كتاب : المقامات الزينية
المؤلف : ابن الصيقل الجزري
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الذي أيدنا بمنائح اللالاء، وأوردنا موارد الآلاء، ودرأ بعز عزه كتائب الضراء، وفقاً بوطف لطفه عيون مقانب الضراء، وحسم بحسام معدلته شواهق الشقاء، وجزم بجسام مقدرته شقاشق للشقاوة والشقاء وقمع بمقامع المقانع نواصي الأعداء، وقدع مطالع المطامع مع رداء الاعتداء، حمداً يعلو على نشر نشر الكباء، ويجلو صدأ مرآة زعزع التزعزع والنكباء، وصلى الله على سيدنا محمد الراقي إلى السماء، الواقي غوائل الغماء، المخصوص بليلة الاسراء، الموصوف بإنقاذ الأسراء، الذي فتحت به بصائر الأغبياء، ورفعت رفعته إلى الذروة العلياء، وتقلقلت لاقدامه قلل أعناق المراء، وتسلسلت بسلاسل اسلامه أعناق أعناق الاجتراء، وعلى أهله أهل العباء لا الأعباء، وعلى آله آل الابتلاء لا البلاء، وعلى صحبه أولى الصفاء في الوفاء، ورهطه ذوي الانكفاء إلى الرفاء، وله المنة بما فاض وغاض من بحور العطاء، ودرور الخطاء، وبه نعوذ من إرخاء السفه المرخاء وارخاء خيل المرح في لا حب الرخاء، وبه نعتصم من مصاحبة الجهلاء، ومجانبة الحلاحل الفضلاء، وإليه أفزع من معاقرة العناء، وحمى حمى حمة هذه الأعناء، ونجعله عدةً لرسوب الأعضاء في الغبراء، وجنةً لوثوب الحوباء في الخضراء، ونستجير به من أخلاف العماء واتلاف المحنة الصماء، ونستعين به لدحض معاتب اللقاء، ورحض معايب الارتقاء، مستشفين بشافع الأشقياء ورافع حجج أنبياء الأنبياء، والأربعة الخلفاء، والستة الحلفاء، إنه مبيد الادعاء، والقادر على اجابة الدعاء، وبعد: فإنني دخلت ذات يوم خيسى، وأويت وآويت أنيسى فوجدت بيد شبلي الألمعي، المبرأ من لبس لباس الدنس والعي، ذي الدراية والتدقيق، والحذاقة والتحقيق، المشبه بصنوى الشفيق، المميز بين عقيان البراعة والعقيق، الذي به أباهي بهاء الدول أبي الفتح نصر الله كتاب المقامات التي أنشأها أوحد زمانه، وأرشد أوانه، التي بزغ ببزوغها شموس الأدب، ونبغ ببلوغها غروس الأرب، وأمليت عن لسان أبي زيد السروجي، وأسندت روايتها إلى الحارث بن همام البصري فقال لي: هل لك في أن تنشئ لي من زبد عباب تيارك، ولبد سحاب مدرارك، مقامات تكون مدداً لجيوش اشتغالي، وعدداً لردع ربائث أشغالي، وعداءً لميدان آمالي وغذاءً لنفوس أشبالي، فإن ذلك أشبى لي كي لا أروم غير انتجاع تهتان آدابك، ولا أعوم بغير آذي فواضل انتدابك قلت له: أعلم أسعدك الله بقبض عروض علمك، ونزه عن القبض عروض بيت حسك وفهمك، أن ذو أشرت إليه وعولت في سؤالك عليه، مقام يخيم عنه الألسن الأريب ومقام يهيم فيه الأفطن اللبيب، ورحي حرب تمحق أفهام الباهرين، وسمي وسمي يسرب تغرق به أذهان الماهرين، فلست ممن يطمع في ولوج هذي المغاني وصلادم السدم تصادم صدور المعاني، أو يؤمل بلوغ هذه الأمال، ويرجى ما يورث بني الأحمال، حرارة الاحتمال، مع علمك بما أكابد من سخافة المال، وكثافة الإرمال، وتتابع الأعمال، وتتايع الإعمال، فإن ذلك يفتقر إلى رفاهية الخواطر، وطواعية الضمائر، افتقار الأبدان إلى النفس ولحوذان، إلى الشمس، ومع تيقنك أن الحريري ممن خلب ندي النباهة، بسنان لسانه، وحلب ثدي البداهة ببنان تبيانه، وجذب غرر البلاغة بنواصيها، وجدب غرر مفاصل الفصاحة ومقاصيها، فأنى يطير مع الجدل الجراد، أم كيف يجلي المصلي وقد بزه المجلي الجواد، فما أنا ممن ينازل شجعان أسجاعه، ويطاول ما زان أوزان اختراعه، ويعتلي بكاره ويقاوم، ويجتلى إبكاره وينادم: الطويل.كما أنني لو طرت في العلم إثره ... بألف جناحٍ كلّهنّ قوادم
لما نلت من إنشاي إلا صبابةً ... أُصادم فيها خيبتي وتصادم
فحين ما أقلع عن مقاله، ولا أطلع طليعة الفكر لسد مسائل سؤاله،
بادرت إلى ما أحب، ونحا عنق إرب أربه واشراب وأطلقت عنان الاجتهاد، لا
عنان الجياد، واستمطرت عنان الرشاد، لا عنان العهاد، وانتجعت من لب محشو
بسحوح المحن، وقلب مقلو من قروح الإحن، وهمم قصيرات من الهم، وحكم بكيات
من الغم، خمسين مقامةً وسمتها باسمه، وأنشأتها برسمه، طلباً لتجويد ذكره،
وأرباً في تخليد ذكره، واستخرجت سحائبها العينية وسميتها المقامات
الزينية، فحين اعشوشب براحها، واغلولب إفصاحها، جاءت بعون الله معذوذبة
اللعاب، مصعوعبة الشعاب، غير منثولة الجعاب، نصفين بصعاب الصعاب، ظاهرة
التمكين، باهرة التكوين، ناطقةً بلسان التنوين، غير مضطرة إلى التسكين،
تشتمل على كل رجب من الجد الطريف، وكل ضرب من الهزل الظريف، وكل مرصع من
النثر المنيف، وكل مصرع من الشعر اللطيف، وكل زهو من المحض المليح المليح،
وكل حلو من الحمض الصريح الفصيح وأودعتها من لطائف الأجناس، ونفائس الجوهر
المنزه عن ثقب الماس، والجمان الناشر رمام الأرماس، والمرجان المطهر عن
طمث مجاورة الأمراس ما يفوق غوارب البحور، ويروق درر نحور الحور، وضمنتها
من الآيات المحكمات، والأخبار المسندات، وعرائس المذاكرات، وغرائس
المناظرات، ومن العظات ما يسيل الدموع، ومن الزاجرات ما يحيل الهجوع، ومن
المضحكات ما يضحك الموتور ومن الملهيات ما يهتك المستور، ومن المفاكهات ما
يشرح الصدور، ومن المنافثات ما يبرئ المصدور، ومن الرسائل ما يستهل السول،
ومن المسائل ما يفحم المسؤول، ومن البدائع ما يسلب العقول ومن الغرائب ما
يطرب العقول، ومن الخطب اللطيفة، والنخب الوريفة، ومن محاسن الأمثال،
ومعادن السحر الحلال الجلي المنثال، الخلي عن المثال والتمثال، ومن
العبارات الحسنة، والحكايات المستحسنة، والمقاصد البالغة الرضية، والقواعد
السائغة الفرضية، والأفانين الصادحة الأدبية، والقوانين الواضحة الطبية،
ومن النكت الفقهية، والأصول المتداولة النحوية، وحليتها باللؤلؤ المنثور،
وأخليتها من شطر المعمى للحديث المأثور، ونسبت مجموع ذلك إلى أبي نصر
المصري، وعزوت روايته إلى القاسم بن جريال الدمشقي، ولم أرصع بها شعراً من
غير نظم بديهتي، ولا نثراً من غير رقم قريحتي، سوى مصراع لامرئ القيس،
وأبيات للصمة أخي الكيس في الكيس، وما خلاه فأنا فتاح مدن جله وقله وسفاح
مزن وبله وطله، فقلت حين طاء طوفانها وطمى، وناء نوء تهتانها وهمىً، وانهم
يم يمنها ونمى، وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى.
وأنا راج منه حصول ثمرة هذه الأمنية قبل المنية، وقبول هته الجنية، بحسن
محامد النية، وأسأله الدراية لرفع الوجل والهداية لدفع خجل العجل، وترادف
النصر والصبر في المجال والأوجال، وتضاعف الصدق والصدق في المقال
والاقبال، وأن يجعلني ممن قلت هفواته، واقيلت عثراته، لأن عثرات الأعوجيات
معدودات، ونبوات المشرفيات محصورات، اللهم قد بسطت إلى كرمك يد الانابة،
فلا تردها صفراً من الاجابة، واجعلني فيما شحنتها به من المتشرفين لا من
المستشرفين، ومن المستهدفين لا من المستقذفين واستر بحلمك ما وشيت ضمنها
من الزلل، وأفشيت خلالها من الخلل، لعلمك أن سلامة المسهب نادرة، وندامة
منادمة الطمع في ما لا تسمح به القرائح بادرة، فما نفحتها برند الفصاحة
والشيح، إلا على سبيل الترشيح، وما نقحتها للفطن العليم، إلا على مهيع
التعليم، ومع ذلك فلست أخلو من مسود لا يعانيها، أو حسود يستر وجوه
معانيها، فيكرع عذب عهاد صافيها، ويقع في شائع شهاد شافيها، ولم يدر لقصر
قوادم قريحته وخوافيها، أنه لا يضر اللجج وقوع الجيف فيه، فالله أسأل أن
يبيح جلوتها لمعترف نابه، وإلا يتيح خلوتها لمغترف تائه، يتناول يانع
ثمارها، ويحاول جحد بدائع استثمارها، ويظنها موضونة بضروب الاضطراب، ولم
يشعر بأنها مشحونة بانصباب الصواب، وما أخاله يزيل عارض اعتراضه، لعراض
أغراضه وإغراضه، ولا ينزل عن صهوة إعصافه، ولا يستنزل صيب صفوة انصافه،
ولو صيرته نديمي، وألبسته أديمي، وجعلته قسيمي: الوافر:
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفته من الفهم السقيم
المقامة الأولى البغدادية
حكى القاسم بن جريال، قال: شدهت مدةً من الشهور، في حدثان
الشبيبة المشهور، بقفول قحط، وشمول شحط، ومخالعة اتفاق، ومراجعة انفاق،
تعجز عن كفاح حربه الأذمار وتقصر لطول قدم قدم حديثه الأسمار، فحين حدقت
حدق الغلل وغالت، وأحدقت حدائق العلل وعالت، واحقوقفت ظهور الملل ومالت،
وظهرت ظهيرة الملل وأمالت، وتغلبت غلب المتربة وطالت وتلببت سباع المسغبة
واستطالت، وشمل مزود الجلل وعم، وسمل مرود الخلل وغم، وانكدر كدر الضرر
واصعوعب، وانسدر سدر البصر واعصوصب، ورفضت أحامس الفحول الذحول، واحتقرت
لخوض بحور القحول الوحول، جعلت أطفو بفلك الفكر وأرسب، وأرفو فؤادي القلق
وأندب، وأطرب لخمر خمر ذلك الضر الوخيم، وأعجب لا مالة ألف إلف الوطن بعد
التفخيم، إلى أن زهدت في وطاء القعود، ورغبت في امتطاء القعود، فخرجت أخر
في خلال المنازل، وأجر رداء الداء النازل يثقلني مقود القوداء، خروج المرة
السوداء، لأرافق رفيقاً لا يفارقه نفاق، ولا يرافقه يوم أرافقه نفاق، فقدر
لي القدر المحدود، والصدر الموفق المجدود، قوماً معروقين، بالزاد المستزاد
معنقين، يعدل عددهم أبنية الأفعال، سوى سدس ضعفي أحرف الاعتلال، فتوكلت
توكل الأبدال، وزاملت عدد الزوائد من حروف الابدال، وحين حنت الأباعر،
واستوت على جودي أكوارها العراعر، أقبلنا نكلف أخفاف العجاف، مالا تطيق من
الايجاف، حتى واصلت لفراق المعاهد الزوراء، وفاصلت لوصال المعاهد الضراء
فقال باتك إمحالنا، والراتك برواتك ارتحالنا، هذه دار سلام المؤمنين،
فادخلوها بسلام آمنين، ثم انه انحدر عن راحلته، مرحاً باتشاح حلته، فرحاً
بمراح حلته، خشباً بنشيط حمولته، طرباً باطيط حمولته، فنهضنا نودعه بعقد
دفع قد انهل، وعقد صبر قد انحل، وبينما أنا أفض دنان المبادرة وأختفيها،
وأنض عروض المناظرة وأصطفيها، إذا صرت إلى رباط، محشود الرواتب، محسود
المراتب، قد تخير صدق نيته الواقف، وتحير في حذق بنيته الواقف، فسمعت
مطارحةً أعذب من الأري المذاب، وأطيب من لثم ثنايا الثغور العذاب، فتأملت
شيمه وملت، وحاولت رشف شموله وثملت، فإذا به شيخ قد رثت بزته، واجتثت
عزته، وأنأطرت ألته، واشتهرت آلته، وبين يديه غلام حسن الطلاوة، كالشمس في
الطفاوة، يرشحه تارةً ويؤدبه، ويورحه مرةً ويهذبه، فحجبت بشحذ تلك الرقاق،
عن مرافقة الارتفاق، واحتجنت بمحجن الاستراق، ما قبلني في قالب الاسترقاق
ولما تمم طرف أطرابه البهيج، ونمنم نثر ثناء إطرائه الأريج، واحتنكت من
حبب محادثته، ما انشبني في حبالة مناوحته واختلبت من ملح ملاحفته ما حملني
على استهداء محالفته، قلت له، بعد ركود هوائه، ورقود قرود أهوائه، وصفة
تمييز فضيلته، وعرفة حقيقة اسمه وفصيلته: إني لأحب أن تتخذني لحضرة
محاضرتك خدينا، ولخضرة مقارضتك قرينا، ولبحار إعسارك ميناً، ولتقصار عنق
اعصارك جوهراً ثمينا، فقال لي: تالله لقد سألت ما لم أك أرشح بمثله، وأملت
من وفضة المفاوضة ما لم أكن أسمح بنثله، وإني لأرى وجهك مليحاً، لا يليق
به الحرمان، وجيهك قبيحاً، لا يستملحه الانسان، فأين شعب رزاحك مع
انتزاحك، وأين شعب مراحك مع اقتراحك، فمن صوب صدقك أس كوبا، أسقك بكأس
المكاسرة أسكوبا، فقلت مستمطراً سحاً سكوبا: البسيط
دمشق واري فمذ فارقت ربوتها ... لم يبرح الدمع من عينيّ سكوبا
كأنّها يوسف في الحسن إذ خلقت ... لفظاً ومعنىً وعندي حزن يعقوبا
وجعل يروح بالحسن الملامح، على تمثال السماك الرامح، إلى أن حضرت
معهما الوجار، وشكرت الجدب الذي هجم وجار، ثم لم تمض مدة من الأحقاب، ولا
امتطينا مطا أكمة المحادثة والحقاب، حتى قال لي: قد عزمت على أن أشاورك في
أمر وشر البشر من إذا شاورته غر، وإن عاشرته عر فقلت له: أنا ذو طوية
صادقة، وروية مصادقة، فخير رهطك من سرت برياحه، وشرت بنجاحه، ونصرت
بصلاحه، وبصرت باصلاحه، فقال: اعلم أن اللبيب من أهل وليده بعينيه، قبل أن
يهال صعيده عليه، ورفل عديده حوليه، قبل وصول نصول المنية إليه، واني
لأشتار من شهد رأيك فيه مشورةً، تبقى صحف أسجالها على مر الشهور منشورةً،
فقلت له: تالله إن هذا لرأي ارادة مخضل الخمائل، وصارم عاتق سعادة مغدودن
الخمائل، وأنا لك أطول ساعد، وأفضل مساعد، وأطوع باد وبالد، وأنفع من طارف
وتالد، ثم إني وثبت لما أراده، وأطلعت في سماء المساعدة أرآده، وحضرنا
الليل لنصف سبع، وعقدنا العقدة على تسعة أجذار سبعة وتسع، مشفوعةً من
الأطباق، بعدد حروف الأطباق، ولما زفت العروس، وزفت أزاهير المزاهر
والغروس، وخلت الدار من النظار، خلو المفضال من النضار، وربط ريط الدويرة،
وانخرط بفرخه الفويرة، فأقبلت بعدما كمل وطره، وحمل حق الحيل وقطره أقوف
أثره، وأذم مخبره، إلى أن ألفيته خادراً بحديقة، متدفقة الجداول وريقة،
فقلت له: أف لفعلتك الذميمة، وتف لألفتك المليمة، فكهر وجهه وكر، وعقد
ناصيته وازبأر، وقال لي: أراك تسرع اسراع السحابة المطلة، وتحنق حنق الحية
المغلة، وتنغض رأس غيك الخصر، وتعرض عن تدبر قصة موسى مع الخضر، فلسنا بك
من السارقين، ولا لسبابك من الوادقين، ولا لك بالمرافقين المنافقين، ولئن
تجنيت وسللت ظبى ظلمك وتظنيت أن ابني ربق السرق وسرق، وترمق المرق ومرق،
فأعرفه لا يعرف الافساد، ولا يتسنم الفساد، ومن أراد الفساد فساد، وأما
الآن فأنا أنبئك بسبب سرقه، وتضرجه بنجيع الأشر وشرقه، ثم قال: اعلم أنها
منذ حلت بداري، ورأيتها لا تدري ولا تداري، لاح من تغطرسها مخائل الخيلاء،
فضربت زمام تعززها للزلة الزلاء، ثم دار ابني على خضاضها دوران المنجنون،
لعلمك أن الشباب شعبة من الجنون، رغبةً أن يحج عرفة معرفة عقلها ويعود،
ويعج برمى جمار جهازها ويجود، ولما وردت هذا القليب، وأردت في متجر
الندامة التقليب، بادرت لأبل غلتي، وأبل من مرض هاتيك علتي، فشغلت لوجود
الالتياح، وعدم الارتياح، بالماء القراح، عن حلي الأحراح، فهبط فيه مذ
هبطت، وسقط في يدي ريثما سقطت، فكنت كمن حفظ الفرث وأفسد الحرث، واعتاض عن
السمين الغث، والملاب الشت، وأنا أيد الله قواعد قدرك، ولا دخلت الجوازم
فعل أمرك ضعيف الجلد، ولا أطيق النزول في المسد، وطفلي في الطمطام، كالسيف
الكهام، ومتى نازل شوازب حبابه، نزلت زلازل النوازل بأحبابه، وأما أنت فقد
زادك الله في الخلق بسطةً، فلا تبالي ان غططت في الماء غطةً، قال: فرفضت
إيابي، ولظت ثيابي، وخلعت نعلي، وقذعت فعله اللي ثم انخرطت في الأشطان،
وقلت: هذا من عمل الشيطان، وعند مجاوزة الظلماء ومجاورة يهماء الماء، طأطأ
رأسه إلي، ثم سلم علي، وقال: احمد الله إذ ألقاك في هذا المضيق، أسوةً
بيوسف الصديق، فعمم هامتك بهذا الرشا، فما أنت بأول من ارتشى، وهذا ما
رمته من الرشى، على تزويج ذلك الرشا، فصرخت صرخةً حللها البكاء، وانحل لها
شناق المشقة والوكاء، فسمع انسان صراخي، بعد طول التراخي، فأنقذني بيديه،
ورمقني بأسوديه وأنا كآدم ذو بأس بلا لباس، كأنني ممسوس من الجنة، فطفقت
أخصف علي من ورق الجنة، ثم التفت غب اليسار، وكسر يمين الميمنة واليسار،
فألقيت قد كتب على التراب، وضربني بقواضب الإضراب، بعد أن كدر عيشاً
صافياً، وضيع خلاً مصافيا، واستصحب قلباً جافيا، وأظهر ما كان خافيا:
الطويل
تفنّن بحمد الله عريان حافيا ... وعدّعن التزويج ما دمت باقيا
فإن ساءني ما ساء خيمك خيّمت ... لدىًّ مدى الأيام قمصى حذائيا
وإني لأجني سوء ظنّي وأنضوي ... إلى خالق مخلولق لاحتذائيا
وأجعل إن صلّيت لله قانتاً ... مقيماً إمام الخمس مني حذائيا
وأُمسي واسمي بعد بزّك بزّتي ... إلى جبهة الجوزاء خوف ابتزازيا
فلا تركنن يوماً إلى ودّ صاحبٍ ... فكم صاحبٍ أصلى الصديق
المصاليا
وكم مبعدٍ أضحى من العرّ عارياً ... وكم من أخٍ أمسى من المكر كاسيا
قال: فوقفت على الأبيات، وانصرفت إلى الأبيات، وأنا ذو وبال ذميم وبال
دميم، أتهافت تهافت سقيم غير مستقيم، كأنني غلام فارق اللبان، وحسام طلق
الجربان، ولم أزل منذ بانً، وأبان ما أربى على أبان، بعدما بعد وآن،
واصلولب ولان، ألعنه إلى الآن.
المقامة الثانية الطوسية
حدَّثَ القاسمُ بن جريال، قال: رُميت عن كبِدِ قوس القضاءِ، الجزيلِ الأنضاء، الوارفِ المتاعب، الوافرِ المعاتب، إلي مدينة طُوْس، وقد طرحتُ الحظ الموطُوسَ واطّرَحْتُ الناموسَ، وحكيتُ بالحِكمَ بطليموسَ، وأنا إذ ذاك طاعمٌ وكاسي، سارحٌ ما بين سَيْنى رِياسي وكاسي، لا أحرنُ لضيقِ قيض يوارى، ولا أحذر ازدحام ضيف فيْض أوارى الواري، فتَخِذْتُ بها صَحباً اتخذوا الأدبَ دِثارا، ودارةَ القمر، دياراً، والمَرَحَ حِواراً، وزُبَدَ المزايا مَزارا، غير أنَّهم - مع مفارقةِ العُنّةِ، ومواصلةِ الأعنةِ، ومقاطعةِ مظنّةِ الظِنة، ومتابعة مُنة المئنَّةِ - أَقْحَل من الأسنّةِ، وأفلَس من رواجبِ الأجنّةِ، فوجدتُهم - بعدَ التجلِّي، والتملِّي بذلك التحلِّي: الطويلبحوراً بلا غَوْر، بدوراً بلا دُجىً ... صخوراً بلا مَوْرِ صقوراً بلا شَكْلِ
مثالُهم في الفضل رأس بلا غِطاً ... وغيرُهُم بالجهلِ نعلٌ بل رجلِ
فبينما نحن نَدْأَبُ لتحصيل الشارع، ونطلبُ صَفيَّ المَشارع، ونحمدُ جُودةَ الطالع، بين هاتيكَ المَطالع، إذ اجتزنا بناد اجتمعَ فيهِ كلُّ مناظر أريب، وبرعَ بهِ كلُّ عُراعَرِ أديبْ، وخَزَمَ عَوْدَ عِرْفانِه كلُّ بارع لبيبٍ، وجزم وضينَ أضغانه كلُّ مقارع مَهيبٍ، ففاقَ كلَّ مربع خصيبَ، وشاق كل مَرْتع رحيبٍ، فانخرطنا في نصاحِهم، وغبطنا غرائبَ فِصاحِهم، فلحظَ أكليلُهُم زُلالَ ورْدِنَا، وأخذَ يستنشِقُ ماءَ ورْدِنا، ولمّا دار كوبُ الفَضْلِ الماضَر، وطار لعُقابِ الزُّبدِ يعقوبُ الحزنِ الناظر، وأمعنوا من ثِمارِ عُودِنَا، وأذعنوا لِزماجر رُعَودِنا، أقبَلَ يصولُ صافِنُ المذاكراتِ، ويجولُ جارحُ الجَدَلِ في حمائم المحاضراتِ، وتَطْمِسُ المحادثةُ عيونَ المَلالِ وتُخرسُ المباحثة ألسنة الكلالِ، إلى أن قرِن بقرنِ تلك القروم نظمُ المنثور ونَثرُ المنظوم فكلٌّ إلى ذاكَ آل، ورفضَ المالَ والمآلَ، وكانَ قد ولجَ في سلوكِ تيك الكُبراءِ، ومَرَج بمروج هاتيكَ الكُرماءِ، رجلٌ أنفقَ في النُكَتِ غمْرَهُ ومزَّقَ لتحصيلِ النكت عمرَهُ، وسَعَّرَ في كل بحثٍ وطيساً، وصيَّرَ علمهُ عنِ البشرِ أنيسا، وشُب فَهمه وقَدْ وَقَدَ، وحُبِّ هُجْر هَجْرهِ فقد فقَدَ، صاحبُ غاياتٍ قد انفَذّ، وجالبُ راياتٍ هِمَم فلجَ بها وبَذِّ، فقال: يا أخوة الفِطَنِ، وصفوَة الزمنِ، هل سمعتم بمنظوم سُبِكَتْ حروفُه فعادَ منثوراً مفهوما، أو منثورٍ أخُذَ بكمالهِ فصار في
العَروض منظوما، ظَعوناً بالسيادة، مصوناً عن النقص والزيادةِ،
فإنَّ سَلْب المعاني غيرُ مبتكَرٍ، وسَلْبَ الحروفِ شديدٌ غيرُ محتَقَر،
فقلنا: لا ومن طرقَ بالاَ إفضالِه الأوّادْ ونطقَ بشُكره لسانُ الأزمنةِ
حين سوَّاه فإنَّ ذلك مما تثُور به البرَحاء، وتبورُ لكفاح حروبهِ
الفصحاءُ، ولم يُسْمَعْ بمثلهِ منذ كسا أدمَ آدمَ الوَرقُ، ودعا الفضلاءَ
لأبوابِ الغباوةِ الوَرِقُ، فهل في عُرام علمكَ الجرَّارِ دُر من هذا
الأسلوبِ، أو غمام عَزمِكَ الدرّارِ دَرٌّ من ذلك الشؤبوبِ، فقال: لا ولكن
نَشيمُ برُوقَ القرائِح لهذا اللائح، ونُديمُ خُفوقَ الفِكَرِ الفائح لهذا
السيلِ السائح، فمن ابتدَعَ منهُ شيئاً، جعلنا له من أموالنا فيئاً، قال:
فرفلنا لذلك الإشعارِ، في فَدافد الترسل والأشعار، وأرقلنا بذلك الإسعار،
لمعرفةِ ارتفاع القيَم والأسعارِ، فعُدنا من تحتِ ذيَّاك الغُبارِ،
ومكابدةِ الاختبارِ، وقد قادنا أقرادنا وأبادَنا اجتهادُنا، وانكشفَ ذلك
الضَّبابُ، وانكشف ذلك الضبابُ، واعترفنا بمعالجة عَوْم عسير، مذ اغترفنا
بمَتْح كَفِّ كُوع كسيرٍ، وإذا بشيخ قَد نهض من طُرّةِ الطّراف، متضائلَ
الأطرافِ قد احدودبَ ومالَ، وسئم، سِربالَهُ الأسمالَ، وانتشر من ثَمَر
قوّته ما صنف وانعطفَ من بَطَر نهضته ما تثقفَ، فلمّا حاذى السماط، وخلعَ
نعلهُ الأسماطَ، دب دبيب حامل، وحيّا تحية خاملٍ، وقدَّم اعتذارَ فاضلٍ،
وتقدَّمَ تقدُّمَ ناضل مناضلِ، وقال: يا هجَانَ الهِجانِ، ورجانَ
الرِّجانِ، وجُمَانَ الجمان وأساةَ زَمنىَ الزمان، أعلمُكم أنّنَي ولجتُ
ناديَكم، وكنتُ بهذه الساحة ساديَكم، فربضتُ بأطرافِ الذَّلاذلِ عندَ
مطافِ الأراذلِ، خاطباً حبائبَ فوائدكم، لا طالباً خبائبَ موائِدكم،
ولعلمي بأنَّ عيصَكم أفضلُ الأعياص، دخلتُ عليكم دخول الميم الزائدةِ على
الدِلاص، ولم أر زعيمَكم بالاقتراح، إلاّ كمَنْ يبغي اجتماعَ النار
والراح، أو كمن يستجدي العداء من الغربَان، ويستهدي الغذاءَ من الغَرثانِ
وقد كنت حين خَبَتْ سيولُ أذهانكم، وكَبَتْ خُيولُ رِهانِكم، ونَبت سيوفُ
أفهامِكم، ورَبَتْ زُيوف اهتمامِكم، أغضى على قذى احتمالِكم، وأمضى في أذى
احتيالِكم، فلما تمزَّقت أهباؤكم، وتدفَّقتْ أعباؤكم، نهضت هِمّتي نهوضَ
السوذنيقِ لعجزِكم عن ركوب نيقِ ظَهْر ذلك الفنيق، وقد تحتم التقدّمُ لهذا
الحال، تحتَّمَ تقَدم مالا يتصرفُ على الحالِ فانظروا إلى عَسيب حرفتي لا
عسيب حِرفتي، وقشيب حلّتي، لا قشيبَ حُلّتي، وصميم خَلَّتي لا رميم
خِلَّتي، فمن قنعَ بملاحةِ غِمْدِ عَضْبه، فاتَهُ الظَّفَر يومَ حلولِ
حربه، وإياكم والاحتقار، فإنّهُ يورثُ البوارَ، فلما قَدَ ما قدَّم من
كلامه، وجدَّ ما جدَّ من جَموم جمامه جثا من وسَطِنا أوسطنا وأنشطنا للطلب
وأضبطنا، وقال له: يا صاحبَ الصّدف المملوءِ بالصَّلَفِ، وكاسبَ الشرف
العاري عن الترفِ، إنْ أتيتَ مما ارتويتَ بما حكيتَ، كان لك منا ما أوعيت
لما وعيتَ، وإن أبيت عمّا عنيت إذ ادعيت، ساءك خَسْر ما اشتريتَ بما
شريتَ، وضُر ما أفديت مذ افتريتَ، وإن شِئتَ خوّلناك أجملَ لباسنا، وأكمل
أفراسِنا، وهو أشرفُ قَبولا، وأمتُن سولاً، وأحسنُ هدى ونسولاً، وللآخرة
خير لك من الأولى، ثم قال له: اعلم أنني تصفحتُ أمس كتابَ الحماسةِ،
العالي على العقيانِ في النفاسةِ، فأطربني منه قَولُ الصمةِ الكئيب،
الواردُ في أولِ باب النسيب، إذ تجللَ جَوادَ المجالِ فجالَ، وتقلقلَ
لمقانبِ الانتقالِ فقالَ: الطويل:
حننتَ إلى ريّا ونفسُكَ باعدتْ ... مزارك من ريّا وشَعباكما معَا
فما حسن أن تأتي الأمرَ طائعاً ... وتجزعَ إلىْ داعي الصبابةِ أسمعا
قفا ودِّعا نجدا ومَنْ حلَّ بالحِمى ... وقلَّ لنجد عندنا أن يودّعا
ولمّا رأيتُ البِشرَ أعرضَ دونَنا ... وحالَتْ بناتُ الشوقِ يحنن نزَّعا
تلفت نحو الحيِّ حتى وجدتني ... وجِعتُ من الإصغاءِ ليتاً وأخدعا
بكتْ عيني اليُمنى فلمّا زجرتُها ... عن الجهل بعدَ الحِلْم أسبلتا معَا
وأذكرُ أيامَ الحِمَى ثم أنثني ... على كبدي من خشيةٍ أن تقطّعا
وليستْ عشياتُ الحمى برواجع ... عليكَ ولكنْ خَلِّ عينيك تدمعَا
فقد اخترت أن تحصرَ حروفَ هذه القصيدةِ السديدةِ، في رسالة تدلُّ على
المقاطعة الشديدةِ، فقال له: تاللهِ لقد رمت الحبَبَ من سَحوح، والخَبَبَ
من سَبوح، والانسجامَ منْ الغَمام، والإقدامَ من المقدام، ثم إنه أطرقَ
لاستدعاءِ أبكارهِ، واستهداءِ تحَفِ ابتكاره، والعيونُ محيطةٌ به إحاطةَ
النطاقِ بالخَصر، والعِتاقِ بالحَصْر، فِلما حرَّرَ ما صنع، وجَرّز أذيال
ما اخترعَ، قال: اكتبوا ما تسمعون، واسموا ما تسمعون، وستذكرون وتشكرون،
وها هي ما أملي وتسطرون: عَرفُ أدب الحُلاحل العَليِّ، الناميِّ الرضيِّ،
أمجدَ اللّهُ رأيَهُ وسرمدَ، وبرعَ باعُ عزيمتكَ وأيَّدَ وعًنّ عن معانكِ
عِنانَ الإحَن وشرَّدَ، سامٍ على طيبِ المَلاب الذكيِّ بل الأناب الأرج
التنكتي، ولآيةُ أنيقِ خطابكِ الجنيِّ أحسنُ مِنَ الدُّرًّ السنيِّ، فَلمَ
سحَّ بُعْدُ ازديار منادماتكَ، واشتدَّ زَنْدُ عِبْءِ صَدّك، غِبَّ انتجاع
مناشداتكَ، مَعْ تحقُّقِكَ أنَّ خيرَ ما نجعَ مُزْنَةُ وَلاءِ، وأحقُّ ما
تُوِّجَ تاجُ صفاءٍ آلُ إخاءِ، فعييت عن عَنَنِ حنين وحيت، وشيع شياح
تتعتع عانيتُ وما جنيت، ولو حويت من العَياء ما حويت، لثويت مِن أعباءِ
العناءِ فيما ثويت، قال الراوي: فلمّا رصفَ ما رصفَ في مكاتبته، ووصفَ ما
وصفَ من معاتبته، ونَجزَتْ سحائبُ فكريه، ونَجَزَتْ غرائبُ مألكتهِ،
طَفِقَ القَومُ يحصونَ حروفَ كلماتهما، ويستقصون في فحص محكماتهما، فحين
استُحسِنَ التساوي، وتيقَّنوا عدمَ مساجله والمُساوي، أنغَضوا رؤوسهم من
العَجَبِ، واضطربَ طِرافُهم من الطَرَب، وقالوا: إنَّ هذا لبديعٌ حَسَنٌ،
وبَديغُ تيقُّظٍ لا يُسامرُ إنسانَه وَسَنُ، ولا يخامر يفن افتنانهِ أفن،
فهل تقدِرُ على أن تعيدَها أبياتاً، وتجعلها لكمالِ حروفها كِفاتاً سنيةً
في الروى والوزنِ، منيةً لمصادمةِ الشامخ والرزن، جليةً في الإذاعةِ
والحَزْنِ، خَليّةً من الخلل في السهولةِ والحَزْن، أتيةً في الإقامة
والظَعنِ، أبيةً عند طعنِ ذابل الطعنِ، فإنه أصعب وأصلف، وأعذبُ وألطفُ،
إذ النظمُ حال بحَلى العَروض، والنثرُ خالِ من المخبونِ والمقبوضْ، فقال
له: وايمن الله عندي صرام لخلال خلالك، وضرامُ لإضرام سَيَال سؤالك،
وانسكاب لانبساط راحك، وشهابٌ لإحراق شياطين اقتراحك فإن راقكم فاحفظوه
وحفَّظوه، واحتفظوا به ولا تُحفِظُوه، وها هو فاسمعوه وعُوهُ، وإن أبيتموه
فدعوه ودعُوه: الطويل
أنيخا يمينَ الحيِّ في الجزع واسمعا ... بكاء يُعيدُ الطودَ دكا مصدّعا
وإنّا ونثّاهُ اليمنى وحدِّثَا ... عن العَيِّ لما انهلّ حين تشيّعا
ولم تنسني حينَ ارتحلنا وبيننا ... أنينٌ أطال الخلو مني التوجّعا
فجاءتْ بقدّ قيدَ رمح وخَلْفها ... جَنان على تلّ من الكور أتلعا
فشَقّت شَعاعا عن شُعاع وأبرزتْ ... بنا كلكلاً حاكى لُجيناً ممنَّعا
ونصت براح عن بَراخ وكلَّمَتْ ... بذي ترف حازَ الملاحة أجمعا
وعضت بدر عندما غبّ أن سقَتْ ... من النرجس الوسميِّ ورداً تمتّعا
وجئتُ إلى التشييع كَدًّا وعزّني ... حميمٌ أبادَ الكِبْدَ منِّي تتعتُعا
فلما شرف بإشاراتهِ النّطاف، وأطرفَ بتنبيهاتهِ اللطافِ، وأفادَ
أسماعَنا وفادَ، وأستادَ عقائلَ انتقادنا وسادَ، أُفرغ لديهِ من الولاءِ
أصفاهُ، وأحضِرَ إليه من الحِباءِ أضفاهُ واعتبرتْ حروفهما اعتبارَ إتقان،
فكانتا كفرسيْ رهان، ما نقص حرف ولا زاد، ولا أخطأ المرادَ، فقالوا له:
إنك ومستحقّ التبجيلِ والتمجيدِ، لكالأنفحةِ في التحليل والتجميد، فحينَ
حقّقَ إقبالهم عليه، وتحقَّقَ انثيالُهم لنصاعةِ صناعتيه، قال لهم - وقد
تأثّفوهُ واستوكفوه، وفاض بالدررِ فوه - : يا مطارف الهوف وصياصي
الملهوفِ، اخلعوا الخز، واترعوا البزَّ، وارفعوا العزَّ والبَزّ فمن عزّ
بزَّ فأحضروا لحكمهِ المِحضيرَ، واستحضروا لهُ النضيرَ، وشكروا لفظَه
المشتارَ، وجاءوا إليه بما أشارَ ليشتار فبادرَ إلى إنهائه، وغادرَ كلاً
بإهابهِ والتهابه، وانثنى يستصحبُ الحقّ، وامتطى الطِّرفَ الأحقَّ وانتهز
الفرصةَ بسكرِ مواتٍ، وأحرز من العسجدِ جذر تسع مئاتٍ، قال القاسم بن
جريال: وكنتُ حينَ كفتَ خروقَ أطمارهِ، وانكفَتَ إلى شُموس المجلس
وأقماره، أمعنُ لمعرفتهِ، لأعرفَ نكرةَ نُكرهِ من معرفتهِ، إلى أن ظهرتْ
ظواهرُ ألفاظِه، واستظهرتْ جواهرُ استيقاظهِ فعلمتُ أنهُ أبو المصريّ،
غوّاُص اللآلئ، وقنّاص أبناء الليالي، فهممتُ عندَ ذلكَ بمجازاته،
واسترجاع إجازاته، لأرحضَ عني الونيم، وأنتهبَ النهدَ والنيمَ وأدركَ منه
الثأرَ المُنيمَ، بَيْدَ أني كرهتُ انطفاءَ ضَوءِ قمرِ قدرهِ، والانكفاءَ
لاستردادِ ما وقعَ في قدره، وعفْتُ انتشار فواحشه في الأحشاء، وادكَرت ما
ورد في إفشاء الفحشاء، ولمَا حصلَ على زُييته وحَوْصَلَ لحواصل بيُتْه،
وتوشَّح بوشاح النجاح، وترنح ترنحَ الجحفل الجحجاح ملْتُ إلى إيثاره،
وتتبُّع آثاره، وجعلتُ أنحُوهُ كاللصِّ المحصور، والصلِّ المصحور بعد أنْ
هوَى هويَّ الصقور، بين القصور، وصافحتْ أكفُّ لحَاظنا يد ققائه الممدود
المقصور، فحين قَرُب من عرينه، وكادَ ينقلبُ إلى قرينه، نظَر إلى نظر
الصِّيد، أو الموالي بالغَصب إلى العبيدِ، وأقبَل يتمزَّعُ منَ الحَرَدِ،
ويتوقع فري إفساد ذلك البرد، وجعل يتعامس علي، ويثب ويثيب أبي وثاب إلي
فقلت له أقسم بمن خصك بخصال القليب إنّك لصاحب يوم القليب، فقهقه لارتجال
قوافيه، وعجاج سوافيه، واختصرت على تلافيه لما تلافيه فقال لي: يا بن
جريال، لا تقنط لدفع ما هر، ولو اسمهر، ولا تسخط لشرب ما أمر، وقد مر،
فأعرفك السليم السليم، الشارب بيد الحميم الحميم، فقلت له: انتصف من اعترف
بما اقترف، عفا الله عما سلف، فأغمد لصحفي النصال، وضارع القصال، وقصد
الانفصال، ومال لجذم الصخب وصال، وأنشد بعدما سكنت ألوية بطشه وعصائبه،
وبركت ركائب طيشه ونجائبه: البسيط
واحفظ وصية من أوصاك معترفاً ... أن الزمان جزيلات عجائبه
لا تفرحن بما أوتيت من نعم ... فربما عاد في الموهوب واهبه
واصبر إذا نزلت كرهاً نوازله ... إن الصبور عزيز عز جانبه
واركب مع العفو طرفاً لا يعارضه ... يوماً عثار فإن الحر راكبه
والبسْ ثيابَ الحجى والحِلْمُ مُدَّرِعاً ... دِرْعاً تجولُ على العَليا
مساحبُه
وَخُذْ مِن الورد ما يكفيك من ظمإ ... وخَلِّ بعدكَ كي تَصفُو مشاربُه
وارحلْ إذا كنتَ في الأقوام مطّرحاً ... واترك حِجاك بلا شَوق يجاذبهُ
وعدِّ نفسَكَ عن باب اللئيم فما ... يدنو إليكَ بما ترضاه حاجبهُ
واخفض عدوّك لا تنصب مصادرَه ... لا انْجَرَّ جازمه، واعتل ناصبُه
قال: فلما فَرَغَ من مفيدته المُزهرةِ، وخريدته الخيّرة المبهرة، قبضَ يدي
قبضَ البازِ وتملّق تملّقَ الخازبازِ، ثمَ إنّه اعتذرَ لفراقي، وابتدرَ
إلى عناقي وأمطرَ حيَّ شؤونهِ، وأظهرَ خبيّ شُجونهِ، بعدَ أن تململَ
تململَ الحَبْر، وتذلَّلَ تذللَ الجَبْرِ، ومسخَ صورةَ الغَدْرِ، ونسخَ
سُورةْْ الغَضَبِ، منْ مْصحَفِ الصَّدْرِ.
