الكتاب : التعازي والمراثي
المؤلف : المبرد
شرب الموت منه محضه دو ... ن حليبها السطور من قحطان
أيّها الموت قد نهضت بحملي ... ن من الذّمّ فيه والأضغان
قم بأعلى البقاع من غمدان ... وبسفلى الكثيب من عسفان
هل ترى غير مجلسٍ صخب الأف ... ق بباكٍ ونادبٍ ثكلان
وترى غير ذابلٍ سمهريٍّ ... ركد الزّجّ في مكان السّنان
وترى غير مقرمٍ ناصل النّا ... ب قليل السّموّ في الهدران
وعديمٍ يعبّ في قدح الثّك ... ل هديم الخباء والبنيان
ومن المراثي المستحسنة المقدمة ونحتاج أن نذكر معها خبرها وهو أن مالك بن
زهير بن رواحة بن جذيمة العبسي وكان من أشراف بني عبس، وجذيمة منهم قتل في
حرب داحس. وكان جانيها أخوه قيس بن زهير، فنشبت بينهم فيما ذكر أربعين
سنة. وتشاءم بهم قومهم، فوجه قيس جاريته لتعلم ما عند الربيع بن زياد
العبسي أيغضب لهذا الحديث فيقوى به أو يستهين، فرأت عنده أكثر مما أحب،
فرجعت إليه فقالت: سمعت عويلاً منه دون نسائه وحركةً أكثر من حركة جميع
الحي، وهو يقول: الكامل
منع الرّقاد فما أغمّض حار ... جللٌ من النّما المهمّ السّاري
من مثله تمسي النّساء حواسراً ... فتقوم معولةً مع الأسحار
من كان مسروراً بمقتل مالكٍ ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
تأويل هذا البيت أنه إذا رأى ما يضع عليه من الجزع، علم أن ثأر مثله لا
يترك.
يجد النّساء حواسراً يندبنه ... يضربن أوجههنّ بالأسحار
يخمشن حرّ وجوههنّ على فتىً ... سهل الخليقة طيّب الأخبار
قد كنّ يكننّ الوجوه تستّراً ... فالآن حين بدون للنّظار
أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ ... ترجو النّساء عواقب الأطهار
قوله: أفبعد مقتل مالك بن زهير، مزاحف ناقص جزءاً. وهذا في هذه العروض
جائز، وهي التي يقال لها المقطوعة في الكامل. ونظيره قول حميد بن ثور:
الكامل
أبلغ أمير المؤمنين فإنّه ... طبٌّ يلوم المستليم ويعذر
أنّي كبرت وأنّ كلّ كبيرٍ ... ممّا يظنّ به يملّ ويقبر
رجع الشعر:
ما إن أرى في قتله لذوي القوى ... إلاّ المطيّ تشدّ بالأكوار
ومجنّباتٍ ما يذقن عدوفاً ... يجهضن بالمهرات والأمهار
هذا مثل البيت المزاحف. يقال: ما ذقت عدوفاً ولا عداناً، ولا لماظاً ولا
لماقاً. وكل هذا في معنى لم أذق شيئاً.
وفوارساً صدأ الحديد عليهم ... فكأنّما طلي الوجوه بقار
ويفوز كلّ مقلّصٍ من خيلنا ... سلس القياد معاقد التّكرار
حتّى نبير بذي المريقب غدوةً ... بدراً ونعذر من بني سيّار
بدر: ابن عمرو الفزاري، وبنو سيار بن زبان الفزاري قتلوا ابن عمهم
وحاربوهم غدراً بغير دم ولا افقار.
ولربّ مسرورٍ بمقتل مالكٍ ... كلاّ وربّ البيت ذي الأسرار
حتّى نبير بمالكٍ سرواتهم ... حملاً وفارسهم أبا حجّار
حمل: ابن بدر وكان من فرسانهم وشجعانهم، وهو الذي يقول فيه القائل في هذه
القصة بعد أن قتل: الوافر
ولكنّ الفتى حمل بن بدرٍ ... بغى والبغي مصرعه وخيم
وأبو حجار: مالك بن حمار الشمخي، وبنو شمخ من فزارة، وفزارة ابن ذبيان بن
بغيض بن ريث بن غطفان. وبنو عبس ابن بغيض بن ريث، فكان عبس وذبيان أخوين.
وكانت حربهم أربعين سنة.
وحرب الأنصار الأوس والخزرج، ابني حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر كانت
أكثر من هذا فيما ذكرت الرواية وكانت لا تزال تغبر.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: دربوا لي بالحروب حتى دربوا. وقالت
عائشة رضي الله عنها: قدمنا عليهم والجراح تطيف دماً من حرب بعاث.
فحرب الأنصار: حرب بعاث، وحرب ابني بغيض: حرب داحس، وحرب بكر وتغلب تسمى:
البسوس.
وقال أبو ناظرة السدوسي، وكان رجلاً من أهل العلم والمعرفة بكلام
العرب وحسن التصرف فيه، يرثي البصرة وأهلها بكلام عربي فصيح ينبيء أنه
كلام موجع يخرج عن نية صادقة من ألفاظ رجل لا عجز يقعد به عن بلوغ الحاجة،
ولا إسراف في قوله وتمحل يتجاوز به القدر: الطويل
منازلنا هل من إيابٍ مؤمّ؟لٍ ... إليك، إذا ما آب كلّ غريب ؟!
