كتاب : الصداقة والصديق
المؤلف : أبو حيان التوحيدي
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: من وجد دون أخيه ستراً فلا
يكشفه.
وقال: رب أخ لك لم تلده أمك.
وقال: اصحب الناس بما ئت، يصحبوك بمثله.
وقال: الإخوان إخوان الثقة، وإخوان المكاشرة، فإخوان الثقة أهل بسط الكف،
ولين الجناح وهم أقل في الناس من الكبريت الأحمر، وإخوان المكاشرة فابذل
لهم حلاوة المنطق، وطلاقة الوجه، وإذا كنت من أخيك على ثقة فابذل له نفسك
ومالك، وصاف من صافاه، وعاد من عاداه.
وقال علي بن حماد: قالالحسن: مثل الصاحب مثل الرقعة في لقميص، فينظر امرؤ
باي شيء يرقعه.
وقال الحسن: إن المؤمن شعبة من المؤمن، يحزن لحزنه، ويفرح لفرحه، وهو مرآة
أخيه، وإن رأى منه ما لا يعجبه قومه وسدده، ووجهه، وحاطه في السر
والعلانية، إن لك من خليطك نصيباً، وإن لك نصيباً من ذكر من آخيت،
فاختاروا الإخوان والأصحاب والمجالس.
وقيل لعدي بن حاتم: ما أثقل الأشياء عليك؟ قال: اختيار الصديق، ورد
السائل، ومسألة الئيم. فقيل له: فما أضر الأشياء للرجل؟ قال: كثرة الكلام،
وإفشاء السر، والثقة بكل أحد.
وقال يونس بن عبيد: ليس لملول صديق.
وقال الشاعر:
البس جديدك إني لابس خلقي ... ولا جديد لمن لا يلبس الخلقا
قال النمري: الجديد ها هنا الصديق الحديث العهد كأنه استجده بالصداقة.
والخلق الصديق القديم الصداقة. يقول على وجه التوبيخ: عليك بالإخوان الجدد
فإني متمسك بإخواني القدماء، ثم قال: لا جديد لمنلا يلبس الخلق، أي من لم
يقم على مودة الصديق القديم لم يقم على مودة الصديق الجديد.
قال: ومثله قول العرجي:
سميتني خلقاً لحلة قدمت ... ولا جديد إذا لم يلبس الخلق
قال: والناس يظنون أن الجديد والخلق ها هنا ثوبان.
وقال العرجي:
لا يحول الفؤاد عنك بود ... أبداً أو يحول لون الغراب
وقال ربيعة الأسدي:
إن المودة والهوادة بيننا ... خلق كسحق اليمنة المنجاب
آخر:
ما سمعنا باسم الصديق فطالبنا بمعناه فاستفدنا الصديقا
أتراه في الأرض يوجد لكن ... نحن لا نهتدي إليه طريقا
أم ترى قولهم صديق مجاز ... لا ترى تحت لفظهم تحقيقا
شاعر:
ذهب الذين أحب قربهم ... وبقيت كالمقمور في خلف
من كل مطوي على حنق ... متصنع يكفي ولا يكفي
المتلمس:
على كلهم آسى وللأصل زلفة ... فزحزح عن الأذنين أن يتصدعوا
وقد كان إخواني كريماً جوارهم ... ولكن أصل العود من حيث ينزع
وقال المقنع الكندي:
وصاحب السوء كالداء العياء إذا ... ما ارفض في الجلد يجري ها هنا وهنا
يجري ويخبر عن عورات صاحبه ... وما يرى عنده من صالح دفنا
كمهر سوء إذا رفعت سيرتهرام الجماحوغن خفضته حرنا
إن يحي ذاك فكن منه بمعزلة ... وإن يمت ذاك لا تشهد له جننا
آخر:
رأيت موالي الألى يخذلونني ... على حدثان الدهر إذ يتقلب
فهلا أعدوني لمثلى تفاقدوا ... وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب
الحارث دعي الوليد:
فإن أنت أقررت العداة بنسبتي ... عرفت وإلا كنت فقعاً بفدفد
ويشمت أعداء ويخذل كاشح ... عمرت لهم سماً على ناب أسود
شاعر:
ومعشر منقع لي في صدورهم ... سم الأساود تغلي في المواعيد
وسمتهم بالقوافي فوق أعينهم ... وسم المعيدي أعناق المقاحيد
آخر:
وغني لتراك الضغينة قد بدا ... تراها من المولى فما أستثيرها
قال بعض السلف: خالطوا الناس ورابدوهم.
وقال أبو العيال الهذلي:
وأخاك إن آخاكم وعتابه ... إذا جاءكم بتعطف وسكون
ثعلبة بن صعير:
وإذا خليلك لم يدم لك وصله ... فاصرم لبانته بحرف عاقر
وقال ذو الإصبع العدواني:
لي ابن عم على ما كان من خلق ... مخالف لي أقليه ويقليني
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا ... فخالني دونه بل خلته دوني
وقال أسامة بن الحارث الهذلي:
تذكرت إخواني فبت مسهداً ... كما ذكرت بواً من الليل فاقد
وقال عبدة بن الطبيب:
واعصوا الذي يبدي النميمة بينكم ... متنصحاً وهو السمام المنقع
يزجي عقاربه لتبعث بينكم ... حرباً كما بعث العروق الأخدع
حران لا يشفي غليل فؤاده ... عسل بماء في الإناء مشعشع
لا تأمنوا قوماً يشب صبيهم ... بين القوابل بالعداوة ينشع
وقيل لعبد الله بن عورة، وكان خطيباً: تركت المدينة ولو رجعت إليها لقيت
الناس، فقال: وأين الناس؟ إنما الناس رجلان: شامت بنكبة، أو حاسد لنعمة.
شاعر:
أخاك أخاك إن من لا أخاً له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وأنشد يونس بن فروة:
فلقد رضيت بعصبة آخيتهم ... وإخاؤهم لك بالمعرة لازم
فعلمت حين جعلتهم لك دخلة ... أني لعرضك في إخائك ظالم
وقال بعض الحماء: إن الأخ إذا لم يكن صديقاً فهو نسيب الجسم، والصديق وإن
لم يكن أخاً فهو نسيب الروح.
أخبرنا ابن مقسم، حدثنا ثعلب، حدثنا عبد الله بن شبيب قال: سمعت العتابي
يقول: سمعت أعرابياً يقول لصاحب به: لا تنكرني لك فأعرف نفسي بك، ودع سرح
القلب محمياً، وثمر الفؤاد مجنياً فيوشك أن تبعد الطية عل غير أهبة ولا
أوبة.
شاعر:
وكنا كغصني بانة ليس واحد ... يزول على الحالات عن رأي واحد
تبدل بي خلا فخاللت غيره ... وخليته لما أراد تباعدي
ألا قبح الرحمن كل مما ذق ... يكون أخاً في الخفض لا في الشدائد
وكتب أحمد بن إسماعيل الكاتب إلى ميمون بن عارون: أعلمني رسولي أنك سألته
عمن آنس به في ناحيتي، ومن في الناس اليوم يؤانس أو يجالس؟ نحن إلى الأنس
منهم أحوج منا إلى الأنس بهم، وصورة الأمر في فسادهم أنه لما كان الدين
عمود المحاسن، ونظام الفضائل، وعصم الأخلاق، وكان الناس قد خلوا أو أكثرهم
منذ صاروا يتعاطونه مع المراء من الدين في معاملاتهم وموداتهم، مدخولاً من
جوانبه، مختلاً من أوساطه وأطرافه فلن ترى إلا ذاماً مذموماً، زارياً
مزرياً عليه، حالفاً بالقبيح، محلوفاً به.
وحديث أن رجلاً قال لسفيان الثوري: أوصني! فقال: أقل معرفة الناس، وأنكر
من تعرفه منهم، وابدأ بي، وأغضب من شئت، ودس من يسأله، فوالله لو لاحيت
رجلاً في زمانه فغضب لما أمنت ا، يترامى به غضبه إلى سفك دمي، وأفرط أعزك
الله مفرط في هذا الزمان فقال: لا أقول كما قال سفيان لنقصان دهرنا عن
دهره، ولكني أقول: أرض من شئت، ودس من يسأله عنك، وما أنكره لكثرة الشر في
الناس أن يكون جواب كثير ممن يرضى مثل جواب من يغضب، إلا أني أرجو أن لا
تكون هذه القضية عامة.
وأنشدني عبيد الله بن عبد الله لنفسه:
وحده الإنسان خير ... من جليس السوء عنده
وجليس الصدق خير ... من جلوس المرء وحده
وهذا لعمري كما قال، ولكن كيف لنا بجليس الصدق؟ ولربما نفع قرب العدو، وضر
قرب الصديق، وهذا كلام ينكر ظاهره إلى أن يظهر تفسيره، أما العدو الذي
ينفع قربه فهو الذي مقدار ضره أن يثلب ويعيب، ويجد مطنعاً ليذيع ويشيع،
فإذا قرب هذا صورته ممن يعاديه وكله بحراسة نفسه، ومراعاة أموره، وتحصين
تدبيره، وتحسين أفعاله، وكان برصيده له رقيباً عليه، وإذا رام تحفظ
الإنسان بهذا الرصد وترقيه هذه الرتبة صلحت أموره، وكان سبب صلاحها قرب
هذا العدو منه، وإنما صار للعرب مآثر تنشر، ومفاخر تذكر، بتوقيهم المعاير
والمعايب، في المقاوم والمجامع، ولم يخل أحد قط من ولي مؤدب، أو عدو مؤنب،
أو تقريع بخطأ أو تهجين بنقص إلا من أهمل نفسه، ومن عادة الإهمال الهلاك،
وقل من تحفظ فسلم من غضاعة، فكيف به إذا أضاع التحفظ من نفسه، وأمنه من
غيره.
وقال بعض المتقدمين: لا صلاح للملك إلا بنفسه ووزرائه وعداء يخرجون عليه
فيصلح نفسه من أجلهم.