المقامة الثالثة اللاذقية
أخبر القاسمُ بن جريال، قال: نويتُ مفارقةَ اللاذقيةِ والأقرانِ المُماذِقيَّةِ، لغَلبة غلباء، وسَنَةٍ شَهباءَ، ما لمعَتْ لها بروق، ولا لمعتْ بها لاقحٌ ولا بَروق، وكنتُ في تلكَ المجاعاتِ، وتهافتِ الجماعاتِ صاحبَ صِبيةِ، ومصاحبَ صَبْوةٍ وصَبيةٍ، أربحُ من لَببِ اللُبابِ، وأبرحُ عن سَبَب السِّبابِ وأرمحُ لِعُبابِ العيابِ، وامرحُ في ثيابِ الثوابِ، ما عُرِفَ لي تُفُوه، وأنا مشفوه المشارب مشفوهٌ، فحينَ نجِمَ دخان خضرائها، وأنجمَ دخانُ غبرائها، وانجزمَ نسلُ نسائها، وانجرمَ النسلُ بأرجائها، وصهَرَ حَرورُ يوحِها، وهصَر بفودي الإفادة ماء طوفان نوحِها، منحتها مُرَّ الطلاقِ، ونفحتُها بانطلاق المطلاق، واحتلست مطية فاحمة الأطمارِ، متزاحمة الاختمار، مائلة عن النفارِ، عادلةً عن العثار، مبرّأة من البُرى، مفدّأة في السُّرى، لا يناهزُها الإرزام، ولا يُجزّ حَيزومَها الحزامُ، تَزْفِنُ لشدّةِ الاضطرابِ، زَفْنَ الشاربِ لنشوة الإطراب فأبرز الرايسُ شُرُعاً كان أنشأها، وأحكمَ إتقانها وأنساهَا، وأصبحَ مَصافحَ مجراها ومرساها، وقال: اركبوا فيها، باسم اللهِ مُجراها ومُرساها فلم تزل تنازل فوارسَ الأهوالِ، وتغازلُ عوائس الأوهال، وتجانبُ جحافلَ الإجبالِ وهي تجري بهم في موج كالجبالِ، حتى شرِبنا كؤوسَ السعادةِ الكِسرويّةِ، بأكفِ معالم الإسكندرية فولجتها وأنا من الميدِ كالمجنونِ، والقيظِ كالمفتون، فأقبلتُ أتقلقلُ لمفارقةِ الرفاقِ، ومرافقةِ الفِراق، إلى أن وقفتُ بالجامع ذي السوائر، وقفةَ الحرونِ الحائر، فألفيتُ غِلمةً واكفةَ الشؤونِ، ونسوةً منشورةَ القُرونِ، وعتاقاً مقلوبَة السروج، ونياقاً مكبوبة الحُدوج فقلت لمنحبٍ واقفٍ، ومكتئب لحنظلِ التحرق ناقفٍ: ما هذا الفَرْيُ الفظيعُ الواقعُ، والشَّرْيُ الشنيعُ الناقعُ، الذي ميطتْ له البراقعُ، وعجزَ عن إصلاح. خَرْقهِ الراقعُ؟ فقال: إنَّه قد دَرجَ صاحبُ دِيوانِ الوزارةِ، المشهورُ بحسنِ الإشارةِ، ذو الضيفِ والقِراع، والسيفِ واليراع، والخلّةِ والخوان، والجِلَّةِ والجفانِ، فقلت: تاللهِ لا أزالُ أو أذوقَ بعدَ حُور محاوراته، مُرّ مُرار مواراته، فإنَّ استماعَ العِظةِ مصقلة للقلوب، واتّباعَ الجنائز مَرقلةٌ عن الزلل والحوب، ثم إنِّي ولَجتهُ وعلوتُ بعيرَ العِبَر، وحدجتهُ فوجدتُه مغموراً من الغاشيةِ، مسجوراً من الغاشيةِ والماشية وبين تيكَ الحِزَق، وهاتيك الخِرَق، وُعّاظ تلبوا للعَصَبْصب الشديدِ، وترتبوا ترتيبَ أسماءِ التأكيد، فابتدرَ واعظٌ أفصحُ من قُسِّ المقالِ، وَأرجحَ بالارتجال في ذلك المجال، فدنوتُ لقبض عقاص تلك الخِلاص، وفضِّ عِفاص ذلكَ الإخلاص، فكان مِمّا رعيتُه بالاختصاص ووعيتُه من خَصاص الخِصاص: ابنَ آدمَ إلامَ تعومُ في بحارِ هفواتِكَ، وتقومُ لقطفِ ثمارِ خَلواتِك، وتكرع من فراتِ الآثم، ولاَ تركع لردع زفراتِ المآثم، وتُنْظِرُ إصلاحَ حالِكَ، ولا تنظِرُ سوادَ ذنبِكَ الحالِك، وتحكي نفيسَ مالِكَ، ولا تبكي لخسيس آمالِكَ، وتمنعُ من فضولِ غَمرِكَ، ولا يُطمعُ في أفولِ غِمْرِك، وتركبُ وتصيدُ، ويُلثمُ لكَ الوصيدُ، ويجبى بك الحَصيدُ، وقد انقرضَ آباؤك الصِّيدُ، فلا يردعُك الواعظ، ولا تخدعُك المواعظ، ولا يرفعُكَ فعلُ مَليحةٍ فتغنمَ، ولا ينصُبك تمييزُ قريحةٍ فتعلم ولا يخفِضُكَ خافِضُ فضيحةٍ فتندمَ، ولا يجزمكَ جازمُ قبيحةٍ فتسلم، وَيْكَ أما تفزعُ من ركاب حَيْنِكَ، وتجزعُ من ارتكابِ مَينِك وتَقلعُ شجراتِ شَيْنِكَ، وتُقلع عن شهواتِ عَيْنك، تاللهِ إنَّ الموتَ ليشذِّبَ موادَّ سعيكَ، ويقرّب نُوادَّ نعيكَ، ويبلقعُ خَدور مغانيكَ، ويقطِّعُ صدور غوانيكَ، ويقلِّم قدودَ أعوانك
ويكلّم خدودَ إخوانكَ، أتخال أن تمنعَكَ حصونُكَ إذا آنَ منونكَ،
أو ينفعَكَ مخزونُكَ، إذا استعبَرَ محزونك، أو يرحمَك آلُك، إذا حان
سؤالُكَ، أو تعصمُك أقيالُك، إذا أدبَر إقبالُكَ، أو ينصُرَك سُوْرُكَ،
إذا اخْتُطِفَ مَيسوركَ أو تسترّك ستورُك، إذا انكشفَ مستورُك، أم تحسِبُ
أن سيسعدُك أودّاؤك، إذا فُقِدَ دواؤك، أو يعضدُك عبَّداؤك إذا أعضلَ
داؤك، أو تجبرُك وعودُك وعودُك إذا انحسمَ وجودُك وجودكَ، أو يذكرُك
وصفاؤك وصفاؤك، إذا انقطحَ وسناؤك وسناؤك، فأنَّى تفوزُ وأنتَ عن منهج
الحقّ جانحٌ، أم كيفَ تجوزُ مفازةَ فوز ما سنحَ لك بها سانح، تطفحُ بخلٍّ
من هناتِكَ، ولا ترشَحُ لّخلٍ من هباتِكَ، وتفرَحُ بربيع ظابَك ولا تترحُ
لخريفِ انقضابِك، ففي غدٍ تُلدَمُ بكفِّ مساورة تُرابك، وتَسْدَمُ لسَورةِ
مسامرة ما تُرابكَ، فحتَام تخلوِ بمخازي خلائكَ، وتجلو بدائعَ البدَع
لمُختالةِ أخلائكَ، وأنتم أيها الغافلون بلباس الدنس رافلونَ، فسوقَ
الفُسوقِ تفتحون، وسَوْق الفَسوقِ تربحون، ومنهاجَ الكسلِ تَطُون، وأثباجَ
المَلَلِ تمتطون، وقَعودَ القُعودِ تركبون، وجَمودَ الجمودِ تصحبونَ، فآلَ
الاحتراثِ أما تشبعون، وإلى الأجداثِ ما تشبعون، أفلا مِنَ الموتِ
تجزعونَ؟ ولا لخبَبِ خيولهِ تَخشعون، فعن قريب تَزارُ ليوثُ الوَجَل
فتجأرونَ وتمطرُ غيوثُ الإغاثة، فلا: تُمطَرون، وتطلعُ شُموسُ المكاشفةِ
فتأفلونَ، وتطفو سَفينُ المحاسبةِ فترسبون، ويُبرقُ برْقُ الموافقةِ
فتبرقون وترشَقُ قُذَذُ المناقشةِ فتُصْعقُون، أتظنون أنكم تَسلموِنَ، إذ
تُسلَمون أم تَطمعون أنكم تُمْهَلونَ حينَ تُهملون، أو يرقأ دمُ الندم يوم
تهلعون، أو يدرأ الحُطمة الحُطامُ الذي تجمعون أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً
وأنكم إلينا لا ترجعون ثم إنهُ أنشدَ أهلَ مُصابِه بعد نَصِّ لِيته
وانتصابِه: الكامل:
لا تحزنَنَّ مدى الزمان وصَابه ... واصبر لما أولاكَ من أوصابهِ
وتدَّرعَ الصبرَ الجميلَ فإنَّه ... دِرْعٌ تقدَّسَ ربُنا أوصى بهِ
وتيقنن أن الزمان لجهله ... سكران فاجيءْ حربَهُ أو صابِه
واعلمْ بأنَّ حِمامَ نفسِكَ واردٌ ... في شهد مَشربِكَ الجني أو صابِه
قال الراوي: فلمّا سًدّ أدعيةَ عظاته، وشدَّ أوعية مبكياتِه، أتحفَ بهبةِ
جميلة، وأسعفَ بجُبة جليلية، فَجَعل يَتَخَنْدَفُ للمَع فُصوله، ويتغطرفُ
لمنتَخب محصولهِ، ويتطلّسُ لمفصَّلهِ، ويتغترس باقتناص مُحصَّلهِ، ثم أخذَ
بعدَ جزالةِ جزائِه في شُعَبِ لُغيزائه حتى خرجَ منَ القوم خروج السقْب من
سَلاهُ، والنَّدْبُ عمنْ قربَه وسلاه، وأنا خلفَه أخضب مشيب مشيتي، بَكَتم
كَتْم حِسِّ وطأتي، إلى أن طرقَ بابَ حديقةِ بعيدةِ الأرجاءِ رغيدة
الأفياء فبرزَ إليه فتى ألطفُ من اللفظِ اللطيف، وأقضفُ خصْراً من
القُصْنِ القضيفِ، وقال له: ما الذي عافاك،وباعدَ قفولكَ وملقاك، وأنهلك
عُقار التقاعس وساقاك، حتى توَّقفَتْ قدماً قدومك وساقاك، فقال له: تأخّرُ
وقيص احتيالي، وبطءُ دخولِ قنيص حِبالةِ محالى وبعدَ ما استبعدَ الغلامُ
الأجلَ، اطرَّح الشيخُ الخجَلَ، وأغلقَ حُرْجُولَه وارتجل: الطويل
خليليَّ لولا حيلتي ونخيُّلي ... على الناس لم أبصرْ مدى الدهرِ واهبا
ولكنّني أسعى بكل فضيلةٍ ... وأضربُ شرقاً في الورى ومغاربا
وأنصُب نصب النصب في كلِّ مَنْصب ... وأجعلُ خيلَ الختل فيه مخالبَا
وأطردُ طِرْفَ الطّرفِ فيَ كلِّ طُرْفَة ... وأعطف عطفي للمكاسبِ كاسبا
فطوراً تراني في المجالس واعظاً ... وطوراً تراني في المنابر خاطبا
وطوراً تراني في المحافلِ شاعراً ... وطوراً تراني في الجحافلِ راكبا
وطوراً تراني في الجوامع قارئاً ... وطوراً تراني في الصوامع راهبا
وطوراً تراني في النوائبِ واهباً ... وطوراً تراني في الكتائب ناهبا
فهذا شِعاري ما حِيَيْتُ لأَنَّني ... وجدتُ بياضَ الفضلِ في الجهلِ راسبا
قال القاسم بن جريال: فحين فاهَ بجليَّةِ حالهِ وتاهَ بسريّةِ مِحالهِ في محُالِه، أيقنت أنَّه المصري بلبلُ بُستانِ السرور، وقُنبلُ محراب دهاءِ الدهور، ولمّا علمتُ بقعودهِ، وقرِمْتُ إلى اختبار عُوده، صرتُ بينَ أقنانه لافتراع فرائدِ افتنانه، فألفيته بين مِزاح يَموجُ، وأقداح تَروجُ، وأغصانٍ تنوع، وحوْذان يضوع، وغِناء غريب، وغَنَاءِ رغيب، وكِباءٍ رطيب، وخِباءٍ وطيبٍ، فعِفت سربالَ التدلس، وعرفتُ ما ذكر في جرِّ جلبابِ التجسس، وندمتُ على تحلَّيتُه، وقدِمتُ إلى ما صنعتُهُ فلحيتُهُ وكرهتُ أن أكون بعدها قريباً رقيباً، أو اجعلَ عِرْض كلَ منْ وجدتُهُ بالأدبِ رحيباً حريبا.
المقامة الرابعة الشينية
روَى القاسمُ بن جريال، قال: ألفت إيّان نهابي، وإبّانَ طَراوة إهابي، وإجتلاءِ حَبابي، واختلاءِ أفانين لُبابي، مداومةَ السِّفار، ومنادمةَ الأسفار، وانتيابَ المخارم، واجتنابَ المحارم، وأنا - مع مناسمةِ السَّرْو الساكب، ومُكاسرةِ السأو الكاسب - ذو حَدِّ غير محدود، وخَد غير محدود، ما خالطَ مسكَ فوديَّ كافورُ يُهاب ولاَ خامرَ مِسكَ جنبي فضول تعاب فلم أزل أضارع نعامى، وأجعل الخبب طعامي وأسير بالدو الدامي، وأصير النخب إدامي، إلى أن أدتنى شحوة الشحناء والقتنى مناسم العنس العنساء، إلى نواحي البصرة الرعناء، فألفيت حياً موسوماً بالسباء، محسوماً عن الاستباء، فأرخيت إليه زمام التقريب، وقد مالت الجونة للمغيب، وكنت خشيت شدة الاضطرام، وازدحام حام الظلام، لعلمي أن هذين إذا حما أشد من التشنج بعد الحمى، فلما دلفت إلى باحته، وكلفت بعظم مساحة ساحته، وجدته أعظم حي، وأنا كالميت في صورة حي، قد غادرتني أوجال السفرة الحجون كالعرجون، وأوحال الحزون كالمحزون، فوقفت محني القرى ألتمس المبيت وعقرى، فأقبل إلى ألطف عبقري، في أنعم عبقري، وقال لي: مرحباً بك من منادم، وصادم صر مصادم، هلم لنكرم مثواك، ونختم المسرة بمسراك، فعندنا أشرف فئة، وأكرم إبل مدفئة، وطعام مركوم، ومدام، وكوم، ومن المحاضرة الإنشاء، ومن المسامرة ما تشاء، قال: فاستويت بعد جلوة منته الحسناء، والاستصباح بسنا مسايرته والسناء، ومزايلة جوانح الوجناء، على روضة روضة إفضاله الغناء، فجعل يسير وعندي الخجل اليسير، وأنا خلفه أسير، ولفضل سعيه الأسير، وحين حللت بحوائه ورفعت بين العرب ألوية ثنائه أشار إلى كل مشارف، بإحضار شارف، وإلى كل قريع، بنحر نحر قريع، وإلى الرعابيب بقضب الرعابيب، وإلى الطهاة بالإنضاج، وإلى السقاة بالإزعاج، فلما قدمت القدور، وبادرت إلى المعازف البدور، وتقدمت الخمور، وجعلت العبدان عندها تمور، أمر بقدوم إخوانه إلى خوانه، وحضور خزانه لا حضار خزانه، فظلنا بين شدو ونشيد، وشاعر مشيد، وداعر نجيب، وذاعر مجيب، تجانبنا جنائب المجانبات، وتحاببنا حبائب المحاببات: الطويل:وبتنا نشاوى من حديث كأنه ... جنى النحل مقطوب بريح القرنفل
لطيف أو الراح المشوب بعنبر ... يخامره طعما شهاد وفلفل
وملنا إلى الأضواء نرتع في الدجى ... بروض سديف كالقطن المفتل
بكل صبيح مع فصيح كأنه ... سحوح سحاب مسبل أي مسبل
تراه ربيعاً في المحول وموئلاً ... مع الخوف حتى الدهر زاداً لمرمل
وكل قؤول للقريض مبرز ... على كل نظام جميل مجمل
ترى عنده قس الفصاحة باقلاً ... وشمساً كنبراس وليثاً كتتفل
كذا عنده أوس بن سعدى وحاتم ... وأهل الأيادي مادر في التطول
شديد لدى شد الكماة مكرم ... كريم المحيا منزل حيز منزل
يتيه على من تاه قدماً بقوله ... قفا نبك من ذكرى وحبيب ومنزل
قال: فلما لاح مصباح الصباح، وفاح ريج رواح الصباح، طفقت أثني
بلسان مقتي، وأنثنى لامتطاء ناقتي، بعد أن خزمتها، وشددت العيبة وحزمتها،
ثم إني ركبتها، ومددت وضينها وركبتها فقال لي: لن تذهب ومن عرف المصيف،
وشرف المضيف، وحمد محاسن اللين، أو تذهب شدة أحرف المد واللين، فأقبلت
أتردد في إهمال الإمهال، تردد إن المخففة بين الأعمال والإهمال، وعند جنوح
الترجيح، وسنوح قد الإقامة الرجيح، سرت سيرورة الإعجال، إلى تلك الحجال،
وطرت طيرورة المعجال، لمجاورة الرجال، ولما آن وقت العشاء، وحان حين حلب
البوازل والشاء، أقبل ذو عمامة قفداء، على مطية ربداء مرثومة المناسم،
تسيل سيل السيل الراسم قد ملها النطيح مما تطيح، وبلها المسيح مما تسيح،
وبيده اسمر كشف المحبوب، أدور من الماء المسكوب من فم الأنبوب، وقد أوثق
لثامه حذر حروره، وأطلق زمامه لإسراع عيسجوره وأمامه غلام قد نزل عذاره
وانخزل ذراره، على صافن سحوح محبوك الجوانح جموح، فلما ورد سوح السرادق،
وتورد دلوح تهتانه الوادق، رفع يده وأطلع من وطاب الطرف زبده، وقال: يا
رباب الرباب، وأرباب الأرباب وعوان الخطب الخطير، وأعوان العاني القطير
أين أميركم؟ ومميدكم ونجيبكم ومجيبكم، ذو يتطول في اللهيم، ويعول على
معاليه في العويم، قال الراوي: فأرسله القوم إلى صاحب خبائنا، ومجمع
اختبائنا، فلما وقف برحابه، ووكف سحوح نحابه، وهمر قطقط قحابه، أبرز رجله
من غرز ناقته، ووضعها على نمرقته ومضى في إظهار ساتره، وشور إليه بشناتره،
وقال السيد السكوب، السند الكسوب، السابق النسيب، السابق الحسيب القسور،
السفاح الأسور، السحاح الباسل، السني الناسل، السرى المداعس، الخميس
المنافس النفيس المستأسد السديد المسعد السعيد، أسعد السلم سراء سيادته،
وسرمد سراء سعادته، وأسبل سربال حماسته، وأرسل مرسلات حراسته، وسدل ستور
مسرته، وسجل سيب انسكاب سورته، وسمل بسداد سيرته، وسمل إنسان حسدته،
بمسبار حسن سريرته، أسح سول، وأسمح مسؤول، وأحمس حابس، وأشمس سائس وأشوس
فارس، وأشرس ممارس، وأسد خيس، وأسد خريس، وحاسم رسيس وطاسم وطيس، وسمع
فرسان، وسمع سلطان، وحسام مسحوت، وانسجام سبروت، وسرد لحاسد، ودرس لساحر،
وسلامة مناسم، وأسامة محا، فسجلك سالم، ومساجلك مسالم، وميسورك مقسوم
ومقسورك مسقوم، ومحسوسك محسود، وناموسك مسعود، وسير سماحك تسير، وسوى مسيل
سحبك اليسير، وإحسان سؤددك يهيس وبستان سعودك يميس، وسيوبك تسح وتستماح،
وأسلوبك أيسر محاسنه السماح، ومستنجد معسكرك مسن، أسهمه بوس وأسقمه عكوس
وسامر السهى سهاده، وناسم السنا حساده، وسبت سبته إسعاده وسبت عساكر سعد
سعاده، وبس حسه حسانه وحس سيفه حسانه، فسلم سواي بلباس السلب، وحسم سواي
بالتباس النسب، وسلمت وسليلي، وفرسه ودرفسه سبيلي: الطويل:
فأمسيت رسماً ليس يسعد كسرتي ... سوى سيبك السامي السنى المساعد
فسارع عسى يسمو بحسن وسيلتي ... سناني وأنساني السفوح وساعدي
وآس نساء حاسرات بكسوة ... لترسو وتسمو بالسناء وساعد
قال القسم بن جريال: فلما بث قرن مقامته، وفت الأفئدة بقضب
مقالته ومض الجوارح لتقويض رحاله، ورض الجوانح بخسيس ترحاله، لحظ الأمير
الغلام، وقال: ذو ذكر والدك علام فقال: أشعر الشجاع الشارخ، والشراع
الشامخ، الأهش الشنخوب، الأبش الشؤبوب، الأشسع الشديد، الأخشع الرشيد،
الشمري الشكور، الشمرذلي المشكور، شيد مشيد شجاعته، وشرد مشاحنه بجيش
شراسته، وشكرت شيم شارق مناشدته، وشهرت أشعة شوارق شدته وشرقت شهب شهامته،
وأشرقت شموس شنشتته: شأن الشيخ المنكمش، بالشجى، المحتوش الحشا، الأشهب
الشواة، الأشيب لمباشرة الشياة، فشأنه شهد شؤم شقيقي المنشمي مشرفياً لشبل
الشميذر العبشمي ليشاهد شحذ شفرته، لانتشار شدة شهرته، بشرب كالشياطيم، شم
الخياشيم، فشمر تشذره، وشذر شوذره، وشمر بشذاته شمرة شقت شؤون شواته،
وشمرة شهرت حشاه، ونشرت شعر حشد حشاه، فشدي نشوة الشراب، ونشأة الشباب،
فشمت شطباً يقشع المشاحن، ويشرع الجواشن، ويشده المشاقق، ويشبه المشارق،
بشطر أشهب كالشعاع، وشطر أشكل لمشابكة الشعاع، وشددت شدة شردت شذب حشاشته،
وشيدت شدائد شقاوته، وشدقت بمشافهة مناقشته، وشققت شقاشق مشاققته فشب شرر
شرهم شبا وشابوا بقشيب الشدو قشبا، وشهى شرب الشرب شغبا فانحشر معشرهم
للمشيج بالنشيج، ومعشرنا للشجيج، بالوشيج فشرب شرذمة شقاق مشاجراتنا، وشبم
شمول شيم مشرفياتنا وفشل شرذمة مستشفعين بالجيش المشروح، بشفتي شيخنا
المشهور المشروح، فشيدهم بحشر يشيب الشعور، ويشذب الشعور فشتت شملنا
باشتداده، ومشاغبة انحشاده، فاحتوشت إشرافنا الشعوب، وشعبت شعبنا شعوب،
وكشط شواتي شهود وشحط أشبالنا مشهود: الطويل.
فارشد شريداً شفه غشم غاشم ... غشوم مشوم باشتهار المشاهد
وشرد بجيشي جاش شد وشدة ... شذى شرهم شبه الشجاع المشاهد
فشعري وشعري شاهدان بشقوتي ... وشيخي كشيخي بالنكاية شاهدي
قال: فحين باهى بشينيته، وضاهى أباه في سينيته، أخرج عضبه وهو من سيول
الدما كاب، والذب عن خدور الدمى ناب، ثم أشار بيده إلى رأسه فجعل دمه
يتساقط على رئاسه فتشققت لصابهما غلائل الشموع وتدفقت لمصابهما أفواه هموع
الدموع، ولما فترت رنة الحي وانكدرت أنة ذلك الشي، قال لهما الأمير: اعلما
أن حي جريحكم ومن هلك بدبور ريحكم، نقوى على كفاحه، وإن عظم وميض صفاحه،
وأما بنو سعد فلا نصبر على نزالها، ومبارزة أسود عرزالها، ومع ذلك فشقتهم
بعيدة، وشوكتهم شديدة، وإنما نمدكما بما يفيض حياض خالكما، ويبيض وجوه
حالك، حالكما، ثم قال لوصيفه: اذهب ذهاب الغروب، وآتهما بما تخلف من
النضار المضروب، فعاد بمائة مصرورة، في أسرع صيرورة، فركض الشيخ ركض
المقاطعين، وقبض نطاقها قبض الضابط تسعة وتسعين، ثم إنه أخلى خباء
لمنامهما، بعد إعداد طعامهما، وقال لي: كن الليلة سميرهما، ليذهب بغيض
همهما، وينضب بعيض ماء غمهما فذهبت بهما إلى خبائه، وأكرمتهما إكرام
أحبائه، وأقبلت على مسامرتهما، لأخبركنه مبادرتهما، والشيخ مشدود لثامه،
مسدود انسجامه، لا يقلع عن صماته، ولا يقطع طلع مقاصاته لاستصحاب حصاته من
حصاته، فأخذت أسبر الغلام، وأنشر الدمقس والثغام لأرقا بسلم الاستماع،
وأربأ بمعرفة ذلك المصاع، فنهد أبوه كالأسد المشبل، وأزبد كالمدد المسبل
فعلمت أنها نبيلة من سكره الكرار ورذيلة من غدره الغرار، ثم إنه قهقه
قهقهة من تزعزع وقد ناره، وترعرع وفد ثاره، وقال: يا بني قم فاغسل الدم
الثقوب، المشبة بدم قميص ابن يعقوب، فما يريده القدر محتوم، وليس عن القسم
وعاء غرض مختوم، فأيقنت حينئذ أنه المصري سرحان غاب الاغتراب وأفعوان رغاب
الارتعاب، ثم إني ملت بعد ابتسامه، إلى تقبيل بنامه وبت أقتني نفائس
أنفاسه، وأجتني مغارس استيناسه، إلى أن انهزم الليل بجيش النهار المجر،
وتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ولما رسخت زواخر يمه، وسخرت
بابن ذكاء محاسن بهجة أمه، أقبل إليه القوم مهرعين، ولوداعه مسرعين، فكنت
له من المودعين، ولما أعقل به من المودعين.
المقامة الخامسة التوأمية
حكى القاسم بن جريال، قال: عكفت أيام مواظبة الكفاء ومداعبة
الأكفاء، ومعاندة العفاء، ومعاهدة الضعفاء، ومساومة الهيفاء ومداومة
النعمة الوحفاء، على نديم زافر أعباء السخاء، نافر عن ركام الطبع والطخاء،
يجود بغير الجفاء، ولا يدري ما شميم ريح الجفاء، متعرض للإعطاء غير متعرض
بكشف الغطاء: الطويل:
فكان لي الجود الجموم وجوده ... أحب جموح جانح لإخاء
وكان لي الخل الخدين وخيره ... أحب رخاء خافق لرخاء
وكنت له الصنو الصدوق مصاحباً ... بصدق صلاح صادق وصفاء
وكنت له الحب الخفي محالفاً ... بفيح فلاح فائح ووفاء
قال: فأقمنا مدة ذلك الارتواء، نرتع في حدائق الانضواء، ونجتلي بين جدد
الاجتراء، عروس البراعة العذراء، ولم نزل مع مصاحبة الاصطفاء، ومقاربة
الوصفاء، ومعاشرة الشعراء، ومخامرة العشراء، ومسامرة الرؤساء، ومعاقرة
لاحتساء، نرتضع أخلاف الإسداء، ونفترع إحقاب المودة، المرداء حتى امتزجنا
لمباينة النواء، امتزاج الرحيق بالأمواء، والأعضاء بالدماء، والحور بملحم
الظبية الأدماء، ولما انسكبت إسبال تلك الدلاء، ونشبت بيننا شصوص قرابة
المقاربة والإدلاء، أقبلنا على الاصطلاء، بنار هاتيك الطلاء فما برحنا
نمتطي ذروة غارب الغرابة والسيساء، ونحتسي صافي فصيح الفصاحة والكساء،
ونختطف بخزائن اللغيزاء، أقداح القهوة المزاء، بمجلس واضح الاعتزاء، سام
بازاء الجوزاء، مع عصبة قصروا ممدود مدد الرياء، واقتصروا على ورود ماء
مآثر الأباء والتحفوا بمروط الوقاء، وأتحفوا المعاند بمقانب العنقاء،
وألحفوا في إثارة الإثراء، لسد خلل خلة الفقراء: الكامل:
فكأنهم شربوا لبان فصاحة ... من قبل ما شربوا لبا حسناء
وكأنهم ركبوا متون بلاغة ... من قبل ما ركبوا مطا وجناء
تنتابهم حزق الوفود لأنهم ... وردوا الزلال بروضة غناء
حق لقد طربوا بنأمة سائل ... من قبل ما طربوا بصوت غناء
فبينما نحن نعتور فوائد الظرفاء، ونعتمر ربوع صفاء الانكفاء في ليلة
مخلولة النداء، محلولة الأنداء، مغلولة العياء معلولة الضياء، مشلولة
الأعداء، مسلولة الرداء، حسنة الحواء، مستملحة الاحتواء، عميقة الشواء
مستقيمة السواء، إذ شد شادينا أوتار الغناء، وقد بإطرابه أعناق العناء،
وقال: الكامل:
كأس لها سجد النسيم وأسفرت ... في الكأس تجلى في أجل وطاء
شمطاء يلثمها الفتى ومن رأى ... حدثاً يقبل وجنتي شمطاء
قال: فآل بنا الطرب إلى الإغماء، وأمال لإطرابه جوانب الغماء، ولما عني
بقطع أغنيته العنقاء، وغنى بما أغنى عن نغمة الورقاء، تقدمت أوامر
الأجلاء، بإعادة الجلاء، وارتادوا نديماً يمر تلو هذا الولاء، ويجر إليه
ثناء هذيا الولاء، فتجرد كل لعناق فكرته الزجاء، وأحجم إحجام قامعة يوم
مواقع الهيجاء، وبينا نحن نرجو قنص مشاكهته العنقاء، ونسدم لفوت عرق وزيرة
الغرض والانتقاء، طرق باب الفناء كف لم يخل من خيانة القرناء، قد اشتار
علقم الدهاء وطار بأجنحة ريحه الورهاء، وقال: الكامل:
راح لها ارتاح الحكيم لكونها ... في الراح راح حشاشة الأحياء
حلت بها راح المسيح فأصبحت ... حصن الحياة وراحة الأحياء
قال الراوي: فخلنا قد انفجرت ينابيع السماء، أو انبجست لنا
أراييج نسيم السماء، وقلنا له: قعدك الله خالق العصماء، وفالق الصخرة
الصماء، إلا ولجت لعل هذا الدواء، وفل جيوش هذه الأدواء، فولج لجابة
الهداء، ودلج لإجابة الاستهداء، ثم سلم سلام أولى الاختلاء، وتسنم أسنمة
الاعتلاء حذراً من الرقباء، كالقد في القباء، فقعد قعدة الأدباء، وبيده
إناء من الدباء، أرق من الهباء، مملو من المزة الصهباء، فألفيته حين راجع
حلائل الاستخذاء، وجثم بحذاء الحذاء - شيخنا المصري ذا الاجتناء، المحبو
بحناء الانحباء، فدعوت له بالبقاء، وعجبت من عذوبة لقاء ذلك اللقاء، وأخذت
أثني عليه ثناء الظمآن على الماء، والصمان على انسجام السماء، وأخذ هو
لتصديق، وريق الثناء، وتحقيق تزويق ذياك البناء، ينثر لؤلؤ جرجته البجراء،
وينشر رحمة حسن إجادته العجراء، ويمعن في توطيد دعام دعوته والوطاء، بعد
امتطاء مطا المطيطاء، وأقبل، الشرب على الاستشفاء، بذيالك الشفاء، بعد أن
بوؤه أشرف الخباء وشكروه على حلاوة رفده والحباء، وما فتيء يطفح من سيب
جده والجداء، بما يغني عن الجداية الجيداء، ويمنح من جيب جوده والرداء،
بما يلهي عن الغادة الغيداء، فلما تكوكبت جرباء أمل ذلك الإرجاء، واعشوشبت
لديه إرجاء سباسب الرجاء، ودارت عليه مفاكهة السجراء، واستدارت عليه فواكه
الخميلة الشجراء، تقلقل للاغتداء، وأعرض عن معاطاة الاجتداء، فاستمسكت
ببزته الحمراء، ولثمت حجر شفوف شفته السمراء، وقلت له: أقسم عليك بباسط
الثراء، وفاطر البرى والبراء، إلا زدتنا من قريض هذا النماء، قبل توديع
السادة العلماء، لتجول بين هذه الضوضاء، لآلئ عقود منتك البيضاء، فأجاب
سائل الاستدعاء، وبادر إلى حل وكاء فضله والوعاء، وقال: الكامل:
روح ترى الأحداق تحدق حولها ... شبه القلاص لدى فنيق رغاء
روح متى انسكبت بندوة آدب ... أهدت هدايا الفهم للبلغاء
باتت تغازلني وبت مغازلاً ... لجمال بهجتها مع الخلصاء
خلعت علي محاسناً من نورها ... فلذا رفضت محاسن البوصاء
بكر بها اهتدت السقاة لكونها ... في الشرب شبه أشعة الأنواء
فهي التي كانت لموسى جذوة ... في طور مطلبه إلى الأضواء
وهي التي كانت لعيسى مهيعاً ... يشتار نشوتها مع الحبساء
تجلى على سرر السرور لأنها ... في الكأس عرس مجالس الجلساء
قال القاسم بن جريال: ثم إنه هم بالانجلاء، بعد جلوة عروسه النجلاء،
فعرقنا بمدى مدى البكاء، وغرقنا بذرور ذكاء ذلك الذكاء.
المقامة السادسة الحجازية
حدث القاسم بن جريال، قال: ألهمتني العناية العلوية، والهداية
اللاهوتية، بأن أتقلص عن العناد، وأتخلص من مظالم العباد، وأقصد البيت
العتيق، وأقصد بناب الإنابة الشقاق الشهيق، فعمدت إلى عود كنت أودعته، وما
ودعته، وأحبسته لله وما حبسته، فغودر حبيساً غير محبوس، وحسيساً غير
محسوس، فقلت بعد أن باعدته من السلوب، وقلدته باللحاء المسلوب، وددته عن
مراتع القلوب، ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب، وحين طلع
الحجيج، وارتفع الضجيج، رحلت سديساً جديد البطر حديد النظر، يطير بأجنحة
الأجادل، وتسجد لطاعة فرسنه، جباه الجنادل، لا يعرفه السكون، ولا حوت
كمثله السكون، يجيد على طول الطوى، ويبسط من طيب وطئه ما انطوى، ذا قطم
عند الضراب، وقرم إلى ضراب الظراب، وصحبت مشرفياً لا تفل مضاربه، ولا يمل
حمله مصاحبه، رقيق الشفرتين، تشام بشيمه بروق الحين، أبيض كالملح القارس،
يقد متون القوانس، واعتقلت أسمر مسمهر الكعوب، مسمقر النكاية في الحروب،
يرتعد ارتعاد المحموم، ويتأود تأود المهموم، لا تنحله الوقائع فيضعف، ولا
يثقله حمل توأم فيقصف ولما أكملت الماعون وحاولت ما حاوله المسارعون، نبذت
الدبر دبر مسمعي، وأخذت ألفاً من المعمعي معي، ثم لم تزل ما بين دبيب
وتغليس، وتقريب وتعريس، وإرقال ومقيل، وإجفال ونقيل، ننسأ ظهور القور،
وننشأ في حلية الديجور، حتى بلغنا غاية المرام، وبلغنا حل حل الإجرام،
وكنت أيام ملازمة مسيرنا وملابسة ملامسة تسييرنا، أتبحح بحواء أمير
الحجاج، وأترشح بعذب عدله الثجاج، فبينما نحن وقد انضم الحطيط، وضم
الأراهط الفصاطيط، تحت فساط نفيس الاستماع، محروس الاجتماع نخد بخشاش
الانكماش، إلى معاش الانتعاش، إذ دخل علينا شيخ معروق المشاش، مدقوق
الارتهاش، تلو عجوز باهرة الهراش، ظاهرة الامتهاش، ذات غضون شواحب، تهر
كأم أجر حواشب، مستذنبة غلاماً كالبكر في الغلالة والبكر ذي العلالة، وقد
خضبت أنامل الغلام بالعلام، وحصبت الشيخ بكلام الكلام، فتضور تضور
السرحان، بين أكناف الصحصحان وقال: وطد الله مراتب الأمير العادل الكبير،
ذي العدل البهير، والفضل الشهير، أعلم رفيع جدك الباذخ، ومنيع حدك الراسخ،
أنني ولجت بين خيمك طمعاً في مكارم خيمك، إذ الكريم قال جلباب الاحتجاب،
خال من الحجاب والحجاب، قد وردت عليك لا زلت طاهر الحوباء، ناصر الأحباء،
محفوفاً بقنابل التوفيق، متحوفاً بإصابة الظفر والتفويق كي أبث بحضرتك
شكواي، وأجث بصارم نصرتك بلواي، فشرح شظف حالي، وقرح حرق حرق إمحالي، أنني
من أفصح العرب فصلاً، وأسمقهم أصلاً وأسبقهم نصلاً ما لقف له مساجل خصلاً،
ولا عرف له نقيصة أصلاً، ذو مال نثيل، ونجار أثيل، وغضب وثيل وقنب وثيل،
فتزوجت هذه الحاضرة وأنا يومئذ تقي الذهاب، نقي الإهاب، عظيم الالتهاب،
جسيم الانتهاب، بقد كالأملود، وشد كالجلمود، ولحظ كالسنان، ولفظ كالجمان،
وجبهة كالشارق، وبهجة كالشهاب البارق، أبيت بين نشب وأغنام، وشنب وأنغام،
حائلاً في صهوة الصبا، مائلاً لياقة مع الصبا، تبرق من نضارتي النظارة
وتنطن بحسن سيرتي السيارة، وأنا مع ذلك الجمال، وسلاسة السوابح والجمال،
ونفاسة التجمل والإجمال، أشب وصالها، وأحب أوصا لها، وأهب لما أوصى لها،
وكانت تعاف جاراتها، ويساف الكباء من خطراتها، فلما أقلع سحاب مالي، وطلح
ضباب قبح احتمالي، وفلت النوازل وجالت، وقلت البوازل وحالت، ونزر وفري
وبدنت، وثقل ظهري بما أدنت، نفرت نفور السوانح، وجنحت جنوح الدهر الجانح،
فلما طال لسانها، وقصر إحسانها، عفت عظم هذا الإلطاط وسففت مع هذه اللطلط
سحاقة اللطاط، وهانا قلق منها لديك، ومتعلق في صلاحها عليك لأنك أمير
الحجيج ومن نعول عليه في الأمر المريج، فمرها بإزالة الضغن ومحالفة الحياء
بين الظعن ثم أنه فرش لسانه، وأرخى لسابق السدم أرسانه، وخفف من شكايته
الأثقال، وتسربل الأقيال، ودقق المقال، وقال: المتقارب.
صروف الزمان تذل الفطن ... وتعلى الجهول وتوهى اللسن
فما زال في غيه رافلاً ... كثير الخبال عظيم الإحن
فهذا الهبوط بذاك الصعود ... وهذا القبيح بذاك الحسن
وهذا الملال بذاك الوصال ... وهذا العناق بتلك العنن.
قال الراوي: فلما ارتاح الأمير، وفاح من روض ألفاظه العبير، وقرع
لعظم بثه الناب وفار من فار إفصاحه الإناب وقال لها: إيهاً عجوز، إن صدر
منك بعد اليوم ما لا يجوز، أذيقك السياط، وأسمع الثقلين منك بعد العياط،
فمثله يحرم ملاله، ولا يجزم وصاله، ويغتنم حياله ولا تصرم حباله، فقالت:
أسبل الله سناء سيادة الأمير، وكحل عين معدلته بميل صحة التدبير، ونزه أذن
إنصافه الخطير، أن تنبو عن سماع حديثي الوارف التكدير، فقال لها: إن كان
لك مقال فصرحيه وإن كان يشوبه صخب نصب فسرحيه، قال: فتمايحت بعد كشف
الوجاح، وإلقاء الوشاح، تمايح الممراح، بالوجه الوقاح وقالت: تالله لقد
صدق فيما رواه، ونطق حقاً بما استخرج من زندة زبده وأوراه، فسبب سبب نشوزي
عليه، وجلب لجب مخالفتي إليه، إنه سافر عني سفرة مديدة الشقة، شديدة
المشقة، حتى ظننت به أنواع الظنون، وقلت: قد اقتنص بمخالب المنون، وعندما
عفت عرى إسباله وهوت ذرى أشباله، وأدبر إقبال وجوده، وأقبل إدبار موجوده،
وتبرقعت عوارف حيلته، وتبلقعت حظائر حيلته، ولم يبق عليه سوى ابيضاض رثمه،
وانعقاد رتمه، قدم من سفرته بانثلام رياس سعده وشفرته، وقد استولد أمة
سوداء، تستولد بجسد ضجيعها الداء، تكلفه فوق وسعه، وتشنفه بشنوف شسعه ولم
تزل بعدما اسود وأساد، وساود سواد عراره فساد، تطرق بالبنات، وتعامله
معاملة العناة، وأطرق له بالبنين، وأكرمه على ممر السنين، فحين اعتاض عني،
من تعنفه وتعني، قلبت له مجني، وسكبت لوصله كأس التجني، ولما دارت على ذلك
السنون، وشاهد سوء سفهه المسنون، وعشت بمراح مرحهما والأعطان يد حيل حبائل
الشيطان، وثار بينهما الضباب، وطار حلو محافظتهما والحباب وغار ضحضاح
حبهما والحباب، وعار بين مصاحبتهما الحباب والأحباب، عطف إلي، وتعطف
لانعطافه علي، وحين ضمنا الفراش، ونشأ إلى فراشه الفراش نسي ذلك الاجتثاث،
وطالبني بما تطالب الذكور الإناث، فقلت له: إن جللتك بدثاري، أو مكنتك من
استدثاري، قبل مطالبتك بثأري، مع عدم دثاري المنوط بالنقاط نثاري فعلى
امتطاء الساحج، إلى بيت الله المعظم المعارج، فانتهرني وقهرني، وأجبرني
وجبرني، فحينثت في يميني، وأصماني الندم الذي ما زال يصميني، ولم يغادر
الدهر لنا سوى بازل، نقضي عليه حق كل نازل، فرحلنا فرحين بهجر المقام،
مرحين بلقاء حجر المقام فأرملنا من القوت، وتنبل البعير لحالك حظنا
الممقوت، فأتحفني بهذا الوصب والشقاء، وأنحفني بعرق قربة قهره والسقاء،
وها أنا قد ألفيت أليتي ضيفن ضيف قضيتي، وابتداء اليمين في المشتاة، عند
انقطاع حلب الشاة، وقد استمر الضيفن مع الضيف للصيف، فأدرأ فادح جزع الجزع
والخيف بالخيف، ثم إنها جادت بدمعها المسكوب وأجادت بسحها المستحسن
الأسكوب، وقالت: المتقارب.
خطوب الدهور كذا تمتحن ... كرام الأصول بهذي المحن
فعرفي يضوع على سحقها ... وعرفي جميل وعرفي حسن
فهذا القليل بذاك الجزيل ... وهذا الهزال بذاك السمن
وهذا الكهام بذاك الحسام ... وهذا القنوت بذاك العلن
قال: قلما همدا في نزاعهما، وغمدا صوارم مصاعهما، نظر الأمير إلى الشيخ وقال له: وأيم الله إنما عجوزك لتعجز من تجاور إذ تحاور وتخرس لها تماضر يوم تناظر، وتفضح لدى الأعيان، قس البيان، وتترك رب اللسان، مسلول اللسان، فعد عن كفاحها، واتق حرارة اتقاحها ولا تطع في جدالها، واقطع جيد جيد ارتجالها، فلست من رجالها، ولا خيول مجالها واعلم أن حلاوة الليم، تمحو مرارة السخط الأليم، فما على من خبث لأهله صيير، ولا بفم رأى من جنح لسلمه بخير، وإن يصالحا بينهما صلحاً فالصلح خير، فقال الشيخ: أيها الأمير ما كان من التصابي فات، والذي كان يصلح بيننا مات، ثم أشار بيده إلى قمده، فقهقه الأمير حتى بدا ناجذاه، واهتدى لجد جديل الغرض الذي تجابذاه، وقال له: أنا أجدد الزاد، ومن أنعم وزاد، مشفوعاً بشملة شامت الاشتداد، ومن رفع السبع الشداد، إثم أوحى إلى وكيله بتكميله، وإلى جيله بتعجيله، بعد أن حصل لهما من جلسائه، واتصل بهما من زخرف رؤوسائه، تلو ذلك الاجتداء، جذر خمسة أمثال أحرف النداء وحين جد جمل مجازاته، واستد باب بلك مجازاته ضبع بأم الضباع بالضباع، شاكر الطباع بالاضطباع قال القاسم بن جريال، وكنت علمت حين هجم بعجوزه، وتقدم بكوزه وأبوزه، وانسلت الفرق من معانها وانسابت الضبع بضبعانها أنه المصري صاحب دبور الدبر والقبول، والضارب ببوق نفير نفاره والطبول، فجعلت أعجب لذلك البيوت وألعن تحيل الحية والحيوت، وقلت: لا تركنه يجول، لأنظر ما إليه حاله يؤول، ثم أعرف الأمير نكره وشذاه، ونكره وأذاه، ليمسح عقار قرى قفاه، بقصب نعاله أينما قفاه، فحين أورد من الضرب ما لا يضاهى، وسرد من النخب ما ببعضه يباهى، كففت عن كسف شمس سره، وخسف بدر در دره، ثم إني تبعته لأجدد تقبيل يمينه، وأعقد عليه عقود يمينه، لئلا يخادع بعدها أميراً، ولو كان له بليل ليلى السمر سميراً، فألتفت بعد نيل صرره، فتظنى أنني محث لضم ظرر ضرره، فانخرط في الحشاء بين الأحشاء، بالداهية الحرشاء، المجدورة الرقشاء، فخلت أنه امتطى أثباج الهواء لحفظ ذلك الرماء، أو ابتغى نفقاً في الأرض، أو سلماً في السماء.