وهل نحن يوماً عائدون ذوي غنىً ... ومنتجعٍ للمعتفين خصيب
وآذنةٌ في كلّ حيٍّ يزينها ... نقاء جيوبٍ منهم وغيوب
وحلمٌ وعلمٌ ليس بالنّزر فيهم ... فلا يطون مسعاه مشوب ؟
وقل لدعاة الشّمس هل من تشهّدٍ ... لوقت صباحٍ أو لوقت غروب
نجنّ ولم نظلم إليك صبابةً ... تفتّت أكبادٍ لنا وقلوب
وقلّ غناءً عبرةٌ مستهلّةٌ ... ترقرق من عينٍ عليك سكوب
أبى الصّبر تذكار الدّيار التي خلت ... مجالسها من سوددٍ وخطوب
ومغدى ذوي الحاجات في كلّ شارقٍ ... إلى كلّ مغشيٍّ الفناء مهيب
وكلّ مطاعٍ في العشيرة ماجدٍ ... معينٍ على ريب الزّمان وهوب
منازل فارقن العهود ولم تكن ... معاناً لناقوسٍ ولا لصليب
منازل قومٍ أسرع السيف منهم ... إلى كلّ وضّاح الجبين نجيب
وكلّ فتىً يرنو إلى اللّهو والصّبا ... جرورٍ لأذيال الشّباب سحوب
وكلّ صميمٍ من ذؤابة قومه ... كريمٍ لغايات الكرام طلوب
أبوا أن يرى الله الهوادة منهم ... لأعضه عن دين النّبيّ نكوب
فأودوا وقد عاشوا كراماً أعقّةً ... على فتنٍ مرّت بهم وحروب
تغاديهم ضرباً على الهام تارةً ... وذبحاً بأقسى أنفسٍ وقلوب
فكم من رحىً دارت وكم من مصيبةٍ ... توالت ومن يومٍ هناك عصيب
على ألف ألفٍ من ملوكٍ وسوقةٍ ... ثووا بين أبوابٍ لهم ودروب
مفلّقةٌ هاماتهم وشريدهم ... شماطيط شتّى أوجهٍ وسروب
إلى غير راعٍ يرتجى النّصر عنده ... ولا عطنٍ يؤوى إليه رحيب
عباديد من ناجٍ على جذم بغلةٍ ... ومن رازحٍ يشكو الكلال جنيب
ومن راسبٍ طافٍ على الماء شلوه ... وذي ظمإ أودى به وسغوب
فيا أرضهم أخلوك فابكي عليهم ... وجودي عليهم يا سماء وصوبي
أرى كلّ قومٍ لا يزال مظنّةً ... منازلهم من آيبٍ ومؤوب
سوانا فإنّا حشو كلّ مدينةٍ ... وألقاؤها من نازحٍ وقريب
ذوو أوجهٍ فيها كوابٍ وأعينٍ ... بواكٍ وفقرٍ ظاهرٍ وشحوب
فمن رام أن يبتاع منّا حديقةً ... من النّخل أعطى درهماً بجريب
فذو العزّ منّا مستكينٌ وذو الغنى ... كأن لم يكن ذا رتبةٍ وركوب
فما حلّ بالإسلام مثل مصابنا ... وسلطاننا للدّين حقّ غصوب
وكنّا ولم تشقق عصانا ولم تبت ... عقاربنا فينا ذوات دبيب
نميميّةٌ تسري إلينا كأنّما ... تطالبنا في مصرنا بذنوب
يقصّر عن بغداد كلّ فضيلةٍ ... خصصنا بها إسهاب كلّ خطيب
رجالاً ومالاً يعرف النّاس فضله ... على كلّ حالٍ رائحٍ وغريب
فلا المربد المعمور بالعزّ والنّهى ... وكلّ فتىً للمكرمات كسوب
ولا قصر أوسٍ والمناخ الّذي به ... وما حوله من روضةٍ وكثيب
بمرتجعٍ يوماً ولا المسجد الّذي ... إليه تناهى علم كلّ أديب
ولا قائمٌ لله اناء ليله ... به كلّ أوّاهٍ إليه منيب
ولا عائدٍ ذاك الحزين كعهده ... لكلّ مسنٍّ حوله ومهيب
ولا الشطّ إذ فيه لنا الخير كلّه ... وإذ معتفاه الدّهر غير جديب
وبالفيض والنّهرين من كلّ جانبٍ ... مناظر لذّاتٍ عفت وشروب
وإذ ما نراه من سفينٍ وراكبٍ ... على ظهر منقادٍ إليه صبوب
ودجلة أحمى جانبيها كليهما ... كتائب زنجٍ كالطّنين دبوب
مؤلّلةٌ أسنانهم وعيونهم ... توقّد في كهرورةٍ وقطوب
قوله كهرورة إنما هي القطوب والعبوس كما قال زيد الخيل: الطويل
ولست بذي كهرورةٍ غير أنّني ... إذا طلعت أولى المغيرة أعبس
طماطم لا ربٌّ لهم يعرفونه ... وقد دربوا بالحرب أيّ دروب
وجونٍ نواجٍ منجياتٍ لواحقٍ ... تروح وتغدو غير ذات عكوب
الجون: السود. يعنى: الخيل. والعكوب: الغبار، وبه سمي عكابة
تساجلنا فيها المنايا عبيدنا ... بكلّ حسامٍ في العظام رسوب
أنسلبها غلباً ضوامن للقرى ... على سنواتٍ تعتري وجدوب
يعني النخل، والأغلب: الغليظ العنق.
