كتاب : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر
المؤلف : أبي الفتح ضياء الدين نصرالله بن محمد بن عبدالكريم
الموصلي
الرطب وجعلت بعضه آخذا برقاب بعض حتى كأنه في قالب واحد ؟ وكذلك فليكن التخلص من معنى إلى معنى
وهذا القدر من الأمثلة كاف للمتعلم
ومما أستظرف من هذا النوع في الشعر قول ابن الزمكرم الموصلي وهو
( وَلَيْلٍ كَوَجْهِ الْبَرْقَعيدِيّ مُظْلِمٍ ... وَبَرْدِ أغانِيهِ وَطُولِ قُرُونِهِ )
( سَرَيْتُ وَنَوْمي فيهِ نَوْمٌ مُشَرَّدٌ ... كَعَقْلِ سُلَيْمانَ بْنِ فَهْدٍ وَدينِهِ )
( عَلى أَوْلَقٍ فيهِ التفاتٌ كَأَنّهُ ... أَبُو جابِرٍ في خَبْطِهِ وَجُنونهِ )
( إلى أَنْ بَدا ضَوْءُ الصَّبَاحِ كَأَنَّهُ ... سَنا وَجْهِ قِرْوَاشٍ وَضَوْءُ جَبينِهِ ) وهذه الأبيات لها حكاية وذاك أن هذا الممدوح وهو شرف الدولة قرواش ملك العرب وكان صاحب الموصلفاتفق أنه كان جالسا مع ندمائه في ليلة من ليالي الشتاء وفي جملتهم هؤلاء الذين هجاهم الشاعر وكان البرقعيدي مغنيا وسليمان بن فهد وزيرا وأبو جابر حاجبا فالتمس شرف الدولة من هذا الشاعر أن يهجو المذكورين ويمدحه فأنشد هذه الأبيات ارتجالا وهي غريبة في بابها لم يسمع بمثلها ولم يرض قائلها بصناعة التخلص وحدها حتى رقي في معانيه المقصودة إلى أعلى منزلة فابتدأ البيت الأول يهجو البرقعيديفجاءه في ضمن مراده ذكر أوصاف ليل الشتاء جميعها وهي الظلمة والبرد والطول ثم إن هذه الأوصاف الثلاثة جاءت ملائمة لما شبهت به مطابقة له وكذلك البيت الثاني والثالث ثم خرج إلى المديح بألطف وجه وأدق صنعة وهذا يسمى الاستطراد وما سمعت في هذا الباب بأحسن من هذه الأبيات
ومما يجري على هذا الأسلوب ما ورد لأبن الحجاج البغدادي وهي أبيات لطيفة جدا
( أَلاَ يَا مَاء دِجْلَةَ لَسْتَ تَدْرِي ... بِأَنِّي حَاسِدٌ لَكَ طُولَ عُمْرِي )
( وَلَوْ أَنِّي اسْتَطَعْتُ سَكرْتُ سُكْراً ... عَلَيْكَ فَلَمْ تَكُنْ يَا مَاءُ تَجْري )
( فَقَالَ المَاءُ مَا هذَا عَجِيبٌ ... بِمَ اسْتَوْجَبْتُهُ يا لَيْتَ شِعْرِي )
( فَقُلْتُ لَهُ لأنَّكَ كُلَّ يَوْمِِ ... تَمُرُّ عَلَى أَبِي الْفَضْلِ بْنِ بِشْرِ )
( تَرَاهُ وَلاَ أَراهُ وَذَاكَ شَيْءُُ ... يَضِيقُ عَن احْتِمَالِكَ فِيهِ صَبْرِي ) وما علمت معنى في هذا المقصد ألطف ولا ارق ولا أعذب ولا أحلى من هذا اللفظ ويكفي ابن الحجاج من الفضيلة أن يكون له مثل هذه الأبيات
ولا تظن أن هذا شيء انفرد به المحدثون لما عندهم من الرقة واللطافة وفات من تقدمهم لما عندهم من قشف العيش وغلظ الطبع بل قد تقدم أولئك إلى هذا الأسلوب وإن أقلوا منه وأكثر منه المحدثون وأي حسن من محاسن البلاغة والفصاحة لم يسبقوا إليه ؟ وكيف لا وهم أهله ومنهم علم وعنهم أخذ ؟
فمن ذلك ما جاء للفرزدق وهو
( وَرَكْبٍ كأنَّ الرِّيحَ تَطْلُبُ عِنْدَهُمْ ... لَهَا تِرَةً مِنْ جَذْبِها بِالْعَصَائِبِ )
( سَرَوْا يَخْبِطُونَ الَّليْلَ وَهْيَ تَلفُّهُمْ ... إلى شُعَبِ الأَكْوَارِ مِنْ كُلِّ جَانِبِ )
حذف
( إذا آنَسُوا نَاراً يَقُولُونَ لَيْتَهَا ... وَقَدْ خَصِرَتْ أيْدِيهِمُ نَارُ غَالِبِ ) فانظر إلى هذا الاستطراد ما أفحله وأفخمه ! !
واعلم أنه قد يقصد الشاعر التخلص فيأتي به قبيحا كما فعل أبو الطيب المتنبي في قصيدته التي أولها
( مُلِثَّ الْقَطْرِ أعْطِشْهَا رُبُوعَا ... )
فقال عند الخروج من الغزل إلى المديح
( غَدَا بِكِ كُلُّ خِلْوٍ مُسْتَهَاماً ... وَأصْبَحَ كُلُّ مَسْتُورٍ خَلِيعَا )
( أُحِبُّكِ أوْ يَقُولُوا جَرَّ نَمْلُُ ... ثَبِيراً وَابنُ إِبْرَاهِيمَ رِيعَا ) وهذا تخلص كما تراه بارد ليس عليه من مسحة الجمال شيء وههنا يكون الاقتضاب أحسن من التخلصفينبغي لسالك هذه الطريق أن ينظر إلى ما يصوغهفإن واتاه التخلص حسنا كما ينبغي وإلا فليدعه ولا يستكرهه حتى يكون مثل هذا كما فعل أبو الطيب ولهذا نظائر وأشباه وقد استعمل ذلك في موضع آخر في قصيدته التي أولها
( أحْيَا وأيْسَرُ مَا قَاسَيْتُ مَا قَتَلاَ ... )
فقال
( عَلَّ الأميرَ يَرَى ذُلِّي فَيَشْفَعَ لِي ... إلَى الَّتي تَرَكَتْنِي فِي الهَوى مَثَلاَ ) والإضراب عن مثل هذا التخلص خير من ذكره وما ألقاه في هذه الهوة إلا أبو نواسفإنه قال
( سَأشْكُو إِلَى الْفَضْلِ بنِ يَحْيَى بْنٍ خَالِدٍ ... هَوَاكِ لَعَلَّ الْفَضْلَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ) على أن أبا نواس أخذ ذلك من قيس بن ذريح لكنه أفسده ولم يأت به كما أتى به قيس ولذلك حكاية وهو أنه لما هام بلبنى في كل واد وجن بها رق له الناس ورحموهِ فسعى له ابن عتيق إلى أن طلقها من زوجها وأعادها إلى قيس فزوجها إياهفقال عند ذلك
( جَزَى الرَّحْمنُ أفْضَلَ مَا يُجَازي ... عَلَى الإْحْسَانِ خَيْراً مِنْ صَدِيق )
( وقَدْ جَرَّبْتُ إِخوَانِي جَمِيعاً ... فَمَا ألْفَيْتُ كَابْنِ أبي عَتِيقِ )
( سَعَى في جَمْعِ شَمْلِي بَعدَ صَدْعٍ ... وَرَأْي حِرْتُ فِيهِ عَنْ طَرِيقي )
( وَأطفَى لَوْعَةً كانَتْ بِقَلْبِي ... أَغَصَّتْنِي حَرَارَتُها بِرِيقِي ) وبين هذا الكلام وبين كلام أبي نواس بون بعيدوقد حكي عن ابن أبي عتيق أنه قال يا حبيبي امسك عن هذا المديح فما يسمعه أحد إلا ظنني قوادا
وأما الاقتضاب فهو الذي أشرنا إليه في صدر هذا النوع وهو قطع الكلام واستئناف كلام آخر غيرهبلا علاقة تكون بينه وبينه
فمن ذلك ما يقرب من التخلص وهو فصل الخطاب والذي أجمع عليه المحققون من علماء البيان أنه " أما بعد " لأن المتكلم يفتتح كلامه في كل أمر ذي شأن بذكر الله وتحميده فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق إليه فصل بينه وبين ذكر الله تعالى بقوله " أما بعد "
ومن الفصل الذي هو أحسن من الوصل لفظه " هذا " وهي علاقة وكيدة بين الخروج من كلام إلى كلام آخر غيره كقوله تعالى ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسمعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب جنات عدن مفتحة لهم الأبواب ) ألا ترى إلى ما ذكر قبل ( هذا ذكر ) من ذكر من الأنبياء عليهم السلام وأراد أن يذكر على عقبه بابا آخر غيره وهو ذكر الجنة وأهلها فقال ( هذا ذكر ) ثم قال ( وإن للمتقين لحسن مآب ) ثم لما أتم ذكر أهل الجنة وأراد أن يعقبه بذكر أهل النار قال ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ) وذلك من فصل الخطاب الذي هو ألطف موقعا من التخلص
وقد وردت لفظة " هذا " في الشعر إلا أن ورودها فيه قليل بالنسبة إلى الكلام المنثورفمن قول الشاعر المعروف بالخباز البلدي في قصيدة أولها
( الْعَيْشُ غَضٌّ وَالْزَّمَانُ غَريرُ ... )
( إِنِّي لَيُعْجِبُنِي الزِّنَا في سُحْرَةٍ ... وَيَرُوقُ لِي بِالْجَاشِرِيَّةِ زِيرُه )
( وَأكَادُ مِنْ فَرَحِ السُّرُورِ إِذا بَدَا ... ضَوْءُ الصَّبَاحِ مِنَ السُّتُورِ أَطِيرُ )
( وَإِذا رَأَيْتُ الجَوَّ في فَضْيَة ... لِلْغَيْمِ في جََنَباتِها تَكْسِيرُ )
( مَنْقُوشَةٍ صَدْر الْبُزَاةِ كَأَنَّهُ ... فَيْرُوزَجٌ قَدْ زَانَهُ بَلُّورُ )
( نَادَتْ بِي اللَّذَّاتُ وَيْحَكَ فانْتَهِزْ ... فُرَصَ المُنَى يَأَيُّهَا المَغْرُورُ )
( مِلْ بِي إلى جَوْرِ السُّقَاةِ فَإِنَّنِي ... أَهْوَى سُقَاةَ الْكَأْسِ حِينَ تَجُورُ )
( هذا وَكَمْ لِي بِالْجَنينَةِ سَكْرَةٌ ... أَنَا مِنْ بَقَايَا شُرْبِها مَخْمُورُ )
( بَاكَرْتُهَا وَغُصُونُهَا مَغْرُوزَةٌ ... وَالمَاءُ بَيْنَ مُرُوزها مَذْعُورُ )
( فِي سِتَّةٍ أَنا وَالنَّديمُ وَقَيْنَةٌ ... والْكَأسُ وَالْمِزمارُ وَالْطُّنبورُ ) هذه الأبيات حسنة وخروجها من شدق هذا الرجل الخباز عجيب ولو جاءت في شعر أبي نواس لزانت ديوانه
والاقتضاب الوارد في الشعر كثير لا يحصى والتخلص بالنسبة إليه قطرة من بحرولا يكاد يوجد التخلص في شعر الشاعر المجيد إلا قليلا بالنسبة إلى المقتضب من شعره
فمن الاقتضاب قول أبي نواس في قصيدته النونية التي ألها
( يَا كَثيرَ النَّوْحِ فِي الدِّمَنِ ... )
وهذه القصيدة هي عين شعره والملاحة للعيون وهي تنزل منه منزلة الألف لا منزلة النون إلا أنه لم يكمل حسنها بالتخلص من الغزل إلى المديح بل اقتضبه اقتضابافبينا هو يصف الخمر ويقول
( فَاسْقِني كَأْساً عَلَى عَذْلٍ ... كَرِهَتْ مَسْموعَهُ أُذُنِي )
( مِنْ كُمَيْتِ اللَّوْنِ صَافِيَةٍ ... خَيْرِ مَا سَلْسَلْتَ فِي بَدَنِي )
( مَا اسْتَقَرَّتْ فِي فُؤادِ فَتىً ... فَدَرى مَا لَوْعَةُ الْحَزَنِ )
حتى قال
( تَضْحَكُ الدُّنْيَا إِلى مَلِكٍ ... قَامَ بِالآثارِ وَالسُّنَنِ )
( سَنَّ لِلنَّاسِ النَّدَى فَنَدُوا ... فَكأنَّ الْبُخْلَ لَمْ يَكُنِ ) فأكثر مدائح أبي نواس مقتضبة هكذا والتخلص غير ممكن في كل الأحوال وهو من مستصعبات علم البيان
ومن هذا الباب الذي نحن بصدد ذكره قول البحتري في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان وذكر لقاءه الأسد وقتله إياه وأولها
( أَجِدَّكَ مَا يَنْفَكُّ يَسْرِي لِزَيْنِبا ... ) وهي من أمهات شعره ومع ذلك لم يوفق فيها للتخلص من الغزل إلى المديح فإنه بينما هو في تغزله وهو يقول
( عَهدْتُكِ إِنْ مَنَّيْتِ مَوْعِداً ... جَهَاماً وَإِنْ أَبْرَقْتِ أَبْرَقْتِ خُلَّبَا )
( وَكُنْتُ أَرَى أَنَّ الصُّدُودَ الَّذي مَضَى ... دَلالٌ فَما إِنْ كَانَ إِلاَّ تَجَنُّبَا )
( فَوَا أَسَفا حَتَّامَ أَسْأَلُ مَانِعاً ... وَآمَنُ خَوَّافاً وأَعْتِبُ مُذْنِباً ) حتى قال في أثر ذلك
( أَقُولُ لِرَكْبٍ مُعتفين تَدَرَّعُوا ... عَلَى عَجَلٍ قِطْعاً مِنَ اللَّيْلِ غَيْهَبَا )
( رِدُوا نَائِلَ الْفَتْحِ بْنِ خَاقانَ إِنَّهُ ... أَعَمُّ نَدًى فِيكُمْ وَأيْسَرُ مَطْلَبَا ) فخرج إلى المديح بغير وصلة ولا سبب
وكذلك قوله في قصيدته المشهورة بالجودة التي مدح بها الفتح بن خاقان
أيضاِوذكر نجاته عند انخساف الجسر به وقد أغرب فيها كل الإغراب وأحسن كل الإحسان وأولها
( مَتى لاَح بَرْقٌ أَوْ بَدا طَلَلٌ قَفْرُ ... ) فبينا هو في غزلها حتى قال
( لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيا بِناقِصَةِ الْجَدَى ... إذا بَقِيَ الْفَتْحُ بْنُ خَاقَانَ وَالْقَطْرُ ) فخرج إلى المديح مقتضبا له لا متعلقا به وأمثال هذا في شعره كثير
النوع الرابع والعشرون
في التناسب بين المعاني
وينقسم إلى ثلاثة أقسام القسم الأول في المطابقةوهذا النوع يسمى البديع أيضا وهو في المعاني ضد التجنيس في الألفاظلأن التجنيس هو أن يتحد اللفظ مع اختلاف المعنى وهذا هو أن يكون المعنيان ضدين
وقد أجمع أرباب هذه الصناعة على أن المطابقة في الكلام هي الجمع بين الشيء وضدهكالسواد والبياض والليل والنهار
وخالفهم في ذلك قدامة بن جعفر الكاتب فقال المطابقة إيراد لفظين متساويين في البناء والصيغة مختلفين في المعنى
وهذا الذي ذكره هو التجنيس بعينه غير أن الأسماء لا مشاحة فيها إلا إذا كانت مشتقة
ولننظر نحن في ذلك وهو أن نكشف عن أصل المطابقة في وضع اللغة وقد وجدنا الطباق في اللغة من طابق البعير في سيره إذا وضع رجله موضع يده وهذا يؤيد ما ذكره قدامةلأن اليد غير الرجل لا ضدها والموضع الذي يقعان فيه واحد وكذلك المعنيان يكونان مختلفين واللفظ الذي يجمعهما واحدفقدامة سمى هذا النوع من الكلام مطابقا حيث كان الاسم مشتقا مما سمي به وذلك مناسب وواقع في موقعه إلا أنه جعل للتجنيس اسما آخر وهو المطابقة ولا بأس به إلا إن كان مثله بالضدينكالسواد والبياضفإنه يكون قد خالف الأصل الذي أصله بالمثال الذي مثله
وأما غيره من أرباب هذه الصناعة فإنهم سموا هذا الضرب من الكلام مطابقا لغير اشتقاق ولا مناسبة بينه وبين مسماه هذا الظاهر لنا من هذا القول إلا أن يكونوا قد علموا لذلك مناسبة لطيفة لم نعلمها نحن
ولنرجع إلى ذكر هذا القسم من التأليف وإيضاح حقيقتهفنقول
الأليق من حيث المعنى أن يسمى هذا النوع المقابلةلأنه لا يخلو الحال فيه من وجهين إما أن يقابل الشيء بضده أو يقابل بما ليس بضده وليس لنا وجه ثالث
فأما الأول - وهو مقابلة الشيء بضده كالسواد والبياض وما جرى مجراهما - فإنه ينقسم قسمين أحدهما مقابلة في اللفظ والمعنى والآخر مقابلة في المعنى دون اللفظ
أما المقابلة في اللفظ والمعنى فكقوله تعالى ( فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا ) فقابل بين الضحك والبكاء والقليل والكثير وكذلك قوله تعالى ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) من أحسن ما يجيء في هذا الباب وقال رسول الله " خير المال عين ساهرة لعين نائمة "
ومن الحسن المطبوع الذي ليس بمتكلف قول علي رضي الله عنه لعثمان رضي الله عنه إن الحق ثقيل مرىء والباطل خفيف وبيء وأنت رجل إن صدقت سخطت وإن كذبت رضيتفقابل الحق بالباطل والثقيل المريء بالخفيف الوبيء والصدق بالكذب والسخط بالرضا وهذه خمس مقابلات في هذه الكلمات القصار
وكذلك ورد قوله رضي الله عنه لما قال الخوارج لا حكم إلا لله تعالى هذه كلمة حق أريد بها باطل
وقال الحجاج بن يوسف لسعيد بن جبير رضي الله عنه وقد أحضره بين يديه ليقتله فقال له ما اسمك ؟ قال سعيد بن جبير قال بل أنت شقي بن كسير
وقد كان الحجاج من الفصحاء المعدودين وفي كلامه هذا مطابقة حسنةفإنه نقل الاسمين إلى ضدهما فقال في سعيد شقي وفي جبير كسير
وهذا النوع من الكلام لم تختص به اللغة العربية دون غيرها من اللغات
ومما وجدته في لغة الفرس أنه لما مات قباذ أحد ملوكهم قال وزيره حركنا بسكونه
وأول كتاب الفصول لأبقراط في الطب قوله العمر قصير والصناعة طويلة
وهذا الكتاب على لغة اليونان
ومن كلامي في هذا الباب ما كتبته في صدر مكتوب إلى بعض الإخوانِ وهو صدر هذا الكتاب عن قلب مقيم وجسد سائر وصبر مليم وجزع عاذر وخاطر أدهشته لوعة الفراق فليس بخاطر
وكذلك كتبت إلى بعض الإخوان أيضا فقلت صدر هذا الكتاب عن قلب مأنوس بلقائه وطرف مستوحش لفراقه فهذا مروع بكآبة إظلامه وهذا ممتنع ببهجة إشراقه غير أن لقاء القلوب لقاء عنيت بمثله خواطر الأفكار وتتناجى به من وراء الأستار وذلك أخو الطيف الملم في المنام الذي يموه بلقاء الأرواح على لقاء الأجسام
ومن هذا النوع ما ذكرته في كتاب أصف المسير من دمشق إلى الموصل على طريق المناظر فقلت من جملته ثم نزلت أرض الخابور فغربت الأرواح وشرقت الجسوم وحصل الإعدام من المسار والإنزال من الهموم وطالبتني النفس بالعود والقدرة مفلسة وأويت إلى ظل الآمال والآمال مشمسة
ومن ذلك ما ذكرته في جملة كتاب إلى بعض الإخوان وعرضت فيه بذكر جماعة من أهل الأدب فقلت وهم مسئولون ألا ينسوني في نادي فضلهم الذي هو منبع الآمال وملتقط اللآل فوجوه ألفاظه مشرقة بأيدي الأقلام المتسودة وقلوب معانيه مستنبطة بنار الخواطر المتوقدة والواغل إليه يسكر من خمرته التي تنبه العقول من إغفائها ولا يشربها أحد غير أكفائها
وهذه الفصول المذكورة لا خفاء بما تضمنته من محاسن المقابلة
ومما ورد من هذا النوع شعرا قول جرير
( أَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصيرُ ) وهكذا ورد قول الفرزدق
( قَبَحَ الإلهُ بَني كُلَيْبٍ إِنَّهُمْ ... لاَ يَغْدِرونَ وَلاَ يَفُونَ بِجارِ )
( يَسْتَيْقِظُونَ إلى نَهِيقِ حِمَارِهِمْ ... وَتَنَامُ أَعْيُنُهُمْ عَنْ الأَوْتَارِ ) فقابل بين الغدر والوفاء وبين التيقظ والنوم وفي البيت الأول معنى يسأل عنه
وكذلك ورد قول بعضهم
( فَلا الْجودُ يُفْنيِ المالَ وَالجَدُّ مُقْبِلٌ ... وَلا الْبُخْلُ يُبْقي المَالَ وَالْجَدُّ مُدْبِرُ ) وقد أكثر أبو تمام من هذا في شعره فأحسن في موضع وأساء في موضعفمن إحسانه قوله
( مَا إنْ تَرَى الأَحْسابَ بِيضاً وُضَّحاً ... إِلاَّ بِحَيْثُ ترى الْمَنايَا سُودَا ) وكذلك قال من هذه القصيدة أيضا
( شَرَفٌ عَلَى أُولَى الْزَّمَانِ وَإِنَّما ... خَلَقُ المُناسِبِ مَا يَكُونُ جدِيدَا ) وعلى هذا النهج ورد قوله
( إذا كَانَتِ النُّعْمَى سَلُوباً مِنَ امرِىءٍ ... غَدَتْ مِنْ خَلِيجَيْ كَفِّهِ وَهْيَ مُتْبِعُ )
( وَإِنْ عَثَرَتْ بِيضُ اللَّيَالي وَسُودُهَا ... بِوُحْدَتِهِ أَلْفَيْتَهَا وَهْيَ مُجْمَعُ )
( وَيَوْمٍ يَظَلُّ الْعِزُّ يُحْفَظُ وَسْطَهُ ... بِسُمْرِ الْعَوَالِي وَالنُّفُوسُ تُضَيَّعُ )
( مَصْيفٌ مِنَ الهَيْجَا وَمِنْ جَاحِم الْوَغَى ... وَلكِنَّهُ مِنْ وَابِلِ الدَّمِ مَرْبَعُ )
ومن هذا الأسلوب قوله أيضا
( تُقَرِّبُ الشُّقَّةَ الْقُصْوى إِذا أَخَذَتْ ... سِلاحَها وَهُوَ الإِرْقَالُ وَالرَّمَلُ )
( إِذا تَظَلَّمْتُ مِنْ أَرْضٍ فَصَلْتُ بِها ... كانَتْ هِيَ الْعِزَّ إِلاَّ أَنَّها ذُلُلُ )
( المُرْضِيَاتُكَ مَا أَرْغَمْتَ آنُفَها ... وَالهَادِيَاتُكَ وَهْيَ الشُّرَّدُ الضُّلُلُ ) وعلى هذا النحو ورد قوله
( وَناضِرَةُ الصّبَاحِينَ اسْبَكَرَّتْ ... طِلاعَ الْمِرْطِ وَالدِّرْعِ الْبَدِيِّ )
( تَشَكَّى الأيْنَ مِنْ نِصْفٍ سَرِيعٍ ... إِذا قَامَتْ وَمِنْ نِصْفٍ بَطِيِّ ) وقد جاء لأبي نواس ذلك فقال
( أَقِلْنِي قَدْ نَدِمْتُ عَلَى الذُّنُوبِ ... وَبِالإِقْرَارِ عُدْتُ مِنَ الجُحُودِ )
( أَنا اسْتَهْدَيْتُ عَفْوَكَ مِنْ قَريبٍ ... كَمَا اسْتَعْفَيْتُ سُخْطَكَ مِنْ بَعِيدِ ) فقابل بين الأضداد من الجحود والإقرار والعفو والسخط والقرب والبعد
وعلى نحو من ذلك ورد قول علي بن جبلة في أبي دلف العجلي وهو
( أَيْمُ المَهِيرِ وَنِكَاحُ الأيِّمِ ... يَوْمَاكَ يَوْمُ أَبْؤُسٍ وَأَنْعُمِ )
( وجمع مَجْدٍ وَنَدىً مُقَسَّمِ ... ) وكذلك قوله أيضا
( هُوَ الأمَلُ الْمَبْسُوطُ وَالأَجَلُ الَّذي ... يُمِرُّ عَلَى أّيَّامِهِ الدَّهْرُ أَوْ يَحْلو )
( وَلاَ تُحْسِنُ الأَيَّامُ تَفْعَلُ فِعْلَهُ ... وَإِن كَانَ فِي تَصْريفِها النَّقْضُ وَالفِعْلُ )
( فَعِشْ واحِداً أمَّا الشِّراءُ فَمُسْلَمٌ ... مُباحٌ وَأَمَّا الجَارُ فَهْوَ حِمىً بَسْلُ ) ومما جاء من هذا القسم قول البحتري
( أَحْسَنَ اللهُ فِي ثَوَابِكَ عنْ ثَغْرِ مُضاعٍ أَحْسَنْت فِيهِ الْبَلاءَ )
( كَانَ مُسْتَضْعَفاً فَعَزَّ وَمَحْرُوماً ... فَأَجْدى وَمُظْلِماً فَأَضاءَ ) ومن أحسن ما ورد له في هذا الباب قوله
( أَشْكُو إِلَيْكَ أَنامِلاً مَا تَنْطَوِي ... بُخْلاً وَإِمْلاقاً تَقْصفُهَا الْيَدُ )
( أرْضيهِمُ قَوْلاً ولاَ يَرْضَونَني ... فِعْلاً وَتِلْكَ قَضِيَّةٌ لا تقصد )
( فَأَذُمُّ مِنْهُمْ مَا يُذَمُّ وَرُبَّما ... سَامَحْتُهُمْ فَحَمِدْتُ مَا لاَ يُحْمَدُ ) وعلى هذا النهج ورد قوله
( وَتَوَقُّعي مِنْكَ الإساءةَ جَاهِداً ... وَالْعَدْلُ أَنْ أَتَوَقَّعَ الإِحْسَانَا )
( وَكَما يَسُرُّكَ لِينُ مَسِّي رَاضِياً ... فَكَذَاكَ فَاخْشَ خُشُونَتي غَضْبَانَا ) وأما أبو الطيب المتنبي فإنه استعمل هذا النوع قليلا في شعرهفمن ذلك قوله
( ثِقالٌ إذا لاَقوْا خِفَافٌ إذا دُعُوا ... كَثيرٌ إذا شَدُّوا قَليلٌ إذا عُدُّوا ) وكذلك قوله
( إلى ربِّ مَالٍ كُلَّما شَنتَّ شَمْلُهُ ... تَجمَّعَ فِي تَشْتِيتِهِ لِلعُلاَ شَمْلُ )
ومما استعذبته من قوله في هذا الباب
( كَأَنَّ سُهادَ اللَّيْلِ يَعْشَقُ مُقْلتِي ... فَيَيْنهُمَا في كُلِّ هَجْرٍ لَنا وَصْلُ ) ومما جاء من هذا الباب
( لَمَّا اعْتَنَقْنا لِلْوَدَاعِ وَأَعْرَبَتْ ... عَبَراتُنَا عَنَّا بِدَفعٍ ناطِقِ )
( فَرَّقْنَ بَيْنَ مَعَاجِرٍ ومَحَاجِرٍ ... وَجَمَعْنَ بَيْنَ بَنَفْسَجٍ وَشَقائِقِ ) وهذا تحته معنى يسأل عنه غير المقابلة
وذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بالبنفسج والشقائق هو عارض الرجل وخد المرأةلأن من العادة أن يشبه العارض بالبنفسج
وهذا قول غير سائغ لأن العارض إنما يشبه بالبنفسج عند أول ظهوره فإذا طر وظهرت خضرته في ابتداء سن الشباب شبه بالبنفسجلأنه يكون بين الأخضر والأسود وليس في الشعر ما يدل على أن المودع كان شابا قد طر عارضهوالذي يقتضيه المعنى أن المرأة قامت للوداع فمزقت خمارها ولطمت خدهافجمعت بين أثر اللطم وهو شبيه بالبنفسج وبين لون الخد وهو شبيه الشقائق وفرقت بين خمارها وبين وجهها بالتمزيق ولها وموجدة على الوداعهذا هو معنى البيت لا ما ذهب إليه هذا الرجل
وأما المقابلة في المعنى دون اللفظ في الأضداد فمما جاء منه قول المقنع الكندي من شعراء الحماسة
( لَهُم جُلُّ مالي إنْ تَتَابَعَ لِي غنًى ... وإنْ قَلَّ مَالِي لَمْ أُكَلِّفْهُمُ رِفْدَا ) فقوله " تتابع لي غنى بمعنى قوله " كثر مالي " فهو إذا مقابلة من جهة المعنىلا من جهة اللفظلأن حقيقة الأضداد اللفظية إنما هي في المفردات من الألفاظ نحو قام وقعد وحل وعقد وقل وكثرفإن القيام ضد القعود والحل ضد العقد والقليل ضد الكثيرفإذا ترك المفرد من الألفاظ وتوصل إلى مقابلته بلفظ مركب كان ذلك مقابلة من جهة المعنى لا من جهة اللفظكقول هذا الشاعر " تتابع لي غنى " في معنى كثر مالي وهذه مقابلة معنوية لا لفظية فاعرف ذلك
وأما مقابلة الشيء بما ليس بضده فهي ضربان أحدهما ألا يكون مثلا والآخر أن يكون مثلا
فالضرب الأول يتفرع إلى فرعين
الأول ما كان بين المقابل والمقابل نوع مناسبة وتقارب كقول قريط بن أنيف
( يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً ... وَمِنْ إِسَاءةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْساناً ) فقابل الظلم بالمغفرة وليس ضدا لها وإنما هو ضد العدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها وبين الظلم
وعلى هذا جاء قوله تعالى ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) الرحمة ليست ضدا للشدة وإنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة من مسببات اللين حسنت المقابلة بينها وبين الشدة
وكذلك ورد قوله تعالى ( إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ) المصيبة سيئةلأن كل مصيبة سيئة وليس كل سيئة مصيبة فالتقابل ههنا من جهة العام والخاص
الفرع الثاني ما كان بين المقابل والمقابل به بعد وذاك مما لا يحسن استعماله كقول أم النحيف وهو سعد بن قرط وقد تزوج امرأة كانت نهته عنها فقالت من أبيات تذمها فيها
( تَرَبَّصْ بِهَا الأَيَّامَ عَلَّ صُرُوفَهَا ... سَتَرْمي بِهَا في جَاحِمٍ مُتَسَعِّرِ )
( فَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ قَدْ مَنَاهُ إلهُهُ ... بِمَذْمُومَةِ الأخْلاقِ وَاسِعَةِ الْحِرِ )
فقولها " بمذمومة الأخلاق واسعة الحر " من المقابلة البعيدة بل الأولى أن كانت قالت " بضيقة الأخلاق واسعة الحر " حتى تصح المقابلة
وهذا مما يدل على ان العربي غير مهتد إلى استعمال ذلك بصنعته وإنما يجيء له منه ما يجيء بطبعه لا بتكلفة وإذا أخطأ فإنه لا يعلم الخطأ ولا يشعر به والدليل على ذلك أنه لو أبدلت لفظة مذمومة بلفظه ضيقة لصح الوزن وحصلت المقابلة وإنما يعذر من يعذر في ترك المقابلة في مثل هذا المقام إذا كان الوزن لا يواتيه
وأما المحدثون من الشعراء فإنهم اعتنوا بذلك خلاف ما كانت العرب عليه لا جرم أنهم أشد ملامة من العرب
فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي
( لِمَنْ يَطْلُبُ الدُّنْيَا إِذَا لَمْ يُرِدْ بِهَا ... سُرُورَ مُحِبٍّ أَوْ مَسَاءةَ مُجْرِمِ ) فإن المقابلة الصحيحة بين المحب والمبغض لا بين المحب والمجرم وليست متوسطة أيضا حتى يقرب الحال فيها وإنما هي بعيدةفإنه ليس كل من أجرم إليك كان مبغضا لك