المقامة السابعة السنجارية
أخبر القاسم بن جريال: قال: اعتن لي في غرارة شبابي، وغزارة شبابي، إلى مدينة سنجار، طريق سئمت فيه الانسجار، مع جماعة كالسيوف البوارق، بيض المفارق، وأنا يومئذ قوي الجد، نقي الخد، ذو بياض في الجدود، واجتماع في الوجود، وحمرة في الوجنتين، وقبض داخل في اليدين، فولجتها في أخضل ربان وأفضل إبان، فلما هديت بها واهتديت، وشريت بسوقها وشريت، وأترعت أوعية العسجد وأشريت، ألفيت أبا نصر المصري يفتن بين أفنان الافتنان، ويقتن بقنان قنان الاتقان، فحين وقع نظره علي، وطلع بدر ابتداره لدي، قال لي: هل لك في أن نجول بأرجائها، ونستوكف غمائم روائها، لنلتمس فصالة فضلائها، ونقتبس علالة علمائها، فأجبت وليمة سؤاله، وطبت نفسا بحلاوة مقاله، ثم أخذنا نتصفح صفحات الأناسى، ونترشح لما يزيل نزيل صارم المصارمة والقسى، إلى أن شاقنا شائق الصلاح، وساقنا سائق الفلاح، إلى ناد ضاف على الوفود، صاف على كثرة الورود، وبه فئة يعاف عندهم عنترة عشير المبارات، وتداف لديهم عنبرة عبير العبارات، فملت إليهم ميل المغالي، وأملت شراء ذيالك الغالي وقلت بلسان التنوع المتعالي: الخفيف:حدّقت نحوهم عيون المعالي ... وارعوت منهم عون العوالي
وسمت فيهم رؤوس رؤوسٍ ... طالما قيّدوا كفوف النّكال
وأغتلوا واعتلوا صدور صدورٍ ... طالما شقّقوا قلوب المقال
وأحتبوا وأجتبوا بطون بطونٍ ... طالما حالفوا حلال الحلال
فحين عرفنا فيض فيضهم الأريض، وسفنا إناب نثرهم والقريض، قلت له: أتحب بأن نمتار من طيب هذه الغراوة، المبرأة، عن الغل والغباوة لنشكر هذا الانجذاب، ونسبر ما جمد من نضار مناظرتهم وذاب، فقال لي: قد ملكتك زمام هذه المبادرة، والخبب إلى خبوب هذه النادرة، فانخرطنا في ذلك النصاح، أرباً في ذلك الافصاح، وولجنا لخرف ثمر ذاك الخريف، شعفاً بفائض لفظهم الوريف، ثم لم نزل نتنازع حميا المفاخرات، ونتسارع لاقتناص الفرص الزاخرات، إلى أن اتصل بالبراعة الشرية، والعبارة
العنبرية، ذكر المقامات الحريرية، فقال قائل: لله در الحريري حيث راح بأرواح الفصاحة واعتز، وارتاح بأرواح الحذاقة واهتز، وفاز بما استنتج وحاز، وجاز دار الدرر فاستخرج ما استخرج واجتاز، فسبق السابق ببلاغته، وربق للاحق عن إدراك مبالغته، قال القاسم بن جريال: فلما لذعت بحرارة تأذيته وجرعت كدر مرارة تأبينه، ركبت خيول الانتخاء ووثبت وثوب حافظ الإخاء، وقلت لأبي نصر إلي ذا المجال ادخرت كسر نضناض حظلك، ولهذا المحال خبأت در فضفاض فضلك، وما أثرت سحائب افتنانك، وآثرت ضرائب صنوانك، إلا لعلمي أن وسيم اختراعك على حبل ذراعك وثمر اهتمامك على جراثيم ثمامك، فلما فقه مقالي، شهر مشرفي شكره ومقالي، ولمحه لمح القالي، حيث شرر إحراقه القالي، ثم قال: أنا والله هيصر غاب الصفاح، وفيصل شرع اختصام الفصاح، وإنسان إنسان الزمان، وسنان سنان مران الأوان الذي سجدت لرأد إرادته الإرادات، وأسدت لأسود سيادته السيادات ثم قال: وقد أمجد له المقال، وأرهف من حرده الصفائح الصقال: أيم الله لقد خلت لسان إنصافك، وحللت بحلل وافر أوصافك، وركنت إلى عصبصب تعصب ومنح، وسكنت من سوء ظنك بواد غير ذي زرع، ونصبت راية العظم الرميم وخفضت آية الأجدر بالتقديم، تالله إنك لفي ضلالك القديم، فحين سمع كلامه، وكره إيلامه، دار إليه بفنون هونه، وأدار عليه منجنون مجونه، ووقفه على نقاره لافتقاره، وقذفه بحجر عقاره لاحتقاره، ثم قال له: هلا تنعم باستدناء دويك، وتعزم على استدعاء دويك، وتتكرم بكشف نصيفك يوصيفك وتتقدم إلى وصيفك بإحضار تصانيفك، قال الراوي: فبرز أبو نصر بروز العارض، إلى ذلك المعارض، قال له: أراك بسعير سفهك من المتشبطين وبعسير شطن شططك من المنشطين، وبشرب مزاء عدلك من المتمززين، إنا كفيناك المستهزئين، فاسأل السحاب الانسحاب والسكوب الانسكاب، لتعلم أن نسيمك هدأ بهذه الرياح العواصف، وتسليمك أذعن لقعقعة هذي الرعود القواصف، فقال لأصحابه، ومن دلف إلى رحابه إن أتى بما اقترحه عليه، ويستملحه الحاضرون لديه، فعلى إبرازكم إلى خميلة بستان، بكبش حنيذ لا يشاب بامتنان، ثم قال له: اعلم أن كتاب المقامات واسطة عقد علم المقامات، والقهقرية واسطة نظام عقدها، ورابطة عصام سحلها وعقدها فإن أتيت بمائتي كلمة مقهقرة قائدة كل حكمة محبرة شهدنا لك بالمناقب والفهم الواقب، وأيقنا أنك كاسر هذي العلاة، وناسر سبسب هذه الفلاة، وعوان حل حبك المشكلات، والمعان على المسائل السائلات، وكنا بازاء حلل ملحك العزاة وببيداء إشراق إنشائك الغزاة، سائلين لعقولنا المعافاة، متوسلين إلى حرم حلمك غفران ما فات، فقال له: تالله إنك لكمن روع الرباب بالضباب والذباب بالذباب والخادر بالخشاش، والزاحر بالرشاش، وفم الضيغم بالمشاش، وقالع القلل بالاحتشاش، ثم إنه هوى إلى جلفة يراعته، واستوى على خلفة براعته، وجعل يلجج في لجج حكمه، ويؤجج نار جحيم محكمه إلى أن جد امتياحه، وملأ بالحبر باحه، فلما كمل مراده واقتنص بصقور إفصاحه جراده، رمقه بطرفه البتاك ورشقه بسهام فضله الفتاك، وقال له: اكتب:
بالمنح تشرق شموس المدح، وطلاوة الوجود صلاح الجود، وحسن الفتوة
منهاج المروة، وسلامة الكريم جبائر الرميم، وحباء المعروف أعباء العروف،
وهم الأريب مجانبة المريب، وسلاح السماح مفتاح النجاح، وسحوح الانتصار
معين الإنصار، وإقدام المقدام حمائم المحجام وحياة الظلوم حيات المظلوم،
ودعاء لصالح مجلبة المصالح، وأسنى الوصال استمرار الاتصال، ولذاذة الأموال
اكتساب المآل، وثواب الآلاء إسعاف الولاء، ومكافأة المفضال مولاة الإفضال،
وأجمل المكارم محالفة الأكارم، وفخر الآدب تجميل المآدب، وتزيين الذمام
مفارقة الذام، ومع الشرف إطراح السرف، ومن النعيم مصاحبة الحميم، ومن
الطمع ادراع الطبع، وفي الإكرام انقياد الكرام، وبمواصلة اللئيم، مقاطعة
الكريم ومحاسن الحسان استعمال الإحسان، ورفض الاستهتار دليل الأحبار، وسمن
الأجسام هزال الأفهام، وإكمال النوال ثمرة الكمال، وكسب الفضل إفعوان
الجهل، ولزوم الرقاد مانع المراد، وطلب الزهادة نتائج السعادة، وفي الجلل
خوض البطل، وجمال السلطان نضارة الأعوان، وقرب الوشاة مضر الولاة، وقسط
الشموس حصون النفوس، وحدائق المحامد غروس الأماجد، وجزاء الاعتراف اتحاف
الإسعاف، وأحسن الأفاضل طالب التفاضل. وأنفس العطايا اجتناب الخطايا وأفحش
العيوب إفشاء الذنوب، وأسوأ الأوقات نزول الموبقات، وأشد الشوائب محاسمة
الحبائب، وأحلى المنن ملازمة السن، ومعيبة الأخلاق مفسده الاختلاف، وسبب
الصلات جاذب العفاة وثناء الحسود شاهد المحسود وارتفاع الأعمال انتفاع
العمال، واحتمال السفهاء شعار النبهاء، وذم المنائح اقبح القبائح، وإطلاق
اللسان أسد الإنسان، وثبات الأقدام قوام الإقدام، قال الراوي: فحين نشر
بيننا رنده، ورفع عندنا نده، وعلم أن كل ضب مرداته عنده قال لهم: عليكم
النفيسة القيم، الأنيسة اللقم، التي وضعتها بدور الندور، ورصعتها بدور
البدور، فإنها دواء المفؤود، وكفاء الوجل المزؤود، صقيلة النصل موافقة في
القطع والوصل، منزهة في العكس والطرد، عن قرع حلقة باب السكون في السرد
فاصقلوا لها مرآة الانتقاد، والحظوها لحظ الصيرفي النقاد، فلن يميز بين
الأسد والنقاد إلا أبصار السادة النقاد، ولولا تقدم الهجود، وتضرم
الأحشاء، بالجود، لزدتم من إدرار ديم هذا المدرار، فاللبيب من استغنى عن
رباب العراص بسح أسمية هذا العراص وعن درة الغواص باقتناء در وهذا المغاص،
فلما وقفوا على نفيسها، ورشفوا لذيذ خندريسها، وغبطوا ملحاء ملاحتها،
ومدحوا فيحاء فصاحتها، قالوا له: وأيمن الله لقد امتد مدد درك لدينا ورد
يوسف علم الأدب إلينا، تالله لقد آثرك الله علينا، فقال: ما بكل طاغ
تطيقون العوم، ولا حول كل حول تحمدون الحوم، لا تثريب عليكم اليوم، ثم إنه
لوى أذن صاحب اقتراحه، وألوى برمال المرح لاجتراحه، وقال: البسيط:
يا من إذا بارز الرزايا ... أبرز عزماً خلاه ختم
عجل بما حق لي سريعاً ... فالوعد دين عليك حتم
فقال له: دونك وما ترتضيه، فالشرط ما يقتضيه، فنهضنا إلى بستانه، ورتعنا
في مواهب هتانه، وعند حضور القيت وقتل قتله المقيت قال: يا قوم إن لي بهذه
البلدة ساحجاً، متألم البلدة، وأخاف أن يبيت في خلائه، عادم تعهد خلائه،
فاسمحوا لي باتشاح أشاح العود، في غد أحضر بعد معاودة العود قال: فما
خالفوه حيث حالفوه ولكن أتحفوه بما فغر به فوه، فافترقنا فرقين من خببه،
مشفقين من نصبه، مفهقين بضروب ضربه، لا نعلم ما صنع الله به.
المقامة الثامنة الحلوانية
روى القاسم بن جريال، قال: رمتني حين عفت الأحيان، وخفت حلول الحمرة بحرم ألحيان، وصلفت البسلة والحلوان، إلى مدينة حلوان، كفة منجنيق القدر المتاح، وكفة سحيق السفر المباح، وأنا يومئذ قرين الهراوة، خدين البداوة مرثوم الأخمصين من النعال، لعدم الانتعال، لا أجد سوى الأنجاد بجادا، ولا أستنجد لجلل الأمجاد نجاداً، فلم أزل أقابل لقصدها قبائل المخاوف، وأقاتل بوخدها مقانب الخوف الخائف، إلى أن عرفت بمكابدة المكائد، وألفت شيم مشابكة الشدائد، فد خلتها د خول الطائر المبهوت، ووصلت إليها وصول موسى إلى الخضر بعد مفارقة الحوت، فحين حللت وضين الأثقال، وأقبلت على مقاطعة عواتق الانتقال، جعلت أتقلب على طنافس المعاقرات، وأتذبذب إلى مجالس المسامرات، واجترح ملح المحاورات، وأصطبح في خمار المخامرات، حتى تزكرت بالنكت تزكر الوعاء وتذكرت النيرب تذكر الخنساء، فلما أرهف القلق شفرة الشوق وشام وسامر ناظري بأرق الشام وشام، طفقت أتطلب مواطن الركاب، وأتقرب إلى أرباب باب الارتكاب، فأخبرت أن السبيل محسومة أسباب أسبابه، لاختلاف عراب أعرابه، وقد حمل إلى سلطانها، وموطد أوطانها، رئيس شرذمة مشئمين، تحفاً يجاوز حدها المئين، ليمدهم بفرسان مستلئمين، فالتحفت بذلك الأزار، وتأهبت لابتياع الأوزار، وأحضرت عيبتي، المعدة لأيام أوبتي، فشحنتها بأسفار الدروس المأخوذة عن العلم المدروس، وأودعتها من الدراهم العظام، عدد عضل جسدي والعظام، ولما حللت بالجواء، تلو العصابة الجأواء، لاوياً إلى اللواء، مستعيذاً من نوازل اللأواء ألفيت، أفئدتهم لذلك الريح، مجبوذة بأزمة التباريح، فبينا نحن نتجوز البيد ونتدرع الجزع المبيد، لاحت لنا سرية، سابغة السنور مضرية، فماد الركب كشرب ارتضعوا المدام، واختاروا على الفشل الاصطدام، حين حملقت الصفوف، وحمحم الزفوف والصفوف، برزت كبكبة للنزال، ونادت نزال نزال، فالتحم الفريقان، وتوج القسطل جبين الزبرقان، وتعثرت بالعثير العقاب، وتغشمرت بعقبان العقاب العقاب، وما زال مجاج العجاج يحتدم، وأمواج الانزعاج تضطرم، وتبار الحذر يلتحم، وبنار المعركة يزدحم، حتى بار نار فاقدي السلاح، وثار ثار واقدي الكفاح، وفر السفر فرار السلمى، وذر الفرق وأسر الكمي، قال القاسم بن جريال: وكنت لحظت عند حدة القتال، وحدة القتال، ومعمعة الأقيال، ومغمغة الأقتال، رجلاً أشمط، كليث أضبط، وذئب أمعط وأيم أرقط، على فرس أنبط ضافي الشليل يتدفق تدفق السيل السليل، تخاله بين قواضب الأعداء، ومغابن النثرة الحصداء، كالعملس العداء، تحسبه بذلك السربال، المحشو بالنبال، كالأسد الرئبال، لا يلجأ إلى الثغور، ولا تخطئ سهامه ثنايا الثغور، يطير طرفه من النشاط، ويسبق سهم ممتطيه قبل مس السراط، فما فتئ يقدد قدود المناكب، ويخدد خدود المواكب، إلى أن سقط طرف لفامه، وقنط لده بعد انضمامه، فألفيته بعدما مر يمري مهره ويستوشيه، وطر أبكر الظعن بحواشيه، الفارس القيسري، والمداعس القوسري، أبا نصر المصري، فجعلت أعجب من قتاله، وشدة إقباله، ولم أزل أتلو، أكساءهم، وأقفو أقفاءهم، لأنظر مآل العرجة، في طلب الحرجة، حتى دنوت إلى أماكن مراحهم، ومراكز رماحهم، فأخذت أخب بأخبيتهم وأجول بين أبوبتهم، إلى أن رأيت أبا نصر المصري قاعداً على سرير الإمارة، تعرض عليه أمتعة السيارة، فتلثمت وجلت، ولثمت يمينه وقلت: شيد الله معالي الأمير الأروع الممير، ذي الوجار الشجير، والنجار المجير، ولا برح لكل خائف وزراً، ولكل حائف ذكراً، ولكل كئيب كبشاً ولكل سماء عظيمة عرشاً، أعلمك لا زلت على المكان، رفيع الأركان، ما غبطت الكرماء بالمعروف، وربطت الأسماء بالحروف، أنى ممن اترعت يم قذاته الأحزان وبرقعت وجه لذاته الأزمان، وأبلسه طلب التفضيل، وألبسه الفكر جل جمل الوجل والتفصيل، وجلية قصتي، وعدم إساغة غصتي، أنني رحلت بهذه القافلة، قافلاً لطلوع السعادة الآفلة، أسبل سرابيل العفاف، وأرفل في ثياب الكفاف، فابتزني زند وقيعتك الجرساء، وساعد سريتك الخرساء، جلساء تحوى الإصباح والإمساء، ولا تهوى إلى الإساءة مع من ساء، ادخرتها لجلاء الناظر، واجتلاء أبكار التناظر، تكلمني بلا لسان، وتصافحني بغير بنان، يفسدها الربع المسدود، ويصلحها الوعاء المشدود، أحملها وتحملني، وأجملها وتجملني، لا تمنحني إن مللتها هجراً
ولا تتحفني إن هجرتها هجراً فكيف استبيت ما اكتفيت به حظاً،
وألغيت تعلقي بما أتقنته حفظاً، إلغاء عمل علم المعلق بلام الابتداء
لفظاً، وها أنا وقفت بمنيف حوائك، ووقفت ثنائي على شريف حوبائك، فجد
بقفولها علي، ووصولها إلي، فأنت أعلى من غاث، وأحلى من أغاث، وأسمى من
ارتاش، وأسنى من انتاش، قال: فلما حقق رموزي، واستحسن نهوزي، قال لي: يا
ذا البنان، المزري على العنان واللسان، والسامي على السنان إن عروس غروسك،
وشموس طروسك حاضرة لديك، فقر عيناً بعودها إليك، فألقيت إذ ذاك لثامي،
واستدعيت له قيامي، فبادر إلى التزامي، وسألني عن زعزع انهزامي، ثم قال
لي: كيف رأيت كر ذلك الكريب حين أحرقك حر حريب هاتيك العريب، فقلت: أحر من
وطء الوطيس، وأضر من ضرب ضروب الملاطيس، فقهقة قهقهة الجذلان، وصفق تصفيق
الغدير الملآن، ثم نظر إلي نظر الخجلان، وأنشد إنشاد المسرج العجلان:
الخفيف:ولا تتحفني إن هجرتها هجراً فكيف استبيت ما اكتفيت به حظاً، وألغيت
تعلقي بما أتقنته حفظاً، إلغاء عمل علم المعلق بلام الابتداء لفظاً، وها
أنا وقفت بمنيف حوائك، ووقفت ثنائي على شريف حوبائك، فجد بقفولها علي،
ووصولها إلي، فأنت أعلى من غاث، وأحلى من أغاث، وأسمى من ارتاش، وأسنى من
انتاش، قال: فلما حقق رموزي، واستحسن نهوزي، قال لي: يا ذا البنان، المزري
على العنان واللسان، والسامي على السنان إن عروس غروسك، وشموس طروسك حاضرة
لديك، فقر عيناً بعودها إليك، فألقيت إذ ذاك لثامي، واستدعيت له قيامي،
فبادر إلى التزامي، وسألني عن زعزع انهزامي، ثم قال لي: كيف رأيت كر ذلك
الكريب حين أحرقك حر حريب هاتيك العريب، فقلت: أحر من وطء الوطيس، وأضر من
ضرب ضروب الملاطيس، فقهقة قهقهة الجذلان، وصفق تصفيق الغدير الملآن، ثم
نظر إلي نظر الخجلان، وأنشد إنشاد المسرج العجلان: الخفيف:
أنا والله ليث كل غريف ... وقنوع بعشر عشر رغيف
وأمير الكماة والكبش فيهم ... ومجير من كل خطب مخوف
وسبنتى الحروب ثمت نصر ... ذو انسكاب لنصر كل ضعيف
وجمال الندي أنشر فيه ... كل فن من اللطيف الطريف
لم تر الناظرون مني مقيماً ... غير هم وهمة وعيوف
وسداد وسؤدد وسهاد ... وسريع إلى السلاح زفوف
وسماح وساحر وسهام ... وسنان لحاسدي وسيوف
هذه شيمتي فمن شك فيها ... فشهودي أشلاء صيد الصفوف
قال: فبت حل حيرني بحبر ربيعه، وخيرني بين سنة سهره وتبيعه، أرتع في
ميادين مشاكهته، وأرضع من أباريق مفاكهته، حتى ساور الوسن بطون الأجفان،
وبادر أبو اليقظان إلى الأذان، ولما اتضح السبيل، وافتضح الهم الوبيل،
أحضر الكتب مشدودة بحالها معدودة بكمالها وأوحى بأن تحضر مسرجة، وجرجة
بنخب خوانه خدلجة ثم أومأ إلي بالركوب، بعد ارتضاع كأس كيسه والكوب، وأشار
إلى فرسان، أحلاس الذكور حسان، لتوصلني إلى تخوم المتدبرين، آمناً من
غوائل الغائرين، فودعته وقد امتطيت ذروة الأعوجية، وأثنيت على مكارمه
الألنجوجية، وأخذت أخطو خطو الفوارس، وأسطو على السهر الممارس، إلى أن
وردت مياه العمارة وأردت إلقاء العمارة، فنزلت عن ظهر العارة وحمدت غور
غبر الغارة.
المقامة التاسعة العمادية الإربلية
حكى القاسم بن جريال، قال: صبوت مذ نبوت عن العطن إلى المعالي، وعلوت اذبلوت المنخفض من العالي، واحتذيت لاحب التجارب، وأفنيت حلل حلل المحارب، وجريت بين المضارب، جريان الأرواح في العروق الضوارب، فلما فررت من دعابة الهازل، وفررت ناب ناب الخطر المنازل، وعرفت حقائق الأمور، ورشفت ظلم ثنايا الفرص والعمور، أيقنت أن لا نظير للمصري في رائق نفثاته، ولائق منافثاته وبدور كراته، وظهور ثمر مذاكراته، وظاب مطارحاته، ورضاب مناوحاته، وكنت كابدت من صريح صده المقيم، وريح انتزاحه العقيم، ما يكابده قلب السليم، ويردى على ضيق ذرع الحليم، ويعانيه البطين من شدة الذرب، والحزين من حرقة اللهب، فاستولى علي حباب الممات، واحلولى لبعد شقته ارتشاف الوفاة: الطويل: وبت كفرخ ظل في وكر أيكة تصفقها هوج الرياح العواصفأبيت قنيص الصبر حتى كأنني ... صرمت نصاح الصبر من عصر آصف
وكيف أرى صفو الصلاح وقد صبا ... إلى صرفه صرف الصروف القواصف
ثم إني جعلت أجول بالمخذم الخشيب، وأميل لنشوة شراب الشباب المشيب، منقباً
عن بقائه، مترقباً طلائع لقائه، إلى أن رضني رشق جلاهق الإخفاق، وحضني خفق
مناسم الإندفاق دفاق دفاق، إلى إربل ذات العلاء والعارفة العلياء، غب غلب
الاغتداء وإعنات الذعبلة الرعناء، مع عصبة علوا لبان الاعتراف، وعلو لبان
أخلاف الاختلاف، وانتعلوا أعناق المقاطع، واتصلوا اتصال الرياس بالصارم
القاطع، فبسملت عند الولوج، وحمدلت لمفارقة رقة الثلوج، وأسرعت في الساع،
بعد مقاطعة الإسراع، إلى تحصيل كناس ولم آل فيما رمته كناس، وحين حصلت
الجواد، وواصلت الفؤاد بما أراد، ملت مع اجتلاء الزرجون والاصطلاء بحر حمر
جمر المجون، إلى محالفتهم، ومحاسن مناوحتهم، لأكشف نصيف إنصافها، وأعرف
رصيف انتصافها، فألفيتهم ممن اقتنوا الصلف غراراً، والرشد مناراً وناراً،
والشرف شجاراً والمجرة وجاراً وجاراً، لا تذر بذر إحسانها بجلمود، ولا
تفرق بين سائل البسالة وجمود، تعلو على القمم، باقتناء الهمم، وتسمو على
الأمم، بإحياء الرمم: البسيط:
كأنما رضعوا من حيثما وضعوا ... ثدياً من الصدف في صدر من الذمم
أو قمطوا بقماط ضم جؤجؤهم ... حال من الحلم محبوك من الحكم
أو هدنوا بمهود هز أحبلها ... كف من الكف في كوع من الكرم
قال: فأقبلت أشتري جمل جماناتهم، وأقتدي قبب مقاناتهم، وأقطف ملح حاناتهم، وأرتشف شبم ديم مداناتهم إلى أن غال غول البين، واستطال سلطان التشوق إلى النيربين، وهجرت طيب الأطيبين وولى نهار اصطباري مكلوم العقبين، فبينا أنا أفكر في الانقلاب، ولو مع عدم الاحتلاب، وأتعلل بالارتحال، ولو مع تفاقم الحال، ألفيت وفداً وافر الوصائف، وارداً من دار الخلائف قد تواصلوا من أفخاذ البطون، وتقاطعوا تقاطع عضل البطون، فقفوت أثرهم في الخبار، ومقوت عنه قاضب الاستخبار، على أن أسوف عرف، خبره، أو أطوف ببيت من ظفر بمحبره فما انتهيت في طوافي، ولا أنهيت ميدان تطوافي، أو وجدت وصيفه رافلاً في وشاحه، متقلقلاً لثقل سلاحه، فانطلقت به إلى معاني، وأقبلت أنشر له مطوى الشوق الذي أعاني، ثم إني أحسنت عليه القيام، وأقعدت من جسد المقاطعة ما قام، ولما استعملت سير مولاه، وما أولاه يوم ولده، مدحه مدح القارب الديمة، والترائب اللطيمة، وزعم أنه مع محاورة الحرمة الحوراء، رب دست الوزارة الزوراء، وقد أرسله لمهم مع مهامه ليؤوب قبل انسلاخ عامه، فشكرت الله على إقامة سوائه، واستقامة أحوال، حوائه، وأودعته يوم الوداع، كتاباً يشهد بشدة رداع ذلك الصداع، فما نسلخ مسك سلخ شهرين، ولا نضخ مل عيون العين، حتى واصل بجوائه البريد، واتصل بوصوله، ما كنت أريد، ففضضت إحكام ختامه، ووقفت على أحكام أوله وختامه، وصنت نسخته مع ما أصطفيه، فكانت نخب نفائس المسطور فيه: أفدى الكتاب الصادر عن المقام - الأرفع الممجد، والهمام الأروع الأمجد، بل الكريم ذو زادني إقبال قدومه خلة، وألبسني من سرابيل سح إحسانه حلة، الذي أسعد الله مرسله مدى الأدهار، وأمده بمزية مخضلة الأزهار، كلما مننه وردت أقبلت أذود ذود متربتي، وأجود بها على أهل تربتي، فجعلت حين أقبل نحوي ألثمه كالحجر الأسود، والجؤذر المخلد، وأسكنته عيناً بت أنزفها، مذ غاب بدرها ويوسفها ألفاً لفضلك السابق، حيث مننت، وظلك الباسق الذي أنعمت، بامتداده أنت، وإلفاً يمد لصوب مصيرك كفاً ويروم من غيث غوثك وكفاً، فلقد أثار نضيره الإبريز، وعبيره العزيز، لأشواقي غمام الادكار، وأنار بوروده غياهب السرار، أفاض الله سني نعمتك علي، أولى مودتك فيض العباب، وأسبغ علي دروع منتك العارية عن العاب، ورد على يعقوب الكلف وجه يوسف، قرب قربك الصلف، ومن بقميص وصلك على عيني محبك الدنف، فخلته حين وصلت سطور تبره، وحصلت بدور نثره، بعد ساعد كلا، ورائد فلا، قمراً بزغ ببناني، وشمساً أشرق بشروقها مكاني، ونجم نجم جده فهداني، فلا برحت تجلا على سرر السؤدد والمنائح، وتبلى بين رماح المحافظة والصفائح، ولا زلت ممن تسود برؤيته الأسود، ويجود بجود جدواه الوجود، وأنا راج ممن به الإسعاد، أن تضمنا الدهر بغداد، لأنهض بواجب خدماتك، وأنعم بكاعب إفاداتك، وأصول على الهم ممتنعاً، وأجول مدرعاً مع حسام وصل يحسم حسم السواد، ويوطد سد يأجوج عناد الإبعاد، رزقت عزاً سلسل تناقله الرواة، وتخضع له العداة، وجدد جلباب جدك الذي بعدما تطرز، وافى شرفه لمزايلة الإشراف، وتعزز بالعز المنزه عن الإسراف، لا فتئت منصوراً بالتأييد، على مر الأزمنة والتأبيد، لتهزم جيش السقم عن ذوي القشف، وتحسم طيش النقم عن ذي اللهف، لأنك أولى من عدل عن الحيف والجنف، وأعلى من اعترف بالشرف لأرباب الشرف، قال القاسم بن جريال: فلما رغبت في إنابها الفياح، وطربت لتلاطم طمها السياح، وأعجبني ما اعذوذب وساغ، وأطربني بصنوف ما صنع وصاغ، جعلت أفكر في خلوها عن قريضه، بعد ما عودني من بدائع تعريضه، فقال لي الوارد بها علي، والمتأود تحت سحابها إلي: أراك واكف الأفكار، وارف الافتكار، فما الذي أزعج غوارب تيارك، وأتجج ذوائب نارك، حتى لقد حاق بك صدر ادكارك، وضاق بعد السعة نظام تقصارك، وتغير حسن أسلوبك، وتزيد زبد شؤبوب شحوبك فإن كان بها ما يفضي صونه إلى الأمان فاستعينوا على أموركم بالكتمان، فقلت له تالله لقد أسأت في مقالك، وأخطأ برثن رئبال بالك، لكنني كنت ألفت مذ به كلفت إتحافي في خلال رسائله الرابية على مسائله بأبيات، تظلني بأشرف رايات، ولم أر بهذه الألوكة أرياً من هذا المطلوب، ولا شاهدت بشهادها شيئاً من حلب ضرع قريضه المحلوب، وإني لأخشى أن تغيره المناصب، ويستوي لديه الجازم والناصب، وحاشاه من
مشابهة الأسقاط، والمزاحمة على لقاط هذا اللقاط، فقال: اعلم أنما
غشيك من يم ظنك وهم، وكبا بوهم حدسك نضو فطنة ووهم، فطلق ما أهمك وهمك،
وخالع عرس ما أهمك وهمك، قال: فراجعت مكاتبته الفريدة، لأستولد مقالته
المفيدة، فإذا طرفاها، قد نطقا به وفاها، ونشر عرف المعرفة وفاها، وفتح
مفتاح الحكم نطقها وفاها، فكانت: البسيط:ابهة الأسقاط، والمزاحمة على لقاط
هذا اللقاط، فقال: اعلم أنما غشيك من يم ظنك وهم، وكبا بوهم حدسك نضو فطنة
ووهم، فطلق ما أهمك وهمك، وخالع عرس ما أهمك وهمك، قال: فراجعت مكاتبته
الفريدة، لأستولد مقالته المفيدة، فإذا طرفاها، قد نطقا به وفاها، ونشر
عرف المعرفة وفاها، وفتح مفتاح الحكم نطقها وفاها، فكانت: البسيط:
أفدي الكريم الذي أقبلت ألثمه ... ألفاً وألفاً لأشواقي أولى الكلف
فخلته قمراً تجلى برؤيته ... بغداد مع سلسل وافى على اللهف
بل حلة وردت نحوي ويوسفها ... أنت العزيز على يعقوبك الدنف
فلا برحت تسود الدهر مدرعاً ... عزاً تطرز بالتأييد ذي الشرف
فحين سهرت لنشوة إنشادها، وسكرت من سلافة انحشادها، أيقنت أنه مسدد
الأسجاع، مؤيد بمخاذم الاختراع، سارب في مسارب هذي لأساليب، شارب من مشارب
هذه الشآبيب، يتسلط على الإنشاء، تسلط النهشل على الشاء ويترنح بهذا
الانتشاء، بين رقل وشيه والأشاء، ولما عجبت بانتصاب تمييزه، وانصباب لباب
وجيزه وتعجيزه، وتهذيب ألفاظه وتنويهه، ونبيه إيقاظه وتنبيهه، أخذت أفكر
في محض محض خطابه، وبض نض نضير ما خطابه، وفتح باب رد جوابه، وقبح إهمال
رفع قدر جوابه، فكنت كمن رام من الربع الدارس كلاماً، والجهام المتقاعس
انسجاماً، وعلمت أن جمانه لا يعارض بجزع حقير، وفيضه لا يناقض بنضح جزع
يسير، فتقمصت قمص الإنصاف، ونقصت نقص ضرب الأنصاف في الأنصاف واقتصرت يوم
ظعن غلامه، ونشرت للرحلة أعلامه، على بيتين اقتضبتهما، وكلفت القريحة لهما
وهما: البسيط:
أنى أقابل بحراً فاض لؤلؤه ... بنغبة من غدير غير فياض
أم كيف أرفل في ثوب به قصر ... من الفصاحة رث غير فضفاض
ثم إني جانبت الجفول، وودعت القفول، وأودعتهما الرسول، وجعلت الوسيلة في
لقاء الرسول.
المقامة العاشرة الشاخية
حدث القاسم بن جريال، قال: نبذني كر الفكر الأليم، إلى هوة هول الوله المليم، لجزع هائل، وترح غائل، يغيب لوقوعه الجنان ويشيب قبل إنسانه الإنسان، فم أزل أصحر بقفر وهم لهم، وأبحر بحومة هم لهم، إلى أن عدت أقنع بعد الإقامة بالنهم، والكنانة بالسهم، والسليم بالوشيب، والجديد بالقشيب، فحين أظم محيا الحظ الناقص، وعظم ضرع التفرع القانص، بادرت إلى احتذاء سبتية فتية، وامتطاء حربية أبية، حذراً من تسرمد الوسواس، وتجلمد مدر ذلك الإفلاس، لعلمي أن النحرير من حبس سيب بؤسه خوف الطغيان وطمس عين تنور عكوسه قبل الطوفان، فلما استويت على لاحب الإنسراب، وانثنيت لقطف ثمار خوض السراب، وانفجرت شآبيب الشؤون. وانكسرت صعاد الصبر الخؤون، أخذت أمعن في تذكر المصافات، وأطعن العطن بعامل الالتفاتات، حتى أفنيت التعلات، وأبكيت قائد اليعملات، ولما كل كلكل العبرات، واستل سيف السهو سرف فارس الحسرات، جعلت أنشد أبياتاً كان أنشدنيها أبو نصر بحاء، حين فارق أطيفاله الطلحاء، وهي: الرجز:لا تندمن على الدمن ... كلا ولا طيب العطن
وازج الركاب فإنما ... يجني الفضائل من شطن
وانض الهموم فإنها ... خيل تشن على الوسن
كم قد لبست خويصتي ... أبغي النجاة من الزمن
ولكم قطعت تنوفة ... حذر العدو وقد عدن
ولكم نشدت ببلدة ... عند الوداع وقد ابن
يا بلدة تعلي الجهول ... وتخفض الفذ اللسن
لا حلك السح السكوب ... ولا انزوت عنك القنن
فالموت دون شماتة ... تصمي الفؤاد من الحزن
يا طالما ذل العزيز ... ورهطه لما قطن
بين اللئام فلا سكن ... عنه العنا لما سكن
قال: فلم نزل نتذكر مكاشرة الجيران، ونصافح بين الذفاري ونمارق
الكيران، ونسترق رقاب المخاشن، ونشق جواشن الجواشن، إلى أن وردنا مناخ
شاخ، وقد شاب شعر اصطباري وشاخ فدخلتها متفرداً عن الأخلاط، متجرداً من
نصاح المصاحبة والعلاط، فحين حمدت هدية ذلك المنهاج، وسررت بسنا سراج
السلامة الوهاج، أقبلت أتأمل أريحياً يمنح مما كفاه، أو حاتمياً تملأ كف
تكفكفي كفاه، عساه أن يزيل عنه لباس الأدناس، أو ينيط على جسد المجالسة
سرابيل الإيناس، فبينا أنا أقوم على قدم الاندمال، وأحوم حول حواء
الاحتمال، ألفيت أبا نصر المصري مشتملاً بشمال الانحسار، مكتحلاً بإثمد
مرود مرارة الانكسار، مرقعاً بطاقة الاختلاق، متبرقعاً ببراقع الأملاق،
متمعدداً بظهارة الأخلاق، متردداً بين الإقامة والانطلاق، فشددت إليه شد
الشملة الملساء متمثلاً ببيت من سينية الخنساء، فما برحت ترشق سهام الدموع
الخدود، حتى ملأت من دف ودقها لأخدود، فلما انقطع شؤبوب الشهيق، وطلع نبت
بيت سؤاله عن ذلك الطريق، أخبرته بسبب طلوع ذلك الويل، وغروب سهيل ذيالك
الأهيل، فجعلت أمواج رناته تغول، وأفواج أناته تعول، فحين قر موج قراقر
العويل، وسألني عن وصلة عاتق التعويل، انطلق بي إلى وكر أضيق، من خرت
خياطه، وأقذر من ينابيع مخاطه، كأنما أسسه الزاهد أوطان أوطان حيطانه
الهداهد، ثم أحضر بساطاً كاد يتقلقل من القمل، وسفرة يحملها الحولى من ولد
النمل، لا يعرف لخفتها طعم الأين مشحونة ببيضة وكمئن، مع مرقة لا يعرق
بحمام حميها ناب، ولا يغرق بقعر مددها ذباب، فقلت لروعي: إنا لله من خسة
هذه السفرة والحلول بحرج هذه الحفرة، قال: فكأنه حدث بما حدث خلدي، وضعفت
لجلله جحافل جلدي، فأخذ بيدي، وخاطبني بطيب لفظه الندي، وقال لي: يا بن
جريال دع ماء الملامة ونهله، واحذر الزمن وجهله، وخد من وكف كف القدر
سهله، واعلم أن الله يبغض البيت اللحم وأهله، ثم قال لي: دعنا ندع دعوة
الملق، ونضع عصي هذا اللمق ونزع بقية الرمق، بمراقة هذه المرق، فأثنيت على
مفاخره، وأتيت على أوله وآخره، ولما حان وقت المساء، وابتهجت لعدم الجمع
بين المائدة والنساء، وصبرت على أذى ربعه المعيب، ورتعت في حمى حكمه إلى
المغيب، ألفيته يسكت لأبكار افتراعه، وينكت بيراعه على ذراعه، ثم قال لي:
أتعلم لم ملت عن مسامرتك، وعدلت عن مذاكرتك، فقلت له: أظنك تفكر في انهدام
دار يساري، وإقدام أقدام عساكر إعساري، فقال لي: تالله لقد أصاب سهم سهمك،
وما وهم وهم وهمك، وفي غد يرافقك الهناء، ويواصلك الغنى والغناء، وحين ولت
ألوية الظلم السود، وكرت كتائب الشفق المعندم البنود، ناولني رقعة سنم مطي
وطيها، وأحكم إلصاق غطي طيها، وقال لي: اذهب بها إلى باب رب هذه الولاية،
المحسود على غوامض الولاية، واتنى بجواب أبياتها، لتحمد حلاوة آياتها،
فتناولتها ومضيت، وسللت حسام اهتمامي وانتضيت، ولما شارفت وصيد داره، وسفت
عبير إدرار مدراره، خفت أن يكون قد أودعها لمحنتي آفة، أو اخترعها
لمخادعتي خرافة، فحللت حبك نطاقها، ومسحت جرمى ختمها وطاقها، فإذا هي:
البسيط:
قل للأمير الذي أضحت مكارمه ... تطبق الناس خبرا والدنا خبرا
والمنعم الكامل الفذ الأريب ومن ... يقابل الليل ذكرا أو الوغي ذكرا
ومن له خضعت أسد العرين سطا ... يجزع القلب صبراً والعدى صبرا
ومن له منطق ذاك وذو شطب ... يصير البيض حمراً والحجى حمرا
ومن حبا وحوى مسعاه سأو سناً ... يجدد الجود عمراً والندى عمرا
ومن سما ونما فضلاً ومعدلة ... يزور الضد غمراً والورى غمرا
ومن همى وطمى طولاً ومطيبة ... يغادر الحر جبراً كيف ما جبرا
ومن غلا وعلا قدراً ومقدرة ... يروي الأرض نصراً والعلى نصرا
ومن حلا وجلا عن صدره وجل ... يجلل المدح قطراً حيثما قطرا
ومن قلا وقلا قلباً تقلبه ... أنامل البغض خطراً كلما خطرا
ومن فلا وفلا بالسيف مفتخراً ... يصر الصف هدراً كلما هدرا
ومن سرى وشرى شرياً لشانئه ... بشدة نشرت شزراً متى شزرا
ومن قرى وفرى فرياً له شرف ... يضوع الأفق نشراً أينما نشرا
ومن جنى وجنى في الحرب مشتهراً ... يطوق البهم بهراً والبها بهرا
ومن أنا وأنا في قربه قرم ... أشاهد الشوق بدراً كلما بدرا
إني غريب وإني مذ خلقت لقى ... أكابد الفقر قسرا كلما قسرا
وصبيتي يومهم بؤس يشتتهم ... يخلف الربع صفراً كلما صفرا
فاطرد خيول الأذى عنهم فما برحت ... تصافح الذل قهراً كلما قهرا
واسمع فأنت الذي ما زال مقتدراً ... يجاوز الحد قدراً كلما قدرا
قال الراوي: فلما سرت بانصبابه، إلى رحيب بابه، دفعتها إلى الحاجب، بعد
مراعاة الأدب الواجب، فولج بها إليه، ونثر من جميل جمانها عليه، ثم غاب
قاب أكل يعفور، أو قيد حل قيد نفور، ثم بزغ بزوغ الغين بصرتين، من النقرة
والعين، فأماط عني الحذر، وألقاهما إلي واعتذر، فرجعت إلى بيته الأعليط،
ببطر مطي الطرب والأطيط، فقال لي: أراك تهز عطفيك، أملأت الجزازة كفيك،
قلت له: إي ومن سهل لك الوعور، وفتح لأدابك الأعين العور، ثم ألقيت إليه
الصرتين، فقال: أي ما تحب من تين فقلت له: كليهما وتمراً لأجمع من جدة
جدواك ثلجاً وجمراً، فنفحني بهما وابتسم، وأعرض عن عرضهما واحتشم، ثم إني
نهضت إلى سوقها، بأكارع المسرة وسوقها، لأخمد من قرم القرم الهياج، وأحسم
من دم داء المجاعة ما هاج، فعدت وقد بلقع أرجل الدار، وكتب هذين على جانب
الجدار: الكامل:
النصل يصدأ إن أقام بكنه ... حيناً وينبو في اليلامق رشقه
وكذلك أنت فلا تلازم منزلا ... إن ضاق غربك فالإقامة شرقه
قال: فما لذ لي بعده الركون، ولا احلولى بعد تسياره السكون، فجعلت تخد بي
الأمون، لأكنف من كنت له أمون.
المقامة الحادية عشرة الرسعنية
أخبر القاسم بن جريال قال: أناخ بالشام برهة من الأعوام، جمالات جدب بشرت أديم الجمام، ونشرت سرابيل السغب، على طرف الثمام، وأجزلت وساوس الإعدام، وأهزلت بها معالم الأعلام، حتى بلغت القلوب الحناجر، وشام الملأ على الجيف الخناجر، وظعن خضل النضارة، وفر، وعدن نبع تبع الضراعة وقر، فلما احلولكت حنادس الجلاء، واغدودنت غلائل الغلاء، واستدت المسالك وادلهمت، واشتدت الحال وهمت، وانتابت الغير وأهمت، وأذابت النقم قمم المقدرة فانهمت، انسللت من القراب، ومللت حلاوة الاقتراب، فبينا أنا أنسرب بالفلوات وأنتحب نحيب المقلاة، ألفيت شيخة كالسعلاة، تلو خود كالكهاة، وعزة كالمهاة، وأمامهما شيخ كالعرجون، يجر أردية الشجون، ويسرح بجلابيب حظه الجون، بين منى منى قلبه والحجون، فحين لحظت جودة احتمالهم، واكتحلت بخساسة أسما لهم، نحوتهم بجفن التجمل المشتور، لا رفع غطاء سرهم المستور، فألفيته المصري رب الفنون، الجامع بين الضب والنون، فاتصلت به اتصال القلم بالنون والحنك بالعثنون، ثم إني عدلت عن عثوائه، وسألته عن تعاظل وعثائه، فأطلعني على محاسمه حائه وانتحائه، ومصارمة صلحائه مع برحائه، فانثنيت محقوقف السواء، وألقيت إليه يقود القرواء وقلت له: دونك امتطاء ذروتها، واجتلاء جربتها، فأحلهما قراها، واختلى لها خلة النصب وقراها، ثم أخذت أحدثه بما أعاني من الخطوب، وتعذر المخطوب، ومغالبة اللغوب، ومسامرة السغوب فأرهف قواضبه الصقال، واستفتح المقال، وقال: الكامل:تباً لدنيانا المليمة إنها ... سجن الرفيع وجنة للساقط
داراً تزخرف للئيم وتنزوي ... عن ذي الفصاحة والكريم الفارط
كم قد تعم بقسطها من مقسط ... مر الزمان وقسطها من قاسط
ولكم تخص بحلوها من قابض ... نكس يشح ومرها من باسط
ما نال منها الفذ إلا مثلما ... نال الهزيم بجنح ليل خابط
ما تطبيه لنغبة من سحها ... إلا وتنفحه بقلب القانط
فالبؤس فيها والنعيم كلاهما ... عند اللبيب كقاب ظل الحائط
فحذار منها ما استطعت فإنها ... لدن الأريب ككفة للأقط
قال: فلما نثر جمان أبياته، وبهر بانسجام شكاياته، ونصص أواذي غصصه، وقصص
وجوه جدر قصصه، لحظني لحظ الشفيق، بالوجه الصفيق، وقال لي: يا بن جريال،
لا تطل لترك الحياء حبل الحيرة، وقصر لطرفها طول طيل الطيرة، فقد أرغم
الشرع أنف الغيرة، ثم قال: ألا تحب بأن أصاهرك، وأطلع في سماء المصاهرة
زواهرك، لأزيل بلابل ميلك، وأطيل ذلاذل ذبلك، وأنا أقنع بسنا سهيلك، ولا
أطمع في هيلمانك وهيلك، فانظر بمن أروجك، وبأي الدرر أتوجك، فإنها أخفر
خريدة وأفخر فريدة، ثم إنه رفع نقاب الفتاة، فتأودت تأود القناه، فما
تمالكت أن قلت له: من لي بذلك، والاستضاءة بوميض ذبالك، فقال: طب نفساً،
وأنعم بها عرساً وغرساً، فإذا جزعنا البراح، وجرعنا راح الراحة والقراح،
نواصلك بمحضر من الشهود، ولا نفارقك إلى اليوم المشهود، قال: فارتفع بما
قال قدري، وانشرح بما صدر من صدره صدري، ثم أخذنا في ذم ذميلنا، وإلحاق
سيل المسايلة بحميلنا، ولم نزل نمج ذلك الخندريس، ولا نذيق التعريس
العنتريس، حتى وردنا راس عين، مرملين من زاد وعين، فحثنا قطيع القطوع
الفظيع ومهمه المضيعة الذي به الماهر يضيع، إلى خان: لم يتجمل دهره بدخان،
معروف بالمفاليس، تطوف ببيت حوبه حزق المناحيس، فلبست قدر حلب شاة، أو
صرام بلح أشاة، ثم انساب بعياله، يسحب غلالة اغتياله، فجعلت أقفو إثرهم
وهم يوجفون، ومن التحيل يرجفون، لأنظر ماذا يصفون، وبأي أشجار الحيل
يصفون، إلى أن دخلوا دار ولايتها، ومدار إيالتها فوقفت تجاه الوصيد، لأبصر
مضمون بيت القصيد، فلما وقفوا لدى الوالي، وانهل لؤلؤ دمعهم واللآلئ، سن
الشيخ سنان زفراته، واستن في ميدان عبراته، وقال: السريع:
يا أيها الندب الذي خيمه ... طال على النسر بنشر جميل
ومن إذا حل حروب العدى ... طال على الصف بصافي الصهيل
أنهي إلى ساميك يا ذا النهى ... ومن شاء الشم بلبس الشليل
قد كان لي نجل يحب العلى ... يهوي إلى الفخر هوي الخليل
بقامة أعدل من صعدة ... وسالف شبه الحسام الصقيل
ففاجأته الحين في خيسه ... فخر كالجذع السحوق الطويل
وعاد بعد السبر في سربه ... ملقى لقى مثل الكثيب المهيل
ما تحته غير بساط الشقا ... سحقاً له من حلس بوس وبيل
من بعد ما كان كثير الثرا ... ينوع كالغصن بعيد الأصيل
يجر في روض النعيم الصبي ... ويكسب الجد بجد أثيل
فوا رميتي أنه ميت ... ما زال في الأحياء عين المنيل
فلم يزل الوالي وغشاته يحولقون، وحشده ووشاته يترققون، وبرقتهم ورقتهم
يترفقون، ثم إنه أبرز من أبريزه، ما يرصد لمصالح تجهيزه، فانصرفوا غب
قبضه، واعترفوا بنض فضله وعرضه، قال: فلما رأيت قبائح فعالهم، وتساوي رؤوس
رياستهم ونعالهم، آليت ألا ألتفت لشبقها والتل، أو تأتلف العبن والحاء في
الثلاثي المعتل، فراجعت الخان، وبردت ذلك الأسخان، فوجدته قد أغبر، واحتذى
الصعيد الأغبر، بعد أن أخلى حرمه، واستملى حرمه، ونبذ مرافقتي، واستصحب
ناقتي لفاقتي، فبت باكياً على أموني، نادماً حيث نادموني، ثم نويت مفارقة
الريف، ولويت ليتي نحو الغريف، وطرقت باب المعرف والعريف، وفارقت الفندق
مفارقة حروف النداء لام التعريف.
