كتاب : غرر الخصائص الواضحة
المؤلف : الوطواط
لو قيل للعباس عمّ محمد ... قل لا وأنت مخلد ما قالها
إنّ المكارم لم تزل معقولة ... حتى فككت براحتيك عقالها
وإذا الكرام تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وأنت هلالها
ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمها أو خالها
الحطيئة
تزور امرأ يعطي على الحمد ماله ... ويعلم أن الشح غير مخلد
كسوب ومتلاف إذا ما لقيته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
أبو العتاهية
وإنا إذا ما تركنا السؤال ... فلم نبغ نائله يبتدينا
وإن نحن لم نبغ معروفه ... فمعروفه أبدا مبتغينا
وقال مسلم بن الوليد مادحاً من أبيات
قبل أنامله فلسن أناملاً ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق
واذكر صنائعه فلسن صنائعاً ... لكنهنّ قلائد الأعناق
يلقاك منه ثناؤه وعطاؤه ... بذكاء رائحة وطيب مذاق
كالشمس في كبد السماء محلها ... وشعاعها قد شاع في الآفاق
مروان في أبي حفصة
له سحائب جود في أناملها ... أمطارها الفضة البيضاء والذهب
يقول في العسر إن أيسرت ثانية ... أقصرت عن بعض ما أعطى وما أهب
حتى إذا عدن أيام اليسار له ... رأيت أمواله في الناس تنتهب
وما أحسن قول الكميت بن خالد بن عبد الله القسري
ما أنت في الجود إن عدت فضائله ... ولا ابن مامة إلا البحر والوشل
أنسيتنا في الندى أمثال أولنا ... فأنت للجود فيما بعدنا مثل
آخر
فضح الغمام نواله أو ما ترى ... ضحك البروق على الغمام الهاطل
وقال عامر بن الظرب العدواني مادحاً لقومه
أولئك قوم شيد اللّه فخرهم ... فما فوقه فخر وإن عظم الفخر
أناس إذا ما الدهر أظلم وجهه ... فأيديهم بيض وأوجههم زهر
يصونون أحساباً ومجداً مؤثلاً ... ببذل أكف دونها المزن والبحر
سموا في المعالي رتبة فوق رتبة ... أحلتهم حيث النعائم والنسر
أضاءت لهم أحسابهم فتضاءلت ... لنورهم الشمس المنيرة والبدر
فلولا مس الصخر الأصم أكفهم ... لفاض ينابيع الندى ذلك الصخر
شكوت لهم آلاءهم وبلاءهم ... وما ضاع معروف يكافئه شكر
ولو كان في الأرض البسيطة منهم ... لمغتبط عاف لما عرف الفقر
آخر
يبيتون في المشتا خماصاً وعندهم ... من الزاد فضلات تعدّ لمن يقرى
إذا ضلّ عنهم ضيفهم رفعوا له ... من النار في الظلماء ألوية حمرا
آخر
سهل الحجاب إذ حللت ببابه ... طلق اليدين مؤدّب الخدام
وإذا رأيت شقيقه وصديقه ... لم تدر أيهما أخو الأرحام
وقال محمد بن هاني الأندلسي
أعطى وأكثر واستقل هباته ... فاستحيت الأنواء وهي هوامل
فاسم الغمام لديه وهو كنهور ... آل وأسماء البحار جداول
لم تخل أرض من نداه ولا خلا ... من شكر ما يولي لسان قائل
آخر
له راحة لو أن معشار جودها ... على البرّ كان أندى من البحر
إذا ما أتاه السائلون توقدت ... عليه مصابيح الطلاقة والبشر
له في ذرى المعروف نعمى كأنها ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
آخر
أصبح أهل الأرض زواره ... فما له نهب لزواره
كأنما أدرّ بين الورى ... مجاري الأرزاق من داره
بكر بن النطاح
أقول لمرتاد الندى عند مالك ... تمسك بجدوى مالك وصلاته
فتى جعل الدنيا وقاء لعرضه ... واسداءه المعروف عند عداته
ولو خذلت أمواله جود كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
لو لم يجز في العمر قسماً لطالب ... وجاز له الاعطاء من حسناته
لجاد بها من غير كفر لربه ... وأشركه في صومه وصلاته
آخر
يا أيها الملك الذي لنواله ... ظل تغرّس دونه الآمال
أنعمت حتى ليس يقصد قاصد ... وبذلت حتى قلت السؤال
وجمعت أشتات المكارم والعلا ... فاهنأ وأنت الواهب المفضال
علي بن الجهم في المتوكل
يسر مرأ امام عدل ... تغرق في بحره البحار
مؤمل يرتجي ويخشى ... كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه ... ما دار بالأنجم المدار
لا زال في الملك ذا اغتباط ... ما طرد الليل والنهار
يداه بالجود ضرّتان ... عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين شيأً ... إلا أتت مثله اليسار
المتنبي
لولا المشقة ساد الناس كلهم ... الجود يفقر والاقدام قتال
تملك الحمد حتى ما لمفتخر ... في الحمد حاء ولا ميم ولا دال
ومما ينبغي أن يكون لاحقاً بما ذكرناه ... ومتمماً للغرض الذي أردناه
نوعان لهما في هذا الموضع ... لمن تأمّلهما أحسن موقع
النوع الأوّل في ذم من أتبع الاحسان ... بالتعديد والامتنان
قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى وقال عليه الصلاة والسلام إياكم والامتنان بالمعروف فإنه يبطل الشكر ويمحق الأجر وقالوا المنة تهدم الصنيعة ويقال تعداد المنة من ضعف المنة ومنه قول عمر رضي الله عنه في ذم منان شوى أخوك حتى إذا نضج رمد شاعر يذم منانا
أفسدت بالمن ما أوليت من حسن ... ليس الجواد إذا أسدى بمنان
المن يهدم ما شيدت من كرم ... هل يرغب الحرّ في هدم لبنيان
وقالوا لا خير في المعروف إذا أحصى وقالوا ما يعد لا يعتد ويقال أحسن العطاء موقعاً ما لم يشب بمن وينشد في مثله
أحسن من كل حسن ... في كل وقت وزمن
صنيعة مشكورة ... خالية من المنن
وينسب للامام الشافعي رضي الله عنه
لا تحملن لمن يمنّ ... من الأنام عليك منه
واختر لنفسك حظها ... واصبر فإن الصبر جنه
منن الرجال على القلو ... ب أشدّ من وقع الأسنه
وقال بعضهم لأعرابي إن فلاناً يزعم أنه كساك فقال إن المعروف إذا من به كفر وإذا ضاق قلبه اتسع لسانه وقال لقمان من عدد نعمه محق كرمه وقالوا إذا طوقت امرأ جوهر احسانك فلا تجعل المنة به حظ لسانك فينحل معقود نظامه ويصير بدره إلى السرار بعد تمامه وقالوا خير المعروف ما لم يتقدمه مطل ولم يتبعه من ولقد أحسن قائل هذين البيتين
إذا زرعت جميلاً فاسقه غدقا ... من المكارم كي ينمو لك الشجر
ولا تشبه بمن فالذي نقلوا ... من عادة المن أن يؤذي به الثمر
ويقال عليك حق لمن أجريت عليه المعروف أن تستره ولا تظهره وتقدمه ولا تؤخره وتستقلله ولا تستكثره ولا تتبعه منا ولا تبطله بأذى وقال موسى شهوان يمدح حمزة بن عبد الله بن الزبير بترك المن
حمزة المبتاع بالمال الثناء ... ويرى في بيعه أن قد غبن
وإذا أعطى عطاء مفضلاً ... ذا اخاء لم يكدره بمن
وقال إبراهيم بن العباس الصولي مفتخراً بترك المن
أفرّق بين معروفي ومنى ... وأجمع بين مالي والحقوق
وكان يقال الأيادي ثلاثة يد بيضاء ويد خضراء ويد سوداء فاليد البيضاء لابتداء بالمعروف والخضراء المكافاة عليه والسوداء المن به شاعر
أراك تؤمل حسن الثناء ... ألم يرزق اللّه ذاك البخيلا
وكيف يسود أخا فطنة ... يمنّ كثيراً ويعطي قليلا
ومن أظرف الحكايات وألطف الفكاهات ما يحكي أن الأشعث بن قيس قال لرجل أسدى إليه معروفاً فلم يشكره عليه ما شكرت معروفي عندك فقال الرجل إن معروفك كان من غير محتسب فوقع عند غير شاكر وليم بعضهم على منه بمعروف أسداه فقال إذا كفرت النعمة وجبت المنة وليم آخر فقال إذا جحد الاحسان وجب الامتنان
النوع الثاني
في أن من تمام المعروف ترك المطل به ... وإعانة المستجدي على حصول مطلبهقال جعفر الصادق نظرت إلى المعروف فوجدته لا يتم إلا بثلاث تعجيله وستره وتصغيره فإنك إذا عجلته هنأته وإذا سترته تممته وإذا صغرته عظمته مدح بعضهم من هذه خلته فقال
زاد معروفك عندي عظما ... إنه عندك مستور حقير
تتناساه كأن لم تأته ... وهو عند الناس مشكور كثير
آخر
أمت ذكر معروف تريد حياته ... فأحياؤه حقاً اماتة ذكره
وصغره يعظم في النفوس محله ... فتصغيره في الناس تعظيم قدره
وقال عمرو بن العاص ما استبطأني صاحب حاجة قط لأني لا أعد شيأً قط حتى أعد له نجازاً ولا أمنع شيأً حتى أعد له عذراً ويقال إياك والمطل بالمعروف فإنه مفسدة للمروأة مهدمة للصنيعة ممحقة للشكر داعية للذم شاعر
يا صانع المعروف لا تمطلن ... يزداد ذو الحاجة في حاجته
فشر معروفك ممطوله ... وخيره ما كان في ساعته
لكل خير يرتجى آفة ... ومطلك المعروف من آفته
وسأل رجل رجلاً فاعتذر إليه وعجل صرفه فقال أصبت في الشكر من حيث أخطأت في الرد لأنك صرفتني وفي الزاد بقية وفي النفس رمق وفي الوجه بقية ماء الحياة شاعر
جود الكرام إذا ما كان عن عدة ... وقد تأخر لم يسلم من الكدر
إن السحائب لا تجدي بوارقها ... نفعاً إذا هي لم تمطر على الأثر
وماطل الوعد مذموم وإن سمحت ... يداه من بعد طول المطل بالبدر
آخر
كم جزيل من النوال أتاني ... بعد مطل وكان غير جزيل
أيّ فرق بين الكريم إذا استب ... طأت معروفه وبين البخيل
آخر
رأيت المطل ميداناً طويلاً ... يروض طباعه فيه البخيل
يراود عن جداه نفس سوء ... يرى أن الندى حمل ثقيل
آخر
تعجيل جود المرء أكرومة ... ينشر عنه أطيب الذكر
والجر لا يمطل معروفه ... ولا يليق المطل بالحر
وقالوا المنع بالعذر الجميل خير من المطل الطويل وقالوا المطل مرض المعروف والانجاز برؤه والمنع تلفه وقالوا المسؤل حر حتى يعدو مسترق بالوعد حتى ينجز وقالوا من مروأة المطلوب إليه أن لا يلجئ إلى الالحاح عليه وقالوا الاسراع بالرد خير من الابطاء بالوعد أبو تمام
وخير عداة المرء مختصراتها ... كما أن خير الليالي قصارها
وإن الليالي الصالحات كبارها ... إذا وقعت تحت المطال صغارها
وما العرف بالتسويف إلا كخلة ... تسليت عنها حين شط مزارها
آخر
إذا قلت في شيء نعم فاتمه ... فإن نعم دين على الحرّ واجب
وإلا فقل لا واسترح وأرح بها ... لكيلا يقول الناس إنك كاذب
وقالوا لولا أن انجاز الوعد فضيلة معدومة في أكثر الناس لما وصف الله سبحانه وتعالى نبيه إسمعيل بصدق الوعد شاعر
إنّ الحوائج ربما أودى بها ... متطلب يقضي له ممطولها
فإذا قصدت لطالب لك حاجة ... فاعلم بأنّ تمامها تعجيلها
الفصل الثاني من الباب التاسع
في منح الأماجد الأجواد
وملح الوافدين والقصاد
فمما يجب أن يقدم فيما يممناه ... تلطف الراغب لينال ما تمناهيقال التلطف في السؤال سبب لتحصيل النوال وقالت الحكماء لطف الاستماح سبب النجاح وقال العتابي إذا طلبت حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه وإياك والالحاح عليه فإن اللحاحة تكلم عرضك وتريق ماء وجهك فلا تأخذ عوضاً مما أخذ منك ولعل الالحاح يجمع عليك أخلاق الوقاح وحرمان النجاح ولقد أحسن الأدب القائل
وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فلقاؤه يكفيك والتسليم
فإذا رآك مسلماً عرف الذي ... حملته فكأنه ملزوم
نقض بعضهم هذا بقوله
حث الجواد على الندى وتقاضه ... بالوعد واحمله على الانجاز
ودع الوثوق بطبعه فلربما ... نشط الجواد بشوكة المهماز
وقال بعضهم مقيماً عذر من منع
وإذا طلبت إلى كريم حاجة ... فأبى فلا تقعد عليه بحاجب
فلربما ضن الجواد وما به ... بخل ولكن سوء حظ الطالب
فمن أحاسن بدائع ما تلطف به من استماح ... من الكلام الخادع لذوي السماح
ما حكى أن زياد بن أبيه نظر إلى أعرابي يأكل على مائدته أكلاً ذريعاً وهو من أقبح الناس وجهاً فقال يا أعرابي كم عيالك قال سبع بنات أنا أجمل منهن وهن آكل مني فضحك زياد وقال لله درك ما ألطف جوابك افرضوا لكل واحدة منهن مائة دينار وعجلوا لهن ذلك وقد روى الأصمعي هذه الحكاية وذكر أنها جرت لسعيد بن المحسن مع زياد وأنه لما وصله ووصل أولاده خرج وهو ينشد
إذا كنت مرتاد السماحة والندى ... فبادر زياداً أو أخاً لزياد
يجبك امرؤ يعطي على الحمد ماله ... إذا ضن بالمعروف كل جواد
ومالي لا أثني عليه وإنما ... طريقي من معروفه وتلادي
وحكى أن نصيباً قال لعبد الملك بن مروان يا أمير المؤمنين إن لي بنات نفضت عليهن من سوادي فضحك منه وأمر له بصلة وقال المأمون للعتابي سلني فقال يداك بالنوال انطق من لساني بالسؤال وقصد بعض الشعراء معن بن زائدة الشيباني يستجديه فأذن عليه فلم يأذن له الحاجب وكان معن في بستان له فعمد الشاعر إلى قطعة خشب وكتب عليها
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك رسول
وأرسلها في ساقية تصل إليه فلما وصلت إليه وقرأها أذن له ووصله بعشرة آلاف درهم وأمر المأمون محمد بن حازم أن يرتجل بيتين من الشعر فقال
أنت سماء ويدي أرضها ... والأرض قد تأمل غيث السماء
فازرع يداً عندي محمودة ... تحصد بها مني حسن الثناء
فاستحسن ذلك منه وأعطاه عشرة آلاف درهم سأل أعرابي عبد الملك ابن مروان فقال له سل الله تعالى فقال قد سألته فأحالني عليك فضحك منه وأعطاه وقدم على مخلد بن يزيد بن المهلب رجل كان قد ازدراه فأجازه فقال ألم تكن قد أتيتنا فأجزناك قال بلى قال فما ردك قال قول الكميت فيك
سألناه الجزيل فما تلكى ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم أحسن ثم عادا
مراراً لا أعود إليه إلا ... تبسم ضاحكاً وثنى الوسادا
فاضعف له ما كان أعطاه وقد نسب ابن عبدوس هذه الأبيات لزياد بن عمرو العتكي في عبد الرحمن بن زياد في كتاب الوزراء له ودخل أعرابي على خالد ابن عبد الله القسري فقال
أخالد إني لم أزرك لحاجة ... سوى إنني عاف وأنت جواد
أخالد بين الحمد والأجر حاجتي ... فأيهما تأتي فأنت عماد
فقال له خالد سل حاجتك قال مائة ألف درهم قال خالد أسرفت فاحططنا منها قال حططتك ألفاً فقال خالد ما أعجب ما سألت وما حططت فقال لا يعجب الأمير سألته على قدره وحططته على قدري فضحك منه وأمر له بما طلب وسأل رجل أسد بن عبد الله فقال إني لا أسألك من حاجة ولكني رأيتك تحب من أعطيت فأحببت أن تحبني فأعطاه عشرة آلاف درهم وقصد تمام بن حبيب ابن أوس الطائي عبد الله بن طاهر بعد موت أبيه أبي تمام فاستنشده فانشده
حياك رب الناس حياكا ... إذ بجمال الوجه رواكا
بغداد من نورك قد أشرقت ... وأورق العود بجدواكا
فأطرق عبد الله ساعة ثم قال
حياك رب الناس حياكا ... إنّ الذي أملت أخطاكا
أتيت شخصاً قد خلا كيسه ... ولو حوى شيأً لأعطاكا
فقال أيها الأمير إن بيع الشعر بالشعر ربا فاجعل بينهما فضلاً من المال فضحك منه وقال لئن فاتك شعر أبيك فما فاتك ظرفه وأمر له بصلة وقف رجل لعبد الله بن طاهر في طريقه فناشده أن يقف له حتى ينشده ثلاثة أبيات فوقف وقال له قل فأنشده
إذا قيل أيّ فتى تعلمون ... أهش إلى البائس والنائل
واضرب للهام يوم الوغى ... واطعم في الزمن الماحل
أشار إليك جميع الأنام ... اشارة غرقى إلى الساحل
فأمر له بخمسين ألف درهم وكتب أحمد بن أبي طاهر إلى إسمعيل بن بلبل رقعة يذكر فيها اختلال حاله وفي آخر الرقعة
يا سيداً لم يزل ... غيثاً لكل مؤمليه
إن كنت أملك درهماً ... فكفرت بالمنقوش فيه
فبعث إليه بثلاثة آلاف دينار حكى أن أعرابياً وفد على معن بن زائدة فلما مثل بين يديه قال ممن الرجل قال رجل من العرب وهم أصلك وقومك فلا تشغلني بالسؤال عما هم فيه من سوء الحال قال فما حاجتك قال نأي بلدي وكثرة ولدي وضعف جلدي وقلة ذات يدي فأتيتك يا مغيث اللهيف وجابر الضعيف آملاً لجودك راجياً لزودك قال فهل من قرابة تمت بها أو يد تتوسل بمثلها قال أنت أفضل من أن يبتدئ مثلي يداً إلى مثلك أو يتوسل إليك بغير فضلك أو تتمحل الحيل عليك بذلك وقد قلت في ذلك شعراً قال هاته فأنشد
أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فمالي إلى معن سواك شفيع
قال إذا لا أشفعه فيك فقال الأعرابي ما أنت بالبخيل فأوجه الذم إليك ولا أوليت ما يحسن ثنائي عليك ثم انصرف وهو يقول
بأيّ الخصلتين عليك أثنى ... فإني عند منصرفي سؤل
أيا لحسنى وليس لها ضياء ... عليّ فمن يصدّق ما أقول
أم الأخرى تكون فتلك عار ... على من دأبه الفعل الجميل
فرق له وأجزل صلته وفد على أبي دلف قاسم بن عيسى العجلي مستجدياً فأقام ببابه مدة لا يصل إليه فكتب في رقعة هذه الأبيات
ماذا أقول إذا أتيت معاشراً ... صفراً يدي من عند أروع مفضل
إن قلت أعطاني كذبت وإن أقل ... ضنّ الجواد بماله لم يجمل
أم ما أقول إذا سئلت وقيل لي ... ماذا أفدت من الأمير المجزل
ولأنت أعلم بالمكارم والعلا ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فاختر لنفسك ما أقول فإنني ... لا بدّ أعلمهم وإن لم أسأل
ودفعها فلما وقف عليها أبو دلف أمر له عن كل يوم أقامه ألف درهم وكتب خلف الرقعة
أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ... نزراً ولو أمهلتنا لم نقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نسأل
ويحكى أن أبا دلامة دخل على المنصور فأنشده
باتت تعاتبني من بعد رقدتها ... أمّ الدلامة لما هاجها الجزع
وقالت ابتع لنا نخلاً ومزدرعاً ... كما لجيراننا نخل ومزدرع
خادع خليفتنا عنها بمسئلة ... إن الخليفة للتسآل ينخدع
فأمر أن يقطع ألف جريب عامرة وألف جريد غامرة فقال أبو دلامة أما العامرة فقد عرفته فما الغامرة قال ما لا يدركه الماء ولا يسقى إلا بالكلفة والمؤنة فقال أبو دلامة أشهدك يا أمير المؤمنين ومن حضر أني أقطعت عبد الملك بادية بني أسد فضحك المنصور وقال يا عبد الملك اكتب عامرة فقال أبو دلامة للمنصور ائذن لي في تقبيل يدك فلم يفعل فقال ما منعتني شيأً هو أهون على عيالي من هذا وكان المنصور يدخل البصرة في أيام بني أمية متستراً فيجلس في حلقة أزهر السمان المحدث فلما أفضت الخلافة إليه قدم عليه أزهر الكوفة فرحب به وقرب منزله وقال له ما الذي أقدمك علينا قال جئت طالباً فأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له قد قضيت حاجتك فأخذها وانصرف ثم عاد إليه في قابل فلما رآه قال له ما جاء بك قال جئت مسلماً فأعطاه عشرة آلاف درهم وقال لا تأتنا طالباً ولا مسلماً فأخذها وانصرف ثم رجع إليه بعد عام فقال له ما الذي أقدمك علينا قال عائداً فوصله بعشرة آلاف درهم وقال لا تأتنا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً فأخذها وانصرف ثم عاد بعد سنة فلما رآه قال له ما الذي أتى بك قال دعاء كنت سمعته من أمير المؤمنين جئت لأكتبه فضحك المنصور وقال إنه غير مستجاب لأني دعوت الله به أن لا يريني وجهك فلم يستجب لي وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم وتعال متى أردت فقد أعيتنا فيك الحيلة وكان المنصور مبخلاً جداً وسنذكر شيأً من أخباره في باب البخلاء إن شاء الله تعالى وقصد الحكم بن عبدك الشاعر أسماء بن خارجة فأنشده
أغفيت قبل الصبح نوم مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني بوليدة ... مغناجة حسن لديّ قيامها
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجبة تصك لجامها
فسالت ربي أن يثيبك جنة ... عوضاً يصيبك بردها وسلامها
فقال له أصبت كل شيء رأيته عندنا إلا البغلة فإنها دهماء فقال أذكرتني أيها الأمير فإني ما رأيتها إلا دهماء فضحك منه أسماء وأمر له بكل ما سأل وحكى أبو الفرج الأصفهاني أن هذه الحكاية جرت لابن عبدك مع بشر بن مروان أخي عبد الملك والله أعلم بالصحيح من ذلك ودخلت امرأة من هوازن على عبيد الله بن أبي بكرة فوقفت بين السماطين وجعلت تلحظه وجهها مرة وتستره أخرى فلما أبصرها علم أن لها حاجة فقال لجلسائه ما عليكم أن تقوموا حتى تقول هذه المرأة حاجتها فتقدمت وقالت اصلح الله الأمير إني أتيتك من أرض شاسعة ترفعني رافعة وتخفضني واضعه لملمات قد أكلن لحمي وبرين عظمي وتركنني أغص بالجريض فضاق بي من البلد العريض وقد جئت بلداً لا أعرف فيها أحداً لا قرابة تكنفني ولا عشيرة تعرفني بعد أن سألت أحياء العرب من المرجو نائله المعطي سائله فأرسلت إليك ودللت عليك وأنا أصلحك الله امرأة قد هلك عنها الوالد وذهب عنها الطارف والتالد ومثلك يسد الخلة ويزيح العلة فأما أن تحسن صفدي وتقيم أودي وإما أن تردني إلى بلدي فقال بل أجمع لك كل ما ذكرت ثم أمر لها بعشرة آلاف درهم وزاد وكسوة وراحلة أصاب الناس مجاعة على عهد هشام بن عبد الملك فدخل عليه درواس بن حبيب العجلي مع جماعة من قومه فقال يا أمير المؤمنين تتابعت علينا وعلى الناس سنون ثلاثة أما الأولى فأكلت اللحم وأما الثانية فأذابت الشحم وأما الثالثة فمصت العظم وفي أيديكم فضول أموال فإن تكن لله فاعطفوا بها على عباده وإن تكن لهم فعلام تحبسونها عنهم وتنفقونها اسرافاً وبداراً والله لا يحب المسرفين وإن تكن لكم فتصدقوا بها عليهم إن الله يجزي المتصدقين ولا يضيع أجر المحسنين فقال هشام لله أبوك ما تركت لنا واحدة من ثلاث وأمر بمائة ألف فقسمت في الناس وأمر لدرواس بمائة ألف درهم فقال يا أمير المؤمنين لكل واحد من المسلمين مثلها قال لا ولا يقوم بذلك بيت المال قال فلا حاجة لي بما يبعث على ذمك فالزمه بها فلما عاد إلى منزله قسم تسعين ألفاً في أحياء العرب وحبس عشرة آلاف له ولقومه فبلغ ذلك هشاماً فقال لله دره إن الصنيعة عند مثله تبعث على مكارم الأخلاق ومثلها ما يحكي أن عبد الملك بن مروان حبس عن الناس العطاء فدخل عليه أعرابي فقال يا أبا الوليد بلغني أن عندك مالاً فإن كان لله فاقسمه على عباده وإن يكن لك فتفضل به عليهم وإن يكن لهم فادفع إليهم أموالهم وإن يكن بينك وبينهم فقد أسأت شركتهم ثم ولي فقال عبد الملك اطلبوا الرجل فطلبوه فلم يقدر عليه فأمر للناس باعطياتهم
وممن أبرع من القصاد في المدح وأجاد ... فاستحق به الصلة ممن سمح وجاد
دخل النابغة على النعمان بن المنذر بن ماء السما بن امرئ القيس بن عمرو ابن عدي اللخمي فحياه تحية الملوك ثم قال أيفاخرك ذو فائش وأنت سائس العرب وغرة الحسب واللات لأمسك أيمن من يومه ولعبدك أكرم من قومه ولقفاك أحسن من وجهه وليسارك أجود من يمينه ولظنك أصدق من يقينة ولوعدك أبلج من رفده ولخالك أشرف من جده ولنفسك امنع من جنده وليومك أزهر من دهره ولفترك أبسط من شبره ثم أنشد
أخلاق مجدك جلت مالها خطر ... في البأس والجود بين الحلم والخفر
متوّج بالمعالي فوق مفرقه ... وفي الوغى ضيغم في صورة القمر
إذا دجا الخطب جلاه بصارمه ... كما يجلي زمان المحل بالمطر
فتهلل وجه النعمان سروراً ثم أمر أن يحشي فوه دراً ويكسي أثواب الرضا وهي جباب أطواقها الذهب في قضب الزمرذ ثم قال النعمان هكذا فلتمدح الملوك وذو فائش المذكور هو سلامة بن يزيد بن سلامة من ولد يحصب بن مالك وكان النابغة متصلاً به قبل اتصاله بالنعمان وله فيه مدائح كثيرة مذكورة في ديوانه وفائش مشتق من المفايشة وهي المفاخرة قاله الأصمعي في اشتقاقه ودخل أبو العتاهية إسمعيل بن قاسم بن سويد العنبري العتبي على عمرو ابن العلاء مولى عمرو بن حريث الذي يقول فيه بشار بن برد من أبيات
إذا أرقتك جسام الأمور ... فنبه لها عمراً ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
فأنشده أبياتاً يقول منها
إني أمنت من الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالا
لو يستطيع الناس من إحلاله ... لحذوا له حرّ الوجوه نعالا
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسبا ورمالا
فإذا أتين بنا أتين مخفة ... وإذا رجعن بنا رجعن ثقالا
فأمر عمرو من حضر مجلسه أن يخلعوا عليه فخلعوا عليه حتى لم يقدر على النهوض لما عليه من الثياب فلما خرج حسده من كان ببابه من الشعراء فبلغ عمراً الخبر فقال علي بهم فلما دخلوا عليه ومثلوا بين يديه قال لهم ما أحسد بعضكم لبعض يا معشر الشعراء إن أحدكم يريد مدحنا فينسب في قصيدته بخمسين بيتاً فما يبلغ مدحنا حتى تذهب حلاوة شعره وتعرى طلاوة رونقه وأبو العتاهية بدأ بذكرنا وختم بمدحنا ثم أرسل إلى أبي العتاهية أن أقم حتى أنظر في أمرك فأقام أياماً فلم ير شيأً وكان عمرو ينتظر ما لا يجئ إليه من بعض أعماله فابطأ عليه فكتب إليه أبو العتاهية هذه الأبيات
يا ابن العلا ويا ابن القرم مرداس ... إني مدحتك في صحبي وجلاسي
أثنى عليك ولي حال تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك من صفد ... طأطأت من سوء حال عندها راسي
فقال عمرو لحاجبه اكففه عني أياماً ففعل فلما طال على أبي العتاهية الانتظار كتب إليه يستحثه
أصابت علينا جودك العين يا عمرو ... فنحن لها نبغي التمائم والنشر
أصابتك عين من سخائك صلبة ... ويا رب عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملها ... وإن لم تفق منها رقيناك بالسور
فضحك عمرو وقال لصاحب بيت ماله كم عندك قال سبعون ألفاً قال ادفعها له واعذرني عنده ولا تدخله علي فإني أستحي منه ولقد أحسن ابن الرومي في مدح من رأى إنه قصر في عطائه فاعتذر منه
يعطي عطاء المحسن الخضل الندي ... عفواً ويعتذر اعتذار المذنب
وما وقفت فيما طالعت من كتب الأدب على أحسن من قول القائل معتذراً من تقصيره في معروف أسداه
لو انبسطت فيما تؤمله يدي ... لجدت به عفواً ولو أنه الدنيا
ولكنني واللّه واللّه والذي ... إليه الحجيج يقطعون الفلا سعيا
طويت هموماً لو أصيب ببعضها ... يد الدهر ما اسطاعت لا يسر هاطيا
خذ العفو واعذر صاحباً لو بنفسه ... يبرو بالدنيا غلامك لاستحيا
آخر
خلّ إذا جئته يوماً لتسأله ... أعطاك ما ملكت كفاه واعتذرا
يخفي صنائعه واللّه يظهرها ... إنّ الجميل إذا أخفيته ظهرا
وحكى جحظة البرمكي قال أنشد مقدس الخلوقي طاهر بن الحسين بن مصعب ابن زريق مولى طلحة الطلحات الخزاعي فمدحه فلم يثبه وتغافل عنه حتى ركب في حراقته فعارضه وقال له بحق رأس أمير المؤمنين ألا سمعت مني ثلاثة أبيات فأمر بإيقاف الحراقة وقال هات الأبيات فأنشده
عجبت لحراقة بن الحسي ... ن كيف تسير ولا تغرق
وبحران من فوقها واحد ... وآخر من تحتها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... إذا مسها كيف لا تورق
فأمر له عن كل بيت بألف دينار وكان طاهر بن الحسين من الأجواد ذكر إنه جلس في مجلسه يوماً فنظر في قصص ورقاع فوقع عليها بصلات أحصيت فكانت ألف ألف درهم ركب الرشيد في بعض أسفاره ناقة فطلع عليه أعرابي فناشده
أغيثا تحمل الناق ... ة أم تحمل هرونا
أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدينا
الأكل الذي قلت ... ه قد أصبح مأمونا
فأمر له بعشرة آلاف درهم قام رجل بين يدي خالد بن عبد الله القسري فقال أصلح الله الأمير قد قلت فيك بيتين ولست أنشدهما حتى تعطيني قيمتهما قال وكم قيمتهما قال عشرون ألفاً قال أنشدهما فأنشد
قد كان آدم قبل حين وفاته ... أوصاك حين تجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... فكفيت آدم عيلة الآباء
فأمر له بعشرين ألفاً وأن يجلد خمسين سوطاً وأن ينادي عليه هذا جزاء من لا يحسن قيمة الشعر وقف أعرابي لمعن بن زائدة في طريقه فأنشده
يا واحد العرب الذي ... أضحى وليس له نظير
لو كان مثلك في الورى ... ما كان في الدنيا فقير
فأمر له بألفي درهم ومن حكاياته أن رجلاً قال له إني جعلت فضلك سببي إليك وكرمك وسيلتي عندك قال سل قال ألف درهم قال معن قد أربحتني أربعة آلاف درهم وإني حدثت نفسي أن أعطيك خمسة آلاف فقال أنت أكبر من أن تربح على مؤملك فأعطاه خمسة آلاف درهم وأنشد أعرابي
كتبت نعم ببابك حين تدعو ... إليك الناس مسفرة النقاب
وقلت الا عليك بباب غيري ... فإنك لن ترى أبداً ببابي
فأعطاه ألف دينار وحدث بعضهم قال كنا مع يزيد بن مزيد فإذا بصائح في الليل يا يزيد بن مزيد فقال علي بهذا الصائح فلما جئ به قال له ما حملك على أن ناديت بهذا الاسم فقال نقبت دابتي ونفدت نفقتي وسمعت قول الشاعر فتمنيت به فقال له وما قال الشاعر فأنشد
إذا قيل من للمجد والجود والندى ... فناد بصوت يا يزيد بن مزيد
فلما سمع مقاله هش له وقال له أتعرف يزيد بن مزيد قال لا والله قال أنا هو وأمر له بفرس أبلق كان معجباً به وبمائة قام أعرابي بين يدي داود بن المهلب وقال إني قد مدحتك فاسمع قال على رسلك ثم دخل بيته فتقلد سيفه وخرج ثم قال قل فإن أحسنت حملناك وإن أسأت قتلناك فأنشد
أمنت بداود وجود يمينه ... من الحدث المخشي والبؤس والفقر
وأصبحت لا أخشى بداود كبوة ... من الدهر لما أن شددت به أزري
له حكم دواد وصورة يوسف ... وملك سليمان وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من جود كفه ... كما يفرق السلطان من ليلة القدر
فقال له قد حملناك فإن شئت على قدرنا وإن شئت على قدرك قال بل على قدري فأعطاه خمسين فقال له جلساؤه هلا احتكمت على قدر الأمير قال لم يكن في ماله ما يفي بقدره فقال له داود أنت في هذا أشعر منك في شعرك وأمر له بمثل ما أعطاه وفد رجل على بعض الأمراء فسأله حاجة فقضاها ثم سأله أخرى فقضاها حتى قضى له سبع حاجات فلما خرج من عنده قيل له ما فعل بك قال ما أدري ثم قال
لكن أخبركم عنه بنادرة ... لم يأتها قبله عرب ولا عجم
قرأ عليه كتاباً منه كاتبه ... إلى أخ وجبت منه له نعم
حتى إذا ما مضت لا في رسالته ... قال استمع ثم لا يمضي بك الصمم
لا تكتبن بلافيها إلى أحد ... شق الكتاب ومر فليكسر القلم
وفد أعرابي على مالك بن طوق وكان زري الحال رث الهيئة فمنع من الدخول إليه فأقام بالرحبة أياماً فخرج مالك ذات يوم يريد النزهة حول الرحبة فعارضه الأعرابي فمنعه الشرطة ازدراء به فلم ينثن عنه حتى أخذ بعنان فرسه ثم قال أيها الأمير أنا عائذ بك من شرطك فنهاهم عنه وأبعدهم منه ثم قال له هل من حاجة قال نعم أصلح الله الأمير قال وما هي قال أن تصغي إلي بسمعك وتنظر إلي بطرفك وتقبل علي بوجهك قال نعم فأنشده
ببابك دون الناس أنزلت حاجتي ... وأقبلت أسعى نحوه وأطوف
ويمنعني الحجاب والليل مسبل ... وأنت بعيد والرجال صفوف
يطوفون حولي بالقلوس كأنهم ... ذئاب جياع بينهنّ خروف
فأمّا وقد أبصرت وجهك مقبلاً ... واصرف عنه إنني لضعيف
ومالي من الدنيا سواك وما لمن ... تركت ورائي مربع ومصيف
وقد علم الحيان قيس وخندف ... ومن هو فيها نازل وحليف
تخطيت أعناق الملوك ورحلتي ... إليك وقد أخنت عليّ صروف
فجئتك أبغي الخير منك فهزني ... ببابك من ضرب العبيد صنوف
فلا يجعلن لي نحو بابك عودة ... فقلبي من ضرب العبيد مخوف
فاستضحك مالك حتى كاد يسقط عن فرسه ثم قال لمن حوله من يعطيه درهماً بدرهمين وثوباً بثوبين فنثرت الدراهم ووقعت الثياب عليه من كل جانب حتى تحير الأعرابي واختلط عقله لكثرة ما أعطى فقال هل بقيت لك حاجة يا أعرابي قال أما إليك فلا قال فإلى من قال إلى الله أن يبقيك للعرب فإنها لا تزال بخير ما بقيت لها وحكى أبو بكر المارداني قال كنت أساير الأمير أبا الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون وكان قد خرج إلى الصيد بدمشق إذ تلقاه أعرابي فأخذ بعنان فرسه وقال
إن السنان وحد السيف لو نطقا ... لأخبرا عنك في الهيجاء بالعجب
أقبلت مالك تعطيه وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب
فقال يا غلام اعطه ما معك فأعطاه خمسمائة دينار فقال يا أمير المؤمنين زدني فقال لمن معه من غلمانه اطرحوا له ما معكم من المناطق والسيوف فحصل له منهم ما عجز عن حمله وقال علقمة بن عبد الرزاق العليمي قصدت بدراً الجمالي بمصر فرأيت اشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم قد طال مقامهم على بابه ولم يؤذن لأحد منهم فبينما هم جلوس إذ خرج يريد الصيد فأقمت حتى رجع من صيده فلما قارب دخول البلد خرجت إليه ووقفت على نشز عال من الأرض وآومأت إليه برقعة فوقف فأنشدته
نحن التجار وهذه أعلاقنا ... در وجود يمينك المبتاع
قلد وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشآم وكلما ... كسدت المتاع تعطل الصناع
فأتتك تحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوا نحو بابك والرجا ... من دونك السمسار والبياع
فبذلت ما لم يعطه في دهره ... هرم ولا كعب ولا القعقاع
وطلبت هذا الخلق في طلب العلى ... والناس بعدك كلهم أتباع