ومما يتصل بهذا الضرب ضرب من الكلام يسمى " المواخاة بين المعاني والمواخاة بين المباني " وكان ينبغي أن نعقد له بابا مفردا لكنا لما رأيناه ينظر إلى التقابل من وجه وصلناه به
أما المواخاة بين المعاني فهو أن يذكر المعنى مع أخيه لا مع الأجنبيمثاله أن تذكر وصفا من الأوصاف وتقرنه بما يقرب منه ويلتئم به فإن ذكرته مع ما يبعد منه كان ذلك قدحا في الصناعة وإن كان جائزا
فمن ذلك قول الكميت
( أمْ هَلْ ظَعَائِنُ بِالْعَلْيَاءِ رَافِعَةٌ ... وَإِنْ تَكَامَلَ فِيهَا الدَّلُّ وَالشَّنَبُ ) فإن الدل يذكره مع الغنج وما أشبهه والشنب يذكر مع اللعس وما أشبهه وهذا موضع يغلظ فيه أرباب النظم والنثر كثيرا وهو مظنة الغلط لأنه يحتاج إلى ثاقب فكرة وحذق بحيث توضع المعاني مع أخواتها لا مع الأجنبي منها
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أنه اجتمع نصيب والكميت وذو الرمة فأنشد الكميت " أم هل ظغائن - البيت " فقعد نصيب واحدةفقال له الكميت ماذا تحصي ؟ قال خطأكفإنك تباعدت في القول أين الدل من الشنب ؟ ألا قلت كما قال ذو الرمة
( لَمْياءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفي اللِّثاثِ وَفي أَنْيابِها شَنَبُ ) ورأيت أبا نواس يقع في ذلك كثيراكقوله في وصف الديك
( لَهُ اعْتِدَالٌ وانْتِصابُ قَدِّ ... وجِلْدُهُ يُشْبِهُ وَشْيَ الْبُرْدِ )
( كَأَنَّهَا الْهُدّابُ في الفِرِنْدِ ... مُحْدودِبُ الظَّهْرِ كَريمُ الْجَدِّ ) فإنه ذكر الظهر وقرنه بذكر الجد وهذا لا يناسب هذالأن الظهر من جملة الخلق والجد من النسب وكان ينبغي أن يذكر مع الظهر ما يقرب منه ويواخيه أيضا
وكذلك أخطأ أبو نواس في قوله
( وَقَدْ حَلَفْتُ يَمِيناً ... مَبْرورَةً لاَ تُكَذَّبْ )
( بِرَبِّ زَمْزَمَ وَالحَوضِ ... وَالصَّفا وَالمَحَصَّبْ ) فإن ذكر الحوض مع زمزم والصفا والمحصب غير مناسب وإنما يذكر الحوض مع الصراط والميزان وما جرى مجراهما وأما زمزم والصفا والمحصب فيذكر معها الركن والحطيم وما جرى مجراهما
وعلى هذا الأسلوب ورد قوله أيضا
( أَحْسَنُ مِنْ مَنْزِلٍ بِذِي قارِ ... مَنْزِلُ حَمَّارَةً وَحَمَّارِ )
( وَشَمُّ رَيْحَانَةٍ وَنَرْجِسَةٍ ... أَحْسَنُ مِنْ أيْنُقٍ بأكْوَارِ ) فالبيت الثاني لا مقارنة بين صدره وعجزه وأين شم الريحان من الأينق بالأكوار ؟ وكان ينبغي له أن يقول شم الريحان أحسن من شم الشيح والقيصوم وركوب الفتيات الرود أحسن من ركوب الأينق بالأكوار وكل هذا لا يتفطن لوضعه في مواضعه في كل الأوقات وقد كان يغلب علي السهو في بعض الأحوال حتى أسلك هذه الطريق في وضع المعاني مع غير أنسابها وأقاربها ثم إني كنت أتأمل ما صنعته بعد حين فأصلح ما سهوت عنه
وأما المواخاة بين المباني فإنه يتعلق بمباني الألفاظ
فمن ذلك قول أبي تمام في وصف الرماح
( مُثَقَّفات سَلَبْنَ الْعُرْبَ سُمْرَتَهَا ... والرُّومَ زُرْقَتَهَا وَالْعَاشِقَ الْقَضَفا )
وهذا البيت من أبيات أبي تمام الأفراد غير أن فيه نظرا وهو قوله العرب والروم ثم قال العاشق ولو صح أن يقول العشاق لكان أحسنإذ كانت الأوصاف تجري على سنن واحد وكذلك قوله سمرتها وزرقتها ثم قال القضفا وكان ينبغي أن يقول قضفها أو دقتها
وعلى هذا ورد قول مسلم بن الوليد
( نَفَضت بِكَ الأَحْلاسُ نَفْضَ إِقامَةٍ ... واسْتَرْجَعَتْ نُزَّاعَهَا الأَمْصَارُ )
( فاذْهَبْ كَما ذَهَبَتْ غَوَادِي مُزْنَةٍ ... يُثْني عَلَيْهَا السَّهْلُ والأَوَعَارُ ) والأحسن أن يقال السهل والوعرأو السهول والأوعارليكون البناء اللفظي واحدا أي أن يكون اللفظان واردين على صيغة الجمع والإفراد ولا يكون أحدهما مجموعا والآخر مفردا
وكذلك ورد قول أبي نواس في الخمر
( صَفْرَاءُ مَجَّدَهَا مَرَازِبُهَا ... جَلَّتْ عَنِ الْنُّظَرَاءِ والمِثْلِ ) فجمع وأفرد في معنى واحد وهو أنه قال ( النظراء ) مجموعا ثم قال ( المثل ) مفردا وكان الأحسن أن يقول النظير والمثل أو النظراء والأمثال
وعلى ذلك ورد قوله أيضا والإنكار يتوجه فيه أكثر من الأول وهو
( أَلا يَا ابْنَ الَّذِينَ فَنُوا فَمَاتُوا ... أَما وَاللهِ ما ماتوا لِتَبْقَى )
( وَمَالَكَ فَاعْلَمَنْ فِيها مُقَامُُ ... إِذا اسْتَكْمَلْتَ آجالاً وَرِزْقا ) وموضع الإنكار ههنا أنه قال ( آجالا ورزقا ) وكان ينبغي أن يقول أرزاقا أو أن يقول أجلا ورزقا وقد زاده إنكارا أنه جمع الأجل فقال ( آجالا ) والإنسان ليس له إلا أجل واحد ولو قال أجلا وأرزاقا لما عيبلأن الأجل واحد والأرزاق كثيرةلاختلاف ضروبها وأجناسها
وإذا أنصفنا في هذا الموضع وجدنا الناثر مطالبا به دون الناظملمكان إمكانه من التصرف
وقد كنت أرى هذا الضرب من الكلام واجبا في الاستعمال وأنه لا يحسن المحيد عنه حتى مر بي في القرآن الكريم ما يخالفه كقوله تعالى في سورة النحل ( أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل ) ولو كان الأحسن لزوم البناء اللفظي على سنن واحد لجمع اليمين كما جمع الشمال أو أفرد الشمال كما أفرد اليمين وكذلك ورد قوله تعالى ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم أولئك هم الغافلون ) فجمع القلوب والأبصار وأفرد السمع وكذلك ورد قوله تعالى ( حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم ) فذكر السمع بلفظ الإفراد وذكر الأبصار والجلود بلفظ الجمعوفي القرآن الكريم مواضع كثيرة هكذا ولو كان هذا معتبرا في الاستعمال لورد في كلام الله تعالى الذي هو أفصح من كل كلام والأخذ في مقام الفصاحة
والبلاغة إنما يكون منه والمعول عليه وما ينبغي أن يقاس على هذا قوله تعالى ( وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين ) وربما قيل إن هذه الآية اشتملت على تثنية وجمع وإفراد وظن أنها من هذا الباب وليس كذلك لأنها مشتملة على خطاب موسى وهارون عليهما السلام أولا في اتخاذ المساجد لقومهما ثم ثنى الخطاب لهما ولقومهما جميعا ثم أفرد موسى عليه السلام ببشارة المؤمنينلأنه صاحب الرسالة
الضرب الثاني في مقابلة الشيء مثله وهو يتفرع إلى فرعين أحدهما مقابلة المفرد بالمفرد والآخر مقابلة الجملة بالجملة
الفرع الأول كقوله تعالى ( نسوا الله فنسيهم ) وكقوله تعالى ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا ) وقد روعي هذا الموضع في القرآن الكريم كثيرافإذا ورد في صدر آية من الآيات ما يحتاج إلى جوانب كان جوابه مماثلا كقوله تعالى ( من كفر فعليه كفره ) وكقوله تعالى ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) وهذا هو الأحسن وإلا فلو قيل من كفر فعليه ذنبه كان ذلك جائزا لكن الأحسن هو ما ورد في كتاب الله تعالى وعليه مدار الاستعمال
وهذا الحكم يجري في النظم والنثر من الأسجاع والأبيات الشعرية
فأما إن كان ذلك غير جوابفإنه لا يلتزم فيه هذه المراعاة اللفظية ألا ترى أنه قد قوبلت الكلمة بكلمة هي في معناها وإن لم تكن مساوية لها في اللفظ وهذا يقع في الألفاظ المترادفةولذا يستعمل ذلك في الموضع الذي ترد فيه الكلمة غير جواب
فما جاء منه قوله تعالى ( ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون ) ولو كان لا تورد الكلمة إلا مثلا لقيل وهو اعلم بما تعملون وكذلك قوله تعالى ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ) فقال ( لا تخف ) بعد قوله
ففزع ولما كان هذا في معنى هذا قوبل أحدهما بالآخر ولم يقابل اللفظ بنفسه
وكذلك جاء قوله تعالى ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ) فذكر الاستهزاء الذي هو في معنى الخوض واللعب وقابل به الخوض واللعب ولو ذكره على حد المماثلة والمساواة لقال أفي الله وآياته ورسوله كنتم تخوضون وتلعبون
فإن قيل إنك قد احتججت بالقرآن الكريم فيما ذكرته ونرى قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه كقوله تعالى ( والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها ) ولم يقل جزاء سيئة سيئة مثلها
الجواب عن ذلك أني أقول أردت أن تنقض علي ما ذكرته فلم تنقضه ولكنك شيدته والذي ذكرته هو دليل لي لا لك ألا ترى أنه لا فرق بين قوله تعالى ( جزاء سيئة بمثلها ) وبين قوله جزاء سيئة سيئة مثلهاإذ المعنى واحد لا يختلف ولو جاء عوضا عن السيئة لفظة أخرى في معناها كالأذى والسوء أو ما جرى مجراهما لصح لك ما ذهبت إليه
وقد ذهب بعض المتصدرين في علم البيان أنه إذا ذكرت اللفظة في أول كلام يحتاج إلى تمام وإن لم يكن جوابا كالذي تقدمفينبغي أن تعاد بعينها في آخره ومتى عدل عن ذلك كان معيبا ثم مثل ذلك بقول أبي تمام وقول أبي الطيب المتنبي فقال إن أبا تمام أخطأ في قوله
( بَسَطَ الرَّجَاءَ لَنَا بِرَغْمِ نَوَائِب ... كَثُرَتْ بِهِنَّ مَصَارِعُ الآمَالِ )
فحيث ذكر الرجاء في صدر البيت فكان ينبغي أن يعيد ذكره أيضا في عجزه أو كان ذكر الآمال في صدر البيت وعجزه وكذلك أخطأ أبو الطيب المتنبي في قوله
( إِنِّي لأعْلَمُ واللَّبِيبُ خَبِيرُ ... أَنَّ الْحَيَاةَ وَإِنْ حَرَصْتَ غُرُورُ ) فإنه قال " إني لأعلم واللبيب خبير " وكان ينبغي أن يقول إني لأعلم واللبيب عليمليكون ذلك تقابلا صحيحا
وهذا الذي ذكره هذا الرجل ليس بشيء بل المعتمد عليه في هذا الباب أنه إذا كانت اللفظة في معنى أختها جاز استعمالها في القابلة بينهما والدليل على ذلك ما قدمناه من آيات القرآن الكريم وكفى به دليلا
وهذه الرموز التي هي أسرار الكلام لا يتفطن لاستعمالها إلا أحد رجلين إما فقيه في علم البيان قد مارسه وإما مشقوق اللسان في الفصاحة قد خلق عارفا بلطائفها مستغنيا عن مطالعة صحائفها وهذا لا يكون إلا عربي الفطرة يقول ما يقوله طبعا على أنه لا يسدد في جميع أقوله ما لم تكن معرفته الفطرية ممزوجة بمعرفته العرفية
الفرع الثاني في مقابلة الجملة بالجملة اعلم أنه إذا كانت الجملة من الكلام مستقبلة قوبلت بمستقبلة وإن كانت ماضية قوبلت بماضية وربما قوبلت الماضية بالمستقبلة والمستقبلة بالماضيةإذا كانت إحداهما في معنى الأخرى
فمن ذلك قوله تعالى ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ) فإن هذا تقابل من جهة المعنى ولو كان التقابل من جهة اللفظ لقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها وبيان تقابل هذا الكلام من جهة المعنى
هو أن النفس كل ما عليها فهو بهاأعني أن كل ما هو وبال عليها وضار لها فهو بسببها ومنها لأنها الأمارة بالسوء وكل ما هو لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه إياها وهذا حكم عام لكل مكلف وإنما أمر رسول الله أن يسند ذلك إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع علو محله وسداد طريقته كان غيره أولى به
ومن هذا الضرب قوله تعالى ( ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا ) فإنه لم يراع التقابل في قوله ليسكنوا فيه ومبصرالأن القياس يقتضي أن يكون والنهار لتبصروا فيه وإنما هو مراعى من جهة المعنى لا من جهة اللفظ وهذا النظم المطبوع غير المتكلفلأن معنى قوله مبصرا لتبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات
واعلم أن في تقابل المعاني بابا عجيب الأمر يحتاج إلى فضل تأمل وزيادة نظر وهو يختص بالفواصل من الكلام المنثور وبالأعجاز من الأبيات الشعرية
فما جاء من ذلك قوله تعالى في ذم المنافقين ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) وقوله تعالى ( وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) ألا ترى كيف فصل الآية الأخرى بيعلمون والآية التي قبلها بيشعرون وإنما فعل ذلك لأن أمر الديانة والوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل يحتاج إلى نظر واستدلال حتى يكتسب الناظر العلم والمعرفة بذلك وأما النفاق وما فيه من البغي المؤدي إلى الفتنة والفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات معلوم عند الناس خصوصا عند العرب وما كان فيهم من التحارب والتغاور وفهو كالمحسوس عندهم فلذلك قال فيه ( لا يشعرون ) وأيضا فإنه لما ذكر السفه في الآية الأخيرة وهو جهل كان ذكر العلم معه أحسن طباقا فقال ( لا يعلمون )
وآيات القرآن جميعها فصلت هكذاِكقوله تعالى ( ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ) وكقوله ( له ما في
السموات وما في الأرض وإن الله لهو الغني الحميد ) وكقوله ( ألم ترى أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ) فإنه إنما فصلت الآية الأولى بلطيف خبير لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وغيره وأما الآية الثانية فإنما فصلت بغني حميد لأنه قال ( له ما في السموات وما في الأرض ) له لا لحاجة بل هو غني عنها جواد بهالأنه ليس كل غني نافعا بغناه إلا إذا كان جوادا منعما وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه واستحق عليه الحمد فذكر الحميد ليدل على أنه الغني النافع بغناه خلقه وأما الآية الثالثة فإنها فصلت برءوف رحيم لأنهلما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر بهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وخلقه السماء فوقهم وإمساكه إياهن الوقوع حسن أن يفصل ذلك قوله ( رءوف رحيم ) أي أن هذا الفعل فعل رءوف بكم رحيم لكم
واعلم أيها المتأمل لكتابنا هذا أنه قلما توجد هذه الملاءمة والمناسبة في كلام ناظم أو ناثر
ومن الآيات ما يشكل فاصلته فيحتاج إلى فكرة وتأمل كقوله تعالى ( والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) فإنه قد وردت الفاصلة في غير هذا الموضع بتواب رحيم ويظن الظان أن هذا كذا ويقول إن التوبة مع الرحمة لا مع الحكمةوليس كما يظن بل الفاصلة بتواب حكيم أولى من تواب رحيملأن الله عز و جل حكم بالتلاعن على الصورة التي أمر بها وأراد بذلك ستر هذه الفاحشة على عباده وذلك حكمة منه
ففصلت الآية الواردة في آخر الآيات بتواب حكيم فجمع فيها بين التوبة المرجوة من صاحب المعصية وبين الحكمة في سترها على تلك الصورة
وهذا باب ليس في علم البيان أكثر منه نفعا ولا أعظم فائدة
ومما جاء من هذا الباب قول أبي الطيب المتنبي
( وَقَفْتَ وَمَا فِي المَوْتِ شَكٌّ لِوَاقِفٍ ... كَأنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدَى وَهُوَ نَائِمُ )
( تَمُرُ بِكَ الأَبْطَالُ كَلْمى هَزِيمَةً ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحُُ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ ) وقد أوخذ على ذلك وقيل لو جعل آخر البيت الأول آخرا للبيت الثاني وآخر البيت الثاني آخر للبيت الأول لكان أولى
ولذلك حكاية وهي أنه لما استنشده سيف الدولة يوما قصيدته التي أولها
( عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ ... ُ ) فلما بلغ إلى هذين البيتين قال قد انتقدتهما عليك كما انتقد على امرىء القيس قوله
( كَأَنِّيَ لَمْ أَرْكَبْ جَوَاداً لِلَذَّةٍ ... وَلَمْ أَتَبَطَّنْ كاعِباً ذَاتَ خَلْخَالِ )
( وَلَمْ أَسْبَإِ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أَقُلْ ... لَخِيْلي كُرِّي كَرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ ) فبيتاك لم يلتئم شطراهما كما لم يلتئم شطرا بيتي امرىء القيس وكان ينبغي لك أن تقول
( وَقَفْتَ وَمَا فِي المَوْتِ شَكُُّ لِوَاقِفٍ ... وَوَجْهُكَ وَضَّاحُُ وَثَغْرُكَ بَاسِمُ )
( تَمُرُّ بِكَ الأبطالُ كَلْمى هَزِيمَةً ... كأنَّكَ فِي جَفْنِ الرَّدى وَهْوَ نَائِمُ )
فقال المتنبي إن صح أن الذي استدرك على امرىء القيس هذا هو أعلم بالشعر منه فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا ومولانا يعلم أن الثوب لا يعلمه البزاز كما يعلمه الحائكلأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف تفاصيله وإنما قرن امرؤ القيس النساء بلذة الركوب للصيدوقرن السماحة بسباء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء وكذلك لما ذكرت الموت في صدر البيت الأول أتبعته بذكر الردى في آخره ليكون أحسن تلاؤما ولما كان وجه المنهزم الجريح عبوسا وعينه باكية قلت " ووجهك وضاح وثغرك باسم " لأجمع بين الأضداد
القسم الثاني في صحة التقسيم وفساده
ولسنا نريد بذلك ههنا ما تقتضيه القسمة العقلية كما يذهب إليه المتكلمونفإن ذلك يقتضي أشياء مستحيلة كقولهم الجواهر لا تخلو إما أن تكون مجتمعة أو مفترقة أو لا مجتمعة ولا مفترقة أو مجتمعة ومفترقة معا أو بعضها مجتمعة وبعضها مفترقةألا ترى أن هذه القسمة صحيحة من حيث العقللاستيفاء الأقسام جميعها وإن كان من جملتها ما يستحيل وجوده
وإنما نريد بالتقسيم ههنا ما يقتضيه المعنى مما يمكن وجوده من غير أن يترك منها قسم واحد وإذا ذكرت قام كل قسم منها بنفسه ولم يشارك غيره فتارة يكون التقسيم بلفظة " إما " وتارة بلفظة بين كقولنا بين كذا وكذا وتارة منهم كقولنا منهم كذا ومنهم كذا وتارة بأن يذكر العدد المراد أولا بالذكر ثم يقسمكقولنا فانشعب القوم شعبا أربعةفشعبة ذهبت يمينا وشعبة ذهبت شمالا وشعبة وقفت بمكانها وشعبة رجعت إلى ورائها
فمما جاء من هذا القسم قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات ) وهذه قسمة صحيحةفإنه لا يخلو أقسام العباد من هذه الثلاثة فإما عاص ظالم لنفسه وإما مطيع مبادر إلى الخيرات وإما مقتصد بينهما
ومن ذلك أيضا قوله تعالى ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون )
وهذه الآية منطبقة المعنى على الآية التي قبلهافأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات
وعلى نحو من ذلك جاء قوله تعالى ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطعما ) فإن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع وليس لنا قسم ثالث
فإن قيل إن استيفاء الأقسام ليس شرطا وترك بعض الأقسام لا يقدح في الكلام وقد ورد في القرآن الكريم كقوله تعالى ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون ) فذكر أصحاب الجنة دون أصحاب النار
فالجواب عن ذلك أني أقول هذا لا ينقض على ما ذكرتهفإن استيفاء الأقسام يلزم فيما استبهم الإجمال فيه ألا ترى إلى قوله تعالى ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ) فإنه حيث قال ( فمنهم ) لزم استيفاء الأقسام الثلاثة ولو اقتصر على قسمين منها لم يجز وأما هذه الآية التي هي ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة ) فإنه إنما خص أصحاب الجنة بالذكر للعلم بأن أصحاب النار لا فوز لهم ولو خص أصحاب النار بالذكر لعلم أيضا ما لأصحاب الجنة وكذلك كل ما يجري هذا المجرىفإنه إنما ينظر فيه إلى المستبهم وغير المستبهم فاعرفه
وكان جماعة من أرباب هذه الصناعة يعجبون بقول بعض الأعراب ويزعمون أن ذلك من أصح التقسيمات وهو قولهم النعم ثلاثة نعمة في حال كونها ونعمة ترجى مستقبلة ونعمة تأتي غير محتسبة فأبقى الله عليك ما أنت فيه وحقق ظنك فيما ترتجيه وتفضل عليك بما لم تحتسبه
وهذا القول فاسدفإن في أقسام النعم التي قسمها نقصا لا بد منه وزيادة لا حاجة إليها فأما النقص فإغفال النعمة الماضية وأما الزيادة فقوله بعد المستقبلة ونعمة تأتي غير محتسبةلأن النعمة التي تأتي غير محتسبة داخلة في قسم النعمة المستقبلة وذاك أن النعمة المستقبلة تنقسم قسمين أحدهما يرجى
حصوله والآخر لا يحتسب فقوله ونعمة تأتي غير محتسبةيوهم أن هذا القسم غير المستقبل وهو داخل فيه وعلى هذا فكان ينبغي له أن يقول النعم ثلاث نعمة ماضية ونعمة في حال كونها ونعمة تأتي مستقبلةفأحسن الله آثار النعمة الماضية وأبقى عليك النعمة التي أنت فيها ووفر حظك من النعمة التي تستقبلهاألا تراه لو قال ذلك لكان قد طبق به مفصل الصواب ؟
وقد استوفى أبو تمام هذا المعنى في قوله
( جُمِعَتْ لَنَا فِرَقُ الأَمَانِي مِنْكُمُ ... بِأَبَرَّ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ وَأَوْصَلِ )
( فَصَنِيعَةٌ في يَوْمهَا وَصَنيعَةٌ ... قَدْ أَحْوَلَتْ وَصَنِيعَةٌ لَمْ تُحْوِلِ )
( كالْمُزْنِ مِنْ مَاءِ الرَّبَابِ فَمُقْبِلٍ ... مُتَنَظَّرٍ وَمُخَيِّمٍ مُتَهَلِّلٍ ) ووقف أعرابي على مجلس الحسن البصري رضي الله عنه فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة أو آسى من كفاف أو آثر من قلة فقال الحسن البصري ما ترك لأحد عذرا
وقد عاب أبو هلال العسكري على جميل قوله
( لَوْ كَانَ في قَلْبي كَقَدْرِ قُلامَةٍ ... حُبّاً وَصَلْتُكَ أَوْ أَتَتْكَ رَسَائِلِي ) فقال أبو هلال إن إتيان الرسائل داخل في جملة الوصل وليس الأمر كما وقع لهفإن جميلا إنما أراد بقوله وصلتك أي أتيتك زائرا وقاصدا أو كنت راسلتك مراسلة وبالوصل لا يخرج عن هذين الوصفين إما زيارة وإما رسالة
ومن أعجب ما وجدته في هذا الباب ما ذكره أبو العلاء محمد بن غانم المعروف بالغانمي وهو قول العباس بن الأحنف
( وِصَالُكُمُ هَجْرٌ وَحُبُّكُمُ قِلاً ... وَعَطْفُكُمْ صَدٌ وَسِلْمُكُمُ حَرْبُ ) ثم قال الغانمي هذا والله أصح من تقسيمات إقليدس ويا لله العجب ! أين التقسيم من هذا البيت ؟ هذا والله في واد والتقسيم في واد ألا ترى أنه لم يذكر شيئا تحصره القسمة وإنما ذم أحبابه في سوء صنيعهم به فذكر بعض أحواله معهم ولو قال أيضا
( وَلينُكُمُ عُنْفٌ وَقُرْبُكُمُ نَوىً ... وَإِعْطَاؤُكُمُ مَنْعٌ وَصِدْقُكُمُ كِذْبُ ) لكان هذا جائزا وكذلك لو زاد بيتا آخر لجاز ولو أنه تقسيم لما احتمل زيادة والأولى أن يضاف هذا البيت الذي ذكره الغانمي إلى باب المقابلةفإنه أولى بهلأنه قابل الوصل بالهجر والعطف بالصد والسلم بالحرب
ومن فساد التقسيم قول البحتري في قصيدته التي مطلعها
( ذَاكَ وَادِي الأَرَاكِ فَاحْبِسْ قَليلا ... ) فقال
( قِفْ مَشُوقاً أَوْ مُسْعِداً أَوْ حَزِيناً ... أَوْ مُعِيناً أَوْ عَاذِراً أوْ عَذُولا ) فإن المشوق يكون حزينا والمسعد يكون معينا وكذلك يكون المسعد عاذرا وكثيرا ما يقع البحتري في مثل ذلك
وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي وهو
( فَافْخَرْ فَإِنَّ النَّاسَ فِيْكَ ثَلاَثَةٌ ... مُسَتَعظِمٌ أوْ حَاسِدٌ أوْ جَاهِلُ ) فإن المستعظم يكون حاسدا والحاسد يكون مستعظما
ومن شرط التقسيم ألا تتداخل أقسامه بعضها في بعض
ومن هذا الأسلوب ما ورد في أبيات الحماسة وهو
( وَكُنتَ امْرَأً إِمَّا ائْتمنْتُكَ خَالِياً ... فَحُنْتَ وَإمَّا قُلتَ قَوْلاً بِلاَ عِلْمِ )
( فَأَنْتَ مِنَ الأمْرِ الَّذِي قَدْ أَتَيْتَهُ ... بِمَنزِلَةٍ بَيْنَ الْخِيانَةِ وَالإِثْمِ ) فإن الخيانة من الإثم وهذا تقسيم فاسد
ومما جاء من ذلك نثرا قول بعضهم في ذكر منهزمين فمن جريح متضرج بدمائهِ وهارب لا يلتفت إلى ورائهفإن الجريح قد يكون هاربا والهارب قد يكون جريحا ولو قال فمن بين قتيل ومأسور وناجلصح له التقسيم أو لو قال فمن بين قتيل ومأسورلصح له التقسيم أيضالعدم الناجي بينهما
وقد أحسن البحتري في هذا المعنى حيث قال
( غَادَرَتْهُمْ أَيْدِي المَنِيَّةِ صُبْحاً ... بالْقَنَا بَيْنَ رُكَّعٍ وَسُجُودِ )
( فَهُمُ فِرْقَتَانِ بَيْنَ قَتِيلٍ ... قُنِصَتْ نَفْسُهُ بِحَدِّ الحَدِيدِ )
( أَوْ أَسِيرٍ غَدَا لَهُ السِّجْنُ لَحْداً ... فَهْوَ حَيُُّ في حَالَةِ المَلْحُودِ )
( فِرْقَةُُ لِلسُّيُوفِ يَنْفُذُ فِيها الْحُكْمُ قَصْداً وَفِرْقَةُُ لِلْقُيُودِ ) ومن فساد التقسيم قول أبي تمام