جداولها في كلّ يومٍ وليلةٍ ... ذوات جمومٍ تحتها ونضوب
وما النخل في اجلاسا عن كواعبٍ ... يساقطن في ديمومةٍ وشيوب ؟
وما في خيام الزّنج من حرّ أو وجهٍ ... ذوات وسومٍ فيهم وندوب
ولا ذو محاماةٍ ولا ذو حفيظةٍ ... ولكن رقيبٌ من وراء رقيب
على الثّمر المفجوع أربابه به ... على خطرٍ من مجتناه عجيب
يقولون حشرى قسا من مدافعٍ ... لدى مشهدٍ منّا ولا بمغيب ؟
وقالوا تناسوها فليس بعائدٍ ... تجاور أحياءٍ بها وشعوب
وإنّي لأرجو أن أرى ذاك منهم ... وللدّهر أيّام.... وخطوب
نعت أرضنا الدّنيا إلينا وأدبرت ... بكلّ نعيمٍ في الحياة وطيب
وما كانت الدّنيا سوى البلد الّذي ... خلا اليوم من داعٍ به ومجيب
وما عيش هذا النّاس بعد ذهابه ... بعيشٍ ولا مغناهم برغيب
إذا الدّمع لم يسعد كئيباً فإنّني ... سأبكي وأبكي الدّهر كلّ كئيب
على دمنٍ جرّت بها الرّيح بعدنا ... ذيول البلى من شمألٍ وجنوب
وما كلّ بصريٍّ. شكا بمفنّدٍ ... ولا كلّ بصريٍّ بكى بمعيب
ولو أنّ بصريّاً بكى كنه شجوه ... بكى بدمٍ حتّى الممات صبيب
فمن مبلغٌ عنّي بريهاً ورهطه ... وما أنا في حبّيهم بمريب
إذا أنتم غادرتموها كأنّها ... منازل عادٍ غير ذات عريب
فلا ترفعوا الأبصار إلاّ كليلةً ... إلى النّاس أو منهلّةً بغروب
فيا بصر. كم من هالكٍ مات حسرةً ... عليك ومن صبٍّ إليك طروب
يظلّ شعاعاً قلبه ومبيته ... على سننٍ من ربعه ونحيب
عليك سلام الله منّا فإنّنا ... نرى العيش إلاّ فيك غير حبيب
وقال عمرو بن الأسلع يرثي أبا جنيد بن عمرو بن الأسلع العبسي ويذكر قتل
حذيفة بن بدر إباه: الوافر
فلا يكن الوداع أبا جنيدٍ ... وآخر حاجة السّفر الوداع
فإن خابت حيال بني سبيعٍ ... ونعم القوم إن قومٌ أضاعوا
فلا تيأس بذلك وانتظرني ... وشرّ حديث قائله سماع
أتتك كأنّها عقبان دجنٍ ... تجاوب في حناجرها اليراع
وقال مهلهل بن ربيعة: الكامل
قتلوا كليباً ثمّ قالوا اربعوا ... كذبوا وربّ الحلّ والإحرام
حتّى تبيد قبيلةٌ وقبيلةٌ ... ويعضّ كلّ مذكّرٍ بالهام
وتجول ربّات الخدور حواسراً ... يمسحن عرض ذوائب الأيتام
حتّى يعضّ الشّيخ بعد حميمه ... ممّا يرى جزعاً على الإبهام
إنا لنضرب بالسّيوف رؤوسهم ... ضرب القدار نقيعة القدّام
ولقد وطئن بيوت يشكر وطأةً ... أخوالنا، وهم بنو الأعمام
وقال أيضاً: المديد
يا لبكرٍ أنشروا لي كليباً ... يا لبكرٍ أين أين الفرار ؟
تلك شيبان تقول لذهلٍ ... صرّح الشّرّ وبان السّرار
وبنو يشكر قاموا فقالوا ... قصّةٌ عوجاء فيها استتار
وبنو عجلٍ تقول لقيسٍ ... ولتيم اللاّت سيروا فساروا
وسنملي بعقب ذكر مهلهل هذا خبر وقائعهم ليفهم مجرى هذه المراثي وما يتبعها
من أمثالها من لم يفهمه، ليعلم أن هذه الأشعار بنيت على أساسات من حكم
العرب، تفيد أمثالاً عجيبة ومذاهب غزيرةً وأقوالاً على أمور ينتفع بها في
مثل ما قصدوا له وفي غيره من غير بابه. والحديث ذو شجون. وبالله الحول
والقوة.
بكر وتغلب ابنا وائل شعبان ضخمان سادهما جميعاً كليب بن ربيعة التغلبي،
وهو الذي يقال له كليب وائل، فيضرب به المثل، حتى ادعت ربيعة في كليب أن
العرب كلها تنقاد لشرفها. وفيه يقول النابغة الجعدي لرجل من أهله بغى
وتعدى يخوفه عدوان الظلم: الطويل
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأهون ذنباً منك ضرّج بالدّم
رمى ضرع نابٍ فاستحرّ بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
وكان سبب قتله على عزة من قومه ولحمته على أنه كان لا يرفع بحضره صوت ولا
يسمع في ناديه كلمة خنا. وفي ذلك يقول المهلهل في مرثيته إياه: الكامل
ذهب الخيار من المعاشر كلّهم ... واستبّ بعدك يا كليب المجلس
وتنازعوا في أمر كلّ عظيمةٍ ... لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا
ومهلهل أخو كليب واسمه عدي، وهما ابنا ربيعة، وكان مهلهل يسفهه كليب ويصفه
بالغزل والتحدث إلى النساء يذمره بذلك فيقول: أنت زير نساء.
وكان شرف بكر بن وائل في ولد ذي الجدين وهو عبد الله بن همام بن مرة بن
ذهل ابن شيبان. وهؤلاء أشراف وأبناء أشراف. وهم بيت بكر بن وائل وشرفها.
وكانت إحدى بنات مرة تحت كليب بن ربيعة، وكان عدي المهلهل آخى همام بن
مرة. وكان عاقده وعاهده ألا يكتم أحدهما صاحبه خبراً يقع إليه. فجاءت
جارية لهمام فسارته بشيء، فتغير وجهه، فقال المهلهل: ما قالت لك يا أخي ؟
فورى فقال له: العهد ! فقال: خبرتني أن أخي قتل أخاك. فقال له المهلهل: لا
ترع، فإن همة أخيك لا تبلغ ذاك.
وسيتصل الخبر مستقصىً بوقائعهم إن شاء الله.
وكانت حربهم أربعين سنة في مقتل كليب، وهو موصول بما ابتدأناه بما فيه من
مراثيهم وغيرها. فقالت ماوية بنت مرة امرأة كليب، تشتكي ما بها من قتل
أخيها زوجها، وهي قصيدة محيطة بالمعنى المقصود، جيدة الكلام بوفرة التشكي:
الرمل
يا بنة الأقوام إن شئت فلا ... تعجلي باللّوم حتّى تسألي
فإذا أنت تبيّنت التي ... عندها اللّوم فلومي واعذلي
إن تكن أخت امريءٍ ليمت على ... شفقٍ منها عليه فافعلي
قتل جسّاسٍ على وجدي به ... قاطعٌ ظهري ومفنٍ أجلي
لو بعيني فديت عينٌ سوى ... أختها فأنفقأت لم أحفل
تحمل العين قذى العين كما ... تحمل الأمّ قذى ما تفتلي
يا قتيلاً قوّض الدّهر به ... سقف بيتيّ جميعاً من عل
هدم البيت الذي استحدثته ... وبدا في هدم بيتي الأوّل
ورماني قتله من كثبٍ ... رمية المصمى به المستأصل
يا نسائي دونكنّ اليوم قد ... خصّني الدّهر برزءٍ معضل
خصّني قتل كليبٍ بلظىً ... من ورائي ولظىً مستقبلي
ليس من يبكي ليومين كمن ... إنّما يبكي ليوم ينجلي
درك الثّائر شافيه وفي ... دركي ثأري ثكل المثكل
ليته كان دمي فاحتلبوا ... دركاً منه دماً من أكحلي
جلّ عندي فعل جسّاسٍ فيا ... حسرتا عمّا أنجلت أو تنجلي
إنّني قاتلةٌ مقتولةٌ ... ولعلّ الله أن يرتاح لي
قال أبو العباس: قرأت على أبي محمد النحوي المعروف بالتوزي عن
أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي مولى بني تيم بن مرة، من قريش عن مقاتل
الأحول ابن سنان، من بني سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. وهو الذي
يقول فيه طرفة: الطويل
رأيت سعوداً من شعوبٍ كثيرةٍ ... فلم أر سعداً مثل سعد بن مالك
قال مقاتل: هذا عدي وأخوه كليب وسالم وفاطمة بنو ربيعة بن الحارث ابن جثم
بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. وكان كليب ابن ربيعة ليس على
الأرض بكري ولا تغلبي أجار رجلاً ولا بعيراً إلا بإذن كليب، ولا كان يحمي
حمىً إلا لم يقرب. وكان لمرة بن ذهل بن شيبان عشرة بنين منهم جساس. وكان
أصغرهم. وكانت أختهم عند كليب. قال مقاتل: وأم جساس بن مرة: هيلة بنت منقذ
بن سليمان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ثم خلف عليها بعد
مرة بن ذهل سعد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال فراس: وهي أمنا وخالة جساس
يقال لها البسوس.