فلما فرغت من انشادها سار قليلاً ثم وقف فاستعادها مني فلما دخل داره واستقر به الجلوس استدعاني فأعدتها فقال لمن كان عنده من خواصه وغلمانه واتباعه من أحبني فليخلع عليه فخلع علي مائة خلعة ووصلني بعشرة آلاف درهم وحبس الحجاج بن يوسف يزيد بن المهلب لباق عليه كان بخراسان وأقسم ليستأدينه كل يوم مائة ألف درهم فبينما هو قد جباها له ذات يوم إذ دخل عليه الأخطل فأنشده
أيا خالداً ضاقت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد
وما قطرت بالشرق بعدك قطرة ... ولا أخضر بالمرين بعدك عود
وما لسرير بعد بعدك بهجة ... وما لجواد بعد جودك جود
فقال يا غلام أعطه المائة ألف درهم فإنا نصبر على عذاب الحجاج ولا نخيب الأخطل فبلغت الحجاج فقال لله در يزيد لو كان تاركاً للسخاء يوماً لتركه اليوم وهو يتوقع الموت ومن أخبار يزيد أن الفرزدق دخل عليه وهو محبوس فلما رآه مقيداً قال له
أصبح في قيدك السماحة والس ... جود وحمل الديات والحسب
لا بطران ترادفت نعم ... وصابر في البلاء محتسب
فقال له يزيد ويحك ما أردت بمدحتي وأنا على هذه الحالة فقال الفرزدق وجدتك رخيصاً فأحببت أن أسلفك بضاعتي فرمى إليه بخاتم كان في اصبعه قيمته ألف دينار وقال هو ربحك أمسكه إلى أن يأتيك رأسك المال ودخل جعيفران واسمه جعفر بن علي كركري على أبي دلف فأنشده
يا أكرم الأمّة موجودا ... ويا أعز الناس مفقودا
لما سألت الناس عن سيد ... أصبح بين الناس محمودا
قالوا جميعاً إنه قاسم ... أشبه آباء له صيدا
لو عبد الناس سوى ربهم ... لكنت في العالم معبودا
فقال له أحسنت يا غلام أعطه ألف درهم فقال أيها الأمير وما أصنع بها مر الغلام يأخذها ويعطيني منها كل يوم عشرة دراهم إلى أن تنفد فقال أبو دلف أعطوه الألف ومتى جاءكم أعطوه ما سأل فأكب جعيفران على يده يقبلها وقال
يموت هذا الذي أراه ... وكل شيء له نفاد
لو أنّ خلقا له خلود ... عمر ذا المفضل الجواد
المختار من غرر نوعي الكلام ... في استنجاز ما تأخر من صلات الكرام
يحكى أن الأحنف بن قيس قدم على معاوية فأقام شهراً لا يسأله فيما جاء فقال يا أمير المؤمنين إنك ترعيني مرعى وبيلاً وتوردني ظمأ طويلاً أفيأس ورواح أم حبس ونجاح فقضى حاجته ووقف أعرابي على رجل يستجديه فقال إني امتطيت إليك الرجاء وسرت على الأمل ووفدت بالشكر وتوسلت بحسن الظن فحقق الأمل وأحسن المثوبة وأقم الأود وعجل السراح وقال بعض الشعراء يستنجز
جعلت فداك قد وجب الزمام ... وقد طال التلبث والمقام
وقد أزف الرحيل إلى بلادي ... فرأيك لأعدمتك والسلام
المتنبي
لقد نظرتك حتى حان مرتحلي ... وذا الوداع فكن أهلاً لما شئتا
وكتب آخر يستجدي بنا إلى معروفك حاجة ولك على صلتنا قوة فانظر في ذلك بما أنت له أهل ونحن له أهل وطلب العتابي من صديق له حاجة فقضى له نصفها ومطله بباقيها فكتب إليه
بسطت لساني ثم أمسكت نصفه ... فنصف لساني بامتداحك مطلق
فإن أنت لم تنجز عداتي تركتني ... وباقي لسان الشكر باليأس مطلق
وقال أبو تمام حبيب بن أوس الطائي
إن ابتدا المعروف مجد باسق ... والمجد كل المجد في استتمامه
هذا الهلال يروق أبصار الورىحسناً وليس كحسنه لتمامه وكتب بعضهم يستنجز حقيق على من أزهر بقول أن يثمر بفعل والسلام وفد بشار بن برد على يحيى بن خالد فامتدحه فوعده خالد ومطله فتصدى له في طريقه وهو يريد الجامع وأخذ بعنان بغلته وأنشد
أظلت علينا منك يوماً سحابة ... أضاء لها برق وأبطا رشاشها
فلا غيمها يجلي فييأس طامع ... ولا غيثها يهمي فتروى عطاشها
فقال لن تنصرف السحابة حتى تبلك يا أبا معاذ وأمر له بعشرة آلاف درهم ولبشار أيضاً يستنجز
هززتك لا إني وجدتك ناسياً ... لأمرئ ولكني أردت التقاضيا
ولكن رأيت السيف من بعد سله ... إلى الهز محتاجاً وإن كان ماضيا
ولبشار أيضاً
فيك للمجد شيمة قد كفتني ... منك عند اللقاء بالمتقاضي
فإذا المجد كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التقاضي
المفجع البصري يستنجز
أيها السيد عش في غبطة ... ما تغنى طائر الأيك الغرد
لي وعد منك لا تنكره ... فاقضه أنجز حرّ ما وعد
أنت أحييت بمبذول الندى ... سنن الجود وقد كان همد
فإذا صال زمان أوسطا ... فعلى مثلك مثلي يعتمد
أبو الحسن بن أبي البغل
وعدت فأنجز ولا تبلني ... بكدّ التقاضي وذلّ السؤال
وصن وجه حر براه الزمان ... بأنيابه مثل بري الخلال
فإن ضاق مالك عن رفده ... فجاهك أوسع من كل مال
ابن الرومي
يا من تزينت الدنيا بطلعته ... وأصبحت منه في حلي وفي حلل
أوراد بحركم مثلي ومنصرفي ... في الواردين بلا عل ولا نهل
وأنت تعلم أن الصبر من صبر ... فامزجه بالنجح إن النجح من عسل
قصد أحمد بن الجليل سليمان بن حبيب بن المهلب مستجدياً فأخر عنه مدة فكتب إليه مستنجزاً
ورد العفاة المعطشون فأصدروا ... رياً وطاب لهم لديك المكرع
وأراك تمطر جانباً عن جانب ... وفناء أرضي من سمائك بلقع
ألنقص منزلتي تؤخر حاجتي ... أم ليس عندك لي لخير مطمع
أبو تمام الطائي
سحاب خطاني جوده وهو صيب ... وبحر عداني سيله وهو مفعم
وبدر أضاء الأرض شرقاً ومغربا ... وموضع رجلي منه أسود مظلم
آخر
مالي ظمئت وبحر جودك زاخر ... سهل مشارعه على الوراد
ما كان أجمل بالتجمل ملبسي ... وأعف في طلب القناعه زادي
لولا زمان أزمنت حالي له ... نوب تراوح تارة وتغادي
وأرى فراخاً ضاق بي أوكارها ... وكذا البغاث كثيرة الأولاد
آخر
أمرت بأن أقيم على انتظار ... لرأيك إنه الرأي الأصيل
وراقبت الرسول وقلت إني ... سيأتيني فما جاء الرسول
فليس لغير أمرك لي مقام ... ولا عن غير ذاتك لي رحيل
وقد أوقفت عزمي والمطايا ... فقل شيأً لافعل ما تقول
المعري
عليك مؤيد الدين اعتمادي ... فلا تحتج إلى كذب الأعادي
تمادي المطل والآمال درع ... وطول الانتظار من الحداد
وقد أزف الرحيل وأنت كهفي ... ومن جدواك راحلتي وزادي
زففت إليك أبكار المعاني ... فزف إليّ أبكار الأيادي
آخر
يا جابر العظم إذا العظم انكسر ... وناعش الجدّ إذا الجد عثر
أنت ربيعي والربيع ينتظر ... وخير أنواع الربيع ما بكر
أبو تمام
علمي بفضلك قاد نحوك حاجتي ... فأتت مسيئلتي عقيب ثنائي
فامنن عليّ بنجح ما أملته ... يا سيدي ومعوّلي ورجائي
آخر
أجرني لاعدمتك من مطالك ... ودعني من صدودك واعتلالك
لقد كثرت عداتك ثم طالت ... فهل وعد يكون لها فدلك
ابن الرومي
كم ظهر ميت مقفر جاوزته ... فحللت ربعاً منك ليس بمقفر
جود كجود السيل إلا أن ذا ... كدروان نداك غير مكدر
الفطر والأضحى قد انسلخا ولي ... أمل ببابك صائم لم يفطر
عام ولم ينتج نداك وإنما ... تتوقع الحبلى لتسعة أشهر
حسر لي ببحر واحد أغرقك في ... بحر أحيس به بسبعة أبحر
ومن أحسن ما استجدى به الأجواد وبلغ به غاية الأمل والمراد ما كتب به كلثوم بن عمرو العتابي إلى صديق له يستمنحه أما بعد أطال الله بقاءك وجعله يمتد بك إلى رضوانه والجنة فإنك كنت عندنا روضة من رياض الكرم تبتهج النفوس بها وتستريح القلوب إليها وكنا نعفيها من النجعة استتماماً لزهرتها وشفقة على خضرتها وادخاراً لثمرتها حتى أصابتنا سنة كأنها من سني يوسف فكذبتنا غيومها وأخلفتنا بروقها فانتجعتك وإني بانتجاعي إياك شديد المقة بك عظيم الشفقة عليك مع علمي بأنك غاية أمل القصاد وأعذب مناهل الوراد وأقول ما قال حماد عجرد
ظل اليسار على العباس ممدود ... وحظه أبداً بالسعد معقود
إن الكريم ليخفي عنك عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
إذا تكرمت عن بذل القليل ولم ... تقدر على سعة لم يظهر الجود
بث النوال فلا تمنعك قلته ... فكل ما سدّ فقراً فهو محمود
قال فشاطره ماله حتى إحدى نعليه ونصف قيمة خاتمه وكتب آخر الوعد أيسر مغارم الجود وأخف محمول على عاتق الكرم المرفود والمتقنع به قد أسلف المطل آماله وأوسع لخطو الندى محاله وارتوى ببارق المزن قبل المطر واكتفى بورق الغصن دون الثمر فأي عذر للسماح إذا خرمه طالبه وحمى عنه جانبه وقد وجد المسلك إلى المطلوب سهلاً والطالب لما يتعلق به الوعد أهلا شاعر
لا أقتضيك إلى السماح لأنه ... لك عادة لكنما أنا مذكر
وكن السحاب إذا تمسك بالحيا ... ورغبوا إليه بالدعاء فيمطر
أتى علي بن الجهم رجل فسلم عليه وقال له وعدتني وعداً إن رأيت أن تنتجه فافعل فقال ما أذكر هذا الوعد فقال له الرجل صدقت فأنت لا تذكر لأن من قصدك مثلي كثير وأنا لا أنسى لأن من أسأله مثلك قليل فاعجبه كلامه وقضى حاجته فأنشد
فلقد قصدتك راجياً في حاجتي ... ما يرتجيه الطالب الملهوف
فسررتني وبررتني بنجاحها ... وكذا يكون الجود والمعروف
آخر
بدأت بتسهيل وثنيت بالرضا ... وثلثت بالحسنى وربعت بالكرم
وحققت لي ظني وأنجزت موعدي ... وأبعدت لا عني وقربت لي نعم
آخر
يا من سهرت الليالي في الدعاء له ... حتى انتهى أمره السامي على الأمم
انظر إليّ بعين لو نظرت بها ... إلى الليالي نجت من قبضة الظلم
حتى أقول لصرف الدهر كيف ترى ... تقابل السادة الأحرار بالخدم
آخر
إن أنت لم تحدث إلي يدا ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
لم أحظ منك بنائل أبدا ... ورجعت بالحرمان منصرفا
وفيما ذكرناه من هذه الملح كفاية إذا المحاسن لا يفضي الباحث عنها إلى غاية ولو استقصينا ذكر ما أمطرته أكف الأجواد من سحائب الجود لخرجنا مما نحوناه عن الغرض المقصود ومما يحن الحاقه بهذا الفصل اطلاق اللسان بشكر أهل الاحسان والفضل " قال اللّه تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم " قال بعض المفسرين إنه شكر اصطناع المعروف وفي الحديث المشهور والنبأ المأثور من ذكر معروفاً فقد شكره ومن ستره فقد كفره وقال عليه الصلاة والسلام من كانت عنده نعمة فليكافئ عليها فإن لم يقدر فليثن فإن لم يفعل فقد كفر النعمة وقال لقمان لابنه يا بني المعروف غل لا يفكه إلا شكر أو مكافأة وقالوا المعروف رق والمكافأة عتق وقال الشاعر
كلما قلت أعتق الشكر رقي ... صيرتني لك المكارم عبدا
فاثن عمر الزمان حتى أؤدّي ... شكر احسانك الذي لا يؤدّى
ويقال الشكر وإن قل ثمن كل نوال وإن جل ويقال الشكر تميمة لتمام النعمة وقال أبو بكر الخوارزمي إذا قصرت يدك بالمكافأة فليطل لسانك بالشكر وقالوا موقع الشكر من النعمة موقع القرى من الضيف إن وجده لم يرم وإن فقده لم يقم وما أحسن قول من قال الشكر غرس إذا أودع أذن الكريم أثمر بالزيادة وحفظ العادة والسعيد من إذا أظلته نعمة لم يلته بسكرها عن شكرها وقالوا لا بقاء للنعمة إذا كفرت ولا زوال لها إذا شكرت ابن المعتز شكرك نعمة سالفة يقيض لك نعمة مستأنفة وقال أبو بكر الخوارزمي قد اراحني الشيخ ببدره لكن أتعبني بشكره وخفف ظهري من ثقل المحن لا بل أثقله بأعباء المنن وأحياني بتحقيق الرجاء لا بل أماتني بفرط الحياء فأناله عتيق بل رقيق وأسير بل طليق ومن كلامه اللهم ارزقني زماناً أوسع من زماني ولساناً أفصح من لساني وبناناً أجرى من بناني حتى أقضي بالشكر حقوق اخواني فلا بذل إلا بجود ولا جود إلا من موجود ولكن الدعاء غاية من ضاق امكانه ولم يساعده زمانه فكيف يكافئ من قلت بسطته وعجزت قدرته وقطعت عن مسافة همته جدته ولما بلغ الصاحب إسمعيل بن عباد موت أبي بكر الخوارزمي قال
سألت بريداً من خراسان مقبلا ... أمات خوارزميكم قال لي نعم
فقلت اكتبوا بالجص من فوق قبره ... ألا لعن الرحمن من يكفر لنعم
والذي أوجب قول الصاحب لهذين البيتين أنه بلغه إن أبا بكر الخوارزمي قال فيه هذين البيتين
لا تمدحنّ ابن عباد وإن هطلت ... كفاه بالجود حتى جاوز الديما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلاً ولا كرما
فلما كفر بما أسدى إليه الصاحب بن عباد من المعروف ذكر هذين البيتين بعد موته
ذكر من تبجح بذكر المعروف الذي أسدى إليه
وأقر بعجز لسانه عن شكر المنعم والثناء عليه لثعالبي شكري لا يقع في نعمه الظاهرة موقع النقطة من الدائرة لأشكرنك ملء القلب واللسان شكر حسان إلى غسان لأشكرنك شكر الأسير لمن أطلقه والمملوك لمن أعتقه لاشكرنك شكر الرياض للديم وزهير لهرم وقال آخر لو استعرت الدهر لساناً والريح ترجماناً لأشيع احسانه حق الاشاعة لقصرت عنه يد الاستطاعة قال الأمير أبو الفتيان محمد بن حيوس وأحسن كل الاحسانسأشكر ما دام اللسان يطيعني ... صنوفاً أتت من جودك المتتابع
توالت على من لا يدلّ بخدمة ... عليك ولا بد لي إليك بشافع
وقال إبراهيم بن المهدي مخاطباً للحسن بن سهل وقد شفع له عند المأمون
رددت مالي ولم تضنن عليّ به ... وقبل رذك مالي قد حقنت دمي
لئن جحدتك ما أوليت من حسن ... إني لفي اللؤم أحظى منك في الكرم
آخر
مواهب لو أني تكلفت نسخها ... لأفلست في أقلامها ومدادها
آخر
ولو إنّ لي في كل منبت شعرة ... لساناً يبث الشكر كنت مقصراً
ابن عمرون
طوقتني منك الجميل قلائدا ... وبررتني حتى حسبتك والدا
واللّه لو حل السجود لمنعم ... ما كنت إلا راكعاً لك ساجدا
آخر
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أعلى من الشكر عند اللّه في الثمن
إذا منحتكها مني مهذبة ... حذوا على حذو ما أوليت من حسن
آخر
لقد أفرطت في بري ... وقد قصرت في الشكر
وشكري عند احسان ... ك كالقطرة في البحر
آخر
أتظنني أنسى أياديك التي ... أهدت إليّ من الزمان أمانا
لا والذي جعل المحنة محنة ... وهوى النفوس مذلة وهوانا
وحبس الرشيد العتابي على ذنب اقترفه لم يحتمله منه ولا أغضى له عنه فتناساه في الحبس مدة فشفع فيه خالد بن يزيد بن مزيد فأطلقه فكتب العتابي إليه يشكره
ما زلت في غمرات الموت مطرحاً ... قد زال عني لطيف الفكر من حيلي
فلم تزل دائماً تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
أبو نواس
قد قلت للعباس معتذرا ... من ضعف شكريه ومعترفا
أنت امرؤ أحللتني نعما ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا
لا تسدينّ إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
آخر
يا زينة الناس والدنيا وما جمعت ... بالأمر والنهى والقرطاس والقلم
باللّه أقسم لو ملكت السنة ... تبتث شكرك من فرقي إلى قدمي
لما وفيت بما أوليت من منن ... ولا نهضت بما أسديت من نعم
الفصل الثالث من الباب التاسع
في ذم السرف والتبذير
إذ فلهما من سوء التدبير
قال الله تعالى ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا أخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً وقال صلى الله عليه وسلم من السرف أن تأكل كل ما شئت وقال صلى الله عليه وسلم آفة الجود السرف والسرف اسم لما جاوز الجود وقالوا السرف هو أن يكون الرجل لا يبالي فيما يشتري أو يبيع أو يغبن أو يغبن فيبيع بوكس ويشتري بفضل وهذا كما قبل الحر يتغابن في ابتياع الحمد ولا يتغابن في الشراء والبيع وقيل لعبد الله بن جعفراً بإنك تعطى الكثير إذا سئلت وتضيق في القليل إذا عوملت فقال أجود بمالي وأضن بعقلي وقالوا السخاء خلق مستحسن ما لم ينته إلى سرف وتبذير فإنه من بذل جميع ما يملكه لمن لا يستحقه لم يسم سخياً وإنما يسمى مبذراً مضيعاً وقال معاوية ما رأيت سرفاً قط إلا وإلى جانبه حق مضيع وقالوا يوشك من أنفق سرفاً أن يموت أسفاً وقالوا ما وقع تبذير في كثير إلا هدمه ودمره ولا دخل تدبير في قليل إلا كثره وأثمره وقال معاوية لولده يزيد إنك إن أعطيت مالك في حق الحق يوشك أن يجئ الحق وليس معك ما تعطي فيه وقالوا تطول ولا تطاول وقال أبو بكر رضي الله عنه إني لأبغض أهل بيت ينفقون رزق الأيام في اليوم الواحد وقالوا السرف في الانفاق يفسد من النفس بمقدار ما يصلح من العيش وقال عبد الله بن الزبير في محاورة جرت بينه وبين ابن عباس إن السرف من طينة السخاء ولكنه جاوز الحق وما بعد الحق إلا الضلال وكان أبو الأسود الدؤلي يقول يا بني إذا بسط الله عليك فابسط وإذا أمسك عنك فأمسك ولا تجاوده فإنه أكرم منك وأجود واسم أبي الأسود ظالم ابن عمرو يعد في التابعين والمحدثين والشعراء والنحويين والبخلاء والعرج والمفاليج والبخر وقالوا التدبير ينمي اليسير والتبذير يدمر الكثير وليم هشام بن عبد الملك على الامساك في العطاء فقال إنا لا نعطي تبذيراً ولا نمسك تقتيراً إنما نحن خزائن الله في بلاده وأمناؤه على عباده فإذا شاء أعطينا وإذا كره أبينا ولو كان كل قائل يصدق وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلاً ولا رددنا سائلا وربما عوقب المبذر بالافلاس وصير بالفقر مثلة بين الناس قال الأصمعي قصد رجل من أهل الشام منزل إبراهيم بن هرمة فإذا بنت له صغيرة تلعب بالطين فقال لها ما فعل أبوك قالت وفد إلى بعض الأجواد فمالنا علم من عهد فقال لها قولي لأمك تنحر لنا ناقة فإني وأصحابي أضيافها فقالت والله ما نملكها قال فشاة قالت والله ما نجدها قال فدجاجة قالت والله ما هي لنا في منزل قال فأعطينا بيضة قالت من أين البيضة إذا لم تكن الدجاجة قال فباطل ما قال أبوك حيث يقولكم ناقة قد وجأت منحرها ... بمستهلّ الشؤبوب أو جمل
لا استع العوّذ النصال ولا ... أبتاع إلا قريبة الأجل
لا غنمي في الحياة مدّلها ... إلى دراك العلا ولا ابلي
قالت فذاك الفعل من أبى أصارنا أن ليس عندنا شيء فتركها ومضى وكان عبد الله بن جعفر من الأجواد الذين يعمون بجودهم طوائف العباد وانتهى به الافلاس وضيق اليد إلى أن سأله رجل فقال له إن حالي متغيرة بجفوة السلطان وحوادث الزمان ولكني أعطيك ما أمكنني فأعطاه رداء كان عليه ثم دخل منزله وقال اللهم استرني بالموت فما أتى بعد دعوته إلا أيام حتى مرض ومات رضي الله تعالى عنه وفد أبو الشمقمق على محمد بن مروان بنيسابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها صار إلى منزله فأخبر أنه في دار الخراج مطالب فقصده ودخل عليه وهو قائم في الشمس وعلى عنقه صخرة عظيمة فتغير له فلما رآه محمد قال
ولقد قدمت على رجال طال ما ... قدم الرجال عليهم فتموّلوا
أخنى الزمان عليهم فكأنهم ... كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا
فقال أبو الشمقمق
الجود فلسهم وغير حالهم ... فاليوم إن سئلوا النوال تبخلوا
دخل مالك بن دينار على أبي عون في الحبس وكان قد ضربه بلال بن أبي بردة بالسياط وإذا في الحبس جماعة من عمال السلطان في الحديد فلم يلبث أن حضر غداؤهم فجعل الخدم ينقلون ألوان الأطعمة فقيل له يا أبا يحيى هلم فقال لا أريد أن آكل مثل هذا ولا أن يوضع في رجلي مثل هذا وأشار إلى القيد وكان للأعمش صديق متصرف في عمل السلطان فبقى عليه مال فحبس فيه فزاره الأعمش منغمساً له فلما دخل عليه رأى بين يديه سلة فيها فالوذج وهو يتغذى منها فقال والله ما لازمت الوثاق إلا باسرافك في الانفاق فلو قنعت نفسك وعفت يدك لم يكن مضيق السجن مقعدك ولهذا الافلاس أكثر الناس كلامهم في التحذير من عواقب التبذير وما أحسن قول الفقيه منصور رحمه الله
توب وكسرة وخبز ... وبيت كنّ وأمن
ألذ من كل ملك ... عقباه ضرب وسجن
ومما يعد من الاسراف في البذل اصطناع المعروف إلى اللئيم والنذل قالوا حد الجود أن يبذل الرجل ماله حيث يجب البذل ويحفظه حيث يمكن الحفظ ومن بذل مكان الامساك فهو مبذر ومن أمسك مكان البذل فهو بخيل وقالوا من الحزم أن تعلم أن مالك لا يسع الناس كلهم فتوخ به أهل الحق عليك وإن كرامتك لا تسع المقلين فاخصص بها أهل الفضل والمروأة ومن تمسه الحاجة إليك والاعطاء بعد المنع أجمل من المنع بعد الانعام وقال لقمان المعروف كنز فانظر من تودعه وقال عبد الملك بن المقفع إن مالك لا يسع الناس فاخصص به ذوي الكرم من أهلك وخاصتك ودع الأجانب جانباً وقال صالح بن عبد القدوس سامحه الله
لا نجد بالعطاء في غير حق ... ليس في منع غير ذي الحق بخل
إنما الجود أن تجود على من ... هو للبذل منك والجود أهل
آخر
لا تصنع المعروف في ساقط ... ذاك صنيع ساقط ضائع
وضعه في حرّ كريم يكن ... عرفك مسكا عرفه ضائع
وقالت الحكماء أصل كل عداوة اصطناع المعروف إلى اللئام وقالوا الاحسان إلى اللئيم أضيع من الرسم على بساط الماء والخط على بسيط الهواء وقالوا زوال الدول باصطناع السفل وقالوا كن جواداً في موضع الجود فإن أحمد جود الحر الانفاق في وجه البر وقال بعضهم لا حسرة أعظم من نعمة أسديت إلى غير ذي حسب ولا مروأة وقال آخر لا تصنعوا إلى ثلاثة معروفاً اللئيم فإنه بمنزلة الأرض السبخة لا يظهر فيها البذور وذلك لا يظهر فيه المعروف والفاحش فإنه يرى أن الذي صنعت معه إنما هو مخافه فحشه والأحمق فإنه لا يدري قدر ما أسديت إليه ولا يشكرك عليه قال الشاعر
لعمرك ما المعروف في غير أهله ... وفي أهله إلا كبعض الودائع
فمستودع ضاع الذي كان عنده ... ومستودع ما عنده غير ضائع
وما الناس في كفر الأيادي وشكرها ... إلى أهلها إلا كبعض المزارع
فمزرعة أجدت فأضعف زرعها ... ومزرعة أكدت على كل زارع
وقالوا واضع المعروف في غير أهله كالمسرج في الشمس والزارع في السبخ قال الشاعر
ومن يصنع المعروف من غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر
أعدّ لها لما استجارت ببيته ... أحاليب ألبان اللقاح الدوائر
وأمسكها حتى إذا ما تمكنت ... فرته بأنياب لها وأظافر
فقل لذوي المعروف هذا جزاء من ... يجود بمعروف على غير شاكر
آخر
عليك بذي الأقدار فاكسب ثناءهم ... فمالك في غير الأكارم ضائع
وما مال من أعطى الكرام بناقص ... ولكنه عند الكرام ودائع
آخر
إذا ما بدأت أمرأ جاهلا ... ببر فقصر عن حمله
ولم تلقه قابلاً للجميل ... ولا عرف العز من ذله
قسمه الهوان فإنّ الهوان ... دواء لذي الجهل من جهله
وقالوا العاقل يتخير لمعروفه كما يتخير الباذر ما زكا من الأرض لبذهر وقالوا رأس الرذائل اصطناع الأراذل وقال الشاعر
متى تسد معروفاً إلى غير أهله ... رويت ولم تظفر بحمد ولا أجر
ما احتج به سراة الأشراف ... في تحسين التبذير والاسراف
قد كنا قدمنا في أول فصل من هذا الباب جملة مما ورد عن الكرماء في الحص على انتهاز الفرصة بالانفاق ثقة بالخلف من الكريم الرزاق ما فيه كفاية فلم يقنعنا ذلك فذكرنا في هذا الموضع ما استدركناه ليتم لنا الغرض المقصود فيما نحوناه من كل مستحسن بديع لسر البراعة بلسان البراعة يذيع من ذلك قول الله تعالى وهو أصدق القائلين وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين وقول النبي صلى الله عليه وسلم ينادي مناد كل ليلة اللهم اجعل لكل منفق خلفاً ولكل ممسك تلفاً وقوله صلى الله عليه وسلم أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش اقلالا ولقد أجاد على ابن ذكوان في قوله
انفق ولا تخش اقلالا فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضر مع الاقبال انفاق
وحكى إن علي بن موسى الرضا رضي الله عنه وعن آبائه الكرام فرق في يوم عرفة وكان بخراسان ماله كله فقال له الفضل بن سهل ما هذا المغرم قال بل هو المغنم لا تعدن ما ابتغيت به أجراً أو كرماً مغرما وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخر شيأً لغد وقال بعض الحكماء أنفق في الحقوق ولا تكن خازناً لغيرك فإن اغتممت على ما نقص من مالك فابك على ما نقص من عمرك فإنه من لم يعمل في ماله وهو موجود عمل في ماله وهو مفقود وقال بزرجمهر إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها لا تبقى طاهر بن الحسين ناظماً لهذا المعنى
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس يذهبها التبذير والسرف
فإن تولت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
ويقال أنفق وأسرف فإن الشرف في السرف وقيل للحسن بن سهل وكان معطاء لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير وهذا من بديع الكلام وذلك إنه عكس على المنكر كلامه فكان جواباً له وردا عليه من غير أن يزيد فيه ولا ينقص منه وقال الراضي بالله يخاطب لائماً لأمه على السرف
لا تكثرن عذلي على الاسراف ... ربح المحامد متجر الأشراف
أجرى كآبائي الخلائف سابقاً ... وأشيد ما قد أسست أسلافي
إني من القوم الذين أكفهم ... معتادة الاتلاف والاخلاف
آخر
قامت تلوم على بذل النوال ولي ... به ولوع فقلت اللوم في الباقي
لا تجزعي أن ترى بي فاقة أبدا ... فمن خزائن رب العرش انفاقي
آخر
ألا لا تلمني على بذل مالي ... فصوني لعرضي بمالي جمالي
وصوني لمالي بعرضي فساد ... لعرضي وديني وجاهي ومالي
الصولي
لا تلومنني فهمك إن ... أثرى وهمي مكارم الأخلاق
ليس يستطيع حفظ ما ملكت ... كفاه من ذاق لذة الانفاق
وقال المأمون لمحمد بن عباد بلغني أن فيك سرفاً فقال يا أمير المؤمنين منع الجود سوء الظن بالمعبود فقال المأمون لا يحسن السرف إلا بأهل الشرف
وقال البحتري يمدح معطاء ... أسبل الكرم عليه غطاء
كرم دعتك به القبائل مسرفا ... ما مسرف في المكرمات بمسرف
وقال آخر يحض على الاسراف في الصنائع
ذهاب المال في حمد وأجر ... ذهاب لا يقال له ذهاب
الباب العاشر
في البخل
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في ذم الإمساك والشح
وما فيهما من الشين والقبح
فرقوا بين الشح والنحل فقالوا الشح أن تكون النفس كزة حريصة على المنع كما قال الشاعريمارس نفساً بين جنبيه كزة ... إذا هم بالمعروف قالت له مهلا
وهو اللؤم وأما البخل فهو المنع نفسه فمما جاء في البخل قول الله تعالى ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير الهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة وقوله تعالى والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون قال بعض أهل المعاني إنما خص هذه الأعضاء دون غيرها بالذكر لأن السائل إذا سأل البخيل زوى عنه وجهه فإن أصلح عليه ازور عنه بشق جنبه الذي يليه فإن الحف ولاه ظهره وروى الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت باسناده عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت ثم قال لها أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التسنيم ونهر اللبن ونهر العسل ونهر الخمر ثم قال لها أظهري حورك وحليك وحللك وسررك وحجالك ثم قال لها تكلمي فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله عز وجل أنت حرام على كل بخيل أورده في كتاب البخلاء له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوم من الأنصار من سيدكم قالوا الجد بن قيس على بخل فيه فقال عليه الصلاة والسلام وأي داء أدوأ من البخل وقال عليه الصلاة والسلام إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وعنه عليه الصلاة والسلام قال اقسم الله بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل وقال علي بن أبي طالب البخيل يتعجل الفقر لنفسه يعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب الأغنياء وقال حكيم لو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضير بخلهم ومذمة الناس لهم وأطباق القلوب على بغضهم الأسوء الظن بربهم في الخلف لكان عظيماً فإن الله تعالى يقول وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وكفى بالبخيل معرة أن يمنع نفسه اكتساب الحسنات مع افتقاره إليها ويحرمها مباح الشهوات مع اقتداره عليها وربما ترك التداوي وإن أجحفت به العلة وأهمل دفع المكاره عن نفسه وقد نيطت به المذلة لكثرة الاشفاق على الانفاق فهو لا يلقى في الدنيا شكوراً ولا يلقى في الآخرة أجراً مدخوراً وقالوا البخل من سوء الظن وخمول الهمة وضعف الروية وسوء الاختيار والزهد في الخيرات وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما البخل جامع المساوي والعيوب وقاطع المودات من القلوب وقال سقراط الأغنياء البخلاء بمنزلة البغال والحمير تحمل الذهب والفضة وتعتلف التبن والشعير وحده قالوا هو منع المسترفد مع القدرة على رفده وكان أبو حنيفة لا يرى قبول شهادة البخيل ويقول بخله يحمله على أن يأخذ فوق حقه مخافة أن يغبن فمن هذه حالة لا يكون مأموناً وقال بشر بن الحرث الحافي لا غيبة لبخيل ولشرطي سخي أحب إلي من عابد بخيل وقالوا صديق البخيل من أطعمه وسقاه وعدوه من تركه وقلاه وقبل النظر إلى البخيل يقسي القلب وقالوا البخل يهدم مباني الشرف ويسوق النفس إلى التلف وقالوا اتق الشح فإنه أدنس شعار وأوحش دثار وقالوا البخيل يملأ بطنه والجار جائع ويحفظ ماله والعرض ضائع شاعر
ومن الجهلة بالمكارم أن ترى ... جاراً يجوع وجاره شبعان
ويقال من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم وقال الراجز من يجمع المال فلم يجد به ويجمع المال لعام جد به يهن على الناس هوان كلبه وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي
أرى الناس خلان الجواد ولا أرى ... بخيلاً له في العالمين خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
وقالوا البخيل لا يستحق اسم الحرية فإنه يملكه ماله وقالوا أيضاً البخيل لا مال له إنما هو لما له وقال قيس بن معد يكرب لبنيه يا بني إياكم والبخل فإنه من اكتسب مالاً فلم يصن به عرضاً بحث الناس عن أصله فإن كان مدخولاً هرتوه وإن لم يكن مدخولاً ألزموه ذنباً رموه به ومقتوه وأكسبوه عرفاً هجينا حتى يهجنوه والبخل داء ونعم الدواء السخاء وقال الحسن البصري لم أر أشقى بماله من البخيل لأنه في الدنيا مهتم بجمعه وفي الآخرة محاسب على منعه غير آمن في الدنيا من همه ولا ناج في الآخرة من إثمه عيشه في الدنيا عيش الفقراء وحسابه في الآخرة حساب الأغنياء أخذه من كلام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ودخل رضي الله عنه على عبد الله بن الأهتم يعوده في مرضه فرآه يصعد بصره ويصوبه إلى صندوق في زاوية من بيته ثم التفت إليه وقال يا أبا سعيد ما تقول في مائة ألف في هذا الصندوق لم أود منها زكاة ولم أصل منها رحماً قال ثكلتك أمك ولمن كنت تجمعها قال لروعة الزمان وجفوة السلطان ومكاثرة العشية ثم مات فشهد الحسن جنازته فلما فرغ من دفنه ضرب بيده على القبر ثم قال انظروا إلى هذا أتاه شيطانه فخوفه روعة زمانه وجفوة سلطانه بما استودعه الله إياه انظروا إليه كيف خرج منها مذموماً مدحوراً ثم التفت إلى وارثه وقال أيها الوارث لا تخدعن كما خدع صويحبك بالأمس أتاك هذا المال حلالاً فلا يكونن عليك وبالاً أتاك عفواً صفواً ممن كان جموعاً منوعاً من باطل جمعه ومن حق منعه قطع فيه لجج البحار ومفاوز القفار لم تكدح لك فيه يمين ولم يعرق لك فيه جبين إن يوم القيامة ذو حسرات وإن من أعظم الحسرات غداً أن ترى مالك في ميزان غيرك يالها حسرة لا تقال وتوبة لا تنال
ما اخترت من محاسن كلام الفصحاء ... وتأنقهم في ذم اللئام الأشحاء
كتب بعض الأدباء إلى صديق له يستشيره في قصد بعض الرؤساء تأميلاً لنائله وكان معروفاً بالبخل فأجابه كتبت إلي تسألني عن فلان وذكرت أنك هممت بزيارته وحدثتك نفسك بالقدوم عليه فلا تفعل أمتع الله بك فإن حسن الظن به لا يقع إلا بخذلان من الله وإن الطمع فيما عنده لا يخطر على القلب إلا من سوء التوكل على الله والرجاء لما في يديه لا يبتغي إلا بعد اليأس من روح الله لأنه رجل يرى التقتير الذي نهى الله عنه هو التبذير الذي يعاقب عليه وإن الاقتصاد الذي أمر الله به هو الاسراف وإن بني إسرائيل لم يستبدلوا المن بالعدس والسلوى بالبصل إلا لفضل حلومهم وقديم علم توارتوه عن آبائهم وإن الضيافة مرفوضية والهبة مكروهة والصدفة منسوخة وإن التوسع ضلالة والجود فسق وجهالة والسخاء من همزات الشياطين كأنه لم يسمع بالمعروف إلا في الجاهلية الأولى التي نسخ الله جميل أخبارها ونهى عن اتباع آثارها وكأن الرجنة لم تأخذ أهل مدين إلا لسخاء نسب إليهم ولا أهلكت الريح العقيم عاد إلا لأفضال كان فيهم وهل يخشى العقاب إلا على الانفاق ويرجو العفو لا بالامساك ويعد نفسه بالفقر ويأمرها بالبخل خيفة أن ينزل به قوارع الظالمين أو يصيبه ما أصاب الأولين فأقم رحمك الله بمكانك واصبر على خطب زمانك وامض على عسرتك فعسى أن يبدلك الله خيراً منه زكاة وأقرب رحماً وكان محمد بن يحيى بن خالد مبخلاً بالنسبه لأبيه وأخو به جعفر والفضل فسئل الجماز عن مائدته فقال فتر في فتر وصحافها منقورة من خشب الخشخاش وبين الرغيف والرغيف مضرب كرة وبين اللون واللون فترة نبي قيل فمن يحضره قال خير خلق الله وشرهم قيل من هم قال الملائكة والذباب قيل له أنت به خاص وثوبك مخرق فقال والله لو ملك بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوأ ابراً ثم جاءه يعقوب النبي ومعه الأنبياء شفعاء والملائكة ضمناء يسألونه إعارة إبرة يخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل أخذه الشاعر ونظمه في قوله