المقامة الثانية عشرة البحرانية
روى القاسم بن جريال قال: نزلت بالبحرين بعد مكافحة الحين
ومناوحة البرحين وأنا حينئذ خفاف ذفاف لا يلفني عفاف ولا يكفني إعفاف أخوض
في غضارة مضية وأروض ذا نضارة مرضية يسعدني إسعاد القود واسوداد الفود
ورواج الثواج وازدواج النتاج واحتواش المطاعيم وانتعاش الأناعيم مع رعاء
أولى ثلة لبيع رغاء وثلة فلما ابتليت البوس وأبليت اللبوس وأزلت العبوس
وزايلت العصبصب العبوس أقبلت استصحب الوشاء واستصبح الانتشاء وأبيع الشاء
لمن شاء وحين عرضت الأثمان وأعرضت عمن نجش ومان، جعلت أتورد سلسل المساكن،
وأتردد في ترجيح الساكن، إلى أن ساقني سنان القدر، إلى فندق واكف القذر،
مملو من العير، محشو من الحمير، لا يسمع به سوى الشخير والنخير، والاختصام
على الحقير الوقير، معروف بالمخانيث، محفوف بإخوان إبليس الخبيث، قد أحدقت
به طفاوة الخبائث وعلقت به براثن الزمن العائث، فخلعت لباس التوقير،
واستأجرت بيتاً كالقير، دون دور النقير، لظني أن سأرحل بعد ليلتين، كاسياً
من مكاسب الصفقتين، فعسر الدهر ما قدمت لأجله، ويسر علي إقدام سح الضرر
ونجله، فبينا أنا ببعض الليالي الطوال، أكابد أهوال الهذر الطوال، رأيت
شيخاً مكشوف المنكبين، محفوف الشاربين، يمور بتلك الأحوية، مور الأهوية،
ويضطرب بهاتيك الشية، اضطراب الأرشية، وقد أخذ مخنث بزيقه، وهم بتمزيقه،
والشيخ يزعم أنه سمع حلحلته، وقد سرق مكحلته، والمخنث يدعى أنه خطف ميله،
وقصده مقيله، فدنوت قيله إلى الباب، دنو الذباب، لأنظر في صياره، لمن يكون
غلب تياره فألفيته الصل الحبوكري، أبا نصر المصري، فلما تعاصف ذاك الهبوب،
وتكاثف بينهما ذلك الخبوب، خلع المخنث غلالتيه، ونهض قائماً بسوأتيه،
وقال: إن كنت أيها الدويهية من الكاذبين ولست لمكحلتك من الغاضبين فمنيت
بالصفو المفاصل، وأوجاع المفاصل، وانسداد الصراط، والسعال المقرون
بالضراط، وانحلال الإحليل، واحتلال التحويل وأسقام الخبال وإلجام الرئبال،
وإعراض الصريف، وأعراض الخريف وغسل الثياب، وعسل الذياب، ونتف العذار،
ونزف الأقذار، واصتراط المنصل، ووطء أوراق أصول العنصل وصد النصير، وعد
خيوط الحصير، والنواح في المآتم، والرواح في السحيق القائم، فقال له أبو
نصر: بل إن كنت أيها الفويسق من الصادقين، وعلى اتهامك من المصدقين، فلا
جمع بين مكحلتك والميل، وجرعك فقدان الغراميل، ورماك بحك الجتار، ولا قرن
شراء تينك بالخيار، ونشر شرع مساويك، ونصر من يناويك، وجدع ما نتافيك،
وقلع أعداء مالك من فيك، وأزعجك بشدة الأنين، وزوجك بالعاجز العنين، وأجج
نياط قلبك أقطيقوس، ولا ولج باب ديرك الناقوس، وخفض من ردفك ما ارتفع،
وملأ من جوف جفنك ما خفع، وقطع من ثوب غنجك ما رفل، وأطلع من شعر خدك ما
أفل، ولا ذاق فم فخذك اللثق، طيب طعم ما مقلوبه أثق، وقوض حواء حسن كفك
الكسير، وقيض لقلب يمينك حفظ باب التكسير: الطويل:
على أنني لو جاء ألف مخنث ... لسبي ولسبي خطتهم في نصاليا
فكيف تراني يا أخا الخزي والخنا ... وأخبث خلق الله عند نضاليا
قال: فلما رقدت عيون ذلك العوار، وخمدت ذوائب ذياك الأوار وبزغ الفجر
المنير، وفارق عنق كل من ذلك النير، نهضا إلى والي مدرتهما، لإطفاء شرر
شرتهما، محفوفين بكل زبال وحبال وطبال بطال تحيط بذلك القلاب، حزق الكلاب
وتخيط خرق الحسن الساق، عساكر الفساق، وأبو نصر يتبرج تبرج متطاول، ويتدرج
تدرج متطايل، ويتغترف تغترف سلطان ويتغطرف تغطرف شيطاني ليطان، وكنت هممت
بأن أساعده على قبائل الفسوق، فخشيت أن يلحقني حدة سعر ذلك السوق، ولما
وقفا بحضرة الوالي، وتهدفا للمصاع العالي، نظر الغلام نظر من نظر العين،
ورجح على عقد الثلاثين التسعين، ثم قال: ليجهر كل منكما بدعواه، ولا يهجر
في شنيع عواه، فازبأر أبو نصر وزأر، وحدج ذلك العكر وعكر، ثم أنه استنجع
سحب فكره الثقال، واسترجع عاتق مقاله، وقال: الكامل:
يا والياً بسماحه ورماحه ... أحيا الرميم وحير الأحياء
وإذا تهدمت المكارم واعتدى ... صرف الزمان أفادها الإحياء
إني فقدت بحسن عدلك غادة ... تقني الحياء وتقنئ الأقذاء
وإذا خلوت بها آمنت بقربها ... طول الحياة وعيشك الأمذاء
وإذا دنوت لها وجدت أديمها ... يحكي الصقيل صقالة وصفاء
وإذا قطنت فلا تروم تعظماً ... حين الطول لخدرها وصفاء
وإذا ظعنت فلا تكلف طاقتي ... عند الرحيل مطية وجناء
لم تطعم الماء الزلال ولم تذق ... طعم الطعام ولا ترى السيراء
صاحبتها شرخ الشباب ولم أنل ... منها المراد تعففاً وحياء
حتى إذا انبجست شموس ذوائبي ... وغزا الصباح بمفرقي الإمساء
أنكحتها رشأ رشيقاً شادنا ... يحكى الغزالة في السماء سناء
حلو المحيا لا يزال مجاوراً ... لجمالها لا يعرف الإغفاء
جوناً بلا جوف أصم مواصلاً ... جفناً جسا أو مقلة رمداء
فجعته فيها النائبات فأصبحت ... عيناه تذرف للبعاد دماء
فافحص له عن عرسه يا ذا الذي ... ساد السماء وطرز الأسماء
قال الراوي: فلما رشف كؤوس عجوزه، وعرف بدائع رموزه، أفكر في تحصيل ذلك
الناعم، وأمر بإخراج العماعم، ثم قال للشيخ: ما أخاله يسرف ما يساوي
الفتيل، وأنى تصادم البقة يوم الكريهة الفيل: فقال له: أقسم بمن جدد
الجميل، وجذذ الحميل ما برأته وأحطت حوله التأميل، إلا ليسرق من تحت
أثوابك الميل، فأطرف الوالي بذلك من لديه، وقهقه إلى أن غشي عليه، ثم قال:
إني لأسمح لك بدينار، كضوء ذي نار، ولا تبغ باليمين منونه، فلشان، ما أرهف
الفارس نونه، فقال له: عجله بالوزن الوافر، واعلم بأن النقد عند الحافر،
فدفعه إليه وهرف، وأثنى على علمه واعترف، فدحرجه في كفه وانحرف، وأولجه في
فمه وانصرف، ثم قلص قميصه لسحه، وتخلص تخلص الحبارى بسلحه، فتظنيت أنه
امتطى متون الهوج، أو اعتلق بأسباب البروج، بعد الخروج من العوج، والولوج
بين تلك العلوج.
المقامة الثالثة عشرة النيسابورية
حكى القاسم بن جريال، قال: عدلت عن معاطاة المغالق، ومداناة خبت المخاتلة، والحالق حين فليت قمم السمالق، وقليت امتطاء النمارق، إلى أن بت أجتزئ بمسامرة الرئال واجترئ على أسود المساورة والرئال، وأجوب فجاج الرمال، غير محتفل بعساكر الإرمال، عل أن أعل راح الاجتراح من أنامل الانتزاح، وأفل صوارم الأتراح قبل مصافحة الصفاح، فبينما أنا أنتهب المناهدة نهبا، وأجعلها شعار همتي دأبا، إذ وجدت الحظ المحبور، والسير المسبور، قد اقتادني إلى مدينة نيسابور، فوردتها بعد مفارقة اللبد، ومزايلة اللبد وقد أغلق باب البلد، فتوخيت المبيت بين الأشجار، بعد حط الشجار، ثم إني نضيت لباس الإيجاس، ومضيت إلى المهراس، مضي الهرماس، فتكرعت للركوع بعد كسر سلامي الجزع والكوع، ثم ملت إلى المطية فأمجدتها وانسللت إلى العيبة فشددتها، وحين أحجمت جحافل حام، وحالف الحذر ذلك الالتحام، جعلت أجول بين الشجير، خالياً من المخاتل والشجير، فلم يمض وهن من الظلام، أو تبسم ثغر القمر تحت اللثام فتجردت حلائل الروح وغردت ورق الحمائم على الدوح، وبينا أنا أحاذر الهجوم، وأجاور الهجوم، سمعت على عين جارية، منافئة أعذب من نغمات جارية، فربطت، جرجة العين، وتأبطت عضبي نحو العين وقعدت من حيث لا أرى، وقلت غب الصباح يحمد القوم السري ثم ما برحت التقط لؤلؤ الكلام، بأظفور الإلمام، وأجرد قواضب الاهتمام، لذلك الانضمام، حتى رأيت حالبي ذياك الثمين، وجالبي ذيالك الكمين، شيخنا المصري، وولده اللوذعي، وهما محتفان بالشمول والشمائل، ملتحفان بالخمول والخمائل، فقلت: تالله لا أفاجئ جريالهما وأضيق في حلبة المباحثة مجالهما، أو أنظر إلى ما يؤول آخر النبيذ، مع ولده الخنذيذ، فما برحا يحولان في كاهل المنادمة، ويجولان في جلائل المناسمة، إلى أن حان حل النظام، وخان خل الجفون ظام الانتظام، فقال له: يا أبت لقد سئمت السفار، واجتويت السفار، وكرهت القفار، ونهكت مني القفار الفقار، فهل ترى حزامة حوبائك، وترى على آرائك آرائك، بأن أصير بأجوية الملوك، بعد اقتناء السابح والمملوك، متوشحاً بوشاح الوشاء، مترشحاً إلىكتابة الإنشاء، فإنها رتبة جليلة، ومرتبة نبيلة، فقال له: يا بني
لقد رمت مسلكاً وعراً، لا ترى الراحة فيها الراحة إلا نزرا، مشحوناً
بالشحوب، معصوباً، بعصائب الحوب، تفتري على سالكه الأوغاد، وتقتري أثر
هفواته الأضداد، وتفري أديم عرضه الحساد، ويقرى مخدومه الإسآد وتسري إلى
نضاله الآساد، ويشري أدم إجلاله الإيساد اللهم إلا أن تكون ذا براعة
مشهورة، وبلاغة مسجورة، ومهارة فاخرة، وعبارة زاخرة، وآلة كاملة، وإيالة
متكاملة، وفكرة جائلة، وفطنة غير حائلة تنقاد لك المعاني انقياد العاني،
وتتمكن تمكن الجاني من هذه المجاني، فحينئذ يذعن لك ما تشاء، كما يذعن
للمساجل الرشاء، وتنحو بابك الحرشاء، وبين أنيابها الإرشاء، فقال له: إني
وبك لعقاب هذا اللوح وعذاب هذه الحنانة الدلوح، وسرحوب هذا المضمار،
وطخرور هذه الأمطار، فقال له: يا بني لاتك ممن يطبيه طبعه، ويطغيه طمعه،
ويغره الجهام، ويستغره الكهام فتمسى حرضاً بهذي الظباة، وغرضاً لقذذ
القاذف والشباة، وها أنا مقترح عليك، ومجترح لديك، فإن أنت ضاهيت ما
ابتدعه وأتيت بمقل ما اخترعه، علمت أنك ممن يعوم بعباب هذا الحباب، ويقوم
على قدم هذا الانتداب، ويستحق امتطاء هذا القارح، ويسترق أرباب الأدب بين
هذي المسارح، فقال له: تالله لأنهضن بهذا الفادح، نهوض الأسد الكادح،
ولأبيضن وجه ظنك الصادح، ولأغيضن يم عبوس وهنك الكالح، لتعلم أني فنن
دوحتك، وزنن مزنتك، والشعاع المستنتج من بوحك، والشعاع المستخرج من يوحك
فقال له أبوه: هبني أنني لك مخدوم، وأنت وعاء لجملة الأسرار مختوم، وقد
ورد علي رسالة سرية، يحجم عنها من له روية جرية، لا يخامر سطور يراعها
ألف، ولا يجاور خد إبداعها كلف، تتضمن تهنئة بقفولي من السفر، ووصولي
بالفوز والظفر فخذ المثال، واحذ التمثال، واكتب لأمنيت ببينك ولا رميت
بحجر حينك، خدين فخرك، وخزين سرك، ومخذم ملبسك، وخويدم مجلسك، مجد سمو
سعدك وتسرمد، ووطد علو جدك وتجدد، وجللت غصون صولتك وقرت، وتهللت غضون
دولتك وفرت، وطغت بحور سورتك وطمت، وسرت سير سيرتك ونمت، وسمقت همم برك
وعلت، وتدفقت برم برك وغلت، وزكت سيوف نصرتك، وقلت وذكت سعير سطوتك وقلت،
ووحمت خلك خيولك وحمت، وسمت سبلك سيولك وسمت، يخدم بنثر وقريض، وشكر
مستفيض، وحمد يبوح، ومدح يفوح، يطيب عرفه ذو شرد، ويجلبب سوفه من له سرد،
ويلذ نفحه ويفوق، ويشده من نشقه ويشوق، وبعد فعبد علي منتك، ومتقلد در
سطور منحتك، متع ربه ربه ونصره، وزعزع بزعزع قهره من قهره يجهر بحمده عز
جل مذ قدم قدم قفولك وحل، وقرب بمن ترب من وفر قربك وخل، فلقد تشوف بجلي
وصوله وترشف وتشوق بحلي حلوله وتشرف: الطويل:
قدوم له طيب رطيب وكوكب ... يسير فيسرى فيه شرق ومغرب
يحل فيحيى جوده كل معسر ... ويسني فيجني منه فدم ومعرب
فلنحمد من نفح محبيه بملبوس جذل، ولفح من يحتويه بلبوس بوس ووجل،
رفع مبدعه دور رفعته وعمر، وخلع على عبيد عزه خلع مننه وغمر، وطول طول
نعمه وكمل حيث وعم عبده بعوده وتكمل فلينعم بمهمه ولو تسنم ملى قدوسه نفسه
وسلم، وصلى على نبيه محمد وسلم قال الراوي: فلما فزع من ألوكته اليتيمة،
الوافرة الديمة، قال له: قل ضوع الله لمعك وفتح مسمعك، ولا أسأل مدمعك،
وجبريل معك، فهمهم همهمة الهموس، وغمغم غمغمة الغملس الغموس، ثم إنه تلبب
لمصادمة المنون، حين أرهف له غرار ذلك النون، وأنشأ رسالة كاللؤلوء
المكنون، وهي: ورد شريف حضرته، ووريف نضرته، ذو بزغ بوصوله قمر شرف يؤبد
روحه وضوءه. بل ولي تحف يحمد سحه ونوؤه، وحزق مرح يتدفق سروره وفرق فرح
يترقرق ميسوره خلد مرسله تخليد عصوره، وجدد مجده تجديد دهوره، وترنحت دوح
جد جده وحلت، ورنحت، رتب حسدة حوله وخلت، وصفت شمس ضد فضله وضفت، وعفت شمس
ضد فصله وغفت، وربت بيض سعوده وبرت، ووهت عصم خصومه وهوت، وشرق نيل جوده
وبسق، ورشق نبل جوده وسبق، ولحق من بحج نجح محجته، قصر وحلق ورمق بعين
معدلته، من تعدى ومرق، بنخب منظومة، وسحب مسفوحة، وشموس مشرقة، وغروس
مورقة، وحكم وسيمة، وديم جسيمة، وعهد وفي، وحسن يوسفي، يوذن بوصل قطع
قريب، وقطع وصل قلق غير قريب، وينطق بعلم عميم، ويمنطق بعقد فخر نظيم،
ويغنى بضرب ترصيعه ويربي بزهر بديعه على ربيعه، متبرج بسيح سحره، ومترجرج
بموج حلو بحره، يسود لون نقسه وطرسه، خضرة ليله، ونور شمسه، فقوبل بحمد
مديد، وشكر شديد، سد من دلوحه رحيب بوحه، وسعة سحوحه، جسيم سوحه، فجمل
بوروده عبده، وتجمل بعده من عنده، بعد وقوفه عليه، ووضعه فويق عينيه، وقوف
من بهت بروض غريض، بل بفيض سح وسمى وميض عريض، يسفر عن محبره، ويخبر بكنه
طبيب مخبره: الطويل:
شريف به در شريف مشدف ... يسح له در غريب ويعرب
له ضوء شمس في رطوبة لؤلؤ ... ولفظ به قس يقيس ويعرب
فلله عنبر عطر يدي حبره، وتقطر لدي خبره، وحبره وعبير عبق بقدومه نشره،
ونضير نضر عرنين من نشره، نشره متع برشف شهد بشه، وبلقع ربوع عشه، من جيوش
عشه، فليشرف بمهه ليتشرف، وطد موجده ركنه ونيف، وسرمد ملة خير خلقه محمد
وشرف. قال: فلما قرن بين زبدة الزبد وتمرها، وجمع بين نقاخ خمرة النخب
وخمرها، جعل أبوه يفكر في تلفيه وتدقيقه، وينظر في تحقيقه وتطبيقه، ويطرب
من فقر مقاليبه وحسن تجنيس أساليبه ويعجب من حذفه ولزومه، ورد عجز معجزه
على حيزومه، وإجادة مغازيه وجودة متوازنه ومتوازيه، ولغة طيه، وطيب نشره
وطيه، وترصيعه واشتقاقه، ولهاذم مطرفه ورقاقه، ثم أقبل يقبل بياض غرته،
ويقلب سواد بياض نضارته، فعندما راقه رقة ذلك الغرار، وفاقه بحذو ذياك
الغرار، قال له: أفادك الله بامتياح عيني، وأعاذك من عيون البشر وعيني،
فلقد أثريت قراحي بهذا اقتراحي، وأوريت مصباحي باقتباسك من صباحي، فأنت
أحق من لعلمه الرجال كعمت ولا دابه الرجال عكمت، وعليه قدمت الرياسة
وسلمت، وإليه تقدمت السياسة وسلمت، ولنقص حظه الورى تظلمت، ومن أشبه أباه
فما ظلمت، قال القاسم بن جريال: فحين غمد حسام مساجلته، وعمد لارتشاف
مدامته، ودهشت بانسكاب ذلك الصبير وشدهت بارتفاع عرف ذيالك العبير، جنحت
إليه جنوح الأنوح، ومنحت كفه سرعة الاستلام السحوح، فقال لي: أهلاً بالنمر
الجسور، والمنهمر المسجور، ذي الحظ العازب، والعزم اللازب، ثم قال لي:
أأطربك ذلك الرواء، حين اختلسته من وراء؟ فقلت له: إي، ومن رفعت به
السماء، وتعسعست بقدرته الظلماء، فقال لي: أتحب بأن احتضن كنانة المسامرة،
لتحمد شحذ سيف سفرتك الزاهرة، وأعتقل رماح المحاضرة، لتشكر شيم ليلتك
الناضرة، فقلت له: حبذا الربع الخصيب، فعلى مثلها كان يدور الخصيب، قال:
فأفاح على ذلك النهر ما فاح على رياح الزهر، وأباح لي من ثمر السمر ما
أتاح لناظري إهمال الخمر، إلى أن أحجم بهاء الزبرقان، وضرب إكساء فيلقه
المشرقان المشرقان، وحين شرف الشفق، وبقي من القمر الرمق، حاول التسيار
واستقبل المسار، وحاسمني محاسمة من سار، وألبسني سرابيل الأسف وسار.
المقامة الرابعة عشرة الزرندية
حدث القاسم بن جريال: قال: وددت أيام اخضرار الغدائر، وازورار
الزنيم الزائر، وارتكاب الكبائر، واقتراب الرقيب البائر، بمدينة زرند،
ندباً من مرند، وصحباً من سمرقند تكف كوع الفتن والزند، ولا تستصحب الزند،
إلا لتضوع الرند، همهم حث الرواحل للربع الماحل، ودخول المحافل للفضل
الحافل، وإسداء النوافل لإسعاف الآفل، فافعوعم بزلالهم مزنى، ونبذت جزع
ملازمة جزعى ورزني: الطويل:
بهم مد باعي بعد أن كنت خاوياً ... أخا شظف حلف المناحة والحزن
طريداً مع الأظعان في كل مهمه ... يسامرني سير السهولة والحزن
قال: فلم نزل نصافح المسطار، وننتجع ذلك الأمطار، ونتسنم متون السروج، ونتنسم أخبار المروج للخروج، فبينما نحن ذات ليلة بمشربة وجارنا، تعتورنا عواتق عقارنا، ننهض لإصلاح الأسيد، نهوض السيد، ونبيض وجوه ذلك المشيد بتغريد الأناشيد، إذ طرقت حلقة الندماء، وقد ذرفت عيون السماء بالسماء، وسحت السحب بأنواع النيل، وعاين الشرب شرخ خيل الليل، فوثبت الأعبد إلى الطارق، وثوب المطارق، وقالوا: من الوارد في الغياهب ورود السلاهب، والوافد وفود المناهب مع لثق المذاهب للذاهب، فقال لهم: خامل سلافة وصاحب عيافة خفيف القرونة، كثيف المؤونة، يحشه المراح، وتحفه الأفراح، وبراحه الراح، فإن هدمتم، الغل الصراح، وعمرتم كعبة المرح والضراح، وتقبلتموني والراح، وإلا فالرواح الرواح، قال القاسم بن جريال: فلما ندرت أراعيل رياحه، وبدرت بوادر رعيل امتياحه، وطعمنا باكورة ثماره، وطمعنا في محاسن استثماره علمنا أنه ممن يروق ندمانه، ويروق براووق المنادمة إدمانه، فاستزدناه طلب الهوج، وأمرناه بالولوج، فدخل متسخطاً من الطين، متعوذاً من الشياطين خالياً من القطين، وبكفه كوب من اليقطين، يهدر هدير الشدقمي مفعوعم بالعقار العندمي، فقوبل بما به سلم، بعد أن ملك مقاليد إكرامنا وتسلم، ثم إنه نبس بما نبس، ونحا القبس وعبس، وجعل يجفف فروجه، وينشف فروجه، وينظف رداءه ويتأفف إذ بلل الوابل قفداءه وبعض القوم مرمون لاقترابه، مهمومون لقذارة قرابه، ملبون داعي إعماله، ملبون على إهماله لأسماله تصعر خدودهم لمزنده، وحبس مد ماء مدده، فلما شاهد من عبوس غضونهم، أنه بارز من زبونهم، وتحقق أن ذلك لضيق أكمامه، مع معرفتهم بسعة ثمار أكمامه، استخرج من وفضته المرماة ورشق بها هاتيك الرماة، وقال لهم: يا أرباب التنافس في الطنافس، والتقاعس لدى المنافس، ويلكم أتصادمون الصداع؟ وتعلمون اليرابيع الخداع، وتحتقرون من دب إلى داركم، وهب إلى ديم إدراركم، واسترى لهيب أواركم وامتري حنيذ حواركم، واكتحل بميل سراركم، واحتمل عسيب أسراركم، أف لمن يضيع نزيله، ويودع طعامه زبيله، ويحتذي وبيله ويجتدي أبابيله، ولئن رابكم حرج أكمامي، مع عدم كف كمامي، وساءكم سداد ابتسامي، مع در إبداعي السامي فأنتم كمن رضي بتوسعة ميدانه، مع تضييق رديانه، فما كل من احتمل المهند هند، ولا كل من تسربل المزند تزند، قال: فأقبلنا على لثم أعطافه، رجاء انعطافه، واحتملنا ذرور ذراره، خوف انثيال مدراره، فعند ذلك جمدت جداول كمده، وهمدت غوارب لدده وحمل مكنون مجاجه، وسمل مقل انزعاجه، وحاض فيض افتنانه، وفاض سح سيل استنانه، وأقبل يفض فضائل إبداعه، وينض خمائل اختراعه، ويتمنطق بالأحداق تمنطق المداعس بالدقاق، ويترنح بالانبثاق ترنح المفلت من الوثاق، وأنا مع شدة حذاره وصبغة عثنونه وعذاره، أرمقه باللحظ الجلي، وأنظر إليه نظر الشجي إلى الخلي إلى أن لاح سبج ثطط عارضه، وساح لجج شطط معارضه، فعلمت أنه أبو نصر العقربان، والعملس الثعلبان، الذي لم يزل مع الأحامس أمامي، وفي المناحس، إمامي، فقلت له: بالذي أظهر المقبور، وسير الدبور، ويسر سرور سابور، ألست رب الرسالة بنيسابور، فقال: بلى ومن شرف الزبور، وذكر الصنبور، ونصر الصبور، وأطلق المصبور ثم قال لي: يا ابن جريال ألم تكن شدخت لشومك شائم هذا المجال، وشمخت بخيشومك على الجريال بعد أن كان الورع يجتبيك، وطلاء الطلاء لا يطبيك، فكيف ارتضعت كؤوس خوابيك، وعطف قلبك على أبيك، قال: فلما شهدت شهاد ملاطفته، وخشيت أسود غطرفته، قالوا: من أين لك هذا الخليل الجليل، ومن أي الصواقع تسنى لك ذا الخليل الخليل، فقلت لهم: من خزائن الألطاف ومعادن الاستعطاف، ثم إني أخذت في مدح بستان يانعه، واستحسان حسان بدائعه، فلما رأوني مكثراً في امتداحه، مطنباً بوصف صحف صفاحه، قالوا لي: أتهرف بحلال فصاحه، وقد بتنا في حلال إفصاحه، وتمعن في امتداح مستطرفاته، وقد عجمنا صلابة صفاته، فخلنا لمناوحة هذه الفرق قبل القلق، واتركنا نكتل بهذا الفرق قبل إقبال الفلق، فإن مباحثته شفاء الغرام، ومنادمته دواء الداء العرام، قال الراوي: فلما سقته حمياً ثنائهم، ورقته من حرارة حمة ازدرائهم، قصد وصيدهم، وافترش صعيدهم، وآلى ألا يزيدهم، وذم لقتل حسين حرمته يزيدهم، فقالوا له: يا ذا البداهة الحسبانية، والفصاحة
السحبانية، أما أزلنا انزعاجك، وأنزلنا من سماء المسالمة ثجاجك،
فما الذي لوي زمامك، وزوى ابتسامك، وثنى انسجامك، وقدم إحجامك، وأخر
إقدامك، فأزل لجاجك لنقضي حاجك، وافض مجاجك، لنفعم زجاجك واترك عتابك،
لنملأ عيابك، وامنحنا حبابك، لنرفع بابك وأرنا نابك، لندفع ما نابك، فقال
لهم: مساورة السام دون الابتسام، فلا وجه للمقام بعد الانتقام، ولا سبيل
إلى الانضمام بعد الانهضام، وقد كنت حين هالني هوى الهون الغشوم، وغالني
طول برشوم ذلك الشوم، وعوملت بجر هذه الرياق معاملة أهل الإباق، وعدلت عن
طرة الطرب والطباق، وهم باب المسرة بالانطباق، أهم بالرواح، ولو على جناح
الرياح، وأما الآن فقد ذهبت همومي، ونضبت سمومي، فأصلحوا فرى هذا العط،
وأغلقوا باب الإشالة والحط، وفي الليلة الآتية أترك الهجوع، واستأنف
الرجوع، فمثلي لا ينطق بمحال، ولا يصبر على حر إمحال، لأشبع ما بعشي من
عيال، وضمان الأوبة على ابن جريال، فنهضوا إلى وداعه بعد انخداعه، وحمدوا
حلاوة إبداعه بعد ارتداعه، ولما أزف رحيله، ودلف تحويله وانمحق ضوء قمر
أنسه، والتحق شعاع شمس همسه بأمسه، قلت له: أما يزعك استيطان الحضيض،
ويدعك بسجن الندامة سلطان الذوائب البيض، وتنزل عن سابح حوبك، مع اتشاح
شحوبك، وتفل ذباب نيوبك قبل انثيال ذياب ذنوبك، فما الذي يحملك على مشابهة
السبروت، ويلجئك إلى قرع أبواب البيوت، لتنبحك كليب المزابل، وتلج على
الشاهق والزابل قال: فلما تحقق ملامي، وتدفق عليه مسيل إيلامي، سعى إلي
سعي العقارب، ودنا دنو الأقارب، وقعد قعود القارب بالقارب، وأنشد لفعله
المقارب في المتقارب.ية، أما أزلنا انزعاجك، وأنزلنا من سماء المسالمة
ثجاجك، فما الذي لوي زمامك، وزوى ابتسامك، وثنى انسجامك، وقدم إحجامك،
وأخر إقدامك، فأزل لجاجك لنقضي حاجك، وافض مجاجك، لنفعم زجاجك واترك
عتابك، لنملأ عيابك، وامنحنا حبابك، لنرفع بابك وأرنا نابك، لندفع ما
نابك، فقال لهم: مساورة السام دون الابتسام، فلا وجه للمقام بعد الانتقام،
ولا سبيل إلى الانضمام بعد الانهضام، وقد كنت حين هالني هوى الهون الغشوم،
وغالني طول برشوم ذلك الشوم، وعوملت بجر هذه الرياق معاملة أهل الإباق،
وعدلت عن طرة الطرب والطباق، وهم باب المسرة بالانطباق، أهم بالرواح، ولو
على جناح الرياح، وأما الآن فقد ذهبت همومي، ونضبت سمومي، فأصلحوا فرى هذا
العط، وأغلقوا باب الإشالة والحط، وفي الليلة الآتية أترك الهجوع، واستأنف
الرجوع، فمثلي لا ينطق بمحال، ولا يصبر على حر إمحال، لأشبع ما بعشي من
عيال، وضمان الأوبة على ابن جريال، فنهضوا إلى وداعه بعد انخداعه، وحمدوا
حلاوة إبداعه بعد ارتداعه، ولما أزف رحيله، ودلف تحويله وانمحق ضوء قمر
أنسه، والتحق شعاع شمس همسه بأمسه، قلت له: أما يزعك استيطان الحضيض،
ويدعك بسجن الندامة سلطان الذوائب البيض، وتنزل عن سابح حوبك، مع اتشاح
شحوبك، وتفل ذباب نيوبك قبل انثيال ذياب ذنوبك، فما الذي يحملك على مشابهة
السبروت، ويلجئك إلى قرع أبواب البيوت، لتنبحك كليب المزابل، وتلج على
الشاهق والزابل قال: فلما تحقق ملامي، وتدفق عليه مسيل إيلامي، سعى إلي
سعي العقارب، ودنا دنو الأقارب، وقعد قعود القارب بالقارب، وأنشد لفعله
المقارب في المتقارب.
قرعت البيوت وزغت الرتوت ... وبعت التخوت لقنص الزبد
وشمت البعيد. وسمت العبيد ... وسفت الصعيد. لكسب السند
وقدت الحرون وزدت الحزون ... وجدت الحزون. ومتن الجلد
فلا تجزعن. لخد أرن ... وجد أجن بحرب ورد
ولا تخضعن. ولا تجشعن ... ولا تخشعن. لسهم صرد
ولا تقلقن. ولا تفرقن ... ولا تبرقن. لجدب جرد
وكن بالسحيق حليف الرحيق ... وهن للرشيق إذا ما شرد
فإن الكؤوس. تسر النفوس ... وتنسى العكوس. وتسنى الجلد
وإن السلاف. تشد العجاف ... فخل الحراف. وحل العقد
فعين النعيم . حضور النديم ... وعيش الكريم. جميل المدد
ولوم العذول. لشرب الشمول ... كوقع النصول. بخلب الكبد
وحد الملام. كحد الحسام ... وفقد الكرام. يهد الجسد
وقلب الحسود. كثير الوقود ... ووصل الحقود كمضغ المسد
وروح الرقيع كريح البقيع ... وروح الخليع. كروح الأسد
مواص المليح. وفاص القبيح ... وعاص الشحيح. إذا ما جمد
وبعد الهنات. فأصفى الصلات ... ضروب العظات لرشف الرشد
فعش باليفاع لكف النزاع ... وخذ في السماع. لترضى الصمد
ودفق فناك. وحقق فناك ... وطلق شذاك. إذا ما رعد
وسد في الأنام. بلين الكلام ... وحب السلام. وبغض الجسد
فلا تخدعنك. ولا تطربنك ... ولا يلهينك. صنوف الصفد
فإن الكعاب. تميط النقاب ... لتصمي اللباب. بنبل الكمد.
قال: فلما نقخ القلوب برطيب مراده، وضمخ الجيوب بطيب إيراده، وسألنا
الدعاء لشمطه وأنهلنا سائغ مسمطه عقد إزاره وتفقد أزراره، وأبدى أزواره،
ومنانا مزاره، بعد أن صارم المزاح، وفارق المراح وأطربنا وراح، وأتعبنا
واستراح.
المقامة الخامسة عشرة الماردينية
أخبر القاسم بن جريال، قال: شعفت مذ نزر شناري، وشرف مناري، وكمل عذاري، وعظم حذاري، بإصلاح القصائد، وإعمال الفكر الصائد، ومداومة الشعر المجيد، ومصاحبة ذي الشعر الفاحم والجيد، فلم أزل أمارس فرسانه، وأخادن أخدانه، حتى علقت منه بسبب متين، وشربت شراب شهاده بأشرف وتين، فبينما أنا أنادم أضواء الشوابك، وأشابك شناتر الخشفان المشابك، إذ حذفت بمنجنيق التباعد، وقذفت بساعد القدر المساعد، مع صحبة ممردين، ورفقة متمردين، إلى مدينة ماردين، فولجتها خالياً من النزيل، بالطرف الهزيل، لأكتنف كناً يكنفني من جثول ثلوجها، إلى أوان خروج مروجها، لعلمي أن دخان هوجها، أطيب من طيب يلنجوجها، فحين برقت بروق جبابها، وشرقت علي فضائل أربابها، وسعيت في تورابها، إلى ملاعب أترابها، ألفيت أبا نصر المصري يتبرنس ويريس، ويتبهنس وبهيس، فلما أبصرني صرخ صرخة المهضوم، ومسح عني متوسط فضلات ثالث الهضوم، فانفتح من باب المسرة ما انسد، وابيض من وجوه المواجهة ما اسود، وانقبض باع المباعدة بعد ما امتد، ووهى قطع المقاطعة عندما اشتد، ثم قال لي: ما الذي أسلمك، وخفض في مسلك المكاسب سلمك، حتى أفنيت درهمك، وأضويت أدهمك، ثم مع هذه السفرة الصالحة، والروية المصالحة، علام تعول بهذا السكن، وتؤمل من استيطان هذا الوطن، الذي تستجدي باستحمامه الماء، وتستلم به سلامى الساكن السماء : ويلقى به الوقور، وتصادم صدور عقبانه عقابه، فلتجدن من قرة اللازم وصره الملازم ما ينسيك حرارة الوحيم، ويمنيك ولوج نار الجحيم، فقلت له: لا أعبأ به مع عب العقيق، وضم كشح الشادن الدقيق، ودفء الخدور وانضاج القدور، ومع هذا التحذير، ورفع أهداب هذه المعاذير، فما الذي تعرفه من اتفاقهم، وتغرفه بمغرفة انتفاء نفاقهم، وتصفه من طهارة أخلاقهم، واجتناب اختلاقهم، وكرم أعراقهم، واشآمهم في الشرف وإعراقهم، لأستلئم ما يليق لوطيسهم، وأترنم بما يروق قلوب عيس تعريسهم، فقال لي: يا ابن جريال أما اتفاقهم فقديم، وأما نفاقهم فعديم، وأما أخلاقهم فذكية، أما أعراقهم فزكية، يغمر وكف، كفوفهم المكفوف، وتصافح كف عرف معروفهم المعروف، يتهافتون مع الحمية، والمآثر الحاتمية، إلى جبر كسر المسود، تهافت النوب على نور ربى الخمائل السود، حتى لقد أنسيت لعدم عابهم، صعود صعابهم، وشاهدت من سهولة اتباعهم، ما أنساني خشونة رباعهم، وأنا برسالة مسائلتك أصدق سفير، وبوادي ودادهم، أرفع شفير، لأنني فيهم ابن سمير، وأعز شمير، وأكرم جبير، ولا ينبئك مثل خبير: البسيط:قوماً علوا عاتق العلباء واعتصموا ... بمعقل من رفيع العزم ممتنع
يمسون يسمون بالسرو السني على ... سعد السعود بسعد ساد متسع
قال القاسم بن جريال: فقلت له: هل لك في ارتشاف قرقف المرافقة،
والاعتكاف بجامع هذه الموافقة، لنطفئ بماء المواصلة نيران البعاد، ونرفئ
قارب المقاربة إلى ساحل قطع هذا الإصعاد، ونهزم بين أفياء الفتاء، عنترة
عنبرة شدة هذا الشتاء، فقال لي: قسماً بمن يسر طيب هذا الإلمام، وبرقع
برقعاً ببراقع الغمام، لقد نطقت بلسان مأربتي، وطرقت باب الأرب، بأنامل
لبانتي وأشرت بما نشر لواء سعادتي، وخزق نبال الغرض بغرض إرادتي فأشرت
رهطك من إذا زجرته تاب، أو هجرته انتاب، أو سللته جاب، أو سألته أجاب، ثم
إنه مرج لتحصيل البيت، وإحياء قربنا الميت، وبيع الأدهم لشراء الكميت ولما
أخذ في تحويل أداته وإصلاح لحمة الأدب وسداته، وشرع في نقل دوياته مع حسن
أدواته، كنت بحمل جلائله من المجلين، وبقبلة مقابلته من المصلين، وحين حصل
بها الخندريس واتصل بنا الأنيس، وبدت مسرتنا تميس، كأنها لميس، جعلت أكشف
بها خمار المخامرات، وأضرب بصولجان الفكر كرة المذكرات، وأوقد مصباح
مصاحبته في مشكاة مشاكهته وأسرح ببستان مناسمته آمناً من صرامة مصارمته،
وأنصر خمائل عسرته، بنصر يمين الميمنة ويسرته، إلى أن دفؤ جسد الزمان،
وورد من ديوان الزعازع توقيع الأمان، ولما انسلخ البرد انسلاخ الأرقم،
وانفدخ الروض عن السوسن المزرقم، وتجلل الورد بغلائل الدم، وانجلا الشقائق
في الوشاح المعندم، وطاب طلب التزاور والمزار، وأعلن بالدوح نوح الهزار،
اقترحت عليه الخروج إلى بعض الحدائق في يوم مزن مشقق البنائق، مع صحابة
صرموا وصال المصارم، وربوا بين خفق الألوية، وسل الصوارم تسمح بالهجان
الأوراك، وتشمخ بأنف الأنفة على أولاد الفوارك: البسيط:
كأنما خلقوا من درة فعلوا ... فرق السماك بفضل فائض نضر
لا يلبس الباس قلباً في قلوبهم ... يوماً ولا انخفضوا من خافض وضر
ولما تخيرنا مقاعد الجلوس، وتحيرنا لصفاء تلك الكؤوس، أقبلنا نستوي على
خلوف خلفة المفاخرات، ونشتوي سمك المكاسرة في لهيب نار حريق المحاورات،
إلى أن اتصل بنا ما لا يعود بعسكه سدى، كقولك: أدبك بدا، قال الراوي:
فأشار إليه من بحذائه بأن يحذو مواقع حذائه، فأقبل بوجهه إلي وقال لي: يا
بن جريال، فز بحل إشاح هذا الضحضاح، وتوق لذع رماح مر الافتضاح، فقلت له:
أنى مع صدا شدة النقصان، أحدث روحي باجتناء هذه الأغصان، أو ما علمت أن
الإنسان أخبر بوسمه، وحسان أعرف باسمه، أفتفخر بين الأبيضاض؟ من أزاهير
الرياض، خميلة خاملة، بل أظري فإنك ناعلة فقال لي: تالله لقد أصبت بنصال
مصداقك، وقرنت بعذق المصادقة حلاوة أعذاقك، ثم إنه انكفت لاستخراج كمينه،
والتفت إلى من عن يمينه، وقال: إلفك فلايا من يجوز الفلا فلا ثم أجج
المناظرة لمصليه وأزعج ضرام المفاخرة لمصطليه، وقال: يا من بربع المعاني
يلم، منتك لك تنم، ثم أرقل إلى مسليه، وأقبل يرمق من سيليه، وقال: يا من
به قمر المعالي يتم من يمل لم ينم، ثم اسمهر طرفه إلى التالي، واستمر على
ذلك التوالي، وقال: يا منعماً قد أطواق الشقاق وشق، قد بلاء إذا ألب دق،
ثم لوى، ليته إلى المرتاح، واستوى استواء المرح المرتاح، وقال: يا ذا الذي
شرف الشرب بلطف قد قرب، بحر سنا فنك كنف أنس رحب، ثم عطف للشادي العاطف،
العطر المعاطف، وقال: إني لأعجب مع امتداد طيل تلافيك كيف يلذ لك، إذا كل
ذلي فيك، قال القاسم بن جريال: ثم إنه نفحهم بنظمه المجيب، ومنحهم به على
ذا النمط العجيب، وقال: الرجز:
افصل خلاً إذا وجا ... واجد إذا الخل صفا
أفر أذاً إذا فرا ... وارف أذاً إذا رفا
افعل علاً إذا كبا ... وابك إذا العل عفا
أفل سنا مجالب ... بلا جمان سلفا
افرج ملما ذا أذاً ... إذا ملم جرفا
فلما عمهم بنضارة نضاره، وخصهم بخصائص اختصاره، بوؤه نمارق
الإجلال، وخولوه أيانق الإفضال، ثم إنه انبسط فضله وانتشر، وانخرط في
مسامع الملك واشتهر، وأحب بأن يتحفه بدرة من فاخر لبابه، أو بدرة من زاخر
عباد، فمال إلى مراده، وأملى له من لطائف إيراده، ما يخضع لصحيح فضله
الصحاح، ولا ينكح لؤلؤ إفصاحه النصاح، فتدبرتها وقد حلت أجياد المردمين،
وجلت بحلبة قريض المتقدمين، وتأملتها إذ زانت، وأعجزت الأفاضل وازدانت،
وتغطرست وما استكانت وضوع عرف عبيرها فكانت: الخفيف:
أترع الكأس أكؤس الندماء ... أضحك النور أدمع الأنواء
بسقاة برت بحسن بنود ... بل بدور بدت بأوج بهاء
تلني لم تلوها تموج تلال ... تتهادى تطيل تيه توائي
ثيبات ثوابهن ثلوثي ... ثملات ثمالهن ثرائي
جابرات جنانهن جناني ... جائرات جحيمهن جفائي
حط حالي حؤول حب حبيب ... حاكم حاسم حوا حوبائي
خائن خاذم خدين خداع ... خادر خاتل خفي خباء
دائل دائم ديار دلال ... دار دهما دنية وهماء
ذابل ذابل ذميم ذرار ... ذي ذمام ذميمة ذناء
رافل راقد ربيع رواء ... رزم رائع رثيث رفاء
زائغ زيغه زواه زميع ... زاجر زاخر زبى زمعاء
سائغ سابغ سحوح سداد ... ساكب سامع سني سناء
شاكم شاكر شموس شموس ... شبع شهبا شديدة شقاء
صارم صابر صديق صفاح ... صادق صالح صحيب صفاء
ضرب ضارب ضراح ضيوف ... ضيغم ضامر ضليع ضياء
طافح طاهر طليق طباع ... طارق طاعن طريد طلاء
ظلف ظاهر ظهر ظليم ... ظالم ظالماً ظبى ظرفاء
عالم عادل عروف عزوف ... عاصم عارف عظيم علاء
غائر غائم غرير غمام ... غدق غيره غثيث غثاء
فطن فاخر فريد فرند ... فارس فيلق فتي فتاء
قرع قارع قريع قراع ... قاهر قاسر قضيب قباء
كاشف كاسف كمي كفاح ... كامل كافل كريم كفاء
لقم لسلس لجين لبان ... لؤلؤ لهذم لهيم لواء
ملك مالك معين معين ... مانح مانع مبيد مراء
نائل نابل نبيه نضال ... ناصر ناضر نبي نماء
هاطل هائل هموس هجان ... هاتم هاثم هزبر هباء
وزر واكف وراء ودود ... ورد ود وديمة وطفاء
لاحق لاذ لائذوه لإعلى ... لاحب لا لأفة لأواء
يقق يافع يفاع يفاع ... يوح يوحى يتيمة يهماء
قال: فلما تمطرت إلى جنابه، وعطرت بأنابها فائح إنابه، نفحه بخلعة مسهوهبة
الميدان وخلعة مغدودنة الأردان، وأحله لهذا الإبداع، ونفاسة هذياً الإيداع
محل الأنفة من القارن، والقصبة من المارن، فصائح بشثن ثنائه، وكفوف
اكتفائه، بطون رواجب سمائه، وفض ما فض له على ندمائه، ثم إنه قصد المرحاض،
فما آض، فغاض المرح بعدما فاض، وإنهاض ساق السعادة إذ أفاض فحصلت منهم على
كثب، وفصلت عنهم عن كثب، فلم أر أزهر من ليلة قدر ذلك القدر، ولا أعطر من
نكهة ثغر ذلك الثغر.