( وَمَوْقِفٌ بَيْنَ حُكْمِ الذُّلِّ مُنْقَطِع ... صَالِيهِ أََوْ بِحِبَالِ المَوْتِ مُتَّصِلُ ) فإنه جعل صالي هذا الموقف إما ذليلا عنه أو هالكا فيه وههنا قسم ثالث وهو ألا يكون ذليلا ولا هالكا بل يكون مقدما فيه ناجيا
وفي هذا نظر على من ادعى فساد تقسيمهفإن أبا تمام قصد الغلو في وصف
هذا الموقف فقال إن الناس فيه أحد رجلين إما ذليل عن مورده وإما هالك فيه أي أنه لا ينجو منه أحد يرده وهذا تقسيم صحيح لا فساد فيه
القسم الثالث في ترتيب التفسير وما يصح من ذلك وما يفسد
اعلم أن صحة الترتيب في ذلك أن يذكر في الكلام معان مختلفة فإذا عيد إليها بالذكر لتفسر قدم المقدم وأخر المؤخر وهو الأحسن إلا أنه قد ورد في القرآن الكريم وغيره من الكلام الفصيح ولم يراع فيه تقديم المقدم ولا تأخير المؤخركقوله تعالى ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) ولو قدم تفسير المقدم في هذه الآية وأخر تفسير المؤخر لقيل إن يشأ يسقط عليهم كسفا من السماء أو يخسف بهم الأرض
وكذلك ورد قوله تعالى ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ) فقدم المؤخر وأخر المقدم
والقسمان قد وردا جميعا في القرآن الكريم
فمما روعي فيه تقديم المقدم وتأخير المؤخر قوله تعالى ( وما نؤخره إلا لأجل معدود يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي وسعيد فأما الذين شفوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ )
ومن ذلك قوله تعالى ( وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة )
وكذلك قوله تعالى ( ومن رحمته جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار
مبصرا ولتبتغوا من فضله ) فلما قدم الليل في الذكر على النهار قدم سبب الليل وهو السكون على سبب النهار وهو التعيش
ومن ذلك ما كتبته في كتاب تعزية وهو فصل منه ولقد أوحشت منه المعالي كما أوحشت المنازل وآتت المكارم كما آمت الحلائل وعمت لوعة خطبه فما تشتكي ثكلى إلا إلى ثاكل وما أقول فيمن عدمت الأرض منه حياها والمحامد محياها فلو نطق الجماد بلسان أو تصور المعنى لعيانلأعربت تلك من ظمأ صعيدها وبرزت هذه حاسرة حول فقيدها
ومن ذلك ما كتبته في فصل من كتاب إلى بعض الإخوانفقلت وما زالت أيادي سيدنا متنوعة في زيادة جودها وكتابها فهذه متطولة بترقية وردها وهذه آخذة بسنة أغبابها وأحسن ما في الأولى أنها تأتي متحلية بفواضل الإكثار وفي الثانية أنها تأتي متحلية بفضائل الاختصارفاختصار هذه في فوائد أقلامها كتطويل تلك في عوائد إنعامها وقد أصبحت خواطري مستغرقة بإنشاء القول المبتكر في شكر الفضل المطول وجواب البيان المختصر وما جعل الله لها من سلطان البلاغة ما يستقل بأداء حقوق تنقل على الرقاب ومقابلة بلاغات تثقل على الألباب
ومما جاء من ذلك شعرا قول إبراهيم بن العباس
( لَنَا إِبِلٌ كُومٌ يَضِيقُ بِهَا الْفضَا ... وَيَفْتَرُّ عَنْهَا أَرْضُهَا وَسَماؤهَا )
( فَمِنْ دُونِهَا أَنْ تُسْتَباحَ دِماؤُنَا ... وَمِنْ دُونِنَا أَنْ تُسْتَبَاحَ دِمَاؤُها )
( حِمىً وَقِرًى فالْمَوْتُ دُونَ مَرَاحِهَا ... وأَيْسَرُ خَطْبٍ يَوْمَ حُقَّ فَنَاؤُها ) وهذه الأبيات من نادر ما يجيء في هذا الباب معنى وترتيب تفسير
ومما جاء منه أيضا قول أبي تمام
( وَمَا هُوَ إِلاَّ الْوَحْيُ أَوْ حَدٌّ مُرْهَفٍ ... تَمِيلُ ظُبَاهُ أَخْدَعَيْ كُلِّ مَائِلِ )
( فَهذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ ... وهذَا دَوَاءُ الدَّاءِ مِنْ كُلِّ جَاهِل ) وكذلك قوله أيضا
( وَكَانَ لَهُمْ غَيْثاً وَعِلْماً فَمُعْدِمٌ ... فَيَسْأَلُهُ أوْ بَاحِثُُ فَيُسَائِلُهُ ) وهذا من بديع ما يأتي في هذا الباب
ومما ورد منه قول علي بن جبلة
( فَتًى وَقَفَ الأيامَ بالسُّخطِ والرِّضَا ... عَلَى بَذْلِ عُرْفٍ أَوْ عَلَى حَدِّ مُنْصُلِ )
ومن الحسن في هذا الباب قول أبي نواس
( يَرْجُو وَيَخْشَى حَالَتَيْكَ الْوَرَى ... كَأَنَّكَ الجَنَّةُ وَالنَّارُ )
وكذلك ورد قول بعض المتأخرين وهو القاضي الأرجاني
( يَوْمُ المُتَيَّمِ فِيكَ حَوْلُُ كَامِل ... يَتَعاقَبُ الْفَضْلاَنِ فِيهِ إِذَا أَتَى )
( ما بَيْنَ حَرِّ جَوًى وَمَاءِ مَدَامِعٍ ... إِنْ حَنَّ صَافَ وإِنْ بَكَى وَجْداً شَتَا ) ومما أخذ على الفرزدق في هذا الباب قوله
( لَقَدْ جِئْتَ قَوْماً لَوْ لَجَأْتَ إِلَيْهِمُ ... طَرِيدَ دَمٍ أَوْ حَامِلاً ثُقْلَ مَغْرَمِ )
( لأَلْفَيْتَ مِنْهُمْ مُعْطِياً أَوْ مُطَاعِناً ... وَرَاءكَ شَزْراً بِالْوَشِيجِ المُقَوَّمِ ) لأنه أصاب في التفسير وأخطأ في الترتيب وذاك أنه أتى بتفسير ما هو أول في البيت الأول ثانيا في البيت الثاني والأولى أن كان أتى بتفسير ذلك مرتباففسر ما هو أول في البيت الأول بما هو ثان في البيت الثاني
واعلم أن الناظم لا ينكر عليه مثل هذا ما ينكر على الناثرلأن الناظم يضطره الوزن والقافية إلى ترك الأولى
وأما فساد التفسير فإنه أقبح من فساد ترتيبه وذاك أن يؤتى بكلام ثم يفسر تفسيرا لا يناسبه وهو عيب لا تسامح فيه بحال وذلك كقول بعضهم
( فَيَأيُّهَا الْحَيْرَانُ فِي ظُلْمَةِ الدُّجَى ... وَمَنْ خَافَ أنْ يَلْقَاهُ بَغْيٌ مِنَ الْعِدَى )
( تَعَالَ إلَيْهِ تَلْقَ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ ... ضِيَاءً وَمِنْ كَفَّيْهِ بَحْراً مِنَ النَّدَى ) وكان يجب لهذا الشاعر أن يقول بإزاء بغي العدا ما يناسبه من النصرة والإعانة أو ما جرى مجراهماليكون ذلك تفسيرا له كما جعل بإزاء الظلمة الضياء وفسرها به فأما أن جعل بإزاء ما يتخوف منه بحرا من الندى فإن ذلك غير لائق
النوع الخامس والعشرون
في الاقتصاد والتفريط والإفراط
اعلم أن هذه المعاني الثلاثة من الاقتصاد والتفريط والإفراط توجد في كل شيء من علم وصناعة وخلقولا بد لنا من ذكر حقيقتها في أصل اللغة حتى يتبين نقلها إلى هذا النوع من الكلامفأما الاقتصاد في الشيء فهو من القصد الذي هو الوقوف على الوسط الذي لا يميل إلى أحد الطرفين قال الله تعالى ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات ) فظلم النفس والسبق بالخيرات طرفان والاقتصاد وسط بينهما وقال تعالى ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) فالإسراف والإقتار طرفان والقوام وسط بينهما وقال الشاعر
( عَلَيْكَ بِالْقَصْدِ فِيمَا أَنْتَ فَاعِلُهُ ... إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأتي دُونَهُ الْخُلُقُ ) وأما التفريط فهو التقصير والتضييع ولهذا قال الله تعالى ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) أي ما أهملنا ولا ضيعنا
وأما الإفراط فهو الإسراف وتجاوز الحد يقال أفرط في الشيءإذا أسرف وتجاوز الحد
والتفريط والإفراط هما الطرفان البعيدان والاقتصاد هو الوسط المعتدلوقد نقلت هذه المعاني الثلاثة إلى هذا النوع من علم البيان
أما الاقتصاد فهو أن يكون المعنى المضمر في العبارة على حسب ما يقتضيه المعبر عنه في منزلته
أما التفريط والإفراط فهما ضدان أحدهما أن يكون المعنى المضمر في العبارة دون ما تقتضيه منزلة المعبر عنه والآخر أن يكون المعنى فوق منزلته
والتفريط في إيراد المعاني الخطابية قبيح لا يجوز استعماله بوجه من الوجوه والإفراط يجوز استعمالهفمنه الحسن ومنه دون ذلك
فمما جاء من التفريط قول الأعشى
( وَمَا مُزْبَدٌ مِنْ خَلِيج الْفُراتِ ... جَوْنٌ غَوَارِبُهُ تَلْتَطِمْ )
( بأجْوَدَ مِنْهُ بِمَاعُونِهِ ... إِذَا مَا سَمَاؤُهُمُ لَمْ تُغِمْ )
فإنه مدح ملكا بالجود بمعاونه والماعون كل ما يستعار من قدوم أو قصعة أو قدر أو ما أشبه ذلك وليس للملوك في بذله مدح ولا لأوساط الناس أيضا وفي مدح السوقة به قولان ومدح الملوك به عيب وذم فاحش وهذا من أقبح التفريط
ومما يجري هذا المجرى قول الفرزدق
( أَلا لَيْتَنَا كُنَّا بَعِيرَيْنِ لاَ نَرِدْ ... عَلَى حَاضِرٍ إلاّ نُشَلُّ وَنُقْذَفُ )
( كِلانَا بِهِ عَرُُّ يُخَافُ قِرَافُهُ ... عَلَى النَّاسِ مَطْلِيُّ المَسَاعِرِ أَخْشَفُ )
هذا رجل ذهب عقله حين نظم هذين البيتينفإن مراده منهما التغزل بمحبوبه وقد قصر تمنيه على أن يكون هو ومحبوبه كبعيرين أجربين لا يقربهما أحد ولا يقربان أحدا إلا طردهما وهذا من الأماني السخيفة وله في غير هذه الأمنية مندوحات كثيرة وما أشبه هذا بقول القائل
( يَا رَبِّ إِن قَدَّرْتَهُ لِمُقَبِّلٍ ... غَيْرِي فَللأقْدَاحِ أَوْ للأَكْؤُسِ )
( وَإِذَا حَكَمْتَ لَنَا بِعَيْنِ مُرَاقِبٍ ... في الدَّهْرِ فَلْتَكُ مِنْ عُيُونِ النَّرْجِسِ ) فانظركم بين هاتين الامنيتين
ومما أخذ على أبي نواس في قصيدته الميمية الموصوفة التي مدح بها الأمين محمد بن الرشيد وهو قوله
( أَصْبَحْتَ يَابْنَ زُبَيْدَةَ ابْنَةِ جَعْفَرٍ ... أَمَلاً لِعَقْدِ حِبالِهِ اسْتِحْكَامُ ) فإن ذكر أم الخليفة في مثل هذا الموضع قبيح
وكذلك قوله في موضع آخر
( وَلَيْسَ كَجَدَّتَيْهِ أمِّ مُوسَى ... إذا نُسِبَتْ ولاَ كَالْخَيْزُرَانِ )
وهذا لغو من الحديث لا فائدة فيهفإن شرف الأنساب إنما هو إلى الرجال لا إلى النساء وياليت شعري أما سمع أبو نواس قول قتيلة بنت النضر في النبي
( أَمُحَمَّدٌ وَلأَنْتَ نَجْلُ كَرِيمَةٍ ... مِنْ قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ )
( مَا كانَ ضَرَّكَ لَوْ مَنَنْتَ وَرُبَّما ... مَنَّ الفَتى وَهُوَ المَغِيظُ المُحْنَقُ ) فإنها ذكرت الأم بغير اسم الأم وأبرزت هذا الكلام في هذا اللباس الأنيق
وكذلك فليكن المادح إذا مدح وأبو نواس مع لطافة طبعه وذكائه وما كان يوصف به من الفطنة - قد ذهب عليه مثل هذا الموضع مع ظهوره
وليس لقائل أن يعترض على ما ذكرته بقوله تعالى حكاية عن موسى وأخيه هرون عليهما السلام ( قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ) فإن الفرق بين الموضعين ظاهرلأن المنكر على أبي نواس إنما هو التلفظ باسم الأم وهي زبيدة وكذلك اسم الجدة وهي الخيزران وليس كذلك ما ورد في الآية
فإن قيل قد ورد في القرآن الكريم ما يسوغ لأبي نواس مقالته وهو قوله تعالى ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) فناداه باسم أمه
قلت الجواب عن ذلك من وجهين أحدهما أن عيسى عليه السلام لم يكن له أب فنودي باسم أمه ضرورةإذ لو كان له أب لنودي باسم أبيهالوجه الآخر
أن هذا النداء إنما هو من الأعلى إلى الأدنىإذ الله سبحانه وتعالى هو الرب وعيسى عليه السلام عبده وهذا لا يكون تفريطالأنه لم يعبر عنه بما هو دون منزلته
على أن أبا نواس لم يوقعه في هذه العثرة إلا ما سمعه عن جرير في مدح عمر بن عبد العزيزِكقوله
( وَتَبْني المَجْدَ يَا عُمَرَ ابْنَ لَيْلَى ... وَتَكْفِي المُمْحِلَ السَّنَةَ الجَمَادَا ) وكذلك قال فيه كثير عزة أيضا
وليس المعيب من هذا بخاففإن العرب قد كان يعير بعضها بعضا بنسبته إلى أمه دون أبيه ألا ترى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقال له ابن حنتمة وإنما كان يقول ذلك من يغض منه وأما قول النبي للزبير بن صفية " بشر قاتل ابن صفية بالنار " فإن صفية كانت عمة النبي وإنما نسبه إليها رفعا لقدره في قرب نسبه منه وأنه ابن عمته وليس هذا كالأول في الغض من عمر رضي الله عنه في نسبه إلى أمه
وقد عاب بعض من يتهم نفسه بالمعرفة قول أبي نواس في قصيدته السينية التي أولها
( نَبِّهْ نَدِيمَكَ قَدْ نَعَسْ ... ) فقال من جملتها
( وَرِثَ الْخِلاَفَةَ خَامِساً ... وَبخَيْرِ سادِسِهِمْ سَدَس ) قال وفي ذكر السادس نظر ويا عجبا له ! مع معرفته بالشعر كيف ذهب عليه هذا الموضع ؟ أما قرأ سورة الكهف يريد قوله تعالى ( ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ) وهذا ليس بشيءلأنه قد ورد في القرآن الكريم ما ينقضه وهو قوله تعالى ( أَلم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم )
ومما عبته على البحتري قوله في مدح الفتح بن خاقان في قصيدته المشهورة عند لقائه الأسد التي مطلعها
( أَجِدَّكَ مَا يَنْفَكُّ يَسْرِي لِزَيْنَبَا ) فقال
( شَهِدْتُ لَقَدْ أَنْصَفْتَهُ حِينَ تَنْبَرِي ... لَهُ مُصْلِتاً عَضْباً مِنَ الْبِيضِ مِقْضَبَا )
( فَلَمْ أَرَ ضِرْغَامَيْنِ أصْدَقَ مِنْكُمَا ... عِرَاكاً إِذَا الْهَيَّابَةُ النِّكْسُ كَذَّبَا )
قوله " إذا الهيابة النكس " تفريط في المدح بل كان الأولى أن يقول إذا البطل كذب وإلا فأي مدح في إقدام المقدم في الموضع الذي يفر منه الجبان ؟ وألا [ قال ] كما قال أبو تمام
( فَتًى كُلَّمَا ارْتَادَ الشُّجَاعُ مِنَ الرَّدَى ... مَفَرّاً غَدَاةَ المَأْزِقِ ارْتَادَ مَصْرَعَا ) وعلى أسلوب البحتري ورد قول بعضهم من شعراء الحماسة
( وَإِنِّي لَقَوَّالُُ لِعَافِيَّ مَرْحَباً ... وَلِلطَّالِبِ المَعْرُوفِ إِنَّكَ وَاجِدُهْ )
( وَإِنِّي لَمِمَّنْ أَبْسُطُ الْكَفَّ بِالنَّدَى ... إذَا شَنِجَتْ كَفُّ الْبَخِيلِ وَسَاعِدُهْ ) وهذا معيب من جهة أنه لا فضل في بسط يده عند قبض يد البخيل وإنما الفضيلة في بسطها عند قبض الكرام أيديهم
ومن هذا الباب قول أبي تمام
( يَقِظٌ وَهْوَ أَكْثَرُ النَّاسِ إغْضَاءً ... عَلَى نَائِلٍ لَهُ مَسْرُوقِ ) فإنه أراد أن يمدح فذم
ومما هو أقبح من ذلك قوله أيضا
( تُثَفَّى الحَرْبُ مِنْهُ حِينَ تَغْلِي ... مَرَاجِلُهَا بِشَيْطَانٍ رَجِيمِ )
وقد استعمل هذا في شعره حتى أفحش كقوله
( أَنْتَ دَلْوٌ وَذَوُ السَّمَاحِ أبُو مُوسَى ... قَلِيبٌ وَأَنْتَ دَلْوُ الْقَلِيبِ ) ومراده من ذلك أنه جعله سببا لعطاء المشار إليه كما أن الدلو سبب في امتياج الماء من القليب ولم يبلغ هذا المعنى من الإغراب إلى حد يدندن أبو تمام حوله هذه الدندنة ويلقيه في هذا المثال السخيف على أنه لم يقنع بهذه السقطة القبيحة في شعره بل أوردها في مواضع أخرى منهفمن ذلك قوله
( مَا زَالَ يَهْذِي بِالمَكَارِمِ وَالعُلا ... حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ مَحْمُومُ ) فإنه أراد أن يبالغ في ذكر الممدوح باللهج بالمكارم والعلا فقال " مازال يهذي " وما أعلم ما كانت حاله عند نظم هذا البيت
وعلى نحو منه جاء قول بعض المتأخرين
( وَيَلْحَقُهُ عِنْدَ المَكَارِمِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ المَجْهُودُ مِنْ أُمِّ مَلْدَمِ ) وهذا وأمثاله لا يجوز استعماله وإن كان المعنى المقصود به حسنا وكم ممن يتأول معنى كريما فأساء في التعبير عنه حتى صار مذموما كهذا وأمثاله
ومن أحسن ما قيل في مثل هذا الموضع قول ابن الرومي
( ذَهَبَ الِّذِينَ تَهُزُّهُمْ مُدَّاحُهُمْ ... هَزَّ الْكُمَاةِ عَواليَ المُرَّانِ )
( كَانُوا إِذَا مُدِحُوا رَأَوْا ما فِيهِمُ ... فَالأَرْيَحِيَّةُ مِنْهُمُ بِمَكَانِ ) ومن شاء أن يمدح فليمدح هكذا وإلا فليسكت
ووجدت أبا بكر محمد بن يحيى المعروف بالصولي قد عاب على حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله
( لَنا الْجَفَنَاتُ الْغُرُّ يَلْمَعْنَ فِي الضُّحى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مِنْ نَجْدَةٍ دَمَا )
وقال إنه جمع الجفنات والأسياف جمع قلة وهو في مقام فخر وهذا مما يحط من المعنى ويضع منه وقد ذهب إلى هذا غيره أيضا وليس بشيءلأن الغرض إنما هو الجمعفسواء أكان جمع قلة أم جمع كثرة ويدل على ذلك قوله تعالى ( إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ) أفترى نعم الله أكانت قليلة على إبراهيم صلوات الله عليه وكذلك ورد قوله عز و جل في سورة النمل ( وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) فقال ( واستيقنتها أنفسهم ) فجمع النفس جمع قلة وما كان قوم فرعون بالقليل حتى تجمع نفوسهم جمع قلة بل كانوا مئين ألوفا وهذا أيضا مما يبطل قول الصولي وغيره في مثل هذا الموضعوكذلك ورد قوله عز و جل ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) والنفوس المتوفاة والنائمة لا ينتهي إلى كثرتها كثرةلأنها نفوس كل من في العالم
واعلم أن للمدح ألفاظا تخصه وللذم ألفاظا تخصه وقد تعمق قوم في ذلك حتى قالوا من الأدب ألا تخاطب الملوك ومن يقاربهم بكاف الخطاب وهذا غلط باردفإن الله الذي هو ملك الملوك قد خوطب بالكاف في أول كتابه العزيز فقيل ( إياك نعبد وإياك نستعين ) وقد ورد أمثال هذا في مواضع من القرآن غير محصورة إلا أني قد راجعت نظري في ذلك فرأيت الناس بزمانهم أشبه منهم بأيامهم والعوائد لا حكم لها ولا شك أن العادة أوجبت للناس مثل هذا التعمق في ترك الخطاب بالكاف لكني تأملت أدب الشعراء والكتاب في هذا الموضع فوجدت الخطاب لا يعاب في الشعر ويعاب في الكتابة إذا كان المخاطب دون المخاطب درجة وأما إن كان فوقه فلا عيب في خطابه إياه بالكافلأنه ليس من التفريط في شيء
فمن خطاب الكاف قول النابغة
( وَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ ) وكذلك قوله أيضا
( حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَلَيْسَ وَرَاءَ اللّهِ لِلْمَرْءِ مَذْهَبُ ) وعليه جاء قول بعض المتأخرين أيضافقال أبو نواس
( إِلَيْكَ أَبا المَنْصُورِ عَذَّبَتُ نَاقَتِي ... زِيَارَةَ خِلٍّ وَامْتِحَانَ كَرِيمِ )
( لأَعْلَمَ ما تَأْتي وَإنْ كُنْتُ عَالِماً ... بِأَنَّكَ مَهْمَا نَأْتِ غَيْرُ مَلُومِ )
وكذلك ورد قول السلامي
( إلَيْكَ طَوَى عُرْضَ الْبَسِيطَةِ جَاعِلٌ ... قُصَارَى المَطَايَا أَنْ يَلُوحَ لَهَا الْقَصْرُ )
( وَبَشَّرْتُ آمَالي بِمَلْكٍ هُوَ الْوَرَى ... وَدارٍ هِيَ الدُّنْيا ويَوْمٍ هُوَ الدَّهْرُ ) وعليه ورد قول البحتري
( وَلَقَدْ أَتَيْتُكَ طالِباً فَبَسَطْتَ مِنْ ... أَمَلي وَأَطْلَبَ جُودَ كَفِّكَ مَطْلَبِي ) وجل خطاب الشعراء للممدوحين إنما هو بالكاف وذلك محظور على الكتابفإنه ليس من الأدب عندهم أن يخاطب الأدنى الأعلى بالكاف وإنما يخاطبه مخاطبة الغائب لا مخاطبة الحاضرِعلى أن هذا الباب بجملته يوكل النظر فيه إلى فطانة الخطيب والشاعر وليس مما يوقف فيه على المسموع خاصة
ومن ألطف ما وجدته أنك إذا خاطبت الممدوح أن تترك الخطاب بالأمر بأن تقول افعل كذا وكذا وتخرجه مخرج الاستفهام وهذا الأسلوب حسن جدا وعليه مسحة من جمال بل عليه الجمال كله
فما جاء منه قول البحتري في قصيدة أولها
( بِوُدِّيَ لَوْ يَهْوَى الْعَذُولُ وَيَعْشَقُ ... )
فقال منها
( فَهَلْ أَنْتَ يا ابْنَ الرَّاشِدينَ مُخَتِّمِي ... بيَاقُوتَةٍ تبهى عَلَيَّ وَتُشْرقُ ) وهذا من الأدب الحسن في خطاب الخليفةفإنه لم يخاطبه بأن قال ختمني بياقوتة على سبيل الأمر بل خاطبه على سبيل الاستفهام وقد أعجبني هذا المذهب وحسن عندي
وقد حذا حذو البحتري شاعر من شعراء عصرنا فقال في مدح الخليفة الناصر لدين الله أبي العباس أحمد من قصيدة له على قافية الدالفقال من أبيات يصف بها قصده
( أَمَقْبُولَةٌ يَا ابْنَ الْخَلائِفِ مِنْ فَمِي ... لَدَيْكَ بِوَصْفِي غَادَةُ الشِّعْرِ رُؤْدَهْ ) فقوله " أمقبولة " من الأدب الحسن الذي نسج فيه على منوال البحتري
وهذا باب مفرد وهو باب الاستفهام في الخطاب وإذا كان الشاعر فطنا عالما بما يضعه من الألفاظ والمعاني تصرف في هذا الباب بضروب التصرفات واستخرج من ذات نفسه شيئا لم يسبقه إليه أحد واعلم أن من المعاني ما يعبر عنه بألفاظ متعددة ويكون المعنى المندرج تحتها واحدافمن تلك الألفاظ ما يليق استعماله بالمدح ومنها ما يليق استعماله
بالذم ولو كان هذا الأمر يرجع إلى المعنى فقط لكانت جميع الألفاظ الدالة عليه سواء في الاستعمال وإنما يرجع في ذلك إلى العرف دون الأصل
ولنضرب له مثالا فنقول هل يجوز أن يخاطب الملك فيقال له وحق دماغكقياسا على وحق رأسك ؟ وهذا يرجع إلى أدب النفس دون أدب الدرس
فإذا أراد مؤلف الكلام أن يمدح ذكر الرأس والهامة والكاهل وما جرى هذا المجرى فإذا أراد أن يهجو ذكر الدماغ والقفا والقذال وما جرى هذا المجرى وإن كانت معاني الجميع متقاربة ومن أجل ذلك حسنت الكناية في الموضع الذي يقبح فيه التصريح
ومن أحسن ما بلغني من أدب النفس في الخطاب أن عثمان بن عفان رضي الله عنه سأل قباث بن أشيم فقال له أنت أكبر أم رسول الله ؟ فقال رسول الله أكبر مني وأنا أقدم منه في الميلاد فانظر إلى أدب هذا العربي الذي من شأنه وشأن أمثاله جفاء الأخلاق والبعد عن فطانة الآداب
وأما الإفراط فقد ذمه قوم من أهل هذه الصناعة وحمده آخرون والمذهب عندي استعمالهفإن أحسن الشعر أكذبه بل أصدقه أكذبه لكنه تتفاوت درجاتهفمنه المستحسن الذي عليه مدار الاستعمال ولا يطلق على الله سبحانه وتعالىلأنه مهما ذكر به من المعاملات في صفاته فإنه دون ما يستحقه
ومما ورد من ذلك في الشعر قول عنترة
( وَأَنَا المَنِيَّةُ فِي المَوَاطِنِ كُلِّهَا ... وَالظَّعْنُ مِنِّي سَابِقُ الآجَالِ )
وقد يروى بالياء وكلا المعنيين حسن إلا أن الياء أكثر غلوا
ومما جاء على نحو من ذلك قول بشار
( إذَا مَا غَضِبْنَا غَضْبَةً مُضَرِيَّةً ... هَتَكنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ قَطَرَتْ دَمَا ) ومنه ما يستهجن كقول النابغة الذبياني
( إذَا ارْتَعَشَتْ خَافَ الْجَبَانُ رِعَاثَهَا ... وَمَنْ يَتَعَلَّقْ حَيْثُ غُلِّقَ يَفْرَقِ ) وهذا يصف طول قامتها لكنه من الأوصاف المنكرة التي خرجت بها المغالاة عن حيز الاستحسان
وكذلك ورد قول أبي نواس
( وَأَخَفْتَ أهْلَ الشِّرْكِ حَتَّى إِنَّهُ ... لَتَخَافَكَ النُّطَفُ الَّتي لَمْ تُخْلَقِ ) وهذا أشد إفراطا من قول النابغة ويروى أن العتابي لقي أبا نواس فقال له أما استحييت الله حيث تقول وأنشده البيت فقال له وأنت ما راقبت الله حيث قلت
( مَا زِلْتُ فِي غَمَرَاتِ المَوْتِ مُطْرَحاً ... يضِيقُ عَنِّي وَسِيعُ الرَّأْيِ مِنْ حِيَلِي )
( فَلَمْ تَزَلْ دَائِباً تَسْعَى بِلُطْفِكَ لِي ... حَتَّى اخْتَلَسْتَ حَياتِي مِنْ يَدَيْ أَجَلِي ) قال له العتابي قد علم الله وعلمت أن هذا ليس مثل قولك ولكنك قد أعددت لكل ناصح جوابا وقد أراد أبو نواس هذا المعنى في قالب آخرِفقال
( كَدَّتْ مُنَادَمَةُ الدِّمَاءِ سُيُوفَهُ ... فَلَقَلَّما تَحْتَازُها اْلأَجْفَانُ )
( حَتَّى الَّذِي في الرَّحْمِ لَمْ يَكُ صُورَةً ... لِفُؤَادِهِ مِنْ خَوْفِهِ خَفَقَانُ ) وما يجيء في هذا الباب ما يجري هذا المجرى
وقد استعمل أبو الطيب المتنبي هذا القسم في شعره كثيرا فأحسن في مواضع منهفمن ذلك قوله
( عَجَاجاً تَعْثُرُ الْعِقْبَانُ فِيهِ ... كَأَنَّ الْجَوَّ وَعْثُُ أَوْ خَبَارُ ) ثم أعاد هذا المعنى في موضع آخرفقال
( عقَدَتْ سَنَابِكُهَا عِثْيَراً ... لَوْ تَبْتَغِي عَنَقاً عَلَيْهِ لأَمْكَنَا )
وهذا أكثر مغالاة من الأول
ومن ذلك قوله أيضا
( كَأَنَّمَا تَتَلَقَّاهُمْ لِتَسْلُكَهُمْ ... فَالطَّعْنُ يَفْتَحُ فِي الأَجْوَافِ مَا يَسَعُ )
وعلى هذا ورد قول قيس بن الخطيم
( مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فأنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءهَا ) لكن أبو الطيب أكثر غلوا في هذا المعنى وقيس بن الخطيم أحسنلأنه قريب من الممكنفإن الطعنة تنفذ حتى يتبين فيها الضوء وأما أن يجعل المطعون مسلكا يسلك كما قال أبو الطيبفإن ذلك مستحيل ولا يقال فيه بعيد