لو أن قصرك يا ابن أغلب ممتل ... إبراً يضيق بها رحاب المنزل
وأناك يوسف يستعيرك إبرة ... ليخيط قد قميصه لم تفعل
آخر يهجو بخيلاً
لو أن دارك أمطرت عرصاتها ... إبراً يضيق لها رحاب المنزل
وأتاك يوسف يوم قدّ قميصه ... يرجو نوالك في إبرة لم تفعل
وقيل لأبي القاسم خمين تغديت عند فلان قال لا ولكني مررت ببابه وهو يتغدى قيل له وقد عرفت ذلك قال رايت غلمانه بأيديهم قسي البندق يرمون بها الطير في الهواء وذم أعرابي قوماً فقال لهم بيوت ندخلها حبواً إلى غير نمارق ولا وسائد فصح الألسن برد لسائل جعداً لا كف عن النائل وذم أعرابي قوماً فقال ما كانت النعمة فيهم إلا طيفاً فلما انتبهوا لها ذهبت عنهم فقال شاعر وكأنه ألم بهذا المعنى في قوله
خنازير نامّوا عن المكرمات ... فأيقظهم قدر لم ينم
فيا قبحهم في الذي خولوا ... ويا حسنهم في زوال النعم
نزل أعرابي برجل فقال له بعض قومه لقد نزلت بواد غير ممطور ورجل بقدومك غير مسرور فأقم بندم أو ارتحل بعدم وقال التوكل لأبي العيناء من أبخل من رأيت قال موسى بن عبد الملك بن صالح قال وما رأيت من بخله قال رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد ويعتذر من الاحسان كما يعتذر من الاساءة وقال بشار من استضاف فلاناً استغنى عن الكنيف وأمن من التخمة وذم آخر بخيلاً فقال ضن بفلسه وجاد بنفسه وذم أعرابي بخيلاً فقال جعد البنان شحيح الكف مقفل اليد لا يسقط من كفه الخردل وإن استولى على أصابعه الجندل قال الشاعر
تحلى بأسماء الشهور فكفه ... جمادي وما ضمت عليه المحرم
وقالوا فلان ما هو رطب فيعتصر ولا يابس فيكسر مانع للموجد سيئ الظن بالمعبود فلان منعوت على الجمع والمنع لا يعد العيش إلا ما جمعه والحزم إلا ما منعه فلان بن لبون لا در فيحلب ولا ظهر فيركب وذم أعرابي رجلاً بالبخل فقال لقد صغر فلاناً في عيني كبر الدنيا في عينه وكأنما يرى السائل إذا رآه ملك الموت إذا أتاه بشار بن برد
إذا سلم المسكين طار فؤاده ... مخافة سؤل واعتراه جنون
ومن منظوم نفسات الصدور المحنقة في ذم من سلبه السخاء رونق قول منصور بن ربيعة يهجو بخلاء
قوم غدوا والطعام عندهم ... وزن لجين ووزن ياقوت
إن كان قوتي إليهم وبهم ... برئت منهم ومنك ياقوتي
الأخطل
ما زال فينا رباط الخيل معلمة ... وفي كليب رباط الخزي والعار
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لامهم بولي على النار
ولقد أحسن أبو الشمقمق في قوله
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة ... حتى نزلت على أوفى بن منصور
الحابس الروث في أعفاج بغلته ... خوفاً على الحب من لقط العصافير
آخر
عد الأرغفه شنف وقرط ... واكليلان من خرز ودر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
وجاء بكل نائحة عليه ... كما بكت الرّباب لفقد عمرو
ودون رغيفه دق الثنايا ... وحرب مثل وقعة يوم بدر
وقال أبو نواس يهجو سعيد بن سلم بن قتيبة
رغيف سعيد عنده عدل نفسه ... يقلبه طوراً وطوراً يداعبه
ويأخذه في حضنه ويشمه ... ويلثمه حيناً وحيناً يلاعبه
وإن قام مسكين على باب داره ... إذا ثكلته أمّه وأقاربه
يسب عليه البول من كل جانب ... ويخضب ساقاه وينتف شاربه
ابن طباطبا
أجاع بطني حتى ... شممت ريح المنيه
وجاءني برغيف ... قد أدرك الجاهليه
فقمت بالفأس حتى ... أدق منه شظيه
تثلم الفأس وانصا ... ع مثل سهم الرمية
فشج رأسي ثلاثاً ... ودق مني الثنيه
آخر
ربي وربك بعد الجوع أشبعني ... ورزق ربك آت غير مدفوع
ولو عليك اتكالي في الطعام إذا ... لكنت أول مدفون من الجوع
آخر
وقائلة ما دهى ناظريك ... فقلت لا مر به قد منيت
أكلت دجاجة بعض الملوك ... فما زلت أصفع حتى عميت
آخر
نوالك دونه خرط القتاد ... وخبزك كالثريا في البعاد
ترى الاصلاح صومك لا لأجر ... وكسرك للرغيف من الفساد
ولو أبصرت ضيفاً في المنام ... لحرّمت المنام إلى التناد
ولم أهجوك أنك كفؤ شعر ... ولكني هجوتك للكساد
آخر
ودعوتني فأكلت عند قرصة ... وشربت شرب من استتم خروفا
وسألتني في اثر ذلك حاجة ... أودت بمالي تالداً وطريفا
فجعلت أفكر فيك باقي ليلتي ... ما كنت تسأل لو أكلت رغيفا
آخر
أتيت ابن يحيى وهو يأكل فانثنى ... إليّ قطوباً إذ رآني وهمهما
وقال لماذا جئت قلت مسلماً ... فقال لقد سلمت فارجع مثل ما
وقال ابن الخياط الصقلي
لا تكونن مبرماً ومسوفاً ... سله دمه وخل عنك الرغيفا
أكرم الخبز بالصيانة حتى ... جعل الكعب للبنات شنوفا
آخر يخاطب بخيلا
لك نفس إذا أضر بها الجو ... ع تلافيتها بشم الرغيف
من يكن عيشه كعيشك هذا ... فلتكن داره بغير كنيف
آخر
رأيتك عند حضور الخوان ... قليل النشاط كثير الصياح
تلاحظ عيناك كف الاكيل ... وترمقه من جميع النواحي
فعال امرئ بخلت نفسه ... بشيء يول إلى المستراح
آخر يهجو بخيلا
أصبح لا يعرف الجميل ولا ... يفرق بين القبيح والحسن
إن الذي يرتجى نداه كمن ... يحلب تيساً من عزة اللبن
آخر
يزداد شحاً وبخلاً كل من كثرت ... أمواله ثم لا ترجى مواهبه
كالبحر كل مياه الأرض قاطبة ... تأوى إليه ويظا فيه راكبه
ومما يكون متمماً لما ذكرناه ... خلف الشحيح لسائله بما مناه
قالوا خلف الوعد من خلق الوغد والمثل المضروب قولهم اخلف من عرقوب واخلف من شرب الكمون فإن الكمون يمنى بالسقي ولا يسقى قال الشاعر
سقيتموني كؤوس المطل مترعة ... حتى ثملت والسكران عربيد
لا تتركوني ككمون بمزرعة ... إن خانه الغيث أحيته المواعيد
وقال بعض كرماء الأعراب لان أموت عطشاً أحب إلي من أن أخلف موعداً وقال بعض البلغاء يذم بخيلاً فلان ملأ سمعي روحاً وكفي ريحا وقال آخر فلان يفتح مواعيد بالأطماع ويختمها بالخيبة والامتناع وقال آخر فلان سخي قولاً وبخيل فعلاً وسريع وعداً وبطئ رفداً وقال آخر فلان أول وعده طمع وآخره يأس وما هو إلا كالسراب يغر من رآه ويخلف من رجاه وقال الشاعر
لسانك أحلى من جني النحل موعدا ... وكفك بالمعروف أضيق من قفل
آخر
لسانك معسول وقلبك علقم ... ودون الثريا من صديقك مالكا
دعبل
يا جواد اللسان من غير فعل ... ليت في راحتيك جود اللسان
وقالوا من وعد وأخلف لزمته ثلاث مذمات ذم اللؤم وذم الخلف وذم الكذب وقال الشاعر
ألا إنما الانسان غمد لقلبه ... ولا خير في غمد إذا لم يكن نصل
ولا خير في وعد إذا كان كاذباً ... ولا خير في قول إذا لم يكن فعل
فإن تجمع الآفات فالبخل شرّها ... وشر من البخل المواعيد والمطل
وقال الثعالبي أول من أخلف المواعيد وكذبها ولم يف بشيء منها إسمعيل بن صبيح كاتب الرشيد وما كانت الرؤسا قبل ذلك يعرفون المواعيد الكاذبة وما أحلى قول بعض الشعراء يخاطب من أخلف عدة وعده إياها من أبيات
ووعدتني عدة ظننتك صادقاً ... فجعلت من طمعي أروح وأذهب
فإذا حضرت أنا وأنت بمجلس ... قالوا مسيلمة وهذا أشعب
وقال بعض البلغاء يذم مخلف وعده فلان وعده في الخلاف كشجر الخلاف يريك نضارة المنظر ثم لا يجنيك شيأً من الثمر نظمه ابن الرومي فقال
ليس من حل بالمحل الذي أن ... ت به من سماحة ووفاء
بذل الوعد للاخلاء طوعاً ... وأتى بعد ذاك بذل العطاء
فغدا كالخلاف يحسن للعين ... ويأبى الأثمار كل الاباء
آخر
على الدنيا وما فيها السلام ... إذا ملكت خزائنها اللئام
راضيت من الأمور بكل شيء ... قضاه اللّه وانقطع الكلام
الفصل الثاني من الباب العاشر
في ذكر نوادر المبخلين
من الأراذل والمبجلين
يجب علينا أن نذكر أولاً ما صدر عن الأمجاد العقلاء في التحذير من سؤال الأجواد والبخلاء ثقة بما ضمنه الله من رزقه الدار على سائر خلقه قالوا مكتوب في التوراة ابن آدم لا تسأل الناس فإن كنت فاعلاً فاسأل معادن الخير ترجع مغبوطاً محسوداً وفي كتاب كليلة ودمنه ينبغي للعاقل أن يرى إن ادخال يده في فم التنين وابتلاعه سمه أهون عليه من سؤال الناس وقال إبراهيم بن حفصة لابنه يا بني صن شكرك عمن لا يستحقه واطلب المعروف ممن يحسن طلبك إليه واستر ماء وجهك بقناع قناعتك وتسل عن الدنيا بتجافيها عن الكرام وأنشده
هي القناعة فالزمه تكن ملكاً ... لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ... هل راح منها بغير القطن والكفن
وقال لقمان لابنه يا بني لا تخلق وجهك بطلب الحوائج إلى من هو دونك فإنه إن ردك ساق إليك محنة وإن قضى حاجتك أتخذها عليك منة واسأل الله فإن الله يحب من يسأله ويبغض من لا يسأله شاعر
اللّه يغضب إن تركت سؤاله ... وبنيّ آدم حين يسئل يغضب
وقد روى عن سفيان الثوري دعاء ككلام لقمان كان يدعو به إذا احتاج يقول اللهم يا من يحب أن يسئل ويغضب على من لا يسأل وأحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله وليس أحد كذلك غيرك يا كريم أعطني كذا ويسأل حاجته وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه ما كرمت على عبد نفسه إلا هانت عليه الدنيا شاعر
الحرّ حرّ عزيز النفس حيث ثوى ... كالشمس في أيّ برج ذات أنوار
آخر
ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله ... عوضاً ولو نال الغنى بسؤال
وإذا السؤال مع النوال وزنته ... رجح السؤال وخف كلّ نوال
آخر
لا أستعين باخواني على الزمن ... ولا أرى حسناً ما ليس بالحسن
إني كليل إذا استعطفت ذائقة ... بما حوت كفه قد كان أغفلني
ذل السؤال وذل الشكر ما اجتمعا ... إلا أضرّا بماء الوجه والبدن
لا ابتدى بسؤال لي أخاً أبداً ... لو شاء قبل سؤالي منه أكرمني
له الثراء ولي عرض أوفره ... عنه ويقنعني قوت يبلغني
محمد بن حازم
أضرع إلى اللّه لا تضرع إلى الناس ... واقنع بيأس فإنّ العز في الياس
فالرزق عن قدر يجري إلى أجل ... في كف لا غافل عني ولا ناسي
فكيف ابتاع فقراً حاضراً بغنى ... وكيف أطلب حاجاتي من الناس
ولقد أحسن ابن شهيد كل الاحسان في قوله يصف من صان وجهه عن السؤال بقناع قناعته وكف وصبر على مضض الاحتياج بقدر استطاعته فعف
إنّ الكريم إذا نالته مخمصة ... أبدى إلى الناس رياً وهو ظمآن
يطوى الضلوع على مثل اللظى حرقاً ... والوجه طلق بماء البشر ريان
آخر
وكم قد رأينا من فتى متجمل ... يروح ويغدو ليس يملك درهما
يبيت يراعي النجم من سوء حاله ... ويصبح يلقى ضاحكاً متبسما
ذكر من كان يدين بالبخل من الملوك واتصف بما لا يحسن بالفقير الصعلوك عبد الله بن الزبير ويكنى أبا حبيب وإنما لم يعد من البخلاء لجلالة رتبته وأصالة أبوته فمما يحكى عنه أنه نظر إلى رجل من جنده قد دق في صدور أصحاب الحجاج في قتاله على مكة ثلاثة أرماح فقال له يا هذا اعتزل عن نصرتنا فإن بيت المال لا يقوم بهذا وفي هذه الحرب يقول معاتباً جنده أكلتم تمري وعصيتم أمري سلاحكم رث وكلامكم غث عيال في الجدب أعداء في الخصب وقال لرجل كان يتعاطى التجارة ما صناعتك قال أتجر في الرقيق فقال ما أشد اقدامك على الغرر وإضاعة المال قال بماذا قال ببضاعتك الملعونة التي هي ضمان نفس ومؤنة ضرس وأتاه عبد الله بن فضالة مستجدياً فأخذ يشكو إليه شدة فاقته وحفا ناقته ووعورة طريقه وبعد مسافته فقال له اخصفها بهلب وارقعها بسبت وانجدها ببرد خفها فقال ابن فضاله إنما جئتك مستجدياً لا مستوصفاً فلا بقيت ناقة حملتني إليك قال إن وصاحبها قوله إن بمعنى نعم قال أبو عبيدة معمر بن المثنى لو تكلف الحرث بن كلدة طبيب العرب من وصف علاج ناقة هذا ما تكلفه هذا الخليفة لعسر عليه ويقال إنه كان يأكل في كل سبعة أيام أكلة واحدة ويقول إنما بطني شبر في شبر وما عسى يكفيني ومن بخلاء الخلفاء عبد الملك بن مروان وكان يسمى رشح الحجر ولبن الطير أيضاً لبخله وهشام ولده كان ينظر في القليل من المال ويمنع السائل وإن ألحف في السؤال ويبيع ما يهدي إليه ويجعل السب صلة من يقرظه ويثني عليه من حكاياته إنه وفد عليه محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له مالك عندي شيء ثم قال إياك أن يغرك أحد فيقول لك لم يعرفك أمير المؤمنين أنت فلان بن فلان فلا تقيمن فتنفق ما معك فليس لك عندي صلة فبادر وألحق بأهلك وكان معاوية يبخل في طعامه مع كثرة جوده بالمال قال لرجل وأكله أرفق بيدك فقال له الرجل وأنت فاغضض من طرفك وبلغه أن الناس يبخلونه فقام على المنبر وقال إن الله تعالى يقول وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم فلأي شيء نلام نحن فقام إليه الأحنف بن قيس وقال نحن ما نلومك على ما في خزائن الله ولكن نلومك على ما في خزائنك إذا اغتلقت بابك دونه والمنصور وكان يلقب أبا الدوانيق ولقب بذلك لأنه لما بنى بغداد كان ينظر في العمارة بنفسه فيحاسب الصناع والأجراء فيقول لهذا أنت نمت القائلة ولهذا أنت لم تبكر إلى عملك ولهذا أنت انصرفت لم تكمل اليوم فيعطي كل واحد منهم بحسب ما عمل في يومه فلا يكاد يعطي أجرة يوم كامل ويحكي عنه أنه قال لطباخيه لكم ثلاث وعليكم اثنان لكم الرؤس والأكارع والجلود وعليكم الحطب والتوابل ومن حكاياته الدالة على شدة بخله أن الربيع بن يونس حاجبه قال له يوماً يا أمير المؤمنين إن الشعراء ببابك وهم كثيرون وقد طالت أيام إقامتهم ونفدت نفقاتهم فقال اخرج إليهم واقرأ عليهم السلام وقل لهم من مدحنا منكم فلا يصفنا بالأسد فإنما هو كلب من الكلاب ولا بالحية فإنما هي دويبة ميتة تأكل التراب ولا بالحلي فإنما حجر أصم ولا بالبحر فإنه ذو غطامط فمن ليس في شعره شيء من هذا فليدخل ومن كان في شعره شيء من هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم ابن هرمة فإنه قال أدخلني فأدخله فلما مثل بين يديه قال يا ربيع قد علمت أنه لا يجيبك أحد غيره هات يا إبراهيم فأنشده القصيدة التي أولها
سرى نومه عني الصبا المتحامل ... واذن بالبين الحبيب المزايل
حتى انتهى إلى قوله
له لحظات في حفا في سريره ... إذا كرّها فيها عقاب ونائل
فأم الذي أمنت آمنة الردى ... وأم الذي خوّفت بالثكل ثاكل
فرفع له الستر وأقبل عليه مصغياً إليه حتى فرغ من إنشادها ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وقال له يا إبراهيم لا تتلفها طمعاً في نيل مثلها فما في كل وقت تصل إلينا وتنال مثلها منا فقال إبراهيم ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض وعليها خاتم الجهبذ ودخل المؤمل بن أميل على المهدي بالري وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المنصور فامتدحه بأبيات يقول فيها
هو المهدي إلا أنّ فيه ... تشابه صورة القمر المثير
تشابه ذا وذا فهماً إذا ما ... أنارا يشكلان على البصير
فهذا في الضياء سراج عدل ... وهذا في الظلام سراج نور
ولكن فضل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
ونقص الشهر يخمد ذا وهذا ... منير عند نقصان الشهور
ومنها
فإن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير
فأعطاه عشرين ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام بغداد فكتب إليه المهدي يلومه على هذا العطاء ويقول له إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم وأمر كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر فطلب فلم يوجد وذكر أنه توجه إلى بغداد فكتب الكاتب إلى المنصور بذلك فأمر بعض القواد بارصاد المؤمل على باب بغداد فجعل القائد يتصفح وجوه الناس القادمين عليها ويسألهم عن أسمائهم وأسماء آبائهم حتى وقع على المؤمل فسأل عن اسمه فأخبره فقال أنت بغية أمير المؤمنين وطلبته قال المؤمل فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً وفزعاً ثم أخذ بيدي فسارني إلى الربيع فأدخلني على المنصور فقال يا أمير المؤمنين هذا المؤمل بن أيمل قد ظفرت به فسلمت فرد السلام فسكن جأشي وزال استيحاشي عند ذلك واطمأن قلبي وزال روعي ثم قال لي أتيت غلاماً ما غرا فخدعته فانخدع فقلت يا أمير المؤمنين أتيت ملكاً جواداً كريماً فمدحته فحمله كرم أعراقه ومكارم شيمه على صلتي وبري فأعجبه كلامي ثم قال أنشدني ما قلت فيه فأنشدته القصيدة فقال والله لقد أحسنت ولكنها لا تساوي عشرين ألفاً يا ربيع خذ منه المال وأعطه منه أربعة آلاف درهم ففعل فلما ولي المهدي الخلافة قدم عليه المؤمل فأخبره بما دار بينه وبين المنصور فضحك وأمر له برد ما أخذ منه فرد عليه وأشرف يوماً على الصياد فرأى صائداً اصطاد سمكة عظيمة فقال لبعض مواليه اخرج إلى المتسبب فمره أن يوكل بالصياد من يدور معه من حيث لا يشعر فإذا باع السمكة قبض على مشتريها وصار به إلينا ففعل المتسبب ما أمر به فلقى الصياد رجلاً نصرانياً فابتاع منه السمكة بثلثي درهم فلما صارت السمكة في يد النصراني وذهب بها قبض عليه الأعوان وأتى به المتسبب وأدخله على المنصور فقال له من أنت قال رجل نصراني قال بكم ابتعت هذه السمكة قال بثلثي درهم قال وكم عيالك قال ليس لي عيال قال وأنت يمكنك أن تشتري مثل هذه السمكة بمثل هذا الثمن كم عندك من المال قال ما عندي شيء فقال للمتسبب خذه إليك فإن أقر بجميع ما عنده وإلا فمثل به فأقر بعشرة آلاف درهم قال كلا إنها أكثر فأقر بثلاثين ألف درهم وأحل دمه إن وقف له على أكثر منها قال له من أين جمعتها قال وأنا آمن يا أمير المؤمنين قال له وأنت آمن على نفسك إن صدقت قال كنت جاراً لأبي أيوب فولاني جهبذة بعض نواحي الأهواز فأصبت هذا المال فقال المنصور الله أكبر هذا مالنا اختنته وأمر المتسبب بحمل المال واطلاق الرجل وقد حكى ابن حمدون في تذكرته أن المنصور حج في بعض السنين فحدا به سالم الحادي في طريقه يوماً بقول الشاعر
أبلج بين حاجبيه نوره ... إذا تغذى رفعت ستوره
يزينه حياؤه وخيره ... ومسكه يشوبه كافوره
فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال يا ربيع أعطه عشرة دراهم وفي رواية نصف درهم فقال سالم لا عيرنا أمير المؤمنين والله لقد حدوت لهشام ابن عبد الملك فأمر لي بثلاثين ألف درهم فقال المنصور ما كان له أن يعطيك من بيت مال المسلمين ما ذكرت يا ربيع وكل به من يستخرج منه هذا المال قال الربيع فما زلت أسفر بينهما حتى شرط عليه أن يحدو به في خروجه وقفوله بغير مؤنة وكان سالم هذا المذكور تورد له الابل بعد أن نظمأ السبعة أيام والثمان والتسع والعشر فيحدو لها فيلهيها بحدوه عن ورود الماء ومن ظريف ما يحكى عنه أن عبد الله بن زياد بن الحرث كتب إليه رقعة بليغة يستمنحه فيها فكتب عليها إن الغنى والبلاغة إذا اجتمعا في بلداً بطراه وأمير المؤمنين مشفق عليك فاكتف بالبلاغة وكان لسوار القاضي بالبصرة من قبل المنصور كاتبان رزق أحدهما عشرون درهماً ورزق الآخر أربعون درهماً فكتب إليه سوار التسوية بينهما فنقص صاحب الأربعين عشرة وزادها صاحب العشرين وإنما أراد سوار أن يلحق صاحب العشرين بصاحب الأربعين
من صان درهمه ولم يسمح به للعطاء
فكشف عنه اللؤم ما أسبله الكرم من الغطاء مروان بن أبي حفصة وذلك أنه خرج يريد المهدي فقالت امرأة من أهله مالي عليك إذا رجعت بالجائزة قال إن أعطيت مائة ألف درهم أعطيتك درهماً فأعطى ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانيق وسأل رجل خالد بن صفوان فقال هب لي دنينيراً فقال خالد لقد صغرت عظيماً صغرك الله الدينار عشر العشرة والعشرة عشر المائة والمائة عشر الألف والألف ديتك وكان بعض البخلاء إذا صار الدرهم في يده خاطبه وناجاه وقبله وفداه وقال له بأبي أنت وأمي كم من أرض قطعت وكيس خرقت وكم من خامل رفعت وسري وضعت إن لك عندي أن لا تعري ولا تضحي ثم يلقيه في الكيس ويقول اسكن على بركة الله في مكان لا تحول عنه ولا تخرج منه وكان مروان بن أبي حفصة إذا جاءته جائزة يقول للدراهم كم خامل رفعت وكم سري وضعت طال ما تغربت في البلاد وأتعبت في طلب تحصيلك العباد فوالله لاطيلن ضجعتك ولاديمن صرعتك ثم يضعها في الصندوق ويختم عليها وكان أبو العميس إذا وقع الدرهم في يده نقره بأصبعه وقال مخاطباً له كم من يد وقعت فيها ومن بلد جلت في نواحيها بأبي أنت وأمي أسكن وقر عيناً فقد قربك القرار واستقر بك الدار واطمأن بك المنزل ثم يضعه في كيس ويختم عليه فيكون آخر العهد به وكان بعض البخلاء إذا وقع الدرهم في كفه قال مخاطباً له أنت عقلي وديني وصلاتي وصيامي وجامع شملي وقرة عيني وقوتي وعمادي وعدتي ثم يقول يا حبيب قلبي وثمرة فؤادي قد صرت إلى من يصونك ويعرف حقك ويعظم قدرك ويشفق عليك وكيف لا يكون كذلك وبك تجلب المسار وتدفع المضار وتعظم الأقدار وتعمر الديار وتفتض الأبكار ترفع الذكر وتعلى القدر ثم يطرحه في الكيس وينشدبنفسي محجوب عن العين شخصه ... وليس بخال من لساني ولا قلبي
ومن ذكره حظي من الناس كلهم ... وأوّل حظي منه في البعد والقرب
وممن صان درهمه ولم يسمح به ... فكان ذلك سبباً لذمّه وثلبه
ما يحكى أن أعرابياً شرب عند بخيل غبوقاً فلما سكر البخيل وانتشى خلع على الأعرابي قميصاً فلما صحا انتزعه منه ثم شرب معه صبوحاً فلما سكر وانتشى خلع عليه قميصاً فلما صحا انتزعه منه فقال
كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزعه مني إذا كان صاحيا
فلي فرحة في سكره وانتشائه ... وفي الصحو ترحات تشيب النواصيا
وأتى بعض البخلاء بغلام ليشتريه فسيم فيه بأربعين ديناراً فأعطى فيه عشرين فقيل له إنه فراش ونداف فقال لو فرش السماء وندف الغيم بقوس قزح ما اشتريته بأربعين وساوم أشعب بقوس بندق فقال صاحبه بدينارين فقال والله لو رميت به طائراً فوقع ويا بين رغيفين ما اشتريته بهذا الثمن وكان أشعب بخيلاً وله حكايات تذكر فيما بعد إن شاء الله وقال الأصمعي قالت امرأة لزوجها اشتر لنا رطباً فقال لها وكيف يباع قالت كيلجة بدرهم فقال والله لو خرج الدجال وعاث في الأرض وأنت تمخضين بعيسى والناس ينتظرون الفرج على يديه في قتال الدجال ثم لم تلديه حتى تأكلي الرطب ما اشتريته لك كيلجة بدرهم مدح شاعر محمد بن عبدوس فقال له أما أن أعطيك شيأً من مالي فلا ولكن أذهب فاجن جناية حتى لا آخذك بها وقال مروان بن أبي حفصة ما فرحت بشيء فرحي بمائة ألف درهم وهبها لي أمير المؤمنين المهدي فزادت درهماً فاشتريت به لحماً ودخل أبو صاعد علي الغنوي فأنشده
رأيت في النوم أني مالك فرسا ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم علم ومعرفة ... رأيت خيراً وللأحلام تفسير
اقصص منامك في بيت الأمير تجد ... تحقيق ذاك وللفأل التباشير
فلما سمع الأمير انشاده قال أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين
من كان بخله على الفقراء بطعامه ... معرباً عن لؤمه وموجباً لملامه
الحطيئة يحكي عنه أن بعض الأعراب مر به وهو يرعى غنماً له وفي كفه عصا فناداه الأعرابي يا راعي الغنم فأومأ إليه الحطيئة بعصاه وقال إنها عجراء من سلم فقال الأعرابي إني ضيف فقال وللضيفان أعددتها ومر أعرابي بأبي الأسود الدؤلي وهو واقف على باب داره فسلم فقال له أبو الأسود كلمة مقولة قال أتأذن لي في دخول منزلك قال وراؤك أوسع لك قال هل عندك شيء يؤكل قال نعم قال فأطعمني قال عيالي أحق به منك قال ما رأيت ألأم منك قال لست ترى نفسك قال الشاعر
إياك ترغب في كلامه ... وارفع يمينك من طعامه
فالموت أهون عنده ... من مضغ ضيف والتقامه
سيان كسر رغيفه ... أو كسر عظم من عظامه
وإذا مررت ببابه ... فاحفظ رغيفك من غلامه
وقال رجل لبعض البخلاء لم لا تدعوني إلى طعامك قال لأنك جيد المضغ سريع البلع إذا أكلت لقمة هيأت أخرى فقال يا أخي أتريد أني إذا أكلت عندك أن أصلي ركعتين بين كل لقمتين وقال آخر لبخيل لم لا تدعوني قال لأنك تعلق وتشدق وتحدق أي يحمل واحدة في يده وأخرى في شدقه وينظر إلى أخرى بعينه وعزم بعض اخوان أشعب عليه ليأكل عنده فقال إني أخاف من ثقيل يأكل معنا فقال ليس معنا ثالث فمضى معه فبينا هما يأكلان إذا بالباب يطرق فقال أشعب ما أرانا إلا صرنا إلى ما نكره قال إنه صديقي وفيه عشر خصال إن كرهت واحدة منهن لم آذن له فقال أشعب هات أولها قال إنه لا يأكل ولا يشرب قال التسع لك ودعه يدخل فقد أمنا ما كنا نخافه وكان مروان بن أبي حفصة لا يأكل إلا الرؤس فقيل له في ذلك قال لأن الغلام لا يقدر ان يخونني فيه إن أخذ أذناً أو أخذ عيناً وقفت على ذلك وآكل منه ألواناً آكل عينه لوناً ودماغه لوناً وأذنيه لوناً وأكفى مؤنة طبخه في البيت فقد اجتمع لي فيه مرافق شتى وحكى دعبل الخزاعي قال أتيت سهل بن هرون في حاجة فأطلت الجلوس عنده فأخر غداءه لقيامي فجلست على عمد حتى كضه الجوع فقال يا غلام غدنا فجاء بمائدة وعليها قصعة فيها مرق وديك ليس قبلها ولا بعدها غيرها فاطلع في القصعة ففقد رأس الديك فقال للغلام أين الرأس قال رميت به قال ولم رميت به قال ظننتك لا تأكله قال فهلا ظننت إن العيال يأكلونه ثم التفت إلي وقال لو لم أكره مما صنع إلا الطيرة لكان حسبي فإنهم يقولون الرأس للرئيس وفيه الحواس الأربع ومنه يصيح الديك وفيه عرفه الذي يتبرك به وعينه التي يضرب بها المثل في الصفاء ودماغه موصوف لوجع الكليتين ولم أر عظماً قط أهش تحت ضرس من دماغ ديك ويلك انظر أين رميته قال لا أدري قال لكني أنا أدري أين رميته رميته في بطنك الله حسيبك وكان جعفر بن سليمان بخيلاً على الطعام رفعت المائدة من بين يديه يوماً وعليها دجاجة صحيحة قد أخذ منها بعض بنيه جناحاً فلما أعيدت عليه بالغداة قال من هذا الذي تعاطى فعقر فقيل له ابنك الصغير فقطع أرزاق جميع بنيه من أجله فلما طال ذلك منه وأضر بهم الحال جاءه أكبرهم وقال يا أبانا أفتهلكنا بما فعل السهفاء منا فأعجبه ذلك وأمر برد أرزاقهم إليهم وقال بعض الأكياس دعاني كوفي إلى منزله فقدم لي دجاجة فأكلت من المرقة وجهدت أن آكل من اللحم فما قدرت لصلابته وبت عنده فأعاده من الغد إلى القدر وطرح عليه سكراً فعاد زير باجا فقدمه وأكلت من المرق وجهدت أن آكل من اللحم فما قدرت لشدته فبت عنده الليلة الثانية فلما كان من الغد قال لغلامه اطرح عن اللحم من المرق ليصير قلية ففعل ثم قدمه إلي فأكلت من المرق وجهدت أن آكل من اللحم فلم أقدر لقوته فأخذت قطعة من اللحم ووضعتها إلى جهة القبلة وقمت لأصلي إليها فقال ما هذا الذي تصنع قلت أشهد أنه لحم ولي من أولياء الله تعالى فإنه قد أدخل النار ثلاث دفعات فلم تفعل فيه شيأً فلما أردت الانصراف إذا ببعض جيرانه يدق الباب فقال له أعرني ذلك اللحم لضيف وأفاني من الغد لأطبخه له وأرده إليك إن شاء الله تعالى فناوله إياه وسأل فقير من دار بخيل شيأً فأعطى لقمة صغيرة فقال يا أهل هذا المنزل كيف أشرب هذا الدواء وقف سائل على باب دار فيها يحيى بن زياد وحماد بن عجرد وبشار مجتمعين على طعام فقال يا اخوتي المسلمين فقال يحيى فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون فقال ارحموني فقال حماد نحن إلى رحمتك أحوج منك إلى رحمتنا فقال واسمعوا كلامي فقال بشار لقد اسمعت لو ناديت حياً فقال السائل أما القول فما أوسع به شقاشق أقوالكم وأما الفعل فما أخيبه قرن الله بالخيبة آمالكم وقال العتبي كان الأصمعي يجعل الخبز الحار أدما للخبز البارد ولو بذلت له الجنة بدرهم لاستنقص منه شيأً وقال جحظة دخلت على هرون ابن الخال وكان بخيلاً بطعامه وكنت إذ ذاك ناقها من علة وقد نصبت مائدة بين يديه فدعاني إليها وقدمت إلي صحفة فيها مضيرة معقودة بعصبان كأنها قضبان فضة فانهمكت في الأكل فنظر إلي شزراً ثم قال يا جحظة هذه والله معدن ألم المفاصل والفالج واللقوة والقولنج وأنت عليل وبدنك نحيل واللبن يستحيل فقلت والله العظيم الجليل لآتين منها على الكثير والقليل وحسبنا الله ونعم الوكيل ثم أقبلت على الأكل منها حتى اكتفيت فلما انصرفت عملت فيه
ولي صاحب لاقدس اللّه روحه ... بعيد عن الخيرات غير قريب
أكلت عصيباً عنده في مضيرة ... فيا لك من يوم عليه عصيب
وله وأبدع
لا تعذلوني إن هجرت طعامه ... خوفاً على نفسي من المأكول
فمتى أكلت قتلته من بخله ... ومتى قتلت بالمقتول
وحضر اعرابي مائدة هشام بن عبد الملك فرفع الاعرابي لقمة فقال له هشام شعرة في لقمتك يا أعرابي فقال الأعرابي فإنك تلاحظني ملاحظة من يرى الشعرة والله لا أكلت عندك أبداً وقال بعض البخلاء إني لا آكل إلا نصف الليل قيل له ولم قال يبرد الماء وينقمع الذباب وآمن فجأة الداخل وصرخة السائل وطبخ رجل قدراً وجلس مع زوجته يأكلان فقال ما أطيب هذا الطعام لولا الزحام قالت أي زحام ههنا إنما هو أنا وأنت قال كنت أحب أن أكون أنا والقدر وقال بعض البخلاء لغلامه هات الطعام واغلق الباب قال يا مولاي ليس هذا حزماً بل أغلق الباب أولاً وأقدم الطعام ثانياً فقال له اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى لعلمك بأسباب الحزم وأين هذا مما يحكي أن عدي بن حاتم الطائي عمل مأدبة فقال لولده وكان صغيراً أقم على الباب وأذن لمن تعرف وامنع من لا تعرف فقال والله لا يكن أول شيء وليته من أمر الدنيا منع أحد عن طعام فقال عدي والله يا ولدي أنت أكرم مني وأفطن افتحوا الباب فمن شاء فليدخل وبهاتين الحكايتين علم مصداق من أطلع الله شمس الحكمة من مشرق فيه بقوله العبد من طينة مولاه والولد سرابيه شاعر يذم بخلاء وتروى للأخطل
قوم إذا أكلوا أخفوا كلامهم ... واستوثقوا من رتاج الباب والدار
لا يقبس الجار منهم فضل نارهم ... ولا تكف يد عن حرمة الجار
قوم إذا استنتج الأضياف كلبهم ... قالوا لأمّهم بولي على النار
آخر
تراهم خشية الأضياف يوماً ... يقيمون الصلاة بلا أذان
ابن هلال العسكري يذم بخيلاً
تنانيركم للنمل فيها مدارج ... وفي قدركم للعنكبوت مناسج
وعندكم للضيف حين ينوبكم ... سؤالات سوء للقرى وسفاتج
وأنتم على ما تزعمون أكارم ... فايرى في است الأكارم والج
وقال صعصعة بن صوحان أكلت عند معاوية لقمة فقام بها خطيباً قيل وكيف ذاك قال كنت آكل معه فهيأ لقمة ليأكلها فأغفلها فأخذتها وأكلتها فسمعته بعد ذلك يقول أيها الناس أجملوا في الطلب فرب رافع لقمة إلى فيه سبقه إليها غيره
ومما يليق بهذا الفصل من التذييل ... ذكر من عرف بالطمع والتطفيل
قالوا الطمع يدنس الثياب ويغير الأذهان وقالوا مصارع الألباب تحت ظلال الطمع وقالوا الحر عبد ما طمع والعبد حر إن قنع وقالوا أخرج الطمع من فيك تحل القيد من رجليك وصف بعضهم طامعاً فقال لو رأى شيأً في حجر أفعى لجاء إليه يسعى وادخل يده فيه ليأخذه ويحويه وقالوا لو قيل للطمع من أبوك لقال الشك في المقدور ولو قيل له ما حرفتك لقال اكتساب الذل ولو قيل له ما غايتك لقال الحرمان ولله در من قال
وما قطع الأعناق حتى أبانها ... وقرّرها إلا سيوف المطامع
شاعر يذم الطمع
وذي طمع يغدو بقية عمره ... ويمسي ولم تجمع يداه له وفرا
يبيت سميراً للمنى مثرياً بها ... ويضحا سليباً من مواهبها صفرا