قال أبو برزة: البسوس أخت هيلة، فجاءت فنزلت على جساس، فكانت جارة لبني
مرة ومعها ناقة اسمها السراب وكانت خوارةً صفياً من نعم بني سعد، ومعها
فصيل لها.
قال أبو برزة: وقد كان كليب قال لصاحبته أخت جساس : هل تعلمين على الأرض
عربياً يمنع مني ذمته ؟ فسكتت، ثم أعاد ذلك عليها فسكتت، ثم أعاد ذلك
عليها الثالثة فقالت: نعم، أخي جساس وندمانه ابن عمه عمرو بن أبي ربيعة بن
ذهل. وعمرو هو المزدلف.
وأما مقاتل فزعم أن امرأة كليب بيننا تغسل رأس كليب وتسرحه ذات يوم إذ قال
لها: من أعز وائل ؟ فضمزت فأعاد عليها فضمزت. فلما أكثر قالت: أخواي جساس
وهمام ! فنزع رأسه من يدها وأخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس، خالة جساس
وجارة بني مرة، فأقصده، فأغمضوا على ما فيها وسكتوا. ثم لقي كليب ابن
البسوس، فقال: ما فعل فصيل ناقتكم ؟ قال: قتلته وأخليت لنا لبن أمه،
فأغمضوا على هذه أيضاً. ثم إن كليباً أعاد بعد هذا على امرأته فقال: من
أعز بني وائل ؟ قالت: أخواي، فأضمرها وأسرها كليب وأسكت حتى مرت إبل جساس
فإذا الناقة، فاستنكرها فقال: ما هذه الناقة ؟ قالوا: لخالة جساس. قال: أو
قد بلغ من أمر ابن السعدية أن يجير علي بغير إذني ؟ ارم ضرعها يا غلام،
فشقه. قال: فأخذ القوس فرمى ضرع الناقة، فاختلط لبنها ودمها. وراحت الرعاء
على جساس فأخبروه بالأمر فقال: احلبوا لها مكيالاً من لبنها ولا تذكروا
لها من ذلك شيئاً، وأغمضوا عليها.
قال مقاتل: حتى أصابتهم سماء. فغدا في غبها عمرو بن ذهل بن شيبان فطعن
عمرو كليباً فقصم صلبه.
وأما أبو برزة فزعم أن جساساً أمسك حتى ظعن ابنا وائل، فمرت بكر على نهي
يقال له سبيث، فأبعدهم عنه كليب وقال: لا تذوقوا منه قطرة ثم مروا على آخر
يقال له الأحص فأبعدهم عنه. ثم مروا على بطن الجريب فمنعهم إياه فمضوا حتى
نزلوا الذنائب، واتبعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليهم، فمر عليه جساس وهو
واقف على غدير الذنائب، فقال أبعدت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم من
العطش. فقال كليب: ما أبعدناهم إلا عن شيء نحن له شاغلون. فمضى جساس ومعه
المزدلف عمرو بن أبي ربيعة. ثم ناداه جساس: هذا كفعلك بناقة خالتي. قال:
أوقد ذكرتها ! أما إني لو وجدتها في غير إبل بني مرة بن ذهل لاستحللت تلك
الإبل بها ! فعطف عليه جساس الفرس فطعنه بالرمح، فأنفذ حضنيه. فلما تداءمه
الموت قال: يا جساس، اسقني من الماء. قال: ما عقلت استسقاءك من الماء مذ
ولدتك أمك قبل ساعتك هذه.
قال أبو برزة: فعطف عليه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة فحز رأسه.
وأما مقاتل فزعم أن عمرو بن الحارث بن ذهل هو الذي طعنه فقصم صلبه، ففي
ذلك يقول مهلهل: الوافر
قتيلٌ ما قتيل المرء عمروٍ ... وجسّاس بن مرّة ذو ضرير
وقال نابغة بني جعدة لعقال بن خويلد العقيلي لما أجار بني وائل بن معن،
وقد قتلوا رجلاً من بني جعدة، فحذره عدوان الظلم واقتص له أمر كليب
وحديثه: الطويل
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر ظلماً منك ضرّج بالدّم
رمى ضرع نابٍ فاستحرّ بطعنةٍ ... كحاشية البرد اليماني المسهّم
وقال لجسّاسٍ: أغثني بشربةٍ ... تفضّل بها طولاً عليّ وأنعم
فقال: تجاوزت الأحصّ وماءه ... وبطن شبيثٍ وهو ذو مترسّم
وهي في كلمة.
وقال العباس بن مرداس لكليب بن عهمة الظفري أخي عباس ومالك بن عهمة،
وكانوا شركاء في القرية فجحدهم كليب حظهم منها فحذره غب الظلم وما لقي
كليب منه: الكامل
أكليب مالك كلّ يومٍ ظالماً ... والظّلم أنكد، وجهه ملعون
فافعل بقومك ما أرد بوائلٍ ... يوم الغدير سميّك المطعون
وأظنّ أنّك سوف تلقى مثلها ... في صفحتيك سنانها المسنون
إنّ القريّة قد تبيّن شأنها ... لو كان ينفع عندك التّبيين
أجحدتني ثمّ انطلقت تخطّها ... وأبو يزيد بجوّها مدفون
وقال رجل من بكر بن وائل في الإسلام، وهو يحمل على الأعشى وزعموا أنه شبيل
بن عريرة: الطويل
ونحن قهرنا تغلب ابنة وائلٍ ... بقتل كليبٍ إذ طغى وتخيّلا
أبأناه بالنّاب التي شقّ ضرعها ... فأصبح موطوء الحمى متذلّلا
وهي كلمة.