ومما دونوه من الكلام: انه يجب على العاقل أن يتخذ أبويه أصدقاء،
وإخوانه رفقاء، وأزواجه ألافاً، وبنيه ذكراء، وبناته خصماء، وأقاربه
غرماء، والعلماء أولياء، والجيان رقباء، ويعد نفسه فرداً وحيداً، فذكروا
رقبة الجيران، وحضوا على توقيها، فكيف بالجار العدو، وأما الصديق الذي يضر
قربه فهو الذي إذا قرب توصل بصداقته إلى معرفة الأسرار، وعلم الأخبار، ثم
تحفظ الزلل، والتقط الخلل، وأحصي الفلتات، وعد الهفوات، وراعى عثرات
الألسن، وبوادر القول والعمل، عند الغضب والرضا، وفي أوقات الاسترسال التي
يخلو الإنسان فيها من إغفتال، ثم جعل ذلك سلاحاً معداً يحمله على صديقه
وقت العداوة وقد قيل في ذلك: يحصي العيوب عليك أيام الصداقة للعداوه ونحن
لم نخالف في ما عممنا به من الذم في باب الإخاء والأنس قول النابغة:
ولست بمستبق أخاً لا تلمه ... على شعث: أي الرجال المهذب
وقول الآخر:
هم الناس والدنيا ولم يزل القذى ... يلم بعين أو يكدر مشربا
ومن قلة الإنصاف أن تطلب الأ ... خ المهذب في الدنيا ولست مهذبا
وقال آخر:
وكنت إذا الصديق نبا بأمري ... وأشرقني على حنق بريقي
غفرت ذنوبه وكظمت غيظي ... مخافة أن أعيش بلا صديق
هؤلاء إنما أوجبوا الإغضاء والاحتمال والصبر والكظم مع سلامة الإخاء،
وإنما وقفوا بالصفح والعفو على ما يخلو الإنسان يأنس به من مثله، ألا ترى
النابغة يقول: أي الرجال المهذب؟ والآخر يقول: مخافة أن أعيش بلا صديق،
والآخر يقول: ومن قلة الإنصاف أن تطلب الأخ المهذب في الدنيا ولست مهذباً،
نقول كما قالوا، ونغفر كما غفروا لو وجدنا من يسلم لنا جملة إخائه، وإنما
نشكو فقد عمود الإخاء الذي حصوله يغفر ما دونه، وحيث بلغنا من هذه الشكوى،
وهذا الذم، فلسنا نجحد النعمة في بقية جميلة في هذا الزمان من أحرار
الإخوان قد قدمك الله فيهم فضلاً وبراً، وهمة عليه، وأخلاقاً رضية، ومع
ذلك فإن على العاقل في شريطة الإخاء إذا وجد موضع الدين والوفاء أن يقتصد
في المؤاخاة، ويتقصر من العدة على من تفي طاقته بما يجب لهم، فإن حقوقهم
إذا زادت على وسعه لحقته الإضاعة لبعضها، وجنت الإضاعة عليه العداوة ممن
أضاع حقه، ولذلك قيل: كثرة الأعداء من كثرة الأصدقاء، وانتظم في هذا
المعنى:
إذا اتسع الإخاء عرت حقوق ... مراعيها مقيم في مضيق
فإن خصت رعايته فريقاً ... أخل بما عليه في فريق
وإن رام القيام لهم جميعاً ... بشرط الود لم يك بالمطيق
وأوحش بعضهم فأفاد منه ... عدواً كان في عدد الصديق
فخذ ممن تؤاخيه بقصد ... وقدر فتح أبواب الحقوق
وقال:
إذا كثر الإخوان للمرء وابتغوا ... معونته في صرف دهر وغدره
فوحدته لا تستقل بحقهم ... وكثرتهم لا تستقل بضره
وكنت أعلمتني أنك استحسنت مني البيتين في ذكر العدو والصديق وهما:
إن كنت تطلب فضلاً ... إذا ذكرت ومجدا
فكن لعبدك خلا ... وكن لخلك عبدا
وكان سببهما ا، صديقاً لي ضرب عبداً له فحضره صديق له فمنعه الصديق فلم
يمتنع، فكتبت إليه بهذين البيتين أذكره بحق الصديق في عبودية الطاعة،
وأخوة العبد في حق الإيمان، قال الله تعالى: " إنما المؤمنون إخوة " ، هذا
ما في التسلط على المماليك من الدناءة!
ولأحمد بن إسماعيل أيضاً إلى إسحاق بن سعد: وكأن الزمان يخص
الإخاء وأهله من كدره ونكده بما لا يعم به غيهم، فما تشاء أن ترى ذوي صفاء
قد فرقت بينهما نوى فحصلا من التزاور على التكاتب، ومن أنس الاجتماع على
وحشة الافتراق، ومن بهجة اللقاء على لدغة الشوق وكثرة التوق، ومن راحة
المباوحة والمفاوضة على ضيق الصدور بالأسرار، وكرب النفوس بالكتمان إلا
وجدتهما، ولا تشاء أن تجد أمثالهما قد جمعتهما الديار، واعترضت بينهما
الأحداث، فاجتماعهما في معنى التفرق، وقربهما في صورة البعد، إلا أن
شوقهما أبرح، ونزاعهما إلى اللقاء أشد، وحسرتهما على ما يفوت منع أكثر إلا
رأيتهما، فأما إهوان اللقاء، وعبيد العيون الذين تجمعهم الرغبة والرهبة،
ويتزاورون في لمواصلة من العهدة إذا ولت مطمعة، وأخلفت مخيلة، أو نابت
نائبة، فاكتراثهم لأعراض الدهر بينهم تستر، لأن الحاضر منهم لا تزعجه من
أخيه الغيبة، والغائب لا تقر عينه بالأوبة، فالفرقة لا تورثهم وحشة،
والاجتماع لا يجدد لهم أنسة، وربما وجدت تراضيهم بمخالفة ظاهرهم باطنهم،
قد أتيح لهم متعة بعشرتهم لأن كلا منهم قد قدم التحرز من صاحبه، واستشعر
الاحتراس منه، فليس بستودعه ما يخاف ضياعه، ولا يأمنه على ما يحتاج إلى
الاهتمام به، وأعطاه مقداراً من ظاهره، وقفت عليه عادته، وأسقطت مؤونة
التحصيل عنه، ولبسته على علم به، فإن أظهر له جميلاً لم يغتر بظاهرة، وإن
وقف على غل أو غش لم يجدد له علماً بباطنه، فليس يبدو له من أفعاله ما
ينفره فيقطعه ولا يغيب عنه منها ما يأمنه فيسكن إليه، ويخاف جناية
الاسترسال عليه، ولا يبقيه في مشهده ومغيبه منه ما لا يعرفه، فيجريان في
هذا الميدان مدة طويلة متمتين بالمؤالكة، والمشاربة، واللقاء والمحادثة،
وأخو الثقة يرمق الحركة، ويراعي اللحظة، ويتأول اللفظة، وإن ظهرت منكرة
وقف عندها، وتعرف سببها، وتبين موقعها من العمد والخطأ، ومقدارها في الصغر
والكبر، وهل يقل صغيرها عن المعاتبة، أو يبلغ كبيرها ترك المراجعة، وينزل
الأمور بين هذين الطرفين منازلها، ويعمل في ما يستقر عليه بما هو أصون
لعقدته وإن كانت نفيسة، لأن أخا الثقة من الإخوان يمنح الأنس، ويبث ذات
النفس، ويظهر العجر والبجر، ويكشف الأسرار، ويخص بخواص الأخبار، ويدخر
للنوازل، ويفزع إليه في النوائب، فيعد للمشهد والمغيب، واليوم والغد،
والمحيا والممات، والنفس والعقب، ويستظهر بإخائه على الزمان، ويعتضد به في
الحدثان، وإنما يستحق ذلك ما نقي جيبه، وسلم غيبه، وخلص قلبه، وصح لبه،
ولوقوفه على هذه الغاية من الاستحقاق يراعيه من أودعه أجل ودائعه، وجعله
أفضل عدده، والحمد لله الذي جعلك مقدماً في إخوان الصفاء، يثق بك الصديق،
وتخف المحنة عليه في مراعاة طويتك بصحة عقدك، وكرم عهدك، وتسمكك في وردك
وصدرك بعصم الدين التي تشتمل على المناقب، وتنفي المقابح والمعايب، وتؤدي
صاحبها إلى فوز البد، وتحوز له النعيم المقيم، فتمم الله نعمه، وأوزعك
شكره، وأمدك بمزيده:
تنازعنا الوداد وكنت أجري ... إذا بلغ المدى جري السبوق
فحاز السبق إسحاق بن سعد ... وخلفني بقارعة الطريق
الاستزادة على حسب الحرية، ومن لم يجد ألم الجفوة لم يعرف موقع المبرة،
وأيام السلطان والقدرة غنيمة ذي النبل والهمة، تعتقد بها المنن، وترعى
فيها الحرم، وتبنى المكارم لليوم والغد، والنفس والعقب، ولي ما شهدته من
مودة صحيحة موروثة، وأسباب شابكة متقدمة، وربغة متجددة، وأمل متأكد، ولكل
من ذلك حق وحرمة، وأنا شريك في النعمة بالهوى والنية، مطلق اللسان بوصف
فضائلك في محافل ذي الشرف والحرية، كبتاً لعدوك الذي ليس بينه وبين الله
عصمة، ونصراً لوليك ولي الدين والمروءة، ومعي معاضدة الأخ، وخدمة العبد،
وطاعة اليد والسلام.
وقال أيضاً في فصل آخر: وإذا سلمت لي الحال القديمة بيننا التي كان العهد
فيها باللقاء يتراخى، فإذا التقينا وجدنا على جدته، وأعطى المفضول منا -
أعني نفسي - من آتى فاضرً - أعنيك - من الإعظام والإجلال حقه، وسلك الفاضل
بالإنصاف والتواضع سبيل فضله، لم أحفل بما يحدث بعد ذلك من إدراك أمل
وفوته، ونيل طلبة وتعذوها.
وكتب عبد الله بن المعتز إلى احمد بن يحيى لشيباني أبياتاً منها:
إنا على البعاد وللتفرق ... لنلقي بالذكر إن لم نلتق
فأجابه: لم تعد ما في النفس، بلغك الله أملك، ونحن وإن لم نلتق كما قال
رؤبة:
إني وإن لم ترني فإنني ... أراك بالغيب وإن لم ترني
أخوك والراعي لما استرعيتني
ولكني أحذر عليك، فإنه لا تفى محبتي إليك، ومن لم يحذر فقد ضيع الحزم،
وأنا أسأل الله أن يجعل عليك واقية برحمته.
وكتب آخر: من عاقته العوائق عن المحاورة، عول على المكاتبة، وأنا آنس
بذكرك فضلاً عن مكاتبتك، وبمكاتبتك فضلاً عن رؤيتك، ولو تقاربت المنازل
كتقارب القلوب لأحبت داعي الشوق إليك في الحذاء والرداء، والضياء كتقارب
القلوب لأحبت داعي الشوق إليك في الحذاء والرداء، والضياء والدجى وأنشدني
منشد:
كنا نزوركم والدار جامعة ... في كل حال فلما شطت الدار
صرنا نقدر وقتاً في زيارتكم ... وليس للشوق في الأحشاء مقدار
ولرب منازل متقاربة لقلوب متباعدة، يجمعهم النفاق، وتفرق بينهم الأخلاق!
وكنت كتبت إلى صديق يمرح في بعض ما يستهدي:
لا تجعلن بعد داري ... مخسساً لنصيبي
فرب شخص بعيد ... إلى الفؤاد قريب
ورب شخص قريب ... إليك غير حبيب
ما البعد والقرب إلا ... ما كان بين القلوب
لابن ثوابة: فلبثت بعدك بقلب يود لو كان عيناً فيراك، وعين تود لو كانت
قلباً فلا تخلو من ذكراك.