وأما الاقتصاد فهو وسط بين المنزلتين والأمثلة به كثيرة لا تحصىإذ كل ما خرج عن الطرفين من الإفراط والتفريط فهو اقتصاد ومن أحسنه أن يجعل الإفراط مثلا ثم يستثنى فيه بلو أو بكاد وما جرى مجراهمافمن ذلك قوله تعالى ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) وكذلك قوله عز و جل ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا ) ورد هذا في القرآن الكريم كثيرا ومما ورد منه شعرا قول الفرزدق
( يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذا مَا جَاْء يَسْتَلِمُ )
وكذلك ورد قول البحتري
( لَوْ أَنَّ مُشْتَاقاً تَكَلَّفَ فَوْقَ مَا ... فِي وُسْعِهِ لَسَعَى إِلَيْكَ الْمنْبَرُ ) وهذا هو المذهب المتوسط
النوع السادس والعشرون
في الاشتقاق
اعلم أن جماعة علماء البيان يفصلون الاشتقاق عن التجنيس وليس الأمر كذلك بل التجنيس أمر عام لهذين النوعين من الكلام وذاك أن التجنيس في أصل الوضع من قولهم جانس الشيء الشيءإذا ماثله وشابهه ولما كانت الحال كذلك ووجدنا من الألفاظ ما يتماثل ويتشابه في صيغته وبنائه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس وكذلك لما وجدنا من المعاني ما يتماثل ويتشابه علمنا أن ذلك يطلق عليه اسم التجنيس أيضافالتجنيس إذن ينقسم قسمين أحدهما تجنيس في اللفظ والآخر تجنيس في المعنىفأما الذي يتعلق باللفظ فإنه لم ينقل عن بابه ولا غير اسمه وقد تقدم ذكره في باب الصناعة اللفظية وأما الذي يتعلق بالمعنى فإنه نقل عن بابه في التجنيس وسمي الاشتقاق أي أحد المعنيين مشتق من الآخروهو على ضربين صغير وكبير
فالصغير أن تأخذ أصلا من الأصول فتجمع بين معانيه وإن اختلفت صيغة ومبانيه كترتيب س ل مفإنك تأخذ منه معنى السلامة في تصرفهنحو سلم وسالم وسلمان وسلمى والسليم اللديغ أطلق عليه ذلك تفاؤلا بالسلامة
والأصل في ذلك أن يضع واضع اللغة اسما أولا لمسمى أول ثم يجد مسمى آخر أو مسميات شبيهة بالمسمى الأول فيضع لها اسما كالاسم الأول كقوله ضرير اسم للأعمى والضر ضد النفع والضراء الشدة من الأمر والضر - بالضم - الهزال وسوء الحال والضرر الضيق والضرة إحدى الزوجتينفإن هذه المسميات كلها تدل على الأذى والشر وأسماؤها متشابهة لم تخرج عن الضاد والراء إلا أنا الآن لا نعلم ما هو الأول منها حتى نحكم على الثاني انه مشتق منهِ
لكن نعلم في السليم اللديغ أنه مشتق من السلامةلأنه ضدهاقيل من أجل التفاؤل بالسلامة وعلى هذا جاء غيره من الأصول كقولنا هشمك هاشم وحاربك محارب وسالمك سالم وأصاب الأرض صيب فهذه الألفاظ كلها لفظها واحد ومعناها واحدأما هاشم فإنه لم يسم بهذا الاسم إلا لأنه هشم الثريد في عام محل فسمي بذلك وأما محارب فإنه اسم فاعل من حارب فهو محارب وأما سالم فمن السلامة وهو اسم فاعل من سلم وأما الصيب فهو المطر الذي يشتد صوبه أي وقعه على الأرض ولا يقاس على ذلك قول النبي " أسلم سالمها الله وغفار غفر الله وعصية عصت الله " فإن أسلم وغفار وعصية أسماء قبائل ولم تسم أسلم من المسالمة ولا غفار من المغفرة ولا عصية من تصغير عصا وهذا هو التجنيس وليس بالاشتقاق والنظر في مثل ذلك يحتاج إلى فكرة وتدبر كي لا يختلط التجنيس بالاشتقاق
ومما جاء من ذلك شعرا قول البحتري
( أَمَحِلَّتيْ سَلْمَى بِكَاظِمَةَ اسْلَمَا ... ) وكذلك قول الآخر
( وَمَا زَالَ مَعْقُولاً عِقَالٌ عَنِ النَّدى ... وَما زَالَ مَحْبُوسَاً عَنِ الخَيْرِ حابِسُ ) وربما ظن أن هذا البيت وما يجري مجراه تجنيسحيث قيل فيه معقول وعقال ومحبوس وحابس وليس الأمر كذلك وهذا الموضع يقع فيه الاشتباه كثيرا على من لم يتقن معرفته
وقد تقدم القول أن حقيقة التجنيس هي اتفاق اللفظ واختلاف المعنى وعقال ومعقول وحابس ومحبوس اللفظ فيهما واحد والمعنى أيضا واحد فهذا مشتق من هذا أي قد شق منه
وكذلك ورد قول عنترة
( لَقَدْ عَلِمَ الْقَبَائِلُ أَنَّ قَوْمي ... لَهُمْ حَدُُّ إِذا لُبِسَ الْحَدِيدُ ) فإن حدا وحديد لفظهما واحد ومعناهما واحد
وأما الاشتقاق الكبير فهو أن تأخذ أصلا من الأصول فتعقد عليه وعلى تراكيبه معنى واحد يجمع تلك التراكيب وما تصرف منها وإن تباعد شيء من ذلك عنها رد بلطف الصنعة والتأويل إليها
ولنضرب لذلك مثالافنقول إن لفظة " ق م ر " من الثلاثي لها ست تراكيب وهي ق ر م ق م ر ر ق م ر م ق م ق ر م ر قفهذه التراكيب الست يجمعها معنى واحد وهو القوة والشدة فالقرم شدة شهوة اللحم وقمر الرجلإذا غلب من يقامره والرقم الداهية وهي الشدة التي تلحق الإنسان من دهره وعيش مرمق أي ضيق وذلك نوع من الشدة أيضا والمقر شبه الصبر يقال أمقر الشيء إذا أمر وفي ذلك شدة على الذائق وكراهة ومرق السهمإذا نفذ من الرمية وذلك لشدة مضائه وقوته
واعلم أنه إذا سقط من تراكيب الكلمة شيء فجائز ذلك في الاشتقاقلأن الاشتقاق ليس من شرطه كمال تركيب الكلمة بل من شرطه أن الكلمة كيف تقلبت بها تراكيبها من تقديم حروفها وتأخيرها أدت إلى معنى واحد يجمعهافمثال ما سقط من تركيب الثلاثي لفظة " و س ق " فإن لها خمس تراكيب وهي و س قِ
و ق س س و ق ق س و ق و س وسقط من جملة التراكيب قسم واحد وهو س و ق وجميع الخمسة المذكورة تدل على القوة والشدة أيضافالوسق من قولهم استوسق الأمر أي اجتمع وقوي والوقس ابتداء الجرب وفي ذلك شدة على من يصيبه وبلاء والسوق متابعة السير وفي هذا عناء وشدة على السائق والمسوق والقسوة شدة القلب وغلظه والقوس معروفة وفيها نوع من الشدة والقوةلنزعها السهم وإخراجه إلى ذلك المرمى المتباعد
واعلم أنا لا ندعي أن هذا يطرد في جميع اللغة بل قد جاء شيء منها كذلك وهذا مما يدل على شرفها وحكمتهالأن الكلمة الواحدة تتقلب على ضروب من التقاليب وهي مع ذلك دالة على معنى واحد وهذا من أعجب الأسرار التي توجد في لغة العرب وأغربها فاعرفه
إلا أن الاستعمال في النظم والنثر إنما يقع في الاشتقاق الصغير دون الكبير وسبب ذلك أن الاشتقاق الصغير تكثر الألفاظ الواردة عليه والاشتقاق الكبير لا يكاد يوجد في اللغة إلا قليلا وأيضا فإن الحسن اللفظي الذي هو الفصاحة إنما يقع في الاشتقاق الصغير ولا يقع في الاشتقاق الكبير ألا ترى إلى هذين الأصلين الواردين ههنا وهما " ق ر م " و " و س ق " إذا نظرنا إلى تراكيبهما وأردنا أن نسكبهما في الاستعمال لم يأت منهما مثل ما يأتي في الاشتقاق الصغير حسنا ورونقالأن ذاك لفظه لفظ تجنيس ومعناه معنى اشتقاق والاشتقاق الكبير ليس كذلك
النوع السابع والعشرون
في التضمين
وهذا النوع فيه نظر بين حسن يكتسب به الكلام طلاوة وبين معيب عند قوم وهو عندهم معدود من عيوب الشعر ولكل من هذين القسمين مقامفأما الحسن الذي يكتسب به الكلام طلاوة فهو أن يضمن الآيات والأخبار النبوية وذلك يرد على وجهين أحدهما تضمين كلي والآخر تضمين جزئي
فأما التضمين الكلي فهو أن تذكر الآية والخبر بجملتها وأما التضمين الجزئي فهو أن تدرج بعض الآية والخبر في ضمن كلامفيكون جزأ منه كالذي أوردته في حل الآيات والأخبار في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب وقد قيل إنه لا يجوز درج آيات القرآن الكريم في غضون الكلام من غير تبيين كي لا يشتبه وهذا القول لا أقول بهفإن القرآن الكريم أبين من أن يحتاج إلى بيان وكيف يخفى وهو المعجز الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله فإن كانت المفاوضة في التفرقة بينه وبين غيره من الكلام إذا أدرج فيه مع جاهل لا يعرف الفرق فذاك لا كلام معه وإن كان الكلام مع عالم بذلك فذاك لا يخفي عنه القرآن الكريم من غيره
ومذهبي في هذا هو ما تقدم ذكره في الفصل العاشر من مقدمة الكتاب وهو أحسن الوجهين عندي وذاك أنه لا تؤخذ الآية بكمالها بل يؤخذ جزء منها ويجعل أولا لكلام أو آخرا هذا إذا لم يقصد به التضمينفأما إذا قصد التضمين فتؤخذ الآية بكمالها وتدرج درجا وهذا بنكره من لم يذق ما ذقته من طعم البلاغة ولا رأى ما رأيته
وأما المعيب عند قوم فهو تضمين الإسناد وذلك يقع في بيتين من الشعر أو فصلين من الكلام المنثور على أن يكون الأول منهما مسندا إلى الثانيفلا يقوم الأول بنفسه ولا يتم معناه إلا بالثاني وهذا هو المعدود من عيوب الشعر وهو عندي غير معيبلأنه إن كان سبب عيبه أن يعلق البيت الأول على الثاني فليس ذلك بسبب يوجب عيبا إذ لا فرق بين البيتين من الشعر في تعلق أحداهما بالآخر وبين الفقرتين من الكلام المنثور في تعلق أحدهما بالأخرىلأن الشعر هو كل لفظ موزون مقفى دل على معنى والكلام المسجوع هو كل لفظ مقفى دل على معنىفالفرق بينهما يقع في الوزن لا غير
والفقر المسجوعة التي يرتبط بعضها ببعض قد وردت في القرآن الكريم في مواضع منهفمن ذلك قوله عز و جل في سورة الصافات ( فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون قال قائل منهم إني كان لي قرين يقول أئنك لمن المصدقين أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون ) فهذه الفقر الثلاث الأخيرة مرتبط بعضها ببعضفلا تفهم كل واحدة منهن إلا بالتي تليها وهذا كالأبيات الشعرية في ارتباط بعضها ببعض ولو كان عيبا لما ورد في كتاب الله عز و جل
وكذلك ورد قوله تعالى في سورة الصافات أيضا ( فإنكم وما تعبدون وما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم ) فالآيتان الأوليان لا تفهم إحداهما إلا بالأخرى وهكذا ورد قوله عز و جل في سورة الشعراء ( أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون ) فهذه ثلاث آيات لا تفهم الأولى ولا الثانية إلا بالثالثة ألا ترى أن الأولى والثانية في معرض استفهام يفتقر إلى جواب والجواب هو في الثالثة
ومما ورد من ذلك شعرا قول بعضهم
( وَمِنَ الْبَلْوَى الَّتي لَيْسَ لَها في النَّاس كُنْهُ ... )
( أَنَّ مَنْ يَعْرِفُ شَيْئاً ... يَدَّعي أَكْثَرَ مِنْهُ ) ألا ترى أن البيت الأول لم يقم بنفسه ولا تم معناه إلا بالبيت الثاني
وقد استعملته العرب كثيرا وورد في شعر فحول شعرائهمفمن ذلك قول امرىء القيس
( فَقُلْتُ لَهُ لَمَّا تَمَطَّى بِصُلْبِهِ ... وَأَرْدَفَ أعْجَازاً وَنَاءَ بِكَلْكَلِ )
( أَلا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّويلُ ألا انْجَلي ... بِصُبْحٍ وَما الإِصْباحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ ) وكذلك ورد قول الفرزدق
( وَما أحَدٌ مِنَ الأَقْوَامِ عَدُّوا ... عُرُوقَ الأَكْرَمِينَ إلى التُّرَابِ )
( بِمُحْتَفِظِينَ إِنْ فَضَّلْتُمُونَا ... عَلَيْهِمْ في الْقَديمِ وَلا غِضَابِ )
وكذلك ورد قول بعض شعراء الحماسة
( لَعمْري لَرَهْطُ المَرْءِ خَيْرٌ بَقَّيةً ... عَلَيْهِ وَإِنْ عَالَوْا بِهِ كُلَّ مَرْكَبِ )
( مِنَ الجانِبِ الأَقْصَى وَإِنْ كَانَ ذَا غِنىً ... جَزيلٍ وَلَمْ يُخْبِرْكَ مِثْلُ مُجَرِّبِ )
الضرب الثاني من التضمين وهو أن يضمن الشاعر شعره والناثر نثره كلاما آخر لغيرهقصدا للاستعانة على تأكيد المعنى المقصود ولو لم يذكر ذلك التضمين لكان المعنى تاما وربما ضمن الشاعر البيت من شعره بنصف بيت أو أقل منه كما قال جحظة
( قمْ فاسْقِنِيهَا يَا غُلامُ وَغَنِّني ... ذَهَبَ الَّذينَ يُعَاشُ في أَكْنَافِهِمْ ) ألا ترى أنه لو لم يقل في هذا البيت " ذهب الذين يعاش في أكنافهم " لكان المعنى تاما لا يحتاج إلى شيء آخر فإنه قوله " قم فاسقنيها يا غلام وغنني " فيه كفايةإذ لا حاجة له إلى تعيين الغناءلأن في ذلك زيادة على المعنى المفهوم لا على الغرض المقصود
وقد ورد هذا في عدة مواضع من شعر أبي نواس في الخمريات كقوله في مخاطبة بعض خلطائه على مجلس الشراب
( فَقُلْتُ هَلْ لَكَ في الصَّهْباءِ تَأْخُذُها ... مِنْ كَفِّ ذاتِ حِرٍ فالْعَيْشُ مُقْتَبِلُ )
( حيرِيَّةُُ كَشُعاعِ الشَّمْسِ صَافِيَةُُ ... تَطيرُ بِالْكَأْسِ مِنْ لأْلائِهَا شُعَلُ )
( فَقَالَ هاتِ وَغَنِّينَا عَلَى طَرَبٍ ... وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ) وكذلك قوله أيضا
( وَظَبْيٌ خَلُوبِ اللَّفْظِ حُلْوٍ كَلامُهُ ... مُقَبَّلُهُ سَهْلُُ وَجَانِبُهُ وَعْرُ )
( نَحَلْتُ لَهُ مِنْهَا فَخَرَّ لِوَجْهِهِ ... وَأَمْكَنَ مِنْهُ مَا يُحيطُ بِهِ الأَزْرُ )
( فَقُمْتُ إِلَيْهِ وَالْكَرَى كُحْلُ عَيْنِهِ ... فَقَبَّلْتُهُ وَالصَّبُّ لَيْسَ لَهُ صَبْرُ )
( إِلى أَنْ تَجَلَّى نَوْمُهُ عَنْ جُفُونِهِ ... وَقالَ كَسَبتَ الذَّنْبَ قُلْتُ لِيَ الْعُذْرُ )
( فَأَعْرَضَ مُزْوَرَّاً كَأَنَّ بِوَجْهِهِ ... تَفَقُّؤَ رُمَّانٍ وَقَد بَرَدَ الصَّدْرُ )
( فَمَا زِلْتُ أَرْقِيهِ وَأَلْثِمُ خَدَّهُ ... إِلى أَنْ تَغَنَّى رَاضِياً وَبِهِ سُكْرُ )
( أَلا يَا اسْلَمِي يَا دَارَمَيَّ عَلَى الْبِلَى ... وَلا زَالَ مُنْهَلاًّ بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ )
وقد استعمل هذا الضرب كثيرا الخطيب عبد الرحمن بن نباته رحمه اللهفمن ذلك قوله في بعض خطبه وهو فيأيها الغفلة المطرقون أما أنتم بهذا الحديث مصدقون فما لكم منه لا تشفقون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون
وكذلك قوله في ذكر يوم القيامة وهو فيومئذ تغدو الخلائق على الله بهما فيحاسبهم على ما أحاط به علما وينفذ في كل عامل بعمله حكما وعت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما
ألا ترى إلى براعة هذا التضمين الذي كأنه قد رصع في هذا الموضع رصعا
وعلى نحو من ذلك جاء قوله في ذكر يوم القيامة وهو هناك يقع الحساب على ما أحصاه الله كتابا وتكون الأعمال المشوبة بالنفاق سرابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا
ومما ينتظم بهذا السلك قوله في خطبة أخرى وهو أسكتهم الله الذي أنطقهم وأبادهم الذي خلقهم وسيجدهم كما أخلقهم ويجمعهم كما فرقهم يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا ويجعل الظالمين لنار جهنم وقودا يوم تكونون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
ومن هذا الباب قوله أيضا هنالك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب ويجمع من وجب له الثواب ومن حق عليه العقاب فيضرب بينهم بسور له باب باطنه فبه الرحمة وظاهره من قبله العذاب
وأمثال هذه التضمينات في خطبه كثيرة وهي من محاسن ما يجيء في هذا النوع
النوع الثامن والعشرون
في الإرصاد
وحقيقته أن يبني الشاعر البيت من شعره على قافية قد أرصدها له أي أعدها في نفسه فإذا أنشد صدر البيت عرف ما يأتي به في قافيتهوذلك من محمود الصنعةفإن خير الكلام ما دل بعضه على بعض وفي الافتخار بذلك يقول ابن نباته السعدي
( خُذْهَا إذَا أنْشِدَتْ فِي الْقَوْمِ مِنْ طَرَبٍ ... صُدُورُهَا عُرِفَتْ مِنْهَا قَوَافِيهَا )
( يَنْسَى لَهَا الرَّاكِبُ الْعَجْلاَنُ حَاجَتَهُ ... وَيُصْبِحُ الْحَاسِدُ الْغَضْبَانُ يُطْرِيهَا ) فمن هذا الباب قول النابغة
( فِدَاءٌ لاَمْرِيءٍ سَارتْ إِلَيْهِ ... بِعِذْرَةِ رَبِّهَا عَمِّي وَخَالِي )
( وَلَوْ كَفِّي الْيَمِينُ بَغَتك خَوْنا ... لأَْفْرَدْتُ الْيمينَ عَنِ الشِّمَالِ ) ألا ترى انه يعلم إذا عرفت القافية في البيت الأول أن في البيت الثاني ذكر الشمال
وكذلك جاء قول البحتري
( أحَلَّتْ دَمِي مِنْ غَيْر جُرْمٍ وَحَرَّمَتْ ... بِلاَ سَبَبٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَلاَمِي )
( فَلَيْسَ الَّذِي حَلَّلْتِهِ بِمُحَلَّلٍ ... لَيْسَ الَّذِي حَرَّمْتِهِ بِحَرَامِ ) فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني أن عجزه هو ما قاله البحتري
وقد جاء الإرصاد في الكلام المنثور كما جاء في الشعرفمن ذلك قوله تعالى ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون ) فإذا وقف السامع على قوله تعالى ( لقضي بينهم فيما فيه ) عرف أن بعده ( يختلفون ) لما تقدم من الدلالة عليه
ومن ذلك أيضا قوله عز و جل ( فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون )
على نحو منه جاء قوله تعالى ( مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت ) فإذا وقع السامع على قوله عز و جل ( وإن أوهن البيوت ) يعلم أن بعده بيت العنكبوت
ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع التوشيحوليس كذلك بل
تسميته بالأرصاد أولى وذلك حيث ناسب الاسم مسماه ولاق به وأما التوشيح فإنه نوع آخر من علم البيان وسيأتي ذكره بعد هذا النوع إن شاء الله تعالى
واعلم أنه قد اختلف جماعة من أرباب هذه الصناعة في تسمية أنواع علم البيان حتى إن أحدهم يضع لنوع واحد منه اسمين اعتقادا منه أن ذلك النوع نوعان مختلفان وليس الأمر كذلك بل هما نوع واحد
فممن غلط في ذلك الغانميفإنه ذكر بابا من أبواب علم البيان وسماه التبليغ وقال هو أن يأتي الشاعر بالمعنى في البيت تاما من غير أن يكون للقافية فيما ذكره صنع ثم يأتي بها لحاجة الشعر إليها حتى يتم وزنه فيبلغ بذلك الغاية القصوى في الجودةكقول امريء القيس
( كَأَنَّ عُيُونَ الوَحْشِ حَوْلَ خِبائِنا ... وَأَرْحُلِنَا الْجَزْعُ الَّذي لَمْ يُثَقَّبِ ) فإنه أتى بالتشبيه تاما قبل القافية ثم لما جاء بها بلغ الأمد الأقصى في المبالغة
ثم إن الغانمي ذكر بعد الباب بابا آخر وسماه الإشباع فقال هو أن يأتي الشاعر بالبيت معلق القافية على آخر أجزائه ولا يكاد يفعل ذلك إلا حذاق الشعراء وذاك أن الشاعر إذا كان بارعا جلب بقدرته وذكائه وفطنته إلى البيت وقد
تمت معانيه واستغنى عن الزيادة فيه قافية متممة لأعاريضه ووزنه فجعلها نعتا للمذكورِكقول ذي الرمة
( قِفِ الْعِيسَ في أَطْلالِ مَيَّة فاسْأَلِ ... رُسُوماً كَأَخْلاقِ الرِّدَاءِ الْمُسَلْسَلِ ) هذا كلام الغانمي بعينه
والبابان المذكوران سواء لا فرق بينهما بحالوالدليل على ذلك أن بيت امريء القيس يتم معناه قبل أنه يؤتى بقافيته وكذلك بيت ذي الرمة ألا ترى أن امرأ القيس لما قال
( كَأَنَ عُيُونَ اَلْوَحْشِ حَوْلَ خِبَائِنَا ... وَأَرْحُلِنَا الْجَزْعُ . . . ) أتى بالتشبيه قبل القافية ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي قوله " لَمْ يَثَقَّب " وهكذا ذو الرمة فإنه لما قال
( قِفِ الْعِيْسَ فِي أطْلالِ مَيَّةَ فَاسْأَلِ ... رُسُوماََ كَأَخْلاَقِ الرِّداءِ . . ) أتى بالتشبيه أيضا قبل أن يأتي بالقافية ولما احتاج إليها جاء بزيادة حسنة وهي قوله " المسلسل "
واعلم أن أبا هلال العسكري قد سمى هذين القسمين بعينهما الإيغالوقال هو أن يستوفي الشاعر معنى الكلام قبل البلوغ إلى مقطعه ثم يأتي
بالمقطع فيزيد فيه معنى أخر وأصل الإيغال من أوغل في الأمرإذا أبعد الذهاب فيه ثم مثل أبو هلال ذلك بقول ذي الرمة
( قِفِ الْعيسَ في أَطْلالِ مَيَّةَ فَاسْأَل ... ) البيت وهذا أقرب أمرا من الغانميلأنه ذكره في باب واحد وسماه باسم واحد ولم يذكره في باب آخر كما فعل الغانمي وليس الأخذ على الغانمي في ذلك مناقشة على الأسماء وإنما المناقشة على أن ينتصب لإيراد علم البيان وتفصيل أبوابه ويكون أحد الأبواب التي ذكرها داخلا في الآخر فيذهب عليه ويخفي عنه وهو أشهر من فلق الصباح
وههنا ما هو أغرب من ذاكوذلك أنه قد سلك قوم في منثور الكلام ومنظومه طرقا خارجة عن موضوع علم البيان وهي بنجوة عنهلأنها في واد وعلم البيان في واد
فممن فعل ذلك الحريري صاحب المقاماتفإنه ذكر تلك الرسالة التي هي
كلمة معجمة وكلمة مهملة والرسالة التي حرف من حروف ألفاظها معجم والآخر غير معجم ونظم غيره شعرا آخر كل بيت منه أول للبيت الذي يليه وكل هذا وإن تضمن مشقة من الصناعة - فإنه خارج عن باب الفصاحة والبلاغةلأن الفصاحة هي ظهور الألفاظ مع حسنها على ما أشرت إليه في مقدمة كتابي هذا وكذلك البلاغة فإنها الانتهاء في محاسن الألفاظ والمعانيمن قولنا بلغت المكانإذا انتهيت إليه وهذا الكلام المصوغ بما أتى به الحريري في رسالته وأورده ذلك الشاعر في شعره لا يتضمن فصاحة ولا بلاغة وإنما يأتي ومعانيه غثة باردة وسبب ذلك أنها تستكره استكراها وتوضع في غير مواضعها كذلك ألفاضه فإنها تجيء مكرهة ايضا غير ملائمة لأخواتها وعلم البيان إنما هو الفصاحة والبلاغة في الألفاظ والمعاني فإذا خرج عنه شيء من هذه الأوضاع المشار إليها لا يكون معدودا منه ولا داخلا في بابه ولو كان ذلك مما يوصف بحسن في ألفاظه ومعانيه لورد في كتاب الله عز و جل الذي هو معدن الفصاحة والبلاغة أو ورد في كلام العرب الفصحاء ولم نره في شيء من أشعارهم ولا خطبهم
ولقد رأيت رجلا أديبا من أهل المغرب وقد تغلغل في شيء عجيب وذاك أنه شجر شجرة ونظمها شعرا وكل بيت من ذلك الشعر يقرأ على ضروب من الأساليب اتباعا لشعب تلك الشجرة واغصانها فتارة تقرأ كذا وتارة تقرأ كذا وتارة يكون جزء منه ههنا وتارة ههنا وتارة يقرأ مقلوبا وكل ذلك الشعر وإن كان له معنى يفهم إلا أنه ضرب من الهذيان والأولى به وبأمثاله أن يلحق بالشعبذة والمعالجة والمصارعة لا بدرجة الفصاحة والبلاغة
ورأيت أبا محمد عبد الله بن سنان الخفاجي قد ذكر بابا من الأبواب في كتابهفقال ينبغي ألا تستعمل في الكلام المنظوم والمنثور ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم ولا الألفاظ التي تختص بها بعض المهن والعلوم لأن الإنسان إذا خاض في علم وتكلم في صناعة وجب عليه أن يستعمل
ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعةِ ثم مثل ذلك بقول أبي تمام
( مَوَدَّةُُ ذَهَبٌ أْثمَارُهَا شَبَهٌ ... وَهِمَّةٌ جَوْهَرٌ مَعْرُوفُهَا عَرَضُ ) وبقوله أيضا
( خَرْقَاءُ يَلْعَبُ بالعُقُولِ حَبَابُهَا ... كَتَلَعُّبِ الأْفْعَالِ بِالأَسْمَاءِ )
وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة
( إنَّ الَّذِي تَكْرَهُونَ مِنْهُ ... هُوَ الّذِي يَشْتَهِيه قَلبِي ) وسأبين فساد ما ذهب إليه فأقول أما قوله ( إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل ذلك العلم وأصحاب تلك الصناعة ) فهذا مسلم إليه ولكنه شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعةلأنها موضوعة على الخوض في كل معنى وهذا لا ضابط له يضبطه ولا حاصر يحصره فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأداه ذلك الى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه لأنه من مقتضيات هذا المعنى الذي قصده ألا ترى إلى قول أبي تمام في الاعتذار
( فَإنْ يَكُ جُرْمُُ عَنَّ أَوْتَكُ هَفْوَةُُ ... عَلَى خَطَإ مِنّي فَعُذْري عَلَى عَمْدِ )
فإن هذا من أحسن ما يجيء في باب الاعتذار عن الذنبِ وكان ينبغي له - على ما ذكره ابن سنان - أن يترك ذلك ولا يستعمله حيث فيه لفظتا ( الخطأ ) و ( العمد ) اللتان هما من أخص ألفاظ الفقهاء
وكذلك قول أبي الطيب المتنبي
( وَلَقِيتُ كُلَّ الْفَاضِلِينِ كَأَنَّما ... رَدَّ الإِلهُ نُفُوسَهُمْ وَالأَعْصُرَا )
( نُسِقُوا لَنَا نَسْق الْحِسَابِ مُقَدّماً ... وَأَتَى فَذلِكَ إِذْ أَتَيْتَ مُؤَخَّرَا ) وهذا من المعاني البديعة وما كان ينبغي لأبي الطيب أن يأتي في مثل هذا الموضع بلفظة " فذلك " التي هي من ألفاظ الحساب بل كان يترك هذا المعنى الشريف الذي لا يتم إلا يتلك اللفظة موافقة لابن سنان فيما رآه وذهب إليه وهذا محض الخطأ وعين الغلط
وأما ما أنكره على أبي تمام في قوله
( مَوَدَّةٌ ذَهَبٌ أَثْمَارُهَا شَبَهٌ ... وَهِمَّةٌ جَوْهَرٌ مَعْرُوفُهَا عَرَضُ ) فإن هذا البيت ليس منكرا لما استعمل فيه من لفظتي الجوهر و العرض اللتين هما من خصائص ألفاظ المتكلمين بل لأنه في نفسه ركيكلتضمنه لفظة " الشبه " فإنها لفظه عامية ركيكة وهي التي أسخفت بالبيت بجملته ورب قليل أفسد كثيرا وأما لفظتا الجوهر والعرض فلا عيب فيهما ولا ركاكة عليهما