قال: ومقتل كليب بالذنائب عن يسار فلجة مصعداً إلى مكة، وذلك قول المهلهل:
الوافر
ولو نبش المقابر عن كليبٍ ... فيخبر بالذنائب أيّ زير
قال أبو برزة: فلما قتله جساس أمال بيده الفرس حتى انتهى إلى أهله خارجةً
ركبته. قالت أخته: يا أمتاه، إن جساساً قد جاء خارجةً ركبته. قالت: والله
ما خرجت ركبته إلا لأمر عظيم. قالت: ما وراءك ؟ قال: ورائي، والله، أني قد
طعنته طعنةً لتشتغلن منها شيوخ وائل رقصاً. قالت: أقتلت كليباً ؟ قال:
نعم. قالت: والله لوددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا. ما بي إلا أن يتناكد
بي أبناء وائل.
وزعم مقاتل أن جساساً قال لأخيه نضلة بن مرة ويقال لهما اليوم عضدا الحمار
: الوافر
وإني قد جنيت عليك حرباً ... تغصّ الشّيخ بالماء القراح
فأجابه أخوه نضلة بن مرة فقال:
فإن تك قد جنيت عليّ حرباً ... فلا وانٍ ولا رثّ السّلاح
وإنما ذكرنا أول هذه الوقائع والسبب الذي هيجها تطرقاً إلى مراثي مهلهل
أخاه وقومه ليقع ذلك على معرفة عند من لم يكن عرفها.
قال المهلهل يرثي اخاه ويذكر أشراف من قتل به، وأن ذلك ليس بكفء: الوافر
أليلتنا بذي حسمٍ أنيري ... إذا أنت انقضيت فلا تحوري
فإن يك بالذّنائب طال ليلي ... فقد يبكى من اللّيل القصير
فلو نبش المقابر عن كليبٍ ... فيخبر بالذّنائب أيّ زير
معنى ذا أن كليباً كان يعير مهلهلاً فيقول: أنت زير نساء. وإنما يقال ذلك
لمؤثر اللهو بالنساء والحديث إليهن على المساعي وطلب الذكر، وكان مهلهل
أوقع بهم بالذنائب وقعة منكرة فيقول: لو رأى كليب ما صنعت لعلم أني غير
زير.
بيوم الشّعثمين لقرّ عيناً ... وكيف لقاء من تحت القبور ؟
وأني قد تركت بوارداتٍ ... بجيراً في دمٍ مثل العبير
خبر بجير: وهو ابن الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ربيعة، وكان الحارث
من فرسانهم، فاعتزل هذه الحرب. وجاء بجير يقاتل مع قومه يوم واردات، وهو
مشهور من أيامهم. فأخذ أسيراً فقتله مهلهل وقال: بؤبشسع كليب، فقيل للحارث
بن عباد إن ابنك بجيراً قتل. فقال الحارث: إنه لأعظم قتيل بركةً إن أصلح
الله بين ابني وائل. فقيل له: إن مهلهلاً حين قتله قال: بؤبشسع كليب. فقال
عند ذلك: المديد
قرّبا مر بط النّعامة منّي ... لقحت حرب وائلٍ عن حيال
لم أكن من جناتها علم اللّ ... ه وإنّي بحرّها اليوم صال
لا بجيرٌ أغنى فتيلاً ولا ره ... ط كليبٍ تزاجروا عن ضلال
ثم دخل في الحرب.
رجع إلى شعر مهلهل:
هتكت به بيوت بني عبادٍ ... وبعض الغشم أشفى للصّدور
على أن ليس يشفى من كليبٍ ... إذا برزت مخبّأة الخدور
وهمّام بن مرّة قد تركنا ... عليه القشعمين من النّسور
ينوء بصدره والرّمح فيه ... ويخلجه خدبٌّ كالبعير
فلولا الرّيح أسمع أهل حجرٍ ... صليل البيض تقرع بالذّكور
فدىً لبني الشقيقة يوم جاؤوا ... كأسد الغاب لجّت في الزّئير
كأنّ رماحهم أشطان بئرٍ ... بعيدٍ بين جاليها جرور
كأنّا غدوةً وبني أبينا ... بجنب عنيزةٍ رحيا مدير
نكرّ عليهم عوداً وبدءاً ... كأنّ الخيل تنهض في غدير
وقال أيضاً يرثيه: الخفيف
طفلةٌ ما ابنة المحلّل بيضا ... ء لعوبٌ لذيذةٌ في العناق
ضربت نحرها إليّ وقالت ... يا عديٌّ لقد وقتك الأواقي
ما أرجّي بالعيش بعد ندامى ... قد أراهم سقوا بكاس حلاق
بعد عمروٍ وعامرٍ وحييٍّ ... وقتيلي صدوف وابني عناق
وامريء القيس ميّت يوم أودى ... ثمّ خلّى عليّ ذات العراقي
وكليبٍ عبر الفوارس إذ ح ... مّ رماه الكماة بالإيفاق
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً ... وخصيماً ألدّ ذا معلاق
من قال معلاق أراد: إذا علق خصمه بلغ منه. ومن قال مغلاق أراد: يغلق الحجة
على الخصم.
حيّةٌ في الوجار أربد لا ين ... فع منه السّليم نفث الراقي
وقد أطلنا القول في المراثي والتعازي وما بهما من المواعظ. وأخر بما أطيل
أن يمل. وقد قال أحد المتقدمين: من أطال الحديث فقد عرض نفسه للملل ولسوء
الاستماع. وقد كنا ذكرنا أشعاراً من أشعار المتقدمين، فقلنا نمليها على
وجهها. ثم رجعت إلى أنها مجموعة في الكتاب الكامل على شرح جميع إعرابها
ومعانيها، فإن رجعت معادةً، وهو يؤخذ من ثم. وقد أتى للقاضي رحمه الله
أكثر من الحول. وقد قال لبيد:
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
ولكنا نشيع ما قد مضى من الأخبار بأخبار طريفة من هذا الباب، وأشعار ظريفة
مختصرة، ينقطع الكلام عليها إن شاء الله وبه القوة.