وأكثر ما تلقى الأماني كواذباً ... فإن صدقت جازت بصاحبها القدرا
فممن اشتهر بالطمع وجمع فيه بين الطبع والطبع أشعب وبه يضرب المثل قيل له ما بلغ من طمعك قال ما رأيت عروساً تزف إلا ظننت أنها لي ولا رأيت جنازة إلا حسبت إن صاحبها أوصى لي بشيء ولا رأيت اثنين يتناجيان إلا خيل لي أنهما يأمران لي بمعروف ولقد طاف الصبيان حولي يومياً يتولعون بي فقلت لهم لابعدهم عني إن في دار فلان لوزنيجا يفرق فذهبوا يتعادون فلما ذهبوا عني ظننت أني صادق فتبعتهم وقيل له هل رأيت أطمع منك قال نعم نزلت بطريق الشأم مع رفيق لي تحت صومعة راهب فتنازعنا في شيء فقلت اير الراهب في است الكاذب وإذا بالراهب قد نزل وايره في يده وقد أنغط وهو يقول فديتكما من الكاذب فيكما وكان يقول ما أحسست بجار لي يطبخ قدراً إلا غسلت الغضارة ووضعت المائدة وانتظرته يحمل إلي قدره جلس عبد الله بن أبي عتيق مع زوجته فتمنى أن يهدي له مسلوخ فيتخذ منه لون كذا ولون كذا فسمعته جارة له فظننت أنه أمر بعمل ما سمعت فانتظرته إلى الليل ثم جاءت وطرقت الباب وقالت شممت رائحة قدركم فجئت لتطعموني منها فقال ابن أبي عتيق لامرأته أنت طالق إن أقمنا في دار يتشمم أهلها ريح الأماني ورحل عنها بعض المتمنين
خلوت بنفسي فمنيتها ... أمانيّ خابت ولم تصدق
فهذا اقتلاه وهذا اضربا ... وهذا احملاه على الأبلق
التطفيل من أمثالهم قولهم أطفل من ذباب والزم من قراد وانم من ليل على نهار ومن أدب الراجز
أوغل في التطفيل من ذباب ... على طعام وعلى شراب
لو أبصر الرغفان في السحاب ... لطار في الجوّ مع العقاب
وقالوا من جاء إلى طعام لم يدع إليه استحق الطرد ولا يلام عليه ليم بعض المتطفلين على التطفيل فقال والله ما بنيت المنازل ألا لتدخل ولا قدمت الأطعمة إلا لتؤكل وإني لا جمع في التطفيل خلالاً أدخل مخالساً وأقعد مستأنساً وانبسط وإن كان رب المجلس عابساً ولا أتكلف مغرماً ولا أنفق درهماً وقال بنان وهو كبيرهم التمكن على المائدة خير من أربعة ألوان زائدة ومن دعائه اللهم ارزقني صحة الجسم وكثرة الأكل ودوام الشهوة ونقاء المعدة ودخل بعض الطفيليين على قوم فقالوا من أنت قال أنا الذي لا أحوجكم إلى رسول ولبعضهم في المعنى
نحن قوم إن جفا النا ... س وصلنا من جفانا
لا نبالي صاحب الدا ... ر نسينا أم دعانا
قصد جماعة من الطفيليين باب بعض الكبراء وقت غدائه فمنعهم بوابه فكتب إليه بعضهم
قد أتيناك زائرين خفافا ... وعلمنا بأنّ عندك فضلة
ولدينا من الحديث هناة ... معجبات نعدّها لك جملة
إن تجدنا كما تريد وإلا ... فاحتملنا فإنما هي أكله
فأذن لهم فدخلوا البديع الهمذاني على لسان طفيلي
نحن قوم نحب هدى رسول اللّه ... هدنا وللصواب أصبنا
فادعنا كلما نشطت فأنا ... لو دعينا إلى كراع أجبنا
آخر
ولما أن كتبت ولم تجبني ... ولم تنظر إليّ بعين أنس
رأيت الحزم إن أنضى ركابي ... إليك وأن أكون رسول نفسي
ولم أسمع بأظرف من قول القائل
ونديم رقيق حاشية الحي ... لة صافي زجاجة الآداب
شغلته الرقاع منه إليه ... داعياً نفسه إلى الأصحاب
آخر يصف طفيلياً
لو طبخت قدر بمطمورة ... بالشأم أو أقصى جميع الثغور
وأنت بالصين لوافيتها ... يا عالم الغيب بما في القدور
الفصل الثالث من الباب العاشر
في مدح القصد في الإنفاق
خوف التعيير بالإملاق
قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ناصحاً بالاشفاق وآمراً له بالقصد في الانفاق مثبتاً لكماله قواماً مشكوراً ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً فنهاه عن التقتير كما نهاه عن التبذير وقال تعالى مثنياً على المقتصدين بحسن تقديرهم اكراماً والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما عال من اقتصد أي ما افتقر وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إن الله بحب القصد والتقدير ويكره السرف والتبذير وقال معاوية رضي الله عنه حسن التقدير نصف الكسب وهو قوام المعيشة وقال لولده كن مقدراً ولا تكن مقتراً وأوصى حكيم ولده فقال يا بني عليك بالتقدير بين الطرفين لا منع ولا اسراف ولا بخل ولا اتلاف لا تكن رطباً فتعصر ولا يابساً فتكسر وقالوا حسن التقدير رأس التدبير وقال ذو النون حسن التقدير مع الكفاف أكفى من الكثير مع الاسراف ويقال لا تسمح لولدك ولا لامرأتك ولا لغلامك وخادمك بما فوق الكفاية فان طاعتهم لك بقدر حاجتهم إليك ومن هذا وهو لائق بالملوك ما حكى إن ابرويز قال لابنه لا توسعن على جندك فيشتغلوا عنك ولا تضيقن عليهم فيضجوا منك وأعطهم عطاء قصداً وأمنعهم منعاً جميلاً ووسع لهم في الرجاء ولا توسع عليهم في العطاء وفي وصيته لولده أي بني قول لا تدفع البلاء وقول نعم تزيل النعم وسماع الغناء برسام حاد لان الانسان إذا سمع الغناء شرب وإذا شرب طرب وإذا طرب وهب وإذا وهب عطب وإذا عطب اعتل ثم يموت من غم ذلك والدرهم محموم إن حركته مات والدينار محبوس إن أطلقته طار وكذب من قال اليمين تذر الديار بلاقع وإنما الاسراف يفعل ذلك والأصدقاء هم الأعداء لأنك إذا احتجت إليهم منعوك وإن احتاجوا إليك ومنعتهم سبوك وإذا لم يكن لك بد منهم فكن معهم كلاعب الشطرنج يحفظ ما معه ويحتال في أخذ ما مع غيره وسأل رجل زياد ابن سمية فأعطاه درهماً فقال صاحب العراقين أسأله فيعطيني درهماً فقال من بيده خزائن السموات والأرض ربما رزق أخص عباده عنده وأكرمهم لديه التمرة واللقمة وما يكبر عندي إن أصل رجلاً بمائة ألف درهم ولا يصغر عندي أن أعطي سائلاً رغيفاً إذا كان رب العالمين يفعل ذلك وقيل ينبغي للعاقل أن يكسب ببعض ماله المحمدة ويصون ببعضه وجهه عن المسئلة وقال الأصمعي سمعت بعض الأعراب يقول من اقتصد في الغنى والفقر فقد استعد لنوائب الدهر ويقال اقتصد في انفاق الدراهم فانها الجراح الفاقة مراهم وقالوا اسقاط الفضول في النفقة ربح بضاعة لا تمل فان الاسراف ربما كان سبباً في التقتير وقال الثعالبي من كثرت في دعوته نفقته أسلم ماله ونقصت مروأته وقال أفلاطون راس العقل الاقتصاد في الانفاق من غير بخل ومن الكلام البديع للبديع الهمذاني قوله مثل الاحسان في الانسان مثل الثمار في الأشجار فحقه إذا أتى بالحسنة أن يرفه إلى سنه وما أحسن ما قيل في المعنى
أنفق بمقدار ما استفدت ولا ... تسرف وعش فيه عيش مقتصد
من كان فيما استفاد مقتصداً ... لم يفتقر بعدها إلى أحد
آخر
كن بما أوتيته مغتبطاً ... تستدم عيش القنوع المكتفي
إن في نيل المنى وشك الردى ... واجتناب القصد عين السرف
كسراج دهنه قوت له ... فإذا غرّقته فيه طفى
ما قيل إنّ في صلاح الأموال صلاح ما فسد من الأحوال
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقل مع الاصلاح شيء كما لا يكثر مع الافساد شيء ويقال من الفساد اضاعة الزاد المتلمس
لحفظ المال خير من فناه ... وسير في البلاد بغير زاد
قليل المال تصلحه فيبقى ... ولا يبقى الكثير مع الفساد
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصلحوا أموالكم التي رزقكم الله فان اقلالا في رفق خير من اكثار في خرق وقالوا إن في صلاح الأموال سلامة الدين وجمال الوجه وبقاء العز وصون العرض وقالوا أصلح مالك تجده لروعة الزمان وجفوه السلطان ونبوة الاخوان ودفع الأحزان وكتب عتبة بن أبي سفيان إلى وكيله يعاهده صغير مالي يكبر ولا يخف كبيره فيصغر فإنه ليس يشتغلني كثير مالي عن اصلاح قليله ولا يمنعني قليله عن كثير ما ينوبني وقال أحيحة بن الحلاج أصلحوا أموالكم فانكم لا تزالون ذوي مروات ما استغنيتم عن عشيرتكم وقال شبيب بن شيبة لبنيه إن كنتم تحبون المروأة والفتوة فأصلحوا أموالكم وقال معاوية اصلاحك ما في يدك أسلم من طلبك ما في أيدي الناس وقال عبد الله بن عباس اطلبوا الغنى باصلاح ما في أيديكم فان الفقر مجمع العيوب وقال البستي
اشفق على الفضة والعين ... تسلم من القلة والدين
فقوة العين بانسانها ... وقوة الانسان بالعين
احتجاج من خمدت يده عن النوال ... خوف التعيير بالفقر وذل السؤال
قال أبو حنيفة لا خير فيمن لا يحفظ ماله ليصون به عرضه ويصل به رحمه ويستغنى به عن لئام الناس وقال الأصمعي لامت أعرابية أباً لها على اتلاف ماله فقال يا أبت حبس المال يمنع العيال من بذل الوجه للسؤال أسرفت في النوال وكثرة النحال امسك فقد أتلفت الطارف والتلاد وبقيت ترقب ما في أيدي العباد يا أبت من لم يحفظ ما ينفعه يوشك أن يقع بالفقر فيما يضره وقال عبد الله بن المعتز
أعاذل ليس البخل مني سجية ... ولكن وجدت الفقر شر سبيل
لموت الفتى خير من البخل للفتى ... وللبخل خير من سؤال بخيل
وقال سفيان الثوري لان أخلف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس وكان داود بن علي يقول لابن يترك الرجل ماله بعده لاعدائه خير من الحاجة في حياته لأوليائه وقال يعقوب الكندي من جاد بماله فقد جاد بنفسه لأنه جاد بما لا قوام لها إلا به وقال الشاعر
يا رب جود جر فقر امرئ ... فقام للناس مقام الذليل
فاشدد عرى مالك واستبقه ... فالموت خير من سؤال البخيل
آخر
الموت خير للفتى ... من أن يعيش بغير مال
والموت خير للكريم ... من التضرّع والسؤال
وقال أبو الأسود الدؤلي لو لم نبخل على السؤال بما يسالونا لكنا اسوأ حالاً منهم وقالوا ختم المال حتم وليم مروان بن أبي حفصة على الامساك فأنشد
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمى النوى بالمقترين المراميا
وما فارقوا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذاراً من شمات الأعاديا
ومن قولهم في أن الفقر والاقلال ... مقرونان بالدحر والاذلال
قال أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه الفقر داء لا دواء له من كتمه قتله ومن أذاعه فضحه وقال أيضاً رضي الله عنه مارست كل شيء فغلبته ومارسني الفقر فغلبني إن سترته أهلكني وإن أذعته فضحني وقال لولده محمد بن الحنفية يا بني إني أخاف الفقر فإنه منقصة للدين مذهبة للعقل داعية للمقت وقالوا الفاقة هي الموت الأصغر لا بل هي الموت الأكبر وذكر إن السفاح لما ضرب أعناق بني أمية قام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين هذا والله جهد البلاء فقال مه لا أم لك ما هذا وشرطة حجام الاسواء ولكن جهد البلاء فقر مذقع بعد غنى موسع وقال ابن دأب لقيت رجلاً كنت أعرفه حسن الحال ومن أصحاب الأموال في حالة ردية كأنما أصابته رزية فسلم علي فقلت له ما الذي غير حالك وأذهب مالك فقال تنقل الزمان وكر الحدثان فآثرت الضرب في البلدان والبعد عن الأوطان ومفارقة المعارف والاخوان وعملت بقول الشاعر
سأعمل نصب العيس حتى يكفني ... غنى المال يوماً أو غنى الحدان
فللموت خير من حياة يرى بها ... على الحر ذي الاقلال وسم هوان
متى يتكلم بلغ حكم كلامه ... وإن يقل قالوا عديم بيان
وقوله هذا ينظر إلى قولهم فيما ضربوه من الأمثال مناقب الموسر مثالب المعسر وذلك أنه إذا كان جواداً قالوا مبذر وإن كان لسناً قالوا مهدار وإن كان ذكياً قالوا بليد وإن كان شجاعاً قالوا أهوج وإن كان صموتاً قالوا عيي وإن كان وقوراً قالوا متكبر ومن نزل به الفقر لم يجد بداً من ترك الحياء ومن ذهب حياؤه ذهبت مروأته ومن ذهبت مروأته مقت ومن مقت أوذى ومن أوذى حزن ومن حزن ذهب عقله ومن أصيب بهذا كله كان كلامه كلا عليه لا له شاعر
لما رأيت اخلائي وخالصتي ... الكل منقبض عني ومحتسم
أبد واجفاء واعراضاً فقلت لهم ... أذنبت ذنباً فقالوا ذنبك العدم
آخر
يغطي عيوب المرء كثرة ماله ... يصدّق فيما قال وهو كذوب
ويزري بعقل المرء قلة ماله ... يحمقه الأقوام وهو لبيب
آخر
أنطقتك الثياب لا الآداب ... وطوتني عن الكلام الثياب
والصواب الذي أقول خطأ ... والخطأ الذي تقول الصواب
وقالوا من حسن حاله استحسن قاله وقالوا الفقر يخرس الفطن عن حجته ويجعله غريباً في بلدته وقالوا إذا افتقر الرجل اتهمه من كان يأتمنه وأساء به الظن من كان يحسنه فإذا أذنب غيره نسب إليه ومن كان له صار عليه وقال إبراهيم بن محمد بن المدبر جهدت جهدي أن أنظر إلى الفقير بالعين التي أنظر بها لغني فلم يتهيأ لي ذلك وقال الشاعر
يغدو الفقير وكل شيء ضدّه ... والأرض تغلق دونه أبوابها
وتراه ممقوتاً وليس بمذنب ... ويرى العداوة لا يرى أسبابها
حتى الكلاب إذا رأت ذا بزة ... أصغت إليه وحركت أذنابها
وإذا رأت يوماً فقيراً عارياً ... نبحت عليه وكشرت أنيابها
وقالوا ما أطيب الافاقة من سم الفاقة وقال عبد الملك بن صالح الفقر جند الله الأكبر يذل به من طغى وتجبر ويقال رب حسب دفنه الفقر شاعر
الفقير يزري بأقوام ذوي حسب ... وقد يسوّد غير السيد المال
وقال بعضهم الفقير كميت في بيت لا يملك غير الجلدة بردة ولا يلتقي لحياه إلا برعدة شاعر
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا ... وأقبح القل والافلاس بالرجل
آخر
لبست صروف الدهر كهلاً وناشياً ... وجربت حاليه على العسر واليسر
فلم أر بعد الدين خير من الغنى ... ولم أر بعد الكفر شراً من الفقر
آخر
رزقت لباً ولم أرزق مروأته ... وما المروأة إلا كثرة المال
إذا أردت مساماة تقيدني ... عما ينوه باسمي رقة الحال
آخر
كفى حزناً أنّ الغنى متعذر ... عليّ وأني بالمكارم مغرم
وما قصرت بي في المطالب همة ... ولكنني أسعى إليها فأحرم
آخر
كفى حزناً إني أروح وأغتدي ... ومالي من مال أصون به عرضي
وأكثر ما ألقي صديقي بمرحبا ... وذلك لا يكفي الصديق ولا يرضي
آخر
أرى نفسي تتوق إلى أمور ... يقصر دون مبلغهن مالي
فنفسي لا تطاوعني لبخل ... ولا مالي يبلغني فعالي
آخر
إذا قل مال المرء قل صديقه ... ولم يحل في عين الصديق لقاؤه
وأصبح لا يدري وإن كان حازماً ... أقدّامه خير له أم وراؤه
فإن مات لم يفقد ولم يحزنوا له ... وإن عاش لم يفرح به أولياؤه
قيس بن عاصم
يسوّد هذا المال غير مسود ... ويحرمه ليث فيصبح ثعلبا
وأول ما يجفو الفقير لفقره ... بنوه ولم يرضوه في فقره أبا
كأنّ فقير القوم في الناس مذنب ... وإن لم يكن من قبل ذلك أذنبا
آخر
لعمرك إن الغنى يجعل الفتى ... سرياً وإنّ الفقر بالمرء قد يزري
ولا رفع النفس الدنيئة كالغنى ... ولا وضع النفس النفيسة كالفقر
آخر
ألم تر أنّ المرء يزداد عزة ... على أهله أن يعلموا إنه مثري
وينحط منه القدر إن كان معدما ... وأصبح لا يرجى لنفع ولا ضر
آخر
أرى ذا الغنى في الناس يسعون حوله ... وإن قال قولاً تابعوه وصدّقوا
فذلك دأب الناس ما دام ذا غنى ... وإن مال عنه المال يوماً تفرقوا
ومن المنظوم في سلك الرشاقة ما قيل في التشكي من ضرر الاقلال والفاقة مجد العرب العامري
هجرت للعدم كل خل ... وصرت للانقباض خدنا
فلا أهني ولا أعزي ... ولا أعزي ولا أهنا
ابن الخياط الدمشقي
لم يبق عندي ما يباع بحبة ... وكفاك شاهد منظري عن مخبري
إلا بقية ماء وجه صنتها ... عن أن تباع وأين أين المشتري
آخر
قعدت عن الاخوان من غير ما قلى ... وكان صواباً ما أتيت على عمد
وجهد الفتى أن يستر البيت حاله ... إذا لم يجد حراً يعين على الجهد
آخر
الحمد للّه ليس لي نشب ... قد خف ظهري وقل زواري
من نظرت عينه إليّ فقد ... أحاط علماً بما قد حوت داري
آخر
أنا في حال تعالى اللّه ... ما أعظم حالي
ليس لي شيء إذا قي ... ل لمن ذا قلت ذا لي
ولقد أفلست حتى ... حل أكلي لعيالي
من رأى شيأً محالاً ... فأنا عين المحال
فبلاد اللّه أرضى ... والسموات ظلالي
لو يكن في الناس حر ... لم أكن في مثل حالي
آخر
جاء الشتاء وليس عندي درهم ... وبدون ذلك قد يصاب المسلم
وتقطع الناس الجباب وغيرها ... وكأنني بأزاء مكة محرم
آخر
طشتي الأرض ومنديلي الهوا ... وعلى الخبز من الجوع احتلامي
هل سمعتم أو رأيتم أحداً ... أكل الخبز سواي في المنام
آخر
خلق المال واليسار لقوم ... وأراني خصصت بالاملاق
أنا فيما أرى بقية قوم ... خلقوا بعد قسمة الأرزاق
آخر
إذا جزت يوماً بالسويق يمسني ... لقلة نقدي ذلة وخضوع
فلا قائل للمشتري كيف تشتري ... ولا سائل البياع كيف تبيع
آخر
الحمد للّه ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس
ابني غلامي وزوجتي أمتي ... ملكتها بالملاك والعرس
غنيت بالياس واعتصمت به ... عن كل قرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبداً ... طلق المحيا سمح ولا شرس
وما أحسن قول أبي العير الهاشمي
ولقد أبان عن شرف وعلو همة ... فصار بما قال في الناس أمة
قنعت نفسي بما رزقت ... وتمطت في العلا هممي
ولبست الصبر سابغة ... هي من قرني إلى قدمي
فإذا ما الدهر عاتبني ... لم يجدني كافر النعم
لا أقول اللّه يظلمني ... كيف أشكو غير متهم
وواجب اتباع هذا الفصل بمدح المال ... إذ به يدرك ما شسع من الآمال
قالوا اليسار علاء والاقتاء بلاء وقالوا الغني سني كبير والفقير دني حقير ويقال قيمة كل امرئ ما معه شاعر
ولا يساوي درهماً واحداً ... من لم يكن في كفه درهم
وقالوا المرء بدرهميه لا بأصغريه نظمه بعض الشعراء فقال
قد قال قوم بغير علم ... ما المرء إلا بأصغريه
وقلت قول امرئ عليم ... ما المرء إلا بدرهميه
وقال بعضهم لولده ليكن معك من العين ما تقربه العين وقالوا المال معشوق الورى فمن عدمه نبذ بالعراء منفصم العرى وقيل للحسن ما بال الناس يكرمون صاحب المال قال لان عنده معشوقهم فإليه القلوب تمال وقالوا المال يستعبد الأحرار ويذل الأشرار وقال آخر بقدر ما تعطى من المال تعطى من الاجلال سمع قيس بن عبادة يقول في دعائه اللهم ارزقني حمداً ومجداً فإنه لا حمد إلا بفعال ولا مجد إلا بمال اللهم إنه لا يصلحني القليل ولا أصلح عليه أشار في هذا إلى قول الشاعر
ولا مجد في الدنيا لمن قل ماله ... ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
عوتب ابن أبي ليلى في تعظيم موسر فقال إن تعظيم ذوي المال سر جعله الله في القلوب لا يستطاع رده شاعر
يعير الغنى ثوب المكارم للفتى ... وإن كان من ثوب المكارم عاريا
ومر موسر بالشعبي فتزحزح له فقيل له في ذلك فقال رأيت ذا المال مهيبا شاعر
إني وجدت الغنى زيناً لصاحبه ... في أهله وفقير القوم محقور
إنّ المقلين لا تنسى ذنوبهم ... وذنب ذي المال عند الناس مغفور
وقال معاوية إن الشرف والسودد لينتقلان مع الغنى كما ينتقل الظل شاعر
الناس ما استغنيت كنت صديقهم ... وإذا افتقرت إليهم فهم العدى
ذو المال عندهم يسود بماله ... ويزول سودده إذا فقد الغنى
آخر
كم من لئيم الجدود سوده ال ... مال أبوه وأمه الورق
وكم كريم الجدود ليس له ... عيب سوى أنّ ثوبه خلق
آخر
إذا كنت ذا ثروة من غنى ... فأنت المسوّد في العالم
وحسبك من نسب صورة ... تخبرانك من آدم
وقال عبد الرحمن بن عوف حبذا المال أصون به عرضي وأصل به رحمي وأتقرب به إلى ربي وأبر به صديقي وأكمد به عدوي وأفضل به على عشيرتي وقال الثعالبي من كان كيسه صفراً من البيض والصفر فليبشر بجفاء الدهر وانقطاع الظهر وكان محمد بن الجهم يقول من وهب ماله في عمله فهو أحمق ومن وهبه بعد العزل فهو مجنون ومن وهبه من ارثه فهو جاهل ومن وهبه من ملكه فهو مخذول ومن وهبه من كسبه وما استفاده من كده بحيلة فهو المطبوع على قلبه المأخوذ بسمعه وبصره وقال من عهده بالافلاس تقادم محل المال من المنزل محل الشمس في العالم وقال بعض عقلاء الفرس من زعم أنه لا يحب المال فهو عندي كاذب حتى يثبت صدقه فإذا ثبت صدقه فهو عندي أحمق وقال عمرو بن العاص لمعاوية ما أشد حبك للمال فقال كيف لا أحبه وقد استعبدت به مثلك واشتريت به مروأتك ودينك وقال الحسن بن المنذر وددت أن لي مثل أحد ذهباً لا أنتفع بشيء منه قيل له فما ترجو بذلك قال أريده لكثرة من يخدمني عليه ويجلني لأجله وقالوا المال يجمع الشمل ويستر الأهل ويزيد في العقل وقالوا من استغنى عن الناس عظموه ووقروه ومن احتاج إليهم ازدروه واحتقروه وقيل لبعض الحكماء أيما أفضل الأدب أو المال قال الأدب قيل له فما بال الأدباء يأتون أبواب الأغنياء ولا تأتي الأغنياء أبواب الأدباء قال ذلك لعلم الأدباء بمقدار فضل المال وجهل الأغنياء بمقدار فضل الأدب شاعر
أصون دراهمي وأذب عنها ... لعمري إنها درعي وترسي
وأخبؤها إلى أعدى الأعادي ... من الوراث حتى أبناء جنسي
ولا سؤلي إلى رجل لئيم ... ليقرض درهماً نقداً بخمس
فيعرض وجهه ويصدّعني ... فتبقى مثل نفس الكلب نفسي
فيا ذل الرجال بغير مال ... ولو جاؤا بنسبة آل عبس
ابن الرومي
لا تلم المرء على بخله ... ولمه إن زاد على بذله
حق على كل امرئ حازم ... يحفظ ما يكرم من أجله
ولقد أحسن القائد وأجاد
من كان يملك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدّم الاخوان فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته أسوا البرية حالا
إن الغنيّ إذا تكلم بالخطا ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا كلهم ... أخطأت يا هذا وقلت ضلالا
إنّ الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السنان لمن أراد قتالا
والمعين على طلب البغية من المال ... طلب المعيشة في الأيام والليال
قال بعضهم
لا ترهبنّ الهول خوف منية ... واقذف بنفسك في طلاب الدرهم
ودع المخاوف والمتالف إنها ... نفس مؤقتة ورزق يقسم
آخر
فجب عرض البلاد فلست تدري ... غناك بأيّ آفاق البلاد
ولا تقعد على ظما وفقر ... فذو الأقتار ممنوع الرقاد
آخر
سأضرب في الآفاق التمس الغنى ... وأرمي بنفسي في بحور المطالب
فإن أعط مسروراً فداك وإن أخب ... فعلمي بأني لست أوّل خائب
آخر
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأهلين كلا وأوشكت ... صلات ذوي القربى بأن تتكسرا
فسر في بلاد اللّه والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
آخر
لا يمنعنك نفيس العيش تطلبه ... نزوع نفس إلى أهل وأوطان
تلقى بكل بلاد إذ حللت بها ... أهلاً بأهل واخواناً باخوان
آخر
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجئ بملئها يوماً ويوما ... تجئ بحمأة وقليل ماء
آخر
ومن كان مثلي ذا عيال مقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح
ليبلغ عذراً أو ينال غنيمة ... ومبلع نفس قصدها مثل منجح
آخر
العز تحت ظلال السيف معدنه ... فاطلب بسيفك عزاً آخر الأبد
لا ترض بالدون من دنيا بليت بها ... قد ذل من كان محتاجاً إلى أحد
آخر
خاطر بنفسك كي تصيب غنيمة ... إنّ الجلوس مع العيال قبيح
فالمال فيه مجلة ومهابة ... والفقر فيه مذلة وفضوح
آخر
أشدّ من فاقة الزمان ... مقام حر على هوان
فاسترزق اللّه واستعنه ... فإنه خير مستعان
وإن نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان
وقال فتى من قيس لغلام له
اقذف السرج على المه ... ر وقرّطه اللجاما
ثم صب الدرع في رأ ... سي وناولني الحساما
فمتى أطلب إن لم ... أطلب الرزق غلاما
سأجوب الأرض أبغي ... ه حلالاً أو حراما
فلعل الظعن يبقى ال ... فقر أو يدني الحماما
آخر
ألا خلني أمضي لشأني ولا أكن ... على الأهل كلا إنّ ذاك شديد
أرى السير في البلدان يغني معاشراً ... ولم أر من يجدي عليه قعود
آخر
وقبيح مقام ذي الهمة الحر ... بأرض مرعاه فيها جديب
لا عدوّا أنكى ولا النفس أغنى ... وهو راض بها أكول شروب
وتراه يجوب في طلب الما ... ل سهوبا وخلفهن شهوب
خلبا قلبا إذا ملّ أرضا ... جدّ منها إلى سواها ركوب
ليس في فوت ما يحاوله الطا ... لب من رزقه عليه عيوب
إنما العيب أن يرى ساقط اله ... مة والرزق طالب مطلوب
الباب الحادي عشر
في الشجاعة
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في مدح الشجاعة والبسالة
وما فيها من الرفعة والجلالة
الشجاعة غزيرة في الانسان يمنحها واهب الاحسان كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الشجاعة غريزة يضعها الله فيمن شاء من عباده إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية وحدها قالوا هي سعة الصدر والاقدام على الأمور المتلفة وقالوا الشجاع من تكن من شجاعته عند الفرار وفقد الأنصار وسئل بعضهم عن الشجاعة فقال جبلة نفس أبية قيل له فما النجدة قال ثقة النفس عند استرسالها إلى الموت حتى يحمد فعلها عند الخوف وقال بعض أهل التجارب الرجال ثلاثة فارس وشجاع وبطل فالفارس الذي يشد إذا شدوا والشجاع الداعي إلى البراز والمجيب داعيه والبطل المحامي لظهور القوم إذا ولوا وقال يعقوب بن السكيت في ألفاظه العرب تجعل الشجاعة أربع طبقات تقول رجل شجاع فإذا كان فوق ذلك قالوا بطل فإذا كان فوق ذلك بهمة فإذا كان فوق ذلك قالوا أليسمن عرف من الأكابر في قومه بالبأس والنجدة وكان لهم عند الهياج معقلاً وشدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس بن مالك رضي الله عنه كان صلى الله عليه وسلم أجمل الناس وجهاً وأجود الناس كفاً وأشجع الناس قلباً لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس ثائرين قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً قد سبقهم إلى الصوت وسبر الخبر على فرس لأبي طلحة عرى والسيف في عنقه وهو يقول لن تراعوا لن تراعوا وقال عمران بن الحصن ما لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة قط إلا كان أول من يضرب ومن ذلك ثباته يوم حنين في مركزه لا يتخلخل ولا يتزيل ليس معه إلا عمه العباس آخذاً بلجام دابته وابن عمه أبو سفيان بن الحرث وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً فأعجبتهم كثرتهم حتى قال قائلهم لن نغلب اليوم من قلة وزل عنهم إن الله هو الناصر لا كثرة الجنود ولا العساكر فانهزموا حتى بلغ أولهم مكة ثم تدارك الله الملة الاسلامية بنصره فأنزل ملائكة على خيول بلق وتراجع المسلمون فقاتلوا فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة قتالهم قال هذا حين حمى الوطيس وهو أول من قال هذه الكلمة ثم أخذ كفاً من تراب فرمى به المشركين وقال شاهت الوجوه فانهزموا قال ابن عباس فلكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض خلفهم فناهيك بهذا الثبات شهادة صدق على تناهي شجاعته وبسالته ورباط جأشه وما هو إلا من آيات النبوة وعلامات الرسالة ومما عرف فيه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه بقوة الجأش وثبات القلب وشجاعة النفس والصبر في المواطن الكريهة يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عمر رضي الله عنه كذب بموته وقال ما مات وإنما واعده ربه كما واعد موسى وليرجعنه الله فليقطعن أيدي قوم وأرجلهم يسومون النبي الموت من قال إن محمداً مات علوته بسيفي هذا واعتراه ذهول حتى صار لا يدري أين يذهب وأما عثمان رضي الله عنه فدهش فجعل لا يكلم أحداً فيؤخذ بيده فيقاد وأما علي رضي الله عنه فقعد في البيت لم يبرح منه وكان أبو بكر رضي الله عنه حينئذ غائباً في ناحية من نواحي المدينة على ميل منها تسمى السخ فلما بلغه الخبر جاء حتى دخل عليه وهو مسجى فكشف عن وجهه الكريم وأكب عليه وقبل بين عينيه وقال طبت حياً وميتاً وأعول بالبكاء ثم خرج وهو رابط الجأش ثابت القلب مصيب في القول والناس على خلاف ذلك من الذهول واختلاط العقل وهم في أمر مريج قد ضلت افئدتهم في تيه الحزن وزلت أقدام صبرهم في مزالق الشجن فصعد المنبر وقال بعد حمد الله والثناء عليه في كلام طويل من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيأً وسيجزي الله الشاكرين فثاب إلى عمر عقله وقال والله لكأني لم أسمع بها قط في كتاب الله قبل ما نزل بنا وقالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها التي افتخرت فيها لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع نجم النفاق وارتدت العرب وصار المسلمون كالغنم السارحة في الليلة الماطرة فحمل أبي من الأمر الفخم ما لو حملته الجبال لهافها وما يدري أيما أربط جأشاً وأثبت قلباً في هذا الأمر الشديد والمصاب العتيد أهو رضي الله تعالى عنه أم ابنتاه عائشة وأسماء رضي الله عنهما فأما عائشة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات بين سحرها ونحرها وشاهدت ذلك الهول ثم احتملته فألقته على فراشه وسجته ببردته ولم تدع أحداً من نسائه وأهله يعينها عليه وعمرها إذ ذاك ثماني عشرة سنة ثم بكت بادية بصوت لا يكاد يعدي صاحبه فلما سمع الناس بكاءها وشجنها تحققوا موته ولم تظهر رزية ولا عويلاً ولم تشق جيباً ولم تخمش وجهاً ولم تدع ويلاً وإنما علم الناس موته ببكائها وأما أسماء فإن ولدها عبد الله بن الزبير لما رأى الغلبة دخل عليها وشكا إليها ما آل إليه أمره فقالت إياك أن تنكل أو تفشل ومت كريماً احتسبك عند الله فقال لها ما أخاف الموت وإنما أخاف أن يمثل بي فقالت إن الشاة إذا ذبحت لا تبالي بسلخها وكان عمر رضي الله عنه من الأشداء من الأقوياء موصوفاً بالشدة موسوماً بالحدة والشجاعة والنجدة كان يضع يده اليمنى على أذن فرسه اليسرى ثم يجمع جراميزه ويثب على فرسه
فكأنما خلق على متنه وكان علي رضي الله عنه شجاعاً بطلاً ذكر عنه إنه قتل في ليلة الهرير من حرب صفين خمسمائة وثلاثاً وعشرين رجلاً وكان إذا ضرب لا يثني وقيل له إنك مطلوب فلو اتخذت طرفاً سابقاً فقال إني لا أفر على من كر ولا أكر على من فر فالبغلة تكفيني وقيل له في حرب صفين أتقاتل أهل الشأم بالغداة وتطهر لهم بالعشي بازار ورداء فقال أبا الموت أخوف والله لا أبالي أسقطت على الموت أو سقط علي ومن الشجعان الزبير بن العوام قالوا لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فارس أشجع من الزبير ولا راجل أشجع من علي وفي الزبير تقول زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوي تخاطب عمرو بن جرموز لما قتله غدراً بوادي السباعنما خلق على متنه وكان علي رضي الله عنه شجاعاً بطلاً ذكر عنه إنه قتل في ليلة الهرير من حرب صفين خمسمائة وثلاثاً وعشرين رجلاً وكان إذا ضرب لا يثني وقيل له إنك مطلوب فلو اتخذت طرفاً سابقاً فقال إني لا أفر على من كر ولا أكر على من فر فالبغلة تكفيني وقيل له في حرب صفين أتقاتل أهل الشأم بالغداة وتطهر لهم بالعشي بازار ورداء فقال أبا الموت أخوف والله لا أبالي أسقطت على الموت أو سقط علي ومن الشجعان الزبير بن العوام قالوا لم يكن في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فارس أشجع من الزبير ولا راجل أشجع من علي وفي الزبير تقول زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوي تخاطب عمرو بن جرموز لما قتله غدراً بوادي السباع
غدر ابن جرموز بفارس بهمة ... يوم اللقاء وكان غير معرّد
يا عمرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد
ومن الشجعان بنو قيلة وهم الأنصار قال ابن عباس ما سلت السيوف ولا زحفت الزحوف ولا أقيمت الصفوف حتى أسلم أبناء قيلة يعني الأوس والخزرج وهم الأنصار وصفهم مادح فقال كانوا يحبون الموت كما تحبون الحياة ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع يريد أنهم يريدون بقتالهم وجه الله والدار الآخرة فلا تميل نفوسهم إلى ما يقسم من الفئ والغنيمة رغبة فيما هم بصدده من إعلاء كلمة الاسلام وإخفاء ما ظهر من شرك عبدة الأصنام فهم يكثرون إذا دعوا للقتال ويقلون عند قسم الأنفال قال كعب بن زهير يمدحهم
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في عصبة من صالح الأنصار
الباذلين نفوسهم لنبيهم ... يوم الهياج وصفوة الجبار
يتطهرون كأنه نسك لهم ... بدماء من علقوا من الكفار
