منه في شعره، كقوله:
ألا إن إخواني الذين عهدتهم ... أفاعي رمالٍ لا تقصر في لسعي
ظننت بهم خيراً فلما بلوتهم ... نزلت بوادٍ منهم غير ذي زرع
وقوله:
كأن يميني حين حاولت بسطها ... لتوديع إلفي والهوى يذرف الدمعا
وقائلةٍ هل تملك الصبر بعدهم ... فقلت لها لا والذي أخرج المرعى
يمين ابن عمران وقد حاول العصا ... وقد جعلتْ تلك العصا حية تسعى
وقوله:
أترى الجيرة الذين تداعوا ... بكرة للرحيل قبل الزوالِ
علموا أنني مقيم وقلبي ... راحل فيهم أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال
وقوله:
سار الحبيب وخلف القلبا ... يبدي العزاء ويضمر الكربا
قد قلت إذ سار السفين بهم ... والشوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عزاً أصول به ... لأخذت كل سفينة غصبا
وكان يتشيع، ويتمثل في شعره بما يدل على مذهبه، كقوله:
وحمائم نبهنني ... والليل داجي المشرقين
شبهتهن وقد بكي ... ن وما ذرفن دموع عين
بنساء آل محمدٍ ... لما بكين على الحسين
وكقوله:
جحدت ولاء مولانا علي ... وقدمت الدعي على الوصي
متى قلت إن السيف أمضى ... من اللحظات في قلب الشجي
لقد فعلت جفونك في البرايا ... كفعل يزيد في آل النبي
وكقوله:
أنا إ رمت سلواً ... عنك يا قرة عيني
كنت في الإثم كمن شا ... رك في قتل الحسينِ
لك صولات على قل ... بي بقدٍّ كالرديني
مثل صولات عليٍّ ... يوم بدرٍ وحنين
وكقوله:
أنا في قبضة الغرام رهين ... بين سيفين أرهفاً ورديني
فكأن الهوى فتى علويٌّ ... ظن أني وليت قتل الحسين
وكأني يزيد بين يديه ... فهو يختار أوجع القتلتين
وكقوله:
انظر إلي بعين الصفح عن زللي ... لا تتركني من ذنبي على وجل
موتي وهجرك مقرونان في قرنٍ ... فكيف أهجر من في هجره أجلي
وليس لي أمل إلا وصالكم ... فكيف أقطع من في وصله أملي
هذا فؤادي لم يملك غيركم ... إلا الوصي أمير المؤمنين علي
وكقوله:
تظن بأني أهوى حبيبا ... سواك على القطيعة والبعادِ
جحدت إذن موالاتي علياً ... وقلت بأنني مولى زياد
ما أخرج من سائر ملحه فمنها قوله:
إذا استثقلت أو أبغضت خلقاً ... وسرك بعده حتى التنادي
فشرده بقرض دريهماتٍ ... فإن القرض داعية البعاد
وقوله:
أقول لليلة فيها أتاني ... حبيب في مصارمتي لجوج
أيا ليلي الذي ما كنت تفنى ... قصرت وكنت قدما ما تروج!
أيأجوجٌ إذا نحن التقينا ... وأيام التهاجر أنت عوج
وقوله:
ذرى شجر للطير فيه تشاجرٌ ... كأن صنوف النور فيه جواهرُ
كأن نسيم الروض في جنباته ... لخالخ فيما بيننا وزرائر
كأن القمارى والبلابل حولها ... قيان وأوراق الغصون ستائر
شربنا على ذاك الترنم قهوةُ ... كأن على حافاتها الدر دائر
وقوله، وهو مما يتغنى به:
وروضةٍ بات طل الغيث ينسجها ... حتى إذا نجمت أضحى يدبجها
يبكي عليها بكاء الصب فارقه ... إلف فيضحكها طوراً ويبهجها
إذا تنفس فيها ريح نرجسها ... ناغى جَنِيّ خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كأسٌ كشعلة نار إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقل ما بي من حبيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كان ينضجها
وقوله :
ومدام كست الكأ ... س من النور وشاحا
ظهرت في جنح ليلٍ ... فكأن الفجر لاحا
لم يكن وقت صباحٍ ... فحسبناه صباحا
وقوله:
قلت والليل له الو ... لُ مقيمٌ غير ساري
أعظم الخالق أجر ال ... خلق في شمس النهار
فلقد ماتت كما ما ... ت عزائي واصطباري
وقوله:
أنا أخفي من أن يحس بجسمي ... أحد حيث كنت لولا الأنينُ
فكأني الهلال في ليلة الش ... ك نحولاً فما تراني العيون
وقوله:
صدني عن حلاوة التشييع ... اجتنابي مرارة التوديعِ
لم يقم أنس ذا بوحشة هذا ... فرأيت الصواب ترك الجميع
وقوله:
يا ذا الذي أصبح لا والدٌ ... له على الأرض ولا والده
قد مات من قبلهما آدم ... فأي نفس بعده خالده
إن جئت أرضاً أهلها كلهم ... عور فغمض عينك الواحده
وقوله:
نكبت في شعري وثغري وما ... نفسي في صبري بمنكوبهْ
إذا دنت بيضاء مكروهة ... مني نأت بيضاء محبوبة
وقوله:
قالوا تكهل من هوي ... ت فقلت رسمٌ قد دثرْ
عاينت من طلابه ... زمراً مواصلةً زمر
وكذاك أصحاب الحدي ... ث نفاقهم عند الكبر
وقوله:
بكيت بدمع يفوق السحابَ ... إلى أن جرى الماء حولي وساحا
ولو لم أكن رجلاً سابحاً ... غرقت وألزمت نفسي الجناحا
وقوله:
ليل المحبين مطوي جوانبه ... مشمر الذيل منسوب إلى القصرِ
ما ذاك إلا لأنّ الصبح نمَّ بنا ... فاطلع الشمس من غيظٍ على القمر
وقوله:
بدائع خده ورد ... صوالج صدغه سبجُ
إذا اتصلت محاسنه ... نقطع بينها المهج
وقوله، وهو مما يستغفر منه:
يا قاسم الرزق لم خانتني القسم ... ما أنت متهم قل لي من أتهمُ؟
إن كان نجمي نحساً أنت خالقه ... فأنت في الحالتين الخصم والحكم!
وقوله في أمرد التحى:
انظر إلى ميت ولكنه ... خلو من الأكفان والغاسلِ
قد كتب الدهر على خده ... بالشعر هذا آخر الباطل
وقوله:
أهزك لا أني عرفتك ناسياً ... لوعدٍ ولا أني أردت تقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا
أحسن، وأبلغ منه في معناه قول محمد بن أبي زرعة الدمشقي:
لا ملومٌ مستقصر أنت في الب ... رِّ ولكن مستعطف مستزاد
قد يهز الهندي وهو حسام ... ويحث الجواد وهو جواد
عبيد الله بن أحمد البلدي النحوي
لم أسمع ذكره وشعره إلا من أبي الحسن المصيصي الشاعر، وكان قد عاشره واستكثر منه، فحكى لي أنه كان أعور، فاعتلت عينه الصحيحة، حتى أشرف على العمى فقال وأستغفر الله من كتبه:إن قلت جوراً فلا تلمني ... بأن رب الورى المسيحُ
أراك تعمى وذاك يبري ... فهو إذاً عندي الصحيح
قال: وأنشدني عبيد الله لنفسه:
للحسن في وجهه شهود ... تشهد أنا له عبيدُ
كأنما خده وصالٌ ... وصدغه فوقه صدود
يا من جفاني بغير جرمٍ ... أقصر فقد نلت ما تريد
إن كان قد رق ثوب صبري ... عنك فثوب الهوى جديد
وقال: أنشدني لنفسه أيضاً:
يا ذا الذي في خده جيشان من زنجٍ ورومِ
هذا يغير على القلو ... ب وذا يغير على الجسوم
إني وقفت من الهوى ... في موقفٍ صعبٍ عظيم
كوقوف عارضك الذي ... قد حار في ماء النعيم
قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:
هات المدامة يا شقيقي ... نشرب على روض الشقيقِ
كأس العقيق نديرها ... ما بين أكناف العقيق
آخر القسم الأول من كتاب يتيمة الدهر حسب تقسيم المؤلف رحمه الله تعالى ويتلوه القسم الثاني، وهو في أخبار دولة آل بويه.
القسم الثاني من يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر وهو في
أخبار دولة آل بويه
بسم الله الرحمن الرحيم أبدأ - بعد حمد الله تعالى، والصلاة على محمد المصطفى وآله - بباب مقصور على ملوك آل بويه الذين شعروا ورويت أشعارهم، لما تقدم ذكره من الانتساب إلى قائلها، لا لكثرة طائلها، والله الموفق للصواب.الباب الأول
في ذكرهم وما أخرج من ملحهم وأشعارهم
عضد الدولة أبو شجاع
فناخسرو بن ركن الدولة
كان - على ما مكن له في الأرض، وجعل إليه من أزمة البسط والقبض. وخص به من رفعة الشان، وأوتي من سعة السلطان - يتفرغ للأدب، ويتشاغل بالكتب، ويؤثر مجالسة الأدباء، على منادمة الأمراء، ويقول شعراً كثيراً يخرج منه ما هو من شرط هذا الكتاب من الملح والنكت، وما أدري كم فصل بارع، ووصف رائع، قرأته للصاحب عضد الدولة.فمن ذلك: وأما قصيدة مولانا فقد جاءت ومعها عزة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق.
ومنه: لا غرو إذا فاض بحر العلم، على لسان الشعر، أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه.
ومنه: لو استحق شعر أن يعبد لعذوبة مناهله، وجلالة قائله، لكانت قصيدته هي. إلا أني اتخذتها عند امتناع ذلك قبله، أوجه إليها صلوات التعظيم، وأقف عليها طواف الإجلال والتكريم.
ومنه: شعر قد حبس خدمته على فكره، ووقف كيف شاء على أمره، فهو يكتب في غرة الدهر، ويشدخ جبهتي الشمس والبدر.
ثم من أراد أن ينظر في أخبار عضد الدولة ويقف على محاسن آثاره، فليتأمل الكتاب التاجي، من تأليف أبي إسحاق الصابي، لتجتمع له مع الإحاطة بها بلاغة من قد تسهل له حزونها، ولا ينته متونها، وأطاعته عيونها.
حدثني أبو بكر الخوارزمي، قال: كان ينادم عضد الدولة بعض الأدباء الظرفاء، ويحاضر بالأوصاف والتشبيهات، ولا يحضر شيء من الطعام والشراب وآلاتهما وغيرها، وإلا وأنشد فيه لنفسه أو لغيره شعراً حسناً، فبينا هو ذات يوم معه على المائدة ينشد كعادته إذ قدمت بهطة فنظر عضد الدولة كالآمر إياه بأن يصفها، فأرتج عليه، وغلبه سكوت معه خجل، فارتجل عضد الدولة وقال:
بهطة تعجز عن وصفها ... يا مدعي الأوصاف بالزور
كأنها في الجام مجلوة ... لآلئ في ماء كافور
وأنشدني محمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، قال: أنشدني عضد الدولة لنفسه في أبي تغلب، عند اعتذاره إليه من معاودة بختيار عليه، والتماسه كتاب الأمان منه:
أأفاق حين وطئت ضيق خناقه ... يبغي الأمان وكان يبغي صارما
فلأركبن عزيمة عضدية ... تاجية تدع الأنوف رواغما
ومما ينسب إليه ، وأنا أشك فيه، أبيات يتداولها القوالون وهي:
طربت إلى الصبوح مع الصباح ... وشرب السراح والغرر الملاح
وكان الثلج كالكافور نثراً ... ونار عند نارنج وراح
فمشموم ومسروب ونار ... وصبح والصبوح مع الصباح
لهيب في لهيب في لهيب ... صباح في صباح في صباح
وأنشدني أبو سعيد نصر بن يعقوب أبياتاً لعضد الدولة، اخترت منها قوله في الخيري:
يا طيب رائحة من نفحة الخيري ... إذا تمزق جلباب الدياجير
كأنما رش بالماورد أو عبقت ... فيه دواخن ند عن تبخير
كأن أوراقه في القد أجنحة ... صفر وحمر وبيض من دنانير
واخترت من قصيدته التي فيها البيت الذي لم يفلح بعده أبداً قوله:
ليس شرب الكأس إلا في المطر ... وغناء من جوار في السحر
غانيات سالبات للنهى ... ناغمات في تضاعيف الوتر
مبرزات الكأس من مطلعها ... ساقيات الراح من فاق البشر
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلاب القدر
سهل الله له بغيته ... في ملوك الأرض ما دار القمر
وأراه الخير في أولاده ... ليساس الملك منه بالغرر
فيحكي أنه لم احتضر لم ينطق لسانه إلا بتلاوة قوله تعالى " ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه " .
عز الدولة أبو منصور بختيار
بن معز الدولة
لم أسمع له شعراً حتى ورد نيسابور هرون بن أحمد الصيمري، ورأيته متصلاً بالأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي، فعرض على كتابه المترجم بحديقة الحدق، وفيه أنشدني بعض أخوالي قال: أنشدني القاضي أبو بكر بن قريعة، قال: أنشدني عن الدولة لنفسه:فيا حبذا روضتنا نرجس ... تحيي الندامى بريحانها
شربنا عليها كأحداقنا ... عقاراً بكأس كأجفانها
ومسنا من السكر ما بيننا ... نجرر ريطاً كقضبانها
وبهذا الإسناد له:
اشرب على قطر السماء القاطر ... في صحن دجلة واعص زجر الزاجرِ
مشمولة أبدى المزاج بكأسها ... دراً نثيراً بين نظم جواهر
من كف اغيد يستبيك إذا مشى ... بدلال معشوق ونخوة شاطر
والماء ما بين الغصون مصفق ... مثل القيان رقصن حول الزامر
وأنشدني أبو سعيد قال: أنشدني أبو جعفر الطبري طبيب آل بويه، قال: أنشدني بختيار لنفسه:
وفاؤك لازم مكنون سري ... وحبك غايتي والشوق زادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سواد في سواد
تاج الدولة أبو الحسين أحمد بن عضد الدولة
هو أدب آل بويه وأشعرهم وأكرمهم، وكان يلي الأهواز، فأدركته حرفة الأدب، وتصرفت به أحوال أدت إلى النكبة والحبس من جهة أخيه أبي الفوارس، فلست أدري ما فعل به الدهر الآن.أنشدني أبو سعيد بن دوست، قال: أنشدني أبو الحسن محمد بن المظفر العلوي النيسابوري، قال: أنشدني أبو العباس الملحي والقوال بسوق الأهواز، قال: أنشدني تاج الدولة أبو الحسين بن عضد الدولة لنفسه:
سلام على طيف ألمّ فسلّما ... وأبدى شعاع الشمس لما تكلما
بدا فيه من وجهه البدر طالعاً ... لدى الروض يستعلي قضيباً منعّما
وقد أرسلت أيدي العذارى بخّده ... عذاراً من الكافور والمسك أسحما
وأحسب هاروتاً أطاف بطرفه ... فعلّمه من سحره فتعلّما
ألمّ بنا في دامس الليل فانجلى ... فلما انثنى عنّا وودّع أظلما
وأنشدني بديع الزمان له هذين البيتين:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى من الحبس والأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما أنفقت في الحبس من عمري؟
ووجدت مجموعاً من شعر تاج الدولة أبي الحسين بخط أبي الحسن علي بن أحمد بن عبدان، فاخترت منه قوله رحمه الله تعالى في أرجوزة:
ألا شفيت علّتي ... من العداة بالتي
وصارم مهنّدٍ ... ماض رقيق الشفرة
وليلة أحييتها ... منوطة بليلة
كأنما نجم الثريّ ... ا في الدجى ومقلتي
جوهرتا عقد على ... نحر فتاة طفلة
أفكر في بني أبي ... وفعل بعض إخوتي
تظن أنّي أحمل ال ... ضيم فأين همتي
تقنع بالأهواز لي ... وواسط والبصرة
لست بتاج الدولة ... سليل تاج الملة
إن لم تزر بغداد بي ... عمّا قليل كبّتي
وعسكر عرمرم ... يملك كلّ بلدة
حشو الجبال والفلا ... مواكب من غلمتي
نصرتهم منّي ومن ... ربّ السماء نصرتي
وقوله من قصيدة:
أنا ابن تاج الملة المنصور تا ... ج الدولة الموجود ذو المناقب
أسماؤنا في وجه كلّ درهم ... وفوق كلّ منبر لخاطب
وقوله من قصيدة:
أنا التاج المرصع في جبين ال ... ممالك سالك سبل الصلاح
كتائبنا يلوح النصر فيها ... برايات تطرق بالنجاح
تكاد ممالك الآفاق شرقاً ... تسير إليّ من كل النواحي
ألا لله عرضٌ لي مصونٌ ... مقام المجد بالماء المباح
وقوله من طردية:
صرنا مع الصباح بالفهود ... مردفة فوق متون القود
قد وطئت توطئة المهود ... بالقطف والجلال واللبود
فهي كقوم فوقها قعود ... قد ألبست وشياً على الجلود
يخالها الناظر كالأسود ... تبكي لشبل ضائع فقيد
بأدمع على الخدود سود ... فقابلت مرادها في البيد
وقطعت حبائل المسود ... تفوت لحظ الناظر الحديد
ركضاً إلى اقتناص كل ورد ... فكم بها من هالك شهيد
منعفر الخدّ على الصعيد ... بنحسها نظلّ في السعود
جدنا بها، والجود بالموجود ... فكثرت ولائم الجنود
وشبّت النيران بالوقود
واخترت منه قوله في الغزل سامحه الله تعالى وعفا عنه:
سقاني سحراً خمره ... وقد لاحت لي النّثره
غزالٌ فاتن الطّرف ... مليح الوجه والطّرّه
أنا ملك وقد ملك ... ت قلبي صاحب الوفره
وقد زرفن صدغيه ... على أبهى من الزهره
فمن أسود في أبي ... ض في أحمر في صفره
إذا حاول أن يجه ... ل أو تبدو له نفره
أعان الشيخ إبليسٌ ... عليه فأتى مكره
وله في النكبة:
حتى متى نكبات الدهر تقصدني ... لا أستريح من الأحزان والفكر
إذا أقول مضى ما كنت أحذره ... من الزمان رماني الدهر بالغير
فحسبي الله في كلّ الأمور فقد ... بدّلت بعد صفاء العيش بالكدر
أبو العباس خسرو بن فيروز
بن ركن الدولة رحمهم الله تعالى
أنشدت له أبياتاً، تدل على فضل مستكثر من مثله، ولم يحضرني إلا هذه:أدر الكأس علينا ... أيّها الساقي لنطرب
من شمول مثل شمس ... في فم النّدمان تغرب
فحكت حين تجلّت ... قمراً يلثم كوكب
ورد خديه جنىً ... لكن الناطور عقرب
فإذا ما لدغت فال ... ريق درياق مجرّب
الباب الثاني
في ذكر المهلبي الوزير
وملح أخباره ونصوص فصوله وأشعاره
هو أبو محمد الحسن بن محمد، من ولد قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، كان من ارتفاع القدر، واتساع الصدر ونبل الهمة، وفيض الكف، وكرم الشيمة: على ما هو مذكور مشهور، وأيامه معروفة في وزارته لمعز الدولة، وتدبيره أمور العراق، وانبساط يده في الأموال، مع كونه غاية في الأدب والمحبة لأهله، وكان يترسل ترسلاً مليحاً، ويقول الشعر قولاً لطيفاً، يضرب بحسنه المثل، ولا يستحلي معه العسل، يغذي الروح، ويجلب الروح، كما قال بعض أهل العصر:بأبي من إذا أراد سراري ... عبرت لي أنفاسه عن عبير
وسباني ثغر كدر نظيم ... تحته منطق كدرٍّ نثير
وله طلعة كنيل الأماني ... أو كشعر المهلّبي الوزير
حدثني أبو بكر الخوارزمي وأبو نصر بن سهل بن المرزبان وأبو الحسن المصيصي، فدخل حديث بعضهم في بعض فزاد ونقص، قالوا: كانت حالة المهلبي الوزير قبل الاتصال بالسلطان حال ضعف وقلة، وكان يقاسي منها قذى عينه، وشجى صدره، فبينما هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له من أصحاب الجراب والمحراب، إلا أنه من أهل الآداب، إذ لقي في سفره نصباً، واشتهى اللحم، فلم يقدر على ثمنه، فقال ارتجالاً:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
ألا موتٌ لذيذ الطعم يأتي ... يخلّصني من العيش الكريه
إذا أبصرت قبراً من بعيد ... وددت لو آنني ممّا يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرٍّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد لحماً، فأسكن به قرمه وتحفظ الأبيات وتفارقا، وضرب الدهر ضرباته، حتى ترقت حالة المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة فقال:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرّقي
وأنالني ما ارتجى ... وأجار مما أتّقي
فلأصفحن عمّا أنا ... ه من الذنوب السبّق
حتى جنايته بما ... فعل المشيب بمفرقي
وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر، ثقل عليه بركه وهاضه عركه فقصد حضرته، وتوصل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتاً منها:
ألا قل للوزير فدته نفسي ... مقال مذكّر ما قد نسيهٍ:
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ ... ألا موتٌ يباع فأشتريه؟
فلما نظر فيها تذكره، وهزته أريحية الكرم، للحنين إليه، ورعاية حق الصحبة فيه، والجري على من قال:
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء " ثم دعا به وخلع عليه وقلده عملاً يرتفق به، ويرتزق منه. ونظير البيتين قول بعضهم:
قل للوزير أدام الله دولته ... أذكرتنا أدمنا، والخبز خشكار
إذ ليس في الباب بوّاب لدولتكم ... ولا حمار ولا في الشطّ طيّار
وحكى أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي قال: كان لمعز الدولة أبي الحسين غلام تركي يدعى تكين الجامدار أمرد، وضيء الوجه، منهمك في الشرب لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللعب واللهو، ولفرط ميل معز الدولة إليه وشدة إعجابه به، جعله رئيس سرية جردها لحرب بعض بني حمدان، وكان المهلبي يستظرفه ويستحسن صورته، ويرى أنه من عدد الهوى، لا من عدد الوغى، فمن قوله فيه:
ظبيٌ يرق الماء في ... وجناته ويرق عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
ناطوا بمعقد خصره ... سيفاً ومنطقة تؤوده
جعلوا قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده؟
فما كان بأسرع من أن كانت الدائرة على هذا القائد، وخرج الأمر على ما أشار به المهلبي.
ومما يستحسن في هذا المعنى قول ابن المعتز في وصف خادم:
عجبت لتأمير الرجال مقرطقاً ... ينوء بخصر في القباء هضيم
يذّكر عذاب الجيوش إذا بدا ... بخدّ كعابٍ أو بمقلة ريم
وذكر الصابي أن أبا عيينة المهلبي، الذي استفرغ نسيبه في صاحبته دنيا من عمومة الوزير، وكان المهلبي يحفظ أكثر أشعاره، ويتأسف على ما فاته من زمانه فمن قوله:
إنّي وصلت مفاخري بأبٍ ... حاز الفخار وطاول العليا
وأجاب داعيه وخلّفني ... وحديثه فكأنما يحيا
وتلوث عمّي في تغزّله ... وشربت ريّا من هوى ريا
فكأنّني هو في صبابته ... وكأنّه في حسنها دنيا
وقوله لما قلد الوزارة:
لقد ظفرت والحمد لله منيتي ... بما كنت أهوى في الجهارة والنجوى
وشارفت مجرى الشمس فيما ملكته ... من الأرض واستقررت في الرتبة العليا
وعاينت من شعر العييني خلّة ... تعاون فيها الطبع والمهجهة الحرا
فحركتني عرق الوشيجة والهوى ... لعمّي وأطت بي إلى الرّحم القربى
فيا حسرتي أن فات وقتي وقته ... ويا حسرة تمضي وتتبعها أخرى
يا فوز نفسي لو بلغت زمانه ... وبغيته دنيا وفي يدي الدنيا
فمكنته من أهل دنيا وأرضها ... ففاز بما يهوى وفوق الذي يهوى
ما أخرج من كتاب الروزنامجة للصاحب إلى ابن العميد مما يتعلق بملح أخبار المهلبي
فصل: وردت أدام الله عز مولانا العراق، فكان أول ما اتفق لي استدعاء مولاي الأستاذ أبي محمد أيده الله، وجمعه بين ندمائه من أهل الفضل وبيني. وكان الذي كلمني منهم شيخ ظريف خفيف الروح أديب، متقعر في كلامه لطيف يعرف بالقاضي ابن فريعة فإنه جاراني في مسائل خفتها تمنع من ذكرها وافتضاضها إلا أني استظرفت قوله في حشو كلامه هذا الذي أوردته الصافة عن الصافة، والكافة عن الكافة، والحافة عن الحافة، وله نوادر غريبة وملح عجيبة.
ومنها أن كهلاً تطايب بحضرة الأستاذ أبي محمد أيده الله سأله عن حد القفا مريداً تخجيله، فقال: هو ما اشتمل عليه جربانك، ومازحك فيه إخوانك، وباسطك فيه غلمانك، وأدبك عليه سلطانك، فهذه حدود أربعة.
فانصرفت وقد ورد الخبر بمضي أبي الفضل صاحب البريد رضي الله عنه ورحمه وأنسأ أجل مولانا ومد فيه، فساعدت القوم على الجلوس للتعزية عنه لما كان من الحال يعرف بيني وبينه:
صلة غدت في الناس وهي قطيعة ... عجباً وبرّ راح وهو جفاء
فما تمكنت أن جاءني رسول الأستاذ أبي محمد أيده الله يستدعيني فعرفته عذري وحسبته بعفيني، فعاودني بمن استحضرني فدخلت عليه وقد قعد للشرب فأكرهني عليه، ثم قال: أتعرف أحسن صنيعاً مني بك، وقد نقلتك عن واحرباه إلى واطرباه، وسمعت عنده خادمه المسمى سلافا، وهو يضرب بالطنبور ويجيد ويغني ويحسن، وفيه يقول وقد شربنا عنده سلافاً:
قد سمعنا وقد شربنا سلافاً ... وجمعنا بلطفه أوصافا
وشاهدت من حسن مجلسه وخفة روح أدبه وإنشاده للصنوبري وطبقته ما طاب به الوقت، وهشت له النفس، وشاكل ذلك رقة ذلك الهوى، وعذوبة ذلك اللمى: وكان فيما أنشدني لنفسه وقد علمه في بعض غلمانه:
خططّ مقوّمة ومفرق طُرّةٍ ... فكأنّ سنّة وجهه محراب
ورّيت في كشف الذي ألقى به ... فتعطّل النمّام والمغتاب
فانصرفت عنه وجعلت ألقاه في دار الإمارة، وهو على جملة من البر والتكرمة، حتى عرفت خروجه إلى بستان بالياسرية لم ير أحسن منه ولا أطيب من يومه فيه لا أني حضرته، ولكني حدثت بما أرى له فكتبت إليه شعراً:
قل للوزير أبي محمد الذي ... من دون محتده السّهى والفرقد
من إن سما هبط الزمان وريبه ... أو قام فالدهر المغالب يقعد
سقيتني مشمولة ذهبية ... كالنار في نور الزجاجة توقد
لما تخوّن صرف دهرٍ عارضِ ... صبري وقلبي مستهام مكمد
وفطمتني من بعدها عنها فقد ... أصبحت ذا حزن يقيم ويقعد
من أين لي مهما أردت الشرب عن ... دك يا أخا العلياء صبر يوجد
فاستطاب هذا الشعر وأعجب به، واستدعاني من غده، فحضرت وأبناء المنجم في مجلسه وقد أعدا قصيدتين في مدحه، فمنعها من النشيد لأحضره، فأنشد وجودا، وتمام هذه القصة في ذكر بني المنجم.
فصل من كتاب الروزنامجة
أيضا
ًقد حضرنا حجرة تعرف بحجرة الريحان، فيها حوض مستدير ينصب إليه الماء من دجلة بالدواليب، وقد مدت الستارة وفيها حسن العكبراوية فغنت
سلام أيها الملك اليماني ... لقد غلب على التداني
فطرب الأستاذ أبو محمد أيده الله تعالى بغنائها، واستعادها الصوت مراراً وأتبعته أبياتاً وهي:
تطوي المنازل عن حبيبك دائماً ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
هلا أقمت ولو على جمر الغضا ... قلّبت أو حدّ الحسام الصارم
وتبعتها جارية ابن مقلة، ولا غناء أطيب وأطرب وأحسن من غنائها فغنت بيتين للأستاذ وهما:
يا من له رتبٌ مم ... كنة القواعد في الفؤاد
أيحل أخذ الماء من ... متلهب الإحشاء صادي
ففتنت الجميع، ثم انبسطنا في الشرب، واشتغل في الشدو، وارتفع الأمر عن الضبط، والأصوات عن الحفظ، واتفقت في أثناء ذلك مذكرات، ومناشدات ومجاوبات، وافتراقنا.
فصل منه أيضاً
وعلى ذكر عكبرا حضرنا مع الأستاذ أبي محمد أيده الله تعالى بها فاستدعى دنا للوقت، وخماراً من الدير، وريحانا من ألحانه، واقترح غناء من الماخور، وأخذنا في فن من الانخلاع عجيب، بطريق من الاسترسال رحيب، ورسم أن يقول من حضر شيئاً في اليوم، فاستنظروا وركبت فرسي، فاتفقت أبيات لم تكن عندي مستحقة لأن تكتب أو تسمع، لكن رضاء القوم جمل لدي صورتها، ولو لا حذري من توبيخ مولانا لطويتها:
تركت لسافي الريح بانة عرعرا ... وزرت لصافي الراح حانة عكبرا
وقلت لعلج يعبد الخمر زفّها ... مشعشعة قد شاهدت عصر قيصرا
فناولنيها لو تفرّق نورها ... على الدهر نال الليل منها تحيّرا
وأوسعني آساً وورداً ونرجساً ... وأحضرني ناياً وطبلاً ومزهرا
هنالك أعطيت البطالة حقّها ... وألقيت هتك الستر مجداً ومفخرا
كأنّي الصبا جرياً إلى حومة الصبا ... أناغي صبياً من جلندا مزنّرا
فعانقته والراح قد عقرت بنا ... فكررت تقبيلاً وقد أقبل الكرى
وصدّ عن المعنى النعاس وصادني ... إلى أن تصدى الصبح يلمع مسفرا
وهبت شمال نظّمت شمل بغيتي ... فطارت بها عني الشمول تطيّرا
فكان الذي لو لا الحياء أذعته ... ولا خير في عيش الفتى إن تسترا
فصل أيضاً منه: وحضرت الأستاذ أبا محمد أيده الله تعالى في منظرة له على دجلة تنفتح منها أبواب إلى بساتين، فعمل بيتين صنعا في الوقت وغنى بهما، وهما
لئن عرفت جريراً ... أو اعتمدت قطيعاً
فلا ظفرت بعاص ... ولا أطعت المطيعا
والبيت الأول يحتاج إلى تفسير، فالمراد بالجرير جريرة وبالقطيع قطيعة وأنفذ الأستاذ أبو محمد أيده الله ليلة وقد مضى الثلث منها فاستدعاني، وقاد دابة نوبته كي لا أتأخر انتظاراً لدابتي، فمضيت وألفيته قد انتهى من بستانه الكبير إلى مصبها من دجلة على ميادين ريحان نضرة، فاستحسن الموضع وقعد فيه يشرب مع خدمه: أبي الكأس، وسلاف، وأبي المدام، وشراب، وخندريس وشمول، وراح. وأمر فنصب نحو مائة شمعة في أصول تلك الميادين صغيرة وقعدت فغنى سلاف:
يا شقيق النفس من حكم ... نمت عن ليلي ولم أنم
فقال الأستاذ: بل غن:
يا شقيق النفس من خدمي ... لم ينم ليلي ولم أنم
غنني من شعر ذي حكم ... يا شقيق النفس من حكم
ولم نزل نشرب الراح إلى أن باح الصبح بسره، وقام كل منا يتعثر في سكره.