وأما البيت الأخر وهو
( خَرْقَاءُ يَلْعَبُ بِالْعُقُولِ حَبَابُهَا ... كَتَلَعُّبِ الأْفْعَالِ بِالأَسْمَاءِ ) فليس بمنكر وهل يشك في أن التشبيه الذي تضمنه واقع في موقعه ؟ ألا ترى أن الفعل ينقل الاسم من حال إلى حال وكذلك تفعل الخمر بالعقول في تنقل حالاتهما فما الذي أنكره ابن سنان من ذلك ؟
وقد جاء لبعض المتأخرين من هذا الأسلوب ما لا يدافع في حسنه وهو قوله
( عَوَامِلُ رزقٍ أعْرَبَتْ لُغَةَ الرَّدَى ... فجسْمٌ لَهُ خَفْضٌ وَرَأسُُ لَهُ نَصْبُ ) فإنه لما حصل له المشابهة في الاسمية بين عوامل الرماح و العوامل النحوية حسن موقع ما ذكره من الخفض والنصب وعلى ما ذكره ابن سنان فإن ذلك غير جائز وهو من مستحسنات المعاني هذا من أعجب الأشياء ! ! وعلى هذا الأسلوب ورد قول بعضهم
( وَفَتىً مِنْ آزِنٍ ... فَاقَ أهْلَ الْبَصْرَهْ )
( أمُّهُ مَعْرِفَةُُ ... وَأَبُوهُ نَكِرَهْ ) وهل يشك في حسن هذا المعنى ولطافته ؟
وكذلك ورد من هذا النوع في شعر بعض العراقيين يهجو طبيبا فقال
( قَالَ حِمَارُ الطَّبِيبِ تُومَا ... لَوْ أَنْصَفُونِي لَكُنْتُ أَرْكَبْ )
( لأَنَّني جَاهِلُُ بَسِيطُُ ... وَرَاكِبِي جَهْلُهُ مُرَكَّبْ ) وهذا من المعنى الذي أغرب في الملاحة وجمع بين خفة السخرية ووقار
الفصاحةوقد تقدم القول في صدر كتابي هذا أنه يجب على صاحب هذه الصناعة أن يتعلق بكل علم وكل صناعة ويخوض في كل فن من الفنونلأنه مكلف بأن يخوض في كل معنى من المعاني فاضمم يدك على ما ذكرته ونصصت عليه واترك ما سواهفليس القائل بعلمه واجتهاده كالقائل بظنه وتقليده
وهذا النوع إذا استعمل على الوجه المرضي كان حسنا وإذا استعمل بخلاف ذلك كان قبيحا كما جاء في كلام أبي العلاء بن سليمان المعري وهو قوله في رسالة كتبها إلى بعض إخوانه حرس الله سعادته ما أدغمت التاء في الظاء وتلك سعادة بغير انتهاء وهذا من الغث البارد ولكن قد جاءه في الشعر ما هو حسن فائق كقوله
( فَدُونَكُمُ خَفْضَ الحَيَاةِ فَإنَّنا ... نَصَبْنَا المَطَايَا فِي الْفَلاةِ عَلَى الْقَطْعِ ) والخفض والنصب من الإعراب النحوي والخفض رفاهة العيش والقطع من منصوبات النحو والقطع قطع الشيء يقال قطعتهإذا بترته
النوع التاسع والعشرون
في التوشيح
وهو أن يبني الشاعر أبيات قصيدته على بحرين مختلفينفإذا وقف من البيت على القافية الأولى كان شعرا مستقيما من بحر على عروض وإذا أضاف إلى ذلك ما بنى عليه شعره من القافية الأخرى كان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر على عروض وصار ما يضاف إلى القافية للبيت كالوشاح وكذلك يجري الأمر في الفقرتين من الكلام المنثورفإن كل فقرة منهما تصاغ من سجعتينوهذا لا يكاد يستعمل إلا قليلا وليس من الحسن في شيء واستعماله في الشعر أحسن منه في الكلام المنثورفمن ذلك قول بعضهم
( اسْلمْ وَدُمْتَ عَلَى الْحَوَادِثِ مَا رَسَا ... رُكْنَا ثَبِيرِ أَوْ هِضَابُ حِراءِ )
( وَنَلِ الْمُرَادَ مُمَكَّناً مِنْهُ عَلَى ... رَغْمِ الدُّهُورِ وَفُزْ بِطُولِ بَقَاءِ ) وهذا من الجيد الذي يأتي في هذا النوعِ إلا أن أثر التكلف عليه باد ظاهر وإذا نظر إلى هذين البيتين وجدا وهما يذكران على قافية أخرى وبحر آخر وذاك أن يقال
( اسْلمْ وَدُمْتَ عَلَى الْحَوادِثِ ... مَارَسَا رُكْنَا ثَبِيرِ )
( وَنَلِ المُرَادَ مُمَكَّناً ... مِنْهُ عَلَى رَغْمِ الدُّهُورِ ) وقد استعمل ذلك الحرير في مقاماته نحو قوله
( يَا خَاطِبَ الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ إِنَّهَا ... شَرَكُ الرَّدَى وَقَرَارَةُ الأَكْدَارِ )
( دارُُ مَتَى مَا أَضْحَكَتْ فِي يَوْمِهَا ... أَبْكَتْ غَدَا بُعْداً لَهَا مِنْ دَارِ )
( وَإذَا أَظَلَّ سَحَابُهَا لَمْ يُنْتَفَعْ ... مِنْهُ صَدَى لِجَهَامِهِ الْغَرَّارِ ) واعلم أن هذا النوع لا يستعمل إلا متكلفا عند تعاطي التمكن من صناعة النظم وحسنه منوط بما فيه من الصناعة لا بما فيه من البراعةألا ترى أنه لو نظم عليه قصيد من أوله إلى آخره يتضمن غزلا ومديحا على ما جرت به عادة القصائد أليس أنه كان يجيء باردا غثا لا يسلم منه على محك النظر عشرة ؟ والعشر كثير وما كان على هذه الصورة من الكلام فإنما يستعمل أحيانا على الطبع لا على التكلف وهو وأمثاله لا يحسن إلا إذا كان يسيرا كالرقم في الثوب أو الشية في الجلد
النوع الثلاثون
في السرقات الشعرية
ولربما اعترض معترض في هذا الموضوع فقال قد تقدم نثر الشعر في أول الكتاب وهو أخذ الناثر من الناظم ولا فرق بينه وبين أخذ الناظم من الناظم فلم يكن إلى ذكر السرقات الشعرية إذن حاجة ولو أنعم هذا المعترض نظره لظهر له الفرق وعلم أن نثر الشعر لم يتعرض فيه إلى وجوه المأخذ وكيفية التوصل إلى مداخل السرقاتوهذا النوع يتضمن ذكر ذلك مفصلاواعلم أن الفائدة من هذا النوع أنك تعلم أين تضع يدك في أخذ المعانيإذ لا يستغني الآخر عن الإستعارة من الأول لكن لا ينبغي لك أن تعجل في سبك اللفظ على المعنى المسروق فتنادي على نفسك بالسرقة فكثيرا ما رأينا من عجل في ذلك فعثر وتعاطى فيه البديهة فعقر والأصل المعتمد عليه في هذا الباب التورية والاختفاء بحيث يكون ذلك أخفى من سفاد الغراب وأظرف من عنقاء مغرب في الإغراب
وقد ذهب طائفة من العلماء إلى أنه ليس لقائل أن يقول إن لأحد من المتأخرين معنى مبتدعافإن قول الشعر قديم منذ نطق باللغة العربيةِ وإنه لم يبق معنى من المعاني إلا وقد طرق مرارا
وهذا القول وإن دخل في حيز الإمكان إلا أنه لا يلتفت إليه لأن الشعر من الأمور المتناقله والذي نقلته الأخبار وتواردت عليه أن العرب كانت تنظم المقاطيع من الأبيات فيما يعن لها من الحاجات ولم يزل الحال على هذه الصورة إلى عهد آمريء القيسِ وهو قبل الإسلام بمائة سنه زائدا فناقصا فقصد القصائدِ وهو أول من قصدِ ولو لم يكن له معنى اختص به سوى أنه أول من قصد القصائد لكان في ذلك كفايةِ وأي فضيلة أكبر من هذه الفضيلة ؟ ثم تتابع المقصدون واختير من
القصائد تلك السبع التي علقت على البيت وانفتح للشعراء هذا الباب في التقصيد وكثرت المعاني المقولة بسببه ولم يزل الأمر ينمي ويزيد ويؤتي بالمعاني الغريبةِ واستمر ذلك إلى عهد الدولة العباسية وما بعدها إلى الدولة الحمدانية فعظم الشعرِ وكثرت أساليبهِ وتشعبت طرقهِ وكان ختامه على الثلاثة المتأخرينِ وهم أبو تمام حبيب بن أوس وأبو عباده الوليد بن عبيد البحتري وأبو الطيب المتنبي فإذا قيل إن المعاني المبتدعة سبق إليها ولم يبق معنى مبتدع عورض ذلك بما ذكرته
والصحيح أن باب الابتداع للمعاني مفتوح إلى يوم القيامة ومن الذي يحجر على الخواطر وهي قاذفة بما لا نهاية له ؟ إلا أن من المعاني ما يتساوى الشعراء فيهِ ولا يطلق عليه اسم الابتداع لأول قبل آخر لأن الخواطر تأتي به من غير حاجة إلى اتباع الآخر الأولِ كقولهم في الغزل
( عَفَتِ الدِّيَارُ وَمَا عَفَتْ ... آثَارُهُنَّ مِنَ الْقُلُوبِ ) وكقولهم إن الطيف يجود بما يبخل به صاحبه وإن الواشي لو علم بمرار الطيف لساءه وكقولهم في المديح إن عطاءه كالبحر وكالسحاب وإنه لا يمنع عطاء اليوم عطاء غد وإنه يجود ابتداء من غير مسألة وأشباه ذلك وكقولهم في المراثي إن هذا الرزء أول حادث وإنه استوى فيه الأباعد والأقارب وإن الذاهب لم يكن واحدا وإنما كان قبيلة وإن بعد هذا الذاهب لا يعد للمنية ذنب وأشباه ذلك
وكذلك يجري الأمر في غير ما أشرت إليه من معان ظاهرة تتوارد الخواطر عليها من غير كلفة وتستوي في إيرادهاِ ومثل ذلك لا يطلق على الآخر فيه اسم السرقة من الأولِ وإنما يطلق اسم السرقة في معنى مخصوصِ كقول أبي تمام
( لاَ تُنْكِرُوا ضَرْبِي لَهُ مَنْ دُونَهُ ... مَثَلاً شَرُوداً فِي النَّدَى وَالْبَاسِ )
( فَاللُّه قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ... مَثَلاً مِنَ المِشْكَاةِ والنِّبْرَاسِ )
فإن هذا معنى مخصوص ابتدعه أبو تمامِ وكان لابتداعه سببِ والحكاية فيه مشهورةِ وهي أنه لما أنشد أحمد بن المعتصم قصيدته السينية التي مطلعها
( مَا فِي وُقُوفِكَ سَاعَةً مِنْ بَاس ... ) انتهى إلى قوله
( إِقْدَامُ عَمْرٍو في سَمَاحَةِ حَاتِمٍ ... فِي حِلْمِ أحْنفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ ) فقال الحكيم الكندي وأي فخر في تشبيه ابن أمير المؤمنين بأجلاف العرب ؟ فأطرق أبو تمام ثم أنشد هذين البيتين معتذرا عن تشبيهه إياه بعمرو وحاتم وإياسِ وهذا معنى يشهد به الحال أنه ابتدعهِ فمن أتى من بعده بهذا المعنى أو بجزء منه فإنه يكون سارقا له
وكذلك ورد قول أبي الطيب المتنبي في عضد الدولة وولديه
( وَأنْتَ الشَّمْسُ تَبْهَرُ كُلَّ عَيْنٍ ... فَكَيْفَ وَقَدْ بَدَتْ مَعَهَا اثْنَتَانِ )
( فَعَاشَا عيِشَةَ الْقَمَرَيْنِ يُحْيَا ... بِضَوْئِهِمَا وَلاَ يَتَحَاسَدَان )
( وَلاَ مَلَكَا سِوَى مُلْكِ الأَعَادِي ... وَلاَ وَرِثا سِوَى مَنْ يَقْتُلاَنِ )
( وَكَانَ ابْنَا عَدُوٍّ كَاثَرَاهُ ... لَهُ يَاءيْ حُرُوفُ أُنَيْسِيَانِ ) وهذا معنى لأبي الطيب وهو الذي ابتدعه أي أن زيادة أولاد عدوك كزيادة التصغير فإنها زيادة نقص
وما ينبغي أن يقال إن الرومي ابتدع هذا المعنى الذي هو
( تَشْكُو المُحِبَّ وَتُلْفَى الدَّهْرَ شَاكِيَةً ... كَالْقَوْسِ تُصْمِي الرَّمَايَا وَهْيَ مِرْنَانُ )
فإن علماء البيان يزعمون أن هذا المعنى مبتدع لابن الرومي وليس كذلك ولكنه مأخوذ من المثل المضروبِ وهو قولهم يلدغ ويصي ويضرب ذلك لمن يبتديء بالأذى ثم يشكوِ وإنما إبن الرومي قد ابتدع معاني أخر غير ما ذكرته وليس الغرض أن يؤتي على جميع ما جاء به هو ولا غيره من المعاني المبتدعة بل الغرض أن يبين المعنى المبتدع من غيره
والذي عندي في السرقات انه متى أورد الآخر شيئا من ألفاظ الأول في معنى من المعانيِ ولو لفظه واحدة فإن ذلك من أدل الدليل على سرقته
واعلم ان علماء البيان قد تكلموا في السرقات الشعرية فأكثروا وكنت ألفت فيه كتابا وقسمته ثلاثة أقسام نسخا وسلخا ومسخا
أما النسخ فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه مأخوذا ذلك من نسخ الكتاب
أما السلخ فهو أخذ بعض المعنى مأخوذا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ
وأما المسخ فهو إحالة المعنى إلى ما دونه مأخوذا ذلك من مسخ الآدميين قردة
وههنا قسمان آخرن أخللت بذكرهما في الكتاب الذي ألفتهفأحدهما أخذ المعنى مع الزيادة عليه والآخر عكس المعنى إلى ضده وهذان القسمان ليسا بنسخ ولا سلخ ولا مسخ
وكل قسم من هذه الأقسام يتنوع ويتفرع وتخرج به القسمة إلى مسالك دقيقة وقد استأنفت ما فاتني من ذلك في هذا الكتابِ والله الموفق للصواب
ومن المعلوم أن السرقات الشعرية لا يمكن الوقوف عليها إلا بحفظ الأشعار الكثيرة التي لا يحصرها عدد فمن رام الأخذ بنواصيها والاشتمال على قواصيها بأن يتصفح الأشعار تصفحا ويقتنع بتأملها ناضرافإنه لا يظفر منها إلا بالحواشي والأطراف
وكنت سافرت إلى الشام في سنة سبع وثمانين وخمسمائة ودخلت مدينة دمشقفوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها
( خُذَا مِنْ صَبَا نَجْدٍ أماناً لِقَلْبِهِ ... ) ويزعمون أنه من المعاني الغريبة وهو
( أَغارُ إذا آنَسْتُ في الحَيِّ أنَّةً ... حَذاراً عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ لِحُبِّهِ ) فقلت لهم هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي في قوله
( لَوَ قُلْتُ لِلدَّنِفِ المَشُوقِ فَدَيْتُهُ ... مِمَّا بِهِ لأَغَرْتَهُ بِفِدائِهِ ) وقول أبي الطيب أدق معنى وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظا ثم إني وقفتهم على مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي
وسافرت إلى الديار المصرية في سنة ست وتسعين فوجدت أهلها يعجبون ببيت من الشعر يعزونه إلى شاعر من أهل اليمن يقال له عمارة وكان حديث عهد بزماننا هذا في آخر الدولة العلوية بمصر وذلك البيت من جملة قصيدة له يمدح بها بعض خلفائها عند قدومه عليه من اليمن وهو
( فَهَلْ دَرى البَيْتُ أَنِّي بَعْدَ فُرْقَتِهِ ... مَا سِرْتُ مِنْ حَرَمِ إِلاَّ إلى حَرَمِ ) فقلت لهم هذا البيت مأخوذ من شعر أبي تمام في قوله مادحا لبعض الخلفاء في حجة حجها وذلك بيت من جملة أبيات حسنة
( يا مَنْ رَأى حَرَماً يَسْري إلى حَرَمِ ... طُوبَى لِمُسْتَلِمٍ يَأتي وَمُلْتَزِمِ ) ثم قلت في نفسي يا لله العجب ! ليس أبو تمام وأبو الطيب من الشعراء الذين درست أشعارهم ولا هما ممن لم يعرف ولا اشتهر أمره بل هما كما يقال أشهر من الشمس والقمر وشعرهما دائر في أيدي الناس بخلاف غيرهما فكيف خفي على أهل مصر ودمشق بيتا ابن الخياط وعمارة المأخوذان من شعرهما ؟
وعلمت حينئذ أن سبب ذلك عدم الحفظ للأشعار والاقتناع بالنظر في دواوينهما ولما نصبت نفسي للخوض في علم البيان ورُمْت أن أكون معدودا من علمائه علمت أن هذه الدرجة لا تنال إلا بنقل ما في الكتب إلى الصدور والاكتفاء بالمحفوظ عن المسطور
( لَيْسَ بِعِلْمٍ مَا حَوَى القِمَطْرُ ... مَا العِلْمُ إِلاَّ ما حَوَاهُ الصَّدْرُ ) ولقد وقفت من الشعر على كل ديوان ومجموع وأنفدت شطرا من العمر في المحفوظ منه والمسموع فألفيته بحرا لا يوقف على ساحله وكيف ينتهي إلى إحصاء قول لم تحص أسماء قائله فعند ذلك اقتصرت منه على ما تكثر فوائده وتتشعب مقاصده ولم أكن ممن أخذ بالتقليد والتسليم في اتباع من قصر نظره على الشعر القديمإذ المراد من الشعر إنما هو إيداع المعنى الشريف في اللفظ الجزل واللطيف فمتى وجد ذلك فكل مكان خيمت فهو بابل وقد اكتفيت في هذا بشعر أبي تمام حبيب بن أوس وأبي عباده الوليد وأبي الطيب المتنبي وهؤلاء الثلاثة هم لات الشعر وعزاه ومناته الذين ظهرت على أيديهم حسناته ومستحسناته وقد حوت أشعارهم غرابة المحدثين إلى فصاحة القدماء وجمعت بين الأمثال السائرة وحكمة الحكماء
أما أبو تمام فإنه رب معان وصقيل ألباب وأذهان وقد شهد له بكل معنى مبتكر لم يمش فيه على أثرفهو غير مدافع عن مقام الإغراب الذي برز فيه على الأضراب ولقد مارست من الشعر كل أول وأخير ولم أقل ما أقول فيه إلا عن تنقيب وتنقيرفمن حفظ شعر الرجل وكشف عن غامضه وراض فكره برائضه أطاعته أعنة الكلام وكان قوله في البلاغة ما قالت حذامفخذ مني في ذلك قول حكيم وتعلم ففوق كل ذي علم عليم
وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى وأراد أن يشعر فغنى ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق فبينا يكون في شظف نجد إذ تشبث بريف العراق وسئل أبو الطيب المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه فقال أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري ولعمري إنه أنصف في
حكمه وأعرب بقوله هذا عن متانة علمهفإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلاسة الماء فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام وما أقول إلا أنه أتى في معانيه بأخلاط الغالية ورقى في ديباجة لفظه إلى الدرجة العالية
وأما أبو الطيب المتنبي فإنه أراد أن يسلك مسلك أبي تمام فقصرت عنه خطاه ولم يعطه الشعر من قياده ما أعطاه لكنه حظي في شعره بالحكم والأمثال واختص بالإبداع في وصف مواقف القتال وأنا أقول قولا لست فيه متأثما ولا منه متلثما وذاك أنه خاض في وصف معركة كان لسانه أمضى من نصالها وأشجع من أبطالها وقامت أقواله للسامع مقام أفعالها حتى تظن الفريقين قد تقابلا والسلاحين قد تواصلا فطريقه في ذلك تضل بسالكه وتقوم بعذر تاركه ولا شك أنه كان يشهد الحروب مع سيف الدولة ابن حمدان فيصف لسانه ما أدى إليه عيانه ومع هذا فإني رأيت الناس عادلين فيه عن سنن التوسط فإما مفرط في وصفه وإما مفرِّط وهو وإن انفرد بطريق صار أباعذره فإن سعادة الرجل كانت أكبر من شعره وعلى الحقيقة فإنه خاتم الشعراء ومهما وصف به فهو فوق الوصف وفوق الإطراء ولقد صدق في قوله من أبيات يمدح بها سيف الدولة
( لا تَطْلُبَنَّ كَرِيماً بَعْدَ رُؤْيَتِهِ ... إن الْكِرَامَ بِأَسْخَاهُمْ يَداً خُتِمُوا )
( وَلا تُبَالِ بِشِعْرٍ بَعْدَ شَاعِرِهِ ... قَدْ أَُفْسِدَ الْقَوْلُ حَتَّى أُحْمِدَ الصَّمَمُ ) ولما تأملت شعره بعين المعدلة البعيدة عن الهوى وعين المعرفة التي ما ضل صاحبها وما غوى وجدته أقساما خمسةخمس في الغاية التي انفرد بها دون غيره وخمس من جيد الشعر الذي يساويه فيه غيره وخمس من متوسط الشعر وخمس دون ذلك وخمس في الغاية المتقهقرة التي لا يعبأ بها وعدمها خير من
وجودها ولو لم يقلها أبو الطيب لوقاه الله شرها فإنها هي التي ألبسته لباس الملام وجعلت عرضه شارة لسهام الأقوام
ولسائل ههنا أن يسأل ويقول لم عدلت إلى شعر هؤلاء الثلاثة دون غيرهم ؟
فأقول إني لم أعدل إليهم اتفاقا وإنما عدلت إليهم نظرا واجتهادا وذلك أني وقفت على أشعار الشعراء قديمها وحديثها حتى لم أترك ديوانا لشاعر مفلق يثبت شعره على المحل إلا وعرضته على نظري فلم أجد أجمع من ديوان أبي تمام وأبي الطيب للمعاني الدقيقة ولا أكثر استخراجا منهما للطيف الأغراض والمقاصد ولم أجد أحسن تهذيبا للألفاظ من أبي عبادة ولا أنقش ديباجة ولا أبهج سبكا فاخترت حينئذ دواوينهم لاشتمالها على محاسن الطرفين من المعاني والألفاظ ولما حفظتها ألغيت ما سواها مع ما بقي على خاطري من غيرها
وقد أوردت في هذا الموضع من السرقات الشعرية مالم يورده غيري ونبهت على غوامض منها
وكنت قدمت القول أني قسمتها إلى خمسة أقساممنها الثلاثة الأول وهي النسخ والسلخ والمسخ ومنها القسمان الآخران وها أنا أبين ما تنقسم إليه هذه الأقسام من تشعبها وتفريعهافأقول فأما النسخ فإنه لا يكون إلا في أخذ المعنى واللفظ جميعا أو في أخذ المعنى وأكثر اللفظلأنه مأخوذ من نسخ الكتاب وعلى ذلك فإنه ضربان الأول يسمى وقوع الحافر على الحافرِكقول امرىء القيس
( وُقُوفاً بِهَا صَحْبِيِ عَلِيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لاَتَهْلِكْ أسىً وَتَحَمَّل )
وكقول طرفة
( وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ لاَ تَهْلِكْ أَسىً وَتَجَلَّدِ ) وقد أكثر الفرزدق وجرير من هذا في شعرهما فمنه ما وردا فيه مورد امريء القيس وطرفة في تخالفهما في لفظة واحدة كقول الفرزدق
( أَتَعْدِلُ أحْسَاباً لِئَاماً حُمَاتُهَا ... بِأَحْسابِنَا إِنِّي إلى اللهِ رَاجِعُ ) وكقول جرير
( أَتَعْدِلُ أَحْسَاباً كِرَاماً حُمَاتُهَا ... بِأَحْسَابِكُمْ إِنِّي إلى اللهِ رَاجِعُ ) ومنه ما تساويا فيه لفظا بلفظ كقول الفرزدق
( وَغُرٍّ قَدْ نَسَقْتُ مُشَهَّراتٍ ... طَوَالِعَ لاَ تُطِيقُ لهَا جَوَابَا )
( بِكُلِّ ثَنِيَّةٍ وبِكُلِّ ثَغْرٍ ... غَرَائِبُهُنَّ تَنْتَسِبُ انْتِسَابَا )
( بَلَغْنَ الشَّمْسَ حِينَ تَكُونُ شَرْقاً ... وَمِسْقِطَ رأْسِهَا مِنَ حَيْثُ غَابَا ) وكذلك قال جرير من غير أن يزيد
وقد حكي أن امرأة من عقيل يقال لها " ليلى " كان يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها وجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه فدخل إليها فأقبلت عليه وتركت الفرزدق فغاظة ذلك فقال للفتى أتصارعني ؟ فقال ذاك إليك فقام إليه فلم يلبث أن أخذ الفرزدق فصرعه وجلس على صدره فضرط فوثب الفتى عنه وقال يا أبا فراس وهذا مقام العائذ بك والله ما أردت ما جرى فقال ويحك ! والله ما بي أنك صرعتني ولكن كأني بابن الأتان - يعني جريرا - وقد بلغه خبري فقال يهجوني
( جَلَسْتَ إلَى لَيْلَى لِتَحْظَى بِقُرْبِهَا ... فَخَانَكَ دُبْرٌ لاَ يَزَالُ يَخُونُ )
( فَلَوْ كُنْتَ ذَا حَزْمٍ شَدَدْتَ وِكَاءهُ ... كَمَا شَدَّ جُرْبَانَ الدِّلاَصِ قُيُونُ ) قال فوالله ما مضى إلا أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين وهذا من أغرب ما يكون في مثل هذا الموضع وأعجبه
ويقال إن الفرزدق وجريرا كانا ينطقان في بعض الأحوال عن ضمير واحد وهذا عندي مستبعدفإن ظاهر الأمر يدل على خلافه والباطن لا يعلمه إلا الله تعالى
وإلا فإذا رأينا شاعرا متقدم الزمان قد قال قولا ثم سمعناه من شاعر أتى من بعده علمنا بشهادة الحال أنه أخذه منه وهب أن الخواطر تتفق في استخراج المعاني الظاهرة المتداولةفكيف تتفق الألسنة أيضا في صوغها الألفاظ ؟
ومما كنت أستحسنه من شعر أبي نواس قوله من قصيدته التي أولها
( دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فإنَّ اللَّوْمَ إغْرَاءُ ... )
( دَارَتْ عَلَى فِتْيَةٍ ذَلَّ الزَّمَانُ لَهُمْ ... فَمَا يُصِيبُهُمُ إِلاَّ بِمَا شَاءوا ) وهذا من عالي الشعر ثم وقفت في كتاب الأغاني لأبي الفرج على هذا البيت في أصوات معبد وهو
( لَهْفِي عَلَى فِتْيَةٍ ذَلَّ الزَّمان لَهُمْ ... فَمَا أصَابَهُمُ إلاّ بِمَا شَاءُوا ) وما أعلم كيف هذا
الضرب الثاني من النسخ وهو الذي يؤخذ فبه المعنى وأكثر اللفظ كقول بعض المتقدمين يمدح معبدا صاحب الغناء
( أَجَادَ طُوَيْسٌ والسُّرَيْجِيُّ بَعْدَهُ ... وَمَا قَصَباتُ السَّبْقِ إلاَّ لِمَعْبَدِ ) ثم قال أبو تمام
( مَحَاسِنُ أصْنَافِ الْمُغَنِّينَ جَمَّةُُ ... وَمَا قَصَبَاتُ السَّبْقِ إلا لِمَعْبَدِ )
وهذه قصيدة أولها
( غَدَتْ تَسْتَجِيرُ الدَّمْعَ خَوْفَ نَوَى غَدِ ... ) فقال
( وَقَائِعُ أصْلُ النَّصْرِ فِيهَا وَفَرْعُهُ ... إِذا عُدِّدَ الإِحْسَانُ أوْ لَمْ يُعدَّدِ )
( فَمهْمَا تَكُن مِنْ وَقْعَةٍ بَعْدُ لاَ تَكُنْ ... سِوى حَسَنٍ مِمَّا فَعَلْتَ مُرَدَّدِ ) محاسنُ أصناف المغنين جمة البيت
وأما السلخ فإنه ينقسم إلى اثني عشر ضربا وهذا تقسيم أوجبته القسمة وإذا تأملته علمت أنه لم يبق شيء خارج عنه
فالأول أن يؤخذ المعنى ويستخرج منه ما يشبهه ولا يكون هو إياه وهذا من أدق السرقات مذهبا وأحسنها صورة ولا يأتي إلا قليلا
فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة
( لَقَدْ زَادَني حُبًّا لِنَفْسِيَ أَنَّني ... بَغِيْضٌ إِلى كُلِّ امْرِيءٍ غَيْرِ طَائِلِ ) أخذ المتنبي هذا المعنى واستخرج منه معنى آخر غيره إلا أنه شبيه به فقال
( وَإذا أَتَتْك مَذَمَّتي مِنْ نَاقِصٍ ... فَهِيَ الشَّهَادَةُ لِي بِأَنِّي فاضِلُ )
والمعرفة بأن هذا المعنى أصله من ذاك المعنى عسر غامض وهو غير متبين إلا لمن أعرق في ممارسة الأشعار وغاص في استخراج المعاني وبيانه أن الأول يقول إن بغض الذي هو غير طائل إياي مما زاد نفسي حبا إلى أي جملها في عيني وحسنها عندي كون الذي هو غير طائل مبغضي والمتنبي يقول إن ذم الناقص إياي شاهد بفضليفذم الناقص إياه كبغض الذي هو غير طائل ذلك الرجل وشهادة ذم الناقص إياه بفضله كتحسين بغض الذي هو غير طائل نفس ذلك الرجل عنده
ومن هذا الضرب ما هو أظهر مما ذكرته وأبين كقول أبي تمام
( رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ ما كَانَ حِقْبَةً ... رَعَاهَا وَمَاءُ الرَّوْضِ يَنْهَلُّ سَاكِبُهْ ) أخذ البحتري هذا المعنى واستخرج منه ما يشابهه كقوله في قصيدة يفخر فيها بقومه
( شَيْخَانِ قَدْ ثَقُلَ السِّلاحُ عَلَيْهِما ... وَعَدَاهُمَا رَأْيُ السَّمِيعِ المُبْصِرِ )