المقامة السادسة عشرة الصادية الظفارية
روى القاسم بن جريال، قال: نحوت ظفار، يعد عدم الاستظفار، لضر
بهرني ورض قهرني، ونكس حملني ناره، ووكس حملني على عبء المعرة عاره، فلما
نبذت بها جرابي، وحمدت غبر اغترابي، لبست لنوادر لغاتهم، وغرائب مناغاتهم،
لباس التصبر، وارتديت برداء التدبر، لعلمي أن من دبر تدبر، ومن تصبر، تبصر
ومن أبر تمر، ومن دخل ظفار حمر، وحين أدهش شجب الحزن وخر وأورش شجر الشجن
واشمخر، واحتال كمين الكرب وكر، واغتال، غول الغيل، واسبكر أقبلت أتسلى
بمن سلف، وأتحلى بما يرفع الكلف، فبينما أنا أمور فيها واضطرب، وأميل إلى
ثدي الدماثة وأحتلب، إذ حثني بارق الكمد، إلى حاكم البلد، فألفيت مجلسه قد
حف بالازدحام، وجمع بين العندليب والنحام، فطردت طرف الفضول، مع سوء
الطالع المنضول، وولجت لسبر تلك الرزان مع ما أجد من حرارة الأحزان، وإذا
به صبية، وارفة البراعة أبية، يسح منها وابل الفصاحة، وتغرد بقلل اطراحها
بلابل الوقاحة، آخذة بشملة شيخ مكسوف المحاسن، متجرع ماء بوسه الآسن، مسرف
في اعوجاجه، مشرف على نهل مهل احتجاجه، فهدرت هدير البازل العقيل، واصلتت
فصلاً كالصارم الصقيل، وقالت: حصن الصمد حصان الصدر الصالح، النصر الناصح،
الصادق النصوح، المصادق الصفوح، الناصر الصدوق، الباصر المصدوق، فاصم عصم
العصاة، قاصم صنم المعاصاة، صيقل صنوف الانتصاف، فيصر أصحاب الإنصاف، مبصر
الأمصار، مقصر الإصرار، صيب الصعلوك، مصوب الصكوك، صيرفي الخصام، مصطفي
الاختصام، عصامي الصلاح، عاصمي الإفصاح، قصفت عواصفه قصور مفاصيه، وصفت
صدور نصائحه لمصافيه، ووصلت صلاته لقاصيه، واتصلت صرامته لمقاصيه، وهصرت
لأواصره النواصي، وانتصرت بعناصره عراصي، صفائح بصيرته مصقولة، ونصائح
منصبه موصولة، وصعاد صباحته مصفوفة، وأصفاد مصالحته مرصوفة، خلصت خصائصه
فواصت، وصلحت فصائله فاعتاصت، وصبت لمصافحته الصلحاء، وتعصبت لفصاحته
الفصحاء وصفا نصر، نصره، فنصر واصطفى نصر نصره مستنصره فانتصر: الخفيف:
منصف مصقع يصوب انتصافاً ... بصلاح وعصمة وقصاص
صدع الصخر والصعاب بصدق ... صادق الصدق خالص الإخلاص
خص بالصون والصفاح فأصمى ... بصدور الصفا صدور المعاصي
صروف اقتصاصه حاصبه، وصفوف اختصاصه واصبة، وصنائع صلته واصلة،
وصواقع نصرته، متواصلة، وصلادم وصلته حاصلة، وصوارم صولته خاصلة، ومخاصمة
قاصمها، ومصافحة مخاصمها قصيرته، الحصان وقوصرته المحصان نصته، لوصب صر،
ونصب أصر، وصغو صرم، وصفو انصرم، وحصر قصم، وصبر انفصم، وصف مماصعة صدم،
ومصف مصارمة اصطدم، وصراع مصاخبة صدع، وصواع مصاحبة انصدع، وصدى مفاصله
صفر، وصبى مواصلة صفر، فصحبته بصفر صحاح، وصافن وصفاح، وصفوف صفوف، وحصوف
عصوف، وصوف موصوف، أصارم لوصله النصيح، وأخاصم لصدعه الصحيح، وأصفي لصبوحه
الفصيح، وأصفي لصلوحه الصرائح والصريح، فوصلته برصائف، وواصلته بوصائف،
وخصصته بخصائص، وأحصصته قلائص، فمصع صولجي بصولجان صعلكته وقصع صناديد
الصرر بصارم مصارمته، فأصبحت أصف بمصابرته نقصي وأقصف لإصلاح صحبته قرصي،
فتصفح صفائح قصتي، وتصبح بقص قميص غصتي، لينفصل بصبرك الخصيم، ويتصل بنصرك
الفصيم، أصلحك لصلاح مصرك، وصبحك صباح صالحي عصرك، بأصفيائه الصديقين،
ووصفائه المصدقين، قال الراوي: فلما نثلت جفير مجاجها، وفصلت عير عبير
احتجاجها، وأنعشت بوريق حجتها، وأدهشت ببريق لجتها، قال له القاضي: تالله
إنها لتنزف من سحاب سحوح، وتنفث من جنان مقروح، فما الذي تترجم مع دهائك،
وتلاطم إبائك، ورداءة، رأيك، قبل تفاقم دائك، فقال له: ألبسك الله ملابس
الإرعاد، ولا سلبك سرابيل الإسعاد، إنني اتصلت بهذه الخريدة عند إقبال
أوقاتنا الجريدة متبجحاً بجزالة الإشباع، واتساع الباع، وحلول الارتفاع،
وسيول الانتفاع أيان أخطر بين الخيام، وأدرأ أدواء الفيام، وأمنح البزل
لزوم الأوام، وتدعو طبولها لنا بالدوام، فحين انكدرت نجوم عزتي، وتكدرت
بحور أعزتي، وبانت الحبة والمحبة، وظعنت الحبة والأحبة، وتمزق زيق المقدرة
وانعط، ورسب طافي المسرة وانغط، ونفر بازل المنازلة وشط، ورقد قضيب قرابها
بعد ما أشط، مصصت معها نقيع الصاب، لفقدان النصاب، ولسبت سموم عدم
الانتصاب، لتتعتع الأعصاب، ولم أخلها أخلت بجوابي، إلا لخلو الجوابي، وما
تأملت تجوابي، إلا لانقراض تجابي، ولا شاهت بإهمالها إلا لأسمالها، ولا
فاهت بملالها إلا لإرمالها، ولم تزل تسمح برغفانها، وتطفح بطافح طوفانها
وتجود من جفانها بعدد عضل أجفانها، وما سرني بأن جبت النساء، وحبت سخالها
الرؤساء، وقد قبح فعلها وأساء، ومع هذي المزية، وتعاضل هذه الرزية، وجودة
همتي والارتياد، وذبي عنها ذب ذب الرياد، فقد آلت ألا تحتمل إفلاسي، وألا
تحتلس أحلاسي، حتى يقبل ريع الوقف النقل، وتجيز أن أبيع بغير شرط القطع
البقل، فأنى تلام في كفورها، ومشاكهة فورها ونفورها، وقد علمت أن الملمة
تحب الملم وتبغض الهم المدرهم، فليتني لم أقف بهذا المقام، ولنم أعرف عقام
هذه العقام، ثم إنه سكن سم لسانه الجرار، وانكدر در دمعه معه الدرار،
وأنشد بعدما تبرج وسيمها، وتأرج عاج بهجة الترائب وسيمها: الطويل:
أما والذي أهدى الحجيج فأزعجت ... إلى بيته خوصاً رسيم رسيمها
لقد كنت قبل اليوم يسحب مطرفي ... على روض تنعيم النعيم نعيمها
وأرفل في ثوب الدلال ولم أزل ... أخا دعة يسمو النسيم نسيمها
يطاوعني صرف الليالي كأنني ... بذي حبب حلو الحميم حميمها
وتَسعَى إلى أرضي العُفاةُ عواطلاً ... فيرجع بالعِكم اْلعَكيم عكيمها
وينتابني العافون والعامُ معتمٌ ... فيفعِمُ عيشاً للعديم عديمها
ويعلو يَراعي والقِراعُ وعزمتي ... إذا عَل شرياً بالعظيم عظيمها
فلمّا نأى عنِّي الصَّلاحُ وصافَحتْ ... أناملُ حالي والأديم أديمها
تأخَّرَ عنِّي الخيرُ والخَودُ والرَّخَا ... وواصلَ خَيمي رخيمي وخيمُها
وضاقَتْ يميني بعدَ يُمني وأنَّني ... لفي فِكَر مُد فَر رَيمي وريمها
فأف لدنيانا الذميمة إنَّها ... تُذِلُّ عظيماً كي يلذَّ ذميمُها
فبِت عديماً واستفادَ عديمها ... وظِلْتُ سقيماً واستقامَ سقيمُها
قال القاسمُ بنُ جريال: فحينَ أحكمَ انحشادَ حكمتِه، وأتقنَ إنشادَ كلمتِه، قال لها الحاكمُ: يا هذِه لو انثنيت عن قِماصكِ، وتأسيت بخِماصِكِ، وأويت لصبابته، واكتفيتِ بمصاحبتِه، واجتنبتِ سبيلَ شِرَتي، وركبت منهاجَ مشورتي، لكانَ قَدراً جبيراً، وأجراً كبيراً، وعيشاً وثيراً، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل اللهُ فيهِ خيراً كثيراً فلما تأملتُ صفوَ نحيه والبديغ، تألمتْ تألمَ اللديغ، وقالت: ما أصنع - أعزك اللهُ - بمَنْ أقفرَ فأفقرَ، وأقمرَ فأمقرَ، وضَعُف متينُهُ، ونَخَرَ وتينه، وقصر باعه، واندثر رباعه، ورقدَ متاعهُ، وفسَدَ استمتاعُهُ، ومُزِّقَت ثواجه، وتمزقت أثباجه. وجلا عشارُه وخَلا تعشارُهُ، وطفحَ ارتعاشه وتطحطح انتعاشه، وقد قشفهُ وهد وند ترفه وانهدّ، وجاور إربُهُ الخفرَ إذ جفَرَ، وخالفَ قلبُهُ النفرَ مذ نَفَر، وأنا - أيّدك اللهُ - في قلق لروقُّ لهُ النِّطاقُ، وحَمل حِمْلِ صيم ضَيْم لا يُطاقُ، أبيتُ في رداءٍ رَثٍّ، وغذاءٍ غَثٍّ، وازديارٍ جث، وازرار مجتث، ودموع لازبة، وقطوع ناصبة، يخرف بي خرف الخَروفِ، ويسوفُ بأنفي ريح عرْفِ المعروفِ حتى لقد ضب سحابُ ذلّتي وشبّ شبابُ مذلتي، وغاضَ ماء منتي، واستفاضَ قَيْظ يهماء أنّتي، وبدرعي من الرقاعٍ لديهِ، عددُ الخارج من قَسْم تِسْع وتُسع عليه، وما كلفتهُ مذ عرفتُه دِرْهماً، ولا سألته بالرقمتين سلجماً، فليتني مِتُّ قبلَ هذا بجُمع ولا ولجتُ لجَلَلِ توجُّع هذي المجاعةِ بجمْع، وها أنا أخاطبُه مخاطبَةَ الأسوف وأقول مقال مَنْ رافقَ قمرَ قُربهِ غَسقُ الخسوفِ، لا حاجةَ لي بباحتكَ بلاَ صَباحتكَ وفصاحتكَ بلا نصاحتكَ، وعرفِكَ بلا غَرْفِك، وعِرْفِكَ بلا عُرفِكَ، ومن التي تتسلّى عنِ الدَّجاج بالمُجاج، وجميل الزواج بجميل الازدواج، فلستُ لي من الأزواج ما اقترنت الأفرادُ بالأزواج، ولا اجتمعَ ألفك بصادي، أو يجتمع غلّ وري بصادي، فأفْر أطمارَ الأوطار، واقْر قلبَكَ سلامَ سورة الانفطارِ، قالَ: فلمّا سَمعَ الحَكَم كلامها، ومهَّدَ العُذرَ بعد ما لامَها، تنّسمَ نسيمَ عَولها وتبسَّمَ ضاحكاً من قولها، فأسبلَ الشيخُ من عَيْن عينه العيونَ، وأرملَ من دمع حُضّارهِ العيونَ حتَّى رثَى لَهُ القاضي ورق، ورثّ حبلُ الرواح للرواح ورقَّ، ثم إنه وعز لهما منْ عباب عينهِ، بعددِ عضل عينه، مشفوعة مع حِدّةِ ذلك الرجاء، بعدةِ صورِ حروفِ الهجاء وقالَ: حسِّناً بهذِه بالكُما ولا تردا رَبْعي بعدَها لا أبا لكما، فما كُلُّ مَنْ سَجَعَ فجع، ولا كلّ منْ أجدبَ انتجعَ فخرجا خروج مَنْ سَدَّ بعظم قِدْحِهِ الفضاء، واستخرج نَارَ زنادِ قَدْحِه فَضاءَ، ولَمْ أكُنْ قبلُ أستطيعُ النظرَ إليهما، لانحشار البشر عليهما، فلما خَلوْتُ به في البَرَاح، وجلوتُ عروسَ خلوته قبل براح بَراح، ألفيتُه المِصريَّ ذا المصائدِ الوريفَةِ، والطرائفِ اللطيفةِ، فقلتُ لَهُ: إلامَ تغتالُ عقولَ الحُكّام وتحتالُ على حُصول الحُطام، وتبلَعُ ولا تشبعُ، وتكرَعُ ولا تبضع، حتى لقد صِرْتَ بهذا السِّقَاء الدائم الاستقاءِ، بمنزلةِ صاحب الاستسقاء، فأدبرَ اذبارَ الفيل، وأجفلَ إجفال الأجفيل، وحين حِرْتُ بنَفَار غادته، واستمرارِ عادته، قرْنْتُ باطر عرهِ إلى عُنوانهِ، وضمَمْتُ ذلكَ العَجَبَ إلى صِنوانهِ، وعجَبّتُ من مُصمياتِ صوّانهِ، وصُنْتُ ما صدر منهُ في صِوانهِ.
المقامة السابعة عشرة المصرية
حَكَى القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: دعتْني أناملُ الهوىَ الحاكم، والجوَى المتراكم، والأَرقِ المتفَاقِم، والقلقِ الراقي على الأراقم إلى مِصْرَ أيَّام نضارةِ الأديم، ومحاضرةِ النَّديم، واحتمالِ الرسيم، واشتمالِ النشاطِ الجسيم، فترعتُ إلى شارتِها، وأطعَتُ حاجبَ إشارتِها، وظعنَتُ لا أعطِفُ على عَقَارٍ وَقَارٍ، ولا استعطفُ ذا وقارٍ واحتقارٍ، لأشبُرَ سناسنَ نزاهتِها، وأسبرَ شناشنَ نباهتِها، وأشيمَ بارق عُجابِها، وأسيمَ النظرَ في نواضرِ أنجابها، مَعْ خليلٍ يخوضُ الحَزْنَ والرغابَ ولا يذكرُ الغابَ إذا غَابَ، تُشعر أفعال أتباعهِ بحُسْنِ اتِّباعهِ، وعدمُ أطباعهِ بطيب طيبِ طِباعهِ، ما ألفيتُهُ لفائتٍ حَزيناً ولا خَزيناً، مذَ جعلتُه لسِّرنا خزيناً، يدافعَ الجَزَعَ، إن رُزينا، ويُمسِي لرِزِّ الرزايا رزيناً رزيناً: المتقارب:فما زالَ يدرأ عنِّي الهُموم ... ويُزعجُ في البِيْدِ عيناً فعينا
فكانَ المتينَ وكانَ الوتينَ ... وكان الظَّعين وكانَ الطَّعينَا
فَلَمَ نَزَلُ نلاعبُ كواعبَ التهجيرِ، ونجانبُ مشاجرةَ الشَّجيرِ،
ونُبارز قَنابلَ الإسراع، ونُعانقُ عواتقَ الإيضاع، حتى ولجناها بعد
مفارقةِ الأنيس، بُكرةَ يوم الخميس، والبلدُ زاهٍ بزهوه الأريج،
والزَّبَدُ طام بتلاطُم الخليج، والقَصْفُ يرفلُ بالرِّفلِ النبيلِ،
والروضُ يُثنى على انثيالِ تنويلِ النَّيلِ، والجوُّ يبرئُ حرارةَ
الغليلِ، برسيم نسيمهِ الصحيح العَليلِ، والنورُ في ذلك الإبّان، قَدْ
توَّجَ جباهَ الكُثُبانِ، وجنَاحا المَرَح مسبلانِ، ومَها الأرائك
تُغانِجُ جاذرَ الغِزلانِ: الكامل:
فكأنَّني لمّا ولجْتُ ربوعَها ... ساع على زهْرِ الجِنانِ الأزهَرِ
فكأنَّها في القَدْرِ دُرةُ غائص ... وكأنَّها في الرِّيح ريحُ العبْهَرِ
وكأنَّها في الحُسنِ شَمسُ ظهيرةٍ ... تُجلا على بدرِ السماءِ الأنورِ
وكأنّما الماءُ القَراحُ بنيلِها ... شُهْدٌ تدفَّقُ من عبابِ الكوثر
وكأنما الرَّند المضوَّعُ في الرُّبَى ... مسْكٌ تضعَ في لطيمةِ عنْبرِ
تالله ما تركَ الزمانُ لغيرها ... حظّاً من الفخرِ الرفيع الأوقر
كلاّ ولا باع المَسودُ مِراحَها ... إلا وباكرَهُ المسوِّدُ يشتَرى
كلاَّ ولاَ نَشرً الأنامُ مُديحَها ... إلا تأرَّج في بروج المشترِي
فعلامَ يهجُرها الجَهولُ وينبثَني ... عن عَرْفِ ريَّاها الذكي الأذْفرِ
قال: فلمّا قبّلنا حلائلَ ذلكَ الإحبال، وأقبَلْنا على قبْلَةِ ذيّالكَ
الإقبال، جعلنا نختلسُ بِها بهاءَ الجَذَل، ونلتمسُ لَها لُهَى لُجَينِ
الجَدَلِ، ونَرْتعُ في ربيع ذلك الخَول، آمنينَ مِنْ عَوَر المعاندةِ
والحَوَل، إلى أن حَظِينا بالسعودِ السوافرِ، وحَمدْنا حلاوةَ بحر
التبحُّر المديدِ الوافر، وحين حللْنَا حمائلَ المحادثاتِ، وارتحلْنا
جمائل جَدِّ المنافثاتِ، سَنَحَ لنا حاجةٌ إلى دار الوزارةِ، تشتملُ على
إجارة التجارة، فل حضرتُ إيوانها، وشكرتُ أعوانَها، وخبرْتُ بُرَّها
وزوانَها ألفيتُ صاحبَ دَسْتها، وقاسم دَرْبَسْتها، العَضبَ العبقريَّ،
أبا نصر المصريّ، فشددْتُ إلي شدَّ مَنْ شَيّدَ قدَرهُ وعلاَّهُ، وظَفِرَ
بفَوْزِ مُسْبلهِ ومُعَلاَّه، فأظهرَ كمينَ شِقْشَقَته، وأقعدَني على
نُمرِقتهِ لِمقَتِهِ، وأقبلَ يسألني عن استصعابِ الطَريقِ، واستصحاب ذلك
الصديقِ، فصدقتُ في أسِّ تلك الأبنيةِ، وأصدقْتُ عروسَ مناسمتهِ كَثْرَةَ
نِثَارِ الأثنيةِ، ثم إنّي قلتُ لَهُ: في طَيِّ تيك المحالفةِ، على
مَهْيَع المُلاطفَة، جَلَّ مَنِ احتنك، إلى الحَيل مركبكَ، وعلى كاهلِ
الكَهانةِ أركبَكَ، وفي أيِّ صُورة ما شاءَ ركَّبَكَ، فضَحِكَ حتَّى فرَّ
فاه، ثُمَّ مالَ إلى قَدِّ قَميص وقَاره فرفَاه، قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ:
فبينما نحنُ نرتجلُ مُلَحُ الغرائب، ونرتحلُ مخافَةَ العائبِ، عَنْ عَطَنِ
المعائب، إذ تُقُدِّمَ إليهِ بإصدارِ مكاتبةٍ إلى بعض الأمصار، ثابتةِ
الإصارِ على زعزع التنازع والإعصار، تعجز ألسن القبائل، تتضَمن المعَاتبة
لقطع مواصلةِ الرسائلِ، فلمّا استنشقَ نسيمَ قولهِ وقابلَ بالطاعةِ
مراسيمَ قيلهِ، شَبَّ شُبوبَ الضِّرام، وهبَّ هبوبَ الأسدِ الضرغامِ، بعدَ
أن شكرَ طَوْلَهُ وِزادَهُ، وأنشأَ ما أرادَهُ وزادَهُ، ثُمَّ أرسلَها إلى
مخدومِه، ليقفَ على بدائع مختومِه، فكانتْ: عندي أطالَ اللهُ ارتقاءَ
الجنابِ العالي المولوي الملكيّ العالمي العادلي.
الأوحديّ العَضُديّ المجاهديّ الأطوليّ المتطولي المفضّلي الأفضليّ.
ذي المناقب الجائلة والمواهبِ الهائلةِ والمِنن السامية والهمم الهامية.
ولا بَرحَ في سعادةٍ لا يُكْفَتُ ذيلُ سِرْبالها ولا تكفُّ
كَفوفُ الغير كفوفَ آمالِها. ولا انفكَّ في سيادةٍ لا يغيبُ بدرُ كمالِها،
ولا تثلُم وقائعُ القدر قواضبَ إقبالِها. مؤيَّداً بنُجح جَلالةٍ لا
تحجِمُ نضالها، ولا تخيمُ عَنْ خيول المِنَح جحافلُ إفضالِها مقلّداً
بلهاذم هداية لا تُفْصم عُرى مجالِها، ولا يقصمُ جارحُ الوَجَل جناحَ
إجلالها. من التَّوق المبرح العاكفِ وشَدّة الشوق الشديدِ المتضاعفِ.
ما كَثرُ لرصْفِ وصفه الطُروسُ، وعجزَ عن دفع أعباءَ عيائهِ جالينوسُ.
الفكرُ الذي حرّم حُميَا المِراح، وأحرمَ بجُحفةِ إجحافِ حلاوةِ حدّ
الصُّراح. وسلبَ طِيبَ لذَّةِ المهادِ، وسكَبَ بَنَانَ كراهيتهِ كأساتِ
الاضطهادِ.
فاللهُ يجُودُ بجَودِ عِهادِ ذلكَ الشهاد، ويُعيدَ عيدَ سَحِّ إرعادِ ذلك
المرعادِ.
أيّدَ اللهُ الخادمَ على حملِ مِنَنِكَ المورقات، وحَمْدِ مِنحكَ
السابقاتِ الباسقاتِ.
وأراحه من بُرَحاء أرقه وشفَاهُ وأهّلَهُ لمدْح تكِلُّ عن بثّهِ الألسنُ
والشِّفاهُ.
وقد كانَ عوْدنا كَفُّ كرَمِكَ الكامِلُ الأنعام، وأرضعنا ثَدْىُ بَرِّكَ
ما أنسَى مرارةَ الفطام.
وأتحَفنَا سَيْبَ رِفدِكَ بما يُغنى عن الانتجاع، ويُوجبُ لكَ القيامَ على
ساقِ السَّمع والطاعَ.
فعلامَ نَصلَ اخضرارُ ذلكَ الخِضابِ، وهطَل قِطْقِطُ طُولِ القطيعةِ
والانقضاب.
وأنا طرت رماحُ حُسنِ الاتحادِ، وظهرتْ رياحُ المَللِ من بيوت عادِ
الإبعادِ.
فما أجملَ بجنابكَ قدَّ هذه الرِّقابِ، لنَحْسِمَ الحاسدَ بحسام حسده
العاري عن القراب.
والانقلابِ، لتتابُع المَبرَّات المُبراتِ، وعَلّ عُقارِ المَرَح من يَد
المسَّراتِ المُسرّاتِ.
والأحسنُ بكَ احتساءُ قَهوةِ الوَفاءِ، لنصولَ في صهوةِ المواصلةِ
والصَفاءِ.
وندرسُ بفوارس المسرةِ نفوسَ الحاسدينَ، ونقلع بإصبُّع المعاهدةِ عيون
المعاندينَ.
ضوّعَ اللهُ المحافلَ بعَرْفُ عرفهِ الصَّفيِّ، ورضّع جُمانَ الجلالةِ
بتاج مجدِ جدهِ اليُوسفيّ.
وأسبلَ ملابس إحسانهِ السَّحابيِّ، وأجزلَ نفيس اَمتنانهِ الحَبْيِّ الأبي.
بعدَ استعراض سانح مُهمَّاتهِ، والتماس ما يتجدَّدُ من إباناتِ لُباناتهِ.
والسَّلام.
قال الراوي: فلمّا وقفَ على البواترِ التي مَقاها، والجواهر التي استخرجَ
نُقَبَها واَنتقَاها، خرجَ حاجب الحاجبِ إليه، وأثنَى لدى ناظرِ الناظر
عليهِ، وقالَ لَهُ: إنها الوافيةُ المبانِي، كافيةٌ عن استماع المثاني،
بيدَ أنَّا لا نستحسنُ الإسهابَ، فاختصر الخطابَ، فقالَ لهُ: ألق مِنْ
بينِ كلِّ سطرينِ سطراً، وأسطُرْ ما تخلَّفَ من المكاتبةِ مرّةً أخرى،
تَجِدْهَا جسيمةَ الجلَلِ، مُنَزَّهة عن مجاورةِ خَلَلِ الخَلَلِ، فولجَ
بها إلى وَحَاهُ، وشرحَ بحَضرته ما إليهِ أوحاهُ، فاستحسنَهُ واستراهُ،
ولو باعَ دُرَّها بدُرَرهِ لاشتراه، وقال: إنَّها لعديمةُ النظير، ناظر
بما يُغنى عن نَضَارةِ النضيرِ، غيرَ أنَّ إسهابهَا بَعْدُ لائحٌ،
وسحابَها في سماءِ الإطالةِ سائحُ، فقالَ لهُ: ضَع مِنْ بينِ كلِّ أربعةٍ
سطرينِ، وقَدْ حَصَلَ الغرضُ كلمحةِ العين، ثَم عليكم بها منافثةً، وإنْ
شئتُم اختصرتُها مرّةً ثالثةً، قال: فحضرَ السفيرُ لديهِ، ثمَّ عاد مسرعاً
إليه وقالَ لَه: إِنَّ الملكَ قد شاءَ، واَستجودَ الإنشاءَ، فقال لهُ:
ذَرْ مِنْ بينِ كلِّ خمسة ثلاثاً، واجعلْ الراحةَ بيننا أثلاثاً، فظهر بعد
الوقوفِ على مذهبها، والعكوفِ على رُقومُ مذْهبها، قائداً بغلةً رضيّةً،
وبدلةً قاضيةً مشفوعةً بحُلَّةٍ عبقَريةٍ، وبَدْرَةٍ مصريّة، فرفعَ
الحُلَّةَ إليهِ والذهبَ إليَّ، فشكرتُ على ما جادَ بِثَجَّاجهِ عليّ،
وجعلتُ أعجبُ من فضلهِ النفيع، وأفكرُ في مطمئنِّ الإقامةِ والرفيع، إلى
أن خرجْنَا متجملين بحُلّتِهِ، متحملين سحائبَ خُلّتهِ، رافلينَ بدَنادنِ
مَّنتِه، قافلينَ بقلائص نعمتهِ.
المقامةُ الثامنةَ عشرةَ الدّجليّة
حدّثَ القاسمُ بنُ جريالِ، قالَ: رحلتُ في سفرةٍ من الأسفارِ، حالَ
مجاورةِ الجِفارِ، بخليلٍ طاهرِ الحيزوم، صابرٍ على مصابرةِ الحزوم، واكفِ
الصوابِ، عاكف على منَاسكُ الآدابِ، لا يعيبُ بَدَنَ مداناتهِ حُماقٌ، ولا
يشينُ قمرَ مقاناتهِ محاق: الطويل:
فكانَ لقلبي مُهجةً ولخاطري ... صقَالاً رَبا فوقَ الصَقالِ
صِقالا
وكنتُ أسيمُ السَّمعُ في روضُ نُطْقهِ ... وأَسْرَحُ في السَّحر الجلال
حَلالا
فَلَمْ تَرَ عَيْنِي بعدهُ قَط قُرَّةً ... ولا ألفَتْ بحدَ الوِصَالِ
وِصالا
ولا خصَّني مُذْ خَصَّني بوِدَادهِ ... زَماناً كأربابِ المِلال مِلالا
فَلَمْ نَزلْ نُسْرعُ إسراعَ اليَعافير، ونُشْرعُ رماحَ المَرَح
لطَعْنِ جَفير ذَلِكَ النَّفير، حتَّى عُرِفْنا بمقُاطعةِ الرِّباع،
وعكَفنا علَى معانقةِ السِّباع، وأَلفْنَا سَوْفَ هَذا المَلابِ، ووصفْنا
بنَهْلِ شرابِ ذَاك الحَبابِ، وكُنْتُ أيَّان معادلتهِ، وأحيانَ
مُزاملتهِ، كثيراً ما أمنَحُ شَغَافَهُ، وأقصِدُ إتحافه، بذكرِ أبي نَصْر
المِصْريِّ، ذي الجَنَانِ المِصقَعِيِّ واللسانِ المِرقَعِّي، وأبثُّ له
يانع مجالساته، وبدائعَ منافساتهِ، إلى أن استحوذَ على فؤادهِ الشوقُ،
وأمَّل بإنْ يؤولَ للقيانه ذلك السوقُ، فبيْنَا نحنُ نتناوحُ تناوُحَ
الزَّميل، ونكتحلُ بميل ميل ذلكَ الزَّميل، ألفينا حِبالة منصوبة،
وأَضغاثَاً مقضوبة، تُجَاهَ شَيْخ بارز السَّناسنِ، متداخلِ الجنَاجِنِ،
متقمّر كهمَوسهِ متنمِّرٍ بازاءِ ناموسهِ، فملنا لاستخراج خبرهِ، واستنشاق
عبْهرهِ، فإذا به شيخُنَا المِصْريًّ فارسُ حومةِ المحاورةِ، وممارس فوارس
المساورةِ، فقلتُ لصاحبي: ها هُوَ مَنْ كُنْتُ أسهب في وَصْفِ إنصافه،
وشدّةِ هبوبِ إعصافهِ، وأمدحُ سحائبَ نَجْلِه، وأذُمّ حبائلَ المِحَنِ
لأجلهِ، فلمّا نُصِر بمقالتي، ورأى أبو نصرٍ اندفاقَ ناقتي، قالَ لي: يا
بنَ جِريال إلام تقطَعُ غواربَ دأمائك، ولا تقنعُ بمعاقرةِ دَامّائكَ،
وتقومُ لفضح وقورِكَ، وتَمورُ بلَقَم صخوركَ وقورِك، فقلتُ لهُ: أرحنَا من
عِقَار ملامِكَ، وانْفَحْنَا بطيبِ عُقار إلمامِكَ، ونوِّلْني عهادكَ
المعهودَ، لأُجدِّدَ بمجالستِكَ العهودَ، ولنقتنِصَ بِغاثَ منامِكَ،
ونختطفَ كؤوسَ انسجامِكَ، فَقَدَ تاق رفيقي إلى اقترابِكَ، ومعرفة ليوثك
من ذيابكَ، فقالَ لي: حُبّاً لرفيقكَ وَلَكَ، وسَمعاً لما انهجتَهُ
مِقولَكَ، فَوالذي خوَلكَ، وإلى هذه القُتْرةِ حَوَّلَكَ، لأسمعَنّهُ من
طُلاوةِ المناظرةِ، ما يفوق نسيمَ الرياض الناضرةِ، ولأرينَّهُ من نِفاس
المساهرةِ، ما يُطربُ قلوبَ العيون المساهرةِ، ثمَّ إنَّهُ احْتَلسَ بساط
الطاعةِ، وقعَدَ قعودَ المِطواعةِ، وقالَ لنا: اعلما أنَّني مُذِ اطَّرحت
رحالتي، وناوحتُ حِبالَتي، وألفْتُ مداومةَ الصَّدَ وشُعفْتُ بمعاشرةِ
المَدَرِ، وصِرْتُ نسيَاً منسياً، لَمْ أرَ بهذهِ البُقْعَةِ إنسيَّاً،
ومتى استعرَ بها سعيرُ مسامرةِ، أو اشتهر شُعاعُ معاشرة، كان سبباً
لحِرمان الحُوش، وطَمْس سِكّةِ غرَض هذا المنقوش، ولكنِ انهضا بنا إلى
مكانٍ سحيق، لأَفُضَّ عليكُما أفضلَ رحَيق، فإنَّ صَيْدَ الأحباءِ أحلى من
صِيُودِ الظِّباء، ومنادمةِ الجلساءِ، أشهَى من قنصي جآذرِ الوعساءِ،
قالَ: فقُمْنا بعد مقالهِ، وأرقلْنا بُعَيْدَ إرقالهِ، ثُمَّ لم يزلْ يخوض
أمامَنا الخَمَرَ، ويستصبحُ بينَ أقدامِنا القَمَرَ، حتَّى وقفْنا بماءِ
دجلةَ النميرِ، وقد امتدّ رواقُ بدرِنَا المنيرِ، فخلَعَ جلبابَ الإباءِ،
وافترش كِساءً مِن الأباءِ، فقعدْنَا بحذاءِ قُترتهِ، نرتقبُ ما سيظهرُ
بعدَ طول فَترته، ثم مالَ صاحبي إلى ما تخلَّفَ من زادِنَا، ولطائفِ
أزوادِنَا، فآلى بمن يخفِي الثواقبَ ويُخفيها، ألاّ يضعَ أناملَ يدهِ
فيها، ثمَ قام إلى مُحِلاّتهِ، فأخرجَ ما بقي من نُفاضاتِ مِخْلاتِهِ،
فقلتُ لَهُ: أراكَ احتذيتَ حِذاءَ القناعةِ، واجتديت جداء هذى الاستطاعة،
وأجحمتَ على الزهادةِ، واقتحمتَ مَهْيَعَ هذهِ العادةِ، فقالَ لِي: إيّاكَ
أنْ تُعَنِّفَ أخاكَ، ولو ضربَكَ بحسام المحاسمةِ فأحاكَ، ولا تَرجُ من
وكف كَفَّيهِ البليلَ، ولو بهظ دَرُّيدِكَ مِن حوْبائه التليل، واقنعْ
بدني فُتاتِكَ، ولا تطمعْ في حُليِّ فَتاتِكَ، وادكَرْ وفاتَكَ، واعتبِرْ
بمَنْ فَتّهُ وفاتَكَ، وخُذ معَ الوَرَع حَلالكَ، وعَدِّ في البِدَع عمّا
حَلالَكَ، وأصْلِحْ خِلالك، واسكن حيثما خلالَكَ، ثم أنشد بَعْدَما
تشعّبَتْ شُعَبُ تألمه ومَفارِقُهُ، وخَفَقَتْ ألويةُ تململهِ وبيارقُهُ:
البسيط:
لا تيأسًنّ على ربْع تُفارقُهواَحذَرْ فديتُكَ من خلٍّ تُماذِقُهُ
واقطَعْ رجاءَكَ منْ رِفْدٍ تُؤَمِّلُهُ ... ما دُمْتَ حيّاً وإن شِيْمَتْ
بوارقُهُ
واحسمْ بحَدِّ حُسَام اليأس إنْ سَمَقَتُ ... روضُ الرجاء وطالتْ منكَ
أعذُقُهُ
ولا تمدَّ لجمِّ الجُودِ جارحةً ... فالحُر تكرهُ حَمْلَ المَنِّ
عاتقُه
واخترْ لنفسِكَ جأشاً لا يُفارقُها ... فالوغدُ تشبههُ في الرَّوْع عاتقِهُ
ولا تَبِتْ بفراش الإفكِ تَخْلُقُهُ ... فالإفكُ يدنو لثوبِ المجدِ
يُخلقُهُ
ومَنْ يجمِّعُ مالا لا يمزِّقُهُ ... يجولُ فيهِ معَ الدنيا يُمزًّقُهُ
فالحزمُ عندي لِمَنْ أَمْسَى وخَاطِرهُ ... مُحَقِّق أنَّ جودَ اللهِ
رازقُهُ
قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلمّا لَسِبَ حلاوةَ محاضرتهِ، وسَلَبَ لبَّهُ
بمحاسنِ عظاتِهِ، وجَلاَ لدينا عرائسَ راحتهِ، وتلا علينا سُوَر صُحُفِ
فصاحتهِ، أقمْنَا عندَهُ تَتِمَّةَ الغَسَقِ، مسرورين بحُسْنِ النَّسَقِ،
ولما نتجَ الليلُ الصباحَ، وتلجْلَجَ لسانُ السَّمرِ بعدَ ما أَفْصَح
وباحَ، نهضنَا ذلكَ التّسديس، إلى امتطاءِ الدِّرفْسَةِ والسَّديس،
يَغْمُرُ كلّ بدَمْعِهِ العَبيطِ، أرجاءَ غاربهِ والغَبيطِ، غِبَّ أنْ
غَضَضْنَا لديهِ راحَ المصاحبةِ فَأبَى، وعَرَضْنا عليهِ دروعَ المعادلةِ
فنبا، وسألناهُ فَكّ ذيّاكَ الحُبَا فما حبا، ثم إنّهُ فكّر وارتأى، فيما
رامهِ ورأى، ونفرَ نفورَ اللائي، ووثَبَ وثوبَ الوائي، وعاود ذلِكَ
المُنتأَى، وودَّعنا وانتأى.
المقامةُ التاسعةَ عشرةَ القُدْسيَّةُ
أخبرَ القاسمُ بنُ جريال: قالَ: دعاني أوانَ غابَ الغباوةِ المغمورِ، إلى
بيتِ المقدس المعمورِ، كفُّ زندِ الزمنِ الغَرورِ، ومُحيْعَلُ الطمَع مِنْ
منارة الغُرورِ، فكتمت لذلكَ الغرض ما خفيْتُ، وأظهرتُ لَهُ ما كنتُ
أخفتُ، ثمَّ أرخيتُ شُرُعَ الامتيار، وانتحيتُ لاختبارِ تلاتلِ الاختيارِ،
وصِرْتُ بعُروض حَميدةِ الإحماض وعروض عريضةِ الأعراض، إلى أنْ أنْختُ
بِها كلكل الكلالِ، ونفختُ في نار وقود ذلك الاستقلالِ، ثم بادرتُ قبلَ
اتخاذِ الغرفةِ المنيفة، إلى زيارَةِ الصخرةِ الشريفةِ وحينَ صارمتُ
مصاحبةَ الأمزارِ، وأمَّلتُ حَطّ حقائبِ الأوزارِ، أقبلْتُ على المبيع
وأخذتُ في عَبِّ ربيع ذيّاكَ الربيع، وكنْتُ مَعَ ذلك الإلهام، ورَفْع
تِيجانِ هذه الهام، عازماً على مجاورةِ صخرتهِ، طامعاً في اقتناءِ ثَوابِ
آخرتهِ، فَيسَّرَ اللهُ ما ارتجْيتُهُ، وقدّمَ القدرُ القدمَ الذي
أرجيتُهُ، فلمّا انقضتْ مدةُ الأسبوع، وبَقي لبزوغ شمس الخطابةِ مسافةُ
الأصبوع قصدْتُ المصلّى وصلّيتُ بحلَبةِ المبادرةِ مَعْ مَنْ صَلّى، وعندَ
ما استبانَ طلوعُ الخاطب، وبانَ ظهورُ حفول المصاطِبِ، برزَ ساعياً عَلى
حسامه، راقياً، إلى مراقى مَقامه، فحينَ وعَى الآذانُ، ودَعَا لدَعوةِ
طيبِ خطبتهِ الآذانُ، عطفَ لشغْلِ يدهِ وقال، واَستوَى قائماً على
صَمْصامه وقالَ:
الحمدُ للهِ المدركِ، العالمِ المهلكِ، الحاكم الراحمِ، العاصمِ الكاملِ، الطاسمِ الواصلِ، وعدُهُ المواصلِ، سَعْدُهُ السالم، عهدُهُ المسالم حدُّهُ المومَّلِ الإعطاءِ، الوعودِ المسؤولِ، لإسداءَ السعودِ، مسوِّدِ الحُمرِ والسودِ، ومرعرعِ الحُمُرِ والأسودِ، مسعسعِ، الأَسحارِ، ومعسعس الأسحارَ، عالَ عرام سَحِّهِ ولَمَّ، وأحالَ حلول حَسهِ ما ألمَ، ودَرَّ دَرُّ حَمْدهِ وساحَ، ومَد مدُّ وردِه وماحَ، هادم الأعلام، لا إله إلاّ هو الملكِ العلام، أحمدُه وهو المورودُ، وأسألُهُ وهو المُسْعِدُ المَودودُ، حمداً ملأ دلوحه السماءَ، وسُحوحُهُ العَراءَ، أرسلَ رسولَكُمْ وسَحُّ السَّدادِ مسكور، وعاملُ الأعمال مكسورٌ، ومدارُ الصلاحِ مصلوم وصِدارُ الإصلاحِ موصومٌ، ورأسُ الأمةِ محسومٌ وسِراط السَعادةِ مطسوم وصوامعُ الإعلام مردودة، وطالعُ الإسلام مسدودة، وألْوادُ العَدالةِ مهدودة، وأولاد الدلالةِ موؤدة، سهل اللهُ مسالكَ مَعادهِ، وسوّرَ عساكر إسعاده، وكرَّرَ لآلهِ أكملَ الصَّلاةِ، وأركسَ لهام هِمَمِهِ هَامَ العُداةِ وأسعد الملسوعَ مساعدَهُ وعُمر، وأدامَ مَعْلَمَ علوهِما وعَمُرَ، وسما صِهراهُ صاهلُ السموِّ، وكاهلَ السَّعْدِ والعُلُوِّ، وعلاَ أهلُ دارهِ وآلُها، ما لألأ آلها، وطأطأ رأسُ المِلَلِ كمالُها، وطالَ هامَهُ المكارِم إكمالُها، إعلمُوا عمّركُم اللهُ واعملوا واعلموا عودَ عَمَمَ العَمَلِ، واعملوا وسرحُوا عروسَ إهمالِكُم، وأصلحوا رؤوسَ أموالِ آمالِكم وسارِعُوا لمحاسمةِ الكسَلِ الدِّروَاس، وادرسوا طرُوسَ دروسِ الوسواسِ، وسهِّلوا سلوكِ سراطِكم، واصرمُوا طِوَلَ طُولِ إلطاطِكم، اللهَ اللهَ ومَهالك الدُّولِ، وسمَاعِ مصارعَ الملوكِ الأولِ، حرِمُوا واللهِ محالسةَ الكِلَلِ، وعَدُموا مصادمَةَ الأسَلِ، وحاسَمُوا سُرورَ السُّرورِ، وصارموا صُدورَ الصّدورِ، وهدمَ دُوْرَهم المِحالُ وردمَ درُورَهُمُ الأمحال، وهدَر الدهرُ ما هدروا، وسطر المَلكُ ما أملَوا وما سَطُروا، كَمْ سلَّ مَهْلكَاً، وسدَّ مَسلكاً، وململَ العالمَ، ودمَّرَ المَعالِمَ، وكوّر الطاعمَ، وكدَّر المَطاعم، طالما أَلْهاكُمْ المَدَدُ، وأوهاكُم اللَّدَدُ وأصماكم المَللُ، وأعماكم العَلَلُ، ودهاكُمُ الطِّماحُ، وأعداكُم الاطِّراحُ، وأرداكم الراحُ، وحداكم المِراحُ، أما سدادُكُمُ السِّلامُ، أما رُوّادُكم الدِّمامُ. أما المعاد داركُم، أما الأرعادُ مدارارُكُم، أما حَسَمكُم العَدَمُ، أما أسلمكُمُ السدم، أما وعَدَ وأرعدَ، أما هدّدَ وأرعدَ، أما أسرَ الأكاسرة، أما كسرَ مِرداة المرادةِ الكاسرةَ، إلام أسعدكُم اللهُ سعادة سالمةَ الإكسارِ، ساملةَ الإسكار، أراهط طمعكِم طامرة، ومعاهدُ هلعِكُم عامرة، وأراء لهوِكم دامرة، وأمراءُ وهمكِم آمرةٌ، رُحماً لكم حال حَسْم السّواءِ، وطمْس الحِواء، ومواصلةِ الصّلودِ، وعكس أدلةِ الصَّلود، ومساورةِ الوهادِ، ومحاورة الأصلادِ وهدم أساس الإحساس، وممارسة السدَرِ المرّاسَ، وصَلْصَلَةِ صوارم السَّام، وحَلْحَلَة حُمَام الحِمام، ألا احملوا سِلع عملكُم وعاملوه، واسأَلوه سدَّ سمِّ سدَرِكُم وسالموهُ، واسمعوا أَمرَهُ وأسمعوهُ، وأرسلوا سَلْمَ مُسالمةِ رَمْسِكم وأسمعوهُ، وامسحوا عُصْمَ معْصَم عدوِكُم واصدعوهُ، أهَّلكُمُ اللهُ لدعِّ المحارم، وردع أدواءِ الطَّمع العارم، وعصَمكُم سُوْر سُورة الإسراء، ومهَّد لكم سُرَرَ سَورة السَّرّاءِ، قالَ الراوي: فحينَ سقطَ لؤلؤ نِثارهِ، وغَبَطَ كُلٌّ بلاغةَ إكثارهِ، ورفَلَ في حُلَل حبره، ونزل عن صَهْوةِ منبرهِ، ألفيتُه المصريّ مُحَلِّي جيدَ النُّجباءِ، ومُجلِّي حَلْبةَ جنْد الخُطَباءِ، فأرجأتُ الاجتماع إلى فراغ المفروضةِ، إسْوة بالخطبةِ المأروضةِ، ولما فَصَم سجودَ مَسْجدِه، وعزَمَ على مُباينةِ مَسْجدِه بادرتُ إلى استلام يدهِ، واستلآم سلاح الأدب لسلِّ مهنَّده، فانطلقَ بي إلى وَكْرهِ، والغَدْرُ ينْضَخُ من سحائبِ نَكرَه ثم قَالَ: لأربَابهِ وَمنْ قصدَ لُبابَ بابهِ: الحمدُ للهِ الرَحيم، المتفضل بردِّ الصِّنْوِ الحميم، الذي كَفَّ عني حروبَ الحوادثِ، وعفَّ بعدي عن محادثةِ المُحادث، فمذ ذُقتُ مرارةَ نَواهُ، ومُزِّقْتُ بقَواضبِ ما كان نواهُ، ما مددْتُ يَدَ التودُّدِ إلى سواة، ولا شددْتُ
ظهرَ المُظاهرةِ بسوى سواه، فهو الذي أطلعَ سُهى التنبه لمَنْ
سَها، وزها ثمرُ اتحاده وانتهى، ونهى عن مُجانبةِ النّهي وانتهَى:
الكامل:هرَ المُظاهرةِ بسوى سواه، فهو الذي أطلعَ سُهى التنبه لمَنْ سَها،
وزها ثمرُ اتحاده وانتهى، ونهى عن مُجانبةِ النّهي وانتهَى: الكامل:
وهو الذي ذرأ الخُطوبَ فأَحجمَتْ ... من بَعدْ إقدام عليَّ ونَهْنَها
وهوَ الذي أهدَى الهدوء لخاطري ... مِنْ بعدِ ما رقدَ الدُّنُوُّ ونبها
خِلّ بهِ قَمَرُ الأخوَّةِ ما بَدا ... من قُبْح خَسْفِ خيانةٍ مُتشوِّها
قال: ثم لم يزلْ مدةً حَلِّ بِطاني، يُطمعنِي في مُقاطعةِ أعطاني،
ويصرُفني مذ حَلَلْتُ أشطاني، عن مراجعةِ أوطاني، فبينَما أنا أفكِرُ في
نَشْدِ جنَاح ضَوء الضَّواحي، وأخُطِرُ في مَسارح الأقاحي مِراحي، إذْ
سَحَبَ طَرف مطرفي في مَساحب طَرق طُرَفي طِفْل أسرعُ مِنَ الجرْبياء
وألطف من الجارية الجرباء وقالَ لي: أرى قد ضعفَ سببُ انسيابك في إحْضارِ
إنسابك، وانقطَعَ صَبُّ صَيْب إرزامكَ عن جوازل ألزامَك فما هذا الفتورُ،
وقد تناقَصَ قَرارُ قلبكَ المبتورُ، وما هذا الانفساحُ، وقد تقاصَرتْ
خُطَى صبركَ الفسِاح، قالَ القاسمُ بنُ جريال: فلما سَمعْت قَعْقَعةَ تلك
الصّواقع، وامتقعتُ بيْرقانِ ذاكَ القولِ الفاقع حَسِسْتُها مَنْحَسةً
انسجَمْتْ من مَعينِ أبي نصرِ اللعين، فقلتُ لَهُ: أراكَ هِجْتَ ما بي
بجرِّ جِلْبابي، واتَّهمْتُ بالي، بما لم يُؤذِنْ به بَلالُ بَالي، فار
حتى من سُكْر هذا المُدام، وأطلعني على طليعةِ إكام هذا الكلام، فقال:
اعْلَمْ أنَّ خليلَكَ الخطيبَ، ومَنْ سكَبَ من صِفاتِكَ القَرْقَفَ
القطيب، أرسلني أمس عندَ الأثاربِ، إلى بعض أربابِ المراتبِ، برُقعةٍ رقعت
من حالكَ ما انخرَقَ، وبرقعَتْ برقَ إملاقِك بعدَ ما بَرَقَ، فنَشْرتُها
لأنْظُرَ سطَورَها، وما الذي أَودعَ مَسْطورَها، فإذا فيها: الطويل:
يُقبّلُ كفا عودت بثلاثةٍ ... بجُود، وتَقْبيلٍ وحَتْفٍ للإثم
فلا زال خافيها ثِمالاً لمُدْقِع ... ولا أنفَكّ ضاحيها مَحّلاً للإثم
ويُنهي إلى نُبله الواضح الآثار، ونَبْلهِ الصالح الأثأر لا برحَ محفوفاً
بالأبصار، مصحوباً بصوارم الأنصارِ عَريّاً عن العارِ، مليّاً من الغار
أنَّ أخاهُ عازم على السِّفارِ، مجرِّد عضْبَ عَزْمهِ الماضي الشفار،
لإحضارِ أشبالهِ الصغارِ. حذَراً أن تنوشَهُم صِعَادُ الصَّغَارِ،
لنُنفِقَ بقيَة الأعمارِ، في مُناسمةِ الأغمارِ، فلا خيرَ في شَيم
الغِرارِ، لشمِّ العَرارِ، وتركِ العَمار، لقَطْع الغِمار، ومعلوم أنّه
باعَ عُروضَهُ على التِّجار، والبنّاءِ والنَّجار، والنّساج والقَصّارِ،
والطِّوالِ والقصارِ، وأصحاب الشرار، إلى غايةِ هذا السِّرار،
والمُستَمَدُّ من إحسانهِ الدَّرارِ، العاري عن الذِّرار، وكَفّهِ الواكفِ
الأسرار، المطفئ أشعةَ الأشرارِ، أنْ يتَطّولَ مَعَ النصَّارِ، بمائةٍ من
النُّضَارِ، إلى أيام اليَسار، وانسجام مَسيل يُسْره والبسار، لا زِلتَ
قانص التيّار، قابض البتار، دائراً بصحَاف قدْركَ الأعشار، على ذَوى
المذلَّة والإعسار، والسلام، قالَ القاسمُ بنُ جَريالِ: فَهرَولْت إلى
الكِنِّ، لأعْرِفَ حقيقةَ الأمرِ المُسْتكنِّ، فألفيْتُ الخطيبَ قَدْ طارَ
بأجنحةِ اغتيالهِ، وأوقعني في حِبالةِ احتيالهِ، وقد أرسلَ إلي أصيحاب
المناصبِ، مِنْ حُسْن صِّيبهِ الواصب، عَشْراً مِنَ الرِقاع، على نمط هذه
الأسجاع، وقد فرس مِن أموالها ما فرسَ، وَالتمسَ بها ما بَها التمسَ،
والجَلاوزة تُخرِّقُ مسايلَ سُمِّ الحَنَق القاتِل، وتُحِّرقُ علىَّ
حِدادَ النيوبِ القواتلِ، فجعلْتُ أتوارى بوهادِ القُردودِ، وأظهرُ ظهورَ
الخُفْدُودِ إلى أن نَسيتُ زَهْوَ العيشةِ الزاهرةِ، وأنسيتُ مَهْو
الشبيبةِ الباهرةِ، ورحلتُ عَنِ الساهرةِ، رَحيلَ الوَسَنِ عَنْ مُقْلَتِي
الساهرةِ.