؟ما أخرج من شعره في وصف كتب ابن العميد فمن ذلك قوله:
ورد الكتاب مبشراً ... قلبي بأضعاف السرور
ففضضته فوجدته ... ليلاً على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظٍ كالثغو ... ر كالعقود على النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
وقوله:
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى للقاء يبدو الصباح
ذاك إن تمّ لي فقد عذب العي ... ش ونيل المنى وريش الجناح
وقوله:
وصل الكتاب طليعة الوصل ... بغرائب الإفضال والفضل
فشكرته شكر الفقير إذا ... أغناه ربّ المجد بالبذل
وحفظته حفظ الأسير وقد ... ورد الأمان له من القتل
وقوله:
ورد الكتاب فديته من وارد ... فله قلبي من حياتي مورد
فرأيت درّاً عقده منتظمٌ ... في كلّ فصل منه فصلٌ مفرد
ما أخرج من فصوله المردفة بأبيات الشعر فصل: رأيته فصيح الإشارة، لطيف العبارة:
إذا اختصر المعنى فشربة حائمٍ ... وإن رام إسهابا أتى الفيض بالمدّ
فصل: قد نظرته فرأيته جسماً معتدلاً، وفهماً مشتعلاً:
ونفساً تفيض كفيض الغمام ... وظرفاً يناسب صفو المدام
فصل: قد عمهم بنعمه، وغمرهم بشيمه:
وغزاهم بسوابغ من فضله ... جعلت جماجمهم بطائن نعله
فصل: كأن قلبه عين، وكأن جسمه سمع:
وكأنّ فطنته شهابٌ ثاقبٌ ... وكأن نقد الحدس منه يقين
فصل: قد لاقت مناهجة، وراقت مباهجه:
وقصر يوم الضيف عندي وليلة ال ... شتاء سرور منه رفرف طائرة
فصل: قد اغتيل كمينه، واجتيح عرينه:
ودارت عليه رحى وقعة ... تظلّ الحجارة فيها طحينا
فصل: قد أدبته بزجرك، وهذبته بهجرك:
وإن لمست منه بعاد معاده ... وعصر جفاه الشرب أن يتعهدا
فصل: قد ضيعه الجملة، ومنعه المهلة:
وأصلاه حرّ جحيم الحدي ... د تحت دخان من القسطل
فصل: مضطرب اللسان، منتقض البيان:
قليل مجال الرأي فيما ينوبه ... نزول على حكم النوى والتودع
فصل: من تعرض للمصاعب، فليتثبت للمصائب:
ومن خاف أن الهمّ يملك نفسه ... فأولى به ترك العلا والجسائم
فصل: وصلة متينة، وقاعدة مكينة:
وأرحام ودّ دونها الرحم التي ... تدانت وجلت أن يطول بها الظنّ
فصل: إنه جريح سيفك، وطريح حيفك:
ومن إن تلافاه رضاك أعاشه ... ومن موته إن دام سخطك حائن
فصل: قد كثرت فتوقه، واتسعت خروقه:
وفات مداواة التلافي فساده ... وأعيت دلالات الخبير بكاهله
فصل: قد خبا قبسه، وكبا فرسه:
وصبا ذووه إلى جناب عدوه ... وتقطعت أقرانه وعلائقه
فصل: ربما وفي ضنين، وهفا أمين:
فللرجل الوافي جميل جزائه ... وللناصح الهافي جميل التجاوز
فصل: قد حل بربع مأنوس، وملك محروس:
يد؟ّبره ملكٌ ماهرٌ ... بهضم القويّ وجبر الضعيف
فصل: لئن فخر بعز لم يحضره، وبيت لم يعمره:
فإن عصير الثمار الثجير ... وإن نفيّ الحديد الخبث
فصل: قتل الإنسان ظلم، وقتل قاتله حكم:
والسيف يبدي الجور في حالة ... ويبذل الإنصاف في أخرى
فصل: استقر بساحة خضرة، واستبد بعيشة نضرة:
وغدا ابن دأبة عندهم كمهاً ... وابتزّ سوق صياحه خرس
فصل: عادل المكيال، وازن المثقال:
يجير على سلطانه حكم دينه ... ويبعد في حق البعيد أقاربه
فصل: فاتهم بشدة تجهمهم وسرعة تهجمهم:
تركوا مكيدة والكمين لجهرهم ... والنبل والأرماح للأسياف
فصل: قد علقت منه بحبل منهوك، وستر مهتوك:
وقلب شديد لا يلين لخلّة ... ولا يتلافاه الرّقى والتلطّف
فصل: أوحشت عني إبعاداً لك، وانعطافاً عنك:
وهل يباعد عذب الماء ذو غصصٍ ... أو ينثني عن لذيذ الزاد منهوم
ما أخرج من فصوله المجردة من أبيات الشعر وانخرط بعضه في سلك كتابي المترجم بسحر البلاغة
القلب لا يملك بالمخاتلة، ولا يدرك بالمجادلة، له أنعام كثيرة الشهود، وأفضال غزيرة المدود. لم يعلم في أي حتف تورط، وأي شر تأبط، محامد أقر بها الراضي والغضبان، وأوضحها الدليل والبرهان. كيس البيع رابح الشراء، حسن الأخذ والعطاء. يؤذي صدره ويمنعه من النفث، ويجرح خاطره ويعوقه عن العبث. لما أجاب أطاب. وتفسح في رحاب الصواب. قد ألنت عريكة الدهر له، وكففت غرب الزمان عنه. يفور غيظاً، ويتميز حقداً، ويتلظى غضباً، ويزيد حنقاً. قد قام بيني وبين وصلك حاجز من فعلك، قد ابتذلت جديد وده، واستحللت حرام صده. من حنث في أيمانه، وأخل بأمانته، فإنما ينكث على نفسه، حلف يمين بر شهد بها تصديقي، واستيقنتها نفسي، قد ترامت به البلدان والأسفار، ونبت عنه الأوطان والأوطار، وضاقت به الأعطان والأقطار. تركت قلبه طافحاً بوجده، ودمعه سافحاً على خده لو سالمه الأسد رام ظلمه، أو خاشنه الضر طلب سلمه قد أمرته أن يجعل رأيك سراجه، ورسمك منهاجه، قد شربت وشلا من وده، ولبست سملاً من عهده، لأكشفنه لكل ليل بارد، ونهار واقد، اكفف عن لحم يكسبك بشما وفعل يعقبك ندما. مستثقل من كراه، ثمل من عناه طرقني ثناء ما تتلقى شفتاي بذكره، ولا يثبت بالي لخطره لست غفلاً عن الدهر فتنكر نوائبه، ولا مطيقاً له فتدفع مصائبه. قد تناسخت الأيام قواه، وشذبت الحوادث هواه. تبدى وجه المطابق والموافق، وتخفى نظر المسارق المنافق، لو أن البرق فطنته، والريح جنبته، والسد سوره، لتغشاه حسبي، واستخرجه طلبي، ولما خذلته أنصاره، وقطعته أرحامه، وقعدت عنه أشياعه، أوليته من حمايتي عضداً. ومن عنايتي مدداً، وجدته أمد يداً من باعه، وأبسط قعوداً من قيامه، مكن موضع رجلك قبل مشيك. وتأمل عاقبة فعلك قبل سعيك. عصارة لؤم في قرارة خبث، غصن مهصور بالموت، معصور بالتراب، قد خفف همه بالشكوى، وحل حزنه بالبكاء كما حذيت النعل بالنعل ، وقد الشراك على المثل، يعدل عن النص إلى الخرص، وعن الحس إلى الهجس. في حكمه صارم فصل، وفي يده خاتم عدل، سديد المذاهب، سعيد المناقب، نجيح المطالب. دلاه في خطر، وأسلمه إلى غرر. لا زلت في إقامة ممهدة الحشايا. وحركة وطيئة المطايا. دفعه إلى شفير، وأطلعه على حقير، استدعى حضوري خالياً، واستدنى مجلسي مكرماً، واستوفى مقالي مصغياً، وأعطاني معروفه مسمحاً، ونزل على مسألتي مسهلاً، وقضى حاجتي مجملاً، وصرفني بالنجاح عجلاً، طيب المغرس، زاكي المنبت، نضير المنشأ، رفيع الفرع، لذيذ الثمر. متقلب بين استقبال شباب، واستقلال حال. وشرخ قصف، وفتاء ظرف. وجدت فيه مصطنعاً، وبه مستمتعاً، قد وفر همّه على مطعم يجودة. ومرقد يمهده، أنا أتذمم من استئصال مثلك، وأهب جرمك لفضلك. من ضاف الأسد قراه أظفاره، ومن حرك الدهر أراه اقتداره، وجدت فيه مع علو سنه، وأخذ الأيام من جسمه بقية حسنة. ومتعة حلوة، التصرف أسنى وأعلى، والتسيم أعفى وأصفى، ومهما اخترت من الأمرين أمراً فعنايتي تحرسك فيه، ونظري يمكنك منه، لو لم يكن في تهجين الرأي المفرد، وتبيين عجز التدبير الأوحد، إلا أن الأستلقاح - وهو أصل كل شيء - لا يكن إلا بين اثنين وأكثر الطيبات أقسام تجمع وأوصاف تؤلف ما أخرج من شعره في جاريته تجني من ذلك قوله:
مرّت فلم تثن طرفها تيها ... يحسدها الغصن في تثنيها
تلك تجني التي جننت بها ... أعاذني الله من تجنّيا
وقوله:
ربّ ليل لبست فيه التصابي ... وخلعت العذار والعذل عنّي
في محلّ يحلّه لذّة العي ... ش ويجني سروره من تجني
وقوله:
لي صديق في ودّه لي صدوق ... وبرعي الحقوق مني حقيق
يا تجّني كتمت ثم بدا لي ... أنت ذاك الصديق لي والرفيق
كلّما سرت من فراقك ميلاً ... مال من مهجتي إليك فريق
فحياتي مصروفة في طريق ... للمنايا عليّ فيها طروق
وقوله:
منيّةٌ سابقت ورود البشير ... وموافٍ أوفى على التقدير
يا عروساً زفت إليّ فأهدي ... ت إليها رقى المكان المهور
بالتملّي وبالرجا والسرور ... يا حياتي والمنزل المعمور
قد لعمري وفيت لي وسأجزي ... ك وفاءً بالشرط بعد النذور
وقوله:
لقد واظبت نفسي على الحب في الهوى ... بإنسانة ترعى الهوى وتواظب
صفا لي العيش والشيب شامل ... كما كان يصفو والشباب مصاحب
ما أخرج من شعره في الغزل وغيره فمن ذلك قوله:
أراني الله وجهك كلّ يوم ... صباحاً للتيمن والسرور
وأمتع ناظري بصحيفتيه ... لأقرا الحسن من تلك السطور
وقوله:
يا منى نفسي ويا حس ... بي من حسن وطيب
سابقي بالوصل موتي ... أو مشيبي ومغيبي
فهو للفتيان في الدن ... يا بمرصاد قريب
وله في غلام اسمه غريب
رعى الرحمن قوماً ملّكوني ... رشا قصير بلغت به المرادا
وسمّوه مع القربى غريباً ... كنور العين سمّوه سوادا
وقوله:
رب ليل قطعت فيه خماري ... بغزال كأنه مخمور
ومصاد سرحت فيه ونصر ... بازيازي مظفر منصور
بصقور مثل النجوم إذا انقض ... ت وعصف كأنّهن صقور
وقوله:
الورد بين مضمخ ومضرج ... والزهر بين مكلل ومتوج
والثلج يهبط كالنثار فقم بنا ... نلتذ بابنة كرمة لم تمزج
طلع النهار ولاح نور شقائق ... وبدت سطور الورد تلو بنفسج
فكأن يومك في غلالة فضة ... والنبت من ذهب على فيروزج
وقوله:
يوم كأن سماؤه ... شبه الحصان الأبرشِ
وكأنّ زهرة روضه ... فرشت بأحسن مفرش
فسماؤه دكن الخزو ... ز وأرضه خضر الوشي
كأنه أخذه من قول ابن الرومي:
يومنا للنديم يوم سرور ... والتذاذ ونعمة وابتهاج
ذو سماء كأدكن الخزّ قد غي ... مت وأرض كأخضر الديباج
وقوله:
يا هلالاً يبدو فيزداد شوقي ... وهزاراً يرنو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقي
وقوله:
ألا يا منى نفسي وإن كنت حتفها ... ومعناي في سريّ ومغزاي في جهري
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلاّ على عبرة وتجري
وقوله:
يا شادناً جدّد حبّي له ... من بعد حبّ سالف ساجي
بلحية قد أوصلت جمّةً ... مثل اتصال الطوق بالتاج
وله في غلام ناقه من علته:
نهض العليل فقلت حي ... ن بدا كغصن مائل
طلع الهلال لليلة ... بضياء بدر كامل
وقوله:
قال لي من أحب والبين قد بدّ ... د دمعي مواصلاً للشهيق:
ما الذي في الطريق تصنع بعدي؟ ... قلت: أبكي عليك طول الطريق
وقوله:
لو لا تسليّ بارتكاضي ... في البعد والقرب والتلاقي
ودفعي الهم بالأماني ... فارقت روحي مع الفراق
وقوله:
ينأى فأشتط وأنوي له ... تنقص الداني على النائي
حتى إذا أبصرته ذبت في ... يديه ذوب الملح في الماء
وقوله:
ولي حبيب ألوذ فيه بأو ... صاف وفحواه فوق ما أصف
كالبدر يعلو والشمس تشرق وال ... غزال يعطو والغصن ينعطف
وقوله:
إن كنت أزمعت الرحي ... ل فإن عزمي في الرحيل
أو كنت قاطنة أقم ... ت وإن منعت لذيذ سولي
كالنجم يصحب في المسي ... ر ولا يزول لدى النزول
أخذه من قول أبي تمام:
كالنجم إن سافرت كان مواكباً ... وإذا حططت الرحل كان جليساً
وقوله:
عزمي وعزم عصابة ركاضة ... موصولة الإلجام بالإسراج
كالنبل عامدة إلى أهدافها ... والطير قاصدة إلى الأبراج
وقوله:
وذي حاسد ولو حلّ بي ما يريده ... لأصبح مفجوعاً بفيض بناني
ولم أعطه جهلاً ولكن سحائبي ... تهمّ ذوي الإخلاص والشّنان
وقوله لأبي إسحاق الصابي
بّرد مصيفك وافرشه بميثرة ... فإنّني لمقام الخلّ أرتحل
الذاكري وإن أضحي ويعجبني ... أن تستريح وأن تكتنّك الظلل
وقوله:
أوفي كلا وقتي قسط تأله ... وقسط هوىً لا يستمر لمحرم
ولذّة وجدي من لذاذة مطربي ... أسرّ إلى نفسي وأعذب في فمي
وقوله:
يا عارفاً بالداء مطّ ... رح السؤال عن الدواء
العلم عندي كالغذا ... ء فهل تعيش بلا غذاء
وقوله:
لو توسطت إذاً لم تترك ... وكففت القلب عن بعض الأرب
كان أرجى لك في العقبى من أن ... تملأ الدلو إلى عقد الكرب
وقوله:
هب البعث لم يأتينا نذره ... وجماحة النار لم تضرم
أليس بكاف لذي فكرة ... حياء المسيء من المنعم؟
وقوله:
يا من يسرّ بلذة الدنيا ... ويظنّها خلقت لما يهوى
لا تكذبن فإنّها خلقت ... لينال زاهدها بها الأخرى
وقوله:
بعثت إلى ربّ البرايا رسالةً ... توسل لي منها دعاء مناصح
فجاء جوابي بالإجابة وانجلت ... بها كرب ضاقت بهنّ الجوانح
الباب الثالث
في ذكر أبي إسحاق الصابي
ومحاسن كلامه
هو إبراهيم بن هلال بن هرون الصابي الحراني. أوحد العراق في البلاغة، ومن به تثنى الخناصر في الكتابة، وتتفق الشهادات له ببلوغ الغاية، من البارعة والصناعة، وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء، وخلافة الوزراء، وتقلد الأعمال الجلائل، مع ديوان الرسائل، وحلب الدهر أشطره، وذاق حلوه ومره. ولابس خيره، ومارس شره، ورئس وأس، وخدم وخدم، ومدحه شعراء العراق في جملة الرؤساء وسار ذكره في الآفاق، ودوّن له من الكلام البهي النقي ما تتناثر درره، وتتكاثر غرره، وفيه يقول بعض أله العصر:أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرزٍ ... كتبت بدائعه على الأحداق
ويقول بعض أهل العصر فيه أيضاً:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لو لا تعلّله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعره كشاجم
ويحكى أن الخلفاء والملوك والوزراء أرادوه على الإسلام، أداروه بكل حيلة، وتمنية جليلة، حتى إن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة إن أسلم، فلم يهده الله تعالى للإسلام، كما هداه لمحاسن الكلام، وكان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر على أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه، وسن قلمه، وبرهان ذلك ما أوردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيه كل الإحسان، وحلاها بآي من القرآن.
سمعت أبا منصور سعيد بن أحمد البريدي ببخارى يقول: إن أبا إسحاق الصابي، كان من نساك أهل دينه والمتشددين في ديانته، وفي محاماته على مذهبه وتصونه عما يدعو إليه الهوى:
حمتني لذاتي رتب المعالي ... وضّني بالمروءة والوقار
ودينٌ ضاق فيه مجال فتكي ... لخوف عقوبة وحذار نار
فوا شوقاً إلى خلع العذار ... وفعلي ما أريد بلا اعتذار
ويا لهفي على حلّ الإزار ... صريعاً بين سكر أو خمار
وحدثني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: بلغني أن الصابي حضر يوماً مائدة المهلبي، فامتنع عن الأكل، لباقلاء كانت عليها، لأنه محرم على الصابئة كيفما كان من السمك ولحم الخنزير ولحم الجمل وفراخ الحمام والجراد، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء، فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فاستحسن ذلك منه.
وكان أبو إسحاق في أيام شبابه واقتباله أحسن حالاً، وأرخى بالاً منه في أيام استكماله وزمن اكتهاله، وأورى زنداً وأسعد جداً منه حين مسه الكبر، وأخذ منه الهرم، في ذلك يقول:
عجباً لحظي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب، وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان حتى ملّني ... شيخاً وكان على صباي مصاحبي؟
أمع التضعضع ملّني متجنّباً ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة في فنها فريدة كتب بها إلى الصاحب، يشكو فيها بثه وحزنه ويستمطر سحابه، بعد أن كان يخاطبه بالكاف ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبي لا يرى إلا به الدنيا، ويحن إلى براعته وتقدم قدمه، ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه. فلما توفي المهلبي وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل والخلافة مع ديوان الوزارة، اعتقل في جملة أعمال المهلبي، فمن قوله في ذلك الاعتقال من قصيدة:
يا أيها الرؤساء، دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حسبي وطول تهددي ووعيدي؟
قلّدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد؟
أعليّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي؟
أنسيتم كتباً شحنت فصولها ... بفصول درّ عندكم منضود؟
ورسائلا نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهنّ غير حميد
يهتز سامعهن من طرب كما ... هزّ النديم سماع ضرب العود
أنا بين إخوان لنا قد أوثقوا ... بسلاسل وجوامع وقيود
وموكلين بنا نذل لعزّهم ... فكأننا لهم عبيد عبيد
والله ما سمع الأنام ولا رأوا ... نقداً توكل قبلهم بأسود
من كلّ حر ماجد صنديد ... في كل وغد عاجز رعديد
قصرت خطاه خلاخل من قيده ... فتراه فيها كالفتاة الرود
يمشي الهوينا ذلّة لا عزة ... مشي النزيف الخائف المزءود
فتفضلوا وتعطّفوا وهبوا لنا ... عفواً قديم حفائظ وحقود
وتعلموا أن الولاية عندكم ... عارية ليست بذات خلود
وسأجعل لأخوات هذه الأبيات مما قاله في هذا الاعتقال وغيره فصلاً في جملة الفصول، من غرر شعره.
ولما خلي عنه وأعيد إلى عمله لم يزل يطير ويقع وينخفض ويرتفع إلى أن دفع في أيام عضد الدولة إلى النكبة العظمى والطامة الكبرى. إذ كانت في صدره حزازة كبيرة، من إنشاءات له عن الخليفة الطائع في شأن عز الدولة بختيار نقمها منه، واحتقدها عليه.
حدثني أبو منصور سعيد بن أحمد البريدي وأبو طاهر محمد بن عبد الصمد الكاتب، قالا: كان من أقوى أسباب تغير عضد الدولة لأبي إسحاق بعد ميله إليه وضنه به فصل من كتاب أنشأه عن الخليفة في شأن بختيار، وهو: وقد جدد له أمير المؤمنين مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوابق التي تلزم كل دان وقاص، وعام وخاص. أن يعرف له حق ما كرم به منها ويتزحزح عن رتبة المماثلة فيها، فإنه أنكر عليه هذه اللفظة أشد إنكار؟ ولم يشك في التعريض به، وأسرها في نفسه إلى أن ملك بغداد، وسائر بلاد العراق، وأمر أبا إسحاق بتأليف كتاب في أخبار الدولة الديلمية، يشتمل على ذكر قديمه وحديثه، وشرح سيره وحروبه وفتوحه، فامتثل أمره وافتتح كتابه المترجم بالتاجي الذي تقدم ذكره، فاشتغل في منزله به، وأخذ يتأنق في تصنيفه وترصيفه، وينفق من روحه على تقريظه وتشنيفه، فرفع إلى عضد الدولة أن صديقاً للصابي دخل عليه يوماً فرآه في شغل شاغل من التعليق والتسويد والتبديل والتبيض، فسأله عما يعمله من ذلك فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها، فأنضاف تأثير هذه الكلمة في قلب عضد الدولة إلى ما كان في قلبه من أبي إسحاق. وحرك من ضغنه الساكن، وأثار من سخطه الكامن، فأمر بأن يلقى تحت أرجل الفيلة. فأكب نصر بن هرون ومطهر بن عبد الله وعبد العزيز بن يوسف على الأرض يقبلونها بين يديه، ويستشفعون إليه في أمره، ويتلطفون في استيهاب دمه، إلى أن أمر باستيحائه مع القبض عليه وعلى أشيائه واستئصال أمواله، فبقي في ذلك الاعتقال بضع سنين إلى أن تخلص في آخر أيام عضد الدولة، وقد رزحت خاله وتهتك ستره. وكان الصاحب يحبه أشد حب ويتعصب له ويتعهده على بعد الدار بالمنح، وأبو إسحاق يخدم حضرته بالمدح.
وقرأت له فصلاً من كتاب في ذر صلة وصلت منه إليه استظرفته جداً، وهو: ورد - أطال الله تعالى بقاء سيدنا ومولانا - أبو العباس أحمد بن الحسين وأبو محمد جعفر بن شعيب حاجين، فعرجا إلى ملمين، وعاجا على مسلمين، فحين عرفتهما، وقبل أن أرد السلام عليهما، مددت اليد إليهما، كما مدها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم ثقة مني بصلته، وتشوقاً إلى تكرمته واعتياداً لإحسانه، وإلفاً لموارد إنعامه، وتيقنا أن خطوري بباله، مقرون بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي مشفوعة بجدواه، وقمت عند ذلك قائماً، وقبلت الأرض ساجداً، وكررت الدعاء والثناء مجتهداً، وسألت الله تعالى أن يطيل له البقاء، كطول يده بالعطاء، ويمد له في العمر، كامتداد ظله على الحر. وأن يحرس هذا البدد، وأفاء عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه، وأعذبه لهم من شرائعه، التي هم محلئون إلا عنها، ومحرومون إلا منها.
وله رسائل وقصائد كثيرة إليه، وقد أودعت هذا الكتاب شرطة منها.
وبلغني أن الصاحب كان يتمنى انحيازه إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك إما تشوقاً أو تفوقاً، وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلة، وسوء أثر العطلة، ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب بعد كونه من نظرائه وتحليه بالرياسة في أيامه.
وأخبرني ثقات منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب، أنه كثيراً ما كان يقول: كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع، يعني نفسه، وأما الترجيح بين هذين الصدرين - أعني الصاحب والصابي - في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون. وأخب فيه المخبون ومن أشفي ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب ما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد. وكيف جرى الأمر فهماً هما وقد وقف فلك البلاغة بعدهما.
وأنا كاتب أنموذجاً من فصوص فصول الصابي وفرائد قلائده، ومقف على أثره بما فصلته من غرر أشعاره والمشتملة على بدائع معانيه بمشيئة الله تعالى وإذنه.
فصل من كتابه الى عضد الدولة
فصل له من كتاب إلى عضد الدولة في التهنئة بتحويل سنة أسأل اله تعلى مبتهلاً لديه، أن يحيل على مولانا هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات، وبالزائدات الغامرات، ليكون كل دهر يستقبله وأمد يستأنفه موفياً على المتقدم يه، قاصراً على المتاجر، ويوفيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزاً منصوراً محمياً موفوراً باسطاً يده، فلا قبضها إلى على نواصي أعداء وحساد، سامياً طرفه، فلا يغضه إلا على لذة غمض وقاد. مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عز وملك فائزة قداحة فلا بجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما تتوجه إليه أمنيته جامحاً، وتسمو له همته طامحاً.فصل من كتاب عن بختيار إلى مؤيد الدولة لما قبض على أبي الفتح بن العميد
ذي الكفايتين في الشفاعة لهوهذا غلام أفسدته سجية ركن الدولة الشريفة في شدة الاحتمال، والصبر على الإدلال، واجتمع له إلى التقلب في نعمة حازها حيازة وارث لها، لم يكدح في تأثيلها، ولا مسه النصب في تثميرها، ولا اهتدى إلى طريق استيفائها، ولا تحزن من طرق دواعي انتقالها، ومن ألزم اللوازم في حكم الرعاية أن نحفظه من سكر نعمة نحن سقيناه بكأسها، وأن نعذره عند هفوة قد شاركناه في إيجاد أسبابها. وأن تكون نفسه محروسة والبقية من حالة يعد أخذ فضلها المفسد له متروكة، وأن يتحدث الناس بأن سيدي الأمير أصاب غرض الحزم بالقبض عليه، ثم طبق مفصل الكرم في التجاوز عنه.
فصل عنه إلى أبي تغلب في الشفاعة لأخ له
وقد يكون لعمري من ذوي الأرحام الشابكة، والقرابات الدانية، من يتمادى في العقوق، ويذهب عن حفظ الحقوق، ولا يسع ترك تألفه حتى يرجع، واستصلاحه حتى ينزع، فإن تجشم الإعراض عنه لرياضة تقصد، أو عاقبة نفع تحمد، لم يبلغ به إلى قطع المعيشة، ومنع المادة، لأن قباحة ذلك بمن يستعمله أكثر من مضرته بمن يعمل معه، وقد قيل إن الملوك تؤدب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان، هذا في الاتباع والأصحاب، فكيف في الأقران والأتراب؟فصل عن نفسه إلى عبد العزيز بن يوسف
كتب الأتباع محتاجة عند الملوك إلى قائد يطرق ويمهد لها. وسائق يشيع ويحدو بها، وناصح يعضدها في متضمناتها، ويشفع لها في ملتمساتها، ويعتمد بعرضها في أوقات الفراغ والنشاط. وأحيان الخلوة والانبساط.
فصل عن بختيار إلى أبي تغلب في ذكر فرس أهداه إليه
أما الفرس الذي سألت إيثارك به، فقد تقدمنا بقوده إليك، والله تعالى يبارك لك فيه، ويجعل الخير معقد ناصيته، والإقبال غرة وجهه. وإدراك المطالب تحجيل قوائمه، ونيل الأماني طلق شده، وفتح الفتوح غاية شأوه. وسلامة العواقب مثنى عنانه.فصل عن نفسه إلى صدق له منجم يسأله الحكم عن تحويل سنته
ما أحوج من حالي حاله إلى تفضل منك عائد بعد باد، وتال بعد ماض، وبالحكم على السنة المستقبلة التي تصل زايرجتها درج هذا الكتاب، مستقصياً له ومدققاً فيه ومتوفراً عليه، ومتوصلاً إلى استنباء دفينه واستثارة كمينه، والإفصاح بكلياته وجزئياته، غير مغرق في تفخيم ما يلوح من السعادة سهلها الله تعالى. كيلا أتوقع منها أكثر من حدها، ولا مقتصراً في الإنذار بالمنحسة صرفها الله تعالى، لئلا أكون كالغافل الذاهل عنها. فإن ثمرة هذه الصناعة هي تقدمة المعرفة بما يكون، والاستعداد له بما يمكن. ولا أقول إن ذلك يؤدي إلى دفع مقدور نازل ، ولا معارضة محتوم حاصل، ولكني أقول: ربما كان من سعادة السعيد أن يعلم هذا الأمر فيتصدى لحيازة ما يجب، ويتوقى حلول ما يكره، وربما كان من منحسة المنحوس أن يجهله فيكون كالمسلوب بصره وسمعه، الذي لا يرى فيتحفظ، ولا يسمع فيتيقظ. وكلا الأمرين لسابق قضاء الله تعالى موافق، ولمتقدم علمه مطابق. وإنما ذكرت ذلك استظهاراً لنفسي إن تعداك كتابي إلى غيرك، ممن لا يهتدى للجمع بين الأمرين، والتعلق منهما بالعروتين، فيظن أن المراعي لأحدهما مخل بالآخر، وعندي أن الفاصل بينهما لا يخلو من أن يكون ناقص الحظوظ في أدبه، أو ناقص اليقين في دينه. وأنت ولي ما تفضل به في ذلك معتمد تقديمه، ونترك تأخيره، إذ للنفس راحة في تيسير المنتظرات، وعليها في أن تتمادى بها الأوقات، على أن ظني بك الإيثار لما أثرت، والتحرز مما حاذرت.فصل من رسالة عن صديق في الخطبة
و لو لم للخاطب إلى المخطوب إليه سبب غير ابتدائه إياه بالثقة، والتماس المشابكة، ورضاه به شريكاً مفوضاً في الولد واللحمة والحال والنعمة لكفاه وأجزأه، وأغناه عن كل ما سواه، حتى أنه لو خطب إلى زاهد لوجب عليه أن يرغب أو إلى معتاص للزمه أن ينقاد، لأن هذا المطلب إذا صدر عن الأحرار إلى الأحرار استهجن الرد عنه، والمقابلة له بضده، فكيف وقد انتظمت بيننا دواعي الإجابة، وارتفعت عن المدافعة؟ بالله جهد المقسم أن والدي أيدهما الله تعالى يسومانني التأهل منذ سنين كثيرة، فأحمل نفسي على التقاعس عما آثره مع ما افترض على من طاعتها اشتطاطا مني في شرائط أحببت أن تجتمع لي في الخبيئة التي أواصلها، وقلما تتكامل إلا فيمن طهر الله أصله، وجمل أمره وأظهر فضله. وقد دعاني بالدعاء إلى ذلك كثير من الرؤساء الأكابر وذوي الأخطار والأفاضل. بفارس والبصرة وبغداد، فامتنعت من أجل شذوذ بعض شرائطي عليهم، حتى إذا أوجدنيها الله في جهتك الجليلة، وجمعها لي في منازلك المصونة، بعثتني البواعث وحفزتني الحوافز إلى أن يتألف بيننا الشمل، ويتصل بنا الحبل، فكتبت إليك هذه الرقعة خاطباً إليك كريمتك فلانة، على أن أكون لها كالجفن الواقي لمقلته، والصدري الحاوي لمهجته، ولك كالولد المطيع لأبيه، ولأخيها كالأخ المعاضد لأخيه، فإن رأيت يا سيدي أن تتأمل ما كتبت به من هذه الجملة، وتسمع من موصلها ما تجمله عني من تفصيلها، وتتوخى بإجابتي إلى ما سألت تحقيق ظني، وتصديق أملي، فعلت إن شاء الله.؟
فصل من عهد للخليفة إلى قاض
وأمره أن يجلس للخصوم، وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حد من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده.فصل في ذكر تقليد المطيع ابنه الطائع ما كان إليه من الخلافة
ولما صار في السن العليا، والعلة العظمى، بحيث يحرج أن تقيم معه على إمامة قد كل عن تحمل كلها، وضعف عن النهوض بعبئها وحملها، خلع ذلك السربال على أمير المؤمنين الطائع لله، خلع الناض إليه، والمسلم عليه.
؟
فصل عن بختيار إلى عضد الدولة في التأليف.
وإن من أعظم محن هذا البيت، أن تزول منابت فروعه عن منابت أصوله، وأن تؤتى مراسي أوتاده من ذوائب عروشه، وأن تدب بينهم عقارب المشاحنة، وتسري إليهم أراقم المناقشة. وتنبث الدواهي فيهم من ذاتهم، وقد كانت محسومة من أضدادهم وعداتهم.فصل إلى صديق له في الشكوى والاستماحة
ولما صارت صروف الدهر على بعد التطريف، وتجحف بي بعد التحييف. وصادف ما يجدد علي في هذا الوقت منها أشلاء مني منهوكة، وأعظماً مبرية، وحشاشة مشفية، وبقية مودية. جعلت اختبار الجهات، واغتنام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل. وكان سيدي أولها إذا عددت، وأولاها إذا اعتمدت. وكتبت كتابي هذا بيد يكاد وجهي يتظلم منها إذا تخطه، إشفاقاً على مائة مما يريقه، لولا الثقة أنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمها ولا يقذيها.فصل في مثله
ولما أناخت النكبة من حالي على طلل قفر، وبلقع صفر، وعون المغارم أثقل وطأة من أبكارها، وأبغ تأثيراً في ثلمها وإضرارها. فقد أضطرني إلى تجشم ما كنت أجمه من نداه، والتعرض لما كنت أدخره من جدواه. وإنما تخرج الكرائم وتبذل النفائس من تزايد الضغطة، وتضايق الخطة.فصل في ذكر الأقدار
لله تعالى أقدار في أوقاتها، وقضايا تجري إلى غاياتها، لا يرد شيء منها عن شأوه ومداه، ولا يصد دون مبلغه ومنحاه، فهي كالسهام التي لا تثبت في الأغراض، ولا ترجع بالاعتراض. والناس فيها بين غبطة يجب الشكر عليها، ورزية يوثق بالعوض عنها.؟
فصل في ذكر الشكر والكفر
للنعم شروط من الشكر لا تريم ما وجد، ولا تقيم ما قعد، وكثيراً ما تسكر الواردين حياضها، وتغشى عيون المقتبسين إيماضها، فيذهلون عن الامتراء لدرتها، ويعمهون عن الاستمتاع بنضرتها. ويكونون كمن أطار طائرها لما وقع، ونفر وحشيها لما أنس، فلا يلبثون أن يتعروا من جلبابها، وينسلخوا من إهابها، ويتعوضوا منها الحسرة والغليل، والأسف الطويل.فصل عن بختيار إلى سبكتكين الغزني
ليت شعري بأي قدم تواقفنا وراياتنا خافقة على رأسك ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيلنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ لأعدائنا في يدك.فصل له إليه أيضا
ًلم يدر في خلده أن مثل إحسانه إليك يكفر، ومثل متجره فيك يخسر وقد جذب بضبعك من مطارح الأرقاء العبيد، إلى مراتب الأحرار الصيد.
؟
فصل إليه أيضا
َتناولتك الألسن العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراً لا يرحضه الاعتذار، ولا يعفيه الليل ولا النهار.
فصل في ذكره
هو أرق دينا وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانه، من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة.؟
فصل في مثله أيضا
ًولما بعد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبة الرجال، وتضرمت بحسده جوانح الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته، فأدركته شقوته. ونزغ به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه.
فصل عن بختيار في ذكر عضد الدولة وما جرى بينهما
والله عالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من شرف المكان، وظل السلطان وكثرة الأعوان، لأجزع في مناضلة عبد عضد الدولة من أن يصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به كما أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بناني.فصل في ذكره أيضا
ًإن انتثار النظام إذا بدا والعياذ بالله تعالى لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسري النغل في الأديم، وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب.
فصل في ذكره أيضا
ًقد لحقني من مولانا ما يلحق الرجل تذوي يمينه، وهو بين أن يقطعها ليسلم له ما بعدها. ويا لها من خطة ما أصعبها وأشقها، وورطة ما أحرجها وأضيقها. وبين أن يغضي عليها فيرمي إلى ما هو أعظم من قطعها، وأمض من فقدها.