ومن الشجعان معاذ بن عفراء قطع كفه يوم بدر فبقي معلقاً بجلدة بطنه فلم يزل يقاتل يومه أجمع وهو معلق حتى وجد آلمه فوضع رجله على يده وتمطى حتى قطع الجلدة وحمل رجل على حكيم بن جبلة في يوم من أيام حرة وقد قطع ساقه فأخذها في يده وضرب بها من قطعها فصرعه ثم أتاه واتكأ عليه فقتله وقال مرتجزاً يا ساق لن تراعي إن معي ذراعي أحمي به كراعي وحكي عنه أنه قيل له من قطع ساقك قال وسادتي ولم يكن في الجاهلية ولا في الاسلام أشجع من خالد بن الوليد رضي الله ولشجاعته سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله وذلك أنه لم ينهزم في جاهلية ولا اسلام ومات على فراشه ويقال إنه قال عند موته ما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو جرح بسهم وها أنا أموت على فراشي كما يموت العير فلا نامت أعين الجبناء ومن شجعان الصحابة البراء بن مالك قيل عنه إنه قتل مائة مبارز سوى من شورك في قتله وكتب عمر بن الخطاب إلى عماله أن لا يولوه جيشاً للمسلمين فإنه يهلكه ومن شجعان الصحابة طلحة بن عبيد الله وحارثة بن حذيفة والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود يروى أن عمرو بن العاص بعت إلى عمر بن الخطاب وهو يحاصر مصر يطلب سنه ثلاثة آلاف فارس فبعث إليه حارثة والزبير والمقداد لا غير أقام كل واحد منهم مقام ألف فارس رضي الله تعالى عنهم أجمعين وكان مصعب بن عبد الرحمن بن عوف شجاعاً ذكر عنه أنه كان يثب ثلاث وثبات كل وثبة ثنتا عشرة ذراعاً حتى يصل إلى قرنه فيقتله ومن الفرسان مالك بن الحويرث المعروف بالاشتر النخعي من أصحاب علي رضي الله عنه قال أبو بكر بن أبي شيبة أعطت عائشة للذي بشرها بحياة عبد الله بن الزبير بن العوام إذ التقى بالأشتر يوم الجمل أربعة آلاف درهم ذكران رجلاً سب الأشتر فقال له رجل من النخع اسكت فإن حياته هدمت أهل الشأم وموته هدم أهل العراق ومن الشجعان مصعب بن الزبير سأل عبد الملك يوماً جلساءه من أشجع الناس فعدوا جماعة فقال أشجع الناس من العرب من ولي العراق فأصاب الف ألف وألف ألف وعدها مراراً وجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسن وأم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وهند بنت ريان سيد كلب فخذله أهل العراق فأعطيناه الأمان على ما شاء فقال إن مثلي لا ينصرف إلا غالباً أو مقتولاً وقاتل حتى قتل والله لا ولدت النساء مثله وقال أخوه عبد الله لما بلغه قتله أن يقتل فقد قتل أخوه وأبوه وعمه وإنا لا نموت حتفاً ولكن نموت بين أطراف الرماح وتحت ظلال الصفاح وقال الزبير بن بكار آل الزبير أعرق الناس في القتل ولا يعرف في العرب ولا في العجم ستة مقتولون في نسق إلا من آل الزبير وهم عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير ابن العوام بن خويلد قتل عمارة وحمزة معاً في حرب الأباضية وقتل مصعب بدير الجاثليق وقتل محمد أخوه في حرب الجمل وقتل عبد الله بمكة في حرب الحجاج ولما قتل عبد الله أمر الحجاج بشق صدره فإذا فؤاده مثل فؤاد الجمل فكان إذا ضرب به الأرض ينزو كما تنزو المثانة المقطوعة وقتل الزبير بوادي السباع في حرب الجمل وقتل العوام في الفجار قتله بشر بن عبد الله بن دهمان الثقفي وقتل خويلد في حرب خزاعة وقيل لعبد الملك من أشجع الناس فقال العباس بن مرداس الذي يقول فيه الشاعر
أشدّ على الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كان فيها أم سواها
وقيس بن الحطيم حيث يقول
وإني في حرب العوان موكل ... باقدام نفس لا أريد بقاءها
ومن فرسان الخوارج قطري بن الفجاءة ويكنى أبا نعامة وخرج زمن مصعب ابن الزبير لما كان مصعب والياً على العراق من قبل أخيه عبد الله بن الزبير سنة ست وثلاثين وفي هذه السنة بويع عبد الله أخوه وعبد الملك بن مروان بالشأم فبقي قطري عشرين سنة يقاتل ويسلم عليه بالخلافة ذكر عنه إنه مر في بعض حروبه على فرس أعجف وبيده عمود خشب فدعا إلى البراز فبرز له رجل فحسر له عن وجهه فلما رآه الرجل ولي عنه فقال له قطري إلى أين قال لا نستحي أن نفرعنك وكذلك كان عبد الله بن حازم وشبيب الحروري يصيح في جنبات الجيش فلا يلوى أحد على أحد وفيه يقول بعض شعراء الخوارج في الجاهلية
إن صاح يوماً حسبت الصخر منحدراً ... والريح عاصفة والبحر يلتطم
ومن شجعان العرب وفرسانهم الفند الزماني كان يقاس بألف ذكر أنه حمل على فارس مردوف بآخر فطعنهما فانتظما في رمحه وقال شاعر يمدح شجعان العرب
فواحدهم كالألف بأساً ونجدة ... والفهم للعرب والعجم قاهر
وليس نظم الفند فارسين في طعنة بكبير فقد فعل مثل هذه الفعلة أبو دلف في بعض حروبه وفيه يقول بكر بن النطاح يذكر طعنته من أبيات
وإذا بدا لك قاسم يوم الوغى ... يختال خلت أمامه قنديلا
وإذا تلوذ بالعمود ولونه ... خلت العمود بكفه منديلا
وإذا تناول صخرة ليرضها ... عادت كثيباً في يديه مهيلا
قالوا أينظم فارسين بطعنة ... يوم اللقاء ولا تراه كليلا
لا تعجبوا لو كان مدّ قناته ... ميلاً إذا نظم الفوارس ميلا
ومما يعد من شدة الشجعان الأبطال رفض التواني بالمناجزة ودفع المطال قالوا العزم التأهب قبل الأمر والحزم المضئ فيه وقالوا الحزم انتهاز الفرصة عند تمكن القدرة وترك التواني فيما يخاف فيه الفوت وقال عبد الملك لعمر بن عبد العزيز ما العزيمة في الأمر قال اصداره إذا ورد بالحزم شاعر
ليست تكون عزيمة ما لم يكن ... معها من الحزم المشيد رافع
وقالوا من لم يقدمه عزمه أخره عجزه وقالوا الحازم من اشتدت شكيمته وقعدت عزيمته وقالوا الحرب كالنار إذا تداركت أولها خمد ضرامها وإن استحكم أمرها صعب مرامها ويقال قبل الاقدام تراش السهام والعجز عجزان عجز التقصير وقد أمكن والجد في طلبه وقد فات تمثل المنصور عند قتله لأبي مسلم الخراساني
إذا كنت ذا رأى فسكن ذا عزيمة ... فإن فساد الرأي أن يتردّدا
ولا تمهل الأعداء يوماً بقدره ... وبادرهم أن يملكوا مثلها غدا
ولآخر
ما العزم أن تشتهي شيأً وتتركه ... حقيقة العزم منك الجد والطلب
كم سوفت خدع الآمال ذا أرب ... حتى انقضى قبل أن ينقضي له الأرب
وقالوا من تفكر في العواقب لم يشجع في النوائب وجد على سيف مكتوب أيها المقاتل احمل تغنم ولا نفكر في العواقب تندم شاعر
خاطر بنفسك لا تقعد بمعجزة ... حتى تباشرها منه بتغرير
لن يبلغ المرء بالاحجام همته الرياشي
وعاجز الرأي مضباع لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ويقال مفتاح الدعة مفتاح البؤس أبو دلف العجلي
ليس المروأة أن تبيت منعما ... وتظل معتكفاً على الأقداح
ما للرجال وللتنعم إنما ... خلقو اليوم كريهة وكفاح
وقالوا زوج العجز التواني فأنتج بينهما الحرمان قال المعافي في مثل ذلك
إنّ التواني أنكح العجز بنته ... وساق إليها حين أنكحها مهرا
فراشاً وطيأً ثم قال له اتكى ... رويد كما لا شك أن تلدا فقرا
وقالت الحكماء الحزم طبع الحياة والعجز طبع الموت والنفس لا تحب أن تموت فكذلك تحب أن تحيا وأخذ الشيء بالحزم لا بالعجز المتنبي
ولو أنّ الحياة تبقى لحيّ ... لوددنا ضلالنا الشجعانا
وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
وقالوا أشعر قلبك الجراءة فإنها سبب الظفر وأحرص على الموت توهب لك الحياة وقال أكثم بن صيفي من التواني والعجز أنتجت الهلكة وقالوا التفكر في عواقب الحرب من امارات العجز والتهور فيه من علامات الجزع أبو عبادة مادحاً
صار الحزم ما مضى العرّم ساري ال ... فكر ثبت الجنان صلب العود
آخر مادحاً
ويلحظ بالأمر الصواب كأنما ... يلاحظه من كل أمر عواقبه
وقال حكيم تجرع من عدوك الغصة إلى أن تجد الفرصة فإذا وجدتها فانتهزها قبل أن يفوتك الدرك أو يعينه الفلك فإنما الدنيا دول تقلبها الأقدار ويهدمها الليل والنهار ولما أحيط بمروان بن محمد الجعدي قال والهفاه على دولة ما نصرت وكف ما ظفرت ونعمة ما شكرت فقال له بعض كماته وكان من أشراف الروم فوقع عليه سبي من أغفل الصغير حتى يكبر والقليل حتى يكثر والخفي حتى يظهر أصابه هذا
ومن الأبيات في انتهاز الفرصة ... وتفريج الغصة قول بعضهم
يا ابنة القوم ما تريدين مني ... صارمي منطقي ووجهي مجني
ما يزور الكرى جفوني إلا ... جسوة الطائر الذي لا يثني
فعلوى إذا استقلّ بعزم ... لم يعرّج بليتني ولواني
آخر
حلفت لان ألقى الشدائد كلها ... ومالي بأن ألقى الهوان يدان
تذكرت إني هالك وابن هالك ... فهانت عليّ الأرض والثقلان
فدع كل شيء خالف العزم إنه ... سيكفيكه جد إن معتلجان
وما يدرك الحاجات مثل مثابر ... ولا عاق عنها النجح مثل توان
أبو نصر بن أحمد الميكالي
قالوا تمهل في الذي ترتجي ... بلوغه من نافع الأمر
قلت التأني مظفر بالمنى ... لكنه يجحف بالعمر
آخر
على كل حال فاجعل الحزم عدة ... لما أنت باغيه وعوناً على الدهر
فإن نلت أمراً نلته عن عزيمة ... وإن قصرت عنك الحظوظ فعن عذر
إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب حاجبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
آخر
إذا فرصة أمكنت في العدى ... فلا تبد فعلك إلا بها
فإن لم تلج بابها مسرعاً ... أتاك عدوّك من بابها
ومن ممادح من عرف في قومه بالشجاعة ومد إلى قطف الرؤس سيفه وباعه قالوا فلان أبلغ صولة من أسد العرين وأشد منعة من الحصن الحصين وصف أعرابي رجلاً بالشجاعة فقال هو ابن الحرب أرضع بدرها وربى في حجرها وسئل أعرابي عن قومه فقال كانوا والله إذا اصطفوا تحت القتام صغرت بينهم السهام بشؤبوب الحمام وإذا تصافحوا بالسيوف فغرت أفواهها الحتوف فرب يوم شموس أحسنت أدبه عزمتهم وحرب عبوس أضحكتها أسنتهم ومدح أعرابي قومه فقال قومي والله ليوث حرب وغيوث جدب ليس لأسيافهم أغماد غير الهام ولا رسل للمنايا غير السهام وقالوا فلان يبادر المهل مبادرة الأجل الأمل أطراف الأسل أحلى عنده من لعق العسل ابن شرف القيرواني فلان قلبه يخرجه عن القلب وصرامته تقتاده إلى مكان الطعن والضرب رماحه نجوم ظلام القتام وسهامه رجوم شياطين الأنام لا ترد حاجته مواضيه ولا تمطله المغافر المنية عند تقاضيه شاعر مادحاً
يلقى السيوف بوجهه وبنحره ... ويقيم مهجته مقام المغفر
ما إن يريد إذا الرماح شجرنه ... ذرعاً سوى سربال طيب العنصر
ويقول للطرف اصطبر لشبا القنا ... فعقرت ركن المجد إن لم تعقر
أبو الفرج
يسعى إلى الموت والفنا قصد ... وخيله بالرؤس تنتعل
كأنه واثق بأنّ له ... عمراً مقيماً وماله أجل
آخر
كأنّ سيوفه صيغت عقوداً ... تجول على الترائب والنحور
وسمر رماحه جعلت هموماً ... فما يخطرن إلا في ضمير
البحتري مادحاً
يلقى السيوف بوجه منه ليس لها ... ظهر وهادي جواد ماله كفل
يسعى به البرق إلا أنه فرس ... في صورة الموت إلا أنه رجل
مسلم بن الوليد
لو أن قوماً يخلقون منية ... من بأسهم كانوا بني جيريلا
قوم إذا حمى الوطيس لديهم ... جعلوا الجماجم للسيوف مقيلا
ولآخر
وحامي بلاد اللّه من كل مارق ... له الطير ضيف والوحوش وفود
مليك له زهر النجوم أسنة ... إذا أمّ أفقاً والسحاب بنود
آخر
عقبان روع والسروج وكورها ... وليوث حرب والفنا آجام
وبدور تمّ والترائك في الوغى ... هالاتها والسائرون غمام
جادوا بممنوح التلاد وجودوا ... ضرباً بجديه الطلى والهام
وتجاوبت أسيافهم وجيادهم ... فالأرض تمطر والسماء تغام
البحتري
معشراً أمسكت حلومهم الأر ... ض وكادت لولاهم أن تميدا
فإذا الجدب جاء جاد واغيوثا ... وإذا النقع ثار ثاروا أسودا
وكأنّ الإله قال لهم في ال ... حرب كونوا حجارة أو حديدا
آخر
إن ترد خبر حالهم عن يقين ... فاتهم يوم نائل أو نزال
تلق بيض الوجوه سود مثار الن ... قع خضر الأكتاف حمر النصال
آخر
قوم شراب سيوفهم ورماحهم ... في كل معترك دم الأشراف
رجعت إليهم خيلهم بمعاشر ... كل لكل جسيم أمر كافي
يتحننون إلى لقاء عدوّهم ... كتحنن الآلاف للإيلاف
ويباشرون ظبا السيوف بأسهم ... أمضى وأقطع من مضي الأسياف
جبلت على سفك الدماء نفوسهم ... وأكفهم جبلت على الاتلاف
فإذا هم صدموا العدوّ بصارم ... خضبوا الأسنة من دم الأطراف
فنفوسهم تفني نفوس عداتهم ... وعطاؤهم يغني سؤال العافي
الفصل الثاني من الباب الحادي عشر
في ذكر ما وقع في الحروب
من شدائد الأزمات والكروب
قال بعض الحكماء جسم الحرب الشجاعة وقلبها التدبير ولسانها المكيدة وجناحاها الطاعة وقائدها الرفق وسائقها النصر وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن معد يكرب رضي الله عنهما صف لنا الحرب فقال مرة المذاق صعبة لا تطاق إذا شمرت عن ساق من صبر لها عرف ومن نكل عنها تلف ثم أنشدالحرب أوّل ما نكون فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشدّ ضرامها ... عادت عجوزاً غير ذات حليل
شمطات جدّت رأسها وتنكرت ... مكروهة للشم والتقبيل
وقيل لبعضهم صف لنا الحرب فقال أولها شكوى وأوسطها نجوى وآخرها بلوى تذاكروا الحروب عند معاوية فقال بدراً على واحد لطلحة والخندق للزبير حنين للعباس بن مرداس وأنا ذاكر من الحروب الواقعة في صدر الاسلام بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام أربعة وهي الجمل وصفين ويوم الحرة ويوم كربلا إذ هذه الحروب أشد الوقائع طعاناً وضراباً وأعظمها في الدين فجيعة ومصاباً لما قتل فيها من كبار آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته وعظماء أهل بيته وقرابته الجمل مبتدؤها أن طلحة والزبير خرجا مغاضبين لعلي رضي الله عنه بعد أن بايعاه لما هجس في نفوسهما من أن علياً رضي الله عنه هو الذي ألب على قتل عثمان رضي الله عنه حتى قتل وإن قتله كان عن رضا منه فقد ما مكة على عائشة رضي الله عنها وكانت قد خرجت من المدينة قبل قتل عثمان فاجتمعا يوماً عند عائشة رضي الله عنها في رجال من بني أمية فتذاكروا قتل عثمان ورغبوا عائشة في طلب الثار فاعتذرت إليهم بقلة ذات يدها فقال يعلى بن منية ومنية اسم أمه وكان عاملاً لعثمان على اليمن عندي أربعمائة ألف درهم مساعدة لكم وخمسمائة فارس أجهزها وقال عبد الله بن عامر بن كريز وكان عاملاً لعثمان على البصرة عندي ألف ألف درهم ومائة من الابل وأشار عليهم بالبصرة ثم نادى مناد بالتحريض على طلب دم عثمان فاجتمع لهم ألف منهم ستمائه على النوق وسواهم على الخيل والبغال ووهب يعلى بن منية الجمل وكان يدعى عسكراً وعمل عليه هو دجا من حديد ثم إنهم دخلوا طالبين البصرة وكان علي رضي الله عنه قد بلغه خبرهم وهو في المدينة فخرج منها في تسعمائة فيهم سبعون بدرياً ووصلت عائشة البصرة بمن معها وكانوا زهاء ثلاثة آلاف فمنعهم عثمان بن حنيف عامل علي من دخولها فأخذوها منه بعد حرب وقعت بينهم قتل فيها كل من خرج يطلب قتل عثمان أو أعان عليه إلا رجل واحد يسمى حرقوص بن وهب فإن بني سعد منعته وأخذوا عثمان بن حنيف فنتفوا لحيته ورأسه وحاجبيه وأشفار عينيه فجاء علياً رضي الله عنه وقال يا أمير المؤمنين بعثتني بلحية وجئتك أمرد أو كان عثمان بن حنيف من كبار الصحابة وبايع أهل البصرة طلحة والزبير ووصل علي إلى الكوفة فاستنجدهم فأنجدوه باثني عشر ألف رجل وسار حتى وصل إلى جانب البصرة فنزل وأقام تلك الليلة ثم ناشدهم الله في الدماء فأبوا إلا القتال فخرج علي رضي الله عنه وهو راكب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتقى الجمعان فكان أول من قتل طلحة وانهزم الزبير فلحقه ثلاثة نفر منهم عمرو بن جرموز السعدي بوادي السباع عدوا فقتله وهو ساجد وقيل نائم غيلة ووادي السباع برقة واسط بين البصرة والكوفة وفيه يقول جرير بن عطية بن الخطفي عاتباً على بني مجاشع قتل الزبير
اني تذكرني الزبير حمامة ... تدعو ببطن الواديين هديلا
قالت قريش ما أذل مجاشعا ... جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا
لو كنت حرّا يا ابن قين مجاشع ... شيعت ضيفك فرسخاً أو ميلا
أفبعد قتلكم خليل محمد ... ترجو القيون مع الرسول سبيلا
أفتى الندى وفتى النزال غدرتم ... وفتى الرماح إذا تهب بليلا
لو كنت حين غدرت بين بيوتنا ... لسمعت من صوت الرماح صليلا
وحماك كل معاور يوم الوغى ... ولكان شلو عدوّك المأكولا
وقتل محمد بن الزبير وجرح عبد الله أخوه سبعاً وثلاثين جراحة وأطاف بنو ضبة والأزد بالجمل واقبلوا يرتجزون
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننزل بالموت إذا الموت نزل
والموت أحلى عندنا من العسل ... تبغي ابن عفان بأطراف الأسل
فقطع على خطام الجمل سبعون يداً من بني ضبة فلما التحمت الحرب واستعرت نارها نادى علي رضي الله عنه اعقروا الجمل فانه إن عقر تفرقوا فعقره عمرو ابن دلجة وأخذته السيوف من كل جانب حتى وقع وقتل حوله خلق كثير ومال الهودج وسمع صارخ يقول راقبوا الله في حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي لابنه الحسن هلكت قال قد نهيتك عن مسيرك قال لم أكن أرى أن الأمر يصير إلى هذا وجاء أعين بن ضبيعة حتى اطلع في الهودج فقال ما أرى إلا خيراً قالت هتك الله سترك وأبدى عورتك فقتل بعد ذلك بالبصرة وصلب وقطعت يداه ورجلاه ورمى به عرياناً في خربة من خراب الأزد وقيل إن علياً لما وقف عليها ضرب الهودج بقضيب وقال يا حميراء ارسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا ألم يأمرك أن تقري في بيتك والله ما انصفك الذين أخرجوك إذ صانوا حلائلهم وابرزوك فيقال إنها قالت له قد ملكت فأسحج ثم أمرها بالمسير وأذن لأصحابها أن يسافر معها من أراد السفر فسافر بعض وبقي بعض وقال البلادري في تاريخه إن علياً رضي الله عنه أعطاها حين أشخصها إلى مكة عشرة آلاف درهم ورجعت إلى مكة يوم السبت غرة رجب سنة ست وثلاثين وشيعها علي أمياً لا وقصدت مكة فأقامت بها إلى الحج ثم خرجت إلى المدينة وكانت الوقعة في الموضع المعروف بالحربية لعشر خلون من جمادي الآخرة وقيل في يوم الجمعة النصف من جمادي الأولى وعدة من قتل يوم الجمل ثمانية آلاف رجل من أصحاب عائشة وألف من أصحاب علي رضي الله عنهم أجمعين وفي وقعة الجمل يقول عثمان بن حنيف
شهدت الحروب فشيبنني ... ولم أر يوماً كيوم الجمل
أشدّ على مؤمن فتنة ... وأقتل منه لحرّ بطل
فليت الظعينة في بيتها ... وليتك عسكر لم ترتحل
يعني الجمل الذي كانت عليه عائشة وحكى أبو طالب المكي في القوت أن علياً رضي الله عنه قال لابنه محمد بن الحنفية وقد قدمه امامه يوم الجمل أقدم اقدم ومحمد يتأخر وهو يكرهه بقائم الرمح فالتفت إليه محمد وقال هذه والله الفتنة المظلمة العمياء فوكزه علي رضي الله عنه بالرمح وقال له تقدم لا أم لك أتكون فتنة أبوك قائدها وسائقها صفين ولما فرغ علي رضي الله عنه من حرب الجمل وانصرف إلى الكوفة بعث جرير بن عبد الله البجلي إلى معاوية يخيره بين حرب معضلة أو يسلم بجزيه فان اختار الحرب فانبذ إليه على سواء إن الله لا يحب الخائنين وإن اختار السلم فخذ بيعته وارجع فلما بلغ جرير الرسالة إلى معاوية أرسل إلى عمرو بن العاص فلما حضره أعلمه بما أتى فيه جرير فقال له أما علي فوالله لا تسوي العرب بينك وبينه في شيء وإن له في الحرب لحظاً ما هو لأحد في قريش قال صدقت ولكنا نقاتل على ما بأيدينا ونلزمه قتل عثمان ثم قال له مديدك وبايعني فقال والله لا أعطيك شيأً من ديني حتى آخذ من دنياك ويقال بل أنشده
معاوي لا أعطيك ديني ولم أنل ... لديك بدنيا فانظرن كيف تصنع
فان تعطني مصراً فأربح بصفقة ... أخذت بها شيخاً يضر وينفع
فأعطاه مصر طعمة وكتب له بذلك شروطاً وأشهد عليه شهوداً فبايعه عمرو بن العاص وتعاهدوا على الوفاء وكتب معاوية إلى علي بأن لا طاعة له عليه فلما ورد جرير على علي بما كتب إليه معاوية أمر الناس بالخروج إلى صفين لقتال معاوية فاجتمع له من الخيل تسعون ألفاً فيهم سبعون بدرياً وممن بائع تحت الشجرة سبعمائة ومن المهاجرين والأنصار أربعمائة وذلك لخمس خلون من شوال سنة ست وثلاثين وبلغ معاوية خروج علي فجمع من الجنود خمسة وثمانين ألفاً وقيل مائة وعشرين الفاً وسبق علياً إلى صفين فنزل على موضع سهل أفيح معشب قريب من الفرات ونزل علي على مواضع بعيدة من الماء والعشب فبات وجيشه عطاش قد حيل بينهم وبين الماء فأشار عمرو على معاوية أن يمكن علياً من ورود الماء فقال لا والله أو يموتوا عطشاً كما مات عثمان فاشتكى أصحاب علي العطش فأمرهم بالمسير وقدم عليهم الأشتر والأشعث بن قيس فساروا وعلي من وراء الجيش حتى هجموا على عسكر معاوية فأزالوهم عن الشريعة وغرق منهم خلق كثير وارتحل معاوية إلى ناحية من البر بعيدة من الماء وأرسل إلى علي يستأذنه في استفاء الماء من طريقه فأذن له وأجابه إلى ذلك ثم بعث علي إلى معاوية يدعوه إلى اجتماع الكلمة وحقن الدماء وطالت المراسلة بينهما فاتفقا على الموادعة إلى آخر المحرم من سنة سبع وثلاثين فلما كان آخر المحرم كتب علي إلى أهل الشأم يحذرهم الوقوع في الهلكة فأبوا إلا الحرب والقتال حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فعبى علي جيشه يوم الأربعاء مستهل صفر وقدم عليهم الأشتر وتصاف أهل الشأم والعراق ووقع القتال بينهم فكان هذا دأبهم في كل يوم إلى السابع من صفر وفيه قتل عمار بن ياسر من أصحاب علي قتله أبو العادية العاملي وله من العمر ثلاث وتسعون سنة وكان في حرب صفين خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين مع علي كافاً سلاحه فلما قتل عمار خرج يطلب المبارزة وهو يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعمار يا عمار تقتلك الفئة الباغية ثم كانت بينهم حرب أخرى قتل فيها ذو الكلاع وعبيد الله بن عمار ثم كانت بعد ذلك ليلة الهرير قتل فيها خلق كثير وكانت ليلة جمعة فلما رأى معاوية ان قد فشا القتل في أصحابه قال لعمرو بن العاص هلم مخبأتك فقد هلكنا وذكره ولاية مصر فأمر أن ترفع المصاحف وان يقال ما فيها حكم بيننا وبينكم يا أهل العراق فرفعوها وكانت زهاء خمسمائة مصحف ونادوا من لثغور الشأم بعد أهل الشأم ومنل ثغور العراق بعد أهل العراق من لجهاد الروم والترك فعند ذلك اختلف أصحاب علي فمنهم من أراد القتال ومنهم من أراد الكف فقال علي رضي الله عنه بالأمس كنت أميراً وأصبحت اليوم مأموراً ثم أرسل الأشعث بن قيس إلى معاوية يسأله لأي شيء رفعت المصاحف قال لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه تبعثون رجلاً منكم ترضونه ونبعث رجلاً منا نرضاه ليعملا فينا بكتاب الله ونتبع ما اتفقا عليه فقال الأشعث هذا هو الحق وانصرف إلى علي وأخبره بما قال معاوية فقال الناس رضينا فاختار أهل الشأم عمرو بن العاص واختار أهل العراق أبا موسى الأشعري واسمه عبد الله بن قيس واختار علي عبد الله بن عباس فقالوا والله لا نريد إلا رجلاً هو من معاوية ومنك على السواء قال فاصنعوا ما أردتم فجمعوا بين عمرو بن العاص وأبي موسى وأخذوا عليهما العهد والميثاق أن لا يخونا وأخذ الحكمان من علي ومعاوية والحسنين المواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأن يكون منهم المبايعة على ما يرضيانه ثم خرجا واجتمعا في دومة الجندل في شهر شعبان سنة ثمان وثلاثين فقال عمرو لأبي موسى إن هذه الفتنة لا تزال قائمة ما دام واحد من هذين الاثنين متولياً إمرة المسلمين فقال أبو موسى فما ترى قال أرى أن يصعد كل واحد منا المنبر ويخلع صاحبه وندعها شورى بين المسلمين يولون أمرهم من أرادوا فأجابه إلى ذلك وتقدم أبو موسى وصعد المنبر وقال أيها الناس انا نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر اجتمع رأيي ورأي عمرو عليه وهو أن يخلع كل واحد منا صاحبه ويجعل أمر المسلمين إليهم يولون عليهم من أحبوا وإني خلعت علياً فاستقبلوا أمركم وولوا من شئتم ونزل ثم صعد عمرو فحمد الله وأثنى عليه قال قد قال أبو موسى ما سمعتم من خلع صاحبه وإني خلعته كما خلعه وأثبت معاوية كما
أثبت حميلة سيفي هذا في عنقي فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق والله بمقامه ثم نزل فاختلف عند ذلك كلمة الجيشين فلما رأى علي اختلافهما رحل قاصداً الكوفة ولحق معاوية بدمشق وانصرف عمرو بأهل الشأم بعد ذلك إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة وبايعوه فكان علي رضي الله عنه بالعراق ومعاوية بالشأم إلى سنة أربعين وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه في رمضان وهو ابن اثنتين وستين سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا شهراً واحداً ومدة ولاية معاوية أربعين سنة منها أميراً على الشأم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان عشرون سنة وخليفة عشرون سنة وتوفي سنة ستين ولما انفصل أهل الشأم وأهل العراق من هذه الحروب رجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه إذا صلى الغداة لعن معاوية وعمراً وأصحابه فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وحسناً وحسيناً والأشتر ولم يزل الأمر على ذلك برهة من ملك بني أمية إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فمنع من ذلك وجعل مكان اللعن في الخطبة ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم وقتل بصفين من أهل العراق والشأم في مدة مائة يوم وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آلاف وقيل سبعون ألفاً من أهل الشأم خمسة وأربعون ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً والله أعلم وكانت الوقائع تسعين وقعة وعدة من حضر في صفين من أهل الشأم مائة وعشرون ألفاً ومن أهل العراق مائة ألف وعشرة آلاف فيكون جملة الفريقين مائتي ألف وثلاثين ألفاًبت حميلة سيفي هذا في عنقي فإنه ولي عثمان والطالب بدمه وأحق والله بمقامه ثم نزل فاختلف عند ذلك كلمة الجيشين فلما رأى علي اختلافهما رحل قاصداً الكوفة ولحق معاوية بدمشق وانصرف عمرو بأهل الشأم بعد ذلك إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة وبايعوه فكان علي رضي الله عنه بالعراق ومعاوية بالشأم إلى سنة أربعين وفي هذه السنة قتل علي رضي الله عنه في رمضان وهو ابن اثنتين وستين سنة وكانت مدة خلافته خمس سنين إلا شهراً واحداً ومدة ولاية معاوية أربعين سنة منها أميراً على الشأم لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان عشرون سنة وخليفة عشرون سنة وتوفي سنة ستين ولما انفصل أهل الشأم وأهل العراق من هذه الحروب رجع ابن عباس وشريح بن هانئ إلى علي رضي الله عنه وكان علي رضي الله عنه إذا صلى الغداة لعن معاوية وعمراً وأصحابه فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت لعن علياً وابن عباس وحسناً وحسيناً والأشتر ولم يزل الأمر على ذلك برهة من ملك بني أمية إلى أن ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة فمنع من ذلك وجعل مكان اللعن في الخطبة ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم وقتل بصفين من أهل العراق والشأم في مدة مائة يوم وعشرة أيام مائة ألف وعشرة آلاف وقيل سبعون ألفاً من أهل الشأم خمسة وأربعون ومن أهل العراق خمسة وعشرون ألفاً والله أعلم وكانت الوقائع تسعين وقعة وعدة من حضر في صفين من أهل الشأم مائة وعشرون ألفاً ومن أهل العراق مائة ألف وعشرة آلاف فيكون جملة الفريقين مائتي ألف وثلاثين ألفاً
يوم كربلاء
لما بويع يزيد بالخلافة وذلك في رجب سنة ستين خرج الحسين كارهاً للبيعة من المدينة إلى مكة فبلغ أهل الكوفة امتناعه فكتبوا إليه يحرضونه على المسير إليهم ويعرفونه بأنهم شيعته وشيعة أهل بيته وأنهم يقاتلون عدوه حتى يقتلوا أنفسهم دونه فقدم الكتاب على الحسين لعشر خلون من رمضان سنة ستين فبعث إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب للمبايعة له فبايعوه فكتب بذلك عامل الكوفة من قبل يزيد وهو عبد الله بن مسلم إلى يزيد يعلمه بذلك فلما بلغ يزيد ذلك عقد لعبيد الله بن زياد بولاية الكوفة وأمره بقتل مسلم بن عقيل فسار حتى دخل الكوفة على حين غفلة من أهلها وهو ملتئم يظنونه الحسين فجعل لا يمر على ملا من الناس إلا قالوا مرحبا بابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت خير مقدم فلما سمع مقالتهم حسر لهم عن وجهه فلما رأوه داخلهم كآبه وحزن وخاف مسلم على نفسه فاستجار بهانئ بن عروة فأرسل إليه عبيد الله يطلبه منه فقال لا أسلم إليك من استجار بي ظناً منه أن قومه سيمنعونه منه فتوعده وتهدده فقال والله لو كان تحت قدمي هاتين ما رفعتهما عنه فاصنع ما بدا لك فضربه على وجهه فأدماه وهشم أنفه وأمر به فحبس فلما بلغ مسلم ابن عقيل ذلك أمر أن ينادي في أصحابه وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفاً فاجتمع حول داره منهم أربعة آلاف فجاء الصارخ بذلك إلى عبيد الله فخرج من المسجد إلى القصر فزعاً مسرعاً وأغلق أبوابه وأحاط مسلم بن عقيل به فيمن معه من كل ناحية ولم يكن مع عبيد الله في القصر إلا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون من أشراف الناس فبينما هم كذلك إذ أقبل كثير بن شهاب فيمن أطاعه من مذحج فنادى أيها الناس ألحقوا بأهاليكم ولا تعرضوا أنفسكم للقتل فان هذه جيوش أمير المؤمنين يد مقبلة وقد أقسم الأمير عبيد الله لئن لم ترجعوا عن حربه ليأخذن البرئ بالسقيم والغائب بالحاضر حتى لا يبقى منكم باقية فتفرق الناس وجعل الرجل يخوف أخاه بجند الشام والمرأة تخوف ولدها فأمسى مسلم بن عقيل ومعه ثلاثون ألفاً فخرج متوجهاً نحو أبواب كندة فما بلغ الأبواب ومعه عشرة ثم خرج من الأبواب وما معه انسان فمضى على وجهه لا يدري أين يذهب فالتجأ إلى دار امرأة تسمى طوعة فمنعته الجلوس على بابها ولم تكن تعرفه فقال لها افعلي معي معروفاً لعلي أكافئك عليه بعد قالت وما ذاك قال أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغروني فرقت له وحنت عليه وأخذت بيده وأدخلته دارها وكانت للأشعث بن قيس فلما كان الغد صعد عبيد الله بن زياد المنبر فحمد الله على انتصاره ثم قال برئت الذمة ممن وجدنا مسلم بن عقيل في داره ومن جاء به فله ديته فقام محمد بن الأشعث وقال إن بلال بن أسيد أخبرني إن عقيل بن مسلم عند أمه فقال قم وأتني به فقام ابن الأشعث في ستة عشر رجلاً حتى أتوا الدار فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل نهض إليهم بسيفه فاقتحموا عليه الدار فضربهم حتى أخرجهم وخرج خلفهم مصلتاً سيفه ومانعاً عن نفسه فقال له ابن الأشعث يا فتى لا تقتل نفسك ولك الأمان وهو يدافع عن نفسه ويقول
أقسم لا أقتل إلا حرّا ... وإن رأيت الموت شيأً نكرا
كل امرئ يوماً ملاق شرّا ... أخاف أن أكذب أو أغرّا