وقع أحمد بن صالح بن شيرزاد إلى رجل: أنت ضعيف الإخاء، قليل الوفاء،
معاملك معك في عناء، ومعاشرك منك في بلاء.
وكتب إلى صديق له: وصل كتابك مخبراً بعافيتك، مبشراً بسلامتك، مذكراً
بلذيذ عشرتك، وطيب ألفتك، ناطقاً بصحيح ودك، وكريم عهدك، وإني لآنس بذكرك،
فضلاً عن مكاتبتك، وبمكاتبتك فضلاً عن رؤيتك، إلا إني في ذلك كما قال
إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إن ما قل منك يكثر عندي ... وكثير من الحبيب القليل
عيسى بن فرخشانه: اعتقدت ودك، وأوجبت حقك، واعتددت بشكك، ولحفظ حالك عندي
رقيب من عنايتي لا يفتر فيك لفظه، ولا يصرف عنك لحظه، وذكر السيد استيحاشه
لقصدي، وحنينه إلى لقائي، والأنس آخر ما يبذل من ذات النفس، وأجل ما تخص
به السادة أولياءهم، والإخوان إخوانهم، وبه تنال راحة المفاوضة والمباثة،
وعليه تبنى الثقة والمشاورة، وإليه ينتهي إخاء المودة، فإذا بلغه أهلها
قضوا حقوقها، واستوفوا شروطها، والسيد ممن لا يخص بأنسه إلا من ترتضتي
أخلاقه، وتحمد مذاهبه، وكفى بذلك فضلاً لمن ناله، فأين يبلغ شكري ما قضي
به من ذلك لي.
وكتب أيضاً: وأنا - والله - أيها السيد ما زلت كاتباً، وممسكاً، وفائزاً،
ومثابراً، الوالي المخلص، والواد المصحح، ومن إذا شد عروة اوثقها، وإذا
عقد مودة صدقها، ولا خير في المذق والشوب، والمماذق أخو المنافق، والشائب
هدف العائب، والرجل بمواقع اختياره إذا مال ووالى، وإذا انحرف وعادى، وإذا
اجتنب واجتبى، يدل على خطره وقدره، ويقوم نفسه قيمة يرجع إليها من عامله
وعدل عليه.
محمد بن بحر: وثل كتابك فناب عن زهر الرياض حسناً، وأخبر عن فتيق المسك
عرفاً، لما جمع من غريب المعنى، وبديع اللفظ، وتصرف كاتبه - لاعدمته - في
بر جدده، وتفضل وكده.
القاسم بن محمد الكرخي: قد واصلت أياماً تباعاً، غدواً إليك ورواحاً، حتى
ملني البكور، وسئمني التجهيز، وشكاني الطريق، ولحاني الصديق، وفي كل ذلك
أعاق عنك بالحجاب:
ولا خير في ود امرئ متكاره ... عليك، ولا في صاحب لا توفقه
هذا من عتاب جاش به الصدر، وقل عن كتمانه الصبر، فإن عطفك حفاظ فأهل البر
والفضل أنت، وإلافإني على على العهد ولا أقول:
فما ملني الإنسان إلا مللته ... ولا فاتني شيء ظللت له أبكي
كاتب: أطال الله بقاءك، والمخاطبة بكل دعاء تخاطب به إخوان الصفاء وإن
ضعفت اليد عن اسقصائه، وضاق ما يكتب فيه عن استيفائه.
للحسن بن مسلم: زاد الله من عمري في عمرك، ورفعك إلى الدرجة
الموازية لقدرك، وضاعف الكرامة والنعمة والسعادة لك، وقدمك في المحبوب
قبلي، وقدمني للمحذور قبلك، إني - وجعلني الله فداءك - وإن كنت آنس بك في
الحول وقتاً، وأغبر في بقيته خلواً مستوحشاً، فإن موقع وقتك عندي منه،
كموقع ربيعة من سائر شهوره، لما يبهجني من السرور بك، ويونق بصري من بهي
منظرك، ويرتغ فيه لبي من رياض علمك وأدبك، ويجدد لي من يوافع فؤادك،
وملذوذ ثمار ودك، ما يروق به الربيع العيون من بهيج زينته، ويجود به على
الأرض من غيوثه، ويلبسها من زخارفه، وينشر عليها من موشى حلله، ويملأها من
خصبه وبركته، وأشبه مغيبك - جعلت فداك - بأضداد هذه الصفات، غير أني أحيا
بالتذكر والرجاء مدى النأي إلى اللقاء، وأجد عقلي بما أفدت في ساعة منك
متقوتاً زمناً طويلاً طقول أنوشروان الملك: قوت العقول الحكم، وقوت
الأجساد المطعم، فلا زلت من نورك مقتبساً، ولإخوانك في القرب والبعد
مؤنساً، ولا زالت الأقدار تسعفنا فيك ببلوغ أمل، ودنو محل، حتى تطول
العشرة، وتدوم الغبطة والمسرة.
كاتب: لئن بعد - أسعدك الله - مزارنا بعد قرب، لما باعد ذلك، بحمد الله،
قلباً من قلب، ولا حل مما بيننا عقداً من ود، ولا منع من محافظة على غيب
وعهد، وإن انقطعت منا المكاتبة أحياناً لاعتناق علة أو شغل، فتواصل
التشاكل لا ينقطع لانقطاع الكتب، وقد جعل الله - وله المن والطول - نعمتنا
عند بعض بنجوة من التقصير، وفي حال غنية عن المعاذير، فجعل الله ما عراك
تمحيصاً، وعقباه تخليصاً، وأعادك إلى أحسن ما عودك، وما لم تجري به آلاؤه
عندك.
وكتب آخر: إن لم يكن جمعنا - أسعدك الله - تلاق يأنس فيه بعضنا ببعض،
وتتصل به أسباب بيننا في القرب ولبعد، فكفى بالمشاكلة مؤانسة، وبالمشاكهة
مواصلة، تثبت علائق الثقة، وتدقع عواض الحشمة، وتزين استعمال الدالة.
لليزيدي: فأما ما عندي مما أبذله لك رغبة، وأرضى بقبولك إياه مثوبة فمودة
أقيم عليها بقية عمري، وأستوفي لك حقوقها على نفسي، وطاعة أصحح فيها سري
وعلني، وأتبع شروطها فيما وافقني وخالفني، وشكر أشغل به خاطري وعقلي وأعمل
فيه لساني، وثناء حسن أسعى فيه وأجتهد، وذكر جميل أقوم به وأقعد، وأن
أوالي بك وأعادي، وأصافي وأصادي، ولو ملكت غير ذلك لبذلته، ولو علمت وراء
ما أنا عليه مكاناً لبلغته.
وكتب آخر: ما أعلمني أن في سعة صدرك، وفضل رأيك، وعلو قدرك، ويمن تبيرك،
وشدة تحصيلك، وما مكن الله لك من سلطانك ما أغنى عن مسألتي عما أراه في
أمري، فوالله ما حلت لك عن عهد، ولا من موالاة إلى عداوة، ولا عن وفاة إلى
غدر، ولا عن شكر إلى كفر، ولا قصرت فيما ظننت إنه يقضي عني الحق بما بلغته
الطاقة والوسع، فإن تكن الدنيا بلغتني ما لا يجدي معه سعي، فذلك على
الزمان لا علي:
ما كلف الله نفساً فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
فوالله ما كنت بذميم العهد لك في شدة ولا رخاء، ولا في حال سراء ولا ضراء،
على قدر ما تبلغه طاقتي وتناله يدي، وليس من قصر به القدر بملوم على تصير،
ولا من نصح بالنية إذا أعجزه الفعل بمعدود في أهل الغش.
كاتب: وإن الذي " يعلم السر وأخفى " ليعلم أني لم أحل لك عن عهد، ولا رجعت
لك عن ود، ولا انطويت لك على غل، في وقت رخاء، ولا شدة، ولا نعمة، ولا
محنة، ولا خلفتك بقبيح في نفس، ولا مال، ولا عرض من الأعراض، اللهم إلا أن
تكون تعتد علي بعتاب أجريته بيني وبينك في بعض ما يعاتب الصديق صديقه، وما
ظننت أن ذلك يخرج عن طريق المودة، ولا يوجب العداوة والجفوة، لأنه أمر
سلكت فيه سبيل نصيحة لم أمل فيه إلى غش لك ولا خيانة، وربما احتملت للناصح
الكلمة المرة، ولم تخرجه عن حد الأمانة والثقة، وإن كان مخطئاً في
المشورة، لأنه قد اجتهد عند نفسه ولم يرد سوءاً ولا غائلة.
كاتب: وقد هيأ الله لك دولة لست تغبي فيها عن الإحسان إلى المحسن
جزاء له، والتغمد للمسيء احتجاجاً عند الله، وطلباً للفضل الذي لا يذم اخذ
به، فإن مدد الأعمار، فضلاً عن الدول، قصيرة، وأيام العز، وإن طالت يسيرة،
وإن اعتقدت فيها المنن اتبعتها أيام الشكر، وهي أحسن منها عاقبة وأحمد
مغبة، وشراء الصديق صعب عسير، وبيعه سهل ممكن، وحيث وجهت المعروف فهو عائد
بثناء جميل، أو ثواب جزيل، وقليل البر يستبعد لك الحر، ويستر الهوان بصرف
وجوه الأمال:
ومن يسأل الأيام نأي صديقه ... وصرف الليالي يعط ما كان يسأل
أحمد بن إسماعيل بن عباد: فما كان أولاك أن تحميني من سوء الظن بك، وألا
تجعل من مصائبي المصيبة بمودتك، وأن أعجب عندي من إمساكك عن مكاتبتي
إمساكك عن ذكري في كتبك إلى قوم قد علمت أنهم لا يخفون عني مكاتبتك إياهم
ولكني مع هذا أقول:
أترسل بالسلام وصدر عيسى ... يشد على عدوي الحزام
فولا أن يكون العهد منكم ... لما أرسلت نحوكم سلامي
ولكن الفتى ليست عليه ... تمائم قد علمت من الحمام
ولا أقول فيك كما قال إبراهيم بن المهدي لعمرو بن بانة ودعاه يوماً فامتنع
من المصير إليه لسخط السلطان عليه فكتب إليه: ليس يخلو أمير المؤمنين أن
يكون ساخطاً فما يأبى أن يغرني، وإنك لموقوف بينهما بحمد الله، فأما فلان
فلو كان الصديق إذا نزلت به نائبة، أو نالته نكبة، أو نبا به الدهر نبوة
استوى عدوه وصديقه في الجفاء به، والاحتراس من خلطته وعشرته، وتك معونته
على دهه، لكان اسم الصديق اسماً معلقاً على غير معنى، ولكانت حرمة مودته،
واعتقاد إخائه في أيام الرخاء وزمانه ضياعاً لا حظ فيه، كلا والله غن
الرجل ليبذل لأخيه في النكبة ماله، وقد أعفى الله مالك وإنه لحظر نفسه في
معونته، وقد صان الله نفسك لك، وإنه ليفارق الأوطان والأهلين في إيثار
موافقته، ولقد أعفاك الله من أن ترد عليك مسألة في ذلك، وما أردت إلا أن
أعلم أن لي صديقاً قد أبقى لي الدهر منه مثل الذي أخذ، وأنفس منه، وأن
الأيام لم تبلغ من مساءتي كل ما أحذره، ولله روح منتظر، وفرج مأمول، وصنع
متوقع، ولنا ذنوب ما نتهم غيرها، ورحمة الله أكثر منها.