فصل في ذكر القواد
عادوا إلى الحضرة عود الأنياب إلى أفواهها، والأظفار إلى براثنها. والنصال إلى أجفانها، والسهام إلى كنائنها.فصل عن الخليفة في رعاية حقوق الآباء في الأبناء واصطناع أولاد الأولياء
وأمير المؤمنين يذهب على آثار الأئمة المهديين، والولاة المجتهدين، في إقرار ودائعهم عند المترشحين لحفظها، والمضطلعين بحملها. من أولاد أوليائهم وذرية نصائحهم، إذ لا بد للأسلاف أن تمضي، وللأخلاف أن تنمو، كالشجر الذي يغرس لدنا فيصير عظيماً، والنبات الذي ينجم رطباً فيعود دهشماً، فالمصيب من تخير الغرس من حيث استنجب الشجر، واستحلى الثمر، وتعهد بالعرف من طاب عنه الخبر، وحسن منه الأثر.فصل من رسالة في وصف المتصيد والصيد وخيلنا كالأمواج المتدفقة، والأطواد الموثقة. متشوقة عاطية. مستبقة جارية، تشتاق الصيد وهي لا تطعمه، وتحن إليه كأنه قضيم تقضمه، وعلى أيدينا جوارح موللة المخالب والمناسر، مدربة النصال والخناجر، طامحة الألحاظ والمناظر، بعيدة المرامي والمطارح، زكية القلوب والنفوس، قليلة القطوب والعبوس، سابقة الأذناب، كريمة الأنساب، صلبة الأعواد. قوية الأوصال، تزيد إذا طمعت شرهاً وقرماً. وتتضاعف إذا شبعت كلباً ونهماً فبينا نحن سائرون. وفي الطلب ممعنون، إذ وردنا ماء زرقا جمامه، طامية أرجاؤه يبوح بأسراره صفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، وأفانين الطير به محدقة، وغرائبه عليه واقعة، متغايرة الألوان والصفات، مختلفة اللغات والأصوات، فمن صريح خلص وتهذب نوعه، ومن مشوب تهجن عرقه، فلما أوفينا عليها أرسلنا الجوارح إليها، كأنها رسل المنايا، أو سهام القضايا، فلم نسمع إلا مسميّا ولم نر إلا مذكيّا، وعدنا لشأننا دفعات، وأطلقناها مرات.
؟
فصل منها
ثم عدلنا عن مطارح الخيام، إلى مسارح الآرام، نستقري ملاعبها، ونؤم مجامعها، حتى أفضينا إلى أسراب لاهية بأطلائها، راتعة في أكلائها، ومعنا فهود أخطف من البروق، وألقف من الليوث، وأمكر من الثعالب وأدب من العقارب، وأنزل من الجنادب، خمص الخصور قب البطون، رقش المتون، حمر الآماق، خزر الأحداق، هرت الأشداق،عراض الجباه، غلب الرقاب، كاشرة عن أنياب كالحراب.فصل منها
وكم من قبر أطلقنا عليه بازياً فعرج إلى السماء عروجاً، ولجج في أثره تلجيجاً، فكأن ذلك يعتصم منه بالخالق، وكان هذا يستطعمه من خالق. حتى غابا عن النظار، واحتجبا عن الأبصار، وصارا كالغيب المرجم، والظن المتوهم، ثم خطفه ووقع كهيئة الطائر الواحد، فأعجبنا أمرهما، وأطربنا منظرهما.فصل من رسالة في وصف الرمي عن قسي البندق
مآرب الناس منزلة بحسب قربها من هزل أو جد، ومرتبة على قدر استحقاقها من ذم أو حمد، وإذا وقع التأمل عليها والتدبير لها، وجد أولاها بأن تعده الخاصة نزهة وملعباً، والعامة حرفة ومكتسباً، الصيد الذي فاتحته طلاب لذة ونظر، وخاتمته حصول مغنم وظفر، وقد اشتركت الملوك والسوقا في استجماله، واتفقت الشرائع المختلفة على استحلاله، ونطقت الكتب المنزلة بالرخصة فيه، وبعثت المروءات على مزاولته وتعاطيه. وهو رائض الأبدان، وجامع شمل الإخوان، وداع إلى اتصال العشرة منهم والصحبة، وموجب لاستحكام الألفة بينهم والمحبة.؟
فصل إلى بعض الوزراء في إهداء دواة ومرفع
قد خدمت مجلس سيدنا حرسه الله تعالى وآنسه بدواة تداوي مرض عفاته، وتدوي قلوب عداته، على مرفع يؤذن بدوام رفعته، وارتفاع النوائب عن ساحته.فصل من كتاب له إلى الصاحب
كتبت أطال الله بقاء الصاحب هذا الكتاب، وأنا أود أن سواد عيني مداده، وبياضها طرسه، شوقاً إلا لألاء غرته، وقرماً إلى تقبيل أنامله، وظمأ إلى ارتشاف بساطه.؟
فصل من هذا الكتاب
وما عسيت أن أبلغ في شكر سيدنا وحمده، على ما أهلني له من بره ورفده، وجهدي يقصر عن عفوه، وإسهابي يعجز عن وصفه. وهل أنا في ذلك لو فعلته إلا كمن جارى الحصان بالأتان، وواحة الغزالة بالذبالة، وقارع الحسام بالعصا، وبارى الدر بالحصى.ما أخرج من شعره في الغزل
فمن ذلك قوله:
تورد دمعي إذ جرى ومدامتي ... فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب
فوالله ما أدري أبالخمر أسبلت ... جفوني أم من عبرتي كنت أشرب
وقوله في معناه:
جرت الجفون دماً وكأسي في يدي ... شوقاً إلى من لج في هجراني
فكأن ما في الجفن من كأسي جرى ... وكأن ما في الكأس من أجفاني
وقوله:
لست أشكو هواك يا من هواه ... كل يوم يروعني منه خطب
مرٌّ ما مرّ بي من أجلك حلوٌ ... وعذابي في مثل حبك عذب
وقوله:
أيها اللائم المضيق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجة عشقي ... وأبان العذار في الحب عذري
وقوله:
حذرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدل النزاع نزوعا
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلت من شرك الغرام وقوعا
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعاً ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضّرام تعلقته سريعا
وقوله:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنّفني ذوو الإشفاق منهم ... ولاذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب أشر فإنّا ... نعدك للمهم من الأمور
فقال شفاؤه بغير عمد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وقوله:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهجُ
إذا امتزجتْ أنفاسنا بالتزامنا ... توهّمت أنّ الروح بالروح تمزج
كأنّي وقد قبّلتها بعد هجعةٍ ... ووجدي ما بين الجوانح يعلج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفساً إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيّما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وقوله:
أحشمتها بالعتب عند لقائها ... فتلثّمت من شدة استحيائها
واستكملت صفة البدور بطلعةٍ ... وبحلّة صبغت بلون سمائها
فبهتّ أنظر من لجين جبينها ... متخفراً في لازورد ردائها
وقوله:
هيفاء تحكي قضيباً ... قد جشمته الرياح
تفترُّ عن سمط درٍّ ... عليه مسكٌ وراح
جرّدتها واعتنقنا ... كلٌّ لكلٍّ وشاح
باتت وكلُّ مصونٍ ... لي من حماها مباح
في ليلةٍ لم يعبها ... في الدهر إلاّ الصباح
وقوله:
هيفاء كالغصن في رشاقته ... لفَّاء كالدعص في كثافته
تبخرت والعثان يكنفها ... فكانت البدر وسط هالته.
وقوله:
أقول وقد جردتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التم
لئن آلمت صدري لشدّة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أَوهنتْ عظمي
وقوله:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك إذاً ظلماً وعدوناً
الغصن أحسن ما نلقاه مكتسياً ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وقوله:
يا من بدت عريانة ... فرأيت كل الحسن منها
كانت ثيابك عورةً ... فسترت بالتجريد عنها
وقوله:
يا قمراً كالخشف في نظرته ... وكالقضيب اللدن في خطرته
خلتك صيداً صار في قبضي ... فصرت من صيدي في قبضته
فديتُ من لاحظني طرفها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجا تائهاً ... وغاظها ذلك من شيمته
أزاحت البرقع عن وجهها ... فردّت البدر إلى قيمته
وقوله:
ما أنس لا أنس ليلة الأحد ... والبدر ضيفي وأمره بيدي
قبّلت منه فماً مجاجته ... تجمع بين المدام والشّهد
كأن مجرى سواكه بردٌ ... وريقه ذوب ذلك البرد
وقوله:
طيب عيشي في عناقك ... ووفاتي في فراقكْ
أنت لي بدرٌ فلا عش ... ت إلى يوم محاقك
فاسقني الصهباء صرفاً ... أو بمزجٍ من رياقك
لا أريد الماء إلاّ ... عند غسلي من عناقك
وقوله:
كلّ الورى من مسلمٍ ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهدِ
فإذا رآك المسلمون تيقّنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالدِ
وإذا رأى منك النصارى طبيةً ... تعطو ببدرٍ فوق غصن مائدٍ
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعاً ... قالوا لدافع دينهم والجاحد
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبيِّ العابد
وترى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسودّ فرعٍ كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حججٌ أعدّوها لكلّ معاند
أصبحت شمسهمُ فكم لك فيهمُ ... من راكعٍ عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنّك مفردٌ ... في الحسن إقراراً لفردٍ ماجد
كالزّهرة الزهراء أنت لديهمُ ... مسعودةٌ بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصرٌ ... في الدين من غاوى السبيل وراشد
أصلحتهم وفتنْتني وتركتني ... من بينهم أسعى بدينٍ فاسد
ما اخرج من شعره في الخمر
وما يضاف اليه
فمن ذلك قوله:كوكب الإصباح لاحا ... طالعاً والديك صاحا
فاسقنيها قهوة تأ ... سو من الهمّ جراحا
ذات نشر كنسيم ال ... روض غبّ القطر فاحا
يا غلامي ما أرى في ... ها ولا فيك جناحا
حرم الماء وأبعد ... ه وإن كان مباحا
أقراحٌ أنا حتى ... أشرب الماء القراح
وقوله في نبيذ يدور به ساق يشبهه بالعروس التي تجلى، وتبرز أمامها سوداء قبيحة، لتكون كالعوذة لها، وتكون محاسن العروس أظهر بإزاء مقابحها:
بنفسي مقبلاً يهدي فنونا ... إلى الشّرب الكرام بحسن قدّهْ
وفي يده من التمريَّ كأسٌ ... كسوداء العروس أمام خدّه
وقوله:
صفراء كالتبر جامها يقق ... شعاعها كالذبال يأتلقُ
كأنّ في كفّ من أتاك بها ... ضحى نهارٍ في وسطه شفق
وقوله من قصيدة شبه له فيها مجلس الأنس بالمعركة:
ألاقي همومي في جحفل ... لها من مقامي فيه قرارُ
دبادبة من طوال القيا ... ن والناي بوق له مستعار
ومجلسنا حومةٌ أرهجت ... لزحف الندامى إليها بدار
كأن فكاهاتهم إذ علت ... غماغم للحرب فيها شعار
كأن الكؤوس بأيدي السقاة ... سيوفٌ لها بالدماء احمرار
كأن مناديل أكتافهم ... حمائلها إذ عليهم تدار
كأن رجوم تحاياهمُ ... سهامٌ على الجيش منها نثار
كأن المجامر خيلٌ جرتْ ... وقد ثار للند منها غبار
كأن السكارى رجل الوغى ... وقد عقرتهم هناك العقار
وقد جدلتهم جروحٌ بهم ... وجرح المدامة فيها جبار
كأن تسكابها في الزجاج ... حريقٌ له من حبابٍ شرار
فيا لك من مأقط لي به ... بلاء وقولٌ إليه يشار
ولما برزت إلى الهمّ فيه ... ولي بالسرور عليه اقتدار
وقوله في قصيدة:
رب عذراء راوحتني من الرا ... ح بعذراء تطرد الهمّ طردا
خندريس إذا المزاج علاها ... نظمت بالحباب للكأس عقدا
تترك البال ناعماً وأخا الشج ... و خلياً وطائر اللهو سغدا
عبقتني بكأسها ذات دلٍّ ... دلّ قلبي إلى الهوى فتعدّى
وكتب إلى صديق له يستدعيه ويصف ما عنده من رءوس الحملان والشراب والفستق للنقل والمطرب الممتع، فقال:
طباخنا صانعٌ رءوسا ... يسقط في طيبها الخلافُ
مبيضةٌ كاللجين لوناً ... شهيةٌ كلّها نظاف
وأخذها من الرقاق يحكي ... صريع حمّى له لحاف
من بين عجل إلى خروف ... تزهى بتنضيدها الصحّاف
مختلفات القدود لكن ... لها بأسنانها ائتلاف
وكلها راضعٌ صغيرٌ ... له على ضرعها اعتكاف
قد اسمنتهنّ أمهاتٌ ... من طول إرضاعها عجاف
نسقي على ذاك روح دنٍّ ... أرقّ أسمائها السلاف
عروس دنٍّ صفت وطابت ... لوناً وطعماً فما تعاف
كأن إبريقها لدينا ... ناكس رأسٍ به رعاف
والنقل من فستق جنيٍ ... رطبٌ حديثٌ به القطاف
لي فيه تشبيه فيلسوف ... ألفاظه عذبة خفاف
زمرد زانه حريرٌ ... في حق عاجٍ له غلاف
ومسمعٌ مطرب مليح ... يحرم عن مثله العفاف
يظلمني صاحياً ولكن ... في سكره ما به انتصاف
فصر إلينا غداً بليلٍ ... أفديك من كلّ ما يخاف
فأنت أصل السرور عندي ... وكل ما بعده مضاف
؟
ما أخرج من شعره في الأوصاف والتشبيهات
ومن ذلك قوله في الورد:وزائرة لنا في كلّ حولٍ ... لها حظان من حسنٍ وطيبِ
تنال النفس حين تشمّ منها ... منال العين من وجه الحبيب
كأنّ زمانها نعتاض فيه ... إذا طلعت شباباً من مشيب
وقال في قصيدة:
أما ترى الورد قد حيّاك زائره ... بنفحة فرجت عن كل مصدور
كأن أنفاسه أنفاس غانية ... معشوقة خالطت أنفاس مخمور
تفتّحت وجنات في جوانبه ... كأنّما انتزعت من أوجه الحور
وقال في النرجس:
ربّ يومٍ نقعت فيه غليلي ... وهمومي بين الضلوع كمونُ
بوجوه مملوءة بعيونٍ ... وعيونٍ تخشى عليها العيون
تلك من نرجس نضير وهذي ... من غوان وجدي بهنّ جنون
وقال في وصف شمامة كافور
كافورةٌ جعلتها ... لأسود العين غرضْ
حتّى وددت أنّها ... من أبيض العين عوض
وقال فيها:
وشمّامةٍ كالبدر عند اعتراضه ... وكالكوكب الدريّ عند انقضاضه
يود سواد العين من شغف ... بها لو اعتاضها مستبدلاً من بياضه
وقال في النافجة:
وشميمة من نسل بط ... نٍ لم تكن من ظهر فحل
أهدت إليك جنينها ... من غير تطريق بحمل
فغدت بضاعة تاجر ... لا تشتري إلاّ ببذل
فيها لنفس قوتها ... لكن بشمٍّ لا بأكل
حلت محلاً لا ترى ... إلاّ لذي الخطر الأجلّ
وقال في عتيدة الطيب:
وعتيدة للطيب إن تستدعها ... تبعث إليك أمامها ببشيرها
يلقاك قبل عيانها أرجٌ لها ... فكأنّه مستأذنٌ لحضورها
نفحاتها لم تدر من كافورها ... تأتيك أم من مسكها وعبيرها
مزجت ببعض بعضها فتوحدّت ... عن أن تقاس بشكلها ونظيرها
لا عيب فيها غير أن نسيمها ... مثل اللسان يشيع سرّ ضميرها
وقال في مدخنة:
ومكروبة الأحشاء يعلو زفيرها ... وتعصف ريح الطيب بين فروجها
إذا روحت عن نفسها بخروجها ... فللنفس مني راحة في ولوجها
وقال فيها:
ومحرورة الأحشاء تحسب أنها ... متيمةٌ تشكو من الحبّ تبريحا
تناجيك نجوى يسمع الأنف وحيها ... وتجهله الأذن السميعة إذ يوحى
إذا استودعت سراً من الطيب مجملاً ... أشاعته تفصيلاً وأفشته مشروحا
وإن حاولت إخفاءه في ضميرها ... أبى عرفها إلا اعترافاً وتصريحا
يحرق فيها العود عوداً وبدأةً ... فتأخذه جسماً وتبعثه روحا
؟وقال فيها
ومجلس سماؤه ... من النجوم عائمه
في جوه سحابةٌ ... لها الأنوف شائمه
تنتابه مدخنةٌ ... لحاصريه خادمه
داخلها مجمرة ... مثل القطاة الجاثمه
كأنها طارمةٌ ... فيها فتاة نائمه
تهدي لنا روائحاً ... من الجنان قادمه
لنا عليها خلعٌ ... من الذبول دائمه
لكنها عاريةٌ ... تخرج منها راغمه
؟وقال عن لسان مدخنة محلاة وأمر بنقشها فيها
جمعت من حليتي وعرفي ... ما بين حسنٍ وبين طيب
أدخل في الذيل من محبٍّ ... طوراً وفي الكمِّ من حبيب
فكم ترددت بين هذا ... وذا برغم من الرقيب
وقال في الغالية:
غالية تنتمي لحام ... قد استعارت لباس قارِ
في قدحٍ ينتمي لسامٍ ... من سنة البدر مستعار
جامع ما بين ذا وهذا ... قد أولج الليل في النهار
وقال فيها:
غالية صرح عطارها ... في عجنها عن خالص النية
تعزى إلى تبت من مسكها ... وهي من العنبر شحريه
منشورة الطيب على أنها ... في قدح البلور مطويه
كأنها فيه وقد حازها ... رومية حبلى بزنجيه
وقال في غلام له أسود شهر برشد:
أبصرت ف رشد وقد أحببته ... رشدي، ولم أحفل بمن قد ينكرُ
يا لائمي أعلى السواد تلومني ... من لونه وبه عليك المفخر
دع لي السواد وخذ بياضك إنني ... أدري بما آتي وما أتخير
مئوي البصيرة في الفؤاد سواده ... والعين بالمسود منها تبصر
والدين أنت مناظر فيه بذا ... وكذاك في الدنيا بهذي تنظر
بسواد ذينك تستضيء ولو هما اب ... يضا تغشاك الظلام الأكدر
فغدا بياضك وهو ليل دامس ... وغدا سوادي وهو فجر أنور
وقال فيه:
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علو مباين
ما فخر خدك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أن مني فيه خالاً زانه ... ولو أن منه في خالاً شاقني
وقال فيه يخاطبه:
لك وجه كأن يمناك خطته ... بلفظ تمله آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد بل زدت حسناً ... إنما يلبسن السواد الموالي
فبمالي أفديك إن لم تكن لي ... وبروحي أفديك إن كنت مالي
وقال في الشمعة:
وليلة من محاق الشهر مدجنة ... لا النجم يهدي السرى فيها ولا القمر
كلفت نفسي بها الإدلاج ممتطياً ... عزماً هو الصارم الصمصامة الذكر
إلى حبيب له في القلب منزلة ... ما حلها قبله سمع ولا بصر
ولا دليل سوى هيفاء مخطفةٍ ... تهدي الركاب وجنح الليل معتكر
غصنٌ من الذهب الإبريز أثمر في ... أعلاه ياقوتةٌ صفراء تستعر
تأتيك ليلاً كما يأتي المريب فإن ... لاح الصباح طواها دونك الحذر
وقال في وصف القبجة وأرسلها إلى أبي الفرج الببغاء:
أنعت طارونية الثياب ... لابسة خزاً على الإهاب
تصبغت تصبغ التصابي ... وأبرزت وجهاً بلا نقاب
ريان من محاسن الشباب ... مكحولة العينين كالكعاب
مغموسة الحاجب بالخضاب ... منقارها أحمر كالعناب
كأنما تسقى دم الرقاب ... محذورة محميّة الجناب
لها على الأرجل والأعقاب ... حملات ليث من ليوث غاب
أقفاصها كمحبس الحجاب ... مدورات الشكل كالقباب
تسمعنا منها وراء الباب ... تمتمةً بالقاف في الخطاب
كأنما تقرأ من كتاب ... مكروزة زادت على الحساب
قهقهة الإبريق بالشراب ... ملآن منكباً على الأكواب
أهلاً بصياد لها جلاّب ... جاء بها كريمة النصاب
ربيبة الجبال والهضاب ... كريمة الأعراق والأنساب
لم تدر ما بادية الأعراب ... غريبة صارت من الأحباب
دونك يا ذا المفخر اللباب ... أرجوزة من صنعة الكتاب
باكورة من ثمر الألباب ... وتحفة من تحف الآداب
هدية الأتراب للأتراب ... قل ما ترى فيها ولا تحابي
هل خلصت من هجنة وعاب ... وسلمت من عيبة العياب
أم خلتها أشبه بالصواب ... فهات ما عندك من جواب
وقال في الخطاطيف:
وهندية الأوطان زنجية الخلق ... مسودة الأثواب محمرة الحدق
كأن بها حزناً وقد لبست له ... حداداً وأذرت من مدامعها العلق
إذا صرصرت صرّت بآخر صوتها ... كما صرَّ ملوى العود بالوتر الحرق
تصيف لدينا ثم تشتو بأرضها ... ففي كل عامٍ نلتقي ثم نفرق
وقال في البق والبراغيث والبيت الأخير أملح ما سمعت في معناه:
وليلة لم أذق من حرّها وسناً ... كأن من جوها النيران تشتعل
أحاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلاّ شجاع فاتكٌ بطل
من كل سائلة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السجف مسراها ولا الكلل
طافوا علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى إذا طبخت أجسامنا أكلوا
ما أخرج مما قاله في البصرة
وكان خرج إليها في صباه ليستوفي مالاً على ضامنها، من ذلك قوله:ليس يغنيك في الطهارة بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهادُ
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال فيها:
لهف نفسي على المقام ببغدا ... د وشربي من ماء كوز بثلج
نحن بالبصرة الدميمة نسقي ... شر سقيا من مائها الأترجي
أصفر منكر ثقيل غليظ ... خاثر مثل حقنة القولنج
كيف نرضى بشربه وبخير ... منه في كنف أرضنا نستنجي
وقال في قصر روح بها:
أحبب إليّ بقصر روح منزلاً ... شهدت بنيته بفضل الباني
سور علا وتمنعت شرفاته ... وكأن إحداهن هضب أبان
وكأنما يشكو إلى زواره ... بين الخليط وفرقة الجيران
وكأنما يبدو لهم من نفسه ... إطراق محزون الحشى حرّان
وقال عند رحيله عنها:
توليت عن أرض البصيرة راحلاً ... وأفئدة الفتيان حشو حقائب
منازل تقري ضيفها كل ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
أقمت بها سوق الصبا والند معاً ... لعاشقة حرى وحيران لاعب
فما تظهر الأشواق إلاّ صنائعي ... ولا تستر الجدران إلاّ حبائبي
ما أخرج من شعره والدته وأولاده
قال:أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيبُ
فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب
وقال، وقد عتب على بعض ولده:
أرضى على ابني إذا ما عقني حذراً ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري بم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي؟
وله من رقعة يلتمس فيها من بعض ... الرؤساء إجراء الرزق لبعض ولده
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقيتها حتى تراخى بها المدى
فلما أقشعر الجلد منها وصوحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إلي بعض الرؤساء قصيدة في إنفاذه ابنه إليه ليستخدمه، فمنها:
بعثت إليك أبني وبالله إنه ... لأحلى من النفس المقيمة في جنبي
وهل أنا إلا نسخة هي أصله ... وهل هو إلا كالمحررّ في الكتب
وفي النسخة السوداء ما أنت عارف ... من المحور الإصلاح والحلك والضرب
أخذ المعنى من قول ابن الرومي:
فقال لا تلحينا في تفاوتنا ... فإننا كتبٌ آباؤنا نسخ
رجع:
وهذا الذي يرضك مرأى ومخبراً ... ويمضي مضاء السهم والصارم العضب
وشتان بين العود أيبس وانحنى ... وبين النبات الغضّ والغصن الرطب
فدونك فاقبله وثق منه بالذي ... يراد من العبد المناصح للربّ
وجرده من غمد التقبض باسطاً ... وجربه فالتجريب عن رشده ينبي
وقال وقد رأى ولداً لولده مترعرعاً ناشئاً:
أبو علي محسنٌ كبدي ... وقد نشأ من فتاه لي خلبُ
كأن هذا وذاك إذ نسبا ... منّي سوادُ يضمّه قلب
لا زلت ألقي الخطوب دونها ... حتّى كأنِّي عليها حجب
وقال يرثي أبا سعيد سناناً ابنه:
أسعداني بالدمعة الحمراء ... حل ما حلَّ بي عن البيضاء
يؤلم القلب كلّ فقد ولا مث ... ل افتقاد الآباء للأبناء
هدّ ركني مثوى سنان وقد كا ... ن يهدّ الأركان من أعدائي
عكست فيك دعوتي إذ أفدي ... ك برغمي فصرت أنت فدائي
إنما كنت فلذة من فؤادي ... خطفتها المنون من أحشائي
كنت منّي وكنت منك اتفاقاً ... والتئاما مثل العصا وللحاء
كنت في اليتم في أجمل منّي ... فيك للثكل في أوان فنائي
ولئن كان في أخيك وأولا ... دكما ما يغضُّ من برحائي
فلعموي لربما هيجوا الشو ... ق فزادوا في لوعتي وبكائي
ألم فيه بقول ابن الرومي، ولم يحسن بعض إحسانه:
وأنّيوإن متعت بابني بعدهلذاكره ما حنَّت النِّيب في نجدِ
وأولادنا مثل الجوارح أيما ... فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد
لكلٍّ مكانٌ لا يسد اختلاله ... مكان أخيه من جزوع ومن جلدِ
هل العين بعد السمع تكفي مكانه ... أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي
وكتب إليه ولده أبو علي المحسن يسليه في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالته غائلةٌ ... ففي حياتك من فقد اللهي عوضُ
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من تالد أو طارف عرض
فأجابه بهذه الأبيات:
يا درّة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشبْ إخلاصها مرض
دع المحسن يحيا فهو جوهرةٌ ... جواهر الأرض طراً عندها عرض
فالنفس لي عوضُ عما أصيب به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
اتركه لي وأخاه ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض
ما أخرج من شعره في الفخر
قال:أيسير جودي أنّني كلّما ... أسرفت في السكر ولا أدري
ندمت في صحوي على كل ما ... أبقيت من مالي في سكري
وقال في صباه:
لقد علمت خيل هذي الخيام ... ونسوانها القاصرات الغواني
بأني شفاء صدور الجميع ... وأكرم من ضمَّه الخافقانِ
أسرّ القرينة ليل العناق ... وأفتك القرن يوم الطعان
فبطن الحصان وظهر الحصان ... على بما قلته يشهدان
وقال من قصيده:
وقدم علم السلطان أني لسانه ... وكاتبه الكافي السديد الموفقُ
أوازره فيما عرى وأمدّه ... برأي يريه الشمس والليل أغسق
يجدد بي نهج الهدى وهو دارس ... ويفتح بي باب النهى وهو مغلق
فيمناي يمناه ولفظي لفظهُ ... وعيني له عينٌ بها الدهر يرمق
ولي فقرٌ تضحي الملوك فقيرة ... إليها لدى أحداثها حين تطرق
أردّ بها رأس والجموح فنثني ... وأجعلها سوط الحرون فيعنق
فإن حاولت لطفاً فماء مروق ... وإن حاولت عنفاً فنار تألّق
يسلم لي قسٌّ وسحبان وائل ... ويرضى جرير مذهبي والفرزدق
فيغضي لنثري خاطب وهو مصقع ... ويعنو لنظمي شاعرٌ وهو مفلق
معال لو الأعشى رآهن لم يقل ... وبات على النار الندى والمخلق
وله من قصيدة قالها في الحبس:
يعيرني بالحبس من لو يحله ... حلولي لطالت واشمخرت مراكبهُ
وربّ طليقٍ أطلق الذلّ رقّه ... ومعتقل عانٍ وقد عزَّ جانبه
وإني لقرن الدهر يوماً تنوبني ... سطاه ويوماً تنجلي بي نوائبه
ومن مد نحو النجم كيما يناله ... يداً كيدي لاقته أيدٍ تجاذبه
ولا بدّ للساعي إلى نيل غاية ... من المجد من ساع تدبُّ عقاربه
وإني وإن أودت بمالي نكبة ... نظيري فيها كل قرم أناسبه
فما كنت كالقسطار يثري بكيسه ... ويملق إن أنحى على الكيس سالبه
ولكن كليث الغاب إن رام ثروة ... حوتها له أنياب ومخالبه
يبيت خميصاً طاوياً ثم يغتدي ... مباحاً له من كل طعم أطايبه
كذلك مثلي نفسه رأس ماله ... بها يدرك الربح الذي هو طالبه
وللمال آفات يهنأ ربه ... بها إن تخطته إليه مصائبه
ومن يكن السلطان فيه خصيمه ... فلا عار في الغضب الذي غاضبه
وما ضرني إن غاض ما ملكت يدي ... وفي فضل جاهي أن تفيض مذاهبه
إذا كان مالي من طريف وتالد ... قتيل يدي فضلي فمفنيه جالبه
؟
ما أخرج من شعره في المدح
قال في المهلبي الوزير:قل للوزير أبي محمد الذي ... قد أعجزت كلّ الورى أوصافُه
لك في المحافل منطق يشفي الجوى ... ويسوغ في أذن الأديب سلافه
فكأنّ لفظك لؤلؤٌ منخّلٌ ... وكأنما آنذاننا أصدافه
وقال فيه من قصيدة:
وكم من يدٍ بيضاء حازت جمالها ... يدٌ لك لا تسودّ إلا النّقسِ
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرّز بالظلماء أرديه الشمس
وله من قصيدة فيه:
وتعلقت بالرئيس الذي صر ... ت رئيساً مذ عدّني في العبيد
والوزير الذي غدا وزراء ال ... ملك ركنا لعزِّه الموطود
أريحيٌّ مهلبي سعيد ال ... جد صافي الجدوى كريم الجدود
وإذا استنطق الأنامل جادت ... ببيان كالجوهر المنضود
في سطور كأنما نشرت يم ... ناه منها عصائباً من برود
فقر لم يزل فقيراً إليها ... كل مبدي بلاغة ومعيد
يغتدي البارع المفيد لديها ... لاحقاً بالمقصد المستفيد
بيان شاف ولفظ مصيب ... واختصار كاف ومعنى سديد
وكتب إليه وهو بدجلة البصرة متوجهاً إلى عمان:
لقد كنفت منك السعود موفقاً ... مصادره محمودة والموارد
كأني بالبحر الذي خيف هوله ... وقد خاف حتى ماؤه فيه جامد
يرى منك بحراً زاخراً فوق متنه ... فيصبح جاري موجه وهو راكد
كأنّ عصا موسى بكفك فوقه ... وقد خرّ إعظاماً لها وهو ساجد
ستعنو لما تبغي ظهور صفائه ... وتبلغ ما تهوى وجدك صاعد
فلا تخش من صرف النوائب نبوة ... فنصرك محتومٌ عليه شواهد
إذا عادة الله التي أنت عارف ... تذكرتها هانت عليك الشدائد
وقال في فاصد من غير علة:
تنبع جود لا دم من يمينه ... فأضحى لكي يعطي الأطباء فاصدا
وليس به أن يفصد العرق حاجة ... ولكنه ينحو المحامد قاصدا
يسبب أسباب الندى لعفاته ... ويرقبها مستفرصاً ومراصدا
وقوله في معناه:
لهجت يمينك بالندى فبنانها ... أبدا يفيض على العفاة عطاء
حتى فصدت وما بجسمك حاجةٌ ... كما تسبب للطبيب حباء
ولقد أرقت دماً زكياً من يدٍ ... حقنت بتدبير الأمور دماء
تجري العلا في عرقة جري النّدى ... في عوده فهو اللباب صفاء
لو يقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حب القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الوليّ وتكبت الأعداء
وكتب إلى عضد الدولة عند مقدمه من الزيارة بالكوفة قصيدة منها:
أهلاً بأشرف أوبة وأجلها ... لأجل ذي قدم يلاذ بنعلها
فرشت لك الترب التي باشرتها ... بشفائها من كهلها أو طفلها
لم تخط فيها خطوة إلاّ وقد ... وضعت لرجلك قبلة من قبلها
وإذا تذلّلت الرقاب تقرُّباً ... منها إليك فعزّها في ذُلّها
وله من قصيدة:
لا تحسب الملك الذي أوتيته ... يفضي وإن طال الزمان إلى مدى
كالدوح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولّجات في النّدى
في كل عام تستجد شبيبةٌ ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
؟
وكتب إلى الوزير أبي عبد الله بن سعدان:
ثنائي لو طولته لك قاصر ... وطولك لو قصرته لي باهرفكيف نهوضي حين لا أبلغ المدى ... بجهدي وعفو الجود لي منك غامر
وما زلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعاً ... فبلغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى بك كلّها ... وطرفي إلى نيل المنى بك ناظر