فقال ابن الأشعث لا تكذب ولا تغر أنا زعيمك بالوفاء والذمام فلما ألقى سلاحه تواثبوا عليه وأخذوه وحمل إلى عبيد الله فقال له يا فاسق إن نفسك منتك ما حيل بينك وبينه قتلني الله إن لم أقتلك قتله لم يقتلها أحد قبلك في الاسلام ثم أمر كثير بن حمران الأحمري أن يصعد به إلى سطح القصر وأن يرمي به ففعل فلما فعل به كذلك لم يمت فأمر بضرب عنقه فضربت ثم ضرب رقبة هانئ بعده وصلبت جثة مسلم وحمل رأسه إلى دمشق وكان قتل مسلم بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة سنة ستين وفي ذلك اليوم خرج الحسين من مكة قاصداً نحو الكوفة بعد ما وصله كتاب مسلم يخبره فيه أن أهل الكوفة معك فأقبل حين تقرأ كتابي فاني قد بايعتهم لك فبينما هو سائر بأصحابه نحو الكوفة إذ مر به رجل من أهلها فسئل عما وراءه فذكر أنه لم يخرج منها حتى قتل مسلم وهانئ ورآهما يجران بأرجلهما في السوق فهم بالرجوع فقال له بعض أصحابه والله ما أنت كمسلم ولو قدمت الكوفة لكان الناس أسرع إليك من السيل في المكان المنحدر فسار وإذا طلائع خيل قد أقبلت نحوه فنزل الحسين وأمر بالأخبية فضربت وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد اليربوعي وكان نازلاً على القادسية ينتظر قدوم الحسين فلما اجتمعا قال له الحر ما الذي أقدمك العراق قال له والله ما خرجت حتى أتتني كتبكم مع رسلكم فقال له الحر والله ما ندري ما هذه الكتب وقد أمرنا انا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة فقال ثكلتك أمك الموت دون ما قلت فقال الحر لو غيرك قالها من العرب ما تركت ذكر أمه وإذ قد أبيت فخذ طريقاً لا تدخلك الكوفة ولا تردك إلى المدينة فأبى وسار والحر بن يزيد معه حتى أتوا على قرية فسأل الحسين عنها فقالوا العقر فقال نعوذ بالله منه أي من العقر وهي كربلاء فنزل فيها وذلك يوم الخميس الثاني من المحرم سنة إحدى وستين فلما كان من الغد قدم عليهم عمرو بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف فارس فلما اجتمعوا كتب عمرو إلى عبيد الله يسعى في صلاح الحال معه وعوده انا قد اجتمعنا بالحسين في كربلاء ونحن ننتظر أمرك فيه فكتب إليه حل بين الحسين وبين الماء كما فعل بالزكي النقي عثمان بن عفان فمنعوه وأصحابه الماء ثم أنفذ إليهم الشمر بن ذي الجوشن وأمره أن يسمع لعمرو بن سعدان هو قاتل وإن أبى فتقدم أنت على العسكر فأقبل شمر على عمرو بن سعد وبلغه ما قال عبيد الله فاستعض لذلك وقال لا ولا كرامة ولكن أنا أتولى ذلك ثم نادى يا خيل الله اركبي وذلك عشية الخميس لتسع خلون من المحرم ثم تقدموا نحو الحسين فأرسل إليهم أخاه العباس يسألهم التأخير لصبيحة غد فأجابوه إلى ذلك فلما صلى الغداة يوم الجمعة وقيل يوم السبت وهو يوم عاشوراء خرج عمرو فيمن معه من الناس وخرج الحسين وأصحابه وكانوا اثنين وثلاثين فارساً وأربعين راجلاً ثم وقف فيهم على راحلته ونادى أيها الناس أجمعوا أمركم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين فسمعه نساؤه فبكين ثم قال انسبوني وانظروا من أنا هل على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري فسمعته أخته فاطمة فقالت اليوم ماتت فاطمة أمي وعلي أبي والحسن أخي يا خليفة الماضي وثمال اليتامى فقال مجيباً لها ولو ترك القطا ليلاً لناما فجاءه الحر بن يزيد اليربوعي فقال له ما جاء بك قال جئتك تائباً مما كان مني مواسياً لك بنفسي افترى ذلك لي توبة قال نعم يتوب الله عليك ويغفر لك ثم أقبل الحر بوجهه على أصحاب ابن زياد وقال لهم اتقوا الله في ابن بنت رسول الله نبيكم حلتم بينه وبين الماء الذي يلغ فيه الكلب ويرده الكافر وها أصحابه قد صرعهم العطش فبئسما خلفتم محمداً في أهل بيته فحمل عليه رجال منهم ونشب الحرب بينهم فجعل الحر ينشد يحمل على القوم ويقول
واللّه لا تقتل حتى أقتلا ... ولن أصيب اليوم إلا مقتلا
أضربهم بالسيف ضرباً فيصلالا ناكلاً عنهم ولا مهللا ولم يزل يقاتل حتى قتل ثم حمل أصحاب عمرو بن سعد على أصحاب الحسين حملة رجل واحد فقتلوهم كلهم وكان أول من قتل من آل بني طالب علي بن الحسين الأكبر وبقي الحسين وحده وكان الناس قد توقوا قتله فكان بعضهم يحيل على بعض وصاح شمر لعنه الله بأصحابه أن اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم فحمل عليه من كل جانب فضربه زرعة بن شريك بالسيف فقطع يساره وطعنه سنان ابن أنس النخعي بالرمح فصرعه ونزل إليه فاحتز رأسه من قفاه وأخذها ووجد فيه رضي الله تعالى عنه ثلاث وثلاثون جرحاً وثلاثون طعنة والكل فيما أقبل من وجهه وقيل مائة وعشرون جراحة ما بين طعنة برمح ورشقة بسهم ورمية بحجر وضربة بسيف وكانت عليه جبة خز دكناء فصارت كأنها جلد قنفذ من السهام ثم سلبه إسحق بن جنوة قميصه فبرص وسلبه يحيى بن كعب سراويله فعمي ونادى عمرو بن سعد من ينتدب للحسين فيطؤه بفرسه فانتدب له إسحق ابن جنوة وتسعة من أصحابه فوطؤا ظهره وصدره حتى رضوه رحمة الله تعالى عليه ولعن قاتله والمعين له وأتى سنان بن أنس براس الحسين إلى عبيد الله ابن زياد فلما دخل عليه قال
أوقرر كابي فضة وذهبا ... انا قتلت السيد المحجبا
أكرم خلق اللّه أمّاً وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون النسبا
فظفر به المختار بن أبي عبيد فقتله وأحرقه ثم بعث بالرأس مع محفيد بن ثعلبة العائدي إلى يزيد بن معاوية فلما دخل عليه قال له جئتك برأس ألأم الناس ما ولدت مخدرة الأم وأوضع ثم جعل يضرب ثناياه بقضيب خيزران كان في يده وينشد
أبي قومنا أن ينصفونا فأنصفت ... قواضب في ايماننا تقطر الدما
تفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
أما والله لوددت إني أتيت بك مسلماً ولو وليتك ما قتلتك ثم قدم إليه علي بن الحسين والحسن بن الحسن فقال لعلي أنت أبوك قطع رحمي ونازعني سلطاني فجزاه الله جزاء القطيعة للرحم فقال علي ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها فقال يزيد وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ويروى أنه لما قتل الحسين رضي الله عنه قدم على يزيد المذحجي فقال له ما وراءك قال ابشر يا أمير المؤمنين بفتح الله ونصره ورد علينا الحسين بن علي في ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته فرنا إليهم فألناهم أن يستسلموا وينزلوا على حكم الأمير عبيد الله أو القتال فاختاروا القتال على الاستسلام فعدونا عليهم مع شروق الشمس فاحتطنا بهم من كل ناحية حتى أخذتهم السيوف مأخذها من هؤلاء القوم وجعلوا يلجؤن إلى غرور ويلوذون منا بالآكام والحفر لنادي الحمام من العقر فوالله يا أمير المؤمنين ما كان إلا قدر جزر جزور أو نومة قائل حتى أتينا على آخرهم فهاتيك أجسادهم مجردة وثيابهم مزملة وخدودهم معفرة تضربهم الشمس وتسفي عليهم الريح وفوقهم العقبان والرخم بقفر سبسب لا مكفنين ولا موسدين فدمعت عينا يزيد وقال كنت أرضى منكم ومن طاعتكم بدون قتل الحسين لعن الله ابن سمية أما والله لو أني بصاحبه لعفوت عنه فرحم الله الحسين فلم يصله بشيء ويقال إنه لما حمل رأس الحسين إلى يزيد ابن معاوية ووضع بين يديه خرجت كف يد من الحائط فكتبت في جبهته
أترجو أمة قتلت حسيناً ... شفاعة جدّه يوم الحساب
وقتل رضي الله عنه وله من العمر خمس وقيل ست وقيل سبع وخمسون سنة وقتل معه ثمانية عشر رجلاً من أهل بيته وستون رجلاً من شيعته ولما وصل خبر مقتله إلى المدينة وكان والياً عليها يومئذ عمرو بن سعيد بن العاص المعروف بالأشدق قام منادياً فنادى بقتله فصاح نساء بني هاشم وخرجت ابنة عقيل بن أبي طالب حاسرة وهي تقول
ماذا تقولون إن قال النبيّ لكم ... ماذا فعلتم وأنتم خيرة الأمم
بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي ... منهم أسارى ومنهم مضرج بدم
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي
وفي يوم قتله من العام القابل قتل عبيد الله بن أبي زياد قتله المختار بن أبي عبيدة وقتل المختار مصعب بن الزبير وقتل مصعباً عبد الملك بن مروان فيا لله العجب كيف وإني يهدر دماء بني البتول وسيف النصر على الباغي بيد الزمان مسلول
يوم الحرة
وسببه أن جماعة من أشراف المدينة منهم عبد الله بن حنظلة وبنوه ثمانية والمندر بن الزبير قدموا من عند يزيد بن معاوية وكان قد أكرمهم وحملهم وكساهم فأظهروا شتمه وأكثروا سبه وعيبه للناس وقالوا قدمنا من عند رجل شريب فسيق يلعب بالكلاب ويسامر القرود والقيان وانا نشهدكم أن قد خلعناه وتبرأنا منه فكتب عثمان بن حيان والي المدينة من قبل يزيد إليه يعلمه بما أجمعوا عليه فكتب يزيد إلى أهل المدينة أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال وإني والله لقد لبستكم فأبليتكم ورقعتكم حتى خرقتكم وإني وضعتكم على رأسي ثم على صدري ثم على بطني وأيم الله لئن وضعتكم تحت قدمي لاطأنكم وطأة أقل بها عددكم وأقل بها عددكم وأترككم أحاديث تنسخ أخباركم مع أخبار عاد وثمود فإن شئتم فلا أفلح من ندم وكتب في آخر الكتاب متمثلاً بقول الشاعرلقد بدلوا الحلم الذي من سجيتي ... فبدلت قومي غلظة بليان
فلما وصل إليهم الكتاب وقرئ عليهم أبوا إلا خلعه وازدادوا عليه تغيظاً وفيه كراهة ثم بايعوا عبد الله بن حنظلة ووثبوا على عثمان بن حيان وأخرجوه من المدينة وأخرجوا من كان فيها من بني أمية ومواليهم وكانوا نحواً من ألف فنزلوا دار مروان بن الحكم فخرجوا إليهم وحصروهم فيها فكتب مروان إلى يزيد يعلمه بما جرى فوصل إليه الكتاب ليلاً وعنده الضحاك بن قيس فقرأه عليه ثم قال له ما الراي قال يا أمير المؤمنين قومك وعشيرتك وبلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه وأرى أن تعفو عنهم وتتغمد ذنوبهم فقال اخرج عني ثم دعا مسلم بن عقبة المري قال فما لبث أن دخل رجل أعور ثائر الرأس كأنما يقلع رجله من وحل إذا مشى فرمى إليه بالكتاب فلما قرأه احمر وجهه وأزبد شدقه فقال له يزيد ما الرأي قال أرى أن تبعث إليهم جيشاً رجاله غليظة أكتافهم طويلة رماحهم فيطؤنهم حتى يكونوا نكالاً لمن خلفهم فقال له يزيد كنت لها لولا أنك ضعيف فقال يا أمير المؤمنين إن كنت تريدني لمصارعتهم فإني ضعيف وإن كنت تريدني للراي فإني قوي فأمره يزيد بالتجهز فما أصبح إلا وعلى باب يزيد عشرون ألفاً وفيهم مسلم بن عقبة فاستدعاه يزيد وقال له سر فإن حدث بك أمر فاستخلف الحصين بن نمير وادع أهل المدينة ثلاثاً فإن أجابوك وإلا قاتلهم فإن أطاعوا أمرنا فانصرف عنهم إلى ابن الزبير فإن قاتلتهم وظفرت بهم فابحها ثلاثاً واستوص بعلي بن الحسين خيراً ثم ودعه وانصرف بمن معه من الجيش فلما سمع أهل المدينة بقدوم الجيش غور والمياه التي بينهم وبين أهل الشأم فأرسل الله السماء فلم يسيتق أصحاب مسلم بدلو حتى قدموا المدينة وكان أهل المدينة قد أطلقوا بني أمية فخرجوا قاصدين الشأم فلقوا مسلماً بالجيش فرحب بهم وسألهم عن أهل المدينة فأخبروه بحالهم وشاورهم أين يكون نزوله من نواحي المدينة فأشار عليه عبد الملك بن مروان أن ينزل بالجيش من قبل الحرة فإنها مشرفة على المدينة وإن أهلها ينظرون من تألق بيضكم وأسنة رماحكم وسيوفكم ما لا يراه أصحابك منهم فنزلها فلما رآهم أهل المدينة خرجوا في جموع كثيرة وهيئة لم ير مثلها فلما رآهم أهل الشأم أكبروهم وكرهوا قتالهم فكتب مسلم إليهم يحذرهم سطواته وينذرهم فتكاته فأبوا قبول ما دعاهم إليه من الانقياد لطاعته فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وستين نادى مناديه يا أهل المدينة قد مضى الأجل فما تصنعون أتسالمون أم تحاربون فقالوا بل نحارب ثم خرجوا وطلبوا البراز فأمر مسلم أن يعيي الجيش وضرب لهم فسطاطاً ووقع القتال وجعل مسلم يعد قومه ويمنيهم وعبد الله بن حنظلة الغسيل يحرض قومه ويقدم أولاده واحداً بعد واحد حتى قتلوا ثم حمل عليه فقتل وقتل يومئذ ثمانية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أهل الشأم لبني أمية ألهؤلاء جئتم بنا حتى نقتلهم ثم اشتد القتال وكثر القتل حتى انهزم أهل المدينة فدخلوها وتحصنوا بها فيئس منهم مسلم فدله رجل من بني حارثه على طريق سالكة إلى المدينة فسلكه بمن معه حتى دخلها فلما رأى أهلها الجيش قد صار معهم تفرقوا فقتلوا في كل جهة وذلك لثلاث من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ثم انتهبوها ثلاثاً وأقاموا بها حتى رأوا هلال المحرم ثم أخذ مسلم البيعة على أهل المدينة إنهم عبيد قيان ليزيد بن معاوية إن شاء أعتق وإن شاء قتل ثم ركب مسلم الفاسق لعنه الله وخرج إلى الحرة يطوف في القتلى ومعه مروان ابن الحكم فمر على عبد الله بن حنظلة وهو ماد اصبعه نحو السماء فقال والله لئن نصبتها ميتاً لطالما نصبتها حياً داعياً إلى الله ومر على إبراهيم بن نعيم فوجد فرجه مستوراً بيده فقال والله لئن حفظته عند الوفاة لقديماً حفظته في حال الحياة ومر على محمد بن عمر بن حزم وهو واضع جبهته على الأرض فقال أما والله لئن كنت على جبهتك بعد الموت لطالما فرشتها الله ساجداً في طول الحياة فقال والله ما هؤلاء إلا من أهل الجنة ثم إن مسلماً حز رؤس القوم وأرسلها إلى يزيد فيقال إنه أنشد لما ألقيت بين يديه بيت ابن الزبعري
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
قال الواقدي قتل يوم الحرة سبعمائة من حملة القرآن وقيل قتل سبعمائة من قريش والأنصار وقتل ممن لا يعرف عشرة آلاف ثم سار مسلم لعنه الله يريد مكة لقتال عبد الله بن الزبير فلما كان بقديد مات فدفن بالمشلل وقيل بثنية هرشي وكان موته لسبع بقين من المحرم سنة أربع وستين وفي هذه السنة مات يزيد في الرابع عشر من ربيع الأول وله من العمر ثمان وثلاثون سنة وكانت مدة خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر ولما مات مسلم جاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة فنبشته وأحرقته وقيل بل أخرجته وصلبته وفيما ذكرنا من هذه الحروب اقناع يعز به المخبر إذا سئم من المطاولة المستخبر
وأحسن ما لحق بهذا الفصل وتلاه ... وصف عظم الجيش ومصارع قتلاه
أبلغ ما وصف به عظم الجيش قول مالك بن الريث من أبيات
بجيش لهام يشغل الطير جمعه ... عن الأرض حتى ما يجدن منازلا
السلامي
والجو ستر بالنسور مطير ... والأرض فرش بالخيول مخيل
يهفو العقاب على العقاب فيلتقي ... بين الفوارس أجدل ومجدل
ولا مزيد في الحسن على ما قاله أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من أبيات يمدح بها المعتصم جاء منها قوله
لما رأيت الذين يخفق قلبه ... والكفر فيه تغطرس وعرام
أوريت زند عزائم تحت الدجى ... أسرجن فكرك والبلاد ظلام
فنهضت تسحب ذيل جيش ساقه ... حسن اليقين وقاده الاقدام
ملأ الملا عصباً فكاد بأن يرى ... لا خلف فيه ولا له قدام
بسواهم لحق الأباطل شرب ... تعليقها الأسراج والألجام
ومقابلين إذا انتموا لم يخزهم ... في نصرك الأخوال والأعمام
تخذوا الحديد من الحديد معاقلاً ... سكانها الأرواح والأجسام
مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام
آساد موت مخدرات مالها ... إلا الصوارم والقنا آجام
حتى نقضت الروم عنك بوقعة ... شنعاء ليس لنقضها ابرام
في معرك أما الحمام فمفطر ... في هبوتيه والكماة صيام
والضرب يقعد قرن كل كتيبة ... شرس الضريبة والحتوف قيام
فقصمت عروة جمعهم فيه وقد ... جعلت تفصم عن عراها الهام
ابن عبد ربه صاحب العقد
وجيش كظهر اليمّ ينفحه الصبا ... يعب عبابا من قنا وقنابل
فينزل أولاه وليس بنازل ... ويرحل اخراه وليس براحل
ومعترك ضنك تعاطت كماته ... كؤس دماء من كلى ومفاصل
يديروا بها راحاً من الروح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل
وتسمعهم أمّ المنية وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل
أبو الفرج الببغا
فإذا الجياد إلى الجياد عوابساً ... شعثاً ولولا بأسه لم تنفد
في جحفل كالسيل أو كالليل أو ... كالقطر طافح قطر بحر مزبد
متوقد الجنبات تعتنق القنا ... فيه اعتناق تواصل وتودد
متعجر بضيا الصوارم مبرق ... تحت العجاج وبالصواهل مرعد
ردّ الظلام على الضحى واسترجع ... الأصباح من ليل الغبار الأزبد
وكأنما نقشت حوافر خيله ... للناظرين أهلة في الجلمد
وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار لها مكان الأثمد
وله
في خميس كأنما السمر والأب ... طال فيه غيله حمته أسود
سلب الشمس ضوأها بشموس ... طالعات أفلاكهن جديد
عارض كلما تجلت بروق ال ... بيض حثت على الصهيل رعود
وله
جيش يفوت الطرف حتى لا يرى ... ما غاب من أطرافه محدودا
ويحيش حتى لا يظن عديده ... أحد لكثرة جمعه معدودا
فكأنما جعل الإله روابي ... الأعلام أعلاماً له وبنودا
يقضي على الأعداء خيفة بأسه ... قبل اللقاء تهدداً ووعيدا
وترى وتسمع لمعه وخفوقه ... فتخال فيه بوارقاً ورعودا
آخر
خميس إذا أخفى سنا الشمس نطقه ... أضاء وأبداه الحديد المسرد
تواجهه هوج الرياح فينثني ... وتحمله الأرض الوقور فيرعد
أبو الطيب المتنبي
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه ... وفي أذن الجوزاء منه زمازم
تجمع فيه كل لسن وأمة ... فما يفهم الحدّاث إلا التراجم
وله
وذو لجب لا ذو الجناح أمامه ... بناج ولا الوحش المثار بسالم
تمر عليه الريح وهي ضعيفة ... تطالعه من بين ريش القشاعم
ويخفى عليك البرق والرعد فوقه ... من اللمع في هاماته والجماجم
ابن المعتز
وعمّ السماء النقع حتى كأنه ... دخان وأطراف الرماح شرار
ابن الساعاتي
والنقع ليل والأسنة أنجم ... والسمر غاب والكماة أسود
وصف النزال والقتلى
وصف أعرابي وقعة فقال اصطفوا كجناح الطائر وشدوا شد الأسد الخادر فما ثنوا أعنتهم ولا صرفوا أسنتهم حتى انصرف اعداؤهم أبو نصر الميكالي دارت رحى الحرب بين أعمار تباح ودماء تستباح وأجسام تطاح وأرواح تسفي بها الرياح فالسيوف للهامات دامغة والرماح في الأكباد والغه بض البلغاء طلبنا فلاناً في الوغى فوجدناه وجسده بالصفاح منمق محبر وبالرماح معجم ومحرر ابن عبد ربه من أبياتفكم على النهر أوصال مفرقة ... تقسمتها المنايا فهي أشطار
قد فلقت بصفيح الهند هامتهم ... فهنّ بين حوامي الخيل أعشار
وكم بساحتهم من شلو مطرح ... كأنه فوق ظهر الأرض أجار
كأنما رأسه أفلاق حنظلة ... وساعداه على الزندين جمار
أبو بكر الخوارزمي
كتبنا في وجوههم سطوراً ... غرائب حبرهن دم همول
فترجمها الأعادي للأعادي ... ويقرؤها على الحيّ القتيل
فمالك غير جمجمة كناب ... ومالك غير صاحبها رسول
ابن الرومي
كتبت لنا أيدي النزال صحائفاً ... هجما من الأعراب والافصاح
أطراسها جثث الكماة وحبرها ... مما أسلناه دم الأرواح
فالشكل فوق سطورها بصوارم ... والنقط تحت حروقها برماح
ابن نباتة
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيوناً لها وقع السيوف حواجب
قطع الرؤس أحسن ما نظم فيها قول الشريف البياضي من أبيات
خطبنا بالقنا مهج الأعادي ... فزفت والرؤس لها نثار
وقول جرير وإن كان قبله
كأنّ رؤس القوم فوق رماحنا ... غداة الوغى تيجان كسرى وقيصرا
وقول الآخر
وكأنما سمر الرماح معاطف ... والهام فوق صدورهن نهود
الفصل الثالث من الباب الحادي عشر
في ذم التصدي للهلكة
ممن لا يستطيع بها ملكة
قال الله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال تعالى خذوا حذركم وقد روى أن عمر رضي الله عنه حين كره طواعين الشأم أراد الرجوع إلى المدينة فقال له أبو عبيدة بن الجراح يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله قال نعم إلى قدر الله فقال له أيمنع الحذر القدر قال لست مما هناك في شيء إن الله لا يأمر بما لا ينفع ولا ينهى عما لا يضر فإنه يقول ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وقال خذوا حذركم وقالوا الشجاعة تغرير والتغرير مفتاح الهلكة وقال يزيد ابن المهلب الاقدام على الهلكة تغرير والاحجام عن الفرصة جبن وأنشدت لطاهر بن الحسينركوبك الأمر ما لم تبد فرصته ... جهل ورأيك في الاقحام تغرير
فاعمل صواباً وخذ بالحزم مأثرة ... فلن يذم لأهل الحزم تدبير
ويقال أهوت إلى يزيد بن المهلب حية فلم يتوقها فقال له أبوه ضيعت الحزم من حيث حفظت الشجاعة الشريف الرضي
العزم في غير وقت العزم معجزة ... والازدياد بغير العقل نقصان
ويقال من قاتل بغير نجدة وخاصم بغير حجة وصارع بغير قوة فقد أعظم الخطر وأكبر الغرر وقال بعض الحكماء من أعرض عن الحذر والاحتراس وبنى أمره على غير أساس زال عنه العز واستولى عليه العجز فصار من يومه في نحس ومن غده في لبس وفي كتاب للهند الحازم يحذر عدوه على كل حال يحذر مواثبته إن قرب وغارته إن بعد وكمينه إن تبع ومكره إن انفرد واستطراده إذا ولي وقال أبو بكر الصديق يحذر خالد بن الوليد رضي الله عنهما إذا دخلت أرض العدو فكن بعيداً من الحملة فإني لا آمن عليك الجولة واستظر بالزاد وسر بالادلال ولا تقاتل مجروحاً فإن بعضه ليس منه واحترس من الثبات فإن في القرب غمرة واقلل الكلام فإن مالك إلا ما وعى عنك وأقبل من الناس علانيتهم وكلهم إلى الله في سريرتهم واستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وقال الشاعر
ومن يأمن الأعداء لا بدّ أنه ... سيلقى بهم في موقف الموت مصرعا
وقالوا الاقدام على الهلكة تضييع كما أن الاحجام عن الفرصة عجز وقيل لعنترة العبسي أأنت أشجع العرب وأشدها قال لا قيل فبم شاع هذا في الناس قال كنت أقدم إذا كان الاقدام عزماً وأحجم إذا كان الاحجام حزماً ولا أدخل موضعاً لا أرى لي فيه مخرجاً وسئل بعض الشجعان هل شيء أضر من التواني قال الاجتهاد في غير وقته وقال جعفر بن ميسرة من مكن أسباب الهلكة من نفسه طائعاً لم يكد يتخلص منها وإن كان جاهداً وقال بعض الحكماء لصديق له اعلم إن الفطنة اظهار الغفلة مع شدة الحذر فبات مباثة الآمن وتحفظ منه تحفظ الخائف ولا تظهر له المخافة فيرى ان قد حذرت فيهون عليه ما يستهو له منك ويقال إذا أخد المرء بالحذر والاحتراس في موضع الشدة وعمل على الجراءة والاقدام عند انتهاز الفرصة فقد أخذ بالحزم في شدته وعمل بالحزم عند فرصته وقال بعض الفلاسفة كن حذراً كأنك غر فطناً كأنك غافل وذاكراً كأنك ناس وقال بعضهم
من أخذ الحذر من المحذور ... قلّ تجنيه على الدهور
فليحزم الحازم في الأمور ... فإن كبا فالعذر للمعذور
آخر
على كل حال فاجعل الحزم عدة ... تقدّمها عند النوائب في الدهر
فإن نلت حظاً نلته بعزيمة ... وإن قصرت عنك الحظوظ فعن عذر
ومما يكون عمدة عند لقاء الأبطال ... التفكر في أعمال الاحتيال وإن طال
قالت الحكماء الحازم يحتال للأمر الذي يخافه لعله أن لا يقع فيه فليس من القوة التورط في الهوة ومن لم يتأمل العواقب بعين عقله لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله وأنشد لتأبط شرا
إذا المرء لم يحتل وقد جدّ جدّه ... أضاع وقاسى الصعب وهو مقصر
ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلاً ... به الأمر ألا وهو للقصد مبصر
ويقال إذا اتسع لك المنهج فاحذر أن يضيق عليك المخرج وقال الشاعر
وإذا هممت ورود أمر فالتمس ... من قبل مورده طريق المخرج
آخر
إياك والأمر الذي ان توسعت ... موارده ضاقت عليك المصادر
فما حسن أن يعذر المرء نفسه ... وليس له من سائر الناس عاذر
ويقال تفكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم فإنه من لم ينظر في العواقب فقد تعرض لحادثات النوائب ووجد على حجر بعدن أبين مكتوب أيها المحارب احذر تغنم وتفكر في العواقب تسلم ويقال الناس حازمان وعاجز فاحزم الحازمين من عرف الأمر قبل وقوعه فاحترس منه والحازم بعده من إذا نزل الأمر تلقاه بالرأي والحيلة حتى يخرج منه والعاجز من تردد بين وبين لا يأتمر رشداً ولا يطيع مرشداً حتى تفوته النجاة ويقال ترك التقدم أحسن من التندم وأوصى عبد الملك بن صالح أميراً قدمه على سرية أرسلها إلى قتال عدو له فقال كن كالتاجر الكيس إن وجد ربحاً تجر وإلا حفظ رأس ماله ولا تطلب الغنيمة حتى تحمد السلامة وكن في احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك وقالوا ما تنفق فيه الأموال والحيل خير مما تنفق فيه الأرواح والنفوس وأوصت أم الدبال العبنسية ولدها الفتاك وكان من أشد العرب فقالت يا بني لا تنشب في حرب وإن وثقت بشدتك حتى تعرف وجه المهرب فإن النفس أقوى ما تكون إذا وجدت سبيل النجاة مدبرة لها واختلس من تحاربه خلسة الذئب وطر منه طيران الغراب فإن الحذر زمام الشجاعة والتهور عدو الشدة وقال أبو السرايا وكان أحد الفتاك يا بني كن بحيلتك أوثق منك بشدتك وبحذرك أوثق منك بشجاعتك فإن الحرب ورطة المتهور وغنيمة المتفكر ويقال لا تصلح الحزامة إلا لمن كان له سبع خصال من طبائع البهائم قلب الأسد وغارة الذئب وصبر النسر وحذر الغراب وحراسة الكركي وهداية الحمام وحماية الزنبور
ومما يجب مع التفكر على المحارب ... مشاورة النصحاء من أولي التجارب
قد كنا منا في صدر الكتاب ما يجب على العاقل من مشورة نصحائه في سائر أنحائه وانا ذاكر في هذا الباب ما يجب على الحازم من مشورة أودائه في كيفية لقاء أعدائه فإنهم قالوا ينبغي لكل ذي لب أن لا يبرم أمراً ولا يمضي عزماً إلا بمشورة ذي الرأي الناصح ومطالعة ذي العقل الراجح وقالوا الحازم إذا اشتبهت عليه مصادر الأمور جمع من أهل التجارب وجوه الرأي حتى يخلص له منها الصواب كالعاقل إذا ضلت له لؤلؤة فإنه إذا جمع ما حول مسقطها والتمسها يوشك أن يجدها وقالوا من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء ويجمع إلى عقله عقول الحكماء وقال بشار بن برد المشاور بين إحدى الحسنيين أما صواب فيفوز بثمرته أو خطا يشارك في مكروهه وقالوا الرأي السديد خير من الأسد الشديد وكان يقال المشورة سلم النجاح وطليعة الفلاح وقالوا الرأي في الحرب أنفع من الطعن والضرب وقال بعض الأعراب ما عثرت قط حتى عثر قومي قيل له وكيف قال لا أفعل شيأً حتى أشاورهم وقالوا حقيق أن يوكل إلى نفسه من أعجب برأيه ولقد أحسن أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي في التحريض على مشاورة الاخوان عند مساواة الأقران بقوله
الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أوّل وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان
فلربما طعن الفتى أقرانه ... بالراي قبل تطاعن الأقران
ولبعضهم
الرأي كالسيف ينبو إن ضربت به ... في غمده وإذا جردته قطعا
آخر
أشاور أهل الرأي فيما ينوبني ... وإن كان لي رأى أحدّ صليب
ولا أدّعى بالغيب علماً لسائل ... ولا أحسد المسؤل حين يجيب
آخر
إذا بدا لك وجه الرأي فارم به ... نحو احترام تحاماه المقادير
ولا تقل غرر أخشى عواقبه ... يوماً فكل نجاة القوم تغرير
وذكر الحصري في كتابه زهر الآداب وثمر الألباب أن قوماً من العرب أتوا شيخاً لهم قد أربى على الثمانين وأهدف التسعين فقالوا إن عدونا استاق سرحنا فأشر علينا بما ندرك به الثار وننفي به العار فقال إن ضعف قوتي فسخ همتي ونقض ابرام عزيمتي ولكن شاوروا الشجعان من ذوي العزم والجبناء من أولي الحزم فإن الجبان لا يألو برأيه ما وقى مهجكم والشجاع لا يألوا ما يشيد ذكركم ثم خلصوا من الرأيين نتيجة تبعد عنكم معرة الجبان وتهور الشجعان فإذا نجم الرأي على هذا كان أنفذ على عدوكم من السهم الصائب والحسام القاضب فلله هذه الكلمات لو يجدها الجبان جنة لوقته أو هادياً أرته مواطن العواقب ووفقته
وملاك التحيل في بلوغ الأماني ... رفض العجلة واستعمال التواني
قال الله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه وقل رب زدني علماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعطى حظه من الرفق أعطى حظه من الدنيا والآخرة ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة رضي الله عنها عليك بالرفق فإن الرفق لا يخالط شيأً إلا زانه ولا يفارق شيأً إلا شانه وقال عمر رضي الله عنه التؤدة في كل شيء إلا ما كان من عمل الآخرة وقال الشاعر
الرفق يمن والأناة سعادة ... ليس النجاح لمن يطيش ويخرق
آخر
وفي الأناة إذا ما جدّ صاحبها ... حزم ويعقبها التفريط والخرق
وفي التورية الرفق رأس الحكمة وقالوا فعل اللبيب ثمرته السلامة وجد على سيف مكتوب التأني فيما لا يخاف فيه الفوت أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل وقال بعض الحكماء تأن تحزم وإذا استوضحت فاعزم وقالوا يد الرفق تجني ثمر السلامة ويد العجله تغرس شجر الندامة أبو الفتح البستي
تأنّ في الشيء إذا رمته ... لتعرف الرشد من الغيّ
لا تتبعن كل دخان ترى ... فالنار قد توقد للكيّ
وقس على الشيء بأشكاله ... يدلك الشيء على الشيّ
وقال بشر بن مروان لأهله إذا التبست عليك الخطوب وغاب عنك المورود وأشكل عليك المصدر فيه فالأناة الأناة وليكن أمرك حزماً وإذا استبان لك فعزماً وقال محمد بن هانئ الأندلسي
وكل أناة في المواطن سودد ... ولا كأناة من قدير محكم
وما الرأي إلا بعد طول تثبت ... ولا الحزم إلا بعد طول تلوّم
القطامي
قد يدرك المتأني نجح حاجته ... وقد يكون مع المستعجل الزلل
آخر
وربما فات قوماً جلّ أمرهم ... من التأني وكان الحزم لو عجلوا
وقالوا الأناة حصن السلامة والعجلة مفتاح الندامة وقالوا إذا لم يدرك الظفر بالأناة فبما ذا يدرك وقال المهلب بن أبي صفرة واسم أبي صفرة ظالم ابن سراق أناة في عواقبها درك خير من عجلة في عواقبها فوت ومن أمثالهم اتئد تصب أو تكد وقولهم من تأنى أدرك ما تمنى وقولهم الرفق مفتاح النجاح وقال بعض الحكماء إياك والعجلة فإنها تكنى أم الندامة لان صاحبها يقول قبل أن يعلم ويجيب قبل أن يفهم ويعزم قبل أن يفكر ويقطع قبل أن يقدر ويحمد قبل أن يجرب ويذم قبل أن يخبر ولن تصحب هذه الصفة أحداً الأصحب الندامة وجانب السلامة وهذه نبذة يسيرة في الصبر فمما ينسب لعلي رضي الله عنه
إني رأيت وفي الأيام تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جدّ في أمر يحاوله ... واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
آخر
ما أحسن الصبر في مواطنه ... والصبر في كل موطن حسن
حسبك من حسنه عواقبه ... عواقب الصبر ما لها ثمن
آخر
الصبر مفتاح ما يرخى ... وكل صعب به يكون
فاصبر وإن طالت الليالي ... فربما أمكن الحزون
وربما نيل باصطبار ... ما قيل هيهات لا يكون
ويقال الصبر مفتاح النصر ويقال النصر في مطاوي الصبر ويقال من تصبر تبصر وقال الصابي حظ الطالبين من الدرك بحسب ما استصحبوه من الصبر وأنشدت لبعض الشعراء
إذا كنت في أمر ولم تر حيلة ... فصبرك إن النجح يدرك بالصبر
كذاك عيون الماء تكدر مرّة ... وتصفو مراراً هكذا عادة الدهر
ابن منقذ
لا تستكن للهم واثن حمامه ... بعزيمة في الخطب لا تتضعضع
فإذا أتى ما ليس يدفع فألقه ... بالصبر فهو دواء ما لا يدفع
ومن أحسن ما قيل فيه
أما والذي لا خلد إلا لوجهه ... ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بد الصبر مرّاً مذاقه ... لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو
آخر
اصبر على مضض الادلاج في السحر ... وفي الرواح إلى الحاجات والبكر
لا تضجرن ولا يعجزك مطلبها ... فالنجح يتلف بين الصبر والضجر
الباب الثاني عشر
في الجبن
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول من هذا الباب
في أنّ خلتي الجبن والفرار مما يشين بني الأحرارالجبن غريزة كالشجاعة يضعها لله فيمن شاء من خلقه قال المتنبي
يرى الجبناء أنّ الجبن حزم ... وتلك خديعة الطبع اللئيم
وحده بعض المتكلمين في حدود الأشياء فقال هو الضن بالحياة والحرص على النجاة وقالت الحكماء في الفراسة من كانت فزعته في رأسه فذاك الذي يفر من أبويه وقالوا الجبان يعين على نفسه يفر من أمه وأبيه وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه وقال الشاعر
يفر الجبان من أبيه وأمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
فما اخترت من كلام ذوي الاقدام ... فيما عيب به الفرار والاحجام
قالت عائشة رضي الله عنها إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير كلما خفقت الريح خفقت معها فأف للجبناء وقال خالد بن الوليد عند موته لقيت كذا وكذا زحفاً وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة بسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم وها أنا ذا أموت حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء شاعر
إن موت الفراش عار وذل ... وهو تحت السيوف فضل شريف
السموأل