( رَكِبا الْقَنَا مِنْ بَعْدِما حَمَلاَ الْقَنَا ... فِي عَسْكَرٍ مُتَحَامِلٍ فِي عَسْكَرِ ) فأبو تمام ذكر أن الجمل رعى الأرض ثم سار فيها فرعته أي أهزلته فكأنما فعلت به مثل ما فعل بها والبحتري نقل هذا إلى وصف الرجل بعلو السن والهرمفقال إنه كان يحمل الرمح في القتال ثم صار يركب عليه أي يتوكأ منه على عصا كما يفعل الشيخ الكبير
وكذلك ورد قول الرجلين أيضافقال أبو تمام
( لاَ أَظْلِمُ النَّأْيَ قَدْ كانَتْ خَلاَئِقُهَا ... مِنْ قَبْلِ وَشْكِ النَّوَى عِنْدِي نَوًى قُذُفَا ) أخذه البحتري فقال
( أَعاتِكُ مَا كانَ الشَّبَابُ مُقَرِّبي ... إلَيْكِ فَأَلْحَى الشَّيْبَ إذْ هُو مُبْعدِي ) وهذا أوضح من الذي تقدمه وأكثر بيانا
الضرب الثاني من السلخ أن يؤخذ المعنى مجردا من اللفظ وذلك مما يصعب جدا ولا يكاد يأتي إلا قليلا
فمنه قول عروة بن الورد من شعراء الحماسة
( وَمَنْ يَكُ مِثْلِي ذَا عِيَالٍ وَمُقْتِراً ... مِنَ المَالِ يَطْرَحْ نَفْسَهُ كُلَّ مَطْرَحِ )
( لِيَبْلُغَ عُذْراً أَوْ يَنَالَ رَغِيبَةً ... ومُبْلِغُ نفسٍ عُذْرَهَا مِثْلُ مُنْجِحِ ) أخذ أبو تمام هذا المعنى فقال
( فَتَى مَاتَ بين الضَّرْبِ وَالطَّعْنِ مِيْتَةً ... تَقُومُ مَقَامَ النَّصْرِ إذْ فَاتَهُ النَّصْرُ ) فعروة بن الورد جعل اجتهاده في طلب الرزق عذرا يقوم مقام النجاح وأبو تمام جعل الموت في الحرب الذي هو غاية اجتهاد المجتهد في لقاء العدو قائما مقام الانتصار وكلا المعنيين واحد غير أن اللفظ مختلف
وهذا الضرب في سرقات المعاني من أشكلها وأدقها وأغربها وأبعدها مذهبا ولا يتفطن له ويستخرجه من الأشعار إلا بعض الخواطر دون بعض
وقد يجيء منه ما هو ظاهر لا يبلغ في الدقة مبلغ هذه الأبيات المشار اليهاكقول ابن المقفع في باب الرثاء من كتاب الحماسة
( فقَدْ جَرَّ نَفْعاً فَقْدُنَا لَكَ أَنَّنا ... أَمِنَّا عَلَى كُلِّ الرَّزَايَا مِنْ الْجَزع ) وجاء بعده من أخذ هذا المعنى فقال
( وَقَدْ عَزَّى رَبِيعَةَ أنَّ يَوْماً ... عَلَيْهَا مِثْل يَوْمِكَ لاَ يَعُودُ ) وهذا من البديع النادر
ههنا ما هو أشد ظهورا من هذين البيتين في هذا الضرب من السرقات الشعريةوذلك يأتي في الألفاظ المترادفة التي يقوم بعضها مقام بعض وذاك الاعتداد به لمكان وضوحه لكن قد يجيء منه ما هو صفة من صفات الترادف لا الاسم نفسه فيكون حسنا كقول جرير
( وَلاَ يَمْنَعْكَ مِنْ أَرَبٍ لِحَاهُمْ ... سَوَاءٌ ذُو الْعِمَامَةِ وَالْخِمَار ) أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى فقال
( وَمَنْ في كَفِّه مِنْهُمْ قَنَاةُُ ... كَمَنْ في كَفِّهِ مِنْهُمْ خِضابُ )
الضرب الثالث من السلخ وهو أخذ المعنى ويسير من اللفظ وذلك من أقبح السرقات وأظهرها شناعة على السارق
فمن ذلك قول البحتري في غلام
( فَوْقَ ضَعفِ الصَّغيرِ إِنْ وُكِلَ الأَمْرُ إِلَيْهِ وَدُونَ كَيْدِ الْكِبارِ ) سبقه أبو نواس فقال
( لَمْ يَخْفَ مِنْ كِبرٍ عَمَّا يُرادُ بِهِ ... مِنَ الأُمُورِ وَلاَ أَزْرَى مِنَ الصِّغَرِ ) وكذلك قوله أيضا
( كُلُّ عِيدٍ لَهُ انْقِضَاءُُوَكَفِّي ... كُلَّ يَوْمٍ مِنْ جُودِهِ فِي عِيدِ ) أخذه من علي بن جبلة [ في قوله ]
( لِلعِيْدِ يَوْمٌ مِنَ الأيَّامِ مُنْتَظَرٌ ... وَالنَّاسُ في كُلِّ يَوْمٍ مِنْكَ في عِيدِ ) وكذلك قوله
( جَادَ حَتَّى أَفْنَى السُّؤَالَ فَلَمَّا ... بَادَ مِنَّا السُّؤَالُ جَادَ ابْتِدَاءَ ) أخذه من علي بن جبلة [ في قوله ]
( أَعْطَيْتَ حَتَّى لَمْ تَدَعْ لَكَ سَائِلاً ... وَبَدَأْتَ إذْ قَطعَ الْعُفَاة سُؤَالهَا ) وقد افتضح البحتري في هذه المآخذ غاية الافتضاح وهذا على بسطة باعه في الشعر وغناه عن مثلها وقد سلك هذه الطريق فحول الشعراء ولم يستنكفوا من سلوكهافممن فعل ذلك أبو تمامفإنه قال
( قَدْ قَلَّصَتْ شَفَتَاهُ مِنْ حَفِيظَتِهِ ... فَخِيلَ مِنْ التَّعْبِيسِ مُبْتَسِما ) سبقه عبد السلام بن رغبان المعروف بديك الجن فقال
( وَإِذا شِئْتَ أَنْ تَرَى المَوْتَ في صورَةِ ... لَيْثٍ في لِبْدَتَيْ رِئبَالِ )
( فَالْقَهُ غَيْرَ أنَّما لِبْدَتَاهُ ... أبْيَضٌ صَارِمُُ وأسْمَرُ عالِ )
( تَلْقَ لَيْثاً قَدْ قَلَّصتْ شَفتاهُ ... فَيُرَى ضَاحِكاً لِعَبسِ الصِّيَالِ )
وكذلك قال أبو تمام
( فَلَمْ أمْدحْكَ تَفحِيمَا بِشِعْرِي ... وَلَكِنِّي مَدَحْتُ بِكَ المَدِيحَا ) أخذه من حسان بن ثابت في مدحه للنبيحيث قال
( مَا إِنْ مَدَحْتُ مُحَمَدَا بِمَقَالَتِي ... لكِنَ مَدَحْتُ مَقَالَتِي بِمُحَمَّدِ ) ولا شك أن أبا بكر رضي الله عنه سمع قول حسان حيث استخلف عمر رضي الله عنهفقال له عمر استخلف غيري فقال أبو بكر رضي الله عنه ما حبوناك بها وإنما حبوناها بك
وهكذا فعل ابن الروميفمما جاء له قوله
( جَرَحَتْهُ الْعُيُونُ فاقْتَصَّ مِنْهَا ... بِجَوىً في الْقُلُوبِ دَامِي النُّدُوبِ ) سبقه أبو تمام فقال
( أَدْمَيْتُ بِاللَّحَظَاتِ وَجْنَتَهُ ... فاقْتَصَّ نَاظِرُهُ مِنَ الْقَلْب ) وكذلك قول ابن الرومي
( وَكَّلْتُ مَجْدَكَ في اقْتِضَائكَ حَاجَتي ... وَكَفَى بِهِ مُتَقَاضِياً وَوَكِيلاً ) سبقه أبو تمام فقال
( وَإذا الْمَجْدُ كَانَ عَوْني عَلَى المَرْء ... تَقَاضَيْتُهُ بِتَرْكِ التَّقاضِي ) وكذلك قول ابن الرومي
( وَمَالِي عَزَاءُ عَنْ شبَابِي عَلِمْتُهُ ... سِوَى أَنَّني مِن بَعْدِهِ لا أُخَلَّدُ ) سبقه منصور النمري فقال
( قَدْ كِدْتُ أَقْضِي عَلَى فَوْتِ الشَّبَابِ أَساً ... لَوْلا تَعَزِّيَّ أَنَّ الْعَيْشَ مُنْقَطِعُ )
وكذلك فعل أبو الطيب المتنبيفمما جاء منه قوله
( فَدَى نَفْسَهُ بِضَمَانِ النُّضَارِ ... وَأَعْطَى صُدُورَ الْقَنَا الذَّابِلِ ) أخذه من قول الفرزدق
( كَانَ الْفِدَاءَ لَهُ صُدُورُ رِمَاحِنَا ... وَالْخَيْلُ إِذْ رَهَجُ الْغُبَارِ مُثارُ ) وكذلك قوله أيضا
( أَيْنَ أَزْمَعْتَ أَيُّهَذا الْهُمَامُ ... نَحْنُ نَبْتُ الرُّبَا وَأَنْتَ الْغَمَامُ ) أخذه من بشار حيث قال
( كَأَنَّ النَّاسَ حِينَ تَغيبُ عَنْهُمْ ... نَبَاتُ الأَرْضِ أَخْطَأَهُ الْقَطَارُ ) وكذلك قوله
( فَلا زَالَتْ دِيَارُكَ مُشْرِقَاتٍ ... وَلا دَانَيْت يَا شَمْسُ الْغُروبَا )
( لأُصْبِحَ آمِناً فِيكَ الرَّزايَا ... كَمَا أَنَا آمِنٌ فِيكَ العُيُوبا ) أخذه من ابن الرومي حيث قال
( أَسَالِمُ قَدْ سَلِمْتَ مِنَ الْعُيُوبِ ... أَلا فَاسْلَمْ كَذَاكَ مِنَ الخُطُوبِ ) والذي عندي في الضرب المشار إليه أنه لا بد من مخالفة المتأخر المتقدم إما بأن يأخذ المعنى فيزيده معنى آخر أو يوجز في لفظه أو يكسوه عبارة أحسن من عبارته
ومن هذا الضرب ما يستعمل على وجه يزداد قبحه وتكثر البشاعة به وهو أن يأخذ الشاعرين معنى من قصيدة لصاحبه على وزن وقافيةفيودعه قصيدة له على ذلك الوزن وتلك القافية ومثاله في ذلك كمن سرق جوهرة من طوق أو نطاق ثم صاغها في مثل ما سرقها منه والأولى به أن كان نظم تلك الجوهرة في عقد أو صاغها في سوار أو خلخالليكون أكتم لأمرها
وممن فعل ذلك من الشعراء فافتضح أبو الطيب المتنبي حيث قال في قصيدته التي أولها
( غَيْرِي بِأَكْثَرِ هَذَا النَّاسِ يَنْخَدِعُ ... )
( لَمْ يُسْلِمِ الْكَرُّ في الأَعْقَابِ مُهْجَتَهُ ... إِنْ كَانَ أَسْلَمَهَا الأَصْحَابُ وَالشِّيَعُ ) وهذه القصيدة مصوغة على قصيدة لأبي تمام في وزنها وقافيتها أولها
( أَيُّ الْقُلُوبِ عَلَيْكُمْ لَيْسَ يَنْصَدِعُ ... ) وهذا المعنى الذي أورده أبو الطيب مأخوذ من بيت منها وهو
( مَا غَابَ عَنْكُمْ مِنَ الإِقْدَامِ أَكْرَمهُ ... في الرَّوعِ إِذْ غَابَتِ الأَنْصَارُ وَالشِّيَع ) وليس في السرقات الشعرية أقبح من هذه السرقةفإنه لم يكتف الشاعر فيها بأن يسرق المعنى حتى ينادي على نفسه أنه قد سرقه
الضرب الربع من السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيعكس وذلك حسن يكاد يخرجه حسنه عن حد السرقة فمن ذلك قول أبي نواس
( قَالُوا عَشِقْتَ صَغِيرَةً فَأَجَبْتَهُمْ ... أَشْهَى المَطِيِّ إِلَيَّ مَا لَمْ يُرْكَبِ )
( كَمْ بَيْنَ حَبَّةِ لُؤْلُؤٍ مَثْقُوبَةٍ ... لُبِسَتْ وَحَبَّةِ لُؤْلُؤٍ لَمْ تُثْقَبِ ) فقال مسلم بن الوليد في عكس ذلك
( إِنَّ المَطِيَّةَ لا يَلَذُّ رُكُوبُهَا ... حَتَّى تُذَلَّلَ بِالزِّمَامِ وَتُرْكَبَا )
( وَالْحَبُّ لَيْسَ بِنَافِعٍ أَرْبَابَهُ ... حَتَّى يُفَصَّلَ في النِّظَامِ وَيُثْقَبَا ) ومن هذا الباب قول ابن جعفر
( وَلَمَّا بَدَا لِي أَنَّهَا لا تُريدُنِي ... وَأَنَّ هَوَاهَا لَيْسَ عَنِّي بِمُنْجَلِي )
( تَمَنَّيْتُ أَنْ تَهْوَى سِوَايَ لَعَلَّهَا ... تَذُوقُ صَبَابَاتِ الْهَوى فَتَرِقَّ لِي )
وقال غيره
( وَلَقَدْ سَرَّنِي صُدُودُكَ عَنِّي ... في طِلابِيكَ وَامْتِنَاعُكِ مِنِّي )
( حَذَراً أَنْ أَكُونَ مِفْتَاحَ غَيْرِي ... وَإِذا مَا خَلَوْتِ كُنْتِ التَّمَنِّي ) أما ابن جعفر فإنه تداءب وألقى عن منكبه رداء الغيرة وأما الآخر فجاء بالضد من ذلك وتغالى به غاية الغلو
وكذلك ورد قول أبي الشيص
( أَجِدُ الْمَلامَةَ في هَوَاكِ لَذِيذَةً ... شَغَفَاً بِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ ) أخذ أبو الطيب المتنبي هذا المعنى وعكسه فقال
( أأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فِيهِ مَلاَمَةً ... إِنَّ المَلاَمَةَ فِيهِ مِنْ أَعْدَائِهِ ) وهذا من السرقات الخفية جدا ولأن يسمى ابتداعا أولى من أن يسمى سرقة
وقد توخيته في شيء من شعري فجاء حسنافمن ذلك قولي
( لَوْلاَ الْكِرَامُ وَما سَنُّوهُ مِنْ كَرَم ... لَمْ يَدْرِ قَائِلُ شعْر كَيْفَ يَمْتَدِحُ ) أخذته من قول أبي تمام
( لَوْلاَ خِلاَلٌ سَنَّها الشِّعْرُ مَا دَرَى ... بُنَاةُ الْعُلَى مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْمَكَارِمُ )
الضرب الخامس من السلخ وهو أن يؤخذ بعض المعنى فمن ذلك قول أمية بن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان
( عَطَاؤُكَ زَيْنٌ لاِمْرِيءٍ إنْ حَبَوْتَهُ ... بِبَذْلٍ وَمَا كُلُّ الْعَطَاءِ يَزِينُ )
( وَلَيْسَ بِشَيْنٍ لاِمْرِيءٍ بَذْلُ وَجْهِهِ ... إلَيْكَ كَمَا بَعْضُ السُّؤَالِ يَشِينُ ) أخذه أبو تمام فقال
( تُدْعَى عَطَايَاهُ وَفْراً وَهْيَ إنْ شُهِرَتْ ... كَانَتْ فَخَاراً لِمَنْ يَعْفُوهُ مُؤْتَنَفَا )
( مَا زِلْتُ مُنْتَظِراً أُعْجُوبَةً زَمَناً ... حَتَّى رَأَيْتُ سُؤَالاً يَجْتَنِي شَرَفا ) فأمية بن أبي الصلت أتى بمعنيين اثنين أحدهما أن عطاءك زين والآخر أن عطاء غيرك شين وأما أبو تمام فإنه أتى بالمعنى الأول لا غير
ومن هذا الضرب قول علي بن جبلة
( وآثل ما لم يَحْوِهِ مُتَقَدِّمٌ ... وَإِنْ نَالَ مِنْهُ آخر فَهْوَ تَابِعُ ) فقال أبو الطيب المتنبي
( تَرَفَّعَ عَنْ عَوْنِ المَكَارِمِ قَدْرُهُ ... فَمَا يَفْعَلُ الْفَعْلاَتِ إلاَّ عَذَارِيَا ) فعلي بن جبلة اشتمل ما قاله على معنيين أحدهما أنه فعل ما لم يفعله أحد ممن تقدمه وإن نال منه الآخر شيئا فإنما هو مقتد به وتابع له وأما أبو الطيب المتنبي فإنه لم يأت إلا بالمعنى الواحد وهو أنه يفعل ما لا يفعله غيره غير أنه أبرزه في صورة حسنة
ومن ذلك قول أبي تمام
( كَلِفٌ بِرَبِّ المَجْدِ يَعْلَمُ أَنَّهُ ... لَمْ يُبْتَدَأْ عُرْفُُ إذَا لَمْ يُتْمَمِ ) فقال البحتري
( وَمِثْلُكَ إِنْ أَبْدَى الْفَعَالَ أَعَادَهُ ... وَإِنْ صَنَعَ الْمَعْرُوفَ زَادَ وَتمَّمَا ) فأبو تمام قال إن الممدوح يرب صنيعه أي يستديمه ويعلم أنه إذا لم يستدمه فمما ابتدأه والبحتري قال إنه يستديم صنيعه لاغير وذلك بعض ما ذكره أبو تمام
وكذلك قال البحتري
( ادْفَعْ بأَمْثَالِ أَبي غَالِبٍ ... عَادِيَةَ الْعُدْمِ أَوِ اسْتَعْفِفِ ) أخذه ممن تقدمه حيث قال
( انْتُجِ الْفَضْلَ أَوْ تَخَلّ عَنِ الدُّنْيا فَهَاتَانِ غَايةُ الْهِمَمِ ) فالبحتري أخذ بعض هذا المعنى ولم يستوفه
وكذلك ورد قول ابن الرومي
( نَزَلْتُمْ عَلَى هَامِ الْمَعَالِي إذَا ارْتَقَى ... إِليْهَا أُنَاسُُ غَيْرُكُمْ بِالسَّلاَلِم ) أخذه أبو الطيب المتنبي فقال
( فَوْقَ السَّماءِ وَفَوْقَ مَا طَلَبُوا ... فَإذَا أَرَادُوا غايَةً نَزَلُوا ) وهذا بعض المعنى الذي تضمنه قول ابن الروميلأنه قال إنكم نزلتم على هام المعالي وإن غيركم يرقى إليها رقيا وأما المتنبي فإنه قال إنكم إذا أردتم غاية نزلتم وأما قوله " فوق السماء " فإنه يغني عنه قول ابن الرومي " نزلتم على هام المعالي " إذ المعالي فوق كل شيءلأنها مختصة بالعلو مطلقا
الضرب السادس من السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنى آخر
فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب
( إذا قَصُرَتْ أَسْيافُنَا كَانَ وَصْلُها ... خُطانَا إلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبُ ) أخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه وهو قوله
( إنْ قَصَّرَ الرُّمْحُ لَمْ يَمْشِ الْخُطَا عَدَداً ... أوْ عَرَّدَ السَّيْفُ لَمْ يَهْمُمْ بِتَعْرِيدِ ) وكذلك ورد قول جرير في وصف أبيات من شعره
( غَرائِبُ آلاَفُُ إذَا حَانَ وِرْدُهَا ... أخَذْنَ طَرِيقًا لِلْقَصَائِدِ مُعْلَمَا ) أخذه أبو تمام فزاد عليهإذ قال في وصف قصيد له وقرن ذلك بالممدوح
( غَرَائِبُ لاَقَتْ فِي فَنَائِكَ أُنْسَهَا ... مِنَ المَجْدِ فَهْيَ الآنَ غَيْرُ غَرَائِبِ ) وكذلك ورد قول ولد مسلمة بن عبد الملك
( أَذُلَّ الْحَيَاةِ وَكُرْهَ المَمَاتِ ... وَكُلاًّ أَرَاهُ طَعاماً وَبِيلاَ )
( فَإنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ إحْدَاهُما ... فَسَيْراً إلى المَوْتِ سَيْراً جَمِيلاَ ) أخذه أبو تمام فقال
( مَثَّلَ المَوْتَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَالذُّلَّ وَكُلاًّ رَآهُ خَطْباً عَظِيماً ... )
( ثُمَّ سَارتْ بِهِ الْحَمِيَّةُ قُدْماً ... فَأَمَاتَ الْعِدَا وَمَاتَ كَرِيمَا ) فزاد عليه بقوله
( فَأَمَاتَ الْعِدَا وَمَاتَ كَرِيمَا ... ) ويروى أنه نظر عبد الله بن علي رضي الله عنه عند قتال المروانية إلى فتى عليه أبهة الشرف وهو يبلي في القتال بلاء حسنا فناداه يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد فقال إلا أكنه فلست بدونه قال فلك الأمان ولو كنت من كنت فأطرق ثم تمثل بهذين البيتين المذكورين
وكذلك ورد قول أبي تمام
( يَصُدُّ عَنِ الدُّنْيَا إذَا عَنَّ سُودَدُُ ... وَلَوْ بَرَزَتْ فِي زِيِّ عَذرَاءَ نَاهِدِ ) أخذه من قول المعذل بن غيلان
( وَلَسْتُ بِنَظَّارٍ إِلَى جَانِبِ الْعُلاَ ... إذَا كَانَتِ الْعَلْيَاءُ في جَانِبِ الْفَقْرِ ) إلا أنه زاده زيادة حسنة بقوله
( وَلَوْ بَرَزَتْ في زِيِّ عَذْرَاءَ نَاهِدِ ... ) ومما يجري هذا المجرى قول البحتري
( خَلِّ عَنَّا فَإنَّمَا أَنْتَ فِينَا ... وَاوُ عَمْرٍو أوْ كالحَدِيثِ المُعَادِ ) أخذه من قول أبي نواس
( قُلْ لِمَنْ يَدَّعِي سُلَيْماً سَفَاهاً ... لَسْتَ مِنْهَا وَلاَ قُلاَمةَ ظُفْرِ )
( إِنَّمَا أَنْتَ مُلْصَقٌ مِثْلَ وَاوٍ ... أُلْحِقَتْ في الْهِجَاءِ ظُلْماً بِعَمْرِو ) إلا أن البحتري زاد على أبي النواس في قوله " أو كالحديث المعاد " هكذا ورد قول البحتري أيضا
( رَكِبُوا الْفُرَاتَ إِلَى الْفُرَاتِ وَأمَّلُوا ... جَذْلاَنَ يُبْدِعُ فِي السَّمَاحِ وَيُغْرِبُ ) أخذه من مسلم بن الوليد في قوله
( رَكِبْتُ إلَيْهِ الْبَحْرَ فِي مُؤْخِرَاتِهِ ... فَأَوْفَتْ بِنَا مِنْ بَعْدِ بَحْرٍ إلَى بَحْرِ ) إلا البحتري زاد عليه بقوله جذلان يبدع في السماح ويغرب وكذلك ورد قول أبي النواس
( وَلَيْسَ لله بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمَعَ الُعَالَمَ فِي وَاحِدِ ) وهذا البيت قد لهج به الناس لهجا كثيرا ومنهم من ظنه مبتدعا لأبي نواس ويحكي عن أبي تمام أنه دخل على ابن أبي داود فقال له أحسبك عاتبا يا أبا
تمامِ فقال إنما يعتب على واحد وأنت الناس جميعاِ قال من أين هذه يا أبا تمام ؟ قال من قول الحاذق أبي نواسِ وأنشده البيتِ وهذه الحكاية عندي موضوعة لأن أبا تمام كان عارفا بالشعرِ حتى إنه قال لم أنظم شعرا حتى حفظت سبعة عشر ديوانا للنساء خاصة دون الرجال وما كان يخفى عنه أن هذا المعنى ليس لأبي نواس وإنما هو مأخوذ من قول جرير
( إِذَا غَضِبَتْ عَلَيْكَ بَنُو تَمِيمٍ ... حَسِبْتَ النَّاسَ كُلَّهُمُ عضَابَا ) إلا أن أبا نواس زاده زيادة حسنة وذاك أن جريرا جعل الناس كلهم بني تميم وأبا نواس جعل العالم كله في واحد وذلك أبلغ
ومما ينتظم في هذا السلك قول الفرزدق
( عَلاَمَ تَلَفَّتِينَ وَأَنْتِ تَحْتِي ... وَخَيْرُ النَّاسِ كُلِّهُم أَمَامِي )
( مَتَى تَأْتِي الرُّصَافَةَ تَسْتَرِيحي ... مِنَ الأَنْسَاعِ وَالدَّبَرِ الدَّوَامي ) أخذه أبو نواس فصار أملك به وأحسن فيه غاية الإحسان فقال
( وَإِذَا المَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّداً ... فَظُهُورُهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامُ ) فالفرزدق قال " تستريحي من الأنساع والدبر الدوامي " وليست استراحتها بمانعة من معاودة إتعابها مرة أخرى وأما أبو نواس فإنه حرم ظهورهن على الرجال أي أنها تعفى من السفر إعفاء مستمرا ولا شك أن أبا نواس لم يتنبه لهذه الزيادة إلا من فعل العرب في السائبة والبحيرة
وعلى هذا الأسلوب ورد قول المتنبي
( وَمَلْمُومَةٍ زَرَدُُ ثَوْبُها ... وَلكِنَّهُ بِالْقَنَا مُخْمَلُ ) أخذه من أبي نواس في قوله
( أَمَامَ خَمِيسٍ أُرْجُوَانٍ كَأَنَّهُ ... قَمِيصٌ مَحُوكُُ مِنْ قَناً وَجِيَادِ ) فزاد أبو الطيب زيادة صار بها أحق من أبي نواس بهذا المعنى
وكذلك قال أبو الطيب المتنبي
( وَإِنْ جادَ قَبْلَكَ قَوْمُُ مَضَوْا ... فَإِنَّكَ في الْكَرَمِ الأَوَّلُ ) فأخذته أنا وزدت عليهفقلت
( أَنْتَ في الجُودِ أَوَّلُُ وَقَضَى اللهُ بِاَلاَّ يُرَى الدَّهْرَ ثَانِ ) وهذا النوع من السرقات قليل الوقوع بالنسبة إلى غيره
الضرب السابع من السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيكسى عبارة أحسن من العبارة الأولى
وهذا هو المحمود الذي يخرج به حسنه عن باب السرقةفمن ذلك قول أبي تمام
( جَذْلاَنُ مِنْ ظَفَرٍ حَرَّانُ إنْ رَجَعَتْ ... مَخْضُوبَةً مِنْكُمُ أظْفَارُهُ بِدَمِ ) أخذه البحتريفقال
( إذَا احْتَرَبَتْ يَوْماً فَفَاضَتْ دِمَاؤُهَا ... تَذَكَّرَتِ الْقُرْبَى فَفَاضَتْ دُمُوعُهَا ) ومن هذا الأسلوب قولهما أيضافقال أبو تمام
( إنَّ الْكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلُّوا وَإِنْ كَثُرُوا ) وقال البحتري
( قَلَّ الْكِرَامُ فَصَارَ يَكْثُرُ مَدُّهُمْ ... وَلَقَدْ يَقِلُّ الشَّيءُ حَتَّى يَكْثُرَا )
وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس
( يَدُلُّ عَلَى مَا فِي الضَّمِيرِ مِنَ الْفَتَى ... تَقَلُّبُ عَيْنَيهِ إلَى شَخْصِ مَنْ يَهْوَى ) أخذه أبو الطيب المتنبيفقال
( وَإذَا خَامَرَ الْهَوَى قَلْبَ صَبٍّ ... فَعَلَيْهِ لِكُلِّ عَيْنٍ دَلِيلُ )
ومما ينتظم في هذا السلك قول أبي الطيب المتنبي
( إذَا مَا ازْدَدْتُ مِنْ بَعْدِ التِّنَاهِي ... فَقَدْ وَقَعَ انْتِقَاصِي فِي ازْدِيَادِ ) أخذه ابن نباتة السعديفقال
( إذا كان نُقْصَانُ الْفَتَى مِنْ تَمَامِهِ ... فَكُلُّ صَحِيحٍ في الأَنَامِ عَلِيلُ ) وكذلك ورد قول أبي العلاء بن سليمان في مرثية
( وَمَا كلفة الْبَدْرِ المُنٍيرِ قَدِيمَةُُ ... وَلكِنَّهَا في وَجْهِهِ أَثَرُ اللَّطْمِ ) أخذه الشاعر المعروف بالقيسراني فقال
( وَأهْوى الَّتِي أَهْوى لَها الْبَدْرُ سَاجِداً ... أَلستَ تَرَى في وَجْهِ أَثَرَ التُّرْبِ ) وكذلك قول ابن الرومي
( إذا شنئت عَيْنُ امْرِيءٍ شَيْبَ نَفسه ... فَعَيْنُ سوَاهُ بِالشَّنَاءةِ أَجْدَرُ ) أخذه من تأخر زمانه عنهفقال
( إِذَا كَانَ شَيْبِي بَغِيضاً إلىَّ ... فَكَيْفَ يَكُونُ إِلَيْهَا حَبِيبَا )
ومما ينخرط في هذا السلك قول بعضهم
( مُخَصَّرةُ الأَوْسَاطِ زَانَتْ عُقُودَهَا ... بِأحسنَ مِمَّا زَيَّنتْها عُقُودهَا ) أخذه أبو تمامفقال
( كَأَنَّ عَلَيها كُلَّ عِقْدِ مَلاَحَةً ... وحُسْناً وَإنْ أَضْحَتْ وَأَمْسَتْ بِلاَ عِقْدِ ) ثم أخذه البحتريفقال
( إذَا أَطْفَأَ الْياقُوت إشرَاقُ وَجْهِهَا ... فإِنَ عَنَاءً ما تَوَخت عقودها ) أمثال هذا كثيرة وفيما أوردناه مقنع
الضرب الثامن من السلخ وهو أن يؤخذ المعنى ويسبك سبكا موجزا وذلك من أحسن السرقاتلما فيه من الدلالة على بسطة الناظم في القول وسعة باعة في البلاغةفمن ذلك قول بشار
( مَنْ رَاقَبَ النَّاس لَمْ يَظْفَرْ بِحَاجَتِهِ ... وَفَازَ بِالطيِّبَاتِ الْفَاتِكُ اللَّهِجُ ) أخذه سلم الخاسر وكان تلميذه فقال
( مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمًّا ... وَفَازَ بِالَّلذَّةِ الجَسُورُ ) فبين البيتين لفظتان في التأليف
ومن هذا الأسلوب قول أبي تمام
( برَّزْتَ في طَلَب المَعَالي وَاحِداً ... فِيها تَسيرُ مُغَوِّراً وَمُنَجِّدَا )
( عَجَبٌ بِأَنَّكَ سَالِمٌ في وَحْشَةٍ ... في غايةٍ مَا زِلْتَ فيها مُفْرَداَ )
أخذه ابن الروميفقال
( غَرَّبَتْهُ الخَلاَئِقُ الزُّهْرُ في النَّاسِ ... وَمَا أَوْحَشَتْهُ بِالتَّغْريِبِ ) وكذلك ورد قول أبي نواس
( وَكَّلتُ بِالدَّهرِ غَيْرَ غَافِلةٍ ... مِنْ جُودِ كَفِّكَ تأْسو كُلَّ مَا جَرَحا ) أخذه ابن الروميفقال
( الدَّهْرُ يُفسِدُ مَا اسَتَطَاعَ وَأَحْمَدٌ ... يَتَتبَّعُ الإِفسَادَ بِالإِصْلاَحِ ) وعلى هذا ورد قول ابن الرومي
( كَأنِّي أَسْتدنِي بِكَ ابْنَ حنية ... إذَا النَّزْعُ أدْنَاهُ مِنَ الصَّدْرِ أبْعَدَا ) أخذه بعض شعراء الشام وهو ابن قسيم الحمويفقال
( فَهْوَ كَالسَّهْمِ كَلَّمَا زِدْتَه مِنْكَ دُنُوًّا بِالنَّزْعِ زَادَكَ بُعْدَا ... ) ولقيت جماعة من الأدباء بالشام ووجدتهم يزعمون أن ابن قسيم هو الذي ابتدع هذا المعنى وليس كذلك وإنما هو لابن الرومي
ومما يجري هذا المجرى قول أبي العتاهية
( وَإِني لَمَعْذُورُُ عَلَى فَرْطِ حُبِّهَا ... لأَنَّ لَهَا وَجْهَا يَدُلُّ عَلَى عُذْرِي ) أخذه أبو تمامفقال
( لَهُ وَجْهٌ إذَا أبْصَرْتَهُ ... نَاجَاكَ عَنْ عُذْرِي ) فأوجز في هذا المعنى غاية الإيجاز
ومما يجري على هذا النهج قول أبي تمام
( كَانَتْ مُسَاءلَةُ الرُّكْبَانِ تُخْبِرُنِي ... عَنْ أحْمَدَ بْن سَعِيدٍ أَطْيَبَ الْخَبَرِ )
( حَتَّى الْتَقَيْنَا فَلاَ وَاللهِ مَا سَمِعَتْ ... أدْنِي بِأَحسَنَ مِمَّا قَدْ رَأَى بَصَرِي ) أخذه أبو الطيب المتنبي فأوجزِحيث قال
( وَأَسْتَكْبِرُ الأَخْبَارَ قَبْلَ لِقَائِهِ ... فَلَما الْتَقَيْنَا صَغَّرَ الْخَبَرَ الْخُبْرُ ) وكذلك قولهما في موضع آخرفقال أبو تمام
( كَمْ صَارِماً عَضْباً أَنَافَ عَلَى قَفاً ... مِنْهُمْ لأَعْبَاءِ الْوَغَى حَمَّالِ )
( سَبَقَ المَشِيبَ إليهِ حَتَّى ابْتَزَّهُ ... وَطَنَ النُّهَى مِنْ مَفْرِقٍ وَقَذَالِ ) أخذه أبو الطيب فزاد وأحسنحيث قال
( يُسَابِقُ الْقَتْلُ فِيهِمْ كُلَّ حَادِثَةٍ ... فَمَا يُصِيبُهُمْ مَوْتُُ وَلاَ هَرَمُ ) ومن هذا الضرب قول بعض الشعراء
( أمِنْ خَوْفِ فَقْرٍ تَعَجَّلْتَهُ ... وَأَخَّرْتَ إنْفَاقَ مَا تَجْمَعُ )