كأن عكس قول محمد بن أبي يزيد المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤملُ
وكتب إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كفّ رسولها
قبّلتها لتمسّها ... يمناك عند وصولها
وتود عيني أنّها ... قرنت ببعض فصولها
حتى ترى من وجهلك ال ... ميمون غاية سولها
وله قصيدة:
نعم الله كالوحش وماتأ ... لف إلا الأخاير النساكا
نفرتها آثار قوم وصيّر ... ت لها البِرَّ والتُّقى أشراكا
وله في عبد العزيز بن يوسف:
أبو القاسم العزيز بن يوسف ... عليه من العياء عينٌ تراقبه
روى ورعى لما روى قول قائل ... وشبع الفتى لؤمٌ إذا جاع صاحبه
؟وقال لبعض الوزراء:
أنت الوزير الذي الدنيا تناط به ... وأهلها تبعٌ من دونه خول
تظل بالعز ملء الأرض أجمعها ... كأنك النَّصل والدنيا لك الحلل
ما أخرج من شعره في التهاني والتهادي
كتب إلى عضد الدولة قصيدة يهنيه بالفطر. منها:لم أطوّل في دعوتي لمليك ... طوّل الله في السلامة عمره
بل تلطفت باختصار محيط ... بالمعاني لمن تأمل أمره
فهي مثل الحروف من عند الهن ... د قليل قد انطوت فيه كثره
جمع الله كل دعوة داع ... مستجاب دعاؤه فيك صبره
وأعاد العيد الذي زاره العا ... م بأمر يحوزه مسره
وأراه الآمال فيه ولقا ... ه سعادته ووفاه أجره
وله من قصيدة يهنيه بالفطر. منها:
يا ماجداً يده بالجود مفطرة ... وفوه من كل هجر صائم أبدا
اسعد بصومك إذ قضيت واجبه ... نسكاً ووفيته من شهره العددا
واسحب بذا العيد أذيالاً مجددة ... واستقبل العيش في إفطاره رغدا
وانعم بيومك من ماصٍ قررت به ... عيناً ومنتظر يفضي إليك غدا
وفز بعمرك ممدوداً وملكك مو ... طوداً ونل منهما الحد الذي بعدا
حتى ترى كرة الأرض البسيطة في ... يمناك مملوءة أرجاؤها رشدا
وخولك الفلك الدوار متبعاً ... أوطار نفسك لا يألوك مجتهدا
وله في الوزير المهلبي قصيدة عيدية:
أسيدنا هنئت نعماك بالفطر ... ووقيت ما تخشاه من نوب الدهر
مضى الصوم قد وفيته حق نسكه ... ووفاك مكتوب المثوبة والأجر
كلفت بذكر الله فيه فلا تزل ... من الله فيما ترتجيه على ذكر
هجرت هجود الليل فيه تهجداً ... وصبراً على طول القراءة للفجر
فلو نطقت أيامنا باعتقادها ... لناجتك لفظاً بالدعاء وبالشكر
وللفطر رسم للسرور وسنّة ... ومثلك من أحيا لنا سنة الفطر
ولا بد فيه من سماع وقهوة ... نقضي بها الأوطار من لذة السكر
نواصل قصفاً بين يوم وليلة ... دراكاً فنستوفي الذي فات في الشهر
فمر بالذي نبغي وكن عند ظننا ... فلا زلت فينا نافذ النهي والأمر
وعاد إليك العيد حتى تمله ... بأقصر يوم طاب في أطيب العمر
أخذه من قول ابن الرومي:
وليطل عمرك مسرو ... راً بأيام قصار
وله في بعض الوزراء:
بصوم الوزير الدهر عن كل منكر ... وليس لهذا الصوم عيد ولا فطر
ويفطر بالمعروف والجود والندى ... وليس لهذا الفطر صوم ولا حظر
فأكرم به من صائم مفطر معا ... توافى لديه الأجر والحمد والشكر
وله:
إذا دعا الناس في ذا العيد بعضهم ... لبعضهم وتمادى القول واتسعا
فصير الله ما من فضله سألوا ... فيه لسيدنا الأستاذ مجتمعا
حتى يكون دعائي قد أحاط له ... بكل ذلك مرفوعاً ومستمعا
وله في المطهر بن عبد الله:
عيد إليك بما تحب يعود ... بطوالع أوقاتهن سعودُ
متباركات كل طالع ساعة ... يوفي على ما قبله ويزيد
يأتيك من ثمر المنى بغرائب ... معدومها لك حاصل موجود
قضيب شهر الصوم بالنسك الذي ... هو منك معروف له معهود
أكثرت فيه من تهجد خاشع ... ما يطمئن بمقلتيه هجود
فاشرب وسق عصابة قد مسها ... عطش وجهد في الصيام جهيد
أرويتها جوداً فرو مشاشها ... راحاً فمنك الجود والناجود
وتمل عيشك في سرور دائم ... سرباله أبداً عليك جديد
وقوله:
يا سيداً أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل للناس ... أعياداً جميعا
حتى لأوشك بينها ... عند الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقداً رجوعا
وله من قصيدة في عضد الدولة:
إسلم ودم للرتبة العلياء ... وتمل ملكك في أمد بقاء
واستقبل العيد الجديد بغبطة ... ومسرة وزيادة ونماء
وكفاك من نحر الأضاحي فيه ما ... نحرت يمينك من طلا الأعداء
بهم تعفر كالبهائم جعجعت ... أشلاؤها في حومة الهيجاء
حرمت مأكلها علينا واغتدت ... حلاً لوحش القفر والبيداء
هذي مناسكك التي قضيتها ... بالسيف أو بالصعدة السمراء
ووراء ذلك للعفاة منائح ... هطلت هطول الديمة الوطفاء
ومواهب ومناقب ومفاخر ... ومآثر أوفت على الإحصاء
وقوفه من أخرى:
صل يا ذا العلا لربك وانحر ... كل ضد وشانئ لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون أضاحي ... ك قروماً من الجمال تعفر
بل قروماً من الملوك ذوي السؤ ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خر ساجداً لك رأس ... منهم قال سيفك الله أكبر
وكتب إلى الشريف الموسوي في الأضحى:
مرجيك وصابيك ... بذا الأضحى يهنيكا
ويدعو لك والله ... مجيب ما دعا فيكا
وقد أوجز إذ قال ... مقالاً وهو يكفيكا
أراني الله أعداء ... ك في حال أضاحيكا
وكتب إلى صمصام الدولة يهنئه بالأضحى:
يا سنة البدر في الدياجي ... وغرة الشمس في الصباحِ
صمصام حرب وغيث سلم ... ناهيك في البأس والسماح
اسعد بفطر مضى وأضحى ... وافاك باليمن والنجاح
وانحر أعادي بني بويه ... بالسيف في جملة الأضاحي
فالكل منهم ذوو قرون ... يصلح للذبح والنطاح
وكتب في يوم مهرجان مع اصطرلاب إلى عضد الدولة:
أهدي إليك بنو الآمال واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليهِ
لكن عبدك إبراهيم حين رأى ... علو قدرك عن شيء يدانيه
لم يرض بالأرض مهداة إليك فقد ... أهدي لك الفلك الأعلى بما فيه
وكتب إليه مع زيج أهداه:
أهديت محتفلاً زيجاً جداوله ... مثل المكاييل يستوفي بها العمرُ
فقس به الفلك الدوار وأجركما ... يجري بلا أجل يخشى وينتظر
وكتب إليه في يوم نيروز مع رسالة هندسية من استخراجه:
أيا ملك الأرض الذي ليس بينه ... وبين مليك العرض مثل يقارنه
رأيت ذوي الآمال أهدوا لك الذي ... تروق العيون الناظرات محاسنه
وحولك خزان يحوزونه وما ... له منك إلا لحظ طرف يعاينه
ولكنني أهديت علماً مهذباً يروق العقول الباحثات بواطنه
وخير هدايانا الذي إن قبلته ... فليس سوى تامور قلبك خازنه
وكتب إليه من الحبس، وقد أهدى إليه درهمين خسروانيين وكتاب المسالك والممالك في دفترين:
أهدي إليك بحسب حا ... لي في الخصاصة درهمينِ
وبحسب قدرك دفتري ... ن هما جميع الخافقين
فإذا فتحتهما رأي ... ت بيان ذاك بلحظ عين
وكتب إليه من الحبس مهرجانية مع درهم خسرواني وجزء من كتاب:
تصبح بعز واعتلاء جدود ... وابشر بخير واطراد سعودِ
وقل مرحباً بالمهرجان وحيه ... بطلعة بسام أغر مجيد
له زورة في العام ما زال يومها ... كفيلاً بحظي سيد ومسود
فيحظى بفخر من علاك مجدد ... وتحظى بعمر في مداه جديد
تراه إذا ما جاء طامح مقلة ... إليك وإن ولى فثاني جيد
أتتك الهدايا فيه بين موفر ... على قدر المهدى وبين زهيد
فبان على يمناك حين مددتها ... تكلف فياض اليدين مفيد
تقاعس عن بسط القبول ولم تكن ... لها عادة إلا ببسطة جود
ولكن إذا أهدى لك الله نعمة ... مددت لها كفيك مد رشيد
وقد نزلت منه إليك هدية ... بجرجان ما محصولها ببعيد
وما بيننا إلا المسافة فانتظر ... ورود بشير فوق ظهر بريد
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهماً ... يطير من الأنفاس يوم ركود
وجزءاً لطيفاً ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاق برود
زلالاً على المستعطفين وجلمداً ... على كل عريض ألد مريد
وكتب إليه في يوم نيروز:
تهن بهذا اليوم واحظ بخيره ... وكن أبداً بالعود منه على وعد
أرى الناس يهدون الهدايا نفيسةً ... إليك ولم يترك لي الدهر ما أهدي
سوى سكر يحلو لك العيش مثله ... وآسٍ أخي عمر كعمرك ممتد
وبينهما من ضرب قومك درهم ... وأبيات شعر من ثنائي ومن حمدي
فإن كنت ترضى ما به انبسطت يدي ... وتقبله مني فهذا الذي عندي
وكتب إليه:
تعذر ديناري علي ودرهمي ... فلاطفت مولانا ببيتين من شعري
وكم بيت شعر زاد بالشكر قدره ... على بيت مال من لجين ومن تبر
وكتب إلى صمصام الدولة:
دامت لمولانا سعادته ... موصولة دائمة تترى
ونال ما أمل من ربه ... في هذه الدار وفي الأخرى
وزاده النيروز في ملكه ... عزاً وفي دولته نصرا
لما رأيت الناس لم يتركوا ... فيما ادعوا نظماً ولا نثرا
أعملت فكري في دعاء له ... يجمع ما جاءوا به طرا
فقلت بيتاً واحداً كافياً ... لم يعد في مقداره سطرا
لازالت الدنيا له منزلاً ... يأويه والدهر له عمرا
وكتب إليه مع اصطرلاب أهداه:
يعزّ على أن أهدي نحاساً ... إلى من فيضٌ راحته نضارُ
ولكنّ الزمان اجتاح حالي ... وأنت عليه لي إذ جار جار
تب إلى بعضهم مع فنجان صفر:
نهدي النحاس إلى مولى أنامله ... تهدي النضار إلى العافين منتهباً
وكان يلزمنا لو لا التعذّر أن ... يكون إهداؤنا من عين ما وهبا
لكن بعدي ن جدواه أصفرني ... من كل خيرٍ فصار الصفر لي نشبا
وسوف أظفر من أخلاط نائله ... بالكيمياء فيضحي صفرنا ذهبا
فليبسط الآن عذراً لست أسأله ... في قابل إن أنل من خدمةٍ سببا
فقد جرى الماء في عودي بدولته ... وكان من قبله مستيبساً حطبا
وأقبلت نحوي الآمال آتية ... من بعدما أزمعت من ساحتي هربا
وكتب في يوم نيروز وقد أهدى بطيخة إلى كافور:
أسعد وزير الملك بالنيروز ما ... سجعت مطوقة على أعوادها
وافى فأنجز وعد عام أول ... بميامين ستكر من ميعادها
تهدي إليك به هدايا كلها ... من راحيتك حقيقة استمدادها
فتمدّ كفّاً نحوها نشأت على ... إرقاد أيدي الناس لا استرفادها
عاداتها إعطاء ما قد أعطيت ... أكرم بعادتها وبالمعتادها
ولقد طلبت فلم أجد شيئاً سوى ... كافورة لم آل في إعدادها
وبديع أبياتٍ إذا هي أنشدت ... نفقت بضاعتها على نقّادها
فالصبح من تلك ابيضاض أديمها ... والليل من هذي اعتكار مدادها
ولو أنني مكّنت من عيني التي ... هي بعض حقك يا معيد رقادها
لسكبت كافوري بشحم بياضها ... وكتبت أبياتي بذوب سوادها
وكتب إلى المطهر بن عبد الله بهنئه باليوم الأجود:
نل المنى في يومك الأجود ... مستنجحاً بالطالع الأسعد
وارق كمرقى زحل صاعداً ... إلى المعالي أشرف المصعد
وفض كفيض المشتري بالنّدى ... إذا اعتلى في برجه الأبعد
وزد على المريخ سطواً بمن ... عاداك من ذي نخوةٍ أصيد
واطلع كما تطلع شمس الضحى ... كاسفة للحندس الأسود
وخذ من الزهرة أفعالها ... في عيشك المقتبل الأرغد
وضاه بالأقلام في جريها ... عطارد الكاتب ذا السؤدد
وباه بالمنظر بدر الدجى ... وأفضله في بهجته وازدد
واسلم على الدهر ولا تخش من ... مكروهه الرائح والمعتدي
ذا مهجة آمنةٍ لللادي ... ما أمّنته مهجة الفرقد
وكتب إلى بعض الرؤساء يهنئه بخلعه سلطانية:
قرمٌ علته ملابس العلياء ... فعلا على النظراء والأكفاء
أهدت إليّ سرورها مثل الذي ... أهدي مساءتها إلى الأعداء
ومن العجائب أنّني هنأته ... وأنا المهنأ فيه بالنعماء
لا زال يفترع المراتب صاعداً ... حتى يجوز محلَّة الجوزاء
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير يهنئه بالخروج من الأستتار:
صح أنّ الوزير بدرٌ منير ... إذ توارى كما توارى البدور
غاب لا غاب ثم عاد كما كا ... ن على الأفق طالعاً يستنير
لا تسلني عن الوزير فقد نب ... ئت بالوصف أنّه سابور
لا خلا منه صدر دستٍ إذا ما ... قرَّ فيه تقرُّ منه الصدور
وكتب إليه وقد أعيد إلى الوزارة بعد أن صرف عنها:
قد كنت طلقت الوزارة بعدما ... زلت بها قدم وساء صنيعها
فغدت لغيرك تستحيل ضرورة ... كيما يحل إلى ذراك رجوعها
فالآن آلت ثم آلت حلفةً ... أن لا يبيت سواك وهو ضجيعها
ما أخرج من شعره في الهجاء
قال:يا جامعاً لخلال ... قبيحة ليس تحصى
نقصت من كل فضل ... فقد تكاملت نقصا
لو أن للجهل شخصاً ... لكنت للجهل شخصاً
وقال:
أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمل أنّي أقول لكَ اخسأ ... لست اسخو بها لكلّ الكلاب
وقال:
يا ذا الذي صام عن الطعم ... ليتك قد صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم أمرأً ظالماً ... أحشاؤه ملأى من الإثم
وقال:
أبو الفضل إذا يحص ... ل فيما بينا فضل
وما نؤثر أن يدخ ... ل في شطرنجنا بغل
وقال في إنسان ساقط لبس عمامة سرية:
يا من تعمّم فوق رأس فارغ ... بعمامة مرويةٍ بيضاء
حسنت وقبّح كل شيءٍ تحتها ... فكأنها نور على ظلماء
لما بدا فيها أطلت تعجبي ... من شر شيء في أجلّ إناء
لو أنني مكنت مما اشتهي ... وأرى من الشهوات والآراء
لجعلت موضعها الثرى وجعلتها ... في رأس حرّ من ذوي العلياء
وقال:
ألا قل لأهل الدولة النذلة التي ... ثوى داؤها فينا وأعيا دواؤها
لقد كبت الدنيا على أم وجهها ... فنحن لها أرض وأنتم سماؤها
فلا تفلحوا بالحظّ منها فإنه ... قليل على هذا المحال بقاؤها
وقال:
وراكب فوق طرف ... كأنّه فوق طرفي
له قذالٌ عريض ... يجل عن كل وصف
يذوب شوقاَ إليه ... نعلي وخفّي وكفِّي
وقال:
قرنُ ابن هاورن قد تمادى ... علوه فالغيور غيرهُ
فكاشفته البظراء جهراً ... بفسقها حين قل خيره
خلت به للنكاح يوماً ... فقام حرها ونام أيره
وقال:
يبدي اللواط مغلطاً وعجانه ... أبداً لأعراد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذا غدا ... لحبالهم وعصيهم يتلفف
وقال:
يا رب علج أعلج ... مثل البعير أهوج
ذي فيشة عظيمة ... إن دخلت لم تخرج
رأيته مطلعاً ... من خلف باب مرتج
وتحته دنيّةٌ ... تذهب طوراً وتجي
فقلت: فاضي أيدجٍ؟ ... فقال قاضي أيدج
وقال في رئيس أمرد:
وأرعن من سكر الحداثة ما صحا ... دفعنا إلى تعظيمه وهو ما التحى
له همّة لكنّها في حتارة ... فما يطلب العلياء إلا لنكحا
فلو أن ما قاسى من الأير دبره ... يقاسيه من سير المعلم أفلحا
وقال في إنسان شريف الأصل وضيع النفس:
قل للشريف المنتمي ... للغرّ من سرواته
آبائه وجدوده ... والزهر من أماته
وهو الوضيع بنفسه ... وعيوبه وهناته
والظاهر السوءات في ... أخلافه وصفاته
لا تجرين من الفخا ... ر إلى مدى لم تاته
شاد الألى لك منصباً ... قوضت من شرفاته
وأبوك متصل به ... لعققتهم ببتاته
إن الشريف النفس لي ... ست تلك من فعلاته
والعود ليس بأصله ... لكنه بنباته
والماء يفسد إن خلط ... ت أجابه بفراته
وأحق من نكسبه ... بالصفع من درجاته
من مجده من غيره ... وسفاله من ذاته
وقال في هجاء أبخر:
إني بليت بقرنان يساررني ... سيّان عندي مجشاه ومفساه
القبر نكهته، والسمّ ريقته ... والموت عشرته، والبخر نجواه
وفي المعنى:
في أبي الفضل من النق ... ص ضروب وصنوف
رجلٌ في وعده خل ... فُ، وفي فيه خلوف
فإذا قاوضك القو ... ل فقد فاض كنيف
وقال:
لم تر العين أبخراً ... كابن نصرٍ ولا ترى
مدخل الخبز منه أخ ... بث من مخرج الخرى
وقال:
قد أبصرت عيني العجائب كلّها ... ما أبصرت مثل ابن نصر أبخر
ما شم نكهته أمرؤ متعطرٌ ... إلا استحال مخاطه منها خرى
وقال:
نطق ابن نصر فاستطارت جيفة ... في الخافقين لنتن فيه الفاسد
فكأن أهل الأرض كلّهم فسوا ... متواطئين على اتفاق واحد
وقوله:
يا ابن نصرٍ ته ما شئت بالبخرة ... إذا بلغتك حالاً شريفه
لك في الناس مثل معجزة الخض ... ر، وإن كنت منه بئس الخليفة
لا يشمون حين تجتاز طيباً ... ويشمون حين تجتاز جيفة
وقال:
ما مرّ بي في عمري ... مثل سرار القنطرى
مكّنته من أذني ... فبال فيها وخرى
وقال من قصيدة لأبي الفضل الشيرازي يوصيه بغلمانه ويعلمه بحالهم ويذره من شخص عرض به:
نبّ هذا التيس نبّا ... وعلى الغلمان هبّا
كلّما نادى غزالاً ... منهم للنيك لبّى
ما رأينا قبل هذا ... رشأ طاوع كلبا
ليس فيهم صغير ... وكبير يتأبّى
وغدت دار أبي الفض ... ل لهذا التيس زربا
وهو يزداد على ذا ... ك به ضناً وعجبا
يا أبا الفضل استمع نص ... ح امرئ يصفيك حباً
سرح غلمانك للسر ... حان قد أصبح نهبا
ما أخرج من شعره في الشعر
قال:أحبّ الشعر يبتدع ابتداعاً ... وأكره منه مبتذلاً مشاعا
ولي رأي غيور في المعاني ... فما آتي بها إلاّ افتراعا
وقدماً كانت الأبكار أحظى ... من العون التي انتهبت شعاعاً
وقال:
رب شعر أطاله طول معنا ... ه وإن قلَّ لفظه حين يروى
وطويل فيه الكلام كثير ... فإذا ما استعدته كان لغواً
عرض البحر وهو ماء أجاج ... وقليل المياه تلقاه حلوا
وقال:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعراً من الثلج أبردُ
فيا رب إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجودوا
وقال من قصيدة في الصاحب:
لو تراخيت عن مديحك لاستج ... ررت من كلّ نعمة لك هجوا
فتأمل وانظر إليه إذا ما ... طبق الخافقين حضراً وبدوا
كيف تحدو به عفاتك حدواً ... ثم تشدو به قيانك شدوا
ما أخرج من شعره في العتاب
قال من قصيدة:وأيامٍ تعدّ عليّ عدّا ... وحظيّ من رغائبها يفوتُ
يظنّ الناس لي فيها ثراء ... وحسبي من ظنون الناس قوت
كأنّي من تخاصمهم مكينٌ ... وحالي من خصاصتها تموت
ولم آل اجتهاداً واحتفالاً ... ولكنْ أعيت الحيل البخوت
إذا رام الكريم شكاة بثَّ ... فغايته التحمّل والسكوت
وقال من قصيدة في عبد العزيز بن يوسف:
كفاني علاء حين أفخر أننّي ... أضاف إلى عبد العزيز وأنسبُ
حنته عليَّ الحانيات فصرت في ... كفالته كالابن وهو له أب
فها أنا كالأولاد والفرع أشمط ... وها هو كالآباء والفرع غيهب
ومنها:
عممتم جميع الناس حسناً لمحسن ... وعفواً لذي جرم فغيثوا واخصبوا
فما بال إبراهيم إذ ليس قبله ... وليٌّ عراقيّ غداً وهو مجدب
مجليهم في حلبة أرسلوا ... وسكيتهم في رتبة حين رتبوا
ومالك يا عيني البصيرة غمضت ... جفونك عني حين أبكي وأندب
وكيف استطبت العيش في ظل نعمة ... غلامك عنها بالعراء يعذّب
أتضرب صفحاً وادع الجأش ساكنا ... وجنبي على رمضائه يتضرّب
متى لم يكن ترياق جاهك ضامناً ... نجاتي إذا دبت إلى الحال عقرب
و مالي إذا لم أسق ريّاً من الحيا ... ولم ترو مني غلة الروح أخصب
ولكنه التقويم إن كان طعمه ... أمرّ فعقباه الحميدة تعذب
ومن ذا الذي أهلتموه لنكبة ... تقومه إلا العذيق المرجّب
إذا منصلٌ بالغتم في صقاله ... فما هو إلا المشرفي المجرب
ولم تشحذوا حديه حيفاً وإنمّا ... تريدون أن تسطوا به وهو مقضب
تجرّعت هذا الشري كالأري عالماً ... بأن سوف يحلو لي جنى فيه طيب
ويا سوء حالي لو جريت لديكم ... بمجرى الذي لا يصطفي فيهذب
فصبراً على بؤسي قليلٌ بقاؤها ... لنعمى لنا فيها مراد ومرحب
لئن غمني التأنيب فيكم وساءني ... لقد سرّني أن كنت ممن يؤنب
وعلمي باستحكام حقي لديكم ... يحقق ظنّي إنّ جرمي سيوهب
وإنك للحر الذي لي عنده ... وديعة ودِّ خيرها مترقب
وقال:
صديق لكم يشكو إليكم جفاكم ... وفي قلبه داء من الشوق قاتل
تناسيتموه وهو للعهد ذاكر ... وللغيب مأمون وللحبل واصل
يقول لكم والوجد بين ضلوعه ... مقيم وقد جمت عليه البلابل
أكابرنا عطفاً علينا فإننا ... بنا ظمأ برح وأنتم مناهل
وقال:
ومن الظلم أن يكون الرضا س ... راً ويبدو الإنكار وسط النادي
ومن العدل أن يشاع بهذا ... مثل ما شاع ذاك في الإشهاد
كي يسرّ الصديق بالعفو عنّي ... مثل ما سر بالنكير الأعادي
ما أخرج من شعره في الشكوى والحبس
قال:قد كنت أعجب من مالي وكثرته ... وكيف تغفل عنه حرفة الأدب
حتى انثنت وهي كالغضبى تلاحظني ... شزراً فلم تبق لي شيئاً من النشب
فاستيقنت أنّها كانت على غلط ... فاستدركته وأفضت بي إلى الحرب
الضب والنون قد يرجى التقاؤهما ... وليس يرجى التقاء اللّب والذهب
وقال أيضاً:
كأنّ الدهر من صبري مغيظ ... فليس تغبنّي منه الخطوب
يحاول أن تلين له قناتي ... ويأبى ذلك العود الصليب
ألاقي كل معضلة نآدٍ ... بوجه لا يغيره القطوب
وأعتنق العظيمة إن عرتني ... كأنّ قد زارني منها حبيب
وبين جوارحي قلب كريم ... تعجب من تماسكه القلوب
تلوح نواجذي والكأس شربي ... وأشربها كأنّي مستطيب
ففوق السرّ لي جهرٌ ضحوك ... وتحت الجهر لي سر كئيب
سأثبت إن يصادمني زماني ... بركنيه كما ثبت النجيب
وأرقب ما تجيء به الليالي ... ففي أثنائه الفرج القريب
وقال:
قاسيت من دهري سفيهاً ... ما إن رأيت له شبيهاً
ثبتت نصال سهامه ... في ثغرة لي تنتحيها
فكأنني استقبلته ... بمقاتلي إذ أتّقيها
وقال:
إذا لم يكن يدٌ من الموت للفتى ... فأروحه الأوحى الذي هو أسرع
وما طال عمر قط إلاّ تطاولت ... بصاحبه روعات ما يتوقع
فكن عرضاً بالعيش لا تغتبط به ... فمحصوله خوفٌ وعقباه مصرع
وقال:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... وأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرّق
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيّق
وقال:
عهدي بشعري وكلّه غزل ... يضحك عنه السرور والجذل
أيام همّي بحبة بهم ال ... قلب عن النائبات مشتغل
فالآن شعري في كلّ داهية ... نيرانها في الضلوع تشتعل
أخرج من نكبة وأدخل في ... أخرى فتحسبي بهن متصل
كأنها سنة مؤكدة ... لا بد من أن تقيمها الدول
فالعيش مرٌّ كأنه صبرٌ ... والموت حلو كأنّه عسل
وقال في الاستتار من قصيدة:
ليس لي منجد على ما أقاسي ... من كروبي سوى العليم السميع
دفتري مؤنسي وفكري سميري ... ويدي خادمي وحلمي ضجيع
ولساني سيفي وبطني فريضي ... ودواتي عيني ودرجي ربيعي
أتعاطى شجاعة أدّعيها ... في القوافي لقلبي المصدوع
بمقالٍ أعزَّ من ليث غاب ... وفعال أذلّ من يربوع
كلما هرّ في جواري هرَّ ... كاد ينقضي إلى فؤادي المروع
وإذا اجتاز في السطوح فمنقبل قبوع الجرذان منه قبوعي
وكتب من الحبس قصيدة منها:
كتبتُ أقيك السوء من محبس ضنك ... وعين عدوي رحمة منه لي تبكي
وقد ملكتني كفُّ فطٍّ مسلّطٍ ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهم فازددت صفوة ... كذا الذهب الإبريز يصفو على السبك
؟وكتب إلى صديق له وهو محبوس:
نفسي فداؤك غير معتدٍّ بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أنّ لي مالاً سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صفرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن أستطيل ذماءها
فإذا شكرت لمن فداك فإنّني ... لك شاكرٌ أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفديُّ حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وكتب وهو في الحبس إلى أبي العلاء صاعد بن ثابت:
أيها السيد قد كن ... ت إلى الوصل تسارعُ
وتراعينا ببر ... موالٍ متتابع
فلماذا قد تسربل ... ت لنا سربال قاطع
نحن كالنسرين في الصحبة ... لكنّي واقع
وعلى الطائر أن يغشى ... أخاه ويطالع
وكتب إلى قاضي القضاة أبي محمد بن معروف، وقد كان زاره في معتقله رقعة هذه نسختها: لقد قوي دخول سيدنا قاضي القضاة إلى نفسي، وجد أنسي. وأعزب نحسي، ووسع حبسي. فدعوت الله تعالى بما قد ارتفع إليه، وسمعه له.فإن لم أكن أهلاً لأن يستجاب مني، فهو أيده الله أهل لأن يستجاب فيه، وأقول مع ذلك:
دخلت حاكم حكام الزمان على ... صنيعة لك رهن الحبس ممتحن
أخنت عليه خطوب جار جائرها ... حتى توفاه طول الهمّ والحزن
فعاش من كلمات منك كنّ له ... كالروح عائدة منه إلى البدن
وقال في مستخر مال كان يرفق به حال مصادرته ويتشكر منه في تلك الحال:
لله در أبي محمد الذي ... ضمنتْ إساءته بنا إحسانا
طويت جوانحه على خيريّة ... مكتومة تبدو لنا أحيانا
حر تكلف غير ما في طبعه ... من قسوة تكسو العزيز هوانا
عكس النفاق لنا فأخفى باطناً ... حسناً وأظهر ضدّه إعلانا
وله خلال العسف رفقٌ ربما ... سغشى الضعيف الرازح الحيرانا
مستخرج للمال مضطر إلى اس ... تعمال ما يرضي به السلطانا
متلطف في فقرنا ولو أنه ... وجد السبيل إلى الغنى أغنانا
يتطرق الأستار لا عن نيةٍ ... ولو استطاع لها الصيانة صانا
متوعر الجنبات في استخراجه ... وإذا تعطف للفتوة لانا
فتراه في ديوانه مستأسداً ... ليثاً وفي خلواته إنساناً
رجلٌ يؤدّبنا ونحن مشايخ ... مثل المعلم يضرب الصبيانا
عدنا وقد شبنا إلى حال الصّبا ... في مكتب يستشهد الولدانا
نهواه علماً أنه خير لنا ... من غيره أن قلّد الديوانا
عجباً له إذ هذه آثاره ... فينا وهذا شكرنا وثنانا
فالله يحفظه علينا راضياً ... ويعيدنا من بأسه غضبانا
وقال أيضاً في الحبس:
إذا لم يكن للمرء بدٌّ منّ الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو رائع ... تطيف به اللذات والحظ مسعد
فإن أك شرّ العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيّان يوما شقوة وسعادةٍ ... ذا كان غباً واحداً لهما الغد
وكتب إلى عضد الدولة وقد خرج إلى الزيارة بالكوفة:
توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد
نزور أمير المؤمنين فياله ... ويالك من مجد مسيخ على مجد
فلم ير فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد
مددت إلى كوفان عارض نعمةٍ ... بصوت بلا يرق يروع بلا رعد
وتابعت أهليها ندىً بمثوبةٍ ... فرحت إلى فوزٍ وراحوا إلى رفد
أمولاي مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب تستعدي
وهذي يدي مدّت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ومن ردّ
أتاني شتاءٌ ليس عندي دثارهُ ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد
فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد
أزيحت لنفسي علّتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد
وداويت داءي النقضين ذا بذا ... أعدّل إفراطاً ن الضد بالضد
ولكني أستبطن الحر كربه ... وأستظهر الضّر الشديد من البرد
وكم تثبت الحوباء في شبح به ... جروح دوام من مناحسة النكد
أليمات وقع لو تكون بيذبل ... تضعضع ركناه تضعضع منهدّ
فلو لا رجاء ملء أرجاء أضلعي ... وعلم يقين بالرعاية والعهد
وأنّ نسم الانعطاف تهب لي ... هبوب نسم النرجس الغضّ الورد
قضيت بإحداهن نحبي حسرة ... ولو كان لي قلب من الحجر الصلّد
وهبني قد حملتها فأطقتها ... إطاقة صلب العود مصطبر جلد
فمن لي بصبر عن جبينك لامعاً ... إذا شيم ما بين السماطين من بعد
براني بريّ القدح شوقٌ مبرحٌ ... إليه ووجد جلّ عن صفة الوجد
إذا أبصرت عيناي خداً معفراً ... نقلت الترب منه إلى خدي
وإن سمعت أذناي عنك محدثاً ... لهجت بتكرير الحديث الذي يبدي
فذكراك جهري حين يطرق زائري ... ونجواك سري حين أخلو بها وحدي
فلا تبعدني عنك من أجل عثرةٍ ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدي
ولو كنت تنفي كلّ من جاء مخطئاً ... إذا لعممت الناس بالنفي والطرد
ومن زل يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد
ولي عند مولانا وديعة حرمة ... وشكر أياديه وديعته عندي
فإن عشت كانت عدتي وذخيرتي ... وإن لم أعش فهي التراث لمن بعدي
توالت سنيّ أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سلّ من العقد
أحوم إلى رؤياك كما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد
فيا أيها المولى الذي اشتاق عبده ... إليه أما تشتاق يوماً إلى العبد؟
فإن كان لم يبلغ إلى رتبة الرضا ... فبلّغه فيما قبلها رتبة الوعد
ومر أمرك العالي بتغيير حاله ... وتخفيف ما يلقى من البؤس والجهد
لعلك ترضى عودةً بعد بدأةٍ ... فيغدو بوجه أبيضٍ بعد مسودّ
فقد يجبر العظم الكسير وربما ... تزايد بعد الجبر شدّة مشتد
وقال:
هجرت دواتي بعد تصريف حلّها ... وواصلت كالورّاق قارورة الحبر
وعاشرت من دون الأخلاء دفتراً ... يحدّث عما مرّ في سالف الدهر
فطوراً يسليني التعلل بالمنى ... وطوراً يكون الموت مني على ذكر
قال:
جملة الإنسان جيفة ... وهيولاه سخيفة
فلماذا ليت شعري ... قيل للنفس شريفة؟
إنما ذلك فيه ... صنعة الله اللطيفة
وقال أيضاً:
أتهاب في العزمات ظ ... لماً ربما وقيت عنه
وأمامك الموت الذي ... أيقنت أن لا بدّ منه
هذي سبيل الخائب الك ... ابي الزناد فلا تكنه
الدهر خوّان ول ... كن كم سعيد لم يخنه!