حدثت أن رجلاً عزى يحيى بن خالد عن حرمة له فقال: أيها الوزير، تقديم
الحرم من النعم، وتمثل: الوافر
تعزّ إذا رزئت بخير درعٍ ... تسربل للمصائب درع صبر
ولم أر نعمةً شملت كريماً ... كعورة مسلمٍ سترت بقبر
وسمع أسماء بن خارجة الفزاري نائحة بالكوفة تقول: المتقارب
فمن للمنابر والخافقات ... وللجود بعد زمام العرب
ومن للعناة وحمل الدّيات ... ومن يفرج الكرب حين الكرب
ومن للطّعان غداة الهياج ... ومن يمنع البيض عند الهرب
فقال: مثل هذا فليبك. ثم قال: الكامل
يأخذّ إنّك إن توّسد ليّناً ... وسّدت بعد الموت صمّ الجندل
فاعمل لنفسك في حياتك صالحاً ... فلتندمنّ غداً إذا لم تفعل
وقال عبد الله بن العباس: ما اتعظت بشيء بعدما سمعته من رسول الله صلى
الله عليه وسلم كما اتعظت بكتاب كتبه علي عليه السلام إلي، وكان كتابه:
أما بعد. فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوؤه فوت ما لم يكن
ليدركه. فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك. وليكن أسفك على ما فاتك من
ذلك. وما نلت من الدنيا فلا تنعم به فرحاً، وما فاتك منها فلا تكثر عليه
جزعاً، وليكن همك لما بعد الموت.
وقال بعضهم: سمعت بكاء راهب فناديت: يا راهب، ما يبكيك ؟ فقال: أبكاني أمر
عرفته فجزت عن سبيله، وقصرت في طلبه، ويوم مضى أورثني عبرته وحسرته، نقص
له أجلي، ولم ينقص له أملي.
وروي أن بعض ملوك الفرس كان شديد الغضب، فكتب ثلاث رقاع، ثم وكل رجلاً
حازماً من أصحابه فقال: إذا اشتد غضبي فادفعوا إلي الأولى، فإذا سكنت بعض
السكون فادفعوا إلي الثانية، ثم ادفعوا إلي الثالثة، فكان في الأولى: إنك
لست بالإله، إنما أنت بشر يوشك أن يموت، ويأكل بعضك بعضاً. وفي الثانية:
ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء. وفي الثالثة: خذ الناس بأمر الله،
فإنه لا يصلحهم إلا ذلك.
وقال أبو عبد الرحمن بن عائشة: لما أتي بحجر بن عدي وأصحابه يقتل بعذراء
قال: ما اسم هذه القرية ؟ قالوا: عذراء. قال: والله إني لأول فارس وعر
أهلها يوم افتتحناها. فلما قرب ليقتل صلى ركعتين وأظهر جزعاً قيل له:
أتجزع ؟ فقال: ولم لا أفعل ؟ كفن منشور، وسيف مشهور، وقبر محفور، ولست
أدري أيؤديني إلى الجنة أم إلى نار.
فلما قتل قال عبد الله بن خليفة الطائي يرثيه: الطويل
تذكّرت ليلى والشّبيبة أعصرا ... وذكر الهوى برحٌ على من تذكّرا
أقول ولا والله أنسى مصابهم ... سجيس اللّيالي أو أموت فأقبرا
على أهل عذراء السّلام مضاعفاً ... من الله وليسق السّحاب الكنهورا
ولاقى بها حجرٌ من الله رحمةً ... فقد كان أرضى الله حجرٌ وأعذرا
فيا حجر من للخيل تطعن بالقنا ... وللملك المغزي إذا ما تغشمرا
فقد عشت محمود الحياة وإنّني ... لأطمع أن تعطى الخلود وتحبرا
وقال حسان بن ثابت يرثي جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة وعبد الله ابن
رواحة وكان قد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على جيش مؤتة:
الطويل
تأوّبني ليلٌ بيثرب أعسر ... وهمٌّ إذا ما نوّم النّاس مسهر
لذكرى حبيبٍ هيّجت لك عبرةً ... سفوحاً وأسباب البكاء التّذكّر
بلى، إنّ فقدان الحبيب بليّةٌ ... وكم من كريمٍ يبتلى ثمّ يصبر
رأيت خيار المؤمنين تواردوا ... شعوب وقد خلّفت فيمن يؤخّر
فلا يبعدنّ الله قتلى تتابعوا ... بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر
وزيدٌ وعبد الله حين تتابعوا ... جميعاً وأسباب المنيّة تخطر
غداة مضى بالمؤمنين يقودهم ... إلى الموت ميمون النّقيبة أزهر
أغرّ كضوء البدر من آل هاشمٍ ... أبيٌّ إذا سيم الظّلامة يجسر
فطاعن حتّى مات غير موسّدٍ ... بمعتركٍ فيه القنا تتكسّر
فصار مع المستشهدين ثوابه ... جنانٌ وملتفّ الحدائق أخضر
وكنّا نرى في جعفرٍ من محمّدٍ ... وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشمٍ ... دعائم عزٍّ لا ترام ومفخر
وهم جبل الإسلام والنّاس حولهم ... رضامٌ إلى طودٍ يروق ويقهر
بها ليل منهم جعفرٌ وابن أمّه ... عليٌّ، ومنهم أحمد المتخيّر
وحمزة والعبّاس منهم ومنهم ... عقيلٌ، وماء العود من حيث يعصر
بهم تفرح اللأواء في كلّ معركٍ ... عماسٍ إذا ما ضاق بالنّاس مصدر
هم أولياء الله أنزل حكمه ... عليهم وفيهم ذا الكتاب المطهّر
ومما يستحسنه الناس من المراثي ويخف على ألسنتهم قصيدة محمد بن مناذر
الصبيري، مولى بني صبير بن يربوع في عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي حتى
قد خلطوا في الرواية، وزاد بعضهم على بعض. ونحن نختار اختياراً منها تقع
فيه الموعظة الحسنة من قول المخلوقين، والكلام المرضي من ذلك، وهي التي
أولها: الخفيف
كلّ حيٍّ لاقي الحمام فمود ... ما لحيٍّ مؤمّلٍ من خلود
لا تهاب المنون حيّاً ولا تب ... قي على والدٍ ولا مولود
يقدح الدّهر في شماريخ رضوى ... ويحطّ الصّخور من هبّود
يزعمون أنه غلظ في هذا، وأن هبود حفيرة، وليس كما قالوا، إنما الحفيرة
هبوب. والذي قال هو: هبود. وذكروا أنها أكمة.