( فصرْتَ الْفَقِيرَ وَأَنتَ الْغَنِيُّ ... وَمَا كُنْتَ تَعْدُو الَّذي تَصْنَعُ ) أخذه أبو الطيب المتنبيفقال
( وَمَنْ يُنْفِقِ السَّاعَاتِ في جَمْعِ مَالِهِ ... مَخَافَةَ فَقْرٍ فَالَّذِي فَعَلَ الْفَقْرُ )
الضرب التاسع من السلخ وهو أن يكون المعنى عاما فيجعل خاصا أو خاصا فيجعل عاما وهو من السرقات التي يسامح صاحبهافمن ذلك قول الأخطل
( لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتي مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظِيمُ ) أخذه أبو تمامفقال
( أألُومُ مَنْ بَخِلَتْ يَدَاهُ وَأغْتَدِي ... لِلْبُخلِ تِرْباً ؟ سَاء ذَاكَ صَنِيعَا ) وهذا من العام الذي جعل خاصاألا ترى أن الأول نهى عن الإتيان بما ينهى عنه مطلقا وجاء بالخلق منكرا فجعله شائعا في بابهوأما أبو تمام فإنه خصص ذلك بالبخل وهو خلق واحد من جملة الأخلاق
وأما جعل الخاص عاما فكقول أبي تمام
( وَلَوْ حَارَدَتْ شُولُُ عَذَرْتُ لِقَاحَهَا ... وَلكن مُنِعْتُ الدَّرَّ والضَّرْعُ حَافِلُ ) أخذه أبو الطيب المتنبي فجعله عاما إذ يقول
( وَما يُؤْلِمُ الْحِرمانُ مِنْ كَفِّ حارِم ... كَمَا يُؤلِمْ الحِرمَانُ مِنْ كَفِّ رَازِقِ )
الضرب العاشر من السلخ وهو زيادة البيان مع المساواة في المعنىوذلك بأن يؤخذ المعنى فيضرب له مثال يوضحه فمما جاء منه قول أبي تمام
( هُوَ الصُّنعُ إن يَعْجل فَنَفعٌ وإنْ يَرِثْ ... فَلَلَّريْثُ فِي بَعْضِ المَوَاطِنِ ) أخذه أبو الطيب فأوضحه بمثال ضربه له وذلك قوله
( وَمِنَ الْخَيرِ بُطْءُ سَيْبِكَ عنِّي ... أسْرَعُ السُّحْبِ فِي المَسِيرِ الْجَهَامُ ) وهذا من المبتدع لا من المسروق وما أحسن ما أتى بهذا المعنى في المثال المناسب له ! وكذلك قولهما في موضع آخرفقال أبو تمام
( قَدْ قَلَّصَتْ شَفَتاهُ مِنْ حَفِيظَتِهِ ... فَخيلَ مِنْ شِدَّةِ التَّعْبِيسِ مُبْتَسِمَا ) أخذه أبو الطيب المتنبي فقال
( وَجَاهِلٍ مَدَّهُ فِي جَهْلِهِ ضَحِكِي ... حَتَّى أتَتْهُ يَدٌ فَرَّاسَةُُ وَفَمُ )
( إذا رَأيت نُيُوبَ الَّليْثِ بارِزَةً ... فَلاَ تظُنَّنَّ أنَّ الَّليثَ مُبْتَسِمُ ) ومما ينخرط في هذا السلك قول أبي تمام
( وَكَذاكَ لَمْ تُفْرِطْ كَآبَةُ عَاطِلٍ ... حَتَّى يُجاوِرها الزَّمانُ بِحالِ ) أخذه أبو عبادة البحتريفقال
( وَقدْ زَادَها إفرَاطَ حُسْنٍ جَوَارُهَا ... لأَخْلاَقِ أَصْفَار مِنَ المَجْدِ خيب )
( وحُسْنُ دَرَاريِّ الْكَوَاكِبِ أن تُرَى ... طَوَالِعَ في دَاجٍ مِنَ الَّليْلِ غَيْهَبِ ) فإنه أتى بالمعنى مضروبا له هذا المثال الذي أوضحه وزاده حسنا
الضرب الحادي عشر من السلخ وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد ومثاله أن يسلك الشاعران طريقا واحدة فتخرج بهما إلى موردين او روضتين وهناك يتبين فضل أحدهما على الآخر
فمما جاء من ذلك قول أبي تمام في مرثية بولدين صغيرين
( مَجْدٌ تَأَوَّبَ طَارِقَاً حَتَّى إِذَا ... قُلْنَا أَقَامَ الدَّهْرَ أَصْبَحَ رَاحِلاَ )
( نَجْمَانِ شَاء اللهُ أَلاَّ يَطْلُعَا ... إِلاَّ ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حَتَّى يَأْفُلاَ )
( إِنَّ الْفَجِيعَةَ بِالرِّيَاضِ نَوَاضِراً ... لأَجَلٌّ مِنْهَا بِالرِّيَاضِ ذَوَابِلاَ )
( لَهْفِي عَلَى تِلْكَ الشَّواهِدِ فِيهِمَا ... لَوْ أُخِّرَتْ حَتَّى تَكُونَ شَمَائِلاَ )
( إِنَّ الْهِلاَلَ إذا رَأَيْتَ نُمُوَّهُ ... أَيْقَنْتَ أَنْ سَيَكُونُ بَدْراً كَامِلاَ )
( قُلْ لِلأَمِيرَ وَإِنْ لَقِيتَ موقرا ... مِنْهُ يَرِيبُ الْحَادِثَاتِ حُلاَحِلاَ )
( إِنْ تُرْزَ فِي طَرَفَيْ نَهَارٍ وَاحِدٍ ... رُزْأيْنِ هَاجَا لَوْعَةً وَبَلاَبِلاَ )
( فالثقل لَيْسَ مُضَاعَفَاً لِمَطِيَّةٍ ... إِلاَّ إِذا مَا كَانَ وَهْماً بَازِلاَ )
( لاَ غَرْوَ إِنْ فَنَنَانِ مِنْ عِيِدَانِهِ ... لَقِيَا حِمَاماً لِلْبَرِيَّةِ آكِلاَ )
( إِنَّ الأَشَاءَ إِذا أَصَابَ مُشَذِّبٌ ... مِنْهُ اتْمَهَلَّ ذُراً وَأَثَّ أَسَافِلاَ )
( شَمَخَتْ خِلاَلُكَ أَنْ يُوَاسِيَكَ امْرُؤُُ ... أوْ أنْ تُذَكَّرَ نَاسِياً أوْ غَافِلاَ )
( إلا مَوَاعِظُ قَادَهَا لَكَ سَمْحَةُُ ... إسْجَاحُ لُبِّكَ سَامِعاً أوْ قَائِلاَ )
( هَلْ تَكْلَفُ الأْيْدِي بِهَزِّ مُهَنَّدٍ ... إلاَّ إذَا كَانَ الْحُسَامَ الْقَاصِلاَ ) وقال أبو الطيب في مرثية بطفل صغير
( فَإن تَكُ فِي قَبْرٍ فَإِنَّكَ فِي الْحَشَا ... وَإنْ تَكُ طِفلاً فَالأسى لَيْسَ بِالطِّفلِ )
( وَمِثْلُكَ لاَ يُبْكَى عَلَى قَدْرِ سِنِّه ... وَلكِنْ عَلَى قَدْرِ الْفراسةِ والأَصْلِ )
( أَلَسْتَ مِنَ الْقومِ الَّذي مِن رِماحِهِم ... نداهُمْ وَمِنْ قَتْلاَهُمُ مُهْجَةُ الْبُخْلِ )
( بمولُودِهِمْ صَمْتُ اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ ... وَلكِنَّ في أعْطَافِهِ مَنْطِقِ الْفَصْلِ )
( تُسَلِّيهِمُ عَلْيَاؤُهُمْ عَنْ مُصابِهِمْ ... وَيَشْغَلُهُم كَسْبُ الثَّنَاءِ عَنِ الشُّغْلِ )
( عَزَاءكَ سَيْفَ الدَّوْلَةِ الْمُقْتدَى بهِ ... فَإنَّك نَصْلُُ وَالشَّدَائدُ لِلنَّصلِ )
( تَخُونُ المَنَايَا عَهْدَهُ في سَليلِهِ ... وَتَنْصُرُه بَيْنَ الْفَوَارِسِ وَالرَّجْلِ )
( بِنَفْسِي وَليدٌ عَادَ مِنْ بَعدِ حَمْلِهِ ... إلى بَطْنِ أُمٍّ لاَ تُطَرِّقُ بِالْحَمْلِ )
( بَدَا ولَهُ وَعْدُ السَّحابَةِ بِالرِّوَى ... وَصَدَّ وَفِينَا غُلَّةُ الْبَلدِ الْمَحْلِ )
( وَقدْ مَدَّتِ الْخَيْلُ الْعِتاقُ عُيُونَهَا ... إلَى وَقْتِ تَبْدِيلِ الرِّكابِ مِنَ النَّعْلِ )
( وَريعَ لَهُ جَيْشُ العدُوِّ وَمَا مَشَى ... وجَاشَتْ لَهُ الْحَرْبُ الضَّرُوسُ وَمَا تَغْلِي ) فتأمل أيها الناظم إلى ما صنع هذان الشاعران في هذا المقصد الواحد وكيف هام كل واحد منهما في واد منه مع اتفاقهما في بعض معانيه ؟
وسأبين لك ما اتفقا فيه وما اختلفا وأذكر الفاضل من المفضول فأقول أما الذي اتفقا فيه فإن أبا تمام قال
( لَهَفِي عَلَى تِلْكَ الشَّوَاهِدِ فِيهِما ... لَوْ أُخِّرَتْ حَتَّى تَكُونَ شَمَائِلاَ ) وأما أبو الطيب فإنه قال
( بِمَوْلودِهِمْ صَمْتُ اللِّسَانِ كَغَيْرِهِ ... وَلكِنَّ في أَعْطافِهِ مَنْطِقَ الْفَضْلِ ) فأتى بالمعنى الذي أتى به أبو تمام وزاد عليه بالصناعة اللفظية وهي المطابقة في قوله " صمت اللسان ومنطق الفصل "
وقال أبو تمام
( نَجْمَانِ شَاءَ اللهُ أَلاَّ يَطْلُعَا ... إلا ارْتِدَادَ الطَّرْفِ حَتَّى يَأْفُلاَ ) وقال أبو الطيب
( بَدَا وَلَهُ وَعْدُ السَّحَابَةِ بِالرِّوَى ... وَصَدَّ وَفِينَا غُلَّةُ الْبَلَدِ الْمَحْل ) فوافقه في المعنى وزاد عليه بقوله
( وَصَدَّ فَيِنَا غُلَّةُ الْبَلَدِ الْمَحْلِ ) لأنه بين قدر حاجتهم إلى وجوده وانتفاعهم بحياته
وأما ما اختلفنا فيه فإن أبا الطيب أشعر فيه من أبي تمام أيضا وذاك أن معناه أمتن من معناه ومبناه أحكم من مبناه وربما أكبر هذا القول جماعة من المقلدين الذين يقفون مع شبهة الزمان وقدمه لا مع فضيلة القول وتقدمه وأبو تمام وإن كان أشعر عندي من أبي الطيب فإن أبا الطيب أشهر منه في هذا الموضعوبيان ذلك أنه قد تقدم القول على ما اتفقا فيه من المعنى وأما الذي اختلفا فيه فإن أبا الطيب قال
( عَزاءك سَيْفَ الدَّوْلَةِ المُقْتَدَى بِهِ ... فَإِنَّكَ نَصْلُُ وَالشَّدَائِدُ لِلنَّصْلِ )
وهذا البيت بمفرده خير من بيتي أبي تمام اللذين هما
( إنْ تُرْزَ في طَرَفِيْ نَهَارٍ وَاحِدٍ ... رُزْأَيْنِ هَاجَا لَوْعَةً وَبَلاَبِلاَ )
( فالثقل ليس مُضَاعَفاً لِمَطِيَّةٍ ... إلاَّ إِذَا مَا كَانَ وَهْمَاً بَازِلاَ ) فإن قول أبي الطيب " والشدائد للنصل " أكرم لفظا ومعنى من قول أبي تمام إن الثقل إنما يضاعف من المطايا وقوله أيضا
( تَخُونُ المَنَايَا عَهْدَهُ فِي سَلِيلِهِ ... وَتَنْصُرُهُ بَيْنَ الفَوَارِس ِوَالرَّجْلِ ) وهذا أشرف من بيتي أبي تمام اللذين هما
( لاَغَرْوَ إنْ فَنَنَانِ مِنْ عِيدَانِهِ ... لَقِيَا حِمَاماً لِلْبَرِيَّةِ آكِلاَ )
( إنَّ الأَشَاءَ إذَا أَصَابَ مُشَذَّبٌ ... مِنْهُ اتْمَهَلَّ ذُراً وأثَّ أسَافِلاَ ) وكذلك قال أبو الطيب
( أَلَسْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِي مِنْ رِمَاحِهِمْ ... نَدَاهُمْ وَمِنْ قَتْلاَهُمُ مُهْجَةُ الْبُخْلِ )
( تُسَلِّيهِمُ عَلْيَاؤُهُمْ عَنْ مُصَابِهِمْ ... وَيَشْغَلُهُمْ كَسْبُ الثَّنَاءِ عَنِ الشُغْلِ ) وهذان البيتان خير من بيتي أبي تمام اللذان هما
( شَمَخَتْ خِلاَلُكَ أَنْ يُوَاسِيَكَ امْرُؤٌ ... أَوْ أَنْ تُذَكَّرَ نَاسِياً أَو غَافِلاً )
( إلاَّ مَواعِظَ قَادَهَا لَكَ سَمْحَةً ... إسْجَاحُ لُبِّكَ سَامِعاً أَوْ قَائِلاَ ) واعلم أن التفضيل بين المعنيين المتفقين أيسر خطبا من التفصيل بين المعنيين المختلفين
وقد ذهب قوم إلى منع المفاضلة بين المعنيين المختلفينِ واحتجوا على ذلك بأن قالوا المفاضلة بين الكلامين لا تكون إلا باشتراكهما في المعنىفإن اعتبار التأليف في نظم الألفاظ لا يكون إلا باعتبار المعاني المندرجة تحتها فما لم يكن بين الكلامين اشتراك في المعنى حتى يعلم مواقع النظم في قوة ذلك المعنى
أو ضعفه واتساق ذلك اللفظ أو اضطرابهِ وإلا فكل كلام له تأليف يخصه بحسب المعنى المندرج تحته وهذا مثل قولنا العسل أحلى من الخل فإنه ليس في الخل حلاوة حتى تقاس حلاوة العسل عليها
وهذا القول فاسد فإنه لو كان ما ذهب إليه هؤلاء من منع المفاضلة حقا لوجب أن تسقط التفرقة بين جيد الكلام ورديئه وحسنه وقبيحهِ وهذا محالِ وإنما خفي عليهم ذلك لأنهم لم ينظروا إلى الأصل الذي تقع المفاضلة فيه سواء اتفقت المعاني أو اختلفت ومن ههنا وقع لهم الغلط
وسأبين ذلك فأقول من المعلوم أن الكلام لا يختص بمزية من الحسن حتى تتصف ألفاظه ومعانيه بوصفين هما الفصاحة والبلاغة فثبت بهذا أن النظر إنما هو في هذين الوصفين اللذين هما الأصل في المفاضلة بين الألفاظ والمعاني على اتفاقهما واختلافهما فمتى وجدا في أحد الكلامين دون الآخر أو كانا أخص به من الآخر حكم له بالفضل
وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج في تفضيل الشعر أشياء تتضمن خبطا كثيراِ وهو مروي عن علماء العربية لكن عذرتهم في ذلك فإن معرفة الفصاحة والبلاغة شيء خلاف معرفة النحو والإعراب
فمما وقفت عليه أنه سئل أبو عمرو بن العلاء عن الأخطل فقال لو أدرك يوما واحدا من الجاهلية ما قدمت عليه أحدا وهذا تفضيل بالإعصارِ لا بالأشعارِ وفيه ما فيهِ ولولا أن أبا عمرو عندي بالمكان العلى لبسطت لساني في هذا الموضع
وسئل جرير عن نفسه وعن الفرزدق والأخطل فقال أما الفرزدق ففي يده نبعة من الشعر وهو قابض عليهاِ وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للقرائضِ وأما أنا فمدينة الشعر وهذا القول في التفضيل قول إقناعي لا يحصل منه على تحقيقِ لكنه أقرب حالا مما روي عن أبي عمرو بن العلاء
وسئل الأخطل عن أشعر الناسِ فقال الذي إذا مدح رفعِ وإذا هجا وضعف فقيل فمن ذاك ؟ الأعشىِ قيل ثم من ؟ قال طرفة وهذا قول فيه بعض
التحقيق إذ ليس كل من رفع بمدحه ووضع بهجائه كان أشعر الناس لأن المعاني الشعرية كثيرة والمدح والهجاء منها
وسئل الشريف الرضي عن أبي تمام وعن البحتري وعن أبي الطيب فقال أما أبو تمام فخطيب منبر وأما البحتري فواصف جؤذر وأما فقاتل عسكر وهذا كلام حسن واقع في موقعهفإنه وصف كلا منهم بما فيه من غير تفضيل
ويروى عن بشار أنه وصف نفسه بجودة الشعر والتقدم على غيره فقيل له ولم ذاك ؟ فقال لأني نظمت اثني عشر ألف قصيدة وما تخلو واحدة منهن من بيت واحد جيد فيكون لي حينئذ اثنا عشر ألف بيتوقد تأملت هذا القول فوجدته على بشار لا لهلأن باقلا الذي يضرب به المثل في العي لو نظم قصيدا لما خلا من بيت واحد جيد ومن الذي ينظم قصيدا واحدا من الشعر ولا يسلم له منه بيت واحد ؟ ! لكن كان الأولى ببشار أن قال لي اثنتا عشرة ألف قصيدة ليس واحدة منهن إلا وجيدها أكثر من رديئها وليس في واحدة منهم ما يسقطفإنه لو قال ذلك وكان محقا لاستحق التقدم على الشعراء ومع هذا فقد وصل إلي ما في أيدي الناس من شعره مقصدا ومقطعا فما وجدته بتلك الغاية التي إدعاها لكن وجدت جيده قليلا بالنسبة إلى رديئة وتندر له الأبيات اليسيرة
وبلغني عن الأصمعي وأبو عبيد وغيرهما أنهم قالوا هو أشعر الشعراء المحدثين قاطبة وهم عندي معذورونلأنهم ما وقفوا على معاني أبي تمام ولا على معاني أبي الطيب ولا وقفوا على ديباجة أبي عبادة البحتري وهذا الموضع لا يستفتى فيه علماء العربية وإنما يستفتى فيه كاتب بليغ أو شاعر مفلقفإن أهل كل علم أعلم به وكما لا يسأل الفقيه عن مسألة حسابية فكذلك لا يسأل الحاسب عن مسألة فقيهة وكما لا يسأل أيضا النحوي عن مسألة طيبة فكذلك لا يسأل الطبيب عن مسألة نحوية ولا يعلم كل علم إلا صاحبه الذي قلب ظهره لبطنه وبطنه لظهره
على أن علم البيان من الفصاحة والبلاغة محبوب إلى الناس قاطبة ما من أحد إلا ويحب أن يتكلم فبه حتى إني رأيت أجلاف العامة ممن لم يخط بيده
ورأيت أغتام الأجناس ممن لا ينطق بالكلمة صحيحة كلهم يخوض في فن الكتابة والشعر ويأتون فيه بكل مضحكة وهم يظنون أنهم عالمون به ولا لوم عليهم فإنه بلغني عن ابن الأعرابي وكان من مشاهير العلماء - أنه عرض عليه أرجوزة أبي تمام اللامية التي مطلعها
( وَعَاذِلٍ عَذَلْتُهُ ؟ في عَذْلِهِ ... ) وقيل له هذه لفلان من شعراء العرب فاستحسنها غاية الاستحسان وقال وهذا هو الديباج الخسرواني ثم استكتبها فلما أنهاها قيل له هذه لأبي تمامفقال من أجل ذلك أرى عليها أثر الكلفة ثم ألقى الورقة من يده وقال يا غلام خرق فإذا كان ابن الأعرابي مع علمه وفضله لايدري أي طرفيه أطول في هذا الفن ولا يعلم أين يضع يده فيه ويبلغ به الجهل إلى أن يقف مع التقليد الشنيع الذي هذا غايته فما الذي يقول غيره ؟ ! وما الذي يتكلم فيه سواه ؟ ! والمذهب عندي في تفضيل الشعراء أن الفرزدق وجريرا والأخطل أشعر العرب أولا وآخرا ومن وقف على الأشعار ووقف على دواوين هؤلاء الثلاثة علم ما أشرت إليه ولا ينبغي أن يوقف مع شعر امريء القيس وزهير والنابغة والأعشىفإن كلا من أولئك أجاد في معنى اختص به حتى قيل في وصفهم امرؤ القيس إذا ركب والنابغة إذا رهب وزهير إذا رغب والأعشى إذا شرب وأما الفرزدق وجرير والأخطل فإنهم أجادوا في كل ما أتوا من المعاني المختلفة وأشعر منهم عندي الثلاثة المتأخرون وهم أبو تمام وأبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبيفإن هؤلاء الثلاثة لا يدانيهم مدان في طبقة الشعراء أما أبو تمام وأبو الطيب فربا المعاني وأما أبو عبادة فرب الألفاظ في ديباجتها وسبكها
وبلغني أن أبا عبادة البحتري سأل ولده أبا الغوث عن الفرزدق وجرير أيهما أشعر فقال جرير أشعر قال وبم ذلك ؟ قال لأن حوكه شبيه بحوكك قال ثكلتك أمك ! أو في الحكم عصبية ؟ قال يا أبت ؟ فمن أشعر ؟ قال الفرزدق قال ومن ذاك ؟ قال لأن أهاجي جرير كلها تدور على أربعة أشياء هي القين والزنا وضرب الرومي بالسيف والنفي من المسجد ولا يهجو الفرزدق بسوى
ذلك وأما الفرزدق فإنه يهجو جريرا بأنحاء مختلفة ففي كل قصيد يرميه بسهام غير السهام التي يرميه بها في القصيد الآخروأنا أستكذب راوي هذه الحكاية ولا أصدقهفإن البحتري عندي ألب من ذلك وهو عارف بأسرار الكلام خبيرا بأوساطه وأطرافه وجيده ورديئه وكيف يدعي على جرير أنه لم يهجو الفرزدق إلا بتلك المعاني الأربعة التي ذكرها وهو القائل
( لَمَّا وَضَعْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ مِيسَمِي ... وَعَلَى الْبَعِيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأَخْطَلِ ) فجمع بين هجاء هؤلاء الثلاثة في بيت واحد
ولقد تأملت كتاب النقائض فوجدت جريرا رب تغزل ومديح وهجاء وافتخار وقد كسا كل معنى من هذه المعاني ألفاظا لائقة به ويكفيه من ذلك قوله
( وَعَاوٍ عَوَى مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ رَمَيْتُهُ ... بِقافِيَةٍ أَنْفَاذُهَا تَقْطُرُ الدَّمَا )
( وإِنِّي لَقَوَّالُُ لِكُلِّ غَرِيبَةٍ ... وَرُودٍ إِذا السَّارِي بِلَيْلٍ تَرَنَّمَا )
( خَرُوجٌ بِأفْوَاهِ الرُّوَاةِ كَأنَّها ... شَبَا هُنْدُوانيٍّ إذَا هُزَّ صَمَّمَا )
( غَرَائِبُ آلاَفُُ إذَا حَانَ وِرْدُهَا ... أخَذْنَ طَرِيقاً لِلْقَصائِدِ مُعْلَمَا ) ولو لم يكن لجرير سوى هذه الأبيات لتقدم بها الشعراء وسأذكر من هجاء الفرزدق ما ليس فيه شيء من تلك المعاني الأربعة التي أشار البحتري إليهافمن ذلك قوله
( وَقَدْ زَعَمُوا أنَّ الْفَرَزْدَقَ حَيَّةُُ ... وَمَا قَتَلَ الْحَيَّاتِ مِنْ أَحَدٍ قَبْلِي )
( أَلَمْ تَرَ أَنِّي لاَ أُنَبِّلُ رَمْيَتي ... فَمَنْ أَرْمِ لاَ تُخْطِيءْ مَقَاتِلَهُ نَبْلِي )
( رَأَيْتُكَ لاَ تَحْمِي عِقَالاً وَلَمْ تَرُد ... قِتَالاً فَمَا لاَقَيْتَ شَرُُّ مِنَ القَتْلِ ) وقوله
( أَبْلِغْ هَديَّتِيَ الْفَرَزْدَقَ إِنَّهَا ... عِبْءُُ تُزَادُ عَلَى حَسِيرٍ مُثْقَلِ )
( إنِّي انْصَبَبْتُ مِنَ السَّماءِ عَلَيْكُمُ ... حَتَّى اخْتَطَفْتُكَ يَا فَرَزْدَقُ مِنْ عَلِ ) وقوله
( زَعَمَ الْفَرَزدقُ أَنْ سَيَقْتُلُ مِرْبَعاً ... أَبْشِرْ بِطُولِ سَلاَمَةٍ يَا مِربَعُ )
( وَرأَيْتُ نَبْلَكَ يَا فَرَزْدَقُ قَصَّرَتْ ... وَرَأَيْتُ قَوْسَكَ لَيْسَ فِيهَا مَنْزَعُ )
( إنَّ الْفَرَزْدَقَ قَدْ تَبيَّنَ لُؤْمُهُ ... حَيْثُ الْتَقَتْ خُشَشَاؤُهُ و الأَخْدَعُ ) وقوله
( أحَارِثُ خُذْ مَنْ شِئْتَ مِنَّا وَمِنهُمُ ... وَدَعْنا نَقِسْ مَجْداً تُعَدُّ فَضَائِلُهْ )
( لَبسْتُ سِلاحِي وَالفرَزْدَقُ لُعْبَةُُ ... عَلَيْهِ وِشَاحاً كُرَّج وَجَلاَجِلُهْ )
( فَلَسْت بِذِي عِزٍّ وَلاَ أَرُومَةٍ ... وَمَا تُعْطَ مِنْ ضَيْمٍ فَإِنَّكَ قَابِلُهْ ) وقوله
( لاَ يَخْفَيَنَّ عَلَيْكَ أنَّ مُجَاشِعاً ... لَوْ يُنْفَخُونَ مِنَ الْخُؤُرَةِ طَارُوا )
( قَدْ يُؤْسَرُونَ فَلا يُفَكُّ أَسِيرُهُمْ ... وَيُقَتَّلُونَ فَتَسْلَمُ الآثَارُ )
وقوله
( بَنٍي مَالِكٍإنَّ الْفَرَزْدق لَمْ يَزَلْ ... يُلقَّى المَخَازِي مِنْ لَدُنْ أَنْ تَيَفَّعَا )
( مَدَدْتُ لَهُ الْغَايَاتِ حَتَّى تَرَكْتُهُ ... قَعُودَ الْقَوَافي ذَا عُلُوبٍ مُوَقَّعَا ) وقوله
( أَلاَ إنَّمَا كَانَ الْفَرَزْدَقُ ثَعْلَباً ... ضَغَا وَهْوَ فِي أَشْدَاقِ لَيْثٍ ضُبَارِمِ ) وقوله
( مَهْلاً فَرَزْدَقُ إنَّ قَوْمَكَ فِيهِمُ ... خَوَرُ الْقُلُوبِ وَخِفَّةُ الأحْلاَمِ )
( الظَّاعِنُونَ عَلَى الْعَمَى بِجَمِيعهِمْ ... وَالنَّازِلُونَ بِشَرِّ دَارِ مُقَامِ ) وقوله
( إذَا سَفَرَتْ يَوْماً نِسَاءُ مُجَاشِعٍ ... بَدَتْ سَوْءةٌ مِمَّا تُجِنُّ الْبَرَاقِعُ )
( مَبَاشيمُ عَنْ غِبِّ الهَرِيرَ كَأَنَّما ... تُصَوِّتُ في أَعْفَاجِهِنَّ الضَّفَادِعُ )
( رَأَتْ مَلَلاً مِثْلَ الْفَرَزْدَقِ قَصَّرَتْ ... عَنِ الْعُلْوِ لاَ يَأْبِى عَنِ الْعُلْوِ بَارِعُ )
( أَتَعْدِلُ أَحْسَاباً كِرَاماً حُماتُهَا ... بِأَحْسَابِهِمْ إنِّي إلى اللهِ رَاجِعُ )
( إذَا قِيلَ أيُّ النَّاسِ شَرُُّ قَبيلَةً ... وَأَعْظَمُ عاراً قِيلَ تِلكَ مُجَاشِعُ )
وقوله
( عَلَقَ الأُخَيْطِلُ في حِباليَ بَعْدَ مَا ... عَثَرَ الْفَرَزْدَقُ لاَ لَعاً لِلْعَاثِرِ )
( لَقِيَ الْفَرَزْدَقُ مَا لَقِيتَ وَقَبْلَهُ ... طَاحَ التَّعِيسُ بِغَيْرِ عِرْضٍ وَافِرِ )
( وَإذَا رَجَوْا أَنْ يَنْقُضُوا لِيَ مِرَّةً ... مَرَسَتْ قُوَايَ عَلَيْهِمُ وَمَرَائِرِي ) ولجرير مواضع كثيرة في هجاء الفرزدق غير هذهولولا خوف الإطالة لاستقصيتها جميعها ولو سلمت إلى البحتري ما زعم من أن جريرا ليس له في هجاء الفرزدق إلا تلك المعاني الأربعة لاعترضت عليه بأنه قد أقر لجرير بالفضيلة وذاك أن الشاعر المفلق أو الكاتب البليغ هو الذي إذا أخذ معنى واحد تصرف فيه بوجوه التصرفات وأخرجه في ضروب الأساليب وكذلك فعل جريرفإنه أبرز من هجاء الفرزدق بالقين كل غريبة وتصرف فيه تصرفا مختلف الأنحاءفمن ذلك قوله
( ألْهَى أَبَاكَ عَنِ المَكَارِمِ وَالعُلا ... لَيُّ الْكَتَائِفِ وَارْتِفَاعُ الْمِرْجَلِ ) قوله
( وُجِدَ الْكَتِيفُ ذَخِيرَةً فِي قَبْرِهِ ... وَالْكَلْبَتَانِ جُمِعْنَ وَالْمِنْشَارُ )
( يَبْكِي صَدَاهُ إِذَا تَصَدَّعَ مِرْجَلُُ ... أَوْ إِنْ تَفَلَّقَ بُرْمَةٌ أعْشَارُ )
( قَالَ الْفَرَزْدَقُ رَقِّعِي أَكْيَارَنَا ... قَالَتْ وَكَيْفَ تُرَقَّعُ الأَكْيَارُ ) وقوله
( إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا ... أَبَانَ المُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ )
( فَأَوْرَثَكَ الْعَلاَةَ وَأَوْرَثُونِي ... رِبَاطَ الْخَيْلِ أَفْنِيَةَ الْقِبَابِ )
( وَسَيْفُ أَبِي الْفَرَزْدَقِ فَاعْلَمُوهُ ... قُدُومُُ غَيْرُ ثَابِتَةِ النِّصَابِ ) فانظر أيها الواقف على كتابي هذا إلى هذه الأساليب التي تصرف فيها جرير وأدارها على هجاء الفرزدق بالقينفقال أولا إن أباه شغل عن المكارم بصناعة القيون ثم قال ثانيا إنه يبكي عليه ويندبه بعد الموت المرجل والبرمة الأعشار التي يصلحها ثم قال ثالثا إن أباك أورثك آلة القيون وأورثني أبي رباط الخيلوقد أورد جرير هذا المعنى على غير هذه الأساليب الذي ذكرتها ولا حاجة إلى التطويل بذلك ههنا وهذا القدر فيه كفاية
وحيث انتهى بنا القول إلى ههنا فلنرجع إلى النوع الذي نحن بصدد ذكره وهو اتحاد الطريق واختلاف المقصد فمما جاء منه قول النابغة
( إِذَا مَا غَزَا بِالْجَيْشِ حَلَّقَ فَوْقَهُ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ )
( جَوَانِحُ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ ... إذَا مَا الْتَقَى الجَمْعَانِ أَوَّلُ غالِبِ ) وهذا المعنى قد توارد عليه الشعراء قديما وحديثاِ وأوردوه بضروب من العبارات فقال أبو نواس
( تَتَمَنَّى الطَّيْرُ غَزْوَتَهُ ... ثِقَةً بالَّلحْمِ مِنْ جُزُرِهْ ) وقال مسلم بن الوليد
( قَدْ عَوَّدَ الطَّيْرَ عَادَاتٍ وَثِقْنَ بِهَا ... فَهُنَّ يَتْبَعْنَهُ فِي كُلِّ مُرْتَحَلِ ) وقال أبو تمام
( وَقَدْ ظُلِّلَتْ أعْنَاقُ أعْلاَمِهِ ضُحًى ... بِعِقْبَانِ طَيْرٍ فِي الدِّمَاءِ نَوَاهِلِ )
( أَقَامَتْ مَعَ الرَّاياتِ حَتَّى كَأَنَّهَا ... مِنَ الْجَيْشِ إلاّ أَنَّهَا لَمْ تُقَاتِلِ ) وقد ذكر في هذا المعنى غير هؤلاءِ إلا أنهم جاءوا بشيء واحد لا تفاضل بينهم
فيهِ إلا من جهة حسن السبك أو من جهة الإيجاز في اللفظِ ولم أر أحدا أغرب في هذا المعنى فسلك هذه الطريق مع اختلاف مقصده إليها إلا مسلم بن الوليدِ فقال
( أَشْرَبْتَ أَرْوَاحَ الْعِدَا وَقُلُوبَهَا ... خَوْفاً فَأَنْفُسُهَا إِلَيْكَ تَطِيرُ )
( لَوْ حَاكَمَتْكَ فَطَالَبَتْكَ بِذَحْلِهَا ... شَهِدَتْ عَلَيْكَ ثَعَالِبٌ وَنُسُورُ ) فهذا من المليح البديع الذي فضل به مسلم غيره في هذا المعنى وكذلك فعل أبو الطيب المتنبي فإنه لما انتهى الأمر إليه سلك هذه الطريق التي سلكها من تقدمه إلا أنه خرج فيها إلى غير المقصد الذي قصدوه فأغرب وأبدع وحاز الإحسان بجملته وصار كأنه مبتدع لهذا المعنى دون غيره فمما جاء من قوله