كتب ابن أبي البغل إلى النعمان بن عبد الله أبي المنذر: كتابي - أدام الله
عزك - من أصفهان، وعادة الله عندي جميلة، والحمد لله رب العالمين، ولم
تتأخر كتبي عنك - جعلني الله فداءك - مع ما ألزمه نفسي من الحقوق المعترضة
للمتقدمين في المنزلة المرعية بين المتخالصين في المودة، لا إغفالاً للحق،
ولا إضاعة للحظ، لكن عرضت لي أحوال وأشغال وأسفار ورجوت أن تزيل عني
الاستزادة تمحل لي عذراً كعذرك في تأخر كتبك فتقع متاركة أو مسامحة، ثم
جرت خطوب تكشفت عما ساءني منك، وخفت أن يغني العتاب من إعتابك في سورتك،
فأمهلت توقعاً إلى الغاية، ومؤملاً منك عند بلوغها حسن المراجعة، وأن
تتأمل فتعلم أني ما حلت عن عهدك، ولا زلت عن ودك، ولا جنيت بيد ولا لسان
عليك فتتوكل لي على نفسك، وتتعطف بجميل أخلاقك، وترعى مني ما يرعاه الحر
من صديقه، وتبقي علي مما أجريت إليه، فاستمر بك اللجاج ووصلت ما أتيته في
أمر فلان بإدامة النبو عني، والوضع مني، وجعلت ذكري باللقب دون الاسم،
وبالاسم دون الكنية، وبالكنية دون الدعاء، وما هكذا أفعل عند ذكرك، ولا
أخللت بما يجب علي من عظيمك ووصف فضلك ومحاسنك، ولولا الرغبة فيك، والضن
بك لوجدت عن هذا القول مذهباً ومنتدحاً، ولكني ملكتك مني رق المودة فقل
صبري على سوء القاسم بن محمد الكرخي: لو كنت أعلم أنك تعتب إذا عاتبت
لشدوت من ذلك في مذهب لا أبلغ بك فيه القصوى، ولا أقتصر منه على الأدنى،
ولا أخليك من الاستزاده في غير شكوى، والتعريف في غير تعنيف، والاحتجاج في
غير تبكيت ولا توقيف، ولكن شر القول ما لم يسمع، ولم يكن لقائله فيه
منتفع، وأشبه البر بالعقوق ما استكرهت عليه النفوس، ولم يكن له باعث من
النية والضمير:
وليس بمغن في المودة شافع ... إذا لم يكن بين الضلوع شفيع
وما آمن أن أكون قد عزرت بمن كتبت له إليك فإن كنت قد حلت عن كل جهة
فهنيئاً لك سوء العهد.
وله: الكتب تحيي ما أمات الفراق، وتجدد من عهد المودة ما أخلقه
الزمان، وقد انقطعت بيننا انقطاعاً كاد يعرض الشك معه في اليقين المعتمد
عليه، والصحيح الموثوق به من إخائك، على أني لا أصرف شيئاً من العتاب إليك
غلآ عدت على نفسي بأمثاله لك، واستوفيت عليها استيفاء غير مسامح لها في
المعذرة، ولا معذر ي المعاتبة، فإن الحقوق بيننا توجب من التواصل ما نحن
على ضده في ظاهر التعامل، فأما ما تنطوي عليه النيات وداً وإخلاصاً فأرجو
أن أكون فيه على منزلة تعجز المجتهد، ون تكون على مثلها، وذلك هو الغرض
المقصود، والمغزى المأمول، فغن الواصل بنية وإن انقطعت كتبه واصل، والواصل
بنفسه إذا مذق وده اقطع.
كاتب: أنت - أعزك الله - واجد عندي مودة غير مدخولة، وعشرة غير مملولة،
ودوام عهد على طول المودة، وحسن احتمال للصنيعة، واستقلالاً يشكر العارفة،
مع سعة العذر، ولين المطالبة، والتغمد بالصفح عند الزلة، والصبر على
الجفوة في غير ذلة، والتغابي الذي يجلب الغفلة، واستفراغ المجهود في تحري
الموافقة، ولست مسؤولاً إلا ما تتعاطاه ممكناً، وتبذله، وتوجب ما سألنا
فالفضل معك، والرغبة إليك، وإلا فحظ ما اضعت، ويسر ما منعت، على ظننا
يتجاوز حد الظنون، تشبيهاً بالعيان، وقريباً من اليقين، ألا نفند رأيك،
ولا نسوء اختيارك إن شاء الله.
سعيد بن عبد الملك في الحث على المواصلة: أكره أن أصف لك ولنفسي موضع
العذر والقبول، فيكون أحدنا معتذراً مقصراً، والآخرمقبلاً متفضلاً، ولكني
أذكرك ما في التلاقي من تجديد البر، وفي التخلف من قلة الصبر، والله أسأل
أن يوفقك وإيانا لما تكون معه عقبى شكر، لا عقبى صبر.
كاتب: أخبرني - جعلني الله فداءك - أحصلنا منك على اعتلالات تتمحلها،
ومعاذير نتخيلها، في هجر تظهره، وتدعي أنك لا تستشعره، وجفاء تبديه، وتزعم
أنك لا تنويه، لا كان من قبل هذا ولا أفلح، لأني إنما أحب اعتقاد الصديق
لي الخير لتولينيه، وأكره انطواء العذر لي على القبيح خوفاً من أن
تبلينيه، وإذا كان فعلاهما بي سيين لم أعرف بهما فاصلاً، لأن السرائر
مغيبة عن العيان، ولو اطلع عليها لما كان في صافيها نفع، ولا في دخل
دخيلها ضرر، ما لم يبد من أهل السوء والشر، بل لكان العدو الذي أحذره
ويسرني، أحب إلي من صديق آمنه ويغرني، وأسكن إليه ويضرني، ولهذه العلة
تراني أخالف أكثر الناس في هذا الباب وأقول: إن الواجب أن ترد باطن الناس
إلى ظاهرم، وتستشهد أفعالهم على سرائرهم، غذ كانت الأفعال نتائج النيات
وثمراتها، وأسلك مع إخواني في هذا السبيل وأسألهم أن يجروني على مثل هذه
الوتيرة، ويعفوني من سريرة لا تعلم مصدوقتها، ولا تعرف حقيقتها، وأجريهم
على ذلك فليس من العدل أن يطالب المر لنفسه بما لا يبذله منها، وإذا عاملت
الصديق الذي تصافيه بالجفاء، فقد حملته على السيرة في الأعداء، وهذا فاحش
الخطأ، وأفحش منه أن تمنح العدو من الصلة تصنعاً، ما تمنعه الصديق تطوعاً،
والله المستعان والمستودع لما لديك، والمستزاد في الإحسان إليك.
كاتب: وليس يضيق بيننا أمر من جهة الحجة إلا اتسع من قبل المودة، والحرمة،
والأسباب المتصلة.
آخر: وأنت أيها الأخ في حال الجفوة إذا اعتمدتها أبر من غيرك في حال الصلة
إذا توخاها وقصدها.
آخر: ولولا أنك قلت فقلت، وكتبت فأجبت، لكان ما عندك من المعرفة بموقعي
منك في هذا وغيره مغنياً عن الإفصاح، ونائباً عن الإيضاح، وليس ينبغي لنا
أن نتنازع فضلاً متى تفرد به أحدنا فهو شائع بيننا، إذ كان ما خصك فقد
خصني، وما شملك فقد شملني وأنا أسال الله إذا من بالنعمة أن يجعلك المقدم
فيها، وإذا امتحن بمحنة أن يجعلني وقاية لك منها.
كاتب: أنت تعرض عني إعراض المتجرم، وترجع إذا رجعت رجوع المتذمم، فأما ما
سبق إلى قلبك من التهمة فكيف أطنب في مساءتك، وعلى قلبي من هواك رقيب
يحجره ا، يتصرف إلا في إرادتك.
سعيد بن عبد الملك: أول أسباب المودة ما أنت به عارف، وله آلف، وإن كنت لا
أعتد به براً، بل أرى لك فيه منة وحقاً إذ صدقت المخيلة، وخلصت على
المحبة، ولست أستريب بما توجبه على حال من الأحوال، بل أشكرك على النية
دون الفعل، وتلك إرادة مثلي ومثلك، وعندي مزيد لكل ما تحب، وإسراع إلى كل
ما تهوى وتريد.
كاتب: والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك من،
ولك عندي يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، فتجنب ما
يسخطني فإني أصون وجهك عن ذل الاعتذار.
حمد بن مهران: لي - أعزك الله - سابق حرمة يحفظها مثلك ولو أجترمت، ومتقدم
حق يرعاه كرمك ولو اقترفت، وسالف لا ينقضه وفاؤك ولم اجترحت، وخالص مودة
لا يضيعه حياؤك ولو زللت.
جعفر بن يحيى: عندنا الاغتفار لما اقترفت، وسالف لا ينقضه وفاؤك ولو
اجترحت، وخالص مودة لا يضيعه حياؤك ولو زللت.
جعفر بن يحيى: عندنا الاغتفار لما اقترفت، وتصديق كل ما قلت واحتججت
بذكره، واعتذرت بوصفه، والإسقاط لما جحدته، والإكذاب للجور الذي اقترفته،
والرجوع عما أنكرته، والزيادة فيما اخترته، واستدعاء لك وإن انصرفت،
وحياطة لما قدمت وإن ذممت، وإيثاراً للإغضاء والاحتمال فإنها أبلغ في
الإصلاح، وأنجع في الاستنجاح، وأبلغ في التعليم، وأكبر في التوقيم، وإن
احتيج إليه في مثلك ممن تؤمن عليه قريحته، وترده إلى الاستقامة تجربته.
سليمان بن وهب: من انصرف عن الحجة إلى الإقرار بما يلزمه وإن لم يكن
لازماً فقد لطف للاستعطاف، واستوجب المسامحة والإنصاف.
لابن ثوابة: وصل إلي كتاب مخالف لما كنت أعرفك به من الصفح، والفضل،
والأخذ بمحاسن الأمور، فإن كنت شفيت به غيظاً، وبردت به غليلاً فما أسهله،
وإن كنت لم تندم عليه ندم المتنزه عن سوء المجازاة، ولم تراجع الجميل بعده
فما أشده، وأي ذنب كان فأرجو أن لا يجتمع على عبدك الخطأ والإصرار على
الذنب، ولا أفارق استصلاح رأيك، وارتجاع ودك ما حييت وإن لم أصل إلى يحازة
ما كان لي منه، فإني قانع ببعضه، ما استقل شيئاً من أقسامه، ولا أيأس فيك
من عقبى الأيام، وحين مراجعة الدهر حتى يكون هذا الذي حدث بيننا من ظلم
وعتب منك نافياً لكل وحشة، ومؤكداً لكل ثقة، فلست فيما أنكرته بواجد، ولا
الفضل في أخلاقك وشيمك بمستغرب.