ولقد تترك الحوادث والأيّ ... ام وهياً في الصّخرة الصّيخود
ليس يبقى على الحوادث حيٌّ ... غير وجه المهيمن المعبود
ومما استحسنت منها ولم أرذل غيره، قوله:
أين ربّ الحصن الحصين بسورا ... ء وربّ القصر المنيف المشيد
شاد أركانه وبوّبه با ... بي حديدٍ وحفّه بجنود
كان يجبى إليه ما بين صنعا ... ء فمصرٍ إلى قرى يبرود
وترى حوله زرافات خيلٍ ... جافلاتٍ تعدو بمثل الأسود
فرمى شخصه فأقصده الدّه ... ر بسهمٍ من المنايا سديد
ثمّ لم ينجه من الموت حصنٌ ... دونه خندقٌ وبابا حديد
وملوكٌ من قبله عمروا الأر ... ض أعينوا بالنّصر والتّأييد
فلو أنّ الأيام أخلدن حيّاً ... لعلاءٍ أخلدن عبد المجيد
ما درى نعشه ولا حاملوه ... ما على النّعش من عفافٍ وجود
ويح أيدٍ حثت عليه وأيدٍ ... دفنته، ما غيّبت في الصّعيد
غيّبت في الصّعيد حزماً وعزماً ... ولزاز الخصم الألدّ العنود
إنّ عبد المجيد يوم تولّى ... هدّ ركناً ما كان بالمهدود
هدّ ركني عبد المجيد وقد كن ... ت بركنٍ منه أبوء شديد
حين تمّت آدابه وتردّى ... برداءٍ من الشبّاب جديد
وسمت نحوه العيون وما كا ... ن عليه لزائدٍ من مزيد
وكأنّي أدعوه وهو قريبٌ ... حين أدعوه من مكانٍ بعيد
ولئن كنت لم أمت من جوى الحز ... ن عليه، لأبلغن مجهودي
لأقيمنّ مأتماً كنجوم ... اللّيل زهراً يلطمن حرّ الخدود
موجعاتٍ يبكين للكبد الحرّ ... ى عليه وللفؤاد العميد
ولعينٍ مطروفةٍ أبداً قا ... ل لها الدّهر: لا تنامي وجودي
كلّما عزّك البكاء فأنفد ... ت لعبد المجيد سجلاً فعودي
لفتىً يحسن البكاء عليه ... وفتىً كان لامتداح القصيد
فكل هذه الأبيات غرة، ولقد بلغني بلاغاً إخاله صحيحاً أن عبد المجيد كان
للمدح حياته موضعاً، وللمراثي بعد موته مستوجباً، عفافاً وجمالاً وأدباً
وشباباً.
وقال القائل: البسيط
وإنّ أحسن بيتٍ أنت قائله ... بيتٌ يقال إذا أنشدته صدقا
وأحسن من ذلك وإن جل قدر المؤمن بكاء الرجل على نفسه وإن كان حياً، لما
يتوقعه. كما قال إسماعيل بن القاسم: السريع
كم سترى في النّاس من هالكٍ ... وهالكٍ حتّى ترى هالكا
فهذا مأخوذ مما يروى أن الصديق رحمه الله كان يكثر إنشاده وهو: مجزوء
الكامل
تنفك تسمع ما حيي ... ت بهالكٍ حتّى تكونه
والمرء قد يرجو الرّجا ... ء مغيّباً والموت دونه
ومع قوله هذا: السريع
أصبحت الدّنيا لنا عبرةً ... والحمد لله على ذلكا
اجتمع النّاس على ذمّها ... وما ترى منهم لها تاركا
ومثله قوله: الطويل
ننافس في الدّنيا ونحن نعيبها ... وقد حذّرتناها لعمري خطوبها
وما نحسب السّاعات تقطع مدّةً ... على أنّها فينا سريعٌ دبيبها
كأنّي برهطي يحملون جنازتي ... إلى حفرةٍ يحثى عليّ كثيبها
وباكيةٍ حرّى تنوح وإنّني ... لفي غفلةٍ عن صوتها لا أجيبها
وإنّي لممّن يكره الموت والبلى ... ويعجبني روح الحياة وطيبها
فحتّى متى حتّى متى وإلى متى ... يدوم طلوع الشّمس لي وغروبها
أيا هادم اللذّات ما منك مهربٌ ... تحاذر نفسي منك ما سيصيبها
رأيت المنايا قسّمت بين أنفسٍ ... ونفسي سيأتي بعدهنّ نصيبها
وقال منصور النمري يرثي يزيد بن مزيد:
متى يبرد الحزن الذّي في فؤاديا ... أبا خالدٍ من بعد ألاّ تلاقيا ؟!
أبا خالدٍ ما كان أدهى مصيبةً ... أصابت معدّاً يوم أصبحت ثاويا
أبا خالدٍ لا بل عممت بنكبةٍ ... فتبكي معدٌّ والقبيل اليمانيا
وناعٍ غدا ينعى يزيد بن مزيدٍ ... فقلت له: أصبحت للجود ناعيا
أعينيّ جودا بالدّموع وأسعدا ... بعبرة محزونٍ بكى لبكائيا
سمعت بكاء النائحات بسحرةٍ ... فهيّجن أحزاناً غلبن عزائيا
ألا عذر الله العيون البواكيا ... وقد عاينت يوماً من الدّهر شاجيا ؟
لعمري لئن سرّ الأعادي وأظهروا ... شماتاً، لقد مرّوا بربعك خاليا
وخلّفت ليثي غابتين كلاهما ... سيلقى الأعادي من يديه الدّواهيا
فشبهك أخلاقاً وعزّة أنفسٍ ... إذا النّفس جاشت لو بلغن التّراقيا
قال النفس في موضع النفوس.