وما مات منا سيد حتف أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظباء نفوسنا ... وليست على غير الظباء تسيل
آخر يفتخر
محرمة أكفال خيلي على القنا ... ومكاومة أعناقها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر ... وتندق منا في الصدور صدورها
ويقال أسرع الناس إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار وقال دارا بن دارا يحرض جيشه على القتال قتيل صابر خير من ناج فار يا بني الأحرار صرتم إلى الذل والصغار ما هذا الجبن والفرار فلا صبر ولا اعتذار تطردكم الأشرار كطرد الليل النهار أثبتوا فإن الأجل بمقدار وقال هانئ الشيباني لقومه يوم ذي قار يا بني بكر هالك مغدور خير من ناج فرور المنية ولا الدنية يا بني بكر استقبال الموت خير من استدباره الطعن في ثغور النحور أكرم منه في الاعجاز والظهور يا بني بكر قاتلوا فمالنا من المنايا بد الجبان مبغض حتى لامه والشجاع محبب حتى لعدوه ويقال الجبن خير أخلاق النساء وشر أخلاق الرجال وقال يعلى بن منية لقومه حين فروا من على يوم صفين إلى أين قالوا قد ذهب الناس فقال أف لكم فرار واعتذار ولما قوتل أبو الطيب المتنبي ورأى الغلبة عليه فر فقال له غلامه أترضى أن يحدث بهذا الفرار عنك وأنت القائل
والخيل والليل والبيداء تعرفني ... والطعن والضرب والقرطاس والقلم
فكر راجعاً فقاتل حتى قتل واستقبح أن يعير بالفرار وذلك في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلثمائة وكان مولده بالكوفة سنة ثلاث وثلثمائة وقال المنصور لبعض الخوارج عليه وقد ظفر به وأحضر إليه أسيراً أخبرني عن أصحابي أيهم كان أشد اقداماً في مبارزتك فقال لا أعرف وجوههم مقبلين وإنما أعرف أقفيتهم مدبرين فقل لهم يدبرون لأعرفك أيهم كان أشد فراراً نظم هذا القول علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي في قوله يهجو سليمان بن عبد الله بن ظاهر وقد هزم
قرن سليمان قد أضر به ... شوق إلى وجهه سيتلفه
أعرض عن قرنه وصدّ فما ... أصبح شيء عليه يعطفه
كم يعد القرن باللقاء وكم ... يكذب في وعده ويخلفه
لا يعرف القرن وجهه ويرى ... قفاه من فرسخ فيعرفه
وله من أبيات
كان بغداد لدن أبصرت ... طلعته نائحة تلتدم
مستقبل منه ومستدبر ... وجه بخيل وقفا منهزم
وقال عبد الله بن الزبير لعدي بن حاتم يعرض به متى فقئت عينك قال يوم طعنت في استك وأنت مول يعني يوم الجمل وقيل بل قال له يوم قتل أبوك وهربت خالتك يعني عائشة وأنا للحق ناصر وأنت له خاذل وقال شاعر يذكر فارا
شرده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
منخرق الخفين يشكو الوحي ... تبكه أطراف مر وحدد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حقاً في رقاب العباد
نتف من احتجاج الفرسان ... عند ملاقاة الأقران
في إنّ دروع الحذر ... تخرقها سهام القدر
قال الله تعالى قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم وقال علي رضي الله عنه إذا حلت المقادير حلت التقادير وقال هانئ بن مسعود الشيباني إن الحذر لا ينجي من القدر وإن الصبر من أسباب الظفر والمثل المضروب إن الجبان حتفه من فوقه وقالوا السلامة في الاقدام والحمام في الاحجام وأنشد في الحماسة لقطري بن الفجاة
لا تركنن أبداً إلى الاحجام ... يوم الوغى متخوّفا لحمام
فلقد أراني للرماح دريئة ... من عن يميني تارة وأمامي
حتى خضبت بما تحدر من دمي ... أكتاف سرجي أو عنان لجامي
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... خدع القريحة مارح الأقدام
وقال أبو بكر الصديق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما حين أخرجه لقتال أهل الردة احرص على الموت توهب لك الحياة وقالوا إذا انقضت المدة لم تنفع العدة وقال علي رضي الله عنه إن الموت طالب حثيث لا يعجزه المقيم ولا يفوته الهارب إن لم تقتلوا تموتوا ألا وإن أشرف الموت القتل وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يا نفس إن لم تقتلي تموتي إن تسلمي اليوم فلن تفوتي أو تبتلي فطالما عوفيتي وقيل لبعضهم لو احترست فقال كفى بالأجل حارساً وقالوا الشجاع موقى والجبان ملقى وذلك إن المقتول مدبراً أكثر من المقتول مقبلا وأنشد لبعض الشجعان
تأخرت استبقى الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدّما
آخر
أقول لها وقد ذهبت شجاعاً ... لدى الأبطال إنك لن تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم ... على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الحرب صبراً ... فما نيل الخلود بمستطاع
وهرب رجل من الطاعون إلى النجف وكان بالكوفة فكتب إليه شريح القاضي أما بعد فإن الفرار لن يبعد أجلاً ولن يكثر رزقاً وإن المقام لن يقرب أجلاً ولن يقلل رزقاً وإنك والمكان الذي أنت فيه لا يعييان من لا يعجزه هرب ولا يفوته طلب وإن المكان الذي خلفته لا يعجل أحداً إلى حمامه ولا يظلمه شيأً من أيامه وإن النجف من ذي قدرة لقريب وهذا الطاعون هو الجارف وكان في شوال سنة تسع وستين هلك فيه في مدة ثلاثة أيام مائتا ألف وعشرة آلاف ومات فيه لأنس بن مالك ثلاثة وثمانون ولداً ولعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أربعون ولداً وأنشد بعض الشعراء يذكر فاراً أصيب
أبعدت في يومك الفرار فما ... جاوزت حتى انتهى بك القدر
لو كان ينجي من الردى حذر ... نجاك مما أصابك الحذر
آخر
فإذا خشيت من الأمور مقدراً ... وفررت منه فنحوه تتوجه
ولما وقع الطاعون بالكوفة فر عبد الرحمن بن أبي ليلى على حمار له يطلب النجاة فسمع منشداً يقول
لن يسبق اللّه على حمار ... ولا على ذي منعة طيار
أو يأتي الحتف على مقدار ... قد يصبح اللّه امام الساري
فكر راجعاً إلى الكوفة ومن كلام الحكماء إذا كان القدر حقاً فالحرص باطل وإذا كان الموت بكل أحد نازل فالطمأنينة إلى الدنيا حمق وكان معاوية بن أبي سفيان كثيراً ما ينشد في حروبه
كان الجبان يرى إنه ... يدافع عنه الفرار الأجل
فقد تدرك الحادثات الجبان ... ويسلم منها الشجاع البطل
ويقال من حدث نفسه بالبقاء ولم يوطنها على المصائب فهو عاجز الرأي وأنشدت لأبي علي بن رشيق القيرواني
الأسر خير من الفرار ... والقتل خير من الأسار
وشر ما خفته حياة ... أدت إلى ذلة وعار
ذم من لزمه الضعف والجزع ... واستولى عليه الخوف والفزع
قيل لبشار بن برد فلان يزعم إنه لا يبالي ألقى واحداً أو ألفاً قال صدق لأنه يفر من الواحد كما يفر من الألف وقالوا فلان إذا ذكرت السيوف لمس رأسه هل ذهب وإذا ذكرت الرماح جس صدره هل ثقب كأنه سلم كتاب الجبن صبياً ولقن كتاب الفشل أعجمياً وقالوا فلان تقلصت من الفزع شفتاه واصفرت من الهلع وجنتاه وقالوا فلان إذا نظرت إليه شزراً أغمى عليه شهراً ومن أمثالهم أجبن من صافر وهو طائر يتعلق برجليه في الشجر خشية أن ينام فيسقط وقيل غير ذلك وأشرد من ظليم وهو ذكر النعام وينشد لعبد القيس ابن خفاف يهجو جبانا
وهم تركوك أسلح من حبارى ... رأت صقراً وأشرد من ظليم
ومما هو كناية عن الجبن قولهم فلان مشفق على الحياة راغب في طولها وذم بعضهم جباناً فقال لو سميت له الحرب لعاف لفظها قبل معناها واسمها قبل مسماها وذم آخر جباناً فقال
إذا صوت العصفور طار فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
وذم آخر جباناً فقال فلان يزحف يوم الزحف إلى خلف ويروعه الواحد وهو فيألف وذم آخر جباناً فقال
لو كنت في ألف ألف كلهم بطل ... مثل المجفف داود بن حمدان
وتحتك الريح تجري حيث تأمرها ... وفي يمينك سيف غير خوان
لكنت أوّل فرار إلى عدن ... إذا تجرد سيف في خراسان
ذكر من لاقى في الحروب الحرب ... فطوى بساط الأرض مجداً في الهرب
أبو الطيب المتنبي يذكر مهزومين
وضاقت الأرض حتى أن هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
وقالوا فلان يفر من صرير باب وطنين ذباب فلان ولي منهزماً قد سد الله في وجهه كل طريق فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق وقال الحجاح يصف هزيمة كالابل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يلوى الشيخ على بنيه ولا يسأل المرء عن أخيه وقالوا فلان أزهد في الحرب من بني العنبر وأدهش من مستطعم الماء على المنبر فأما بنو العنبر فهم الذين يقول قائلهم من أبيات الحماسة
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشرفى شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ... ومن إساءة أهل السوء احسانا
وكأنّ ربك لم يخلق بخشيته ... سواهم من جميع الناس انسانا
وأما مستطعم الماء فهو عبد الله بن خالد القسري وسنذكر أمره في الفصل الآتي إن شاء الله وأظرف شيء هجى به جبان قول الطرماح بن بكر في بني تميم من أبيات
ولو أنّ برغوثاً على ظهر قملة ... رأته تميم يوم حرب لولت
ولو جمعت يوماً تميم جموعها ... على ذرّة معقولة لاستقلت
ولآخر يهجو قوماً جبناء
أسود إذا ما كان يوم وليمة ... ولكنهم عند اللقاء ثعالب
والمليح المتناهي في الملاحة والابداع والأخذ بمجامع القلوب من غير دفاع ولا نزاع قول جرير في بني حنيفة
أبناء نخل وحيطان ومزرعة ... سيوفهم خشب فيها مساحيها
قطع الثمار وسقى النخل عادتهم ... قدما وما جاوزت هذي مساعيها
لو قيل أين هوادي القوم ما علموا ... قالوا لاعجازها هذي هواديها
أو قبل إنّ حمام الموت آخذكم ... أو تلجموا فرساً قامت بواكيها
أبو تمام
ولما رأى توفيل راياتك التي ... إذا ما استقامت لا يقاومها القلب
تولى ولم يأل القنا في اتباعه ... كأن الردى في قصده هائم صب
غدا خائفاً يستنجد الكتب مذعنا ... عليك فلا رسل ثنتك ولا كتب
وما الأسد الضرغام يوماً بتارك ... فريسته إن أنّ أو بصبص الكلب
يمرّو نار الكرب تلفح قلبه ... وما الروع إلا أن يخامره الكرب
مضى مدبراً شطر الدبور ونفسه ... على نفسه من سوء ظنّ بها ألب
جفا الشرق حتى ظنّ من كان جاهلاً ... بدين النصارى إن قبلته الغرب
الفصل الثاني من البال الثاني عشر
في ذكر من جبن عند اللقاء
خوف الموت ورجاء البقاء
قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم هذه الآية نزلت فيمن فر من المسلمين يوم أحد قال ابن إسحق خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد ومعه ألف فانخزل منهم عند الله بن أبي ابن سلول وكان رأس المنافقين ومعه ثلث الناس ورجع إلى المدينة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه سبعمائة رجل وخرجت قريش في ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فارس فلما التقى الجمعان وتراءى الفريقان وحميت الحرب واشتبه الطعن بالضرب أبلى المسلمون في الكافرين بلاء عظيماً ونودي يومئذ لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي وقتل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم قتله وحشي غلام جبير ابن مطعم وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل مصعب بن عمير وكان حامل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله قيلة بن قمئة فرجع وهو ينادي قتلت محمداً وصرخ صارخ إلا أن محمداً قتل والصارخ هو ابليس لعنه الله أزب العقبة فانجفل المسلمون وكثر الفشل فيهم وتفرق جمعهم عند الارجاف بقتل من كان يحميهم وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصاب العدو منهم نكاية حتى خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذفه المشركون بالحجارة فأصيبت رباعيته وشج جبينه وكلمت شفته ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح بفيه فسقطت ثناياه فسال الدم على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسحه بيده وقال كيف يفلح قوم خضبوا بالدم وجه نبيهم وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص وانهزم المسلمون حتى انتهوا إلى المنقى دون الأعوض وهم ظانون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل فمر كعب بن مالك برسول الله صلى الله عليه وسلم فرآه وعيناه تزهران من تحت المغفر فعرفه فرفع عقيرته يقول أيها الناس أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعوا فلما عرفوه تداعوا إليه وجعل بعضهم يبشر بعضاً ثم نهض المسلمون وقد انشعب صدعهم ونعت بالسلامة بعد الكسر جمعهم ونهض معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشعب فأدركهم أبي بن خلف فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة وطعنه بها في عنقه فرجع إلى قومه وهو يقول قتلني محمد فات بسرف وهم قافلون به إلى مكة وذب عن النبي صلى الله عليه وسلم طلحة بن عبيد الله ووقاه ببده فشلت اصبعه وجرح أربعاً وعشرين جراحة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب الحق طلحة وكان يوم أحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة وفيها ولد الحسن بن علي واستشهد فيه من المسلمين خمسة وستون رجلاً أربعة من المهاجرين وما بقي فمن الأنصار وقتل من المشركين اثنان وعشرون رجلاً وذو الفقار كان لسليمان بن داود عليهما السلام أهدته له بلقيس مع ستة أسياف ثم كان لمنية بن الحجاج فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل يوم بدر وفر كسرى من ملاقاة بهرام جور فاتبعه الجيش وكان قد أعد معه فصوصاً من زجاج مختلفة الألوان والأصباغ ودنانير من صفر مغشاة بالذهب فلما خاف أن يدرك نثر تلك الدنانير والفصوص على الأرض فاشتغل الناس بجمعها فنجا بنفسه ومن الجبناء حسان بن ثابت الأنصاري ذكر ابن قتيبة في كتاب المعارف أنه لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهدا قط قالت صفية بنت المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معنا حسان في حصن فارع يوم الخندق مع النساء والصبيان فمر بنا في الحصن رجل يهودي فجعل يطيف بالحصن فقلت يا حسان أنا والله لا آمن أن يدل علينا هذا اليهودي أصحابه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شغل عنا فانزل إليه واقتله قال يغفر الله لك ما أنا بصاحب شجاعة قالت فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيأً اعتجرت ثم أخذت عموداً ونزلت إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ثم رجعت إلى الحصن وقلت يا حسان انزل إليه واسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل فقال مالي بسلبه من حاجة وكان حسان اقتدى في فعله بهذا الشاعر في قوله
باتت تشجعني هند وما علمت ... أنّ الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قوم أضلّ اللّه سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغي فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
وعاش حسان مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الاسلام ولأحمد بن أبي فنن في هذا المعنى مما نحاه من الاستطراد بالممدوح
مالي ومالك قد كلفتني شططا ... حمل السلاح وقول الدارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... أمسى وأصبح مشتاقاً إلى التلف
أرى المنايا على غيري فأفرقها ... فكيف أمشي إليها بارز الكف
أخلت أنّ سواد الليل غبرني ... وإنّ قلبي في جنبي أبي دلف
أخذ قوله فكيف أمشي إليها بارز الكتف من قول بعض الأعراب وقد قيل له اخرج إلى الغزو فقال والله أنا أكره الموت على فراشي فكيف أمشي إليه ركضاً ولما دخل هذا الشاعر على المعتز قال له أنت الشاعر الآدم فقال يا أمير المؤمنين لا يضره سواده مع بيض أياديكم عنده والفرار السلمي واسمه حنان ابن الحكم بن مالك فر من بني عوف فعرف في الجاهلية بالفرار وهو القائل في فراره
وكتيبة لبستها بكتيبة ... حتى إذا لبست نفضت لها يدي
فتركتهم نفض الرماح ظهورهم ... من بين منعفر وآخر مسندي
ما كان ينفعني مقال نسائهم ... وقتلت بين رجالهم لا تبعد
وفر عامر بن الطفيل يوم الرقم وهو يوم كان لبني ذبيان وأحلافهم على بني عامر وفر عامر بن زرارة بن عدي الدارمي يوم اليسار وكان على بني تميم فر عمرو بن معد يكرب بن عباس بن مرداس وأسرت أخته ريحانة وفر عتبة بن أبي سفيان وفر عمرو بن العاص من علي يوم صفين فاتبعه علي فلما خاف عمرو أن يدركه كشف عن سوأته فرجع عنه وفر عبد الله بن مطيع بن الأسود يوم الحرة من جيش مسلم بن عقبة المري العامري وهو القائل في قتاله لأهل الشأم مع عبد الله بن الزبير
أنا الذي فررت يوم الحرّه ... والحرّ لا يفرّ إلا مرّه
فاليوم أجزى فرّة بكرّه ... لا بأس بالكرّة بعد الفرّه
وفر أسلم بن زرعة يوم الأهواز من أبي بلال مرداس بن أدية الخارجي وكان أسلم في ألفي رجل وكان أبو بلال في أربعين فكان أول أمير انهزم في الاسلام وكان إذا ركب بالبصرة صاح به الصبيان في الطريق أبو بلال خلفك وفر عبد الله بن عمير الليثي من قتال النجدية في البحرين وكان وجهه حمزة بن عبد الله ابن الزبير فكان عمير رأس المحتسبة في الفتنة وفيه يقول الفرزدق
تمنيت عبد اللّه أصحاب نجدة ... فلما لقيت القوم وليت سابقا
تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم ... تركت لهم قبل الضراب السرادقا
فأعطيت ما تعطى الحليلة بعلها ... وكنت حبارى إذ تلاقى البواشقا
فلم يزل مستحياً من الركوب حتى فر أمية بن عبد الله بن أسد بن خالد بن أسيد من الخوارج يوم مرد اهجر فوجد به اسوة وظهر وفر عبد العزيز بن عبد الله بن خالد من الأزارقة وان معه أمرأتان له إحداهما غريبة من بني ليث بن كنانة والاخرى أم حفص بنت المنذر بن الجارود فجعلت الكنانية تنادي أين فرسان الطعائن فطعنها رجل من الخوارج نقتلها وسبيت أم حفص واقيمت جارية فيمن يزيد فبلغت مائة ألف درهم فوثب عمرو بن حديد بن عبد القيس فقتلها أنفة لها وذلك أنها كانت من أجمل النساء فأتى بها قطري فقال له ما حملك على ما فعلت قال رأيت كافرة حفت على المسلمين فتنتها فحلى سبيله ثم إن قاتلها بعد ذلك أتى أخاها الحكم فقال له جزاك الله خيراً ما غسل عنا العار غيرك وأمر له بعشرة آلاف درهم وفي عبد العزيز يقول كعب الأشقري
عبد العزيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين منجدل يجود بنفسه ... وملحب بين الرجال قتيل
هلا صبرت مع الشهيد مقاتلاً ... إذ رحت منها هارباً بأصيل
سائل بعرسك هل تقاد سبية ... تشكو إليك بعبرة وعويل
وفر أخوه خالد بن عبد الله يوم الجفر بالبصرة وذلك إن المروانيين اغتنموا أغفلة مصعب بن الزبير عنهم بالكوفة وكانوا بالبصرة فثار بهم خالد يد عوالي عبد الملك بن مروان فلما بلغ مصعباً الخبر أقبل من الكوفة إلى البصرة فقر خالد منه إلى الشأم وفيه وفي اخوته يقول الفرزدق
وكل بني السوداء قد فرّ فرّة ... فلم يبق إلا فرّة في است خالد
فضحتم أمير المؤمنين وأنتم ... تمدّون سودانا غلاظ السواعد
ومن الجبناء الحجاج بن يوسف الثقفي دخل شبيب بن زيد الخارجي الكوفة سحراً ومعه غزالة زوجته وستون فارساً والحجاج بها في قصره مختفياً منه فحلفت غزالة على شبيب ليدخلن المسجد الجامع وليصلين في مقام الحجاج ففعل ثم خرج منها وفي ذلك يقول عمران بن حطان الخارجي يخاطب الحجاج
أسد عليّ وفي الحروب نعامة ... فتخاء تجفل من صفير الصافر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى ... بل كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس ... تركت مناظره كأمس الدابر
وممن كان يحضر الحروب ولا يقاتل الحجاج وأبو مسلم ذكر الجاحظ عمن حدثه أن الحجاج كان إذا التقى الجمعان ذهب عنه التدبير فلا يدري ما يأتي وما يذر وكان أبو كعب مولاه هو الذي يدبر الجيش حتى تضع الحرب أوزارها وأما أبو مسلم فكان ينصب له عند ملاقاته لعدوه عرش فيجلس عليه ويسدد من آرائه سهاما أهدافها الصدور والظهور ويجرد من أوامره أسيافاً أغمادها الجفون والنحور وزياد وابنه عبد الله وأحمد بن طولون ومن أظرف ما يحكى أن البحتري شرب مع أبي هفان عند بعض الرؤساء فلما خرجا ركب البحتري بغلته وأردف أبا هفان خلفه فلما كان ببعض الطريق قال أبو هفان أبا عبادة من الذي يقول
يلبس للحرب أثوابها ... وقال أنا الشاعر البحتري
فلما رأى الخيل قد أقبلت ... إذا هو في سرجه قد خرى
فدفعه البحتري من خلفه وقال يا ماص بظر أمه تتنادر وأنت فهد والشعر لأبي هفان ارتجالاً قاله على سبيل المداعبة ومن هنا أخذ المتنبي قوله
وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا
ومن نوادر أخبار الجبناء ... في مواطن الحروب والبلاء
حكى أن عمرو بن معد يكرب مربحي من أحياء العرب وإذا هو بفرس مشدود ورمح مركوز وإذا صاحبهما في وهدة من الأرض يقضي حاجته فقال له عمرو خذ حذرك فإني قاتلك لا محالة فالتفت إليه وقال له من أنت قال أبو ثور عمرو بن معد يكرب قال أنا أبو الحرث ولكن ما أنصفتني أنت على ظهر فرسك وأنا في وهدة فأعطني عهدك أن لا تقتلني حتى أركب فرسي وآخذ حذري فأعطاه عهداً على ذلك فخرج من الوهدة التي كان فيها وجلس محتبياً بحمائل سيفه فقال له عمرو ما هذا الجلوس قال ما أنا براكب فرسي ولا مقاتلك فإن كنت نكثت العهد فأنت أعلم ما يلقى الناكث فتركه ومضى وقال هذا أجبن من رأيت وقال روح بن حاتم لأبي دلامة اخرج معي فقاتل وهذه عشرة آلاف درهم فقال
إني أعوذ بروح أن يقرّبني ... إلى الحمام فيشتفي بنو أسد
إنّ البراز إلى الأقران نعرفه ... مما يفرّق بين الروح والجسد
قد خالفتك المنايا إذ صمدت لها ... وأصبحت لجميع الناس بالرصد
إذ المهلب حب الموت أورثكم ... وما ورثت لحب الموت عن أحد
لو أنّ مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فرداً فلم أجد
وخرج مروان بن محمد لمحاربة الضحاك الحروري فلما التقى الجمعان خرج من أصحاب الضحاك فارس فدعا إلى البراز فقال مروان من يخرج إليه وله عشرة آلاف درهم فقال أبو دلامة أنا وخرج طمعاً في الجائزة فرأى رجلاً عظيم الهامة وعليه فرو قد أصابته السماء فابتل ولحقته الشمس فيبس حتى صار كالقد لا يعمل فيه السيف فلما رآه الفارس جرى إليه وهو يرتجز
وخارج أخرجه حب الطمع ... فرّ من الموت وفي الموت وقع
من كان يهوى أهله فلا رجع
فخافه أبو دلامة فلوى جواده هرباً واتخذ من خوفه في الأرض نفقاً كما اتخذ الحوت لنجاته في البحر سرباً فقال مروان من هذا الفاضح لا أنجاه الله فقال أبو دلامة فر ولا أنجاه الله خير من قتل ورحمه الله واسم أبي دلامة زند بالنون وقيل زبد بالباء الموحدة واسم أمه الجون وقال عمرو بن هبيرة لاعرابي جزع من الحرب قاتل وخذ الرزق قال قدم لي رزقي قال حتى تقاتل قال الأعرابي أرى منيتي معجلة ومنيتي مؤجلة وقيل لمدني ألا تغزو الأعداء قال أنا لا أعرفهم وهم لا يعرفوني فكيف صرنا أعداء وقيل وقع في بعض العسكر هيج فوثب خراساني إلى فرسه ليلجمها ويفر عليها فصير اللجام في الذنب وقال يخاطب الفرس هب جبهتك عرضت ناصيتك كيف طالت وفر أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد من أبي فديك فسار من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام فذكر عنده في بعض الأيام الخيل فقال سرت من المهرجان إلى البصرة في ثلاثة أيام فقال له ماجن من جلسائه ولو ركبت النيروز سرت إليها في يوم واحد واجتاز كسرى في بعض حروبه بشيخ وقد عرى فرسه ونزع سلاحه وهو مستظل بشجرة فقال يا مقتولاً بيدي أنا في كرب الحرب وأنت على هذه الحالة فقال الشيخ أيد الله الملك إنما بلغت هذا السن باستعمال هذا التوقي وقال المهلب لحبيب بن عوف وكان من جنده في قتال الخوارج كر على القوم وخذ مائتين صحاحاً فأومأ إلى رأسه وقال أخاف أن يذهب رأس المال وأنشد
يقول لي الأمير بغير نصح ... تقدّم حين جدّ بنا المراس
فمالي إن أطعتك من حياة ... ومالي غير هذا الرأس راس
ولبعض الشعراء
ولو أنّ لي رأسين أدخر واحداً ... وألقى الأعادي بعد ذاك بواحد
لا قدمت في الهيجاء اقدام باسل ... ولم أك هياباً لدفع الشدائد
ولكنّ لي رأساً إذا ما فقدته ... وفارقني يوماً فليس بعائد
ومما ينسب لأبي دلامة
ألا لا تلمني فررت وإنني ... أخاف على فخارتي أن تحطما
وايتم أولاداً وأرمل نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدّما
ولو كان لي نفسان كنت مقاتلاً ... بإحداهما حتى تموت فأسلما
وحكى ابن حبيب في كتابه المحير أن حبيباً دخل على المهلب بن أبي صفرة فأنشده
فقدتك يا مهلب من أمير ... أما تندى يمينك للفقير
فقال المهلب هو جنتي فوالله إني لأبذل لكم مالي وأقيكم الحروب بنفسي فقال حبيب إنا نكره اقحامك بنا المنايا فقال المهلب أوليس قد قال الأول
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت ... حبال المنايا بالفتى أن تقطعا
فقال حبيب خفض العيش والدعة والاعتياض عن الضيق بالسعة ثم أنشده ما قاله حين فر من أبي فديك يوم مردا هجر
بذلت لكم يا قوم حولي وقوّتي ... ونصحي وما حازت يداي من التبر
فلما تناهى الأمر بي وعدوّكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل ملامة عاجز ... يقيم لأطراف الردينية السمر
ولو كان لي رأسان أهملت واحداً ... لكل رديني وأبيض ذي أثر
فضحك منه ثم التفت إلى من حضر مجلسه وقال بمثل هذا فليقاتل الأعداء وقيل لانسان إذا رأيت سوداً بالليل فاقدم ولا تفرق منه فإنه يخافك كما تخافه قال أخاف أن يكون ذلك السواد سمع هذه المقالة قبلي وقيل لمطرف ابن عبد الله لم لا تخرج تقاتل مع علي رضي الله عنه قال لو كان لي نفسان قدمت إحداهما فإن أصابت الحق أتبعتها الاخرى ولكنها واحدة ودخل حميد بن الأرقط على الحجاج فأنشده قصيدة شاعر مختارة في صفة الحروب فقال الحجاج أراك تحسن صفة الحرب أقاتلت الأبطال وقابلت الأقيال قال لا أيها الأمير إلا في النوم قال وكيف كانت وقعتك قال انتبهت وأنا منهزم فضحك منه ووصله
صفات من بدل ثباته بالاحجام ... وقيد بالفرق قدمه عند الاقدام
قال الله تعالى يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو وقال عليه الصلاة والسلام نصرت بالرعب مسيرة شهر وقالوا فلان من خوفه يحسب كل صيحة عليه وكل يد تشير بالأخذ إليه شاعر
ما زلت أحسب كل خيل بعدها ... خيلاً تكرّ عليهم ورجالا
آخر
كأنّ بلاد اللّه وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
المتنبي
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
آخر
كأنّ بلاد اللّه في ضيق خاتم ... عليهم فلا تزداد طولاً ولا عرضا
وقالوا فلان تقلصت من الخوف شفتاه واصفرت من الهلع وجنتاه ومن أمثالهم أجبن من المنزوف ضرطاً وذلك إن رجلاً كان يتعشق نساء وكان يدعي عندهن الشجاعة فنام عندهن يوماً فأردن امتحانه فصحن به جاءتك الخيل فانتبه مذعوراً وما زال يضرط حتى مات قال أبو عبيدة كان خالد بن عبد الله القسري من أجبن الناس وأخوفهم فخرج عليه المغيرة بن سعيد فأخبر بذلك وهو على المنبر بالكوفة فدهش من شدة الخوف واصطكت أسنانه وجفت لهاته فقال أطعموني ماء وأدركوني فقد هلكت عطشاً ونزل عن المنبر هارباً وفيه يقول يحيى بن نوفل
بلّ السراويل من خوف ومن وهل ... واستطعم الماء لماجد في الهرب
ودخل الحجاف بن حكيم على عبد الملك بن مروان والأخطل عنده فلما بصر به الأخطل قال يعرض به
ألا بلغ الحجاف هل هو ثائر ... بقتلي أصيبت من سليم وعامر
فقال الحجاف
بل سوف نبكيهم بكل مهند ... ونبكي عميراً بالرماح الشواجر
ثم قال يا ابن النصرانية ما ظننتك تجترئ علي بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك فحم الأخطل خوفاً منه وجزعاً فقال له عبد الملك أنا جارك منه فقال يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في اليقظة فمن يجيرني منه في النوم أخذ هذا المعنى أشجع السلمى فقال من قصيدة يمدح بها الرشيد
وعلى عدوّك يا ابن عم محمد ... ضدّان ضوء الصبح والاظلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام
وقالوا فلان تخوفه أضغاث أحلام فكيف مسموع كلام فلان يرى صوت الرياح قعقعة الرماح فلان إذا خاف طار من خوفه كل مطار وفر فرار الليل من وضح النهار
الفصل الثالث من الباب الثاني عشر
فيمن ليم على الفرار والإحجام
فاعتذر بما ينفي عنه الملام
سمع سليمان بن عبد الملك قارئاً يقرأ قل لن ينفعكم الفراران فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلاً فقال ذلك القليل نريد وقال الوليد بن عقبة لعثمان بن عفان يقول لك عبد الرحمن بن عوف لم جفوتني ولم أفر يوم أحد ولم أتخلف يوم بدر يعرض به فقال أما فراري يوم أحد فلا تعيرني به فإن الله قد عفا عني فيمن عفا عنه وأما تخلفي يوم بدر فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت فأخبره عني بذلك ونظرت امرأة حماس ابن قيس البكري المعروف بالهارب له وقد رأته يشحذ حربته يوم فتح مكة وهو يقولإن تقبلوا اليوم فمالي علة ... هذا السلاح كامل واله
وذو عذار لي سريع السلة
فقالت ما تصنع بهذه الحربة فقال أعددتها لمحمد وأصحابه فقالت إني أرى أنه لا يقوم لك بها شيء قال والله إني أرجو أن أخدمك بعضهم ثم خرج فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وانهزم المشركون يوم الجندمة وفرحاس حتى دخل بيته فقال لامرأته اغلقي الباب فقالت له وأين ما كنت تقول فقال
لو أنك شهدت يوم الجندمة ... إذ فرّ صفوان وفرّ عكرمه
إذ قد لحقنا بالسيوف المسلمة ... لهم نشيش حولنا وهمهمه
يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا نسمع إلا غمغمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه
وذكر أن كسرى ابرويز لما انهزم من بهرام جور واستجار بملك الروم فعنفه على هربه وأمده بستين ألفاً منهم شجاع يعد بألف فسار بهم إلى بهرام فخرج بهرام لمحاربته فلما تلاقى الجيشان برز الشجاع لبهرام فضربه بالسيف ضربة قده بها نصفين فلفه كسرى وأنفذه إلى ملك الروم وقال إنما فزعت إليك من رجل يضرب مثلي هذه الضربة وذكر الطرطوشي في كتابه سراج الملوك أن هذه الضربة لم يسمع بمثلها في جاهلية ولا اسلام وإن هذه الرأس كانت معلقة في كنيسة من كنائس الروم وكانوا إذا عيروا بانهزامهم من تلك الوقعة يقولون لقينا رجالاً هذا ضربهم وحكى إن أبا زبيد الطائي واسمه حرملة بن المنذر دخل على عثمان بن عفان فلامه على فراره من الأسد لما عرف من شجاعته فقال يا أمير المؤمنين لا تلمني لقد رأيت منه منظراً وشهدت مخبراً لا يزال ذكره يتجدد في قلبي وشخصه يتمثل في عيني خرجنا نريد الحرث بن شمر الغساني ملك الشأم فاصابنا قيظ ذبلت منه الشفاه وعصبت الأفواه فانحزنا إلى واد أشجاره مغنة وأطياره مرنة فحططنا رحالنا ثم أخذنا نصف حر يومنا ونذكر مطاولته ومماطلته فبينما نحن كذلك إذ صوب أقصى الخيل أذنيه وفحص الأرض بيديه ثم ما لبث أن جال محمحماً ومال مهمهماً فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل وتقهقرت البغال فمن نافر بشكاله وناهض بعقاله فحدقنا أبصارنا وإذا سبع قد أقبل يتطاول في مشيئته كإنه محبوب وينظر بعينين كأنهما جمر مشبوب له خطيط ولصدره نحيط ولبلاعيمه غطيط ولطرفه وميض ولارساغه نقيض كأنه يخط هشيماً ويطأ صريماً ذو هامة كالمجن وخد كالمسن وساعد مجدول وعضد مفتول وكف شثنة البراثن ومخالب كالمحاجن فضرب بذنبه الأرض فأرهج وكشر فأفرج عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة في فم أشدق كالغار الأخرق ثم تمطى فأشرع بيديه وحفز وركيه برجليه فصار ظله مثليه ثم أقعى فاقشعر ثم مثل فاكفهر وزأر فجرجر ثم لحظ فرؤى السماء عرشه فخلت البرق يتطاير من تحت جفونه عن شماله وجمحت العيون وانحزت المتون ولحقت الظهور بالبطون وساءت الظنون ثم أنشد