المقامةُ العِشرون العانيِّةُ
رَوى القاسمُ بنُ جريال، قالَ: لمّا اشتملتُ بشَمْلَةِ شأو
الرَّشاد، وارتحلْتُ حِلالَ الحلاوة الإرشاد، اطَّرَحَتُ محاورةَ ذلك
الجَناب، وسَرَحْتُ بينَ أطناب ذيّالكَ الإطنابِ، وجعلتُ أستنشِقُ ريْحَ
البَرَم والبانِ، واستنجع لبِانَ ذيّاكَ اللَّبانِ، وألازُم حِمَى
المناسماتِ، وأنادمُ دُمَى المنادماتِ، وأنتَهِبُ ذَهَبَ أباريقِ
المِزَاج، مِنْ يَدِ أشكالِ أباريقِ الزَجاج، وأجتَنِي مَعَ مجانبةِ
الظَابِ، شُهْدَ مَراشفِ العَطَر الرضابِ، فما برحَ ذلكَ من نَطافةِ
شِعارِي، وشهامةِ عشارى، وسلامةِ يُعاري، ومباعدة عَرِّى وعاري، عِلاطاً
لانخراطِي، وسِراطَا لاختراطي، إلى أن عُدْتُ عرَيفَ كَلِ دسكرةَ، وغريفَ
كلِ مُسكرةٍ، وجليفَ كلّ حانة، وحليفَ كل ريحانةٍ، وأليفَ كلِّ عانةٍ
وخليف كلِّ مِظعانة، فبينما أنا ذاتَ يوم على ثَبجَ المسروج، أتنقلُ في
بروج المروج، ألفيتُ سيّارةً تسرحُ في رفاهَةِ، وتنفحُ بنسم نبَاهةٍ،
شارعةً هوادِيَ الألهوب، راتعةَ في ذلاذل الذُهوب، فسألتُهم عن العَطَن
والحلول، وغبَرّ ذلك الجفولِ، فقالوا لي: أمّا المعهدُ فغانة، وأما
المقصدُ فعانه، فقلتُ لَهم: يا للَعجب أتنضون مِنَ المغارب سَمنَ الغارب،
وتنصّون طَلبَ المآربِ، بإثارةِ الأثاربِ، أفٍّ لِمَنْ يعجبهُ الإهرابُ
وتضوي به العِرابُ، ويستخفّهُ الإترابُ، ولا يملأ عينَه إلاَ الترابُ،
فقالوا: يا هذا نراكَ غيرَ مكترثٍ بخَجَلي، ومشرقاً من العجلةِ على وَجل،
ولكنْ خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلِ فقلت لهم.: إنني مِنَ المسرفينَ، ولهذهِ
الجرأة من المقترفين، فاصفحُوا رعاكم الله حيثُ ترعون ولا مُنعتُمُ العون
أين تسعُون، فقالوا لي: أما إذ زجرتَ نفسكَ بالإنذار، وسَدَلْتَ لهفوتِكَ
ستورَ الاعتذار، فسننبئكُ بتأويلِ مرادِنَا وطلوع شُموس أرادنا ثم قالُوا:
اعلمْ بأنِّنا ممَّنْ فارقَ ولائد الكِناس، لمواصلةِ خرائدِ الكأس، وباع
بدائعَ الأحلاس، لشراءِ جلائلِ الجُلاّس، فأنت مِمَّنْ يستضيء بضوءِ هذا
النبراس، ويسُلُّ سيوفَ المنافسةِ ليوم هذا المراس، فقلتُ: أنا مِمّنْ
اعتلَى ظهور الجلامدِ، واشترَى الذهب الذائب بالجامدِ، وأنفقَ صُرَرَ
آلافهِ على ألافه، وأراقَ دمَ سُلافهِ لدى أسلافهِ، فهلْ لكُم في مرافقتي،
مع وجودِ نفقتي، وامتطاءِ مطيتي، معَ صَفَاءِ طويّتي، وامتلاء سابي، معَ
سَعَةِ اكتسابي، فقالوا: أهلاً بمرافقتك، ولو مع فاقتِكَ، وسهلاً
بانتسابِكَ، ولو بعدم اكتسابِكَ، ومرحباً بحسْنِ اكتسابِك، ولَوْ بفسادِ
سابِكَ، قال القاسمُ بنُ جريال: فانسلكتُ بأمراسِهم، وشكرتُ نفائسَ
أنفاسهم ولم نزلْ نشقِّقُ شِمَال الشمالِ، ونخرّق بنائَق جدُدِ الجُدَد
والأسمالِ، إلى أنْ ولجْنا عانة، وأنضْينا العيرانةَ الريعانةَ، ولمّا
كسْرنَا عُصِيَّ الإدلاج، وأسرْنَا فوارسَ عساكر الإدلاج، طفِقْنا نسرحُ
لرَبّات الرَّناتِ ونتصفحُ صَحائفَ الحاناتِ، معَ منادمةِ الرَذاذِ
والوابلِ، واليراع والنابل، حتى حَوَيْنَا ألبانَ تلك الحُلوبِ،
واهتديْنَا لهدايةِ الخائنِ الخلوبِ، ثمَ إنْ صيتَنا اتَّصلَ بأمير
مكانها، وسائس سكانِها، فأرسلَ إلينا أحدَ أتباعهِ، ليجعلَنا مِمّنْ
يَنعمُ بمرباعهِ، ويُنعُم بكرائم رباعه على رباعه، فحينَ حصًّلنا إلى
حِوائهِ، وحصَلْنا على لطائِف حِبائه، وأعجبهُ جَنىُّ منافستِنا في
مناسمتِنا، وأطرَبهُ حَبِيّ محالفتِنا على سُلافتنا، نَفَحنا بصحةِ
النيّةِ، وأتحَفنا بالخلع السنيةِ، مشفوعةً بذواتِ الأرسانِ، والسوابح
الحسان، فبينا نحنُ ذاتَ يوم بندوتهِ، متجِّملين بجلابيب جَلْوتِه، وقد
أَزَّرَ الزَهرُ بَراحَهَا، وسلَّتِ السحُب على الحدائِق صِفَاحَها، خرجَ
بجِفان كالأزهارِ، وفتيانٍ كالأقمارِ، وأبكار كالبدورِ، وأخدان خارجينَ من
خلالِ الخُدورِ، فلَمّا قعدْنَا لتناوُل شرابهِ المشمولَ، وشملنا شفه
الحَسَنُ الشمول، وألفينا سرابيلَ المسَّرة تَسْدكُ، وجمائلُ التجمّل
ترْتك: الكامل:
والكأس يَنْهضُ والقَناني تَبْرُك ... والمُزْنُ يبكي والحدائقُ تَضْحكُ
والشُّرْبُ يَشربُ والمَغانِي تَطْرُبُ ... والخَمْرُ تُسكَبُ والمعاني
تسُبَكُ
لمحنَا الأميرُ لَمْحَ مَنْ حَنَّ إلى قَرينه وهن، وسَنَّ سنان
قَلقه وأنَّ، وقال لنا: اعلموا أنّهُ ورَد عليَّ بهذهِ الأيام القريبة،
رَجُلٌ مُستحسَنُ النقيبةِ، ما أغمضَ جَفْنُ مجالستهِ ولا جفا، ولا لَبسَ
خِفاءَ مخالفتهِ مُذْ خَفَا، ولولا أن أشُقَّ عليهِ، لأشرْتْ بالخروج
إلينا إليه، فقلنا له: إنّنا ممّنْ يرعَى حقوق حديثه وقديمهِ، ويستر معائب
نديمهِ بأديمهِ، ومعَ ذلك فنحنُ لا نُؤثِرُ استدثارَ سلوتكَ، ولا نستأثر
عليهِ بخَلْوتكَ، بل نخلعُ على مَجْلَسكَ وصالَهُ، ونَتْرُكُ طيبَ نسيم
هذه الصَّبا لهُ، فقال: معاذَ اللهِ أن أفارقَكُم أو أقايضَ بالعَسْجَدِ
وَرَقَكُمْ، بَيْدَ أني أعرِّفهُ، بما انسَرى مِن حِفْظِ سّركم وأصِفهُ،
ثم إنه أرسلَ إليه من حالِه، برُقعةٍ خاليةٍ عن انتحالهِ، فلمّا حقّقَ
قَرْطسة نبَاله، ودقّقَ بصرَهُ لإقباله بأقباله، تجلَّلَ جَنانُهُ
بالمَرَح واحتيج إلى العلاج بالترحَ، لشدةِ مصافحةِ ذلك الفرح قال الراوي:
فألفيتُ حينَ لاحَ قمر إرقالِه، وفاحَ أرجُ حَلّ عِقالِه في مَقَاله، أبا
نصرَ المصري شيح سرورِ الأمير، وشيخَْ معازِف تلكَ المزاميرَ، فأظهرتُ
البشاشةَ خَوْفَ التنغيصِ، وخْلِتُ أنْ قًد ظَهَر عليَّ الأسدُ مِنْ
مَغَابن العِيص، فضمَّني ضَمَّ المشيمةِ الجنينَ، وأخذَ يبثُّ شوقَهُ
والحنينَ، وأقبلَ يُعَرِّفُ الأميرَ دماثَة ودادِنا، وملاحةَ عروس
اتّحادِنَا، واحتلابَ عنقادِنا، ونشرَ عَرْفَ عبير اَعتقادِنا، فلَّما
فَهِمَ كلاَمهُ، وعلم أنْ قد أسعدَ القَدَرُ أقلامَه، قالَ لنا: الآن يجبُ
بأنْ نجولَ حول هذا الميسورِ، ونفْترعَ ذروةِ هَذَيّا السورِ، لمناسمةِ
هذا السُّرسورِ، قال: فعدلْنا عن الخِلافِ إلى جَرِّ ذَيلِ الجَذَلِ
والخلافِ، ومِلْنا في ذلكَ الانعطافِ، إلى كلّ عَزّة ناعمة الأعطافِ، وأبو
نصر يسُحّ لذَلك الذّرور، سُحوحَ المُسْبِل الدَّرور، ويُظهرُ بينَ تلكَ
الصُّدور، ما يُعجزُ لسانَ المِصْقَع القَدورِ، حتى أنساني بألفاظهِ
القُسِّيَّةِ، علَّ عَلْقَم الوَقْعَةِ القُدسيّةِ، هذا والأميرُ منعطفٌ
إلى لُبَدهِ، متعطشٌ إلى معرفةِ بلدهِ، والمصري يزجرني برفع حاجبهِ،
ويُسكَتني بنَصْبِ نصْبِ رواجَبهِ، إلى أن ألانتْ لُبَّ الأمير سُحبُ
سحْرهِ الهطّال، وآنَت منه طَلِبَةُ مدح أزهاره والرّطالِ، وجَعلَ يعرِّض
بوصفِ الرياض، وحمرة خَدِّ خَنْدَريسنا والبَياض، فالتَفتَ أبو نصر وقالَ
لي: كُنْ كما أعرفُكَ مجلُيَّ الإعصافِ، والصِّدْقُ عندي من جملةِ
الإنصاف، فقلتُ له: كَلا، ومن أنزلَ سُورةَ السكينةِ وهل يُفْتَي ومالك في
المدينةِ، فأطرقَ لقولي أطراق المستري، وصافَحْت يدُ جَوْدةِ إجادتِه
شناتِر المشترِي، وقال: الكامل:
شرب السلافةِ في الربيع المُزْهرِ ... بين الرَياض على غِناءِ المِزهر
وبنفسج بينَ الخَمائِل حفَّهُ ... أنفاسُ سَوْسنهِ كمِسْكٍ أذفر
فالنُورُ من نوْرِ الحدائقِ ساطعُ ... يحكي بياض سبائبٍ من جوهر
في أحمرٍ قانٍ وأبيضَ مُشْرق ... يقق يَروقٍ وفاقع من أصفر
والياسمينُ معَ البَهارِ كأنَّهُ ... مضنى يُعاتبُ شادناً في عَبْقَريَ
والبان ذو الرَّنْدِ الذكيِّ كأنَّه ... مِسْك تأرجح في صَلايةٍ عنبر
والنرجسُ الغضّ الجنيّ كأنّهُ ... حَدَق تُراقبُ غادةً مَعْ جُؤذَر
وتضُّرجُ الوَردِ النضيرِ مُنْضَّد ... حولَ الزلالِ ورائقِ اللينوفر
من أزرقٍ يَحْكِي السماءَ وأصفِرِ ... شِبْهِ النُّضَارِ على بِساطٍ أخضَرِ
أو وَطْءِ أخفافِ المَطِيِّ وقَدْ غَدتْ ... تحت الأحبةِ في الصَّعيدِ
الأعفرِ
ووجداولٍ شِبْهِ السيوفِ كأنَّما ... شُهرَتْ بيوم كريهة وسَنَوَّرِ
ما بينَ منبجس وبينَ مُسلَسلٍ ... ومجَعِّدِ ومَصفِّق ومكسَّرِ
وجآذرٍ مثلِ البدور خوامصٍ ... ما بَيْنَ مُدَّرعٍ وبين مُحَسرَّ
تحكي الشُموسَ إذا قرُبْنَ بمغرَبٍ ... في جَرِّ أذيالِ الحَرير الأحمرِ
أشهَى من الأمن الشَّهيِّ وقد بدا ... بِعدَ التشتُّتِ في
العَراءِ الأغبرَ
في ظلِ مولانا الأمير ومَنْ علا ... فرقَ السِّماكَ على المَحَلِّ الأكبرِ
فاللهُ يَحْرسُهُ ويَعْصِمُ مجْدَهُ ... مِنْ أنْ يزولَ إلى قيام
المَحْشَرِ
قالَ: فلمّا اجْتلَى الأمير لُمَعَ وميضها، وابتَلى زبدَ اغريضِها وعبقَ
عَرْفُ أسجاعها التي وكَفتْ وكفَتْ، وسمعَ من بدائع إبداعِها ما وصفَتْ
وصَفتْ امتطىَ صهْوةَ الطّرَبِ، وألقَى إليهِ صُبرتين مِنَ الذهبِ، فدفعَ
إليَّ صُغرى الصُّبرتينِ، بعدِ الذّبّ عن أنْفِ أنفَتهِ واللُبدتَيْن،
وقالَ لي: خذْها إليكَ، واعلم أن الحربَ تارةً لكَ وتارةَ عليكَ، ثُمَّ
إنّهُ نهَضَ إلى الخَلا، وقد راقَ وقتُنا وخلاَ، ففرَّ من وقته وجلاَ،
بعدَ أن جَلا مِن عرائسهِ ما جلا، فغادرَ وعساءَ آَنْسِنا كالصَّفا،
ورنَّقَ من عيشنا ما صفَا، وغَرّقَ فُلْك الفُكاهةِ عندما طَفَا، وطلّق
حَصانَ مِصْباح اصطباحِنا فانطفأ.
المقامة الحادية والعشرون الإعرابَيّةُ
حكى القاسم بنُ جريال، قالَ: اضطررتُ حينَ مشاهدةِ المَعيش، ومساعدةِ سهْم المكاسِب المَريْش، وشِباكِ الأشَرِ الواصبِ، واشتباكِ صِعاد البَطَر الحاصبِ، إلى مُجاورةِ الأعراب، اضطرارَ الأسماءِ إلىَ الإعرابِ، لأكتسبَ عقودَ كفاحَهِم وأحتلبَ عقودَ إفصاحِهِم، وأرتضعَ حَبَبَ حبائِهِم، وأضطبع لِسَعْى معرفةِ احتبائِهم، وأنخرِط في نِصاح حُماتِهم، وأقتبسَ نفائَس مُحاماتِهم، فَجعلتُ أجوبُ الفِجاجَ، وأستجلبَ المُجاجَ، وأستفتحَ الارتياج، وأستمحُ من طَفَحَ بالمُلَح وماجَ، فلم يبقَ معنىً إلاّ سُمْتُه، ولا مغنىً إلاّ وَسَمْتُهُ، ولا حُسَام إلاّ شِمْتُهُ، ولا بَشامٌ إلاّ شممته حتى حويت محامد الخِلالِ، وانثنيْت عن معاهدِ الإخلالِ، وجنَّبْتُ عن منهج الجَهالةِ، وأطنبتُ في طلَبِ سَنام التسنُّم والإهالةِ، فلمّا بلوتُ الأنبياءَ، وتلوْتُ الأصفياءَ، حمدتُ اللهَ على صفاءِ القريحةِ، وصلاح النيّةِ الصريحة، وارتِضاع البراعةِ واستبضاعُ عُروض هاتيكَ البضاعةِ، فبينما أنا أهُب بالاندفاقِ، وأرب أفق الاتفاقِ، إذ ألجأني عَدم الرفيقِ، في ليلةٍ فاحمةِ الأفيق، إلى حيٍّ ذكيِّ البوغاء، زكيِّ الرُّغاءِ، مفتوح المذاهبِ، ممتوح المواهبِ. فدنوتُ إلى حواءٍ جميلِ المَساندِ، جليلِ الأسائدِ، فتلقِّيْتُ باحترام، ولقيت أشرفَ مقام، ودارتْ علينا صنوفُ الصِّحافِ، وضَمَّني حُسْنُ لحافِ ذَلكَ الالتحافِ، فلم نزل ما بين مُذاكرةٍ ذكيَّة، ومفاخرةٍ مَعْدَكيةٍ، إلى أن انفلَّ حسامُ الليلِ، وقَل قيلُ ذلك القَيلِ، ولمّا مالتِ الأجيادُ، وحَمْحمَتْ الجيادُ، وأفلَ لَهَبُ دُخانها، وطَلُعَ ذَنَبُ سِرحانها، قالَ صاحبُ حِوائنَا، وجابرُ سِنْسِنِ سَوَائنا: تاللهِ لقد أوحشَنا السحابُ المرعدُ والسّحوح المُزبِدُ، والبَطلُ الفارسُ، والهيصرُ الممارسُ، فلو جالسنا الليلةَ لرفَا ملابِسَ الإلهام، ونفى وساوسَ الأوهام، وضوَّعَ همهمةَ الاهتمام، وضيَّعَ غَمْغَمةَ الاغِتمام، فإنَّهُ خَليَّةُ المشتارِ، وهديَّةُ المُمْتَارِ، وعَروسُ السَامرِ، وخَنْدَريسُ المُسامر، قالَ القاسمُ بنُ جِريال: فلما شَرِبتَ الأنديةُ رحيقَ امتياحهِ، وطربتِ الأفئدةُ بأغاريد امتداحهِ، قلتُ له، إنِّي لأحبُّ أنْ تُطرِفَني بمشاهدتِهِ، أو تُتْحِفَني بلطيفةٍ من بُداهته، لأداوي علَّة هذا النُروع، وأنُاوي شدّةَ قلقِ قَلبي النَّزوع، فقالَ: اعلم أنه نزل بنا قوَمَ من آل صعفوق، في زمن منِ النوائب خفوقٍ، تقامُ بوصيدِ عبدانهِ الأحرار، وتهانُ لعزةِ عِزَّةِ بُرِّهِ الأبرارُ، وكنا يومئِذِ أولى نَزْوةٍ وراغيةٍ، وثروةِ وثاغيةٍ، وحمائلَ رايعة، وجمائلَ راتعةِ وجِفانِ مملوّةٍ بالثرائدِ، وضيفان مخدومةٍ بالخرائدِ، وكانوا إذ ذاكَ ذَوِي فاقةٍ مدقعَةٍ، وسعادةٍ متبرقِعةٍ، وأعباءٍ باهضةٍ، وأوباءٍ ناهضَةٍ، وأجوبةٍ خاليةٍ، وأحويةٍ بالحَزَن حالية، فَلَمْ نزَلُ نُملِّكهُم نُخبَ أرسانِنا ونسوفُ إليهم سُحُبَ إحسانِنا، ونملأ لَهُمْ حياضَ إنعامِنا، ودرأ عنهم أوبيةَ عامِنا، إلى أنْ غاثتِ السحائبُ، وأغاثتِ الكتائبُ، وهِطلَ الصبيرُ، وعظمَ العصير، وقصرَ الطويلُ، وطالَ القصيرُ، فلمّا انجلتْ مرآةُ بوسِهم، وجلَتْ عساكِرُ عُكوسِهم، وقَلّدْتُ بالدُّرَرِ غِلمانها، وأكلَ كثرةُ اللبنِ إيمانَها، جعلتْ تشمخُ بأنوفِهَا، وتتعززُ علينا بأنوفِها، وتهزأُ بنظافِنا، وتُنكِرُ طِيْبَ نطافِنا، وتتعرَّضُ لنضالنا وتجحَد فواضل إفضالنا، ولم يكفها ذلكَ، حرسَ اللهُ قُلَلَ إقبالِكَ، حتى نهضَ خطيبُهم واستطال، وأَنشأ خطبَةَ أنيقةً وقال:
الحمدُ للهِ مُزجِي النِّعمةِ الوافرةِ، والنّعمة المتوافرةِ،
والآلاء السانحةِ، والنعماءِ السارحةِ، ذي الدَّولةِ العاليةِ، والدُّولةِ
المتعاليةِ، والمِنَّةِ المؤيَّدة، والمُنّةِ المؤبّدةِ، والحُجَّةِ
الراحضةِ، والمحجّةِ الواضحةِ، الذي توَّجَ جباهَ عِزّتِنا بتيجانِ
الجَلالِ، وأسرجَ عناجيجَ عزِمتِنا في مناهج الإجلالِ، وسوّرَ مِعْصَمَ
ألسنتِنا بأساورِ المَقَالِ، ونِوَّرَ مصباحَ صولَتِنا في مَساربِ
الأثقالِ، وأطلعَ شموسَ صلاحِنا من مشارقِ الكمال، وأينعَ غصونَ إصلاحِنا
في حدائقِ الإكمالِ، حتى لاحَ حمدُنَا وألاحَ، وراحَ بحُلَلِ مدحِنا
وارتاحَ، وألفْنَا السِّلاحَ: وفاحَ عَرْفُ عُرْفنا وساحَ، وألنا الشداد،
وفللْنا الحدادَ، وملأنا القِعاب، وخَذَلنَا مَنْ سَفُه وعابَ، فكمّلَ
أعدادنا، وجمَّل أعدادَنا، وشرّفَ أبعادنا، وأمن المجاورُ إبعادَنا،
فعندما يجبرُ المكسورُ، وتركعُ لزور زرائبنا الكسورُ، لا يعرِفُ وجْهَ
معروفِنا البسورُ، وتخضعُ لِعظَم عظمةِ عصفورِنا النسورُ: المتقارب:
ففينا الذّكُور وفينا الذَّكورُ ... وفينا الجُسورُ وفينا الجسورُ
وفينا الدُّرورُ وفينا الدَّرورُ ... وفينا القُدورُ وفينا القَدورُ
وفينا الطّهورُ وفينا الطهورُ ... وفينا الظُّهور وفينا الظهورُ
وفينا البدور وفينا النُّدورُ ... وفينا الخُبور وفينا الحُبورُ
فنحنُ المكينُ ونحنُ الرًّكين ... ونحنُ السفين ونحن البُحورُ
قال: فلما جد جد فخاره، وقَدَّ قَدّ نُخَب افتخاره، وَثَبَ خطييُنا على
طنفستهِ، وأفاض من فرائِد منافستهِ، ثم هَمَرَ كالليثِ الهصور، ونفخ نفخة
إسرافيلَ عندَ التقام الصُّور، وقال: الحمدُ للهِ الذي بَسَقَتْ أغصانُ
رَحمتَهِ، واتسقَتْ أقمارُ حكمته، وطلعَتْ نجومُ مِنَّته، وأينَعتْ ثِمارُ
مَعونتهِ، وعالَتْ أمواجُ إعانتهِ، وتعالَتْ أفواجُ أعّنتهِ، أحمدهُ على
إنعامهِ العرمرم الرّجراج، وفلكِ إكرامه الكاملِ الأبراج، وعَدْلِه المضوع
الأثوابِ، وفَضْلهِ المفتح الأبوابِ، حمدَ مَنْ متَحَ من بحار إحسانهِ
فاعترفَ، وانمَدحَ لهَ دوْحُ امتنانهِ فاخترف، وأشهدُ أنه الواحدُ
الفتاحُ، الذي أسهبَ في مدْح عُباب معروفه المُمتاحُ، موجدُ الوجودِ، ذو
الجود الموجودِ، أرسلَ محمداً بالرسالة الصادحةِ، والمقالة الراجحةِ،
ووضوح السَّننِ وسُحوح السنن، صلّى اللهُ عليه وعلى آله، ما خَلَعَ هامَ
هلالٍ إهابهُ، وأصابَ صيّبُ هِلال أهابه، أما بعدُ: فإنِّهُ لمّا اشتهرَ
في الآمِنِ والمَخُوفِ، وانتشرَ بينَ الأسنةِ والسُجوفِ، مالنا مِنَ
الاحتباء، وجلالةِ الاجتباءِ، وعدم الإغراءِ، والفصاحةِ الغراءِ، ونفاسةِ
الأصول، المقدّسةِ عن النصولِ، الراشقةِ بسهام السؤدَدِ والنّصولِ، وجَبَ
علينا جابةُ الصنوف، وإجابةُ الضيوفِ، ودفاعُ العَارِ، وادراعُ الغار،
واطراحُ العناقِ، واقتناءُ العِتَاقِ، ومعاصاةُ العُتاةِ، ومواصاةُ
العُناة، وطولُ الخُفوقِ، وبذل الحقوق، ومحاسمةُ الغَبوق، ومناسمةُ
العَيّوق، فنهضنا بما افترضَ وأعنا من تعني بما اَفترضَ، فجاءَ بالإمْر
أمرُنا بُراحا، وآلى ألاّ يرومَ مدى الأزمنة بَراحَا تواظب بطونَ كفوفِنا
الظُّباة، ولا يصاحبُ عيونَ عقولِنا السُّباتُ. المتقارب:
فنحنُ الليوثُ إذا حاربُوا ... ففينا الثُّباتُ وفينا الثّباتُ
ونحن الصّفاةُ ونحنُ الصفات ... ونحن التُّقاة ونحن الثقاتُ
ونحن الجُباةُ ونحن الجُناةُ ... ونحن الكفاةُ ونحن الكِفاتُ
ونحن الكُماةُ ونحن الحماةُ ... ونحنُ الحياةُ ونحن المماتُ
فحولُنا لا يتناهَى، وفحولُنا بها نَتباهى وجلائلنا تَمون، وحلائلنا لا
تخونُ، ورفاقنا لا تخورُ، ورقاقُنا بالظِّفَرِ تَحورُ، وعُداتُنا تخيبُ،
وعداتنُّا تُجيب، فعندنا تفْقد السّخِابُ، ومنّا تعلّمَ الكرمَ السحاب،
المتقارب:
فنحن الغيوث إذا استُنْجِعوا ... ونحنُ الرَّباب ونحنُ الرِّبابُ
ونحنُ العقاب ونحن العُقابُ ... ونحن العِذاب ونحنُ العَذاب
ونحن الشَّرابُ ونحنُ السّرابُ ... ونحن الحبابُ ونحن الحُباب
ونحن الحِبابُ ونحن الجَنابُ ... ونحن الجِباب ونحن الجُباب
قال الراوي: فحينَ تَمَ يمُّ ما رواهُ، ونمَّ ثَم نشرُ ما نشرَهُ ورواهُ،
إلى المخاطبِ، وعَبقْتُ من مخاطبةِ الخاطبِ، فلثمتُ يديه، وسألتهُ انبعاثي
إليهِ، لأرتعَ بروْض عقيانِه، وأجمعَ بينَ خَبَرهِ وعيانهِ، ثُمَّ سَرَيت
مسرىَ النَّعامةِ الرَّبداءِ، وجَريت مجرَىَ العَجْلزةِ الجرداءِ، بجماعةِ
بسطوا خادَ الجَداءِ، وجمعوا بين لُحَم المُلْح والسداءِ، ولمّا أجَزْنا
ساحةَ رواقهِ، وجُزْنَا لانتجاع قُراقِرَ أفواقِهِ، ألفيتُهُ المصري ذا
المخائلِ الخالَصةِ، والحبائل القانصةِ، فسلمتُ تسليمَ منَ ظفِرَ بِحَلِّ
حَصَرهِ، أو بشِرَ بردِّ بَصرهِ، فأقبل يتكرَّهُ بي ببابِ خِبائهِ، مخافةَ
أخذِ حِبائه، ويُعرِّضُ بازدهائهِ، لكَبرِ دَهائهِ، فقلتُ له: على سبيلِ
الخاطبةِ لا المصاخبةِ، ومهيع المعاتبةِ لا المداعبةِ، أَينصرفُ القاسمُ
ومعارَفُهُ لا تضافُ؟ فقالَ تاللهِ لا يضَافُ أو يرخمُ المضافُ، أوَ ما
علمتَ أنَّ القاسمَ ينصرفُ، وأنَّ المعارفَ لا تضافُ، ثم إنَّهُ انسربَ في
سربه، ووجم، وانسحب سحابُ مجانبتِه وانسجمَ وجعل يُزعجُني باعتياصه
وانتقاصهِ، ويَحْصِبُني من وراءِ خَصاصهِ بحُصاصه، فعدت بعناد وهون،
وسوادٍ مرهون، وفؤاد موهونٍ، وإهاب عرْض لناب الإهانة مدهون.
المقامةُ الثانيةُ والعشرونَ الشّهر زوريَّة
حَدَّث القاسمُ بنُ جريالِ، قالَ: وصلت مذ رفضتُ الزّورَ، وركضتُ الجزور
وهجرتُ المزورَ، إلى بعض أعمالِ شهر زورَ، مع رفقةٍ ما احتلبُوا ثُدىَّ
ثوابٍ ولا انقلبوا إلى جَزالةِ جوابٍ، ولا عرفوا بجَمْل الجوائح، ولا
وصفوا بحَمْلِ مرهفاتِ الصفائح، تلدغ لدغَ الرقيبِ، وتَفِرّ فِرارَ
اليَعاقيبِ، وتمْعنُ في التنقيبِ، على اقتناء النقيب: الطويل:
تُجلَبْبُني وخزاً وتحسُبني وزاً ... وتصحُبني غَمْزاً وتذكرُني رَمْزَا
وتُوسِعُني نَبْزا وتعقِدُ لي عَزاً ... وتطلُبني هَمْزاً وتورثُني لَمْزا
قال: فلم أرَ لردعَ ذيّاكَ الضلالِ، وتعاظُل ذاك المرض العضال
سوِى حسمٍ ريح تيك النبيثةِ ومبايَنةِ تَفَل أعراضهم الخبيثة، ففارقتهم
مفارقة من غنم وفاز، وظفرَ بنيل مطلبهِ واحتازَ، ولمّا اتقيت قشف حالي
وألقيت عصي ارتحالي جعلتُ أقتنصُ المعائشَ، وأعاشرُ الثابتَ والطائش،
وأسبرُ القارسَ والسائل، وأخبر الراجحَ والشائلَ، إلى أنْ عادَ سِدْرُ
الإفادةِ مخضودِا، وطَلْحُ المُطالحةِ منضودا، فبينما أنا أميلُ عن تلكَ
الصِّحاب، وألتمُس محادثة ذوي الاصطحابِ، وأسيرُ مع مكابدةِ الكُروبِ،
سيرَ المُهْرَبِ الهَروبِ، ألفيتُ دكة مرصوفة وعصبه مصفوفة ورتْبةً معروشة
ومصطبةً مفروشة شيخاً يشير بيِدْيِهِ إلى غلمان لديه ظاهر الكرامةِ وافرَ
الصرامةِ، تعرَق لوطأتهِ الأصلاد وتفرق لسطا سطوته الألواد فدنوتُ دنوَ
الفَروقةِ، إلى فتيانهِ المفروقِةِ لأعرف من القِاعد، ولم أسست هاتيك
القواعد، فقيلَ لي: إنَّهُ محتسبُ هذي المَدَرة وجاذب برة هذه البررة الذي
نبْلُ نبل عَدْلهِ وفاق، ومهّدَ بحسن سياسته الآفاق فقلت تالله لا أزائله
إلى مساورةِ النوم، لأنظر كيف إيالةُ ولايته بين القوم، ثم إني قَعدْتُ
تلقاءهُ، لأبصِر جَودَة حكمه ورُواءهُ، فما بَرِحَ يَنْكُثُ ويُبْرِمُ،
ويُخْمِدُ ويُضْرِمُ، ويصل ويصرم، إلى أنْ تَصَف شباب يومه، وعصف هبُوب
نومهِ، وحينَ هوم رأسه، واستحوذَ نعاسُهُ، نهضَ من مَصْطَبتهِ، إلى صهْوةِ
رَكوبتهِ، طالباً طريقَ عقوته ضارباً بحسام صولتهِ، فانثالت الأعبدُ بينَ
يديه، وتكاثفتْ كتائبُ المهابةِ عليه، فلم استطعْ الوصولَ إليهِ، فتركتهُ
حتى ولجَ في مَضيق، ووقفتُ له وقفة مضيق ثم جعلتُ أجتليهِ، وأسرحُ بسابح
التبحُرِ فيهِ، فإذا هو السِّيْدُ القملّسَ، والسيِّدُ العَمَلس
الغَمَلّس، أبو نصر المصريُّ شامةُ عرْنين زمانهِ، وأسامةُ عَرينِ
إزمانِه، فأحجمتُ إلى أنْ أفَلَ في حجابهِ، واتّصلَ بإنجابه، ثم وقفتُ
ببابهِ، وأنشأتُ من سيْبِ ما اكتسبتهُ من عُبابهِ، ما يتضَّمنُ ورودي.
ومحاسمةَ كِنِّي ورودِي وكثرةَ الاصطفاقِ، ومعاشرةَ تيكَ الوجوهِ
الصّفَاقِ، ثم دفعتُها إلى خُدّامهِ بعد إحجام رأى الرَويّةِ وإقدامهِ،
فدخلَ بها أحدُهمَ وعادَ، وفَهمَ مضمونَها واستعادَ، ولَما أذِنَ بولوجيَ
واستبشر بمباعدة علوجي وبَصُرَ بحضوري، وسُرّ بتزايد سروري أقعَدنِي مَعْ
صرامتهِ، وطولِ مصارمتهِ، وشدّة شذَى حُمتهِ، أمامَ مسَاند مناسمتِه، ثم
قالَ لي: تالله لقد ساءني سفهُ رفاقكَ، وراءني الزَّوَرْ مزوراً لخوفِ
إخفاقِكَ، أو ما علمتَ أنّ مَنْ عاشرَ الأوشاب، صدِئَتْ مرآة مرؤته أو شاب
وإني لأظنّكَ كنتَ تظُنُّ، أنّني بحلوِ محاضرتِكَ أضن، فلستُ بقالٍ قريني،
إذا احلولكَ دَريْني، أو لاوٍ عن جليسِي، إذا أعظوظمَ عَليسي، لا ومَنَ
سيرَّ الدرى، ورفع الفلكَ الكُرىَّ، بل انتصفُ لعصفورِي، منْ تعاوِر
نسوري، وأنصبُ جسوري لطالب ميسوري، ثم أنشد: الطويل:
وحقِّكَ مأكلّ امرئ مُدّ بَاعُه ... بذاكرِ عَهْد أو صديق مُصاحبِ
فلا تنسَ إنْ مُدّتْ يداكَ بدَوْلةٍ ... تقادمَ ودٍ من خليلي وصاحبٍ
قال الراوي: فلمّا بنْيتُ على حلائلِ مُغاصهِ، وثنيتُ جيدي لجآذر
اقتناصِه، أثنيتُ عليه ثناءَ الحدائقِ على النسيم، والناظرِ على الناضرِ
الوسيم، ثم إنَّه حَمِدَ مهْد المُهادنة والقماطِ، وألقَى قِنَاعَ
قطْرِفتهِ وأماطَ، وعَرَّضَ بحضورِ مائدتهِ، ونشرَ مطائب عائدته، فأقبلنا
عليها إقبالَ من اقتلَع البَشامْ، وخلعَ الأحشامَ، فحينَ استرفعت الصحافُ،
واندرأتْ ضخامُ الخِدمة والنِّحافُ، وهجمتْ جحافلُ الإمساءِ، وانسجمتْ
سحائبُ ليلتِنا الطّلْساءِ، أمرَ بسدِّ الطريق، وفتح أفواهِ الأباريق،
وإحضار العَبهرِ الوريق، واستحضارِ العَطرِ الرِّيقِ، ولمّا جالتِ
الأكوابُ، ومالتِ الرقابُ، ونُشرَتِ الرموس، وتنمّرتِ النموس، وقلتُ له:
أما سئْمتَ مع ارتعاش بنامِكَ، طولَ ارتشافِ مُدامِكَ، ومللتَ مَعْ بياض
الذوائبِ، احتساءَ النضارِ الذائب، فإلام تدَّرع عاركَ، وتُخمدُ استعاركَ،
وتمحو وقارَكَ، وتحملُ زقَّك وقارَكَ، قال القاسمُ بنُ جريال: فحل لح لَهُ
متَابى، ولَمَحَ مُلَحَ عِتابي، حرق أسنانه، وغيض رئمانه وغضغض مرجانه
وأنشد والدمع يرحض أجفانه: السريع:
لاَ تلُم المرءَ على شُرْبهِ ... رحيقَ صِرْفٍ خافضٍ شَانَه
فأنْفَسُ الناس الذي زانَهُ ... مَلابس الفَخْرِ وإنْ شانه
قال: فلما سلمتُ من سُموم اَنزعاجهِ، وعلمتُ أنّهُ لا يفرق بينَ أبنوسهِ
وعاجهِ، ملُتُ إلى تسكينِ عَجاجهِ، وتحريكِ مُجاجهِ، وطَفِقَ هو يقضِّف
خَصرَ مخاصمتهِ، وينظِّفُ دارَ دأماءِ منادمتهِ، لئلا يُعمَّنا إعراضٌ،
ولا يَغُمُّنا غَضَبٌ وانقراض، ولَمْ يزلْ يُسكّنُ هُوج حَردِهِ ويُثقَّفُ
عوجَ لَدَدِهِ، إلى أن أزالَ استيحاشَنا، وضمَّنا مخدعُ المخادعة
وإحتاشنا، ثم إنّنا عُجْنَا على تجديدِ درَيسنا، وتخديد خدودِ خندريسِنا،
حتى طربَ الحزينُ، واضطربَ العقل الرزين، وجنحت النواقبُ، وملّ القلبُ
الناقب ولمّا وصلَ إلى المُقَلِ نصيبُها، وحَصَلَ من سحابِ الوَسن ما كانَ
يصيبُها، هَبَّ من رُقادهِ، وشكَر نشوةَ عنقادِه، فسلّمْتُ عليه سلامَ
مَنْ عرَجَ في مَعارج دارهِ، ودرجَ في مدارج استهتارهِ، ثم استأذْنتُهُ في
ذَهابي، مخافةَ ملل إسهابي، فرمقني بطرفهِ، ورشقني بسهام ظرفهِ، وقالَ لي:
يا بنَ جِريال أتطمعُ أن تسهل بلا حَزْنٍ، أو تسكر بهذهِ الدسكرة من غيرِ
وزْنٍ، لاَ واللهِ حتى تزنَ ما حصك، أو ترهنَ على ثمنِ ما ارتضعتَهُ
قُمْصَكَ، أو ما علمتَ أنَّ مثَلَك أرصدُ، وأننّي أحصدُ ولا أزرع، فكيف
أزرعُ ولا أحصدُ، فخفِّضْ من بأسِكَ، وسَلِّ نفسَكَ في مخالعةِ لباسكِ،
قالَ: فأقبلتُ أقْلبُهُ في قالبِ المزاحةِ، وأسلكُهُ في سُلوكِ
الاستراحةِ، وهو يتصلبُ، ويتقلبُ ويتألبُ، إلى أن علمتُ أنَّهُ لا بدَّ من
استلابي، وكسفِ بياض صَفَا مصافاتي ولابي، فسمحتُ له بصّرتي، وحسرتُ له ما
بين ثنتي وسرّتي، فأبىَ إلاّ أنْ أشفعَها بأثوابي، رهنَاً على رحيق
أكوابي، فألقيتُ إليهِ الصّفيَّ، وأظهرتُ له الخفيَّ، وخشيتُ أرشيةَ
شرِّهِ، والنّفيَّ، وحينَ عضَضتُ كفي، وقبضت وقفي، وبايعتُ واللجُّ على
قفيًّ، لعنت عقبي ذلك التخويلِ، وَذَممت طالعَ ذلك التَّحويلِ، وَجَرِعْتُ
عَلْقَمَ ذيّالكَ التَّنويلِ، وخَرجتُ مِنْ بيتهِ وأنا لا أمْلك سوى
السراويلِ.