وله: فإن رأيت أن أصفح مستأنفاً، كما صفحت متقدماً، وتتفضل عائداً كما كان
الفضل منك بادئاً، فإني قاطع كل سبب إلا ما وصلني بك، وتارك مكاتبة الناس
جميعاً إلا من أجرى لي ذكراً عندك، واستدعى إحساناً ورفداً منك.
لمحمد بن مكرم: وخاتمة الأعذار بيني وبينك صدقي إياك عما عندي أنك لا تحدث
نبوة، إلا أحدثت لي عنك سلوة، ولا يزداد أملي في إثابتك ضعفاً، إلا ازدادت
منتي في قطيعتك قوة، حتى لا أقبل العتبى، ولا أختار المراجعة، وحتى يسلمني
لليأس منك إلى العزاء عنك، فإن ترع فصفح لا تثريب فيه، وإن تماديت فهجر لا
وصل بعده والسلام.
وله: ما زالت نيتي وسريرتي الحفاظ الحر، والوفاء المر لإخواني عند النكبات
كما قال حماد عجرد:
أنا عبد الوفاء لا أطلب الدهر من الرق ما حييت فكاكا
وصل الله لك بالصنع صنعاً، وبالمزيد مزيداً
البصير: من ذممت عهده، واستقرت فعله، أو لبسته على التجاوز له عما أنكر
فأنت الأخ المرضي إخاؤه، والمحمود عندي بلاؤه، المخالط أمري بأمره، في
عسره ويسره، الباذل ما لا أسأله، والحامل لي على نفسه فوق ما أحمله، ومن
لا يخلفني عدة المثابرة عليه، ويخل بموضعي عند إيابي إياه.
وله: فأما من احتج في إساءته وأغضبه على أخيه أن يستعتبه فقد جعل العقل
خصمه، وظلم الإخاء حقه، وما ساهلناك فيه، أو حادثناك إياه فلفرط الضن بك،
والمحاماة عن ودك، والله يقيني فيك، ويدفع لي عنك.
شاعر:
وإذا ينوبك والحوادث جمة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
كتب عمارة بن حمزة إلى محمد بن زياد الحارثي يطلب إخاءه:
أما بعد فإن أهل الفضل في اللب، والوفاء في الود، والكرم في الحق
لهم من الثناء الحسن في الناس لسان صدق يشيد بفضلهم، ويخبر عن صحة ودهم،
وثقة مؤاخاتهم، فتجوز لهم بذلك رعية الإخوان، وتصطفى لهم سلامة الصدور،
وتجتنى لهم ثمرة القلوب، ولقد لزمت من الوفاء والكرم فيما بينك، وبين
الناس طريقة محمودة نسبت إلي مرتبها ف الفضل، وجمل بها ثناؤك في الذكر،
وشهد لك بها لسان الصدق، فعرفت بمناقبها، ووسمت بمحاسنها، وأسرع إليك
الإخوان بمحبتهم مستبقين، وبرغبتهم فيك متقاطرين، يبتدرون ودك، ويصلون
حبلك، فمن أثبت الله عندك وداً فقد وضع خلته عندك موضع الحرز والثقة، وملأ
به يديه من أخي وفاء وصلة، واستنام بك إلى شعب مأمون، وعهد محفوظ، وصار
مغموراً بفضلك عليه في الود، يتعاطى من مكافأتك ما لا يستطيع، ويتطلب منه
ما لا يلحق، ولو كنت لا تؤاخي إلا من كان في وزنك، وبلغ من الخلال مبلغ
حدك، ولا آخيت أحداً، ولكنت من الإخوان صفراً، وقد رأيت أ آخذ بنصيبي من
ودك، وأصل وثيقة حبلي بحبلك، وعملت أن تركي ذلك غبن، وإضاعتي إياه جهل.
وله: غير أني إن كنت مقصر القوة، فلست بمقصر النية، وإن كنت مقصر الرأي،
فلست بمقصر الرغبة.
وله أيضاً: أما بعد فإن خير الإخوان من عظم حلمه، وحسن لظفه، وشرهم من
عجلت بادرته، وساءت مقالته، وقد عرفنا فضلك، وعدنا إلى موافقتك، فصل الأول
من طولك، بالآخر من مراجعتك.
وله: لا تكن كمن يرى الحسن من نفسه، ويتغابى عن الجميل من غيره، وإني
المأمون اليوم في إخائه، المداوم لمن عاهد بوفائه، والغالب على الأكثر ملق
النطق، والتلافي بالظنون.
ابن المقفع: أما بعد: أصلحنا الله وإياك صلاحاً دائماً يجمع لنا ولك به
الفضيلة في العاجلة، والكرامة في الآجلة، فإني لا أعرف أمراً أعظم عند أهل
منفعة من أمر ترك ذكره لفضله، ولا أعلم أمراً أحق بأن يستغنى أهله بفضله
عندهم عن ذكره فيما بينهم من أمر أوشج الله بيننا وبينك في الدنيا أسبابه،
وثبت حقوقه، وعظم حرمته فأبقى الله لنا ولك ما أحرزه بيننا وبينك في
الدنيا حتى نكون إخواناً في الآخرة حين تصير الخلة عداوة بين أهلها إلا
خلة المتقين.
كاتب: لا تجمعن دعوى السراة، وتكبر الولاة، وتحكم القضاة.
كاتب: لا تدعوك قوة ملكك لفضلك في صلة إخوانك إلى استصغار ما يتخلصون إليه
من صلتك، فإنك إن قايستهم بتفضلك عليهم قل كثيرهم في جنب ما يأتيه إليهم.
كاتب: إنا - حفظك الله - لو كنا قطعناك ثم كافأتنا بقطيعتك إيانا ما كان
لك أن تفردنا بالذنب دون نفسك إذ صرت فيه نظيراً، لأنك أنكرت علينا ما
ركبته، وطلبت منا ما تركته، وقد علمت أن المكافئ لم يدع وراء ما فعل، ولا
يستوجب تقاصي ما جهل، فاحكم لنا عليك بمثل ماتحكم به علينا لك.
جرير بن يزيد: أما بعد: فإنه لولا خلق الله له الناس من تقل قلوبهم، وتصرف
حالاتهم ونياتهم واختلافهم، لما تشعبوا من أصلهم، ولا ائتلف منهم اثنان
بعد تشعبهم، ولا بد فيما يحدث بين الناس من علل الوحشة، وأسباب العداوة
والفرقة، ويجري بينهم من المودة ودواعي الصلة من سابق ومسبوق، وداع ومجيب،
فسابق إلى قطيعة يجتني بها من صاحبه الوحشة، ومبتدئ بصلة يجتلب بها من
صاحبه الثقة، ويزرع بها في قلبه المقة، وقد بلغني عنك في وفائك وفضلك ما
حركني لودك، ورغبتي في خلتك، ودعاني إلى طلب فضلك، فأجبت دعاءك إلى الصلة
والملاطفة بما أحسست لك من الثقة، وحدث لي فيك من الرغبى، فاقبل ما بدا لك
من ودنا، وأحسن الإجابة إلى ما دعوناك إليه من إخائنا، واتبعنا بإحاسن إذ
كان الابتداء منا، فإن المجيب إلى الجميل شريك الراغب فيه وإن المكافئ به
شكل لمسديه، ولا تركهن أن تكون لنا إذ دعوناك مجيباً، وإذ سبقناك بالفضيلة
تابعاً، فأنا قد أحسنا إجابة فضلك، واعلم أنك لو كنت سبقتنا إلى الصلة،
وتقدمتنا إلى الرغبة، وطلبت فضلنا عليك بالمودة كنت بذلك للطول أهلاً، وبه
جديراً، لأن مثلك في فذلك عطف نفسه على نفسه، ومثلنا رغب في صلته.
الحسن بن وهب إلى أبي صالح: لولا اتكالي عليك، لكثرت كتبي إليك، وإذا
استحكمت الثقة نقص البر، لما يدخل النفوس من الكسل عن العمل، والاسترسال
إلى الاتكال.
فكتب إليه أبو صالح وكتب في آخره:
يا مشفقاً حذراً على ودي له ... كن كيف شئت فإنني بك واثق
كاتب: صمتت مخاصمة نفسي لك بلسان عذرك، فأنا وكيلك على ما أصلح
من قلبي لك، وأمينك على القيام على نفسي بحجتك.
سعيد بن حميد: أنا - جعلت فداءك - أعتذر إليك بالشغل، وأعذرك به، وأرى أن
من سلمت نيته، وصحت علانيته ومودته، لم يقدح في الثقة به، ولم يكن في
تأخير كتبه ورسله ما يزيل إخاءه عن عهد، والله يديم نعمه لك، ويقدمني قبلك.
حمد بن مهران: وأما فلان فهو والله النفيس وداً، والوفي عهداً، والبعيد من
الأذى، الصافي من القذى، المتوطئ سراً وإعلاناً في إعظامك، وشكر إنعامك،
والابتهاج بأيامك، وأكره حثك على زيادته فيكون قدحاً في رعايتك الذمام
لأهله، وسوء ظن بما توجبه لمثله، وكتابك إذا ورد آنس وسر، إلى أن نستغني
بالنظر عن الخبر، وعن التكاتب بالتزاور.
كاتب: تفضلك يا أخي - أدام الله عزك - في وقت يتظاهر علي، وبرك يتوالى
ويتضاعف لدي، وإن كان شكري دون ما ستتحقه، فقد جل ما أوليتنيه عن الشكر،
وأنت الذي بلغتني ما أردته، وأوطأتني خد الزمان على قسر، وما زلت - يعلم
الله - قبل المشاهدة، أعد نفسي منك بجميل المساعدة، وعظيم المعاضدة، ثم
وقع الالتقاء فصدق مخايل الفراسة، وبين آثار النفاسة، وقد - والله -
استخلصتني أخاً صادق الإخاء، خالصاً من الأقذاء، يتصل شكره واعتداده،
وتدوم محبته ووداده، فإن كان سيدنا عظيم الرعاية، كثير الإيجاب والعناية،
فالمنة فيما ألفيته عليه من ذلك لك، لأنك جددت ما درس ذكره، وأحييت ما
تقادم عهده، ووكدت اليد عند من تنمى عنده، وأنا أسأل الله أن يعلي يدك
بالمكارم والفضائل، ويبسطها بالعرف والنائل، ولا يخليك من جميل أقسامه،
وجزيل مواهبه وإنعامه، ومهما شككت في شيء أو ارتبت به فما يتخالجني شك ولا
ارتياب في أنه لا مزيد في نيتك، ولا عناية فوق عنايتك، وإلى هذا اليقين قد
سكنت نفسي، وبقوة الأمل فيك قويت منتي، وبحمايتك إياي استدركني، وبإزالتك
ما أحذر زالت الفكرة عني، فلا أعدمنيك الله، وبلغك أمانيك، وبلغني غابة
المحاب فيك.