عبوس شموس مصلخد خنابس ... جرئ على الأرواح للقرن قاهر
منيع ويحمي كل واد يرومه ... شديد أصول الماضغين مكابر
براثنه شثن وعيناه في الدجى ... كجمر الغضا في وجهه الشرّ طائر
يذل بأنياب حداد كأنها ... إذا قلص الأشداق منها خناجر
فقال له عثمان اكفف لا أم لك لقد أرعبت قلوب المسلمين ولقد وصفته حتى كأني أنظر إليه يريد مواثبتي وكان أبو زبيد هذا نصرانياً ومات ولم يسلم وقد ذكر علما الرواة لأخبار العرب وأشعارها هذه الحكاية بأطول مما أثبتناه لكنا استغنينا باليسير منها عن الكثير لدلالته على الغرض المقصود في ذكره للأسد بالوصف الشنيع والمرأى الفظيع ليبلغ في الاعتذار عن هربه مقتضى أربه فلما لم يكن بنا لذكرها على التمام حاجة اقتصرنا على الخلاصة منها لا المجاجة من أحسن من الجبناء في اعتذاره لما قرع على انهزامه وفراره الحرث ابن هشام وكان قد شهد بدراً مشركاً فانهزم فصنع حسان قصيدة استطرد به فيها يقول منها
إن كنت كاذبة الذي حدّثتني ... فنجوت منجى الحرث بن هشام
ترك الأحبة إن تقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرّة ولجام
فأجابه الحرث
اللّه يعلم ما تركت قتالهم ... حتى رموا فرسي بأشقر مزبد
وعلمت إني إن أقاتل واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
وشممت ريح الموت من تلقائهم ... في مازق والخيل لم تتبدّد
فصدفت عنهم والأحبة دونهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
وأنشد هذا الاعتذار لبعض ملوك العجم فقال يا معشر العرب لقد بلغتم بلطافة ألسنتكم وحسن احتجاجكم وجميل أوصافكم مبلغاً لم يبلغه أحد غيركم حتى اعتذرتم عن الفرار بعذر يسع بعدكم الاعتذار به لكل منهزم وتوفي الحرث هذا سنة ثمان عشرة بالطاعون وهو طاعون عمواس قرية بالشأم وفيها توفي أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم ويقال إن عبد الله بن عنقاء الجهمي لقيه بنو عبس يسوق بأمرأته أم الحصين ففر عنهم فعيرته امرأته فقال
أجاعلة أم الحصين خزاية ... عليّ فراري أن لقيت بني عبس
لقيت أبا شاس وشاساً ومالكاً ... وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي
جذيمة دعواهم وعود بن غالب ... أولئك جاشت من لقائهم نفسي
كأن جلود النمر صبت عليهم ... إذا جعجعوا بين الاباحة والحبس
أتونا فضموا جانبينا بصادق ... من الطعن فعل النار بالحطب اليبس
نحوت سليمى لم تمزق عمامتي ... ولكنهم بالطعن قد مزقوا ترسي
وليس الفرار اليوم عاراً على الفتى ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
وقيل لبعضهم لم انهزمت فقال إنما لي نفس واحدة وأنا حقيق بالنظر إليها لئلا يذهب رأس المال وليم آخر على فراره فقال الحرب سجال وعثراتها لا تقال وانهزم بعضهم فأخذ أميره يوبخه ويعنفه على فراره وقال أعطبت بيدك ولا طعنت ولا ضربت فقال لان يشتمني الأمير أصلحه الله وأنا حي خير من أن يترحم علي وأنا ميت وقيل لآخر ولي في حرب ويلك لا تهرب يغضب الأمير عليك فقال غضب الأمير علي وأنا حي أحب إلي من رضاه عني وأنا ميت ومن أغاليط أعاذيرهم المسكتة وأكاذيب أساطيرهم المبكتة ما ذكره صاحب كليلة ودمنه من أن الحازم يكره القتال ما وجد بدلاً منه لأن النفقة فيه من النفوس والنفقة في غيره من المال التقى عسكر دبيس بن صدقة وعسكر الراشد فولي دبيس منهزماً فعبر الفرات يريد النجاة فقصد بعض أحياء العرب فقالت له عجوز من عجائزهم دبيراً جئت فقال دبير من لم يجئ وقالوا من جبن سلم ومن تهور ندم وقال عبد الله بن المقفع الشجاعة متلفة وذلك أن المقتول مقبلاً أكثر من المقتول مدبراً فمن أراد السلامة فليؤثر الجبن على الشجاعة وقيل لجبان لم لا تقاتل فقال عند النطاح يغلب الكبش الأجم وقالوا الحياة أفضل من الموت إذا كانت النجاة إلى حياة صالحة على أن موتاً في عز خير من حياة في ذل وقالوا الفرار في وقته ظفر وقالوا الشجاع ملقى والجبان موقى وقالوا السلم أزكى للمال وأبقى لأنفس الرجال وقال شاعرهم وهو البديع الهمداني
ما ذاق هما كالشجاع ولا خلا ... بمسرة كالعاجز المتواني
وقالوا الهرب في وقته خير من الجلد والثبات في غير وقته وقال المتوكل لأبي العيناء إني لافرق من لسانك فقال يا أمير المؤمنين الكريم ذو فرق واحجام واللئيم ذو وقاحة واقدام
الباب الثالث عشر
في العفو
وفيه ثلاثة فصولالفصل الأول من هذا الباب
في مدح من اتصف بالعفو
عن الذنب المتعمد والسهو
قال الله تعالى وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال تعالى فمن عفى وأصلح فأجره على الله وقال تعالى وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوبا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقال مسلماً عثرته أقاله الله عثراته يوم القيامة وقال عليه الصلاة والسلام إن العفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله ويروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال ما من امام عفا بعد قدرة إلا قيل له يوم القيامة ادخل الجنة بغير حساب وقال معاذ بن جبل لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي ما زال جبريل يوصيني بالعفو فلولا علمي بالله لظننت أنه يوصيني بترك الحدود وقيل لأبي الدرداء من أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر وينصر إذا استنصر وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من عفا عمن ظلمه صغيرة أو كبيرة فاجره على الله ومن كان أجره على الله فهو من المقربين يوم القيامة وحده على ما قاله بعض العلماء وقد سئل عنه هو ترك المكافأة عند القدرة قولاً وفعلاً وقال آخر هو السكون عند الأحوال المحركة للانتقام وهو يجمع أشرف الخلال وأكرم الخصال وأفضل شمائل الجلال وأعلى مراتب الكمال وركن متين وحصن حصين من استند إليه واعتمد عيه استنارت له الظلم وأمن من عثرات القدم وعصم من مواقع الندم ويكفي في شرفه إن الانسان لا يسمى حليماً حتى يكون عاقلاً عالماً محسناً صبوراً وحتى يجمع عظم القدر إلى سعة الصدر وقالوا الحليم من لم يكن حلمه لفقد النصرة وعدم القدرة وهو غريزة في الانسان يمنحها واهب الاحسان تصدر عن صدر سالم من الغوائل والأدواء صاف من شوائب الكدر ولاقذاء لا تستطاع بتعلم وتفكر ولا تدرك بتفقه وتبصر كما قال أبو الطيب المتنبيوإذا الحلم لم يكن في طباع ... لم يحلم تقدّم الميلاد
فقد يكون طبيعة ويكون مكتسباً مستفاداً بتمرن النفس إليه وتنقاد حباً في المحمدة إليه ويعضد هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لاشح عبد القيس يا أبا المنذر إن فيك خصلتين يرضاهما الله ورسوله الحلم والأناة فقال يا رسول الله أشيء جبلني الله عليه أو شيء اخترعته من قبل نفسي قال بل شيء جبلك الله عليه فقال الحمد لله الذي جبلني على خلق يرضاه الله ورسوله وقال المخالفون لهذا المذهب الحلم بالتحلم كما أن العلم بالتعلم واستدلوا لهذا القول بما يروى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه فقيل له في ذلك فقال إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم وقيل كان له عبد سيء الخلق فقيل له ما بقاء مثل هذا عندك وأنت قادر على أن تستبدل به غيره قال لأتعلم به الحلم ومن ذلك قول الأحنف من لم يصبر على كلمة سمع كلمات وأنشد
وليس يتم الحلم للمرء راضياً ... إذا هو عند السخط لم يتحلم
كما لا يتم الحلم للمرء موسراً ... إذا هو عند العسر لم يتحشم
ومن أحاسن الكلام الصادر عن الحكماء في شرف الحلم ومن تخلق به من الحلماء قالوا الحلم والأناة توأمان نتيجتهما علو الهمة وهذا كما ورد عن علي رضي الله عنه أنه سأل رجلاً من أهل فارس عمن كان أحمد ملوكهم سيرة قال أنوشروان فقال علي أي أخلاقه كان أغلب عليه قال الحلم والأناة فقال على هما قوام الملك نتيجتهما علو الهمة والأناة ترك العجلة بالانتقام عند القدرة قال إبراهيم بن العباس الصولي
لن يدرك المجد أقواماً وإن كرموا ... حتى يذلوا وإن عزو الأقوام
ويشتموا فترى الألوان مسفرة ... لا صفح ذل ولكن صفح اكرام
وقال قابوس بن وشمكير العفو عن الذنب من واجبات الكرم وقبول المعذرة من محاسن الشيم ومن كلام التبوة كاد الحليم أن يكون نبياً ورأى حكيم نزقة من ملك فقال أيها الملك ليس التاج الذي يفتخر به عظماء الملوك فضة ولا ذهباً ولكنه الوقار المكلل بجواهر الحلم وأحق الملوك بالبسطة من حلم عند ظهور السقطة وقال معاوية لابنه يزيد عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة فإذا أمكنتك فعليك بالصفح فإنه يدفع عنك مضلات الأمور ويوقيك مصارع المحذور وقال الشاعر
لا تحسبن الحلم منك مذلة ... إنّ الحليم هو الأعز الأمنع
إن جرعوك الغيظ فأجرعه لهم ... تؤجر وتحمد غب ما يتجرع
آخر
إنّ التحلم ذل أنت عارفه ... والحلم عن قدرة أفضل من الكرم
وقال معاوية أفضل ما أعطى الرجل الحلم فإنه إذا ذكر ذكر وإذا قدر غفر وإذا أساء استغفر وقالوا العفو يزين حالات من قدر كما يزين الحلي قبيحات الصور وقالوا الحلم مطية وطية تبلغ راكبها قصبة المجد وتملكه ناصية الجد وقال بعض البلغاء من غرس الحلم شجراً وسقاه الأناة درراً جنى العز منه ثمراً وأثبت المكارم أثراً شاعر
إذا شئت يوماً أن تسود عشيرة ... فبالحلم سدلاً بالتسرع والشتم
فللعلم خير فاعلمن مظنة ... من الجهل إلا أن تشينه بالظلم
آخر
اخفض جناحك للقرابة والقهم ... بتودد واغضض لهم ان أذنبوا
وصل الكرام فإن ظفرت بزلة ... فالصفح عنهم والتجاوز قرب
آخر
إلا إنّ حلم المرء أكرم نسبة ... تسامى بها عند الفخار كريم
فيا رب هب لي منك حلماً فإنني ... أرى الحلم لم يندم عليه حليم
وقالوا الحلم حجاب الآفات وقالوا من غرس شجر الحلم اجتنى ثمر السلم وقال عمر بن عبد العزيز ما قرن الله شيأً إلى شيء أفضل من علم إلى حلم ومن عفو إلى قدرة وقال حكيم خير الأمور بغية العفو وخير العفو ما كان عن قدرة وقال الشاعر
العفو يعقب راحة ومحبة ... والصفح عن ذنب المسئ جميل
وقال عمر أيضاً استدعوا العفو من الله بالعفو عن الناس والرحمة بهم والشفقة عليهم وقالوا اعف عمن لم يسلك من سخطك طريقاً حتى يأخذ من رجائك طريقاً ويروى عن عيسى عليه السلام أنه قال ليس الاحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك إنما تلك مكافأة وإنما الاحسان أن تحسن إلى من أساء إليك وقال سعيد بن العاص ما شاتمت أحداً مذ صرت رجلاً لأني ما أشاتم إلا أحد رجلين إما كريماً فأنا أحق أن أحتمله أو لئيماً فأنا أولى من رفع نفسه عنه وقال عمر بن الخطاب ادرؤا الحدود بالشبهات ولان يخطئ الامام في العفو أحب إلي من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم مخرجاً للسلم فادرؤا الحدود شاعر
وما بال من أسعى لاجبر عظمه ... سفاهاً وينوي من سفاهته كسرى
أظن خطوب الدهر بيني وبينهم ... ستحملهم مني على مركب وعر
أعوذ على ذي الجهل والحلم منهم ... بحلمي ولو عاقبت غرقهم بحري
أناة وحلماً وانتظاراً بهم غدا ... وما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
ألم تعلموا أني تخاف عزيمتي ... وإن قناتي لا تلين على الكسر
من عرف بالعفو عند خطا الجاني ... وصار بالأناءة عليه كالأب الحاني
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حليماً رحيماً رؤفاً عطوفاً يهب ويسمح ويعفو ويصفح وكان كسرى يقول عفوي عمن أساء إلي بعد قدرتي عليه أسر لي مما ملكت وكان معاوية يقول ما وجدت لذة ألذ عندي من غيظ أتجرعه ومن سفه بالحلم أقمعه وكان يقول إني لاكره أن يكون في الأرض جهل لا يشمله حلمي وذنب لا يسعه عفوي وكان المأمون ممن أوتي الحلم طبعاً لا تطبعاً ومنح العفو خلقاً لا تخلقاً فكان يقول إني لاستحلي العفو حتى أخاف إني لا أوجر عليه ولو علم الناس محبتي في العفو لتقربوا إلي بالذنوب فكأنه القائل بلسان كرمه وأفضاله لا بلسان نطقه ومقاله
وجهل رددناه بفضل حلومنا ... ولو أننا شئنا رددناه بالجهل
رجحنا وقد خفت حلوم كثيرة ... وعدنا على أهل السفاهة بالفضل
عامر العدواني
إني غفرت لظالمي ظلمي ... وتركت ذاك له على علمي
فرأيته أسدى إليّ يداً ... لما أبان بجهله حلمي
وكان يقول ليس في الحلم مؤنة ووددت أن أهل الجرائم عرفوا رأيي في الحلم حتى يذهب عنهم الخوف فتصفو إلي قلوبهم وكان يقول المذنبون ثلاثة فمنهم من ذنبه مقرون بعذره قد أماطه عنه وأخرجه سليماً منه ومنهم من ذنبه فاضح وعذره غير واضح وهو فرد لا أخ له وفذ لا توأم معه فالأولى به أن يقال إذا اعترف بالحوبة وأخلص لي التوبة ومنهم المتردد في هفواته والمتكرر في عثراته الجارية عادته أن يكثر التوبة إذا تاب ويفسخ عقد الانابة متى أناب فذاك الذي يعاقب بالاطراح ولا يطمع في شخصه بالفلاح وكان أسماء بن خارجة يقول ما أتاني أحد بما أكره إلا أخذت عليه بثلاث خصال فإن كان فوقي عرفت له فضل التقدم فاتبعته وإن كان دوني صفت نفسي عنه وإن كان مثلي تفضلت عليه نظم محمود الوراق هذه الكلمات في هذه الثلاثة الأبيات فقال
سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب ... وإن عظمت منه عليّ الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثلي مقاوم
فأما الذي فوقي فاعرف فضله ... واتبع فيه الحق والحق لازم
وأما الذي دوني فإن قال منكراً ... صفحت له عنه وإن لام لائم
وأمّا الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضلت إنّ الفضل بالحلم حاكم
الناشي في مثل هذا
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
فإن كنت أدنى منه في العلم والحجى ... عرفت له حق التقدّم بالفضل
وإن كان مثلي في محلّ من النهى ... أردت لنفسي أن أجلّ عن المثل
وقال المأمون وجدت المسئ إلي عبد الله ولو أساء إلي عبد لاخ لصفحت عنه اكراماً له فكيف لا أصفح عن عبد مسئ هو عبد الله تعالى ولأبي فراس الحمداني
ما كنت مذ كنت الأطوع خلاني ... ليست مؤاخذة الاخوان من شاني
يجنى الخليل فاستجلى جنايته ... حتى أدلّ على عفوي واحساني
يجنى عليّ وأحنو دائماً أبداً ... لا شيء أحسن من حان على جان
وقال رجل للأحنف في مشاجرة وقعت بينهما إن قلت كلمة لتسمعن عشر كلمات فقال الأحنف لو قلت عشراً لم تسمع واحدة ومن حكاياته الدالة على كرم نجره القاضية له بتضعيف أجره أن رجلاً جعل له ألف درهم على أن يغضبه فوقف الرجل وبالغ في سبه والأحنف يعرض عنه غير مكترث به فلما رآه لا ينظر إليه ولا يرد عليه أقبل يعض أنامله ويقول واسوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه ولهذا قيل الحليم من صمت عن سماع الخنى وأغضت عيناه على مضض القذى
ما اخترناه وانتقيناه من غرر الممادح ... المقولة فيمن أغضى عن المسئ القادح
مدح أعرابي رجلاً بالحلم فقال إن أذنبت إليه استغفر فكأنه المذنب وإن أحسن إليك اعتذر فكأنه المسئ الحسن بن رجاء في المأمون
صفوح عن الاجرام حتى كأنه ... من العفو لم يعرف من الناس مجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى ... إذا ما الأذى لم يغش بالكره مسلما
وقال آخر
يعفو عن الذنب العظي ... م وليس يعجزه انتصاره
صفحاً على الباغي علي ... ه وقد أحاط به اعتذاره
وقال أبو الحسن مهيار بن مردويه الديلمي من أبيات
وإذا اباء المرء قال لك انتقم ... قالت خلائقك الكرام بل احلم
شرع من المجد انفردت بدينه ... وفضيلة لسواك لم تتقدّم
حتى لقد ودّ البرئ لو أنه ... أدلى إليك بفضل جاه المجرم
ولغيره من أبيات
فدهره يصفح عن قدرة ... ويغفر الذنب على علمه
كأنه يأنف من أن يرى ... ذنب امرئ أعظم من حلمه
الفصل الثاني من الباب الثالث عشر
فيمن حلم عند الاقتدار
وقبل من المسئ الاعتذار
ولنبدأ الآن بما يجب على الأحرار من الصفح المتبجح بالأقدار قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يقبل عذراً من معتذر صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على الحوض وقالوا الكريم أوسع ما يكون مغفرة إذا ضاقت بالمسئ المعذرة شاعرإذا اعتذر المسئ إليك يوماً ... من التقصير عذر فتي مقر
فصنه عن عتابك واعف عنه ... فإنّ العفو شيمة كل حر
ويقال توبة المذنب اقراره وشفيع المجرم اعتذاره وقال الشاعر
اقبل معاذير من يأتيك معتذراً ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من يرضيك ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
وقالوا لا يظهر الحلم إلا مع الانتصار ولا يبين العفو إلا عند الاقتدار شاعر
إن للاعتذار حظاً من العف ... و يراه المقر بالانصاف
ولعمري لقد أجلك من قد ... جا مقراً بذلة الاقتراف
آخر
إذا ما امرؤ من ذنبه جاء تائباً ... إليك ولم تغفر له فلك الذنب
وقالوا ما أذنب من اعتذر ولا أساء من استغفر وقال محمد بن شيرذاذ الأصاغر يهفون والأكابر يعفون كتب بعضهم إلى رئيس يعتذر إليه من ذنب اقترفه
اغتفر زلتي لتحرز فضلي ... واعف عني ولا يفوتك أجري
لا تكلني إلى التوسل بالعذ ... ر لعلي أن لا أقوم بعذري
ومن وصاياهم إياك وتكرير العذر فإنه تذكير بالذنب وقال الشاعر
إذا كان وجه العذر ليس ببين ... فإن اطراح العذر خير من العذر
ومن وصاياهم إياك وما يعتذر منه وقولهم إياك وما يسبق إلى القلوب انكاره وإن كان عندك اعتذاره فما كل من أسمعته نكراً يطيق أن توسعه منك عذرا
ذكر منق در من الصدور فعفا ... وأثلج الصدور بالمنة وشفى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن أهل مكة كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بالقول فقالوا كذاب وساحر ومجنون وغير ذلك من السب والشتم وبعدها بالفعل فكانوا يقصدون نكايته في نفسه وأهله ولكثرة ايذائهم له قال ما أوذي أحد مثل ما أوذيت رموه بالحجارة فشجوا جبينه وكسروا رباعيته ووضعوا الشوك في طريقه وشقوا الكرش على رأسه وحاربوه وقتلوا أعمامه وعذبوا أصحابه وألبوا عليه وأخرجوه من أحب البقاع إليه وقتلوا عمه حمزة وبقروا بطنه ومثلوا به حتى إذا فتح الله مكة على يديه ودخلها بغير حمدهم وظهرت بها كلمته على رغمهم أخذ بعضادتي باب الكعبة وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وشكره على ما منحه من الظفر وقال لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم قال ما تقولون وما تظنون إني فاعل بكم فقال سهل بن عمرو ونقول خبراً ونظن خيراً أخ كريم وابن أخي كريم وقد قدرت فقال أقول لكم كما قال أخي يوسف لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا فأنتم الطلقاء ولما ظفر انوشروان ببزرجمهر وكان قد ترك دين المجوس قال الحمد لله الذي أظفرني بك قال كافئ من أعطاك ما تحب بما يحب فعفا عنه وحكى عن سلم بن نوفل وكان سيد قومه أن رجلاً ضرب ولده فشجه فأتى به إليه فقال له ما حملك على ما فعلت وما الذي أمنك من انتقامي منك فقال الرجل إنما سودناك لأنك تحلم وتكظم الغيظ وتحتمل جهل الجاهل فقال له إني آثرت حلمي وكظمت غيظي واحتملت جهلك خلواً عنه فولي الرجل وهو يقول
تسوّد أقوام وليسوا بسادة ... بل السيد المعروف سلم بن نوفل
وحكى أن عبد الملك بن مروان نقم على رجل ذنباً فهرب منه فلما ظفر به هم بقتله فقال له الرجل إن الله قد فعل ما أحببت من الظفر فافعل ما يحبه من العفو فإن الانتقام عدل والتجاوز فضل والله يحب المحسنين فعفا عنه وأساء بعض جلسائه عليه الأدب فاطرحه وجفاه ثم دعاه بعد أيام لأمر عن له فرآه شاحب اللون نحيلاً فقال له متى اعتللت فقال ما مسني سقم ولكنني جفوت نفسي مذ جفاني الأمير فاستحسن ذلك منه وعفا عنه وقال الأصمعي أتى المنصور برجل ليعاقبه على شيء بلغه عنه قال له أتحصيه فقال يا أمير المؤمنين الانتقام عدل والتجاوز فضل ونحن نعيذ أمير المؤمنين بالله أن يرضى لنفسه بأوكس النصيبين دون أن يبلغ ارفع الدرجتين فعفا عنه وقال المنصور لجان عجز عن الاعتذار ما هذا الوجوم وعهدي بك خطيباً لسنا فقال يا أمير المؤمنين ليس هذا موقف مباهاة ولكنه موقف توبة والتوبة تلفي بالاستكانة والخشوع والذلة والخضوع فرق له وعفا عنه وسعى إلى المنصور برجل من ولد الأشتر النخعي ذكر عنه الميل إلى بني علي بن أبي طالب والتعصب لهم فأمر باحضاره فلما مثل بين يديه قال يا أمير المؤمنين ذنبي أعظم من نقمتك وعفوك أوسع من ذنبي ثم قال
فهبني شيأً كالذي قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو منك لسوء ما ... أتيت به أهلاً فأنت له أهل
فعفا عنه وأتى المنصور برجل أذنب فقال يا أمير المؤمنين إن الله أمر بالعدل والاحسان فإن أخذت في غيري بالعدل فخذ في بالاحسان فعفا عنه وأتى الهادي برجل فعل ما أنكره عليه فجعل يقرعه ويوبخه ويهدده ويتوعده فقال يا أمير المؤمنين اعتذاري عما تقر عيني عليه رد عليك وامساكي عن الاعتذار يوجب ذنباً لم أجنه ولكني أقول
فإن كنت ترجو في القيامة رحمة ... فلا تزهدن في العفو عني وفي الأجر
ولما خرج إبراهيم بن المهدي على عبد الله المأمون عندما عقد لعلي بن موسى الرضا بولاية العهد بعده وأمر الناس بلباس الخضرة كره أهل بغداد ذلك وبايعوا إبراهيم ولقبوه بالمبارك وذلك في سنة اثنتين ومائتين فأقام سنة واحد عشر شهراً وأياماً يخطب له ثم دخل المأمون بغداد في صفر سنة أربع ومائتين وهي السنة التي مات فيها الشافعي وعليه الخضرة فاختفى إبراهيم ولم يظهر إلى سنة عشر فلما ظفر به المأمون أوقفه بين يديه وقد اجتمع في مجلسه وجوه دولته ووزراؤها وقضاتها وكتابها وأمراؤها وقوادها فاستشار من حضر في أمره فكل أشار بقتله وكان فيمن حضر أحمد بن أبي خالد ساكتاً لا يتكلم ولا يفيض معهم في شيء من ذلك فقال له المشأمون مالك لا تنطق فقال يا أمير المؤمنين كم قتل مثلك مثله ولم يعف مثلك عن مثله ولان تكون أوحد في العفو أحب إلي من أن تكون شريكاً في العقوبة فأعجب المأمون كلامه وعفا عنه ويروى أنه لما مثل بين يديه قال له ما حملك على اجترام ما أداك إلى حتفك قال القدرة تذهب الحفيظة وولي الثار مخير في القصاص والعفو والعفو منك أقرب وقد جعلك الله فوق كل ذي حلم كما جعلني فوق كل ذي ذنب فإن تعف فبفضلك وإن تعاقب فبعدلك وإنه وإن كان ذنبي أعظم من أن يحيط به عذر فعفو أمير المؤمنين أعظم من أن يتعاظمه ذنب فقال المأمون قد رأيت وما توفيقي إلا بالله تحقيق ظنك في العفو عن خطيئتك والصفح عن جليل جرمك واقالتك العثرة وامانك على نفسك وأنشد
لما رأيت الذنوب جلت ... عن المجازاة في العقاب
جعلت عنها العقاب عفواً ... امضى من الضرب للرقاب
كان أبو نواس قد غلب على قلبه حب الأمين والتهالك فيه والغرام حتى قال فيه
عذب قلبي ولا أقول بمن ... خافه لا أخاف من أحد
إذا تفكرت في هواي له ... لمست رأسي هل طار عن جسدي
فاتصلت هذه الأبيات بالمأمون فقال من يقال فيه هذا يصلح أن يكون خليفة للمسلمين فبلغ ذلك الأمين فأمر بقتل أبي نواس حيث وجد فشفع فيه فأمر بحبسه ولا يمكن من ورقة ولا دواة فحلق رأس عبد له وكتب فيها بالفحم
بك أستجير من الردى ... متعوذا من سطو باسك
وحياة رأسك لا أعو ... د لمثلها وحياة راسك
من ذا يكون أبا نوا ... سك إن قتلت أبا نواسك
وكتب تحت الأبيات إذا قرأ أمير المؤمنين الرقعة يخرقها ثم قال للغلام سر إلى دار الخلافة فإذا جئتها ناد نصيحة لأمير المؤمنين فإذا دخلت على الخليفة اكشف رأسك ليرى ما فيها مكتوباً ففعل الغلام ما أوصاه به فلما قرأ الأمين الأبيات ضحك وقال ما ألطفه وأظرفه وأمر باطلاقه وحكى عبد الرحمن اليزيدي قال حضرت مجلس المأمون وهو على شراب فدعاني وأكرهني حتى شربت فكلمني بكلمة في حال السكر فأجبته عنها جواباً قبيحاً وأنا لا أعلم لما أخذ الشراب مني وغلبة السكر علي فاعلمت بذلك بعد انصراف المجلس فكتبت إليه
أنا المذنب الخطاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
ثملت فأبدى مني الكاس بعض ما ... كرهت وما أن يستوي السكر والصحو
تنصلت من ذنبي تنصل ضارع ... إلى من إليه يحسن العفو والسهو
فإن تعف عني ألف خطوي واسعاً ... وإن تكن الأخرى فقد قصر الخطو
فلما قرأ المأمون رقعته قال قد صفحنا عنك فإن مجلس الشراب يطوي بما فيه ويقال بل وقع على الرقعة
إنما مجلس الندامى بساط ... للمودّات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهى إلى ما أرادوا ... من حديث ولذة رفعوه
حكاه المرزباني في كتاب طبقات الشعراء وعرف باليزيدي لأنه كان يؤدب ولد يزيد ابن منصور الحميري خال المهدي وقال الحسن بن سهل للمأمون في رجل مسئ هبه لي فقال وكيف أهبه لمن ليس به قدرة عليه وعفا عنه واحضر إليه رجل أذنب فقال له أنت الذي فعلت كذا وكذا قال نعم يا أمير المؤمنين أنا ذاك الذي أسرف على نفسه وأتكل على عفوك فعفا عنه وقال الصولي ما كان في الخفاء أحلم من الواثق ولا أصبر منه على أذى وكان يتشبه بالمأمون فمما ذكر عنه أنه كان يعجبه غناء أبي حشيسة الطنبوري فوجد المسدود المغنى من ذلك حسداً فكتب في رقعة بيتين يهجو بهما الواثق وكانت الرقعة معه لا تبرح واتفق إن كتب رقعة يسأل فيها حاجة من الواثق فغلط وأعطاه الرقعة التي فيها البيتان ففتحها فإذا فيها
من المسدود في الأنف ... إلى المسدود في العين
أنا طبل له شق ... فيا طبل بشقين
وكان على إحدى عيني الواثق بياض وإلى ذلك نحا المسدود فلما قرأهما علم إنهما فيه فقال له قد غلطت في ورقة الحاجة فاحترس من مثلها وردها إليه وقضى حاجته ولم يتغير لها عما كان عليه ولما ظفر المتوكل بمحمد بن المغيث الربعي وكان قد خرج عليه في سنة أربع وثلاثين ومائتين فلما وقف بين يديه وهو مكبل قال له ما حملك على أن خرجت علي وأنت لا ذو مال ولا ذو مدد من رجال فقال الشقوة والجبن يا أمير المؤمنين وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه وإني بين ظنين أسبقهما إلى قلبي أولى بك من الآخر ثم أنشد
أبى القوم إلا إنك اليوم قاتلي ... امام الهدى والعفو في اللّه أجمل
وهل أنا إلا جبلة من خطيئة ... وعفوك من نور الخلافة يجبل
تضاءل ذنبي عند عفوك قلة ... فمنّ بعفو منك والعفو أفضل
وإنك خير السابقين إلى التقى ... ولا شك أن خير الفعالين تفعل
وأمر بفك قيده وغله وخلع عليه وأمر له بصلة وهجا الحيص بيص الشاعر المسترشد فأباح دمه فهرب إلى دبيس بن صدقة ثم عاد إلى بغداد مستخفياً وكتب إلى المسترشد يستعطفه لولا جرائم العبيد لم يظهر حلم الموالي وقد أتيتك مستجيراً بعفوك من سطوتك وبحلمك من نقمتك فوقع على رقعته ليوغر بمسارعة العفو مع عظيم الجرم احتقاراً بالمعفو عنه
مكرمة لا نظير لها ... ولم يكتب المؤرخون مثلها
حكوا عن محمد بن حميد الطوسي أنه كان يوماً على غذائه وإذا بضجة عظيمة على الباب فرفع رأسه وقال لبعض غلمانه ما هذه الضجة من كان عند الباب فليدخل فخرج الغلام وعاد وقال يا مولاي إن فلاناً أخذ وجئ به موثوقاً بالحديد والغلمان والشرط ينتظرون أمرك فيه فرفع يده من الطعام سروراً بأخذه فقال رجل ممن كان حاضراً عنده الحمد لله الذي أمكنك من عدوك فسبيلك أن تسقي الأرض من دمه وقال آخر بل يصلب حياً ويعذب حتى يموت وتكلم كل أحد بما وفق له وهو ساكت مطرق ثم رفع رأسه وقال يا غلام فك عنه وثاقه وأدخله إلينا مكرماً فلم يكن بأسرع مما امتثل أمره وأدخل إليه رجل لا دم فيه فلما رآه هش له ورفع مجلسه وأمر بتجديد الطعام وجعل يبسطه ويلقمه حتى انتهى الطعام ثم أمر له بكسوة حسنة وصلة جميلة وأمر برده إلى أهله مكرماً ولم يعاتبه بحرف واحد على جنايته ثم التفت إلى جلسائه وقال لهم إن أفضل الأصحاب من حض الصاحب على المكارم ونهاه عن ارتكاب المآثم وحسن له أن يجازي الاحسان بضعفه والاساءة عمن أساء إليه بصفحه انا إذا جازينا من أساء إلينا بمثل ما أساء فأين موضع الشكر عما أتيح من الظفر إنه ينبغي لمن يحضر مجالس الملوك أن يمسك الاعن قول سديد وأمر رشيد فإن ذلك أدوم للنعمة وأجمع للألفة إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم وأحسن منها ما كتب به المعتصم إلى عبد الله بن طاهر عافانا الله وإياك قد كانت عليك هناة غفرتها لك لاقتداري عليك وقد بقيت في قلبي عليك حزازات أخاف عليك منها عند نظري إليك فإن أتاك مني ألف كتاب استقدمك فيها فلا تقدم وحسبك معرفة ما أنا عليه لك اطلاعي إياك على ما في ضميري والسلام
وممن أحسن من الأماثل إلى من أساء إليه وأسبل عند القدرة ستر المن عليه يزيد بن المهلب وذلك أنه بلغه أن حمزة بن بيص الشاعر هجاه فأحضره وأمر بتجريده وضربه وكان عليه حلة ديباج كان المهلب وهبها له فعسر نزعها فأمر بتخريقها فلما عزم على ذلك رآه يزيد يهمهم بشفتيه فقال له ويحك ما الذي تقول قال قلت
لعمرك ما الديباج خرّقت وحده ... ولكنما خرقت جلد المهلب
فأطلقه واعتذر إليه ووصله ولما ظفر الحجاج بمحمد بن عبد الرحمن بن الأشعث وكان قد خرج عليه وخلع عبد الملك بن مروان فأمر بضرب أعناق الجند الذين ظفر بهم حتى أتى على رجل من بني تميم فقال والله أيها الأمير لئن أسأنا في الأدب لما أحسنت في العقوبة فقال الحجاج أف لهذه الجيف أما كان فيهم من يحسن بمثل هذا وأمر باطلاق من بقي وعفا عنهم ومن أخبار الحجاج في العفو عن عدوه بع الظفر به ما حكى أنه لما ظفر بعامر بن حطاب مع جماعة من الخوارج الصفرية وكان حنقاً عليه لبسالته وشجاعته ونكايته في أصحابه فقال يا غلام اضرب عنق ابن الفاعلة فقال عامر يا حجاج بئس ما أدبك أهلك أبعد الموت غاية استنعتك بها ما يؤمنك لو رددت عليك أضعاف ما قلت فاستحيا الحجاج منه وقال له أفيك موضع للصنيعة قال أجل فأمر له بفرس وسرج وسيف وخلى سبيله ويقال إنه لما صار إلى أصحابه قالوا له عد إلى قتال الفاسق فالله أطلقك فقال هيهات غل يداً مطلقها وارتهن رقبة معتقها وقال
أأقاتل الحجاج عن ملكوته ... بيد تقرّ بأنها مولاته
إني إذا لاخو الدناءة والذي ... عفت على عرفانه جهلاته
ماذا أقول إذا وقفت ازاءه ... في الصف واحتجت له فعلاته
أأقول جرت على إني عند ذا ... لاحق من جارت عليه ولاته
تاللّه لا كدت الأمير بآلة ... وجوارحي وسلاحها آلاته
أأكيده وعليّ سخطة خالقي ... وعليه رحمة مالكي وصلاته
لأشد من كفر الكفور وجحده ... نار تسوء للفحها حالاته
وتحدّث الأكفاء أنّ صنائعاً ... غرست له فتحنظلت نخلاته
أبت الحزامة إن أبيت مصعراً ... خدي وخيل الحق منتعلاته
فإليكم عني فإني مفلت ... هيهاته لا يجرني افلاته
نقم طلحة بن جعفر المتوكل المنعوت بالموفق على هرون بن عبد الملك فوقف بين يديه وأنشد
يا بني هاشم بن عبد مناف ... لكم حادث العلا والقديم
ليس عندي وإن تغير إلا ... طاعة محضة وقلب سليم
وانتظار الرضا فإن رضا السا ... دات عز وعتبهم تقويم
فعفا عنه ووصله وكان المهلب بن شاهين الشاعر عاملاً بنهر فروة ونهر رجا لعزيز الدين فظهرت عليه خيانة فأشخصه وتوعده فلما مثل بين يديه قال
قل للعزيز أدام ربي عزه ... وأناله من خيره مكنونه
إني جنيت ولم تزل نبل الورى ... يهبون للخدام ما يجنونه
ولقد جمعت من الجنون فنونه ... فاجمع من الصفح الجميل فنونه
من كان يرجو عفو من هو فوقه ... فليعف عن جرم الذي هو دونه
فعفا عنه وأعاده إلى عمله وقال أبو الفتح محمد بن أردشير كنت بالسيرجان مع الوزير أبي غالب الحسن بن منصور الملقب بذي السعادتين فاتفق أن شربت عنده يوماً فسكرت سكراً سقط معه سفتجتي من كمي وفيها رقاع قد أعطانيها أربابها لا تنجز لهم توقيعاته عليها ومن جملتها رقعتان بخطي قد كتبت في إحداهما
يا قليل الخير موفور الصلف ... والذي في البغي قد حاز السرف
كن لئيماً وتواضع تحتمل ... وكريماً يحتمل منك الصلف
وفي الاخرى
يا طارق الباب على عبد الصمد ... لا تطرق الباب فما ثم أحد