وشقيّ جدّ قد تحرّ ... ز بالتصوف لم يصنه
فاحذر مراراً أن يخو ... ن ومرة لك فأتمنه
واستبر لحظك بالتقل ... ب في المطالب وامتحنه
وابسط رجاءً قد قبض ... ت وثق بربك واستعنه
وقال أيضاً
ألا أيها الإنسان لأنك آيساً ... من الدهر أن يصفو عليك مشاربه
فإنّ لك حتماً من الشر واجباً ... وحتماً من الخير الهَنِيّ عواقبه
وإن تلق من حتميه ما كنت تبتغي ... فأولى بك الحتم الذي أنت طالبه
ستكسب ما ترجو ولو كنت كارهاً ... ككسبك ما تخشى وأنت مجانبه
وقال:
قد تحابى الجواد نائبة الده ... ر وفيها على البخيل وقاحة
كم رأينا من نعمة قادها البخ ... ل وأخرى تذود عنها السماحه
ربما ضرها التشددّ والضّب ... ط فأضحت من أصلها مجتاحه
فهي محميّة إذا نيل منها ... وإذا عزّ نيلها مستباحه
وخصوم الشحيح يسعون فيما ... غض من طرفه وهاض جناحه
وبنات القلوب تصغي إلى من ... كان أسخى نفساً وأطلق راحه
ما أخرج من شعره في الشيب والكبر
وذكر آخر أمره
قال:يقول الناس لي في الشيب عن ... يزيد به جلال المرء ضعفاً
ولو لا أنه ذلٌّ وهون ... لما احتكم المزين فيه نتفا
أخذه من قول الأول:
كفاك من ذلتي للشيب حين بدا ... أني توليت نتفي لحيتي بيدي
وقال:
لقد أخلقت جدّتي الحادثات ... ومن عاش في ريبها يخلق
وبدّلتني صلعاً شاملاً ... من الشعر الفاحم الأغسق
وقد كنت أصلع من عارضي ... فقد صرت أصلع من مفرقي
وقال:
لما دهتني السنون بالصّلع ... وقل مالي وضاق متّسعي
حاسبت عن لمّتي مزينها ... حساب شيخ للحزم متبع
قلت له اقنع عن قسط نابتها ... بالربّع ممّا به عملت معي
واعمل على أنها مزارعةٌ ... شكوت فيها شكاة متّضع
فاحطط خرج الذي أصبت به ... واستوف منّي خراج مزدرع
وقال:
وجع المفاصل وهو أي ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... واليأس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير ... سب في أواخره القذى
وكتب إلى أبي الحسن النقيب الموسوي:
أقعدتنا زمانةٌ وزمان ... عائق من قضاء حق الشريف
فاقتصرنا فيما نؤدي من الفر ... ض على الكتب والرسول الحصيف
والفتى ذو الشباب يبسط في التق ... صير عذر الشيخ العليل الضعيف
وكتب إليه يمدحه ويشكو إليه زمانته، وسوء أثر السن عليه، وحاجته إلى الجلوس في المحفة إذا أراد التصرف في حوائجه. وذلك في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة:
إذا ما تعدّت بي وسارت محفّة ... لها أرجل يسعى بها رجلان
وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان
نزلت إليها عن سراة حصان ... بحكم مشيي أو فراش حصان
فقد حلمت منّي ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان
كما حمل المهد الصبيُّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان
ولي بعدها أخرى تسمى جنازة ... جنيبة يومٍ للمنية داني
تسير على أقدام أربعة إلى ... ديار البلى معدودهن ثماني
وإني على غيث الردى في جوانبي ... وما كف من خطوي وبطش بناني
وإن لم يدع إلا فؤاداً مروعا ... به غير باق من أذى الخفقان
تلوم تحت الحجب ينفث حكمة ... إلى أذن تصغي لنطق لسان
لأعلم أني ميّتٌ عاق دفنه ... ذماء قليل في غدٍ هو فاني
وإن فماً للأرض غرثان حائماً ... يراصد من أكلي حضور أوان
به شره عم الورى بفجائع ... تركن فلاناً ثاكلا لفلان
غدا فاغراً يشكو الطوى وهو رائع ... فما تلتقي يوماً له الشفتان
فكيف وحدّ القوت منه فناؤنا ... وما دون ذاك الحدّ رد عنان
إذا عاضنا بالنسل ممن يعوله ... تلا أوّلاً منه بمهلك ثاني
إلى ذات يومٍ لا ترى الأرض وارثاً ... سوى الله من إنسٍ يراه باني
محمداً المحمود من آل أحمد ... أبا كلّ بكر في العلا وعوان
أبا حسن قطعت أحشاء حاسد ... طواها على البغضاء والشنآن
يراك بحيث النجم تصدع قلبه ... بحد لسان أو بحد سنان
جرى جاهداً والعفو يفوته ... فكان هجيناً طالباً لهجان
وأنت سماء في الذؤابة صاعداً ... وذاك حضيض في القرارة عاني
أقيك الرد إني تنبّهت من كرىً ... وسهوٍ على طول المدى اعتوراني
فأثبتُّ شخصاً دانياً كان خافياً ... على البعد حتى صار نصب عياني
هو الأجل المحتوم لي جد جدّه ... وكان يريني غفلة المتواني
له نذرٌ قد آذنتني بهجمة ... له لست منها آخذاً بأمان
ولا بد منه ممهلاً أو عاجلاً ... سيأتي فلا يثنيه عنّي ثاني
هنالك فاحفظ في بنيّ أذمتي ... وذد عنهم روعات كل زمان
فإني أعتدُّ المودة منك لي ... حساماً بع يقضون في الحدثان
ذخرت لهم منك السجايا وإنّها ... لأنفع مما يذخر الأبوان
وفاءَ ومدّاً للنجاح عليهم ... وضنّاً بهم عن مس كل هوان
وحرمة أسلاف كرام حقوقها ... ديون على الخلّين يصطحبان
وحظك منها حسب شأنك إنّه ... تعاظم قدراً أن يقاس بشان
وقد ضمن الله الجزاء المحسن ... وحسبك من واف وفى بضمان
وهذا قريضي وهو همَّ بعثته ... إلى همّةٍ عذراء ذات بيان
فكنت كمن جارى جواداً بمفرق ... قوائمه مشكولة بحران
فإن لثمتني بالغبار سوابقاً ... قوافيه من لفظ وحسن معاني
فلا عار إن قصرت دون مبرز ... شأن الناس قبلي سعيه وشآني
وعذري إليه خاطر كل بعدما ... ثوى وهو ماضي الشفرتين يماني
كذا الدهر إمّا عاد ينقض ما بنى ... وإما بنى ما ينقض الملوان
وإن أخرتني اليوم سنَّ تقدمت ... فقد أسلفتني حوز كلّ رهان
ليالي طارت بي عقابُ بلاغتي ... وبذت بغاثا ما استطاع يراني
أبابيل جابت دون إدراك غايتي ... على أنّها لم تأل في الطيران
فأجابه أبو الحسن بقصيدة منها:
ظماني إلى من لو أراد سقاني ... وديني على من لو يشاء قضاني
ولو كان عندي معسراً لعذرته ... ولكنّه وهو المليّ لواني
رمى مقلتي واسترجع السهم دامياً ... غزالٌ بنجلاوين تنتضلان
أأرجو شفائي منه وهو الذي جنى ... على بدني داء الضنى وشجاني
أبيت فلم استسق من كان غلّتي ... ولم استرش من كان قبل يراني
فإن أسر فالعلياء همّي وإن أقم ... فإني على بكر المكارم باني
وإن أمض أترك كلّ حيّ من العدى ... يقول ألا الله نفس فلان
أكرر في الإخوان عينا صحيحة ... على أعين وضربني عنده بجران
هو اللافتي عن ذا الزمان وأهله ... بشيمة لا وان ولا متواني
إخاءٌ تساوي ودّاً وألفةٌ ... رديع صفاء لا رضيع لبان
تمازج قلبانا تمازج إخوة ... وكلّ طلوبي غاية أخوان
وربّ قريب بالعداوة ساخط ... وربّ بعيد بالمودة داني
وغيرك ينبو عنه طرفي مجانباً ... وإن كان مني الأقرب المتداني
لئن رام قبضاً سن بناتك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان
وإن بزّ من ذاك الجناح مطاره ... قربّ مقال منك ذي طيران
وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان
وإن هدمت منك الخطوب بمرّها ... فثمّ لسانٌ للمناقب باني
مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظرٌ ... وما سمعت من سامع أذنان
وموسوعة مقطوعة العقل لم تزل ... شوارد قد بالغن في الجولان
وما زل منك الرأي والحزم والحجى ... فتأسى إذا ما زلت القدمان
ولو أن لي يوماً على الدهر إمرة ... وكانت لي العدوى على الحدثان
خلعت على عطفيك برد شيبتي ... جواداً بعمري واقتبال زماني
وحملت ثقل الشيب عنك مفارقي ... وإن فلّ من غربي وغض عناني
وناب طويلاً عنك في كل عارض ... وخط بخطوٍ أخمصي وبناني
على أنه ما انفل من كان دونه ... حميم يرامي عن يد ولسان
وما كل من لم يعظ نهضاً بعاجز ... ولا كل ليث خادر بجبان
وإنك ما استرعيت مني سوى فتىً ... صبورٍ على رعي المودة حاني
حقي إذا ما ضيع المرء قوله ... وفي إذا ما خون العضدان
من الله استهدي بقاك وأن ترى ... محلاً لأيام العلا بمكان
وأسأله أن لا تزال مخلّداً ... بملقى سماع بيننا وعيان
إذا ما رعاك الله يوماً فقد قضى ... مآرب قلبي كلها ورعاني
وكتب إليه أبو إسحاق أيضاً، وكان بين إنفاذه إليه هذه القصيدة وبين موته اثنا عشر يوماً، ولعلها آخر شعره:
أبا كل شيء قيل في وصفه حسن ... إلى ذاك ينحو من كناك أبا الحسن
فوحدها للاختصار إشارة ... إلى جملة تفصيلها لك مرتهن
تخوّلتها في خلقة وخليقة ... وإن لم تكن أنت الخليق بها فمنْ
وما هي إلا كنية لك إرثها ... وإن مسها من غير أربابها الدرن
؟ولو أنّ في تحريمها لي قدرة لما أصبحت في غير بيتك تمتهن
ألست لها بعد الموصي وآله ... وأنتم أناسٌ فيكم المجد قد قطن
ولكنّ هذا الدهر جار عليكم ... وبالغ حتى في الكنى لكم محن
يجاذبكم علياءكم كل حاسدٍ ... به مرضٌ بين الحيازم قد كمن
فيجري إلى غاياتكم طالباً لها ... على غير منهاجٍ وأنتم على السنن
مناقبكم حقّ بدت بيناته ... ودعواه أضغاث يراهن في الوسن
لكم في الثريا خطة وهو في الثرى ... فيا بعدها من أن يلزّهما قرنْ
وقد تستوي الأشخاص في عين من رأى ... وتفترق الأعيان في فهم من فطن
وبين وسيمات الوجوه تشابهٌ ... فكن فاصلاً بين التهيج والسمن
وإن جلدة الوجه الوسيم تغضنت ... فلا تحسبن تلك الغضون بها عكن
توقّلتمُ في كلّ هضبة سؤدد ... فأوفيت واستعليت منها على القنن
تقسم هذا الفضل بين طوائف ... وأقسامه مجموعة فيك تختزن
غدواً لك كالأبعاض إذ أنت كلهم ... كمالا عجيباً مثله قط لم يكن
تراهم إذا غابوا عن المنزل الذي ... تحلّ به كانوا حضوراً له إذن
وإن غبت عنهم ظاعناً بان فقرهم ... إلى الواحد الفذ الذي عنهم ظعن
وإما يباريك المباري بهيئة ... وزيّ وملبوسٍ على جسمه حسن
ففي درعك الإنسان تمت صفاته ... وجمعت معاليه وفي درعه الوسن
كتبت إلى ابن الموسوي رسالةً ... بلا دخلٍ يدنو إليها ولا دخن
بأنّي مذ بايعتني الودّ جاعلٌ ... سوادي من قلبٍ وعينٍ له ثمن
فإن رمته من صادقٍ غير ماذقٍ ... فدونك صدري مسكناً تحته شجن
إذا اغتربت منك الموالاة عند من ... ينافق فيها فهي عندي في الوطن
صفت مثل ما تصفو المدام من القذى ... وطابت كما طابت من الغير الدخن
ولمن لا وأنت الماجد السيّد الذي ... له مننٌ لم تستطع حملها المنن
أقيك الردى ليس القلا عنك مقعدي ... ولكن دهاني بالزّمانة ذا الزمن
وغادرني حلف المضاجع راهناً ... على خلّةٍ في الحال والنفس والبدن
فإن تنأ منك الدار فالذكر ما نأى ... وإن بان مني الشخص فالفكر لم يبن
وإن طال عهد الإلتقاء فدونه ... عهودٌ عليها من رعايتنا جنن
وأيسر حدٍ يلزم النازح الفتى ... من الحقّ بسط العذر للدّالف اليفن
وقال الشريف يجيبه عن هذه القصيدة، وجعل الجواب على رويها دون وزنها لأن ذلك الوزن المقيد لا يجيء الكلام فيه إلا متقلقلا، ولا النظم بزعمه إلا مختلاً:
دع من دموعك بعد البين للدّمن ... غداً لدارهم واليوم للظّعن
هل وقفة بلوى خبت مؤلّفةٌ ... بين الخليطين من شام ومن يمن
عجنا على الربع أنضاء محرمة ... أثقالها الشوق من بادٍ ومكتمن
موسومة بالهوى تدري برؤيتها ... أنّ المطايا مطايا مضمري شجن
ثم انثنينا على بأسٍ وقد شرقت ... نواظر بمجاري دمعها الهتن
من مبلغ لي أبا إسحاق مألكةً ... عن حنو قلب سليم السرّ والعلن
جرى الوداد له مني، وإن بعدت ... منا العلائق، مجرى الماء في الغصن
لقد توامق قلبانا كأنهما ... تراضعا بدم الأحشاء لا اللبن
مسوّدٌ قضبَ الأقلام نال بها ... نيل المحمر أطراف القنا اللّدن
إن لم تكن تورد الأرماح موردها ... فما عدلت إلى الأقلام عن جبن
والطاعن الطعنة النجلاء عن جلد ... كالقائل القولة الغراء عن لسن
ما قدر فضلك ما أصبحت ترزقه ... ليس الحظوظ على الأقدار والمهن
قد كنت قبلك دهري على حنق ... فزاد ما بك في غيظي على الزمن
أنت الكرى مؤنساً عيني، وبعضهم ... مثل القذى مانعاً عيني من الوسن
قد جاءت النفثة الغراء ضامنةٌ ... ما يوثق النفس في سرّ وفي علن
أنطت من حسنها ماءً بلا نضب ... وحزت من نظمها دراً بلا ثمن
فاقتد إليك أبا إسحاق قافيةً ... قود الجواد بلا حبلٍ ولا رسن
أنشدتها فحدا سمعي غرابتها ... إلى الضمير حداء الركب بالبدن
كانت تقاعس لو ما كنت قائدها ... تقاعس البازل المحبوب في شطن
تستوقف الركب إن مرت معارضة ... بهدي عقيلتها العذراء من لمن
ذكر وفاة أبي إسحاق
وما رثاه به الموسوي
توفي يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية. فرثاه أبو الحسن بهذه القصيدة الفريدة التي أفصح بها عن بعد شأوه في الشعر. وعلو محله في كرم العهد، وقد كتبتها كلها لحسن ديباجها كثرة رونقها، وجودة ألفاظها ومعانيها، واستهلالها:
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النّادي؟
جبل هوى لو خر في البحر اغتدى ... من وقعه متتا بع الإزياد
ما كنت أعلم قبل دفنك في الثرى ... أنّ الثرى يعلو على الأطواد
بعداً ليومك في الزمان فإنه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد
لا ينفد الدمع الذي يبكي به ... إن القلوب له من الأمداد
كيف انمحى ذاك الجناب وعطلت ... تلك الفجاج وضلّ ذاك الهادي
طاحت بتلك المكرمات طوائح ... وعدت على ذاك الجلال عوادي
قالوا أطاع وقيد في شطن الردى ... أدي المنون ملكت أي قياد
من مصعب لو لم يقده إلهه ... لقضائه ما كان بالمنقاد
هذا أبو إسحاق يغلق رهنه ... هل ذائد أو مانع أو فادي
لو كانت تفدى لافتديتك فوارس ... مطروا بعارض كل يوم طراد
وإذا تألق بارق لوقيعه ... والخيل تفحص بالرجال بداد
سلوا الدروع من العياب وأقبلوا ... يتحدثون على القنا الميّاد
لكن رماك مجبن الشجعان عن ... إقدامهم ومضعضع الأنجاد
كالليث يهون بالتراب ويمتلي ... غيظاً على الأضغان والأحقاد
والدهر تدخل نافذات سهامه ... مأوى الصلال ومربض الآساد
ألقى الجران على عنطنط حمير ... فمضى ومدّ يداً لأحمر عاد
أعزز عليّ بأن أراك وقد خلت ... من جانبيك مجالس العواد
أعزز عليّ بأن أرك بمنزل ... متشابه الأمجاد والأوغاد
أعزز علي بأن يفارق ناظري ... لمعان ذاك الكوكب الوقاد
أفي عصبة جنبوا إلى آجالهم ... والدهر يعجلهم عن الإرواد
ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم ... من غير أطناب ولا أعماد
ركبٌ أناخوا لا يرجى منهم ... قصد لإتّهام ولا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة ... للدهر نازلة بكل مقاد
فتهافتوا عن رجل كلّ مذلل ... وتطارحوا عن سرج كل جواد
بادون في صور الجميع وإنّهم ... متفردون تفرد الآحاد
مما يطيل الهمّ أن أمامنا ... طول الطريق وقلّة الأزواد
عمري لقد أغمدت منك مهنداً ... في الترب كان ممزق الأغماد
قد كنت أهوى أن أشاطرك الردى ... لكن أراد الله غير مرادي
ولقد كبا طرف الرقاد بناظري ... منذ افتقدت فلالعاً لرقادي
ثكلتك أرض لم تلك لك ثانياً ... أني ومثلك معوز الميلاد
من للبلاغة والفصاحة إن همى ... ذاك الغمام وعبّ ذاك الوادي
من للملوك يحز في أعناقها ... بظباً من القول البليغ حداد
من للممالك لا تزل تلمها ... سداد ثغر ضائعٍ وسداد
من للممارق تسترق قلوبها ... بزلازل الإبراق والإرعاد
وصحائف فيها الأرقم كُمّن ... مرهوبة الإصدار والإبراد
تدمي طوابعها إذا استعرضتها ... من شدة التحذير والإبعاد
حمر على نظر العدو كأنها ... بدم تخط بهن لا بمداد
يقدمن إقدام الجيوش. وباطل ... أن يهزمن هزائم الأجناد
فقر بها تمسي الملوك فقيرة ... أبداً إلى مبدأ لها ومعاد
وتكون سوطاً للحرون إذا ونى ... وعناق عنق الجامح المتمادي
نزقي وتلدغ في القلوب، وإن تشا ... حط النجوم بها من الإبعاد
أما الدموع عليك غير بخيلة ... والقلب بالسلوان غير جواد
سودت ما بين الفضاء وناظري ... وغسلت من عينيّ كل سواد
ري الخدود من المدامع شاهد ... أن القلوب من الغليل صوادي
ما كنت أخشى أن تضنّ بلفظة ... لتقوم بعدك لي مقام الزاد
ماذا الذي منع الفنيق هديره ... من بعد صولته على الأذواد
ماذا الذي حبس الجواد عن المدى ... من بعد سبقته إلى الآماد
ماذا الذي منع الهمام بوثبةٍ ... وعدا على دمه وكان العادي
قل للنوائب عددي أيامه ... لغنىً عن التعديد بالتعداد
حمال ألوية العلاء بنجدة ... كالسيف يغني عن مناط نجاد
قلصت أظلة كل فضل بعده ... وأمر مشربها على الوراد
فقضي جنانك مذ خبت وقداته ... أن لا بقاء لقدح كل زناد
بقيت أعيجان يضل تبيعها ... ومضت هواد للرجال هوادي
يا ليت أني ما اقتنيتك صاحباً ... كم قنية جلبت أسىً لفؤادي
من لم يسف إلى التناسل نفسه ... كفي الأسى بتفاقد الأولاد
برد القلوب بمن تحب بقاءه ... ممّا يجر حرارة الأكباد
ليس الفجائع بالذخائر مثلها ... يا ماجد الأعيان والأفراد
ويقول من لم يدر كنهك إنهم ... نقصوا به عدداً من الأعداد
هيهات أدرج بين برديك الردى ... رجل الرجال وأوحد الآحاد
لا تطلبي يا نفس خلاّ بعده ... فلمثله أعيا على المقتاد
فقدت ملاءمة الشكول لفقده ... وبقيت بين تباين الأضداد
ما مطعم الدنيا بحلو بعده ... أبداً ولا ماء الحيا ببراد
الفضل ناسب بيننا إذ لم يكن ... شرفي مناسبة ولا ميلادي
إن لا تكن من أسرتي وعشيرتي ... فلأنت أعلقهم يداً بودادي
أو لا تكن عالي الأصول فقد وفى ... عظم الجدود بسؤدد الأجداد
لا درّ دريّ إن مطلتك ذمة ... في باطن متغيب أو بادي
إن الوفاء كما اقترحت فلو تكن ... حياً إذاً ما كنت بالمزداد
ليس التنافس بيننا بمعاود ... أبداً وليس زماننا بمعاد
ضاقت عليّ الأرض بعدك كلّها ... وتركت أضيقها عليَّ بلادي
لك في الحشا قبرٌ وإن لم تأوه ... ومن الدموع روائح وغوادي
سلوا من الأبراد جسمك فانثنى ... جسمي يسل عليك في الأبراد
كم من طويل العمر بعد وفاته ... بالذكر يصحب حاضراً أو بادي
ما مات من جعل الزمان لسانه ... يتلو مناقب عود وبوادي
فاذهب كما ذهب الربيع وإثره ... باق بكل مهابط ونجاد
لا تبعدن وأين قربك بعدها ... إنّ المنايا غاية الإبعاد
صفح الثرى عن حرّ وجهك إنّه ... مغرىً بطىً محاسن الأمجاد
وتماسكت تلك البنان فطالما ... عبث الردى بأنامل الأجواد
وسقاك فضلك إنه أروى حياً ... من رائح متعرض أو غادي
؟جدث على أن لا نبات بأرضه ... وقفت عليه مطالب الرواد
ومر يوماً بقبره وهو بالجنينة من أرض كرخايا فقال:
أيعلم قبر بالجنينة أننا ... أقمنا به نبغي الندى والمعاليا؟
عطفنا فحيينا مساعيه إنها ... عظام المساعي لا العظام البواليا
مررنا به فاستوقفتنا رسومه ... كما استوقف الروض الظباء الجوازيا
وما لاح ذاك الترب حتى تخيلت ... من الدمع أوشال ملأن المآفيا
نزلنا إليه عن ظهور جيادنا نك ... فكف بالأيادي الدموع الجواريا
ولما تجاهشنا البكاء ولم نطق ... عن الوجد إقلاعنا عذرنا البواكيا
أقول لركب رائحين تعرجوا ... أريكم به فرعاً من المجد ذاويا
ألمّوا عليه عاقرين فإننا ... إذا لم نجد عقراً عقرنا القوافيا
وحطوا به رحل المكارم والعلا ... وكبوا الجفان عنده والمقاريا
فلو أنصفوا شقوا عليه ضمائراً ... وجزوا رقاباً بالظبا لا نواصيا
وقفنا فأرخصنا الدموع وربما ... تكون على سوم الغرام غواليا
ألا أيها القبر الذي ضم لحده ... قضيباً على هام النوائب ماضياً
هل ابن هلال منذ أودى كعهدنا ... هلالاً على ضوء المطامع باقيا
وتلك البنان المورقات من الندى ... نواضب ماء بواق كما هيا؟
فإن نيل من ذاك اللسان مضاؤه ... فإن به عضواً من المجد باليا
مجيب الدواعي حائداً أو مدافعاً ... هناك مرم لا يجيب الداعيا
وما كنت آبى طول لبث بقبره ... لو أني إذا استعديته كان عاديا
صفائح تستسقي الدموع روائحاً ... على جانبيها والغمام غواديا
ترى الكلم الغران من بعد موته ... نوافر ممن رامهن نوائيا
هو الخاضب الأقلام نال بها علاً ... تقاصر عنها الخاضبون العواليا
معيد ضراب باللسان لو أنه ... بيوم وغىً فل الجراز اليمانيا
مرير القوى نال المعالي واثباً ... إذا غيره نال المعالي حابيا
مضى لم يمانع عنه قلب مشيع ... إذا هم لم يرجع عن الهم نائياً
ولا المسندوه بالأكف إلى الحشى ... على جزع المفرشوه التراقيا
ولا رد في صدر المنون براحة ... يرد بها سمر القنا والمواضيا
خلا بعدك الوادي الذي كنت أنسه ... وأصبح تعروه النوائب وادياً
أرحت علينا ثلة الوجد ترتعى ... ضمائرنا أيامها واللياليا
ولولاك كان الصبر منا سجية ... تراثاً ورثناه الجدود الأواليا
رضيت بحكم الدهر فيك ضرورة ... ومن ذا الذي يغذو بما ساء راضيا
وطاوعت من رام انتزاعك من يدي ... ولو أجد الأعوان أصبحت عاصيا
تطامنت كيما يعبر الخطب جانبي ... فألقي على ظهري وجر زماميا
ملأت بمحياك البلاد مساعياً ... ويملأ مثواك البلاد مناعيا
كما عم عالي ذكرك الخلق كلّه ... كذاك أقمت العالمين نواعيا
رثيتك كي أسلوك فازددت لوعةً ... لأن المراثي لا تسد المرازيا
وأعلم أن ليس البكاء بنافع ... عليك ولكنّي أمنّي الأمانيا
؟
الباب الرابع
؟في ذكر ثلاثة من كتاب آل بويه
يجرون مجرى الوزراء
أولهم
أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف
أحد صدور الشرق، وفرسان المنطق، وأفراد الكرم الكبار، الحسان الآثار، والأخبار، وأعيان الممدحين المقدمين في الآداب والكتابة، والبراعة والكفاية، وجميع أدوات الرياسة. وكان مع تقلده ديوان الرسائل لعضد الدولة طول أيامه معدوداً في وزرائه، وخواص ندمائه، وتقلد الوزارة بعده دفعات لأولاده.وأنا أورد من غرر نثره التي تعرب عن أدب فضفاض، وخاطر بالإجادة والإحسان فياض. ومن لمع شعره التي هي أحسن من زهر الرياض، وأسلس من الماء على الرضراض، ما هو من شرط هذا الكتاب، المشتمل على ملح الآداب.
ما أخرج من سلطانياته فصل من كتاب عن الطائع لله، إلى ركن الدولة، لما ورد عضد الدولة العراق: فأنت وعضد الدولة كلأكما الله يد أمير المؤمنين فيما يأخذ ويذر، وناظراه فما يقرب ويبعد. بكما افترش مهاد الملك بعد إقضاضه، ورفع منار الدين بعد انخفاضه. فأبشر من الله تعالى بالحسنى، إن الله لا يضيع أجر المحسنين.
ومن كتاب عنه إلى عضد الدولة وراع الشرف الذي أفرعك أمير المؤمنين ذروته، وعقد بك ذؤابته. وتوقل في فلك الفخر كيف أردت، ومس في حلل المجد أنى شئت. واستدم النعمة عليك بالتقوى لله تعالى، وبحسن الطاعة لأمير المؤمنين، فإنهما جنتاك وعدتاك وذريعتاك المشفعتان عند اله تعالى في أولاك وأخرك. وأحسن كما أحسن الله إليك.
ومن كتاب عنه إلى أهل الشام قد علمتم بشهادة الآثار، وتظاهر الأخبار، ما أعد الله لأمير المؤمنين بطاعته وليه المنصور، وصفيه المبرور. وعضد الدولة أيده الله تعالى من حام حقيقته، ساد خلته، راع سدته ورعيته. لا يثنيه عن غاياته عارض الشام، لا يلهيه عن هماته راحة الحمام:
مضاميره أعيت على من يرومها ... وكل مدى عن غايته قصير
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر ... ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس
فهو عين أمير المؤمنين إذا نظر، ولسانه إذا نطق، ويده إذا لمس، ألانت أم أمضت. ووطأت أم أقضت.
ومن كتاب إلى عضد الدولة في فتح كرمان وتأمروا على الوقوع إلى ناحية الجروم، وأجنهم الليل فادرعوه مقتادين بخزائم أنوفهم، إلى مصارع حتوفهم.
ومن كتاب عنه في عود الطائع إلى بغداد والتقائه معه ولما ورد أمير المؤمنين النهروان. أنعم بالإذن لنا في تلقية على الماء فامتثلناه وتقبلناه، وتلقانا من عوائد كرمه، ونفحات شيمه، والمخائل الواعدة بجميل آرائه، وعواطف إنحائه، ورعاية ما كنفنا يمنه، وشايعنا عزه، إلى أن وصلنا إلى حضرته البهية، شرفها الله تعالى في الجديدية التي استقبلت منه بسليل النبوة وقعيد الخلافة، وسيد الأنام، والمستنزل بوجهه درر الغمام، فتكفأت علينا ظلال نوره وبشره، وغمرتنا جهات تفضله وفضله. وقرب علينا سنن خدمته، وأنالنا شرف القعود بين يديه، على كرسي أمر بنصبه لنا عن يمينه، وأمام دسته،وأوسعنا من جميل لقياه، وكريم نجواه، ما يسم بالعز أغفال النعم، ويضمن الشرف في النفس والعقب، ويكفل من الفوز في الدين والدنيا بغايات الأمل. وكانت لنا في الوصول إليه، والقعود بين يديه، في مواقع ألحاظه، وموارد ألفاظه، مراتب لم يعطها أحد فيما سلف ولم تجد الأيام بمثلها لمن تقدم. وسرنا في خدمته على الهيئة التي ألقى شرفها علينا، وحصل جمالها مدى الدهر لدينا، إلى أن سار إلى سدة دار الخلافة والسعود تشايعه. والميامن تواكبه. وطلائع الآمال تشرف عليه. وثغر الإسلام يبتسم إليه. فعزم علينا بالانقلاب معه على ضروب من التشريف، لا مورد بعدها في جلال، ولا موقف وراءها لمذهب في جمال. واجتلت الأعين من محاسن ذلك المنظر، وتهادت الألسن من مناقب ذلك المشهد، ما بهر بصر الناظر، وعاد شمل الإسلام مجموعاً، ورواق العز ممدوداً، وصلاح الدهماء مأمولا، ونور الدين والدنيا مرقوباً.
ومن كتاب عنه إلى أخيه مؤيد الدولة لما فتح جرجان: وصل كتاب مولاي بذكر الفتح الذي ألبسه الله جماله، والنجح الذي قرب الله عليه مناله. والنعمة التي نبت عن متعاطيها فانتقلت إليه، والمملكة التي اضطربت بمالكيها فقرت لديه.
ومن كتاب إلى أخيه مؤيد الدولة أيضاً في ذكر عله نابته من الحمى. ورد على الخبر بعارض من الحرارة، وعك له سيدي مؤيد الدولة أيده الله تعالى، يعقب دواء تناوله، واتصال ذلك بمليلة أزعجته، وحمى نابته. فتصرفت في الأفكار، وملكني الإشفاق، وخلص إلى قلبي - من ألم ما عراه وإلى نفسي من وجل ما شكاه - ما كاد يوحش جناب الأنس، ويخل بشيمه الصبر، لولا أن المعهود في مثل هذا العارض يعقب الاستفراغ أكثر الأمر، ثم تفضي عقباه إلى استقبال الصحة والإبلال والقوة، حرس الله ساحته، وحمى مهجته، وأحسن الدفاع عنه!
ومن كتاب عنه في ذكر وفاة ركن الدولة: وكانت المصيبة نفرت سرب النعم، ورقت شرب الأمل، وأوحشت رباع المجد والكرم، لولا ما عصم الله به، وهدى له من تذكر النعمة في ثروة العدد، والبقية الحسنى في الأخوة الولد، ثم في العزة والقدرة والسلطان والبسطة، وفيما شد به الأعضاد، في إخوان الصفاء الذين سيدي الله تعالى ناظم شمل محاسنهم، وفائت سبق أفاضلهم.
ومن كتاب في ذكر أبي تغلب: وقد كان الغضنفر بن حمدان، حين نفضته المذاهب، ولفظته المهارب. وأقلقته عن مجاثمة المكايد والكتائب، وتطوح إلى بلاد الشام، ينتقل بين مصارع، يحسبها مراتع. ومجاهل يعدها معالم، يروم انتعاشاً والجد خاذله، ويبغي انتعاشاً والبغي طالبه.
ومن كتاب إلى الأمير خلف بن حمدان: وأما ما صحب فلاناً من ألطاف وأتحاف، فقد وصل وكان البعض منه كافياً في البر، وافياً بالحق. إلا أن سيدي يأبى إلا الإغراق في اللطف قائلاً وفاعلاً، لا أعدمه الله شمية الفضل، ولا أخلاني فيه من كلام العهد، ومما أقف في موقف العذر في مخاطبة سيدي أن فلاناً ورد علي، وقد ضاق الوقت عن توفيته واجب حقه لاستمرار العزائم في قصد نواحي العراق، لإعادة ما نضب بها من ماء السياسة، وما في جنباتها من رواق الأمر والنهي، بضعف المنن، وانتكاث المرر. وكتبت كتابي هذا وقد استقل بي المسير، مقدماً بعون الله كتائب الرعب مستصحباً مفاتح النصر.
ومن كتاب في فتح ميا فارقين: فأمرنا أبا الوفاء أن يلين لأهل البلد، إبقاء على ذلك الثغر من أن تصاب له ثغرة، واتقاء لاراقة دم فيه شبهة.
ومن كتاب آخر: ولما ضاق عن هذا المخذول حلمنا باتساع غوايته، ووعر الطريق إلى استبقائه. استخرنا الله تعالى في استرجاع ما ألبسناه من النعم.
ومن كتاب عن نفسه إلى مؤيد الدولة: وصل كتاب مولانا جواباً عما خدمت به حضرته المحروسة، مهنئاً، فحسبتني وقد تأملت عنوانه - مغلوطاً بي، أو معنياً به غيري، إعظاما لتلك الأيادي الغر، والنعم الزهر، التي اعددتها في الشرف مناسب، وإلى الأيام والليالي ذرائع.
ومن كتاب عن عضد الدولة: وزيد الآن عادة الألطاف بدواب تستكرم مناسبتها، وتحمد نجابتها. ويعرف عنقها في المنظر، وسرها في المخبر، نرضاها لركابنا، ونعتمدها باختيارنا عائدة بإحمادنا واعتدادنا.