( يُفَدِّي أَتَمُّ الطَّيرِ عُمْراً سِلاَحَهُ ... نُسُورُ الْمَلاَ أَحْدَاثُهَا وَالْقَشَاعِمُ )
( وَمَا ضَرَّهَا خَلْقٌ بِغَيْرِ مَخَالِبٍ ... وَقَدْ خُلِقَتْ أَسْيَافُهُ وَالْقَوَائِمُ ) ثم أورد هذا المعنى في موضع آخر من شعرهفقال
( سَحَابُُ مِنَ الْعِقْبَانِ تَرْجُفُ تَحْتَهَا ... سَحَابُُ إِذا اسْتَسْقَتْ سَقَتْهَا صَوَارِمُهُ ) وهذا معنى قد حوى طرفي الإغراب والإعجابوقال في موضع آخر
( وَذِي لَجَبٍ لاَ ذُو الْجَنَاحَ أَمَامَهُ ... بِنَاج ٍوَلا الْوَحْشُ الْمُثَارُ بِسَالِمِ )
( تَمُرُّ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهْيَ ضَعِيفَةُُ ... تُطَالِعُهُ مِنْ بَيْنِ رِيشِ الْقَشَاعِمِ )
( إذَا ضَوْؤُهَا لاَقَى مِنَ الطَّيْرِ فَرْجَةً ... تَدَوَّرَ فَوْقَ الْبَيْضِ مِثْل الدَّرَاهِمِ ) وهذا من إعجاز أبي الطيب المشهور ولو لم يكن له من الإحسان في شعره إلا هذه الأبيات لاستحق بها فضيلة التقدم
ومما ينتظم بهذا النوع ما توارد عليه أبو عبادة البحتري وأبو الطيب المتنبي في وصف الأسد وقصيدتاهما مشهورتانفأول إحداهما
( أَجِدَّكَ مَا يَنْفَكُّ يَسْري لِزَيْنَبَا ... ) وأول الأخرى
( في الخَدِّ إنْ عَزَمَ الخَلِيطُ رَحِيلاَ ) أما البحتري فإنه ألم بطرف مما ذكر بشر بن عوانة في أبياته الرائية التي أولها
( أَفاطِمُ لَوْ شَهِدْتِ بِبطْنِ خَبْتٍ ... وَقَدْ لاَقَى الْهَزَبْرُ أَخَاكِ بِشْرا ) وهذه الأبيات من النمط العالي الذي لم يأت أحد بمثلها وكل الشعراء لم تسم قرائحهم إلى استخراج معنى ليس بمذكور فيها ولولا خوف الإطالة لأوردتها بجملتها لكن الغرض إنما هو المفاضلة بين البحتري وأبي الطيب فيما أورداه من المعاني في هذا المقصد المشار إليه فمما جاء للبحتري من قصيدته
( وَما تَنْقِمُ الحُسَّادُ إلاَّ أَصَالَةً ... لَدَيْكَ وَعَزْماً أَرْيَحيٍّا مُهَذَّبَا )
( وَقَدْ جَرَّبوا بِالأَمْسِ مِنْكَ عَزِيمَةً ... فَضَلْتَ بِهَا السَّيْفَ الْحُسَامَ الْمُجَرَّبَا )
( غَدَاةَ لَقِيْتَ اللَّيْثَ واللَّيْثُ مُخْدِرٌ ... يُحَدِّدُ نَاباً للِّقَاءِ وَمِخْلَبَا )
( إذَا شَاءَ غَادَى عَانَةً أَوْعَدَا عَلَى ... عَقَائِلِ سِرْبٍ أَوْ تَقَنَّصَ رَبْرَبَا )
( شَهِدْتُ لَقَدْ أَنْصَفْتَهُ حِين تَنْبَرِي ... لَهُ مُصْلِتاً عَضْباً مِنَ الْبِيضِ مِقْضَبَا )
( فَلَمْ أَر ضِرغَامَيْنِ أصْدَقَ مِنْكُمَا ... عِرَاكاً إدَا الْهَيَّابَةُ النَّكْسُ كَذَّبا )
( هِزَبراً مَشَى يَبْغِي هِزَبْراً وَأَغْلَباً ... مِنَ الْقَوْمِ يَغْشَى بَاسِلَ الْوَجْهِ أَغْلَبَا )
( أَدَلَّ بِشَغْبٍ ثمَّ هَالَتْهُ صَوْلَةُُ ... رَآكَ لَهَا أَمْضَى جَنَاناً وَأَشْغَبَا )
( فَأَحْجَمَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ فِيكَ مَطْمَعاً ... وَأَقْدَمَ لَمَّا لَمْ يَجِدْ عَنْكَ مَهْربًا )
( فَلَمْ يُثنِهِ أَنْ كَرَّ نحْوكَ مُقْبلاً ... وَلَمْ يُنْجِهِ أَنْ حَادَ عَنْكَ مُنكِّبا )
( حَمَلتَ عَلَيْهِ السَّيْفَ لاَ عَزْمُكَ انْثَنَى ... وَلاَ يَدُكَ ارْتَدَّتْ وَلاَ حَدُّهُ نَبَا ) ومما جاء لأبي الطيب المتنبي في قصيدته
( أمُعَفِّرَ اللَّيثِ الْهِزَبرِ بِسَوْطِهِ ... لِمَنْ ادَّخَرتَ الصَّارِمَ الْمَصْقُولاَ )
( وَرْدٌ إذَا وَرَدَ الْبُحَيْرَةَ شَارباً ... وَرَدَ الْفُرَاتَ زَئيرُهُ وَالنِّيلاَ )
( مُتَخَضِّبٌ بِدَمِ الْفَوَارِس لاَبِسٌ ... في غِيلِهِ مِنْ لِبْدَتَيْهِ غِيلاَ )
( مَا قُوبلَتْ عَيْناهُ إلاَّ ظُنَّتا ... تَحْتَ الدُّجى نَارَ الْفَريِقِِ حُلُولاَ )
( في وُحْدَةِ الرُّهْبانِ إلاَّ أَنَّهُ ... لاَيَعْرِفُ التَّحْرِيمَ وَالتَّحْلِيلاَ )
( يَطَأُ الْبَرَى مُتَرَفِّقاً مِنْ تِيههِ ... فَكَأَنَّهُ آسٍ يَجُسُّ عَليلاَ )
( وَيَرُدُّ غُفْرتهُ إلى يَافُوخِهِ ... حَتَّى تَصِير لِرَأْسِهِ إكْلِيلاَ )
( قَصَرَتْ مَخَافَتُهُ الْخُطا فكَأنَّما ... رَكِبَ الْكَمِيُّ جَوَادهُ مَشْكولاَ )
( أَلقى فَريستَهَ وَزَمْجَرَ دُونَهَا ... وَقَرُبْتَ قُرْباً خَاَلهُ تَطْفيلاَ )
( فَتَشَابهَ الْقُرْبانِ في إِقْدامِهِ ... وَتَخَالَفَا في بذْلِكَ المَأْكُولاَ )
( أَسَدٌ يَرَى عُضْويهِ فِيكَ كِلَيْهِمَا ... مَتْناً أَزلَّ وَسَاعِداً مَفْتُولاَ )
( مَا زَالَ يَجْمَعُ نَفْسَهُ في زَوْرِهِ ... حَتَّى حَسِبْتَ الْعَرْضَ مِنْهُ الطُّولاَ )
( وَكَأنَّمَا غَرَّتْهُ عَينٌ فَادَّنى ... لاَيَبْصِرُ الخَطْبَ الجَلِيلَ جَلِيلاَ )
( انَفُ الْكَرِيمِ مِنَ الدَّنِيَّةِ تَارِكٌ ... في عَيْنِهِ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ قَلِيلاَ )
( والْعَارُ مَضَّاضُُ وَلَيْسَ بِخَائِفٍ ... مِنْ حَتْفِهِ مَنْ خَافَ مِمَّا قِيلاَ )
( خَذَلَتْهُ قُوّتُهُ وَقَد كَافَحْتَهُ ... فَاسْتَنْصَرَ التَّسْليِمَ وَالتَّجْدِيِلاَ )
( سَمِعَ ابْنُ عَمَّتِهِ بِهِ وَبِحَالِهِ ... فَمَضَى يُهَرْوِلُ أَمْسِ مِنْكَ مَهُولاَ )
( وَأَمرُّ مِمَّا فَرَّ مِنْهُ فِرَارُهُ ... وَكَقَتْلِهِ ألاَّ يَمُوتَ قَتِيلاَ )
( تَلفُ الَّذِي اتَّخَذَ الجَرَاءةَ خُلَّةً ... وَعَظَ الَّذي اتّخَذَ الْفِرَارَ خَلِيلاَ ) وسأحكم بين هاتين القصيدتين والذي يشهد به الحق وتتقيه العصبية أذكره وهو أن معاني أبي الطيب أكثر عددا وأسد مقصدا ألا ترى أن البحتري قد قصر مجموع قصيدته على وصف شجاعة الممدوح في تشبيهه يالأسد مرة وتفضيله عليه أخرى ولم يأت بشيء سوى ذلك وأما أبو الطيب فإنه أتى بذلك في بيت واحد وهو قوله
( أمُعَفِّرَ الَّليْثِ الْهِزَبْر بِسَوْطِهِ ... لِمَنِ ادَّخَرْتَ الصَّارِمَ الْمَصْقُولا ) ثم إنه تفنن في ذكر الأسدفوصف صورته وهيئته ووصف أحواله في انفراده في جنسه وفي هيئة مشيه واختياله ووصف خلق نجله مع شجاعته وشبه الممدوح به في الشجاعة وفضله عليه بالسخاء ثم إنه عطف بعد ذلك على ذكر الأنفة والحمية التي بعثت الأسد على قتل نفسه بلقاء الممدوح وأخرج ذلك في أحسن مخرج وأبرزه في أشرف معنى وإذا تأمل العارف بهذه الصناعة أبيات الرجلين عرف ببديهة النظر ما أشرت إليه والبحتري وإن كان أفضل من المتنبي في صوغ الألفاظ وطلاوة السبك فالمتنبي أفضل منه في الغوص على المعاني ومما يدلك على ذلك أنه لم يعرض لما ذكره في أبياته الرائية لعلمه أن بشرا قد ملك رقاب تلك المعاني واستحوذ عليها ولم يترك لغيره شيئا يقوله فيها ولفطانة أبي الطيب لم يقع فيما وقع فيه البحتري من الانسحاب على ذيل بشرلأنه قصر عنه تقصيرا كثيرا ولما كان الأمر كذلك عدل أبو الطيب عن سلوك الطريق وسلك غيرها فجاء فيما أورد مبرزا
واعلم أن من أبين البيان في المفاضلة بين أرباب النظم والنثر أن يتوارد اثنان منهما على مقصد من المقاصد يشتمل على عدة معانكتوارد البحتري والمتنبي
ههنا على وصف الأسد وهذا أبين في المفاضلة من التوارد على معنى واحد يصوغه هذا في بيت من الشعر وفي بيتين يصوغه الآخر في مثل ذلك فإن بعد المدى يظهر ما في السوابق من الجواهر وعنده يتبين ربح الرابح وخسر الخاسر
فإذا شئت أن تعلم فضل ما بين هذين الرجلين فانظر إلى قصيدتهما في مراثي النساء التي مفتتح إحداهما
( يَا أُخْتَ خَيْرِ أَخٍ يَا بِنْتَ خَيْرِ أَبِ ... كِنَايةً عَنْ أكْرَمِ الْعَربِ ) وهي لأبي الطيب ومفتتح الأخرى
( غُرُوبُ دَمْعٍ مِنَ الأَجْفَانِ يَنْهَمِلُ ... وَحُرْقةٌ بغَلِيلِ الْحُزْنِ تَشْتعِلُ ) وهي للبحتريفإن أبا الطيب انفرد بابتداع ما أتى به من معاني قصيدته والبحتري أتى بما أكثره غث بارد والمتوسط منه لا فرق فيه بين رثاء امرأة أو رجل
ومن الواجب أنه إذا سلك الناظم أو الناثر مسلكا في غرض من الأغراض ألا يخرج عنه كالذي سلكه هذان الرجلان في رثاء بامرأة فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون الرجل وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحك إلا أبو الطيب وحده وأما غيره من مفلقي الشعراء قديما وحديثا فإنهم قصروا عنه وله في هذا المعنى قصيدة أخرى مفتتحها
( نُعِدُّ المَشْرَفِيَّةَ وَالْعَوَالي ... وَتَقْتُلُنا الْمَنُونُ بِلاَ قِتالِ ) وكفى بهما شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به والفتيا عندي بينه وبين البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق وأعرف باستخراج المعنى الدقيق وأما البحتري فإنه أعرف بصوغ الألفاظ وحوك ديباجتها وقد قدمت أن الحكم بين
الشاعرين في اتفاقهما في المعنى أبين من الحكم بينهما فيما اختلفا فيهلأنهما مع الاتفاق في المعنى يتبين قولاهما ويظهران ظهورا يعلم ببديهة النظر ويتسارع إليه فهم من ليس بثاقب الفهم وأما اختلافهما في المعنى فإنه يحتاج في الحكم بينهما فيه إلى كلام طويل يعز فهمه ولا يتفطن له إلا بعض الناس دون بعض بل لا يتفطن له إلا بعض الفذ الواحد من الناس ولي في هذا مقالة مفردة ضمنتها الحكم بين المعنيين المختلفين وتكلمت عليه كلاما طويلا عريضا وأقمت الدليل على ما نصصت عليه وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشياعه في أيدي الناس وتناقل النسخ به
وعلى هذا الأسلوب توارد البحتري والشريف الرضي على ذكر الذئب في قصيدة للبحتري دالية أولها
( سَلاَمُُ عَلَيْكُمْ لاَ وَفَاءٌ وَلاَ عَهْدُ ... ) ومقطوعة للشريف الرضي أولها
( وَعَاري الشَّوَى وَالْمَنْكِبيْنِ مِنَ الطَّوى ... أتيحَ لَهُ بالَّليْلِ عَارِي الأشَاجِعِ ) وقد أجاد البحتري في وصف حاله مع الذئب والشريف أجاد في وصف الذئب نفسه
وأما السلخ فهو قلب الصورة الحسنة إلى صورة قبيحة
والقسمة تقتضي أن يقرن إليه صده وهو قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة
فالأول كقول أبي تمام
( فَتًى لاَ يَرَى أَنَّ الْفَريصَةَ مَقْتَلٌ ... وَلكِنْ يَرَى أَنَّ الْعُيُوبَ مَقَاتِلُ ) وقول أبي الطيب المتنبي
( يَرَى أَنَّ مَا بَانَ مِنْكَ لِضَارِب ... بِأَقْتَلَ مِمَّا بَانَ مِنْك لِعَائِب )
فهو وإن لم يشوه المعنى فقد شوه الصورة ومثاله في ذلك كمن أودع الوشي شملا وأعطى الورد جعلا وهذا من أرذل السرقات وعلى نحو منه جاء قول عبد السلام بن رغبان
( نَحْنُ نُعَزِّيكَ وَمِنْكَ الْهُدَى ... مُسْتَخْرجٌ والصَّبْرُ مُسْتَقَبَلُ )
( نَقُولُ بِالْعَقْلِ وَأَنْتَ الذِّي ... نَأْوِي إلَيْهِ وَبِهِ نَعْقِلُ )
( إذَا عَفَا عَنْك وَأَوْدَى بِنَا ... والدَّهْرُ فَذَاكَ المحسن المجمل ) أخذه أبو الطيب فقلب أعلاه أسفله فقال
( إنْ يَكُنْ صَبْرُ ذِي الرَّزيَّةِ فَضْلاَ ... فَكُنِ الأَفْضَلَ الأَعَزَّ الأَجَلاَّ )
( أَنْتَ يَا فَوْقَ أَنْ تُعَزَّى عَنِ الأَحْبَابِ ... فَوْقَ الَّذِي يُعَزِّيكَ عَقْلاَ )
( وَبِأَلْفَاظِكَ اهْتَدَى فَإِذَا عَزَّاكَ ... قَالَ الَّذِي لَهُ قُلْتَ قَبْلاَ ) والبيت الأخير من هذه الأبيات هو الآخر قدرا وهو المخصوص بالمسخ
وأما قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة فهذا لا يسمى سرقة بل يسمى إصلاحا وتهذيبا
فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي
( لَوْ كَانَ مَا تُعْطِيهمُ مِنْ قَبْلِ أَنْ ... تُعْطِيهِمُ لَمْ يَعْرِفُوا التَّأْمِيلاَ ) وقول ابن نباتة السعدي
( لَمْ يُبْقِ جُودُكَ لِي شَيْئاً أُؤمِّلَهُ ... تَرَكْتَني أَصْحَبُ الدُّنْيَا بِلاَ أَمَلِ ) وعلى هذا النحو ورد قول أبي نواس في أرجوزة يصف فيها اللعب بالكرة والصولجان فقال من جملتها
( جِنٌّ عَلَى جِنٍّ وَإِنْ كَانُوا بَشَرْ ... كَأَنَّما خِيطُوا عَلَيْها بِالإِبَرْ ) ثم جاء المتنبي فقال
( فَكَأَنَّهَا نُتِجَتْ قِيَاماً تَحْتَهُمْ ... وَكَأَنَّهُمْ وُلِدُوا عَلى صَهَوَاتِهَا ) وبين القولين كما بين السماء والأرضفإنه يقال ليس للأرض إلى السماء نسبة محسوسة وكذلك يقال ههنا أيضافإن بقدر ما في قول أبي نواس من النزول والضعف فكذلك في قول أبي الطيب من العلو والقوة
وربما ظن بعض الجهال أن قول الشماخ
( إذا بَلَّغْتَنِي وَحَمَلْتِ رَحْلِي ... عَرَابَةَ فَاشْرَقِي بِدَمِ الْوَتِينِ ) وقول أبي نواس
( وَإِذَا المَطِيُّ بِنَا بَلَغْنَ مُحَمَّداً ... فَظُهُورُهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ حَرَامُ ) من هذا القبيل الذي هز قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة وليس كذلكفإن قلب الصورة القبيحة إلى صورة حسنة هو أن يؤخذ المعنى الواحد فيكسى عبارتين إحداهما قبيحة والأخرى حسنةفالحسن والقبح إنما يرجع إلى التعبير لا إلى المعنى نفسه وقول أبي نواس هو عكس قول الشماخ وقد تقدم مثل ذلك قيما مضى من ضروب السرقات ألا ترى إلى قول أبي الطيب المتنبي وقول الشريف الرضيفقال أبو الطيب
( إنِّي عَلَى شَغَفِي بِمَا فِي خُمْرِهَا ... لأَعِفُّ عَمَّا فِي سَرَاوِيلاتِهَا ) وقول الشريف الرضي
( أَحِنُّ إلَي مَا تَضْمَنُ الْخُمْرُ وَالْحُلَى ... وَأَصْدِفُ عَمَّا فِي ضَمانِ المَآزِرِ ) فالمعنى واحد والعبارة مختلفة في الحسن والقبح
وهذه السرقات - وهي ستة عشر نوعا - لا يكاد يخرج عنها شيء وإذا أنصف الناظر في الذي أتيت به ههنا علم أني قد ذكرت ما لم يذكره غيري وأنا أسأل الله التوفيق لأن أكون لفضله شكورا وألا أكون مختالا فخورا
وإذ فرغت من تصنيف هذا الكتاب وحررت القول في تفصيل أقسام
الفصاحة والبلاغة والكشف عن دقائقهما وحقائقهما فينبغي أن أختمه بذكر فضليهمافأقول أعلم أن هذا الفن هو أشرف الفضائل وأعلاها درجة ولولا ذلك لما فخر به رسول اللهفي عدة مواقف فقال تارة " أنا أفصح من نطق بالضاد " وقال تارة " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي كان كل نبي يبعث في قومه بعثت إلى كل أحمر وأسود وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض طيبة وطهورا ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر وأوتيت جوامع الكلم " وما سمع بأن رسول اللهافتخر بشيء من العلوم سوى علم الفصاحة والبلاغة فلم يقل أنه أفقه الناس ولا أعلم الناس بالحساب ولا بالطب ولا بغير ذلك كما قال " أنا أفصح من نطق بالضاد "
وأيضا فلو لم تكن هذه الفضيلة من أعلى الفضائل درجة لما اتصل الإعجاز بها دون غيرهافإن كتاب الله تعالى نزل عليها ولم ينزل بمعجز من مسائل الفقه ولا من مسائل الحساب ولا من مسائل الطب ولا غير ذلك من العلوم
ولما كانت هذه الفضيلة بهذه المكانة صارت في الدرجة العالية والمنثور منها أشرف من المنظوملأسباب من جملتها أن الإعجاز لم يتصل بالمنظوم وإنما اتصل بالمنثورالآخر أن أسباب النظم أكثر ولهذا نجد المجيدين منهم أكثر من المجيدين من الكتاب بل لا نسبة لهؤلاء إلى هؤلاء ولو شئت أن تحصي أرباب الكتابة من أول الدولة الإسلامية إلى الآن لما وجدت منهم ممن يستحق اسم الكاتب عشرة وإذا أحصيت الشعراء في تلك المدة وجدتهم عددا كثيرا حتى لقد كان يجتمع منهم في العصر الواحد جماعة كثيرة كل منهم شاعر مفلق وهذا لا نجده في الكتاب بل ربما ندر الفرد الواحد في الزمن الطويل وليس ذلك إلا لوعورة المسلك من النثر وبعد مناله والكاتب هو أحد دعامتي الدولةفإن كل دوله لا تقوم إلا على دعامتين من السيف والقلموربما لا يفتقر الملك في ملكه إلى السيف إلا مرة أو مرتين وأما القلم فإنه يفتقر إليه على الأيام وكثيرا ما يستغني به عن السيف وإذا سئل عن الملوك الذين غبرت أيامهم لا يوجد منهم من
حسن اسمه من بعده إلا من حظي بكاتب خطب عنه وفخم أمر دولته وجعل ذكرها خالدا يتناقله الناس رغبة في فصل خطابه واستحسانا لبداعة كلامه فيكون ذكرها في خفارة ما دونه قلمه ورقمته أساطيره وليس الكاتب بكاتب حتى يضطر عدو الدولة أن يروي أخبار مناقبها في حفله ويصبح ولسانه حامدا لمساعيها وبقلبه ما به من غله ولقد أحسن أبو تمام في هذا المعنى حيث قال
( سَأجْهَدُ حَتَّى أُبْلِغَ الشِّعْرَ شَأْوَهُ ... وإِنْ كَانَ طَوْعاً لِي وَلَسْتُ بِجَاهِدِ )
( فَإِنْ أَنَا لَمْ يَحَمْدْكَ عَنِّي صَاغِرَاً ... عَدُوُّكَ فَاعْلَمْ أنّني غَيْرُ حَامِدِ ) وهذا الذي ذكرته حق وصدق لا ينكره إلا جاهل به وأنا أسأل الله الزيادة من فضله وإن لم أكن أهلا له فإنه هو من أهله
ووقفت على كلام لأبي إسحق الصابي في الفرق بين الكتابة والشعر وهو جواب لسائل سألهفقال إن طريق الإحسان في منثور الكلام يخالف طريق الإحسان في منظومه لأن الترسل هو ما وضح معناه وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه
ثم قال بعد ذلك ولسائل أن يسأل فيقول من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض وفي معاني الترسل الوضوحفالجواب أن الشعر بني على حدود مقررة وأوزان مقدرة وفصلت أبياتهفكان كل بيت منها قائما بذاته وغير محتاج إلى غيره إلا ما جاء على وجه التضمين وهو عيب فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه وكلاهما قليلاحتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى فاعتمد أن يلطف ويدق والترسل مبني على مخالفة هذه الطريقإذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا وهو موضوع وضع ما يهذهذ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية وذوي أفهام ذكية وأفهام غبيةفإذا كان متسلسلا ساغ فيها وقرب فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني حتى إن التضمين عيب في الشعر وهو فضيلة في الترسل
ثم قال بعد ذلك والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم
التي يرمون إليها وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والاجتداء والمديح والهجاء وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر وإصلاح فساد أو تحريض على جهاد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية أو تعزية برزية أو ما شاكل ذلك هذا ما انتهى إليه كلام أبي إسحق في الفرق بين الترسل والشعر
ولقد عجبت من مثل ذلك الرجل الموصوف بذلاقة اللسان وبلاغة البيان كيف يصدر عنه مثل هذا القول الناكب عن الصواب الذي هو في باب ونصى النظر في باب ؟ اللهم غفرا وسأذكر ما عندي في ذلك لا إرادة للطعن عليه بل تحقيقا لمحل النزاع فأقول
أما قوله " إن الترسل هو ما وضح معناه والشعر ما غمض معناه " فإن هذه دعوى لا مستند لها بل الأحسن في الأمرين معا إنما هو الوضوح والبيان على أن إطلاق القول على هذا الوجه من غير تقييد لا يدل على الغرض الصحيح بل صواب القول في هذا أن يقال كل كلام من منثور ومنظوم فينبغي أن تكون مفردات ألفاظه مفهومة لأنها إن لم تكن مفهومه فلا تكون صحيحة لكن إذا صارت مركبة نقلها التركيب عن تلك الحال في فهم معانيهافمن المركب منها ما يفهمه الخاصة والعامة ومنه ما يفهمه إلا الخاصة وتتفاوت درجات فهمه ويكفي من ذلك كتاب الله تعالى وتتفاوت درجات فهمه ويكفي من ذلك كتاب الله تعالىفإنه أفصح الكلام وقد خوطب به الناس كافة من خاص وعام ومع هذا فمنه ما يتسارع الفهم إلى معانيه ومنه يغمض فيعز فهمه والألفاظ المفردة ينبغي ان تكون مفهومة سواء كان الكلام نظما أو نثرا وإذا تركبت فلا يلزم فيها ذلك وقد تقدم في كتابي هذا أدله كثيرة على هذافتؤخذ من مواضعها
وأما الجواب الذي أجاب به في الدلالة على غموض الشعر ووضوح الكلام المنثور فليس ذلك بجواب وهب أن الشعر كان كل بيت منه قائما بذاته فلم كان مع ذلك غامضا ؟ وهب أن الكلام المنثور كان واحدا لا يتجزأ فلم كان مع ذلك
واضحا ؟ ثم لو سلمت إليه هذا فماذا يقول في الكلام المسجوع الذي كل فقرة منه بمنزلة بيت من شعر ؟
وأما قوله في الفرق بين الشاعر والكاتب " إن الشاعر من شأنه وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار والتشبيب بالنساء والطلب والإجتداء والمديح والهجاء وإن الكاتب من شأنه الإفاضة في سداد ثغر أو إصلاح فساد أو تحريض على حياد أو احتجاج على فئة أو مجادلة لمسألة أو دعاء إلى ألفة أو نهي عن فرقة أو تهنئة بعطية أو تعزية برزية " فإن هذا تحكم محض لا يستند إلى شبهة فضلا عن بينة وأي فرق بين الشاعر والكاتب في هذا المقام ؟ فكما يصف الشاعر الديار والآثار ويحن إلى الأهواء فكذلك يكتب الكاتب في الاشتياق إلى الأوطان ومنازل الأحباب والإخوان ويحن إلى الأهواء والأوطارولهذا كانت الكتب الإخوانيات بمنزلة الغزل والنسيب من الشعر وكما يكتب الكاتب في إصلاح فساد أو سداد ثغر أو دعاء إلى ألفه أو نهي عن فرقة أو تهنئة أو تعزيةفكذلك الشاعرفإن شذ عن الصابي قصائد الشعراء في أمثال هذه المعاني فكيف خفي عنه قصيدة أبي تمام في استعطاف مالك بن طوق على قومه التي مطلعها
( لَو أَنَّ دَهْراً رَدَّ رَجْعَ جَوَابي ... ) أم كيف أخل بالنظر في ديوان أبي الطيب المتنبي وهما في زمن واحد فما تأمل قصيدته في الإصلاح بين كافور الإخشيدي وبين مولاه الذي مطلعها
( حَسَمَ الصُّلْحُ مَا اشْتَهَتْهُ الأَعَادِي ... ) وكذلك لا شك أنه لم يقف على قصيدة أبي عبادة البحتري في غزو البحر التي مطلعها
( أَلَمْ تَرَ تَغْلِيسَ الرَّبِيعِ المُبَكِّرِ ... ) ولو أخذت في تعداد قصائد الشعراء في الأغراض التي أشار إليها وخص بها الكاتب لأطلت وذكرت الكثير الذي يحتاج إلى أوراق كثيرة وكل هذه الفروق التي نص عليها وعددها فليست بشيء ولا فرق بين الكتابة والشعر فيها والذي عندي في الفرق بينهما هو من ثلاثة أوجه
الأول من جهة نظم أحدهما ونثر الآخر وهذا فرق ظاهر
الثاني أن من الألفاظ ما يعاب استعماله نثرا ولا يعاب نظما وذلك شيء استخرجته ونبهت عليه في القسم الأول المختص في اللفظة المفردة المقالة الأولى من هذا الكتاب وسأعيد ههنا منه شيئافأقول قد ورد في شعر أبي تمام قوله
( هِيَ العِرْمِسُ الْوَحْنَاءُ وَابْنُ مُلِمَّةٍ ... وَجَأْشُُ عَلَى مَا يُحْدِثُ الدَّهْرُ خَافِضُ ) وكذلك ورد في شعر أبي الطيب المتنبي كقوله
( وَمَهْمَهٍ جُبْتُهُ عَلَى قَدَمِي ... تَعْجِزُ عٌه الْعَرَامِسُ الذُّلُلُ ) فلفظة المهمه و العرامس لا يعاب استعماله في الشعر ولو استعملا في كتاب أو خطبة كان استعمالها معيبا وكذلك ما يشكلها ويناسبها من الألفاظوكل ذلك قد ضبطته بضوابط وحددته بحدود تفصله من غيره من الألفاظفليأخذ من المقالة الأولى ولولا خوف التكرار لأعدته ههنا
الثالث أن الشاعر إذا أراد أن يشرح أمورا متعددة ذوات معاني مختلفة في شعره واحتاج إلى الإطالة بأن ينظم مائتي بيت أو ثلثمائة أو أكثر من ذلك فإنه لا يجيد في الجميع ولا في الكثير منه بل يجيد في جزء قليل والكثير من ذلك
رديء غير مرضي والكاتب لا يؤتي من ذلك بل يطيل في الكتاب الواحد إطالة واسعة تبلغ عشر طبقات من القراطيس أو أكثر وتكون مشتملة على ثلثمائة سطر أو أربعمائة أو خمسمائة وهو مجيد في ذلك كله وهذا لا نزاع فيهلأننا رأيناه وسمعناه وقلناه
وعلى هذا فإني وجدت العجم يفضلون العرب في هذه النكتة المشار إليهافإن شاعرهم يذكر كتابا مصنفا من أوله إلى آخره شعرا وهو شرح قصص وأحوال ويكون مع ذلك في غاية الفصاحة والبلاغة في لغة القوم كما فعل الفردوسي في نظم الكتاب المعروف بشاه نامه وهو ستون ألف بيت من الشعر يشتمل على تاريخ الفرس وهو قرآن القوم وقد أجمع فصحاؤهم على أنه ليس في لغتهم أفصح منه وهذا لا يوجد في اللغة العربية على اتساعها وتشعب فنونها وأغراضها وعلى أن لغة العجم بالنسبة إليها كقطرة من بحر اللهم صل على سيدنا محمد النبي الأمي وآله وصحبه الطيبين الطاهرين وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين