كتاب : المحاسن والمساوئ
المؤلف : إبراهيم البيهقي
عمر بن شبّة النميري أبو زيد قال: كان علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضوان الله عليهم أجمعين، من آل الأفطس وكان يلقب بالجزري، فتزوج رقية بنت عمرو العثمانية وكانت تحت المهدي، فبلغ ذلك الهادي فأرسل إليه فحمله وقال: أعياك النساء إلا امرأة أمير المؤمنين! فقال: ما حرم الله عز وجل على خلق إلا نساء جدي، صلى الله عليه وسلم، فأما غيرهن فلا ولا كرامة. فشجه بمخصرة كانت في يده وأمر بضربه خمس مائة سوط وأراد على أن يطلقها فلم يفعل، فحمل من بين يديه في نطع فألقي ناحية، وكان في يده خاتم سريّ فرآه بعض الخدم وقد غشي عليه فأهوى إلى الخاتم، فقبض على يد الخادم فدقّها، فصاح: الموت دقّ يدي! فسمعه الهادي فدعاه فرأى ما به فاستشاط فقال: تفعل هذا بخادمي مع استخفافك بي وقولك لي؟ قال: قل له وسله ومره أن يضع يده مرة على رأسك ليصدقنّ. ففعل ذلك موسى فصدقه الخادم. فقال: أحسن والله! أنا أشهد أنه ابن عمي، لو لم يفعل ذلك لانتفيت منه. وأمر بإطلاقه ووصله بمائة ألف درهم.
قيل: وخطب علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقال: تقول قريش جزع ابن أبي طالب من الموت، والله لعلي آنس بالموت من الطفل بثدي أمه. قيل: ولما كان في حرب صفين والناس في أشد ما يكون من الحرب قال علي: رضوان الله عليه: ألا ماء فأشتريه؟ فأتاه شاب من بني هاشم بشربة من عسل، فتناوله وقال: يا فتى عسلك هذا طائفيّ. قال: سبحان الله! في هذا الوقت تعرف الطائفي من غيره! فقال: إنه لم يملأ صدر ابن عمك شيء قط.
وحكي عنه، رضوان الله عليه، أنه قال: ما أبالي وقعت في الموت أو وقع الموت عليّ.
حدثنا الوضاحي عن معمر بن وهيب قال: قال عبد الملك بن مروان عند موته للوليد وهو يبكي عند رأسه: ما هذا البكاء وحنين النساء ثكلتك أمك! ألا تتأهب للخلافة بشدة سطوتك وقلة رحمتك لناقض بيعتك وتجريد سيفك للمبدي ذات طويته؟ فقال له قبيصة بن ذؤيب: ليس هذا أمر الله جل وعز. فقال: ما كنت لآمر بغيره. ثم قال:
بنو الحرب لا نعيا بشيءٍ نريده ... ولسنا على ما أحدث الدهر نجزع
جلادٌ على ريب الزمان فلن ترى ... على هالكٍ عيناً لنا الدهر تدمع
وأنشدنا غيره في مثله:
وإنا لقومٌ ما تفيض دموعنا ... على هالكٍ منا وإن قصم الظهرا
ولسنا كمن يبكي أخاه بعبرةٍ ... فيعصرها من جفن مقلته عصرا
ولكننا نشفي الفؤاد بغارةٍ ... تلهّب من قطري جوانبه جمرا
ولآخر في مثله:
سقياً ورعياً وإيماناً ومغفرةً ... للباكيات علينا يوم نرتحل
يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ... لنحن أغلظ أكباداً من الإبل
ولآخر في نحوه:
إذا استلب الخوف الرجال قلوبها ... صبرنا على الموت النفوس الغواليا
حذار الأحاديث التي غبّ يومها ... عقدن بأعناق الرجال المخازيا
ولآخر في مثله:
مقتَّلون وقتّالون ميتتهم ... كما تُقتّل أسد الغاب في الأجم
والقتل عادتهم والقتل مكرمةٌ ... ولا يموتون من داءٍ ولا هرم
وبالوجوه جراحٌ ما تشينهم ... وما بهم طعنةٌ في ظهر منهزم
ولآخر في مثله:
سدِكت أنامله بقائم سيفه ... وبنشر فائدةٍ وذروة منبر
ما إن يزال إذا الرماح شجرنه ... متسربلاً سربال طيب العنصر
يلقى الرماح بصدره وبنحره ... ويقيم هامته مقام المغفر
أوما إلى الكوماء هذا طارقٌ ... نحرتني الأعداء إن لم تُنحر
وللمأمون:
نحن الذين إذا تخمّط عصبةٌ ... من معشرٍ كنا لها أنكالا
وترى القروم مخافةٌ لقرومنا ... قبل اللقاء تقطّر الأبوالا
نرد المنية لا نخاف ورودها ... تحت العجاجة والعيون تلالا
نعطي الجزيل فلا نمنّ عطاءنا ... قبل السؤال ونحمل الأثقالا
وإذا البلاد على العباد تزلزلت ... كنا لزلزلة البلاد جبالا
مساوئ الجبن
قيل في المثل: هو أجبن من هجرس، وهو القرد، وذلك أنه لا ينام إلا في يده حجر مخافة أن يأكله الذئب. وحدثنا رجل بمكة قال: إذا كان الليل رأيت القرود تجتمع في موضع واحد ثم تبيت مستطيلة واحداً في إثر واحد في يد كل واحد منها حجر لئلا ترقد فيأتيها الذئب فيأكلها، فإن نام واحد وسقط الحجر من يده فزعت فتحول الآخر فصار قدّامها فلا تزال كذلك طول الليل فتصبح وقد صارت من الموضع الذي باتت فيه على ثلاثة أميال وأقل وأكثر جبناً.
وقيل أيضاً: هو أجبن من صافر، وهو طائر يتعلق برجليه وينكس رأسه ثم يصفر ليلته كلها خوفاً من أن ينام فيؤخذ. ويقال أيضاً: إن الصافر هو الذي يصفر لريبة. وذكروا أن رجلاً كان يأتي امرأة وهي جالسة مع بنيها وزوجها فيصفر لها فتقوم وتُخرج عجزها من وراء الباب وهي تحدث ولدها فتقضي حاجتها وحاجته وينصرف. فعلم بذلك بعض بنيها فغاب عنها يومها ثم جاء في ذلك الوقت وصفر ومعه مسمار محمىً، فلما جاءت لعادتها كواها به، فجاء الرجل بعد ذلك فصفر فقالت: قد قلينا صفيركم، فضربه الكميت مثلاً في قوله:
أرجو لكم أن تكونوا في مودتكم ... كلباً كورهاء تقلي كلّ صفار
لما أجابت صفيراً كان يألفها ... من قابسٍ شيّط الوجعاء بالنار
وقيل أيضاً: هو أجبن من المنزوف ضرطاً، وكان من جبنه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل فتزوجت واحدة منهن برجل كان ينام إلى الضحى فإذا أتينه بصبوحه قلن له: قم فاصطبح، فيقول: لو لعادية تنبهنني، فقلن: هذه نواصي الخيل. فجعل يقول: الخيل الخيل! ويضرط حتى مات، فضرب به المثل.
قيل: وخرج رهم بن خشرم الهلالي ومعه أهله وماله يريد النُّقلة من بلد إلى بلد، فلقيه قوم من بني تغلب فدهش ورعب رعباً شديداً فقال: يا بني تغلب شأنكم المال وخلّوا عن الظعينة. فقالوا: رضينا إن ألقيت الرمح. فرجع إليه عقله وقال: أومعي رمح! وحمل عليهم فقتل منهم رجلاً ثم صرع آخر وأنشأ يقول:
ردّا على آخرها الأتاليا ... إن لها بالمشرفي حاذيا
ذكرتني الطّعن وكنت ناسيا
فانهزم الباقون ونجا هو بالمال والظعينة ومرّ نحو وطنه سالماً.
قيل: وكان في بني ليث رجل جبان فخرج رهطه وبلغ ذلك ناساً من بني سُليم كانوا أعداءهم فلم يشعر الرجل إلا بخيل قد أحاطت بهم فذهب يفرّ فلم يجد مفراً ووجدهم قد أخذوا عليه كل وجه، فلما رأى ذلك جلس ثم أبرز كنانته وأخذ قوسه وقال:
ما علّتي وأنا جلدٌ عابل ... والقوس من نبعٍ لها بلابل
يرنّ فيها وترٌ عنابل ... إن لا أقاتلكم فأمّي هابل
أكُلّ يومٍ أنا عنكم ناكل ... لا أطعن القوم ولا أقاتل
الموت حقٌّ والحياة باطل
فقاتلهم فانهزموا فصار بعد ذلك أشجع قومه.
قيل: وخرج أبو دلامة مع روح بن حاتم إلى بعض الحروب، فلما التقى الجمعان قال أبو دلامة لروح: أصلح الله الأمير! لو أن تحتي فرساً من خيلك وفي وسطي ألف دينار لأشجيت أعداءك نجدة وإقداماً. فقال روح: ادفعوا إليه ذلك. فدفع إليه فلما أخذه أنشأ يقول:
إني أعوذ بروحٍ أن يقدمني ... إلى القتال فيشقى بي بنو أسدٍ
إن المهلب حبَّ الموت أورثكم ... ولم أرث نجدةً في الموت من أحد
فأجابه روح:
هون عليك فلن أريدك في الوغى ... لتطاعنٍ وتنازلٍ وضراب
كن آخراً في القوم تنظر واقفاً ... فإن انهزمت مشيت في الهراب
فأجابه أبو دلامة:
هذي السيوف رأيتها مشهورةً ... فتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لما يجيء ولا يرى ... من بادرات الموت من نشّاب
فضحك روح فأعفاه وانصرف.
وحدثني أبو مالك عبد الله بن محمد قال: لما توفي أبو العباس السفاح دخل أبو دلامة على أبي جعفر المنصور والناس عنده يعزونه فقال: يا أمير المؤمنين كان أبو العباس أمر لي بعشرة آلاف درهم وخمسين ثوباً وهو مريض فلم أقبضها. فقال المنصور للخازن: ادفعها إليه وسيره إلى هذا الطاغية، يعني عبد الله بن عليّ. فقال أبو دلامة: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن أخرج معهم فإني والله مشؤوم! فقال: لعله يغلب شؤمك فاخرج مع العسكر. فقال: والله ما أحب لك يا أمير المؤمنين أن تجرّب ذلك فإني لا أدري على أي الفريقين يكون.
فقال أبو جعفر: دعني من هذا ما نريد غير المسير. فقال: يا أمير المؤمنين والله لأصدقنك، إني شهدت تسعة عساكر كلها هزمت فأنا أعيذك بالله أن تكون العاشر. فاستفرغ أبو جعفر ضحكاً وأمره أن يتخلف.
قال: وقيل لجبان: انهزمت فغضب عليك الأمير. فقال: يغضب عليّ الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من يرضى عني وأنا ميت.
قال: وقيل لبعض المجّان: ما لك لا تغزو؟ فقال: والله إني لأبغض الموت على فراشي فكيف أمرّ إليه ركضاً! قال: وقال الحجاج لحميد الأرقط وقد أنشده قصيدة يصف فيها الحرب: يا حميد هل قاتلت قط؟ قال: لا أيها الأمير إلا في النوم. قال: وكيف كان وقعتك؟ قال: انتبهت وأنا منهزم.
وقال عمرو بن بحر الجاحظ: سمعت بلالاً يحكي عن أصحابه أن رئيسهم كان يسمى ابريقياء وأنهم خرجوا في سفر فإذا بعشرة نفر من اللصوص قد تعرّضوا لهم، قال: وكان أشدّ أصحابنا والمنظور إليه منا فتىً يقال له دومني بطل شديد لا يهوله شيء مطاعن مسابق، فحمل على رجل منهم فعطف عليه الرجل فقطع أنف دومني ونزع خصييه وكسر أسنانه فرجع منهزماً، فغاظني ذلك فوثبت وأخذت كسائي وطويته بطاقين ولففته على يديّ وأخذت عصاي وأخذ آخر ملحفة والدته فلفها على ذراعيه وأخذ آخر طبقاً كبيراً من أطباق الفاكهة فستر به وجهه وخرجنا وتقدم رئيسنا ابريقياء وقد لفّ على يده قطيفة وهو يقول:
إن تنكروني فأنا ابن كلب
فقال له بعض اللصوص: ما ننكر ذلك عليك. فشدّ عليه ابريقياء بأسفل دنٍّ كان معه فلم يُحِك فيه، فأخذ اللص أسفل الدن فرمى به ابريقياء فهشم وجهه وكسر أسنانه، وتنحّى ابريقياء وأقبل منا آخر يسمى لقوة وأنشأ يقول:
إن عصايَ فاعلموا مقيّره ... أضرب بها وجه اللصوص الكفره
ثم شد على واحد منهم فضرب مفرق رأسه فلم يحك فيه واستلب العصا منه وطلاه بها طلياً فإذا هو قد خلع منكبه وكسر أضلاعه وبقي لا يحلّي ولا يُمرّ. ثم أقبل فتى من أصحابنا وفي يده مجرفة وهو يقول:
أنا ابن الكهل في يدي مجرفه ... والله لو كان بكفّي مغرفه
وهي لعمري قد كستني ملحفه ... والدتي كريمةٌ منظفه
قتلتكم فكيف عندي مجرفه
فضرب بالمجرفة واحداً من اللصوص فأخطأه وعطف عليه اللص فأخذها من يده ثم ضربه بها ضربة فدار سبع مرات وسقط وقد غشي عليه. فلما رأيت ذلك عدت إلى الطعان وأنا أقول:
أنا فلان سيد الفتيان ... أنا ابن حمران فتى الميدان
أحلف بالله وبالفرقان ... لأضربنّ القوم بالمميان
ضرب غلامٍ ماجدٍ كشحان ... والعجز منسوبٌ إلى الجبان
فأشدّ على واحد منهم فأضرب كفيه، فوثب قبل أن تصل إليه الضربة فضربني فهشم أنفي وكسر أسناني وخررت مغشياً عليّ ثم فتحت عيني فلم أر منهم أحداً ولا أدري كيف أخذوا، فالحمد لله على الظفر.
ما قيل في ذلك من الشعر
ما أحسن الضربة في وجهه ... إن لم تكن رمحة برذونولآخر:
ويحسبها الشجاع قراع سيفٍ ... ويحسبها الجبان قراع ثور
ولآخر: جبان اللقاء وعند الخوا - ن أمضى وأشجع من رستم
فلو كنت تفعل ذا في الحروب ... أغرت على الترك والديلم
كاتب الحسن بن زيد:
ظلت تشجعني ضلاًّ بتضليل ... وللشجاعة خطبٌ غير مجهول
هاتي شجاعاً بغير القتل مصرعه ... أوجدك ألف جبان غير مقتول
الحرب توسع من يصلى بها حرباً ... يُتم البنين وإثكال المثاكيل
واسم الوغى اشتُقّ من غوغاء تبصرها ... يغدون للموت كالطير الأبابيل
والله لو أن جبريلاً تكفل لي ... بالنصر ما خاطرت نفسي بجبريل
هل غير أن يعذلوني أنني فشلٌ ... فكلّ هذا نعم فاغروا بتعذيلي
إن أعتذر من فراري في الوغى أبداً ... فكان ذلك عذراً غير مقبول
اسمع أخبرك عن بأسي بذي سلمٍ ... خلاف بأس المساعير البهاليل
لما بدت منهم نحوي عشوْزنةٌ ... تشرّع الموت في عرضي وفي طولي
فقلت: ويحكم لا تذهبوا جلدي ... رمحي كسيرٌ وسيفي غير مسلول
لما اتقيتهم طوراً بذات يدٍ ... وانصعت أطوي الفر ميلاً إلى ميل
الله خلّصني منهم وفلسفتي ... حتى تخلّصت مخضوب السراويل
ولآخر:
أضحت تشجعني هندٌ وقد علمت ... أن الشجاعة مقرونٌ بها العطب
لا والذي حجّت الأنصار كعبته ... ما يشتهي الموت عندي من له أرب
للحرب قومٌ أضلّ الله سعيهم ... إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا
ولست منهم ولا أهوى فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
قطرب النحوي:
ما لي وما لك قد كلّفتني شططاً ... حمل السلاح وقول الدّارعين قف
أمن رجال المنايا خلتني رجلاً ... يمسي ويصبح مشتاقاً إلى التلف
تمشي المنون إلى غيري فأكرهها ... فكيف أمشي إليها عاري الكتف
هل خلت أن سواد الليل غيّرني ... وأن قلبي في جنبي أبي دلف
محاسن النظر في المظالم
قال: دخل رجل في جماعة من الناس على سليمان بن عبد الملك وهو جالس للعامة فقال: يا سليمان أذكّرك يوم الأذان. قال: فارتاع لما دعاه باسمه وقال: ويحك وما يوم الأذان؟ قال: قول الله جل ذكره: " فأذّن مؤذنٌ بينهم أن لعنة الله على الظالمين " . فبكى سليمان وقال له: ما حاجتك؟ فقال: أنا جار في ضيعتك الفلانية وقد ظلمني وكيلك فأضرّ ذلك بي وبعيالي. قال: قد وهبت لك الضيعة. وكتب إلى وكيله بتسليمها إليه.قيل: وقدم رجل من حلوان مصر على عمر بن عبد العزيز، رحمه الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن والدك وليَ بلادنا فكتب إلى عبد الملك يخبره أن حلوان صافية وهي أرض خراج فأقطعها إياه فورثتها أنت وإخوتك فاتق الله ولا تظلمنا كما ظلمنا أبوك فإنه كان شيخاً ضعيف الخرج وأنت رجل مخرج.
فقال عمر: إن كان أبي كما ذكرت فهو أبي لا أبوك، نازعني منازعة جميلة ولا تشتم عرضي فإن لي فيها شركاء إخوة وأخوات لا يرضون أن أقضي فيها بغير قضاء قاضٍ، أقوم معك إلى القاضي فإن قضى لي اصطبرت وإن قضى لك سلّمت. قال: إن قمت معي إلى القاضي فقد أنصفتني. فقاما جميعاً إلى القاضي فقعدا بين يديه، فتكلم عمر بحجته وتكلم الرجل، فقضى القاضي للرجل. فقال عمر: إن عبد العزيز قد أنفق عليها ألف ألف درهم. فقال القاضي: قد أكلتم من غلتها بقدر ذلك. فقال عمر: وهل القضاء إلا هذا؟ لو قضيت لي وما وليت لي عملاً أبداً. فخرج إلى الرجل من حقه.
قال: ودخل نفر من القراء وفيهم رجل ذكر ظلامة له على عمر فقال: يا أمير المؤمنين اذكر مقامي هذا فإنه مقام لا يشغل الله جل وعز عنه كثرة من تخاصم إليه من الخلائق يوم تلقاه بلا ثقة من العمل ولا براءة من الذنوب.
فقال عمر: ويحك اردد كلامك! فرده عليه، فجعل يبكي وينتحب حتى إذا أفاق قال: ما حاجتك؟ قال: عاملك على أذربيجان ظلمني وأخذ من مالي عشرة آلاف درهم، فكتب بردّ ذلك عليه وبعزل عامله وقال: انظروا هل اخلولق له من ثوب أو تقطّع له من حذاء. فحسب ذلك فبلغ عشرين ديناراً فأمر بدفعها إليه.
قال: وبينا عمر، رحمه الله، يسير على بغلته إذ جاء رجل فتعلق بلجامها فقال: أتيتك بعيد الدار مظلوماً! قال له: من أين أنت؟ قال: من حضرموت أرضي وأرض آبائي أخذها الوليد وسليمان فأكلاها. فنزل عمر عن بغلته يبكي حتى جلس على الأرض ثم قال: من يعلم ذلك؟ قال: أهل البلد قاطبة.
قال: يكفيني من ذلك شاهداً عدلٍ، اكتبوا له إلى بلاده إن أقام شاهدي عدلٍ أن الأرض له ولآبائه فادفعوها إليه. فلما ولى الرجل قال: انظروا هل هلكت له راحلة أم نفد له زاد أو تخرّق له من حذاء. فحسبوا ذلك فبلغ ثلاثين ديناراً فأُتي بها فعُدّت في يده.
قال ابن عياش: وخرج عمر ذات يوم من منزله على بغلة له وعليه قميص وملاءة إذ جاء رجل على راحلة حتى أناخها وسأل عن عمر فقيل له: قد خرج وهو راجع الآن. فأقبل عمر ومعه رجل يسايره، فقيل للرجل: هذا أمير المؤمنين. فقام فشكا إليه عدي بن أرطاة في أرض له، فقال عمر: قاتله الله! أما والله ما غرنا إلا بعمامته السوداء، أما إني قد كتبت إليه فضلاً عن وصيتي إن من أتاك ببينة على حق له فسلمه إليه، ثم قد عنّاك إليّ. فكتب إلى عديّ بردّ أرضه وقال للرجل: كم أنفقت؟ قال: تسألني عن نفقتي وقد رددت عليّ أرضاً هي خير من مائة ألف درهم! قال: إنما ردها عليك حقك، أخبرني كم أنفقت؟ قال: ما أدري. قال: احرزوه، فإذا هو ستون درهماً، فأمر له بها من بيت المال، فلما ولّى صاح به فرجع فقال: وهذه خمسة دراهم من مالي فكل بها لحماً حتى تبلغ.
الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال: أخبرني دهقان السيلحين قال: كان لسعيد بن مالك إلى جنبي ضيعة وكان رجلاً حديداً فأتيته فقلت له: أعدني على نفسك. فأمر بي فوُجئت في عنقي، فقلت: لأرحلن إلى عمر. فدخلت على امرأتي فأعلمتها ذلك فقالت: إني أخاف أن لا تصنع شيئاً ويجتريء عليك. فقلت: إني أكره أن تحدث العجم بأني قلت شيئاً لم أفعله. قال: فخرجت حتى قدمت المدينة فسألت عن عمر، رحمه الله، فدُللت عليه وأُرشدت إليه.
فلما أتيت منزله دخلت فإذا عمر، رضي الله عنه، جالس على عباءة، فرفع رأسه إليّ وقال: كأنك لست من أهل الملة. فقلت: أنا رجل من أهل الذمة. قال: فما حاجتك؟ قلت: لسعيد بن مالك ضيعة إلى جانبي وإني أتيته أستعديه على نفسه فأمر بي فوُجئت في عنقي فقلت لأرحلنّ إلى عمر. فقال: يا يرفا ائتني بالدواة والمكتب. فأتاه بجراب، فأدخل يده وأخرج صحيفةً فكتب فيها، ثم أخرج سيراً يشدّها به فلم يقدر عليه فتناول خيطاً من العباءة التي تحته وقد تنشّرت جوانبها فشدّها به، فأردت أن لا آخذها ثم تناولتها متثاقلاً، فكأنه عرف ما في نفسي فقال: ائته فإن كفاك وإلا فأقم واكتب إليّ. قال: فخرجت حتى قدمت على أهلي فقالوا: ما صنعت؟ قلت: أتيت رجلاً لم يقدر على سير يشدّ به صحيفته حتى تناول خيطاً من عباءة كانت تحته قد تفزّزت وتنشّرت جوانبها فشدّها به. قالوا: وما عليك من ذلك إن نفذ أمره؟ قال: فأتيت سعيداً فناولته الكتاب، فلما قرأه أُرعدت فرائصه حتى سقط الكتاب من يده وقال: ويلك ما صنعت؟ اذهب فالأرض لك. فقلت: لا أقبلها. فقال: لا والله لا أخذتها أبداً.
قال: وكان نسخة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحمن. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى سعيد بن مالك. سلام عليك. أما بعد فإن مهرزاد دهقان السيلحين ذكر أن له ضيعة إلى جانبك وأنه أتاك يستعديك على نفسك فأمرت به فوجئت عنقه فإذا جاءك كتابي هذا فأرضه من حقه وإلا فأقبل إلي راحلاً، والسلام.
قيل: ولما ولي المأمون الخلافة عرضت عليه سيرة أبي بكر، رحمه الله، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها.
فقال: أمير المؤمنين لا يطيق ذلك. ثم عُرضت عليه سيرة عمر، رضي الله عنه، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عُرضت عليه سيرة عثمان، رحمه الله، وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها. فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عرضت عليه سيرة علي، رضي الله عنه. وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها في حقوقها. فقال: أمير المؤمنين لا يطيق هذا. ثم عرضت عليه سيرة معاوية بن أبي سفيان وفي آخرها: وكان يأخذ الأموال من وجوهها ويضعها كيف شاء. فقال: إن كان فهذا.
وأخبرنا بعض أصحابنا قال: شهدت المأمون يوماً وقد خرج من باب البستان ببغداد فصاح به رجل بصريّ: يا أمير المؤمنين إني تزوجت بامرأة من آل زياد وإن أبا الرازي فرّق بيننا وقال هي امرأة من قريش. قال: فأمر عمرو بن مسعدة فكتب إلى أبي الرازي: إنه قد بلغ أمير المؤمنين ما كان من الزيادية وخلعك إياها إذ كانت من قريش، فمتى تحاكمت إليك العرب لا أم لك في أنسابها، ومتى وكلتك قريش يا ابن اللخناء بأن تُلصق بها من ليس منها؟ فخلّ بين الرجل وامرأته، فلئن كان زياد من قريش إنه لابن سمية بغي عاهرةٍ لا يفتخر بقرابتها ولا يتطاول بولادتها، ولئن كان ابن عبيد لقد باء بأمر عظيم إذ ادعى إلى غير أبيه لحظٍّ تعجّله ومُلكٍ قهره.
وحدثنا غيره قال: شهدت المأمون يوماً وقد ركب بالشماسية وخلف ظهره أحمد بن هشام، فصاح به رجل من أهل فارس: الله الله يا أمير المؤمنين! فإن أحمد بن هشام ظلمني واعتدى عليّ! فقال: كن بالباب حتى أرجع فأنظر في أمرك.
فلما مضى التفت إلى أحمد بن هشام فقال: ما يؤمنك منا أن نوقفك وصاحبك هذا على رؤوس هذه الجماعة وتقعد مع خصمك حيث يقعد ثم يكون محقاً وتكون مبطلاً! فكيف إن كنت في صفته وكان في صفتك؟ فوجّه إليه من يحوّله عن بابنا إلى رحلك وأنصفه من نفسك وأعطه ما أنفق في طريقه إلينا، ولا تجعل لنا ذريعة إلى لائمتك، فوالله لو ظلمت العباس ابني كان أهون عليّ من ظلمك ضعيفاً لا يجدني في كل وقت ولا يخلو له وجهي، ولا سيما من كان يتجشم السفر البعيد ويكابد حر الهواجر وطول المسافة. قال: فوجه إليه أحمد بن هشام فحوّله إلى مضربه وكتب إلى عامله بردّ ما أخذ منه، ووصل الرجل بأربعة آلاف درهم.
قال: وتنازع رجلان بباب الجسر أحدهما من العظماء والآخر من السوقة فقنّعه الرجل فصاح السوقي: وا عمراه ذهب الإسلام! فأُخذ الرجل وكتب بخبره إلى المأمون، فدعاه وقال له: ما كانت حالك؟ فأخبره. وأحضر خصمه وقال له: لم قنّعت هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين هذا رجل معاملي وكان سيء المعاملة وكنت صبوراً على ذلك منه، فلما كان في هذا اليوم مررت بباب الجسر فأخذ بلجام دابتي وقال: لا أفارقك حتى تخرج إليّ حقي. فقلت له: إني أبادر إلى باب إسحاق بن إبراهيم. فقال: والله لو جاء إسحاق ومن ولّى إسحاق ما فارقتك. فما صبرت حين عرّض بالخلافة أن قنّعته فصاح: وا عمراه ذهب الإسلام منذ ذهب عمر. فقال للرجل: ما تقول؟ قال: كذب عليّ وقال الباطل. فقال الرجل: لي جماعة يشهدون على مقالته يا أمير المؤمنين، فإن أذنت لي أحضرتهم. قال المأمون للرجل: من أين أنت؟ قال: من أهل فامية. فقال: أما إن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، كان يقول: من كان جاره نبطياً واحتاج إلى ثمنه فليبعه. فإن كنت إنما طلبت سيرته فهذا حكمه في أهل فامية. ثم أمر له بألف درهم وأمر صاحبه أن ينصفه.
وحدثنا أبو الفضل الهاشمي عن قحطبة بن حميد بن قحطبة قال: قعد المأمون للمظالم ذات يوم فلم يزل قاعداً إلى أن قلنا قد فاتته الصلاة، فكان آخر من دعي امرأة فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى يحيى بن أكثم فقال: وعليكِ السلام، تكلمي يا أمة الله. فقالت:
يا خير منتصفٍ يُهدى به الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
أشكو إليك عقيد الملك أرملةً ... عدا عليها فلا تقوى به الأسد
فابتز مني ضياعي واستبد بها ... ففارق العيش مني الأهل والولد
فقال المأمون:
في دون ما قلت عيل الصبر والجلد ... وقد تقطّع مني القلب والكبد
هذا أوان صلاة الظهر فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
والمجلس السبت إن يُقض الجلوس لنا ... ننصفك فيه وإلا المجلس الأحد
قال: فانصرفت فلما كان يوم الأحد جلس فكان أول من دعا به المرأة، فسلمت فرد المأمون عليها السلام وقال: أين الخصم، رحمك الله؟ قالت: هو واقف على رأسك وقد حيل بيني وبينه. وأومأت إلى العباس ابنه. فقال: يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فأقعده معها. قال: ففعل ذلك. فجعلت تعلو على العباس بصوتها وتقول: ظلمتني واعتديت عليّ وأخذت ضيعتي. فقال لها أحمد: ما هذا الصياح؟ إنك بين يدي أمير المؤمنين تناظرين الأمير! فقال المأمون: دعها يا أحمد فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. فلم يزالا يتناظران حتى حكم المأمون لها برد ضيعتها ثم قال: يا أحمد اردد عليها ما جباه العباس من ضيعتها وادفع إليها عشرة آلاف درهم ترمّ بها ما أراه من سوء حالها واكتب إلى والينا وقاضينا بإرفاقها والنظر في أمرها وأوغر لها خراج ضيعتها بالشيء الطفيف وليكن ذلك في يومنا هذا. فما برحت حتى قضيت حوائجها وخرجت.
وعن الحسن بن سهل قال: جلس المأمون ذات يوم للمظالم وإذا هو برجل قد مثل بين يديه وفي يده رقعة فيها سطران: بسم الله الرحمن الرحيم. مظلمة من أمير المؤمنين أطال الله بقاءه. فقال: أمظلمة مني! قال: أفأخاطب بالخلافة سواك؟ قال له: وما ظلامتك هذه؟ قال: ثلاثون ألف دينار. قال: وما وجهها؟ قال: إن سعيداً وكيلك اشترى مني جوهراً بثلاثين ألف دينار وحمله إلى منزلك ولم يوفر عليّ المال. قال: فإذا اشترى سعيد منك الجوهر تشكو الظلامة مني! قال: نعم إذا كانت الوكالة قد صحت له منك. قال: إن كلامك هذا يحتمل ثلاث جهات: أما أول ذلك فلعل سعيداً قد اشترى هذا الجوهر منك كما زعمت وحمله إلينا وأخذ المال من بيت المال ولم يوفّره عليك، أو لعله قد وفّره وادعيت باطلاً، أو اشتراه لنفسه. أما في العاجل فلا يلزمني لك حق ولا أعرف لك ظلامة.
فقال الرجلك إن الله جل وعز قد أهّلك لموضع رفيع واختصك بنسب جعلك أولى الخلق معه بالانصاف فإنك مناسب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، واسترعاك على خلقه فهلا تحملني على كتاب الله جل وعز وسنّة ابن عمك رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسنة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في رسالته إلى أبي موسى الأشعري وهي التي اتخذتموها صدور أحكامكم ووصية لقضاتكم إذ يقول: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
قال المأمون: فإنك والله قد عدمت البينة فما يجب لك إلا حلفةٌ ولئن حلفتها لأنا صادق إذ كنت لا أعرف لك حقاً يلزمني.
قال: فإذاً أدعوك إلى الحاكم الذي نصبته لرعيتك. قال: نعم، يا غلام عليّ بيحيى بن أكثم. فإذا هو قد مثل بين يديه. فقال: يا يحيى! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: اقض بيننا. قال: في حكم وقضية! قال: نعم. قال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال: لأن أمير المؤمنين لم يجعل داره مجلس قضائي. قال: قد فعلت. قال: فإني أبدأ بالعامة أولاً ليصبح المجلس للقضاء. قال: افعل.
ففتح الباب وقعد في ناحية من الدار وأذن للعامة ونادى المنادي وأخذ الرقاع ودعا بالناس ثم دعا الرجل المتظلم فقال له يحيى: ما تقول؟ قال: أقول أن تدعو بخصمي أمير المؤمنين المأمون. فنادى المنادي فإذا المأمون قد خرج في رداء وقميص وسراويل قد أرسلها على عقبيها في نعل رقيق ومعه غلام يحمل مصلى حتى وقف على يحيى وهو جالس. فقال له: اجلس. فطرح المصلى ليقعد عليه. فقال له يحيى: يا أمير المؤمنين لا تأخذ على خصمك شرف المجلس. فطرح له مصلى آخر فجلس عليه. وقال له يحيى: ما تقول؟ فقال: لي على هذا ثلاثون ألف دينار. قال: ومن هذا؟ قال: أمير المؤمنين المأمون بالله. قال له يحيى: يا أمير المؤمنين قد سمعت ما يقول؟ قال: سله ما وجهها. فأعاد خبر الوكيل. فقال المأمون: ما أعرف له حقاً. فأقبل على الرجل فقال: قد سمعت، ألك بينة؟ قال: لا. قال: فما تريد؟ قال: ما يوجبه الحكم لمن عدم البينة. قال المأمون: ويحك قد لججت في اليمين! قال: يا أمير المؤمنين أتحلف؟ قال: إي والله ولا أوطيء نفسي العشوة في إعطاء رجل ما لا يجب له ظلماً. فقال: قل والله. فاستحلفه غموساً.
ثم وثب يحيى عند فراغ المأمون من يمينه فقام على رجليه. فقال له المأمون: ما أقامك؟ فقال: إني كنت في حق الله جل وعز حتى أخذته منك وليس الآن من حقك أن أتصدر عليك. وقبض على الرجل لئلا يخرج. فقال المأمون: ارفقوا به. ثم قال: يا غلام أحضرني ما ادّعى من المال. فلما أحضر قال: خذه إليك والله ما كنت أحلف على فجرة ثم اسمح لك فأفسد ديني ودنياي، والله يعلم ما دفعتُ إليك هذا المال إلا خوفاً من هذه الرعية لعلها ترى أن تناولتك من وجه القدرة وأني منعتك واجبك بالاستطالة عليك وإنها لتعلم الآن ما كنت أسمح لك باليمين. فقال: يا أمير المؤمنين أفأُحاط في المال حتى أصل إلى حيث آمن عليه؟ قال: إي والله ولو بالتُّغزغز وأسبيجاب. فأخرج الرجل مع المال وبذرق به إلى أن بلغ مأمنه
ومنه روايات
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: إن الرجل إذا ظُلم فلم ينتصر ولم يجد من ينصره فرفع طرفه إلى السماء ودعا قال الله، جل وعز: لبيك عبدي أنصرك عاجلاً وآجلاً.وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قولهم: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه.
قال: وقال الفضيل بن عياض: بكى ابني فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي على من ظلمني وأخذ مالي ارحمه غداً إذا وقف بين يدي الله عز وجل وسأله فلا تكون له حجة.
قال: وقال الحسن البصري: يا أيها المصَّدّق على السائل ترحمه ارحم أولاً من ظلمت.
وروي عن عبد الله بن سلام أنه قال: قرأت في بعض الكتب قال تبارك وتعالى: إذا عصاني من يعرفني سلّطت عليه من لا يعرفني.
وقال خالد :إياكم ومجانيق الضعفاء، يريد الدعاء.
ومنه توقيعات
قال: وقّع المأمون في كتاب متظلم من أحمد بن هشام: اكفني أمر هذا الرجل وإلا كفيته أمرك. ووقّع في رقعة رجل من العامة تظلّم من عليّ بن هشام: يا أبا الحسن الشريف من يظلم من فوقه ويظلمه من دونه فاعلمني أي الرجلين أنت.وقال عمرو بن مسعدة: كتبت إلى عامل دستبى كتاباً أطلته فأخذه المأمون من يدي وكتب: قد كثر شاكوك فإما عدلت وإما اعتزلت.
ووقّع في رقعة رجل تظلّم من الرستميّ: ليس من البر أن تكون آنيتك ذهباً وقدورك فضة وجارك يطوي وغريمك يعوي.
قال: ووقّع هشام بن عبد الملك في رقعة متظلّم من العامة: أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحلّ بك النكال إن كنت كاذباً، فتأخر أو تقدم.
قال: ورفع رجل إلى المنصور قصة يتظلم فيها من عامل فارس فوقّع له: إن آثرت العدل صحبتك السلامة.
ووقّع لقوم متظلمين شكوا سيرة واليهم: كما تكونون يولّى عليكم.
ووقّع يحيى بن خالد لمتظلم من بعض الولاة: أنصف من وليت أمره وإلا أنصفهم من ولي أمرك.
ووقّع بعضهم إلى صاحب مظالم: ما أراني سالماً من المآثم بتوليتي إياك المظالم. يا رديء المختبر اعتزل غير محمود الأثر.
قيل: وقال رجل للمعتصم: يا أمير المؤمنين ظلمني من وافق اسمه فعله. فقال المعتصم لبغا: سله ممن يتظلم فإني أراه يتظلم من ظلوم. فسأله فقال: من ظلوم. فتبسم المعتصم وقال لابن أبي دؤاد: ما أبعد الرجل في قوله، قل لها بحياتي أنصفيه.
قال: وأخبرنا إبراهيم بن محمد قال: كنا مع المتوكل في بعض متنزهاته فوقف على تلٍّ كله حصى قد غسله المطر فاستحسنه فنزل فصلى وسبّح ثم قال في دعائه: اللهم إنك خلقتني ولم أك شيئاً ثم صيرتني فوق هذا الخلق وأنت قادر أن تزيل هذا كله فارزقني العدل والنصفة وألق في قلبي لهم الرأفة والرحمة. ثم بكى وأخذ كفاً من ذلك الحصى فجعله على رأسه وجعل يقلب خده ووجهه على الأرض ثم قام فركب.
مساوئ أخذ الجار بالجار
قال: قال الحجاج بن يوسف: لآخذن السميّ بالسميّ والولي بالولي والجار بالجار، وقد لعن الناس قائل هذا البيتكأرى أخذ البريّ بغير جرمٍ ... تجنُّب ما يحاذره السقيم
وقال الحارث بن عباد في هذا المعنى:
لم أكن من جناتها علم الل ... ه وإني بحرّها اليوم صالي
وقيل:
لعل له عذراً وأنت تلوم
وأنشد في مثله النابغة:
فحمّلْتني ذنب امريءٍ وتركته ... كذي العرّ يكوى غيره وهو راتع
وكانوا إذا أصاب إبلهم العرّ كووا السليم ليذهب العرّ عن السقيم فأسقموا الصحيح من غير أن يبرأ السقيم. وكانوا إذا أوردوا البقر الماء فلم تشرب ضربوا الثور ليقتحم الماء فتتبعه البقر، فقال الشاعر في ذلك:
هجوني إذ هجرت جبال سلمى ... كضرب الثور للبقر الظماء
وقال غيره:
كما ضرب اليعسوب إن عاف باقرٌ ... وما ذنبه إن عافت الماء باقر
وقال غيره:
إذا عركت عجلٌ بنا ذنب طيّءٍ ... عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان:
وإن امرأً يمسي ويصبح سالماً ... من الناس إلا ما جنى لسعيد
قيل: وأُتي عبد الصمد بن علي بأناسٍ من الشطار فأمر بضربهم وحلق رؤوسهم ولحاهم. ففعل بهم ذلك، وكان فيهم رجلٌ سناطٌ فقيل له: إن هذا ليست له لحية فهل تزيده في الضرب؟ قال: لا ولكن احلقوا لحية هذا الشرطي مكانه.
محاسن السطوة
قيل: وبلغ من عدل هرمز بن كسرى أنوشروان أنه ركب ذات يوم إلى ساباط المدائن متنزهاً وكان ممرّه على كروم وبساتين وأن رجلاً من أساورته اطّلع على كرم فرأى فيه حصرماً غضاً فأمر غلامه فنزل إليه وأخذ من عناقيد، وقال له: انطلق به إلى المنزل ليطبخ مرقةً حصرمية. فأقبل حافظ ذلك الكرم فتعلّق بالغلام وصاح حتى بلغ ذلك صاحبه ففزع وتخوّف عقوبة الملك فدفع منطقته إلى حافظ ذلك الكرم، وكانت محلاة بالذهب مرصعة بالجوهر، فافتدى بها نفسه من عقوبة الملك ورأى أن لحافظ ذلك الكرم عليه الفضل.وبلغ من عدله أيضاً أن ابنه أبرويز وقع مركب من مراكبه في بعض مسيرته في زرع على طريقه فأفسده فأقبل صاحب الزرع إلى ذلك المركب فأخذه وصار إلى الموكل بالنظر في مظالم الرعية فرفع أمره إلى الملك، فأمر الملك بالفرس أن تجدع أذناه ويقطع ذنبه ويغرّم صاحبه كسرى أبرويز مقدار مائة ضعف مما أفسد من ذلك الزرع. فخرج الموكل بذلك من عند الملك لينفذ أمر الملك في فرس ابنه، فتحمّل عليه ابنه بنفرٍ من عظماء المرازبة وسألوه أن يصفح عما أمر به الملك على أن يغرّم كسرى لصاحب الزرع ألفي ضعف ما أفسد المركب من زرعه. فلم يجبهم الموكل إلى ذلك وأخذ الفرس فجدع أذنيه وقطع ذنبه وغرّم كسرة مائة ضعف ما أفسد المركب من زرع الرجل وردّه عليه.
وحكي عن بهرام جوبين أن رجلاً من خاصته في مسيره إلى ملك الترك أخذ من امرأة أكّار سبذ تبن، فشكت ذلك إلى بهرام. فأمر الرجل فضربت عنقه ودفع سلبه إلى المرأة بدلاً من تبنها.
قيل: وبلغ من عدل كسرى أنوشروان أنه اتخذ وصيفتين وأمر أن تقوم واحدة عن يمينه وتقوم الأخرى عن شماله بأيديهما قضيبان من ذهب وهو جالس لينظر في أمور الناس. فكان إذا كاد أن تسهو حركتاه بالقضيب وقالتا له والرعية يسمعون: أيها الملك انتبه أنت مخلوق لا خالق، أنت عبد لا مولى، أنت فانٍ لا باقٍ، ليس بينك وبين الله جل وعز قرابة فانظر لنفسك وانصف الناس. فمضى على هذا حتى أتاه اليقين.
وقال أردشير: تعطيل الحدود تضرية للمجرمين، ويوم العدل على الظالم أمرّ من يوم الظالم على المظلوم.
المدائني قال: مرّ رجل من الدهاقين أيام زياد بحمار قد حُمل عليه خمر، فأخذه الحرس وقالوا: ألم تعلم أن الأمير قد نهى عن إدخال الخمر إلى مصر؟ قال: بلى، وهذا الخمر للأمير.
فلما بلغ زياداً ذلك قال: هذا رجل احتال للوصول إليّ. فدعا به وقال: ما أمرك؟ قال: لي أرض عند نهر المرأة فيها نخل، فأرسل ابن المرأة غلمانه ليصرموا بعض النخل فقلت لهم خذوا حاجتكم منها ولا تفسدوا، فأخذوا ما أرادوا وأتوه فأخبروه مقالتي، فأرسل إليّ وضربني وعقر نخلي.
فأرسل زياد معه رجلاً وقال له: انطلق به فإذا كنت قريباً من الأرض التي يذكر فسل من لقيت من رجل وامرأة عما يقول فإن اجتمعوا على مقالة واحدة ورأيت النخل قد عقر فخذ الذي أمر بقطعها فأجّله ثلاث ساعات، فإن أتاك بقيمة النخل لكل نخلة ألف درهم فخلّ سبيله، وإن مضت الثلاث الساعات ولم يأتك بذلك فاضرب عنقه وأتني برأسه. ومضى الرسول فسأل فكان الأمر كما حكاه، فأغرم قاطع النخل أربعين ألف درهم وحمل المال إلى زياد، فقال: لو أتيتني برأسه كان أحبّ إليّ. ودفع المال إلى صاحب النخل.
محاسن العفو
قيل: أخذ مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار بن أبي عبيد فأمر بضرب عنقه فقال: أيها الأمير ما أقبح بك أن أقوم يوم القيامة إلى صورتك هذه الحسنة فأتعلق بأطرافك وأقول: يا رب سل مصعباً فيم قتلني. فقال: اطلقوه. فقال: أيها الأمير اجعل ما وهبت لي من عمري في خفض. فقال: اعطوه مائة ألف درهم. قال: بأبي أنت وأمي أشهدك أن لابن قيس الرقيات منها النصف لقوله:
إنما مصعبٌ شهابٌ من الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
فضحك مصعب وقال: لقد تلطفت وإن فيك لموضعاً للصنيعة! وأمر له بالمائة الألف ولابن قيس بخمسين ألف درهم.
وذكر عن أبي العباس السفاح أنه غضب على رجل فذكره في ليلة من الليالي فقال له بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين إن فلاناً لو رآه أعدى خلق الله له لرحمه وأُنغض قلبه له. قال: ولم ذلك؟ قال: بغضب أمير المؤمنين عليه. قال: ما له من الذنب ما تبلغ به العقوبة هذا المبلغ! قال: منّ عليه يا أمير المؤمنين برضاك. قال: ما هذا وقت ذاك. قال: يا أمير المؤمنين إنك لما صغّرت ذنبه طمعت له في رضاك. فقال: إنه من لم يكن بين غضبه ورضاه فرجة لم يحسن أن يغضب ولا يرضى، وعلى هذا أخلاق الملوك.
قيل: وحضر صالح المرّيّ مجلس المنصور وعنده نفر من أهل بيته وقد ولي سعيد بن دعلج أحداث البصرة فدعا بنفر من أهل الجنايات ليعاقبهم، فلما أُتي بهم تحرك صالح ليقوم فقال له رجل ممن حضر: أين تقوم؟ والله ما أحتاج إلى جلوسك عنده إلا الساعة. فقال: صدقت. وقال: يا أمير المؤمنين إن الله جل وعز يقول في كتابه: " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين " . فبكى المنصور حتى اخضلّت لحيته بالدموع وأمر بتخليتهم.
قيل: وأُتي المنصور بجانٍ فأمر فيه بعقوبة غليظة. فقال له العباس بن محمد: يا أمير المؤمنين إنك غضبت لله جل ذكره فلا تغضب له بأكثر مما غضب لنفسه، وقد تبين لك ما يجب على مثله من الحد. فأمر بإطلاقه.
قال: وحدثنا المدائني قال: كان سهل بن سعد القشيري خرج مع محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن على المنصور، فقال المنصور: هذا كان عندنا من الفقهاء والعلماء فكيف خرج علينا؟ ثم قال له المنصور: والله لأقتلنك قتلةً ما قتلتها أحداً! فقال: يا أمير المؤمنين أن تحنث في يمينك هذه خير لك عند الله من أن تبرّها، واعلم يا أمير المؤمنين أنك إن قتلتني قتلت أربعة آلاف حديث سمعتها من الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن العباس عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يرويها أحد غيري.
قال: فوضع يده على خدّه وقال: هات. قال: حدثني الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن العباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عمل الجنة حزنٌ بربوة وعمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي شر الفتن، ومن ابتلي فصبر فيا لها ثم يا لها، وما امتلأ عبد غيظاً فكظمه إلا ملأه الله إيماناً. قال: هات. قال: حدثني الضحاك بن مزاحم عن جدك عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله: شرف المؤمن قيامه بالليل وعزلته عن الناس. فأمره بالجلوس ثم قال: هل من أحد يضمنك على أن تلزمنا فتسمر عندنا؟ وأقام معه.
وقيل: إنه سخط المهدي على بعض القحاطبة فقال: لا أراه إلا والسيف مسلول والنطع منشور. فأتي به وقد سل السيف ونشر النطع فبكى فقال: ألك مثل حركتك وتبكي؟ فقال: ما بكيت جزعاً من الموت ولكن بكيت أن ألقى الله وأنت ساخط عليّ. فقال المهدي: يا غلام ادرج النطع واغمد السيف:
إن الكريم إذا خادعته انخدعا
قيل: وعاتب المهدي شبيب بن شيبة في شيء بلغه عنه. فاعتذر إليه وقال: والله لو كان لي ذنب لأقررت ولكن عفو أمير المؤمنين أسرع إلي من براءتي.
وقال موسى بن عبد الله: أُتي موسى برجل فجعل يقرره بذنوبه ويتهدده، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين اعتذاري مما تقرعني به رد عليك وإقراري يوجب لي ذنباً ولكني أقول:
إن كنت ترجو في العقوبة رحمةً ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
فأمر بإطلاقه.
وقال العباس بن قيس: أُتي الهادي برجل أراد أن يضرب عنقه فقال: يا عدو الله ائتمناك فخنت واستنجدناك فلم تنجدنا، وأعطيناك فلم تشكرنا! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن كلامي وحجتي رد عليك وفيّ أكثر مما قال أمير المؤمنين، وعفوه وإحسانه يأتيان على ذلك. فكأنما كان ناراً صب عليها الماء، فخلى سبيله.
وحكي عن الرشيد في عبد الله بن مالك الخزاعي حين غضب عليه فأمر أهله وحشمه وجميع قراباته أن يتجنبوا كلامه ومعاملته ومعاطاته حتى أثر ذلك في بدنه وتحاماه أقرب الناس إليه من ولد وأهل فلم يدن منه أحد ولم يطف به.
فجاءه محمد بن إبراهيم الهاشمي وكان أحد أودّائه، في جوف الليل، فقال له: إن لك عندي يداً ما أنساها ومعروفاً ما أكفره وقد علمت ما تقدم به أمير المؤمنين في أمرك وها أنا بين يديك ونصب عينيك فمرني بأمرك فوالله لأجعلن نفسي وقاية لك. فقال له عبد الله خيراً وأثنى عليه وأخبره بعذره فيما وجد عليه الرشيد.
فلما دخل عليه قال له: أين كنت في هذه الليلة؟ قال: عبدك يا أمير المؤمنين عبد الله بن مالك كنت عنده وهو يحلف بطلاق نسائه وعتق مماليكه وصدقة ماله مع عشرين بدنة يهديها إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً إن كان ما بلغ أمير المؤمنين سمعه الله جل وعز من عبد الله ولا اطّلع عليه ولا همّ به أو أظهره. قال: فأطرق الرشيد ملياً مفكراً ومحمد يلحظه ووجهه يشرق مرة ويسفر أخرى وكان قد حال لونه حين دخل عليه، ثم رفع رأسه فقال: أحسبه صادقاً يا محمد فمره بالرواح إلى الباب. قال: وأكون معه؟ قال: نعم. فانصرف محمد إلى عبد الله فبشّره وأمره بالركوب رواحاً. فدخلا جميعاً، فلما أبصر عبد الله بالرشيد انحرف نحو القبلة وخرّ ساجداً ثم رفع رأسه، فاستدناه الرشيد فدنا وعيناه تهملان فأكب عليه وقبّل بساطه ورجليه وموطيء قدميه ثم طلب أن يأذن له في الاعتذار. فقال: ما بك حاجة إلى أن تعتذر إذ قد عرفت عذرك.
قال: فكان عبد الله يرى بعد ذلك إذا دخل على الرشيد بعض الانقباض، فشكا ذلك إلى محمد، فقال محمد: يا أمير المؤمنين إن عبدك عبد الله يشكو أثراً باقياً من تلك النبوة التي كانت من أمير المؤمنين ويسأل الزيادة في بسطه. فقال الرشيد: إنا معشر الملوك إذا غضبنا على أحد من بطانتنا ثم رضينا عنه بقي لتلك الغضبة أثر لا يخرجه ليل ولا نهار.
قيل: ومدح شاعر أبا حاتم كاتب الديوان فلم يصله بشيء فأنشأ يقول:
لتُنصفنّي يا أبا حاتم ... أو لأصيرنّ إلى حاكم
أول ما أتلفت من ماله ... خمسين ألفاً في شرى هاشم
خمسين ألفاً وضحاً كلها ... من مال هذا الملك النائم
فاحتفظها صاحب الخبر ورفعها إلى الرشيد فقال: صدق، لولا أني نائم ما كانت أموري تجري على هذا السبيل: وأمر بإخراج الجرائد من الدار إليه. فأول ما وجد على منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم.
فحدّث صالح صاحب المصلّى قال: دعاني الرشيد وهو على كرسي فقال: اذهب الساعة فخذ منصور بن زياد بالخروج من عشرة آلاف ألف درهم فإن لم يوردها بينك وبين المغرب فاضرب عنقه وجئني برأسه وأنا نفيّ من المهدي لئن أنت دافعت عنه لأضربنّ عنقك. قلت: يا سيدي فإن أعطاني بعضها ووقّت لي في بعضها وقتاً؟ قال: لا. فخرجت فأعلمته الخبر فأُسقط في يده وقال: ما أراد إلا قتلي لأنه يعلم أن مقدار مالي لا يبلغ ما به طالبني، ولكن تأذن لي أن أدخل بيتي فأودّع أهلي؟ فأذنت له فدخل ودخلت معه وبقيت واقفاً فبعث إلى أمهات أولاده وبناته ونسائه أن اخرجن إلي كما كنتن تخرجن عند موتي فإن هذا آخر أيامي ولا ستر لكن بعدي. فخرجن إليه مشققات الجيوب مخمّشات الوجوه بصراخ شديد. فبكى إليهن وبكين إليه وبكيت معهن ثم ودعهن وخرج وهنّ في أثره واضعات التراب على رؤوسهن، ثم قال: يا أبا مقاتل لو أذنت لي في المصير إلى أبي عليّ يحيى بن خالد البرمكي فكنت أوصيه بولدي وأهلي؟ فقلت: امض.
وصرنا إليه وقد نزل في ساعته وهو على كرسي يغسل يده، فلما توسطنا الدار جعل منصور يبكي ويمشي إليه حتى دنا منه وهو يسأله عن الحال فيمنعه البكاء من إخباره، فأقصصت عليه قصته فقال: ارجع إلى أمير المؤمنين وسله أن يهبه لي. قلت: ما لي إلى ذلك سبيل ولا يراني إلا والمال معي أو رأس منصور كما أمرني. فقال لخادم له: ائت فلانة فسلها كم لنا عندها من المال. فانصرف وذكر أن عندها خمسة آلاف ألف درهم. فقال لي: احملها وابلغ أمير المؤمنين رسالتي في باقيها. فأعلمته أن لا سبيل إلى حمل بعضها دون بعض. فأطرق ثم رفع رأسه ثم قال: يا غلام ائت دنانير فقل لها تبعث إلي بالجوهر الذي وهبه لها أمير المؤمنين. فبعثت إليه بحقّ فقال: هذا جوهر ابتعناه لأمير المؤمنين بمائتي ألف دينار وهو عارف به وقد جعلته له بمائة ألف دينار وهو ألفا ألف درهم، واحمل إليه هذه السبعة الآلاف الألف والرسالة. فأبيت.
فوجّه إلى الفضل ابنه: إنك كنت أعلمتني أنك على ابتياع ضيعة نفيسة وقد أصبتها ولا يوجد مثلها في كل وقت وابتياعها فرصة فاحمل إلي مالها. فعاد الرسول ومعه ألفا ألف درهم. ووجه إلى جعفر ابنه أن يوجّه إليه بألف ألف درهم. فأنفذ إليه صكاً أو صكاكاً إلى الجهبذ بها. فقبضت المال ووافيت الرشيد قبل المغرب وهو منتصب على حالته ينتظر رجوعي إليه. فأخبرته الخبر فلما انتهيت إلى خبر الحقّة قال: صدق وقد ظننت أنه لا ينجيه غيرهم، احمل هذا المال أجمع إلى أبي عليّ واردده عليه وأعلمه أني قد قبلت ذلك عن منصور ورددته عليه. ففعلت ذلك.
ولقيني بعد ذلك يحيى منصرفاً من الدار ومنصور معه يسايره ويضاحكه والناس خلفه فقلت: والله لأنصحن هذا الشيخ الكريم. فدخلت معه ودخل منصور ودعا بغدائه، فلما نهض منصور قلت: يا أبا علي إني والله ما رجعت معك إلا لنصحك وقد رأيت مكان هذا الرجل منك وكنا حين حملت المال أنهضته معي فوالله ما قطع نصف الصحن من الدار حتى تمثل بهذا البيت:
فما بُقيا علي تركتماني ... ولكن خفتما صرد النبال
فعارض أكرم فعلك بألأم خصلة فيه فدعاني الامتعاض من ذلك إلى إخبارك، فإني من تعلم في مودتك وطاعتك. فأكب على الأرض ساعة ثم رفع رأسه فقال: اعذره فقد كان عقله عزب عنه في ذلك الوقت. قال: فكان عذره له أحسن من إحيائه إياه.
قيل: وأمر الرشيد يحيى بن خالد بحبس رجل جنى جنايةً. فحبسه يحيى وسأله عنه الرشيد فقيل: هو كثير الصلاة والدعاء. فقال للموكل به: اعرض عليه أن يكلمني ويسألني إطلاقه. فقال له ذلك الموكل به فقال: قل لأمير المؤمنين إن كل يوم يمضي من نعمتك ينقص من محنتي والأمر قريب والموعد الصراط والحكم الله. فخرّ الرشيد ساجداً مغشياً عليه وأمر بإطلاقه.
قيل: وأُتي الرشيد برجل قد وجب عليه الحد فأمر أن يضرب فضرب. فقال: يا أمير المؤمنين قتلتني! قال: الحق قتلك. قال: ارحمني! قال: لست بأرحم لك ممن أوجب عليك الحد. ثم أمر بإطلاقه.
قال: وقال الرشيد للجهجاه: أزنديق أنت؟ فقال: كيف أنا زنديق وقد قرأت القرآن وفرضت الفرائض وفرقت بين الحجة والشبهة؟ قال: والله لأضربنك حتى تقرّ! قال: هذا خلاف ما أمر الله جل وعز به، أمر أن يضرب الناس حتى يقرّوا بالإيمان وأنت تضربني حتى أقر بالكفر! فالتفت الجهجاه إلى أبي يوسف القاضي فقال له: افته لا يهلك فيّ دينه.
قال: وبلغ الرشيد أن عبد الملك بن صالح دعا إلى نفسه فأمر بحبسه ثم دعاه ذات يوم فقال: أكفراً للنعمة وإظهاراً للغدر؟ قال: كلا يا أمير المؤمنين ولكنه مقالة كاشح واحتيال حاسد. قال: هذا قمامة كاتبك يذكر صحة ذلك. قال: أسمعنيه يا أمير المؤمنين! قال: اخرج يا قمامة. وكان من وراء الستر. فخرج فقال له: لقد انطويت عليه وواطيت من خالفه.
قال: يا أمير المؤمنين كيف لا يكذب عليّ من خلفي مَن يبهتني في وجهي مع نعمتي عليه وإحساني إليه؟ قال: فهذا عبد الرحمن ابنك! فقال: هو بين مأمورٍ وعاقٍّ، فإن كان مأموراً فلا ذنب له، وإن كان عاقاً فأقلّ عقوبته الشهادة بالزور عليّ. قال: فما الحكم؟ قال: أولى الناس بصفحك عنه من لا شفيع له إليك إلا حلمك. فقال الرشيد:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
والله لكأني أنظر إلى شؤبوبها قد همع وإلى عارضها قد لمع وكأني بالوعيد قد أورى ناراً فأقلع عن براجم بلا معاصم ورؤوس بلا غلاصم، مهلاً مهلاً بني هاشم فبي سهّل الله الوعر وصفّى الكدر وألقت الأمور أزمّتها.
نذار من حلول داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. فقال عبد الملك: أفذّاً أتكلم أم توأماً؟ قال: بل توأماً. فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله فيما ولاك، وراقبه فيما استرعاك، ولا تجعل الشكر بموضع الكفر، ولا الثواب بمحلّ العقاب، والله الله في رحمك أن تقطعها بعد أن وصلتها بظنّ يؤثم ثم تقول باغٍ ينهس اللحم وولغ في الدم، فقد جمعت القلوب على محبتك وذلّلت الرجال لطاعتك وكنت كما قال أخو كلاب لبيد بن ربيعة:
ومقامٍ ضيق فرّجته ... بلساني وبياني وجدل
لو يقوم الفيل أو فيّاله ... زلّ عن مثلي مقامي وزجل
فوثب الرشيد من مجلسه واعتنقه وجعل يقبل ما بين عينيه ويسترجع ويعتذر ثم خلع عليه حلل الرضى وتنفس الصعداء وقال: والله لقد دعوته وإني لأرى موضع السيف من قفاه وها أنا ذا نادم على ما كان مني، والله جل وعز يتجاوز بقدرته عن ذلك.
قال: وظفر المأمون برجل كان يطلبه، فلما دخل عليه قال: يا عدو الله أنت الذي تفسد في الأرض بغير حق، يا غلام خذه إليك واسقه كأس الموت.
فقال: يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تستبقيني حتى أؤيدك بمال؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل. قال: يا أمير المؤمنين فدعني أصلّ ركعتين أختم بهما عملي. قال: ليس إلى ذلك سبيل. قال: فدعني أنشد أبياتاً. قال: هات. فقال:
زعموا بأن الصقر صادف مرةً ... عصفور برٍّ ساقه المقدور
فتكلم العصفور تحت جناحه ... والصقر منقضّ عليه يطير
ما كنت خاميزاً لمثلك لقمةً ... ولئن شويت فإنني لحقير
فتهاون الصقر المدلّ بصيده ... كرماً وأفلت ذلك العصفور
فقال المأمون: أحسنت! ما جرى ذلك على لسانك إلا لبقية بقيت من عمرك. فأطلقه وخلع عليه ووصله.
قال: وقال عبد الله صاحب المأمون: دخلت على المأمون فإذا نطعٌ مبسوط ورجلٌ فوقه على رأسه رجل مسلول سيفه. فلما نظر إليّ المأمون قال: يا عبد الله شأنك والرجل. فحسرت عن ذراعي وقمت فوق رأسه واخترطت سيفي، فسلّط على المأمون النعاس فجعل يخفق برأسه ويقول: أستخير الله. فلما كان عند المساء قال لي: شأنك والرجل احفظه. فطرحت حمائل سيفي في عنقه وأردفته خلفي وذهبت به إلى منزلي ثم عدت اليوم الثاني إلى المأمون ففعل كفعله أمس. فلما كان اليوم الثالث قال لي المأمون: خلّ عن الرجل واعطه عشرة آلاف درهم. فأردفته خلفي ولم أجعل حمائل السيف في عنقه. فقال لي: ما لك لم تلق حمائل السيف في عنقي؟ قلت: إنه قد عُفي عنك. قال: فخلّ عني إذاً. قلت: أمرني أن أعطيك عشرة آلاف درهم. قال: لا حاجة لي فيها، خلّ عني. قال: إذا أُمرنا بأمرٍ انتهينا إليه. ثم قلت له: كنت تهمهم في قفاي إذا أنا أردفتك بشيء فما كنت تقول؟ قال: كنت أقول: اللهم أنت كل يوم في شأن لا يشغلك شأن عن شأن فاجعلني من شأنك حتى تنقل ما في قلب هذا الرجل من الغضب إلى الرضى ومن الغلظة إلى اللين والرقة يا أرحم الراحمين.
وعن إبراهيم بن المهدي أنه بينا هو في مجلس المأمون إذ تكلم بكلام أسقط فيه وكان كلامه يحتمل أمرين. فقام وعلم أنه قد أخطأ فقال: إن رأى سيدي أن يأذن لي في الكلام. قال: قل. قال: نساؤه طوالق وماله صدقة وعبيده أحرار وكل نذر وضعه الله جل وعز بين عباده ففي عنقه دون الخلق حتى يفي به إن كان ما تكلم به إلا لجهة كذا وكذا وتأويل كذا وكذا. قال: فتبسم المأمون وقال: اجلس، إني والله ما ذهبت حيث ظننت وما كنت لأعفو عن الكل وآخذ بالجزء، ولولا أني في مجلس يرقّ عن الإغضاء على أكثر الحالات ثم بلغ مني رجل ما يبلغ من عبده ما وجد عندي إلا الصفح والعفو، وما أحسبني أؤجر عليه إذ كان لا يؤثر فيّ وإنما الأجر بقسط الألم وميزان المضض.
وعن بعضهم أن والياً أُتي برجل قد جنى جناية فأمر بضربه، فلما مُدّ قال: بحق رأس أمك إلا عفوت عني! فأبى. فقال: بحق عينيها! قال: اضرب. قال: بحق خدّيها ونحرها! قال: اضرب. قال: بحق ثدييها! قال: اضرب. قال: بحق سرّتها! قال: دعوه لا ينحدر إلى أسفل.
مساوئ تعدي السلطان
قال: قال جميل بن بصبهري: إياك أن تصحب السلطان بالجرأة عليه والتقصير في المعرفة بقدره والتهاون بأمره، ولتكن صحبتك له بالحذر وشدة التوقي كما تصحب الأسد الضاري والفيل المغتلم والأفعى القاتلة، ولا تصحب الصديق إلا بالتواضع ولين الجانب، واصحب العدو بالحجة فيما بينك وبينه والإعذار عليه، واصحب العامة بالبر والبشر الحسن. وقد قيل: سبع غشوم خير من والٍ ظلوم.
وحدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: أُتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج وعنده عمر بن عبد العزيز وخالد بن الريان فقال له الوليد: ما تقول في أبي بكر؟ قال: صاحب نبي الله في الغار وثاني اثنين رحمه الله وغفر له. قال: فما تقول: في عمر؟ قال: هو الفاروق رحمه الله وغفر له. قال: فما تقول في عثمان؟ قال: كان سنياتٍ من خلافته ملازماً للعدل. قال: فما تقول في مروان بن الحكم؟ قال: لعن الله ذاك. قال: فما تقول في عبد الملك؟ قال: ذلك ابن ذاك لعن الله ذاك. قال: فما تقول فيّ؟ قال: بنيّ ذينك وأنت شرّ الثلاثة. فقال: يا عمر ما تقول فيما تسمع؟ قال: يا أمير المؤمنين ما أحد أعلم بهذا منك وأنت أعلى به عيناً. فألحّ عليه والله لتقولنّ، فقال: أما إذا أبيت يا أمير المؤمنين إلا أن أقول فسبّ إياه كما سب إياك وأن تعفو أقرب للتقوى. قال: ليس إلا هذا. قال: لا يا أمير المؤمنين إلا أن تدخلك جبرية، فأما الحق فليس إلا هذا.
فالتفت إلى خالد بن الريان وهو قائم على رأسه ثم قام وهو غضبان. فقال خالد: والله يا عمر لقد نظر إليّ أمير المؤمنين نظرة ظننت أنه سيأمرني بضرب عنقك. قال: ولو أمرك كنت تفعل؟ قال: إي والله. قال: أما إنه كان يكون شراً لكما وخيراً لي.
ثم سكت عنه وبقي ذلك في قلبه، فلما قام الوليد من مجلسه دخل على امرأته أم البنين بنت عبد العزيز وهي أخت عمر فقال: أخوك الحروري والله لأقتلنه.
فمكث أياماً وعمر في منزله لا يحضر الباب ولا يلتمس المعذرة، فأتاه رسول الوليد وقت القائلة فدعاه، فلما دخل من باب القصر عدل به إلى بيتٍ فأدخل فيه وطيّن عليه الباب. فرجع صاحب دابته إلى أهله فأخبرهم فأخبروا أخته بذلك فبحثت عن خبره فلم تجد أحداً يخبرها بخبره وذلك يوم الثالث. فقيل لها: إن فلاناً الخصي يعلم علمه. فأرسلت إليه فأعلمها بموضعه. فدخلت على الوليد فناشدته الله والرحم وقبّلت يده. فقال: قد وهبته لك إن أدركته حياً قال. ففتحوا عنه الباب فوجدوه قد انثنى عنقه فحملوه إلى منزله وعالجوه.
فلما توفي الوليد وكان سليمان بعده فهلك وتولى عمر الخلافة جاء خالد بن الريان في اليوم الذي استخلف فيه عمر، رحمه الله، متقلداً سيفه، فقال له عمر: يا خالد انطلق بسيفك هذا فضعه في بيتك واقعد فيه فإنه لا حاجة لنا فيك، أنت رجل إذا أُمرت بشيء فعلته لا تنظر لدينك. فلما ولى خالد نظر عمر في قفاه فقال: اللهم يا رب إني قد وضعته لك فلا ترفعه أبداً. فما لبث إلا جمعة حتى ضربه الفالج فقتله.
قال: ولما قالت التغلبية للجحاف بن حكيم في وقعة البشر: فضّ الله عمادك، وأطال سهادك، وسلبك حياتك، فوالله لئن قتلت إلا نساءً كالدمى أو أسافلهنّ دميّ وأعاليهنّ ثديّ. فقال لمن حوله: لولا أن يلد منها حكيم لخليت سبيلها. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال: إنما الجحاف جذوة من نار جهنم.
قيل: ولما بنى زياد البيضاء بالبصرة أمر أصحابه أن يسمعوا من أفواه الناس، فأُتي برجلٍ قيل إنه تلا: " أتبنون بكلّ ريعٍ آيةً تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون " . فقال: ما دعاك إلى هذا؟ قال: آية من كتاب الله عز وجل حضرت. قال: والله لأعلمنّ فيك الآية الثانية: " وإذا بطشتم بطشتم جبارين " . فأمر فبُني عليه ركن من أركان القصر.
قيل: إن الحجاج لما أتى المدينة أرسل إلى حسن بن حسن فقال: هات سيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودرعه. فقال: لا أفعل. قال: فجاء الحجاج بالسيف والسوط والعصا فقال: والله لأضربنك بهذه العصا حتى أكسرها! ثم قال: لأضربنك بهذا السوط حتى أقطعه، ثم لأضربنك بهذا السيف حتى تبرد أو تأتيني بهما! فقال الناس: يا أبا محمد لا تتعرّضن لهذا الجبار. قال: فجاء الحسن بسيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودرعه فوضعهما بين يدي الحجاج. فأرسل الحجاج إلى رجل من آل أبي رافع فقال له: هل تعرف سيف رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فخلطه بين أسيافه ثم قال: أخرجه، فأخرجه. ثم جاء بالدرع فنظر إليها فقال: هناك علامة كانت على الفضل بن العباس يوم اليرموك فطعن بحربة فخرقت الدرع. فرفعناها فوجدنا الدرع على ما قال. فقال الحجاج للحسن: أما والله لو لم تجئني به وجئت بغيره لضربت به رأسك.
وذكروا أن الحجاج قال يوماً لحاجبه: اعسس الليلة بنفسك فمن وجدته فجئني به، فلما أصبح أتاه بثلاثة نفر، فقال الحجاج لواحد منهم: ما كان سبب خروجك بالليل وقد نادى منادٍ ألا يخرج أحد ليلاً؟ فقال: أصلح الله الأمير! كنت سكران فغلبني السكر فخرجت ولا أعقل. ففكر الحجاج ساعة ثم قال: سكران غلبه سكره خلّوا عنه لا تعودنّ. وقال للآخر: فأنت ما كان سببك؟ قال: أصلح الله الأمير! كنت مع قوم في مجلس يشربون فوقعت بينهم عربدة فخفت على نفسي فخرجت. ففكر الحجاج في نفسه ثم قال: رجل أحبّ المسالمة خلّوا عنه. ثم قال للآخر: ما كان سبب خروجك؟ قال: لي والدة عجوز وأنا رجل حمّال فرجعت إلى بيتي فقالت والدتي: ما ذقت اليوم طعاماً، فخرجت ألتمس لها ذلك فأخذني عسس الأمير. ففكر ساعة ثم قال: يا غلام اضرب عنقه. فإذا رأسه بين رجليه.
محاسن الحلم
حُكي عن أنوشروان أن وفوداً وردوا عليه من قبل الملوك فأتوه واستأذنوا، فأمر رجلاً من بطانته أن يأتيه بتاجه. فأقبل الرجل بالتاج فارتعشت يده وسقط التاج من يده فانكسر وذلك بعين كسرى. فغض طرفه لئلا يرعبه. فتناول الرجل التاج وقال له كسرى: لا بأس عليك! انطلق إلى الحاجب ومره أن يصرف الوفود في هذا اليوم.وحكي عنه أيضاً أنه دعا كاتبه وعرض عليه كتاباً ورد عليه من قبل أصبهبذ خراسان فيه أخبار من أخبار الترك فجعل يؤامره فيها وإن رهطاً من خاصته قاموا خلف سريره فتسمعوا عليه فعطس واحد منهم فالتفت كسرى ونظر إليهم وقال: لا ينبغي أن تسمعوا سر الملك، وقد صفحت عنكم فلا تعودوا لمثل ذلك.
قال: وقال رجل من قريش: ما أظن معاوية أغضبه شيء قط. فقال بعضهم: إن ذكرت أمه غضب. فقال مالك بن أسماء المنى القرشي: أنا أُغضبه إن جعلتم لي جعلاً. ففعلوا. فأتاه في الموسم فقال له: يا أمير المؤمنين إن عينيك لتشبهان عيني أمك. قال: نعم كانتا عينين طال ما أعجبتا أبا سفيان. ثم دعا مولاه شقران فقال له: اعدد لأسماء المنى دية ابنها فإني قد قتلته وهو لا يدري. فرجع وأخذ الجعل. فقيل له: إن أتيت عمرو بن الزبير فقل له مثل ما قلت لمعاوية أعطيناك كذا وكذا. فأتاه فقال له ذلك فأمر بضربه حتى مات. فبلغ معاوية فقال: أنا والله قتلته. وبعث إلى أمه بديته وأنشأ يقول:
ألا قل لأسماء المنى أم مالكٍ ... فإني لعمر الله أهلكت مالكا
قيل: وجاء رجل إلى الأحنف بن قيس فلطم وجهه فقال: بسم الله يا ابن أخي ما دعاك إلى هذا؟ قال: آليت أن ألطم سيد العرب من بني تميم. قال: فبرّ يمينك فما أنا بسيدها، سيدها حارثة بن قدامة! فذهب الرجل فلطم حارثة فقام إليه حارثة بالسيف فقطع يمينه. فبلغ ذلك الأحنف فقال: أنا والله قطعتها.
وعن إسحاق بن إسماعيل قال: حدثني أبي أنه كان يتغدى مع يحيى بن خالد البرمكي يوماً إذ طلب أرزةً اشتهاها فأمر الطباخ باتخاذها بدهن النارجيل فغلط الطباخ وجعل مكان الدهن نفطاً وأتاه بها. فلما وضع يده فيها قال: ارفع. ولم يقل شيئاً سوى ذلك.
وحكى جعفر ابن أخت أبي العباس قال: دخلت على المأمون ويداه معلقتان من شيء رطب أكله قد مسته النار وهو يصيح: يا غلام. وكلهم يسمع صوته فما منهم أحد يجيبه. فخرجت إليهم وأنا أفور غضباً فإذا بعضهم يلعب بالشطرنج وبعضهم بالكعاب وبعضهم يهارش الديوك. فقلت: يا بني الفواعل أما تسمعون أمير المؤمنين يدعوكم؟ فقال واحد: حتى أقيس هذا الكعب. وقال الآخر: قد بقيت على ضربه. وقال آخر: امض فإني أتبعك. فما علمت ما أخاطبهم به من الحنق عليهم، فإذا المأمون قد صوّت بي وأنا أقذف أمهاتهم. فأتيته وهو يضحك. فقال: ارفق بهم فإنهم بشر مثلك. فقلت: تقول هذا وأنت معلّق اليد؟ فقال: وهذا معاشرتك خدمك؟ فقلت: والله لو فعل بي هذا ولدي من دون خدمي لقتلته! قال: هذه أخلاق السوقة وأخلاقنا أخلاق الملوك. فقلت: لا والله ما هذه أخلاق الملوك ولا أخلاق الأنبياء عليهم السلام.
وقال ثمامة بن أشرس: والله إني لفي مجلس المأمون وعنده عمرو بن مسعدة وأبو عباد والعباسي ومحمد بن أبي محمد اليزيدي إذ دخل عليّ بن صالح فقال: محمد بن الفضل بن سليمان الطوسي بالباب. قال: يدخل. فدخل وسلم وفي يده كتاب فأشار به إلى المأمون. فقال المأمون: اذكر ما فيه. فقال: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك سر من أسرار الخليفة لا يحتمل إذاعته! قال: وإن كان ذلك فاذكره. قال: يا أمير المؤمنين لست فاعلاً! قال: يا هذا ما بحضرتنا من نكتمه أسرارنا فأبد ما عندك. فأعاد محمد بن الفضل مثل قوله الأول والثاني. فقال المأمون إني لأعلم ما في كتابك! قال: هذه كهانة! قال: فنزل المأمون عن فرشه ورفع ستراً كان في ظهر مجلسه ودخل وأشار إلينا وقال: لا تبرحوا. فجاء علي بن صالح فأخذ بيد الطوسي وقال: قم فأنت أشأم من البسوس. فأقعده خلف حائط بقرب المجلس لكي إن خرج لا يراه وإن دعاه أحضره. قال: فجعل كل واحد منا يرجف بجنسٍ من المكروه وكلنا خائفون عليه، فواحد يقول: يأخذ الساعة أمواله وينفيه. وآخر يقول: يضرب عنقه. قال: فأبطأ علينا المأمون ثم خرج ووجهه مسفر ضاحكة سنّه، فقال: سمعتم ما كلمني به هذا الخائن، إنه والله لما بلغ مني كلامه لم أجد بدّاً ولا دواء إلا ملاعبة الجواري والنساء ليزول عني ما قد تداخلني، وقد أسمعني ما أكره بضع عشرة مرة واحتملته.
مساوئ من سخط عليه وحبس
في الحديث المرفوع قال: شكا يوسف، عليه السلام، إلى ربه جل وعز طول الحبس وأوحى الله تبارك وتعالى إليه: أنت حبست نفسك حيث قلت رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، ولو قلت العافية أحب إلي عوفيت.قال: وكتب يوسف على باب السجن: هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء. ودعا لأهل الحبس بدعوتين هما معروفتان فيهم إلى اليوم: اللهم اعطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعم عليهم الأخبار. فكل الناس يرحمونهم والأخبار من كل جهة عندهم.
قال: ولما خرج جعفر الأحمري من الحبس وأُدخل على المهدي في الحديد قال له: يا فاسق أزلّك الشيطان وأغواك، وفي غمرة الجهل أرداك، وعن الهدى بعد البصيرة أعماك، حتى تركت الطريقة ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة، كيف رأيت الله كشف أمرك وأعلن فسقك وأظهر ما كنت تخفي من سقم سريرتك وخبث نيتك فأوردك حوض منيتك وذلك بما قدمت يداك وما الله بظلام للعبيد! قال جعفر: لا والذي لم يزل بعباده خبيراً، وبعث محمداً، عليه وعلى آله السلام، بالحق بشيراً، طهر أهله من دنس الريب تطهيراً، ووقفني بيد يديك أسيرا، وجعلك علينا سلطاناً أميرا، ما خنت الإسلام نقيرا، ولا أضللت الهدى منذ كنت بصيرا، فلا تقدم عليّ بالشبهة تقديرا، بسعي ساعٍ سوف يجزي بسعيه سعيرا.
فقال المهدي: ما يغني عنك وسواسك، فما تهذي من أم رأسك، قد تناهت إليّ أخبارك، وأدّاها من كان يقفو آثارك، ويعرف أسرارك، ومن بايعك من أعوانك الذين وازروك على ضلالك، فأقلل، لا أم لك، تشجعك، فقد حلّ قضاؤك، وحان حصادك.
فقال جعفر: إن تقتلني تقتل مني علماً فلا تجعل لي على ظهرك وزراً فأصير لك يوم القيامة خصما، وأنت تعلم أنك لا تجيء بقتلي عدلاً ولاتنال به فضلاً، فاتق الذي خلقك وأمر عباده ملكك وبالعدل فيهم أمرك، ولا تحكم عليّ بحكم عن الهدى مائل، فإنك للدنيا مفارق وعنها راحل، وكلّ ما أنت فيه فمضمحل زائل.
قال له المهدي: تطالبني وأنت المطلوب، وبباطلك تغلب حقي وأنت المغلوب، الآن ظهر فسادك، وبلغ غرسك، ودبّت عقاربك، اللهم إلا أن تقرّ بذنبك وتعترف بجرمك وتتوب إلى ربك وتحقن بالإنابة دمك، فإن فعلت ذلك أمهلنا أمرك وأطلنا حبسك وإلا فاحتسب نفسك ولا تلم إلا جهلك.
قال جعفر: ما لي ذنب فأستغفر ولا جرم فأعترف ولا لي بك قوة فأنتصر، وأنت على ظلمي مقتدر، فإن كنت تعلم أن ما بعد الموت مصدر ولا للعباد بعد البلى محشر ولا للظالم موعد يخاف منه ويحذر فاعمل من هذا ما شئت واستكثر.
قال المهدي: لا والذي بمكة بيته الحرام، وحوله الشعث العاكفون قيام، ما أخشى في إقامة الأحكام عليك وعلى أشباهك إثماً ولا زوراً، فاستسلم للقتل ودع الكلام، فإنه إذا عقر الأساس تداعى النظام، وإذا انكسرت القوس تعطلت السهام، وأنت فطال ما أعنت على إطفاء النور بريح الظلام.
قال جعفر: اعف فإنك كريم جواد سامح، ولا تقبل فيّ قول العدو الكاشح، فإني من الإسلام على الطريق الواضح، رفيق على أهله ولهم ناصح، أبرّ العالمين بفهم راجح، فلا تقدم عليّ بقول كلب نابح، فقتلك إيايّ عمل غير صالح.
قال المهدي: مذهبك واعتقادك تزعم أن الآخرة بعد فراق الساهرة، وأن الناس كانوا أعلاماً زاهرة، وأشجاراً ناضرة، وزروعاً غاضرة، تلبث يسيراً ثم تعود هشيماً، وإن من مات لا يعود كما أن ضوء المصباح إذا طفيء لا يرجع.
قال جعفر: لا والذي يخلق ويبيد، وهو أقرب إلينا من حبل الوريد، ما قلت ذلك وهو له شهيد، وإني أخلّص له التوحيد والتفريد والمشية والتحديد، وأشهد أنه الغفور الودود، يعلم منقلب العبيد.
قال المهدي: إن كنت تحب خلاص نفسك ورقبتك فأحضرني كتاب زندقتك الذي بالجهل ألّفته وبالباطل زيّنته وبالضلال زخرفته، سميته أسّ الحكمة وبستان الفلسفة، زعمته مستخرجاً من ديوان الإلهام منظماً بحسن الكلام، عنّفت فيه الإسلام وأضللت فيه الأنام.
فقال جعفر: لا والذي خلق الظلمات والنور، ودبّر الأمور وهو قادر على أن يبعث من في القبور، ما هذا إلا إفك مجترح وزور، وإن ديني لظاهر منير تقديمي ذرية من هو مع الله جل وعز في كل فرض لازم أمام النبيين في البيت المعمور، فاتق الذي خلقك وأمر عبادك قلّدك يعلم خفيات الأمور.
قال المهدي: وأصفح لك عن هذا فما حجتك في كتابك الذي أضلّ أهل الشقاق والنفاق ومن منهم في الأندية والأسواق يقرأونه ويتدارسونه في الآفاق، أما بعد أعلمكم أن الله جل وعز عدل لا يوالي الظالمين ولا يرضى فعال الجاهلين، وأنه ليس لله بوليّ من رضي بأحكام الجائرين، فسيحوا في الأرض حيث لا تنالكم أيدي المعتدين، فإن بني العباس طغاة كفرة، أولياؤهم فسقة وأعوانهم ظلمة، دولتهم شرّ الدول، عجّل الله بوارهم وهدم منارهم والعاقبة للمتقين.
قال جعفر: هذا والله بهتان عظيم جداً قذفني به قاذف عمداً وأنت تعلم أني ما خالفت لكم أمراً ولا غبت منكم أحداً، فاقبل المعذرة وأقل العثرة وتغمد الهفوة واغتفر الزلة فإنك راعٍ مسؤول.
قال المهدي: أولم أُبلَّغ أنك في الغوغاء تحثهم على شق العصا ومخالفة الأمر وتحيدهم عن طاعة الخلفاء، فأي داهية أدهى منك؟ قال جعفر: ما بُلّغت حقاً ولقد طوى النصيحة من أودع قلبك بهتاناً وإفكاً فلا تقبل فيّ قول من ظلم واعتدى وبفسادي إليك سعى، فإن الله جلّ وعز سائله يوم يودّ الظالم يا ليته لم يكن أميراً، ولا كان المضلّ له وزيراً.
قال المهدي: إنك لجاهل أن تقيم اعوجاجك بكثرة احتجاجك، هيهات لا يكدر صفوتي مزاجك، وقد قيل: من ظفر بحية لا يأمن لسعها ثم لم يشدخ رأسها كانت سبب حتفه، ولعمري إن من يكون له عدو مثلك يرقب غرّته وينتظر فورته ولا يطلق يده بقتله لعاجز.
قال جعفر: وما بلغ الله بقدر النملة ونكاية النحلة وإنما يكتفي مثلي من مثلك بلحظة، فالكرماء رحماء بررة، والقسوة في اللئام الشررة. قال المهدي: من تنته أيامه لاحت في الظلام أعلامه وأسرع به أن يذوق حمامه، يا غلام سيفاً قاطعاً وضارباً حاذقاً! قال جعفر: إن كنت تؤمن بالمعاد وتتقي من الحشر يوم التناد، يوم يجمع الله فيه العباد، تعلم أن طالب ثأري لك بالمرصاد، ومن لم يكن له في الموت خير فلا خير له في الحياة، إن قدّمتني أمامك فأنا قاعد لك على الجادة التي ليس عنها مرحل الحاكم يومئذ غيرك.
قال: فسكت المهدي طويلاً ثم التفت إلى أصحابه فقال: كيف أقدم على قتل رجل لا يخاف مكيدتي ولا يرعبه سلطاني ولا يتقي سطوتي وأعواني، يناصبني كلامي ويفسخ احتجاجي، كيف ولو كنا بين يدي من لا يخاف جوره ولا يُتقى ميله وحيفه كان لسانه أمضى وقلبه أجرى وخصمه أذلّ! خلّوا سبيله. فمضى.
وحكي عن عدي بن زيد أنه كان ترجماناً بين كسرى وبين العرب وأنه أشار على كسرى بتولية النعمان بن المنذر الملك، وكان له عبد يُعرف بعديّ بن قيس فوشى إلى النعمان بعديّ بن زيد وذكر أنه كان السبب في تمليكه، فسجنه النعمان وسخط عليه وتغير له وحبسه. فكتب عديّ بن زيد إلى النعمان يستعطفه:
أبا منذرٍ جازيتني الودّ سخطةً ... فماذا جزاء المجرم المتبغّض
وإن جزاء الحرّ منك كرامةٌ ... وليس بنصحٍ فيك بالمتعرّض
فلم يحفل النعمان بقوله. فقال يذكر حبسه:
إن للدهر صولةً فاحذرنها ... لا تبيتنّ قد أمنت الدهورا
قد يبيت الفتى صحيحاً فيردى ... ولقد بات آمناً مسرورا
إنما الدهر ليّنٌ ونطوحٌ ... يترك العظم واهناً مكسورا
فسل الناس أين آل قبيسٍ ... طحطح الدهر قبلهم سابورا
خطفته منيّةٌ فتردّى ... وهو في ذاك يأمل التعميرا
ولقد عاش ذا جنودٍ وتاجٍ ... ترهب الأسد صوله والزئيرا
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم لم يبق منهم مذكورا
ثم إن عدياً كتب إلى صاحب له مقيم بباب كسرى يقال له أبيّ:
فأبلغ أبياً على نأيه ... وهل ينفع المرء ما قد علم
بأن أخاك شقيق الفؤاد ... يكاد لنأيك أن يخترم
لدى ملكٍ موثقٌ بالحدي ... د إما بحقٍّ وإما ظلم
فلا تلفينّ كثير الرق ... د بل اصرم الرأي ثم اعتزم
فلما قرأ هذه الأبيات دخل على كسرى فأخبره بما كان من النعمان إلى عديّ، فغضب كسرى وبعث برجل من مرازبته إلى النعمان أن يطلق عدياً ويبعث به إليه. فأقبل الرسول حتى دخل إلى النعمان وأدّى إليه رسالة كسرى.
فقال: نعم أنا أطلقه. ودسّ إلى عديّ من قتله ثم قال للرسول: ادخل السجن حتى تخرجه. فلما دخل إليه وجده ميتاً، فرجع إلى النعمان وقال له: عجلت عليه وقتلته وأنا مخبر كسرى بذلك. فوصله بألف دينار وسأله تحسين أمره عند كسرى. فانصرف الرسول فأخبر كسرى بموته.
وكان لعديّ ابن يقال له زيد، فخاف النعمان على نفسه فهرب من الحيرة حتى أتى المدائن فدخل على كسرى وتعرّف له فقرّبه وبرّه. فقال لكسرى ذات يوم: أيها الملك إن لعبدك النعمان ابنة يقال لها حرقة وأختاً تسمى سعدى وابنة عم تسمى لباب وليس في جميع الأقاليم أحسن منهنّ. فكتب كسرى إلى النعمان أن احمل إليّ ابنتك حرقة وأختك سعدى وابنة عمك لباب على يدي خادم له. فقال زيد: أيها الملك ابعث بي مع الخصي. فقال: اخرج على اسم الله وعجّل علي بالنسوة. فخرجا حتى قدما الحيرة فدخلا على النعمان ودفعا إليه الكتاب. فلما قرأه قال: أما في عين السواد وفارس ما يغني الملك عن العربيات السود الأبدان الحمش السيقان؟ فقال الخادم لزيد: ما يقول النعمان؟ قال: يقول: ما في بقر فارس والسواد ما يغني الملك عن العربيات؟ فخرج الخادم حتى أتى كسرى فأخبره بما سمعه من النعمان وقال: أيها الملك إن الكلب الذي بعثت بي إليه قد سمن وتعدى طوره. فوقع ذلك في قلب كسرى وغضب على النعمان ودعا إياس بن قبيصة الكنانيّ وولاه مكان النعمان فأمره أن يكبل النعمان بالحديد ويبعث به إليه، فبلغ ذلك النعمان فاستودع أهله وولده وخزائنه وسلاحه وابنته حرقة وخيله عند هانيء بن مسعود المزدلف ثم خرج حتى أتى المدائن فلقي زيد بن عدي فقال له: يا ابن اللخناء لئن بقيت لك لألحقنك بأبيك! فقال له زيد: أما والله بنيت لك عند الملك بنية لا تصلح بعدها أبداً. ثم دخل على كسرى ودخل زيد بعده. فقال زيد: أيها الملك إن هذا العبد إذا جلس على سريره ووضع التاج على رأسه ودعا بشرابه لم يظن أن لك عليه سلطاناً. فأمر كسرى بالنعمان أن يلقى بين أرجل الفيلة، ففُعل به ذلك فداسته الفيله وقتلته، وهيج ذلك حرب ذي قار.
وحدث الهيثم بن الخليل الشيعي، وكان موكلاً بحبس البرامكة من قبل هرثمة بن أعين، قال: أتى مسرور الخادم الحبس يوماً ومعه خدم في يد بعضهم منديل ملفوف على شيء، فأمرني بإخراج الفضل بن يحيى، فأخرجته. فقال: إن أمير المؤمنين يقول لك اصدقني وإلا فقد أمرت مسروراً أن يضربك مائتي سوط. فنكس رأسه ساعة. فقال له مسرور: يا أبا العباس الرأي لك أن لا تؤثر مالك على مهجتك فإني لا آمن إن نفّذت ما أمرني به أن آتي عليك، ومع هذا فإن صرت إلى رضى أمير المؤمنين فإن المال يأتيك كما أتاك وإن يك غير ذلك فما حاجتك إلى المال؟ فرفع رأسه وقال: والله يا أبا هاشم ما كذبت أمير المؤمنين ولا كذبتك، لو كانت الدنيا لي ثم خيّرت بين الخروج منها وبين أن أُقرع بمقرعة بسببها لاخترت الخروج منها، وأمير المؤمنين يعلم وأنت تعلم أني كنت أصون عرضي بمالي فكيف أصون الآن نفسي بمالي! فإن كنت أُمرت بشيء فامض له.
فأمرنا بالمنديل فنفض وسقط منه سياط بثمارها، فضربه مائتي سوط، وتولى ضربه الخدم فضربوه أشدّ ضرب ولم يحسنوا أن يضربوه فضربته الحمرة وخيف عليه. فقيل له: هاهنا فتىً كان في الحبس هو بصير هذا. فأتيته فسألته فقال: لعلك تعالج الفضل بن يحيى فقد بلغنا خبره. قلت: نعم. قال: فامض بي إليه. قلت: وتجسر على ذلك؟ قال: نعم والله لو قُطّعت. فجئت به فلما رآه قال: ليس بشيء، ضرب خمسين سوطاً! قلنا: بل ضُرب مائتين! قال: هذا أثر خمسين، وأحتاج أن أنيمه على باريّة وأدوس صدره. فجزع الفضل من ذلك وأبى أن يفعل، فخوفناه تلف نفسه وناشدناه حتى فعل، فأخذ بيده بعض من حضر وأخذت بيده الأخرى ثم جررناه على البارية فإذا عليها صورته من لحم ظهره. فقال: لا بد لي من أن أعيده. فأعاده. ثم اختلف إليه، فبينا هو ينظر إليه يوماً إذ خرّ ساجداً فقلت: ما لك؟ قال: برأ أبو العباس بإذن الله. فدنوت فأراني في ظهره لحماً ناتئاً كهيئة الدعاميص الحمر ثم قال: أتحفظ قولي إنه أثر خمسين سوطاً؟ لو ضرب ألف سوط ما كان أثرها بأشد من ذلك، ولكني قلت ما قلت لتقوى نفسه فيعينني على علاجه. وخرج.
وسألني الفضل أن ألقى بعض إخوانه وأعلمه أنه يحتاج إلى عشرة آلاف درهم. فأتيت بعض إخوانه وأعلمته أنه يحتاج إلى عشرة آلاف درهم. فسألني أن أحملها إليه وأمرني بدفعها إلى الرجل الذي عالجه. فلما مضيت بها إليه وجدته غائباً عن منزله ورأيت بابه مغلقاً فملت إلى مسجد هناك منتظراً له حتى عاد فقمت إليه ودخلت منزله فإذا بيت فيه حصيران ومسورتان وطنبور وثلاث دساتيج وقنانيّ وأقداح. فقال: ما حاجتك؟ فأقبلت أعتذر إليه وأذكر حاله ثم أعلمته ما وجهّني له. فنخر نخرةً حتى أفزعني ثم قال: عشرة آلاف! فجهدت الجهد كله به أن يقبلها فأبى، فعدت إلى الفضل فأعلمته. فقال: إنه استقلّها والله! قلت: لا أظن. قال: بلى وإلا فما معنى قوله عشرة آلاف درهم! ولكن تعود إلى صاحبنا وتسأله عشرة آلاف أخرى وتحملها إليه.
فحملتها إلى الرجل فنخر نخرة أشدّ من نخرته الأولى ثم قال: أنا أعالج فتىً من الأبناء بكراء، أنا طبيب! والله والله لو كانت عشرة آلاف دينار ما قبلتها. فخرجت من عنده وسألت عن معيشته فقيل: له برج يصعد إليه في كل يوم فيبيع فراخه وصيده ويعتكف على ما تراه. فرجعت إلى الفضل وأخبرته فتعجب ثم قال: أخبرني بأعجب ما رأيته منا وأحسنه. فاندفعت أحدثه. فلما رأى إطنابي قال: بالله أينا أحسن أفعالاً نحن أم هذا الفتى؟ فإذا هو يستقبح أفعالهم مع فعله ويستصغرها.
قال: ودخل ابن الزيات على الأفشين وهو محبوس مكبل بالحديد فقال:
اصبر لها صبر أقوامٍ نفوسهم ... لا تستريح إلى عقلٍ ولا قود
فقال الأفشين: من صحب الزمان رأى الكرامة والهوان. ثم قال:
لم ينج من خيرها أو شرها أحدٌ ... فاذكر شآبيبها إن كنت من أحد
خاضت بك المنية الحمقاء غمرتها ... فتلك أمواجها ترميك بالزبد
الشعر الأول والثاني لأبي سعد المخزومي. قال حمدون بن إسماعيل: بعث الأفشين إلى المعتصم من الحبس أن يا أمير المؤمنين مثلي ومثلك مثل رجل ربّى عجلاً له حتى أسمنه وكبر وحسنت حاله وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعاً على أن قالوا له ذات يوم: ويحك لم تر هذا الأسد وقد كبر؟ والسبع إذا كبر رجع إلى جنسه. فقال لهم: هذا عجل! فقالوا: هذا سبع سل من شئت عنه، وقد تقدموا إلى جميع من يعرفه أنه إن سألهم عنه قالوا هو سبع. فأمر بالعجل فذبح. ولكني أنا ذلك العجل كيف أقدر أن أكون أسداً؟ الله الله في أمري فقد وجب حقّي وأنت سيدي ومولاي! فلم يلتفت المعتصم إلى رسالته، وغلظ عليه الأمر حتى قيل إنه قد مات، فقال المعتصم: أروه ابنه. فأخرجوه مكبلاً بالحديد فطرحوه بين يديه، فلما رآه نتف لحيته ودعا بالويل والثبور ثم ردوه إلى منزل إيتاخ، وكان يطعم في كل يوم رغيفاً حتى مات فأخرجوه وصلبوه على باب العامة ثم أحرق ورمي به في دجلة.
قيل: وكان العجيف بن عنبسة ممن خرج مع العباس بن المأمون على المعتصم وسعى في الخلاف عليه، قال: فحدثنا أبو طالب قال: كنت مع محمد بن الفضل الجرجرائي فالتفت إلى رجل عنده فقال: حدث أبا طالب بما حدثتني به. فأقبل عليّ الرجل يحدثني. فسألت عنه فقيل: هو عمر بن عمرو القرقارة الكاتب.
قال: كنت أتقلد ضياع عجيف بناحية كسكر فرفع عليّ أني خربت ضياعه فكتب في حملي، فأُدخلت عليه في داره التي بسر من رأى وهو يطوف على الضياع وعلى رأسه برطلة خوصٍ، فلما نظر إليّ قال: أخربت ضياعي وأخذت أموالي والله لأقتلنك! ودعا بالسياط، فبلت فرقاً منه، فكأني أنظر إلى البول يأخذ في سراويلي يميناً وشمالاً، وأومأت إلى الكاتب فالتفت الكاتب إلى عجيف فقال: أيها الأمير أنت مشغول القلب بما يحتاج أن تأمر به وتشرف عليه وهذا في أيدينا فإن كان ما رفع عليه حقاً فالأمير من وراء ذلك وإن كان باطلاً لم تأثم فيه. فقال: الحبس. فلبثت في الحبس أياماً فوجه إليّ كاتب عجيف فأتيته، فقال لي: طاب لك المكان. ما معك؟ فبررته بشيء فأطلقني. فقلت لغلامي: قد نالنا من الحبس والغرم ما نالنا، وصديقي فلان بن فلان صاحب الديوان أحتاج أن ألقاه لعل الله عز وجل أن يسهل عملاً.
فشخص فيه. فأتيت صديقي ذلك فقال لي: أنت في الحياة! هاهنا عملٌ في ديار ربيعة أقلدكه.
فتقلدته وخرجت أنا وغلامي فما زلت أسير حتى أتيت باعيناثا، فغمزني البول في السحر وهي مقمرة فنزلت عن دابتي وجلست وأنا أبول فقلت لغلامي: ويحك لكأني أبول في ثيابي فاطلب لي ماء. فقال: الناس نيام. فلم أزل واقفاً حتى خرج بعض أوائل الأنباط فطلب الغلام منه ماء فجاء به فجعل هو والغلام يصبان عليّ الماء وأنا أغسل ثيابي. فقال لي النبطي: وأين بلت؟ قلت: هاهنا. قال: هذا نطع عجيف! قلت: عجيف! قال: نعم. قلت: ما يعمل عجيف هاهنا؟ قال: أوما بلغك أن أمير المؤمنين بعث إليه بشربة فأقامته ثلاثمائة مجلس فمات فلُفّ في نطع وها هوذا؟ فصبرت حتى أصبحت فنظرت إلى النطع فقلت: لا إله إلا الله! بينا أنا بالأمس بين يديه أبول من فرقه حتى جئت فبلت عليه.
قيل: وسخط المعتصم على الفضل بن مروان فأمر بحبسه وتقييده واستئدائه ألف ألف دينار وستمائة ألف دينار ورفعت فيه القصص، فأقبل أحمد بن عمار يقرأها فوقعت في يده قصة في نصف طومار فإذا فيها شعر، فتوقف عن قراءتها. فقال: ما توقفك؟ قال: إنه شعر. قال: هاته. فإذا فيها:
لا تعجبنّ فما بالدهر من عجب ... ولا من الله من حصنٍ ولاهرب
يا فضل لا تجزعن مما ابتليت به ... من خاصم الدهر أجثاه على الركب
كم من كريمٍ نشا في بيت مكرمةٍ ... أتاك مختنقاً بالهمّ والكرب
أوليته منك إذلالاً ومنقصةً ... فخاب منك ومن ذي العرش لم يخب
وكم وثبت على قومٍ ذوي سرفٍ ... فما تلعثمت عن زور وعن كذب
خنت الإمام وهذا الخلق قاطبةً ... وجرت حتى أتى المقدور في الكتب
جمعت شتى وقد أديتها جملاً ... لأنت أخسر من حمالة الحطب
فقال المعتصم: ليدع صاحب القصة. فدعي فلم يجب. فقال: والله لو جاءني لدفعت إليه الفضل لينفذ فيه أمره.
وقال بعضهم: رأيت على حائط دار الفضل بن مروان مكتوباً:
تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فمثلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاكٍ مضوا لسبيلهم ... أبادهم التنكيل والحبس والقتل
وإنك قد أصبحت في الناس لعنةً ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
قيل: وكان الواثق غضب على جعفر المتوكل أخيه لبعض أموره فأراد أن يقوّمه فوكّل به عمر بن فرج، فأتى جعفر إلى محمد بن عبد الملك الزيات مستغيثاً به ليكلم أخاه، فدخل عليه فمكث ملياً واقفاً بين يديه لا يكلمه ثم أشار إليه أن يقعد، فقعد، فلما فرغ من نظره في الكتب التفت إليه شبيهاً بالمتهدد له فقال: ما جاء بك؟ قال: جئت لتسأل أمير المؤمنين الرضى عني. فقال لمن حوله: انظروا إلى هذا يغضب أخاه ثم يسألني أن أسترضيه! اذهب فإنك إذا أصلحت رضي عنك. فقام جعفر كئيباً حزيناً لما لقيه به من قبح اللقاء، فخرج من عنده.
وكتب محمد بن عبد الملك إلى الواثق حين خرج جعفر من عنده: يا أمير المؤمنين أتاني جعفر بن المعتصم يسأل أن أسأل أمير المؤمنين الرضى عنه في زيّ المخنثين له شعر. فكتب إليه الواثق: ابعث إليه فأحضره ومر من يحزّ شعره ويضرب به وجهه.
فحدث عن المتوكل قال: لما أتاني رسوله لبست سواداً لي جديداً وأتيته رجاء أن يكون قد أتاه الرضى عني، فلما دخلت عليه قال: يا غلام علي بحجام. فدعي، فقال: خذ شعر هذا، فأخذه على السواد الجديد ولم يأتني بمنديل، فأخذ عليه شعري وضرب به وجهي. فما دخلني شيء من الجزع مثل ما دخلني في ذلك اليوم. قال: فلما ولي جعفر الخلافة بعث إلى محمد بن عبد الملك فدعاه. فركب حتى أتى دار إيتاخ فأخذ سيفه وقلنسوته ودرّاعته فدفع إلى غلمانه وانصرفوا وهم لا يشكّون أنه مقيم عند إيتاخ. ثم سوهر ومنع النوم وسُئل عن شيء يعذب به فدلّ على تنور من خشب فيه مسامير قيام. فحدثت عن أحمد بن أبي دؤاد أنه قال: هو أول من أمر بعمل التنور فابتلي به لصحة المثل: كما تدين تدان، وإن شئت: من يُرِ يوماً يُرَ به، وإن شئت: من حفر حفرة هوى فيها، فعذّب في التنور.
فحدّث الموكّل بعذابه فقال: كنت أخرج وأقفل عليه الباب فيمد يديه إلى السماء جميعاً حتى يدق موضع كتفيه ثم يدخل التنور ويجلس وفي التنور مسامير حديد وفي وسطه خشبة معترضة يجلس المعذَّب عليها إذا أراد أن يستريح. قال المعذِّب له: فخاتلته يوماً وأريته أني قد أقفلت عليه ثم مكث قليلاً ودفعت الباب فإذا هو قاعد، فقلت: أراك تعمل هذا! فكنت إذا خرجت شددت خناقه، فما مكث بعد ذلك إلا أياماً حتى مات. فوجد على حائط البيت الذي كان فيه من قبل التنور:
لعب البلى بمعالمي ورسومي ... ودُفنت حياً تحت ردم غموم
وشكوت غمّي حين ضقت ومن شكا ... كرباً يضيق به فغير ملوم
لزم البلى جسمي وأوهن قوتي ... إن البلى لموكّلٌ بلزوم
أبنيّتي قلّي بكاءك واصبري ... فإذا سمعت بهالك مغموم
فانعي أباك إلى نسائه واقعدي ... في مأتمٍ يبكي العيون وقومي
قولي له يا غائباً لا ترتجى ... حتى القيامة مخبراً بقدومي
يا عين كنت وما أكلّفك البكا ... حتى ابتليت فإن صبرت فدومي
وقال في التنور الذي عذب فيه:
هِيض عظمي الغداة إذ صرت فيه ... إن عظمي قد كان غير مهيض
ولقد كنت أنطق الشعر دهراً ... ثم حال الجريض دون القريض
وله أيضاً وهو يعذب في التنور، وقيل إنه آخر ما قاله:
تمكنت من نفسي فأزمعت قتلها ... وأنت رخيُّ البال والنفس تذهب
كعصفورةٍ في كف طفلٍ يسومها ... ورود حياض الموت والطفل يلعب
فلا الطفل يدري ما يسوم بكفه ... وفي كفه عصفورةٌ تتضرّب
قال: وكان إسماعيل بن القاسم في حبس الرشيد فكتب إليه بسوء حاله. فكتب في رقعته: ليس عليك بأس. فكتب إليه:
أرقت وطار عن عيني النعاس ... ونام السامرون ولم يؤاسوا
أمين الله أمنك خير أمنٍ ... عليك من التقى فيه لباس
تساس من السماء بكل برٍّ ... وأنت به تسوس كما تساس
كأن الخلق رُكّب فيه روحٌ ... له جسدٌ وأنت عليه راس
أمين الله إن الحبس بأسٌ ... وقد أرسلت ليس عليك باس
فأمر بإطلاقه وصلته.
قيل: إنه لما غضب المتوكل على سليمان والحسن ابني وهب قال الحسن:
أقول والليل ممدودٌ سرادقه ... وقد مضى الثلث منه أو قد انتصفا
يا رب ألهم أمير المؤمنين رضىً ... عن خادمين له قد شارفا التلفا
لئن يكونا أساءا في الذي سلفا ... فلن يسيئا بإذن الله مؤتنفا
فرضي عنهما وأمر بإطلاقهما.
قال الكسروي: وقّع كسرى بن هرمز إلى بعض المحتبسين: من صبر على النازلة كمن لم تنزل به، ومن طوّل له في الحبل كان فيه عطبه، ومن أكل بلا مقدر تلفت نفسه.
ووقّع بعضهم لمحبوس سأل الإطلاق: أنت إلى الاستيثاق أحوج منك إلى الإطلاق. وأنشد في هذا المعنى:
ألا أحدٌ يدعو لأهل محلةٍ ... مقيمين في الدنيا وقد فقدوا الدنيا
كأنهم لم يعرفوا غير دارهم ... ولم يعرفوا غير الشدائد والبلوى
وقال أعرابي:
ولما دخلت السجن كبّر أهله ... وقالوا أبو ليلى الغداة حزين
وفي الباب مكتوبٌ على صفحاته ... بأنك تنزو ساعةً وتلين
ولابن المعتز:
تعلمت في السجن نسج التكك ... وكنت امرأً قبل حبسي ملك
وقيدت بعد ركوب الجياد ... وما ذاك إلا بدور الفلك
ألم تبصر الطير في جوّه ... يكاد يلامس ذات الحبك
إذا أبصرته خطوب الزما ... ن أوقعنه في حبال الشرك
فهاذاك من حالق قد يصاد ... ومن قعر بحرٍ يصاد السمك
ووجدنا في أرض البيت الذي قتل فيه بخطه:
يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ... خانتك من بعد طول الأمن دنياك
مرّت بنا سحراً طيرٌ فقلت لها ... طوباك يا ليتني إياك طوباك
قال: وكتب يحيى بن خالد البرمكي إلى الرشيد: من الحبس لأمير المؤمنين وخلف المهديين وخليفة رب العالمين، من عبد أسلمته عيوبه وأوبقته ذنوبه وخذله شقيقه ورفضه صديقه وزال به الزمان ونزل به الحدثان وحلّ به الضيق بعد السعة والشقاء بعد السعادة وعالج البؤس بعد الدعة ولبس البلاء بعد الرخاء وافترش السخط بعد الرضى واكتحل السهود وفقد الهجود، ساعته شهر وليلته دهر، قد عاين الموت وشارف الفوت، جزعاً يا أمير المؤمنين قدمني الله قبلك من موجدتك وأسفاً على ما حرمته من قربك لا على شيء من المواهب، لأن الأهل والمال إنما كانا لك وعارية في يديّ منك، والعارية لا بد مردودة، فأما ما اقتصصته من ولدي فبذنبه وعاقبته بجرمه وجريرته على نفسه فإنما كان عبداً من عبيدك لا أخاف عليك الخطأ في أمره ولا أن تكون تجاوزت به فوق ما كان أهله ولا كان مع ذلك بقاؤه أحبّ إلي من موافقتك، فتذكّر يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك وحجب عني فقدك، كبر سني وضعف قوتي وارحم شيبتي وهب لي رضاك عني ولتمل إليّ بغفران ذنبي، فمن مثلي يا أمير المؤمنين الزلل ومن مثلك الإقالة، ولست أعتذر إليك إلا بما تحب الإقرار به حتى ترضى، فإذا رضيت رجوت أن يظهر لك من أمري وبراءة ساحتي ما لا يتعاظمك معه ما مننت به من رأفتك بي وعفوك عني ورحمتك لي، زاد الله في عمرك يا أمير المؤمنين وقدمني للموت قبلك. وكتب في أسفله:
قل للخليفة ذي الصنا ... ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري ... شٍ والملوك الهاديه
ملك الملوك وخير من ... ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذي ... ن رموا لديك بداهيه
عمّتهم لك سخظةٌ ... لم تبق منهم باقيه
فكأنهم مما بهم ... أعجاز نخلٍ خاويه
صفر الوجوه عليهم ... خلع المذلة باديه
متفرقين مشتتي ... ن بكل أرضٍ قاصيه
بعد الإمارة والوزا ... رة والأمور الساميه
ومنازلٍ كانوا بها ... فوق المنازل عاليه
وتحرّمٍ برضاعٍ أو ... في مُرضعٍ لك فاديه
فاليوم قد رموا لدي ... ك بما يشيب الناصيه
أضحوا وجلُّ مناهم ... منك الرضى والعافيه
فإذا رضيت فإن أن ... فسهم بحكمك راضيه
فاليوم قد سلب الزما ... ن كرامتي وبهائيه
واليوم قد ألقى الزما ... ن جرانه بفنائيه
ورمى سواد مقلتي ... فأصاب حين رمانيه
يا من يود لي الردى ... يكفيك ويحك ما بيه
يكفيك ما أبصرت من ... ذلّي وذلّ مكانيه
يكفيك أني مستبا ... حٌ معشري ونسائيه
ورزئت مالي كله ... وفدى الخليفه ماليه
إن كان لا يرضيك إ ... لا أن أذوق حماميه
فلقد رأيت الموت من ... قبل الممات علانيه
وفجعت أعظم فجعةٍ ... وفنيت قبل فنائيه
ولبست أثواب الذلي ... ل ولم تكن بلباسيه
وعطبت في سخط الإما ... م على رفيع بنائيه
فانظر بعينك هل ترى ... إلا قصوراً خاليه
وذخائراً مقسومةً ... قُسّمن قبل مماتيه
وحرائراً من بين صا ... رخةٍ عليّ وباكيه
ونوادباً يندبنني ... تحت الدجى بكنائيه
يابا عليّ البرمك ... يّ فما أُجيب الداعيه
وبكاؤهن وقد سمع ... ت مقلقلٌ أحشائيه
أخليفة الله الرضى ... لا تشتمن أعدائيه
اذكر عهودك لي وما أعطيتني بوفائيه
اذكر مقاساتي الأمو ... ر وخدمتي وعنائيه
ارحم جعلت لك الفدا ... كبري وشدة حاليه
ارحم أخاك الفضل وال ... باقين من أولاديه
فلقد دعوك وقد دعو ... تك إن سمعت دعائيه
أخليفة الرحمان إ ... نك لو رأيت بناتيه
وبكاء فاطمة الكئي ... بة والمدامع جاريه
ومقالها بترجّعٍ ... وا شقوتا وشقائيه
من لي ولا من لي وقد ... فصم الزمان قناتيه
وعدمت صفو معيشتي ... وتغيرت حالاتيه
من لي وقد غضب الزما ... ن على جميع رجاليه
أودى الزمان بجوره ... بساستي وحماتيه
يا عطفة الملك الرّضى ... عودي علينا ثانيه
فوقّع الرشيد في رقعته: ضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون. وقد قلت:
يا آل برمك إنما ... كنتم ملوكاً عاديه
فطغيتم وبغيتم ... وكفرتم نعمائيه
هذا عقوبة من عصى ... من فوقه وعصانيه
كنتم كشيء قد مضى ... أحلام نومٍ ساريه
وتمثل بقول مهلهل:
بات ليلي بالأنعمين طويلا ... أرقب النجم ساهراً أن يزولا
أزجر العين أن تُبكِّي الطلولا ... إن في الصدر من كليب غليلا
إن في الصدر غلةً لن تقضّى ... ما دعا في الغضون داعٍ هديلا
لم يطيقوا أن ينزلوا فنزلنا ... وأخو الحرب من أطاق النزولا
قال أبو أحمد بن القاسم بن واضح، رحمه الله: كان محمد بن الواثق وهو المهتدي بالله قبل الخلافة يكثر عند المعتز بالله الجلوس والخلافة يومئذ بسر من رأى فيرجع المعتز إلى قول محمد في أموره وما يمضيه ويبرمه، وكان كثير المعارضة لأم المعتز فيما تأمر به وتنهى، فلم تزل بالمعتز إلى أن أمر بإحداره إلى مدينة السلام على كره منه، فلما أمر بذلك كان وزيره أحمد بن إسرائيل منحرفاً عن محمد بن الواثق وأحب أن يخرجه مع حرمه نهاراً ليسوءه ويضع منه، فسأل محمد بن الواثق القاسم بن واضح لحال كانت بينهما وزلفة كانت له عنده متقدمة أن يدخل مع صاحبه المعروف بالطوسي ويسأله أن يخرجه وحرمه ليلاً، ففعل وكلم أحمد بن إسرائيل ورققه ولاطفه، فغضب أحمد واحتد، وكان غير حافظ للسانه قليل الفكر في العواقب متهوراً، فأطلق لسانه بكلام بشع قبيح وقال: من هو ومن بناته وحرمه الكذا الكذا حتى لا يخرجون نهاراً! فقال القاسم: ليت أن رجلي انكسرت ولم أحضر هذا المجلس. وقام معه الطوسيّ رسول محمد بن الواثق وما زال يسأله أن لا يردّ خبر المجلس ولا يحكي الكلام الذي بدر من أحمد بن إسرائيل، فوعده وخالفه لما فارقه ولم يصبر حتى مضى فحكاه لمحمد بن الواثق، وأحدر محمد مع حرمه نهاراً إلى مدينة السلام، فوقر ذلك في نفس محمد وحقده على أحمد بن إسرائيل. فلم يمض إلا القليل حتى قعد محمد بن الواثق في الخلافة بعد قتل المعتز.
وكان رجلاً تقياً متألهاً يؤثر العدل والإنصاف ويتحرج ويحبّ إظهار السنن الحسنة وإقامة الدين على شرائعه المستويه وأعلامه القديمة من الخلفاء الذين عدلوا، إلا أن أيامه قصرت وكان الأتراك قد غلبوا على الخلافة لكثرة معارضتهم للخلفاء وإضعافهم أيديهم وإنهائهم أمرهم.
فأمر لما ولي الخلافة بالقبض على أحمد بن إسرائيل وأبي نوح الكاتب والحسن بن مخلد. وكانت عليهم تدور دولة المعتز من قبله. ورسم أن يُضرب أحمد بن إسرائيل بباب العامة ألف سوط فإن مات وإلا زيد ضرباً حتى يتلف، وذلك لما كان منه من القول الذي كان سبب تلفه. فراسل أحمد القاسم بن واضح في أن يشفع له إلى المهتدي، ففعل وكتب إليه رقعة وصلت مع خادم له اسمه مستطرف، فوقّع المهتدي: هذا رجل لنا في جنبه حدود أنت شاهد ببعضها ولا سبيل إلى الصفح عنه. وكان ذلك تذكيراً له بأمر المجلس وقول أحمد ما قاله فيه وفي حرمه. وضُرب أحمد إلى أن تلف. ثم كلم المهتدي في أمر أبي نوح الكاتب والحسن بن مخلد فقال: لأبي نوح حرمةٌ وهي أن أمه كانت تهدي إلينا كامخاً كالناطف المعقود وزيتوناً كأمثال البيض فاطلقوا عنه، وأما الحسن بن مخلد فقد بلونا منه نصحاً وميلاً فردوه إلى منزلته. وتخلصا جميعاً وعادا في الأمر.
وكان المهتدي فصيحاً شجاعاً فطناً عارفاً بالتدبير لو أمهل ولم تعجل الأتراك إلى قتله. وكان خرج يوماً في هيجٍ لهم وبيده العقرب سيف عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وحمل على الأتراك ووسط منهم جماعة قدّهم وقطعهم. وكان إذا جلس للمظالم أمر بأن توضع كوانين الفحم في الأروقة والمنازل عند تحرك البرد، فإذا دخل المتظلم أمر بأن يدّفيء ويجلس ليسكن ويثوب إليه عقله ويتذكر حجته ثم يدنيه ويسمع منه، ويقول: كيف يدلي المتظلم بحجته إذا لم يُفعل به هذا وقد تداخلته رهبة الخلافة وألم البرد؟ وكان الغالب على أمر الخلافة في أيامه وصيفٌ الكبير وداره معروفة بمدينة السلام في مربّعة الخرسي إلى اليوم.
محاسن الحبس
لعلي بن الجهم:قالت حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأيّ مهند لا يغمد
أوما رأيت الليث يحمي غيله ... كبراً وأوباش السباع تردد
والنار في أحجارها مخبوءةٌ ... لا تصطلي إن لم تثرها الأزند
والبدر يدركه السرار فتنجلي ... أيامه وكأنه متجدد
والزاعبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوةٌ تتوقد
غير الليالي بادئاتٌ عوّدٌ ... والمال عارية يفاد وينفد
ولكل حالٍ معقبٌ ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
لا يؤيسنّك من تفرّج كربةٍ ... خطبٌ أتاك به الزمان الأنكد
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعُوّد
صبراً فإن اليوم يتبعه غدٌ ... ويد الخليفة لا تطاولها يد
والحبس ما لم تغشه لدنيةٍ ... تزري فنعم المنزل المتورَّد
لو لم يكن في الحبس إلا أنه ... لا يستذلّك بالحجاب الأعبد
بيتٌ يجدد للكريم كرامةً ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد
يا أحمد بن أبي دؤادٍ إنما ... تدعى لكل عظيمةٍ يا أحمد
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوض العدى ومخاوفٌ لا تنفد
أنتم بنو عم النبي محمدٍ ... أولى بما شرع النبي محمد
ما كان من حسنٍ فأنتم أهله ... طابت مغارسكم وطاب المحتد
أمن السوية يا ابن عم محمدٍ ... خصمٌ تقرّبه وآخر تبعد
إن الذين سعوا إليك بباطلٍ ... أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا ... فينا وليس لغائبٍ من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلسٌ ... يوماً لبان لك الطريق الأقصد
والشمس لولا أنها محجوبةٌ ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
قال: فعارضه عاصم بن محمد الكاتب لما حبسه أحمد بن عبد العزيز بتغير حمولة له فقال:
قالت حُبست فقلت خطبٌ أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت حراً كان سربي مطلقاً ... ما كنت أُؤخذ عنوةً وأُقيد
أو كنت كالسيف المهند لم أكن ... وقت الشديدة والكريهة أُغمد
أو كنت كالليث الهصور لما رعت ... فيّ الذئاب وجذوتي تتوقد
من قال إن الحبس بيت كرامةٍ ... فمكاشرٌ في قوله متجلد
ما الحبس إلا بيت كل مهانةٍ ... ومذلةٍ ومكارهٍ ما تنفد
إن زارني فيه العدو فشامتٌ ... يبدي التوجع تارةً ويفنّد
أو زارني فيه الصديق فموجعٌ ... يذري الدموع بزفرةٍ تتردد
يكفيك أن الحبس بيت لا ترى ... أحداً عليه من الخلائق يحسد
عشنا بخيرٍ برهةً فكبا بنا ... ريب الزمان وصرفه المتردد
قصرت خطاي وما كبرت وإنما ... قصرت لأني في الحديد مصفّد
في مطبقٍ فيه النهار مشاكلٌ ... للّيل والظلمات فيه سرمد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدةٍ ... طعماً فكيف حياة من لا يرقد
فتقول لي عيني إلى كم أسهرت ... ويقول لي قلبي إلى كم أكمد
وغذاي بعد الصوم ماءٌ مفردٌ ... كم عيش من يغذوه ماءٌ مفرد
وإذا نهضت إلى الصلاة تهجراً ... جذبت قيودي ركبتي فأسجد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
يا رب فارحم غربتي وتلافني ... إني غريبٌ مفرد متلدد
ما لي مجيرٌ غير سيدي الذي ... ما زال يكفلني فنعم السيد
غذيت حشاشة مهجتي بنوافلٍ ... من سيبه وصنائعٍ لا تجحد
عشرين حولاً عشت تحت جناحه ... عيش الملوك وحالتي تتزيد
إن حدت عن قصد المحجة قال لي ... مهلاً فذاك هو الطريق الأقصد
فيردني بترفقٍ نحو التي ... فيها السلامة والسبيل الأرشد
فبعدت عنه مجبراً متكرهاً ... الله يعلم ما أقول ويشهد
وخلا العدو بموضعي من قلبه ... فحشاه جمراً ناره ما تخمد
هبني أسأت فلم حقدت إساءتي ... ماإن عهدتك مذ صحبتك تحقد
بل كنت تغتفر الذنوب تكرماً ... وتظلّ تعفو دائماً وتغمّد
فاغفر لعبدك ذنبه متطولاً ... فالحقد منك سجيةٌ لا تعهد
واذكر خصائص حرمتي ومقاومي ... أيام كنت جميع أمري تحمد
يا أحمد بن محمدٍ يا ذا الندى ... دم لي على ما كنت لي يا أحمد
لا تشمتن بي العدو وخلّني ... ببياض وجهك إن وجهي أسود
ولغيره:
إلى الله فيما نابنا الشكوى ... في يده كشف الضرورة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها ... فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا دخل السجّان يوماً لحاجةٍ ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
ونفرح بالرؤيا فجلّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت كانت بطيّا مجيئها ... وإن قبحت لم تنتظر وأتت عجلى
محاسن بر الآباء
حكي عن ميمون بن مهران أنه قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فوجدته يكتب إلى ابنه عبد الملك: أما بعد فإن أحق من وعى عني وفهم قولي أنت، وإن الله، وله الحمد، قد أحسن إلينا في لطيف أمرنا وجليله، وعلى الله جل وعز تمام النعمة، فاذكر يا بني فضل الله عليك وعلى أبيك فإنك إن استطعت أن تصدق ذلك كله بعمل تعمله وصلاة أو صوم أو صدقة قبل ذلك منك، وإياك والعزة والعظمة والكبرياء فإنه من عمل الشيطان وهو عدوّ مضلّ مبين، وإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، إن ربي لغفور رحيم. واعلم أن الشباب إلا ما وقى الله ودفع عونٌ على أمور كثيرة من السوء، وفيه لعمري معونة كثيرة على الخير لمن رزقه الله، فاحذر شبابك وإياك أن تعلم في قلبك زهواً أو كبراً فإنه ما لم يكن من ذلك كان خيراً، واحفظ لسانك ونفسك حفظاً ترجو فيه رحمة الله جل وعز ومغفرته، واذكر صغر أمرك وحقارة شأنك ولا تبغ في ما أعجبك من نفسك وفيما عسيت أن تفرط فيه مما ليس معه غير الفكرة في أمرك وأمره، وليس كتابي هذا لأن يكون بلغني عنك إلا خيراً، غير أنه قد بلغني عنك شيء من بعض إعجابك بنفسك، ولو بلغني أن ذلك خرج عنك إلى أمر كرهته لبلغك عني أمر يشتد عليك كراهته وعرّفت مع ذلك أن الشباب والحرص والنعمة يحمل ذلك كله على أمر شديد إلا ما وقى الله ودفع، فكن يا بنيّ على حذر، فإن الشيطان قلّ ما يصيب فرصته بمن احترس منه بدعاء الله جل اسمه والتواضع له، وأكثر تحريك لسانك في ليلك ونهارك بذكر الله فإن أحسن ما وصلت به حديثاً حسناً ذكر الله جل اسمه، وأحسن ما قطعت به حديثاً سيئاً ذكر الله تبارك وتعالى، وأعن على نفسك بخير. نسأل الله لنا ولك حسن التوفيق والسلام.قال ميمون: ثم قال لي عمر: إن ابني عبد الملك قد زين في عيني وأنا متهم لنفسي فيه وأخاف أن يكون هواي فيه قد غلب على علمي به وأدركني ما يدرك الوالد من الإشفاق على ولده فأته واسبره ثم ائتني بعلمه ثم انظر هل ترى منه ما يشاكل النخوة فإنه غلام حدث ولا آمن عليه الشيطان.
قال ميمون: فخرجت إلى عبد الملك حتى قدمت عليه فاستأذنت ودخلت، فإذا غلام ابن ست عشرة سنة جالس على حشية بيضاء أحسن الناس تواضعاً وإذا مرافق بيض وبساط شعر. فرحب بي ثم قال: قد سمعت أبي يذكر منك ما أنت أهله وإني أرجو أن ينفع الله بك وقد حسبت أن يكون قد غرّني من نفسي حسن رأي والدي فيّ وما بلغت من الفضل كل ما يذكر، وقد حذرت أن يكون الهوى قد غلبه على علمه فأكون أحد آفاته. قال ميمون: فعجبت من اتفاقهما فقلت له: أعلمني من أين معيشتك؟ قال: من عطاي ومن غلة زراعةٍ اشتريت عن ظهر يدٍ ممن ورثها عن أبيه فوهبها لي فأغناني بها عن فيء المسلمين. قال: فقلت: فما طعامك؟ فقال: ليلة لحم وليلة عدس وزيت وليلة خل وزيت وفي هذا بلاغ. قال فقلت له: أفما تعجبك نفسك؟ فقال: قد كان فيّ بعض ما كان فلما وعظني أبي في كتابه بصّرني نفسي وما صغّر من شأني وحقّر من قدري فنفعني الله جل وعز بذلك فجزاه الله من والدٍ خيراً. فقعدت ساعة أحدثه وأتسمع من منطقه فلم أر فتىً كان أجمل وجهاً ولا أكمل عقلاً ولا أحسن أدباً على صغر سنه وقلة تجربته منه.
قال ميمون: فلما كان آخر ذلك أتاه غلام فقال: أصلحك الله قد فرغنا. قال: فسكت. فقلت: ما هذا الذي فرغ منه؟ قال: الحمّام أخلاه لي. قال فقلت: لقد كنت وقعت مني كل موقع حتى سمعت هذا. قال: فاسترجع وذعر وقال: وما ذاك يا عم، يرحمك الله؟ قلت: الحمّام لك؟ قال: لا. قلت: فما دعاك إلى أن تطرد عنه غاشيته كأنك تريد بذلك الكبر فتكسر على صاحب الحمام غلته ويرجع من أتاه خائباً؟ قال: أما صاحب الحمام فإني أُرضيه وأعطيه غلة يومه. قال قلت: هذه نفقة سرف خالطها الكبر، وما يمنعك أن تدخل الحمام مع الناس وإنما أنت كأحدهم؟ قال: يمنعني من ذاك أن أرى عورة مسلم ورعاع من الناس يدخلون بغير أزر فأكره رؤية عوراتهم وأكره أن أجبرهم على أزر فيضعون ذلك مني على حد هذا السلطان الذي خلّصنا الله منه كفافاً، فعظني رحمك الله عظة أنتفع بها واجعل لي مخرجاً من هذا الأمر. فقلت له: ادخله ليلاً فإذا رجع الناس إلى رحالهم خلا لك الحمام. قال: لا جرم لا أدخله نهاراً أبداً ولولا شدة برد بلادنا هذه ما دخلته أبداً، فأقسمت عليك لتطوينّ هذا الخبر عن أبي فإني أكره أن يظل عليّ ساخطاً ولعل الأجل يحول دون الرضى منه.
قال: فأردت أن أسبر عقله فقلت: إن سألني هل رأيت منه شيئاً تأمرني أن أكذبه؟ قال: لا معاذ الله ولكن قل رأيت شيئاً ففطمته عنه وسارع إلى ما أردت من الرجوع، فإنه لا يسألك عن التفسير لأن الله جل وعز قد أعاذه من بحث ما ستر. قال ميمون: فلم أر والداً قط ولا ولداً قط، رحمة الله وبركاته عليهم، مثلهما.
وذكروا أن ضرار بن عمرو الضبّي ولد له ثلاثة عشر ابناً كلهم بلغ ورأس فاحتمل ذات يوم. فلما رأى بنيه رجالاً معهم أهاليهم وأولادهم سره ما رأى من هيأتهم ثم ذكر نفسه وعلم أنهم لم يبلغوا ذلك حتى أسنّ هو ورقّ وضعف فقال: من سره بنوه ساءته نفسه. فذهبت مثلاً.
قيل: ودخل الأمين على أبيه الرشيد وقد عرضت له وصيفة جميلة فلم يزل محمد ينظر إليها وفطن له أبوه فقال: يا محمد ما ترى في هذه الوصيفة؟ قال: ما أرى بأساً. قال: فهل لك فيها؟ قال: أمير المؤمنين أحق بها مني. قال: فقد آثرك على نفسه فخذها. فأخذها. فقال الرشيد:
ولي ولدٌ لم أعصه مذ ولدته ... ولا شكّ في بري به مذ ترعرعا
تخيرته للملك قبل فطامه ... وأقطعته الدنيا فطيماً ومُرضعا
فلا الملك يخلو باعه من محمدٍ ... ولا هو منه بل هما هكذا معا
فنهض محمد ومعه الجارية فأتبعه طرفه فلما غاب قال:
وإنما أودلانا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
وحكي عن بعض الأعراب أنه كان يرقّص ولده ويقول:
كأنما ريح الولد ... ريح الخزامى بالبلد
أهكذا كل ولد ... أم لم يلد قبلي أحد
محاسن تأديب الولد
قيل: نظر ابن عباس، رحمه الله، إلى بعض ولده نائماً بالغداة فركله برجله ثم قال: قم لا أنام الله عينك! أتنام في وقت يقسم الله جل وعز فيه الأرزاق؟ أوما علمت أنها النومة التي قالت العرب فيها مكسلة ومانعة للحوائج؟ وقد قيل: النوم على ثلاثة أوجه: خُرق وحُمق وخُلق، فأما الخرق فنوم الضحى شغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحمق النوم بين العصر والمغرب فإنه لا ينامها إلا أحمق أو عليل أو سكران، وأما الخلق فنوم الهاجرة الذي أمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنه قال: قيلوا فإن الشيطان لا يقيل. وقيل: إن نوم الغداة يمحق الرزق ويورث الصفُّار والكسل والبخر.وذكروا عن عبد الملك بن مروان أنه مات بعض ولده فجاءه الوليد ابنه وهو صغير فعزّاه فقال: يا بني لمصيبتي فيك أعظم وأفدح من مصيبتي بأخيك، ومتى رأيت ابناً عزى أباه! فقال: يا أمير المؤمنين أمي أمرتني بذلك. قال: يا بني أهون عليّ وهو لعمري من مشورة النساء.
مساوئ جفاء الآباء
قال: فقال رجل لابنه: يا ابن الزانية! فقال: الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك.وقال آخر لابنه: يا ابن الزانية! قال: لا تفعل، لقد كنت أحفظ لأهلك من أبيك لأهله.
قال: وقال أعرابي لابنه:
وأمك قد روّيتها فشفيتها ... على حاجة مني وعينك تنظر
فأجابه:
وجدّي قد روّى عجوزاً فبلّها ... فما كنت ترعاه وما كنت تشكر
وقيل لأعرابي وقد تزوج بعدما كبر وأسن: لم تأخرت عن التزوج؟ قال: أبادر ابني باليتم قبل أن يسبقني بالعقوق.
قال: وقال رجل لأبيه: يا أبتا إن عظيم حقك لا يبطل صغير حقي، ولا أقول إني وإياك بالسواء، ولكن الله جل وعز لا يحب الاعتداء.
محاسن بر الأبناء بالآباء والأمهات
عن طاؤوس عن أبيه قال: كان رجل له أربعة بنين فمرض فقال أحدهم: إما أن تمرّضوه وليس لكم من ميراثه شيء وإما أن أمرضه وليس لي من ميراثه شيء. قالوا: بل تمرضه وليس لك من ميراثه شيء. فمرضه حتى مات ولم يأخذ من ميراثه شيئاً.قال: فأُتي في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه مائة دينار. فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. فلما أصبح ذكر لك لامرأته فقالت: خذها فإن من بركتها أن نكتسي منها ونعيش بها. فلما أمسى أُتي في النوم فقيل له: ائت مكان كذا وكذا فخذ منه عشرة دنانير. فقال: أفيها بركة؟ قالوا: لا. فلما أصبح ذكر لك لامرأته فقالت له مثل ذلك، فأبى أن يأخذها. فأُتي في الليلة الثالثة فقيل له: ائت مكان كذا وكذا وخذ منه ديناراً. فقال: أفيه بركة؟ قالوا: نعم. قال: فذهب فأخذ الدينار ثم خرج به إلى السوق فإذا هو برجل يحمل حوتين. فقال: بكم هما؟ قال: بدينار. فأخذهما منه وانطلق بهما إلى بيته، فلما شقهما وجد في بطن كل واحد منهما درة لم ير الناس مثلها، فبعث الملك يطلب درة يشتريها فلم توجد إلا عنده فباعها بثلاثين وقراً ذهباً. فلما رآها الملك قال: ما تصلح هذه إلا بأخت فاطلبوا أختها ولو أضعفتم الثمن. فجاؤوه وقالوا: أعندك أختها ونعطيك ضعف ما أعطيناك؟ قال: نعم. فأعطاهم الثانية بضعف ما باع به الأولى.
قال: وذكر المأمون بر الأبناء بالآباء فقال: لم أر أحداً أبرّ من الفضل بن يحيى، فإنه بلغ من بره بأبيه أنهما حيث حبسا كان الفضل يسخن ليحيى الماء لوضوئه لأنه كان يتوضأ بالماء السخن، فمنعهم السجان ذات ليلة من إدخال الحطب والليل بارد فقام الفضل حين أخذ يحيى مضجعه إلى قمقم كان يسخن فيه الماء فملأه من الجبّ ثم جاء به إلى القنديل فأدناه منه فلم يزل قائماً والقمقم في يده حتى أصبح وقد سخن الماء، فأدناه من أبيه.
قال: ولما وجه عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، الجيش إلى اليرموك قام إليه أمية بن الأسكر الكناني فقال: يا أمير المؤمنين هذا اليوم من أيامي لولا كبر سني. فقام إليه ابنه كلاب، وكان عابداً زاهداً، فقال: لكني يا أمير المؤمنين أبيع الله نفسي وأبيع دنياي بآخرتي. فتعلق به أبوه وكان في ظل نخل له وقال: لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما! فقال: نعم أتركهما لما هو خير لي. فخرج غازياً بعد أن أرضى أباه، فأبطأ وكان أبوه في ظل نخل له، وإذا حمامة تدعو فرخها، فرآها الشيخ فبكى، فرأته العجوز فبكت، وأنشأ يقول:
لمن شيخان قد نشدا كلاباً ... كتاب الله إن ذكر الكتابا
أناديه ويعرض لي حنينٌ ... فلا وأبي كلابٌ ما أصابا
تركت أباك مرعشةً يداه ... وأمك ما تسيغ لها شرابا
فإن أباك حين تركت شيخٌ ... يطارد أينقاً شزباً جذابا
إذا رُتّعن إرقالاً سراعاً ... أثرن بكل رابيةٍ ترابا
طويلاً شوقه يبكيك فرداً ... على حزنٍ ولا يرجو الإيابا
إذا غنت حمامة بطن وجٍّ ... على بيضاتها ذكرا كلابا
فبلغت هذه الأبيات عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فأرسل إلى كلاب فوافاه فقال: إنه بلغني أن أباك وجد لفراقك وجداً شديداً فبماذا كنت تبره؟ قال: كنت أبره بكل شيء حتى أني كنت أحلب له ناقة فإذا حلبتها عرف حلبي. فأرسل عمر، رحمه الله، إلى الناقة فجيء بها من حيث لا يعلم الشيخ فقال له: احلبها. فقام إليها وغسل ضرعها ثم حلبها في إناء. فأرسل عمر، رحمه الله، بالإناء إلى أبيه فلما أُتي به بكى ثم قال: إني أجد في هذا اللبن ريح كلاب. فقال له نسوة كن عنده: قد كبرت وخرفت وذهب عقلك، كلاب بظهر الكوفة وأنت تزعم أنك تجد ريحه! فأنشأ يقول:
أعاذل قد عذلت بغير علمٍ ... وهل تدري العواذل ما ألاقي
سأستعدي على الفاروق رباً ... له حجُّ الحجيج على اتساق
إن الفاروق لم يردد كلاباً ... إلى شيخين ما لهما تواقي
فقال له عمر: اذهب إلى أبيك فقد وضعنا عنك الغزو وأجرينا ك العطاء. قال: وتغنت الركبان بشعر أبيه. فبلغه فأنشأ يقول:
لعمرك ما تركت أبا كلابٍ ... كبير السن مكتئباً مصابا
وأماً لا يزال لها حنينٌ ... تنادي بعد رقدتها كلابا
لكسب المال أو طلب المعالي ... ولكني رجوت به الثوابا
وكان كلاب من خيار المسلمين، وقُتل مع علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بصفين وعاش أبوه أمية دهراً طويلاً حتى خرف، فمرّ به غلام له كان يرعى غنمه وأمية جالس يحثو على رأسه التراب فوقف ينظر إليه، فلما أفاق بصر بالغلام فقال:
أصبحت لهواً لراعي الضأن أعجبه ... ماذا يريبك مني راعي الضان
انعق بضأنك في أرض بمخضرةٍ ... من الأباطح واحسبها بجلدان
انعق بضأنك إني قد فقدتهم ... بيض الوجوه بني عمي وإخواني
قال: وحدثني من سمع أعرابياً حاملاً أمه في الطواف وهو يقول:
إني لها مطيةٌ لا أذعر ... إذا الركاب نفرت لا أنفر
ما حملت وأرضعتني أكثر ... الله ربي ذو الجلال أكبر
ثم التفت إلى ابن عباس، رحمه الله، فقال له: أتراني قضيت حقها؟ فقال: لا والله ولا طلقة من طلقاتها.
قال: ونحر أعرابي جزوراً فقال لامرأته: أطعمي أمي منه. فقالت: أيها أطعمها؟ فقال: قطعي لها الورك. قالت: ظُوهرت بشحمة وبُطنت بلحمة، لا لعمر الله! قال: فاقطعي لها الكتف. قالت: الحاملة الشحم من كل مكان، لا لعمر الله! قال: فما تقطعين لها؟ قالت: اللحى ظوهرت بجلدة وبطنت بعظم. قال: فتزوديها إلى أهلك. وخلّى سبيلها.
وروي أن الحسن بن علي، رضوان الله عليه، كان يمتنع من مؤاكلة أمه، صلوات الله عليها، فسئل عن ذلك وهو ابن ست سنين. فقال: أخاف أن تسبق يدي إلى لقمة تقع عينها عليها فأكون قد عققتها.
مساوئ عقوق البنين
الأصمعي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعق الناس وأبر الناس فكنت أطوف بالأحياء حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل يستقي بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجرة والحر الشديد وخلفه شاب في يده رشاء من قدّ ملوّى يضربه به قد شقّ ظهره بذلك الحبل. فقلت: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف؟ أما يكفيه ما هو فيه من مدّ هذا الحبل حتى تضربه؟ قال: إنه مع هذا أبي. قلت: فلا جزاك الله خيراً! قال: اسكت فهكذا كان يصنع هو بأبيه وكذا كان يصنع أبيه بجده. فقلت: هذا أعق الناس. ثم جلت أيضاً حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زبيل فيه شيخ كأنه فرخ فيضعه بين يديه في كل ساعة فيزقّه كما يزقّ الفرخ. فقلت له: ما هذا؟ فقال: أبي وقد خرف فأنا أكفله. قلت: فهذا أبر العرب. فرجعت وقد رأيت أعقهم وأبرهم.قيل: وكانت لخيزران في خلافة موسى الهادي كثيراً ما تكلمه في الحوائج فكان يجيبها إلى كل ما تسأل، حتى مضت لذلك أربعة أشهر من خلافته فاجتمع الناس إليها وطمعوا فيما قبلها فكانت المواكب تغدو إلى بابها وتروح، قال: فكلمته يوماً في أمر فاعتل بعلة، فقالت: لا بد من إجابتي. قال: لا أفعل. قالت: فإني قد تضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك. قال: فغضب وقال: ويلي عليه ابن الفاعلة قد علمت أنه صاحبها والله لا قضيتها له! قالت: إذاً والله لا أسألك حاجة أبداً. فقال: إذاً والله لا أبالي. وحمي وغضب ثم قال: مكانك حتى تستوعبي كلامي والله وإلا فأنا نفيّ من قرابتي من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لئن بلغني أنه وقف ببابك أحد من قوادي وخاصتي وخدمي لأضربن عنقه ولأقبضنّ ماله فمن شاء فليلزم ذلك، ما هذه المواكب التي تغدو وتروح إلى بابك في كل يوم؟ أما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك أو بيت يصونك؟ إياك ثم إياك أن تفتحي بابك لملّيّ ولا ذميّ! فانصرفت ما تعقل ما تطأ فلم تنطق عنده بحلوة ولا بمرة بعد ذلك.
قال يحيى بن الحسن: وحدثني أبي قال: سمعت خالصة تقول للعباس ابن الفضل بن الربيع: بعث موسى الهادي إلى أمه الخيزران بأرزة فقال: اشتهيتها فأكلتها فكلي منها. قالت خالصة: فقلت: امسكي حتى ننظر فإني أخاف أن يكون فيها شيء. فأرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيت الأرزة؟ قالت: وجدتها طيبة. فقال: لم لم تأكلي منها؟ والله لو أكلت لقد كنت استرحت منك، فما أفلح خليفة له أم! قيل: وضرب إبراهيم بن بهنك العكي ابنه فذهب الابن فوشى بأبيه إلى الرشيد وذكر أنه يريد اغتياله، فدفعه الرشيد إلى ابنه، فقيده وحبسه في بيت ودعا بأمهات أولاده فجعل يشرب معهنّ ليغيظ أباه، فاستبطأ الرشيد فدعا به وقال له: إن كذبت على أبيك استرضيناه لك وإن كنت صدقت فلست أرى أفعالك تشاكل أفعال الصادقين. فلما انصرف من عنده دخل على أبيه بالسيف فضربه حتى قتله. ولذلك قيل: شرّ المرزئة سوؤ الخلف.
قال: ولما خلع شيرويه بن كسرى أباه وهمّ بقتله قال لعظيم من عظماء مرازبته: ادخل على أبينا فاقتله. فانطلق المرزبان حتى دخل على كسرى فأخبره بما أمر به ابنه. فقال له كسرى: انصرف فلست بصاحبي. فانصرف المرزبان إلى شيرويه فأخبره بمقالة كسرى. فوجّه رجلاً آخر فلما دخل قال له مثل مقالته للأول، فانصرف ولم يصنع شيئاً واعتل على شيرويه بأنه لم يطب نفساً بقتله.
فالتفت شيرويه إلى فتىً يسمى هرمز بن مردانشاه وكان أبوه يقال له فاذوسبان بابل وخطرنية، وقد كان كسرى سأل المنجمين قبل ذلك بعامين عن ميتته فأخبروه أنها على يدي رجل يكون عظيم بابل. فلما سمع ذلك وقعت تهمته على مردانشاه فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. فلما قدم تجنى عليه ثم أمر بقطع يمينه، فقطعت، فتناولها بيده الأخرى ووضعها في حجره وجعل يبكي وينتحب. فسمع كسرى ذلك فرحمه ورقّ له فأرسل إليه أنه قد ندم على ما كان منه وأمره أن يسأله حاجة تكون له عوضاً من ذهاب يده. فأرسل إليه مردانشاه إن وثق لي بالأيمان المحرجة، ففعل كسرى ذلك وعاهده أن يجيبه إلى جميع ما سأل. فأرسل إليه أن حاجتي أن تأمر بقتلي فلا خير في الحياة بعد يميني. فأمر كسرى به فضربت عنقه. فلما دخل دخل ابنه هرمز على كسرى قال له: من أنت؟ قال: أنا ابن مردانشاه فاذوسبان بابل. فقال: أنت لعمري صاحبي كنت قتلت أباك ظلماً فدونك وما أمرت به. وكان معه طبرزين، فضرب به كسرى على عضده فلم يحك فيه لأن كسرى كان في عضده خرزة لا يعمل الحديد فيه من أجلها، فضرب الشاب بيده إلى عضده وقطع تلك الخرزة ثم ضربه بالطبرزين حتى مات، وانصرف إلى شيرويه فأخبره، فأمر بقتله، ثم هلك شيرويه بعد قتل أبيه بثمانية أشهر.
وقد قالت الحكماء: ومن جرّب من الأوائل أن الرجل إذا قتل أباه وأخاه لم يمتّع بعدهما إلا أربعة أشهر أو ما هو فوق ذلك بيسير وربما سلّط عليه السهر فلا يزال كذلك إلى أن يتلف.
قال: وقيل للمأمون: إن بني علي بن صالح مجّان سفهاء. فقال المأمون: يا علي أحضر ولدك الأكابر والأصاغر فإني أريد أن أرتبهم وأرشحهم للأمر الذي يصلحون له. فانصرف علي فأخبر ولده بذلك وأمرهم بالركوب. فاستعدّوا وتزينوا بأحسن هيأة واستأذن لهم فدخلوا وسلموا. فقال لهم المأمون: تركتم الأدب واطّرحتموه وآثرتم المجون والسفه، هذا وأبوكم أحد الفقهاء والعلماء يستضاء برأيه ويحمد مذهبه. فأقبل على علي فقال: أما على ذلك فما الذنب إلا لك إذ تركتهم يتتابعون في المجون وتركوا ما كان أولى بك وبهم أن تأخذهم به. فقال علي: ولا سيما يا سيدي هذا الكبير فإنه باقعةٌ لا والله ما لي بهم قوة ولا يدٌ وهذا الكبير أفسدهم وهتكهم وزين لهم سوؤ أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون. فأطرق الأكبر ما يترمرم بحرف. فقال المأمون: تكلم. قال: يا سيدي بلساني كله أو كما يتكلم الذليل بين يدي مولاه حتى يترك حجته ويسكت عن إيضاح جوابه مهابة لسيده؟ قال: تكلم بما عندك. فقال: يا أمير المؤمنين هل حمدت رأي أبينا وحمدت مذهبه وعلمه؟ قال: نعم.
قال: فأعتق ما يملك وطلق ما يطأ طلاق الحرج والسنة وصدّق بما حوى وعليه ثلاثون حجة مع ثلاثين نذراً يبلغ به الكعبة إن لم يكن أبوه على طلب سكّر طبرزد فلم يوجد في خزانته ولم يكن وقتاً يوجد فيه سكّر ولا يُقدر على ابتياع شيء منه. فقال: فيم يصلح للخزانة التي ليس فيها سكر؟ ثم قال: الحمد لله رب العالمين ولا أقول إنا لله وإنا إليه راجعون وإن كانت المصيبة لأن ذلك إنما يقال عند المصائب في الأنفس ولكني أحمده على السراء والضراء والشدة والرخاء كما حمده الشاكرون وأنا أرجو أن أكون منهم. ثم أقبل على الخازن فقال: ادع الوكيل. فدعاه. فقال: ما منعك إذ فني السكّر أن يُشترى لنا سكر؟ قال: لم يعلمني الخازن. فقال للخازن: لم لم تعلمه؟ قال: كنت على أن أعلمه. قال: ما ههنا شيء هو أبلغ في عقوبتكما من أن أقوم على إحدى رجلي وأن لا أضع الأخرى ولا أراوح بينهما حتى تحضروني ألف منّ سكّر طبرزد ليس بمضرس ولا وسخ ولا لين المكسر ولا بمحدث الصنعة ولا معوّج القالب. ثم وثب فقال: يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً، والله والله لا أزال قائماً حتى أوفي بنذري. قال: فتبادر غلمانه ومواليه وبعض أولاده وعجائزه نحو السوق فواحد ينبه حارساً وآخر يرمي كلباً وآخر يفتج درباً وآخر يوقظ نائماً وآخر يدعو بائعاً والغلمان والجواري والجيران والسوقة والحرّاس في مثل صيحة يوم القيامة، ثم قال: يا قوم أما لي من أهلي مساعد؟ أين البنات العواتق والأبكار؟ أين اللواتي كنت أغذوهن بطيّب الطعام وليّن اللباس يسرحن فيما ادّعين من خفض العيش وغضارة الزهر؟ أين أمهات الأولاد اللواتي اعتقدن العقد النفيسة وملكن الرغائب بعد الحال الخسيسة؟ أين الأولاد الذكور الذين لهم نسعى ونحفد ونقوم ونقعد ولهم نروح ونغدو؟ فبادرت إليه بناته وأمهاتهن، فقامت واحدة منهن على ساق فقال: أحسنتنّ أحسن الله جزاءكن، لمثل هذا أردتكن. ولاحظ الكبرى من بناته وآخر من بنيه وهما يراوحان بين أقدامهما، فقال: يا فلانة تراوحين ولا أراوح، صدق الله جل وعز وبلّغ رسوله، عليه وعلى آله السلام، حيث يقول: " إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم " ، حذرني ربي جل وتعالى منكم.
ثم قال: علي بن صالح ليس في خزانته سكر طبرزد وجائزته من أمير المؤمنين ألف ألف درهم وضيعته بالنهروان تغلّ ثلاثمائة ألف درهم وضيعته بالكوفة المعروفة بالمغيرة من أنبل ضيعة ما ملك مثلها أحد بسطوح الدسكرة ولولا أن سعيداً السعدي، أراح الله منه، قطع شربها وعوّر مجاري مياهها حتى اندفنت أنهارها وقلت عمارتها إضراراً بنا وتعدياً علينا ما كان لأحد مثلها وعلى أن أكرتها ومزارعيها من أخابث خلق الله، والله والله لو أمكنهم أن يقطعوا الحاصل وحاصل الحاصل ما أعطونا من ذلك شيئاً، ومن أخبرك أن الضيعة لرب الضيعة فقل له كذبت لا أم لك، الضيعة ثلاث أثلاث: فثلث للسلطان وثلث للوكيل وثلث للأكّار، وإنما يأتي رب الضيعة صبابة كصبابة الإناء ومخّة كمخة عرقوب، يجني الأكار وقت الدياس فيمرّ بهم الأبرمذ هذا يذبح له وهذا يخبز له وهذا يسقيه النبيذ، وما نبيذهم إلا العكر الأسود ووضر الدنس وماء الأكشوت، قبح الله ذلك شرباً ما أنغله للجوف وأضره بالأعلاق النفيسة، ثم يأتي وقت الكيل فمن بين رقّام، رقم الله جلبابه وأعد له الهوان، ومن بين كيال، جعل الله له الويل لقوله جل وعز: ويلٌ للمطففين ما يبالي أحد منهم على ما يقدم، لقد سمعت أمير المؤمنين يسأل قضاته وكلهم بالحضرة: هل عدلتم كيّالاً قط؟ فكلهم يقول: لا، فإن أطعموا الجداء الرضّع ونقي الخبز من دستميسان ووهبت لهم الدراهم ظفر الأكّار بحاجته، فويل يومئذ لقبَّة السلطان ماذا يُحمل إليها من القشب والقصل والمدر والزوان ويحشى فيها التبن.
ثم قال: يا قوم لم أطنبت في ذكر هؤلاء وما الذي هاج هذا في هذه الساعة حتى خضت فيه؟ أما كفاني أني قائم على رجلي على أحد جناحيّ؟ قالوا: هذا للسكّر الذي ليس في خزانتك منه شيء. قال: أجل والله إذا كان وكيلي مشتغلاً بزوجته وبناته ومصالح حالهنّ متى يفرغ للنظر في مصالح خزانتي؟ والله والله لقد حُدثت أنه حلّى بناته بألوف دنانير وقال لزوجته اخرجي إلى الأعياد وادخلي الأعراس وسلي عن الرجال المذكورين واطلبي المراضع المعروفة والأنساب المرضية لبناتك وأخرجيهنّ في الجمعات يتصفحن محاسن الغرّات ويخترن أولي الأنساب، أولم يُرو عن الثقات أنهم كرهوا خروج الأبكار في الجمعات التي فرض الله جل وعز فيهنّ السعي إلى ذكره؟ فنبع قوم من هؤلاء المبتدعة خارجة خرجت ومارقة مرقت ورافضة رفضت الدين وأهل الدين فتركوا ما فرض الله جل وعز عليهم، فقاتلهم الله أنّى يؤفكون، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وقد روينا عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من غير وجهٍ ولا اثنين انه خطب الناس فقال في خطبته: إن الله جل وعز قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها استخفافاً بها وجحوداً بها فلا جمع الله شمله ولا بارك له في أهله ولا حج له ولا جهاد حتى يتوب إلى الله جل وعز، فمن تاب تاب الله عليه.
ثم قال: يا قوم ما الذي حركنا على هذه الفضيلة في جوف هذه الليلة؟ قيل: السكر الطبرزد. قال: أجل والله فما أحضرتموني ألف من سكر إلى هذه الغاية! أيا نصح أيا فتح أيا صبح أيا نجح تبادروا مولاكم فإنه قد نصب وتعب من طول القيام! والله لأحسب الثريا مقابلة سمت رأسي، ذهب والله الليل وجاء الويل، ويلكم أدركوني فإني أريغ نومة ولا بد لي من البكور نحو الدار. فبادرت حرمه الخاصة فحثوا الباعة وانبهوا السوقة وأخذوا ما عندهم على غير سوم وجاؤوا به. فقال: ما هذا؟ قالوا: ما أمرت به. قال: فهل أخذتموه على الصفة التي وصفت لكم؟ قالوا: نعم. قال: فهل ورثتموه واستوجبتموه؟ قالوا: لا. قال: يا أعداء الله أردتم أن تفسدوا ديني! لا والله لا يطمع مني في هضيمة، لا والله لا تزال هذه حالي حتى تأخذوه بيعاً صحيحاً، لا شرط فيه ولا خيار ولا مثنوية ولا على حدّ تلجئة، هيهات يأبى الله جل وعز ذاك عليّ. قال: فرجعوا وساوموا الباعة وقطعوا ثمنه وأخبروه. فقال: يوزن بحضرتي. فأتوه بالقبان. فقال: من يزن منكم؟ قال: من أمرته. قال: زن يا نصح فقد دنا الصبح وأرجح فإن النبي، صلى الله عليه وسلم، اشترى فقال للوزان: زن وأرجح، والله لو لم يكن في الرجحان إلا تحلّة القسم لكان في ذلك ما يدعو العلماء والفقهاء في دين الله جل وعز إلى العمل به. فجعل الغلام يزن ويرجح وهو يقول: ويلك عجّل فداك أهلك قد دنا الصبح أوه خرجت نفسي أو كادت! فلما استوى الوزن خرّ مغشياً عليه ما يدري أرضاً توسد أو وساداً، وكذلك كانت حال من كان في مثل حاله. فهذه يا أمير المؤمنين حال من أحمدت علمه وفهمه ورأيه.
فقال المأمون: قاتلك الله ما أعجب أمرك! على كل حال والله لئن كنت ولّدت هذا عن أبيك في مقامك ما في الأرض نظير ولا في السماء شبيه، وإن كنت حكيت عنه عياناً ووعيت فلقد أجدت الحكاية وأحسنت العبارة وما لأبيك في الدنيا شبيه، وإنك لتغمر مساويك بمحاسنك فلا تذكرنّ شيئاً من هذا بعد هذا المجلس فإن عيبه فينا أقدح منه في أبيك. قال: فذهب عليّ ليتكلم، فقال المأمون: لا تبضّنّ لسانك بحرف واحد. ثم أمر بنيه بالانصراف.
محاسن البنات
قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: نعم الولد البنات مطلَّقات مجهزات مؤنسات مباركات مفليات فاليات مندَّبات نادبات.قال: ودخل عبد الله بن الزبير على معاوية بن أبي سفيان وبنية له تمرغ على صدره فقال: أمطها عنك يا أمير المؤمنين فإنهنّ يقرين الأعداء ويورثن البعداء. فقال معاوية: مهلاً يا ابن الزبير فما مرّض المرضى ولا ندب الموتى ولا برّ الأحياء كهنّ. فقال ابن الزبير: قد تركتهن آثر عندي من الأبناء.
وحكي أنه قال: والله لقد دخلت يوماً وما أحدٌ أبغض إليّ منهنّ وإني أخرج وما أحد أحبّ إليّ منهنّ.
وروي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ما من أحد أمتي ولدت له جارية فلم يتسخط ما خلق الله جل وعز إلا هبط ملك من السماء بجناحين أخضرين موشحين بالدر والياقوت في سلّم من درّ ويزفّ من درجة إلى درجة حتى يأتيه بالبركة فيضع يده على رأسها وجناحه على جسدها ثم يقول: بسم الله وبالله محمد رسول الله ربي وربك الله نعم الخالق الله ضعيفة خرجت من ضعيف المنفق عليها معان إلى يوم القيامة.
وقال ابن المقفع لرجل ولدت له جارية: بارك الله لك في الابنة المستفادة وجعلها لكم زيناً وأجرى لكم عليها خيراً، فلا تكرهنّهن فإنهنّ الأمهات والأخوات والعمات والخالات ومنهن الباقيات الصالحات، ورب غلام ساء أهله بعد مسرتهم، ورب جارية فرّحت أهلها بعد مساءتهم، وأنشد في ذلك:
سخطْتَ بنيةً عما قليلٍ ... تُسرّ بها عيون الناظرات
فبارك في فطيمة رب موسى ... وأنبتها نبات الصالحات
وزادك عاجلاً أخرى سواها ... لسخطك إذ سخطت على البنات
قال: وكان لرجل امرأتان في دار واحدة فولدت إحداهما غلاماً والأخرى جارية فكانت أم الغلام تقول:
عافاني اليوم من الجواري ... من كل سوداء كشنٍّ بالي
لا تدفع الضيم عن العيال
وقالت أم الجارية:
وما علي أن تكون جاريه ... تحفظ بيتي وترد العاريه
تمشط رأسي وتكون الفاليه ... وتحمل الفاضل من خماريه
حتى إذا بلغت ثمانيه ... وزيّنت بنقبةٍ يمانيه
زوّجتها مروان أو معاويه ... أزواج صدقٍ بمهورٍ غاليه
محاسن برّ البنات
عوانة قال: بلغنا أن شيخاً من أصحاب معاوية كان يكاتب علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، وقد كان طعن في السن، فبلغ معاوية خبره، فدعاه فقال: أيها الشيخ إنك لتكاتب علياً، رضي الله عنه، ولولا سنّك لقتلتك فلا تفعل ولا تعد. فوقع كتاب له بعد ذلك إلى علي، رحمه الله، في يدي معاوية فدعاه وقال: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم، كتب فأجبته، فأمر معاوية بقتله. فانتهى الخبر إلى ابنة له صغيرة، فجاءت حتى قامت بين يدي معاوية وأنشأت تقول:
معاوي لا تقتل أباً كان مشفقاً ... علينا فنبقى إن فقدناه شرّدا
وتوتم أولادٌ صغارٌ بقتله ... وإن تعف عنه كنت بالعفو أسعدا
معاوي هبه اليوم لله وحده ... وللباكيات الصارخات تلددا
معاوي منك العلم والحلم والتقى ... وكنت قديماً يا ابن حربٍ مسَددا
فعجب معاوية وأصحابه منها ودمعت عيناه ووهبه لها.
قيل: وكان المأمون وجد على قائد من قواده فاستصفى ضياعه وداره وأنهب دوابه وماله، وكان شيخاً فانياً ولم يكن له من الولد إلا بنية صغيرة، فأجمع أن يضرب في الأرض ويطلب من فضل الله جل وعز ويخلّف بنيته. فبكت الابنة وقبضت على أبيها وقالت: اقنع بما آتاك الله واصبر على محن الزمان ونوائب الدهر والزم الوطن وارحم وحدتي وضعفي وقلة حيلتي أو اذبحني فلا أُبتلى بفراقك. فبكى الشيخ وقال:
تقول ابنتي لما أردت وداعها ... وقد حضرتني نيةٌ ورحيل:
لعل المنايا في رحالك تنبري ... لنفسك ختلاً أو تغولك غول
فتتركني أدعى اليتيمة بعدما ... تبين وعزّي بعد ذاك ذليل
أفي طلب الدنيا وربك بالذي ... تسير له راعٍ عليك كفيل
أليس ضعيف القوم يأتيه رزقه ... يُساق إليه والبلاد محول
ويحرم جمع المال من قد يرومه ... يكدّ عليه رحله وحلول
فلو كنت في طودٍ على رأس هضبةٍ ... لها نجفٌ فيه الوعول تقيل
مضعّدة لا يستطاع ارتقاؤها ... ولا لنزولٍ يستطاع سبيل
إذاً لأتاك الرزق يحدوه سائقٌ ... حثيثٌ ويهديه إليك دليل
قال: فنمى الخبر إلى المأمون، فدعا بالشيخ فاستنشده شعره فأنشده، فرقّ له وأمر بردّ جميع ما أخذ منه وأعاده إلى مرتبته وزاده من عنايته.
قال: وعاش يزيد بن زبيبة الشيباني دهراً طويلاً حتى لحق زمن الحجاج وسعى مع ابن الأشعث، فظفر به الحجاج وورد عليه كتاب عبد الملك بن مروان يأمره بقتله. فلما دعا به قال له: أيها الأمير اتق الله بسبع عشرة نسوة أو تسع عشرة نسوة ليس لهن قيم غيري! قال: أحضرهنّ. فلما أحضرهن سألهن الحجاج عن شأنهنّ فما منهن امرأة إلا وهي تقول: اقتلني ودعه. فقامت بنية له صغيرة فبكت بكاء حاراً موجعاً محرقاً وأنشأت تقول:
أحجاج إما أن تجود بنعمةٍ ... علينا وإما أن تقتّلنا معا
أحجاج كم تفجع به إن قتلته ... ثلاثاً وعشراً واثنتين وأربعا
فمن رجل دانٍ يقوم مقامه ... علينا فمهلاً لا تزدنا تضعضعا
فرحمه الحجاج وكتب إلى عبد الملك يسأله العفو عنه، فأجابه إلى ذلك، وأطلقه.
مساوئ من كره البنات
قيل: وبُشر الأحنف بجارية فبكى. فقيل له: ما يبكيك؟ قال: لم لا أبكي وهي عورة، وبكاؤها عبرة، وهديتها سرقة، ونصرتها البكاء، ومهنأها لغيري! ومما قيل فيها من الشعر:لولا البنية لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظلم
وزادني رغبة في العيش معرفتي ... ذلّ اليتيمة يجفوها ذوو الرحم
تهوى بقاي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّالٍ على الحرم
مخافة الفقر يوماً أن يلمّ بها ... فيكشف الدهر عن لحمٍ على وضم
إذا تذكرت بنتي حين تندبني ... فاضت لرحمة بنتي عبرتي بدم
ولآخر:
أحب بنيتي ووددت أني ... دفنت بنيتي في جوف لحد
وما لي بغضها غرضاً ولكن ... مخافة ميتتي فتضيع بعدي
مخافة أن تصير إلى ليئمٍ ... فيفضح والدي ويشين جدي
فليت الله أكرمها بقبرٍ ... وإن كانت أعزّ الناس عندي
فتستر عورتي وتكون أجراً ... إذا قدّمتها وكتمت وجدي
وتتبع بعد ذاك بأم صدقٍ ... فتؤنس بنتها وأعيش وحدي
ولآخر:
فكلّ أبي بنتٍ يرجّي ببعلها ... ثلاثة أصهارٍ إذا عُدّد الصهر
فزوجٌ يراعيها وحدنٌ يصونها ... وقبرٌ يواريها وخيرهم القبر
مساوئ البنات
ذكروا أن الضيزن الغساني ملك الحيرة سار إليه سابور ذو الأكتاف، فتحصن الضيزن وحاصره شهراً، وأن مُليكة بنت الضيزن نظرت من ناحية السور إلى سابور فهويته وأرسلت إليه: إني قد هويتك وسأدلك على فتح هذه المدينة. فقال: افعلي وأنا لك وبين يديك. فأسكرت حفّاظ السور وفتحت الأبواب، فدخل سابور فقتل من قدر عليه وأخذ أباها أسيراً. فلما أصبح سابور أمر فأُدخل إليه الضيزن وهو قاعد على سرير من ذهب والجارية إلى جنبه، فلما رآها ضرب بيده ورجله وغُشي عليه، وقال لها حين أفاق: ما لك سوّد الله وجهك كما سودت وجهي وسلّطه عليك؟ فأمر به سابور فضربت عنقه وغنم هو وأصحابه غنائم كثيرة وانصرف إلى دار ملكه وأمر للجارية بمقصورة فبنيت لها فأسكنها فيها وأُعجب بها إعجاباً شديداً، فمكثت عنده حولاً ثم إنه دعاها ذات ليلة فباتت معه على فراش حشوه ريش فقلقت قلقاً شديداً. فقال لها: ما لك يا حبيبتي؟ قالت: إن في الفراش شيئاً خشناً قد أقلقني. ففتش الفراش فوجد تحت الريش ورقة آس وإذا هي قد أثّرت في جنبها بمقدار الورقة لرطوبة جسدها ولين بشرتها. فقال لها: ما الذي كان أبوك يغذوك به؟ قالت: بالمخّ ولباب الدّرمك، وهو الحوّارى، بالسكر الطبرزد. فقال: والله لأكافينك! فأمر بها فشدّت ضفائرها إلى أذناب فرسين فركضا فتقطعت.محاسن الإخوان
قال بعض الحكماء: ليس للعقلاء تنعّم إلا بمودات الإخوان.وقال آخر: الازدياد من الإخوان زيادة في الآجال وتوفير لحسن الحال.
وقال المأمون: الإخوان ثلاث طبقات: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنه، وطبقة كالدواء يحتاج إليه أحياناً، وطبقة كالداء الذي لا يحتاج إليه.
وقيل: أبعد الناس سفراً من كان سفره في ابتغاء صالحٍ.
وكان يقال: أعجز الناس من فرط في طلب الإخوان. وأنشد:
لعمرك ما مال الفتى بذخيرةٍ ... ولكن إخوان الثقات الذخائر
وقيل: صحبة الأخيار تورث الخير، وصحبة الأشرار تورث الشر، كالريح إذا مرت على النتن حملت نتناً، وإذا مرّت على الطيب حملت طيباً.
وقال شيخ من الأعراب: عاشروا الناس معاشرةً إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم. وقيل في ذلك:
قد يمكث الناس حيناً ليس بينهم ... ودٌّ فيزرعه التسليم واللطف
يسلي الشقيقين طول النأي بينهما ... وتلتقي شعبٌ شتّى فتأتلف
وقال آخر:
كم إخوةٍ لك لم يلدك أبوهم ... وكأنما آباؤهم ولدوكا
وأقاربٍ لو أبصروك معلّقاً ... بنياط قلبك ما رُؤوا رحموكا
وقال علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، لابنه الحسن، صلوات الله عليه: ابذل لصديقك كلّ المودة ولا تطمئنّ إليه كل الطمأنينة، وأعطه كل المؤاساة ولا تُفض إليه بكل الأسرار.
وقال العباس بن جرير: المودة تعاطف القلوب وائتلاف الأرواح وأنس النفوس ووحشة الأشخاص عند تنائي اللقاء وظهور السرور بكثرة التزاور، وعلى حسب مشاكلة الجواهر يكون الاتفاق في الخصال.
وكتب بعض الكتّاب: إن فلاناً أولاني جميلاً من البشر مقروناً بلطيف من الخطاب في بسط وجه ولين كنفٍ، فلما كشفه الامتحان بيسير الحاجة كان كالتابوت المطلي بالذهب المملوء بالعذرة، أعجبك حسنه ما دام مطبقاً فلما فتح آذاك نتنه، فلا أبعد الله غيره.
وقال بعضهم: من لم يؤاخ من الإخوان إلا من لا عيب فيه قلّ صديقه، ومن لم يرض من صديقه إلا بإيثاره إياه على نفسه دام سخطه، ومن جانب على غير ذنب إخوانه كثر عدوّه.
مساوئ الإخوان
أنشد لبعضهم:والله لو كرهت كفي منادمتي ... لقلت للكفّ بيني إذ كرهتيني
ولآخر:
فإني لو تخالفني شمالي ... خلافك ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها فلقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني
ولآخر:
من لم يردك فلا ترده ... هبه كمن لم تستفده
باعد أخاك إذا نأى ... وإذا دنا شبراً فزده
قال: وسمعها الكسروي فقال:
في سعة الأرض وفي عرضها ... مستبدلٌ بالأهل والجار
فمن دنا منا فأهلاً به ... ومن تولى فإلى النار
ولآخر:
وقائلٍ كيف تهاجرتما ... فقلت قولاً فيه إنصاف
لم يك من شكلي فتاركته ... والناس أشكالٌ وألاّف
ولآخر:
تودّ عدوي ثم تزعم أنني ... صديقك إن الرأي عنك لعازب
وليس أخي من ودّني رأي عينه ... ولكن أخي من ودّني وهو غائب
وقد قالت الحكماء الأوائل: نعوذ بالله من بوائق الثقات ومن الاغترار بظاهر المودّات. وأنشد الآخر:
إن اختياريك على خبرةٍ ... أعجب شيء مرّ في العالم
وأنشد لآخر:
إن اختياريك لا عن خبرةٍ سلفت ... إلا الرجاء ومما يخطيء النظر
كالمستغيث ببطن السيل يحسبه ... جزراً يبادره إذ بلّه المطر
وأنشد لآخر:
إذا كنت في قوم فقارن سراتهم ... فإنك منسوبٌ إلى من تقارن
وبيت عدي بن زيد في هذا المعنى مختار قديم:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... فإن القرين بالمقارن يقتدي
ولآخر في هذا المعنى:
مشي البريّ مع المقارف تهمةٌ ... ويرى البريّ مع السقيم فيُلصخ
ولآخر في هذا المعنى:
إذا اعتذر الصديق إليك يوماً ... من التقصير عذر أخٍ مقرّ
فصنه عن جوابك واغض عنه ... فإن العفو شمية كل حرّ
ولبعض الكتاب:
وصاحبٍ كان لي وكنت له ... أشفق من والد على ولد
وكان لي مؤنساً وكنت له ... ليست بنا حاجةٌ إلى أحد
كنا كساقٍ تمشي بها قدمٌ ... أو كذراعٍ نيطت إلى عضد
حتى إذا أمكن الحوادث من ... حظي وحلّ الزمان من عقدي
ازورّ عني وكان ينظر من ... عيني ويرمي عن ساعدي ويدي
حتى إذا استرفدت يدي يده ... كنت كمسترفدٍ يد الأسد
محاسن الخصيان
من مناقب الخصيان أن الخصي لا يصلع ومتى خصي قبل الإنبات لم يُنبت، وإذا خصي بعد استحكام الشعر في مواضع الشعر تساقط كله إلا شعر الرأس والحاجبين وأشفار العينين، وإنما يعرض لما يتولد من فضول البدن، ولم ير خصي قط مخنثاً ولا سمعنا به ولا ندري كيف ذلك ولا نعرف المانع منه ما هو، وقد كان ينبغي أن يكون ذلك فيهم خلقةً ويشمل جماعتهم لشبههم بالنساء وقربهم من الصبيان، وقد رأينا غير واحد من الأعراب مخنثاً ورأينا عدة مجانين مخنثين وأخبرني من رأى كردياً مخنثاً.
ومن فضائل الخصيّ أن المرأة تميل إليه لأن أمره أستر وعاقبته أسلم وتحرص عليه لأنه ممنوع عنها وترغب في السلامة من الولد. والخصي إذا تنسك غزا ولزم الثغور وبادر بماله إلى طرسوس. وقيل فيهم:
ونساءٌ لمطمئنٍّ مقيمٍ ... ورجالٌ إن كانت الأسفار
وقد يُرى الخصي وكأن السيوف تلمع في لونه وكأنه مرآة صينية وجمارة أو قضيب فضة قد مسه ذهب وكأن في وجنتيه الورد، ويعرض له صبر على طول الركوب والقوة على كثرة الركض حتى يجاوز في ذلك رجال الأتراك وفرسان الخوارج، وهم أطول الناس أعماراً، وما ذلك فيما أرى إلا لعدم النكاح وقلّة استنزاح النطف، ولذلك يقال: إن البغل أطول أعماراً من سائر الدواب والعصفور أقلها أعماراً، وما ذلك إلا لكثرة سفادة العصفور وقلة نزو البغال. ولو أن أخوين أحدهما توأم أخيه خصي أحدهما لخرج الخصي منهما أجود خدمة وأفطن لأبواب المعاطاة وأذكى عقلاً عند المخاطبة من أخيه الذي ولد معه في وقت واحد.
مساوئ الخصيان
قيل: كل ذي ريح منتنة وكل ذي ذفر وصنانٍ كريه المشم كالتيس وما أشبهه فإنه متى خصي نقص نتنه وذهب صنانه غير الإنسان فإن الخصي يعود أنتن ما كان وصنانه أحدّ، ويعتري الخصيان خبث العرق حتى توجد لأجسادهم رائحة لا تكون لغيرهم، وكلّ شيء من الحيوان يُخصى فإن عظمه يدقّ ويسترخي لحمه ويتبرأ من عظمه ويعود رخصاً رطباً بعد أن كان عضلاً صلباً، والإنسان إذا خصي طال عظمه وعرُض ويعرض له طول القدم واعوجاج الأصابع ويعرض له سرعة التغير والتبدل والانقلاب من حدّ الرطوبة والبضاضة وملاسة الجلد وصفاء اللون ورقّته والتقبّض إلى الهزال وسوء الحال، ويعرض للخصيان سرعة الرضى والغضب وحب النميمة وضيق الصدر لما أُودع من سر، وما أكثر ما يعرض للخصيان البول في الفراش ولا سيما إذا بات أحدهم ممتلئاً من النبيذ، ويعرض لهم حب الشراب والإفراط في شهوته، ويعرض لهم سرعة الدمعة والعبث واللعب بالطير والفخّ وما أشبه ذلك وجاء من أخلاق الصبيان، ويعرض لهم الشره عند الطعام والبخل عليه.والخصي تسخن معدته وتلين جلدته وتنحدر شعرته ويتسع دبره. والخاصي ربما عمد إلى الصبي ليخصيه فتتقلص إحدى خصيتيه وتصير البيضة في موضع لا يمكنه ردها إلى مكانها فيقطع ما ظهر له ويبقى ذا بيضة واحدة فهو حينئذ لا امرأة ولارجل ولا خصي وتخرج لحيته فلا يدعه الناس في دورهم فلا يكون مع الخصيان مقرباً ولا مع الفحول مستخدماً، وقد فاته غشيان النساء ولذّة النسل والتمتع بشم الأولاد.
على أن في الخصيان شرهاً شديداً وميلاً عجيباً إلى النساء، من ذلك ما حكي عن أبي المبارك الخصي ومسامحته في حفظ النساء فقال: والله إني ربما أسمع نغمة المرأة فأظن أن كبدي قد ذابت وأن عقلي قد اختُلس، وربما نزا فؤادي عند ضحك إحداهن حتى أظن أنه قد خرج من فمي فكيف ألوم عليه غيري؟ قال: وكان الجمّاز يتعشق جارية لآل جعفر يقال لها طغيان، وكان لهم خصي يسمى سناناً يحفظها وكان يتعشق الجارية أيضاً، وحال بينها وبين الجماز ومنعها من الدنوّ منه. فقال الجماز:
ما للمقيت سنانٍ ... وللظباء الملاح
أليس زانٍ خصيٌّ ... غازٍ بغير سلاح
قيل: ودخل معاوية بن أبي سفيان على امرأته ميسون بنت بحدل وهي أم ابنه يزيد ومعه خصي فاستترت منه. فقال: لم تتسرين عنه وإنما هو بمنزلة المرأة؟ فقالت: كأنك ترى أن مثلتك به تحلل له ما حرم الله عليه مني.
قيل: وكان إسحاق بن مسلم العقيلي جالساً عند المنصور فمرّ خادم وضيء الوجه فقال: يا أمير المؤمنين أي ولدك هذا؟ قال: ما هو لي بولد. قال: فأي إخوة أمير المؤمنين هذا؟ قال: ما هو لي بأخ. قال: فمن هو؟ قال: فلان الخادم. قال: يا أمير المؤمنين فبكم شمة هذا وضمته أحبّ إليها من شمتك وضمتك! قال: فتداخل المنصور من ذلك أمر عظيم حتى تغير وجهه وأمر بمنع الخدم من دخول دار النساء.
محاسن العبيد
قال: مرّ عبيد الله بن معمر بحبشي يأكل تمراً وبين يديه كلب، فلما وضع في فمه لقمةً رمى إلى الكلب بلقمة وتمرة. فقال له عبيد الله: هذا الكلب لك؟ قال: لا. قال: فكيف صرت تطعمه وأنت تأكل؟ قال: إني لأستحيي ذا عينين أن ينظر إلي وأنا آكل فلا أطعمه. قال له عبيد الله: أأنت حرّ أم عبد؟ قال: عبد لبني غاضرة. فأتاهم فقال: لمن الحبشي؟ قال صاحبه: لي. فقال: بعه مني. قال: هو لك. قال: لا والله إلا أن تأخذ ثمنه أو غلاماً يكون محله. فاشتراه ثم قال: أشهدكم أنه حرّ لوجه الله جل وعز.قيل: ومرّ عبد الله بن عمر براع مملوك يرعى غنماً فقال له: بعني شاة من هذه الغنم. فقال: إنها ليست لي. فقال: أين العدل؟ فقال: فأين الله جل وعز؟ فاشتراه ابن عمر وأعتقه. فقال: اللهم قد رزقني العتق الأصغر فارزقني العتق الأكبر، أو قال: فلا تحرمني العتق الأكبر.
قال: وكان لكثير عزة عبدٌ راعٍ يتولى بيع غنمه فباع عزة وهو لا يعرفها شيئاً من غنمه، فقال يوماً وهو يتقاضاها:
قضى كلُّ ذي دينٍ فوفى غريمه ... وعزة ممطولٌ معنىًّ غريمها
فقالت له امرأة: أتعرف عزة؟ قال: لا. قالت: فهذه والله عزة، فقال: لا والله لا آخذ منها شيئاً أبداً! ورجع إلى كثيّر فأخبره فأعتقه لما فعل.
مساوئ العبيد
وعن حميد الطويل: كان رجل له غلام فباعه وقال للمشتري: إني أبرأ إليك من كل عيب به إلا عيباً واحداً. قال: وما هو؟ قال: النميمة. قال: أنت بريء منه فإني لا أقبل قوله. قال: فما لبثت إلا قليلاً حتى أتى السيد السيد وقال: إن امرأتم بغيّ وهي تريد أن تقتلك وتتزوج غيرك. قال: وما يدريك؟ قال: قد عرفت ذلك، فتناوم عليها فإنه سيظهر لك ما أقول.وأتى المرأة فقال: إن زوجك يريد أن يخلعك ويتزوج غيرك فهل لك أن أرقيك فيرجع إليك حبه؟ قالت: نعم ولك كذا وكذا. قال: ائتني بثلاث شعرات من تحت حنكه. فلما دنت منه لتتناول الشعر قام إليها بالسيف ولم يشك فيما قاله الغلام فقتلها، وجاء إخوة المرأة فقتلوا الزوج فذهبا جميعاً بسوء صنيع عبدهما وقبولهما نميمته.
ومما قيل فيهم من الشعر:
وإذا ما جهلت ودّ صديقٍ ... فاختبر ما جهلت بالغلمان
إن وجه الغلام يخبر عما ... في ضمير المولى من الكتمان
قال: وكتب الطائي إلى بعض إخوانه يسأله نبيذاً، فأمر له بذلك ومنعه الغلام. فقال:
أبا جعفرٍ وأصول الفتى ... تدلّ عليه بأغصانه
أليس قبيحٌ بأن امرأً ... رجاك لصالح أزمانه
فتأمر أنت بإعطائه ... ويأمر فتحٌ بحرمانه
ولست أحب الشريف الظريف ... يكون غلاماً لغلمانه
مساوئ سوء معاملات الموالي لعبيدهم
قال: وقال أبو العباس الموصلي: كان لي جار فسمعت من داره استغاثة مضروبين، فلما سألت عن الخبر قيل: إنه فقد دجاجة. فكتبت أبياتاً في رقعة وشددتها في رجل دجاجة وألقيتها في داره وضمّنتها:يا ذا الذي من أجل فرّوجةٍ ... أظهر للعالم أخلاقه
ألقى على الغلمان من أجلها ... بالضرب والتعذيب أرواقه
رفقاً قليلاً بعقوباتهم ... فإنهم لم يعقروا الناقه
قيل: وقدم أعرابي مصراً من الأمصار فدخل سوق النخاسين ليبتاع جارية فصادف جارية قد أقيمت لتباع يُبرأ فيها من الإباق والسرقة والسكر والفجور وقد تحاماها الناس فاشتراها وأبرأهم من عيوبها، فقال له رجل: يا عبد الله لقد اشتريت بمالك ما لم يكن غيرك يأخذه بلا ثمن! فقال: إنا لسنا نكره من مثلها ما تكرهون، أما الإباق فوالله إن أدنى ماء من مياهنا لعلى مسيرة خمس ولربما سرى الرجل الهادي من حيث ينزل فيصبح بحيث يرى فأنى لها بالإباق؟ وأما السرق فما عسى أن تسرق شاة أو بعيراً أو قتباً أو حلساً. وأما السكر فوالله ما نقدر على ريها من الماء فكيف تصيب شراباً؟ وأما الفجور فإن لنا زنوجاً يخدموننا فما نكره أن يقع عليها بعضهم فننتفع بولدها. ثم عمد إلى ثوبين مصبوغين كانا عليها فانتزعهما منها وقال: مولاتك أحق بهما. وألبسها مدرعة. فبكت الجارية وقالت: قد كانت مولاتي تدعو علي وتقول: باعك الله في الأعراب. فقال: لأنا نجيع كبده ونعري جلده ونطيل كدّه.
محاسن مطالبة المعلمين بالتعليم
قال: كان الرشيد جعفر محمداً الأمين في حجر الفضل بن يحيى وعبد الله المأمون في حجر جعفر بن يحيى. فقال الفضل بن يحيى لهيثم بن بشير الواسطي: ليكن أكثر ما تأخذ به وليّ العهد تعظيم الدماء، فإني أحب أن يشرب الله قلبه الهيبة لها والعفاف عن سفكها. ثم إن الرشيد أرسل إلى الأحمر النحوي فلما دخل عليه قال: يا أحمر أن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه وصيّر يدك عليه مبسوطة ومقالتك فيه مصدقة وطاعتك عليه واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين، أقرئه القرآن وعلمه الآثار والأخبار والسنن وروّه الأشعار وبصّره مواقع الكلام ومره بالرزانة في مجلس والاقتصاد في نظره وسمعه، فلا تمرنّ بك ساعة إلا وأنت مغتنم فيها فائدة تفيده إياها وكلمة نافعة يعيها ويحفظها من غير أن تخرق به فتميت ذهنه وتملّه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه بالتقريب والملاينة، فإن أبى فالشدة.قال الأحمر: فكنت كثيراً ما أشدد عليه في التأديب وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب. فشكا ذلك إلى خالصة فأتتني برسالة من أم جعفر تعزم عليّ بالكف عنه وأن أجعل له وقتاً أجمّه فيه لتوديع بدنه. فقلت: الأمير قد عظم قدره وبعد صوته، وموقعه من أمير المؤمنين ومكانه من ولايه العهد لا يحتملان التقصير ولا يقبل منه الخطل ولا يرضى منه بالزلل في المنطق والجهل بشرائع الدين والعمى عن الأمور التي فيها قوام السلطان وإحكام السياسة.
قالت: صدقت غير أنها والدة لا تملك نفسها ولا تقدر على كف إشفاقها وحذرها ومع حذرها أمرٌ إن شئت حدثتك به. فقلت: وما ذاك؟ قات: حدثتني السيدة أنها رأت في الليلة التي حملت فيها به كأن ثلاث نسوة دخلن عليها فقعدت منهنّ ثنتان واحدة عن يمينها وواحدة عن يسارها، فأمرّت إحدى الثلاث يدها على بطنها ثم قالت: ملك ربحلٌ عظيم البذل ثقيل الحمل سريع الأمر. وقالت الثانية: ملك قصير العمر سليم الصدر متهتك الستر. وقالت الثالثة: ملكٌ قصّاف عظيم الإتلاف يسير الخلاف قليل الإنصاف. فانتبهت وأنا فزعةٌ فلم أحس لهن أثراً حتى كانت الليلة التي وضعته فيها أتينني في الخلق الذي رأيتهن فقعدن عند رأسه واطّلعن جميعاً في وجهه ثم قالت واحدة منهن: شجرة نضرة وريحانة جنيّة وروضة زاهره وعين غدقة، قليل لبثها عجل ذهابها. وقالت الثانية: سفيه غارم وطالب للمغارم جسورٌ على المخاصم. وقالت الثالثة: احفروا قبره وشقوا لحده وقربوا أكفانه وأعدوا جهازه فإن موته خير له من حياته. قالت: فبقيت متحيرة وبعثت إلى المنجمين والمعبرين ومن يزجر الطير فكل يبشرني بطول عمره ويعدني بقاءه وسعادته وقلبي يأبى إلا الحذر عليه والتهمة لما رأيت في منامي.
وبكت خالصة وقالت: يا أحمر وهل يدفع الإشفاق والحذر والاحتراق واقع القدر أو يقدر أحدٌ على أن يدفع عن أحبّائه الأجل؟ قلت: صدقت إن القضاء لا يدفعه شيء. ثم كان من أمره ما كان.
ثم اتخذ الرشيد قطرباً النحوي على الأمين، وكان حمّاد عجرد يتعشق الأمين ويطمع فيه أن يتخذه عليه مؤدباً فلم يتهيأ له ذلك لتهتكه وقبيح ذكره في الناس، وقد كان رام ذلك فلم يجب إليه، فلما سمع أن قطرباً قد استوى أمره وأجيب إلى ذلك لستره وعفافه أخذ حماداً المقيم والمقعد حسداً على ما ناله قطرب من ذلك وبلغه من المنزلة الرفيعة والدرجة السنية، فأخذ رقعة وكتب فيها أبياتاً ودفعها إلى بعض الخدم الذين يقومون على رأس الرشيد وجعل له على ذلك جعلاً وسأله أن يودع الرقعة دواة أمير المؤمنين. ففعل فما كان بأسرع من أن دعا الرشيد بالدواة فإذا فيها رقعة فيها هذه الأبيات:
قل للإمام جزاك الله مغفرةً ... لا يجمع الدهر بين السخل والذيب
السخل غرٌّ وهمُّ الذئب غفلته ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب
فلما قرأ الرشيد الرقعة قال: انظروا أن لا يكون هذا المعلم لوطياً انفوه من الدار. فأخرجوه عن تأديب الأمين واتخذ عليه حماداً، وجعل عليه ثمانين من الرقباء.
قال: ولما وُسم قطرب بهذه السمة القبيحة خاف أن يلحقه بعض ما يكره فهرب إلى الكرج وتوسل إلى أبي دلف ومعقل ببراعة الأدب، فلما عرفا غزارة فنه ووقفا على معرفته اصطفياه لأنفسهما وأحلاه محلاً رفيعاً وقدماه على جميع أهل الأدب وأرغدا له في العطية، فلما رأى قطرب برّهما به وإلطافهما به رغب في المقام بالكرج وأثرى وكثر ماله.
فيقال: إن أصل هذه الآداب التي وقعت بالكرج إلى أبي دلف ومعقل من علم قطرب وتصنيفه الكتب. وإن المأمون سأل أبا دلف: من خلّفت بالجبل منسوباً إلى الأدب؟ قال: ما خلّفت غير قطرب. فقال المأمون: صدقت، إن لقطرب لمحلاً من هذا الشأن.
وعن أبي محمد اليزيدي قال: كنت أؤدب المأمون وهو في حجر سعيد الجوهري، فأتيته يوماً وهو داخل فوجّهت إليه بعض غلمانه يعلمه بموضعي فأبطأ عليّ ثم وجهت إليه آخر فأبطأ، فقلت لسعيد: إن هذا الفتى ربما تأخر وتشاغل بالبطالة. قال: أجل ومع هذا إذا تأخر تعرّم على خدمه ولقوا منه أذىً فقوّمه بالأدب. فلما خرج أمرت بحمله وضربته تسع درر، قال: فإنه ليدلك عينه من أثر البكاء إذ أقبل جعفر بن يحيى فاستأذن وأخذ منديلاً فمسح عينيه وجمع ثيابه وقام إلى فراشه وقعد عليه متربعاً ثم قال: يدخل. فدخل وقمت عن المجلس وخفت أن يشكوني إليه فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه وحديثه حتى أضحكه وضحك. فلما همّ بالحركة دعا بدابته وأمر غلمانه فسعوا بين يديه ثم سأل عني فجئت فقال: خذ ما بقي من حزني. فقلت: أيها الأمير لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر ولو فعلت ذلك لتنكر لي. قال: إنا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أُطمع الرشيد في هذه فكيف جعفراً أُطلعه على أني أحتاج إلى أدب؟ يغفر الله لك، خذ في أمرك فقد خطر ببالك ما لا تراه أبداً ولو عدت في كل يوم مرة.
وكان لسعيد الجوهري غلام قد لزّ بالمأمون في الكتّاب فكان إذا احتاج المأمون إلى محو لوحه بادر إليه فأخذ اللوح من يده فمحاه وغلب على غلمان المأمون ومسحه وجاء به فوضعه على المنديل في حجره، فلما سار المأمون إلى خراسان وكان من أخيه ما كان خرج إليه غلام سعيد فوقف بالباب حتى جاء أبو محمد اليزيدي فلما رآه عرفه فدخل فأخبر المأمون. فقال له مستبشراً بقدومه: لك البشرى! ثم أذن له فدخل عليه فضحك إليه حين رآه ثم قال: أتذكر وأنت تبادر إلى محو لوحي؟ قال: نعم يا سيدي. فوصله بخمس مائة ألف درهم. ثم اتخذ الرشيد الحسن اللؤلؤي بعد أبي محمد اليزيدي على المأمون، فبينا هو يطارحه شيئاً من الفقه إذ نعس المأمون. فقال له اللؤلؤي: نمت أيها الأمير! فقال المأمون: سوقيّ ورب الكعبة! خذوا بيده. فبلغ الرشيد ما صنع فقال متمثلاً:
وهل ينبت الخطّيَّ إلا وشيجه ... وتُغرس إلا في منابتها النخل
محاسن المعلمين
قال: شهد رجل عند سوّار القاضي فقال: ما صناعتك؟ قال معلم. قال: فإنا لا نجيز شهادتك. قال: ولم؟ قال: أنك تأخذ على التعليم أجراً. قال: وأنت تأخذ على القضاء بين المسلمين أجراً. قال: أُكرهت عليه. قال: فهبك أُكرهت على القضاء فمن أكرهك على أخذك الأجر والرزق على الله؟ فقال :هلمّ شهادتك، فأجازها.قال: وكان لشريح القاضي ابن يكثر البطالة فنظر إليه شريح يوماً وهو يهارش بكلب له فكتب رقعة إلى معلمه وفيها هذه الأبيات:
ترك الصلاة لأكلبٍ يسعى بها ... طلب الهراش مع الغواة الرُّجس
فإذا أتاك فغطّه بملامة ... وعظته موعظة الرفيق الأكيس
فإذا هممت بضربه فبدرةٍ ... وإذا ضربت بها ثلاثاً فاحبس
وليحملن مني إليك صحيفةً ... نكراء مثل صحيفة المتلمّس
اعلم بأنك ما أتيت فنفسه ... مع ما يجرّعني أعزُّ الأنفس
فضربه المعلم عشراً عشراً. فقال له شريح: لم ثنّيت عليه الضرب؟ فقال: العشر الأولى للبطالة والثانية للبلادة حيث لا يدري ما يحمل.
مساوئ المعلمين
قيل: كان معلم يصلي بالناس في شهر رمضان وكان يقف على ما لا يوقف عليه، فقرأ: واتبعوا ما تتلو الشَّ، ثم قال: الله أكبر، فركع ثم قام في الثانية. فقلت: ما تراه يصنع؟ فلما قال: ولا الضالين، فقال: ياطين على ملك سليمان.قال: وسمعت معلماً يقرأ بالناس في شهر رمضان: وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً وأكيد كيداً فمهل الكافرين أمهلهم رويداً.
وقال بعضهم: الله جل وعز أعان على عرامة الصبيان برقاعة المعلمين.
وقال فيهم بعض الشعراء:
وهل يستفيد العقل من كان دهره ... يروح على أنثى ويغدو على طفل
وقال آخر:
إذا كنت ورّاقاً فأنت محارفٌ ... وحسبك نوكى أن تكون معلما
محاسن السؤال
قال الجاحظ: سمعت شيخاً من المكدين وقد التقى مع شاب منهم قريب العهد بالصناعة فسأله الشيخ عن حاله فقال: بعن الله الكدية ولعن أصحابها من صناعة ما أخسها وأقلها، إنها ما علمت تخلق الوجه وتضع من الرجال، وهل رأيت مكدياً أفلح؟ قال: فرأيت الشيخ قد غضب والتفت إليه فقال: يا هذا أقلل الكلام فقد أكثرت، مثلك لا يفلح لأنك محروم ولم تستحكم بعد وإن للكدية رجالاً فما لك ولهذا الكلام! ثم التفت فقال: اسمعوا بالله يجيئنا كل نبطيّ قرنانٍ وكل حائك صفعان وكل ضرّاط كشحان يتكلم سبعاً في ثمان إذا لم يصب أحدهم يوماً شيئاً ثلب الصناعة ووقع فيها، أوما علمت أن الكدية صناعة شريفة وهي محببة لذيذة صاحبها في نعيم لا ينفد فهو على بريد الدنيا ومساحة الأرض وخليفة ذي القرنين الذي بلغ المشرق والمغرب حيث ما حلّ لا يخاف البؤس، يسير حيث شاء، يأخذ أطايب كل بلدة؟ فهو أيام النرسيان والهيرون بالكوفة، ووقت الشبّوط وقصب السكر بالبصرة، ووقت البرنيّ والأزاذ والرّازقيّ والرمان المرمر ببغداد، وأيام التين والجوز الرطب بحلوان، ووقت اللوز الرطب والسختيان والطبرزد بالجبل، يأكل طيبات الأرض، فهو رخي البال حسن الحال لا يغتمّ لأهل ولا مال ولا دار ولا عقار، حيث ما حلّ فعلفه طبليّ، أما والله لقد رأيتني وقد دخلت بعض بلدان الجبل ووقفت في مسجدها الأعظم وعليّ فوطة قد ائتزرت بها وتعممت بحبل من ليف وبيدي عكازة من خشب الدفلى وقد اجتمع إلي عالم من الناس كأني الحجاج بن يوسف على منبره وأنا أقول: يا قوم رجل من أهل الشام ثم من بلد يقال له المصيصة من أبناء الغزاة والمرابطين في سبيل الله من أبناء الركّاضة وحرسة الإسلام، غزوت مع والدي أربع عشرة غزوة سبعاً في البحر وسبعاً في البر، وغزوت مع الأرمنيّ، قولوا رحم الله أبا الحسن، ومع عمر بن عبيد الله، قولوا رحم الله أبا حفص، وغزوت مع البطال بن الحسين والرنرداق بن مدرك وحمدان بن أبي قطيفة، وآخر من غزوت معه يازمان الخادم، ودخلت قسطنطينية وصليت في مسجد مسلمة بن عبد الملك، من سمع باسمي فقد سمع ومن لم يسمع فأنا أعرفه نفسي، أنا ابن الغزيّل بن الركان المصيصي المعروف المشهور في جميع الثغور والضارب بالسيف والطاعن بالرمح، سدٌّ من أسداد الإسلام نازل الملك على باب طرسوس فقتل الذراري وسبى النساء، وأُخذ لنا ابنان وحملا إلى بلاد الروم فخرجت هارباً على وجهي ومعي كتب من التجار فقطع عليّ وقد استجرت بالله ثم بكم فإن رأيتم أن تردّوا ركناً من أركان الإسلام إلى وطنه وبلده!فوالله ما أتممت الكلام حتى انهالت عليّ الدراهم من كل جانب وانصرفت ومعي أكثر من مائة درهم. فوثب إليه الشاب وقبل رأسه وقال: أنت والله معلم الخير فجزاك الله عن إخوانك خيراً.
أصناف المكدين وأفعالهم
منهم المكي وهو الذي يأتيك وعليه سراويل واسع دبيقيّ أو نرسي وفيه تكة أرمنية قد شدّها إلى عنقه فيأتي المسجد فيقول: أنا من مدينة مصر ابن فلان التاجر وجهّني أبي إلى مرو في تجارة ومعي متاع بعشرة آلاف درهم فقطع عليّ الطريق وتركت على هذه الحال ولست أحسن صناعة ولا معي بضاعة وأنا ابن نعمة وقد بقيت ابن حاجة. ومنهم السحري الذي يبكر إلى المساجد من قبل أن يؤذن المؤذن. والشجوي الذي كان يؤثر في يده اليمنى ورجليه حتى يري الناس أنه كان مقيداً مغلولاً ويأخذ بيده تكة فينسجها يوهّمك أنه من الخلديّة وقد حبس في المطبق خمسين سنة. ومنهم الذرارحي الذي يأخذ الذراريح فيشدها في موضع من جسده من أول الليل ويبيت عليه ليلته حتى يتيقظ فيخرج بالغداة عرياناً وقد تنفّط ذلك الموضع وصار فيه القيح الأصفر ويصبّ على ظهره قليل رماد فيوهم الناس أنه محترق. ومنهم الحاجور وهو الذي يأخذ الحلقوم مع الرئة فيدخل الحلقوم في دبره ويشرّح الرئة على فخذه تشريحاً رقيقاً ويذرّ عليه دم الأخوين. ومنهم الخاقاني الذي يحتال في وجهه حتى يجعله مثل وجه خاقان ملك الترك ويسوده بالصبر والمداد ويوهّمك أنه ورم. ومنهم السّكوت الذي يوهمك أنه لا يحسن أن يتكلم. ومنهم الكان وهو الذي يواضع القاص من أول الليل على أنه يعطيه النصف أو الثلث فيتركه حتى إذا فرغ من الأخذ لنفسه اندفع هو فتكلم.ومنهم المفلفل، الرفيقان يترافقان فإذا دخلا مدينة قصدا أنبل مسجد فيها فيقوم أحدهما في أول الصف فإذا سلم الإمام صاح الذي في آخر الصف بالذي في أول الصف: يا فلان قل لهم. فيقول الآخر: قل لهم أنت أنا أيش. فيقول: قل ويحك ولا تستح. فلا يزالان كذلك وقد علّقا قلوب الناس ينتظرون ما يكون منهما، فإذا علما أنهما قد علقا القلوب تكلما بحوائجهما وقالا: نحن شريكان وكان معنا أحمال بزّ كنا حملناها من فسطاط مصر نريد العراق فقطع علينا وقد بقينا على هذه الحال لا نحسن أن نسأل وليست هذه صناعتنا. فيوهمان الناس أنهما قد ماتا من الحياء.
ومنهم زكيم الحبشة الذي يأتيك وعليه درّاعة صوف مضرّبة مشقوقة من خلف وقدّام وعليه خفّ ثغري بلا سراويل يتشبه بالغزاة. ومنهم زكيم المرحومة المكافيف يجتمعون خمسة وستة وأقل وأكثر وقائدهم يبصر أدنى شيء عينه مثل الخفاش يقال له الاسطيل فهو يدعو وهم يؤمنون. ومنهم الكاغانيّ الذي يتجنن أو يتصارع ويزبد حتى لا يشك أحد في جنونه وأنه لا دواء له لشدة ما ينزل به. ومنهم القرسيّ وهو الذي يعصب ساقيه أو ذراعيه عصباً شديداً ويبيت على ذلك ليلة فإذا تورم واحتقن فيه الدم مسحه بشيء من صابون ودم الأخوين وقطر عليه من سمن البقر وأطبق عليه خرقة ثم كشف بعضه فلا يشك من رآه أنه آكلة نعوذ بالله منها. ومنهم المشعب الذي يحتال للصبي حين يولد بأن يزمنه أو يعميه ليسأل به الناس، وربما جاءت أمه أو يجيء أبوه فيتولى ذلك فإما أن يكسبا به أو يكرباه فإن كان عندهما ثقة وإلا أقام بالأولاد والأجرة كفيلاً. ومنهم الفيلور وهو الذي يحتال لخصيتيه حتى يريك أنه آدرٌ وربما أراك أن بهما شرطاً أو جرحاً، وربما أراك ذلك في دبره، وتفعل المرأة ذلك بفرجها. ومنهم الكاخان الغلام المكدي إذا واجر وعليه مسحةٌ من جمال وعمل العملين جميعاً. والعواء الذي يسأل بين المغرب والعشاء ويطرّب في صوته. ومنهم الاسطيل وهو المتعامي الذي إن شاء أراك أنه أعمى وإن شاء أراك أنه ممن نزل في عينه الماء وإن شاء أراك أنه لا يبصر. ومنهم المزيديّ وهو الذي يدور ومعه دريهمات يقول: هذه دريهمات قد جمعت لي في ثمن قطيفة فزيدوني فيها ورحمكم الله. ومنهم المستعرض الذي يعارضك وهو ذو هيأة في ثياب صالحة يريك أنه يستحيي من المسألة ويخاف أن يراه معرفة فيعرض لك اعتراضاً ويكلمك خفتاً. ومنهم المطيّن وهو الذي يطيّن نفسه من قرنه إلى قدمه ويأخذ البلاذر يريك أنه يأكل البلاذر.
ومن نوادرهم
قيل: إنه أتى سائل داراً يسأل منها فأشرفت عليه امرأة من الغرفة فقال لها: يا أمة الله الله أن تصدّقي عليّ بشيء! قالت: أي شيء تريد؟ قال: درهماً. قالت: ليس. قال: فدانقاً. قالت: ليس. قال: ففلساً. قالت: ليس. قال: فكسوة. قالت: ليس. قال: فكفاً من دقيق. قالت: ليس. قال: فزيت، حتى عد كل شيء يكون في البيوت وهي تقول: ليس. فقال لها: يا زانية فما يجلسك؟ مرّي تصدّقي معي.
قال الأصمعي: وقفت على سائل بالمربد وهو يقول:
قد رهنت القصاع من شهوة الخبز
فقلت له: أتممه. فقال: أتممه أنت. فقلت: فمن لي بمن يفك القصاعا فقال: اضمم إليه بيتاً. فقلت:
ما رهنت القصاع يا قوم حتى ... خفت والله أن أموت ضياعا
فقال: أنت والله أحوج إلى المسألة وأحق بها مني.
ولأبي فرون الأعرابي السائل:
وصبيةٍ مثل صغار الذرّ ... سود الوجوه كسواد القدر
كلهم ملتزقٌ بصدري ... حتى إذا لاح عمود الفجر
ولاحت الشمس خرجت أسري ... أسبقهم إلى أصول الجدر
ألا فتى يحمل عني إصري ... هذا جميع قصتي وأمري
فاسمع مقالي وتوقّ شري ... فأنت أنت بغيتي وذخري
كنّيت نفسي كنية في شعري ... أنا أبو الفقر وأم الفقر
قال: قال الأصمعي: رأيت سائلاً وقد تعلق بأستار الكعبة من بني تميم وهو يقول:
أيا رب رب الناس والمنّ والهدى ... أما لي في هذا الأنام قسيم
أما تستحي مني وقد قمت عارياً ... أناجيك يا ربي وأنت كريم
أترزق أبناء العلوج وقد عصوا ... وتترك قرماً من قروم تميم
قال: ورأيت رجلاً آخر من الأعراب وقد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول:
يا رب إني سائلٌ كما ترى ... مشتملٌ شميلتي كما ترى
وشيختي جالسةٌ فيما ترى ... والبطن مني جائعٌ كما ترى
فما ترى يا ربنا فيما ترى
قال: وأتى سائل من الأعراب إلى بني عبد العزيز بن مروان فقال: أتت علينا سنون لم تبق زرعاً حصيداً ولا مالاً تليداً إلااجتاحته بزوبره وأصله وأنتم أئمة أملي وقصد ثقتي. فلم يعطوه شيئاً، فقال:
بنو عبد العزيز إذا أرادوا ... سماحاً لم يلق بهم السماح
لهم عن كل مكرمةٍ حجابٌ ... فقد تركوا المكارم واستراحوا
قال: ومر سائل منهم برجل يكنّى أبا الغمر ضخم عريض وكان بواباً لبعض الملوك فقال له: أعن المسكين الضعيف الفقير المحتاج. فقال: ما ألحف جائعكم وأكثر سائلكم، أراحنا الله منكم! فقال السائل: اسكت فوالله لو فرّق قوت جسمك في عشرة أجسام منا لكفانا طعامك ليوم شهراً، وإنك لنبيه الضرطة لو ذري بها بيدر لكفته الريح، عظيم السلحة لو ضربت لبناءٍ لكفت سوراً.
قال: وقال أعرابي وهو يسأل: رحم الله من أعطى من فضل وآثر من قلة وواسى من كفاف.
قيل: ودخل رجل منهم على هشام بن عبد الملك بن مروان فقال: يا أمير المؤمنين أتتنا سنون ثلاث، فأما الأولى فأذابت الشحم، وأما الثانية فأغضت اللحم، وأما الثالثة فهاضت العظم، وعندك أموال فإن كانت لله جل وعز فبثها في عباد الله، وإن كانت لهم ففيم تحبسها عنهم؟ وإن كانت لك فتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين.
قال: ودخل أزهر السمان على المنصور فشكا إليه الحاجة وسوء الحال، فأمر له بألف درهم وقال: يا أزهر لا تأتنا في حاجة أبداً. قال: أفعل يا أمير المؤمنين. فلما كان بعد قليل عاد فقال له: يا أزهر ما حاجتك؟ قال: جئت لأدعو لأمير المؤمنين. قال: بل أتيتنا لمثل ما أتيت. فأمر له بألف درهم وقال: يا أزهر لا تأتنا ثالثة فلا حاجة لنا في دعائك. قال: نعم، ثم لم يلبث أن عاد، فقال: يا أزهر ما جاء بك؟ قال: دعاء كنت سمعته منك أحب أن آخذه عنك. فقال: لا تردده فإنه غير مستجاب وقد دعوت به الله جل وعز أن يريحني من خلقتك فلم يفعل.
وممن سأل الخلفاء أيضاً ربيعة بن ربيعة، ذكروا أنه دخل على معاوية بن أبي سفيان فقال: يا أمير المؤمنين زوجني بعض بناتك. فقال: قد شغلناهنّ بأكفائهنّ. قال: فولّني شرطة البصرة. قال: قد ولّيتها من كفانا. قال: فهب لي قطيفة. قال: أما هذا فنعم.
ومنهم أبو دلامة دخل على المنصور فقال: يا أمير المؤمنين تأمر لي بكلب صيد؟ قال: أعطوه. قال: كلب بلا صقر؟ قال: أعطوه صقراً. قال: كلب وصقر بلا بازبان؟ قال: أعطوه غلاماً بازباناً. قال: فلا بد لهم من دار! قال: أعطوه داراً. قال: فمن أي شيء يعيشون؟ قال: قد أقطعتك أربع مائة جريب منها مائتا جريب عامر ومائتان غامر. قال: وما الغامر؟ قال: الخراب. قال: فأنا أقطعتك أربعة آلاف جريب بالدهناء غامرة. قال: فقد جعلتها كلها عامرة فهل بقي لك شيء؟ قال: نعم تدعني أقبل يدك. قال: ليس إلى ذلك سبيل. فقال: ما منعتني شيئاً أهون على عيالي من هذا.
قال: وبعث المنصور إلى زياد بن عبد الله مالاً وأمره أن يفرّقه في القواعد والأيتام والعميان، فدخل إليه أبو حمزة الرقيّ فقال: أصلح الله أمير المؤمنين! قد بلغني الكبر فاكتبني في القاعدين. قال: يغفر الله لك إنما القواعد النساء اللواتي قعدن عن الأزواج. قال: فاكتبني في العميان فإن الله جل ذكره يقول: فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، وأنا أشهد أن قلبي أعمى، واكتب ولدي في الأيتام فإن من كنت أباه فهو يتيم. قال: اكتبوه في العميان واكتبوا ولده في الأيتام.
قال وقالت أعرابية لحاتم بن عبد الله الطائي: أتيتك من بلاد نائية شاسعة تخفضني خافضة وترفعني رافعة لملمات من الأمور نزلن بي فبرين عظمي وأذهبن لحمي فرتكنني بالجريض قد ضاق بي البلد العريض، لم يتركن لي سبداً ولم يبقين لي لبداً، غاب الوالد وهلك الرافد، وأنا امرأة من هوازن أقبلت في أفناء من العرب أسأل عن المرجو نائله والمحمود سائله والمأمون جانبه، فقيل لي أنت فاصنع بي إحدى ثلاث: إما أن تحسن صفدي، أو تقيم أودي، أو تردني إلى بلدي. فقال: أجمعهن لك وحباً. ففعل بها ذلك كله.
قال: وجاءت أعرابية تسأل فقالت: يا قوم طرائد زمان وفرائس نازلة ولحمان وضمٍ، نبذتنا الرجال وأنشزتنا الحال وأطمعنا السؤال، فهل من مكتسب للأجر أو راغب في الذخر؟ وسأل أعرابي فقال: سنة جردت وحال جهدت وأيدٍ خمدت فرحم الله من رحم وأقرض من لا يظلم.
وسأل أعرابي فقال: أين الوجوه الواضحات الصباح، والعقول الراجحات الصحاح، والصدور الرحاب السماح، والمكارم الثمينة الرباح؟ وسأل أعرابي فقال: رحم الله امرأً لم يمجّ أذنه كلامي وقدم لمعاذة من سوء مقامي، فإن البلاد مجدبة والحال مسغبة والحياء زاجر ينهى عن كلامكم والفقر عاذر يدعو إلى إخباركم فرحم الله امرأً واسى بمير أو دعا بخير. فقال رجل: ممن يا أعرابي؟ فقال: أخٌ في كتاب الله وجارٌ في بلاد الله وطالب خيرٍ من رزق الله.
وسأل آخر فقال: نقص الكيل وعجفت الخيل وقلّ النيل فهل من رحيم أجره لله فإنه غنى عن الله لقوله جل وعز: " من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً " ، لم يستقرض ربنا جل وعز من عدم ولكن ليبلو ويختبر.
وسأل آخر فقال: إني رجل من مدينة رسول الله، عليه وعلى آله السلام، مشيت حتى انتعلت الدم، فرحم الله من حملني على نعلين فكأنما حملني على ناقتين، فلا قليل من الأجر ولا غنى من الله جل وعز. وقيل لسائل أعرابي: أين منزلك؟ قال: ما لي منزل إنما أشتمل الليل إذا عسعس وأظهر بالنهار إذا تنفس.
مساوئ الثقلاء
قال بختيشوع للمأمون: لا تجالس الثقلاء فإنا نجد في كتب الطب أن مجالسة الثقيل حمّى الروح.وقال بعضهم: سخنة العين النظر بها إلى الثقلاء.
قال: ونقش رجل على خاتمه: أبرمت فقم. فكان إذا جلس إليه الثقيل ناوله إياه.
قيل: ودخل أبو حنيفة على الأعمش يوماً فأطال جلوسه فقال: لعلي قد ثقلت عليك؟ قال: وإني لأستثقلك وأنت في منزلك فكيف وأنت عندي! قيل: واجتمع أصحاب الحديث عند شريك بن عبد الله، فتبرم بهم وأضجروه فصاح بهم وفرّقهم فلم يبرحوا. فقال بعضهم: أنا أطردهم عنك. قال: نعم، وانطرد معهم.
قيل: وأتى رجل ابن المقفع في حاجة فلم يصل إليه وكان مستثقلاً له فكتب بيتاً في رقعة وأرسل به إليه:
هل لذي حاجةٍ إليك سبيل ... وقليلٌ تلبثي لا كثير
فوقّع إليه:
أنت يا صاحب الكتاب ثقيل ... وقليلٌ من الثقيل كثير
فأجابه الرجل:
قد بدأت الجواب منك بفحشٍ ... أنت بالفحش والبذاء جدير
فضحك وقضى حاجته.
قال: وكتب أعرابي إلى حماد الراوية المعروف بعجرد، وكان حماد يسثقله:
إن لي حاجةً فرأيك فيها ... لك نفسي الفدا من الأوصاب
وهي ليست مما يُبلّغها غي ... ري ولا أستطيعها في كتاب
غير أني أقولها حين ألقا ... ك رويداً أسرّها باكتئاب
فكتب إليه: اكتب بالحاجة يا ثقيل. فكتب:
إني عاشقٌ لجبّتك الدك ... ناء عشقاً قد حال دون الشراب
فاكسنيها فدتك نفسي وأهلي ... أتمزّى بها على أصحابي
ولك الله والأمانة إني ... أجعلنها عمري أمير ثيابي
وقد قيل: إذا علم الثقيل أنه ثقيل فليس بثقيل.
ومما قيل فيهم من الشعر:
سألتك بالله إلا صدقت ... وعلمي بأنك لا تصدق
أتبغض نفسك من بغضها ... وإلا فأنت إذاً أحمق
ولآخر:
قل للبغيض أخي البغي ... ض ابن البغيض ابن البغيضه
أنت الذي حملتك أ ... مك بين فاحشة وحيضه
ضاقت على الثقلين من ... بغضائك الأرض العريضه
ودعت ملائكة السما ... ء عليك دعوى مستفيضه
ولآخر:
يا من تبرّمت الدنيا بطلعته ... كما تبرّمت الأجفان بالسهد
يمشي على الأرض مجتازاً فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي
ولآخر:
شخصك في مقلة النديم ... أثقل من رعية النجوم
يا رائحاً روحة علينا ... أثقل من سبة اللئيم
إني لأرجو بما أقاسي ... منك خلاصاً من الجحيم
ولآخر:
يا مفرعاً في قالب البغض ... بغضك يشكوك إلى بغض
كأنما تمشي على ناظري ... إذا تخطّأت على الأرض
ولآخر:
يا من له حركاتٌ ... على النفوس ثقيله
وليس يعرف معنى ... قصيرةٍ من طويله
أورثني بجلوسي ... إليك حمّى مليله
فاصفع لنفسك عنّي ... فإن كفّي عليله
ولآخر:
أيا من أعرض الربُّ ... عن العالم من بغضه
ومن عاذ مليك المو ... ت بالرحمن من قبضه
ويا من بغضه يشه ... د بالبغض على بغضه
مساوئ الحمقى
قيل في المثل: هو أحمق من عجل، هو عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وذلك أنه قيل له: ما سميت فرسك؟ ففقأ عينه وقال: الأعور، أو قال: سميته أعور. وقال الشاعر فيه وفي قومه:رمتني بنو عجلٍ بداء أبيهم ... وأي امريءٍ في الناس أحمق من عجل
أليس أبوهم عار عين جواده ... فصارت به الأمثال تضرب في الجهل
ويقال: هو أحمق من هبنقة، وبلغ من حمقه أنه ضلّ له بعير فجعل ينادي: من وجد البعير فهو له. فقيل له: فلم تنشده؟ قال: وأين حلاوة الوجدان! واختصمت إليه بنو الطفاوة وبنو راسب في رجل ادّعى هؤلاء وهؤلاء، فقالت الطفاوة: هذا من عرافتنا. وقالت بنو راسب: هذا من عرافتنا. ثم قالوا: قد رضينا بأول طالع علينا. فطلع عليهم هبنّقة، فلما رأوه قالوا: إنا لله! من طلع علينا؟ فلما دنوا قصّوا عليه قصّتهم فقال هبنقة: الحكم في هذا بيّن، يُذهب به إلى نهر البصرة فيُلقى فيه فإن كان راسبياً رسب وإن كان طفاوياً طفا. فقال الرجل: لا أريد أن أكون من أحد هذين الحيين ولا حاجة لي في الديوان.
وكان هينقة يرعى غنم أهله فيرعى السمان في العشب وينحّي المهازيل عنه. فقيل له: ويحك ما تصنع؟ فقال: أُصلح ما أصلح الله وأُفسد ما أفسد الله. أو قال: لا أفسد ما أصلح ولا أصلح ما أفسد الله. وقال الشاعر:
عش بجدٍّ فلن يضرك نوكٌ ... إنما عيش من ترى بالجدود
عش بجدٍّ وكن هبنّقة العي ... سيّ نوكاً أو شيبة بن الوليد
رب ذي إربةٍ مقلٍّ من الما ... ل وذي عنجهيةٍ مجدود
وكان شيبة من عقلاء العرب.
وقيل أيضاً: هو أحمق من دغة، وهي مارية بنت مغنج تزوجت في بني العنبر وهي صغيرة، فلما أصابها المخاض ظنّت أنها تريد الخلاء فخرجت تبرّز فصاح الولد فجاءت منصرفةً فقالت: يا أمه هل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم يدعو أباه. فسبّت بنو العنبر بذاك فقالوا لهم بنو الجعراء.
وقيل أيضاً: هو أحمق من الممهورة إحدى خدمتيها، وهي امرأة أخذها رجل ليفجر بها فقالت: لا أمكنك من نفسي حتى تمهرني. فقال: قد مهرتك إحدى خدمتيك، وهما خلخالاها، فرضيت ومكنّته من نفسها.
وقيل: هو أحمق من جهيزة، وهي عرس الذئب لأنها تدع ولدها وترضع ولد الضبع. وقال الكميت:
كما خامرت في حضنها أم عامرٍ ... لذي الحبل حتى عال أوسٌ عيالها
أوس هو الذئب.
وقيل: هو أحمق من نعامة، لأنها تدع الحضن على بيضتها وتحضن بيض نعامة أخرى، وقال ابن هرمة:
فإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفّي زناداً شحاحا
كتاركةٍ بيضها بالعراء ... وملبسةٍ بيض أخرى جناحا
وقيل: هو أحمق من باقل، وكان اشترى عنزاً بأحد عشر درهما، فقالوا له: بكم اشتريت العنز؟ ففتح كفيه وفرّق أصابعه وأخرج لساناً، يريد أحد عشر درهماً، فعيّروه بذلك. وقيل: إن الذي اشتراه ظبي، فلما فتح أصابعه أفلت الظبي. وقالوا في باقل:
يلومون في حمقه باقلاً ... كأن الحماقة لم تُخلق
ولا تكثروا العذل في عيّه ... فللعيّ أجمل بالأموق
خروج اللسان وفتح البنان ... أحب إلينا من المنطق
قيل: وقدم وفد من العراق على سليمان بن عبد الملك فقضوا حوائجهم وانصرفوا. فقال رجل منهم: بلغني أن أمير المؤمنين يبرز للعامة فأنا أقيم بعدكم يوماً أو يومين فلعلي أن أراه وأسمع كلامه ثم أتبعكم. فلما كان في الغد برز سليمان للناس وجلس على سريره وأذن للعامة فدخلوا وفيهم العراقي. فجلس في سماط سليمان إلى جنب رجل أحمق من أهل الشأم. فقال له الأحمق: ممن الرجل؟ قال: أنا من أهل العراق. وقال: فعل الله بك وفعل، وجعل يشتمه ويذكر أباه وعرضه، وقال: مثلك يقعد في سماط أمير المؤمنين! والعراقيّ يناشده الله ويسأله أن يكفّ عنه فيأبى، إلى أن قال سليمان: أيكم يخبرني من الذي يقول:
أنخن القرون فعقّلْنَها ... كعطف العسيب عراجين ميلا
ويفسّر لنا قوله فله جارية برحالتها؟ والشامي مقبل على العراقي لا يفتر عن شتمه ويقول: يا جاسوس. فقال له: كفّ عني فإني أنفعك. قال: وهل معك خير؟ قال: نعم، قم فقل لأمير المؤمنين أنا أعرف من قال هذا وأفسره، فإذا قال: من قاله؟ فقل: امرؤ القيس، فإذا قال: ما عنى به؟ فقل: البطيخ. فقال الشاميّ: يا أمير المؤمنين أنا أعرف من قال هذا وأفسره. فقال: هات. قال: امرؤ القيس. فتبسم سليمان وقال: فما عنى به؟ قال: البطيخ. فضحك سليمان حتى استلقى على فراشه ثم قال: ويحك عمن أخذت هذا العلم؟ فقال: عن هذا العراقي. فأشار سليمان إلى العراقي فأقبل إليه، فقال له: من أنت؟ قال: رجل من أهل العراق كنت قدمت مع فلان وفلان فقضوا حوائجهم وانصرفوا فأقمت أرقب جلوس أمير المؤمنين فقعدت إلى هذا الشاميّ فلم يدع سباً ولا شتماً إلا استقبلني به. فقلت له كفّ عني فإني أنفعك، قل لأمير المؤمنين كذا وكذا، فكان منه ما قد سمعته. فضحك وقال: أتعرف أنت من قاله؟ قلت: كثيّر عزة. قال: وما عنى به؟ قلت: قرون الرأس، والعسيب الخادم، والعراجين قد اختلفوا فيه فقال بعضهم عناقيد الكرم وقال بعضهم عراجين النخل. فأمر له بجائزة سنيّة وقال له: الحق بأصحابك.
وحكي عن أبي عباد الكاتب أنه قال: كنت يوماً عند المأمون فدعا بالغداء وكان يستنزل من قام من مجلسه عند ذكر الطعام ويقول: هذا من أخلاق اللئام، فقدّموا إليه بطيخاً على أطباق جدد فجعل يقوّر بيده ويذوق البطيخة فإذا حمد حلاوتها قال: ادفع هذه بسكينتها إلى فلان. فقال لي وقد دفع إلي بطيخة كانت أحلى من الشهد المذاب: يا أبا عباد بم تستدل على حمق الرجل؟ قلت: يا أمير المؤمنين أما عند الله فعلامات كثيرة وأما عندي فإذا رأيت الرجل يحب الشاهلوج ويبغض البطيخ علمت أنه أحمق. قال: وهل تعرف صاحب هذه الصفة؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين الرستمي أحد من هذه صفته. قال: فدخل الرستمي على أمير المؤمنين، فقال له المأمون: ما تقول في البطيخ الرمشيّ؟ قال: يا أمير المؤمنين يفسد المعدة ويلطخها ويُرقّها، يرخي العصب ويرفع البخار إلى الرأس. قال: لم أسألك عن فعله إنما سألتك أشهي هو؟ قال: لا. قال: فما تقول في الشاهلوج؟ قال: سماه كسرى سيد أجناسه. قال: فالتفت المأمون إليّ وقال: الرجل الذي كنا في حديثه أمس من تلامذة كسرى في الحمق.
قال: ودخل أبو طالب صاحب الطعام على المأمون وكان أحمق فقال: كان أبوك يا أبا خيراً لنا منك وأنت يا أبا ليس تعدنا ولا تبعث إلينا ونحن يا أبا تجارك وجيرانك. قال: فجعل المأمون لا يزيده على التبسم.
قال: وقال مروان بن الحكم لرجل: إني أظنك أحمق. فقال: ظنٌ أو يقينٌ؟ قال: بل ظنّ. فقال: أحمق ما يكون الشيخ إذا استعمل ظنه.
ومما قيل فيهم من الشعر:
يا ثابت العقل كم عاينت ذا حمقٍ ... الرزق أغرى به من لازِمِ الجرب
وإنني واجدٌ في الناس واحدةً ... الرزق أروغ شيءٍ عن ذوي الأدب
وخصلةً ليس فيها من يخالفني ... الرزق والنُّوك مقرونان في سبب
ولآخر:
أرى زمناً نوكاه أسعد أهله ... على أنه يشقى به كلُّ عاقل
سعى فوقه رجلاه والرأس تحته ... فكُبّ الأعالي بارتفاع الأسافل
ولآخر:
رأيت الدهر بالأحرار يكبو ... ويرفع رتبة القوم اللئام
كأن الدهر موتورٌ حقودٌ ... يطالب ثأره عند الكرام
ولآخر:
كم من قويٍّ قويٍّ في تقلّبه ... مهذّب اللبّ عنه الرزق منحرف
ومن ضعيفٍ ضعيف العقل مختلطٍ ... كأنه من خليج البحر يغترف
محاسن مضاحيك وألقاب
قال: كان اسم الأقيشر المغيرة بن الأسود وكان يغضب إذا دعي بالأقيشر، فمرّ ذات يوم بقوم من بني عبس فقال بعضهم: يا أقيشر. فنظر إليه طويلاً وهو مغضب ثم قال:أتدعوني الأقيشر ذاك إسمي ... وأدعوك ابن مطفئة السراج
تناجي خدنها بالليل سراً ... ورب الناس يعلم من تناجي
فسمي ذلك الرجل ابن مطفئة السراج وبذلك يعرف ولده إلى اليوم.
قال: وكان المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل عامل الحجاج على الكوفة، وكان يلقب أبا صفية، فاستعدت امرأة على زوجها، فأتاه صاحب العدوى عند المساء فأعلمه. فقال: نعم أغدو معها. فبات الرجل يقول لامرأته: لو قد أتيت الأمير لقلت أبا صفية إنها تفعل كذا وكذا، فيأمر من يوجعك ضرباً، وجعل يكرّر عليها بأبي صفية فحفظت الكنية وظنّت أنها كنيته، فلما تقدمت إليه قالت: أصلحك الله أبا صفية. فقال لها: أبو عبد الله عافاك الله. فأعادت. فقال لها: أبو عبد الله فأعادت. فقال: يا فاسقة أظنك ظالمة! خذ بيدها الخبيثة. وحكم للزوج عليها.
قال: وولّى يوسف بن عمر رجلاً من بني سُليم يلقب بأبي العاج، وكان يغضب منه، فقدّم إليه رجل خصماً له فقال: يا أبا العاج. فقال: أبو محمد يا ابن البظراء. فقال: أتقول هذا لأمي وقد حجّت! قال: لا يمنعها ما قلت من الحج.
فنّ منه في الطمع
قيل لأشعب: أي شيء بلغ من طمعك؟ قال: ناديت بصبيان ولعوا بي فقلت لهم لأنحيّهم عن نفسي: إن في دار بني فلان عرساً وهناك نثارٌ. فولوا عني مبادرين وجعلت أشتد معهم طمعاً في النثار.
قال: وكان في دار بعض جيرانه عرس فتجوّع ولزم منزله طمعاً في أن يدعى. فلما تعالى النهار وجاع ولم يُدع قال: قبح الله هذا الخبز! وقام إلى طعام له فقدمه وجعل يأكل. فسمع وقع الباب فقال: من هذا؟ قال: من دار العروس. قال: اصبر فديتك! ودخل الخلاء فرمى بجميع ما كان أكله وغسل فمه وخرج إليه فقال: تقول لك مولاتي أعيرونا الهاون ساعة. فقال: مرّ فأمك وأم مولاتك زانية يا ابن الفاعلة!
فنّ منه آخر
مرّ ضرير على رجل بصير فقال: أين الطريق؟ فقال البصير: خذ يمنةً. فأخذ يمنة فسقط في بئر. فقال البصير: إنا لله! غلطت، أردت أن أقول يسرةً فقلت يمنة. فقال الضرير من أسفل البئر: ويحك أهذا من الغلط الذي يستقال! قال: وقيل للعلاء بن عبد الكريم: بكم اكتريت الدار؟ فقال: بدينارين وطعامهما. قالوا: ويلك وما طعامهما؟ فقال: صاحب الدار يأكل معي كلما أكلت.
قال: وسمع أعرابي إماماً يقرأ: إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه، فأُرتج عليه فجعل يردد الآية. فقال: يا هذا إن لم يذهب نوح فأرسل غيره.
قال: وشرب أعرابي وعلى يساره ابن له فسقاه. فقال له جليسه: السنة أن تسقي من على يمينك. قال: قد علمت ولكنه أحب إلي من السنة.
قال: وقيل لابن رواح الطفيلي: كيف ابنك هذا؟ قال: ليس في الدنيا شيء مثله، سمع نادبةً خلف جنازةٍ وهي تقول: واسيداه! يُذهب بك إلى بيت ليس فيه ماء ولا طعام ولا فراش ولا وطاء، ولا غطاء ولا سراج ولا ضياء! فقال: يا ابه يذهبون به إلى بيتنا.
وقال بعضهم: جاء جماعة من أصحاب مزيد إليه فقالوا: قم بنا نتنزه فإنه يوم طيّب. فقال: هو يوم أربعاء. قالوا: فإن فيه وُلد يونس بن متى، عليه السلام. فقال: بأبي وأمي، صلى الله عليه، لا جرم أنه التقمه الحوت. قالوا: نُصر فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: أجل ولكن بعد إذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون.
وكان الحارث بن قيس الفزاري شيخاً أعمى وكان له ابن شيعي وابنة حرورية وامرأة ترى رأي المعتزلة، وكانوا جلوساً معه، فقال بيده عليهم وجسّهم ثم قال: إن الله جل وعز يحشرني وإياكم يوم القيامة طرائق قدداً.
وقال الجاحظ: قيل لرجل طويل اللحية: ما لك لا تأخذ من لحيتك؟ قال: لأصون بها عرضي، فإن الناس يقولون: انظر إلى لحيته كأنها طارةٌ، وخلق الله هذه اللحية، ولحيته كأنها جوالقٌ، ولا بارك الله في هذه اللحية، فما لي أعرض لشيء يصون عرضي؟ وحدث رجل من عامر بن لؤي قال: كان صبي منا ترك له أبوه غنماً وعبيداً فخرج يوماً فنظر إلى جارية في خبائها فهويها ومال إلى أمها وسألها أن تزوجها منه فقالت: حتى أسأل عن أخلاقك. فسأل عن أكرم الناس إليها فدلّ على شيخ كان معروفاً بحسن المحضر، فأتاه وسلّم علي. وقال: ما جاء بك؟ فأخبره. فقال: لا عليك فإن العجوز غير خارجة من رأيي فامض إلى منزلك وأقم يوماً أو يومين ومر بغنمك أن تُساق وناد في أهلك: أما من أراد أن يحلب فليأتنا، ودعني والأمر. فشاع الخبر فخرجت العجوز مع من خرج والشيخ مع القوم فنظر إلى الشاب وقد كانت العجوز أخبرته بشأنه فقال: هو هو! فقالت: نعم. قال: لقد حُرمت حظك. قالت: إني أريد أن أسأل عن أخلاقه. قال: أنا ربيته. قالت: فكيف لسانه؟ قال: خطيب أهله والمتكلم عنهم. قالت: فكيف سماحته؟ قال: ثمال في قومه وربيعهم. قالت: فكيف شجاعته؟ قال: حامي قومه والدافع عنهم. قال: فطلع الفتى، فقال: أما ترين ما أحسن ما أقبل ما انحنى ولا انثنى؟ فلما قرب سلّم، فقال: ما أحسن ما سلّم ما حار ولا ثار! ثم استوى جالساً، فقال: ما أحسن ما جلس ما ركع ولا عجر. قالت: أجل. فذهب يتحرك فضرط، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما ضرط! ما أطنها ولا أغنها ولا نفخها ولا ترترها. فنهض الفتى خجلاً، فقال الشيخ: ما أحسن والله ما نهض ما انختل ولا انفتل! قالت العجوز: أجل والله فصح به وردّه فوالله لزوّجناه ولو خريء.
محاسن المزاح
قيل: أهدى نعيمان الأنصاري إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جرة عسل وكانت فيه دعابة وكان اشتراها من أعرابي بدينار وأتى بالأعرابي إلى باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال له: خذ الثمن من هاهنا. فلما قسمها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بين نسائه، قال له الأعرابي: أعطني يا رسول الله ثمن العسل. فقال، عليه السلام: هذه إحدى هنات نعيمان. وسأله: لم فعلت؟ فقال: أردت أن أبرّك يا رسول الله ولم يكن معي شيء. فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعطى الأعرابي حقه.
وعن الهيثم قال: قدم تميم الداري من الشام وكان تاجراً فأتاه نعيمان وقال له: هل لك في غلام تاجر له فضل ودين؟ قال: وكيف لي به؟ قال: إنه إن علم ببيعنا إياه لم تنتفع به ولكن انطلق معي حتى أُريكه فإنه عندنا بمنزلة الولد. قال: فأدخله المسجد وأراه سويبط بن عبد العزى. فنظر إليه تميم فأعجبه فقال: بكم؟ قال: بمائة دينار. قال: هي لك. فأخذ منه المائة الدينار. فلما حضر شخوصه أتى نعيمان فقال: الغلام. فمضى معه إلى المسجد وقال: دونك الغلام. فجاء تميم وسويبط يصلي فصلى إلى جانبه ركعتين ثم قال له: خفف. فخفف وقال له: ما حاجتك؟ قال: قد باعك أهلك مني. قال: وأي أهلي؟ فارتفع الكلام بينهما حتى خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: ما شأنكم؟ قال تميم: يا رسول الله باعنيه أهله. فقال، صلى الله عليه وسلم: إني لأظن أن نعيمان صاحبه، عليّ به. فلما جاء قال له: ويحك ما هذه؟ قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! تزوجت امرأة ولم يكن عندي نفقة ولا صداق أدفعه إليها ولم أجد إلا ما رأيت. فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال لتميم: هي لك عندنا.
وذكروا أن نعيمان مرّ ذات يوم بمخرمة بن نوفل الزهري الضرير في المسجد، فقال له مخرمة: خذ بيدي حتى أبول. فأخذ بيده حتى إذا كان في أقصى المسجد قال له: اجلس. فجلس يبول. فصاح به الناس: يا أبا المسور إنك في المسجد! قال: ومن قادني؟ قالوا: نعيمان. قال: والله لأضربنه بعصاي هذه إن وجدته. فأتاه نعيمان وقال له: يا أبا المسور هل لك في نعيمان؟ قال: نعم. قال: فأخذ بيده حتى أوقفه على عثمان بن عفان وهو خليفة وتنحّى عنه، فعلاه بعصاته ضرباً. فصاح به الناس: ضربت أمير المؤمنين! قال: ومن قادني؟ قالوا: نعيمان. قال: لا جرم لا تعرّضت له أبداً.
مزاح الشعراء
قيل: دخل أبو دلامة على المهدي فسلّم ثم قعد وأرخى عينيه بالبكاء. فقال له: ما لك؟ قال: ماتت أم دلامة. فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ودخلت له رقّةٌ لما رأى من جزعه، فقال له: أعظم الله أجرك يا أبا دلامة! وأمر أن يعطى ألف درهم وقال له: استعن بها في مصيبتك. فأخذها ودعا له وانصرف. فلما دخل إلى منزله قال لأم دلامة: اذهبي فاستأذني على الخيزران فإذا دخلت عليها فتباكي وقولي مات أبو دلامة. فمضت واستأذنت على الخيزران، فأذنت لها، فلما اطمأنت أرسلت عينها بالبكاء، فقالت لها: ما لك؟ فقالت: مات أبو دلامة. فقالت: إنا لله عظّم الله أجرك! وتوّجعت لها ثم أمرت لها بألفي درهم، فدعت لها وانصرفت. فلم يلبث المهدي أن دخل على الخيزران، فقالت: يا سيدي أما علمت أن أبا دلامة مات؟ قال: لا يا حبيبتي إنما هي امرأته أم دلامة. قالت: لا والله إلا أبو دلامة. فقال: خرج من عندي الساعة آنفاً. فقالت: خرجت من عندي الساعة. وأخبرته بخبرها وبكائها. فضحك وتعجّب من حيلهما.قال: وكان أبو نواس ولعاً بأبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي، فكتب على أسطوانة في مسجد بمقدار قامة وبسطة:
صلى الإله على لوطٍ وشيعته ... أبا عبيدة قل بالله آمينا
فأنت عندي بلا شكٍ بقيّتهم ... منذ احتلمتَ وجازوت الثمانينا
فقال لكيسان: ويحك أما رأيت هذا الفاجر وما صنع؟ قم بنا نحكه لئلا يراه الناس. فبرك أبو عبيدة وركبه كيسان ليحكه. فلما ثقل عليه قال له: أوجز. فقال له كيسان: قد بقي لوط. فقال: عجل حكّه فهو المعنى وعليه تدور فضيحتي.