شاعر:
أجيراننا ما أوحش الدار بعدكم ... إذا غبتم عنها ونحن حضور
كاتب: أنا أخوك المشارك لك في نعمتك الذي - يعلم الله - إنك تضعه بحيث
يريد لنفسه من قلبك ونظرك، وأنت الذي لا أستزيد ولا أحتاج إلى كده
لاكتفائي بعفوه وحسن ظني به لمن ليس مثلي من أهله.
كاتب: قد فتحت علي باب المعتبة، وأحوجتني إلى أن أغلقه عني بالمعذرة
والحجة، وكلفتني من ذلك ما لم يكن لي خلقاً ولا عادة، ورأيتك عجلت فقبلت
صيغة لسان كاذب، واستعملت مقالة بائر فاجر، فاستمع وأنصف، ولا يذهبن بك
هوى مسرف، ولا يغلبن عليك شيء سبق إلى أذن أو قلب، فليس لك أن تغفل ولا
تتغافل، ولا تجعل توهماً كحق، ولا يقيناً كشك.
كاتب: أنا من الشوق إليك على ما يستوي في العجز عن وصفه الخطيب المصقع،
والعي المفحم، وحق لمن فقدك ألا يقنع، بغيرك، ولا يسكن قلبه دونك، لأن
الله جعلك صفواً لا كدر فيه، ووفاء لا غدر معه، فأما ما ذكرت مما توجبه لي
وتتحراه في، فتفضلك الذي سبق استيجابي، وبرك الذي تقدم استحقاقي، وحقيق من
جمع الله له خصال الفضل ما جمع لك برب معروف أسداه، وإتمام جميل ابتداه.
كاتب: لو اعتصم شوقي بمثل سلوك عن صلتي، لم أبتذل لك وجه الرغبة فيك، ولا
تحسيت مرارة تماديك، ولكن استخفتني صبابة إليكن فاحتملت صعب قسوتك، لعظيم
قدر مودتك، وأنت أحق من انتصر لصلتي من جفائه، ولشوقي من إبطائه.
إبراهيم بن المدبر: ذكرت - جعلني الله فداءك - خوفك إملالي، والزيادة في
إشغالي بكثرة كتبك، فأقول أخي قدمت قلبك، لم أرزق فيما قلته عدلك، هل يمل
الروح جسده، والجسد جوارحه، والجوارح سلامتها، والسلامة دوامها؟ ظلمتني
عفا الله عنك، فأما الشغل فيك ولك، فإنه غير منقطع بذكرك والفكر فيك،
والشوق والنزاع إليك، والخوض والإفاضة في محاسنك، والله ولي جمعنا سريعاً
بما هو أهله، وقد كان والله قلبي شديد التطلع إلى ورود خبرك، وعلم وصول
كتابي إليك لما كان يتصور لي من ابتهاجك به وأنسك بقراءته، قياساً غير
فاسد على موقع كتابك مني، وجلالته في نفسي، واغتباطي به، وسكوني إليه،
وسروري به، فالحمد لله الذي تفضل من ذلك بما هو أهله ووليه.
وله: إني - لا أفقدني الله فائدة ودك - لما فقدت ما كنت تطالعني
به من كتبك التي كانت منتزهات بصري، ومراتع لبي، ومسار قلبي، وكنت لا
تخليني منها، مبتدئاً و مجيباً، ولا تحوجني إلى التحريك فيها مستطباً أو
مستزيداً، أعملت الفكر في ذلك فقلت: أجفوة؟ فكيف يجفو من ليس الجفاء من
طبعه، أم نبوة؟ فكيف ينبو الشكل عن شكله، أم شغل؟ فهلاً جعلني من شغله، أم
علة؟ فكانت أحرى للنادرة بخبره، أم فرط ثقة منبه بي؟ فذلك لعمري أشبه به،
فلما كانت هذه الخلة أثبت في الوهم، وأغلب في الظن سكنت نفسي إليها، وأتت
مع سكونها إلا ما عودتها من النعمة بالمكاتبة، والإيناس بخبر السلامة.
سعيد بن حميد: ولكنك - والله يتولى عونك - لا تضعف عن حق وإن عرضت دونه
العلل، ولا يتسهل لك سبيل إلى التقصير وإن سهلها العذر.
وله إلى محمد بن عيسى: فأما الوحشة لفراقك فعلى حسب الأنس بقربك، والسرور
بمكانك، وما وهب الله منك لإخوانك فإنك بحمد الله ممن لا يدخر بودهم مودة،
ولا ينفرد عنهم بنعمة، ولا يؤثر نفسه عليهم في فائدة، ولا يسلمهم عند
ثلمة، ولا يخليهم من محافظة ورعاية، ولا أدري أأدعو لك بدوام الحال التي
أنت فيها فأعق نفسي، وأوثر برك، إلا أنني أسأل الله أن يحسن لك الاختيار
حيث استقرت بك الدار، وتصرفت بك الحال، وأن يقينا فيك نوائب الأقدار،
وحوادث الأيام، بمنه وطوله.
سعيد بن حنيف: يا سيد أخيه، ومولى عبده، ونسيج وجده وقريع زمانه، ومالك
قلوب إخوانه، أطال الله بقاءك، وقفت من رقعتك - أعزك الله - على ما أذكرني
الفراق قبل وقته، وعجل لي الاستيحاش ولم يحن حينه، وهيج - والله - علي
أحزاناً قد كان متقادمها دفيناً يرجى زواله، فعاد مكيناً يحذر استفحاله،
وأخطر ببالي ذكر أبيات ودعت بها أخاً فارقنا مرتحلاً من طرسوس إلى الرملة،
وكان كثير الإخوان، فودعه كل من شيعه من المنادمين بكلام منثور، وشعر
مأثور، ونحن إذ ذاك أحداث وأتراب فكتبت إليه:
أبا بكر لئن صرفتك عنا ... تصاريف الحوادث والدهور
لقبلك نحن للشام ارتحلنا ... وإن كنا أقمنا بالثغور
فلم نرحل بأنفسنا ولكن ... بمحض الشوق عن مهج الصدور
فقدت بفقدك الود المصفى ... وأخلاقاً تكشفت عن بدور
أشيعه إلى سفر كأني ... أشيع والدي إلى القبور
وما ودعته إلا ونفسي ... تودعني بتوديع السرور
ولا أتبعته باللحظ إلا ... رددت اللحظ عن طرف حسير
أدافع عن مفارقتيه جهدي ... وكيف دفاع مقدور الأمور
وكان الشهر قبل اليوم يوماً ... فصار اليوم بعدك كالشهور
إذا ما الليل أخلصني محباً ... وأسلمني إلى طرف سهور
أناجي فكرة أدنو وتنأى ... وتنطق حين أسكت عن ضميري
تسافر وهي لو صدقت مناها ... تمنت صدق ها ذاك المسير
إذا لم أستطع بالدمع حزناً ... على يوم الفراق فمن مجيري؟
أما حكم قضى حكم افتراق ... على جمع الأحبة بالقدير
أحمد بن سعد: ومهما أنكرت على نفسي ثباتاً على عهدك، ومقاماً على طاعتك،
تحسن لي القبيح من فعلك، وتتخطى بي في مقابلة العتب إلى العتبي، والسخط
إلى الرضا، وتقرب عندي من أسباب عذرك ما بعد، وتوضح من غامضه ما أشكل، حتى
إذا أغناني الإنصاف منك لم تنب عنك منزلة الاعتراف التي تقتضيك الصفح عن
الذنب، فكيف البراءة والعذر فإن كنت محقاً فالحجة معي، وإن كنت جانباً
فهذا عذري.
وله: فكيف صرت تعذر نفسك وتعذلني، وتعفيها وتطلبني، وكان الحق عليك في
تعهدي أوجب منه علي لفراغك وشغلي، وتمهلك وعجلتي، واستقرارك ووقاري، وأنت
تعلم أني لم أقرأ لك كتاباً إلا هذا الكتاب المشحون بالعتاب، فإن شئت أن
تستقصي المحاسبة فما أراك تتعداها بالحجة إلى غيرك، وجملة الأمر عندي بذل
العتبي، ووقف نفسي على طاعتك.
كاتب: ووجدت استصغارك لعظيم ذنبي، أعظم لقدر تجاوزك عني، ولعمري
ما جل ذنب يقاس إلى فضلك، ولا عظم جرم يضاف إلى صفحك، ويعول فيه على كرم
عفوك، وإن كان قد وسعه حلمك، فأصبح جليله عندك محتقراً، وعظيمه لديك
مستصغراً، إنه عندي لفي أقبح صور الذنوب، وأعلى رتب العيوب، غير أنه لولا
بوادر السفهاء، لم تعرف فضائل الحلماء، ولولا ظهور نقص بعض الأتباع لم يبن
جمال الرؤساء، ولولا إلمام الملمين بالذنب لبطل تطول المتطولين بالصفح،
وإني لأرجو أن يمنحك الله السلامة بطلبك لها، ويقيلك العثرات العثرات
بإقالتك أهلها، وما علمت أني وقفت منك على نعمة أتدبرها إلا وجدتها تستمل
على فائدة فضل، تتبعها عائدة عقل.
كاتب: وفضل ملك الإنعام ألزم من ملك الرق، ورق الحر أفخر من رق العبد،
والعبد يعطيك طاعته طوعاً، وقد حزت مني طاعة العبد بنعمتك، وشكر المعتق
بمنتك، ولا تزال دواعي الحفاظ تقتضيني الكتاب إليك بما انطوى عليه لك،
فأكتب إليك إذا كتبت متعهداً بالخدمة، وأترك إذا تركت إجلالاً ومهابة، فإن
أنزلت ذلك مني منزلته عندي جريت على سبيلي فيه، فإن مثلت لي غيره صرت إليه
إن شاء الله.
سعيد بن حميد: ولو قلت إن الحق مسقط عني عيادتك لأني عليل بعلتك لصدقني
الشاهد العدل من ضميرك، والأبر البادي من حالي لعينك، وأصح الخبر ما حققه
الأثر، وأفضل القول ما كان عليه دليل من الفعل.