المقامة الثالثة والعشرون المجدية الفارقية
أخبر القاسمُ بنُ جريال، قالَ: مِلْتُ مذ مللتُ مصاحبةَ الحلالِ، ومجانبةَ الظِّلال، ومنادمةِ البيدِ، ومسابرة الأساودِ والسِّيْدِ إلى اعتلاءِ الحشيَةِ، وامتراءِ المشيّةِ، وشراءِ الشّملّةِ الحُوشيةِ، فلم أزل مدَةَ طلب تلك الوتيرةِ، واقتناء الطنافس الوثيرة، وإصلاح السريرة، ونهوض جِحَفْلِ المريرةِ، أجانبُ المنافقينَ، وأشاورُ المرافقين، وأسترشدُ المفارقين، في استيطانِ ميا فارقين، فكلٌّ أجمعَ عليها، وحضني على الورودِ إليها، فحينَ أتختُ بها كَلْكَلَ المَرامُ، ونفختُ في مَعْمَعَةِ ذلك الإضرِام، بادرتُ إلى تحصيلِ ما لَهُ ألويْتُ، واتّصلُ بأناملِ الغَرَض البَيْتُ وكنتُ أيّانَ نشر هذا الإنابِ، وكسرِ سنِّ بابِ النوائبِ والنابِ، سَبْعتُ ستةَ سبعتْ أربابَ الجرائم، وسَعَتْ حولَ أركان كَعْبةِ بيتِ الغنائم: الطويل.تجودُ بما تَحْوي جِزافاً وتجتَنْى ... ثِمارَ الثّنا في كلِّ أغبرَ قاتم
ففي كلِّ فكٍّ منهمُ ألفُ خَاتِم ... وفي كُلِّ كَفِّ منهمُ ألفُ حاتم
قال: فبينما نحنُ ذاتَ يوم نفتحُ أبوابَ جِنانَ الجَذَلِ العِراض، ونسرحُ في سرابيلِ سلامةٍ سالمةٍ من الانقراض، إذ عَطَفَ بعض أصحابهِ، ساحباً جلابيبَ اصطحابهِ، وقالَ: يا ذوي القرائح المهنديّةِ، والمحامدِ المحمديّةِ، ما لكمُ ارتضيتمُ القطيعةَ لَجاجاً، واتخذتُمْ مباعدةَ نزيلَكُم منهاجاً، واعتضتُمْ بالوَشَلِ الأجاج، عن العذْبِ الثجَّاج، وبَنْزرِ الزَّجَاج، عَنِ العَرْفِ العَجَّاج، أو ما علمتمُ أنَّ غِثْيانَ الفُضَلاءِ يوَرِثُ الثوابَ، ومقاطعةَ العلماءِ تعْقُبُ العِقابَ، فإن أحْبَبْتُمْ رَفْوَ ما خرَقْتُم، وطَفْوَ ما أفرقْتُم، فأحدِجُوا له نياقَ القيام، وأطفئوا بهِ سَوْرةَ لَهَب هذا الهُيام، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلمّا عجمتُ أثْلَ نَيْلِ لُبانتهِ، ورأيتُ نَثْلَ نَبلٍ إِبانتهِ، قلتُ لهُ: مَن المُشارُ إليه، والممتارُ من مِيَر هذهِ النباهةِ لديهِ، فقال شيخ ظاهرُ الثطَطِ، بارزُ القَطَطِ، مرتعشُ البَنانِ، منتعش الافتنانِ، تتدفَّقُ بحارُ الحِكَم من معانيهِ، ويتخلق بأخلاقِ المفاخرةِ مَنْ يُدانيهِ، لا يُحلُّ ما لَهُ بُطونَ الرواجب، ولا يُخلُّ مَدَى الأزمنةِ بظهورِ الحَسَنِ الواجبِ، ولم ندرِ بأيِّ المدَرِ دارُه، ولا مِنْ أيِّ الشَّجَرِ خُرفَتْ ثمارهُ ولم نَمكّنْهُ مِنَ الإرقالِ، مُذْ نزلَ عن ناقتهِ المرقَالِ، فحينَ تلقَّيتُ مطائبَ طَابهِ، واستسقيتُ سحائبَ مُستَطابهِ، أيقنْتُ أنَّها صفاتُ شيخِنا المِصْريِّ، ذي المِخْلَب الصائدِ، وناصبِ المصايدِ للعصائدِ، فقلتُ لهم: انهضُوا بنا نَسيرُ، فالرأيُ فيما بهِ يُشيرُ، وأنا في حَلْبتِكُم المؤمَّلُ، والناظرُ بَرْقَ مُزْنِ الإفادةِ المؤِّملُ، ثم إنَّنا استصحَبْنَا غُبَّر الكِيْس، وسِرنا على مِثالِ الإنكيس لنلتمسَ سَلْسالَ ذاكَ النفيس، مِنْ أنفاس ذلكَ الدَّريس، ولما قطعْنا مسافةَ السِّراطِ، وانتفعنَا بسَلِّ ذيّاكَ السُّراطِ ، أَلفيتُ أبا نصرِ المِصْريَّ راميَ ذلكَ البِرْطيلِ، وقانصَ صُيودِ تلكَ الأباطيلِ، فبادَرِتُ إليه قبلَ رفاقي، لِما سبقَ مِنْ سَوابقِ اتّفاقي، فعادَ انكيسنا ألحيانا، وشْمِنَا سُحُبَ المَسرَّةِ حين حيَّانا فأحيانا، ثم طفِقَ يمطرُنا بَوْسمِى آياتهِ، ويُتحِفُنَا بوليِّ حُلْوِ حكاياتهِ، حتّى أنسانا شَظفَ العَيْش العنيفِ، وشَغَلنا عن تصنيفِ ثمار التصانيفِ، وحتى مُنِحَ لألفاظه الشافيةِ، بأولِ الوافية الكافيةِ، ثم ما برحٍ يرمي بسهام المسائلِ، ويَعُومُ ببن تيكَ المسائل، لإجابةِ القانع والسائلِ، إلى أن تخلّلَ خِلالَ لَفْظِ ذلكَ الربيع، ذِكْرُ الحَذْفِ منَ صناعة البديع، فقالَ بعضُ مَنْ حضرَ حضرته، وشكرَ مناظرتَهُ: أيها الجوادُ السابحُ، والعهادُ السائح، إنّ قصارىَ ما سمِعْنا، ونَفَحَ أفهامنا فهِمْنا، حَذْفُ ما نُقطَ بوجهِ عَروس البراعةِ الدَّعْجاءِ وعكسُهُ مِن حروفِ الهجاءِ، فهلْ تستطيع بأن تمنحَنا مِنْ فائضِ فضلِك المألوفِ، كلمة تَشتمِلُ على أقلَّ مِن عِدَّه هذهِ الحروفِ، لنجعلها واسطة تِقْصارِكَ معَ اقتصارِكَ وخاتمةَ اَعتصاركَ مَعَ اختصاركَ، فقالَ لَهُ: يا هَذا لَقَدْ شِمْتَ سحاباً غيرَ خُلّب، وهِمْتَ بيَهْمَاءِ صَدْرِ قَلْبٍ قلب، فليبادِرْ مَنْ شَاء باَقتراحهِ، لأجلوَ عليهِ ما يُغْني عَن اَجتلاءِ راحهِ، فإنْ رُمُتم ببِرّةِ النثرِ جذبتُها، وإنْ شِئتمُ بشَذاةِ قاضبِ القريض قضبتُها، قال: فَهَبَّ منهم فتىً أحاطَ عِلْماً بأدواءِ السقيم، وفاقَ الحسَنَ بعلاجهِ الحَسنِ المستقيم، وقالَ له: إنْ أحببت أن أنثَّ وصفَكَ نثاً، وأبثَّ ببنَ الملأ رصفَكَ بَثاً، فانظِمْ لا اَستسمنت غَثاً، جُمْعَ قولي: خُذْ فَظ كَزّ ضِغْثاً، ولستُ في فضلكَ من الممترينَ، ولم نَزَلْ بصَفْوهِ من المسترينَ، فاطفحْ ليستهلِكَ بكَ الحَقينَ، وَعندَ جُهَيْنةَ الخبرُ اليقينُ، قال الراوي: فحينَ نَضَبَ كلامُ بطاقتهِ وقضبَ قَرَن ما اَقترنَ بطاقتهِ، ضمّرَ خيول طاعتهِ، وتنَمَّرَ عندَ إهراعِ المعاني لإطاعتهِ، ثمَ جعل يُجيلُ حسامَ لسانهِ، لاستخراج نُخبِ حِسانهِ، ويُحَمْلِقُ بحركةِ إنسانهِ، لِجَلوةِ عرائس حُسّانهِ، ولما تَمَّمَ مرامهُ، وحرَّرَ ما رامَهُ، قال: دونكَم روضة الرَّاوِد، وروضةَ الواردِ، فاغتنموا ثُمر هذا الصّرام، واَستلموا حَجَر حِجْرِها
بارحاتِ الاحترام، فالأريبُ من اغتنمَ قمرَ قَدْرِها قبلَ
الأفُولِ، وميز بعَيْنِ عَقْلهِ بينَ بَياض التِّجابةِ والفولِ، ثم إنّهُ
لين الأفئدةَ واَستمال، وبيَّنَ لاحِبَ حَقْحَقةِ حِقاقِ المحاققةِ وقالَ
بعدَ أنْ أعادَ رَبْعَ شَكِّهِ دَكّاءَ وملأ المجلسَ تململاً ومُكاءَ:
الخفيف:تِ الاحترام، فالأريبُ من اغتنمَ قمرَ قَدْرِها قبلَ الأفُولِ،
وميز بعَيْنِ عَقْلهِ بينَ بَياض التِّجابةِ والفولِ، ثم إنّهُ لين
الأفئدةَ واَستمال، وبيَّنَ لاحِبَ حَقْحَقةِ حِقاقِ المحاققةِ وقالَ بعدَ
أنْ أعادَ رَبْعَ شَكِّهِ دَكّاءَ وملأ المجلسَ تململاً ومُكاءَ: الخفيف:
خَذّ كفافاً كفاكَ إفْكَ فِظاظٍ ... أخذَ فَذٍّ إذا أضاءَ ذَكاءَ
ذاكَ ذاكٍ زَكا ففاضَ زَكاءً ... ذاكَ ذاكٍ ضفَا فغاظَ ذُكاءَ
فكُّ كسفاً أضافَ ألفاً إخاءً ... كُفَّ كَفّاً أغاث إلفَاً فَفَاءَ
غِثْ فُأفٍّ إذا غَزاكَ كَزاز ... فِضْ خَضَاضاً إذا أفاضَ غُثَاءَ
قال: فلمّا جَلَوْنا كرائمَ عيْنِها، وبَلَوْنا مَطاعِمَ معَينها،
وسُفْنَا مَريْجَ صُوارِهَا، وَرشفنَا مزيج عُقارها، عَلمْنا أنه ذو
الفَضْل الطافح، والبنان المُصافح، ثُمَّ إنهُّ رتَكَ إلى مِحْرابهِ،
وتركَ كُلاً يَنْتَجعُ وابلَ اقترابهِ، فأرسلْنا إليهِ بهديةِ أثقَلهُ
أوقُها، وامتلأتْ بها صُفَّةُ الصِّفَةِ وروقُها، فردَّها إلينا، ومَدَّ
حِبالةَ القناعةِ لدينا، وقالَ: أنى أمرح لما تمنحونَ، وتلجونَ له بابَ
الحِيَلِ وتفتحونَ، فلسْتُ أجنحُ لما تجْنَحونَ ولا أجْمَحُ للحِرْص الّذي
إليه تَجْمَحُونَ، ولا أفرحُ بحُلْوِ الحُطام الذي به تَسْمَحَون، بل
أنتمُ بهديتكُم تَفْرحونَ قال: فانطلقَ كلٌّ إلى وكرِهِ، آمناً من حبائلِ
مَكْرهِ، مُفْكراً في دَلُوح غرائبهِ، متحيّراً بمَدَدِ لوح سحائبهِ،
ولّما رسَخَتْ قَدمُ ساقِ المسرّةِ الريانِ وانسلخَتْ أُهُبُ الظُّلَم عنَ
مرابضَ الظّيَّان أقبلنا بمنصُلِ الصلةِ الصقيلِ، معتذرينَ إليهِ من ذلكَ
التثقيل، فألفيناهُ قد بلقعَ المكانَ، ودخلَ في خبرِ كانَ، تبكي له
الحُجولُ، وينغَقُ لفراقهِ الأعورُ الحَجولُ، وقد أودعَ لناُ جزازةً،
غادرتْ بقلوبِ مقلِّبيها حَزازةً، يقبّلُ حسّانُ حُسْنَ فيها، ويقرع
حَلْقَهَ بابِها، فإذا به قد كتبَ لقولُ فيها: مَنْ خلَطَ في معاشرته
اعْتَلَّ، ومَنْ تسلط علىَ علاج مرض جهالتِهِ أبلَّ، ومَنْ سلكَ سبيلَ
الزللِ زَلَّ، ومنْ لَزِمَ زِمامَ بازلِ المذلةِ ذَلّ، ومَنْ ضَرَبَ بحدِّ
حُسام حَسَدهِ حَلّ، ومنْ شَدَّ إزارَ أزرِه بغيرِ الأَحدِ اَنْحلًّ،
ومَنْ اشتارَ شُهْدَ شافي المُشاهدةِ وسَلّ، وخَشيَ لَسْعَ إبَرِ نحل
الملالةِ اَنسَلَّ، قالَ القاسمُ بنُ جِريالٍ: فحينَ حَلَلْنَا حَشاهُ،
ورَحَلْنَا برَواحلِ ما أنشأهُ، مدحْنَا ما سَلَفَ مِنْ سُلافتهِ،
وَحَمدْنا خَلْعَ خَلع سلطنةِ الشرَهِ وخِلافتهِ، ولم تزلْ تعترفُ لَهُ
بما حَظينَ، وأضحيتُ لهم بعدَهُ الحَظينَ، إلى أن شَدَدْتُ الوَضِيْنَ،
وخُضْتُ بعدَ مُضِيِّهِ الأرضين.
المقامةُ الرابعةُ والعشرونُ الحَلبيّة روى القاسمُ بنُ جِريال: قالَ:
حَلَبْتُ بحَلَبِ أخلافَ العناقيدِ، أيامَ إقبالٍ البطرِ الوَقيدِ،
بمُخْدع لا يُخامَرُ بخُمْرةِ هُمومٍ، ولاَ يُغادِرُ تَرحاً على فؤادِ
مهموم، معْ معشَر جَدعوا أنوفَ نِفاقِهم، واَعتلَقُوا بقُوىَ قَرَن
وفاقِهم، لا يُكدِّرُ صَفاءَ مُصاحبتهم مَلالٌ، ولا يُغيِّر وفاءَ
موافقتِهم، اختلالٌ، ولا يُلْحَقُون بمباحثةِ رجالٍ، ولا يُرهَقون
بمواهقةِ ارتجالٍ، ولا يذوقون عذوفه مُحالِ، ولا يطمعون في ارتحالٍ إلى
اَنتحالٍ، فبينما نحنُ نرتعُ في حدائقِ المُطارحاتِ، ونَقْطعُ بَسابسَ
المناوحاتِ بالمُصافحاتِ، إذ سَنَحَ لنَا مُجانبةُ الجُدرانِ، واَجتلاء
وجوهِ غَرائرِ الغُدْرانِ، بعدَ
أن مَلِلنا بياضَ الغُرَفِ العليَّةِ، ومِلنا إلى مناوحةِ عوائقِ
العُرَفِ الجَليَّةِ، فحين حَصَلْنَا الوَرْدَ الجَنيَّ، ولَمحْنا الوِردَ
الهَنيَّ، واَحتلسْنا البِساطَ السَّنيَّ، واختلَسْنا المكانَ
السَّوْسَنيّ إرتدْنا بُقْعةً اَستكملَ سناها، واَنتثرَ بها لؤلؤ السحائب
وسنَاها، ثم أَقبلْنا نتمايحُ تَمايُحَ المِفْراح، وتتغلَّبُ على جَحافلِ
الإفراح بالأَفراح، تَمْنَحُنا فنونَ الشَّمائلِ، وتُصافحُنا أناملُ يمينٍ
السعادةِ والشَّمائلِ: الكامل:
فكأنَّنا فيهِ البدورُ وروضهُ ... بَيْنَ الجداولِ مُذْ جَرَيْنَ سمَاءُ
وكؤوسُنا فيها النجوم وزهْرُها ... يَحكي المجرَّةَ والمُدامُ سناءُ
قالَ القاسمُ بنُ جريالٍ: فلمّا غامتِ السماءُ، وعاقتْ في بِحَارِ
إفصاحِها النُّدماءُ، أقبلَ علينا شيخةٌ ظاهرةُ الشَّمَطِ، مستحسنةُ
النَّمَط واهيةَ الطِمْر، وافيةُ الإمْر، تَزُمُّ شيخاً اَستغنى بها عَنْ
عصاهُ، ما خالفَ أبا مُرَّةَ قَطُّ ولا عَصاهُ، وتلوهما أطيفالٌ
كالنَّسْرِ الطائرِ، تحت عثْير وخْدهما المتطايرِ، تَضَعُ بشعاف فرنجها
وجثث بياذق شطرنجَها، فأخذوا يفحصونَ بالصعيد ويحكوَنَ سعفَ الصعيدِ،
بصعيدِ ذلَك الصعيدِ، إلى أنْ وصلُوا إلى مُراحنا، واتصلوا بشمُوس
رَاحِنا، ولّما قاموا لبسْطِ الكفُوف، وشَامُوا بارقَ الوكوف، وتلبَّبُوا
لاقتناص القُرقُوفِ، وتأهَّبُوا للوقوفِ، تأهُّبَ العُمّال لأكلِ الوقوف،
تنفَّسَ الشيخ تنفّسَ الكئيبِ، وتحرُّق تحرقَ النازح الحَريبِ، وقالَ:
مجَّدَ اللهُ عَرْفَ عُرفكمَ الفائح، وقلَّدَ أعناقَ الأمم بعقودِ جُودِكم
والمنائح، ونَّزه عُبابَ عَيْنِ معونتكمَ النضوبِ وضَوّعَ عَبيرَ مَضْرَبِ
إفضالِكم الضافي الضرّوبِ، أفُهمكُم وأنتم أولو الأفهام، وأعلُمكِم
والرَّؤيةُ كافية عن الإعلامَ، أنّني مِنْ أَشْمَخ شُنْخُوبٍ، وأبْذَخ
شُؤْبوبٍ، وأفْصَح فَصيلةٍ، وأفسح وَصيلةٍ، لَمْ أَزلْ رفيعَ العِمادِ،
وسيعَ الغُمادِ، مبيَّضَ المَخارق، مُقرَّظ المَرافقِ، أًعطى الطارقَ،
وامتطى النّمارقَ، وأنادمُ الشارقَ، وأُصادِمُ البيارق، وأُضْرِعُ
الأساودَ، وأُتْرعُ المزاودَ، وأَعْقِرُ الجِران، وأغفرُ الحِرانَ،
وأَنحَرُ الرُّبابَ، وأَسْحَرُ الأَلبابَ، فحين بان نزولُ الحَسْرَةِ،
وفُلولُ الجسْرَةِ، وحانَ حُلولُ العُسْرةِ، وخُمولُ الأسرةِ، نجمْتُ
غُرُّةَ هذا الهلالِ، بسرابيلِ الاستهلالِ قاصداً دارَ السلام. رافلاَ في
سَنَوَّرِ الاستسلام، فبينا نحن نخِدُ ونَخب، ونُسْئدُ ونَدِبُّ، برزَتْ
لنا كتيبةٌ وارفَة لبَصَرِ الرامقِ، متضاعفةُ الزَّردِ واليلامق، فاستدعتِ
الكفاحَ، وقد تضوَّعَ تَفَلُ المحاربةِ وفاحَ، فبلتِ النُّحورَ والبنائقَ،
واستأصلتِ المُقاربَ والفائقَ، وأسَرتْ مِنّا رجالاً، وصيَّرتِ النساءَ
بيننا رجالاً، فلمّا حَبطَ مَنْ نَفَعَ، وهبط ما ارتفعَ، وجَزَمَ مَنْ
نَصَبَ، وانجزمَ ما انتصبَ، وقطعَ مَنْ وَصَلَ وانقطعَ ما اتّصلَ، وقلَّ
ساعدُ المساعدةِ وفَلَّ، وصلّ لَحُمُ لُحَم المُلاحمةِ، وضَلّ، وحلَّ
حُزْنُ حزنِ المجانبةِ وجَلٌّ، وشَرقْنا بتلكَ المُصيبةِ، ورُشقنا بسِهام
السَّدرِ المُصيبةِ، وتحنظلت المواردُ وتعطلتِ العوائدِ وضرَعْنا لضغم
النوائبِ، وصُرِعْنَا بشدةٍ كاملة الشوائبِ، واَمتطَيْنا بطونَ الشّوامتِ،
وبِتْنَا من الشامت بِليلةِ الشوامتِ، أقبلْنا نستعطفُ مَنْ سَفَلَ
واعلولَى ونستوكفُ ما رَخُصَ واَغلولَى، وقد قدِمْتُ عليكم بالإفال، بعدَ
إعجالِ الإجفالِ، ثِقَةً بحُسْنِ المَصيرِ، وطُول ذَلاذل الذيلِ القَصيرِ،
ولظني بأنكم لِحَجِّ هذهِ الحُرَم الحَرَمُ، ومن جَودةِ جُودِكُم تعلّمَ
الَكَرَم الكَرمُ، وأنتم رُعاةُ الأوان، وحُماةُ الحَرْبِ العَوان، ثُمَّ
إنّهُ مادَ لاَستخراج الركَازِ، وأخذت فرائضُهُ في الاهتزازِ، وأقبلَ
إقبال الصَّارم الهَزْهَازِ، وقالَ: الطويل:
ألا قاتلَ اللهُ الزمانَ لأنَّه ... أخو جنَف ما زالَ في العَهْدِ ناكثا
يُعاندُ أهلَ الفضلِ ظُلماً ولم يَزلْ ... كثيتَ النّثاشَثنَ الرَّبائثِ
حانِثا
زَماناً به يُمسي العَليمُ مضيَّعاً ... أثيثَ الغُثا إرْثَ الرَّثاثةِ
وارثا
فآسُوا أخا بُوس رَشيقَ كِنانة ... رَمَاهُ بِها كفُّ الحوادثِ
عابثا
وأمسى به ذيْبُ التذلُّلِ والأَذى ... شديدَ الشَّذَى حِلْفَ العَداوةِ
عائثا
لأصبحَ من ضُرّي العُضالِ مخَلّصاً ... أبا نَشَبٍ حُلْوَ المَدائح نافثا
ألا هَلْ فتىً يهوَى السَّماح فينثني ... إلى بكْرِ بَذْل في الأكارم طامثا
فليسَ يذودُ الضَّيْرَ إلاَّ مُفضَل ... أخو كَرم ما اَنفكّ للحَمْدِ حارثا
قالَ الراوي: فلمّا جَذّ جِلبابَ ضَراعتهِ، وبَذّ أهلَ المعالي بعِظَم
عالي عِبارتهِ، بادرَتِ الجماعةُ إلى حَسْم رعافهِ، وعِلاج سَعْفةِ رأس
بُؤسهِ وإسعافهِ، وكنتُ حِيْنَ اَبتليْتُ نَغَماتِ عِيدانهِ، وجلَّيْتُ
بجوادِ العَجَلةِ لعَجَم أنابيبِ لدانهِ، وتَخلَّيْتُ مِنْ خرائدِ
عِقْيانه، وتحَلّيْتُ بنَفيس فرائدِ تبْيانهِ، أوَدُّ أَنْ أَخْبُرَكُنهَ
طِلْعهِ، لأجبرَ كَسْرهُ على قَدْرِ بُدُوِّ طَلْعه، ولم يكُنْ يَضَعُ عن
وَجْههِ أكمامَهُ، ولا يرفَعُ عَنْ قَواريرِ قَرارهِ صِمامَه، ولمّا
غطَّاناَ بفقرِ عُقارهِ، وأعطانا نُقْرَةَ نُقَرِ فقاره، واستنشقَ نَشْرَ
معْروفنا وشَمَّ، وشَمَّرَ شمْلةَ التوجّهِ وأشَمَّ، نَكِرْتُ شِدّة نكره
الجامح، وأدركتهُ كالبرقِ اللامع، فألفيتُهُ القسْوَرَ القَيْسرِيَّ، أبا
نَصْرِ المِصْري، وهو يسحبُ أَسافِلَ سربالهِ، وينحرفُ عن عيالهِ
لاغتيالهِ، فأقبلَ إليَّ وقال لي: يا بن جريالٍ أعرفُكَ ذا دِرايةٍ
واصبةٍ، وهِدايةٍ غير ناصبةٍ، فكيف فاتكَ ما ألفيتهُ مُحالاً فقلت لهُ:
لامتناع وقوع المعرفةِ حالاً، فقَهْقَهَ حتّى ذرفَتْ مآقيهِ، ورفَعَ
القِناعَ عما كان يَقيه، فقلتُ لهُ: أراكَ تكرعُ في بحار انجفالكَ،
وتخلَعُ خِلَع احتفالكِ بأطفالِك فقالَ لي: جلَّ مَنْ جملكَ بجلالة
الجَلهِ، وخملَك ثِقلَ الغَباوةِ والبَلَهِ، أوَ ما علِمت أن سقى سم سين
السياق أيسر من ولوج رجل الرجل بحاء حلقَة صادِ الصِّداق فكيف يسوغ لي
الزواجُ، وقد خبُثَ بهذهِ الأزمنةِ النتاجُ، فاحْذرَ هذهِ الذلةَ
والمَنْدمة: وذَرْ شَرْطَ شَرِّ هذِي الشرائطِ المِحجَمَه: السريع:
والمِهرمَه عن طلْبهِ زاهداً ... لتتَّقِي المسْقِمَ والمهْرمه
والزردمه عنه إذا عِفَتَهُ ... لتُنْجي الجُؤْجؤَ والزّرْدَمه
ثم قالَ لي: اَعلمْ أننّي استأجرتُهم وجارتي، وقد انقضتْ مدّةُ إجارتي،
واسترِطَ كلٌّ في طريقهِ، وخَلَطَ سَمْنَ ما تسنى لَهُ في دقيقهِ، فارجع
إلى سمائكَ، وامتِرْ رائقَ نمائكَ، واقتُلْ بِكْرَ نُدمائكَ، بُمرْهَفِ
يدمائكَ، قال: فعدْتُ وقد غدَ قواضبَهُ الصقالَ، فأخبرتُهُم بما قال،
فذمُّوا ذميلَها المُماذِقَ، ومَكْرَها الحاذِقَ، ولَعَنوا فيلَ رُقْعةِ
الوَقْعةِ والبياذقِ.
المقامةُ الخامسةُ والعشرونَ الملطيَّةُ
حكَي القاسمُ بن جِريالٍ، قالَ: نُبذتُ بأناملِ الدَّهْرِ
الدالكِ، وسِهام السَّدرِ الطامس المَسالكِ، إلى هُوَّة هَمٍّ يَذْوِي لها
الهُمامُ، ويَهوي لهوِّيتها الهَيْصمُ الهمَّامُ، بعدَ أنْ كنت أَعافُ
مُعافسةَ الفَرير، وأَصطافُ في ظلالِ العَيْش القَريرِ، وأُغبَطُ
بالأَسودينِ، ومنادمةِ الفرقدينِ، فلمّا هًدّ ضيقُ الباع، وقدَّ اَنقراضُ
المَتاع، وحُرْمتُ لَذاذة الأَفياءِ، وعدِمْتُ مُرتفِع ضرْبِ الأشياءِ في
الأشياءِ، رُشقْت بسَهْمَ راشهُ بنَانُ إملاقٍ، ورقَ القَدَرُ لما أنا من
ضُروبهِ لاقٍ، وشَقَيْتُ لفُقدانِ مُرافقةِ فَواق وسُقيتُ من لبان الفِكر
بأخلافٍ ما لها من فُواق، فلم أزل أهيمُ بالإهابِ الملوَّح، أسوةً بقيس
بنِ الملّوح، حتَّى صارَ ذلك لأسدِ هِمّتي عيصاً، ولجسدِ عزمتي قَميصاً،
فبينما أنا أسيَرُ بين السهول، وأروِّعُ أفئدة الغامرِ والمأهولِ، إذ
حثَّني قطيعُ النَّصَبِ، إلى عين زاخرةِ الحبَبِ تُذرِي عَلى مَفارقِ
الرَّقراق، طِيْبَ طُلاوةِ مائها المُهراقِ، فَمِلْتُ إلى بعض الوِهادِ،
لآخذَِمنْ سكَرِ السنةِ سُهمانَ السَّوادِ، فلمَّا ندَّ اخضرارُ الظَلام،
وامتدَّ لواءُ الإظلام، سمِعْتُ رُغاءَ إبل تُناخُ، قد ضمَّها ذلكَ
المُناخُ، وحينَ خصَّ المنامُ من خَصَّ، وحص الوَسَنُ مِنْ قَوادم السهَر
ما حصَّ، قَرَعَ مسمَعي آهةٌ تلينُ لها قلوبُ القُساةِ، وتُرَدُّ لمثلها
عيونُ الأُساةِ، فجعلتُ تُنجِدُها زَفَراتي، وتُسعِدُها عَبراتي، فكانَ
لما استمطرَ البصرُ غَمامهُ، وأطربَ أيكَ دَوح المسامع وثُمامه: الكامل:
سُحقاً لمَنْ جبذَ الزمانُ زِمامَهُ ... في لاحبِ الطَّمع المُذِلِّ
لسَحْقهِ
ما يستفيقُ لحُمْقهِ مِنْ سُكْرهِ ... حتَّى تفاجئهُ جوارحُ مَحْقهِ
تاللهِ ما ترك التُّرابُ لتِرْبِهِ ... تِبْراً ولا حازَ التراثَ لحذْقه
كلاّ ولا نال التليدَ بصِدْقهِ ... يوماً ولا مَلَكَ الطّريفَ لصَدْقهِ
فالبس لرمح الحِرْص دِرْع زَهادةٍ ... يَنْدَقُّ إذْ دَقَّ الحسابُ بدَقّةِ
فالموتُ خَلْفكَ قَد يَسُنّ نِصالَه ... ليشُنَّ إنْ حانَ الفِراقُ
برَشْقهِ
فعلامَ تفرَحُ بالحياةِ وجُلّها ... نَصَب يَصُوبُ بَصيَّبٍ من طَرقه
فاليومَ تبخلُ بالمكاسبِ مثلما ... بَخَلَ الغَمامُ علَى الجَديب بوَدْقه
وغداً يضيفُ الدودَ جسمُكَ بُرهةً ... تُمسى وتُصبحُ في محاسنِ خلقهِ
وتظلُّ من ظُلم المَظالم حائراً ... في أسْرِ رمْس لا تُسرُّ يعتْقهِ
فما، برحَُ يردِّدُها ويَنوحُ، ويُعلِنُ بحُرَقهِ وَيبوحُ، إلى أنْ تمكَّنْت من حِفظِها تمكَّنَ الأمكنِ، وانجلَتِ الجَوْنة في الجِلبابِ الأدْكَن، وحينَ تيَّسرتْ سحائبُ الانتحابِ، وانتشرتِ السيارةُ للانسياب، ألفيتُ شَيخَنا المَصْريَّ كارب ذاكَ القَراح، وَراكبَ رِكاب ذيّاكَ الاجتراح، وصاحبَ هاتيكَ الرياح وحاصب البصائر بحَرِّ ذلكَ النَّواح، ولمَا قمّصني ببصَره، واَقتنصني بمخَالب تَبصُّرهِ، ساءني تَعَبُ بالهِ، وتَمزيقُ قُنانِ سرباله، فأخلقتُه جبَّةً خلقتُها أيّانَ استراء النفائس، واجتناء بستان السَّناء المائس، فزالَ ما بجَفْنِ حاله مِنْ وسنٍ، وزادَ ما بطيبِ نُطقهِ من لسَنٍ، وتقبّلَها بقَبول حَسن، ثم قال لي: يا بنَ جِريالٍ قد أنضجَكَ مفتأدُ الغمائم، وأزعجَكَ سمامُ حيّةِ السَّمائم، فبادر إلى دِرياقِ الهُدونِ، واشكُر الدهرَ على إسدارٍ النفيس والدُّونِ، فأفِّ لحالك حالكَ، ومُلاحفةِ مُحالِكَ وارتحالكَ، وها أنا عازمٌ على أنْ أريحَ هذي المطيّةَ، وأطوي هذهِ الطِيّة بِملطيّةِ، فَهَلْ لكَ في المُقامةِ، لتحمِدَ خلوة هذهِ المقامة، ولا ملأ دورَ منادمتكَ حُوارا، وأكونَ لمعصَم كفِّ وصلتكَ سِواراً قلتُ: إيْ وَمن أعْذبَ زُلالَ هذا الالتئام، وعذَّبَ النِّعَمَ بمُجاورةِ أكُفِّ اللئام، لكنْ لا يكُنْ حَلَبُ وُدِّكَ فَطْرا، وفِعلُكَ في وابلِ قوِلكَ قَطْرا، فأطأَ بصبْرِ مُصابرتكَ صُبْرا، واعلم أنَّكَ لَنْ تستطيع معي صَبرا، فقال لي: لا أظهِرُ لَكَ سِرّاً، ولا أُضمِرُ لشُهْدِ شاهدتكَ شرّا، ولا أنكِرُ لأُمراءِ رأيكَ إمْرا، ستجدني إنْ شاءَ اللهُ صابراً، ولا أعصي لكَ أمراً، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فسِرنا مسرورين، على أضواء النيِّرْبين، إلى أنْ ولجناها مُدقعين، لا نملكُ شَيئاً من العَين، فلمّا أصطدمتْ عساكرُ الظُلَم وقَرِمت القرونُ إلى معاطاةِ الظُّلم أخذتُ أشكو إليه بُعْدَ الإفاقةِ، وطولِ بطء مفارقةِ الفاقةِ، فقالَ لي: يا هذا، ومن حبك المحامدَ حاذَى، أتنقمُ على قَدَر آذى، وتجعلَ لك الشكايةَ معاذَ، أفتطمع أن تدخلَ الفلكَ تحت رقِّكَ، لتجمعَ بين حذْقِكَ وسَعَةِ رزقك، فعدَ عَنْ قُبح هذا اللّقاح، وتُبْ إلى اللهِ من هذا الاتّقاح، وارضَ بمصاحبة الفقير واقتنَعْ بالتقَام الحَقيرِ النَّقيرِ، قالَ: فصبوتُ لعتابه ورجوتُ مِنَ اللهِ حُسْنَ مَتابه، وحين أحجمتْ جَحافلُ الإجحافِ، وأقبلتْ قبائلُ بَيْع اللِحافِ، قالَ لي: بعْ هذه النُّونَ، واشتر بثَمنِها شِيْعَ يوشعَ بنَ نونَ فعدْتُ به إليه، فاستجودَهُ ووضعه عليهِ، ثم إنّهُ تناولَ عصا الذُّهوبِ، وارتهشَ ارتهاش المرهوبِ، وقالَ لي: صِر من المُصَلِّينَ، لاستثمِرَ لكَ اليقطين واللينَ فتوخيتُ لِيانَهُ ورميتُ بنصلِ الإطاعة عصيانَهُ، وجعلتُ أسيرُ على أثَرهِ، وأعلمُ أن سأذوقُ لَسْعَ إبرهِ، إلى أنْ وِلَجَ ببابِ بيعتِها، وأعلَن بالسلام على أربابِ شِيعتِها، فحيّاهمُ تحية الرُّهبانِ، وتَبَرْنسَ في ذلكَ الجلبَانِ، فأقبلتْ إلى لقائهِ القُسُوسُ، وشُكرَ شَيْمُ قدومهِ المأنوسُ، ثم أَحلُّوهُ بُحْبُوحةَ هالتِهم، ومنحوهُ عُجالةَ إهالتهِم، فأقبلَ يُسمعهُم مِن مُلح ألحانهِ ما يفوقُ رياحَ ريَحانهِ، ويَسْكُبُ مِنْ سُحُبِ أسجاعهِ، ما حملَهُم على اَزديادِ انتجاعهِ، قالَ الراوي: فلمّا مزَّقَ قميصَ قَشْقَشَتِهِ وشقَّق شُقَّةِ شِقْشقتِه، وسدَّ سبيلَ قَسْقَسَتهِ، وقدَّ زبَيلَ سَقْسَقَتهِ، زمَّ شراكَهُ، ومدَّ للحِيَلِ أشراكَهُ، فاستمسَكَ كلٌّ بشِيعهِ، وعافَ شُرْبَ شَمول تَشْييعهِ، وقالوا له: نُقْسِمُ عليكَ بالسيِّدِ المسيح، والسندِ السَّليح، بأنْ تَبيتَ لَيلتَكَ بهذهِ البيْعةِ، بينَ أصحابِ هذهِ الشريعةِ، فقدِ اتفقَ زواجٌ لبعض أصحابنا، فاصحبْ صَحِبَكَ صَلاحُكَ كأصحابنا، لتَحُلَّ بحلولك البركة، وتستهِلَّ بنزولِكَ هذهِ الحركةُ فعدلَ إلى ما سأَلوهُ، وبذلَ لَهُم من فَهم الإجابةِ ما استبذلوهُ، والتمسوا أنْ يحضُرَ الزوجُ إليهِ، لتتمَّ عُقدةُ النكاح على يديهِ، فقال لهم: طاعةٌ لِمنْ أمر ولو أمرَّ، نهلُ أمرهِ وأمِر، وسأخطبُ بهذا الزواج، خطبةً سريعةَ الرواج، جميلةَ الصفاتِ، عريّةً مِنَ الإلفاتِ، يخضعُ لفضلِها النحريرُ، ويركعُ لِقبْلةِ سَلِس إفصاحِها الحريرُ، فأحبَّتِ المسامعُ
استماعَ فِقَرِهَا، وارتضاعَ نُقَرِها، فرفعَ بصرَهُ، وأحدَقَ النظرَ بمَنْ أبصرَهُ، وقالَ: حَمِدْتُ ذو كمُلَ فضلُهُ، وشَمِلَ ظله، وغزَّتْ جنودُهُ، وعزَّتْ بنوُده، ورفعتْ رحمتُهُ، وخفضَتُ غُمَّتُهُ، ونصبَتْ مبَّرتُهُ، ونَصَبَتْ مضرّته، وعمَّتْ نِعمتُهُ، وغمَّتْ نقمتُهُ، وقَدَّرَ رِزقَهُ، ويسّرَ وحذَّرَ خَلْقَهُ، وبشّرَ وبهَرَ ضَمُّهُ ونَشْرَهُ، وظهرَ بِره وبِشره، وتَمَّ دُّرهُ ويُسرهُ، ونمّ ذَرَّهُ ونسره، وشفَى حَمْدهُ ورفْدهُ ووفَى وعدهُ ورَفْدُهُ، وصَلَتْ صلتُهُ، وصلَّت وفَلَتْ صَولتُه، وفلَّتْ وحَلَتْ بجدتهُ، وحلَّتْ وجَلَتْ نَجدتُهُ، وجَلّتْ وتجلت مِنته؟ وحلت وتحلّتْ معونته، وجلتْ وتبَّتْ يدُ عدوهِ وشُلت، ونَبَت لُسُنُ مَنْ جحدَهُ وسُلّتْ، ونمَى دَوحُ مدحه فورِفَ، وطمَى عرف عرفه فَعُرِفَ، وبرقَ جيشُ قهرهِ ففرَّجَ، وشرقَ صبحُ لطفهِ فتبلّجَ، وتعظمَ على من تعظم فَقُصم، وتكبَّرَ على مَنْ تكبّرَ ففُصِمَ، وجَدَع مَنْ عَمَطَ عدلَهُ وبغى. وجذع مَنْ غمطَ بذلَهُ وبغى، مبدعُ كلِّ حيٍّ، ومدمِّر كلِّ لي بِحَيَ، مُدرك كل بعيدِ، ومهلِك كلِّ بعيدٍ، نَفَصَ كلَّ مُمِر فغِبرَ، ونقضَ كلَّ مُمرً فعبرَ، وتلتلَ كل مصر فعتر، وبلبل كل مضِر فعثر، وخسف قمر قدرِ من بدغ، وكسفَ شمس سعد من في حكمهِ نَدَغ وبيَّضَ للمعترفينَ مَهْيَعَهُ، وفيّضَ للمغترفينَ مشرعَهُ، وجدّ جده فجد، وحد حده فحد، حمد من سر بحسنِ نسكهِ فقرّ، وفر فم معصية قرونهِ ففَرَّ، وعذل نفس فِعْلهِ، وعَدَلَ وقَصَل رجْسَ جَهْلهِ، وفَصَلَ فبصدق قولهِ نقول، وبودقِ طوْلهِ نطولُ، ولهُ نزجر ونجير، وبوزر عز مِزهِ نستجير، وصِرف صلوح وصفهِ ندِبْرُ، وحَوْلَ حَرَم حِلمِهِ نستديرُ، فرحِمَ مَنْ يدعوهُ، ورجَمَ جِنَّ جَمْعٍ هجروا ذِكرَهُ ولَمْ يَعوهُ، وسخّرَ لِفُلْكِهِ ريحَهُ، وبَسَطَ لعبيدهِ فسيحَهُ، وبَجَّلَ عيسى مسيحَهُ، وتقّبل تقديسَهُ وتسبيحَهُ، فغربَ لفجرهِ فَجْرُ مَنْ فَجرَ، وعزبَ لفخرهِ فَخرُ مَن فَخَرَ: ونَضَرَ وجهُ مَنْ دِينَهُ نضَرَ، ونصِرَ جُنْدَ مَنْ جندهُ نَصَرَ، وجَدَّ مَنْ نبذَ عهدَ بعثتهِ وصَدَّ مَنْ تعثر بعثيرَ عثعثتهِ، فطمَّهُ برَحمةٍ عظيمةٍ، وعمّهُ بنعمةٍ عميمةِ، فهو دليلٌ للهِ على تمكينِ قُدرته، ومتينِ مقدرته، وعظيم لُجّهِ، وقويم نهجهِ، صلّى عليهِ رَبّه وسلّمَ، وحلّى عنقَ قُدْسه وسنَّم، وجعلَهُ شفيعَ صَحبهِ يومَ يُبعثون، ومنيعَكُم حين تُعثعثونَ وجعلَ تزويجَكم خبرَ تزَويج، ومريجكم خيرَ مريج، يُشعرُ ببدورٍ ذُكورِ، تَفرِى فرىَ فَذ ذَكورٍ، وتَزرِي على كُلِّ نَدْرٍ درور وبَذْر ذَرور، وتمَّ بَيْتَ سرورِكُم، وسقفَ وقوَّمَ عُودَ وعودكُم، وثقَّفَ وكوثر ثمرَ ثروتِكُم، وشوَّفَ وتوَّجَ جبينَكم بجميلِ جودِكُم وشنَّفَ. قالَ الراوي: حينَ دفّقَ عُرامَ خُطبتهِ، ونمَّقَ إبرامَ عُقدتهِ، نظر إلى والدِ الزوجةِ وقال لَهُ: زوّجْتَ بنتك المدعوةَ فلانة فلاناً الحاضرَ على سنَنِ الملّةِ المسيحيّةِ، وسُنَنِ السادةِ السليحيّة، وحقّقتَ أنْ هذا الزواجَ قويُّ الاعتلاقِ، بَريٌّ من الطلاقِ، لا تُغَيّره غَيْرُ مقاطعةِ، ولا تَعْتورهُ خُيولُ مخالعةٍ، وقبضتَ المهرَ المندوبَ إليهِ، المتَّفقَ في هذا التزويج عليهِ، مَعْ علمِكَ بأنَّها بالغة عاقلة، راكبة نجُبَ الإجابةِ راقلة، طاهرة الجيوبِ، خالية من العيوبِ، سالمة مما ينافي القوانينَ النسطورية، ويخالفُ الرهابينَ الإسفسقوبية، بعدَ أنْ ألفيتُها راضيةً غيرَ مجبورةٍ، مختارةً غير مقهورةِ، يُعربُ عن ذلكَ لسانُها، ويرغبُ في هذهِ الوُصْلَةِ جَنانُها، قالَ: زوّجتُهُ إياها فالتفتَ إلى الزوج، وقال: وردتَ على خِيرةِ اللهِ تعال وأنتَ لزواج فلانةٍ بنتِ فلانٍ الحاضِرِ مِنَ الراغبينَ، وحضرْتَ وأنتَ مِنَ الخاطبينَ الطالبينَ، على القواعدِ العيسويّةِ، والمناهج الداوديةِ، فكنتَ أفضلَ خاطب لأَفْضلِ مخطوبٍ، وأكملَ طالب لأكمل مطلوبٍ، مَعْ معرفتكَ بأن زواجَ النصارى لا طلاق فيهِ، ولا سائلَ مخالعةٍ يعتفيه، ولا راجبَ مراجعة يجتديه، ولا رِدَاءَ معاودة يرتديهِ، بَلْ طلاقهُ مجاورةُ الأجداث، ومحادثةُ الانباثِ، وانحرافُ الرُّوح عن البدنِ، والتحافُ البَدَنِ بالكَفَنِ، فتزوْجتَها على هذا الاشتراطِ المذكورِ، وتقبُّلَتها
تقبل الراغبِ الشكَورِ، وارتضيتَ ولوجَ هذا الساهورِ على مُمِرِّ
مَمَرِّ الدهور بشهادة الناظرينَ، والقوس الحاضرينَ، قال: تزوجتُها، فقال:
جَعَلَهُ اللهُ منوطاً بجد لا تبرَحُ كتائبُ سكناتهِ، مخروطاً بَمرَس
مصاحبةٍ لا تَتْرَحُ حلاوةُ حركاته، دالاً على صِحَّةِ لُحْمةِ الأنساب،
وحِسَابِ مَحاسنِ هذهِ الأحسابِ، على أعظم نظام، وأقوم قِوام، بصلواتِ
القديسينَ، والقسيسينَ المقدّسينَ، قالَ: فلما تم عقد النكاح، واعتبِرَ
نَقْدُ تلك الصِحاح، نفحُوهُ بحُلَّةٍ وكيس، وبُرْنُس نُفيس، وآلوا ألا
يفَارقهَمُ أو يصبحوا، لتجولَ جيوشُ حَلْبَةِ الحُميّا ويَصْطبحوا، فأَجاب
حذر مجانبتهِم ورفَعَ الحِجابَ لإجابتِهم، وجعلَ يميلُ بالكؤوس على تيكَ
الشُّموس، ويسطو برداءةِ السُّوس على هاتيكَ الرُّسوس، إلى أن اَمتاروا من
ذلكَ الكَيْلِ، وقَطَعَ القومُ قطْعاً من الليلِ، وحينَ سكنَ المائدُ،
واَرتفعتِ الموائدُ وصوفحتِ الوسائدُ، وانكفأ العابدُ، واَنقطعتِ الصِّلةُ
والعائدُ، وشارفَ أنْ يطلبَ القُوس، ويُضْرَبُ بأعلى بِيْمِها الناقوسُ،
رَبَط الطنافسَ مع الستورِ، وانخرطَ انخراطَ الطُخرورِ، واستأصلَ نفائسَ
صُلبانِها، وضمَّ خُلّةَ مخاتلتهِ إلى صلَيانِها، ولمّا غادرَ المجيعةَ
كالتريكةِ، وبادرَ إلى لَبْس نَثْرةِ التحزُّم والتَّريكةِ، جعلتُ أتضاءلُ
تضاؤلَ المسوُدِ، ويتمايلُ تمايُلَ الأُسودِ السّودِ، لعلمي أنَّ مَنْ
خالطَ الأخطارَ، وعاشَرَ الشُّطَّارَ، طاحَ رأسُ قدرهِ وطارَ، فخشيتُ أن
أرومَ حَذْوَ هَرَبهِ، فأوبقَ، أو أعومَ بغواربِ غَلَبهِ فأغرقَ، فجحجحْتُ
عن مصافحتهِ، وحجحجتُ عن مصاحبته، وطلّقتُ عرائسَ إِلمامِي، وأطلقتُ في
عَراءِ مقاطعتهِ زِمامي.الراغبِ الشكَورِ، وارتضيتَ ولوجَ هذا الساهورِ
على مُمِرِّ مَمَرِّ الدهور بشهادة الناظرينَ، والقوس الحاضرينَ، قال:
تزوجتُها، فقال: جَعَلَهُ اللهُ منوطاً بجد لا تبرَحُ كتائبُ سكناتهِ،
مخروطاً بَمرَس مصاحبةٍ لا تَتْرَحُ حلاوةُ حركاته، دالاً على صِحَّةِ
لُحْمةِ الأنساب، وحِسَابِ مَحاسنِ هذهِ الأحسابِ، على أعظم نظام، وأقوم
قِوام، بصلواتِ القديسينَ، والقسيسينَ المقدّسينَ، قالَ: فلما تم عقد
النكاح، واعتبِرَ نَقْدُ تلك الصِحاح، نفحُوهُ بحُلَّةٍ وكيس، وبُرْنُس
نُفيس، وآلوا ألا يفَارقهَمُ أو يصبحوا، لتجولَ جيوشُ حَلْبَةِ الحُميّا
ويَصْطبحوا، فأَجاب حذر مجانبتهِم ورفَعَ الحِجابَ لإجابتِهم، وجعلَ يميلُ
بالكؤوس على تيكَ الشُّموس، ويسطو برداءةِ السُّوس على هاتيكَ الرُّسوس،
إلى أن اَمتاروا من ذلكَ الكَيْلِ، وقَطَعَ القومُ قطْعاً من الليلِ،
وحينَ سكنَ المائدُ، واَرتفعتِ الموائدُ وصوفحتِ الوسائدُ، وانكفأ
العابدُ، واَنقطعتِ الصِّلةُ والعائدُ، وشارفَ أنْ يطلبَ القُوس،
ويُضْرَبُ بأعلى بِيْمِها الناقوسُ، رَبَط الطنافسَ مع الستورِ، وانخرطَ
انخراطَ الطُخرورِ، واستأصلَ نفائسَ صُلبانِها، وضمَّ خُلّةَ مخاتلتهِ إلى
صلَيانِها، ولمّا غادرَ المجيعةَ كالتريكةِ، وبادرَ إلى لَبْس نَثْرةِ
التحزُّم والتَّريكةِ، جعلتُ أتضاءلُ تضاؤلَ المسوُدِ، ويتمايلُ تمايُلَ
الأُسودِ السّودِ، لعلمي أنَّ مَنْ خالطَ الأخطارَ، وعاشَرَ الشُّطَّارَ،
طاحَ رأسُ قدرهِ وطارَ، فخشيتُ أن أرومَ حَذْوَ هَرَبهِ، فأوبقَ، أو أعومَ
بغواربِ غَلَبهِ فأغرقَ، فجحجحْتُ عن مصافحتهِ، وحجحجتُ عن مصاحبته،
وطلّقتُ عرائسَ إِلمامِي، وأطلقتُ في عَراءِ مقاطعتهِ زِمامي.