سقيت السّواري والغوادي وقد أرى ... خيالك يسري ثمّ يصبح غاديا
نعزّي بك الإسلام إنّك دونه ... إذا نكل الحامون كنت محاميا
مشمّر أذيالٍ تحوط حريمه ... وتحمي له أطرافه والقواصيا
وكنت شهاباً للخليفة ثاقباً ... وكوكبةً ترمي العدا والمناويا
وكنت سناناً نافذاً في يمينه ... وسيفاً له عضباً يقدّ الهواديا
وكنت إذا نادى لأمر عظيمةٍ ... ولم يك من يكفي أصابك كافيا
.... دوينا جانباً والسواسا ... وشمّرت أذيالاً ولبّيت داعيا ؟
وقمت بأمر الثّغر بعد فساده ... وأوشكت منه رقع ما كان واهيا
فقد مات معروفٌ وماتت تجارةٌ ... ومات غناءٌ يوم ودّعت ماضيا
نعزّي أمير المؤمنين ورهطه ... بسيفٍ له ما كان في الحرب نابيا
لقد كان في أعدائهم ذا شكيمةٍ ... لهم ناهكاً عدا وقد كان ناكيا ؟
وملآن من ودّ الخليفة صدره ... يؤدّي إليه النّصح مذ كان ناشيا
مضى ماجد الأيّام رافع همّةٍ ... إلى الخلق الأعلى، من الذّمّ ناجيا
فإن عدّ في دنيا فذكر مكارمٍ ... وإن عدّ في دينٍ فلم يك تاليا
على مثل ما لاقى يزيد بن مزيدٍ ... عليه المنايا فالق إن كنت لاقيا
فتىً كانت الأبطال تعرف أنّه ... إذا قارعته ليس بالضّيم راضيا
فإن تك أفنته اللّيالي فأوشكت ... فإنّ له ذكراً سيفني اللّياليا
حلفت لقد أبقى يزيد لرهطه ... معالي لا تنفكّ تبني معاليا
كنا أردنا أن نملي أشعاراً من أشعار المحدثين في ضروب من المراثي فأشفقنا
من أن يستخف بهذا الكتاب، والمراثي لا تنقضي ما كان الناس؛ فأحببنا أن
نختمه ونأخذ في غيره، وأن يكون ما نختمه به شريفاً بهياً، فاخترنا له
قصيدة أنشدناها الرياشي لرجل من غطفان من بني عبد الله، كانت له صحبة، قتل
يوم جلولاء يقال له سالم، يرثي رسول صلى الله عليه وسلم: المتقارب
أفاطم بكّي ولا تسأمي ... لصبحك ما طلع الكوكب
فقد هدّت الأرض لمّا ثوى ... وأيّ البريّة لا ينكب
فمالي بعدك حتّى المما ... ت إلاّ جوىً داخلٌ منصب
جوىً حلّ بين الحشا والشّغاف ... فخيّم فيه فما يذهب
فيا عين ويحك لا تسأمي ... وما بال دمعك لا يسكب !
وقد بان منك الّذي تعلمين ... وضاقت بك الأرض والمذهب
ومن ذا لك الويل بعد الرّسول ... يبكّى من النّاس أو يندب
فإن تبكه تبك خير الأنام ... كثير الفواضل لا يجدب
وإن تبكه تبك سهل الجنا ... ب محض الضرائب لا يؤشب
وإن تبكه تبك نور البلا ... د ضخم الدّسيعة لا يحسب
وإن تبكه تبك خير الأنام ... سريعاً سوابله مخصب
وإن تبكه تبك واري الزّناد ... صدوق المقالة لا يكذب
وتبكي الرّسول وحقّت له ... شهود المدينة والغيّب
وتبكي له الصّمّ، صمّ الجبال ... وشرق المدينة والمغرب
وتبكيه شعثاء مضرورةٌ ... إذا حجب النّاس لا تحجب
ويبكيه شيخٌ أبو ولده ... تطيف بعقوته أشيب
ويبكيه أهل النّهى والحجى ... من النّاس والطّارق الأخيب
ويبكيه ضيفٌ جفاه الصّديق ... وذو النّسب الدّاخل الأقرب
ويبكيه شعثٌ خماص البطون ... أضرّ بهم زمنٌ أنكب
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.
هذا آخر الكتاب. وقيل: ما قيل فيه صلى الله عليه قليل وإن كان
كثيراً في اللفظ، ويسير وإن كان جليلاً في النفس، وعليه رحمة الله وبركاته.
وهذا حديث نذكره ليتبعه ذكره عليه السلام، ويعوذ به عائذ، ويأتم به مؤتم:
حدثني الرياشي العباس بن الفرج قال: أخبرنا أحمد بن شبيب قال: أخبرنا أبي
عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطي المدني عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف
عن عمه عثمان بن حنيف أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رحمة الله
عليه في حاجة له، وكان عثمان لا ينظر إليه ولا يلتفت إلى حاجته. فلقي
عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: إيت الميضأة فتوضأ،
ثم ائت المسجد فصل ركعتين ثم قل: اللهم إني أسألك بنبيي محمد، نبي الرحمة،
يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي فيقضي لي حاجتي وتذكر حاجتك، ثم رح حيث
تروح.
فانطلق الرجل فصنع ذلك. ثم أتى باب عثمان بن عفان، رحمة الله عليه فأخذ
البواب بيده، فأدخله على عثمان بن عفان رضي الله عنه فأجلسه معه على
الطنفسة، فقال له: حاجتك ؟ فذكر له حاجته فقضاها، ثم قال: ما فهمت حاجتك
حتى كانت الساعة. وقال: انظر ما كانت لك من حاجة.
ثم إن الرجل خرج فلقي عثمان بن حنيف، فقال له: جزاك الله خيراً. ما كان
ينظر في حاجتي ولا يلتفت إلي حتى كلمته، فقال عثمان بن حنيف: ما كلمته،
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء ضرير فشكا إليه ذهاب البصر،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو تصبر ؟ فقال: يا رسول الله، إنه
ليس لي قائد، وقد شق علي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيت الميضأة
فتوضأ ثم صل ركعتين، ثم قل: اللهم، إني أسألك وأتوجه إليك بنبيي محمد نبي
الرحمة صلى الله عليه وسلم. يا محمد، إني أتوجه بك إلى ربي ليرد لي بصري.
اللهم شفعه في، وشفعني في نفسي. قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال
بنا الحديث حتى دخل الرجل كأنه لم يكن به ضرر.
تم كتاب التعازي والمراثي بأسره، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على
سيدنا محمد وآله وسلم وكان الفراغ منه في العشر الأوسط من جمادى الآخرة من
سنة ثلاث وستين وخمس مائة.