ما أخرج من إخوانياته كتب إلى الصاحب: كتابي أدام الله عز مولانا وحالي - فيما أعانيه من تمثيل حضرته وتذكر خدمته، والمواقف التي سعدت فيها برؤيته. وأفدت من مشاهدته حظها ومقابلة نعم الله عليه وعلى الأدب وحزبه، والكرم وأهله فيه - حال امرئ هب وقد أوردته الأحلام مناهل أمله، فهو يتلهف تذكراً. ويتلذذ تحيراً. ويناجي النفس مثلاً، ويراقب المنى تعللا. وأحمد الله تعالى على الأحوال كلها، وأسأله قرب الإدالة، والعقبى السارة، وأقول:
أقول وقلبي في ذراك مخيم ... وجسمي جنيب للصبا والجنائب
يجاذب نحو الصاحب الشوق مقودي ... وقد جاذبتني عنه أيدي الشواذب
سقي الله ذاك العهد من الحيا ... وتلك السجايا الغر غر السحائب
تذكرت أيامي بقربك والمنى ... يقابلني بالعزّ من كل جانب
وفي ربعك الدنيا تزفّ محاسناً ... وتفتر منك عن ثنايا مناقب
وقد لحظت عيناي من شخصك العلا ... ومن فرعك الفينان أعلى المناسب
ومن لفظك الدر المصون، ومن حيا ... محياك ما لم تجره كفّ خاطب
وأخلاقك الغرّ التي لو تجسمت ... لكانت نجوماً للنجوم الثواقب
ففاضت على خدي سوابق عبرة ... كما أسلمت عقداً أنامل كاعب
سلام على تلك المكارم والعلا ... تحية خلّ عن جنابك غائب
يكابد ما لو كان بالسيف ما مضى ... وبالمزن لم تبلل لهاةٌ لشارب
وإني وإن روّعت بالبين شائمٌ ... طوالع عتبي من طلاع العواقب
وما أنا بالناس صنائعك التي ... كتبن عليّ الرق ضربة لازب
ابتدأت أطال الله بقاء مولاي الصاحب بكتابي هذا. وفي نفسي إتمامه نثراً، فمال طبعي إلى النظم، وأملى خاطري على يدي منه ما كتبت، ونعم المعرب عن الضمير مضمار القريض، وقد اقتصرت عليه من الكتاب ناطقاً عني، وائقاً بما عنده لي، وأنا أسترعيه غيبه، واستغطيه عيبه، وكنت كتبت إلى حضرته من أول منزل أو ثانية بذكر ما أودعه حر الفراق قلبي، وأزالته أيدي الأشواق من عزائم صبري، وتوقعت الجواب عنه فأبطأ، وورد هذا الركابي خالياً من كتابه وكانت عادة كرمه جارية عندي بخلافه، لو لا الثقة به وبما استفدته من اللقاء والخدمة، وحرمة الوفادة والهجرة من أذمة عهده لأبديت ما أخفيت من قلق وانزعاج، لاختلاف العادة علي، ومولادي ولي صوني عن موقف الظن والرجم بالغيب، فإني مهتم في خدمته على حسب الضن بها، ومنافسة كل أحد عليها، إن شاء الله تعالى.
ومن كتاب له إليه: قد كان ورد لمولانا الصاحب أدام الله عزه:
كتاب لو أن الليل يرمي بمثله ... لألقيت يداً في حجرتيه ذكاء
تهادى بأبكار المعاني وعونها ... وأعيان لفظ ما لهنّ كفاء
شوارد لو لا أنهن أوالف ... ضرائر إلا أنهن سواء
لبسنا بها نعمى وألبست الربا ... خمائل روض جادهن سماء
بنان ابن عبادة تعلين نوءه ... وما صوبه إلا حياً وحياء
وثلاث كتب تناظرت في الحسن والإحسان، وتقابلت في البر والإنعام. لا زالت أياديه قلائد الأعناق، ومراميه مضامير السباق. ولا انفكت عين الله حامية له، وكافلة به! ومن كتاب له: وقف مولانا على ما كتبت به معرضاً بخدمته، ومجلياً عن نيته، فصدقته وحققه، وقال آدم الله سلطانه: إن لسان أثره في الفصاحة كلسان قلمه. يتجاريان كفرسي رهان. وناهيك بالأول اشتهاراً ووضوحا، وبالثاني غرراً وحجولاً. وكنا لمثل هذه الحال نعده ونعتمده، وننتجز عدات الفضل عنه، وحسبنا ما أفادتنا التجارب فيه كافلاً بالسعادة، ودرك الإرادة، وما زالت مخائله وليداً وناشئاً. وشمائله صغيراً ويافعا، نواطق بالحسنى عنه وضوامن النجح فيه، فقد أصبح الظن أيقاناً، والضمان عيانا، والتقدير بيانا، والاستدلال برهانا، ونرجو أن الله بحسن الامتناع به، والدفاع عنه، كما أحسن الظن به وحقق الأماني فيه.
ومن كتاب: وقفت على الأبيات التي أتحفني بها سيدي، وتكلفت لجوابها، على ظلع في خاطري لطول السفار، واتصال حالي بالحل والترحال، ومولاي يأخذ العفو ويرضى الميسور، ويعذر مستأنفاً على التقصير في جواب ما يأتيني من أمثاله ما دمنا في ملكه الهواجر وتعب البكر والأصائل.
ومن كتاب له إلى الصاحب في فتح عمان وإبادة الزنوج بها، وما وصل إلى عضد الدولة من الغنائم.
وكانت لأولئك الكفرة عادة اشتهرت منهم في استباحة الناس وأكل لحومهم، وبلغ من كلبهم على ذلك أنهم كانوا يتنقلون بينهم إذا شربوا بأكف الناس، وسأل مولاي عن هذا النقل الغريب فحكى له عنهم أنه لا شيء في الإنسان ألذ من كفه وبنانه، وكان في ذلك اليوم الذي شارف فيه طلائع العسكر المنصور باب عمان ثار من بعض المكامن طوائف من أولئك الكلاب فكبا ببعض الغلمان دابته فاختلسوه واقتسموه بينهم وأكلوه في الوقت، وتعجب الناس من ضراوتهم وقساوتهم، وقد أبادهم الله تعالى جده وطهر البر والبحر من عبثهم ومعرتهم، فانقاد أهل جبال عمان باخعين بالطاعة، معتصمين بذمة الجماعة، وتمت نعمة الله على مولانا في هذا الفتح وكملت له مغانم الأجر، ووصل أمس غنائم تلك الناحية وفيها فيل صغيرة بقدر الفرس. ما عهد ألطف ولا أظرف منه، وفي الغنائم كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، والله تعالى يجني مولانا ثمار الأرض برا وبحرا، سهلا ووعرا، بمنه وكرمه آمين.
ومن كتاب له إلى ذي الكفايتين أبي الفتح:
فأما استبطاؤه لعبده في تراخي ما كان مستشرقاً من جهته، لعلمه من أخبار حضرة مولانا الملك وما عليه حاله في مساورة الإشفاق، ومسامرة الأفكار. إلى أن يعرف خبر الخيل المنصورة المصاحبة ركاب مولانا في سلامتها من وقدة تلك الهواجر، ووعورة تلك المسالك، وما تولى الله تعالى مولانا به من كفايته، وأفاء عليه من ظل حفظه وحراسته، فقد وقفت عليه وكنت طلعت حضرته بكتب جمة تقر بها العيون، ويفاد بمثلها السكون. وانتظرت الشرخ حال الاستقرار، واستجماع الدار. ليكون ما أطالع به ناهضاً بما أنحوه، ومغنياً عما يتلوه، من غير فكر في عوادي الأسفار، وعواقب الحل والترحال، إلى ما اعتمدته من التخفيف لتكافؤ الأحوال بنا وبه في المسير، ومناصبه الهجير. وأنا أعود لعادتي في خدمته، واستعمار عهدي من رأيه بمواصلة حضرته.
ومن كتاب له إلى أبي إسحاق الصابي: علمت كيف تنتظم فرق البلاغة، وتلتقي طرق الخطابة، وتتراءى أشخاص البيان، وتتمايل أعطاف الحسن والإحسان. وقرأت لفظاً جليا، حوى معنى خفيا، وكلاما قريبا، رمى غرضا بعيداً وفصولاً متباينة، كساها الأئتلاف صور المشاكلة، ومنحها الامتزاج صيغة المضارعة، ولحمة الموافقة فصارت لدلالة الأول منها على الثاني، وتعلق العجز بالهادي، فيها أولاد أرحام مبرورة، وذوات قربى موصولة، تتعاطف عيونها، وتتناصف أبكارها وعونها.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب سيدي بكلام شرف في نفسه، وكرم في جنسه، فهو جوهر الفضل والألفاظ أعراض، وعنصر الأدب والمعاني أغراض. وفهمته فهم من قعدت به الاستطالة عن موقف الشكر فاستسلم، واكتنفه العجز فسلم وسلم، وأعيته العبارة عن موجب البر فلاذ بأكناف العجز، واعترف بالقصور عن مفترض الحق.
ومن كتاب له إليه: وصل كتاب مولاي بما قرب إلى جناه، وبعد على مداه، من محاسن لفظه ونظمه، ومباره التي ما زال يؤثرني فيها بالرغائب، ويصفيني منها بالعقائل. فوقفت منه بين اعتبار واقتباس، واعتذار اغتباط. واستبصار في موضع الفضيلة. وشكر لما جمع الله لي في وده من المنح الجزيلة، ووجدت خطابه مفتتحاً بشكوى الأيام في انحرافها ومكاره أحداثها، فاستوحشت منها لاستيحاشه، واستعديت عليها لاستعدائه، وشايعت المهجنين لآثارها، والزارين على أحكامها، لإعراضها دون آماله، وقدحها في أحواله. ولم يستبق الجمال لنفسه والفضل لأهله دهر اناخ على مولاي بصرفه،واختزله دون واجب حقه، وقد أجبت عن القصيدة وإن كنت اعملت فيها خاطراً قدمته السفر، وكده الحل والرحل، وعلى مولاي المعول في ضم نشره، وتسديد مختله، وحفظ غيبي فيه:
وقيت أبا إسحاق من حافظٍ عهداً ... وراعٍ لمن يمنى بفرقته ودّاً
ومنفرد بالمكرمات تألقت ... عليه المعالي فاستقل بها مجدا
بلوت أخلاّء الزمان وكلّهم ... سواءٌ فلا ذمًّا منحت ولا حمدا
ومن يبغ صفو الودّ من كل صاحب ... يكن صبحه ليلاً ومسعاته كدّا
سواك أبا إسحاق إنك والندى ... لأوفاهم عهدا وأصفاهم عقدا
وأبعدهم في كل مكرمة مدى ... وأنظمهم في جيد مأثرة عقدا
تلاقت بنا الآداب في خير منسب ... عليه تساقينا على ظمإ بردا
وألفن أرواح الصناعة بيننا ... فنحن معاً والدار نازحة جدا
ضلالة لدهر أنت من حسناته ... ولما تكن في نيل إحسانه الفردا
لعاً إنه الدهر العثور وإنه ... لسيّان من أجدى عليه ومن أكدى
يميل على ذي الفضل للجهل ضلّة ... يجرّعه سماً ويبدي له شهدا
على أنه سلمٌ لمن حلّ بالحمى ... حمى الملك المدعو للدولة العضدا
؟ما أخرج من شعره في عضد الدولة قال من قصيدة أولها:
ما للنوى وقفت دمعي على الطلل ... واستودعتني مطايا الحلّ والرّحل
ترمي بطرفك في أطرافها فترى ... ما في الضمائر من غشٍّ ومن دغل
أريتنا النقص في رأي الأولى وضعوا ... كرمان من خولٍ عنها ومن فشل
بمائها الوشل مع تمرها الدقل ... ولصّها البطل وأهلها الهمل
وكم تركت بها للناس من مثل ... وكم نصبت على الأنصاب من مثل
يفدي مقامك فيه الخلق قاطبة ... ونحن نفديك بالأرواح والمقل
وليس يثبت في فرع العلا قدم ... إلا إذا ثبتت في موضع الزلل
خلائق هذبتهنّ العلا فغدت ... بين الخلائق كالإسلام في الملل
اسعد بوافد نيروز تقابله ... باليمن والعز والتأييد والجذل
واستأنف العيش مسروراً بجدته ... في ظلّ عزّ مدى الأيام متّصل
ومن قصيدة قال في آخرها:
وهاك تهز عطفيها اختيالاً ... وتعجب كلّ مستمع ثناكا
تسير بها الرواة بكل أرضٍ ... وتطرب من أحبك أو قلاك
نظيرة تربها لفظاً ومعنى ... فدى لك من يقصر عن مداكا
وكل الشعر زورٌ ما خلاه ... وكل الناس زورٌ ما خلاكا
ومن أخرى فيه:
الله أكبر والإسلام قد سلما ... وعاد شمل العلا والمجد ملتئما
وظلّ ملك بني العباس معتلياً ... لما غدا ببغاة الحق مدّعما
بآل بويه أعلى الله رايته ... وشد من عقده ما كان منفصما
سادوا الملوك وشادوا المجد وابتدروا ... إلى ذرى أمدٍ نال السهى شمما
هم قلادة عزّ أنت واسطةٌ ... فيها، وكلّ بما قد قلته علما
ومنها في وصف السيوف:
بيضٌ تصافح بالأيدي مقابضها ... وحدّها صافح الأعناق والقمما
ضحكن من خلل الأغماد مصلتةً ... حتى إذا اختلفت ضرباً بكين دما
حنّت خراسان شوقاً إذ حننت لها ... حتى كأنكما نازعتما رحما
واهتز منبرها يهفو إليك، ولو ... أطاق لاخترق القيعان والأكما
رفعت راياتك اللاتي خفقن على ... أسدٍ نقلن على أكنافها أجما
لا تنتحي بلداً إلا أفضت به ... عدلاً وأجليت عنه الظلم والظلما
سامتك أبناء سامان فما بلغوا ... مدى من العزّ لم ترفع له علما
وناضلوك عن العليا فكنت بها ... أولى وأثبت منهم في العلا قدما
وصاولوك فكانوا في الوغى نقدا ... يأبى الصال وكنت البازل القطما
ومن عضدية في وصف مجلس:
فيا مجلساً عزّ الخلافة محدقٌ ... بأقطاره والندّ والنّور والخمر
وقد أرجت أرجاؤه وتعطرت ... بساطع نشرٍ ما يقاس به نشر
وفتح فيه النرجس الغض أعيناً ... محاجرها بيض وأحداقها صفر
كأن الشموع المشعلات خلاله ... ثواكل عبري ما ينهنهها الزّجر
إذا قطعت منها الرؤوس تضاحكت ... وكان على قطع الرؤوس لها بشر
ألا يا أمير المشرقين ومن به ... تفاخرت الدنيا وكان له الفخر
ولم تخلق الدنيا لغيرك فانتظر ... فهذا هو الفأل المحقق لا الزجر
وقال من سذقيه:
مالي لما بي من الهوى رمق ... كأنما سد دوني الطرق
كأنّ نار الأمير ساطعة ... من نار قلبي استعارها السذق
في ليلة باتت النجوم بها ... حائرة تنمحي وتنمحق
ونخرط الليل في النهار فما ... يؤنس إلا الصباح والشفق
بكل منشورة ذوائبها ... محمرة من شواظها الأفق
وقال في السكر المبني بشيراز، ويروي لغيره:
شربنا ذهباً يجري ... بشاطئ فضّة تجري
وما زلنا على السكر ... نداوي السّكر بالسكر
دربنا كيف أصبحنا ... وأمسينا وما ندري
وفاض الماء فيض البحر ... منصباً إلى بحر
كجدوي عضد الدو ... لة في نائله الغمر
أبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي
روضة مجد وشرف، وحديقة فضل وأدب، وكان أحد أركان الدولة الديلمية، يكتب لمعز الدولة أبي الحسين برسم المطيع لله، ويتصرف بالعراق في جلائل الأعمال، ويلاحظ بعين الإعظام والإجلال، وكان آخذاً بطرفي النظم والنثر، فمن مشهور شعره وجيده ما كتبه إلى القاضي التنوخي:
شوقي إلى القاضي المنيف بمجده ... شوقٌ يفوت الوصف أيسر حدّهِ
وبحسب فرط الأنس كان بقربه ... قلقي لما قد ساءني من بعده
ولو أنني مما أحبّ ممكّنٌ ... لم أعد إغذاذاً أسير لقصده
ووصلت أصال السرى بغدوها ... وقرنت إرقال المطيّ بوخده
لئن عدمت سعادتي بلقائه ... فلقد أقمت على رعاية عهده
وشكرت سالف برّه وأشعت مح ... كم ودّه وقضيت واجب حمده
وعلمت أني إن طلبت مشاكلاً ... لعلاه لم تظفر يداي بندّه
فقصرت إخلاصي عليه ممسكاً ... بإخائه محظى بمطلع سعده
من ذا يقاس إليه في آدابه ... أو علمه أو هزله أو جده
والمكرمات بأسرها في حزبه ... والصالحات جميعها من عنده
بجميل شاهده سالم غيبه ... وكريم صحبته وخالص وده
أفديه من حرٍّ حليف مناقب ... لولا تكامل فضله لم أفده
لم تجر أمجاد الرجال إلى مدىً ... للسبّق إلا حاز نيل أمده
وكأنّ أضواء المحاسن كلّها ... مقدوحة نيرانها من زنده
فالله يبقيه ويرغد عيشه ... ويعزه ويعيذنا من فقده
فأجابه القاضي بقصيدته وهي قوله:
روحي فداؤك والورى من بعده ... جرّدت سيف صبابتي من غمده
عين الإمام وكفّه اليمني وح ... دّ حسامه الماضي ووسطى عقده
كلفٌ ببذل المال يحسب غنمه ... في عزمه ونموّه في حصده
وجه يجول البشر فيه برونقٍ ... ماء السماح يفيض من إفرنده
متنقب بحيائه فكأنما ... شقّ الربيع شقيقه في خده
ومقابل من فارس في دوحةٍ ... أوفت على قحطانه ومعده
هو شدّ من أزر المكارم والعلا ... حدثاً ولمن يبلغ أوان أشده
يفديه من نوب الزمان معاشر ... أحرارهم لا يلحقون بعبده
أبدت مقابحهم محاسن فعله ... والضد يظهر حسنُه في ضدّه
ما كنت أعرف قدر ما خولته ... حتى بليت بقربه من بعهده
جاءت ألوكته إليّ كأنها ... وصل الحبيب اعتضته من صدّه
ففتحت حين فتحها عن روضة ... متفتح حوذانها في ورده
فقرأتها عوداً على بدءٍ كما ... عاد الموليّ في قراءة عهده
يا جنّة الخلد التي أنا نازل ... ما بين كوثرها وطوبى خلده
لو أستطيع ركبت متن الريح أو ... أسريت نحو ذراك مسرى وفده
وهو الزمان فإن يساعد صرفه ... فبجده يسعى الفتى لا كدّه
ولأبي أحمد المذكور في وصف سحابة أدركته فاكتسي بكساء حتى أقلعت:
خرجت من عندكم فأدركني ... سحابة ذات منظرٍ صلفٍ
غمامةٌ كالعمامة انتلفت ... فوق رؤوس المشاة في السّدف
تنالها كفّ من يزوالها ... تقول للمرء ويك لا تقف
يختطف الأرض وقع صيّبها ... مثل اختطاف المخالب العقف
فوقعه والكساء يدفعه ... وقع سهام الأتراك في الهدف
كأنّما كلّ قطرة وقعت ... عليه درّ بدا من الصّدف
لو أن ما ذاب منه يجمد لم ... يصلح لغير العقود والشنف
فيها من الرعد كالدبادب وال ... صنج إذا ما ضربن في شرف
واشتعل البرق في جوانبها ... مثل السيوف انتضين من غلف
قد جمعت حالتين في طلقٍ ... صوت عذول ودمع ذي لهف
لو كان كلّي لسان ذي نصرٍ ... بوصفه واحتشدت لم أصف
وكتب إلى الصاحب يشكو إليه على النقرش وعلو السن، فقال:
إلى الله أشكو ضنى شفنّي ... وكم قبلة من ضنى قد شفاني
وسقماً ألحّ فما لي بما ... أحاط برجلي منه يدان
تراني وقد كنت ثبت الجنان ... إذا الليل جنّ سليب الجنان
أقطع آناءه بالأنين ... وأرقب للصبح وقت الأذان
أنقّل في موضع موضع ... فحيث حللت نبا بي مكاني
أؤمل روحاً فيأتي النهار ... بأضعاف ما بتّ فيه أعاني
أقول أقيل فلا أستطي ... ع من ألم ملحف غير واني
فمن ليلة أرونانية ... ويوم بما ساءني أروناني
أرجيّ تقضي ما أشتكي ... ه من مرضٍ بتقضي الزمان
وإني قد جزت حدّ الكهول ... وناهزت ما عمّر الوالدان
وجرمت ستين شمسيّة ... فسدّت عليّ طريق الأماني
وأوهت عراي، وهدّت قواي ... وليس لما يهدم الدهر باني
وإن كان لا يهتدي صرفه ... إلى أجل منسإ غير داني
وكنت على ثقة أنه ... إذا شاء أبرأني من براني
فيا من له الخلق والأمر من ... بعافية منك تشفي ضماني
وجد لي نأي أجل أو دنا ... بعفو وسعت به كل جاني
وهبني لأحمد والمصطفي ... ن من آله وآل بيت الجنان
هم عدتي وبهم أتقي ال ... عقاب وأرجو خلود الجنان
فكتب إليه الصاحب مجيباً:
عناني من الهمّ ما قد عناني ... فأعطيت صرف الليالي عناني
ألفت الدموع وعفت الهجوع ... فعيناي عينان نضّاختان
لسقم ألحّ على سيد ... بد قد غفرت ذنوب الزمان
أحاط برجليه جوراً عليه ... وأني ونعلاهما الفرقدان
وكيف سطا بهما واستطال ... وأرض بساطهما النيران
وهلاّ تجاوزه قاصداً ... إلى عصبة عصبت بالهوان
إذا ما سعى لطلاب العلا ... فكلّ أوان همُ في توان
وسوف توافيه كفّ الشفاء ... بما أنشأت باسمه من أمان
وتفقأ في عيون الزمان ... عزيز المحل رفيع المكان
ويبقى جمالا لأقرانه ... وقد قصروا عنه ألفي قران
أتتني بالأمس أبياته ... تعلل روحي بروح الجنان
كبرد الشباب وبرد الشراب ... وظل الأمان ونيل الأماني
وعهد الصبي ونسيم الصبا ... وصفو الدّنان ورجع القيان
فلو أن ألفاظها جسمت ... لكانت عقود نحور الغواني
فيا ليت عمري في عمره ... يزاد ولو أنه حقبتان
فيا مهجة قدمت دونه ... بغانية عند ذكر الغواني
أجيب عن الشعر مسترسلاً ... بطبع شجاع وقلب جبان
فلو لا سكوني إلى فضله ... قبضت بناني بقبضي لساني
أبو القاسم علي بن القاسم القاشاني
بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين لأزمة البلاغة المتوقلين في هضاب المجد، المترقلين في درجات الفضل، وقد أخرجت من نظمه ونثره ما هو ثمرة العقل. وعين القول الفصل.فصل
كتابي أطال الله بقاء مولاي وأنا متردد بين جذل لتجدد بره في خطابه. وبين خجل من قوارع زجره وعتابه. فإذا خليت عنان انسى في رياض مباره، فرتعت جاذبيته لاعج الإشفاق. فلو كان سوء ظنه بي صادقاً لا اعترفت، ولعدت منه بحقوي كريم لا يبهظه اغتفار الجرائم، ولا بتعاظمه الصفح عن الجرائر.فصل
علقت هذه المخاطية والأشغال تكنفني، وكد الخاطر بأسباب شتى تقتسمني. ووراء ذلك كلال الذهن، بارتقاء السن، ونقصان الخواطر، بزيادة الشواغل. واستمرار البلادة، لمفارقة العادة. وهو والله يعيذه من السوء مقتبل الشاب، زائد الأسباب، مؤتنف المخايل، إلى علم لا يدرك مضماره، ولا يشق غباره فإذا حملني على مساجلته. فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع،فقد سلبني ثوب التجمل.فصل
أظلني من مولاي عارض غيث أخلف ودقه، وشامني من لائح غوث كذب برقه، فقل في حران ممحل أخطأه النوء، وحيران مظلم خذله الضوء.
فصل
وصل كتاب مولاي:فكم فرحة أَدى وكم غلة جلا ... وكم بهجة أولى وكم غمة سلّى
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للإخوان بمكانه، أن يتولى حفظ النعيم النفسية. ويديم حياطة المهج الخطيرة، بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظها في أيامه، وتحوز الفضائل أقصى غايتها في مضماره:
فينجح ذو فضل ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودّ ويكمد حاسد
؟؟
فصل
وما أرتضى نفسي لمخاطبة مولاي إذا كنت منفي الشواغل، فارغ الخواطر، مخلى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الجد، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة، والمعول على النية، وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة. والمرجع إلى العقيدة، وهي بالولاء المجض معروفة. فلا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجال للعذر وراء هذا الخلال.؟فصل مراتع أهل الفضل موبئة. ووجوده مطالب النزاع مظلمة غير مضيئة، إلا في محل الشيخ الخصيب، وفنائه المألف الرحيب، لا جرم أن الآمال عليه موقوفة، وأعنة الوراد إليه معطوفة، وداره مقصودة، وحاله مكدودة، والمنهل العذب كثير الزحام.
؟فصل إن كان أوداؤه في فضله مستهمين، وأولياؤه في إحسانه فوضى مشتركين. فلي بحمد الله عفو صنائعه، وصفو شرائعه، لا أسبق إلى جمامها، ولا أنازع ثني زمامها، فعلى حسب ذلك تصرفي وتجملي من أقسام ما يحدث عنده ويعرض له، هذا. وقد بلغني من تشريف الأمير المؤيد إياه بالعيادة، وإطالته عنده الإقامة ومعه المفاوضة، ما أمكن في نفسي، وقوى ثقتي وأنسي، فإنه لم يكن إلا سبباً لتجدد هذه النعمة، وذريعة إلى لباس هذه الرتبة. فالله الذي قرن لمولاي تيسير ما قد قاسى عظيم المجد الذي لا يوازي، وعميم الفخر الذي لا يسامي، ودل بقليل ما مسه على كثير ما وعدت تباشيره السعادة من مزيد الكرامة.
؟؟
فصل
قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الركب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالنضارة غبرة، وبالضياء ظلمة. واعتاض من تزاحم المواكب تلازم المآتم، ومن ضجيج النداء والصهيل، عجيج البكاء والعويل: وله من كتاب إلى الصاحب أوله هذه الأبيات:إذا الغيوم آرجفن باسقها ... وحف أرجائها بوارقها
وغيبت للثرى كتائبها ... وانتضيت وسطها عقائقها
وجلجل الرعد بينها فحكى ... خفق طبول ألح خافقها
وابتسمت فرحةً لوامعها ... واختلفت عبرةً حمالقها
وقيل طوبى لبلدة نتجت ... بحق أكنافها فوارقها
أية نعماء لا تجل بها ... وأي بأساء لا تفارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم ال ... قرم وزير الأيام وادقها
تحكي سجاياه هزةً وندىً ... وأين من خلقه خلائقها
ولتهد ريح الصبا محملةً ... أنفاس طيب أمست تعانقها
في روضة لا النعيم سابقها ... ولا نسيم الرياض لاحقها
جاور حوذانها بنفسجها ... وزان ريحانها شقائقها
هبت رخاء مريضة فشفت ... مرضي وشاق النفوس شائقها
لم تبق منه النوى سوى كبدٍ ... تدمي وعينٍ تجري سوابقها
إني وإن غالب الهوى جلدي ... صبري لصادي الأحشاء خافقها
ذكرى لأيامنا التي غفلت ... عنها العوادي ونام رامقها
إذا النوى لا تروعنا وإذ ال ... أيام مأمونة بوائقها
والله لو أنّ ما أكابده ... بهضب رضوى خرت شواهقها
هذا أطال الله بقاء مولاي نتائج أريحية، أثارها مخاطبات مولاي التي هي أنقع لغلتي من برد الشراب، وأعذب إلي من برد الشباب. فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظل أمانه وذمته، ليسبل عليه ستر مودته ويتأمل بعين محبته. نعم وقد محا الزمان آثار إساءته إليّ، بما أسعفني به من إقبال مولاي علي، وتتابع بره في مخاطباته لدي. فكل ذنب لهذه النعمة مغفور، وكل جناية بهذا الإحسان معمور.
فأجاب الصاحب بكتاب صدره هذه الأبيات:
بدت عذارى مدّت سرادقها ... وأقسم الحسنُ لا يفارقها
كواعبٌ أخرست دمالجها ... عنّا وقد أنطقت مناطقها
خراعب حقّها وصائفها ... تشي بأبدانها قراطقها
صينت عن العطر أن يطيبها ... إلا الذي حملت مخانقها
أم روضة أبرزت محاسنها ... وما يني قطرها يعانقها
فأورد الورد غصنها بدعا ... وشقَ عن أرضها شقائقها
وأعشت الناظرين حليتها ... وشاق أحداقهم حدائقها
أم أشرقت فقرة بدائعها ... حديقة زانها طرائقها
أتى بها بالكمال ناسجها ... وزانُها بالجمال ناسقها
لله حلف العلا أبو حسن ... وقد جرت للعلا سوابقها
فحاز خصل الرهان عن كثب ... وفرجت عنده مضايقها
لله تلك الألفاظ حاملةً ... غرّ معانٍ تعيي دقائقها
يكاد إعجازها يشككها ... في سورٍ أنها توافقها
أهدي سلاماً حكى السلامة من ... أسقام سوءٍ يخاف طارقها
كأنّه دارنا ولم يرها ... ناعبها للنوى وناعقها
كأنها غفلة الرقيب وقد ... مكنت من نظرةٍ أسارقها
أهديت منه ما لو تحمّله ال ... أيام لم يستقل عاتقها
تحدو به صبوة ركائبها ... راتكة لا يميل سائقها
خذها وقد أحصدت وثائقها ... وألحقت بالسّهى سواهقها
ناشدتك الله حين تنشدها ... وخلةً لا يخيل صادقها
إلاّ تعمّدت رفع رايتها ... ليملأ الخافقين خافقها
نعم وعش في النعيم ما طلعت ... شمس نهار وذرّ شارقها
هذا أطال الله بقاء مولاي أبيات علقتها والروية لم تعتلقها، واعتنقت فيها والفكرة لم تعتنقها، لا ثقة بالنفس وفائها، وسكونا إلى القريحة وصفائها، بل علماً بأني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكد ميدانه. لم أدان ما ورد من ألفاظ أيسر ما أصفها به الامتناع عن الوصف أن يتقصاها. والبعد عن الإطناب أن يبلغ مداها، ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين أقبالي وإدباري. إلى أن فكرت أن فضيلة المولى يشتمل عبده يخيم، وإن تصرفت عنده، فثاب إلى خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحاً وجوداً رجوت أن يحظى بطائل القبول، وأن يتبعه نقداً تراجع على أعقاب الخمول، هذا ولا عار على من سبقه سباق الزمان، المستولي على قصب الرهان.
ومن مشهور شعر علي بن القاسم وجيده قوله:
وإني وإن قصرت عن غير بغضة ... لراعٍ لأسباب المودّة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصد ما أرى ... وآبي فتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر العقبى وأغضي على القذى ... ألاين طوراً في الهوى وأغالظ
وأستمطر الإقبال بالود منكم ... وأصبر حتى أوجعتني المغايظ
وجربت ما يسلي المحب عن الهوى ... وأقصرت والتجريب للمرء واعظ
الباب الخامس
في ذكر
شعراء البصرة ومحاسن كلامهم
القاضي التنوخي
أبو القاسم علي ابن محمد بن داود بن فهم
من أعيان أهل العلم والأدب وأفراد الكرم، وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتك. أو اقترحت فإني مدرعة راهب. أو آثرت فإني نخبة شارب. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائراً ومادحاً، فأكرم مثواه، وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد، حتى أعيد إلى علمه، وزيد في رزقه ورتبته، وكان المهلبي الوزير وغيره من وزراء العراق يميلون إليه جداً. ويتعصبون له ويعدونه ريحانة الندماء، وتاريخ الظرفاء. ويعاشرون منه من تطيب عشرته، وتلين قشرته، وتكرم أخلاقه، وتحسن أخباره، وتسير أشعاره، ناظمة حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب.
وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيماً، في نهاية الملاحقة واللباقة، وكان يوثره على سائر غلمانه، ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض ما يأنس به ما يقول:
هل على من لامه مدغم ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحته نعم لم لا! ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذي ينادمون الوزير المهلبي، ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة، والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة، وابن معروف، والقاضي التنوخي وغيرهم. وما منهم إلا ابيض اللحية طويلها، وكذلك كان الوزير المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه، وهبوا ثوب الوقار، وتقلبوا في أعطاف العيش، بين الخفة والطيش، ووضع في يد كل واحد منهم كأس ذهب من ألف مثقال إلى دونها مملوء شراباً قطربلياً أو عكبرياً فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره، ويرش بها بعضهم على بعض، ويرقصون أجمعهم، وعليهم المصبغات ومخانق البرم والمنثور، ويقولون كلما كثر شربهم هرهر. وإياهم عنى السري بقوله:
مجالسٌ ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبة عبثاً ... أنامل مثل خمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شيبة فعلان ضرجت بدم
فإذا أصبحوا عادوا لعادتهم في التزمت والتوفر والتحفظ بأبهة القضاة وحشمة المشايخ الكبراء. وقد أخرجت من غرر الشعر التنوخي ما هو من شرط الكتاب فمن ذلك وصف الليل والنجوم بقوله:
رب ليل قطعته بصدود ... وفراقٍ ما كان فيه وداعُ
موحشٍ كالثقيل تقذى به الع ... ن وتأبى حديثه الأسماع
وكأنّ النجوم بين دجاه ... سننٌ لاح بينهن ابتداع
مشرقات كأنّهن حجاج ... تقطع الخصم والظلام انقطاع
وكأن السماء خيمة وشيٍ ... وكأنّ الجوزاء فيها شراع
كان ليلاً فصيرته نهاراً ... كتبٌ تكبت العدى ورقاع
وقوله:
كأنّما المريخ والمشتري ... قدامه في شامخ الرفعه
منصرف بالليل عن دعوة ... قد أسرجوا قدامه شمعه
وقوله وعهدي بأبي بكر الخوارزمي يستظرفه:
وجاء لاجاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وقوله:
كأنّ النجوم الزهر في غلس الدجى ... سنا أوجه العافين في سنة الردّ
وقد أبطأت خيل الصباح كأنّها ... بخيلٌ تباطا حين سيل عن الرفد
وقوله:
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عين الكرى وهي نوم
كأنّ عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأنّ سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفي أسود يتبسم
وقال في غور الكواكب عند الصباح:
عهدي بها وضياء الصبح يطفئها ... كالسرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيرةٌ ... فظل يطمس منها النور بالنور
وقال من سائر الأوصاف والتشبيهات:
بات يسقيني ويشرب ... ذهباً للهم مذهب
شادنٌ يحمل ماءً ... فيه نارٌ تتلهب
وردة ضاحكة عن ... أقحوان حين تقطب
لو أدرناها على مي ... ت لكان الميت يطرب
ليت شعري أسروراً ... أم مداماً بتّ أشرب
صبّ في الكاسات منها ... كالشهاب المتصوب
فرأيت الراح شرقاً ... ورأيت الهم مغرب
غصنٌ فوق كثيب ... ونهارٌ تحت غيهب
لك منه مطربٌ يرض ... يك إن شئت ومضرب
جنة عذّبت فيها ... بتجنّ وتجنّب
هل رأيتم أحداً قب ... لي بالجنّة عذّب
بأبي أنت وأمي ... من بعيد حين تقرب
لي قلب كيف ما قلّ ... به الله يقلب
وجفون يغضب الغم ... ض عليها حين يقلب
ربّ ليلٍ كتجني ... ك مقيمٌ ليس يذهب
قد قطعناه بعزم ... كالحريق المتلهّب
وكأنّ البرق لما ... لاح فيه ينتصب
كاتبٌ من فوق فرع ال ... غيم بالعقيان يكتب
وكأنّ الرعد حادٍ ... أو مناد أو مثوب
ونجوم الليل وقف ... كلآل لم تثقب
وبد البدر كسيف ... في يد الجوزاء مذهب
وقال، وهو من قلائده:
وراحٍ من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواءٌ ولكنّه ساكنٌ ... وماء ولكنّه غير جاري
إذا ما تأملتها وهي فيه ... تأمّلت نوراً محيطاً بنار
وما كان في الحق أن يجمعا ... لبعد التداني وفرط النفار
ولكن تجانس معناهما ال ... بسيطان فاتفقا في الجوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار
تدرع ثوباً من الياسمين ... له فرد كمٍ من الجلنار
وقال في وصف دجلة والقمر:
لم أنس دجلة والدجى متصوب ... والبدر في أفق السماء معربُ
فكأنها فيه بساطٌ أزرقٌ ... وكأنّه فيها طراز مذهب
وقال أيضاً في الروض:
ورياض حاكت لهنّ الثريا ... حللاً كان غزلها للرعود
نثر الغيث درّ دمع عليها ... فتحلّت بمثل در العقود
أقحوان معانقٌ لشقيق ... كثغور تعص ورد الخدود
وعيونٌ من نرجس تتراءى ... كعيونٍ موصولة التسهيد
وكأنّ الشقيق حين تبدي ... ظلمة الصدع في خدود الغيد
وكأنّ الندى عليها دموع ... في جفون مفجوعة بفقيد
وقال في البرد:
وليلة ترك البرد البلاد بها ... كالقلب أشعر بأساً وهو مثلوج
فإن بسطت يداً لم تنبسط خصراً ... وإن تقل فقل لي فيه تثليج
فنحن منه ولم نخرس ذوو خرس ... ونحن منه ولم نفلج مفاليج
وقال فيه أيضاً:
أما ترى البرد قد وافت عساكره ... وعسكر الحر كيف انصاع منطلقا
والأرض تحت ضريب الثلج تحسبها ... قد ألبست حبكا أو غثيت ورقا
فانهض بنار إلى فحم كأنّهما ... في العين ظلم وإنصاف قد اتفقا
جاءت ونحن كقلب الصبّ حين سلا ... برداً فصرنا كقلب الصب إذ عشقا
وقال من قصيدة كثيرة العيون، وكان الصاحب يفضلها على سائر شعره، ويرى أنها من أمهات قلائده:
أحبب إلي بنهر معقل الذي ... فيه لقلبي من همومي معقل
عذبٌ إذا ما عبّ فيه ناهلٌ ... فكأنّه في ريق حبّ ينهل
متسلسل وكأنّه لصفائه ... دمع بخدّي كاعب يتسلسل
وإذا الرياح جرين فوق متونه ... فكأنه درعٌ جلاها صقيل
وكأنّ دجلة إذ يغطمط موجها ... ملل يعظم خيفة ويبجّل
وكأنها ياقوتةٌ أو أعين ... زرق تلائم بينها وتوصل
عذبت فما تدري أماءٌ ماؤها ... عند المذاقة أم رحيق سلسل
ولها بمدٍّ بعد جزر ذاهب ... جيشان يدبر ذا وهذا يقبل
وإذا نظرت إلى الأبلة خلتها ... من جنة الفردوس حين تخيل
كم منزل في نهرها آلى والسرو ... ر بأنه في غيره لا ينزل
وكأنما تلك القصور عرائسٌ ... والروض فيه جلي خود ترفل
غنّت قيان الطير في أرجائها ... هزجاً يقل له الثقيل الأول
وتعانقت تلك الغصون فأذكرت ... يوم الوداع وغيرهم يترحل
ربع الربيع به فحاكت كفه ... حللاً بها عقد الهموم تحلل
فمدبج وموشّحٌ ومدّنرٌ ... ومعمد ومحبر ومهلهل
فتخال ذا عيناً وذا ثغراً وذا ... خدّاً يعضَّضُ مرة ويقبّل
وكتب إلى الوزير المهلبي، وقد منعه المطر من خدمته:
سحابٌ أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنفِ
أكبّ على الآفاق إكباب مطرق ... يفكر أو كالنادم المتلهّفِ
ومدّ جناحيه على الأرض جانحاً ... فراح عليها كالغراب المرفرف
غدا البرّ بحراً زاخراً وانثنى الضّحى ... بظلمته في ثوب ليلٍ مسجّف
يعبس عن برقٍ به متّبسمٍ ... عبوس نحيلٍ في تبسم معنف
تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجاً ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف
أين هذا قول من قول ابن المعتز:
تحاول فتق غيمٍ وهو يأبى ... كعنينٍ يريد نكاح بكرِ
رجع:
فأترع ماءً وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف
أتى رحمةً للناس غيري فإنه ... عليّ عذابٌ ماله من تكشف
سحاب عداني عن سحابٍ وعارض ... منعت به من عارضٍ متكفكف
أخذه من قول الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك وهو:
لست أدري ماذا أذمّ وأشكو ... من سماءِ تعوقني عن سماءِ
غير أني أدعو على تيك بالثك ... ل وأدعو لهذه بالبقاء
الجواب من وزير المذكور:
أتت رقعة القاضي الجليل فكشفت ... وساوس محزون الفؤاد ملهّف
فأهدت نظاماً من قريضِ كأنه ... نظام لآل أو كوشي مفوّف
تكامل فيه الظرف والشكل مثلما ... تكامل في مهديه كلّ التظرفُّ
حوى منتهى الحسنى بأول خاطرٍ ... يكلّفه في الشعر ترك التكلّف
قال في وصف قصيدة:
وقصيدة ألفاظها ... في النظم كالدر النثير
جاءت إليّ كأنها ال ... توفيق في كلّ الأمور
بأرق من الشكوى وأح ... سن من حياة في سرور
لو قابلت أعمى لأض ... حى وهو ذو طرفٍ بصير
فكأنّها أملٌ تحقّ ... ق بعد يأسٍ في الصدور
أو كالفقيد إذا أتت ... بقدومه بشرى البشير
أو كالمنام لساهرٍ ... أو كالأمان لمستجير
أو كالشفاء لمدنفٍ ... أو كالغني عند الفقير
وكأنّما هي من وصا ... ل أو شبابٍ أو نشور
لفظٌ كأسر معاندٍ ... أو مثل إطلاق الأسير
وكأنه إذ لاح من ... فوق المهارق والسطور
ورد الخدود إذا انتقل ... ت به على درّ الثغور
غررٌ غدت وكأنّها ... من طلعة الظبيّ الغرير
من كلّ معنى كالسلا ... مة أو كتيسير العسير
كتبت بحبرٍ كالنوى ... أو كفر نعمى من كفور
في مثل أيام التوا ... صل أو كاعتاب الدهور
أهديتها يا خير من ... يختار في كرمٍ وخير
وقال في ثوف كتاب:
وافى كتابك مثلما ... وافى لمفقود بشيرُ
وكأنه الإقبال جا ... ء أو الشفاء أو النشور
كأنّه شرخ الشبا ... ب وعيشه الغض النضير
وافى وعير الليل وا ... قفة الركائب لا تسير
فأضاء لي من كلّ ف ... ج منه فجرٌ مستنير
وارتد طرف الدهر عنّي ... وهو مطروف حسير
ورأيت أفلاك السرو ... ر بكلّ ما أهوى تدور
وفضضته فكأنّه ... أثواب وشيٍ أو حبير
خطّ وقرطاس كأنّ ... هما السوالف والثغور
وكأنّه ليلٌ يلو ... ح خلاله صبح منير
ما بين خط كالحيا ... ة إذا استتب لها السرور
وبدائع تدع القلو ... ب تكاد من طرب تطير
في كل معنى للغني ... يحويه محتاج فقير
أو كالفكاك يناله ... من بعد ما يأس أسير
أو كالسعادة أو كما ... يتيسر الأمر العسير
فاسلم ودم ما دام ذو ... سلمٍ وما أرسى ثبير
وكتب إلى أبي أحمد بن ورقاء قصيدة أولها مستحسن جداً وهو:
أسير وقلبي في هواك أسير ... وحادي ركابي لوعةٌ وزفير
ولي أدمع غزر تفيض كأنّها ... جداً فاض في العافين منك غزير
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... لهاك وجيش الجود فيه مغير
رياضكم خضر يرفّ نباتها ... ونوءكم رطب السّحاب مطير
وجوه كأكباد المحبين رقةً ... ولكنها يوم الهياج صخور
وكتب إلى بعض أصدقائه قصيدة منها:
كتبت وليلي بالسهاد نهار ... وصدري لوراد الهموم صدار
ولي أدمع غزرٌ تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماءً إذا جرى ... تلهّب منه في المدامع نار
رحلت وزادي لوعةٌ ومطيتي ... جوانح من خر الفراق حرار
مسيرٌ دعاه الناس سيراً توسعا ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكرت به ... ديارٌ لها بين الضلوع ديار
لك الخير عن غير اختياري ترحلي ... وهل لي على صرف الزمان خيار
وهذا كتابي والجفون كأنّما ... تحكّم في أشفارهن شفار
الغزل من شعره قال:
حور بعينيه أطال تحيري ... ترك الدموع كخدّه المتعصفر
غصنٌ تأوّد فوق دعص من نقا ... ليلٌ تبلّج عن نهار مسفر
كالشمس إلا أنه متنفّسٌ ... عن مسكة متبسم عن جوهر
وأطال من ليلي وقصر ليلة ... أنّي سهرت وأنه لم يسهر
وقال أيضاً:
بأبي وجهك لو أش ... بهه منك الضيع
أنت بدر ما له في ... فلك الوصل طلوع
وقال أيضاً:
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داءٌ ليس منه طبيب
كأنك من كلّ النفوس مركّبٌ ... فأنت إلى كل النفوس حبيب
وقال في أمرد جسيم
قالوا عشقت عظيم الجسم لهمْ ... الشمس أعظم جرم حازه الفلك
من أين أستر وجدي منهتكٌ ... ما للمتيّم في فتك الهوى درك
وقال فيه:
لبست نحافة الغصن النحيف ... وذبت سوى ذماء في ضعيف
يحوريّ المحاسن والمعاني ... وإنسي المخايل والأليف
له في كلّ عضو دعص رملٍ ... ثقيل الجسم ذو روح خفيف
أأعشق لا عشقت أخا نحول ... سوى أني أخو الخلق الظريف
إذا لمسته كفّى لم تلامس ... سوى جلدٍ على عظم نحيف
ومما أنشدت له، ولم أجده في ديوانه:
قلت لأصحابي وقد مرّ بي ... منقباً بعد الضيا بالظلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف تزول النعم
ابنه
أبو علي المحسن ابن القاضي التنوخي
هلال ذلك القمر، وغصن هاتيك الشجر، والشاهد العدل لمجد أبيه وفضله، والفرع المثيل لأصله، والنائب عنه في حياته. والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله بن الحجاج:إذا ذكر القضاة وهم شيوخ ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرضَ لم أصفعه إلاّ ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
وله كتاب الفرج بعد الشدة، وناهيك بحسنه. وإمتاع فنه. وما جرى من الفأل بيمنه، لا جرم أنه أسير من الأمثال. وأسرى من الخيال.
أخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأى ديوان شعره ببغداد أكبر حجماً من ديوان شعر أبيه، وإن بعض العوائق حال بينه وبين تحصيله حتى وفاته. واشتد الأسف عليه، ولو تقدر له استصحابه كسائر الدواوين البديعة لكنت أتفسح في الانتخاب منه. ولكني الآن مقل من شعره. وسيقع لي ما أتكثر به وألحق المختار منه بمكانة من هذا الباب بمشيئة الله تعالى وعونه مما علق بحفظ أبي نصر المذكور وأنشدنيه للقاضي أبي علي قوله، وهو معنى ظريف ما أراه سبق إليه، وهو:
خرجنا لنستقي بين دعائه ... وقد كاد هدب الغيم أن يبلغ الأرض
فلما ابتدا يدعو تقشعت السما ... فما تمّ إلا والغمام قد انفضا
وأنشدني غيره له، وأنا مرتاب به لفرط جودته، وارتفاعه عن طبقته،:
أقول لها والحي قد فطنوا بنا ... ومالي على أيدي المنون براحُ
لما ساءني أن وحّشتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
ومما أنشده لنفسه في كتاب الفرج بعد الشدة:
لئن أشمت الأعداء صرفي ورحلتي ... فما صرفوا فضلي ولا ارتحل المجد
مقامٌ وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النكد
كأنه نسج على منوال المتنبي حيث قال:
على ذا يمضي الناس: اجتماع وفرقة ... وميتٌ ومولودٌ، وقالٍ ووامقُ
ومما ينسب إليه قوله لبعض الرؤساء في التهنئة بشهر رمضان:
نلت في ذا الصيام ما ترتجيه ... ووقاك الإله ما تتّقيهِ
أنت في الناس مثل شهرك في الأشه ... ر بل مثل ليلة القدر فيه
وأنشدني له غير ثقة وهو متنازع:
قل للمليحة في الخمار المذهب ... أفسدت نسك أخي التقي المترهب
نور الخمار ونور وجهك تحته ... عجباً لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن ... للحسن عن ذهبيهما من مذهب
فإذا بدت عينٌ لتسرق نظرةً ... قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
وأما ابنه أو القاسم علي فلم يبلغني بعد شعره، وقد بلغني ذكره على لسان أبي الحسن علي بن موسى الكرخي. وقد أوردت ما أنشدنيه عنه لأبي المطاع ذي القرنين ابن ناصر الدولة أبي محمد في باب الأمراء من بني حمدان فليراجع.
ابن لنكك البصري
أبو الحسن محمد بن محمد
فرد البصرة وصدر أدبائها وبدر ظرفائها في زمانه، والمروع إليه في لطائف الأدب وظرائفه طول أيامه. وكانت حرفة الأدب تمسه وتجشمه، ومحنة الفضل تدركه فتخدشه، ونفسه ترفعه، ودهره يضعه، واتفق في أيامه هبوب الريح للمتنبي، وعلو رتبته، وبعد وصيته، وارتفاع مقدار أبي رياش اليمامي، وسمو نجمه،ونفاق سوقه، وفوزهما بالمراتب والحظوظ دونه وسعادتهما من الأدب بما شقي به، وحصل أبو الحسن على ثلبهما، والتشفي بذمهما، والقعود تحت المثل السائر " أوسعتهم ذما وأودوا بالإبل " وأكثر شعره ملح وظرف، خفيفة الأرواح، تأخذ من القلوب بمجامعها. وتقع من النفوس أحسن مواقعها، وجلها في شكوى الزمان وأهله، وهجاء شعراء أهل عصره، وما أشبه شعره في الملاحة وقلة مجاوزة البيتين والثلاثة، إلا بشعر كنية أبي الحسن بن فارس. وأقدر أنه في الجبال، كهو في العراق، وكان يقال في منصور الفقيه: إذا رمى بزوجته قتل، وكذلك ابن لنكك إذا قال البيت والثلاثة أغرب بما جلب، وأبدع فيما صنع، فأما إذا قصد فقلما يفلح وينجح، وبلغني أن الصاحب كتب على ظهر جزء من شعر ابن لنكك:شعر الظريف ابن لنكك ... مهذب ومحكك
مذهبٌ وممسكٌ ... بمثله يتمسّك
ما أخرج من شعره في الشكوى وذم الزمان وأهله قال:
يا زمانا ألبس الأح ... رار ذلاً ومهانهْ
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيراً ... والعلا فيك مهانه
أجنونٌ ما نراه ... منك يبدو أم مجانه
وقال أيضاً
زمانٌ رأينا فيه كلّ العجائب ... وأصبحت الأذناب فوق الذّوائبِ
لو أنّ على الأفلاك ما في نفوسنا ... تهافتت الأفلاك من كل جانب
وقال أيضاً:
عجائب في زمانك شاهدات ... علب خرف من الفلك المحيط
يرى متيقظاً ما لا يراه ... إذا ما نام آكل قنَّبيط
لأن له خاصية في توليد السوداء، ويرى أحلاماً ردية.
وقال:
عجيب للدهر في تصرّفه ... وكل أفعال دهرنا عجبُ
يعاند الدهر كل ذي أدب ... كأنّما ناك أمّه الأدب
وقال أيضاً:
يقولون لي أصبحت في العلم واحداً ... وفي الشعر والأدب مالك ثاني
فقلت صدقتم أيّها الناس إنّني ... كذاك ولكن في حر أمّ زماني
وقال أيضاً
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلّفني الزمان على علوجِ
وقالوا قد لزمت البيت جدّاً ... فقلت لفقد فائدة الخروج
لمن ألقى إذا أبصرت فيهم ... قروداً راكبين على السروج
زمانٌ عزّ فيه الجود حتّى ... تعالى الجود في أعلى البروجِ
وقال في المعنى:
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأيّ دهرٍ على الأحرار لم يجرِ
عندي من الدهر ما لو أن أيسره ... يُلقى على الفلك الدوّار لم يدر
وقال أيضاً:
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
يصبح الناس فيه من سوء حالٍ ... حق من مات منهم أن يهنّا
وقال أيضاً
لا مكث الله دنيانا فقيمتها ... ليست تفي عند ذي عقل بقيراط
دنيا تأبّت على الأحرار عاصية ... وطاوعت كلّ صفعان وضراط
وقال من الوافر:
زمانٌ قد تفرّغ للفضول ... يسوّد كل ذي حمق جهول
فإن أحببتم فيه ارتياحاً ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال أيضاً:
إن أصبحت هممي في الأفق عالية ... فإن حظي ببطن الأرض ملتصق
كم يفعل الدهر بي ما لا أسر به ... وكم يسيء زمانٌ جائرٌ حنق
كم نفخة لي على الأيام من ضجر ... تكاد من حرها الأيام تحترق
وقال أيضاً
نحن في الدهر في أعاجيب ... فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوب
وقال أيضاً:
ذهب الذين يعاش على أكنافهم ... وبقيت في خلف بلا أكناف
بطاليس وقلانس محشوةٍ ... يتعاشرون بقلّة الإنصاف
ما شئت من حلل وفره مراكب ... أبواب دورهم بلا أجواف
وقال أيضاً:
لا تخدعنك اللّحى ولا الصور ... تسعة أعشار من ترى بقر
تراهم كالسحاب منتشراً ... وليس فيه لطالب مطر
في شجر السرو منهم مثلٌ ... له رواءٌ وما له ثمر
كأنه أخذه من قول ابن الرومي
فغدا كالخلاف يورق للع ... ين ويأبى الإثمار كلّ الإباء
وقال أيضاً:
يا طالباً بالعلم حظاً مسعدا ... في ذا الزمان رأيت رأي مخرنق
إنفاق علمٍ في زمان جهالةٍ ... ترجو ودهر عمىً وسخفٍ مطبقِ
كن ساعياً ومصافعاً ومضارطاً ... تنل الرّغائب في الزمان وتنفق
أو ما رأيت ملوك عصرنا أصبحوا ... يتجمّلون بكل قاص أحمق
لا تلق أشباه الحمير بحكمةٍ ... موّه عليهم ما قدرت ومخرق
وقال أيضاً:
لم يبق حرّ إليه يختلف ... بل كل ندلٍ عليه مختلف
يا فلكاً دار بالنذالة والجه ... ل إلى كم تدور يا خرف
فعاقل ما يبلّ أنملةً ... وجاهلٌ باليدين يغترفُ
وقال أيضاً:
لعنتم جميعاً من جوهٍ لبلدة ... تكنّفهم جهل ولؤم فأفرطا
وإنّ زماناً أنتم رؤساؤه ... لأهل لأنْ يخرى عليه ويضرطا
أراكم تعينون اللئام وإنني ... أراكم بطرق اللؤم أهدى من القطا
وقال أيضاً:
عدنا في زماننا ... عن طريق المكارم
ما أخرج من شعره في الهجاء لأبي رياش كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب وإتقان، ولكنه كان عديم المروءة، وسخ اللبسة، كثير التقشف، قليل التنظف. وفيه يقول أبو عثمان الخالدي:
كأنّما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لجّ في انتفاش ... شهدانج بدد في حشحاش
وكان مع ذلك شرهاً على الطعام، رجيم شيطان المعدة، حوتي الالتقام، وثعبان الالتهام، سيئ في المواكلة، دعاه أبو يوسف اليزيدي والي البصرة إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر أن يهيأ له طبق يأكل عليه وحده.
ودعاه يوماً الوزير المهلبي إلى طعامه، فبينا هو يأكل معه إذ امتخط في منديل الغمر، وبزق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت عين الوزير، فتعجب من سوء شرهه، واحتمله لفرط أدبه.
وفي شره أبي رياش يقول ابن لنكك ما هو في نهاية الملاحة وحسن التعريض:
يطير إلى الطعام أبو رياش ... مبادرةً ولو واراه قبرُ
أصابعه من الحلواء صفرٌ ... ولكنّ الأخادع منه حمرُ
أنشدني أبو عبد الله محمد بن حامد الخوارزمي. قال: أنشدني الصاحب لابن لنكك في أبي الرياش وكان يطعن على أبي نواس وأبي تمام: يقول:
ابن هاني أفسد الشعر ضلّةً ... وشعر أبي تمّامكم هو أضيع
أبا الريش، يا صفعان، صفعات واجب ... ولكن مضى من كان في الله يصفع
وقال أيضاً:
أبو رياش بغى والبغي مهلكةٌ ... فشدّدوا العين ترموه بآبدتهْ
عبدٌ ذليل هجا للحين سيّده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وقال أيضاً فيه:
أأبا رياش يا قبيح المنظر ... يا منكراً يمنى إلى مستنكر
تصحيف كنيتك التي كنيتها ... في است التي حملتك تسعة أشهر
وقال فيه أيضاً:
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدّعي
من مخبري عنه فإني سائلٌ ... من كان حنّكهُ بأير الأصمعي
وقال أيضاً:
على القبح الفظيع أبو رياش ... يعاشرنا بأخلاق ملاح
يبيح أكفنا أبداً قفاه ... فنصفعه على جهة المزاح
وقال فيه وقد ولي عملاً بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كل تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل
ما أخرج من هجائه لجماعة من الأدباء والشعراء أما هجاؤه للمتنبي فقد أوردته في أخباره، ولا وجه لإعادته. وقد كان ورد البصرة من ديار ربيعة شاعر يكنى أبا الهيذام كلاب بن حمزة، وكان لن لنكك يتولع به ويبدع في هجائه، كقوله فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كل أذىً ... إنّي بكل الذي تراضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوباً على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أبري فقيها إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنيّة القاضي
وقال فيه أيضاً:
حوي يوماً أبو الهيذام أيري ... وذاك بمثله أبداً حريُّ
فبرنس رأسه بالجعس حتى ... تنكر منه لي خلق وزي
فقلت هديت لم برنست أيري ... فقال لأن أيرك قرمطي
وقال أيضاً:
أنت ابن كل البرايا لكن اقتصروا ... على اسم حمزة وصفاً غير تشميخ
كدار بطيخ تحوي كل فاكهةٍ ... وما اسمها الدهر غير بطيخ
وقال أيضاً:
يا من تطيّب وهو من حرق استه ... قلق يكابد كلّ داءٍ معضل
فشل الصيال وما عهدنا دبره ... مذ كان يفشل عن صيال الفيشل
أراه في الكتب الجليلة زاهداً ... لا يستجيد سوى كتاب المدخل
قبّلته ولثمت فاه مسلماً ... لثم الصديق فم الصديق المجمل
دنا إليّ على المكان وقال لي ... أفديك من متشوق متغزل
إن كنت تلثمني بحق فاسقني ... بلسان بطنك في فمي من أسفل
وقال في الرملي الشاعر:
لأم الشاعر الرملي صدغ ... صبور ما علمت على الدّباغ
فرغت ولم تكن فرغت فرامت ... إدامة نيكها حتى الفراغ
فقلت لها فديتك لا تجوري ... فليس على الرسول سوى البلاغ
وقال فيه أيضاً:
إن الرملي فيما اق ... تص عنّي وحكاه
يدعي يوم اصطلح ... نا أنني قبّلت فاه
لم أقبّل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في المبرمان النحوي:
صداعٌ من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيانُ
مكابرة ومخرقة بهتٌ ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
ما أخرج من شعره في الغزل والشراب قال:
حبيب جفوتي فرض عليه ... مفري في الهوى منه إليه
إذا لحظاته قتلت محبّاً ... تشحط منه في دم وجنتيه
وقال أيضاً:
أتطمع أن تحب ولا جفونٌ ... مؤرقة ولا قلبٌ جريحٌ
فأين هوى تذوب به وتبلى ... أراك تظنُ أنّ الزمر ريح
وقال أيضاً:
وروض عبقري الوشى غض ... يشاكل حين زخرف الشقيق
سماء زبرجد خضراء فيها ... نجومٌ طالعات من عقيق
خليلي اسقياني الراح صرفاً ... إذاً وحريق قلبي بالرحيق
ذراني قبل أن ألقى حمامي ... أشوب بريق من أهواه ريقي
وقال أيضاً:
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر إلاّ تعلقت بالقلوب
وقال أيضاً:
أمر غد أنت منه في لبس ... وأمس قد فات فاله عن أمس
وإنما العيش عيش وقتك ذا ... فبادر الشمس بابنة الشمس
وقال أيضاً:
أقول لصاحبي والراح روحٌ ... لجسم الكأس في كف النديم
وقد حبس الدجى عنّا بواك ... تسيل نفوسها فوق الجسوم
ونحن من المسرة في سماءٍ ... فمن سارى الضياء ومن مقيم
شموعك والكؤوس مع الندامى ... نجومٌ في نجوم في نجوم
وقال في قلة شربه وسرعة سكره:
فديتك لو علمت ببعض ما بي ... لما جرعتني إلا بمسعط
فحسبك أنّ كرماً في جواري ... أمرّ ببابه فأكاد أسقط
وله في مثل ذلك:
لو أنني مسعيٍّ ... شربت ما شئت حيناً
لكنني عهديٍّ ... فاعرف حديثي يقيناً
فرأت عهدة كرمٍ ... فكان سكري سنيناً
وقال أيضاً:
أيها الشيخ الذي برّ ... ز قدماً في السيادة
والذي أعطاه أهل ال ... أرض في السبق المقادة
وأقر الكلّ منهمْ ... أنّه عين القلاده
أنا يكفيني من المش ... روب ما يكفي جراده
وحديثي طال فيه ... مثل تفسير قتاده
وهو إبرام ونقض ... فاكفني فيه الإعادة
ما أخرج من ملحه في سائر الفنون قال:
تّولى شباب كنت فيه منعماً ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال:
فراق أخلائي الذين عهدتهم ... يوكل قلبي بالهموم اللوازم
وما ذا أرجي من حياة تكدرت ... ولو قد صفت كانت كأضغاث حالم
وقال أيضاً:
نكرت نحولي وهو من فرط الأسى ... لفراق إخوان عليّ كرام
وتعجبت للشيب، لا تتعجبي ... هذا غبار وقائع الأيام
وهو مأخوذ من قول ابن المعتز:
قالت كبرت وشبت قلت لها ... هذا غيار وقائع الدهر
وقال أيضاً:
إذا خفق اللواء عليّ يوماً ... وقد حمل امرؤ القيس اللّواءَ
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعل الله يرحم من أساء
وقال أيضاً:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجاً ... رأيت صورته من أقبح الصور
وهبك كالشمس في حسن ألم ترنا ... نفرٌ منها إذا مالت إلى الضرر
أخذه الصاحب فقال:
يقال تركت الذي حسنه ... يكاد يخجل شمس الضحى
فقلت وشمس الضحى تحتمى ... إذا بسطت في المصيف الأذى
؟وقال أيضاً:
نحن بالبصرة في لو ... ن من العيش ظريف
نحن ما هبّت شمال ... بين جنّات وريف
فإذا هبّت جنوبٌ ... فكأنّا في كنيف
وقال أيضاً:
ليس في البصرة حرٌّ ... لا، ولا فيها جوادْ
إنما البصرة أنشا ... ب ونخل وسماد
ابنه أبو إسحاق إبراهيم
شاعر مجيد، لم يتصل بي من شعره غير ما أنشدته له معارضاً قول أبيه:وعصبة لما توسطتهم ... صارت عليّ الأرض كالخاتم
كأنهم من سوء أفهامهم ... لم يخرجوا بعدُ إلى العالم
يضحك إبليس إذا زارهم ... لأنهم عارٌ على آدم
بقوله:
لا تصلح الأرض ولا تستوي ... إلا بكم يا بقر العالم
من قال للحرث خلقتم فلم ... يكذب عليكم لا ولم يأثم
ما أنتمُ عارٌ على آدمٍ ... لأنّكم غير بني آدم
وقال أيضاً:
وليلة أرّقني طولها ... فبتّها في حيرة الذاهل
كأنما اشتقت لإفراطها ... في طولها من أمل الجاهل
وقال أيضاً:
يا سفلاً أوقظوا بخسّتهم ... لكن عن الجود والنّدى ناموا
لا تكذبوا صحّ أنكم نعم ... عندكم للزمان أنعام
أبو عبد الله الحسين بن علي النميري
صاحب أبي رياش وابن لنكك، وكان من صدور البصرة في الأدب والشعر، وقد جمع الحفظ الكثير الغزير، والعلم القوي القويم، والنظم الظريف المليح.فمما سار من ذلك قوله من قصيدة في ذي الكفايتين أبي الفتح، وكان ورد عله الري فأحسن إليه ووصله بصلة حسنة فيها دراهم في كل درهم منها خمسة دراهم وفيها أيضاً دنانير كل دينار منها بخمسة دنانير، واستهلالها:
واهاً لأيام الصبابة واها ... بل آه من تذكارهنّ وآها
فالى الحرينة فالجنينة فالربى ... مغنى الأحبة حبّذا مغناها
روض كلفت بنوره وبنوره ... وربى ألفت هواءها وهواها
أصبو إلى أترابها وترابها ... ومهاة عيشي في ظلال مهاها
فيهن شمس لا تروم عيوننا ... حذر العيون سناءها وسناها
نمرّية من دونها متنمّر ... أخشى شباه تارةً وشباها
ماذا على النمر الكرام عشيرتي ... لو ضمّ بين فتاتها وفتاها
فتيان صدقٍ كالشموس تعوّدت ... قنص النفوس ظباؤها وظباها
يا من لنفس شطرها في بلدةٍ ... بذرى العراق وشطرها بسواها
ظمئي إلى حوِّ الشفاه، وإنما ... حوّ الشفاه سقامها وشفاها
ظمأ الهمام إلى المكارم والعلا ... وقد ارتوى منها كما أرواها
وجلست في النادي الذي حاز الندى ... من جنّة دانٍ إليّ جناها
دارٌ عرفت معانقة الكرى ... وأخذت حظّي لهوها ولهاها
عاتبت مكرمة الزمان فاعتبت ... فيها وناجيت السرور شفاها
ملكٌ أغرّ وبركة لجيّة ... في روضةٍ تعطي العيون رضاها