المقامةُ السادسةُ والعشرون الشيرازّية الجيميّة
حدّث القاسمُ بنُ جريالٍ، قالَ: نزِعْتُ عن مُنازعةِ الجَليس، وقطعْتُ عُنُقَ رؤوس الأماليس، وبرَعتُ بالحمْدِ الحَبيس، مُذْ خَلعتُ لِبَاسَ التلبيس، فما فَتئْتُ أعجُم أعوادَ هذهِ المغارس، وأرجُمُ شَجراتِ المناظرةِ قبلَ الغَارس، وأسعَى بفِطْنَةٍ مُباهيةٍ، وأسبابِ هِمَم غيْرِ ساهيةٍ، حتى خَبَرْتُ نُخَبَ المُحاضر، وحضرتُ مُلَحَ المُناظر، فلما بَهرتْ بُهْرة خِيْرتي، وزَهرت زهره ذخيرتي، واشتهرتْ رُقومُ حَضارتي، وظهرتْ نجومُ مُحاضرتي، طفِقتُ أحاضرُ حَضَارِ وأعالجُ أخلاقَ العَنْس الحِضارِ، لأضمَّ إلى ذلك الضَّرَبِ نُغْبةً غراء، أو ألمَّ إلى ذلك الشَجرِ روضةَ غَضْراء، فلم أزل مدّةَ جَذْب المحرانِ وشدِّ القران، أعانقُ عقائلَ المُرَّان، حتى أنحفني الأمرّان المُرَّان، فلما استوى لديَّ الوَجَارُ والبَسابسُ، والمنارُ والمُنابسُ قادني إلى شيرازَ قائدُ القدرِ الرفيقِ، وصادني إلى صيدِها صائدُ شَرَفِ الأملِ الشفيقِ، فقدمتُها قدومَ نِحريرٍ، وولجتُها ولوج مَنْ ظفرَ بمعدن نضير، فَحينَ نفختُ بضرام الرحلةِ واحتويتُها، وطبختُ بها عَيرانةَ الأشر واشتويْتُها جعلتُ أهبُّ هبوبَ الزَّعْزَع الذاكي، وأشُبُّ شُبوب الضمر المذاكي، ولمّا آن انكِفاءُ المواكبِ، وحان طلوعُ مراكبِ الكواكبِ، ومال كلٌّ إلى سكنِه، وآل كلُّ محترف إلى مسكنِه، رمتْني حبائلُ الانحدارِ، ودهمتني بوادرُ الانكدارِ، وازدحمتْ ركائبُ الأكدارِ، ووحمتْ قتلي قَنابلُ تذكُّرِ الدار، حتى توسّدْتُ الحسامَ، وتمنّيْتُ لانسجام سام السَّيْلِ السامَ، فبينما أنا أفكر في هُجوم المنام، وأنظرُ في احتلاس سنسِن ذاك السّنام، إذ أقبلَ إليّ رَجُلٌ ارتجلتْ وصفه الصفاتُ، وضارعَتْ شِدّةً إعصافهِ الرياحُ العاصفاتُ، يَرْتَعُ في ربيع شبابهِ الزاهي، ويخطر في ميدانِ ميدان شُبوبه المتناهي، فالتفتَ نحوي التفات المريب، ولحظني بعين عقله الأريب، وقالَ لي: أراك مُتَّشحاً بشعار الاستشعار، وعلى صَدْرِ صَدَركَ صدار الاصفرارِ، وسيمياءُ الفضائلِ فائضةً لديْك، وكيمياءُ المكارم متراكمة عليك، فَقُمْ وفَّقَكَ الله إلى موائد مُتْرعةٍ، وعوائد مُمْرعةً وريْعٍ نماؤه مرحٌ، ورَبع فناؤهُ فسيحٌ، وغَمْر يغمَرُ بغَمرهِ المحرومُ، وقَرْم تقرَمُ لِلَثْم وَطْءِ مقرومهِ القُروم، لتشكرَ مَنْ لَهُ حجبْتُ، وإجلال إجلاله رجبتُ، وبمعازفِ معروفه اعتجبتُ، ولَوْ دُعِيْتُ لكُراع لأجبت، قال القاسمُ بن جريالِ: فجَذبني رَسنُ حُسن أوصافه، لا حَسَنُ وصفِ صحافه، وغرائبُ بَريْع هيئاته، لا رغائبُ ربيع هِباتِه، ثم إنِّي نهضتُ أغذو غذوه، وأحذو حذوَهُ، إلى أنْ وصلتُ إلى مرْبعهِ، واتّصلتُ بمشارق مَطْلعه، ولمّا بَرِقْتُ لرَوْقِ رواقه، وعسقت بما عشقت من مخائلِ أخلاقه، وحمدت شِنْشِنَةَ أبنائه، وشمِمْتُ نَشْرَ ألوَّة أبنائه، ألفيتُ أبا نصر المصريّ مِمَّن شَدَّ ظهرَه شِدَّة ذاك الدِعام، وضمَّ شملهْ ضِمامُ ذلك الإنعام، فتمطَّقْتُ لعذوبة إلماعه، ونقطت وجه عروس جَلوةِ اجتماعه، ثم أخذتُ أساله عن رب ذلك الفسطاط بعدَ رفع الدُّعابة والانحطاطِ، وأخبرتُه بما نشرَ حاجِبُهُ من الاشتراطِ، وضمنَ لي حاجبهُ منَ حلاوةِ الاستراط، فقال لي: إنّهُ مِمن يرفعُ عن محيّا الأمل براقعهُ، ويُعطِي خَرْقَ الخَلَقِ راقعهُ، ويوقعُ بُرّ برِّهِ مواقعَهُ، ونحن عندَهُ مقيمون، وعلى قَدَم هذه المِقَةِ قائمون، ما وصمنا مُذ عَصَمنا ولا سئمنا مذ رئمنا، قال: فبينما نحن نرتشفُ شَمولَ المخاطبة، ونلتحف بملاحف المداعبة، إذ دخلَ صاحبُ فنائنا، وجامع أعنائنا، فنهضنا إلى مصافحته، واستلام حجْر راحته، فحينَ رمقني بطرْفه، وصافحَ مطرفي كفّ مُطَرفه، قال لهم: أنَّى لكم هذه المنحةُ، ومن أينَ تسنَّتْ لمجلِسكُم هذه الملحةُ ومن الذي تفوحُ أراييحُ فصاحته، وتلوحُ مصابيحُ صباحته، فقال له أبو نصر: هذا الذي أدهشَ الغرباء، وناقشَ العرب العرْباء، وكَلَمَ المناسمَ، وكلم المباسمَ، واخترعَ المُكوسَ، وارْتضَعَ الكؤوسَ، وهتمَ القائلَ، وهزمَ القبائلَ، وجالس الولاة، وأخرسَ القضاةَ، وأعجزَ الغابرَ، وطرّزَ المنابرَ، وشرّفَ المدارسَ، وأحيا العلم الدارس، وادّرعَ السماحَ، وأعطى من استماح، وجانب الصماحَ، وكافح الرماحَ وماح، قال: فلمّا أفاضَ حياضَ امتداحه لديَّ
وشحَا فَمُ ثنايا الثناء عليَّ، بادرَ إلى استخراج النُخب من
غَمامِها، والنكت من كمامها، مترنحاً كالسيلِ الدافقِ. والقيلِ النافق
والطَّفَل البارز، والبطل المبارز، حتى أذعَن الأدب لطاعته، وشغف البشرُ
بفيض براءته، ولم نزل برهة من الدهور، نسح في زلال المنزل الطَّهور،
وتتردَّدَ علينا أباريقُ الولائدِ، وتتولَّدُ من الجماعة والاجتماع
اجتماعُ الفوائدِ، وبينما نحن نتقبّلُ أرْيَ قبَلِ المقابلةِ والعضاض
ونرتع في رياض ذلك الابيضاض، وتَحترفُ ثمار أنعامه العميم، ونعتكفُ بجامع
أجماع تلك الأضاميم، قال لنا: إنَّ لي صاحباً بحُلوانَ، ما أضمرُ مصاحبٌ
له السلوانَ، وقد بلغني التحافُه بالإحرام، وإيجافُه مِنَ البيت الحرام،
وإنِّي لأحِبُّ أن ينشئ أحدُكم رسالة إليه، تهنئةً بما أنعم الله به عليه،
وليعرِّضْ بطولِ جفائِه، وأفول فَلَقٍ وفائه، ومواصلةِ صدوده، ومخالطة طيب
فاكهة مفاكهته بدوده، فقلنا لَهُ: دونَك الهونَ الهائلَ، والسحابَ
السائلَ، الذي أودع الأدب لُبَّهُ واللَّبانَ، واستلَّ سلسلَ لسانه لسانَ
سحبانَ، فالتفتَ إلى أبي نصر وقال له: قد ألقوا إليك زمام التفويض،
واعترفوا بفضلِكَ العريض، في هذا التعريض، فقالَ لهُ: أنا وعيشِكَ لمثلِ
هذا الإرعادِ، ونشر رُفاتِ هذا المعادِ، لكنَّني مِمَّنْ يخرُفُ لفراخه،
ولا يسمَنُ جسدُه من صِماخه، قالَ: فظنَّ أنَّه يشغله لانصلاته أو يسألُه
سحَّ مسيلِ صِلاته، فقالَ له: إذا طفحَ نُبوعُكَ، اسهوهبَ بوعُكَ، ومتى
هَمَعَ يَنبوعُكَ أفعوعمْت ربوعك، فلما سَمعَ تلويحَهُ، وطمعَ فيما
يودِعُهُ رِيْحَهُ، أفشأ الطاعة حميَّةً، وأنشأ رسالةً جيمية، وهي:ا فَمُ
ثنايا الثناء عليَّ، بادرَ إلى استخراج النُخب من غَمامِها، والنكت من
كمامها، مترنحاً كالسيلِ الدافقِ. والقيلِ النافق والطَّفَل البارز،
والبطل المبارز، حتى أذعَن الأدب لطاعته، وشغف البشرُ بفيض براءته، ولم
نزل برهة من الدهور، نسح في زلال المنزل الطَّهور، وتتردَّدَ علينا
أباريقُ الولائدِ، وتتولَّدُ من الجماعة والاجتماع اجتماعُ الفوائدِ،
وبينما نحن نتقبّلُ أرْيَ قبَلِ المقابلةِ والعضاض ونرتع في رياض ذلك
الابيضاض، وتَحترفُ ثمار أنعامه العميم، ونعتكفُ بجامع أجماع تلك
الأضاميم، قال لنا: إنَّ لي صاحباً بحُلوانَ، ما أضمرُ مصاحبٌ له
السلوانَ، وقد بلغني التحافُه بالإحرام، وإيجافُه مِنَ البيت الحرام،
وإنِّي لأحِبُّ أن ينشئ أحدُكم رسالة إليه، تهنئةً بما أنعم الله به عليه،
وليعرِّضْ بطولِ جفائِه، وأفول فَلَقٍ وفائه، ومواصلةِ صدوده، ومخالطة طيب
فاكهة مفاكهته بدوده، فقلنا لَهُ: دونَك الهونَ الهائلَ، والسحابَ
السائلَ، الذي أودع الأدب لُبَّهُ واللَّبانَ، واستلَّ سلسلَ لسانه لسانَ
سحبانَ، فالتفتَ إلى أبي نصر وقال له: قد ألقوا إليك زمام التفويض،
واعترفوا بفضلِكَ العريض، في هذا التعريض، فقالَ لهُ: أنا وعيشِكَ لمثلِ
هذا الإرعادِ، ونشر رُفاتِ هذا المعادِ، لكنَّني مِمَّنْ يخرُفُ لفراخه،
ولا يسمَنُ جسدُه من صِماخه، قالَ: فظنَّ أنَّه يشغله لانصلاته أو يسألُه
سحَّ مسيلِ صِلاته، فقالَ له: إذا طفحَ نُبوعُكَ، اسهوهبَ بوعُكَ، ومتى
هَمَعَ يَنبوعُكَ أفعوعمْت ربوعك، فلما سَمعَ تلويحَهُ، وطمعَ فيما
يودِعُهُ رِيْحَهُ، أفشأ الطاعة حميَّةً، وأنشأ رسالةً جيمية، وهي:
جُدِّدَ جلالُ المجلس الجليلِ. الأجلِّ الجميلِ، الشَّجاع الأمجدِ،
الجحجاح الأجودِ، الجَسودِ المرتَجى، الماجد المجتَبى، الأجدلِ الأمجديِّ،
المجّدِ المجديّ، جمالِ الأمجادِ، جوادِ الأجوادِ، جنان المجتدين، جَنانَ
المنجدينَ، جُنّةً الجناة جنَّة الجفاة، وجلَّت جلالتُه جَهالةَ
الجُهلاءِ، وتجمّلَتِ بِجِدْواهُ مجالسُ النجباءِ، ورجَمَ بنجوَم اجتهادهَ
جن تهجده الجموم، وجزم بجراز محجتهِ جؤجؤ الجاهل الجزوم، وتوج الحجيج بتاج
حجته، وسرج للمستنجدين سراج حجته، وجمل بجمل أجر حَجِّهِ، وأجزلَ لجنابه
نجاحَ عَجِّهِ وثَجِّه الطويل:
جوادُ جلا جوناً جلالةُ جُوده ... جَرِيّ جَليٌّ جاذمٌ وجده وَجْدا
جرى بجياد النّجح جَرْياً ليجتني ... جَنى جُمَلِ التمجيدِ واستجملَ المجدا
تجللِّ بالإجلال والحِجر والحجى ... وعاجَ لجمع المجد واستعجل المُجْدَى
وعج ضجيجاً بالحمار فتوجتْ ... جباحَجون الحجْر واستجودَ الأجدَى
جبرُكَ المجبوذُ بجريرِ جُودك العجيلِ، وجَوْدِكَ المبجَّلِ التحجيلِ،
ولجام جُمانِكَ العجيبِ، وانسجام مرْجانِكَ النَّجيبِ، ينتجعُ مجاني
اجتماعك، وينتهجُ منهجَ الترجي لجلائل أَسجاعِكَ، راج مجاورةَ وجارك
البهيج، مُتَبَجِحٌ بِيَلنجج نِجارك الأريج، متجلِّل عجلزَةَ انزعاجهِ
الجارح، متجملٌ بعجائب إعجازكَ الراجح، جَدّلَهُ جَحْفَلُ حُجَجكَ،
وجَلَّلهُ جَلَلُ لجج لَجَجِكَ وأجهدهُ معاجلةُ جموح جنابك، وأضجَرهُ
معالجةُ جوَى جَنَف اجتنابكَ، يتجلببُ بعجاج الانزعاج، ويتجرَّعُ جمَّ
أجاج المجاج، ويُراجعُ زوجاتِ الاجتياح، ويُضاجعُ مزدوجاتِ جزْمِكَ
المُجتاح، ويمجّ لُجِّيَّ جزَعه الجانح، وتَضِجّ لجيوش جَذْمِكَ جوارحُ
الجوانح، وتموجُ هُوجُ وَجَله وتهيجُ، وتعوجُ عُوجُ ضَجَره والعَناجيجُ
الطويل:
وضرَّجَهُ جُرْحا أجاج وجفْوةٍ ... وأجَّجَهُ جَمْرا جُناح وناجس
وأزعجه جانا اجتنابِ وجولة ... وأعجزهُ جَيْشا جُنونِ وراجسَ
فتجنّب مجالسةَ التجافي، وجُدْ برجوع جَنانكَ الجافي، جُزيتَ برَجم
جَمَراتِكَ جزاء جزيلا، وأمجَدَ موجِدُكَ لمجدك جِدًّاً عجيلاً، وجَدًّاً
وجيلا، قال الراوي: فحينَ عَرَضَ عروضَ ما استعرضَهُ ووافقتِ الرسالةُ
غَرضَهُ، أثنى عليه ثناءَ الزَّهَرِ على الوابلِ، والبلابلِ على تغريد
البلابلِ، ثم وعَزَ له بحُلَّةٍ وسيمةٍ، وصرّةٍ جسيمة، فلمّا ربضَ
مكانَهُ، وتحقَّقَ إمكانَهُ، وفارقَ إملاقَهُ، وعاقرَ من لاقَهُ، قالَ لي:
قدْ عَزَمتُ مذ نجح فالي، بأن أتحف بهذا اللفاء إفالي، فهلْ لكَ في أنْ
تساعدني لطلب رفقةٍ تَحْملُها لهم، قبلَ أن يحسَّهم حُسامُ المسغبة
ويستأصلهم، ثم نرجعُ إليهم كلموع البارق الباهر عليهم، فقلتُ لَهُ: أتمكرُ
بي حينَ واتتْكَ الوعودُ ووافاكَ الصعود، وقد علمْتُ أنَّكَ لا تعودُ، أو
يُورقَ بعدَ اقتضابهِ العُودُ، فأطرقَ نحوي وأزبدَ، وأشرق شَرْق قَلقهِ
وأنشد: السريع:
أوصيكَ إذْ تعرفُني ناصِحاً ... لن أطْغِيَ الخِلَّ ولن أهلكا
لا تطلِ المكْثَ كثيراً ولو ... في منزلي يُمْلأ مِنْ أهلِكا
لذا تراني لم أزلْ سالماً ... لن أخسر الدهرَ ولن أهلكا
ثم إنَّه أقلع عن الاعتنان، وأشرعَ شباسنانِ الاستنانِ، بعدَ أن شدا لشد
نيته وارتدَى برداءِ خسيس نيَّتِهِ، وخلَّفني بعدَ قُفولهِ وسرعةِ جُفوله،
كمقترٍ عطف بعد حُفوله على التقام قشورِ فولهِ.
المقامةُ السابعة والعشرونَ الكوفيّةَ
أخبرَ القاسمُ بنُ جريالِ، قال: قرمتُ إلى مناهزةِ الابتهاج، أيامَ ضيقِ
الانتهاج، وسئمتُ مرارةَ العلاج، أيانَ انزعاج المزاج، وكنتُ حينئذٍ ضئيلَ
النياطِ، جزيلَ الاحتياطِ، ألِجُ من شدّةِ العِياطِ، في سم الخياطِ، فلم
أزل أنْغِضُ لمباينةِ الغَرَض، وأستعرضُ عساكرَ العَرَض، وأتسلَّى
بالحَرَض، وأحتملُ ثقلَ مضض الجرض، حتى آل بي إلى الانتصابِ، وجرَّعَني
عُصارةَ ذلكَ الصَّاب، فلّما جاوزْتُ البحارينَ، وأعجزت بتَفَلِ العرقِ
مسكَ دارينَ، واستجثتُ المعين، وبلغتُ
في العددِ الأربعينَ، كرهتُ محادثةَ الملازم، كراهيةَ تقدّم
الكسرةِ على الضم اللازم، ولمّا مِلْتُ لإصلاح ما جنيتُهُ، وقَدِمتُ إلى
ما اقتنيتهُ فأفنيتُهُ، لعلمي أن مَنْ تخَلَّفَ عن مُعْسِرٍ حَسَرَهُ، ومن
خلَّف مالاً لغَيْرهِ خَسَرهُ، وكنتُ حين شُبوب هذا الهُبوب وشِدةِ
الهُوب، ذلكَ الشؤبوبِ، معمورَ الفِناءِ، عاكفاً بالكوفة الحسناءَ التي
تُخْطبُ لجمالِها، وتسجُدُ جباهُ وجوهِ الأجلَّةِ لإحلالِها، فبينما أنا
أجانب الرجالَ، وأكافحُ بذلكَ المجالِ الأوجالَ، إذ ولجَ ممِّرض المُجابُ،
ومَنْ رُفِعَ لهُ دونَ الحَجْبَةِ الحِجابُ، وبيدهِ فِلْذَةُ جُزازةٍ،
تُبرئ منْ به حرارهُ حَزازةٍ، وقالَ لي: إنَّ شيخاً من جُملةِ مَنْ غُمرَ
بسيْلِكَ، وعُمرَ مَرْبعُهُ بنَيْلِكَ، دَفَعها إلي، وقالَ: مُرْ مريضَكَ،
ومَنِ ارتضى لمرضهِ تمريضَكَ، بأنْ يُعَلِّقها على عاتقهِ اليمينِ،
متوِّسلاً بالغُرِّ الميامين، فإنّهُ متى غفا، عاد من ربع عافيته ما عفَا،
قال: فصبوتُ لقَوْله، واعتمدْت على قوة الله وحوله، ولما أقبلتْ قبائلُ
الاضجاع، واَستقَبلتْ يدُ المَحْمدةِ حَلاوةَ ذلك الانتجاع، واسترحتُ من
مكافحةِ الأحلام، ألفيتُ قد أجفلَتْ قنابلُ الآلام، فحمِدْتُ اللهَ على
غَورْ ماءِ ذاكَ السِّقَام، وغؤورِ عيونِ انتقام ذلكَ السَّقام، ثمُّ
إنِّي فَضَضْتُ الرّقعةَ فضَّ المخالس، لأنظر سِرَّ برئها المُحالس، فإذا
فيها: يا منْ تَوَى لهيبتهِ الملوكُ، واستوى في حِمامهِ المالكُ
والمملوكُ، وقَصرَ قَيْصرَ لتقصيره، وكَسرَ كسْرَى مَعْ عِظَم كسيره،
ونكَّسَ رؤوسَ الوجوه الباسرةِ وأركس قِمَمَ القُيولِ الناسرةِ، وثَّمرَ
أعمالَ عبدّائهِ المُقسطينَ، ونضرَ عمال أعدائهِ القاسطينَ، وأترعَ حِياضَ
أفضاله للغارفينَ، وأوقدَ مِصباحَ مَعْرفتهِ في قُلوبِ العارفينَ، أسألُكَ
بكتابكَ المتين، ومحمد الطاهر الوتينِ، أن تَحْرُسَ حاملَ المَسْطورِ
بالذارياتِ والطُّورَ، وأنْ تُخْرِسَ لسانَ ضَرَرِ أعضائهِ البُور،
بالوَحْي المزبورِ، وأنْ تكفَّ هَوْلَكَ عن أكفِّ مِنَنِهِ، وتَحُفَّ
حولَكَ حوْلَ أمْنهِ ومأمنهِ، واَرَزْقهُ الصَّبْرَ عندَ نزولِ مَتربتهِ،
ولا تُذِقْهُ الصَّبِرَ حال حلول تُربتهِ، وثَقِّفْ لَهُ صِعادَ الإصعادِ،
وهَدِّفْ لهممهِ سُعادَ الإسعادِ، وأغنهِ عن الأساةِ، وَأعِنْهُ على سلوكِ
سَنَنِ المواساةِ، واحم حوزَتهُ عن البُغاةِ والطُّغاةِ، وارم مَنْ رَماه
بالعُدَاةِ والمُعانَداتِ، ولا تسلِّطُهُ على فَك فِدامهِ لإعدامهِ،
وأسَعدِهُ على رسُوخ أقدامهِ يومَ اصطدامهِ، واسْبُرْ سيَرَ تهتانه لا
بُهتانهِ، واستُرْ محاسنَ حِسانهِ لا إحسانهِ واَرفعْ سَقَمَ سويدائهِ،
وادفع عنهُ شَررَ أعدائه، ودَائه برحمةٍ منكَ يا أرحمَ الراحمينَ، وأكرمَ
المتكرمّينَ، قال القاسمُ بنُ جريالٍ: فلّما وقفتُ على دُعائهِ
المُستجابِ، وَعَرَفْتُ يَقَقَ ذلكَ التِّجابِ، قُلْتُ للأعبُدِ: عليكم
بكَشْفِ نِقْبَتهِ، ولو باستكمالِ حقبته، فمَنْ أمعَنَ في رِقبته، أنعمَ
اللهُ بحَلِّ رقبته، فحينَ مثلَ لديَّ، وأقبل مسلِّماً عليَّ، ألفيتهُ
المصريَّ، شيخَ الأعاجيبِ، وسُبَحَ أنامِل المَكْرِ المُجيبِ فقمت إلى
لقائهِ، لأتُبعَ شِناقَ قِرْبَةِ قُربهُ بِسقائهِ، ولمّا سَمحْتُ لَهُ
بالمَكفورِ والنابت، وفديتهُ بالغصونِ والمنابتِ، قلتُ لَهُ: قد بَرِئْتُ
بحمدِ اللهِ من سَقَمي، وأحضرتُك لتحِلةِ قَسَمى، ولأجازيَك بما يملأ
بوحكَ، ويُصلح صبوحَكَ، ثم إنِّي استوصيته بعد أنْ كنت عَقَقْتْهُ
وعصيْتهُ، فقالَ لي: عليكَ بالتأسِّي ولو نَابكَ رَثْمُ، وإياكَ وسوء الظن
إن بعض الظن إثم، وصف نضار ظنك ببوطة الخلاص، واعلم أنك ستعرض يوم القصاص
للاقتصاص، فقلت له: وأنت فيجب أن تتجنب موارد الانتقاص وتقلع عن مصايد
الاقتناص، فقال لي: كم لام قبلك فما عبأت بالكل، ومن احتمل الوابلَ لا
يكترثُ بالطَّلِ، وهِرٌّ تعوَّدَ رَشْفَ سُلافةِ الحَل، لا يأكل البصلَ
بالخلِّ، ثم إنَّهُ نشرَ طُرْفَ ربيع، نيسانِه، وطَوى طَرَفَ رفيع
طَيْلَسانهِ، وأنشدَ: الراجز:
دَعِ الملامَ واحسِمِواقطع آذاكَ واجزمفليس يُدْمي مَنْ رُمي
بلومِكَ المُذَمَّمَ
كم لائمً رفضتُهُوجازم خفضتهُوصائمٍ ركضتهُ
إلى النًّوالِ المُسْجَمِ
وكم جَزَمْتُ عِفَّةوكم نصبتُ كِفَّةًوكم خفضتُ خِفّةً
خوف الخبيثِ المُجرم
وكَمْ تلوتُ السُّوراوكَمْ علوتُ المِنْبَراوكم جلَوْتُ الدُّرَرا
على النَّدِىِّ المُفْعَم
وكم خَلَبْتُ خلَّةًوكم حلبتُ حِلَةًوكم جلبتُ جِلَّةً
برُمحِىَ المُقَوَّمَ
وكَمْ حضرت نادياًوكَمْ خَصَرْتُ بادياًوكم حضرت وادياً
بطِرفيَ المُطًهّم
وكم فلاةٍ جُبْتُهاوكَمْ صِلات جُزتُهاوكم صَلاَةٍ قُمتُها
لنَصْبِيَ المتمَّم
وكم فتحتُ مَربْعاًوكمْ سددْت مَرتَعاًوكم شددْتُ ما ارتعا
لغدريَ الغَشَمْشَم
وكم سرقتُ مَنْ سرىوكَمْ شَرَقْتُ في اَلسُّرىوكَمْ رَشَقْتُ مَنْ برىَ
رَبُّ الوَرَى بأسْهُمي
وكم مددت شارةوكَم جددْتُ قَارةًوكَم ردَدْتُ غارة
روْمَ الثَّنا بِمخْذَمي
وكم قَطَعتُ مَنْشِماًوكم وصلتُ مَبْسماًوكم سَبَقْتُ منسما
حُبَّ السَّنا بمنسِمي
وكَمْ حللتُ حانةًوكم قتلْتُ عانةًوكَمْ فَلَلْتُ بانةً
لسَرحيَ المسوَّم
وكم نظمتُ المُلحَاوكم لثمتُ القَدحاوكم عذلتُ من صحا
عذل العذول المُبْرم
وكم حسيس رعتهوكم خسيسٍ عبتُهُوكمْ نفيس بعتهُ
في الأهيفِ المُنعَّم
وكم خلال خُنْتُهاوذِمَّةٍ أخفرْتُهاوخِدمةٍ أظهرْتُها
لخدهِ المُعَنْدَم
وكم سحيق ساقنيوكم رشيق شاقنيوكم عقيق عاقني
عن زورةِ ابنِ أدهِم
وكم صبيح صَادنيوكم مُليح عادنيوكم مَليح قادني
لحُبِّهِ المُتيَّم
وكم نَصيب صَابنيوكم مَعيب عابَنيوكم مهيب هابني
للفِظَى المنظِّمِ
وكم سَجَرتُ من طغىبشدَّتِي لمّا بغىوكم سحرت من صغى
لوعظِيَ المُعظَّم
وكم قطعتُ من سَعَىلمحفلٍ لما ادَّعىوكم أجبت من دعا
لجفنَة ومَطْعَم
وكم ختلتُ مَنْ عَدابحيلَتي لما اعتَدَاوكم قهرت من غدا
يبغي الوغَى بأدهَمي
وكم آثرتُ مكسباًوكم سبرت سبسباًوكم عذرت من سبا
كاسَ السّلافِ المُضرم
وكم جذمتَ مَنصبابمَنصِبي ومُنْصِبَاوكم خذمت من صبا
إلى خِبا المخدَّم
وكم رحلتُ مركَباوكم أسلتُ مُنَكِباوكم أشلت من كبا
بكفِّي المُكَرَّم
وكم تركتُ القَسِماإياكَ أغني القَسِمابورطتي المقاسما
ومكريَ المُهَيَّم
فلا تَلُمْ فصبيَتيمِنْ أمسِنا بزُبْيَتِيتطوي الحشا لغيبتي
طَيَّ القَميص المُعْلَم
قالَ الراوي: ثم إنَهُ زَهَرَ زهَرُ إبداعهِ، وبَهَر نَهَرُ اختراعهِ،
ومَكُثَ عندي إلى ظُهورِ النَّجم، وانقضاض النَّجم للرَّجم، فلمّا
احلولكتِ الدُّروبُ، وسُلَّ سيْفُ الغَسَق المَقُروبُ، طفَر كالنَّبْض
الغزاليِّ، وخرجَ خُروجَ نغبِ الوَليِّ، فأوحشَ الأحامس، وشاكَهَ
المتعامسَ، وامتطَى الطريقَ الطامسَ، واحتذَى النقيلَ الشامسَ، وألبسني
الحظ العُكامسَ..
المقامةُ الثامنةُ والعشرون النَّصيبيّة
روَى القاسم بن جريالٍ، قالَ: منيت مدّة مُقاصاةِ المَعان،
ومُعاصاةِ الظعَان بسَهمْ هَم راقٍ، وسمِّ سَدرِ أرَق مالَهُ من رَاق،
حتَّى امتطيتُ أيانق الفَرَق، وانثنيت عن نَمارقِ السَّرَقِ، وذَهَلْتُ عن
بِساط البِسَاطِ، وشُغْلِتُ عَنْ وَطء بِساطِ الانبساطِ، فلّما اَنفجر
فَلقُ قَلَقِ القَلْب الشَّفونِ، وانهدمَ راسخُ أساس نُعاس الجُفونِ،
جعلتُ أضطربُ لهذا الرَّثمْ الثائرِ، وأجتذبُ أسبابَ السَّقَم بأشاجع يَدِ
الجسدَ البَائرِ، فبينما أنا أعالجُ بعَالج السَموم السُّمومَ، وأمارجُ
بَمارج تلكَ الهَموم الهُمومَ، إذْ خَطَرَ بخاطري المكدودِ، خِلٌّ خَال
منْ قَرَن قرينهِ المَقدود، فحملني وعكة المللِ، وصَكة الغللِ، عَلى أنْ
أطعَنَ درئةَ الحَنادس، بسنانِ الطلبِ المُداعس، وأظعنَ إلى أنْسِهِ
الموانِس، لإماطةِ سرابيلِ الوَساوس، فصحِبْتُ وَصيفاً يُوجزُ بإسهابِ
وَصْفِهِ الواصِفُ، ويعجِزُ عن إدراكهِ ريحُ المَراوح القاصِفُ، ولما
ركعتُ لأبوابهِ، وأطعْتُ الأملَ في إيقاظِ بوّابهِ، تلقَّاني ببِشْرٍ
شُموسهُ مشرقَة، وبِرٍّ كؤوسُهُ مُفْهِقة، وجَعَلَ يُذاكرني بنفائس
أسمارهِ، ويُذكرُني محاسنَ سُمّارهِ، ثم قالَ لي بعدَ زاخرِ مُحادثاتهِ،
وأواخرِ مُنافثاتهِ: أنَّى زهدتَ في دمشق ورُتْبتِها، والرُّبْوةِ
ونُزهتِها، فهل لكَ في مُعاودةِ ورَيفِها، ومراجعةِ زَخاريفِها، وأنا
لأوديةِ أوبتِكَ مَسِيْلٌ، ولوَجهِ وجْهَتِكَ خَدُّ أسيلٌ، وبِما يمونُكَ
كَفيلٌ، واللهُ على ما نقولُ وكيلُ، وحينَ أدبرتْ كتائبُ الغَسَق وأقبلَتْ
قبائلُ الشَّفَق، اتخذنا زاداً وبَكراً، وأموناً لبِكر بِكرينِ بِكرا فلم
نزلْ نمتطي مَطَاهُما ونجتلي خرائدَ خُطاهُما، إلى أن امتطينا طنافسَ
المربِّينَ، وورَدْنا ماءَ مَدَيْن نصيبين، وكنتُ سمِعتُ بطيب هِرماسها،
وشَرَفِ ناسيها وباسِها، فقلتُ لهُ: أتحِب بأن نخيم بقبالها، لنُنظرَ ما
وراء نقابها، ونصيف بعراصها، لنبصر ما تحت نصيف عفاصها، فأهنى المبرَّةِ
أرْوجهُا، وأسنى المسرَّة سجْسُجها، وإذا اقترن عسيب المصيف، بعزة هشيم
الخريف، وسَخَن باردُماء الخُفور، وبردَ بارد حر الحرور، نجذب عُثنون
أموننِا، ونركَبُ متون رزوننِا، فقالَ لَي: يا بنَ جريال إياك والتعرُّضَ
لهدم الحياةِ، ومَعْدِنِ الحُميّاتِ، فَلا تغرَّنَّكَ تلافيفُ الخضرِ،
وحفيف الشَّجَر، وتصنيفُ الثمرِ، فماؤها سُمومٌ، وهواؤها مسموم، وظلّها
يَحموم وجلها محمومٌ، واعتبِرْ بغزارةِ الأرْماس، ولا تنظر إلى نضارةِ
الهِرماس، وهل هي عندَ ذي الفِكر الفَتيقِ، والراكبِ غاربَ وَهْم فهمهِ
والفنيق، إلاّ كزينةِ الحُروبِ، وزنة زلازلِ الكُروب، وقد كنتُ أقمتُ بها
حِيناً كافحتُ به الأينَ والوينَ، واخترتُ على ذلكَ الحِينِ الحَينَ، لما
كابدتُهُ من منادمةِ الشدَّةِ، ومصادمة السُّدة، ومصاحبةِ العُدَّةِ،
ومكافحةِ الرّعْدةِ، ولو لم أمنحْ بالإباقِ نفسي، لحللتُ غِبَّ حلولها
رَمسي، فخرجْتُ منها وقد انقدَّ قلبي الوَجِلُ، وانهدَّ صبري الزَّجل،
وأنا أرتجلُ: الوافر.
نصيبي من نصيبين افتكارُ ... شديدٌ شَابهُ شَظَفٌ كبارُ
فنوص مذْ سكنتُ بها سَليب ... كأنّ وسادتي إبَرٌ ونارُ
فلّما أنْ حللْتُ بها وخَدِّي ... نقي كالعَقيقِ لَهُ احمرارُ
تبَدّلَ بعدَ حمرتهِ بورس ... يلوحُ لناظري منهُ اصفرارُ
فزالَ الوَرْدُ من وَجْهي وولَّى ... ووُلّي بعدَهُ فيهِ البَهارُ
فلولا أنْ عَزَمْتُ على انتزاح ... سريع كادَ يعلوني البَوارُ
فقلت له: إني لأحب لَسَّ هذي المحالفةِ، وسَلِّ لسانِ هذهِ
المخالفةِ، فقال لي: قد فوضت زمام المحالفة إليك، وقوضت خيام هذه المخالفة
لعينيك، فتقلدت عقود منته، ونسيت نقود مئنته، ولم أزلْ اتخذ المَرَحَ
شعاراً، ويتّخذُ نحافةً واستشعاراً، إلى أن استولتِ الرِّبْعُ على
أعضائهِ، وعدم الحركةِ بعد مواضي قضبِ مَضائهِ، وحين رز عياؤهُ، وعَز فيها
دواؤهُ، خَرَجْتُ أطلبُ طبيباً يُوصَفُ بتقادم المعرفة، ويُعرفُ بمعرفةِ
تَقدمة المعرَفة، ولمّا وصلتُ إليه، ونشرت عُروض الأدب لديه، قلت له: إنّ
لي صاحباً حاله كذي كذى، وقد أشرفَ به على الأذى،َ فجود التبحر لإصلاَحهِ،
وجردِ التردُّدَ لتحصيلِ صَلاحهِ، فإنّه من ذوي النّخَبِ، والخفرِ
المُنتَخبِ، فقال لي: تاللهِ لا رفعتُ لَهُ دوَاءً، ولا دفعتُ عن جسدهِ
داءً، لأنني لَم أزل أسألُ الله أنْ يقَيِّضَ لي إتيان الغَريبِ، لأبيِّضَ
وجهَ حالِ امحالهِ الغِربيبِ، إلى أن قدم عليَّ شيخٌ أشكلُ المقلتينِ، دون
القُلَّتينِ، يعتمِدُ على عجوز شمطاءَ، كذئبة ملطاءَ، فدلفَ دَلفةَ
مُنخفِض، ووقفَ وقفةَ منقَبض، وقالَ: الرجزَ.
يا أوحدَ العصر ويا نور المُقَلْ ... ويا طبيباً طِبُّهُ فاقَ الأوَلْ
ارحمْ مُسِنّاً ساءهُ سُوْءُ السَّبَلْ ... وظلَّ يكبو في الوَرى مِنَ
القَزَلْ
فذاك أولى ما صنعتَ مِنْ عملْ ... وذاك أسنَى ما ادَّخرتَ للأجلْ
فقلت له: ارفعْ رِداءَكَ، لأنظر داءَكَ، وأرني سبَلَكَ لأدرأ ما مَلْملكَ،
فحَينَ حامَ حَولي، وقعد لديَّ، ألفيتُهُ كالسَّبَل وليسَ بالسَّبَلِ،
وكالقزَل وليس بالقَزَل، فقلتُ لهُ تاللهِ لقد أعضلَ عِلاجُ أذاكَ، فما
سببُ ذاكَ، وأشكلَ مرضاكَ، فما رِضاكَ، فقالَ لي: ألِمِّ بك برهةً يسيرةً،
ونُبذةً حقيرةً فإنْ فشلَ شَرّهما شكرْتُكَ، وإن اعظوظمَ ضرُّهمِا
عذرتُكَ، ثم إنّهُ أقبل يُبكرُ في كلِّ يوم إليَّ، وينثرُ من نثرهِ كلَّ
فريدةٍ عليَّ، حتى قبصَ لُبِّي بأنامِل نَباهته، وقَنص قلبي ببراثنِ
بداهتهِ، فلما رأى حُسْنَ إعدادِ ذاك الوِدادِ، وتحَقّقَ شدّةَ اشتدادِ
ذلك الاستبدادِ، قالَ لي: هل لكَ في أنْ تُدخلَني الحمَّامَ، فقد شاهدتُ
لِحمَم القشفِ الحِمَامَ، فقلتُ لهُ: لا بأسَ بما قلتَ، وحُلْت في صهوة
صوابِه وجُلْتَ، فحينَ باينَ الدَّرِنَ، وعاينَ حالَهَ الحسنَ، خرجَ
لاستبرادِ ريحهِ، واستنشاقِ نسيم فَسيحهِ، فأيطأ حتّى ناوحتْني الحُرَقُ،
وكادَ يُربقُني بالغرَقُ، فخرجتُ وقد ابتزَّ بزَّةَ المُنّةِ مِنّي،
فرأيتُ قد لبسَ ثيابي عَني فندمْتُ على عُلالَة ما صنعتُهُ، ولَعَلاَةِ
هذهِ العِلّةِ منعتُ مَنْ منعتُه، قال الراوي:
فلما رَثَيتُ لما نَالَهُ، وأثريتُ بقلقِ ما قالَه، أيقنتُ أنّها
حبائلُ أبي نصرٍ ومضارُبهُ، ومخائلُهُ ومخالبُهُ، فقلتُ لَهُ: وجدت
أخيذتَكَ من غير خِداج، ورددتُ سليبتك بألطف رواجٍ، ما الذي تصنعُ
بَعَليلي، ومَنْ عظمُ إلَى بُرئهِ غليلي، فقالَ: أمرُج إليهُ على سبوحي
ببوحِي، وأسرج له في كلِّ يوم مروحي بروحِي، قال: فاحتملتُ إبالة منَ
الكبريتِ وجعَلتُ أسَيرُ سير الخِرِّيتِ، لتحصيل العفريتِ النِّفريتِ، إلى
أن ألفيتُهُ مَتبهنساً بأسواقِها، متبختراً بين جُدْرِ المخاتلة ورواقها،
تهز عِطفَهُ نشوِةُ الرحيقِ، وتبُزّ قلبَ طبيبهِ جحافِلُ الحريقِ، فنفحتهُ
بنسيم السَّلام، ووددت أنْ أوُدعَهُ بطونَ السّلام، وقلتُ لهُ: إلامَ تهزأ
بالذّكورةِ والمِكَسال، وتَدعسُ بمِدْعسُ مكركَ العَسَّالِ، وتنازلُ
فِرَقَ الرِّعَال وتقابلُ ذوي الفَعالِ، بقبائح الفِعالِ، فأفٍّ لمن
عذَرَكَ وعذرك، فما أغدَرك وأثبتَ غَدَرك، فقالَ لي: لِمْ ترجُمني بجنادل
مقاذعتِكَ، وتَزحُمني بحَمَةِ مُقادِعتكَ فقلت: لاستلابِ ثيابِ
مِعْوانِكَ، واجتلاب جيوش عَوانِكَ إلى أعوانِكَ، وكيف لا ولي خِلٌ أمين
ألوفٌ، لا يعادِلهُ مثل ولا ألوف، وقد أشرفَ على التَّلَفِ، وأسرفَ في
لِباس الأسَفِ، وقد آلى مَنْ خُنتَهُ واستلبتَ سرابيلَه وامتهنتَهُ ألاّ
يجودَ بدوائهِ، أو تجود بردِّ قُمصهِ وردائِهِ، فقال لي: تاللهِ لقد سألتَ
أيسرَ متيسِّرٍ، وحاولتَ فتحَ بابِ أملٍ غيرِ متعسِّرٍ، فامض معي إلى
الخَانِ، لأشهِدَ عليكَ بقَبْضِها بعضَ الإخوانِ، فسرتُ معَه إلى خانِ
معروفٍ بالأدناس، محفَوفِ بأجناس الأنجاس، فتركني ببابهِ وولَجَ، ثم مرجَ
هُنيَّةً وخرج، وقد امتطَى حماراً أخشب كفنيقٍ أغلبَ، وخلفَهُ رجلٌ أطولُ
من طالوتَ وأنذل من جالوت، فمالَ أبو نصر إلى سِرّاً، وحدَثني مستسراً،
وقالَ، اعلمْ أنَّ صاحبي قد ضَللَ مفتاحنا بالسوق، وأنا مغِذٌّ إليهِ
كالماء المدفوقِ، فتحدّثا إلى أنْ أعودَ، ولا تسأما القعودَ، ثم إنَهُ
شمَّصَ حمارهُ ومر، واستقبل سبيلَ انسيابهِ واستمرَّ، قال القاسمُ بنُ
جريال: فأخذتُ أحدِّثُهُ فازدلف وانحرفَ بحمارهِ وانصرفَ، وفاخرَ بما
بمثلهِ يُفاخرُ، إذ كلٌّ منا يظنُّ أنَّ صاحَبُه الآخر، فقلتُ لَهُ: بعَدَ
ما جَلَتْ جموع الصِّبْرِ الأريض، وانجلت الجَوْنةُ في حلة الإحريض إني
لأظنُ أنْ قد قارنَ قريتُكَ الخَيبةَ، أو المفتاح عندَ بني شيبة، فقال لي:
ما هذا النّباح، ومَن صاحبي والمفتاحُ، ويلكَ أيكونُ خدينَكَ، ويبيت
قرينَكَ، وتنسُبُ صحبتَه إليَّ، أتحسبُ أن يَتَمِّ مُكركما عليَّ، وقد
كفتُ حينَ ماس بأكهبهِ، وهاسَ بأغلبهِ، لالتماس أهَبهِ، قادراً على إطفاءِ
لهَبهِ، وردِّهِ على عقبه ثم جذب بردني إلي وإلى المظالم، وأنا في صورةِ
المظلوم والظالم، فقال الوالي: ذروه بمخيس المخاصمات، فقد ضاقَ الوقتُ عن
المناسمات، ورد الظلامات، وفي غد أذيقه النَّكالَ الواصِبَ، والوَبالَ
اللازِبَ، قال: فلّما حضرتُ دارَ الولايةِ، وشهرَ مُخاصمي مشْرَفيَّ
الشكايةِ، سللْتُ حسام حكايةِ الطبيبِ، ونثلتُ ما بينَ ذيلِ ذَنَبِ
القضيةِ والسَّبيبٍ، فتبّسَم الوالي تبسُّمَ المتعجب، ونَظر إلى جلسائهِ
نظرَ المُعجِّبِ، ثم قال لي: قد غفرتُ فظيعَ هفوتِكَ، وسترتُ شنيعَ
فوهتِكَ توجعاً لآفتِكَ، وإكراماً لعينِ معرِفتك، فأدِّ إليه ثمنَ
الحمارِ، واجتنبْ بعدَها معاشرَة المِغْوار، قال: فوزنتُ الثمنَ، وخزنتُ
الغَبَنَ، وعُدْتُ إلى المريض فوجدتُه قد درج، وفي مَلاءةِ المنيّةِ قد
اندرجَ، فاغتذيت بِصابه وصابي، وبكيتُ على مُصابه ومُصابي، ثم لم يزلْ
أهلُها عليَّ يعطفون، ولمحنَتي يتعطَّفون، وبالتّحَفِ إليَّ يَجْرُونَ،
حتى ركبتُ طريقَ جَيرونَ.
المقامةُ التاسعةُ والعشرون الإسكندريَّة الخَيفاء