كاتب: وحضرته في مواطن العفو والعقوبة، فرأيته لا يتموخى لعفوه إلا من
يرجو نزوعه عن الذنب، ولا يتجاوز بعقوبته إذا عاقب قدر مبلغ الجرم، ولا
يؤاخذ بالإساءة من لم يتعمدها، ولا يحرم العائدة من استحقها، قد شاورته في
أمور، فجمع لي العلم والنصحية، واستعنته على دهري فجمع لي لطف المكيدة،
وبسالة النجدة، واستودعته سري فوليه بالحفاظ والأمانة، ووقفته على ما أهوى
فحط إليه بالاجتهاد والمسارعة، وعرفته ما أكره فأدبر عنه بالتوقي والهيبة،
ورأيته مضطلعاً بالنوائب، صبرواً على الحق الواجب، محافظاً على الحقائق،
لازماً لعرى الوثائق، لازماً لعرى الوثائق، يقف عند الشبهة، ولا يخشى
إقدامه قبل التثبت، وأحزم عند المعرفة فلا يخاف بصنعه للتقدم بالحزم،
يتغابى عن كثير مما يكره من رأي الإخوان والخلطاء، إما إغضاء من كرم يكره
التوقيف على التقصير، وإما محاجزة من أريب يكره المكاشفة فلا يعجل إلى
العتاب حتى ينظر في مواقع العذر، ولا يلوم اللائمة حتى يبلغ غاية الفحص،
ورأيت أحب الأمور إليه أوساطها، وأخف الحالات عليه أقصدها، من غير أن يدع
الاستكشار من الإحسان بجهده، والتحفظ من الإساءة بملغ رأيه، لا غاية لحرصه
على اعتقاد الفصل، ولا نهاية لرغبته في مجانية القصير، لا يستخفه السرور،
ولا يضعضعه المكروه، ولا تزدهيه الحاجة، ولا تمهله الضرورة، قد قدر أموره
على الصدق، ونزه نفسه عن الكذب، معظماً لكل ما يسدي إليه من الجميل،
مجتهداً لنفسه في أداء ما يجب عليه من الشكر، لا يقتصر من المكافأة على
السواء دون أن يتجاوزه إلى الإفضال، لا يتبع صنيعته مناً، ولا يلتمس منها
عوضاً، ولا يلزم أهلا بها مكافأة ولا شكراً، إنما غايته في الإحسان احتراز
الفضل، واكتساب الحمد، واحتساب الأجر، قد حطه التدبير عن البذير، وردعه
الجور عن التقدير، فهو الذي لا تجاوزه همتك في فضل، ولا يقصر عنك رأيك في
اختيار، بل أعظم الحاجة إليه من إخوانك، وعندهم به أعظم الغنى عنك في
نوائب دهرك، وتنقل الحالات بك، قد كفيناك خبرته، واعتقدنا لك إخاءه وثقته،
فالقه بألطف بشرك، وأحسن قبولك، واخفض له كنفك، وأخلص بينه وبينك مودتك،
واسترسل إليه بذات نفسك، واسكن إليه بمكنون سرك، وأدخله معك في مهم أمرك،
فإنك تبلغ بيسير خلطته من معرفة فضله، وكرم إخائه، وصحة وفائه، ونبل رأيه
ما يكتفي به دليلاً على كل ما تحب علمه من أمره.
كلثوم بن عمرو العتابي كتب إلى ريطة عن حفصة ابنته:
إن أول حاجتي إليك أن تتدبري كتابي إليك تدبر إنصاف، ثم تجيبنني
عنه جواب متثبت، فإن أخفى الجور جور الاستماع، وأنفع العدل عدل الجواب،
وليس فيما بين هاتين موضع قدم لواحد من الأمرين، وأصل اختلاف العباد في
جميع الأمور من علتين: إما جهل بما يدعون، وإما جحد لما يعرفون، والجاهل
بما يدعي أرجى رجعة من الجاحد لما يعرف، وإن كان لا عذر له في ترك علم ما
يجهل، كملا لا عذر لأحد في جحد معروف، ولست أدري إذا ناضحت حجته أي حاليه
أولى بالتعانيف، أجهله من جميل كنت أفعله؟ أم جحده بعد تعريف وتوقيف؟ وما
اقتصرت بك على أدنى حال الإنصاف ألا أكون راجية أن أجدك في أفضلها، ولكني
نهضت إلى الانتصاح من لا يميل بواضح يغنيني عن شبه المعاذير، ولم آمن مع
ذلك أن تظني أني إلى مشكلات الأمور مضطرة، ولم أكن لأقدم الوهن، وأخلف
القوة، ومع ذلك فإن من الحق ما يخبئ نار اللجاجة، ومنه ما يذكيها، فأتيتك
من أقرب مأتاك، فلا يكونن ما أفدت به رضاك علة لمنعه فإن هذه التي انتصلت
علتها قبل اللجاجة والأراجيف ابتدأت في مقارعة القطيعة والصلة ووقفت
بينهما موقف المراهنة، ولك، أصلحك الله، طول على العتب وعى ذل الاعتذار،
فلا يمطمس ذلك نور ما يرد عليك فإني أعتد عليك خصالاً في كلها ضربت
الأمثال منها قول أكثم بن صيفي: الجود بالمجهود منتهى الجود، وأنت تعلمين
أن مجهودي كله كان لك، ومنه قول النابغة:
إذا كان مجبولاً على النصح صاحبي ... عفا النصح عما زل من حيث لا يدري
وما استزدتني نصيحة قط، ولا اتهمتني على غش، ومنه قول طرفة:
ما لي إليك شفيع أستعين به ... إلا رجائي وإفراديك بالأمل
وما استبطأتك في أمر قطن ولا أشرت بأملي إلى سواك، فأي مدخل المتهمة مع ذه
الحال، وإن أجمع لصفة ما بيننا كقول الأعشى:
وما تفيأت من سرور ... فتم إلا بكم سروري
هذه أعيان وسائلي التي نافرت إليها عتبك، واستعفيت من جحدها علمك، فأما ما
يأخذه التخلق ويكون مثله على بعض الإخوان من بعض الشبهة من إيثار الهوى،
وتحري الموافقة، والصبر على الجفوة، فذاك الذي إن ضرب لي سهم في إنصافك
فقد ينال ذلك بأقل مما كنت تدعينه، وأما الغيبة فيما بيني وبينك، فقد
أمكنك من ذلك الاعتداد به، ومحاكمتك إلى ما هو أرجى منه.
كاتب: واعلم أن الشجر يتفاضل في الثمر، فرب شجرة طيبة الحمل قليلته، وأخرى
خبيثة الحمل كثيرته، وكذلك العلماء، فلا يمنعك من عالم وعليك بحسن
الاقتباس، والصبر على الناس، فإنك إن كنت لا تصحب إلا المهذبين من أهل
العقول، ولم تصبر من الناس على الفضول، عدمت الحلم، ونسيت العلم، واعلم أن
في الناس حكمة، ومجالستهم تجلو بعض الظلمة، فاحتملهم على المخالفة وتمويه
المصادقة، واقتبس منهم المحاسن، وتجاف عن المساوئ، واعلم أن الأخلاء ثلاثة
أصناف: فرع بائن من أصله، وأصل متصل بفرعه، وفرع ليس له أصل، فأما الفرع
البائن من أصله فإخاء بني على مودة ثم انقضت فحافظ على ذمام الصحبة، وأما
الأصل المتصل بفرعه فإخاء أصله الكرم، وأغصانه الهوى، وأما الفرع الذي ليس
له أصل فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن، ولهذه الصنوف علامات تدل عليها
هذه الحالات.
ومن الإخوان كالجوهر، منه مموه مصنوع، وبعضه خالص مطبوع، فاعرف الرجال
بالخبر، كما تسبر الجوهر بالبصر، واعلم أن ثقات الإخوان، بقدر ما يستوجبون
من الائتمان، فإن ميزان الكرام عادل، وصاعهم كامل، يوفيان الحالات فروضها،
ولا يبخسانها حقوقها، فلو بلغت لرجل فوق قسطه في الإخاء خفتا على ذي
الفضل، أو قصرت بآخر عن الوفاء، وأزرت بأهل العدل، واعلم أن لأهل الفضل
حظوظاً مقسومة، ومنازل معلومة، بعضها أشرف من بعض، ولكل منزلة حماها، لهم
الفعال فليست تصلح إلا لهم، واعلم أن أبناء الكرام بمنزلة سيل الغمام،
ينسبون إلى الكرم ما لم يبلهم الخبر، كما ينسب الغيث إلى المنفعة ما لم
يبدر له ضرر، فإذا بلوا حمد المحمود، وذم المنكود.
أبو الربيع: ما إن بلوت أحداً إلا ردني إليك ابتلاؤه، ولا قفوت
أثراً إلا عطفني عليك اقتفاؤه، ولئن امتحنت سريرة قلبي بالشكر على إحسانك،
كما امتحنت عزيمة رأيي بالصبر على حرمانك، لتهجمن بك شهود من ظاهر فعال
على عيون تبصر بها باطن وفاء، وأن تحملني حفاظك، وتلبسني ذمامك، ويشتمل
علي وفاؤك، وينفعني اليوم ما سلفت فيك بالأمس أكن وكيلاً لسمعك في قلبي،
وأميناً لعينك علي، فإني خفيف المؤونة، لطيف المعونة، لا قابل غنماً، ولا
سائل أكلاً، ولا ساخط منك منزلة فويق العامة، ودوين الخاصة، ما لم ترفعني
فوقها، وتجب لي ضعفها.
كاتب: ما إن يكلفني على معروفه من الثمن، إلا الإقرار له بالمنن، وله علي
المنة والنعمة، والطول والحجة، فيما ترك وصنع، وأعطى ومنع، والله لقد بذل
فكان بذله طويلاً يربي على حقي، ومنع فكان منعه أدباً يعطفني على حظي،
وعاتب فكان عتابه تجديداً لنعمه عندي، وتحضيضاً على تقوية نيته في نفعي.
يوسف بن القاسم بن صبيح إلى محمد بن زياد: حفظك الله وحاطك، رأيتك - أكرمك
الله - في خرجتك هذه رغبت عن مواصلتنا بكتبك، وإبلاغنا طيب خبرك، وقطعتنا
قطع ذي السلوة، أو أخي الملة، حتى كأنك كنت إلى مفارقتنا مشتاقاً، وغلى
البعد منا تواقاً، فوقع بعدك بحيث توخيت من جهتين: إحداهما حلاوة الولاية،
والأخرى لذة الراحة، فإن يكن ذلك كما رجمناه قاطعناك مجملين، أو لبسناك
على يقين، وإن يكن إدلالاً بهدية أعددتها لنا من ناحية عملك، فليس قدر
الهدايا وإن كثرت، ولا الفوائد وإن جلت احتمال لؤم الإخوان إذا كانت
الهدايا إنما تراد لهم، والفوائد إنما تنال بهم، والمباهاة بأعراض الدنيا
تؤثر بخلطائهم، وما أدري ما أقول في اختيارك ترك المكاتبة المحدثة عن
الغيب بالأسرار المكتومة، والرسائل المعلومة، والأمور المفهومة، حتى كأنها
محادثة والحضور، على تنائي الدور، والقلوب بها مشاهدة، وإن كانت الأبدان
متباعدة، ولئن كذب فيك الرجاء، لقد نمى عن الوفاء، وقد أصبتك من مرارة
العتاب بما لا يقيم بعده على قطيعة ولا جفاء، فلا تتوهمن أني أردت إعتابك
لعتابي، ولا إزراءك بكتابي، فإن وصلت فمشكور، وإن قطعت فمعذور.