يحبوك ذا المال الجزيل وهذه ال ... ماء المعين وهذه رياها
روضٌ إذا جرت الرياح مريضةً ... في زهرة استشفت به مرضاه
وإذا قابلت الندامى وسطه ... سكر الصحاة كما صحا سكراها
يتسلسل الماء الزلال خلاله ... فتخاله الحيّات خفّ سراها
تنسلّ أو تنساب غير لواذع ... فكأنّما وشى الحباب رقاها
وأخذت من أقماره وشموسه ... من تبره ولجينه أشباها
من أبيض يقق وأصفر فاقع ... لو معن كنّ سلافة ومياها
؟قد ضوعفت زنةً فزادت زينةً يجلو القذى عنّا جلاء قذاها
خيفت عليهن العيون فعوذت ... باسم الإله وباسم شاهنشاها
يا ابن العميد عميد دولته الذي ... بلسانه وسنانه سنّاها
ما أنت إلا صحّةٌ مكلوءة ... تتقاصر الأفهام دون مداها
فإذا مرضت ولا مرضت فإنّه ... مرض الرياح يطيب فيه ثناها
لم تنسك الأمراض ذكر صنائعٍ ... تولي وشكر صنائع تولاها
فاسلم لدولتك التي وطّدتها ... ورعيت أولاها على أحراها
وله من قصيدة كتب بها إليّ وبأختها التي تقدمتها أبو سعيد بن دوست كعادته المشكورة في مهادتي بطرائف الآداب التي تصلح لهذا الكتاب:
سرت النجائب بالنجائب ... ترمي الكواكب بالكواكب
ترمي تجاهات المشا ... رق من تجاهات المغارب
رغباً إلى ملكٍ تحكّ ... م في رغائبه الرغائب
ملكٌ تبوّا من علا ... ه في النواصي والذوائب
حيث السوابغ والسوا ... بق والنجائب والجنائب
يهب المنعّمة الكوا ... عب والمطهّمة السلاهب
ومنها:
زرناك من أرض البصي ... رة شاحبين على شواحبْ
نرد المناهل كالمجا ... هل والسباسب كالسبائب
لاريّ دون الريّ وال ... بحر الغطامط ذي الغوارب
بحرٌ جواهره طوا ... فٍ في سواحله رواسب
لا دونها اللجج الكوا ... رب لا ولا اللجج الكواذب
كم من ظباء بالبصي ... رة في المقاصر والسباسب
إنس ووحشٌ يشتبه ... ن سوى الذوائب والحقائب
أدمٌ يقاسمن الأرا ... ك جناه والقضيب والرطائب
فلإنسها أغصانه ... تجلو به برد السحائب
ولوحشها غضّ الجنى ... عبث المعازف والملاعب
نصطاد وحشياتها ... وتصيدنا الإنس الخراعب
يا ربّ يومٍ لي كظلّ ... ك أو كظنّك أو يقارب
رقّت حواشيه وغضّ ... ت عين واشيه المراقب
قصرت لنا أطرافه ... قصر القناع عن الذوائب
وتبرّجت لذاته ... للخاطبين وللخواطب
نزلت به حاجاتنا ... بين المحاجر والحواجب
وكسونني حللاً صقل ... ن خواطري صقل القواضب
حللاً وديباج الخدو ... د مطّرزات بالشوارب
فلتشكرنَ رياضنا ... جدوى سحائبك الصوائب
ولتنظمن لك القصا ... ئد كالقلائد للكواعب
؟
المفجع البصري
هو أبو عبد الله الكاتب، له مصنفات كثيرة، وهو صاحب ابن دريد والقائم مقامه بالبصرة في التأليف والإملاء، وفيه قيل:إن المفجع ويله ... شرُّ الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنّه ... يملي على الناس النوادر
كأنه قول أبي تمام:
ومالك بالغريب يدٌ ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
أو من قول الآخر:
ومن المظالم أن قع ... ت على المظالم يا فزاره
وأما شعره فقليل كثير الحلاوة. يكاد يقطر منه ماء الظرف، حكى أبو بكر الخوارزمي قال: قال لي اللحام: أنشدني المفجع لنفسه:
ليّ أيرٌ أراحني الله منه ... صار همي به عريضاً طويلاً
نام إذ زارني الحبيب عناداً ... ولعهدي به ينك الرسولا
حسبت زورةً عليّ لحيني ... فافترقنا وما شفينا غليلا
فقلت فيه:
إنّ المفجّع فالعنوه مؤنث ... نغلٌ يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنّما يلقاهم ... بمؤخر حيٍّ وقبل ميت
وأنشدني أبو الحسين الشهرزوري الحنظلي. قال: أنشدني المفجع لنفسه في غلام له يكنى أبا سعد:
زفراتٌ تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما يريم فؤادي
وسروري قد غاب عنّي مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم البعاد
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسّهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتيض عن الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أنّي ... في بلادٍ وأنتمُ في بلاد
وأنشدني أبو نصر الروذباذي الطوسي للمفجع:
ألا يا جامع البصر ... ة لا خرّبك اللهُ
وسقّى صحنك المزن ... منَ الغيث فروّاه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الإنس ... مليحٍ فيك مرعاه
نصبنا الفخّ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآنٍ قرأنها ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيا ... م حتى لان مثناه
وحتى ثبت السرج ... عليه فركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذبٌ ما ذكرناه
فلا يغررنك ما قلنا ... فما بالجد قلناه
ولو كان من البعض ... بريّا حين نلقاه
فرح بالدراهم الضرب ... إليه تتلاقاه
فبالدراهم يستنز ... ل ما في الجو مأواه
ومن ملحه المشهورة قوله الإنسان أهدى إليه طبقاً فيه قصب السكر وأترج ونارنج وأراه أبا سعد غلامه فقال:
إن شيطانك في الظر ... ف لشيطانٌ مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم نعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبقٌ فيه قدود ... وخدود ونهود
وقوله في غلام مغن جدر فازداد حسناً:
يا قمراً جدّر حين استوى ... فزاده حسناً وزادت همومُ
كأنما غنّى لشمس الضحى ... فنّقطته طرباً بالنجوم
وقوله أيضاً:
سيدي أنت إنّ عبدك أمسى ... خافقاً قلبه خفوق الجناح
فاغتنم غفلة الرقيب وزره ... في رداءٍ من الدجى ووشاح
وقال، ويروي لابن لنكك:
لنا سراجٌ نوره ظلمة ... ليس له ظلّ على الأرض
كأنّه شخص الإمام الذي ... تبغي الهدى منه أولو الرفض
ومن ظريف قوله في الهجاء:
فسا على قوم فقالوا له ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
ووجدت بخط أبي الحسين علي بن أبي أحمد بن عبدان في مجموعة المسمى حاطب ليل للمفجع البصري:
أدارها ولليل اعتكارٌ ... فخلت الليل فاجأه النهارُ
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعةً يطير لها شرار
فلو لا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكأس نار
؟
نصر بن أحمد الخبز أرزي
كنت على طي شعره وذكره، إما لتقدم زمانه أو سفسفة كلامه، ثم تذكرت قرب عهده وتكلف ابن لنكك جمع ديوان شعره. فسنح لي أن أضمن هذا الكتاب. لمعاقد علقت بحفظي منه، والإعراض عن التصفح لباقي شعره وترك الفحص فما يصلح للإلحاق بها من ملحه، وعلى ذكره. فقد بلغني من غير جهة أنه كان أميا لا يكتب ولا يتهجى، وكانت حرفته خبز الأرز في دكانه بمربد البصرة، فكان يخبز وينشد أشعاره المقصورة على الغزل والناس يزدحمون عليه، ويتطرفون باستماع شعره، وبتعجبون من حاله وأمره. وأحداث البصرة ويتنافسون في ميله إليهم وذكره لهم، ويحفظون كلامه لقرب مأخذه وسهولته. وكان ابن لنكك - على ارتفاع مقداره - ينتاب دكانه ويسمع شعره. فحضره يوماً وعليه ثياب بيض فاخرة فتأذى بالدخان وساء أثره على ثيابه، فانصرف وكتب إليه:
لنصر في فؤادي فرط حبٍ ... ينيف به على كل الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخوراً ... من السّعف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسينٍ ... قلت له إذا اتّسخت ثيابي
فلما قرئت عليه الرقعة التي فيها هذه الأبيات، أملى على من كتب له في ظهرها هذه الأبيات
منحت أبا الحسين صميم ودّي ... فداعبني بألفاظ عذابِ
أتى وثيابه كالشيب لوناً ... فعدن له كريعان الشباب
وبغضٌ للشيب أعدّ عندي ... سواداً لونه لون الخضاب
فإن يكن التقزز فيه فخراً ... فلم يكنى الوصيّ أبا تراب
ويحكى أنه لما كشف قناع الغربة قط لقصور همته على المذكر دون المؤنث وشعره شاهد بذلك: فمن النوادر أن شاعراً يكنى بزعمه أبا طاهر انتمى أليه وورد نيسابور بأشعار تناسب دعوته، وانتحل كثيراً من محاسن السري والخالدين وغيرهم من المحسنين، الذين لم تقع أشعارهم بعد إلى خراسان، حتى تقشر فلسه، وظهر عواره وخزيه، وجرى على ما قاله أحمد بن طاهر:
أظن دعوته في الشعر جائزةً ... له عليّ كما جازت على النّسب
وفيه يقول أبو بكر الخوارزمي:
يقول تصر أبي فقلت لهم ... عندي بهذا شهادة حسنه
نعم ولكن أمّه حملت ... من بعد ما مات شيخه بسنه
فمن ملح نصر قوله:
خليليّ هل أبصرتما وسمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبدِ
أتى زائراً من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعليق قلبك بالوعدِ
فما زال نجم الكأس بين وبينه ... يدور بأفلاك السعادة والسعد
فطوراً على تقبيل نرجس ناظرٍ ... وطوراً على تعضيض تفاحة الخد
وقوله:
من يكن يهواه للخا ... ق فإنّي عبد خلقه
إن حسن الخلق أبهى ... للفتى من حسن خلقه خلقه
وقوله:
قالوا عشقت صغيراً قلت أرتع في ... روض المحاسن حتى يدرك الثمر
ربيع حسنٍ دعاني لافتتاح هوى ... لم؟ا تفتّح منه النّور والزهر
وقوله:
وددت أني بكفّه قلمٌ ... أو أنني مدّة على قلمه
يأخذني مرّةً ويلثمني ... إن علقت منه شعرة بفمه
وقوله:
قد قلت إذ خان صبري من كلفت به ... ولم يكن عنه لي صبرٌ ولا جلد
إن كان شاركني في حبّه وقحٌ ... فالنهر يشرب منه الكلب والأسد
وقوله:
لا تعشقن ابن الربيع فإنّه ... عند التجرّد آية الآيات
وجه كعبّادان ليس وراءه ... لمحبّه شيءٌ سوى الخشبات
وقوله:
تتجنّى عليّ ذنباً وتعتلّ ... بأن قد رأيت منِّي ذلّهْ
لعن الله قربةً ليس فيها ... لفتىً يطلب التعلّة علّة
وقوله:
ألم يكفني ما نالني في هواكم ... إلى أن طفقتم بين لاه وضاحك
شماتتكم بي فوق ما قد أصابني ... وما بي دخول النار بل طنز مالك
وأنشدني أبو القاسم الحسين بن محمد بن حبيب المذكور، قال: أنشدني عبد السميع ين محمد الهاشمي، قال: أنشدني نصر بن أحمد الخبز أرزي لنفسه:
شاقني الأهل لم تشقني الديارُ ... والهوى صائرٌ إلى حيث صاروا
جيرةٌ فرّقتهم غربة البي ... ن وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناسٍ رعوا لنا حين غابوا ... وأناسٍ جفوا وهم حضّار
عرضوا ثم أعرضوا، واستمالوا ... ثم مالوا، وانصفوا ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّي فلو لم ... يتجنّوا لم يحسن الاعتذار
وأنشدني أبو حفص عمر بن علي الفقيه من قصيدة:
ورد الخدود ورمان النهود وأغ ... صان القدود تصيد السادة الصيّدا
شرطي إذا ما رأيت الخصر مختصراً ... والردف مرتدفاً والقدّ مقدوداً
أبو عاصم البصري
أنشدني أبو سعد نصر بن يعقوب لأبي عاصم في اقتران الهلال والثريا والزهرة:رأيت الهلال وقد أحدقته ... نجوم الثريا لكي تسبقه
فشبّهته وهو في إثرها ... وبينهما الزّهرة المشرقة
بقوسٍ لرامٍ رمى طائراً ... فأتبع في إثره بندقه
وله في اقتران الهلال والزهرة:
قارن الزهرة والهلال، وكانا ... في افتراق ما بين صدّ وهجره
فإذا ما تقارنا قلت طوقٌ ... من لجين قد علقت فيه دره
وله في الغزل:
يا بنفسي من إذا جّمشته ... نثر الورد عليه ورقه
وإذا مدت يدي طرّته ... أفلتت مني وعادت حلقه
؟
أبو الحسن الظاهر البصري
أنشدني أبو علي محمد بن عمر الزاهر. قال: أنشدني أبو الحسين الظاهر البصري لنفسه قوله:نفسي الفداء لمن جاءت تودّعني ... يوم الفراق بقلب خائف وجلِ
قد كنت فارقت روحي خوف فرقتها ... لكن حييت بطيب الضّم والقبل
وله من قصيدة في مفصود:
كأنّما دمه في الطست حين جرى ... صرف من الراح في قعب من الذهب
حتى إذا رجعت في كمه يده ... كالشمس غابت عن الأبصار في الحجب
كانت كما قال في القرآن خالقنا ... واضمم جناحك يا موسى من الرهب
ووله في وصف حية قتلها في بعض أسفاه:
عرفت في الأسفار ما لم أعرف ... من كل موصوف وما لم يوصف
آليت لا أنصف من لم ينصف ... ولا أفي دهري لخلّ لا يفي
سرت وصحبي وسط قاعٍ صفصف ... إذ أشرفت من فوق طود مشرف
رقشاء ترنو من قليب أجوف ... تومي برأس مثل رأس المجدف
في ذنب مندمج معقف ... حتى إذا أبصرتها لا تنكفي
علوتها بحدّ سيفٍ مرهف ... فظل يجري دمها كالقرقف
أتلفتها لما أرادت تلفي ...
الباب السادس
في ذكر نفر من
شعراء العراق ونواحيها
سوى بغداد وسياق ملحهم ولطائفهم
ابن التمار الواسطي
شعره يتغنى بأكثره ملاحة ورشاقة، وإنما كان يقوله تطرباً لا تكسبا، وقد بلغني به أبيات قلائل إلا أنها قلائد، كقوله:أما ترى اليوم في أثوابه الجدد ... يحكيك يا غرّة الأيام والأبد
فاشرب وسقّ الندامى من مشعشعةٍ ... كلون خدّك لم تنقص ولم تزد
على غدير إذا هبّ النسيم به ... أبصرته من حبيك الريح كالزّرد
وله :
الخمر شمس في غلالة لاذ ... تجري ومطلعها من الخرداذي
فاشرب على طيب الزمان فيومنا ... يوم التذاذ قد أتى برذاذ
وانظر إلى لمع البروق كأنها ... يوم الضّراب صفائح الفولاذ
وقوله عفا الله عنه:
قم فانتصف صروف الدهر والنوب ... واجمع بكأسك شمل اللهو والطرب
أما ترى الليل قد ولّت عساكره ... مهزومة وجيوش الصبح في الطّلب
والبدر في الجانب الغربيّ تحسبه ... قد مدّ جسراً على الشطّين من ذهب
؟
أبو طاهر الواسطي المعروف بسيدوك
شعره يروي حين يروي، ويحفظ حين يلحظ، وما لظرفه نهاية، ولا للطفه، غاية، ولا عيب فيه غير أن الذي وقع إليّ منه قليل يلتقي طرفاه، وتجتمع حاشيتاه، وديوان شعره ضالتي المنشودة ودرتي المفقودة، ولا بأس من حصوله، أنشدني كل من أبي طاهر ميمون بن سهل الواسطي الفقيه وأبي الحسن المصيصي ومحمد بن عمر الزاهر قال: أنشدني سيدوك لنفسه، وهو أحسن وأبلغ ما سمعته في طول الليل:
عهدي بنا ورداء الشمل يجمعنا ... والليل أطوله كاللّمح بالبصر
فالآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضّرير فصبحي غير منتظر
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان له:
أراح الله نفسي من فؤاد ... أقام على اللجاجة والخلاف
ومن مملوكةٍ ملكت رقاها ... ذوي الألباب بالخدع اللّطاف
كأن جوانحي شوقاً إليها ... بنات الماء ترقص في حقاف
وأنشدني ميمون الواسطي، قال: أنشدني سيدوك لنفسه:
أظن بليّة دهمت فؤادي ... وأحسبها غزال بني سليم
وإلا لم يغبّ فتعتريني ... مذلّة ضيمه من غير ضيم
ولي عينٌ إذا فقدته صارت ... كعين الشمس ملبسةٌ بغيم
وأنشدني له أيضاً:
أنت من القلب في السواد ... وموضع السرّ من فؤادي
يا ساكناً في سواد عيني ... وبين جفني والرقاد
لم تنأ لمّا نأيت عنّي ... ولا تباعدت بالبعاد
وأنشدني أيضاً له:
جنت صحبة الأضحى عليّ فأذهبت ... فؤادي فلا ضرّي ملكت ولا نفعي
فيا يوم عيد النحر ما لك مهدياً ... لنحري سهم النحر نبّت عن الشّرع
وله من أبيات:
حذري عليك أشدّ من ... حذري على بصري وسمعي
إن كنت تنكر ما أقو ... ل فهاك سل سهري ودمعي
ووجدت منسوباً إليه في بعض التعليقات:
جعلت فداءك قد زارني ... أخلاّء أعظم أقدارهمْ
وعزمي أكون لهم ساقياً ... فكن بأبي أنت خمّارهم
؟
أبو عبد الله الحامدي
حامدة: من أعمال واسط، ولم يبلغني ذكر هذا الرجل إلا مما أنشدنيه ميمون الواسطي، قال: أنشدني أبو عبد الله لنفسه بالحامدة:مشتاقة طرقت في النوم مشتاقاً ... أهلاً بمن لم يخن في العهد ميثاقاً
أهلاً بمن ساق لي طيف الأحبّة من ... أرض الأحبة، بل أهلاً بمن شاقا
يا زائراً زار من قرب على بعد ... آنست مستوحشاً لا ذقت ما ذاقا
الله يعلم لو أنّي استطعت لقد ... أفرشت ممشاك احداقاً وآماقا
يا ليل عرج على إلفين قد جعلا ... عقد السواعد للأعناق أطواقا
ضاق العناق وضمّ الشوق بينهما ... ضمّ القرينين أعناقاً فأعناقا
وأنشدني له أيضاً:
قل للملحية في الخمار المشمشي ... كم ذا الدلال عدمت كل محرش
يا من غدا قلبي كنرجس طرفها ... في الحب لا صاح ولا هو منتشي
هذا الربيع بصحن خدك قد بدا ... لمقبل ومعضضٍ ومخمّشِ
فمتى أبيت معانقاً لبهاره ... ولورده المستأنس المستوحش
وأنشدني له أيضا:
سقاني وحياني وبات معانقي ... فيا عطف معشوق على ذل عاشق
ويا ليلة باتت سواعدنا بها ... تدور على الأعناق دون المخانق
نبث من الشكوى حديثاً كأنه ... قلائد درّ في نحور العواتق
وأنشدني له:
يا راحلاً ترك البكاء مباحا ... ما رحت أنت، بل اصطباري راحا
إن اخلفتني فيك أسباب المنى ... وغدوت لي سقماً وكنت صلاحا
فلقد عهدتك مسعداً لي في الهوى ... وعهدت وجهك في الظلام صباحا
وأنشدني له:
ما الرأي عندك أيّها البدر ... في عاشق لك خانه الصبرُ
وقع برأيك فوق قصته ... يا من إليه النهى والأمر
لو أنّ حسناً زاد في عمرٍ ... لازددت عمراً بعده عمر
؟
أبو بكر محمد بن أبي محمد القاسم
المعروف بالأنباري
بلغني له قصيدة فريدة تدل على أن صاحبها من أفراد الشعراء، وهي في ابن بقية لما قتل وصلب، وقد أثبتها كما هي:
علو في الحياة وفي الممات ... لحقٌ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيام الصلات
وأخذه من قول ابن المعتز:
وصلوا عليه خاشعين كأنّهم ... وفودٌ وقوف للسلام عليه
رجع:
كأنك قائم فيهم خطيباً ... وكلهم قيام للصلاة
مددت يديك نحوهم احتفالاً ... كمدّها إليهم بالهبات
ولما ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجو قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفوس تبيت ترعى ... بحراس وحفاظ ثقات
وتشعل عندك النيران ليلاً ... كذلك كنت أيام الحياة
ركبت مطية من قبل زيدٍ ... علاها في السنين الماضيات
وتلك قضية فيها تأسٍ ... تباعد عنك تعيير العداة
ولم أر قبل جذعك قط جذعاً ... تمكن من عناق المكرمات
أسأت إلى النوائب فاستشارت ... فأنت قتيل ثأر النائبات
وكنت تجير من صرف الليالي ... فعاد مطالباً لك بالترات
وصيّر دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السيئات
وكنت لمعشرٍ سعداً فلما ... مضيت تفرقّوا بالمنحسات
غليل باطنٌ لك في فؤادي ... حقيقٌ بالدموع الجاريات
أخذه من قول ابن الرومي:
لم يظلم الدهر أن توالى ... فيكم مصيباته دراكا
كنتم تجيرون من يعادي ... منه فعاداكم لذاكا
عاد:
ولو أني قدرت على قيامي ... بفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافي ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكنّي أصبّر عنك نفسي ... مخافة أن أعدّ من الجناة
ومالك تربةٌ فأقول تسقي ... لأنّك نصب هطل الهاطلات
عليك تحيّة الرحمن تترى ... برحماتٍ غوادٍ رائحات
؟
أبو الحسين محمد بن عمر الثغري الكاتب
أحد المقلين المحسنين، ولم أسمع له إلا ملحاً نادرة، كقوله في خط العذار، وهو أحسن ما سمعت فيه على كثرته:لي حبيب يزهى بحسنٍ عجيب ... وبقدٍّ مثل القضيب الرطيب
أحرقت بالسواد فضّةً خدي ... ه فقد أحرقت سواد القلوب
وقوله في وصف التمر:
أما ترى التمر يحكي ... في الحسن للنظار
مخازياً من عقيق ... قد قمعت بنضار
كأنّما زعفران ... فيه مع الشهد جاري
يشف مثل كؤوسٍ ... مملوءةٍ من عقار
وقوله في الباقلاء الرطب:
فصوص زبرجد في غلف درّ ... بأقماع حكت تقليم ظفرِ
وقد صاغ الإله ثياباً ... لها لونان من بيضِ وخضر
ربيعٌ للقلوب بكلّ أرضِ ... ونقل ما يملّ لشرب خمر
وله في الرمان:
ورمّان رقيق القشر يحكي ... ثديّ الغيد في أثواب لاذ
إذا قشّرته طلعت علينا ... فصوصٌ من عقيق أو بخاذ
أبو محمد بن زريق الكوفي
الكاتب رحمه الله تعالى
أنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان، قال: أنشدني أبو سليمان المنطقي ببغداد، قال: أنشدني ابن زريق لنفسه:سافرت أبغي لبغدادٍ وساكنها ... مثلاً فحاولت شيئاً دونه الياس
هيهات بغداد الدنيا بأجمعها ... عندي. وسكان بغدادٍ همُ الناس
وأنشدني له غيره في شعر الصولي:
داري بلا خيش ولكنّني ... عقدت من خيشي طاقين
دار إذا ما اشتد حرّ بها ... أنشدت للصولي بيتين
وله أيضاً في العيادة:
يا مريضاً بسقمه ... مرض الحلم والوفا
لم يكن تركي العيا ... دة هجراً ولا جفا
لم أطق أن أراك ياأكرم الناس مدنفا
طال خوفي عليك فا ... لحمد لله إذا كفى
وقال في قينة تسمى دبسية حسنة المخبر قبيحة المنظر:
أبا سعيد أصخ لي ... يا سيدي ونديمي
منيت أمس بأمرٍ ... من الأمور عظيم
حصلت عند صديقٍ ... حرٍّ ظريفِ كريم
أسقي على شدو دبسيّة ... فتنفي همومي
فكنت حين تغنّي ... لدي جنان النعيم
وإن نظرت إليها ... ففي العذاب الأليم
وإن شربت بصوتٍ ... فالراح بالتسنيم
وإن شربت بلحظٍ ... فالمهل بالزقوم
فكان سمعي بخير ... ومقلتي في الجحيم
وأنشدني أبو نصر سهل بن المرزبان لأبي محمد بن زريق، يخاطب به أبا عبد الله الكوفي لما قلد أبي جعفر بن شيرزاد، وحصل في الدار التي كان أبو جعفر يناظر الناس فيها وعلى دسته وفي مثل حاله. وقد كان حضره قبل ذلك فحجب:
إنا رأينا حجباً منك قد عرضا ... فلا يكن ذلّنا فيه لك الغرضا
اسمع لنصحي ولا تغضب عليّ فما ... أبغي بقولي لا مالاً ولا عرضا
الشكر يبقى ويفنى ما سواه، وكم ... سواك قد نال ملكاً فانقضى ومضى
في هذه الدار في هذا الرواق على ... هذا السرير رأينا الملك فانقرضا
قال: فاعتذر إليه الكوفي، وقال له: حسبنا، وقضى حوائجه.
؟
أبو الورد
بلغني أنه كان من عجائب الدنيا في المطايبة والمحاكاة، وكان يخدم مجلس المهلبي الوزير، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم، فيؤديها كما هي، فيعجب الناظر والمسامع ويضحك الثكلان. وكان أبو إسحاق الصابي قد بلي به حتى قال فيه:ومن عجب الأيام أن صروفها ... تسوء امراً بمثلي أبي الوردِ
فيا ليتها اختارت نظيراً وأنّها ... رمتني بشنعاء الدّواهي على عمد
فكم بين معقور الكلاب وإن نجا ... ذليلاً ومقتول الضّراغمة الأسد
وفيه يقول السري حيث يذكر صفعه للملحي الشاعر:
وما خلت صفعان العراق يسومني ... لأمثاله ذماً يسيراً ولا حمدا
إذا ما أبو الورد انتحاه بكفه ... حسبت قفاه روضة تنبت الوردا
ولأبي الورد شعر لهو في الإضحاك مثل قوله:
أنا في كل سحيرٍ ... في مداراة لا يرى
دائباً يطلب وجهاً ... حسناً من بيت غيري
قلت نك يا أير من ير ... تع في خيري وميري
قال: لا أسطيع نيكاً ... لكسيرٍ وعوير
وقوله:
طفيلي يؤم الخبز أنّي ... رآه ولو رآه على يفاع
ولا يروي من الأخبار إلاّ ... أجبت ولو دعيت إلى كراع
وقوله:
وصديق جاءني يس ... ألني ماذا لديك
قلت: عندي بحر خمرٍ ... حوله آجام نيك
وقوله:
ولي صاحب أفسى البرية كلّها ... يشككني فيه إذا ما تنفسا
تحولّت الأنفاس منه إلى استه ... فما أحدٌ يدري تنفس أم فسا
وقوله:
ليس اشتقاق أبي المظفر ... من أن يرى ظفراً فيظفر
لكن تطاول ظفرهُ ... فلذاك قيل أبو المظفر
؟
الباب السابع
في ذكر قوم من
شعراء بغداد ومحاسن أشعارهم
؟ابن نباتة السعدي
أبو نصر عبد العزيز ابن محمد بن نباتة
من فحول شعراء العصر وآحادهم، وصدور مجيديهم. وأفرادهم الذين أخذوا برقاب القوافي، وملكوا رق المعاني، وشعره مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام، يشتمل على غرر من حر الكلام، كقطع الروض غب القطر، وفقر كالغنى بعد الفقر. وبدائع أحسن من مطالع الأنوار. وعهد الشباب، وأرق من نسيم الأسحار، وشكوى الاحباب، وأول ما وقع شعره إلى خراسان إنما وقع على يد أبي نصر سهل بن المرزبان، فإنه استصحبه من بغداد في جملة ما حصله بها، من ظرائف الدفاتر ولطائفها، وذخائرها وأخايرها، وأتحفني به وهو بغبار السفر، وجعلني في أبا عذرة النظر. فحسبته والطرف معقود به، شخص المحبوب بدا لعين محبه، وباكورة الأشعار، أرفع من باكورة الثمار، فكم مرتع أنس فيه رعيت. وكم فص مختص منه وعيت. وأنا كاتب من عيونه ما يمتع الخواطر، ويجلو النواظر ويصدق قوله، وقد أحسن فيه كل الإحسان:
وكم لليل عندي من نجوم ... جمعت النثر منها في نظامي
عتاباً أو نسيباً أو مديحاً ... لخلّ أو حبيبٍ أو همامِ
تفيد بها العقول نهىً وصحواً ... وقد فعلت بها فعل المدام
لها في حلبة الآداب ركضٌ ... إلى حبّ القلوب بلا احتشام
وقوله:
خذها إذا أنشدت في القوم من ... طرب صدورها علمت فيها قوافيها
ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها
وقوله أيضاً:
فات عبد العزيز سابقة القو ... ل وإنّي لوصفه في لحاق
طلعت في القلوب ألفاظي الغ ... ر طلوع النجوم في الآفاق
وقوله:
هذا الكلام الذي خصصت به ... أخص في الخالدات من أحد
قول هو الماء لذ مطعمه ... فكل قولٍ سواه كالزّبد
؟ما أخرج من غرره في الغزل والنسيب قال من قصيدة:
وبدر تمام بتّ ألثم رجله ... وأكبره عن أن أقبل خدَّه
تعشقت فيه كلّ شيء يودّه ... من الجور حتى كدت أعشق صدّه
البيت الأول كأنه مأخوذ من قول ابن طباطبا:
وشادن روحي في يديه ... تبيت تهمي قبلي عليه
والبيت الثاني فيه رائحة من قول المنصور الفقيه:
سررت بهجرك لمّا علمت ... بأنّ لقلبك فيه سرورا
ولو لا سرورك ما سر؟ّني ... وما كنت يوماً عليه صبورا
لأني أرى كل ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلاً يسيرا
وقال من أخرى:
عجبت له يخفي سراه، ووجهه ... به تشرق الدنيا وبالشمس بعده
ولا بدّ لي من جهلةٍ في وصاله ... فمن لي بخلّ أودع الحلم عنده
ومن أخرى:
يا من أضر بحسن الشمس والقمر ... فلم يدع فيهما للناس من وطر
نفسي فداؤك من بدر على غصن ... تكاد تأكله عيناي بالنظر
إذا تفكرت فيه عند رؤيته ... صدّقت قول الحلوليين في الصور
ومن أخرى:
سقى الله أرضاً لا أبوح بذكرها ... فتعرف أشجاني بها حين تذكر
سوى أنها مسكيّة الترب ريحها ... ترفّ وتندي والهواجر تزفر
نعمت بها يجلو عليّ كؤوسه ... أغرّ الثنايا واضح البشر أحور
فو الله ما أدري مدامة ... من البدر تجني من الشمس تعصر؟
إذا صبّها جنح الظلام وعبّها ... رأيت رداء الليل يطوي وينشر
ومن أخرى:
دعهم وقلبي لا أريد رجوعه ... أبداً فقلبي كان أصل فسادي
لو يعلمون صلاح حالي بعدهم ... ما فرقوا بيني وبين فؤادي
ومن أخرى:
إن كنت تمنع سعدي من مطالبها ... فلست تمنع سعدي من تمنيها
لله نغمة أوتار ومسمعةٌ ... باتت تدل على شوقي أغانيها
وقهوة كشعاع الشمس طالعةٌ ... أفنيت بالمزج فيها ريق ساقيها
يا لذّةُ بيمين الدهر أدفعها ... في صدره وهو من أحشاي يدنيها
لو كان يعلم أنّي عنك أخدعه ... ثنى أنامله لي حين أثنيها
؟؟الشكوى وذم الزمان قال:
في كل يوم لنا في الدهر معركة ... هام الحوادث في أرجائها فلق
حظيّ من العيش أكلٌ كلّه غصصٌ ... مرّ المذاق وشرب كلّه شرق
وقال:
وكم من خليل قد تمنيت قربه ... فجرّبته حتى تمنيّت بعده
وما للفتى في حادث الدهر حيلةٌ ... إذا نحسه في الأمر قابل سعده
أرى همم المرء اكتئاباً وحسرةً ... عليه إذا لم يسعد الله جّده
كأنه مأخوذ من قول المتنبي:
وأتعب خلق الله من زاد همه ... وقصّر عما تشتهي النفس وجده
وقال من قصيدة:
ما بال طعم العيش عند معاشرٍ ... حلوٌ، وعند معاشرٍ كالعلقم
من لي بعيش الأغبياء فإنّه ... لا عيش إلاّ عيش من لم يعلم
هذا معنى متداول، ومن احسن ما قيل فيه قول ابن المعتز:
وحلاوة الدنيا لجاهلها ... ومرارة الدنيا لمن عقلا
وقال من أخرى:
يأبى مقامي في مكان واحدٍ ... دهرٌ بتفريق الأحبّة مولعُ
كفكف قسيّك يا فراق فإنّه ... لم يبق في قلبي لسهمك موضع
كأنه من قول المتنبي:
رماني الدهر بالأرزاء حتى ... فؤادي في غشاء من نبال
فصرت إذا أصابتني سهامٌ ... تكسرت النصال على النصال
وقال:
برمت من الحياة، وأيّ عيشٍ ... يكون لمن مطاعمه الخبالُ؟
ولو أنّي أعدّ ذنوب دهري ... لضاع القطر فيها والرمال
سقام ما يصاب له طبيبٌ ... وأيامٌ محاسنها عيوبُ
ودهرٌ ليس يقبل من أديب ... كما لا يقبل التأديب ذيب
يحب على المصائب والرزايا ... فلا كان المحب ولا الحبيب
وقال:
متى أرجو مسالمة الهموم ... وآمل صحة الجسم السقيم؟
وكرّ الحادثات عليّ تجني ... جنايات القروف على الكلوم؟
وقال:
طلاب المعالي للمنون صديق ... وطول الأماني للنفوس عشيقُ
تسربل ثياب الموت أو حلّل الغنى ... تعش ماجداً أو تعتلقك علوق
وما الفقر إلا للمذلة صاحبٌ ... وما الناس إلاّ للغنيّ صديق
وأصغر عيبٍ في زمانك أنّه ... به العلم جهل والعفاف فسوق
وكيف يسرّ الحر فيه بمطلب ... وما فيه شيءٌ بالسرور حقيق
إذا لم تكن هذي الحياة عزيزةٌ ... فماذا إلى طول الحياة تتوق
ألا إنّ خوف الموت مرّ كطعمه ... وخوف الفتى سيفٌ عليه ذلوق
وإنك لو تستشعر العيش في الردى ... تحليت طعم الموت حين تذوق
وقال:
كيف السبيل إلى الغنى ... والبخل عند الناس فطنه
خذ من زمانك كلّ شيٍ ... لا يجرّ عليك منّه
ونبتْ بنا أرض العرا ... ق فما محنّاها بمحنه
غير الرحيل، كفى البلا ... د بنقلة الفضلاء هجنه
وقال رجمه الله:
وتأخذ من جوانبنا الليالي ... كما أخذ المساء من الصباح
أما في أهلها رجلٌ لبيبٌ ... يحسّ فيشتكي ألم الجراح
أرى التشمير فيه كالتواني ... وحرمان العطيّة كالنجاح
ومن لبس التراب كمن علاه ... فلا تخضعك أنفاس الرياح
وكيف يكدّ مهجته حريصٌ ... يرى الأرزاق في ضرب القداح
وقال سامحه الله:
أراحني الله من قلب منيت به ... يهوي القعود ويهوى أشرف الرتبِ
أطلب لصدرك هماّ بالمنى كلفاً ... وخلّ صدري فما لي فيه من أرب
والمجد يطلب بالآفات طالبه ... لم يحظ بالمجد من لم يحظ بالنكب
ما للزمان سوى أولاده درنٌ ... إن لم يكونوا بنيه فالزمان أبي
الفخر والحماسة قال:
خليليّ قد لجّ الزمان ولجّ بي ... مرادٌ، وأحداث الزمان تعوقُ
وأي فتى غنّيتما وسقيتما ... فتىً فيه نفث السحر ليس يحيق