الأخوص:
فإني للمودة ذو حفاظ ... أواصل من يهش إلى وصالي
وقال الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي:
لست أصفي الود مني فاعلمي ... من إذا راجعه حتى اعتراض
كم سقيم الود قد أبرأته ... وعرفت الداء من عرق نبض
آخر:
عجبت لصون الود في مضمر الحشا ... لمن هو فيما قد بدا لي واتر
ومن طلبي بالود تبلى ولم يكن ... ليدرك تبلاً بالمودة ثائر
ابن الدمينة:
ولقد منحتك لو جزيت مودة ... وخلائقك ليست بذات غوائل
عبد الله بن معاوية:
أكافي خليلي ما استقام بوده ... وأمنحه ودي إذا يتجنب
فما الحب إلا من لك وده ... ومن هو ذو نصح وأنت مغيب
كثير:
وقد أصفيت سعدى طريف مودتي ... ودام على العهد الكريم تليدها
آخر:
لعمرك ما ود اللسان بنافع ... إذا لم يكن أصل المودة في الصدر
الأحوص:
وقد ثبتت في الصدر منها مودة ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع
آخر:
لا خير في ود من تواصله ... وأنت من وده على وجل
آخر:
أيجزون بالود المضاعف مثله ... فإن الكريم من جزى الود بالود
جميل:
إن المودة مني غير زائلة ... عن حالها فقفي إن شئت أوسيري
الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي:
فإلا تجازيني بمثل مودتي ... فما أنا من حب بأول هالك
آخر:
أني تودكم نفسي وأمنحكم ... ودي ورب محب غير محبوب
وللفضل:
لقد أعطيتكم ممنوع ود ... وصفواً لم أكدره بمن
أنشد ثعلب:
ولقد بلوت الناس ثم خبرتهم ... وعلمت ما فيهم من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعاً ... وإذا المودة أشبك الأنساب
آخر:
كم صديق عرفته بصديق ... كان أحظى من الصديق العتيق
ورفيق صحبته في طريق ... صار بعد الطريق خير رفيق
وقال ابن دريد فيما روى لنا المرزباني عنه قال حكيم: المودة
تعاطف القلوب، وائتلاف الأرواح، وحنين النفوس إلى مباثة السرائر،
والاسترواح للمستكنات في الغرائز من وحشة الأشخاص عند تباين الالتقاء،
وظاهر السرو بكثرة التزاور.
بكر بن النطاح:
بعثت إليك نصائحي ومودتي ... قبل اللقاء مشاهد الأرواح
الحارث بن خالد:
ووجدي بالأحبة يوم بانوا ... كوجد الصاد بالماء التفاخ
ووجدي دائم وعهدي ... متين ما يعود إلى انفساخ
آخر:
ترى حرمت كتب الأخلاء بينهم ... ابن لي، أم القرطاس أصبح غاليا
فما كان لو راعيتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا
فهبك عدوي لا صديقي فربما ... رأيت الأعادي يرحمون الأعاديا
آخر:
وتركي مواساة الأخلاء بالذي ... تنال يدي ظلم لهم وعقوق
وإني لأستحيي من الله أن أرى ... بحال اتساع والصديق مضيق
وقال أعرابي في وصف آخر: لسانه سلم موادع، وقلبه حرب منازع.
كتب سويد بن منجوف إلى مصعب بن الزبير:
فأبلغ مصعباً عني رسولاً ... وهل يلقى النصيح بكل واد
تعلم أن أكثر من تناجي ... وإن ضحكوا إليك هم الأعادي
العنبري:
ما أبالي إذا حملت عن الإخوان ثقلي ودنت بالتخفيف
ورفضت الكثير من كل شيء ... وتقنعت بالقليل الطفيف
ورآني الأنام طراً بعيني ... زاهد في وضيعهم والشريف
كيف كانت حالي إذا كان لا يعرف ميلي الرجال من تثقيفي
أنا عبد الصديق ما صدق الود وبعض الأقوام عبد الرغيف
قال أبو العيناء: مودة الكريم غراس، وشكر الشريف أحسن لباس.
شاعر:
تدلي بودي إذا لاقيتني كذباً ... وإن أغيب فأنت الهامز اللمزه
آخر:
أعاذلتي كم من أخ لي أوده ... كريم علي لم يلدني والده
إذا ما التقينا لم يريني وكده ... ولكنني مثن عليه وزائده
وآخر أصلي في التناسب أصله ... يباعدني في رايه وأباعده
يود لو أني فقدت أول فاقد ... وأيضاً أود الود أني فاقده
آخر:
إذا كان في صدر ابن عمك إحنة ... فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
طرفة:
وصاحب قد كنت صاحبته ... لا ترك الله له واضحه
فكلهم أروغ من ثعلب ... ما أشبه الليلة بالبارحه
شاعر:
خير الصديق من الصدوق مقاله ... وكذا شرهم المنون الأكذب
فإذا غدوت له تريد نجازه ... بالوعد راغ كما يروغ الثعلب
آخر:
احذر مغايظ أقوام ذوي أنف ... إن المغيظ جهول السيف مجنون
آخر:
اصحب الأخيار وارغب فيهم ... رب من صاحبته مثل الجرب
وقال الحسن بن وهب:
ما أحسن العفو من القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر
إن كان لي ذنب ولا ذنب لي ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالود الذي بيننا ... أن يفسد الأول بالآخر
قال ابن عباس: إن الذباب ليقع على صديقي فيشق علي.
وقال ابن سيرين: لا تلق أخاك بما يكره.
وقال حبيب بن أبي ثابت: ليس من الأخوة أن يسر الرجل عن أخيه الحديث.
وقال أعرابي: آخ منيعاً يكن عدوك صريعاً.
وقال أعرابي: الصاحب كالرقعة في الثوب فلينظر الرجل بما يرقعه.
وقال بعض السلف: شر الإخوان من تتكلف له.
شاعر:
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح؟
وقال بعض السلف: روح العاقل في لقاء الإخوان.
وقال أعرابي: اعتبر الناس بإخوانهم.
وقال معن بن أوس:
ألا من لمولى لا يزال كأنه ... صفا فيه صدع لا يدانيه شاعب
يدب دباب الغش تحت ضلوعه ... لأهل الندى من قومه والعقارب
أنشد ابن الأعرابي:
يا رب مولى حاسد مباغض ... علي ذي ضغن وضب قارض
له قرؤ كقرؤ الحائض
أبو دهبل الجمحي:
وأعلم بأني لمن عاديت مضطغن ... ضباً وأني عليك اليوم محسود
كاتب: عرفني وقتك أوافقك فيه خالياً، لا تزاحمني الألسن فيه على
محادثتك، ولا الأعين عن النظر إليك لأقضي حق المودة، وآخذ بثأر الشوق.
الأخطل:
بني أمية إني ناصح لكم ... فلا يبتن فيكم آمناً زفر
واتخذوه عدواً إن ظاهره ... وما يغيب من أخلاقه دعر
مسكين الدارمي:
إذا ما خليلي خانني وائتمنته ... فذاك وداعيه وذاك وداعها
رددت عليه وده وتركته ... مطلقة لا يستطاع رجاعها
وإني امرؤ مني الحياء الذي ترى ... أعيش بأخلاق قليل خداعها
قيس بن الخطيم:
إذا ضيع الإخوان سراً فإنني كتوم لأسرار العشير أمين
يكون له عندي إذا ما ائتمنته ... مكان بسوداء الفؤاد مكين
شاعر:
ارى قوماً وجوههم حسان ... إذا كانت حوائجهم إلينا
فإن كانت حوائجنا إليهم ... تغير حسن أوجههم علينا
ومنهم من سمنع ما لديه ... ويغضب حين نمنع ما لدينا
فإن يك فعلهم سمجاً وفعلي ... قبيحاً مثله فقد استوينا
قيل لأعرابي: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت بين حاذف وقاذف، وبين ستوق وزائف.
شاعر قديم:
أناجي أخي في كل حق وباطل ... وأرغمه حتى يمل ملائلي
فإن رامه بالظلم غيري وجدتني ... له باذلاً من ذاك نفس مقاتلي
فأظلمه جهدي وأمنع ظلمه ... بجهدولا أخليه شحمة آكل
فإن سيم خسفاً أو هواناً تربدت ... قسائم وجهي واعترتني أفاكلي
وخضت غمار الموت دون مناله ... حفاظاً ولم أسلم أخي للمناضل
وهذه أبيات تصلح للحفظ لما فيها من شرف اللفظ، وحسن الرونق، وصحة المعنى،
وطراز العرب غير طراز المتشبهين بهم، ولعمري إن حسبية الطبع أكثر ماء،
وأبهى نضارة من مثقف التكلف، والجواهر تشرف بمعادنها، والفروع تزدهي
بأصولها، والنجوم بأفلاكها، ومن الغي أن يقال: الأفلاك بنجومها.
قال عبد الله بن طاهر:
طلبت أخاً محضاً صحيحاً مسلماً ... نقياً من الآفات في كل موسم
لأمنحه ودي فلم أجد الذي ... طلبت، ومن لي بالصحيح المسلم
فلما بدا لي أنني غير مبتلى ... من الناس إلا بالمريض المسقم
صبرت ومن يصبر يجد غب ضره ... ألذ وأشهى من جنى النحل في الفم
ومن لم يطب نفساً ويستبق صاحباً ... ويغفر لأهل الود يصرم ويصرم
تفقد هذا النحت لهذا المحدث من ذلك النحت لذلك الأعرابي، فإنك تجد بين
الديباجتين، بالحسن الصحيح، فرقاً يشهد لك بتقدم الدعي على الصريح.
قد تكرر اعتذاري من طول هذه الرسالة، هذا وكان ظني في أولها أنها تكون
لطيفة خفيفة، يسهل انتساخها وقراءتها، فماجت بشجون الحديث، وروادف من
الطيب والخبيث، فاقبل حاطك الله هذا العذر الذي قد بدأته وأعدته، ونشرته
وطويته، على أنك لو علمت في أي وقت ارتفعت هذه الرسالة، وعلى أي حال تمت،
لتعجبت، وما كان يقل في عينك منها، يكثر في نفسك، وما يصغر منها ينقدك،
يكبر بعقلك، والله أسأل خاتمة مقرونة بغنيمة، وعاقبة مفضية إلى كرامة، فقد
بلغت شمسي رأس الحائط، والله أستعين على كل ما هم النفس، ووزع الفكر،
وأدنى من الوسواس، إنه نعم المعين، على أمور الدنيا والدين، والحمد لله رب
العالمين، وصلواته على نبيه المصطفى محمد وآله الطيبين، والطاهرين أجمعين،
وحسبنا الله ونعم الوكيل.